الكتاب: درء تعارض العقل والنقل المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ) تحقيق: الدكتور محمد رشاد سالم الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية الطبعة: الثانية، 1411 هـ - 1991 م عدد الأجزاء: 10   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- درء تعارض العقل والنقل ابن تيمية الكتاب: درء تعارض العقل والنقل المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ) تحقيق: الدكتور محمد رشاد سالم الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية الطبعة: الثانية، 1411 هـ - 1991 م عدد الأجزاء: 10   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[درء تعارض العقل والنقل]ـ المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ) تحقيق: الدكتور محمد رشاد سالم الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية الطبعة: الثانية، 1411 هـ - 1991 م عدد الأجزاء: 10 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] القانون الكلي للتوفيق عند المبتدعة الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلي الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 قول القائل: إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو النقل والعقل، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية، أو نحو ذلك من العبارات، فإما أن يجمع بينهما، وهو محال، لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يردا جميعاً، وإما أن يقدم السمع، وهو محال، لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، فوجب تقديم العقل، ثم النقل إما أن يتأول، وإما أن يفوض. وأما إذا تعارضا تعارض الضدين امتنع الجمع بينهما، ولم يمتنع ارتفاعهما. وهذا الكلام قد جعله الرازي وأتباعه قانوناً كلياً فيما يستدل به من كتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الله تعالى وكلام أنبيائه عليهم السلام، وما لا يستدل به، ولهذا ردوا الاستدلال بما جاءت به الأنبياء والمرسلون في صفات الله تعالى، وغير ذلك من الأمور التي أنبأوا بها، وظن هؤلاء أن العقل يعارضها، وقد يضم بعضهم إلى ذلك أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين، وقد بسطنا الكلام على قولهم هذا في الأدلة السمعية في غير هذا الموضع. وأما هذا القانون الذي وضعوه فقد سبقهم إليه طائفة، منهم أبو حامد، وجعله قانوناً في جواب المسائل التي سئل عنها في نصوص أشكلت على السائل، كالمسائل التي سأله عنها القاضي أبو بكر بن العربي، وخالفه القاضي أبو بكر العربي في كثير من تلك الأجوبة، وكان يقول: شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر. وحكي هو عن أبي حامد نفيه أنه كان يقول: أنا مزجي البضاعة في الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ووضع أبو بكر بن العربي هذا قانون آخر، مبنياً على طريقة أبي المعالي ومن قبله، كالقاضي أبي بكر الباقلاني. ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع كل فريق لأنفسهم قانوناً فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعاً له، فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه. وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم، وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات، فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن، وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي والعقل. فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء، ولكن النصارى يشبههم من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول، كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم، بخلاف بدعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الجهمية والفلاسفة فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء وأولئك يظنون أن ما ابتدعوه هو المعروف من كلام الأنبياء، وأنه صحيح عندهم. طريقتا المبتدعة في نصوص الأنبياء. أولاً ـ طريقة التبديل: أهل التبديل نوعان. أهل الوهم والتخييل طريقتا المبتدعة في نصوص الأنبياء. أولاً ـ طريقة التبديل: أهل التبديل نوعان. أهل الوهم والتخييل ولهؤلاء في نصوص الأنبياء طريقتان: طريقة التبديل، وطريقة التجهيل، أما أهل التبديل فهم نوعان: أهل الوهم والتخييل، و أهل التحريف والتأويل . فأهل الوهم والتخييل هم الذين يقولون: إن الأنبياء أخبروا عن الله وعن اليوم الآخر، وعن الجنة والنار، بل وعن الملائكة، بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه، ولكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به ويتوهمون به أن الله جسم عظيم، وأن الأبدان تعاد، وأن لهم نعيماً محسوساً، وعقاباً محسوساً، وإن كان الأمر ليس كذلك في نفس الأمر، لأن من مصلحة الجمهور أن يخاطبوا بما يتوهمون به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ويتخيلون أن الأمر هكذا، وإن كان هذا كذباً فهو كذب لمصلحة الجمهور، إذ كانت دعوتهم ومصلحتهم لا تمكن إلا بهذه الطريق. وقد وضع ابن سينا وأمثاله قانونهم علي هذا الأصل، كالقانون الذي ذكره في رسالته الأضحوية. وهؤلاء يقولون: الأنبياء قصدوا بهذه الألفاظ ظواهرها، وقصدوا أن يفهم الجمهور منها هذه الظواهر، وإن كانت الظواهر في نفس الأمر كذباً وباطلاً ومخالفة للحق، فقصدوا إفهام الجمهور بالكذب والباطل للمصلحة. ثم من هؤلاء من يقول: النبي كان يعلم الحق، ولكن أظهر خلافه للمصلحة. ومنهم من يقول: ما كان يعلم الحق، كما يعلمه نظار الفلاسفة وأمثالهم. وهؤلاء يفضلون الفيلسوف الكامل علي النبي، ويفضلون الولي الكامل الذي له هذا المشهد علي النبي، كما يفضل ابن عربي الطائي خاتم الأولياء ـ في زعمه ـ علي الأنبياء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وكما يفضل الفارابي ومبشر بن فاتك وغيرهما الفيلسوف علي النبي. وأما الذين يقولون: إن النبي كان يعلم ذلك، فقد يقولون: إن النبي أفضل من الفيلسوف، لأنه علم ما علمه الفيلسوف وزيادة، وأمكنه أن يخاطب الجمهور بطريقة يعجز عن مثلها الفيلسوف، وابن سينا وأمثاله من هؤلاء. وهذا في الجملة قول المتفلسفة والباطنية، كالملاحدة الإسماعيلية، وأصحاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 رسائل إخوان الصفاء والفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول، وابن رشد الحفيد، وملاحدة الصوفية الخارجين عن طريقة المشايخ المتقدمين من أهل الكتاب والسنة، ابن عربي وابن سبعين وابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقظان وخلق كثير غير هؤلاء. ومن الناس من يوافق هؤلاء فيما أخبرت به الأنبياء عن الله: أنهم قصدوا به التخييل دون التحقيق، وبيان الأمر على ما هو عليه دون اليوم الآخر. ومنهم من يقول: بل قصدوا هذا في بعض ما أخبروا به عن الله، كالصفات الخبرية من الاستواء والنزول وغير ذلك، ومثل هذه الأقوال يوجد في كلام كثير من النظار ممن ينفي هذه الصفات في نفس الأمر، كما يوجد في كلام طائفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 أهل التحريف والتأويل وأما أهل التحريف والتأويل فهم الذين يقولون: إن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال إلا ما هو الحق في نفس الأمر، وإن الحق في نفس الأمر هو ما علمناه بعقولنا، ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلي ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات التي يحتاجون فيها إلي إخراج اللغات عن طريقتها المعروفة، وإلي الاستعانة بغرائب المجازات والاستعارات. وهم في أكثر ما يتأولونه قد يعلم عقلاؤهم علماً يقيناً أن الأنبياء لم يريدوا بقولهم ما حملوه عليه، وهؤلاء كثيراً ما يجعلون التأويل من باب دفع المعارض، فيقصدون حمل اللفظ علي ما يمكن أن يريده متكلم بلفظه، لا يقصدون طلب مراد المتكلم وتفسير كلامه بما يعرف به مراده، وعلي الوجه الذي به يعرف مراده، فصاحبه كاذب علي من تأول كلامه، ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل، بل يقولون: يجوز أن يراد كذا، وغاية ما معهم إمكان احتمال اللفظ. وأما كون النبي المعين يجوز أن يريد ذلك المعني بذلك اللفظ فغالبه يكون الأمر فيه بالعكس، ويعلم من سياق الكلام وحال المتكلم امتناع إرادته لذلك المعني بذلك الخطاب المعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وفي الجملة، فهذه طريق خلق كثير من المتكلمين وغيرهم، وعليها بني سائر المتكلمين المخالفين لبعض النصوص مذاهبهم من المعتزلة والكلابية والسالمية والكرامية والشيعة وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 لفظ التأويل وقد ذكرنا في غير موضع أن لفظ التأويل في القرآن يراد به ما يؤول الأمر إليه، وإن كان موافقاً لمدلول اللفظ ومفهومه في الظاهر، ويراد به تفسير الكلام وبيان معناه، وإن كان موافقاً له، وهو اصطلاح المفسرين المتقدمين كمجاهد وغيره، ويراد به صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلي المرجوح لدليل يقترن بذلك. وتخصيص لفظ التأويل بهذا المعني إنما يوجد في كلام بعض المتأخرين فأما الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم فلا يخصون لفظ التأويل بهذا المعني، بل يريدون المعني الأول أو الثاني. ولهذا لما ظن طائفة من المتأخرين أن لفظ التأويل في القرآن والحديث في مثل قوله تعالي {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} آل عمران: 7، أريد به هذا المعني الاصطلاحي الخاص، واعتقدوا أن الوقف في الآية عند قوله: {وما يعلم تأويله إلا الله} لزم من ذلك أن يعتقدوا أن لهذه الآيات والأحاديث معاني تخالف مدلولها المفهوم منها، وأن ذلك المعني المراد بها لا يعلمه إلا الله، لا يعلمه الملك الذي نزل بالقرآن، وهو جبريل ولا يعلمه محمداً صلي الله عليه وسلم ولا غيره من الأنبياء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ولا تعلمه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأن محمداً كان يقرأ قوله تعالي {الرحمن على العرش استوى} طه: 5 قوله {إليه يصعد الكلم الطيب} فاطر: 10 وقوله {بل يداه مبسوطتان} المائدة: 64 وغير ذلك من آيات الصفات، بل ويقول ينزل ربنا كل ليلة إلي السماء الدنيا ونحو ذلك، وهو لا يعرف معاني هذه الأقوال، بل معناها الذي دلت عليه لا يعلمه إلا الله، ويظنون أن هذه طريقة السلف. ثانياً ـ طريقة التجهيل وهؤلاء أهل التضليل والتجهيل الذين حقيقة قولهم: إن الأنبياء جاهلون ضالون، لا يعرفون ما أراد الله نما وصف به نفسه من الآيات وأقوال الأنبياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ثم هؤلاء منهم من يقول: المراد بها خلاف مدلولها الظاهر والمفهوم، ولا يعرف أحد من الأنبياء والملائكة والصحابة والعلماء ما أراد الله بها، كما لا يعلمون وقت الساعة. ومنهم من يقول: بل تجري علي ظاهرها، وتحمل علي ظاهرها، ومع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله، فيتناقضون حيث أثبتوا لها تأويلاً يخالف ظاهرها، وقالوا ـ مع هذا ـ إنها تحمل علي ظاهرها، وهذا ما أنكره ابن عقيل على شيخة القاضي أبي يعلى في كتاب ذم التأويل. وهؤلاء الفرق مشتركون في القول بأن الرسول لم يبين المراد بالنصوص التي يجعلونها مشكلة أو متشابهة، ولهذا يجعل كل فريق المشكل من نصوصه غير ما يجعل الفريق الآخر مشكلاً، فمنكر الصفات الخبرية الذي يقول: إنها لا تعلم بالعقل يقول: نصوصها مشكلة متشابهة، بخلاف الصفات المعلومة بالعقل عنده بعقله فإنها ـ عنده ـ محكمة بينة، وكذلك يقول من ينكر العلو والرؤية: نصوص هذه مشكلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ومنكر الصفات مطلقاً يجعل ما يثبتها مشكلاً دون ما يثبت أسماءه الحسنى، ومنكر معاني الأسماء يجعل نصوصها مشكلة، ومنكر معاد الأبدان وما وصفت به الجنة والنار يجعل ذلك مشكلا أيضاً، ومنكر القدر يجعل ما يثبت أن الله خالق كل شيء نوما يجعل نصوص الوعيد، بل ونصوص الأمر والنهي مشكلة، فقد يستشكل كل فريق ما لا يستشكله غيره، ثم يقول فيما يستشكله إن معاني نصوصه لم يبينها الرسول. ثم منهم من يقول: لم يعلم معانيها أيضاً، ومنهم من يقول: بل علمها ولم يبنيها، بل أحال في بيانها علي الأدلة العقلية، وعلي من يجتهد في العلم بتأويل تلك النصوص، فهم مشتركون في أن الرسول لم يعلم أو لم يعلم، بل جهل معناها , أو جهلها الأمة، من غير أن يقصد أن يعتقدوا الجهل الركب. وأما أولئك فيقولون: بل قصد أن يعلمهم الجهل المركب، والاعتقادات الفاسد، وهؤلاء مشهورون عند الأمة بالإلحاد والزندقة، بخلاف أولئك فإنهم يقولون: الرسول لم يقصد أن يجعل أحداً جاهلاً معتقداً للباطل، ولكن أقوالهم تتضمن أن الرسول لم يبين الحق فيما خاطب به الأمة من الآيات والأحاديث إما مع كونه لم يعلمه، أو مع كونه علمه ولم يبينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ولهذا قال الإمام أحمد في خطبته فيما صنفه من الرد علي الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته علي غير تأويله، قال: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقابا من أهل العلم، يدعون من ضل إلي الهدى، ويصبرون منهم علي الأذي يحيون بكتاب الله الموتي، ويبصرون بنور الله أهل العمي، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه ضال قد هدوه، فما أحسن أثرهم علي الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون علي مفارقة الكتاب يقولون علي الله، وفي الله، وقي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين , الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ويروي نحو هذه الخطبة عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالي عنه، كما ذكر ذلك محمد بن وضاح في كتاب الحوادث والبدع. فقد وصفوا في هذا الكلام بأنهم ـمع اختلافهم في الكتاب ـ فهم كلهم مخالفون له، وهم مشتركون في مفارقته، يتكلمون بالكلام المتشابه، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم، حيث لبسوا الحق بالباطل. خلاصة ما سبق وجماع الأمر أن الأدلة نوعان: شرعية، وعقليه. فالمدعون لمعرفة الإلهيات بعقولهم، من المنتسبين إلى الحكمة والكلام والعقليات، يقول من يخالف نصوص الأنبياء منهم: إن الأنبياء لم يعرفوا الحق الذي عرفناه، أو يقولون: عرفوه ولم يبينوه للخلق كما بيناه، بل تكلموا بما يخالفه من غير بيان منهم. والمدعون للسنة والشريعة واتباع السلف من الجهال بمعاني نصوص الأنبياء يقولون: إن الأنبياء ـ والسلف الذين اتبعوا الأنبياء ـ لم يعرفوا معنى هذه النصوص التي قالوها والتي بلغوها عن الله، أو إن الأنبياء عرفوا معانيها ولم يبينوا مرادهم للناس، فهؤلاء الطوائف قد يقولون: نحن عرفنا الحق بعقولنا، ثم اجتهدنا في حمل كلام الأنبياء علي ما يوافق مدلول العقل، وفائدة إنزال هذه المتشابهات المشكلات اجتهاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الناس في أن يعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدوا في تأويل كلام الأنبياء الذي لم يبينوا به مرادهم، أو أنا عرفنا الحق بعقولنا، وهذه النصوص لم تعرف الأنبياء معناها، كما لم يعرفوا وقت الساعة، ولكن أمرنا بتلاوتها من غير تدبر لها ولا فهم لمعانيها. أو يقولون: بل هذه الأمور لا تعرف بعقل ولا نقل، بل نحن منهيون عن معرفة العقليات، وعن فهم السمعيات، وإن الأنبياء وأتباعهم لا يعرفون العقليات، ولا يفهمون السمعيات. فصل هدف الكتاب بيان فساد قانونهم الفاسد ولما كان بيان مراد الرسول صلي الله عليه وسلم في هذه الأبواب لا يتم إلا بدفع المعارض العقلي، وامتناع تقديم ذلك علي نصوص الأنبياء، بينا في هذا الكتاب فساد القانون الفاسد الذي صدوا به الناس عن سبيل الله، وعن فهم مراد الرسول وتصديقه فيما أخبر، إذ كان أي دليل أقيم علي بيان مراد الرسول لا ينفع إذا قدر أن المعارض العقلي القاطع ناقضه، بل يصير ذلك قدحاً في الرسول، وقدحاً فيمن استدل بكلامه، وصار هذا بمنزلة المريض الذي به أخلاط فاسدة تمنع انتفاعه بالغذاء، فإن الغذاء لا ينفعه مع وجود الأخلاط الفاسدة التي تفسد الغذاء، فكذلك القلب الذي اعتقد قيام الدليل العقلي القاطع علي نفي الصفات أو بعضها، أو نفي عموم خلقه لكل شيء، أو نفي أمره ونهيه، أو امتناع المعاد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 أو غير ذلك، لا ينفعه الاستدلال عليه في ذلك بالكتاب والسنة إلا مع بيان فساد ذلك المعارض. وفساد ذلك المعارض قد يعلم جملة وتفصيلاً. أما الجملة، فإنه من آمن بالله ورسوله إيماناً تاماً، وعلم مراد الرسول قطعاً تيقن ثبوت ما أخبر به، وعلم أن ما عارض ذلك من الحجج فهي حجج داحضة من جنس شبه السوفسطائية، كما قال تعالي {والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد} الشورى: 16. وأما التفصيل، فبعلم فساد تلك الحجة المعارضة، وهذا الأصل نقيض الأصل الذي ذكره طائفة من الملحدين، كما ذكره الرازي في أول كتابه نهاية العقول حيث ذكر أن الاستدلال بالسمعيات في المسائل الأصولية لا يمكن بحال لأن الاستدلال بها موقوف علي مقدمات ظنية، وعلي دفع المعارض العقلي، وإن العلم بانتقاء المعارض لا يمكن، إذ يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل عقلي يناقض ما دل عليه القرآن، ولم يخطر ببال المستمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وقد بسطنا الكلام علي مازعمه هؤلاء من أن الاستدلال بالأدلة السمعية موقوف علي مقدمات ظنية، مثل نقل اللغة والنحو والتصريف ونفي المجاز والإضمار والتخصيص قديماً من نحو ثلاثين سنة، وذكرنا طرفاً من بيان فساده في الكلام على المحصل وفي فذاك كلام في تقرير الأدلة السمعية، وبيان أنها قد تفيد اليقين والقطع، وفي هذا الكتاب كلام في بيان انتقاء المعارض العقلي، وإبطال قول من زعم تقديم الأدلة العقلية مطلقاً. وقد بينا في موضع آخر أن الرسول بلغ البلاغ المبين، وبين مراده، وأن كل ما في القرآن والحديث من لفظ يقال فيه إنه يحتاج إلي التأويل الاصطلاحي الخاص الذي هو صوف اللفظ عن ظاهره، فلا بد أن يكون الرسول قد بين مراده بذلك اللفظ بخطاب آخر، لا يجوز عليه أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل، ويسكت عن بيان المراد الحق، ولا يجوز أن يريد من الخلق أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم ويدلهم عليه، لإمكان معرفة ذلك بعقولهم، وأن هذا قدح في الرسول الذي بلغ البلاغ المبين الذي هدى الله به العباد وأخرجهم به من الظلمات إلي النور، وفرق الله به بين الحق والباطل، وبين الهدي والضلال، وبين الرشاد والغي، وبين أولياء الله وأعدائه، وبين ما يستحقه الرب من الأسماء والصفات وما ينزه عنه من ذلك، حتى أوضح الله به السبيل، وأنار به الدليل، وهدى به الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم. فمن زعم أنه تكلم بما لا يدل إلا علي الباطل لا علي الحق، ولم يبين مراده، وأنه أراد بذلك اللفظ المعنى الذي ليس بباطل، وأحال الناس في معرفة المراد علي ما يعلم من غير جهته بآبائهم، فقد قدح في الرسول، كما نبهنا علي ذلك في مواضع. كيف والرسول أعلم الخلق بالحق، وأقدر الناس علي بيان الحق، وأنصح الخلق للخلق؟ وهذا يوجب أن يكون بيانه للحق أكمل من بيان كل أحد. فإن ما يقوله القائل ويفعله الفاعل لا بد فيه من قدرة وعلم وإرادة، فالعاجز عن القول أو الفعل يمتنع صدور ذلك عنه، والجاهل بما يقوله ويفعله لا يأتي بالقول المحكم والفعل المحكم، وصاحب الإرادة الفاسدة لا يقصد الهدي والنصح والصلاح، فإذا كان المتكلم عالما بالحق قاصداً لهدى الخلق قصداً تاماً، قادراً علي ذلك وجب وجود مقدوره، ومحمد صلي الله عليه وسلم أعلم الخلق بالحق، وهو أفصح الخلق لساناً، وأصحهم بياناً، وهو أحرص الخلق علي هدي العباد، كما قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 تعالي {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} التوبة 128، وقال {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل} النحل: 37، وقد أوجب الله عليه البلاغ المبين، وأنزل عليه الكتاب ليبين للناس ما نزل إليهم، فلا بد أن يكون بيانه وخطابه وكلامه أكمل وأتم من بيان غيره، فكيف يكون مع هذا لم يبين الحق، بل بينه من قامت الأدلة الكثيرة علي جهله ونقص علمه وعقله؟ ! وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. ولما كان ما يقوله كثير من الناس في باب أصول الدين والكلام والعلوم العقلية والحكمة يعلم كل من تدبره أنه مخالف لما جاء به الرسول، أو أن الرسول لم يقل مثل هذا، واعتقد من اعتقد أن ذلك من أصول الدين، وأنه يشتمل علي العلوم الكلية والمعارف الإلهية , والحكمة الحقيقية أو الفلسفة الأولية ـ صار كثير منهم يقول: إن الرسول لم يكن يعرف أصول الدين، أو لم يبين أصول الدين، ومنهم من هاب النبي، ولكن يقول: الصحابة والتابعون لم يكونوا يعرفون ذلك، ومن عظم الصحابة والتابعين مع تعظيم أقوال هؤلاء يبقي حائراً كيف لم يتكلم أولئك الأفاضل في هذه الأمور التي هي أفضل العلوم؟ ومن هو مؤمن بالرسول معظم له يستشكل كيف لم يبين أصول الدين مع أن الناس إليها أحوج منهم إلي غيرها؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ولما كنت بالديار المصرية سألني من سألني من فضلائها عن هذه المسألة، فقالوا في سؤالهم: استطراد في الرد على سؤال وجه إلى ابن تيمية وهو في مصر. نص السؤال استطراد في الرد على سؤال وجه إلى ابن تيمية وهو في مصر. نص السؤال إن قال قائل: هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل أصول الدين، وإن لم ينقل عن النبي صلي الله عليه وسلم فيها كلام أم لا؟. فإن قيل بالجواز، فما وجهه؟ وقد فهمنا منه عليه الصلاة والسلام النهي عن الكلام في بعض المسائل؟ وإذا قيل بالجواز فيل يجب ذلك؟ . وهل نقل عنه عليه الصلاة والسلام ما يقتضي وجوبه؟ . وهل يكفي في ذلك ما يصل إليه المجتهد من غلبة الظن، أو لا بد من الوصول إلى القطع؟. وإذا تعذر عليه الوصول إلى القطع، فهل يعذر في ذلك، أو يكون مكلفاً به؟ . وهل ذلك من باب تكليف ما لا يطاق والحالة هذه أم لا؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وإذا قيل بالوجوب، فما الحكمة في أنه لم يوجد فيه من الشارع نص يعصم من الوقوع في المهالك، وقد كان عليه الصلاة والسلام حريصاً على هدي أمته؟ [الجواب] فأجبت: الحمد لله رب العالمين أما المسألة الأولى: الرد على المسألة الأولى فقول السائل: هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل أصول الدين، وإن لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها كلام أم لا؟ . سؤال ورد بحسب ما عهد من الأوضاع المبتدعة الباطلة، فإن المسائل التي هن من أصول الدين التي تستحق أن تسمى أصول الدين ـ أعني الدين الذي أرسل الله به رسوله، وأنزل به كتابه ـ لا يجوز أن يقال: لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها كلام، بل هذا كلام متناقض في نفسه، إذ كونها من أصول الدين يوجب أن تكون من أهم أمور الدين، وأنها مما يحتاج إليه الدين، ثم نفي نقل الكلام فيها عن الرسول يوجب أحد أمرين: إما أن الرسول أهمل الأمور المهمة التي يحتاج إليها الدين فلم يبينها، أو أنه بينها فلم تنقلها الأمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وكلا هذين باطل قطعاً، وهو من أعظم مطاعن المنافقين في الدين، وإنما يظن هذا وأمثاله من هو جاهل بحقائق ما جاء به الرسول، أو جاهل بما يعقله الناس بقلوبهم، أو جاهل بهما جميعاً، فإن جهله بالأول يوجب عدم علمه بما اشتمل عليه ذلك من أصول الدين وفروعه، وجهله بالثاني يوجب أن يدخل في الحقائق المعقولة ما يسميه هو وأشكاله عقليات، وإنما هي جهليات، وجهله بالأمرين يوجب أن يظن من أصول الدين ما ليس منها من المسائل والوسائل الباطلة، وإن يظن عدم بيان الرسول لما ينبغي أن يعتقد في ذلك، كما هو الواقع لطوائف من أصناف الناس، حذاقهم فضلاً عن عامتهم. أصول الدين: مسائل ودلائل هذه المسائل، المسائل وذلك أن أصول الدين إما أن تكون مسائل يجب اعتقادها، ويجب أن تذكر قولاً، أو تعمل عملاً، كمسائل التوحيد والصفات، والقدر، والنبوة، والمعاد، أو دلائل هذه أما القسم الأول فكل ما يحتاج الناس إلي معرفته واعتقاده والتصديق به من هذه المسائل فقد بينه الله ورسوله بياناً شافياً قاطعاً للعذر، إذ هذا من أعظم ما بلغه الرسول البلاغ المبين، وبينه للناس، وهو من أعظم ما أقام الله الحجة علي عباده فيه بالرسل الذين بينوه وبلغوه، وكتاب الله الذي نقل الصحابة ثم التابعون عن الرسول لفظه ومعانيه، والحكمة التي هي سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم التي نقلوها أيضاً عن الرسول، مشتملة من ذلك علي غاية المراد، وتمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الواجب والمستحب. والحمد لله الذي بعث فينا رسولاً من أنفسنا، يتلو علينا آياته ويزكينا، ويعلمنا الكتاب تفصيلاً لكل شيء، وهدي ورحمة وبشري للمسلمين: {ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} يوسف: 111. وإنما يظن عدم اشتمال الكتاب والحكمة علي بيان من كان ناقصاً في عقله وسمعه، ومن له نصيب من قول أهل النار الذين قالوا: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} الملك: 10، وإن كان ذلك كثيراً في كثير من المتفلسفة والمتكلمة، وجهال أهل الحديث والمتفقهة والصوفية. دلائل المسائل وأم القسم الثاني ـ وهو دلائل هذه المسائل الأصولية ـ فإنه وإن كان يظن طوائف من المتكلمين أن المتفلسفة أن الشرع إنما يدل بطريق الخبر الصادق، فدلالته موقوفة علي العلم بصدق المخبر، ويجعلون ما يبني عليه صدق المخبر معقولات محضة ـ فقد غلطوا في ذلك غلطاً عظيماً، بل ضلوا ضلالاً مبيناً، في ظنهم أن دلالة الكتاب والسنة إنما هي بطريق الخبر المجرد، بل الأمر ما عليه سلف الأمة، أهل العلم والإيمان، من أن الله سبحانه وتعالي بين من الأدلة العقلية التي يحتاج إليها في العلم بذلك ما لا يقدر أحد من هؤلاء قدره، ونهاية ما يذكرونه جاء القرآن بخلاصته علي أحسن وجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وذلك كالأمثال المضروبة التي يذكرها الله في كتابه التي قال فيها: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} الزمر: 27، فإن الأمثال المضروبة هي الأقيسة العقلية، سواء كانت قياس شمول، أو قياس تمثيل، ويدخل في ذلك ما يسمونه براهين، وهو القياس الشمولي المؤلف من المقدمات اليقينية، وإن كان لفظ البرهان في اللغة أعم من ذلك كما سمي الله آيتي موسى برهانين: {فذانك برهانان من ربك} [القصص: 32] ، ومما يوضح هذا أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي تستوي فيه أفراده، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل تحت قضية كلية تستوي أفرادها. ولهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلي اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم ـ بعد التناهي ـ الحيرة والاضطراب، لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها، ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولي، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالي: {ولله المثل الأعلى} [النحل: 60] ، مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للممكن أو المحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه ـ وهو ما كان كمالاً للموجود غير مستلزم للعدم ـ فالواجب القديم أولى به، وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 نوعه للمخلوق المر بوب المعلول المدبر فإنما استفادة من خالقه وربه ومدبره، فهو أحق به منه، وأن كل نقص وعيب في نفسه ـ وهو ما تضمن سلب هذا الكمال إذا وجب نفيه عن الرب تبارك وتعالي بطريق الأولي، وأنه أحق بالأمور الوجودية من كل موجود، وأما العدمية بالممكن المحدث بها أحق، ونحو ذلك. ومثل هذه الطرق هي التي كان يستعملها السلف والأئمة في مثل هذه المطالب كما استعمل نحوها الإمام أحمد، ومن قبله وبعده من أئمة أهل الإسلام، وبمثل ذلك جاء القرآن في تقرير أصول الدين في مسائل التوحيد والصفات والمعاد، ونحو ذلك. ومثال ذلك أنه سبحانه لما أخبر بالمعاد ـ والعلم به تابع للعلم بإمكانه، فإن الممتنع لا يجوز أن يكون ـ بين سبحانه إمكانه أتم بيان، ولم يسلك في ذلك ما يسلكه طوائف من أهل الكلام، حيث يثبتون الإمكان الخارجي بمجرد الإمكان الذهني، فيقولون: هذا ممكن، لأنه لو قدر وجوده لم يلزم من تقدير وجوده محال، فإن الشأن في هذه المقدمة فمن أين يعلم أنه لا يلزم من تقدير وجوده محال؟ فإن هذه قضية كلية سالبة، فلا بد من العلم بعموم هذا النفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وما يحتج به بعضهم علي أن هذا ممكن بأنا لا نعلم امتناعه، كما نعلم امتناع الأمور الظاهر امتناعها، مثل كون الجسم متحركاً ساكناً، فهذا كاحتجاج بعضهم علي أنها ليست بديهية بأن غيرها من البديهيات أجلى منها، وهذه حجة ضعيفة، لأن البديهي هو ما إذا تصور طرفاه جزم العقل به، والمتصوران قد يكونان خفيين، فالقضايا تتفاوت في الجلاء والخفاء لتفاوت تصورها كما تتفاوت لتفاوت الأذهان، وذلك لا يقدح في كونها ضرورية، ولا يوجب أن ما لم يظهر امتناعه يكون ممكناً، بل قول هؤلاء أضعف، لأن الشيء قد يكون ممتنعاً لأمور خفية لازمة له، فما لم يعلم انتفاء تلك اللوازم، أو عدم لزومها، لا يمكن الجزم بإمكانه، والمحال هنا أعلم من المحال لذاته أو لغيره، والإمكان الذهني حقيقته عدم العلم بالامتناع، وعدم العلم بالامتناع لا يستلزم العلم بالإمكان الخارجي، بل يبقى الشيء في الذهن غير معلوم الامتناع ولا معلوم الإمكان الخارجي، وهذا هو الإمكان الذهني، فإن الله سبحانه وتعالي لم يكتف في بيان إمكان المعاد بهذا، إذ يمكن أن يكون الشيء ممتنعاً ولو لغيره ن وإن لم يعلم الذهن امتناعه، بخلاف الإمكان الخارجي فإنه إذاً علم بطل أن يكون ممتنعاً. والإنسان يعلم الإمكان الخارجي: تارة بعلمه بوجود الشيء، وتارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 بعلمه بوجود نظيره، وتارة تعلمه بوجود ما الشيء أولي بالوجود منه، فإن وجود الشيء دليل علي أن ما هو دونه أولي بالإمكان منه، ثم إنه إذا تبين كون الشيء ممكناً فلا بد من بيان قدرة الرب عليه , وإلا فمجرد العلم بإمكانه لا يكفي في إمكان وقوعه، إن لم يعلم قدرة الرب علي ذلك الأدلة علي المعاد في كتاب لله فبين سبحانه هذا كله بمثل قوله {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا} الإسراء: [99] ، وقوله: {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم} يس: [81] ، قوله {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير} الأحقاف: [33] ، وقوله: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} غافر: [57] فإنه من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم، والقدرة عليه أبلغ، وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك. وكذلك استدلاله على ذلك بالنشأة الأولي في مثل قوله {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} الروم: [27] ، ولهذا قال بعد ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 {وله المثل الأعلى في السماوات والأرض} الروم: [27] ، وقال {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم} الحج: [5] . وكذلك ما ذكر في قوله {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} الآيات يس: [78ـ82] فإن قول الله تعالي {من يحيي العظام وهي رميم} قياس حذفت إحدى مقدمتيه لظهورها، والأخرى سالبة كلية قرن معها دليلها، وهو المثل المضروب الذي ذكره بقوله {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم} وهذا استفهام إنكار متضمن للنفي، إي لا أحد يحيي العظام وهي رميم، فإن كونها رميماً يمنع عنده إحياءها لمصيرها إلي حال اليبس والبرودة المنافية للحياة التي مبناها علي الحرارة والرطوبة، ولتفرق أجزائها واختلاطها بغيرها، ولنحو ذلك من الشبهات. والتقدير: هذه العظام رميم، ولا أحد يحيي العظام وهي رميم، فلا أحد يحييها. ولكن هذه السالبة كاذبة، ومضمونها امتناع الإحياء، فبين سبحانه إمكانه من وجوه بيان إمكان ما هو أبعد من ذلك وقدرته عليه فقال {يحييها الذي أنشأها أول مرة} وقد أنشأها من التراب، ثم قال {وهو بكل خلق عليم} [يس: 79] ليبين علمه بما تفرق من الأجزاء أو استحال، ثم قال {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا} [يس: 80] فبين أنه أخرج النار الحارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 اليابسة من البارد الرطب، وذلك أبلغ في المنافاة، لأن اجتماع الحرارة والرطوبة أيسر من اجتماع الحرارة واليبوسة، إذ الرطوبة تقبل من ما لا تقبله اليبوسة، ولهذا كان تسخين الهواء والماء أيسر من تسخين التراب، وإن كانت النار نفسها حارة يابسة، فإنها جسم بسيط، واليبس ضد الرطوبة يعني بها البلة كرطوبة الماء، ويعني بها سرعة الانفعال، فيدخل في ذلك الهواء ن فكذلك يعني باليبس عدم البلة، فتكون النار يابسة، ويراد باليبس بطء الشكل والانفعال، فيكون التراب يابساً دون النار، فالتراب فيه اليبس بالمعنيين، بخلاف النار، لكن الحيوان الذي فيه حرارة ورطوبة يكون من العناصر الثلاثة: التراب، والماء، والهواء. وأما الجزء الناري فللناس فيه قولان، قيل: فيه حرارة نارية وإن يكن فيه جزء من النار، وقيل: بل فيه جزء من النار. وعلي كل تقدير فتكون الحيوان من العناصر أولي بالإمكان من تكون النار من الشجر الأخضر، فالقادر علي أن يخلق من الشجر الأخضر ناراً أولي بالقدرة أن يخلق من التراب حيواناً، فإن هذا معتاد، وإن كان ذلك بما يضم إليه من الأجزاء الهوائية والمائية، والمقصود الجمع في المولدات. ثم قال {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} يس: [81] وهذه مقدمة معلومة بالبداهة ولهذا جاء فيها باستفهام التقرير الدال علي أن ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 مستقر معلوم عن المخاطب، كما قال سبحانه {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} [الفرقان: 33] ، ثم بين قدرته العامة بقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] . وفي هذا الموضع وغيره من القرآن من الأسرار وبيان الأدلة القطعية علي المطالب الدينية ما ليس هذا موضعه، وإنما الغرض التنبيه. تنزيه القرآن لله تعالي عن الشركاء وكذلك ما استعمله سبحانه في تنزيهه وتقديسه عما أضافوه إليه من الولادة، سواء سموها حسية أو عقلية، كما تزعمه النصارى من تولد الكلمة التي جعلوها جوهر الابن منه، كما تزعمه الفلاسفة الصابئون من تولد العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة التي هم مضطربون فيها: هل هي جواهر أو أعراض؟ وقد يجعلون العقول بمنزلة الذكور، والنفوس بمنزلة الإناث، ويجعلون ذلك آباءهم وأمهاتهم وآلهتهم وأربابهم القريبة، وعملهم بالنفوس أظهر لوجود الحركة الدورية الدالة علي الحركة الإرادية الدالة علي النفس المحركة، لكم أكثرهم يجعلون النفوس الفلكية عرضاً لا جوهراً قائماً بنفسه، وذلك شبيه بقول مشركي العرب وغيرهم الذين جعلوا له بنين وبنات، قال تعالي {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون} [الأنعام: 100] ، وقال تعالى {ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون} [الصافات: 151 ـ 152] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله، كما يزعم هؤلاء أن العقول، أو العقول والنفوس هي الملائكة، وهي متولدة عن الله. قال تعالي {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون * للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} إلي قوله {ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون} [النحل: 57ـ 62] . وقال تعالي: {أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم * أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين * وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون} [الزخرف: 16 ـ 19] ، وقال تعالى {أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى} [النجم: 19ـ 22] أي جائرة، وغير ذلك في القرآن. فبين سبحانه: أن الرب الخالق أولي بأن ينزه عن الأمور الناقصة منكم، فكيف تجعلون له ما تكرهون أن يكون لكم، وتستحيون من إضافته إليكم، مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أن ذلك واقع لا محالة، ولا تنزهونه عن ذلك وتنفونه عنه، وهو أحق بنفي المكروهات المنقصات منكم؟ وكذلك قوله في التوحيد {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} [الروم: 28] أي كخيفة بعضكم بعضاً، كما في قوله {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} [البقرة: 85] وفي قوله {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} [النور: 12] وفي قوله {ولا تلمزوا أنفسكم} [الحجرات: 11] وفي قوله {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} [البقرة: 54] وفي قوله: {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} إلى قوله {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} [البقرة: 84 ـ 85] فإن المراد في هذا كله من نوع واحد. فبين سبحانه أن المخلوق لا يكون مملوكه شريكه في ماله حتى يخاف مملوكه كما يخاف نظيره، بل تمتنعون أن يكون المملوك لكم نظيراً فكيف ترضون أن تجعلوا ما هو مخلوقي ومملوكي شريكاً لي، يدعي كما أدعى وأعبد؟ كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وهذا باب واسع عظيم جداً ليس هذا موضعه. وإنما الغرض التنبيه علي أن في القرآن والحكمة النبوية عامة أصول الدين من المسائل والدلائل التي تستحق أن تكون أصول الدين. أصول المتكلمين ليس هي أصول الدين وأما ما يدخله بعض الناس في هذا المسمي من الباطل فليس ذلك من أصول الدين، وإن أدخله فيه، مثل المسائل والدلائل الفاسدة، مثل: نفي الصفات، والقدر، ونحو ذلك من المسائل، ومثل الاستدلال علي حدوث العالم بحدوث الأعراض التي هي صفات الأجسام القائمة بها: إما الأكوان، وإما غيرها. وتقرير المقدمات التي يحتاج إليها هذا الدليل: من إثبات الأعراض ـ التي هي الصفات ـ أولاً، أو إثبات بعضها كالأكوان ـ التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ـ وإثبات حدوثها ثانياً بإبطال ظهورها بعد الكمون، وإبطال انتقالها من محل إلي محل، ثم إثبات امتناع خلو الجسم ثالثاً: إما عن كل جنس من أجناس الأعراض بإثبات أن الجسم قابل لها، وأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، وإما عن الأكوان، وإثبات امتناع حوادث لا أول لها رابعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وهو مبني علي مقدمتين: إحداهما: أن الحسم لا يخلو عن الأعراض التي هي الصفات. والثانية: أن ما لا يخلو عن الصفات التي هي الأعراض فهو محدث، لأن الصفات ـ التي هي الأعراض ـ لا تكون إلا محدثه، وقد يفرضون ذلك في بعض الصفات التي هي الأعراض، كالأكوان، ومالا يخلو عن جنس الحوادث فهو حادث، لامتناع حوادث لا تتناهى. فهذه الطريقة مما يعلم بالاضطرار أن محمداً صلي الله عليه وسلم لم يدع الناس بها إلي الإقرار بالخالق ونبوة أنبيائه. ولهذا قد اعترف حذاق أهل الكلام ـ كـ الأشعري وغيره ـ بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم، ولا سلف الأمة وأئمتها، وذكروا أنها محرمة عندهم، بل المحققون علي أنها طريقة باطلة، وأن مقدماتها فيها تفصيل وتقسيم يمنع ثبوت المدعي بها مطلقاً، ولهذا تجد من اعتمد عليها في أصول دينه فأحد الأمرين لازم له: إما أن يطلع علي ضعفها، ويقابل بينها وبين أدلة القائلين بقدم العالم، فتتكافأ عنده الأدلة، أو يرجح هذا تارة وهذا تارة كما هو حال طوائف منهم، وإما أن يلتزم لأجلها لوازم معلومة الفساد في الشرع والعقل، كما التزم جهم لأجلها فناء الجنة والنار، والتزم لأجلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 أبو الهذيل انقطاع حركات أهل الجنة، والتزم قوم لأجلها كـ الأشعري وغيره أن الماء والهواء والتراب والنار له طعم ولون وريح ونحو ذلك، والتزم قوم لأجلها ولأجل غيرها أن جميع الأعراض ـ كالطعم واللون وغيرها ـ لا يجوز بقاؤها بحال، لأنهم احتاجوا إلي جواب النقض الوارد عليهم لما أثبتوا الصفات لله، مع الاستدلال علي حدوث الأجسام بصفاتها، فقالوا: صفات الأجسام أعراض، أي أنها تعرض فتزول، فلا تبقي بحال، بخلاف صفات الله فإنها باقية. وأما ما اعتمد عليه طائفة منهم من أن العرض لو بقي لم يمكن عدمه، لأن عدمه إما أن يكون بإحداث ضد، أو بفوات شرط، أو اختيار الفاعل، وكل ذلك ممتنع، فهذه العمدة لا يختارها آخرون منهم، منهم، بل يجوزون أن الفاعل المختار يعدم الموجود كما يحدث المعدوم، ولا يقولون: إن عدم الأجسام لا يكون إلا بقطع الأعراض عنها كما قاله أولئك، ولا بخلق ضد هو الفناء لا في محل، كما قاله من قاله من المعتزلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وأما جمهور عقلاء بني آدم فقالوا: هذه مخالفة للمعلوم بالحس. والتزم طوائف من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم لأجلها نفي صفات الرب مطلقاً، أو نفي بعضها، لأن الدال عندهم علي حدوث هذه الأشياء هو قيام الصفات بها، والدليل يجب طرده، فالتزموا حدوث كل موصوف بصفة قائمة به، وهو أيضاً في غاية الفساد والضلال، ولهذه التزموا القول بخلق القرآن، وإنكار رؤية الله في الآخرة، وعلوه علي عرشه، إلي أمثال ذلك من اللوازم التي التزمها من طرد مقدمات هذه الحجة التي جعلها المعتزلة ومن اتبعهم أصل دينهم. فهذه داخلة فيما سماه هؤلاء أصول الدين، ولكن ليست في الحقيقة من أصول الدين الذي شرعه الله لعباده. وأما الدين الذي قال الله فيه: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} الشوري: 21 فذاك له أصول وفروع بحسبه. وإذا عرف أن مسمي أصول الدين في عرف الناطقين بهذا الاسم فيه أجمال وإبهام لما فيه من الاشتراك بحسب الأوضاع والاصطلاحات، تبين أن الذي هو عند الله ورسوله وعباده المؤمنين أصول الدين فهو موروث عن الرسول. وأما من شرع دينا لم يأذن به الله فمعلوم أن أصول المستلزمة له لا يجوز أن تكون منقولة عن النبي صلي الله عليه وسلم، إذ هو باطل، وملزوم الباطل باطل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 كما أن لازم الحق حق، والدليل ملزوم لمدلوله، والباطل شيء، وإذا انتفي لازم الشيء علم أنه منتف، فيستدل علي بطلان الشيء ببطلان لازمه، ويستدل علي ثبوته بثبوت ملزومه، فإذا كان الازم باطلاً فالملزوم مثله باطل، فإن ملزوم الباطل هو اللازم، وإذا كان اللازم باطلاً كان الملزوم باطلاً، لأنه يلزم من انتفاء اللازم انتفاء، ولم يقل إن الباطل لازمه باطل. وهذا كالمخلوقات، فإنها مستلزمة لثبوت الخالق، ولا يلزم من عدمها عدم الخالق، والدليل أبداً يستلزم المدلول عليه: يجب طرده، ولا يجب عكسه، بخلاف الحد، فإنه يجب طرده وعكسه. وأما العلة: فالعلة التامة يجب طردها، بخلاف المقتضية، وفي العكس تفصيل مبسوط في موضعه. وهذا التقسيم ينبه أيضاً علي مراد السلف والأئمة بذم الكلام وأهله، وإذ ذاك متناول لمن استدل بالأدلة الفاسدة، أو استدل علي المقالات الباطلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فأما من قال الحق الذي أذن الله فيه حكماً ودليلاً فهو من أهل العلم والإيمان: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} الأحزاب: 4. جواز مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه، إذا احتيج إلي ذلك وكانت المعاني صحيحة، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه. ولهذا «قال النبي صلي الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص ـ وكانت صغيرة فولدت بأرض الحبشة، لأن أباها كان من المهاجرين إليها ـ فقال لها يا أم خالد، هذا سنا» والسنا بلسان الحبشة الحسن، لأنها كانت من أهل هذه اللغة. ولذلك يترجم القرآن والحديث لمن يحتاج إلي تفهمه إياه بالترجمة، وكذلك يقرأ المسلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم وكلامهم بلغتهم، ويترجمها بالعربية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 كما «أمر النبي صلي الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود، ليقرأ له، ويكتب له ذلك» حيث لم يأتمن اليهود عليه. فالسلف والأئمة لم يذموا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولدة كلفظ الجوهر، والعرض، والجسم وغير ذلك، بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من باطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه، لاشتمال هذه الألفاظ علي معان مجملة في النفي والإثبات، كما قال الإمام أحمد في وصفه لأهل البدع، فقال: هم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون علي مفارقة الكتاب ... يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم.. فإذا عرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات، ووزنت بالكتاب والسنة ـ بحيث يثبت الحق الذي أثبته الكتاب والسنة، وينفي الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة ـ كان ذلك هو الحق، بخلاف ما سلكه أهل الأهواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 من المتكلم بهذه الألفاظ نفياً وإثباتاً في الوسائل والمسائل: من غير بيان التفصيل والتقسيم، الذي هو من الصراط المستقيم، وهذا من مثارات الشبه. فإنه لا يوجد في كلام النبي صلي الله عليه وسلم، ولا أحد من الصحابة والتابعين، ولا أحد من الأئمة المتبوعين: أنه علق بما سمي لفظ الجوهر والجسم والتحيز والعرض ونحو ذلك شيئاً من أصول الدين، لا الدلائل ولا المسائل. والمتكلمون بهذه العبارات يختلف مرادهم بها، تارة لاختلاف الوضع، وتارة لاختلافهم في المعني الذي هو مدلول اللفظ، كمن يقول: الجسم هو المؤلف. ثم يتنازعون: هل هو الجوهر الواحد بشرط تأليفه، أو الجوهر فصاعداً، أو الستة، أو الثمانية، أو غير ذلك؟ ومن يقول: هو الذي يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه، وإنه مركب من المادة والصورة. ومن يقول: هو الموجود أو يقول: هو الموجود القائم بنفسه، أ, يقول: هو الذي يمكن الإشارة إليه، وأن الموجود القائم بنفسه لا يكون إلا كذلك. والسلف والأئمة الذي ذموا وبدعوا الكلام في الجوهر والجسم والعرض تضمن كلامهم ذم من يدخل المعاني التي يقصدها هؤلاء بهذه الألفاظ في أصول الدين، في دلائلة وفي مسائله، نفياً وإثباتاً، فأما إذا عرفت المعاني الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة وعبر عنها لم يفهم بهذه الألفاظ ليتبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الناس فيما اختلفوا فيه، كما قال تعالي {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} البقرة: 213، وهو مثل الحكم بين سائر الأمم بالكتاب فيما اختلفوا فيه من المعاني التي يعبرون عنها بوضعهم وعرفهم، وذلك يحتاج إلي معرفة معاني الكتاب والسنة، ومعرفة معاني هؤلاء بألفاظهم. ثم اعتبار هذه المعاني بهذه المعاني ليظهر الموافق والمخالف. وأما قول السائل: فإن قيل بالجواز فما وجهه، وقد فهمنا منه عليه الصلة والسلام النهي عن الكلام في بعض المسائل؟ الرد علي المسألة الثانية فيقال: قد تقدم الاستفسار والتفصيل في جواب السؤال، وأن ما هو في الحقيقة أصول الدين الذي بعث الله به رسوله، فلا يجوز أن ينهي عنه بحال بخلاف ما سمي أصول الدين وليس هو أصولاً في الحقيقة لا دلائل ولا مسائل، أو هو أصول لدين لم يشرعه الله بل شرعه من شرع من الدين ما لم يأذن به الله. وأما ما ذكره السائل من نهيه، فالذي جاء به الكتاب والسنة النهي عن أمور: المسائل التي نهي عنها الكتاب والسنة منها: القول علي الله بلا علم، كقوله تعالي {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] ، وقوله {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ومنها: أن يقال علي الله غير الحق، كقول {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق} [الأعراف: 169] . وقوله {لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق} [النساء: 171] . ومنها: الجدل بغير علم كقوله تعالي {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} [آل عمران: 66] . ومنها: الجدل في الحق بعد ظهوره، كقوله تعالي {يجادلونك في الحق بعد ما تبين} [الأنفال: 6] . ومنها: الجدل بالباطل، كقوله: {وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق} [غافر: 5] ومنها: الجدل في آياته، كقوله تعالي {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} [غافر: 4] ، وقوله {الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا} [غافر: 35] ، وقال تعالى {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} [غافر: 56] ، وقوله {ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص} [الشورى: 35] ، ونحو ذلك قوله {والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم} [الشورى: 16] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وقوله {وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال} [الرعد: 13] ، وقوله {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} [الحج: 8] . ومن الأمور التي نهي الله عنها في كتابه التفرق والاختلاف، كقوله {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} ـ إلي قوله {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم * يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} [آل عمران: 103ـ 106] قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة. وقال تعالي: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله} ـ إلي قوله {ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} [الروم: 30-32] . وقد ذم أهل التفرق والاختلاف في مثل قوله تعالي {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [آل عمران: 19] ، وفي مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قوله تعالي: {ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} [هود: 119] ، وفي مثل قوله {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة: 176] . وكذلك سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم توافق كتاب الله، كالحديث المشهور عنه الذي وري مسلم بعضه عن عبد الله بن عمرو، وسائره معروف في مسند أحمد وغيره، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، «أن رسول الله صلي الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتناظرون في القدر، ورجل يقول: ألم يقل الله كذا؟ ورجل يقول: ألم يقل الله كذا؟ فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: أبهذا أمرتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، لا ليكذب بعضه بعضاً، انظروا ما أمرتم به فافعلوه، وما نهيتم عنه فاجتنبوه» . هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الحديث أو نحوه، وكذلك قوله: «المراء في القرآن كفر» . وكذلك ما أخرجاه في الصحيحين «عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم قرأ قوله {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} فقال النبي صلي الله عليه وسلم: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم» . وأما أن يكون الكتاب والسنة نهياً عن معرفة المسائل التي تدخل فيما يستحق أن يكون من أصول الدين فهذا لا يجوز، اللهم إلا أن ينهيا عن بعض ذلك في بعض الأحوال، مثل مخاطبة شخص بما يعجز عن فهمه فيضل، كقول عبد الله بن مسعود: ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فتنة لبعضهم. وكقول علي: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ ، أو مثل قول حق يستلزم فساداً أعظم من تركه، فيدخل في قوله صلي الله عليه وسلم «من رأي منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم. وأما قول السائل: إذا قيل بالجواز، فهل يجب؟ وهل نقل عنه عليه السلام ما يقتضي وجوبه؟ . الرد علي المسألة الثالثة فيقال: لا ريب أنه يجب علي كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيماناً عاماً مجملاً، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول علي التفصيل فرض علي الكفاية، فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله، وداخل في تدبير القرآن وعقله وفهمه، وعلم الكتاب والحكمة، وحفظ الذكر والدعاء إلي الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلي سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك مما أوجبه الله عليه المؤمنين، فهذا واجب علي الكفاية منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وأما ما وجب علي أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجتهم ومعرفتهم، وما أمر به أعيانهم، فلا يجب علي العاجز عن سماع بعض النصوص وفهمها من علم التفصيل ما لا يجب علي من لم يسمعها، ويجب علي المفتي والمحدث والمجادل ما لا يجب علي من ليس كذلك. وأما قوله: هل يكفي في ذلك ما يصل إليه المجتهد من غلبة الظن، أو لا بد من الوصول إلي القطع؟ . الرد على المسألة الرابعة فيقال: الصواب في ذلك التفصيل، فإنه وإن كان طوائف من أهل الكلام يزعمون أن المسائل الخبرية -التي قد يسمونها مسائل الأصول - يجب القطع فيها جميعها، ولا يجوز الاستدلال فيها بغير دليل يفيد اليقين، وقد يوجبون القطع فيها كلها علي كل أحد، فهذا الذي قالوه علي إطلاقه وعمومه خطأ مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، ثم هم مع ذلك من أبعد الناس عما أوجبوه، فإنهم كثيراً ما يحتجون فيها بالأدلة التي يزعمونها قطعيات، وتكون في الحقيقة مت الأغلوطات، فضلاً عن أن تكون من الظنيات، حتى إن الشخص الواحد منهم كثيراً ما يقطع بصحة حجة في موضع، ويقطع ببطلانها في موضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 آخر، بل منهم من عامة كلامه كذلك، وحتى قد يدعي كل من المتناظرين العلم الضروري بنقيض ما ادعاه الآخر. وأما التفصيل: فما أوجب الله فيه العلم واليقين وجب فيه ما أوجبه الله من ذلك، كقوله: {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} [المائدة: 98] ، وقوله {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} [محمد: 19] ، وكذلك يجب الإيمان بما أوجب الله الإيمان به، وقد تقرر في الشريعة أن الوجوب معلق باستطاعة العبد، كقوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} بالتغابن: 16] ، وقوله عليه السلام «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» أخرجاه في الصحيحين. فإذا كان كثير مما تنازعت فيه الأمة من هذه المسائل الدقيقة قد يكون عند كثير من الناس مشتبهاً، لا يقدر فيه علي دليل يفيد اليقين لا شرعي ولا غيره: لم يجب علي مثل هذا في ذلك مالا يقدر عليه، وليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقاد قول غالب علي ظنه لعجزه عن تمام اليقين، بل ذلك هو الذي يقدر عليه لا سيما إذا كان مطابقاً للحق، فالاعتقاد المطابق للحق ينفع صاحبه، ويثاب عليه، ويسقط به الفرض، إذا لم يقدر علي أكثر منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 لكن ينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول، وترك النظر والاستدلال الموصول إلي معرفته، فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا، كما قال تعالي {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [الأعراف: 35] وقوله {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 123-124] قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقي في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية. وكما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره «عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: إنها ستكون فتن، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء» وفي رواية «ولا تختلف به الآراء، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا {إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد} من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» . وقال تعالي {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] ، وقال تعالي {المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين * اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 1-3] وقال {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون * أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون} [الأنعام: 155-157] ، فذكر سبحانه انه يجزي الصادف عن آياته مطلقاً ـ سواء كان مكذباً أو لم يكن ـ سوء العذاب بما كانوا يصدفون، يبين ذلك أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سوء العذاب بما كانوا يصدفون، يبين ذلك أن لك من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سواء اعتقد كذبه أو استكبر عن الأيمان به، أو أعرض عن اتباعاً لما يهواه، أو ارتاب فيما جاء به، فكل مكذب بما جاء به فهو كافر، وقد يكون كافراً من لا يكذبه إذا لم يؤمن به. ولهذا أخبر الله في غير موضع من كتابه بالضلال والعذاب لمن ترك اتباع ما أنزله وإن كان له نظر وجدل واجتهاد في عقليات وأمور غير ذلك، وجعل ذلك من نعوت الكفار والمنافقين. وقال تعالي {وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدةً فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} [الأحقاف: 26] ، وقال تعالي {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون * فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} [غافر: 83-85] وقال {الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا} [غافر: 35] ، وفي الآية الأخرى {إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير} [غافر: 56] . والسلطان: هو الحجة المنزلة من عند الله، كما قال تعالى {أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} [الروم: 35] ، وقال تعالى {أم لكم سلطان مبين * فاتوا بكتابكم إن كنتم صادقين} [الصافات: 165-157] ، وقال {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم: 23] . وقد طالب الله تعالي من اتخذ ديناً بقوله {ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين} [الأحقاف: 4] ، فالكتاب هو الكتاب، والإثارة كما قال من قال من السلف: هي الرواية والإسناد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وقالوا: هي الخط أيضاً، إذ الرواية والإسناد يكتب بالخط، وذلك لأن الإثارة من الأثر، فالعلم الذي يقوله من يقبل قوله يؤثر بالإسناد، ويقيد ذلك بالخط، فيكون ذلك كله من آثاره. وقد قال تعالى في نعت المنافقين {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا * أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} [النساء: 60-63] . وفي هذه الآيات أنواع من العبر الدالة علي ضلال من تحاكم إلي غير الكتاب والسنة، وعلي نفاقه، وإن زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة عن بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب، وغير ذلك من أنواع الاعتبار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبيل التي نهي عنها، أو لاتباع هواه بغير هدي من الله، فهو الظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطناً وظاهراً ن الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله، فهذا مغفور له خطؤه، كما قال تعالي {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا} إلي قوله {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 285-286] . وقد ثبت في صحيح مسلم «عن النبي صلي الله عليه وسلم أن الله قال: قد فعلت» . وكذلك ثبت فيه من حديث ابن عباس «أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يقرأ بحرف من هاتين الآيتين ومن سورة الفاتحة إلا أعطي ذلك» . فهذا يبين استجابة هذا الدعاء للنبي والمؤمنين، وأن الله لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا. وأما قول السائل: هل ذلك من باب تكليف ما لا يطاق والحال هذه؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الرد علي المسألة الخامسة فيقال: هذه العبارة، وإن كثر تنازع الناس فيها نفياً وإثباتاً، فينبغي أن يعرف أن الخلاف المحقق فيها نوعان: أحدهما: ما اتفق الناس علي جوازه ووقوعه، وإنما تنازعوا في إطلاق القول عليه بأنه لا يطاق. والثاني: ما اتفقوا علي أنه لا يطاق، لكن تنازعوا في جواز الأمر به، ولم يتنازعوا في عدم وقوعه. فأما أن يكون أمر اتفق أهل العلم والأيمان علي أنه لا يطاق، وتنازعوا في وقوع الأمر به، فليس كذلك. تنازع النظار في الاستطاعة فالنوع الأول: كتنازع المتكلمين من مثبتة القدر ونفاته في استطاعة العبد، وهي قدرته وطاقته: هل يجب أن تكون مع الفعل لا قبله، أو يجب أن تكون متقدمة علي الفعل: أو يجب أن تكون معه، وإن كانت متقدمة عليه؟ . فمن قال بالأول، لزمه أن يكون كل عبد لم يفعل ما أمر به قد كلف مالا يطيقه إذا لم تكن عنه قدرة إلا مع الفعل، ولهذا كان الصواب الذي عليه محققو المتكلمين وأهل الفقه والحديث والتصوف وغيرهم مادل عليه القرآن، وهو أن الاستطاعة -التي هي مناط الأمر والنهي، وهي المصححة للفعل - لا يجب أن تقارن الفعل، وأما الاستطاعة التي يجب معها وجود الفعل فهي مقارنة له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فالأولي: كقوله تعالى {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] . وقول النبي صلي الله عليه وسلم لعمران بن حصين «صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب» . ومعلوم أن الحج والصلاة يجبان علي المستطيع، سواء فعل أو لم يفعل، فعلم أن هذه الاستطاعة لا يجب أن تكون مع الفعل. والثانية: كقوله تعالى {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} [هود: 20] وقوله {وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا * الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا} [الكهف: 101-102] علي قول من يفسر الاستطاعة بهذه. وأما علي تفسير السلف والجمهور، فالمراد بعدم الاستطاعة مشقة ذلك عليهم، وصعوبته علي نفوسهم، فنفوسهم لا تستطيع إرادته، وإن كانوا قادرين علي فعله لو أرادوه، وهذه حال من صده هواه أو رأيه الفاسد عن استماع كتب الله المنزلة واتباعها، وقد أخبر أنه لا يستطيع ذلك. وهذه الاستطاعة هي المقارنة للفعل الموجبة له، وأما الأولي فلولا وجودها لم يثبت التكليف، كقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 {فاتقوا الله ما استطعتم} [سورة التغابن: 16] ، وقوله {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها} [الأعراف: 42] ، وأمثال ذلك، فهؤلاء المفرطون والمعتدون في أصول الدين إذا لم يستطيعوا سمع ما أنز إلي الرسول فهم من هذا القسم. تنازعهم في المأمور به الذي علم الله أنه لا يكون وكذلك أيضاً تنازعهم في المأمور به الذي علم الله أنه لا يكون، أو أخبر مع ذلك أنه لا يكون، فمن الناس من يقول: إن هذا غير مقدور عليه، كما أن غالية القدرية يمنعون أن يتقدم علم الله وخبره وكتابه بأنه لا يكون، وذلك لاتفاق الفريقين علي أن خلاف المعلوم لا يكون ممكناً ولا مقدوراً عليه. وقد خالفهم في ذلك جمهور الناس، وقالوا: هذا منقوص عليهم بقدرة الله تعالي، فإنه أخبر بقدرته علي أشياء، مع أنه لا يفعلها، كقوله {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} [القيامة: 4] ، وقوله {وإنا على ذهاب به لقادرون} [المؤمنون: 18] ، وقوله {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم} [الأنعام: 65] ، وقد قال {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} [هود: 18] ، ونحو ذلك مما يخبر أنه لو شاء لفعله، وإذا فعله فإنما يفعله إذا كان قادراً عليه، فقد دل القرآن علي أنه قادر عليه يفعله إذا شاءه، مع أنه لا يشاؤه. وقالوا أيضاً: إن الله يعلمه علي ما هو عليه، فيعلمه ممكناً مقدوراً للعبد، غير واقع ولا كائن لعدم إرادة العبد له، أو لبغضه إياه، ونحو ذلك، لا لعجزه عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وهذا النزاع يزول بتنوع القدرة عليه كما تقدم، فإنه غير مقدور القدرة المقارنة للفعل، وإن كان مقدوراً القدرة المصححة للفعل التي هي مناط الأمر والنهي. وأما النوع الثاني: فكاتفاقهم علي أن العاجز عن الفعل لا يطيقه، كما لا يطيق الأعمي والأقطع والزمن نقط المصحف وكتابته والطيران، فمثل هذا النوع قد اتفقوا علي أنه غير واقع في الشريعة، وإنما نازع في ذلك طائفة من الغلاة المائلين إلي الجبر من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وإنما تنازعوا في جواز الأمر به عقلاً، حتى نازع بعضهم في الممتنع لذاته، كالجمع بين الضدين والنقيضين: هل يجوز الأمر به من جهة العقل، مع أن ذلك لم يرد في الشريعة؟ ومن غلا فزعم وقوع هذا الضرب في الشريعة ـ كمن يزعم أن أبا لهب كلف بان يؤمن بأنه لا يؤمن ـ فهو مبطل في ذلك عند عامة أهل القبلة من جميع الطوائف، فإنه لم يقل أحد: إن أبا لهب أسمع هذا الخطاب المتضمن أنه لا يؤمن، وإنه أمر مع ذلك بالإيمان كما أن قوم نوح لما أخبر نوح عليه السلام: أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، لم يكن بعد هذا يأمرهم بالإيمان بهذا الخطاب، بل إذا قدر أنه أخبر بصليه النار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 المستلزم لموته علي الكفر وأنه سمع هذا الخطاب، ففي هذا الحال انقطع تكليفه، ولم ينفعه إيمانه حينئذ، كإيمان من يؤمن بعد معينة العذاب، قال تعالى {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} [غافر: 85] ، وقال تعالى {آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [يونس: 91] . والمقصود هنا التنبيه علي أن النزاع في هذا الأصل يتنوع: تارة إلي الفعل المأمور به، وتارة إلي جواز الأمر. ومن هنا شبهة من شبه من المتكلمين علي الناس حيث جعل القسمين قسماً واحداً، وادعي تكليف ما لا يطاق مطلقاً، لوقوع بعض الأقسام التي لا يجعلها عامة الناس من باب ما لا يطاق، والنزاع فيها لا يتعلق بمسائل الأمر والنهي، وإنما يتعلق بمسائل القضاء والقدر، ثم إنه جعل جواز هذا القسم مستلزماً لجواز القسم الذي اتفق المسلمون علي أنه غير مقدور عليه، وقال أحد النوعين بالآخر، وذلك من الأقيسة التي اتفق المسلمون بل وسائر أهل الملل، بل وسائر العقلاء علي بطلانها، فإن من قاس الصحيح المأمور بالأفعال كقوله: إن القدرة مع الفعل، أو أن الله علم أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 لا يفعل علي العاجز الذي لو أراد الفعل لم بقدر عليه ـ فقد جمع بين ما يعلم الفرق بينهما بالاضطرار عقلاً وديناً، وذلك من مثارات الأهواء بين القدرية وإخوانهم الجبرية. وإذا عرف هذا فإطلاق القول بتكليف ما لا يطاق من البدع الحادثة في الإسلام، كإطلاق القول بأن العباد مجبورون علي أفعالهم، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها علي إنكار ذلك ولا بأنه شاء الكائنات، وقالوا رد بدعة ببدعة، وقابل الفاسد، بالفاسد، واباطل بالبطال ولولا أن هذا الجواب لا يحتمل البسط لذكرت من نصوص أقوالهم في ذلك ما ببن ردهم لذلك. وأما إذا فصل مقصود القائل، وبين بالعبارة التي لا يشبه الحق فيها بالباطل ما هو الحق، وميز بين الحق والباطل ـ كان هذا من الفرقان، وخرج المبين حينئذ مما ذم به أمثال هؤلاء الذين وصفهم الأئمة بأنهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون علي ترك الكتاب، وأنهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ويحرفون الكلم عن مواضعة، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم، ولهذا كان يدخل المجبرة في مسمي القدرية المذمومين، لخوضهم في القدر بالباطل إذ هذا جماع المعني الذي ذمت به القدرية. ولهذا ترجم الإمام أبو بكر الخلال في كتاب السنة فقال: الرد علي القدرية، وقولهم: إن الله أجبر العباد علي المعاصي، ثم روي عن عمر بن عثمان عن بقية بن الوليد قال: سالت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر، فقال الزبيدي: أمر الله أعظم، وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر، ويخلق ويجبل عبده علي ما أحب. وقال الأوزعي: ما أعرف للجبر أصلاً في القرآن ولا السنة، فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم، وإنما وضعت هذا مخالفة أن يرتاب رجل تابعي من أهل الجماعة والتصديق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 فهذان الجوابان اللذان ذكرهما هذان الإمامان في عصر تابعي التابعين من أحسن الأجوبة. أما الزبيدي ـ محمد بن الوليد صاحب الزهري ـ فأنه قال: أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، فنفي الجبر. وذلك لأن الجبر المعروف في اللغة: هو إلزام الإنسان بخلاف رضاه، كما يقول الفقهاء في باب النكاح: هل تجبر المرأة علي النكاح أو لا تجبر؟ وإذا عضلها الولي ماذا تصنع؟ فيعنون بجبرها إنكاحها بدون رضاها واختيارها، ويعنون بعضلها منعها مما ترضاه وتختاره، فقال: الله أعظم من أن يجبر أو يعضل، لأن الله سبحانه قادر علي أن يجعل العبد مختاراً راضياً لما يفعله، ومبغضاً وكارهاً لما يتركه، كما هو الواقع، فلا يكون العبد مجبوراً علي ما يحبه ويرضاه ويريده، وهي أفعاله ولاختيارية، ولا يكون معضولاً عما يتركه، فيبغضه ويكرهه، أو لا يريده، وهي تروكه الاختيار. وأما الأوزاعي فإنه منع من إطلاق هذا اللفظ، وإن عني به هذا المعني، حيث لم يكن له أصل في الكتاب والسنة، فيفضي إلي إطلاق لفظ مبتدع ظاهر في إرادة الباطل، وذلك لا يسوغ، وإن قيل: إنه يراد به معني صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 قال الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي، قال: سمعت بعض المشيخة يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: أنكر سفيان الثوري جبر وقال: الله جبل العباد. قال المروزي: أظنه أراد قول النبي صلي الله عليه وسلم لأشج عبد القيس، يعني قوله الذي في صحيح مسلم: «إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة. فقال: أخلقين تخلقت بهما، أم خلقين جبلت عليهما؟ فقال: بل خلقين جبلت عليهما. فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله» . ولهذا احتج البخاري وغيره علي خلق أفعال العباد بقوله تعالى {إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا} [المعراج: 19-21] فأخبر تعالي أنه خلق الإنسان علي هذه الصفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 واحتج غيره بقول الخليل عليه السلام {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} [إبراهيم: 40] ، وبقوله {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} [البقرة: 128] . وجواب الأوزاعي أقوم من جواب الزبيدي، لأن الزبيدي نفي الجبر، والأوزاعي منع إطلاقه، إذ هذا اللفظ قد يحتمل معني صحيحاً، فنفيه قد يقتضي نفي الحق والباطل. كما ذكر الخلال ما ذكره عبد الله بن أحمد في كتابه السنة فقال: حدثنا محمد ابن بكار، حدثنا أبو معشر، حدثنا يعلى عن محمد بن كعب قال: إنما سمي الجبار لأنه يجبر الخلق علي ما أراد فإذا امتنع من إطلاق اللفظ المجمل المحتمل المشتبه زال المحذور وكان أحسن من نفيه، وإن كان ظاهراً في المحتمل المعني الفاسد خشيه أن يظن أنه ينفي المعنيين جميعاً. وهكذا يقال في نفي الطاقة عن المأمور، فإن إثبات الجبر في المحظور نظير سلب الطاقة في المأمور: وهكذا كان يقول الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 قال الخلال: أنبأنا المروزي: قلت لأبي عبد الله: رجل يقول: إن الله يجبر العباد، فقال: هكذا لا نقول، وأنكر هذا وقال: {يضل من يشاء ويهدي من يشاء} [النحل: 93] . وقال: أنبأنا المروزي قال: كتب إلي عبد الوهاب في أمر حسن بن خلف العكبري، وقال: إنه يتنزه عن ميراث أبيه، فقال رجل قدري: إن الله لم يجبر العباد علي المعاصي، فرد عليه أحمد بن رجاء، فقال: إن الله جبر العباد علي ما أراد أراد بذلك إثبات القدر. فوضع أحمد بن علي كتاباً يحتج فيه، فأدخلته على أبي عبد الله فأخبرته بالقصة، فقال: ويضع كتاباً وأنكر عليهما جميعاً: على ابن رجاء حين قال: جبر العباد، وعلي القدري حين قال: لم يجبر، وأنكر على أحمد بن علي وضعه الكتاب واحتجاجه، وأمر بهجرانه لوضعه الكتاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وقال لي: يجب على ابن رجاء أن يستغفر ربه لما قال: جبر العباد. فقلت لأبي عبد الله: فما الجواب في هذه المسألة؟ قال {يضل من يشاء ويهدي من يشاء} [النحل: 93] . قال المروزي في هذه المسألة: إنه سمع أبا عبد الله لما أنكر علي الذي قال: لم يجبر وعلي من رد عليه: جبر، فقال، أبو عبد الله: كلما ابتدع رجل بدعة اتسع الناس في جوابها. وقال: يستغفر ربه الذي رد عليهم بمحدثة، وأنكر علي من رد بشيء من جنس الكلام، وإذا لم يكن له فيه أمام تقدم. قال المروزي: فما كان بأسرع من أن قدم أحمد بن علي من عكبرا ومعه مشيخة وكتاب من أهل عكبرا فأدخلت أحمد بن علي على أبي عبد الله، فقال: يا أبا عبد الله، هو ذا الكتاب ادفعه إلي أبي بكر حتى يقطعه، وأنا أقوم علي منبر عكبرا وأستغفر الله عز وجل، فقال أبو عبد الله لي: ينبغي أن يقبلوا منه، فرجعوا له. وقد بسطنا الكلام في هذا المقام في غير هذا الموضع، وتكلمنا علي الأصل الفاسد الذي ظنه المتفرقون من أن إثبات المعني الحق الذي يسمونه جبراً ينافي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الأمر والنهي، حتى جعله القدرية منافياً للأمر والنهي مطلقاً، وجعله طائفة من الجبرية منافياً لحسن الفعل وقبحه، وجعلوا ذلك مما اعتمدوه في نفي حسن الفعل وقبحه القائم به، المعلوم بالعقل. ومن المعلوم أنه لا ينافي ذلك إلا كما ينافيه بمعني كون الفعل ملائماً للفاعل ونافعاً له، وكونه منافياً للفاعل وضاراً له. ومن المعلوم أن هذا المعني ـ الذي سموه جبراً ـ لا ينافي أن يكون الفعل نافعاً وضاراً، ومصلحة ومفسدة، وجالباً للذة وجالباً للألم. فعلم أنه لا ينافي حسن الفعل وقبحه، كما لا ينافي ذلك، سواء كان ذلك الحسن معلوماً بالعقل، أو معلوماً بالشرع، أو كان الشرع مثبتاً له لا كاشفاً عنه. وأما قول السائل: الرد علي المسألة السادسة ما الحكمة في أنه لم يوجد فيه من الشارع نص يعصم من الوقوع في المهالك، وقد كان حريصاً علي هدي أمته؟ . فنقول: هذا السؤال مبني علي الأصل الفاسد المتقدم المركب من الإعراض عن الكتاب والسنة، وطلب الهدي في مقالات المختلفين المتقابلين في النفي والإثبات للعبارات المجملات المشتبهات، الذين قال الله فيهم {وإن الذين اختلفوا في الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 لفي شقاق بعيد} [البقرة: 19] ، وقال تعالى {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [آل عمران: 19] ، وقال تعالى {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 53] . وقد تقدم التنبيه علي منشأ الضلال في هذا السؤال وأمثاله، وما في ذلك من العبارات المتشابهات المجملات المبتدعات، سواء كان المحدث هو اللفظ ودلالته، أو كان المحدث هو استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعني، كلفظ أصول الدين حيث أدخل فيه كل قوم من المسائل والدلائل ما ظنوه هم من أصول دينهم، وإن لم يكن من أصول الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما ذكرنا، وأنه إذا منع إطلاق هذه المجملات المحدثات في النفي والإثبات ووقع الاستفسار والتفصيل تبين سواء السبيل. وبذلك يتبين أن الشارع عليه الصلاة والسلام نص علي كل ما يعصم من المهالك نصاً قاطعاً للعذر، وقال تعالى {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} [التوبة: 115] ، وقال تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3] ، وقال تعالى {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165] ، وقال تعالى {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} [النور: 54] ، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9] ، وقال تعالى {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا * وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا مستقيما} [النساء: 66-68] ، وقال تعالى {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} [المائدة: 15-16] . و «قال أبو ذر لقد توفي رسول الله صلي الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً» . وفي صحيح مسلم: «أن بعض المشركين قالوا لسلمان: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال: أجل» . و «قال صلى الله عليه وسلم تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 «ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم عنه» وقال «ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه خيراً لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه شراً لهم» . وهذه الجملة يعلم تفصيلها بالبحث والنظر والتتبع والاستقراء، والطلب لعلم هذه المسائل في الكتاب والسنة، فمن طلب ذلك وجد في الكتاب والسنة من النصوص القاطعة للعذر في هذه المسائل ما فيه غاية الهدي والبيان والشفاء. وذلك يكون بشيئين: أحدهما: معرفة معاني الكتاب والسنة. والثاني: معرفة معاني الألفاظ التي ينطق بها هؤلاء المختلفون، حتى يحسن أن يطبق بين معاني التنزيل ومعاني أهل الخوض في أصول الدين، فحينئذ يتبين له أن الكتاب حاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، كما قال تعالي {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213] ، وقال تعالي {وما اختلفتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10] ، وقال {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا * ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} [النساء: 59-61] . ولهذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات، وليس ذلك وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق، ولا قصور، أو تقصير في بيان الحق، ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة علي حق وباطل، ففي إثباتها إثبات حق وباطل، وفي نفيها نفي حق وباطل، فيمنع من كلا الإطلاقين، بخلف النصوص الإلهية فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل، ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب اتباعه، فيثبتون ما أثبته الله ورسوله، وينفون ما نفاه الله ورسوله، ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعاً من إطلاقها: نفياً إثباتاً، لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل، فإذا تبين المعني أثبت حقه ونفي باطله، بخلاف كلام الله ورسوله، فإنه حق يجب قبوله، وإن لم يفهم معناه، وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وأما المختلفون في الكتاب المخالفون له المتفقون علي مفارقته، فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته هو الإمام الذي يجب اتباعه، وتجعل ما خالف ذلك من نصوص الكتاب والسنة من المجملات المتشابهات، التي لا يجوز اتباعها، بل يتعين حملها علي ما وافق أصلهم الذي ابتدعوه، أو الإعراض عنها وترك التدبر لها. وهذان الصفتان يشبهان ما ذكره الله في قوله {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون * أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون * ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون * فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} [البقرة: 75-79] . فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة علي ما أصله هو من البدع الباطلة، وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن، ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه، ومتناول لمن كتب كتاباً بيده مخالفاً لكتاب الله لينال به دينا، وقال: إنه من عند الله، مثل أن يقول: هذا هو الشرع والدين، وهذا معني الكتاب والسنة، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 قول السلف والأئمة، وهذا هو أصول الدين الذي يجب اعتقاده علي الأعيان أو الكفاية، ومتناول لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة لئلا يحتج به مخالفه في الحق الذي يقوله، وهذه الأمور كثيرة جداً في أهل الأهواء جملة، كالرافضة والجهمية ونحوهم من أهل الأهواء والكلام، وفي أهل الأهواء تفصيلاً، مثل كثير من المنتسبين إلي الفقهاء مع شعبة من حال الأهواء. وهذه الأمور المذكورة في الجواب مبسوطة في موضع آخر. نهاية الإجابة علي السؤال والله أعلم. عودة إلي مناقشة قانون التأويل والمقصود هنا الكلام علي قول القائل: إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية .... الخ كم تقدم. جواب إجمالي والكلام علي هذه الجملة بني علي بيان ما في مقدمتها من التلبيس، فإنها مبنية علي مقدمات. أولها: ثبوت تعارضها. والثانية: انحصار التقسيم فيما ذكره م الأقسام الأربعة. والثالثة: بطلان الأقسام الثلاثة. والمقدمات الثلاثة باطلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وبيان ذلك بتقديم أصل، وهو أن يقال: إذا قيل: تعارض دليلان، سواء كانا سمعيين أو عقليين، أو أحدهما سمعياً والآخر عقلياً، فالواجب أن يقال: لا يخلو إما أن يكونا قطعيين، أو يكونا ظنيين، وإما أن يكونا أحدهما قطعياً ولآخر ظنياً. فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما: سواء كانا عقليين أو سمعيين، أو أحدهما عقلياً والآخر سمعياً، وهذا متفق عليه بين العقلاء، لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله: ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة. وحينئذ فلو تعارض دليلان قطعيان، وأحدهما يناقض مدلول الآخر، للزم الجمع بين النقيضين، وهو محال، بل كل ما يعتقد تعارضه من الدلائل التي يعتقد أنها قطعية فلا بد من أن يكون الدليلان أو أحدهما غير قطعي، أو أن يكون مدلولاهما متناقضين، فأما مع تناقض المدلولين المعلومين فيمتنع تعارض الدليلين. وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعياً دون الآخر فإنه يجب تقديمه باتفاق العقلاء، سواء كان هو السمعي أو العقلي، فإن الظن لا يرفع اليقين. وأما إن كانا جميعاً ظنيين: فإنه يصار إلي طلي ترجيح أحدهما، فأيهما ترجح كان هو المقدم، سواء كان سميعاً أو عقلياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ولا جواب عن هذا، إلا أن يقال: الدليل السمعي لا يكون قطعاً وحينئذ فقال: هذا ـ مع كونه باطلاً ـ فإنه لا ينفع، فإنه علي هذا التقدير يجب تقديم القطعي لكونه قطعياً، لا لكونه أصلاً للسمع، وهؤلاء جعلوا عمدتهم في التقديم كون العقل هو الأصل للسمع، وهذا باطل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. وإذا قدر أن يتعارض قطعي وظني، لم ينازع عاقل في تقديم القطعي، لكن كون السمعي لا يكون قطعياً دونه خرط القتاد. وأيضاً، فإن الناس متفقون علي أن كثيراً مما جاء به الرسول معلوم بالاضطرار من دينه، كإيجاب العبادات وتحريم الفواحش والظلم، وتوحيد الصانع وإثبات المعاد وغير ذلك. وحينئذ فلو قال قائل: إذا قام الدليل العقلي القطعي علي مناقضة هذا فلا بد من تقديم أحدهما: فلو قدم هذا السمعي قدح في أصله، وإن قدم العقلي لزم تكذيب الرسول فيما علم بالاضطرار أنه جاء به، وهذا هو الكفر الصريح، فلا بد لهم من جواب عن هذا والجواب عنه أنه يمتنع أن يقوم عقلي قطعي يناقض هذا. فتبين أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي. ومثل هذا الغلط يقع فيه كثير من الناس، يقدرون تقديراً يلزم منه لوازم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فيثبتون تلك اللوازم، ولا يهتدون لكون ذلك التقدير ممتنعاً، والتقدير الممتنع قد يلزمه لوازم ممتنعة كما في قوله تعالي {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] . ولهذا أمثلة: منها: ما يذكره القدرية والجبرية في أن أفعال العباد: هل هي مقدورة للرب والعبد أم لا؟ فقال جمهور المعتزلة: إن الرب لا يقدر علي عين مقدور العبد. واختلفوا هل يقدر علي مثل مقدوره؟ فأثبته البصريون، كأبي هاشم، ونفاه الكعبي وأتباعه البغداديون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وقال جهم وأتباعه الجبرية: إن ذلك الفعل مقدور للرب لا للعبد. وكذلك قال الأشعري وأتباعه: إن المؤثر فيه قدرة الرب دون قدرة العبد. واحتج المعتزلة بأنه لو كان مقدوراً لهما للزوم إذا أراده أحدهما وكرهه الآخر، مثل أن يريد الرب تحريكه ويكرهه العبد: أن يكون موجوداً معدوماً، لأن المقدور من شأنه أن يوجد عند توفر دواعي القادر، وأن يبقي علي العدم عند توفر صارفه، فلو كان مقدور العبد وقدوراً لله لكان إذا أراد الله وقوعه وكره العبد وقوعه لزم أن يوجد لتحقق الدواعي، ولا يوجد لتحقق الصارف، وهو محال. وقد أجاب الجبرية عن هذا بما ذكره الرازي، وهو: أن البقاء علي العدم عند تحقق الصارف ممنوع مطلقاً، بل يجب إذا لم يقم مقامه سبب آخر مستقل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وهذا أول المسألة، وهو جواب ضعيف، فإن الكلام في فعل العبد القائم به إذا قام بقلبه الصارف عنه دون الداعي إليه، وهذا يمتنع وجوده من العبد في هذه الحال، وما قدر وجوده بدون إرادته لا يكون فعلاً اختيارياً، بل يكون بمنزلة حركة المرتعش، والكلام إنما هو في الاختياري، ولكن الجواب منع هذا التقدير، فإن ما لم يرده العبد من أفعاله يمتنع أن يكون الله مريداً لوقوعه، إذ لو شاء وقوعه لجعل العبد مريداً له، فإذا لم يجعله مريداً له علم أنه لم يشأه، ولهذا اتفق علماء المسلمين علي أن الإنسان لو قال: والله لأفعلن كذا وكذا إن شاء الله ثم لم يفعله أنه لا يحنث، لأنه لم يفعله علم أن الله لم يشأه إذ لو شاءه لفعله العبد، فلما لم يفعله علم أن الله لم يشأه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 واحتج الجبرية بما ذكره الرازي وغيره بقولهم: إذا أراد الله تحريك جسم وأراد العبد تسكينه: فإما أن يمتنعا معاً، وهو محال، لأن المانع من وقوع مراد كل واحد منهما هو وجود مراد الآخر , فلو امتنعا معاً لوجدا معاً، وهو محال، أو لوقعا معاً، وهو محال، أو يقع أحدهما وهو باطل، لأن القدرتين متساويتان في الاستقلال بالتأثير في ذلك المقدور الواحد، والشيء الواحد حقيقة لا تقبل التفاوت فإذن القدرتان بالنسبة إلي اقتضاء وجود ذلك المقدور علي السوية، وإنما التفاوت في أمور خارجية عن هذا المعني، وإذا كان كذلك امتنع الترجيح. فيقال: هذه الحجة باطلة علي المذهبين. وأما أهل السنة فعندهم يمتنع أن يريد الله تحريك جسم، ويجعل العبد مريداً لأن يجعله ساكناً مع قدرته علي ذلك، فإن الإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المقدور، فلو جعله الرب مريداً مع قدرته لزم وجود مقدوره، فيكون العبد يشاء مالا يشاء الله وجوده، وهذا ممتنع، بل ما شاء الله وجوده يجعل القادر عليه مريداً لوجوده، لا يجعله مريداً لما يناقض مراد الرب. أما أهل السنة فعندهم يمتنع أن يريد الله تحريك جسم، ويجعل العبد مريداً لأن يجعله ساكنا مع قدرته علي ذلك، فإن الإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وجود المقدور، فلو جعله الرب مريداً مع قدرته لزم وجود مقدوره، فيكون العبد يشاء مالا يشاء الله وجوده، وهذا ممتنع، بل ما شاء الله وجوده يجعل القادر عليه ميدا لوجوده، لا يجعله مريداً لما يناقض مراد الرب. وأما علي قول المعتزلة عندهم تمتنع قدرة الرب علي عين مقدور العبد ن فيمتنع اختلاف الإرادتين في شيء واحد وكلتا الحجتين باطلة، فأنهما مبيتان علي تناقض الإرادتين، وهذا ممتنع، فإن العبد إذا شاء أن يكون شيء لم يشاء حتى يشاء الله مشيئته كما قال تعالي: {لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير: 28-29] ، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فإذا شاءه الله جعل العبد شائياً له، وإذا جعل العبد كارها له غير مريد له، لم يكن هو في هذه الحال شائياً له. فهم بنوا الدليل علي تقدير مشيئة الله له، وكراهة العبد له، وهذا تقدير ممتنع، وهذا نقلوه من تقدير ربين وإلهين، وهو قياس باطل، لأن العبد مخلوق لله هو وجميع مفعولاته، ليس هو مثلاً لله ولا نداً، ولهذا إذا قيل ما قاله أبو إسحاق الإسفراييني: من أن فعل العبد مقدور بين قادرين، لم يرد به بين قادرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 مستقلين، بل قدرة العبد مخلوقة لله، وإرادته مخلوقه لله، فالله قادر مستقل، والعبد قادر بجعل الله له قادراً، وهو خالقه وخالق قدرته وإرادته وفعله، فلم يكن هذا نظير ذاك. وكذلك ما يقدره الرازي وغيره في مسألة إمكان دوام الفاعلية، وأن إمكان الحوادث لا بداية له، من أنا إذا قدرنا إمكان حادث معين، وقدرنا أنه لم يزل ممكناً، كان هذا لم يزل ممكناً مع أنه لا بداية لإمكانه، فإن هذا تقدير ممتنع، وهو تقدير ما له بداية مع أنه لا بداية له، وهو جمع بين النقيضين، ولهذا منع الرازي في محصله إمكان هذا. وهذا الذي ذكرناه بين واضح متفق عليه بين العقلاء من حيث الجملة ن وبه يتبين أن إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي، والجزم بتقديم العقلي، معلوم الفساد بالضرورة، وهو خلاف ما اتفق عليه العقلاء. وحينئذ فنقول: الجواب من وجوه: الجواب التفصيلي من وجوه. الوجه الأول الجواب التفصيلي من وجوه. الوجه الأول أن قوله: إذا تعارض النقل والعقل إما أن يريد به القطعيين، فلا نسلم إمكان التعارض حينئذ. وإما أن يريد به الظنيين، فالمقدم هو الراجح مطلقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وأما أن يريد به ما أحدهما قطعي، فالقطعي هو المقدم مطلقاً، وإذا قدر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لكونه قطعياً، لا لكونه عقلياً. فعلم أن تقديم العقلي مطلقاً خطأ، كما أن جعل جهة الترجيح كونه عقلياً خطأ. الوجه الثاني أن يقال: لا نسلم انحصار القسمة فيما ذكرته من الأقسام الأربعة، إذ من الممكن أن يقال: يقدم العقلي تارة والسمعي أخري، فأيهما كان قطعياً قدم، وإن كانا جميعاً قطعيين، فيمتنع التعارض، وإن كانا ظنيين فالراجح هو المقدم. فدعوى المدعي: أنه لا بد من تقديم العقلي مطلقاً أو السمعي مطلقاً، أو الجمع بين النقيضين، أو رفع النقيضين ـدعوى باطلة، بل هنا قسم ليس من هذه الأقسام، كما ذكرناه، بل هو الحق الذي لا ريب فيه. الوجه الثالث. نفي قاعدة أن العقل أصل النقل الوجه الثالث. نفي قاعدة أن العقل أصل النقل قوله: إن قدمنا النقل كان ذلك طعناً في أصله الذي هو العقل، فيكون طعناً فيه غير مسلم. وذلك لأن قوله: إن العقل أصل للنقل إما أن يريد به: أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر. أو أصل في عملنا بصحته. والأول لا يقوله عاقل، فإن ما هو ثابت في نفس الأمر بالسمع أو بغيره هو ثابت، سواء علمنا بالعقل او بغير العقل ثبوته، أو لم نعلم ثبوته لا بعقل ولا بغيره، إذ عدم العلم ليس علماً بالعدم، وعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسنا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فما أخبر به الصادق المصدوق صلي الله عليه وسلم هو ثابت في نفس الأمر، سواء علمنا صدقه أو لم نعلمه. ومن أرسله الله تعالي إلي الناس فهو رسوله، سواء علم الناس أنه رسول أو لم يعلموا، وما أخبر به فهو حق، وإن لم يصدقه الناس، وما أمر به عن الله فالله أمر به وإن لم يطعه الناس، فثبوت الرسالة في نفسها وثبوت صدق الرسول، وثبوت ما اخبر به في نفس الأمر: ليس موقوفاً علي وجودنا، فضلاً عن أن يكون موقوفاً علي عقولنا، أو علي الأدلة التي نعلمها بعقولنا. وهذا كما أن وجود الرب تعالي وما يستحقه من الأسماء والصفات ثابت في نفس الأمر، سواء علمناه أو لم نعلمه. فتبين بذلك أن العقل ليس أصلاً لثبوت الشرع في نفسه، ولا معطياً له صفة لم تكن له، ولا مفيداً له صفة كمال، إذ العلم مطابق للمعلوم المستغني عن العلم، تابع له، ليس مؤثراً فيه. فإن العلم نوعان: أحدهما العملي، وهو ما كان شرطاً في حصول المعلوم، كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله، فالمعلوم هنا متوقف علي العلم به محتاج إليه. والثاني: العلم الخبري النظري، وهو ما كان المعلوم غير مفتقر في وجوده إلي العلم به، كعلمنا بوحدانية الله تعالي وأسمائه وصفاته وصدق رسله وبملائكته وكتبه وغير ذلك، فإن هذه المعلومات ثابتة سواء علمناها أو لم نعلمها، فهي مستغنية عن علمنا بها، والشرع مع العقل هو من هذا الباب، فإن الشرع المنزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 من عند الله ثابت في نفسه، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، فهو مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا، ولكن نحن محتاجون إليه وإلي أن نعلمه بعقولنا، فإن العقل إذا علم ما هو عليه الشرع في نفسه صار عالماً به، وبما تضمنه من الأمور التي يحتاج إليها في دنياه وآخرته، وانتفع بعلمه به، وأعطاه ذلك صفة لم تكن له قبل ذلك، ولو لم يعلمه لكن جاهلاً ناقصاً. وأما إن أراد أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل لنا علي صحته ـ وهذا هو الذي أراده ـ فيقال له: أتعني بالعقل هنا الغريزة التي فينا، أم العلوم التي استفدنا بتلك الغريزة؟ وأما الأول فلم ترده، ويمتنع أن تريده، لأن تلك الغريزة ليست علماً يتصور أن يعارض النقل، وهو شرط في كل علم عقلي أو سمعي كالحياة، وما كان شرطاً في الشيء امتنع أن يكون منافياً له، فالحياة والغريزة شرط في كل العوم سمعيها وعقليها، فامتنع أن تكون منافية لها، وهى أيضاً شرط في الاعتقاد الحاصل بالاستدلال، وإن لم تكن علماً، فيمتنع أن تكن منافية له ومعارضة له. وإن أردت بالعقل الذي هو دليل السمع وأصله المعرفة الحاصلة بالعقل، فيقال لك: من المعلوم أنه ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلاً للسمع ودليلاً علي صحته، فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر، والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف علي ما به يعلم صدق الرسول صلي الله عليه وسلم. وليس كل العلوم العقلية يعلم بها صدق الرسول صلي الله عليه وسلم، بل ذلك يعلم بما يعلم به أن الله تعالي أرسله، مثل إثبات الصانع وتصديقه للرسول بالآيات وأمثال ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وإذا كان كذلك لم تكن جميع المعقولات أصلاً للنقل، لا بمعني توقف العلم بالسمع عليها، ولا بمعني الدلالة علي صحته، ولا بغير ذلك، لاسيما عند كثير من متكلمة الإثبات أو أكثرهم، كالأشعري في أحد قوليه، وكثير من أصحابه أو أكثرهم، كالأستاذأبي المعالي الجويني، ومن بعده من وافقهم ـ الذين يقولون: العلم بصدق الرسول عند ظهور المعجزات التي تجري مجري تصديق الرسول علم ضروري، فحينئذ ما يتوقف عليه العلم بصدق الرسول من العلم العقلي سهل يسير، مع أن العلم بصدق الرسول له طرق كثيرة متنوعة، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضوع. وحينئذ فإذا كان المعارض للسمع من المعقولات ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه، لم يكن القدح فيه قدحاً في أصل السمع، وهذا بين واضح، وليس القدح في بعض العقليات قدحاً في جميعها، كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحاً في جميعها، ولا يلزم من صحة بعض العقليات صحة جميعها، كما لا يلزم من صحة بعض السمعيات صحة جميعها. وحينئذ فلا يلزم من صحة المعقولات التي تبني عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات، ولا من فساد هذه فساد تلك، فضلاً عن صحة العقليات المناقضة للسمع. فكيف يقال: إنه يلزم من صحة المعقولات التي هي ملازمة للسمع صحة المعقولات المناقضة للسمع؟ فإن ما به يعلم السمع، ولا يعلم السمع إلا به، لازم للعلم بالسمع، لا يوجد العلم بالسمع بدونه، وهو ملزوم له، والعلم به يستلزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 العلم بالسمع، والمعارض للسمع مناقض له مناف له. فهل يقول عاقل: إنه يلزم من ثبوت ملازم الشيء ثبوت مناقضه ومعارضه!؟ ولكن صاحب هذا القول جعل العقليات كلها نوعاً واحداً متماثلاً في الصحة أو الفساد، ومعلوم أن السمع إنما يستلزم صحة بعضها الملازم له، لا صحة البعض المنافي له، والناس متفقون علي أن ما يسمى عقليات منه حق، ومنه باطل، وما كان شرطاً في العلم بالسمع وموجباً فهو لازم للعلم به، بخلاف المنافي المناقض له، فإنه يمتنع أن يكون هو بعينه شرطاً في صحته ملازماً لثبوته، فإن الملازم لا يكون مناقضاً، فثبت أنه لا يلزم من تقديم السمع علي ما يقال إنه معقول في الجملة القدح في أصله. فقد تبين بهذه الوجوه الثلاثة فساد المقدمات الثلاث التي بنوا عليها تقديم آرائهم علي كلام الله ورسوله. اعتراض: نحن نقدم علي السمع المعقولات التي علمنا بها صحة السمع. الرد عليهم من وجوه. الأول اعتراض: نحن نقدم علي السمع المعقولات التي علمنا بها صحة السمع. الرد عليهم من وجوه. الأول فإن قيل: نحن إنما تقدم علي السمع المعقولات التي علمنا بها صحة السمع. قيل: سنبين إن شاء الله أنه ليس فيما يعارض السمع شيء من المعقولات التي يتوقف السمع عليها، فإذن كل ما عارض السمع ـ مما يسمي معقولاً ـ ليس أصلاً للسمع، يتوقف العلم بصحة السمع عليه، فلا يكون القدح في شيء من المعقولات قدحاً في أصل السمع. الثاني الوجه الثاني: أن جمهور الخلق يعترفون بأن المعرفة بالصانع وصدق الرسول ليس متوقفاً علي ما يدعيه بعضهم من العقليات المخالفة للسمع، والواضعون لهذا القانون ـ كـ أبي حامد والرازي وغيرهما ـ معترفون بأن العلم بصدق الرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 لا يتوقف علي العقليات المعارضة له، فطوائف كثيرون ـ كـ أبي حامد والشهرستاني وأبي القاسم الراغب وغيرهم ـ يقولون: العلم بالصانع فطري ضروري. والرازي والآمدي وغيرهما من النظار يسلمون أن العلم بالصانع قد يحصل بالاضطرار، وحينئذ فالعلم بكون الصانع قادراً معلوم بالاضطرار، والعلم بصدق الرسول عند ظهور المعجزات التي تحدي الخلق بمعارضتها وعجزوا عن ذلك معلوم بالاضطرار. ومعلوم أن السمعيات مملوءة من إثبات الصانع وقدرته وتصديق رسوله، ليس فيها ما يناقض هذه الأصول العقلية التي بها يعلم السمع، بل الذي في السمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 يوافق هذه الأصول، بل السمع فيه من بيان الأدلة العقلية علي إثبات الصانع، ودلائل ربوبيته وقدرته، وبيان آيات الرسول ودلائل صدقه أضعاف ما يوجد في كلام النظار، فليس فيه ـ ولله الحمد ـ ما يناقض الأدلة العقلية التي بها يعلم صدق الرسول. ومن جعل العلم بالصانع نظرياً يعترف أكثرهم بأن من الطرق النظرية التي بها يعلم صدق الرسول ما لا يناقض شيئاً من السمعيات. والرازي ممن يعترف بهذا، فإنه قال في نهاية العقول في مسألة التفكير في: المسألة الثالثة: في أن مخالف الحق من أهل الصلاة هل يكفر أم لا؟ . قال الشيخ أبو الحسن الأشعري في أول كتاب مقالات الإسلاميين: اختلف المسلمون ـ بعد نبيهم ـ في أشياء ضلل فيها بعضهم بعضاً، وتبرأ بعضهم من بعض، فصاروا فرقاً متباينين، إلا أن الإسلام يجمعهم فيعمهم، فهذا مذهبه، وعليه أكثر الأصحاب، ومن الأصحاب من كفر المخالفين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وأما الفقهاء فقد نقل عن الشافعي رضي الله تعالي عنه قال: لا أرد شهادة أهل الأهواء، إلا الخطابية فإنهم يعتقدون حل الكذب. وأما أبو حنيفة رضي الله تعالي عنه: فقد حكي الحاكم صاحب المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر أحداً من أهل القبلة. وحكي أبو بكر الرازي عن الكرخي وغيره مثل ذلك. وأما المعتزلة: فالذين كانوا قبل أبي الحسين تحامقوا وكفروا أصحابنا في إثبات الصفات وخلق الأعمال. وأما المشبهة: فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن المعتزلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول: أكفر من يكفرني، وكل مخالف يكفرنا فنحن نكفره، وإلا فلا. والذي نختاره أن لا نكفر أحداً من أهل القبلة. والدليل عليه أن نقول: المسائل التي اختلف أهل القبلة فيها، مثل أن الله تعالي هل هو عالم بالعلم أو بالذات؟ وأنه تعالي هل هو موجد لأفعال العباد أم لا؟ وأنه هل هو متحيز وهل هو في مكان وجهة؟ وهل هو مرئي أم لا؟ لا يخلو إما أن تتوقف صحة الدين معرفة الحق فيها أو لا تتوقف، والأول باطل، إذ لو كانت معرفة هذه الأصول من الدين لكان الواجب علي النبي صلي الله عليه وسلم أن يطالبهم بهذه المسائل، ويبحث عن كيفية اعتقادهم فيها، فلما لم يطالبهم بهذه المسائل، بل ما جري حديث في هذه المسائل في زمانه عليه السلام، ولا في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، علمنا أنه لا تتوقف صحة الإسلام علي معرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 هذه الأصول. وإذا كان كذلك لم يكن الخطأ في هذه المسائل قدحاً في حقيقة الإسلام، وذلك يقتضي الامتناع من تكفير أهل القبلة. ثم قال بعد ذلك وأما دلالة الفعل المحكم علي العلم فقد عرفت أنها ضرورية. وأما دلالة المعجز علي الصدق فقد بينا أنها ضرورية، ومتي عرفت هذه الأصول أمكن العلم بصدق الرسول عليه السلام، فثبت أن العلم بالأصول التي يتوقف علي صحتها نبوة محمد علية السلام علم جلي ظاهر، وإنما طال الكلام في هذه الأصول لرفع هذه الشكوك التي يثبتها المبطلون، إما في مقدمات هذه الأدلة، أو في معارضاتها، والاشتغال برفع هذه الشكوك إنما يجب بعد عروضها، فثبت أن أصول الإسلام جلية ظاهرة ثم إن أدلتها علي الاستقصاء مذكورة في كتاب الله تعالي، خالية عما يتوهم معارضاً لها. ثم ذكر بعد ذلك فقال: قلنا: إنا قد ذكرنا في إثبات العلم بالصانع طرقاً خمسة قاطعة في هذا الكتاب من غير حاجة إلي القياس الذي ذكروه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وأيضاً فإنه ذكر في إثبات الصانع أربعة طرق: طريق حدوث الأجسام، وطريق إمكانها، وطريق إمكان صفاتها، وطريق حدوث صفاتها، وقال: إن هذه الطريق لا تنفي كونه جسماً، بخلاف الطرق الثلاثة، وهم إنما ينفون ما ينفونه من الصفات لظنهم أنها تستلزم التجسيم الذي نفاه العقل الذي هو أصل السمع، فإذا اعترفوا بأنه يمكن العلم بالصانع وصدق رسوله قبل النظر في كونه جسماً أو ليس بجسم، تبين أن صدق الرسول لا يتوقف علي العلم بأنه ليس بجسم، وحينئذ فلو قدر أن العقل ينفي ذلك لم يكن هذا من العقل الذي هو أصل السمع. الثالث والوجه الثالث: أن يقال لمن ادعي من هؤلاء توقف العلم بالسمع علي مثل هذا النفي، كقول من يقول منهم: إنا لا نعلم صدق الرسول حتى نعلم وجود الصانع، وأنه قادر غني لا يفعل القبيح، ولا نعلم ذلك حتى نعلم أنه ليس بجسم، أو لا نعلم إثبات الصانع حتى نعلم حدوث العالم، ولا نعلم ذلك إلا بحدوث الأجسام، فلا يمكن أن يقبل من السمع ما يستلزم كونه جسماً. فيقال لهم: قد علم بالاضطرار من دين الرسول والنقل المتواتر أنه دعا الخلق إلي الإيمان بالله ورسوله، ولم يدع الناس بهذه الطريق التي قلتم إنكم أثبتم بها حدوث العالم ونفي كونه جسماً، وآمن بالرسول من آمن به من المهاجرين والأنصار، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ولم يدع أحداً منهم بهذه الطريق، ولا ذكرها أحد منهم، ولا ذكرت في القرآن ولا حديث الرسول، ولا دعا بها أحد من الصحابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 والتابعين لهم بإحسان الذين هم خير هذه الأمة وأفضلها علماً وإيماناً، وإنما ابتدعت هذه الطريق في الإسلام بعد المائة الأولي وانقراض عصر أكابر التابعين، بل وأوساطهم، فكيف يجوز أن يقال: إن تصديق الرسول موقوف عليها، وأعلم الذي صدقوه وأفضلهم لم يدعوا بها، ولا ذكروها، ولا ذكرت لهم، ولا نقلها أحد عنهم، ولا تكلم بها أحد في عصرهم؟. الرابع الوجه الرابع: أن يقال: هذا القرآن والسنة المنقولة عن النبي صلي الله عليه وسلم، متوا ترها وآحادها، ليس فيه ذكر ما يدل علي هذه الطريق، فضلاً عن أن تكو نفس الطريق فيها، فليس في شيء من ذلك: أن البارئ لم يزل معطلاً عن الفعل والكلام بمشيئته، ثم حدث ما حدث بلا سبب حادث، وليس فيه ذكر الجسم والتحيز والجهة، لا بنفي ولا إثبات، فكيف يكون الإيمان بالرسول مستلزما لذلك، والرسول لم يخبر به ولا جعل الإيمان به موقوفاً عليه؟. الخامس الوجه الخامس: أن هذه الطرق الثلاثة ـطريق حدوث الأجسام ـ مبنية علي امتناع دوام كون الرب فاعلاً، وامتناع كونه لم يزل متكلماً بمشيئته، بل حقيقتها مبنية علي امتناع كونه لم يزل قادراً علي هذا وهذا، ومعلوم أن أكثر العقلاء من المسلمين وغير المسلمين ينازعون في هذا، ويقولون: هذا قول باطل. وأما القول بإمكان الأجسام فهو مبني علي أن الموصوف ممكن، بناء علي أن المركب ممكن، وعلي نفي الصفات، وهي طريقة أحدثها ابن سينا وأمثاله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وركبها من مذهب سلفهم ومذهب الجهمية، وهي أضعف من التي قبلها من وجوه كثيرة. وطريقة إمكان صفات الأجسام مبنية علي تماثل الأجسام، وأكثر العقلاء يخالفون في ذلك، وفضلاؤهم معترفون بفساد ذلك كما قد ذكرنا قول الأشعري والرازي والآمدي وغيرهم، واعترافهم بفساد ذلك، وبينا فساد ذلك بصريح المعقول. فإذا كانت هذه الطرق فاسدة عند جمهور العقلاء، بل فاسدة في نفس الأمر، امتنع أن يكون العلم بالصانع موقوفاً علي طريق فاسدة، ولو قدر صحتها علم أن أكثر العقلاء عرفوا الله وصدقوا رسوله بغير هذه الطريق، فلم يبق العلم بالسمع موقوفاً علي صحتها، فلا يكون القدح فيها قدحاً في أصل السمع. السادس الوجه السادس: أن يقال: إذا قدر أن السمع موقوف علي العلم بأنه ليس بجسم مثلاً لم يسلم أن مثبتي الصفات التي جاء بها القرآن والسنة خالفوا موجب العقل، فإن قولهم فيما يثبتونه من الصفات كقول سائر من ينفي الجسم ويثبت شيئاً من الصفات. فإذا كان أولئك يقولون: إنه حي عليم قدير وليس بجسم، ويقول آخرون: إنه حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، بل وسميع وبصير ومتكلم بسمع وبصر وكلام، وليس بجسم، أمكن هؤلاء أن يقولوا في سائر الصفات التي أخبر بها الرسول ما قال هؤلاء في هذه الصفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وإذا أمكن المتفلسف أن يقول: هو موجود، وعاقل ومعقول وعقل، وعاشق ومعشوق وعشق، ولذيذ وملتذ ولذة، وهذا كله شيء واحد، وهذه الصفة الأخرى، والصفة هي الموصوف، وإثبات هذه الأمور لا يستلزم التجسيم، أمكن سائر مثبتة الصفات أن يقولوا هذا وما هو أقرب إلي المعقول، فلا يقول من نفي شيئاً مما أخبر به الشارع من الصفات قولاً ويقول: إنه يوافق المعقول، إلا ويقول من أثبت ذلك ما هو أقرب إلي المعقول منه. وهذه جملة سيأتي إن شاء الله تفصيلها، وبيان أن كل من أثبت ما أثبته الرسول ونفي ما نفاه كان أولي بالمعقول الصريح، كما كان أولي بالمنقول الصحيح، وأن من خالف صحيح المنقول فقد خالف أيضاً صريح المعقول، وكان أولي بمن قال الله فيه {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [تبارك: 10] . الأنبياء لم يدعوا إلي طريقة الأعراض فإن قيل: قول القائلين: إن الأنبياء لم يدعوا الناس إلي إثبات الصانع بهذه الطريقة: طريقة الأعراض وحدوثها ولزومها الأجسام، وأن ما استلزم الحادث فهو حادث. للمنازعين في هذا الكلام مقامان. للمنازعين فيه مقامان: المقام الأول للمنازعين في هذا الكلام مقامان. للمنازعين فيه مقامان: المقام الأول أحدهما: منع هذه المقدمة. فإنه من المعروف أن كثيراً من النفاة يقول: إن هذه الطريقة هي طريقة إبراهيم الخليل، وإنه استدل علي حدوث الكواكب والشمس والقمر بالأفول، والأفول هو الحركة، والحركة هي التغير، فلزم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ذلك أن كل متغير محدث، لأنه لا يسبق الحوادث، لامتناع حوادث لا أول لها، وكل ما قامت به الحوادث فهو متغير، فيجب أن يكون محدثا، فهذه الطريق التي سلكناها هي طريقة إبراهيم الخليل. وهذا مما ذكره خلق من النفاة، مثل بشر المريسي وأمثاله، ومثل ابن عقيل وأبي حامد الرازي، وخلق غير هؤلاء. وأيضاً، فالقرآن قد دل علي انه ليس بجسم، لأنه أحد، والأحد: الذي لا ينقسم، وهو واحد، والواحد: الذي لا ينقسم، ولأنه صمد، والصمد: الذي لا جوف له، فلا يتخلله غيره، والجسم يتخلله غيره، ولأنه سبحانه قد قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] ، والأجسام متماثلة، فلو كان جسماً لكان له مثل، وإذا لم يكن جسماً لزم نفي ملزومات الجسم. وبعضهم يقول: نفي لوازم الجسم. وليس بجيد، فإنه لا يلزم من وجود اللازم وجود الملزوم، ولكن يلزم من نقيه نفيه، بخلاف ملزومات الجسم، فإنه يجب من نفيها نفي الجسم ن فيجب نفي كل ما يستلزم كونه جسماً. ثم من نفي العلو والمباينة يقول: العلو يستلزم كونه جسماً، ومن نفي الصفات الخبرية يقول: إثباتها يستلزم التجسيم، ومن الصفات مطلقاً قال: ثبوتها يستلزم التجسيم. وأيضاً، فالتجسيم نفي، لأنه يقتضي القسمة والتركيب، فيجب نفي كل تركيب، فيجب نفي كونه مركباً من الوجود والماهية، ومن الجنس والفصل، ومن المادة والصورة، ومن الجوهر المفردة، ومن الذات والصفات. وهذه الخمسة هي التي يسميها نفاة الصفات من متأخري الفلاسفة تركيباً. والمقصود هنا أن السمع دل علي نفي هذه الأمور، والرسل نفت ذلك، وبينت الطريق العقلي المنافي لذلك، وهو نفي التشبيه تارة، وإثبات حدوث كل متغير تارة. ثم إنه لما قال هؤلاء: إن الأفول هو الحدوث، والأفول هو التغير، فبنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ابن سينا وأتباعه من الدهرية علي هذا وقالوا: ما سوي الله ممكن، وكل ممكن فهو آفل فالآفل لا يكون واجب الوجود. وجعل الرازي في تفسير هذا الهذيان، وقد يقول هو وغيره: كل آفل متغير، وكل متغير ممكن، فيستدلون بالتغير علي الإمكان، كما استدل الأكثر ون من هؤلاء بالتغير علي الحدوث، وكل من هؤلاء يقول: هذه طريقة الخليل. المقام الثاني أن يقال: نخن نسلم أن الأنبياء لم يدعوا الناس بهذه الطريق ولا بينوا أنه ليس بجسم. وهذا قول محققي طوائف النفاة وأئمتهم، فإنهم يعلمون ويقولون: إن النفي لم يعتمد فيه علي طريقة مأخوذة عن الأنبياء وإن الأنبياء لم يدلوا علي ذلك، لا نصاً ولا ظاهراً، ويقولون: إن كلام الأنبياء إنما يدل علي الإثبات إما نصاً وإما ظاهراً. لكن قالوا: إذا كان العقل دل علي النفي لم يمكنا إبطال مدلول العقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ثم يقول المتكلمون من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم الذين قالوا: إنما يمكن إثبات الصانع وصدق رسله بهذه الطريق، ويقولون: إنه لا يمكن العلم بحدوث العالم وإثبات الصانع، والعلم بأنه قادر حي عالم، وأنه يجوز أن يرسل الرسل ويصدق الأنبياء بالمعجزات إلا بهذه الطريق ـ كما يذكر ذلك أئمتهم وحذاقهم، حتى متأخروهم كأبي الحسين البصري، وأبي المعالي الجويني، والقاضي أبي يعلي، وغيرهم ـ فإذا علمنا مع ذلك أن الأنبياء لم يدعوا الناس بها لزم ما قلناه من أن الرسول أحال الناس في معرفة الله علي العقل، وإذا علموا ذلك فحينئذ هم في نصوص الأنبياء إما أن يسلكوا مسلك التأويل، ويكون القصد بإنزال المتشابه تكليفهم استخراج طريق التأويلات، وإما أن يسلكوا مسلك التفويض، ويكون المقصود إنزال ألفاظ يتعبدون بتلاوتها وإن لم يفهم أحد معانيها. ويقول ملاحدة الفلاسفة والباطنية ونحوهم: المقصود خطاب الجمهور بما يتخيلون به أن الرب جسم عظيم، وأن المعاد فيه لذات جسمانية، وإن كان هذا لا حقيقة له، ثم إما أن يقال إن الأنبياء لم يعلموا ذلك، وإما أن يقال: علموه ولم يبينوه بل أظهروا خلاف الحق للمصلحة. قيل في الجواب: أما من سلك المسلك الأول فجوابه من وجوه: الجواب علي المسلك الأول من وجوه. الأول الجواب علي المسلك الأول من وجوه. الأول أحدهما: أن يقال: فإذا كانت الأدلة السمعية المأخوذة عن الأنبياء دلت علي صحة هذه الطريق وصحة مدلولها، وعلي نفي ما تنفونه من الصفات، فحينئذ تكون الأدلة السمعية المثبتة لذلك عارضت هذه الأدلة، فيكون السمع قد عارضه سمع آخر، وإن كان أحدهما موافقاً لما تذكرونه من العقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وحينئذ فلا تحتاجون أن تبنوا دفع السمعيات المخالفة لكم علي هذا القانون الذي ابتدعتموه، وجعلتم فيه آراء الرجال مقدمة علي ما أنزل الله وبعث به رسله، وفتحتم باباً لكل طائفة، بل لكل شخص، أن يقدم ما رآه بمعقوله علي ما ثبت عن الله ورسوله، بل يعلمه المخبر، ولهذا كان هذا القانون لا يظهره أحد من الطوائف المشهورين ن وإنما كان بعضهم يبطنه سراً، وإنما أظهر لما ظهر كلام الملاحدة أعداء الرسل. الثاني أن يقال: كل من له أدني معرفة بما جاء به النبي صلي الله عليه وسلم يعلم بالاضطرار أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يدع الناس بهذه الطريقة، طريق الأعراض، ولا نفي الصفات أصلاً ن لا نصاً ولا ظاهراً، ولا ذكر ما يفهم منه ذلك لا نصاً ولا ظاهراً، ولا ذكر أن الخالق ليس فوق العالم ولا مبايناً له، أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا ذكر ما يفهم منه ذلك لا نصاً ولا ظاهراً، بل ولا نفي الجسم الاصطلاحي، ولا ما يرادف من الألفاظ، ولا ذكر أن الحوادث يمتنع دوامها في الماضي والمستقبل، أو في الماضي، لا نصاً ولا ظاهراً، ولا أن الرب صار الفعل ممكناً له بعد أن لم يكن ممكناً، ولا أنه صار الكلام ممكناً له بعد أن لم يكن ممكنا ًن ولا أن كلامه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه ونحو ذلك أمور مخلوقة بائنة عنه، وأمثال ذلك مما يقوله هؤلاء لا نصاً ولا ظاهراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 بل علم الناس خاصتهم وعامتهم بأن النبي صلي الله عليه وسلم لم يذكر ذلك أظهر من علمهم بأنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة، وأن القرآن لم يعارضه أحد، وأنه لم يفرض صلاة إلا الصلوات الخمس، وأنه لم يكن يؤخر صلاة النهار إلي الليل وصلاة الليل إلي النهار، وأنه لم يكن يؤذن له في العيدين والكسوف والاستسقاء، وأنه لم يرض بدين الكفار، لا المشركين ولا أهل الكتاب قط، وأنه لم يسقط الصلوات الخمس عن أحد من العقلاء، وأنه لم يقاتله أحد من المؤمنين به، لا أهل الصفة ولا غيرهم، وأنه لم يكن يؤذن بمكة، ولا كان بمكة أهل صفة، ولا كان بالمدينة أهل صفة قبل أن يهاجر إلي المدينة، وأنه لم يجمع أصحابه قط علي سماع كف ولا دف، وأنه لم يكن يقصر شعر كل من أسلم أو تاب من ذنب، وأنه لم يكن يقتل كل من سرق أو قذف أو شرب، وأنه لم يكن يصلي الخمس إذا كان صحيحاً إلا بالمسلمين، لم يكن يصلي الفرض وحده، ولا في الغيب، وأنه لم يحج في الهواء قط، وأنه لم يقل رأيت ربي في اليقظة، لا ليلة المعراج ولا غيرها، ولم يقل: إن الله ينزل عشية عرفة إلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الأرض، وإنما قال: إنه ينزل إلي السماء الدنيا عشية عرفة فيباهي اللائكة بالحجاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ولا قال: إن الله ينزل كل ليلة إلي الأرض، وإنما قال: ينزل إلي سماء الدنيا وأمثال ذلك مما يعلم العلماء بأحواله علماً ضرورياً أنه لم يكن، ومن روي ذلك عنه أو أخذ يستدل علي ثبوت ذلك علموا بطلان قوله بالاضطرار، كما يعلمون بطلان قول السوفسطائية، وإن لم يشتغلوا بحل شبههم. وحينئذ فمن استدل بهذه الطريق، أو أخبر الأمة بمثل قول نفاة الصفات، كان كذبه معلوماً بالاضطرار أبلغ مما يعلم كذب من ادعي عليه هذه الأمور المنتفية عنه وأضعافها، وهذا مما يعلمه من له أدني خبرة بأحوال الرسل، فضلاً عن المتوسطين، فضلاً عن الوارثين له، العالمين بأقواله وأفعاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الثالث الوجه الثالث: أن يقال: جميع ما ذكرتموه من أقوال الأنبياء أنها تدل علي مثل قولكم فلا دلالة في شيء منها، من وجوه متعددة، وذلك معلوم يقناً، بل فيها ما يدل علي نقيض قولكم، وهو مذهب أهل الإثبات، وهكذا عامة ما يحتج به أهل الباطل من الحجج، لا سيما السمعية، فإنها إنما تدل علي نقيض قولهم. نقض الاستدلال بقصة إبراهيم عليه السلام وأما قصة إبراهيم الخليل عليه السلام فقد علم باتفاق أهل اللغة والمفسرين أن الأفول ليس هو الحركة، سواء كانت حركة مكانية، وهو الانتقال، أو حركة في الكم كالنمو، أو في الكيف كالتسود والتبيض، ولا هو التغير، فلا يسمى في اللغة كل متحرك أو متغير آفلاً، ولا أنه أفل، لا يقال للمصلي أو الماشي إنه آفل، ولا يقال للتغير الذي هو استحالة، كالمرض واصفرار الشمس: إنه أفول، لا يقال للشمس إذا اصفرت: إنها أفلت، وإنما يقال أفلت إذا غابت واحتجبت، وهذا من المتواتر المعلوم بالاضطرار من لغة العرب: أن آفلاً بمعني غائب، وقد أفلت الشمس تأفل وتأفل أفولاً: أي غابت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ومما يبين هذا أن الله ذكر عن الخليل أنه لما {رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الأفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض} [الأنعام: 76-79] . ومعلوم أنه لما بزغ القمر والشمس كان في بزوغه متحركاً، وهو الذي يسمونه تغيراً، فلو كان قد استدل بالحركة المسماة تغيراً لكان قد قال ذلك من حين رآه بازغاً، وليس مراد الخليل بقوله: هذا ربي رب العالمين، ولا أن هذا هو القديم الأزلي الواجب الوجود، الذي كل ما سواه محدث ممكن مخلوق له، ولا كان قومه يعتقدون هذا حتى يدلهم علي فساده، ولا اعتقد هذا أحد يعرف قوله، بل قومه كانوا مشركين يعبدون الكواكب والأصنام، ويقرون بالصانع. ولهذا قال الخليل {أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} [الشعراء: 75-77] وقال {إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون} [الزخرف: 26-28] فذكر لهم ما كانوا يفعلونه من اتخاذ الكواكب والشمس والقمر رباً يعبدونه ويتقربون إليه، كما هو عادة عباد الكواكب ومن يطلب تسخير روحانية الكواكب، وهذا مذهب مشهور، مازال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 عليه طوائف من المشركين إلي اليوم، وهو الذي صنف فيه الرازي السر المكتوم وغيره من المصنفات. فإن قال المنازعون: بل الخليل إنما أراد أن هذا رب العلمين. قيل: فيكون إقرار الخليل حجة علي فساد قولكم، لأنه حينئذ يكون مقراً بأن رب العالمين قد يكون متحيزاً متنقلاً من مكان إلي مكان، متغيراً، وإنه لم يجعل هذه الحوادث تنافي وجوده، وإنما جعل المنافي لذلك أفوله، وهو مغيبه، فتبين أن قصة الخليل إلي أن تكون حجة عليهم أقرب من أن تكون حجة لهم، ولا حجة لهم فيها بوجه من الوجوه. وأفسد من ذلك قول من جعل الأفول بمعني الإمكان، وجعل كل ما سوي الله آفلاً، بمعني كونه قديماً أزلياً، حتى جعل السماوات والأرض والجبال والشمس والقمر والكواكب لم تزل ولا تزال آفلة، وأن أفولها وصف لازم لها، إذ هو كونها ممكنة، والإمكان لازم لها، فهذا مع كونه افتراء علي اللغة والقرآن افتراء ظاهراً يعرفه كل أحد، كما افتري غير ذلك من تسمية القديم الأزلي محدثاً، وتسميته مصنوعاً ـ فقصة الخليل حجة عليه، فإنه لما رأي القمر بازغاً قال هذا ربي ولما رأي الشمس بازغة قال هذا ربي فلما أفلت قال: لا أحب الآفلين فتبين أنه أفل بعد أن لم يكن آفلاً، فكون الشمس والقمر والكواكب وكل ما سوي الله ممكنا هو وصف لازم له، لا يحدث له بعد أن لم يكن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وهم يقولون: إمكانه له من ذاته، ووجوده من غيره، بناء علي تفريقهم في الخارج بين وجود الشيء وذاته، فالإمكان عندهم أولي بذاته من الوجود، ولو قال: فلما وجدت أو خلقت أو أبدعت قال: لا أحب الموجوديين والمخلوفين، كان هذا قبيحاً متناقصاً، إذ لم يزل كذلك، فكيف إذا قال: فلما صارت ممكنة، وهى لم تزل ممكنة. وأيضاً فهي من حين بزغت وإلي أن أفلت ممكنة بذاتها تقبل الوجود والعدم، مع كونها عندهم قديمة أزلية يمنتع عدمها، وحينئذ يكون كونها متحركة ليس بدليل عند إبراهيم علي مونها ممكنة تقبل الوجود والعدم. وأما قول القائل: كل متحرك محدث، أن كل متحرك ممكن يقبل الوجود والعدم فهذه المقدمة ليست ضرورية فطرية بإتفاق العقلاء، بل من يدعي صحة ذلك يقول: إنها لا تعلم إلا بالنظر الخفي، ومن ينازع في ذلك يقول: إنها باطلة عقلا وسمعا، ويمثل من مثل بها في أوائل العلوم الكلية لقصوره وعجزه، وهو نفسه يقدح فيها في عامة كتبه. وأما قوله: كل متغير محدث أو ممكن فإن أراد بالتغير ما يعرف من ذلك في اللغة، مثل استحالة الصحيح إلي المرض، والعادل إلي الظلم، والصديق إلي العداوة، فإنه يحتاج في إثبات هذه الكلية إلي دليل. وإن أراد بالتغير معني الحركة، أو قيام الحوادث مطلقاً ن حتى تسمي الكواكب حين بزوغها متغيرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ويسمي كل متكلم ومتحرك متغيراً، فهذا مما عليه إقامة الدليل فيه علي دعواه. لفظ أحد وواحد وأما استدلالهم بما في القرآن من تسمية الله أحدا وواحدا علي نفي الصفات، الذي بنوه علي نفي التجسيم. فيقال لهم: ليس في كلام العرب، بل ولا عامة أهل اللغات، أن الذات الموصوفة بالصفات لا تسمي واحداً ولا تسمي أحداً في النفي والإثبات، بل المنقول بالتواتر عن العرب تسمية الموصوف بالصفات واحدا وأحدا، حيث أطلقوا ذلك، ووحيداً. قال تعالى {ذرني ومن خلقت وحيدا} [المدثر: 11] وهوالوليد ابن المغيرة. وقال تعالى {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف} [النساء: 11] فسماها واحدة، وهو امرأة واحدة متصفة بالصفات، بل جسم حامل للأعراض. وقال تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] . وقال تعالى {قالت إحداهما يا أبت استأجره} [القصص: 26] وقال تعالى {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة: 282] وقال تعالى {فإن بغت إحداهما على الأخرى} [الحجرات: 9] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وقال {ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص: 4] وقال {قل إني لن يجيرني من الله أحد} بالجن: 22] وقال تعالى {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: 110] وقال تعالى {ولا يظلم ربك أحدا} [الكهف: 49] . فإن كان لفظ الأحد لا يقال علي ما قامت به الصفات، بل ولا علي شيء من الأجسام التي تقوم بها الأعراض لأنها منقسمة، لم يكن في الوجود غير الله من الملائكة والإنس والجن والبهائم من يدخل في لفظ أحد، بل لم يكن في الموجودين ما يقال عليه في النفي أنه أحد، فإذا قيل {ولم يكن له كفوا أحد} لم يكن هذا نفيا لمكافأة الرب إلا عمن لا وجود له، ولم يكن في الموجودات ما أخبر عنه بهذا الخطاب أنه ليس كفؤاً لله. وكذلك قوله {ولا أشرك بربي أحدا} [الكهف: 38] ، {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} فإنه إذا لم يكن الأحد إلا ما لا ينقسم، وكل مخلوق وجسم منقسم، لم يكن في المخلوق ما يدخل في مسمي أحد، فيكون التقدير: ولا أشرك به ما لم يوجد، ولا يشرك بربه ما لا يوجد. وإذا كان المراد النفي العام، وأن كل موجود من الإنس والجن يدخل في مسمي أحد، يقال: إنه أحد الرجلين، ويقال للأنثى: إحدى المرأتين، ويقال للمرأة: واحدة، وللرجل: واحد، ووحيد ـ علم أن اللغة التي نزل بها القرآن لفظ الواحد والأحد فيها يتناول الموصوفات، بل يتناول الجسم الحامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 للأعراض، ولم يعرف أنهم أرادوا بهذا اللفظ ما لم يوصف أصلاً، بل ولا عرف منهم أنهم لا يستعملونه إلا في غير الجسم، بل ليس في كلامهم ما يبين استعمالهم له في غير ما يسميه هؤلاء جسماً، فكيف يقال: لا يدل إلا علي نقيض ذلك، ولم يعرف استعماله إلا في النقيض ـ الذي أخرجوه منه ـ الوجودي، دون النقيض الذي خصوه به وهو العدمي؟ وهل يكون في تبديل اللغة والقرآن أبلغ من هذا؟ . لفظ الصمد وكذلك اسمه الصمد ليس في قول الصحابة: إنه الذي لا جوف له ما يدل علي أنه ليس بموصوف بالصفات: بل هو علي إثبات الصفات أدل منه علي نفيها من وجوه مبسوطة غير هذا الموضع. وكذلك قوله {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشوري: 11] ، وقوله {هل تعلم له سمياً} [مريم: 65] ، ونحو ذلك، فإنه لا يدل علي نفي الصفات بوجه من الوجوه، بل ولا علي نفي ما يسميه أهل الاصطلاح جسماً بوجه من الوجوه. وأما احتجاجهم بقولهم: الأجسام متماثلة فهذا ـ إن كان حقاً ـ فهو تماثل يعلم بالعقل، ليس فيه أن اللغة التي نزل بها القرآن تطلق لفظ المثل علي كل جسم، ولا أن اللغة التي نزل بها القرآن تقول: إن السماء مثل الأرض، والشمس والقمر والكواكب مثل الجبال، والجبال مثل البحار، والبحار مثل التراب، والتراب مثل الهواء، والهواء مثل الماء، والماء مثل النار، والنار مثل الشمس، والشمس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 مثل الإنسان، والإنسان مثل الفرس والحمار، والفرس والحمار مثل السفرجل والرمان، والرمان مثل الذهب والفضة، والذهب والفضة مثل الخبز واللحم، ولا في اللغة التي نزل بها القرآن أن كل شيئين اشتركا في المقدارية بحيث يكون كل منهما له قدر من الأقدار كالطول والعرض والعمق أنه مثل الآخر، ولا أنه إذا كان كل منهما بحيث يشار إليه الإشارة الحسية يكون مثل الآخر، بل ولا فيها أن كل شيئين كانا مركبين من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة كان أحدهما مثل الآخر. بل اللغة التي نزل بها القرآن تبين أن الإنسانين ـ مع اشتراكهما في أن كلا منهما جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق ضحاك، بادي البشرة ـ قد لا يكون أحدهما مثل الآخر، كما قال تعالي {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد: 38] ، فقد بين أنه يستبدل قوماً لا يكونون أمثال المخاطبين، فقد نفي عنهم المماثلة مع اشتراكهم فيما ذكرناه. فكيف يكون في لغتهم أن كل إنسان فإنه مماثل للإنسان، بل مماثل لكل حيوان، بل مماثل لكل جسم نام حساس، بل مماثل لكل جسم مولد عنصري، بل مماثل لكل جسم فلكي وغير فلكي؟ والله إنما أرسل الرسول بلسان قومه، وهم قريش خاصة، ثم العرب عامة، لم ينزل القرآن بلغة من قال: الأجسام متماثلة حتى يحمل القرآن علي لغة هؤلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 هذا لو كان ما قالوه صحيحاً في العقل، فكيف وهو باطل في العقل؟ كما بسطناه في موضع آخر، إذ المقصود هنا بيان أنه ليس لهم في نصوص الأنبياء إلا ما يناقض قولهم، لا ما يعاضده. لفظ الكفء وكذلك الكفء، قال حسان بن ثابت: أتهجوه، ولست له بكفء؟ ... فشركما لخيركما الفداء فقد نفى أن يكون كفواً لمحمد، مع أن كليهما جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق، ولكن النصوص الإلهية لما دلت على أن الرب ليس له كفء في شيء من الأشياء، ولا مثل له في أمر من الأمور، ولا ند له في أمر من الأمور، علم أنه لا يماثله شيء من الأشياء في صفة من الصفات، ولا فعل من الأفعال، ولا حق من الحقوق، وذلك لا ينفي كونه متصفاً بصفات الكمال. فإذا قيل هو حي، ولا يماثله شيء من الأحياء في أمر من الأمور، وعليم وقدير وسميع وبصير، ولا يماثله عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير في أمر من الأمور، كان ما دل عليه السمع مطابقاً لما دل عليه العقل من عدم مماثلة شيء من الأشياء له في أمر من الأمور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وأما كون ماله حقيقة أو صفة أو قدر يكون بمجرد ذلك مماثلاً لما له حقيقة أو صفة أو قدر فهذا باطل عقلاً وسمعاً، فليس في لغة العرب ولا غيرهم إطلاق لفظ المثل على مثل هذا، وإلا فليلزم أن يكون كل موصوف مماثلاً لكل موصوف، وكل ما له حقيقة مماثلاً لكل ما له حقيقة، وكل ما له قدر مماثلاً لكل ما له قدر، وذلك يستلزم أن يكون كل موجود مماثلاً لكل موجود. وهذا ـ مع أنه في غاية الفساد والتناقض ـ لا يقوله عاقل، فإنه يستلزم التماثل في جميع الأشياء، فلا يبقى شيئان مختلفان غير متماثلين قط، وحينئذ فيلزم أن يكون الرب مماثلاً لكل شيء، فلا يجوز نفي مماثلة شيء من الأشياء عنه، وذلك مناقض للسمع والعقل، فصار حقيقة قولهم في نفي التماثل عنه يستلزم ثبوت مماثلة كل شيء له، فهم متناقضون مخالفون للشرع والعقل. الرابع الجواب الرابع: أن يقال فهب أن بعض هذه النصوص قد يفهم منها مقدمة واحدة من مقدمات دليلكم، فتلك كافية بالضرورة عند العقلاء، بل لا بد من ضم مقدمة أو مقدمات أخر ليس في القرآن ما يدل عليها ألبته، فإذا قدر أن الأفول هو الحركة، فمن أين في القرآن ما يدل دلالة ظاهرة علي أن كل متحرك محدث أو ممكن؟ وأن الحركة لا تقوم إلا بحادث أو ممكن؟ وأن ما قامت به الحوادث لم يخل منها؟ وأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث؟ وأين في القرآن امتناع حوادث لا أول لها؟ بل أين في القرآن أن الجسم الاصطلاحي مركب من الجواهر الفردة التي لا تقبل الانقسام، أو من المادة والصورة، وأن كل جسم فهو منقسم ليس بواحد؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 بل أين في القرآن أو لغة العرب، أو أحد من الأمم أن كل ما يشار إليه أو كل ما له مقدار فهو جسم؟ وأن كل ما شاركه في ذلك فهو له في الحقيقة؟ ولفظ الجسم في القرآن مذكور في قوله تعالى {وزاده بسطة في العلم والجسم} [البقرة: 247] ، وفي قوله {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} [المنافقون: 4] . وقد قال أهل اللغة: إن الجسم هو البدن. قال الجوهري في صحاحه: قال أبو زيد: الجسم الجسد، وكذلك الجسمان والجثمان. قال: وقال الأصمعي: الجسم والجسمان: الجسد. ومعلوم أن أهل الاصطلاح نقلوا لفظ الجسم من هذا المعني الخاص إلي ما هو أعم منه، فسموا الهواء ولهيب النار وغير ذلك جسماً، وهذا لا تسميه العرب جسماً، كما لا تسميه جسداً ولا بدناً. ثم قد يراد بالجسم نفس الجسد القائم بنفسه، وقد يراد به غلظه، كما يقال: لهذا الثوب جسم. وكذلك أهل العرف الاصطلاحي يريدون بالجسم تارة هذا، وتارة هذا، ويفرقون بين الجسم التعليمي المجرد عن المحل الذي يسمي المادة والهيولى، وبين الجسم الطبيعي الموجود. وهذا مبسوط في موضع آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 والمقصود هنا أنه لو قدر أن الدليل يفتقر إلي مقدمات، ولم يذكر القرآن إلا واحدة، لم يكن قد ذكر الدليل، إلا أن تكون البواقي واضحات لا تفتقر إلي مقدمات خفية، فإنه إنما يذكر للمخاطب من المقدمات ما يحتاج إليه، دون ما لا يحتاج إليه، ومعلوم أن كون الأجسام متماثلة، وأن الأجسام تستلزم الأعراض الحادثة، وأن الحوادث لا أول لها ـ من أخفي الأمور وأحوجها إلي مقدمات خفية، لو كان حقاً، وهذا ليس في القرآن. والمقصود هنا أنه لو قدر أن الدليل يفتقر إلي مقدمات، ولم يذكر القرآن إلا واحدة، لم يكن قد ذكر الدليل، إلا أن تكون البواقي واضحات لا تفتقر إلي مقدمات خفية، فإنه إنما يذكر للمخاطب من المقدمات ما يحتاج إليه، دون ما لا يحتاج إليه، ومعلوم أن كون الأجسام متماثلة، وأن الأجسام تستلزم الأعراض الحادثة، وأن الحوادث لا أول لها ـ من أخفي الأمور وأحوجها إلي مقدمات خفية، لو كان حقاً، وهذا ليس في القرآن. فإن قيل: بل كون الأجسام تستلزم الحوادث ظاهر، فإنه لا بد للجسم من الحوادث، وكون الحوادث لا أول لها ظاهر، بل هذا معلوم بالضرورة، كما ادعى ذلك كثير من نظار المتكلمين، وقالوا: نحن نعلم بالاضطرار أن ما لا يسبق الحوادث، أو ما لا يخلو من الحوادث، فهو حادث، فإن ما لم يسبقها ولم يخل منها لا يكون قبلها، بل إما معها وإما بعدها، وما لم يكن قبل الحوادث بل معها أو بعدها لم يكن إلا حادثاً، فإنه لو لم يكن حادثاً لكان متقدماً علي الحوادث، فكان خالياً منها وسابقاً عليها. قيل: مثل هذه المقدمة وأمثالها منشأ غلط كثير من الناس، فإنها تكون لفظاً مجملاً يتناول حقاً وباطلاً، وأحد نوعيها معلوم صادق، والآخر ليس كذلك، فيلتبس المعلوم منها بغير المعلوم، كما في لفظ الحادث والممكن والمتحيز والجسم والجهة والحركة والتركيب وغير ذلك من الألفاظ المشهورة بين النظار التي كثر فيها نزاعهم، وعامتها ألفاظ مجملة تتناول أنواعاً مختلفة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 إما بطريق الاشتراك لاختلاف الاصطلاحات، وإما بطريق التواطؤ مع اختلاف الأنواع، فإذا فسر المراد وفصل المتشابه تبين الحق من الباطل والمراد من غير المراد. فإذا قال القائل: نحن نعلم بالاضطرار أن ما لا يسبق الحوادث أو ما يخلو منها فهو حادث، فقد صدق فيما فهمه من هذا اللفظ، وليس ذلك من محل النزاع، كلفظ القديم إذا قال قائل: القرآن قديم وأراد به أنه نزل من أكثر من سبعمائة سنة، وهو القديم في اللغة، أو أراد أنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزول القرآن، فإن هذا مما لا نزاع فيه. وكذلك إذا قال: غير مخلوق وأراد به أنه غير مكذوب، فإن هذا مما لم يتنازع فيه أحد من المسلمين وأهل الملل المؤمنين بالرسل. مناقشة قولهم: ما لا يسبق الحوادث فهو حادث وذلك أن القائل إذ قال: ما لا يسبق الحوادث فهو حادث فله معنيان: أحدهما أنه لا يسبق الحادث المعين، أو الحوادث المعينة أو المحصورة، أو الحوادث التي يعلم أن لها ابتداء، فإذا قدر أنه أريد بالحوادث كل ما له ابتداء، واحداً كان أو عدداً، فمعلوم أنه ما لم يسبق هذا أو لم يخل من هذا لا يكون قبله، بل لا يكون إلا معه أو بعده، فيكون حادثاً. وهذا مما لا يتنازع فيه عاقلان يفهمان ما يقولان. وليس هذا مورد النزاع، ولكن مورد النزاع هو: ما لم يخل من الحوادث المتعاقبة التي لم تزل متعقابة، هل هو حادث؟ وهو مبني علي أن هذا هل يمكن وجوده أم لا؟ فهل يمكن وجود حوادث متعاقبة شيئاً بعد شيء دائمة لا ابتداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 لها ولا انتهاء؟ وهل يمكن أن يكون الرب متكلماً لم يزل متكلماً إذا شاء؟ وتكون كلماته لا نهاية لها، لا ابتداء ولا انتهاء، كما أنه في ذاته لم يزل ولا يزال ابتداء لوجوده ولا انتهاء له؟ بل هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، فهو القديم الأزلي الدائم الباقي بلا زوال، فهل يمكن أن يكون لم يزل متكلماً بمشيئته، فلا يكون قد صار متكلماً بعد أن لم يكن ن ولا يكون كلامه مخلوقاً منفصلاً عنه، ولا يكون متكلماً بغير قدرته ومشيئته، بل يكون متكلماً بمشيئته وقدرته، ولم يزل كذلك، ولا يزال كذلك. هذا هو مورد النزاع بين السلف والأئمة الذين قالوا بذلك، وبين من نازعهم في ذلك. والفلاسفة يقولون: إن الفلك نفسه قديم أزلي لم يزل متحركاً، لكن هذا القول باطل من وجوه كثيرة. ومعلوم بالاضطرار أن هذا مخالف لقولهم، ومخالف لما أخبر به القرآن والتوراة وسائر الكتب، بخلاف كونه لم يزل متكلماً أو لم يزل فاعلاً أو قادراً علي الفعل، فإن هذا مما قد يشكل علي كثير من الناس سمعاً وعقلاً. وأما كون السماوات والأرض مخلوقتين محدثتين بعد العدم، فهذا إنما نازع فيه طائفة قليلة من الكفار كأرسطو وأتباعه. وأما جمهور الفلاسفة، مع عامة أصناف المشركين من الهند والعرب وغيرهم، ومع المجوس وغيرهم، ومع أهل الكتاب وغيرهم، فهم متفقون علي أن السماوات والأرض وما بينهما محدث مخلوق بعد أن لم يكن، ولكن تنازعوا في مادة ذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 هل هي موجودة قبل هذا العالم؟ وهل كان قبله مدة ومادة، أم هو أبدع ابتداء من غير تقدم مدة ولا مادة؟ فالذي جاء به القرآن والتوراة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع أئمة أهل الكتاب: أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله، كما أخبر في القرآن أنه: {استوى إلى السماء وهي دخان} أي بخار {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها} [فصلت: 11] ، وقد كان قبل ذلك مخلوق غيره كالعرش والماء، كما قال تعالى {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} [هود: 7] وخلق ذلك في مدة غير مقدار حركة الشمس والقمر، كما أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام. والشمس والقمر هما من السماوات والأرض، وحركتهما بعد خلقهما، والزمان المقدر بحركتهما ـ وهو الليل والنهار التابعان لحركتهما ـ إنما حدث بعد خلقهما، وقد أخبر الله أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، فتلك الأيام مدة وزمان مقدر بحركة أخري غير حركة الشمس والقمر. وهذا مذهب جماهير الفلاسفة الذين يقولون: إن هذا العالم مخلوق محدث، وله مادة متقدمة عليه، لكن حكي عن بعضهم أن تلك المادة المعنية قديمة أزلية، وهذا أيضاً باطل، كما قد بسط في غير هذا الموضع، فإن المقصود هنا إشارة مختصرة إلي قول من يقول: إن أقوال هؤلاء دل عليها السمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فإن قيل: إبطال حوادث لا أول لها قد دل عليه قوله تعالي {وكل شيء عنده بمقدار} [الرعد: 8] وقوله {وأحصى كل شيء عددا} [الجن: 28] كما ذكر ذلك طائفة من النظار، فإن ما لا ابتداء له ليس له كل، وقد أخبر أنه أحصي كل شيء عدداً. قيل: هذا لو كان حقاً لكان دلالة خفية لا يصلح أن يحال عليها، كنفي ما دل علي الصفات، فإن تلك نصوص كثيرة جلية، وهذا ـلو قدر أنه دليل صحيح ـ فإنه يحتاج إلي مقدمات كثيرة خفية لو كانت حقاً، مثل أن يقال: هذا يستلزم بطلان حوادث لا أول لها، وذلك يستلزم حدوث الجسم، لأن الجسم لو كان قديماً للزم حوادث لا بداية لها، لأن الجسم يستلزم الحوادث، فلا يخلو منها لاستلزامه الأكوان أو الحركات أو الأعراض، ثم يقال بعد هذا: وإثبات الصفات يستلزم كون الموصوف جسماً. وهذه المقدمة تناقض فيها عامة من قالها كما سنبينه إن شاء الله تعالي، فكيف وقوله {وأحصى كل شيء عددا} لا يدل علي ذلك؟ فإنه سبحانه قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وقال {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} [يس: 12] فقد أحصي وكتب ما يكون قبل أن يكون إلي أجل محدود، فقد أحصي المستقبل المعدوم، كما أحصي الماضي الذي وجد، ثم عدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ولفظ الإحصاء لا يفرق بين هذا وبين هذا، فإن كان الإحصاء يتناول ما لا يتناهى جملة فلا حجة في الآية، وإن قيل: بل أحصي المستقبل، تقديره: جملة بعد جملة، لم يكن في الآية حجة، فإنه يمكن أن يقال في الماضي كذلك. ومسألة تناول العلم لما لا يتناهى مسألة مشكلة علي القولين، ليس الغرض هنا إنهاء القول فيها، بل المقصود أن مثل هذه الآية لم يرد الله بها إبطال دوام كونه لم يزل متكلماً المعاني المختلفة لحدوث العالم عند النظار ومما يشبه هذا إذا قيل: العالم حادث أم ليس بحادث؟ والمراد بالعالم في الاصطلاح هو كل ما سوى الله، فإن هذه العبارة لها معني في الظاهر المعروف عند عامة الناس أهل الملل وغيرهم، ولها معني في عرف المتكلمين، وقد أحدث الملاحدة لها معني ثالثاً. المعني الأول فالذي يفهمه الناس من هذا الكلام أن كل ما سوى الله مخلوق، حادث، كائن بعد أن لم يكن، وأن الله وحده هو القديم الأزلي، ليس معه شيء قديم تقدمه، بل كل ما سواه كائن بعد أن لم يكن، فهو المختص بالقدم، كما اختص بالخلق والإبداع والإلهية والربوبية، وكل ما سواه محدث مخلوق مربوب عبد له. وهذا العني هو المعروف عن الأنبياء وأتباع من المسلمين واليهود والنصارى، وهو مذهب أكثر الناس غير أهل الملل من الفلاسفة وغيرهم. المعنى الثاني والمعني الثاني أن يقال: لم يزل الله لا يفعل شيئاً ولا يتكلم بمشيئته، ثم حدثت الحوادث من غير سبب يقتضي ذلك، مثل أن يقال: إن كونه لم يزل متكلماً بمشيئته أو فاعلاً بمشيئته، بل لم يزل قادراً، هو ممتنع، وإنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها، فهذا المعني هو الذي يعنيه أهل الكلام من الجهمية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 والمعتزلة ومن أتبعهم بحدوث العالم، وقد يحكونه عن أهل الملل، وهو بهذا المعني لا يوجد لا في القرآن ولا غيره من كتب الأنبياء، لا التوراة ولا غيرها، ولا في حديث ثابت عن النبي صلي الله عليه وسلم، ولا يعرف هذا عن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. المعنى الثالث والمعنى الثالث، الذي أحدثه الملاحدة كابن سينا وأمثاله، قالوا: نقول العالم محدث، أي معلول لعلة قديمة أزلية أوجبته، فلم يزل معها، وسموا هذا الحدوث الذاتي، وغيره الحدوث الزماني. والتعبير بلفظ الحدوث عن هذا المعني لا يعرف عن أحد من أهل اللغات، لا العرب ولا غيرهم، إلا من هؤلاء الذين ابتدعوا لهذا اللفظ هذا المعني، والقول بأن العالم محدث بهذا المعني فقط ليس قول أحد من الأنبياء ولا أتباعهم، ولا أمة من الأمم العظيمة ولا طائفة من الطوائف المشهورة التي اشتهرت مقالاتها في عموم الناس، بحيث كان أهل مدينة علي هذا القول، إنما يقول هذا طوائف قليلة مغمورة في الناس. وهذا القول إنما هو معروف عن طائفة من المتفلسفة المليين، كابن سينا وأمثاله، وقد يحكون هذا القول عن أرسطو، وقوله الذي في كتبه: أن العالم قديم، وجمهور الفلاسفة قبله يخالفونه، ويقولون: إنه محدث، ولم يثبت في كتبه للعالم فاعلاً موجباً له بذاته، وإنما أثبت له علة يتحرك للتشبه بها، ثم جاء الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 أرادوا إصلاح قوله فجعلوا العلة أو لي لغيرها، كما جعلها الفارابي وغيره، ثم جعلها بعض الناس آمرة للفلك بالحركة، لكن يتحرك للتشبه بها كما يتحرك العاشق للمعشوق وإن كان لا شعور له ولا قصد، وجعلوه مدبراً بهذا الاعتبار ـ كما فعل ابن رشد وابن سينا ـ جعلوه موجباً بالذات لما سواه، وجعلوا ما سواه ممكناً. الخامس الوجه الخامس: أن يقال: غاية ما يدل عليه السمع ـ إن دل ـ علي أن الله ليس بجسم، وهذا النفي يسلمه كثير ممن يثبت الصفات أو أكثرهم، وينفيه بعضهم ويتوقف فيه بعضهم، ويفصل القول فيه بعضهم. ونحن نتكلم علي تقدير تسليم النفي، فنقول: ليس في هذا النفي ما يدل علي صحة مذهب أحد من نفاة الصفات أو الأسماء، بل ولا يدل ذلك علي تنزيهه سبحانه عن شيء من النقائص، فإن من نفي شيئاً من الصفات لكون إثباته تجسيماً وتشبيهاً يقول له المثبت: قولي فيما أثبته من الصفات والأسماء كقولك فيما أثبته من ذلك، فإن تنازعا في الصفات الخبرية، أو العلو أو الرؤية أو نحو ذلك، وقال له النافي: هذا يستلزم التجسيم والتشبيه، لأنه لا يعقل ما هو كذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 إلا الجسم، قال له المثبت: لا يعقل ما له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام وإرادة إلا ما هو جسم فإذا جاز لك أن تثبت هذه الصفات، وتقول: الموصوف بها ليس بجسم، جاز لي مثل ما جاز لك من إثبات تلك الصفات مع أن الموصوف بها ليس بجسم، فإذن جاز أن يثبت مسمي بهذه الأسماء ليس بجسم. فإن قال له: هذه معان وتلك أبعاض. قال له: الرضا والغضب والحب والبغض معان، واليد والوجه ـ وإن كان بعضاً ـ فالسمع والبصر والكلام أعراض لا تقوم إلا بجسم، فإن جاز لك إثباتها مع أنها ليست أعراضاً، ومحلها ليس بجسم، جاز لي إثبات هذه مع أنها ليست أبعاضاً. فإن قال نافي الصفات: أنا لا أثبت شيئاً منها. قال له: أنت أبهمت الأسماء، فأنت تقول: هو حي عليم قدير، ولا تعقل حياً عليماً قديراً إلا جسماً، وتقول: إنه هو ليس بجسم، فإذا جاز لك أن تثبت مسمي بهذه الأسماء ليس بجسم، مع أن هذا ليس معقولاً لك، جاز لي أن أثبت موصوفا بهذه الصفات، وإن كان هذا غير معقول لي. فإن قال الملحد: أنا أنفي الأسماء والصفات. قيل له: إما أن تقر بأن هذا العالم المشهود مفعول مصنوع، له صانع فاعله، أو تقول: إنه قديم أزلي واجب الوجود بنفسه غني عن الصانع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فإن قلت بالأول فصانعه، إن قلت: هو جسم فقد وقعت فيما نفيته، وإن قلت: ليس بجسم، فقد أثبت فاعلاً صانعاً للعالم ليس بجسم، وهذا لا يعقل في الشاهد. فإذا أثبت خالقاً فاعلاً ليس بجسم، وأنت لا تعرف فاعلا إلا جسماً، كان لمنازعك أن يقول: هو حي عليم ليس بجسم، وإن كان يعرف حياً عليماً إلا جسماً، بل لزمك أن تثبت له من الصفات والأسماء ما يناسبه. وإن قال الملحد: بل هذا العالم المشهود قديم واجب بنفسه غني عن الصانع، فقد أثبت واجبا بنفسه قديماً أزلياً هو جسم، حامل للأعراض، متحيز في الجهات، تقوم به الأكوان، وتحله الحوادث والحركات، وله أبعاض وأجزاء، فكان ما فر منه من إثبات جسم قديم قد لزمه مثله وما هو أبعد منه، ولم يستفد بذلك الإنكار إلا جحد الخالق، وتكذيب رسله، ومخالفة صريح المعقول، والضلال المبين الذي الذي هو منتهى ضلال الضالين وكفر الكافرين. فقد تبين أن قول من نفي الصفات أو شيئاً منها لأن إثباتها تجسيم قول لا يمكن أحداً أن يستدل به، بل ولا يستدل أحد علي تنزيه الرب عن شيء من النقائص بأن ذلك يستلزم التجسيم، لأنه لا بد أن يثبت شيئاً يلزمه فيما أثبته نظير ما ألزمه غيره فيما نفاه، وإذا كان اللازم في الموضعين واحداً، وما أجاب هو به، أمكن المنازع له أن يجيب بمثله، لم يمكنه أن يثبت شيئاً وينفي شيئاً علي هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 التقدير، وإذا انتهي إلي التعطيل المحض كان ما لزمه من تجسيم الواجب بنفسه القديم أعظم من كل تجسيم نفاه، فعلم أن مثل هذا الاستدلال علي النفي بما يستلزم التجسيم لا يسمن ولا يغني من جوع. الجواب لأهل المقام الثاني من وجوه. الأول الجواب لأهل المقام الثاني من وجوه. الأول وأما الجواب لأهل المقام الثاني ـ وهم محققو النفاة الذين يقولون: السمع لم يدل إلا علي الإثبات، ولكن العقل دل علي النفي ـ فجوابهم من وجوه: أحدها ـ أن يقال: نحن في هذا المقام مقصودنا أن العقل الذي به يعلم صحة السمع لا يستلزم النفي المناقض للسمع، وقد تبين أن الأنبياء لم يدعوا الناس بهذه الطريق المستلزمة للنفي طريقة الأعراض، وأن الذين آمنوا بهم وعلموا صدقهم لم يعلموه بهذه الطريق، وحينئذ فإذا قدر أن معقولكم خالف السمع لم يكن هذا المعقول أصلاً في السمع، ولم يكن السمع قد ناقض المعقول الذي عرفت به صحته، وهذا هو المطلوب. وإذا قلتم: نحن لم نعرف صحة السمع إلا بهذه الطريق، أو قلتم: لا نعرف السمع إلا بهذه الطريق. قيل لكم: أما شهادتكم علي أنفسكم بأنكم لم تعرفوا السمع إلا بهذه الطريق، فقد شهدتم علي أنفسكم بضلالكم وجهلكم بالطرق التي دعت بها الأنبياء أتباعهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وإذا كنتم لا تعرفون تلك الطرق فأنتم جهال بطرق الأنبياء، وبما بينوا به إثبات الصانع وتصديق رسله، فلا يجوز لكم حينئذ أن تقولوا: إن صدقهم لا يعرف إلا بمعقول يناقض المنقول عنهم. وأما إذا قلتم: لا يمكن أن يعرف الله إلا بهذه الطريق، فهذه شهادة زور وتكذيب بما لم تحيطوا بعلمه، ونفي لا يمكنكم معرفته، فمن أين تعرفون أن جميع بني آدم من الأنبياء وأتباع الأنبياء لا يمكنهم أن يعرفوا الله إلا بإثبات الأعراض وحدوثها ولزومها للجسم، وامتناع حوادث لا أول لها، أو بنحو هذا الطريق؟ وهل الإقدام علي هذا النفي إلا من قول من هو أجهل الناس وأضلهم وأبعدهم عن معرفة طرق العلم وأدلته، والأسباب التي بها يعرف الناس ما لم يعرفوه، وهذا النفي قاله كثير من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم، وهذه حاله، وهذا النفي عمدة هؤلاء. الثاني الوجه الثاني: أن يقال لهم: بل صدق الرسول يعلم بطرق متعددة لا تحتاج إلي هذا النفي، كما أقر بذلك جمهور النظار، حتى إن مسألة حدوث العالم اعترف بها أكابر النظار من المسلمين وغير المسلمين، حتى إن موسى ابن ميمون صاحب دلالة الحائرين وهو في اليهود كـ أبي حامد الغزالي في المسلمين، يمزج الأقوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 النبوية بالأقوال الفلسفية ويتأولها عليها، حتى الرازي وغيره من أعيان النظار اعترفوا بأن العلم بحدوث العالم لا يتوقف علي الأدلة العقلية، بل يمكن معرفة صدق الرسول قبل العلم بهذه المسألة، ثم يعلم حدوث العالم بالسمع، فهؤلاء اعترفوا بإمكان كونها سمعية، فضلاً عن وجوب كونها عقلية، فضلاً عن كونها أصلاً للسمع، فضلاً عن كونها لا أصل للسمع سواها. وأيضاً فقد اعترف أئمة النظار بطرق متعددة لا يتوقف شيء منها علي نفي الجسم ولا نفي الصفات. الثالث الوجه الثالث: أن يقال: إذا كانت الرسل والأنبياء قد اتبعهم أمم لا يحصي عددهم إلا الله من غير أن يعتمدوا علي هذه الطريق، وهم يخبرون أنهم علموا صدق الرسول يقيناً لا ريب فيه، وظهر منهم من أقوالهم وأفعالهم ما يدل علي أنهم عالمون بصدق الرسول، متيقنون لذلك، لا يرتابون فيه، وهم عدد كثير أضعاف أضعاف أضعاف أي تواتر قدر، فعلم أنهم لم يجتمعوا ويتواطئوا علي هذا الإخبار الذي يخبرون به عن أنفسهم ـ علم قطعاً أنه حصل لهم علم يقيني بصدق الرسول من غير هذه الطريقة المستلزمة لنفي شيء من الصفات. الرابع الوجه الرابع: أن نبين فساد هذه الأقوال المخالفة لنصوص الأنبياء، وفساد طرقها التي جعلها أصحابها براهين عقلية، كما سيأتي إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الخامس الوجه الخامس: أن نبين أن الأدلة العقلية الصحيحة البينة التي لا ريب فيها، بل العلوم الفطرية الضرورية، توافق ما أخبرت به الرسل لا تخالفه، وأن الأدلة العقلية الصحيحة جميعها موافقة للسمع، لا تخالف شيئاً من السمع، وهذا ـ ولله الحمد ـ قد اعتبرته فيما ذكره عامة الطوائف، فوجدت كل طائفة من طوائف النظار أهل العقليات لا يذكر أحد منهم في مسألة ما دليلاً صحيحاً يخالف ما أخبرت به الرسل، بل يوافقه، حتى الفلاسفة القائلين بقدم العالم كأرسطو وأتباعه: ما يذكرونه من دليل صحيح عقلي، فإنه لا يخالف ما أخبرت به الرسل، بل يوافقه، وكذلك سائر طوائف النظار من أهل النفي والإثبات، لا يذكرن دليلاً عقلياً في مسألة إلا والصحيح منه موافق لا مخالف. وهذا يعلم به أن المعقول الصريح ليس مخالفاً لأخبار الأنبياء علي وجه التفصيل، كما نذكره إن شاء الله في موضعه، ونبين أن من خالف الأنبياء فليس لهم عقل ولا سمع، كما أخبر الله عنهم بقوله تعالي {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير * وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} [الملك: 8-11] . ثم نذكر وجوها أخر لبيان فساد هذا الأصل الذي يتوسل به أهل الإلحاد إلي رد ما قاله الله ورسوله فنقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الوجه الرابع أن يقال: العقل إما أن يكون عالماً بصدق الرسول، وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر، وإما أن لا يكون عالماً بذلك. فإن لم يكن عالما امتنع التعارض عنده إذا كان المعقول معلوماً له، لأن المعلوم لا يعارضه المجهول، وإن لم يكن المعقول معلوماً له لم يتعارض مجهولان. وإن كان عالماً بصدق الرسول امتنع ـ مع هذا ـ أن لا يعلم ثبوت ما أخبر به في نفس الأمر. غايته أن يقول: هذا لم يخبر به، والكلام ليس هو فيما لم يخبر به، بل إذا علم أن الرسول أخبر بكذا، فهل يمكنه ـ مع علمه بصدقه فيما أخبر وعلمه أنه أخبر بكذا ـ أن يدفع عن نفسه علمه بثبوت المخبر، أم يكون علمه بثبوت مخبره لازماً له لزوماً ضرورياً، كما تلزم سائر العلوم لزوماً ضرورياً لمقدماتها؟ وإذا كان كذلك فإذا قيل له في مثل هذا: لا تعتقد ثبوت ما عملت أنه أخبر به لأن هذا الاعتقاد ينافي ما علمت به أنه صادق، كان حقيقة الكلام: لا تصدقه في هذا الخبر لأن تصديقه يستلزم عدم تصديقه، فيقول: وعدم تصديقي له فيه هو عين اللازم المحذور، فإذا قيل: لا تصدقه لئلا يلزم أن لا تصدقه، كان كما لو قيل: كذبه لئلا يلزم أن تكذبه. فيكون المنهي عنه هو المخوف المحذور من فعل المنهي عنه، والمأمور به هو المحذور من ترك المأمور به، فيكون واقعاً في المنهي عنه، سواء أطاع أو عصى، ويكون تاركا للمأمور به سواء أطاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 أو عصي، ويكون وقوعه في المخوف المحذور علي تقدير الطاعة لهذا الآمر الذي أمره بتكذيب ما تيقن أن الرسول أخبر به أعجل وأسبق منه علي تقدير المعصية، والمنهي عنه علي هذا التقدير هو التصديق، والمأمور به هو التكذيب، وحينئذ فلا يجوز النهي عنه سواء كان محذوراً أو لم يكن، فإن لم يكن محذوراً لم يجز أن ينهى عنه، وإن كان محذوراً، فلا بد منه علي التقديرين، فلا فائدة في النهي عنه، بل إذا كان عدم التصديق هو المحذور كان طلبه ابتداء أقبح من طلب غيره لئلا يفضي إليه، فإن من أمر بالزنا كان أمره به أقبح من أن يأمر بالخلوة المفضية إلي الزنا. فهكذا حال من أمر الناس أن لا يصدقوا الرسول فيما علموا أنه أخبر به، بعد علمهم أنه رسول الله، لئلا يفضي تصديقهم له إلي عدم تصديقهم له، بل إذا قيل له: لا تصدقه في هذا، كان هذا أمراً له بما يناقض ما علم به صدقه، فكان أمراً له بما يوجب أن لا يثق بشيء من خبره، فإنه متى جوز كذبه أو غلطه في خبر جوز ذلك في غيره. ولهذا آل الأمر بمن يسلك هذا الطريق إلي انهم لا يستفيدون من جهة الرسول شيئاً من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الله تعالي وأفعاله، بل وباليوم الآخر عند بعضهم، لاعتقادهم أن هذه فيها ما يرد بتكذيب أو تأويل وما لا يرد، وليس لهم قانون يرجعون إليه في هذا الأمر من جهة الرسالة، بل هذا يقول: ما أثبته عقلك فأثبته، وإلا فلا، وهذا يقول: ما أثبته كشفك فأثبته، وإلا فلا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فصار وجود الرسول صلي الله عليه وسلم عندهم كعدمه في المطالب الإلهية وعلم الربوبية، بل وجوده ـ علي قولهم ـ أضر من عدمه، لأنهم لم يستفيدوا من جهته شيئاً، واحتاجوا إلي أن يدفعوا ما جاء به: إما بتكذيب، وإما بتفويض، وإما بتأويل، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. فإن قالوا: لا يتصور أن يعلم أنه أخبر بما ينافي العقل، فإنه منزه عن ذلك، وهو ممتنع عليه. قيل لهم: فهذا إقرار منكم بامتناع معارضة الدليل العقلي للسمعي. فإن قالوا: إنما أردنا معارضة ما يظن أنه دليل وليس بدليل أصلاً، أو يكون دليلاً ظنياً لتطرق الظن إلي بعض مقدماته: إما في الإسناد، وإما في المتن كإمكان كذب المخبر أو غلطه، وكإمكان احتمال اللفظ لمعنيين فصاعداً. قيل: إذا فسرتم الدليل السمعي بما ليس بدليل في نفس الأمر، بل اعتقاد دلالته جهل، أو بما يظن أنه دليل وليس بدليل، أمكن أن يفسر الدليل العقلي المعارض للشرع بما ليس بدليل في نفس الأمر، بل اعتقاد دلالته جهل، أو بما يظن أنه دليل وليس بدليل. وحينئذ فمثل هذا ـ وإن سماه أصحابه براهين عقلية أو قواطع عقلية، وهو ليس بدليل في نفس الأمر، أو دلالته ظنية ـ إذا عارض ما هو دليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 سمعي يستحق أن يسمي دليلاً لصحة مقدماته، وكونها معلومة، وجب تقديم الدليل السمعي عليه بالضرورة واتفاق العقلاء. فقد تبين أنهم بأي شيء فسروا جنس الدليل الذي رجحوه أمكن تفسير الجنس الآخر بنظيره وترجيحه كما رجحوه، وهذا لأنهم وضعوا وضعاً فاسداً، حيث قدهموا ما لا يستحق التقديم لا عقلاً ولا سمعاً، وتبين بذلك أن تقديم الجنس علي الجنس باطل، بل الواجب أن ينظر في عين الدليلين المتعارضين، فيقدهم ما هو القطعي منهما أو الراجح إن كانا ظنيين، سواء كان هو السمعي أو العقلي، ويبطل هذا الأصل الفاسد الذي هو ذريعة إلي الإلحاد.. الوجه الخامس أنه إذا علم صحة السمع، وأن ما أخبر به الرسول فهو حق، فإما أن يعلم أنه أخبر بمحل النزاع، أو يظن أنه أخبر به، أو لا يعلم ولا يظن. فإن علم أنه أخبر به امتنع أن يكون في العقل ما ينافي المعلوم بسمع أو غيره، فإن ما علم ثبوته أو انتفاؤه لا يجوز أن يقوم دليل يناقض ذلك. وإن كان مظنوناً أمكن أن يكون في العقل علم ينفيه، وحينئذ فيجب تقديم العلم علي الظن، لا لكونه معقولاً أو مسموعاً، بل لكونه علماً، كما يجب تقديم ما علم بالسمع علي ما ظن بالعقل، وإن كان الذي عارضه من العقل ظنياً، فإن تكافآ وقف الأمر، وإلا قدم الراجح. وإن لم يكن في السمع علم ولا ظن فلا معارضة حينئذ، فتبين أن الجزم بتقديم العقل مطلقاً خطأ وضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الوجه السادس أن يقال: إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع، لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به، ولا العلم بصدقه موقوف علي كل ما يخبر به العقل. مهمة العقل ومعلوم أن هذا إذا قيل أوجه من قولهم: كما قال بعضهم: يكفيك من العقل أن يعلمك صدق الرسول ومعاني كلامه. وقال بعضهم: العقل متول، ولي الرسول ثم عزل نفسه، لأن العقل دل علي أن الرسول صلي الله عليه وسلم يجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر. والعقل يدل علي صدق الرسول دلالة عامة مطلقة. وهذا كما أن العامي إذا علم عين المفتي ودل غيره عليه وبين له أنه عالم مفت، ثم اختلف العامي الدال والمفتي وجب علي المستفتي أن يقدم قول المفتي، فإذا قال له العامي: أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله علي قولي عند التعارض قدحت في الأصل الذي به علمت بأنه مفت، قال له المستفتي: أنت لما شهدت بأنه مفت، ودللت علي ذلك، شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك، كما شهد به دليلك، وموافقتي لك في هذا العلم المعين لا يستلزم أني أوافقك في العلم بأعيان المسائل، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو اعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، وأنت إذا علمت أنه مفت باجتهاد وإستدلال، ثم خالفته باجتهاد واستدلال كنت مخطئاً في الاجتهاد والاستدلال، الذي خالفت به من يجب عليك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 تقليده وإتباع قوله، وإن لم تكن مخطئاً في الاجتهاد والاستدلال الذي به علمت أنه عالم مفت يجب عليك تقليده. هذا مع علمه بأن المفتي يجوز عليه الخطأ، والعقل يعلم أن الرسول صلي الله عليه وسلم معصوم في خبره عن الله تعالي، لا يجوز عليه الخطأ، فتقديمه قول المعصوم علي ما يخالفه من أستدلاله العقلي أولي من تقديم العامي قول المفتي علي قوله الذي يخالفه. وكذلك أيضاً إذا علم الناس وشهدوا أن فلاناً خبير بالطب أو القيافة أو الخرص أو تقويم السلع ونحو ذلك، وثبت عند الحاكم أنه عالم بذلك دونهم، أو أنه أعلم منهم بذلك، ثم نازع الشهود الشاهدون لأهل العلم بالطب والقيافة والخرص والتقويم أهل العلم بذلك، وجب تقديم قول أهل العلم بالطب والقيافة والخرص والتقويم علي قول الشهود الذين شهدوا لهم، وإن قالوا: نحن زكينا هؤلاء، وبأقوالنا ثبتت أهليتهم، فالرجوع في محل النزاع إليهم دوننا يقدح في الأصل الذي ثبت به قولهم. كما قال بعض الناس: إن العقل مزكي الشرع ومعدله، فإذ قدم الشرع عليه كان قدحاً فيمن زكاه وعدله، فيكون قدحا فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 قيل لهم: أنتم شهدتم بما علمتم من أنه أهل العلم بالطب أو التقويم أو الخرص أو القيافة ونحو ذلك، وأن قوله في ذلك مقبول دون قولكم، فلو قدمنا قولكم عليه في هذه المسائل لكان ذلك قدحاً في شهادتكم وعلمكم بأنه أعلم منكم بهذه الأمور، وإخباركم بذلك لا ينافي قبول قوله دون أقوالكم في ذلك، إذ يمكن إصابتكم في قلوكم: هو أعلم منا، وخطؤكم في قولكم: نحن أعلم ممن هو أعلم منا فيما ينازعنا فيه من المسائل التي هو أعلم بها منا، بل خطؤكم في هذا أظهر. والإنسان قد يعلم أن هذا أعلم منه بالصناعات كالحراثة والنساجة والبناء والخياطة وغير ذلك من الصناعات، وإن لم يكن عالماً بتفاصيل تلك الصناعة، فإذا تنازع هو وذلك الذي هو أعلم منه لم يكن تقديم قول الأعلم منه في موارد النزاع قدحاً فيما علم به أنه أعلم منه. ومن المعلوم أن مباينة الرسول صلي الله عليه وسلم لذوي العقول أعظم من مباينة أهل العلم بالصناعات العلمية والعملية والعلوم العقلية الاجتهادية كالطب والقيافة والخرص والتقويم لسائر الناس، فإن من الناس من يمكنه أن يصير عالماً بتلك الصناعات العلمية والعملية كعلم أربابها بها، ولا يمكن من لم يجعله الله رسولاً إلي الناس أن يصير بمنزلة من جعله الله تعالي رسولاً إلي الناس، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 النبوة لا تنال بالاجتهاد، كما هو مذهب أهل الملل، وعلي قول من يجعلها مكتسبة من أهل الإلحاد من المتفسلفة وغيرهم فإنها عندهم أصعب الأمور، فالوصول إليها أصعب بكثير من الوصول إلي العلم بالصناعات والعلوم العقلية. وإذا كان الأمر كذلك فإذا علم الإنسان بالعقل أن هذا رسول الله، وعلم أنه أخبر بشيء، ووجد في عقله ما ينازعه في خبره، كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلي من هو أعلم به منه، وأن لا يقدم رأيه علي قوله، ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه، وأنه أعلم بالله تعالي وأسمائه وصفاته واليوم الآخر منه، وأن التفاوت الذي بينهما في العلم بذلك أعظم من التفاوت الذي بين العامة وأهل العلم بالطب. فإذا كان عقله يوجب أن ينقاد لطبيب يهودي فيما أخبره به من مقدرات من الأغذية والأشربة والأضمدة والمسهلات، واستعمالها علي وجه مخصوص، مع ما في ذلك من الكلفة والألم، لظنه أن هذا أعلم بهذا مني، وأني إذا صدقته كان ذلك أقرب إلي حصول الشفاء لي، مع علمه بان الطبيب يخطئ كثيراً، وأن كثيراً من الناس لا يشفي بما يصفه الطبيب، بل قد يكون استعماله لما يصفه سبباً في هلاكه، ومع هذا فهو يقبل قوله ويقلده، وإن كان ظنه واجتهاده يخالف وصفه، فكيف حال الخلق مع الرسل عليهم الصلاة والسلام؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 والرسل صادقون مصدوقون لا يجوز أن يكون خبرهم علي خلاف ما أخبروا به قط، والذين يعارضون أقوالهم بعقولهم عندهم من الجهل والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال، فكيف يجوز أن يعارض ما لم يخطئ قط بما لم يصب في معارضته له قط؟ فإن قيل: فالشهود إذا عدلوا شخصاً ثم عاد ذلك المعدل فكذبهم كان تصديقه في جرحهم جرحاً في طريق تعديله. قيل: ليس هذا وزان مسألتنا، فإن المعدل إما أن يقول: هم فساق لا يجوز قبول شهادتهم، وإما أن يقول: هم في هذه الشهادة المعينة أخطأوا أو كذبوا، فإن جرحهم مطلقا كان نظير هذا أن يكون الشرع قد قدح في دلالة العقل مطلقا، وليس كذلك، فإن الأدلة الشرعية لا تقدح في جنس الأدلة العقلية. وأما إذا قدح في شهادة معينة من شهادات مزكيه، وقال: إنهم أخطأوا فيها، فهذا لا يعارض تزكيتهم له باتفاق العقلاء فإن المزكي لشاهد ليس من شرطه أن لا يغلط، ولا يلزم من خطئه في شهادة معينة خطؤه في تعديل من عدله، وفي غير ذلك من الشهادات. وإذا قال المعدل المزكي في بعض شهادات معدله ومزكيه: قد أخطأ فيها، لم يضره هذا باتفاق العقلاء، بل الشاهد العدل قد ترد شهادته لكونه خصماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 أو ظنيناً لعداوة أو غيرها، وإن لم يقدح ذلك في سائر شهاداته، فلو تعارضت شهادة المعدل والمعدل وردت شهادة المعدل لكونه خصماً أو ظنيناً لم يقدح ذلك في شهادة الآخر وعدالته، فالشرع إذا خالف العقل في بعض موارد النزاع ونسبه في ذلك إلي الخطأ والغلط، لم يكن ذلك قدحا في كل ما يعلمه العقل، ولا في شهادته له بأنه صادق مصدوق. ولو قال المعدل: إن الذي عدلني كذب في هذه الشهادة المعنية، فهذا أيضاً ليس نظيراً لتعارض العقل والسمع، فإن الأدلة السمعية لا تدل علي أن أهل العقول الذين حصلت لهم شبه خالفوا بها الشرع تعمدوا الكذب في ذلك. وهب أن الشخص الواحد والطائفة المعينة قد تتعمد الكذب، لكن جنس الأدلة المعارضة لا توصف بتعمد الكذب. وأيضاً فالشاهد إذا صرح بتكذيب معدليه ل يكن تكذيب المعدل من عدله في قضية معينة مستلزماً للقدح في تعديله، لأنه يقول: كان عدلاً حين زكاني، ثم طرأ عليه الفسق، فصار يكذب بعد ذلك، ولا ريب أن العدول إذا عدلوا شخصاً، ثم حدث ما أوجب فسقهم، لم يكن ذلك قادحا في تعديلهم الماضي، كما لا يكون قادحاً في غير ذلك من شهاداتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فتبين أن تمثيل معارضة الشرع للعقل بهذا ليس فيه حجة علي تقديم آراء العقلاء علي الشرع بوجه من الوجوه. وأيضاً فإذا سلم أن هذا نظير تعارض الشرع والعقل فيقال: من المعلوم أن الحاكم إذا سمع جرح المعدل وتكذيبه لمن عدله في بعض ما أخبر به لم يكن هذا مقتضياً لتقدم قول الذين زكوه، بل يجوز أن يكونوا صادقين في تعديله، كاذبين فيما كذبهم فيه، ويجوز أن يكونوا كاذبين في تعديله، وفي هذا، ويجوز أن يكونوا كاذبين في تعديله، صادقين في هذا، سواء كانوا متعمدين للكذب أو مخطئين، وحينئذ فالحاكم يتوقف حتى يتبين له الأمر، لا يرد قول الذين عدلوه بمجرد معارضته لهم، فلو كان هذا وزان تعارض العقل والشرع لكان موجب ذلك تقديم العقل. الوجه السابع أن يقال: تقديم المعقول علي الأدلة الشرعية ممتنع متناقض، وأما تقديم الأدلة الشرعية فهو ممكن مؤتلف، فوجب الثاني دون الأول، وذلك لأن كون الشيء معلوماً بالعقل، أو غير معلوم بالعقل، ليس هو صفة لازمه لشيء من الأشياء، بل هو من الأمور النسبية الإضافية، فإن زيداً قد يعلم بعقله ما لا يعلمه بكر بعقله، وقد يعلم الإنسان في حال بعقله ما يجهله في وقت آخر. والمسائل التي بقال إنه قد تعارض فيها العقل والشرع جميعها مما اضطرب فيه العقلاء، ولم يتفقوا فيها علي أن موجب العقل كذا، بل كل من العقلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 يقول: إن العقل أثبت، أو أوجب، أو سوغ ما يقول الآخر: إن العقل نفاه، أو أحاله، أو منع منه، بل قد آل الأمر بينهم إلي التنازع فيما يقولون إنه من العلوم الضرورية، فيقول هذا: نحن نعلم بالضرورة العقلية ما يقول الآخر: إنه غير معلوم بالضرورة العقلية. كما يقول أكثر العقلاء: نحن نعلم أن بالضرورة العقلية امتناع رؤية مرئي من غير معاينة ومقابلة، ويقول طائفة من العقلاء: إن ذلك ممكن. وقول أكثر العقلاء: إنا نعلم أن حدوث حادث بلا سبب حادث ممتنع، ويقول طائفة من العقلاء: إن ذلك ممكن. ويقول أكثر العقلاء: إن كون الموصوف عالماً بلا علم قادراً بلا قدرة حياً بلا حياة ممتنع في ضرورة العقل، وآخرون ينازعون في ذلك. ويقول أكثر العقلاء: إن كون الشيء الواحد أمراً نهياً خبراً ممتنع في ضرورة العقل، وآخرون ينازعون في ذلك. ويقول أكثر العقلاء: إن كون العقل والعاقل والمعقول، والعشق والمعشوق، والوجود والموجود، والوجوب والعناية أمراً واحدا، هو ممتنع في ضرورة العقل، وآخرون ينازعون في ذلك. ويقول جمهور العقلاء: إن الوجود ينقسم إلي واجب وممكن وقديم ومحدث، وإن لفظ الوجود يعمهما ويتناولهما، وإن هذا معلوم بضرورة العقل، ومن الناس من ينازع في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ويقول جمهور العقلاء: إن حدوث الأصوات المسموعة من العبد بالقرآن أمر معلوم بضرورة العقل، ومن الناس من ينازع في ذلك. وجمهور العقلاء يقولون: إثبات موجودين ليس أحدهما مباينا للأخر ولا داخلاً فيه، أو إثبات موجود ليس بداخل العالم ولا خارجه معلوم الفساد بضرورة العقل، ومن الناس من نازع في ذلك. وجمهور العقلاء يعلمون أن كون نفس الإنسان هي العالمة بالأمور العامة الكلية، والأمور الخاصة الجزئية معلوم بضرورة العقل، ومن الناس من نازع في ذلك، وهذا باب واسع. فلو قيل بتقديم العقل علي الشرع، وليست العقول شيئاً واحداً بيناً بنفسه، ولا عليه دليل معلوم للناس، بل فيها هذا الاختلاف والاضطراب، لوجب أن يحال الناس علي شيء لا سبيل إلي ثبوته ومعرفته، ولا اتفاق للناس عليه. وأما الشرع فهو في نفسه قول الصادق، وهذه صفة لازمة له، لا تختلف باختلاف أحوال الناس، والعلم بذلك ممكن، ورد الناس إليه ممكن، ولهذا جاء التنزيل برد الناس عند التنازع إلي الكتاب والسنة، كما قال تعالي {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59] ، فأمر الله تعالي المؤمنين عندا لتنازع بالرد إلي الله والرسول، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 يوجب تقديم السمع، وهذا هو الواجب إذ لو ردوا إلي غير ذلك من عقول الرجال وآرائهم ومقاييسهم وباهينهم لم يزدهر هذا الرد إلا اختلافا واضطرابا، وشكا وارتيابا. ولذلك قال تعالي {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213] . فأنزل الله الكتاب حاكماً بين الناس فيما اختلفوا فيه، إذ لا يمكن الحكم بين الناس في موارد النزاع والاختلاف علي الإطلاق إلا بكتاب منزل من السماء، ولا ريب أن بعض الناس قد يعلم بعقله ما لا يعلمه غيره، وإن لم يمكنه بيان ذلك لغيره، ولكن ما علم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع البتة، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط. وقد تأملت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه، فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموفق للشرع. وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر والنبوات والمعاد وغير ذلك، ووجدت ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط، بل السمع الذي يقال إنه يخالفه: إما حديث موضوع، أو دلالة ضعيفة، فلا يصلح أن يكون دليلاً لو تجرد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول؟ . ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمجالات العقول بل بمجاراة العقول ن فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 والكلام علي هذا علي وجه التفصيل مذكور في موضعه، فإن أدلة نفاة الصفات والقدر ونحو ذلك، إذا تدبرها العاقل الفاضل وأعطاها حقها من النظر العقلي، علم بالعقل فسادها وثبوت نقيضها، كما قد بيناه في غير هذا الموضع. الوجه الثامن أن يقال: المسائل التي يقال: أنه قد تعارض فيها العقل والسمع ليست من المسائل البينة المعروفة بصريح العقل، كمسائل الحساب والهندسة والطبيعيات الظاهرة والإلهيات البينة ونحو ذلك، بل لم ينقل أحد بإسناد صحيح عن نبينا صلي الله عليه وسلم شيئاً من هذا الجنس، ولا في القرآن شيء من هذا الجنس، ولا يوجد ذلك إلا في حديث مكذوب موضوع يعلم أهل النقل أنه كذب، أو في دلالة ضعيفة غلط المستدل بها علي الشرع. فالأول: مثل حديث عرق الخيل الذي كذبه بعض الناس علي أصحاب حماد بن سلمة، وقالوا: إنه كذبه بعض أهل البدع، اتهموا بوضعه محمد بن شجاع الثلجي، وقالوا: إنه وضعه ورمي به بعض أهل الحديث، ليقال عنهم إنهم يروون مثل هذا، وهو الذي يقال في متنه: إنه خلق خيلاً فأجراها، فعرقت، فخلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 نفسه من ذلك العرق تعالي الله عن فرية المفترين وإلحاد الملحدين، وكذلك حديث نزوله عشية عرفة إلي الموقف علي جمل أورق، ومصافحته للركبان، ومعانقته للمشاة، وأمثال ذلك: هي أحاديث مكذوبة موضوعة باتفاق أهل العلم، فلا يجوز لأحد أن يدخل هذا وأمثاله في الأدلة الشرعية. والثاني: مثل الحديث الذي في الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله تعالي: عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض، فلو عدته لوجدتني عنده، عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول: ربي كيف أطعمك، وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فإنه لا يجوز لعاقل أن يقول: إن دلالة هذا الحديث مخالفة لعقل ولا سمع، إلا من يظن أنه قد دل علي جواز المرض والجوع علي الخالق سبحانه وتعالي، ومن قال هذا فقد كذب علي الحديث. ومن قال إن هذا ظاهر الحديث أو مدلوله أو مفهومه فقد كذب، فإن الحديث قد فسره المتكلم به، وبين مراده بياناً زالت به كل شبهة، وبين فيه أن العبد هو الذي جاع وأكل ومرض وعاده العواد، وأن الله سبحانه لم يأكل ولم يعد. بل غير هذا الباب من الأحاديث، كالأحاديث المروية في فضائل الأعمال علي وجه المجازفة، كما يروي مرفوعاً: أنه من صلي ركعتين في يوم عاشوراء يقرأ فيهما بكذا وكذا كتب له ثواب سبعين نبياً. ونحو ذلك، هو عند أهل الحديث من الأحاديث الموضوعة، فلا يعلم حديث واحد يخالف العقل أو السمع الصحيح إلا وهو عند أهل العلم ضعيف، بل موضوع، بل لا يعلم حديث صحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم في الأمر والنهي أجمع المسلمون علي تركه، إلا أن يكون له حديث صحيح يدل علي أنه منسوخ، ولا يعلم عن النبي صلي الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 حديث صحيح أجمع المسلمون علي نقيضه، فضلا عن أن يكون نقيضه معلوماً بالعقل الصريح البين لعامة العقلاء، فإن ما يعلم بالعقل الصريح البين أظهر مما لا يعلم إلا بالإجماع ونحوه من الأدلة السمعية. فإذا لم يوجد في الأحاديث الصحيحة ما يعلم نقيضه بالأدلة الخفية كالإجماع ونحوه، فأن لا يكون فيها ما يعلم نقيضه بالعقل الصريح الظاهر أولي وأحرى، ولكن عامة موارد التعارض هي من الأمور الخفية المشتبهة التي يحار فيها كثير من العقلاء، كمسائل أسماء الله وصفاته وأفعاله، وما بعد الموت من الثواب والعقاب والجنة والنار والعرش والكرسي، وعامة ذلك من أنباء الغيب التي تقصر عقول أكثر العقلاء عن تحقيق معرفتها بمجرد رأيهم، ولهذا كان عامة الخائضين فيها بمجرد رأيهم إما متنازعين مختلفين، وإما حيارى متهوكين، وغالبهم يرى أن إمامه أحذق في ذلك منه. ولهذا تجدهم عند التحقيق مقلدين لأئمتهم فيما يقولون: إنه من العقليات المعلومة بصريح العقل، فتجد أتباع أرسطوطاليس يتبعونه فيما ذكره من المنطقيات والطبيعيات والإلهيات، مع أن كثيراً منهم قد يري بعقله نقيض ما قاله أرسطو، وتجده لحسن ظنه به يتوقف في مخالفته، أو ينسب النقص في الفهم إلي نفسه، مع أنه يعلم أهل العقل المتصفون بصريح العقل أن في المنطق من الخطأ البين ما لا ريب فيه، كما ذكر في غير هذا الموضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وأما كلامه وكلام أتباعه: كالإسكندر الأفروديسي، وبرقلس، وثامسطيوس، والفاربي، وابن سينا، والسهروردي المقتول، وابن رشد الحفيد، وأمثالهم في الإلهيات، فما فيه من الخطأ الكثير والتقصير العظيم ظاهر لجمهور عقلاء بني آدم، بل في كلامهم من التناقض ما لا يكاد يستقصي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وكذلك أتباع رؤوس المقالات التي ذهب إليها من ذهب من أهل القبلة، وإن كان فيها ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ففيها أيضاً من مخالفة العقل الصريح ما لا يعلمه إلا الله، كأتباع أبي الهذيل العلاف، وأبي إسحاق النظام، وأبي القاسم الكعبي، وأبي علي وأبي هاشم، وأبي الحسين البصري، وأمثالهم. وكذلك أتباع من هو أقرب إلي السنة من هؤلاء ن كإتباع حسين النجار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وضرار بن عمرو، مثل أبي عيسي محمد بن عيسي برغوث الذي ناظر أحمد بن حنبل، مثل حفص الفرد الذي كان يناظر الشافعي، وكذلك أتباع متكلمي أهل الإثبات كأتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد ين كلاب، وأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن كرام، وأبي الحسن علي ابن إسماعيل الأشعري وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 بل هذا موجود في اتباع أئمة الفقهاء وأئمة شيوخ العبادة، كأصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد، وغيرهم، تجد أحدهم دائماً يجد في كلامهم ما يراه هو باطلاً، وهو يتوقف في رد ذلك، لاعتقاده أن إمامه أكمل منه عقلاً وعلما وديناً، هذا مع علم كل من هؤلاء أن متبوعه ليس بمعصوم، وأن الخطأ جائز عليه، ولا تجد أحداً من هؤلاء يقول: إذا تعارض قولي وقول متبوعي قدمت قولي مطلقاً، لكنه إذا تبين له أحياناً الحق في نقيض قول متبوعه، أو أن نقيضه أرجح منه قدمه، لاعتقاده أن الخطأ جائز عليه. فكيف يجوز أن يقال: إن في كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة الثابتة عنه ما يعلم زيد وعمرو بعقله أنه باطل؟ وأن يكون كل من اشتبه عليه شيء مما أخبر به النبي صلي الله عليه وسلم قدم رأيه علي نص الرسول صلي الله عليه وسلم في أنباء الغيب التي ضل فيها عامة من دخل فيها بمجرد رأيه، بدون الاستهداء بهدي الله، والاستضاءة بنور الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، مع علم كل أحد بقصوره وتقصيره في هذا الباب، وبما وقع فيه من أصحابه وغير أصحابه من الاضطراب؟ . ففي الجملة: النصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول بين قط، ولا يعارضها إلا ما فيه اشتباه واضطراب، وما علم أنه حق، لا يعارضه ما فيه اضطراب واشتباه لم يعلم أنه حق. بل نقول قولاً عاماً كلياً: إن النصوص الثابتة عن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يعارضها قط صريح معقول، فضلا عن أن يكون مقدما عليها وإنما الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 يعارضها شبه وخيالات، مبناها علي معان متشابهة وألفاظ مجملة، فمتي وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبه سوفسطائية، لا براهين عقليه. ومما يوضح هذا: الوجه التاسع وهو أن يقال: القول بتقديم الإنسان لمعقوله علي النصوص النبوية قول لا ينضبط، وذلك لأن أهل الكلام والفلسفة الخائضين المتنازعين فيما يسمونه عقليات، كل منهم يقول: إنه يعلم بضرورة العقل أو بنظره ما يدعي الآخر أن المعلوم بضروة العقل أو بنظره نقيضه. وهذا من حيث الجملة معلوم، فالمعتزلة ومن اتبعهم من الشيعة يقولون: إن أصلهم المتضمن نفي الصفات والتكذيب بالقدر ـ الذي يسمونه التوحيد والعدل ـ معلوم بالأدلة العقلية القطعية، ومخالفوهم من أهل الإثبات يقولون: إن نقيض ذلك معلوم بالأدلة القطعية العقلية. بل الطائفتان ومن ضاهاهما يقولون: إن علم الكلام المحض هو ما أمكن علمه بالعقل المجرد بدون السمع، كمسألة الرؤية والكلام وخلق الأفعال، وهذا هو الذي يجعلونه قطعياً، ويؤثمون المخالف فيه. وكل من طائفتي النفي والإثبات فيهم من الذكاء والعقل والمعرفة ما هم متميزون به علي كثير من الناس، وهذا يقول: إن العقل الصريح دل علي النفي، والآخر يقول: العقل الصريح دل علي الإثبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وهم متنازعون في المسائل التي دلت عليها النصوص، كمسائل الصفات والقدر، وأما المسائل المولدة كمسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض وغير ذلك ففيها من النزاع بينهم ما يطول استقصاؤه، وكل منهم يدعي فيها القطع العقي. ثم كل من كان عن السنة أبعد كان التنازع والاختلاف بينهم في معقولاتهم أعظم، فالمعتزلة أكثر اختلافاً من متكلمة أهل الإثبات، وبين البصريين والبغداديين منهم من النزاع ما يطول ذكره، والبصريون أقرب إلي السنة والإثبات من البغداديين، ولهذا كان البصريون يثبتون كون الباريء سميعاً بصيراً مع كونه حياً عليماً قديراً، ويثبتون له الإرادة، ولا يوجبون الأصلح في الدنيا، ويثبتون خبر الواحد والقياس، ولا يؤثمون المجتهدين، وغير ذلك. ثم بين المشايخة والحسينية ـ أتباع أبي الحسن البصري ـ من التنازع ما هو معروف. وأما الشيعة فأعظم تفرقاً واختلافاً من المعتزلة، لكونهم أبعد عن السنة منهم، حتى قيل: إنهم يبلغون اثنتين وسبعين فرقة. وأما الفلاسفة فلا يجمعهم جامع، بل هم أعظم اختلافاً من جميع طوائف المسلمين واليهود والنصارى. والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي وابن سينا إنما هي فلسفة المشائين أتباع أر سطو صاحب التعاليم، وبينه وبين سلفه من النزاع والاختلاف ما يطول وصفة، ثم بين أتباعه من الخلاف ما يطول وصفه. وأما سائر طوائف الفلاسفة، فلو حكي اختلافهم في علم الهيئة وحده لكان أعظم من اختلاف كل طائفة من طوائف أهل القبلة، والهيئة علم رياضي حسابي هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 من أصح علومهم، فإذا كان هذا اختلافهم فيه فكيف باختلافهم في الطبيعيات أو المنطق؟ فكيف بالإلهيات؟ . واعتبر هذا بما ذكره أرباب المقالات عنهم في العلوم الرياضية والطبيعية، كما نقله الأشعر عنهم في كتابه في مقالات غير الإسلاميين وما ذكره القاضي أبو بكر عنهم في كتابه الدقائق فإن في ذلك من الخلاف عنهم أضعاف أضعاف ما ذكره الشهرستاني وأمثاله ممن يحكي مقالاتهم، فكلامهم في العلم الرياضي ـ الذي هو أصح علومهم العقلية ـ قد اختلفوا فيه اختلافاً لا يكاد يحصي، ونفس الكتاب الذي اتفق عليه جمهورهم ـ وهو كتاب المجسطي لبطليموس ـ فيه قضايا كثيرة لا يقوم عليها دليل صحيح، وفيه قضايا ينازعه غيره فيها، وفيه قضايا مبنية علي أرصاد منقولة عن غيره تقبل الغلط والكذب. وكذلك كلامهم في الطبيعيات في الجسم، وهل هو مركب من المادة والصورة، أو الأجزاء التي لا تنقسم، أو ليس بمركب لا من هذا ولا من هذا؟ وكثير من حذاق النظار حار في هذه المسائل، حتى أذكياء الطوائف كأبي الحسين البصري، وأبي المعالي الجو يني، وأبي عبد الله بن الخطيب ـ حاروا في مسألة الجوهر الفرد، فتوقفوا فيها تارة، وإن كانوا قد يجزمون بها أخري، فإن الواحد من هؤلاء تارة يجزم بالقولين المتناقضين في كتابين أو كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 واحد، وتارة يحار فيها، مع دعواهم أن القول الذي يقولونه قطعي برهاني عقلي لا يحتمل النقيض. وهذا كثير في مسائل الهيئة ونحوها من الرياضيات، وفي أحكام الجسم وغيره من الطبيعيات، فما الظن بالعلم الإلهي؟ وأساطين الفلسفة يزعمون أنهم لا يصلون فيه إلي اليقين، وإنما يتكلمون فيه بالأولي والأحرى والأخلق. وأكثر الفضلاء العارفين بالكلام والفلسفة، بل وبالتصوف، الذين لم يحققوا ما جاء به الرسول تجدهم فيه حيارى، كما أنشد الشهرستاني في أول كتابه لما قال: قد أشار إلي من إشارته غنم، وطاعته حتم، أن أجمع له من مشكلات الأصول، ما أشكل علي ذوي العقول، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، لعمري: لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن، أو قارعاً سن نادم وأنشد أبو عبد الله الرازي في غير موضع من كتبه مثل كتاب أقسام اللذات لما ذكر أن هذا العلم أشرف العلوم، وأنه ثلاث مقامات العلم بالذات، والصفات، والأفعال، وعلي كل مقام عقدة، فعلم الذات عليه عقدة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 هل الوجود هو الماهية أو زائد في الماهية؟ وعلم الصفات عليه عقدة: هل الصفات زائدة علي الذات أم لا؟ وعلم الأفعال عليه عقدة: هل الفعل مقارن للذات أو متأخر عنها؟ ثم قال ومن الذي وصل إلي هذا الباب، أو ذاق من هذا الشراب؟ ثم أنشد: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذي ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10] واقرأ في النفي {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] {ولا يحيطون به علما} [طه: 110] ، {هل تعلم له سميا} [مريم: 65] ، ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وكان ابن أبي الحديد البغدادي من فضلاء الشيعة المعتزلة المتفلسفة، وله أشعار في هذا الباب، كقوله: فيك يا أغلوطة الفكر ... حار أمري وانقضى عمري سافرت فيك العقول، فما ... ربحت إلا أذى السفر فلحى الله الأولى زعموا ... أنك المعروف بالنظر كذبوا، إن الذي ذكروا ... خارج عن قوة البشر هذا مع إنشاده: وحقك لو أدخلتني النار قلت ... للذين بها: قد كنت ممن يحبه وأفنيت عمري في علوم كثيرة ... وما بغيتي إلا رضاه وقربه أما قلتم: من كان فينا مجاهداً ... سيكون مثواه ويعذب شربه أما رد شك ابن الخطيب وزيغه ... وتمويهه في الدين إذ جل خطبه وآية حب الصب أن يعذب الأسى ... إذا كان من يهوى عليه يصبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وابن رشد الحفيد يقول في كتابه الذي صنفه رداً على أبي حامد في كتابه المسمى تهافت الفلاسفة فسماه تهافت التهافت ومن الذي قاله في الإلهيات ما يعتمد به، وأبو الحسن الأمدي في عامة كتبه هو واقف في المسائل الكبار يزيف حجج الطوائف ويبقي حائراً واقفاً. والخونجي المصنف في أسرار المنطق الذي سمى كتابه كشف الأسراء يقول لما حضره الموت: أموت ولم اعرف شيئاً إلا أن الممكن يفتقر إلي الممتنع، ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت ولم اعرف شيئاً ـ حكاه عنه التلمساني وذكر أنه سمعه منه وقت الموت. ولهذا تجد أبا حامد ـ مع فرط ذكائه وتألهه، ومعرفته بالكلام والفلسفة، وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف ـ ينتهي في هذه المسائل إلي الوقف، ويحيل في آخر أمره علي طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك رجع إلي طريقة أهل الحديث، ومات وهو يشتغل في صحيح البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 والحذاق يعلمون أن تلك الطريقة التي يحيل عليها لا توصل إلي المطلوب، ولهذا لما بني قول النفاة من سلك هذه الطريق، كابن عربي وأبن سبعين وأبن الفارض وصاحب خلع النعلين والتلمساني وأمثالهم ـ وصلوا إلي ما يعلم فساده بالعقل والدين، مع دعواهم أنهم أئمة المحققين. ولهذا تجد أبا حامد في مناظرته للفلاسفة إنما يبطل طرقهم ولا يثبت طريقة معينة، بل هو كما قال: نناظرهم ـ يعني مع كلام الأشعري ـ تارة بكلام المعتزلة، وتارة بكلام الكرامية، وتارة بطريق الواقفة، وهذه الطريق هي الغالب عليه في منتهى كلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وأما الطريقة النبوية السنية السلفية المحمدية الشرعية فإنما يناظرهم بها من كان خبيراً بها بأقواله التي تناقضها، فيعلم حينئذ فساد أقوالهم بالمعقول الصريح المطابق للمنقول الصحيح. وهكذا كل من أمعن في معرفة هذه الكلاميات والفلسفيات التي تعارض بها النصوص من غير معرفة تامة بالنصوص ولوازمها وكمال المعرفة بما فيها وبالأقوال التي تنافيها، فإنه لا يصل إلي يقين يطمئن إليه، وإنما تفيده الشك والحيرة. بل هؤلاء الفضلاء الحذاق الذي يدعون أن النصوص عارضها من معقولاتهم ما يجب تقديمه تجدهم حيارى في أصول مسائل الإلهيات، حتى مسألة وجود الرب تعالي وحقيقته حاروا فيها حيرة أوجبت أن يتناقض هذا، كتناقض الرازي، وأن يتوقف هذا، كتوقف الآمدي، ويذكرون عدة أقوال يزعمون أن الحق ينحصر فيها، وهي كلها باطلة. وقد حكي عن طائفة من رؤوس أهل الكلام أنهم كانوا يقولون بتكافؤ الأدلة، وأن الأدلة قد تكافأت من الجانبين، حتى لا يعرف الحق من الباطل، ومعلوم أن هذا إنما قالوه فيما سلكوه هم من الأدلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وقد حكي لي أن بعض الأذكياء ـ وكان قد قرأ علي شخص هو إمام بلده ومن أفضل أهل زمانه في الكلام والفلسفة، وهو ابن واصل الحموي ـ أنه قال: أضطجع علي فراشي، وأضع الملحفة علي وجهي، وأقابل بين أدلة هؤلاء وأدله هؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي شيء، ولهذا انتهي أمره إلي كثرة النظر في الهيئة، لكونه تبين له فيه من العلم ما لم يتبين له في العلوم الإلهية. ولهذا تجد كثيراً من هؤلاء لما لم يتبين له الهدي في طريقة نكص علي عقبيه، فاشتغل باتباع شهوات الغي في بطنه وفرجه أو رياسته وماله ونحو ذلك، لعدم العلم واليقين الذي يطمئن إليه قلبه، وينشرح له صدره. وفي الحديث المأثور عن النبي صلي الله عليه وسلم «إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الفتن» وهؤلاء المعرضون عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الطريقة النبوية السلفية يجتمع فيهم هذا وهذا: اتباع شهوات الغي، ومضلات الفتن، فيكون فيهم من الضلال والغي بقدر ما خرجوا عن الطريق الذي بعث الله به رسوله. ولهذا أمرنا الله أن نقول في كل صلاة {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} وقد صح «عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون» . وكان السلف يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فكيف إذا اجتمع في الرجل الضلال والفجور؟ ولو جمعت ما بلغني في هذا الباب عن أعيان هؤلاء، كفلان وفلان ن لكان شيئاً كثيراً، وما لم يبلغني من حيرتهم وشكهم أكثر وأكثر. وذلك لأن الهدى هو فيما بعث الله به رسله ن فمن أعرض عنه لم يكن مهتدياً، فكيف بمن عارضه بما يناقضه وقدم مناقضه عليه؟ قال الله تعالي لما أهبط آدم {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 123-126] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 قال ابن عباس رضي الله عنهما: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعلم بما فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقي في الآخرة ثم قرأ هذه الآية. وقوله تعالى {ومن أعرض عن ذكري} يتناول الذكر الذي أنزله، وهو الهدي الذي جاءت به الرسل، كما قال تعالي في آخر الكلام {كذلك أتتك آياتنا فنسيتها} أي تركت اتباعها والعمل بما فيها، فمن طلب الهدي بغير القرآن ضل، ومن اعتز بغير الله ذل، وقد قال تعالى {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 3] ، وقال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] . وفي حديث علي رضي الله عنه الذي رواه الترمذي، ورواه أبو نعيم من عدة طرق، «عن علي، عن النبي صلي الله عليه وسلم لما قال إنها ستكون فتنة. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدي في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، من قال به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلي صراط مستقيم» ، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا التنبيه علي أنه لو سوغ للناظرين أن يعرضوا عن كتاب الله تعالي ويعارضوه بآرائهم ومعقولاتهم، لم يكن هناك أمر مضبوط يحصل لهم به علم ولا هدي ن فإن الذين سلكوا هذه السبيل كلهم يخبر عن نفسه بما يوجب حيرته وشكه، والمسلمون يشهدون عليه بذلك، فثبت بشهادته وإقراره علي نفسه وشهادة المسلمين، الذين هم شهداء الله في الأرض، أنه لم يظفر من أعرض عن الكتاب، وعارضه بما يناقضه، بيقين يطمئن إليه، ولا معرفة يسكن بها قلبه. والذين ادعوا في بعض المسائل أن لهم معقولاً صريحاً يناقض الكتاب قابلهم آخرون من ذوي المعقولات، فقالوا: إن قول هؤلاء معلوم بطلانه بصريح المعقول، فصار ما يدعي معارضته للكتاب من المعقول ليس فيه ما يجزم بأنه معقول صحيح: إما بشهادة أصحابه عليه وشهادة الأمة، وإما بظهور تناقضهم ظهوراً لا ارتياب فيه، وإما بمعارضة آخرين من أهل هذه المعقولات لهم، بل من تدبر ما يعارضون به الشرع من العقليات وجد ذلك مما يعلم بالعقل الصريح بطلانه. والناس إذا تنازعوا في المعقول لم يكن قول طائفة لها مذهب حجة علي أخرى، بل يرجع في ذلك إلي الفطر السليمة التي لم تتغير باعتقاد يغير فطرتها ولا هوي، فامتنع حينئذ أن يعتمد علي ما يعارض الكتاب من الأقوال التي يسمونها معوقلات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وإن كان ذلك قد قالته طائفة كبيرة، لمخالفة طائفة كبيرة لها، ولم يبق إلا أن يقال: إن كل إنسان له عقل فيعتمد علي عقل نفسه، وما وجده معرضاً لأقوال الرسول صلي الله عليه وسلم من رأيه خالفه، وقدم رأيه علي نصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ومعلوم أن هذا أكثر ضلالاً واضطراباً. فإذا كان فحول النظر واساطين الفلسفة الذين بلغوا في الذكاء والنظر إلي الغاية، وهم ليلهم ونهارهم يكدحون في معرفة هذه العقليات، ثم لم يصلوا فيها إلي معقول صريح يناقض الكتاب بل إما إلي حيرة وارتياب، وإما إلي اختلاف بين الأحزاب، فكيف غير هؤلاء ممن لم يبلغ مبلغهم في الذهن والذكاء ومعرفة ما سلكوه من العقليات؟ فهذا وأمثاله مما يبين أن من أعرض عن الكتاب وعارضه بما يناقضه، لم يعارضه إلا بما هو جهل بسيط أو جهل مركب فالأول {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} [النور: 39] والثاني {كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور: 40] وأصحاب القرآن والإيمان في نور علي نور، قال تعالي {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} [الشوري: 52-53] وقال تعالي {الله نور السماوات والأرض مثل نوره} ـ إلي آخر الآية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 [النور: 35] وقال تعالى {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} [الأعراف: 157] . فأهل الجهل البسيط منهم أهل الشك والحيرة من هؤلاء المعارضين للكتاب المعرضين عنه، وأهل الجهل المركب أرباب الاعتقادات الباطلة التي يزعمون أنها عقليات. وآخرون ممن يعارضهم يقول: المناقض لتلك الأقوال هو العقليات. ومعلوم أنه حينئذ يجب فساد أحد الاعتقادين أو كليهما، والغالب فساد كلا الاعتقادين، لما فيهما من الإجمال والاشتباه، وأن الحق يكون فيه تفصيل يبين أن مع هؤلاء حقاً وباطلاً، ومع هؤلاء حقاً، والحق الذي مع كل منهما هو الذي جاء به الكتاب الذي يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، والله أعلم. معارضة دليلهم بنظير ما قالوه. الوجه العاشر معارضة دليلهم بنظير ما قالوه. الوجه العاشر أن يعارض دليلهم بنظير ما قالوه، فيقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل، لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع، لأن العقل قد دل علي صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلي الله عليه وسلم، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل، لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجبا عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه. وهذا بين واضح، فإن العقل هو الذي دل علي صدق السمع وصحته وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون هذه الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلا عن أن يقدم، فصار تقديم العقل علي النقل قدحاً في العقل بانتفاء لوازمه ومدلوله، وإذا كان تقديمه علي النقل يستلزم القدح فيه، والقدح فيه يمنع دلالته، والقدح في دلالته يقدح في معارضته، كان تقديمه عند المعارضة مبطلاً للمعارضة، فامتنع تقديمه علي النقل، وهو المطلوب. تقديم النقل لا يستلزم فساد النقل في نفسه وأما تقديم النقل عليه فلا يستلزم فساد النقل في نفسه ومما يوضح هذا أن يقال: معارضة العقل لما دل العقل علي أنه حق، دليل علي تناقص دلالته، وذلك يوجب فسادها، وأما السمع فلم يعلم فساد دلالته ولا تعارضها في نفسها، وإن لم يعلم صحتها. وإذا تعارض دليلان أحدهما علمنا فساده والآخر لم نعلم فساده كان تقديم ما لم يعلم فساده أقرب إلي الصواب من تقديم ما يعلم فساده، كالشاهد الذي علم أنه يصدق ويكذب، والشاهد المجهول الذي لم يعلم كذبه، فإن تقديم قول الفاسق المعلوم كذبه علي قول المجهول الذي لم يعلم كذبه لا يجوز، فكيف إذا كان الشاهد هو الذي شهد بأنه قد كذب في بعض شهاداته؟ والعقل إذا صدق السمع في كل ما يخبر به ثم قال: إنه أخبر بخلاف الحق، كان هو قد شهد للسمع بأنه يجب قبوله، وشهد له بأنه لا يجب قبوله، وشهد بأن الأدلة السمعية حق، وأن ما أخبر به السمع فهو حق، وشهد بأن ما أخبر به السمع فليس بحق، فكان مثله مثل من شهد لرجل بأنه صادق لا يكذب، وشهد له بأنه قد كذب، فكان هذا قدحاً في شهادته مطلقاً وتزكيته، فلا يجب قبول شهادته الأولي ولا الثانية، فلا يصلح أن يكون معارضاً للسمع بحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ولهذا تجد هؤلاء الذين تتعارض عندهم دلالة العقل والسمع في حيرة وشك واضطراب، إذ ليس عندهم معقول صريح سالم عن معارض مقاوم، كما أنهم في نفس المعقول الذي يعارضون به السمع في اختلاف وريب واضطراب. وذلك كله مما يبين أنه ليس في المعقول الصريح ما يمكن أن يكون مقدماً علي ما جاءت به الرسل، وذلك لأن الآيات والبراهين دالة علي صدق الرسل، وأنهم لا يقولون علي الله إلا الحق، وأنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله من الخبر والطلب، لا يجوز أن يستقر في خبرهم عن الله شيء من الخطأ، كما اتفق علي ذلك جميع المقرين بالرسل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم. فوجب أن جميع ما يخبر به الرسول عن الله صدق وحق، لا يجوز أن يكون في ذلك شيء مناقض لدليل عقلي ولا سمعي. فمتي علم المؤمن بالرسول أنه أخبر بشيء من ذلك جزم جزماً قاطعاً أنه حق، وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به، وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي، ولا عقلي ولا سمعي، وأن كل ما ظن أنه عارضه من ذلك فإنما هو حجج داحضة، وشبه من جنس شبه السوفساطئية. وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول قد شهد له بذلك، وأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل صحيح، كان هذا العقل شاهدا بأن كل ما خالف خبر الرسول فهو باطل، فيكون هذا العقل والسمع جميعاً شهدا ببطلان العقل المخالف للسمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 اعتراض فإن قيل: فهذا يوجب القدح في شهادة العقل، حيث شهد بصدق الرسول، وشهد بصدق العقل المناقض لخبره. الرد عليه. الجواب الأول الرد عليه. الجواب الأول قيل له عن هذا جوابان: أحدهما: إنا نحن يمتنع عندنا أن يتعارض العقل والسمع القطعيان، فلا تبطل دلالة العقل، وإنما ذكرنا هذا علي سبيل المعارضة، فمن قدم دلالة العقل علي السمع يلزمه أن يقدم دلالة العقل الشاهد بتصديق السمع، وأنه إذا قدم دلالة العقل لزم تناقضها وفسادها، وإذا قدم دلالة السمع لم يلزم تناقضها في نفسها، وإن لزمه أن لا يعلم صحتها، وما علم فساده أولي بالرد مما لم تعلم صحته ولا فساده. الجواب الثاني والجواب الثاني: أن نقول: الأدلة العقلية التي تعارض السمع غير الأدلة العقلية التي يعلم بها أن الرسول صادق، وإن كان جنس المعقول يشملها. ونحن إذا أبطلنا ما عارض السمع إنما أبطلنا نوعاً مما يسمي معقولاً، لم نبطل كل معقول، ولا أبطلنا المعقول الذي علم به صحة المنقول، وكان ما ذكرناه موجباً لصحة السمع وما علم به صحته من العقل. ولا مناقضة في ذلك، ولكن حقيقة أنه قد تعارض العقل الدال علي صدق الرسول والعقل المناقض لخبر الرسول، فقدمنا ذلك المعقول علي هذا المعقول، كما نقدم الأدلة الدالة علي صدق الرسول علي الحجج الفاسدة والقادحة في نبوات الأنبياء، وهي حجج عقلية. بل شبهات المبطلين القادحين في النبوات قد تكون أعظم من كثير من الحجج العقلية التي يعارض بها خبر الأنبياء عن أسماء الله وصفاته وأفعاله ومعاده، فإذا كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 تقديم الأدلة العقلية الدالة علي أنهم صادقون في قولهم: إن الله أرسلهم مقدمة علي ما يناقض ذلك من العقليات، كذلك تقديم هذه الأدلة العقلية المستلزمة لصدقهم فيما أخبروا به علي ما يناقض ذلك من العقليات، وعاد الأمر إلي تقديم جنس من المعقولات علي جنس. وهذا متفق عليه بين العقلاء، فإن الأدلة العقلية إذا تعارضت فلا بد من تقديم بعضها علي بعض، ونحن نقول: لا يجوز أن يتعارض دليلان قطعيان: لا عقليان ولا سمعيان، ولا سمعي وعقلي، ولكن قد ظن من لم يفهم حقيقة القولين تعارضهما لعدم فهمه لفساد أحدهما. اعتراض آخر فإن قيل: نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع علي أن دلالة السمع المخالفة له باطلة، إما لكذب الناقل عن الرسول، أو خطئه في النقل، وإما لعدم دلالة قوله علي ما يخالف العقل في محل النزاع. الرد عليه قيل: هذا معارض بأن يقال: نحن نستدل بمخالفة العقل للسمع علي أن دلالة العقل المخالفة له باطلة بعض مقدماتها، فإن مقدمات الأدلة العقلية المخالفة للسمع فيها من التطويل والخفاء والاشتباه والاختلاف والاضطراب ما يوجب أن يكون تطرق الفساد إليها أعظم من تطرقه إلي مقدمات الأدلة السمعية. ومما يبين ذلك أن يقال: دلالة السمع علي مواقع الإجماع مثل دلالته علي موارد النزاع، فإن دلالة السمع علي علم الله تعالي وقدرته وإرادته وسمعه وبصره، كدلالته علي رضاه ومحبته وغضبه واستوائه علي عرشه ونحو ذلك، وكذلك دلالته علي عموم مشيئته وقدرته كدلالته علي عموم علمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فالأدلة السمعية لم يردها من ردها لضعف فيها وفي مقدماتها، لكن لاعتقاده أنها تخالف العقل، بل كثير من الأدلة السمعية التي يريدونها تكون أقوي بكثير من الأدلة السمعية التي يقبلونها، وذلك لأن تلك لم يقبلوها لكون السمع جاء بها، لكن لاعتقادهم أن العقل دل عليها، والسمع جعلوه عاضداً للعقل، وحجة علي من ينازعهم من المصدقين بالسمع، لم يكن هو عمدتهم ولا أصل علمهم، كما صرح بذلك أئمة هؤلاء المعارضين لكتاب الله وسنة رسوله بآرائهم. وإذا كان كذلك، تبين أن ردهم الأدلة السمعية المعلومة الصحة بمجرد مخالفة عقل الواحد، أو لطائفة منهم، أو مخالفة ما يسمونه عقلاً لا يجوز، إلا أن يبطلوا الأدلة السمعية بالكلية، ويقولون: إنها لا تدل علي شيء، وإن إخبار الرسول عما أخبر به لا يفيد التصديق بثبوت ما أخبر به، وحينئذ فما لم يكن دليلاً لا يصلح أن يجعل معارضاً. والكلام هنا إنما هو لمن علم أن الرسول صادق، وأن ما أخبر به ثابت، وأن إخباره لنا بالشيء يفيد تصديقنا بثبوت ما أخبر به، فمن كان هذا معلوماً له امتنع أن يجعل العقل مقدماً علي خبر الرسول صلي الله عليه وسلم، بل يضطره الأمر إلي أن يجعل الرسول يكذب أو يخطئ تارة في الخبريات، ويصيب أو يخطئ أخري في الطلبيات، وهذا تكذيب للرسول، وإبطال لدلالة السمع، وسد لطريق العلم بما أخبر به الأنبياء والمرسلون، وتكذيب بالكتاب وبما أرسل الله تعالي به رسله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وغايته إن أحسن المقال: أن يجعل الرسول مخبراً بالأمور علي خلاف حقائقها لأجل نفع العامة. ثم إذا قال ذلك امتنع أن يستدل بخبر الرسول علي شيء، فعاد الأمر جذعاً، لأنه إذا جوز علي خبر الرسول التلبيس كان كتجويزه عليه الكذب، وحينئذ فلا يكون مجرد إخبار الرسول موجباً للعلم بثبوت ما أخبر به، وهذا: وإن كان زندقة وكفراً وإلحاداً فهو باطل في نفسه، كما قد بين في غير هذا الموضع. المقصودون بالخطاب في هذا الكتاب فنحن في هذا المقام إنما نخاطب من يتكلم في تعارض الأدلة السمعية والعقلية ممن يدعي حقيقة الإسلام من أهل الكلام، الذين يلبسون علي أهل الإيمان بالله ورسوله، وأما من أفصح بحقيقة قوله: وقال: إن كلام الله ورسوله لا يستفاد منه علم بغيب، ولا تصديق بحقيقة ما أخبر به، ولا معرفة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته وجنته وناره وغير ذلك ـ فهذا لكلامه مقام آخر. فإن الناس في هذا الباب أنواع: منهم من يقر بما جاء به السمع في المعاد دون الأفعال والصفات. ومنهم من يقر بذلك في بعض أمور المعاد دون بعض. ومنهم من يقر بذلك في بعض الصفات والمعاد مطلقاً دون الأفعال وبعض الصفات. ومنهم من لا يقر بحقيقة شيء من ذلك لا في الصفات ولا في المعاد. ومنهم من لا يقر بذلك أيضاً في الأمر والنهي، بل يسلك طريق التأويل في الخبر والأمر جميعا لمعارضة العقل عنده، كما فعلت القرامطة الباطنية. وهؤلاء أعظم الناس كفراً وإلحاداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 والمقصود هنا أن من أقر بصحة السمع وأنه علم صحته بالعقل لا يمكنه أن يعرضه بالعقل البتة، لأن العقل عنده هو الشاهد بصحة السمع، فإذا شهد مرة أخري بفساده كانت دلالته متناقضة، فلا يصلح لا لإثبات السمع ولا لمعارضته. اعتراض: الشهادة بصحة السمع ما لم يعارض العقل فإن قال: أنا أشهد بصحته ما لم يعارض العقل. الرد عليه من وجوه: الأول قيل: هذا لا يصح لوجوه: أحدهما: أن الدليل العقلي دل علي صدق الرسول وثبوت ما أخبر به مطلقاً، فلا يجوز أن يكون صدقه مشروطاً بعدم المعارض. الثاني الثاني: أنك إن جوزت عليه أن يعارضه العقل الدال علي فساده لم تثق بشيء منه، لجواز أن يكون في عقل غيرك ما يدل علي فساده، فلا تكون قد علمت بعقلك صحته البتة، وأنت علمت صحته بالعقل. الثالث الثالث: أن ما يستخرجه الناس بعقولهم أمر لا غاية له، سواء كان حقاً أو باطلاً، فإذا جوز المجوز أن يكون في المعقولات ما يناقض خبر الرسول لم يثق بشيء من أخبار الرسول، لجواز أن يكون في المعقولات التي لم تظهر له بعد ما يناقض ما أخبر به الرسول. ومن قال: أنا أقر من الصفات بما لم ينفه العقل، أو أثبت من السمعيات ما لم يخالفه العقل، لم يكن لقوله ضابط، فإن تصديقه بالسمع مشروط بعدم جنس لا ضابط له ولا منتهى، وما كان مشروطا بعدم ما لا ينضبط لم ينضبط، فلا يبقي مع هذا الأصل إيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ولهذا تجد من تعود معارضة الشرع بالرأي لا يستقر في قلبه الإيمان، بل يكون كما قال الأئمة: إن علماء الكلام زنادقة، وقالوا: قل أحد نظر في الكلام إلا كان في قلبه غل علي أهل الإسلام، ومرادهم بأهل الكلام من تكلم في الله بما يخالف الكتاب والسنة. ففي الجملة: لا يكون الرجل مؤمنا حتى يؤمن بالرسول إيماناً جازما، ليس مشروطاً بعدم معارض، فمتي قال: أؤمن بخبره إلا أن يظهر له معارض يدفع خبره لم يكن مؤمناً به، فهذا أصل عظيم تجب معرفته، فإن هذا الكلام هو ذريعة الإلحاد والنفاق. الرابع الرابع: أنهم قد سلموا أنه يعلم بالسمع أمور. كما يذكرونه كلهم من أن العلوم ثلاثة أقسام: منها ما لا يعلم إلا بالعقل، ومنها ما لا يعلم إلا بالسمع، ومنها ما يعلم بالسمع والعقل. وهذا التقسيم حق في الجملة، فإن من الأمور الغائبة عن حس الإنسان ما لا يمكن معرفته بالعقل، بل لا يعرف إلا بالخبر. وطرق العلم ثلاثة: الحس، والعقل، والمركب منهما كالخبر. فمن الأمور ما لا يمكن علمه إلا بالخبر، كما يعلمه كل شخص بأخبار الصادقين كالخبر المتواتر، وما يعلم بخبر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا التقسيم يجب الإقرار به، وقد قامت الأدلة اليقينية علي نبوات الأنبياء، وأنهم قد يعلمون بالخبر ما لا يعلم إلا بالخبر، وكذلك يعلمون غيرهم بخبر هم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ونفس النبوة تتضمن الخبر، فإن النبوة مشتقة من الإنباء وهو الإخبار بالمغيب، فالنبي يخبر بالمغيب ويخبرنا بالغيب، ويمتنع أن يقوم دليل صحيح علي أن كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون الخبر، فلا يمكن أن يجزم بأن كل ما أخبرت به الأنبياء هو منتف. فإنه يمتنع أن يقوم دليل علي هذا النفي العام، ويمتنع أن يقول القائل: كل ما أخبر به الأنبياء يمكن غيرهم أن يعرفه بدون خبرهم، ولهذا كان أكمل الأمم علماً المقرون بالطرق الحسية والعقلية والخبرية، فمن كذب بطريق منها فاته من العلوم بحسب ما كذب به من تلك الطرق. والمتفلسفة الذين أثبتوا النبوات علي وجه يوافق أصولهم الفاسدة ـ كابن سينا وأمثاله ـ لم يقروا بأن الأنبياء يعلمون بخبر يأتيهم عن الله، لا بخبر ملك ولا غيره، بل زعموا أنهم يعلمونه بقوة عقلية، لكونهم أكمل من غيرهم في قوة الحدس، ويسمون ذلك القوة القدسية، فحصروا علوم الأنبياء في ذلك. وكان حقيقة قولهم: أن الأنبياء من جنس غيرهم، وأنهم لم يعلموا شيئاً بالخبر، ولهذا صار هؤلاء لا يستفيدون شيئاً بخبر الأنبياء، بل يقولون: إنهم خاطبوا الناس بطريق التخييل لمنفعة الجمهور، وحقيقة قولهم: أنهم كذبوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 لمصلحة الجمهور، هؤلاء في الحقيقة يكذبون الرسل، فنتكلم معهم في تحقيق النبوة علي الوجه الحق، لا في معارضة العقل والشرع. وهذا الذي ذكرته مما صرح به فضلاؤهم، يقولون: الرسل إنما ينتفع بخبرهم الجمهور في التخييل، لا ينتفع بخبرهم أحد من العامة والخاصة في معرفة الغيب، بل الخاصة عندهم تعلم ذلك بالعقل المناقض لأخبار الأنبياء، والعامة لا تعلم ذلك لا بعقل ولا خبر، والبنوة إنما فائدتها تخييل ما يخبرون به للجمهور، كما يصرح بذلك الفارابي وابن سيناء وأتباعهما. ثم لا يخلو الشخص إما أن يكون مقراً بخبر نبوة الأنبياء، وإما أن يكون غير مقر، فإن كان غير مقر بذلك لم نتكلم منه في تعارض الدليل العقلي والشرعي، فإن تعارضهما إنما يكون بعد الإقرار بصحة كل منهما لو تجرد عن المعارض، فمن لم يقر بصحة دليل عقلي البتة لم يخاطب في معارضة الدليل العقلي والشرعي، وكذلك من لم يقر بدليل شرعي لم يخاطب في هذا التعارض. ومن لم يقر بالأنبياء لم يستفد من خبرهم دليلاً شرعياً، فهذا يتكلم معه في تثبيت النبوات، فإذا ثبتت فحينئذ يثبت الدليل الشرعي، وحينئذ فيجب الإقرار بأن خبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الأنبياء يوجب العلم بثبوت ما أخبروا به، ومن جوز أن يكون في نفس الأمر معارض ينفي ما دلت عليه أخبارهم أمتنع أن يعلم بخبرهم شيئاً، فإنه ما من خبر أخبروا به ولم يعلم هو ثبوته بعقله إلا وهو يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل يناقضه، فلا يعلم شيئاً مما أخبروا به بخبرهم، فلا يكون مقراً بنبوتهم، ولا يكون عنده شيء يعلم بالسمع وحده، وهم قد أقروا بأن العلوم ثلاثة: منها ما يعلم بالسمع وحده، ومنها ما يعلم بالعقل وحده، ومنها ما يعلم بهما. وأيضاً، فقد قامت الأدلة العقلية اليقينية علي نبوة الأنبياء، وأنهم قد يعلمون ما يعلمونه بخبر الله وملائكته، تارة بكلام يسمعونه من الله كما سمع موسى بن عمران، وتارة بملائكة تخبرهم عن الله، وتارة بوحي يوحيه الله، كما قال تعالي {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] . فتبين أن تجويزهم أن يكون في نفس الأمر دليل يناقض السمع يوجب أن لا يكون في نفس الأمر دليل سمعي يعلم به مخبره، وهذا مما تبين به تناقضهم ـ حيث أثبتوا الأدلة السمعية، ثم قالوا ما يوجب إبطالها، حيث أثبتوا الأدلة العقلية، ثم قالوا ما يوجب تناقضها، فإن العقل يعلم به صحة الأدلة السمعية، فمتي بطلت بطل العقل الدال علي صحة السمع، والدليل مستلزم للمدلول، ومتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 انتفي اللازم الذي هو المدلول انتفي ملزومه الذي هو الدليل، فيبطل العقل ـ وتناقضهم حيث أقروا بنبوات الأنبياء ثم قالوا ما يوجب بطلانها. وأيضاً، فالأدلة العقلية توجب الإقرار بنبوة الأنبياء، فالقدح في نبوة الأنبياء قدح في الأدلة العقلية، ومع كون قولهم مستلزماً لتناقضهم فهو مستلزم لبطلان الأدلة العقلية والسمعية، وبطلان النبوات، وهذا من أعظم أنواع السفسطة، فتبين بعض ما في قولهم من أنواع السفسطة الدالة علي فساده، ومن أنواع التناقض الدالة علي جهلهم وتناقض مذاهبهم. وإن قالوا: نحن لا نعلم شيئاً مما دل عليه الشرع من الخبريات، أو من الخبريات وغيرها، إلا أن نعلم بالاضطرار أن الرسول أخبر به. قيل: فيقال لكم علي هذا التقدير: فكل ما لا يعلم شخص بالاضطرار أن الرسول أخبر به يجب أن ينفيه إذا قام عنده ما يظنه دليلاً عقلياً!. فإن قالوا: نعم، لزم أنه يجوز لكل أحد أن يكذب بما لم يضطر إلي أن الرسول أخبر به، وإن كان غيره قد علم بالاضطرار أن الرسول أخبر به، وحينئذ فيلزم من ذلك تجويز تكذيب الرسول، ونفي الحقائق الثابتة في نفس الأمر، والقول بلا علم، والقطع بالباطل. وإن قالوا: نحن إنما نجوز ذلك إذا قام دليل عقلي قاطع. قيل: هذا باطل لوجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أحدهما: أنه إذا لم يعلم بالاضطرار أنه أخبر به كان علي قولكم غير معلوم الثبوت، وحينئذ فإذا قام عنده دلالة ظنية ترجح النفي أخبر بموجبهما، وإن جوز أن يكون غيره يعلم باضطرار نقيضها. الثاني: أن الأدلة العقلية القطعية ليست جنساً متميزاً عن غيره، ولا شيئاً اتفق عليه العقلاء، بل كل طائفة من النظار تدعي أن عندها دليلاً قطعياً علي ما تقوله، مع أن الطائفة الأخرى تقول: إن ذلك الدليل باطل، وإن بطلانه يعلم بالعقل، بل قد تقول: إنه قام عندها دليل قطعي علي نقيض قول تلك الطائفة، وإذا كانت العقليات ليست متميزة، ولا متفقاً عليها، وجوز أصحابها فيما لم يعلمه أحدهم بالاضطرار من أخبار الرسول أن يقدمها عليه ـ لزم من ذلك تكذيب كل من هؤلاء بما يعلم غيره بالاضطرار أن الرسول أخبر به. ومعلوم أن العلوم الضرورية أصل للعلوم النظرية، فإذا جوز الإنسان أن يكون ما علمه غيره من العلوم الضرورية باطلاً جوز أن تكون العلوم الضرورية باطلة، وإذا بطلت بطلت النظرية، فصار قولهم مستلزماً لبطلان العلوم كلها، وهذا مع أنه مستلزم لعدم علمهم بما يقولونه، فهو متضمن لتناقضهم، ولغاية السفسطة. وإن قالوا: ما علمنا بالاضطرار أن الرسول أراده أقررنا به ن ولم نجوز أن يكون في العقل ما يناقضه، وما علمه غيرنا لم نقر به، وجوزنا أن يكون في العقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ما يناقضه ـ أمكن تلك الطائفة أن تعارضهم بمثل ذلك، فيقولون: بل نحن نقر علمنا الضروري، ونقدح في علمكم الضروري بنظرياتنا. وأيضاً، فمن المعلوم أن من شافهه الرسول بالخطاب يعلم من مراده بالاضطرار ما لا يعلمه غيره، وأن من كان أعلم بالأدلة الدالة علي مراد المتكلم كان أعلم بمراده من غيره، وإن لم يكن نبياً فكيف بالأنبياء؟. فإن النحاة أعمل بمراد الخليل وسبويه من الأطباء، والأطباء أعلم بمراد أبقراط وجالينوس من النحاة، والفقهاء أعلم بمراد الأئمة الأربعة وغيرهم من الأطباء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 والنحاة، وكل من هذه الطوائف يعلم بالاضطرار من مراد أئمة الفن ما لا يعلمه غيرهم، فضلاً عن أن يعلمه علماً ضرورياً أو نظرياً. وإذا كان كذلك فمن له اختصاص بالرسول، ومزيد علم بأقواله وأفعاله ومقاصده، يعلم بالاضطرار من مراده ما لا يعلمه غيره، فإذا جوز لمن يحصل له هذا العلم الضروري أن يقوم عنده قاطع عقلي ينفي ما علمه هؤلاء بالاضطراب لزم ثبوت المعارضة بين العلوم النظرية والضرورية، وأنه يقدم فيها النظرية، ومعلوم أن هذا فاسد. فتبين أن قول هؤلاء يستلزم من تناقضهم وفساد مذاهبهم وتكذيب الرسل ما يستلزم من الكفر والجهل، وأنه يستلزم تقديم النظريات علي الضروريات، وذلك يستلزم السفسطة التي ترفع العلوم الضرورية والنظرية. الخامس الخامس: أن الدليل المشروط بعدم المعارض لا يكون قطعياً، لأن القطعي لا يعارضه ما يدل علي نقيضه، فلا يكون العقل دالاً علي صحة شيء مما جاء به السمع، بل غاية الأمر: أن يظن الصدق فيما أخبر به الرسول. وحينئذ فقولك: إنه تعارض العقل والنقل قول باطل، لأن العقل عندك قطعي، والشرع ظني ن ومعلوم أنه لا تعارض بين القطعي والظني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فإن قيل: نحن جازمون بصدق الرسول فيما أخبربه، وأنه لا يخبر إلا بحق ن لكن إذا احتج علي خلاف ما اعتقدناه بشيء مما نقل عن الرسول يقبل هذه المعارضة للقدح: إما في الإسناد وإما في المتن: إما أن نقول: النقل لم يثبت، إن كان مما لم تعلم صحته، كما تنقل أخبار الآحاد وما ينقل عن الأنبياء المتقدمين. وإما في المتن بأن نقول: دلالة اللفظ علي مراد المتكلم غير معلومة، بل مظنونة، إما في محل النزاع، وإما فيما هو أعلم من ذلك، فنحن لا نشك في صدق الرسول، بل في صدق الناقل، أو دلالة المنقول علي مراده. قيل: هذا العذر باطل في هذا المقام لوجوه: أحدها: أن يقال لكم: فإذا علمتم أن الرسول أراد هذا المعني، إما أن تعملوا مراده بالاضطرار، كما يعلم أنه أتي بالتوحيد والصلوات الخمس والمعاد بالاضطرار، وإما بأدلة أخري نظرية، وقد قام عندكم القاطع العقلي علي خلاف ما علمتم أنه أراده، فكيف تصنعون؟ فإن قلتم: نقدم العقل، لزمكم ما ذكر من فساد العقل المصدق للرسول، مع الكفر وتكذيب الرسول. وإن قلتم: نقدم قول الرسول، أفسدتم قولكم المذكور الذي قلتم فيه العقل أصل النقل، فلا يمكن تقديم الفرع علي أصله. وإن قلتم: يمتنع معارضة العقل الصريح بمثل هذا السمع، لأنا علمنا مراد الرسول قطعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 قيل لكم: وهكذا يقول كل من علم مراد الرسول قطعاً: يمتنع أن يقوم دليل عقلي يناقضه، وحينئذ فيبقي الكلام: هل قام سمعي قطعي علي مورد النزاع أم لا؟ ويكون دفعكم للأدلة السمعية بهذا القانون باطلاً متناقضاً. الوجه الثاني: أنه إذا كنتم لا تردون من السمع إلا ما لم تعلموا أن الرسول أرداه، دون ما علمتم أن الرسول أراده، بقي احتجاجكم بكون العقل معارضاً للسمع احتجاجاً باطلاً لا تأثير له. الثالث: أنكم تدعون في مواضع كثيرة أن الرسول جاء بهذا، وأنا نعلم ذلك اضطراراً، ومنازعوكم يدعون قيام القاطع العقلي علي مناقض ذلك كما في المعاد وغيره، فكذلك يقول منازعوكم في العلو والصفات: إنا نعلم اضطرار مجيء الرسول بهذا، بل هذا أقوي، كما بسط في موضع آخر. السادس السادس: أن هذا يعارض بأن يقال: دليل العقل مشروط بعدم معارضة الشرع، لأن العقل ضعيف عاجز، والشبهات تعرض له كثيراً، وهذه المتائه والمحارات التي اضطرب فيها العقلاء لا أثق فيها بعقل يخالف الشرع. ومعلوم أن هذا أولي بالقبول من الأول، بأن يقال ما يقال في: السابع السابع: وهو: أن العقل لا يكون دليلا مستقلاً في تفاصيل الأمور الإلهية واليوم الآخر، فلا أقبل منه ما يدل عليه إن لم يصدقه الشرع ويوافقه، فإن الشرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 قول المعصوم الذي لا يخطئ ولا يكذب، وخبر الصادق الذي لا يقول إلا حقاً، وأما آراء الرجال فكثيرة التهافت والتناقض، فأنا لا أثق برأيي وعقلي في هذه المطالب العالية الإلهية، ولا بخبر هؤلاء المختلفين المتناقضين الذين كل منهم يقول بعقله ما يعلم العقلاء أنه باطل، فما من هؤلاء أحد إلا وقد علمت أنه يقول بعقله ما يعلم أنه باطل، بخلاف الرسل، فإنهم معصومون، فأنا لا أقبل قول هؤلاء إن لم يزك قولهم ذلك المعصوم: خبر الصادق المصدوق. ومعلوم أن هذا الكلام أولي بالصواب، وأليق بأولي الألباب، من معارضة أخبار الرسول، الذي علموا صدقه وأنه لا يقول إلا حقاً، بما يعرض لهم من الآراء والمعقولات، التي هي في الغالب جهليات وضلالات. فإنا في هذا المقام نتكلم معهم بطريق التنزل إليهم، كما نتنزل إلي اليهودي والنصراني في مناظرته، وإن كنا عالمين ببطلان ما يقوله، اتباعاً لقوله تعالي {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] ، وقوله {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت: 46] . وإلا فعلمنا ببطلان ما يعارضون به القرآن والرسول، ويصدون به أهل الإيمان عن سواء السبيل ـ وإن جعلوه من المعقول بالبرهان ـ أعظم من أن يبسط في هذا المكان. وقد تبين بذلك أنه لا يمكن أن يكون تصديق الرسول فيما أخبر به معلقاً بشرط، ولا موقوفاً علي انتفاء مانع، بل لا بد من تصديقه في كل ما أخبر به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 تصديقاً جازماً، كما في أصل الإيمان به، فلو قال الرجل: أنا أؤمن به إن أذن لي أبي أو شيخي، أو: إلا أن ينهاني أبي أو شيخي ـلم يكن مؤمناً به بالاتفاق، وكذلك من قال: أؤمن به إن ظهر لي صدقه، لم يكن بعد قد آمن به، ولو قال: أؤمن به إلا أن يظهر لي كذبه، لم يكن مؤمنا. وحينئذ فلا بد من الجزم بأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل قطعي: لا سمعي ولا عقلي، وأن ما يظنه الناس مخالفاً له إما أن يكون باطلاً، وإما أن يكون مخالفاً، وأما تقدير قول مخالف لقوله وتقديمه عليه: فهذا فاسد في العقل، كما هو كفر في الشرع. ولهذا كان من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه يجب علي الخلق الإيمان بالرسول إيماناً مطلقاً جازماً عاماً: بتصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أوجب وأمر، وأن كل ما عارض ذلك فهو باطل، وأن من قال: يجب تصديق ما أدركته بعقلي، ورد ما جاء به الرسول لرأيي وعقلي، وتقديم عقلي علي ما أخبر به الرسول، مع تصديقي بأن الرسول صادق فيما أخبر به، فهو متناقض، فاسد العقل، ملحد في الشرع. وأما من قال: لا أصدق ما أخبر به حتى أعلمه بعقلي، فكفره ظاهر، وهو ممن قيل فيه {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] ، وقوله تعالى {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون * فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} [غافر: 82-85] . ومن عارض ما جاءت به الرسل برأيه فله نصيب من قوله تعالى {كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب} [غافر: 34] وقوله تعالى {الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} [غافر: 35] وقوله تعالى {الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} [غافر: 56] والسلطان: هو الكتاب المنزل من السماء، فكل من عارض كتاب الله المنزل بغير كتاب الله الذي قد يكون ناسخاً له أو مفسراً له، كان قد جادل في آيات الله بغير سلطان أتاه. ومن هذا قوله تعالى {وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب} [غافر: 5] ، وقوله تعالى {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا} [الكهف: 56] وأمثال ذلك مما في كتاب الله تعالي مما يذم به الذين عارضوا رسل الله وكتبه بما عندهم من الرأي والكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 والبدع مشتقة من الكفر، فمن عارض الكتاب والسنة بآراء الرجال كان قوله مشتقاً من أقوال هؤلاء الضلال، كما قال مالك: أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلي محمد صلي الله عليه وسلم لجدل هذا؟ فإن قيل: هذا الوجه غايته أنه لا تصح معارضة الشرع بالعقل، ولكن إذا طعن في العقل لم يبق لنا دليل علي صحة الشرع. قيل: المقصود في هذا المقام أنه يمتنع تقديم العقل علي الشرع، وهو المطلوب. وأما ثبوت الشرع في نفسه وعلمنا به، فليس هذا مقام إثباته، ونحن لم ندع أن أدلة العقل باطلة، ولا أن ما به يعلم صحة السمع باطل، ولكن ذكرنا أنه يمتنع معارضة الشرع بالعقل وتقدميه عليه، وأن من قال ذلك تناقض قوله، ولزمه أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، إذ كان عنده العقل يستلزم صحة ما هو باطل في نفسه، فلا بد أن يضطره الأمر إلي أن يقول: ما عارضه الدليل العقلي فليس هو عندي دليلا في نفس الأمر، به هو باطل، فيقال له: وهكذا ما عارضه الدليل السمعي فليس هو دليلاً في نفس الأمر، بل هو باطل، وحينئذ فيرجع الأمر إلي أن ينظر في دلالة الدليل، سواء كان سمعيا أو عقلياً، فإن كان دليلاً قطعياً لم يجز أن يعارضه شيء، وهذا هو الحق. وأيضاً، فقد ذكرنا أن مسمي الدليل العقلي ـ عند من يطلق هذا اللفظ ـ جنس تحته أنواع، فمنها ما هو حق ومنها ما هو باطل باتفاق العقلاء، فإن الناس متفقون علي أن كثيراً من الناس يدخلون في مسمي هذا الاسم ما هو حق وباطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وإذا كان كذلك فالأدلة العقلية الدالة علي صدق الرسول إذا عارضها ما يقال إنه دليل عقلي يناقض خبره المعين، ويناقض مادل علي صدقه مطلقاً، لزم أن يكون أحد نوعي ما يسمي دليلاً عقلياً باطلاً: وتمام هذا بأن يقال: الوجه الحادي عشر. كثير مما يسمي دليلاً ليس بدليل الوجه الحادي عشر. كثير مما يسمي دليلاً ليس بدليل أن ما يسميه الناس دليلاً من العقليات والسمعيات ليس كثير منه دليلاً، وإنما يظنه الظان دليلاً. وهذ متفق عليه بين العقلاء، فإنهم متفقون علي أن ما يسمي دليلاً من العقليات والسمعيات قد لا يكون دليلاً في نفس الأمر. فنقول: أما المتبعون للكتاب والسنة ـ من الصحابة والتابعين وتابعيهم ـ فهم متفقون علي دلالة ما جاء به الشرع في باب الإيمان بالله تعالي وأسمائه وصفاته واليوم الآخر وما يتبع ذلك، لم يتنازعوا في دلالته علي ذلك، والمتنازعون في ذلك بعدهم لم يتنازعوا في أن السمع يدل علي ذلك، وإنما تنازعوا: هل عارضه من العقل ما يدفع موجبه؟ وإلا فكلهم متفقون علي أن الكتاب والسنة مثبتان للأسماء والصفات، مثبتان لما جاءا به من أحوال الرسالة والمعاد. والمنازعون لأهل الإثبات من نفاة الأفعال والصفات لا ينازعون في أن النصوص السمعية تدل علي الإثبات، وأنه ليس في السمع دليل ظاهر علي النفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 فقد اتفق الناس علي دلالة السمع علي الإثبات، وإن تنازعوا في الدلالة: هل هي قطعية أو ظنية؟ . وأما المعارضون لذلك من أهل الكلام والفلسفة فلم يتفقوا علي دليل واحد من العقليات، بل كل طائفة تقول في أدلة خصومها: إن العقل يدل علي فسادها، لا علي صحتها، فالمثبتة للصفات يقولون: إنه يعلم بالعقل فساد قول النفاة، كما يقول النفاة: إنه يعلم بالعقل فساد قول المثبتة. ومثبتة الرؤية يقولون: إنه يعلم بالعقل إمكان ذلك، كما تقول النفاة: إنه يعلم بالعقل امتناع ذلك. والمتنازعون في الأفعال هل تقوم به؟ يقولون: إنه علم بالعقل قيام الأفعال به، وإن الخلق والإبداع والتأثير أمر وجودي قائم بالخالق المبدع الفاعل. ثم كثير من هؤلاء يقولون: إن التسلسل إنما هو ممتنع في العلل، لا في الآثار والشروط، وخصومهم يقولون: ليس الخلق إلا المخلوق، وليس الفعل إلا المفعول، وليس الإبداع والخلق شيئاً غير نفس الفعل ونفس المفعول المنفصل عنه، وإن ذلك معلوم بالعقل، لئلا يلزم التسلسل. وكذلك القول في العقليات المحضة كمسألة الجوهر الفرد، وتماثل الأجسام، وبقاء الأعراض، ودوام الحوادث في الماضي أو المستقبل أو غير ذلك، كل هذه مسائل عقلية قد تنازع فيها العقلاء، وهذا باب واسع، فأهل العقليات من أهل النفي والإثبات كل منهم يدعي أن العقل دل علي قوله المناقض لقول الآخر، وأما السمع فدلالته متفق عليها بين العقلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وإذا كان كذلك قيل: السمع دلالته معلومة متفق عليها، وما يقال إنه معارض لها من العقل ليست دلالته معلومة متفقاً عليها، بل فيها نزاع كثير، فلا يجوز أن يعارض ما دلالته معلومة باتفاق العقلاء، بما دلالته المعارضة له متنازع فيها بين العقلاء. واعلم أن أهل الحق لا يطعنون في جنس الأدلة العقلية، ولا فيما علم العقل صحته، وإنما يطعنون فيما يدعي المعارض أنه يخالف الكتاب والسنة. وليس في ذلك ـ ولله الحمد ـ دليل صحيح في نفس الأمر، ولا دليل مقبول عند عامة العقلاء، ولا دليل لم يقدح فيه بالعقل. وحينئذ فنقول في: الوجه الثاني عشر. كل ما عارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده الوجه الثاني عشر. كل ما عارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده إن كل ما عارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده، وإن لم يعارض العقل، وما علم فساده بالعقل لا يجوز أن يعارض به لا عقل ولا شرع. وهذه الجملة تفصيلها هو الكلام علي حجج المخالفين للسنة من أهل البدع بأن نبين بالعقل فساد تلك الحجج وتناقضها، وهذا ـ ولله الحمد ـ مازال الناس يوضحونه، ومن تأمل ذلك وجد في المعقول مما يعلم به فساد المعقول المخالف للشرع ما لا يعلمه إلا الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الوجه الثالث عشر. الأمور السمعية التي يقال إن العقل عارضها معلومة من الدين بالضرورة الوجه الثالث عشر. الأمور السمعية التي يقال إن العقل عارضها معلومة من الدين بالضرورة أن يقال: الأمور السمعية التي يقال: إن العقل عارضها كإثبات الصفات والمعاد ونحو ذلك، هي مما علم بالاضطرار أن الرسول صلي الله عليه وسلم جاء بها، وما كان معلوما بالاضطرار من دين الإسلام امتنع أن يكون باطلاً، مع كون الرسول رسول الله حقاً، فمن قدح في ذلك وادعي أن الرسول لم يجيء به، كان قوله معلوم الفساد بالضرورة من دين المسلمين. العلم بمقاصد الرسول علم ضروري يقيني. الوجه الرابع عشر العلم بمقاصد الرسول علم ضروري يقيني. الوجه الرابع عشر أن يقال: إن أهل العناية بعلم الرسول، العلمين بالقرآن، وتفسير الرسول صلي الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين لهم بإحسان، والعلمين بأخبار الرسول والصحابة والتابعين لهم بإحسان، عندهم من العلوم الضرورية بمقاصد الرسول ومراده ما لا يمكنهم دفعه عن قلوبهم، ولهذا كانوا كلهم متفقين علي ذلك من غير تواطؤ ولا تشاعر، كما اتفق أهل الإسلام علي نقل حروف القرآن، ونقل الصلوات الخمس والقبلة، وصيام شهر رمضان، وإذا كانوا قد نقلوا مقاصده ومراده عنه بالتواتر، كان ذلك كنقلهم حروفه وألفاظه بالتواتر. ومعلوم أن النقل المتواتر يفيد العلم اليقيني، سواء كان التواتر لفظياً أو معنوياً، كتواتر شجاعة خالد وشعر حسان وتحديث أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم، وفقه الأئمة الأربعة، وعدل العمرين، ومغازي النبي صلي الله عليه وسلم مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 المشركين وقتاله أهل الكتاب، وعدل كسري، وطب جالينوس، ونحو سيبويه، يبين هذا أن أهل العلم والإيمان يعلمون من مراد الله ورسوله بكلامه أعظم مما يعلمه الأطباء من كلام جالينوس، والنحاة من كلام سيبويه، فإذا كان من ادعي في كلام سيبونه وجالينوس ونحوهما ما يخالف ما عليه أهل العلم بالطب والنحو والحساب من كلامهم كان قوله معلوم البطلان، فمن ادعي في كلام الله ورسوله خلاف ما عليه أهل الإيمان كان قوله أظهر بطلاناً وفساداً، لأن هذا معصوم محفوظ. وجماع هذا: أن يعلم أن المنقول عن الرسول صلي الله عليه وسلم شيئان: ألفاظه وأفعاله، ومعاني ألفاظه ومقاصده بأفعاله، وكلاهما منه ما هو متواتر عند العامة والخاصة، ومنه ما هو متواتر عند الخاصة، ومنه ما يختص بعلمه بعض الناس، وإن كان عند غيره مجهولاً أو مظنوناً مكذوباً، وأهل العلم بأقواله كأهل العلم بالحديث والتفسير المنقول والمغازي والفقه يتواتر عندهم من ذلك ما لا يتواتر عند غيرهم ممن لم يشركهم في علمهم، وكذلك أهل العلم بمعاني القرآن والحديث والفقه في ذلك يتواتر عندهم من ذلك ما لا يتواتر عند غيرهم من معاني الأقوال والأفعال المأخوذة عن الرسول، كما يتواتر عند النحاة من أقوال الخليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وسيبويه والكسائي والفراء وغيرهم ما لا يعلمه غيرهم، ويتواتر عند الأطباء من معاني أقوال أبقراط وجالينوس وغيرهما ما لا يتواتر عن غيرهم، ويتواتر عند كل أحد من أصحاب مالك والشافعي والثوري والأوزعي وأحمد وأبي داود وأبي ثور وغيرهم من مذاهب هؤلاء الأئمة ما لا يعلمه غيرهم، ويتواتر عند أتباع رؤوس أهل الكلام والفلسفة من أقوالهم ما لا يعلمه غيرهم، ويتواتر عند أهل العلم بنقله الحديث من أقوال شعبة ويحيى بن سعيد وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وأبي زرعة وأبي حاتم والبخاري وأمثالهم في الجرح والتعديل ما لا يعلمه غيرهم، بحيث يعلمون بالاضطرار اتفاقهم علي تعديل مالك والثوري وشعبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وحماد بن زيد والليث بن سعد وغير هؤلاء، وعلى تكذيب محمد بن سعيد المصلوب وأبي البختري وهب بن وهب القاضي وأحمد بن عبد الله الجويباري وأمثالهم الدليل الشرعي لا يقابل بكونه عقلياً وإنما بكونه بدعياً. الوجه الخامس عشر الدليل الشرعي لا يقابل بكونه عقلياً وإنما بكونه بدعياً. الوجه الخامس عشر أن يقال: كون الدليل عقلياً أو سمعياً ليس هو صفة تقتضي مدحاً ولا ذماً ولا صحة ولا فساداً، بل ذلك يبين الطريق الذي به علم، وهو السمع أو العقل، وإن كان السمع لا بد معه من العقل، وكذلك كونه عقلياً أو نقلياً، وأما كونه شرعياً فلا يقابل بكونه عقلياً، وإنما يقابل بكونه بدعياً، إذ البدعة تقابل الشرعة، وكونه شرعياً صفة مدح، وكونه بدعياً صفة ذم، وما خالف الشريعة فهو باطل. ثم الشرعي قد يكون سمعياً وقد يكون عقلياً، فإن كون الدليل شرعياً يراد به كون الشرع أثبته ودل عليه، ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه، فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع، فإما أن يكون معلوماً بالعقل أيضاً، ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه، فيكون شرعياً عقلياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وهذا كالأدلة التي نبه الله تعالي عليها في كتابه العزيز، من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة علي توحيده وصدق رسله، وإثبات صفاته وعلي المعاد، فتلك كلها أدلة عقلية يعلم صحتها بالعقل، وهي براهين ومقاييس عقلية، وهي مع ذلك شرعية. وإما أن يكون الدليل الشرعي لا يعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإنه إذا أخبر بما لا يعلم إلا بخبره كان ذلك شرعياً سمعياً. وكثير من أهل الكلام يظن أن الأدلة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط، وأن الكتاب والسنة لا يدلان إلا من هذا الوجه، ولهذا يجعلون أصول الدين نوعين: العقليات، والسمعيات، ويجعلون القسم الأول مما لا يعلم بالكتاب والسنة. وهذا غلط منهم، بل القرآن دل علي الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها، وإن كان من الأدلة العقلية ما يعلم بالعيان ولوازمه، كما قال تعالى {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} [فصلت: 53] . وأما إذا أريد بالشرعي ما أباحه الشرع وأذن فيه، فيدخل في ذلك ما أخبر به الصادق، وما دل عليه ونبه عليه القرآن، وما دلت عليه وشهدت به الموجودات. والشارع يحرم الدليل لكونه كذباً في نفسه، مثل أن تكون إحدي مقدماته باطلة، فإنه كذب، والله يحرم الكذب، لاسيما عليه، كقوله تعالى {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه} [الأعراف: 169] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ويحرمه لكون المتكلم به بلا علم، كما قال تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36] ، وقوله تعالي {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] ، وقوله {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} آل عمران: 66] . ويحرمه لكونه جدالاً في الحق بعد ما تبين، كقوله تعالى {يجادلونك في الحق بعد ما تبين} الأنفال: 6] ، وقوله تعالى {ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق} [الكهف: 56] . وحينئذ فالدليل الشرعي لا يجوز أن يعارضه دليل غير شرعي، ويكون مقدماً عليه، بل هذا بمنزلة من يقول: إن البدعة التي لم يشرعها الله تعالي تكون مقدمة علي الشرعة التي أمر الله بها، أو يقول: الكذب مقدم علي الصدق، أو يقول، خبر غير النبي صلي الله عليه وسلم يكون مقدما علي خبر النبي، أو يقول: ما نهي الله عنه يكون خيراً مما أمر الله به، ونحو ذلك، وهذا كله ممتنع. وأما الدليل الذي يكون عقلياً أو سمعيا من غير أن يكون شرعيا، فقد يكون راجحا تارة ومرجوحا أخري، كما أنه قد يكون دليلا صحيحا تارة، ويكون شبهة فاسدة أخري، فما جاءت به الرسل عن الله تعالي إخباراً أو أمراً لا يجوز أن يعارض بشيء من الأشياء، وأما ما يقوله الناس فقد يعارض بنظيره، إذ قد يكون حقا تارة وباطلاً أخري، وهذا مما لا ريب فيه لكن من الناس من يدخل في الأدلة الشريعة ما ليس منها، كما أن منهم من يخرج منها ما هو داخل فيها، والكلام هنا علي جنس الأدلة، لا علي أعيانها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 المعارضون ينتهون إلي التأويل أو التفويض وهما باطلان. الوجه السادس عشر المعارضون ينتهون إلي التأويل أو التفويض وهما باطلان. الوجه السادس عشر أن يقال: غاية ما ينتهي إليه هؤلاء المعارضون لكلام الله ورسوله بآرائهم، من المشهورين بالإسلام، هو التأويل أو التفويض، فأما الذي ينتهون إلي أن يقولوا الأنبياء أوهموا وخيلوا ما لا حقيقة له في نفس الأمر، فهؤلاء معروفون عند المسلمين بالإلحاد والزندقة. والتأويل المقبول: هو ما دل علي مراد المتكلم، والتأويلات التي يذكرونها لا يعلم أن الرسول أرادها، بل يعلم بالاضطرار في عامة النصوص أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول، كما يعلم مثل ذلك في تأويلات القرامطة والباطنية من غير أن يحتاج ذلك إلي دليل خاص. وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم كان تأويله للفظ بما يحتمله من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب، هو من باب التحريف والإلحاد، لا من باب التفسير وبيان المراد. وأما التفويض: فإن من المعلوم أن الله تعالي أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضنا علي عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وأيضاً، فالخطاب الذي أريد به هدانا والبيان لنا، وإخراجنا من الظلمات إلي النور، إذا كان ما ذكر فيه من النصوص ظاهره باطل وكفر، ولم يرد منا أن نعرف لا ظاهره ولا باطنه، أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك، فعلي التقديرين لم نخاطب بما بين فيه الحق، ولا عرفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل وكفر. وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا: أنه لم يبين الحق، ولا أوضحه، مع أمره لنا أن نعتقده، وأن ما خاطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبين به الحق ولا كشفه، بل دل ظاهره علي الكفر والباطل، وأراد منا أن نفهم منه شيئاً، أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه. وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه، وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد. وبهذا احتج الملاحدة، كابن سينا وغيره، علي مثبتي المعاد، وقالوا: القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص التشبيه والتجسيم، وزعموا أن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يبين ما الأمر عليه في نفسه، لا في العلم بالله تعالي ولا باليوم الآخر، فكان الذي استطالوا به علي هؤلاء هو موافقتهم لهم علي نفي الصفات، وإلا فلو آمنوا بالكتاب كله حق الإيمان لبطلت معارضتهم ودحضت حجتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ولهذا كان أبن النفيس المتطبب الفاضل يقول: ليس إلا مذهبان: مذهب أهل الحديث، أو مذهب الفلاسفة، فأما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف، يعين أن أهل الحديث أثبتوا كل ما جاء به الرسل، وأولئك جعلوا الجميع تخيلا وتوهيماً. ومعلوم بالأدلة الكثيرة السمعية والعقلية فساد مذهب هؤلاء الملاحدة، فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة. ثم إن ابن سينا وأمثاله من الباطنية المتفلسفة والقرامطة يقولون: إنه أراد من المخاطبين أن يفهموا الأمر علي خلاف ما هو عليه، وأن يعتقدوا ما لا حقيقة له في الخارج، لما في هذا التخييل والاعتقاد الفاسد لهم من المصلحة. والجهمية والمعتزلة وأمثالهم يقولون: إنه أراد أن يعتقدوا الحق علي ما هو عليه، مع علمهم بأنه لم يبين في الكتاب والسنة، بل النصوص تدل علي نقيض ذلك، فأولئك يقولون: أراد منهم اعتقاد الباطل وأمرهم به، وهؤلاء يقولون: أراد اعتقاد ما لم يدلهم إلا علي نقيضه. والمؤمن يعلم بالاضطرار أن كلا القولين باطل، ولا بد للنفاة أهل التأويل من هذا أو هذا: وإذا كان كلاهما باطلاً كان تأويل النفاة للنصوص باطلاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 فيكون نقيضه حقاً، وهو إقرار الأدلة الشرعية علي مدلولاتها، ومن خرج عن ذلك لزمه من الفساد ما لا يقوله إلا أهل الإلحاد. وما ذكرناه من لوازم قول التفويض: هو لازم لقولهم الظاهر المعروف بينهم، إذ قالوا: إن الرسول كان يعلم معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة، ولكن لم يبين للناس مراده بها، ولا أوضحه إيضاحاً يقطع به النزاع. وأما علي قول أكابرهم: إن معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة لا يعلمه إلا الله، وأن معناها الذي أراده الله بها هو ما يوجب صرفها عن ظواهرها ـفعلي قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه، لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه، وكذلك نصوص المثبتين للقدر عند طائفة، والنصوص المثبتة للأمر والنهي والوعد والوعيد عند طائفة، والنصوص المثبتة للمعاد عند طائفة. ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء، إذ كان الله أنزل القرآن، وأخبر أنه جعله هدي وبياناً للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه ـوهو ما أخبر به الرب عن صفاته، أو عن كونه خالقاً لكل شيء، وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمر ونهي، ووعد وتوعد، أو عما أخبر به عن اليوم الآخر ـ لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وعلي هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة لا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به. فيبقي هذا الكلام سداً لباب الهدي والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدي والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء، لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون: فضلاً عن أن يبينوا مرادهم. فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد. فإن قيل: أنتم تعلمون أن كثيراً من السلف رأوا أن الوقف عند قوله {وما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران: 6] ، بل كثير من الناس يقول: هذا هو قول السلف، ونقلوا هذا القول عن أبي بن كعب وابن مسعود وعائشة وابن عباس وعروة بن الزبير وغير واحد من السلف والخلف، وإن كان القول الآخر ـوهو أن السلف يعلمون تأويله ـ منقولاً عن ابن عباس أيضاً، وهو قول مجاهد ومحمد بن جعفر وابن إسحاق وابن قتيبة وغيرهم، وما ذكرتموه قدح في أولئك السلف وأتباعهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 قيل: ليس الأمر كذلك، فإن أولئك السلف الذين قالوا: لا يعلم تأويله إلا الله كانوا يتكلمون بلغتهم المعروفة بينهم، ولم يكن لفظ التأويل عندهم يراد به معني التأويل الاصطلاحي الخاص، وهو صرف اللفظ عن المعني المدلول عليه المفهوم منه إلي معني يخالف ذلك، فإن تسمية هذا المعني وحده تأويلا إنما هو اصطلاح طائفة من المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم، ليس هو عرف السلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، لاسيما ومن يقول إن لفظ التأويل هذا معناه يقول: إنه يحمل اللفظ علي المعني المرجوح لدليل يقترن به، وهؤلاء يقولون: هذا المعني المرجوح لا يعلمه أحد من الخلق، والمعني الراجح لم يرده الله. وإنما كان لفظ التأويل في عرف السلف يراد به ما أراده الله بلفظ التأويل في مثل قوله تعالي {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق} [الأعراف: 53] ، وقال تعالي {ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء: 59] ، وقال يوسف {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل} [يوسف: 100] ، وقال يعقوب له {ويعلمك من تأويل الأحاديث} [يوسف: 6] ، {وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله} [يوسف: 45] ، وقال يوسف {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} [يوسف: 37] . فتأويل الكلام الطلبي: الأمر والنهي، وهو نفس فعل المأمور به وترك المنهي عنه، كما قال سفيان بن عيينة: السنة تأويل الأمر والنهي، و «قالت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 عائشة: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم في يقول ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن» ، وقيل لعروة بن الزبير: فما بال عائشة كانت تصلي في السفر أربعاً؟ قال: تأولت كما تأول عثمان ونظائره متعددة. وأما تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر عنها، وذلك في حق الله: هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره، ولهذا قال مالك وربيعة وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. وكذلك قال ابن الماجوشون وأحمد بن حنبل وغيرهما من السلف يقولون: إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وإن علمنا تفسيره ومعناه. ولهذا رد أحمد بن حنبل علي الجهمية والزنادقة فيما طعنوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه علي غير تأويله، فرد علي من حمله علي غير ما أريد به، وفسر هو جميع الآيات المتشابهة، وبين المراد بها. وكذلك الصحابة والتابعون فسروا جميع القرآن، وكانوا يقولون: إن العلماء يعلمون تفسيره وما أريد به، وإن لم يعلموا كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 لا يعلمون كيفية الغيب، فإن ما أعده الله لأوليائه من النعيم لا عين رأته، ولا أذن سمعته، ولا خطر علي قلب بشر، فذاك الذي أخبر به لا يعلمه إلا الله، فمن قال من السلف إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله بهذا المعني، فهذا حق. وأما من قال: إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد به لا يعلمه إلا الله، فهذا ينازعه فيه عامة الصحابة والتابعين الذين فسروا القرآن كله، وقالوا: إنهم يعلمون معناه. كما قال مجاهد: عرضت المصحف علي ابن عباس من فاتحته إلي خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها. وقال ابن مسعود: ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم فيم أنزلت. وقال الحسن البصري: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم ما أراد بها. ولهذا كانوا يجعلون القرآن يحيط بكل ما يطلب من علم الدين، كما قال مسروق: ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن، ولكن علمنا قصر عنه وقال الشعبي: ما ابتدع قوم بدعة إلا في كتاب الله بيانها. وأمثال ذلك من الآثار الكثيرة المذكورة بالأسانيد الثابتة، مما ليس هذا موضع بسطه. العقليات المبتدعة بنيت علي أقوال مشتبهة مجملة تشتمل علي حق وباطل. الوجه السابع عشر العقليات المبتدعة بنيت علي أقوال مشتبهة مجملة تشتمل علي حق وباطل. الوجه السابع عشر أن يقال: الذين يعارضون الكتاب والسنة بما يسمونه عقليات: من الكلاميات والفلسفيات ونحو ذلك، إنما يبنون أمرهم في ذلك علي أقوال مشتبهة مجملة، تحتمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 معاني متعددة، ويكون ما فيها من الاشتباه لفظاً ومعني يوجب تناولها لحق وباطل، فبما فيها من الحق يقبل ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس، ثم يعارضون بما فيها من الباطل ونصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا، وهو منشأ البدع، فإن البدعة لو كانت باطلا محضاً لظهرت وبانت، وما قبلت، ولو كانت حقا محضا، لا شوب فيه، لكانت موافقة للسنة، فإن السنة لا تناقض حقاً محضاً لا باطل فيه، ولكن البدعة تشتمل علي حق وباطل وقد بسطنا الكلام علي هذا في غير هذا الموضع. ولهذا قال تعالي فيما يخاطب به أهل الكتاب علي لسان محمد صلي الله عليه وسلم {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون * وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون * ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} [البقرة: 40-42] ، فنهاهم عن لبس الحق بالباطل وكتمانه. ولبسه به: خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر، كما قال تعالى {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون} [الأنعام: 9] . ومنه التلبيس، وهو التدليس، وهو الغش، لأن المغشوش من النحاس تلبسه فضة تخالطه وتغطيه، كذلك إذا لبس الحق بالباطل يكون قد أظهر الباطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 في صورة الحق، فالظاهر حق، والباطن باطل، ثم قال تعالى {وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} [البقرة: 42] . وهنا قولان. قيل: إنه نهاهم عن مجموع الفعلين، وإن الواو واو الجمع التي يسميها نحاة الكوفة واو الصرف، كما في قولهم لاتأكل السمك وتشرب اللبن كما قال تعالى: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} [آل عمران: 142] علي قراءة النصب، وكما في قوله تعالى {أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير * ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص} [الشورى: 34-35] علي قراءة النصب، وعلي هذا فيكون الفعل الثاني في قوله {وتكتموا الحق} منصوباً، والأول مجزوماً. وقيل: بل الواو هي الواو العاطفة المشركة بين المعطوف والمعطوف عليه، فيكون قد نهي عن الفعلين من غير اشتراط اجتماعهما، كما إذا قيل: لا تكفر وتسرق وتزن. وهذا هو الصواب، كما في قوله تعالي {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} [آل عمران: 71] ولو ذمهم علي الاجتماع لقال: وتكتموا الحق بلا نون وتلك الآية نظير هذه. ومثل هذا الكلام إذا أريد به النهي عن كل من الفعلين فإنه قد يعاد فيه حرف النفي، كما تقول: لا تكفر، ولا تسرق، ولا تزن. ومنه قوله تعالي {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وأما إذا لم يعد حرف النفي فيكون لارتباط أحد الفعلين بالآخر، مثل أن يكون أحدهما مستلزماً للآخر، كما قيل: لا تكفر بالله وتكذب أنبياءه، ونحو ذلك. وما يكون اقترانهما ممكناً لا محذور فيه، لكن النهي عن الجميع فهو قليل في الكلام. ولذلك قل ما يكون فيه الفعل الثاني منصوباً، والغالب علي الكلام جزم الفعلين. وهذا مما يبين أن الراجح في قوله: (وتلبسوا) أن تكون الواو واو العطف، والفعل مجزوماً، ولم يعد حرف النفي لأن أحد الفعلين مرتبط بالآخر مستلزم له، فالنهي عن الملزوم ـ وإن كان يتضمن النهي عن اللازم ـفقد يظن أنه ليس مقصوداً للنهي، وإنما هو واقع بطريق اللزوم العقلي. ولهذا تنازع الناس في الأمر بالشيء: هل يكون أمراً بلوازمه؟ وهل يكون نهياً عن ضده؟ مع اتفاقهم علي أن فعل المأمور لا يكون إلا مع فعل لوازمه وترك ضده. ومنشأ النزاع: أن الآمر بالفعل قد لا يكون مقصوده اللوازم ولا ترك الضد، ولهذا إذا عاقب المكلف لا يعاقبه إلا علي ترك المأمور فقط، لا يعاقبه علي ترك لوازمه وفعل ضده. وهذه المسألة هي الملقبة بأن: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد غلط فيها بعض الناس، فقسموا ذلك إلي ما لا يقدر المكلف عليه كالصحة في الأعضاء والعدد في الجمعة، ونحو ذلك مما لا يكون قادراً علي تحصيله، وإلي ما يقدر عليه كقطع المسافة إلي الحج، وغسل جزء من الرأس في الوضوء، وإمساك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 جزء من الليل في الصيام، ونحو ذلك، فقالوا: ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب. وهذا التقسيم خطأ، فإن هذه الأمور التي ذكروها هي شرط في الوجوب، فلا يتم الوجوب إلا بها، وما لا يتم الوجوب إلا به لا يجب علي العبد فعله باتفاق المسلمين، سواء كان مقدوراً عليه أو لا، كالاستطاعة في الحج واكتساب نصاب الزكاة، فإن العبد إذا كان مستطيعاً للحج وجب عليه الحج، وإذا كان مالكاً لنصاب الزكاة وجبت عليه الزكاة، فالوجوب لا يتم إلا بذلك، فلا يجب عليه تحصيل استطاعة الحج، ولا ملك النصاب. ولهذا من يقول: إن الاستطاعة في الحج ملك المال، كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، فلا يوجبون عليه اكتساب المال، ولم يتنازعوا إلا فيما إذا بذلت له الاستطاعة: إما بذل الحج، وإما بذل المال له من ولده، وفيه نزاع معروف في مذهب الشافعي وأحمد، ولكن المشهور من مذهب أحمد عدم الوجوب، وإنما أوجبه طائفة من أصحابه، لكون الأب له علي أصله أن يتملك مال ولده، فيكون قبوله كتملك المباحات، والمخالفون لهؤلاء من أصحابه لا يوجبون عليه اكتساب المباحات، والمشهور من مذهب الشافعي الوجوب ببذل الابن الفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 والمقصود هنا الفرق بين ما لا يتم الوجوب إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به، وأن الكلام في القسم الثاني، فما لا يتم الواجب إلا به كقطع المسافة في الجمعة والحج ونحو ذلك، فعلي المكلف فعله باتفاق المسلمين. لكن من ترك الحج وهو بعيد الدار عن مكة، أو ترك الجمعة وهو بعيد الدار عن الجامع فقد ترك أكثر مما ترك قريب الدار، ومع هذا فلا يقال: إن عقوبة هذا أعظم من عقوبة قريب الدار، والواجب ما يكون تركه سبباً للذم والعقاب، فلو كان هذا الذي لزم فعله بطريق التبع مقصوداً بالوجوب لكان الذم والعقاب لتاركه أعظم، فيكون من ترك الحج من أهل الهند والأندلس أعظم عقاباً ممن تركه من أهل مكة والطائف، ومن ترك الجمعة من أقصي المدينة أعظم عقاباً ممن تركها من جيران المسجد الجامع. فلما كان من المعلوم أن ثواب البعيد أعظم، وعقابه إذا ترك ليس أعظم من عقاب القريب، نشأت من ههنا الشبهة: هل هو واجب أو ليس بواجب؟ والتحقيق: أن وجوبه بطريق اللزوم العقلي، لا بطريق قصد الآمر، بل بالفعل قد لا يقصد طلب لوازمه وإن كان عالماً بأنه لا بد من وجودها، وإن كان ممن يجوز عليه الغفلة فقد لا تخطر بقلبه اللوازم. ومن فهم هذا انحلت عنه شبهة الكعبي: هل في الشريعة مباح أم لا؟ فإن الكعبي زعم أنه لا مباح في الشريعة، لأنه ما من فعل يفعله العبد من المباحات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 إلا وهو مشتغل به عن محرم، والنهي عن المحرم أمر بأحد أضداده، فيكون من فعله من الباحات هو من أضداد المحرم المأمور بها. وجوابه أن يقال: النهي عن الفعل ليس أمراً بضد معين، لا بطريق القصد ولا بطريق اللزوم، بل هو نهي عن الفعل المقصود تركه بطريق القصد، وذلك يستلزم الأمر بالقدر المشترك بين الأضداد، فهو أمر بمعني مطلق كلي، والأمر بالمعني المطلق الكلي ليس أمراً بمعين بخصوصه، ولا نهياً ننه، بل لا يمكن فعل المطلق إلا بمعين، أي معين كان، فهو أمر بالقدر المشترك بين المعينات، فما امتاز به معين عن معين فالخيرة فيه إلي المأمور، لم يؤمر به ولم ينه عنه، وما أشتركت فيه المعنيات ـ وهو القدر المشترك ـ فهو الذي أمر به الآمر. وهذا يحل الشبهة في مسألة المأمور المخير، والأمر بالماهية الكلية: هل يكون أمراً بشيء من جزئياتها أم لا؟ فالمخير هو الذي يكون أمر بخصلة من خصال معينة، كما في فدية الأذى وكفارة اليمين، كقوله تعالى {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196] ، وقوله تعالى {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} [المائدة: 89] فهنا اتفق المسلمون علي أنه إذا فعل واحد منها برئت ذمته، وأنه إذا ترك الجميع لم يعاقب علي ترك الثلاثة، كما يعاقب إذا وجب عليه أن يفعل الثلاثة كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وكذلك اتفق العقلاء المعتبرون علي أن الواجب ليس معيناً في نفس الأمر، وأن الله لم يوجب عليه ما علم أنه سيفعله، وإنما يقول هذا بعض الغالطين، ويحكيه طائفة عن طائفة غلطاً عليهم، بل أوجب عليه أن يفعل هذا أو هذا، وهو كما قال أبن عباس: كل شيء في القرآن أو ....... أو فهو علي التخيير، وكل شيء في القرآن فمن لم يجد فهو علي الترتيب، والله يعلم أن العبد يفعل واحدا بعينه مع علمه أنه لم يوجبه عليه بخصوصه. ثم اضطراب الناس هنا: هل الواجب الثلاثة، فلا يكون هناك فرق بين المعين وبين المخير، أو الواجب واحد لا بعينه، فيكون المأمور به مبهماً غير معلوم للمأمور؟ ولا بد في الأمر من تمكن المأمور من العلم بالمأمور به والعمل به، والقول بأيجاب الثلاثة يحكي عن المعنزلة، والقول بإيجاب واحد لا بعينه هو قول الفقهاء. وحقيقة الأمر: أن الواجب هو القدر المشترك بين الثلاثة، وهو مسمي أحدها. فالواجب أحد الثلاثة، وهذا معلوم متميز معروف للمأمور، وهذا المسمي يوجد في هذا المعين وهذا المعين وهذا المعين، فلم يجب واحد بعينه غير معين، بل وجب أحد المعينات، والامتثال يحصل بواحد منها وإن لم يعينه الآمر. والمتناقض هو أن يوجب معينا ولا يعينه، أما إذا كان الواجب غير معين بل هو القدر المشترك، فلا منافاة بين الإيجاب وترك التعيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وهذا يظهر بالواجب المطلق، وهو الأمر بالماهية الكلية، كالأمر بإعتاق رقبة، فإن الواجب رقبة مطلقة، والمطلق لا يوجد إلا معيناً، لكن لا يكون معيناً في العلم والقصد، فالآمر لم يقصد واحداً بعينه، مع علمه بأنه لا يوجد إلا معيناً، وأن المطلق الكلي عند الناس وجوده في الأذهان لا في الأعيان، فما هو مطلق كلي في أذهان الناس لا يوجد إلا معيناً مشخصاً متميزاً في الأعيان، وإنما سمي كليا لكونه في الذهن كلياً، وأما في الخارج فلا يكون في الخارج ما هو كلي أصلاً. وهذا الأصل ينفع في عامة العلوم، فلهذا يتعدد ذكره في كلامنا بحسب الحاجة إليه، فيحتاج أن يفهم في كل موضع يحتاج إليه فيه، كما تقدم، وبسبب الغلط فيه ضل طوائف من الناس، حتى في وجود الرب تعالي، وجعلوه وجوداً مطلقاً، إما بشرط الإطلاق، وإما بغير شرط الإطلاق، وكلاهما يمتنع وجوده في الخارج. والمتفلسفة منهم من يقول: يوجد المطلق بشرط الإطلاق في الخارج، كما يذكر عن شيعة أفلاطون القائلين بالمثل الأفلاطونية، ومنهم من يزعم وجود المطلقات في الخارج مقارنة للمعينات، وأن الكلي المطلق جزء من المعين الجزئي، كما يذكر عمن يذكر عنه من أتباع أرسطو صاحب المنطق. وكلا القولين خطأ صريح، فإنا نعلم بالحس وضرورة العقل أن الخارج ليس فيه شيء معين مختص لا شركة فيه أصلاً، ولكن المعاني الكلية العامة المطلقة في الذهن، كالألفاظ المطلقة والعامة في اللسان، وكالخط الدال علي تلك الألفاظ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فالخط يطابق اللفظ، واللفظ يطابق المعني، فكل من الثلاثة يتناول الأعيان الموجودة في الخارج ويشملها ويعمها، لا أن في الخارج شيئاً هو نفسه يعم هذا وهذا، أو يوجد في هذا وهذا، أو يشترك فيه هذا وهذا، فإن هذا لا يقوله من يتصور ما يقول: وإنما يقوله من اشتبهت عليه الأمور الذهنية بالأمور الخارجية، أو من قلد بعض من قال ذلك من الغالطين فيه. ومن علم هذا علم كثيراً مما دخل في المنطق من الخطأ في كلامهم في الكليات والجزئيات، مثل الكليات الخمس: الجنس، والفصل، والنوع، والخاصة، والعرض العام. وما ذكروه من الفرق بين الذاتيات واللوازم للماهية، وما ادعوه من تركيب الأنواع من الذاتيات المشتركة المميزة التي يسمونها الجنس والفصل، وتسمية هذه الصفات أجزاء الماهية، ودعواهم أن هذه الصفات التي يسمونها أجزاء تسبق الموصوف في الوجود الذهني والخارجي جميعاً، وإثباتهم في الأعيان الموجودة في الخارج حقيقة عقلية مغايرة للشيء المعين الموجود، وأمثال ذلك من أغاليطهم التي تقود من اتبعها إلي الخطأ في الإلهيات، حتى يعتقد في الموجود الواجب: أنه وجود مطلق بشرط الإطلاق كما قاله طائفة من الملاحدة، أو بشرط سلب الأمور الثبوتية كلها كما قاله ابن سينا وأمثاله، مع العلم بصريح العقل أن المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية يمتنع وجوده في الخارج، فيكون الواجب الوجود ممتنع الوجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وهذا الكفر المتناقض وأمثاله هو سبب ما اشتهر بين المسلمين أن المنطق يجر إلي الزندقة، وقد يطعن في هذا من لم بفهم حقيق المنطق وحقيقة لوازمه، ويظن انه في نفسه لا يستلزم صحة الإسلام ولا فساده، ولا ثبوت حق ولا انتقاءه، وإنما هو آلة تعصم مراعاتها عن الخطأ في النظر، وليس الأمر كذلك، بل كثير مما ذكروه في المنطق يستلزم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، ويكون من قال بلوازمه ممن قال الله تعالى فيه: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10] . والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضوع، وإنما يلتبس علي كثير من الناس بسبب ما في ألفاظه من الإجمال والاشتراك والإبهام، فإذا فسر المراد بتلك الألفاظ انكشفت حقيقة المعاني المعقولة، كما سننبه علي ذلك إن شاء الله تعالي. والغرض هنا: أن الأمر بالشيء الذي له لوازم لا توج إلا بوجوده، سواء كانت سابقة علي وجوده أو كانت لاحقة لوجوده، قد يكون الآمر قاصداً للأمر بتلك اللوازم، بحيث يكون آمراً بهذا وبهذا اللازم، وأنه إذا تركهما عوقب علي كل منهما، وقد يكون المقصود أحدهما دون الآخر، وكذلك النهي عن الشيء الذي له ملزوم، قد يكون قصده أيضاً ترك الملزوم لما فيه من المفسدة، وقد يكون تركه غير مقصود له، وإنما لزم لزوماً. ومن هنا ينكشف لك سر مسألة اشتباه الأخت بالأجنبية، والمذكي بالميت، ونحو ذلك مما ينهي العبد فيه عن فعل الاثنين لأجل الاشتباه، فقالت طائفة: كلتاهما محرمة، وقالت طائفة: بل المحرم في نفس الأمر الأخت والميتة، والأخرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 إنما نهي عنها لعلة الاشتباه، وهذا القول أغلب علي فطرة الفقهاء، والأول أغلب علي طريقة من لا يجعل في الأعيان معاني تقتضي التحليل والتحريم، فيقول: كلاهما نهي عنه، وإنما سبب النهي اختلف. والتحقيق في ذلك أن المقصود للناهي اجتناب الأجنبية والميتة فقط، والمفسدة التي من أجلها نهي عن العين موجودة فيها فقط، وأما ترك الأخرى فهي من باب اللوازم فهنا لا يتم اجتناب المحرم إلا باجتنابه، وهنا لا يتم فعل الواجب إلا بفعله. وهذا نظير من ينهاه الطبيب عن تناول شراب مسموم، واشتبه ذلك القدح بغيره، فعلي المريض اجتناب القدحين، والمفسدة في أحدهما، ولهذا لو أكل الميتة والمذكي لعوقب علي أكل الميتة، كما لو أكلها وحدها، ولا يزداد عقابه بأكل المذكي، بخلاف ما إذا أكل ميتتين فإنه يعاقب علي أكلهما أكثر من عقاب من أكل إحداهما. إذا عرف هذا فقوله تعالى {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق} [البقرة: 42] ، نهي عنهما، والثاني لازم للأول مقصود بالنهي، فمن لبس الحق بالباطل كتم الحق وهو معاقب علي لبسه الحق بالباطل، وعلي كتمانه الحق، فلا يقال: النهي عن جمعهما فقط، لأنه لو كان هذا صحيحاً لم يكن مجرد كتمان الحق موجباً للذم، ولا مجرد لبس الحق بالباطل موجباً للذم، وليس الأمر كذلك، فإن كتمان أهل الكتاب ما أنزل الله من البينات والهدي من بعد ما بينه للناس يستحقون به العقاب باتفاق المسلمين، وكذلك لبسهم الحق الذي أنزله الله بالباطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الذي ابتدعوه، وجمع بينهما بدون إعادة حرف النفي لأن اللبس مستلزم للكتمان، ولم يقتصر علي الملزوم لأن اللازم مقصود بالنهي. فهذا يبين لك بعض ما في القرآن من الحكم والأسرار، وإنما كان اللبس مستلزماً للكتمان لأن من لبس الحق بالباطل، كما فعله أهل الكتاب ـ حيث ابتدعوا ديناً لم يشرعه الله، فأمروا بما لم يأمر به، ونهوا عما لم ينه عنه، وأخبروا بخلاف ما أخبر به ـ فلابد له أن يكتم من الحق المنزل ما يناقض بدعته، إذ الحق المنزل الذي فيه خبر بخلاف ما أخبر به إن لم يكتمه لم يتم مقصوده، وكذلك الذي فيه إباحة لما نهي عنه أو إسقاط لما أمر به. والحق المنزل إما أمر ونهي وإباحة، وإما خبر، فالبدع الخبرية كالبدع المتعلقة بأسماء الله تعالي وصفاته والنبيين واليوم الآخر لا بد أن يخبروا فيها بخلاف ما أخبر الله به، والبدع الأمرية، كمعصية الرسول المبعوث إليهم ونحو ذلك، لا بد أن يأمروا فيها بخلاف ما أمر الله به، والكتب المتقدمة تخبر عن الرسول النبي الأمي وتأمر باتباعه. والمقصود هنا الاعتبار، فإن بني إسرائيل قد ذهبوا أو كفروا، وإنما ذكرت قصصهم عبرة لنا، وكان بعض السلف يقول: إن بني إسرائيل ذهبوا، وإنما يعني أنتم، ومن الأمثال السائرة: إياك أعني واسمعي يا جارة فكان فيما خاطب الله بني إسرائيل عبرة لنا: أن لا نلبس الحق بالباطل، ونكتم الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 والبدع التي يعارض بها الكتاب والسنة التي يسميها أهلها كلاميات وعقليات وفلسفيات، أو ذوقيات ووجديات وحقائق وغير ذلك، لا بد أن تشمل علي لبس حق بباطل وكتمان حق، وهذا أمر موجود يعرفه من تأمله، فلا تجد قط مبتدعاً إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه، ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه. ثم إن قوله الذي يعارض به النصوص لا بد له أن يلبس فيه حقاً بباطل، بسبب ما يقوله من الألفاظ المجملة المتشابهة. ولهذا قال الإمام أحمد في أول ما كتبه في الرد علي الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته علي غير تأويله مما كتبه في حبسه ـ وقد ذكره الخلال في كتاب السنة والقاضي أبو يعلي، وأبو الفضل التميمي، وأبو الوفاء بن عقيل، وغير واحد من أصحاب أحمد، ولم ينفه أحد منهم عنه ـ قال في أوله: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلي الهدى، ويبصرون منهم علي الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمي، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه ضال قد هدوه، فما أحسن أثرهم علي الناس وأقبح أثر الناس عليهم ‍‍‍‍‍‍! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون علي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 مخالفة الكتاب يقولون علي الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما بشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين. المبتدعة يستعملون ألفاظ الكتاب والسنة واللغة ولكن يقصدون بها معاني أخر والمقصود هنا قوله: يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، وهذا الكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس، هو الذي يتضمن الألفاظ المتشايهة المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة، وتلك الألفاظ تكون موجودة مستعملة في الكتاب والسنة وكلام الناس، لكن بمعان أخر غير المعاني التي قصدوها هم بها، فيقصدون هم بها معاني أخر، فيحصل الاشتباه والإجمال، كلفظ العقل والعاقل والمعقول، فإن لفظ العقل في لغة المسلمين إنما يدل علي عرض، إما مسمي مصدر عقل يعقل عقلا، وإما قوة يكون بها العقل، وهي العزيزة، وهم يريدون بذلك جوهراً مجرداً قائماً بنفسه. وكذلك لفظ المادة والصورة، بل وكذلك لفظ الجوهر والعرض، والجسم، والتحيز، والجهة، والتركيب، والجزء، والافتقار، والعلة، والمعلول، والعاشق، والعشق، والمعشوق، بل ولفظ الواحد في التوحيد، بل ولفظ الحدوث، والقدم بل ولفظ الواجب، والممكن، بل ولفظ الوجود، والذات وغير ذلك من الألفاظ. وما من أهل فن إلا وهم معترفون بأنهم يصطلحون علي ألفاظ يتفاهمون بها مرادهم، كما لأهل الصناعات العلمية ألفاظ يعبرون بها عن صناعتهم، وهذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الألفاظ هي عرفية عرفاً خاصاً، ومرادهم بها غير المفهوم منها في أصل اللغة، سواء كان ذلك المعني حقاً أو باطلاً. وإذا كان كذلك فهذا مقام يحتاج إلي بيان: وذلك أن هؤلاء المعارضين إذا لم يخاطبوا بلغتهم واصطلاحهم فقد يقولون: إنا لا نفهم ما قيل لنا، أو أن المخاطب لنا والراد علينا لم يفهم قولنا، ويلبسون علي الناس بأن الذي عنيناه بكلامنا حق معلوم بالعقل أو بالذوق، ويقولون أيضاً: إنه موافق للشرع، إذا لم يظهروا مخالفة الشرع، كما يفعله الملاحدة من القرامطة والفلاسفة ومن ضاهأهم. وإذا خوطبوا بلغتهم واصطلاحهم ـ مع كونه ليس هو اللغة المعروفة التي نزل بها القرآن ـ فقد يفضي إلي مخالفة ألفاظ القرآن في الظاهر. فإن هؤلاء عبروا عن المعاني التي أثبتها القرآن بعبارات أخري ليست في القرآن، وربما جاءت في القرآن بمعني آخر، فليست تلك العبارات مما أثبته القرآن، بل قد يكون معناها المعروف في لغة العرب التي نزل بها القرآن منتفياً باطلاً، نفاه الشرع والعقل، وهم اصطلحوا بتلك العبارات علي معان غير معانيها في لغة العرب، فتبقي إذا أطلقوا نفيها لم تدل في لغة العرب علي باطل، ولكن تدل في اصطلاحهم الخاص علي باطل، فمن خاطبهم بلغة العرب قالوا: إنه لم يفهم مرادنا، ومن خاطبهم باصطلاحهم أخذوا يظهرون عنه أنه قال ما يخالف القرآن، وكان هذا من جهة كون تلك الألفاظ مجملة مشتبهة. معني لفظ التوحيد في الكتاب والسنة مخالف لما يقصده المبتدعة وهذا كالألفاظ المتقدمة مثل لفظ: القدم، والحدوث، والجوهر، والجسم، والعرض، والمركب، والمؤلف، والمتحيز، والبعض، والتوحيد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 والواحد، فهم يريدون بلفظ التوحيد والواحد في اصطلاحهم: ما لا صفة له ولا يعلم منه شيء دون شيء ولا يرى، والتوحيد الذي جاء به الرسول لم يتضمن شيئا من هذا النفي، وإنما تضمن إثبات الإلهية لله وحده، بأن يشهد أن لا إله إلا هو، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله، وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات. قال جابر بن عبد الله في حديثه الصحيح في سياق حجة الوداع «فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» وكانوا في الجاهلية يقولولن: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك فأهل النبي صلي الله عليه وسلم بالتوحيد كما تقدم. قالت تعالي {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} [البقرة: 163] . وقال تعالى {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون} [النحل: 51] وقال تعالى {ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه} [المؤمنون: 117] وقال تعالى {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 [الزخرف: 45] ، وقال تعالى {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة} [النحل: 36] . وأخبر عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلي عبادة الله وحده لا شريك له. وقال تعالي {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده} [الممتحنة: 4] ، وقال تعالى عن المشركين: {أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب} [ص: 5] ، وقال تعالى {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا} [الإسراء: 46] ، وقال تعالى {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} [الزمر: 45] ، وقال تعالى {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون} [الصافات: 35-36] وهذا في القرآن كثير. وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد. ويظن هؤلاء أنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد. وكثير من أهل الكلام يقول: التوحيد له ثلاث معان، وهو: واحد في ذاته لا قسيم له، أو لا جزء له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 لا شريك له. وهذا المعني الذي تتناوله هذه العبارة فيها ما يوافق ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم، وفيها ما يخالف ما جاء به الرسول، وليس الحق الذي فيها هو الغاية التي جاء بها الرسول، بل التوحيد الذي أمر به أمر يتضمن الحق الذي في هذا الكلام وزيادة أخري، فهذا من الكلام الذي لبس فيه الحق بالباطل وكتم الحق. وذلك أن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالي من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء ـ لم يكن موحداً، بل ولا مؤمناً حتى يشهد أن لا إله إلا الله، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له. والإله هو بمعني المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، ليس هو الإله بمعني القادر علي الخلق، فإذا فسر المفسر الإله بمعني القادر علي الاختراع، واعتقد أن هذا أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك من يفعله من المتكلمة الصفاتية، وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعه، لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين. وقال تعالى {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106] ، قال طائفة من السلف: تسألهم من خلق السماوات والأرض فيقولون الله، وهم مع هذا يعبدون غيره، وقال تعالي {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون} [المؤمنون: 84-89] ، وقال تعالى {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} [العنكبوت: 61] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فليس كل من أقر أن الله رب كل شيء وخالقه يكون عابداً له دون ما سواه، داعياً له دون سواه، راجيا له خائفا منه دون ما سواه، يوالي فيه، ويعادي فيه، ويطيع رسله، ويأمر بما أمر به، وينهى عما نهي عنه. وقد قال تعالى {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} [الأنفال: 39] ، وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به وجعلوا له أنداداً، قال تعالى {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا} [الزمر: 43-44] . وقال تعالى {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون} [يونس: 18] ، وقال تعالى {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون} [الأنعام: 94] ، وقال تعالى {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة: 165] . ولهذا كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب، ويدعوها كما يدعو الله تعالي، ويصوم لها، وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك: وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سبباً وواسطة لم أكن مشركاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك، فهذا ونحوه من التوحيد الذي بعث الله به رسله، وهم لا يدخلونه في مسمي التوحيد الذي اصطلحوا عليه، وأدخلوا في ذلك نفي صفاته، فإنهم إذا قالوا: لا قسيم له، ولا جزء له، ولا شبيه له، فهذا اللفظ ـ وإن كان يراد به معني صحيح ـ فإن الله ليس كمثله شيء، هو سبحانه لا يجوز عليه أن يتفرق، ولا يفسد، ولا يستحيل، بل هو أحد صمد، والصمد: الذي لا جوف له، وهو السيد الذي كمل سؤدده، فإنهم يدرجون في هذا نفي علوه علي خلقه ومباينته لمصنوعاته، ونفي ما ينفونه من صفاته، ويقولون: إن إثبات ذلك يقتضي أن يكون مركباً منقسماً، وأن يكون له شبيه. وأهل العلم يعلمون أن مثل هذا لا يسمي في لغة العرب التي نزل بها القرآن تركيباً وانقساماً، ولا تمثيلاً، وهكذا الكلام في مسمى الجسم والعرض والجوهر والمتحيز وحلول الحوادث وأمثال ذلك، فإن هذه الألفاظ يدخلون في مسماها الذي ينفونه أموراً مما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله، فيدخلون فيها نفي علمه وقدرته وكلامه، ويقولون: إن القرآن مخلوق، لم يتكلم الله به، وينفون بها رؤيته، لأن رؤيته، لأن رؤيته علي اصطلاحهم لا تكون إلا لمتحيز في جهة وهو جسم، ثم يقولون: والله منزه عن ذلك: فلا تجوز رؤيته. وكذلك يقولون: إن المتكلم لا يكون إلا جسماً متحيزاً، والله ليس بجسم متحيز فلا يكون متكلماً، ويقولون: لو كان فوق العرش لكن جسماً متحيزاً، والله ليس بجسم متحيز، فلا يكون متكلماً فوق العرش، وأمثال ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 إما أن نمتنع عن التكلم بالألفاظ المبتدعة. وإما نقبل ما وافق معناه الكتاب والسنة إما أن نمتنع عن التكلم بالألفاظ المبتدعة. وإما نقبل ما وافق معناه الكتاب والسنة وإذا كانت هذه الألفاظ مجملة ـ كما ذكر ـ فالمخاطب لهم إما أن يفصل ويقول: ما تريدون بهذه الألفاظ؟ فإن فسروها بالمعني الذي يوافق القرآن قبلت، وإن فسروها بخلاف ذلك ردت. وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفياً وإثباتاً، فإن امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسونه إلي العجز والانقطاع، وإن تكلم بها معهم نسبوه إلي أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً، وأوهموا الجهال باصطلاحهم: أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها، فحينئذ تختلف المصلحة، فإن كانوا في مقام دعوة الناس إلي قولهم وإلزامهم به أمكن أن يقال لهم: لا يجب علي أحد أن يجيب داعياً إلا إلي ما دعا إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم، فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن علي الناس إجابة من دعا إليه، ولا له دعوة الناس إلي ذلك، ولو قدر أن ذلك المعني حق. وهذه الطريق تكون أصلح إذا لبس ملبس منهم علي ولاة الأمور، وأدخلوه في بدعتهم، كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعتهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك، فكان من أحسن إلي مناظرتهم أن يقال: ائتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلي ذلك، وإلا فلسنا نجيبكم إلي ما لم يدل عليه الكتاب والسنة. وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء، وإذا ردوا إلي عقولهم فلكل واحد منهم عقل، وهؤلاء المختلفون يدعي أحدهم: أن العقل أداه إلي علم ضروري ينازعه فيه الآخر، فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وبهذا ناظر الإمام أحمد الجهمية لما دعوه إلي المحنة، وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة علي قولهم، فلما ذكروا حججهم كقوله تعالى {خالق كل شيء} [الأنعام: 102] ، وقوله {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} [الأنبياء: 2] وقوله النبي صلى الله عليه وسلم «تجيء البقرة وآل عمران» وأمثال ذلك من الأحاديث، مع ما ذكروه من قوله صلي الله عليه وسلم «إن الله خلق الذكر» أجابهم عن هذه الحجج بما بين به أنها لا تدل علي مطلوبهم. ولما قالوا: ما تقول في القرآن: أهو الله أو غير الله؟ عارضهم بالعلم فقال: ما تقولون في العلم: أهو الله أو غير الله؟ ولما ناظره أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث، وكان من أحذقهم بالكلام: ألزمه التجسيم، وأنه إذا أثبت لله كلاماً غير مخلوق لزم أن يكون جسماً. فأجابه الإمام أحمد بأن هذا اللفظ لا يدري مقصود المتكلم به، وليس له أصل في الكتاب والسنة والإجماع، فليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به، ولا بمدلوله، وأخبره أني أقول: هو أحد، صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فبين أني لا أقول: هو جسم وليس بجسم، لأن كلا الأمرين بدعة محدثة في الإسلام، فليست هذه من الحجج الشرعية التي يجب علي الناس إجابة من دعا إلي موجبها، فإن الناس إنما عليهم إجابة الرسول فيما دعاهم إليه، وإجابة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 دعاهم إلي ما دعاهم إليه الرسول صلي الله عليه وسلم، لا إجابة من دعاهم إلي قول مبتدع، ومقصود المتكلم بها مجمل لا يعرف إلا بعد الاستفصال والاستفسار، فلا هي معروفة في الشرع، ولا معروفة بالعقل إن لم يستفسر المتكلم بها. فهذه المناظرة ونحوها هي التي تصلح إذا كان المناظر داعياً. وأما إذا كان المناظر معارضاً للشرع بما يذكره، أو ممن لا يمكن أن يرد إلي الشريعة، مثل من لا يلتزم الإسلام ويدعو الناس إلي ما يزعمه من العقليات، أو ممن يدعي أن الشرع خاطب الجمهور، وأن المعقول الصريح يدل علي باطن يخالف الشرع، ونحو ذلك، أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء ـ فهؤلاء لا بد في مخاطبتهم من الكلام علي المعاني التي يدعونها: إما بألفاظهم، وإما بألفاظ يوافقون علي أنها تقوم مقام ألفاظهم. وحينئذ فيقال لهم: الكلام إما أن يكون في الألفاظ، وإما أن يكون في المعاني، وإما أن يكون فيهما، فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ، كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع، بل يسميه علة وعاشقاً ومعشوقاً ونحو ذلك، فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلي العبارة الشرعية كان حسناً، وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم، فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولي من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ، كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم، فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفاً من التشبه بهم في الثياب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وأما إذا كان الكلام مع من قد يتقيد بالشريعة، فإنه يقال له: إطلاق هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً بدعة، وفي كل منهما تلبيس وإيهام، فلا بد من الاستفسار والاستفصال، أو الامتناع عن إطلاق كلا الأمرين في النفي والإثبات. وقد ظن طائفة من الناس ان ذم السلف والأئمة للكلام وأهل الكلام كقول أبي يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق، وقول الشافعي: حكمي في أهل الكلام: أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل علي الكلام، وقوله: لقد اطلعت من أهل الكلام علي شيء ما كنت أظنه، ولأن يبتلي العبد بكل ذنب ما خلا الإشراك بالله، خير له نظر في الكلام إلا كان في قلبه غل علي أهل الإسلام، وأمثال هذه الأقوال المعروفة عن الأئمة ـ ظن بعض الناس أنهم إنما ذموا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة، كلفظ الجوهر والسجم والعرض، وقالوا: إن مثل هذا لا يقتضي الذم، كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها، أو سلاحاً يحتاجون إليه لمقاتلة العدو، وقد ذكر هذا صاحبالإحياء وغيره. وليس الأمر كذلك، بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث ألفاظه، فذموه لاشتماله علي معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة ومخالفته للعقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسن فهو باطل قطعاً. ثم من الناس من قد يعلم بطلانه بعقله، ومنهم من لا يعلم ذلك. وأيضاً فإن المناظرة بالألفاظ المحدثة المجملة المبتدعة المحتملة للحق والباطل إذا أثبتها أحد المتناظرين ونفاها الآخر كان كلاهما مخظئاً، وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله، فإذا رد الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما، والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة، ولو كان الناس محتاجين في أصول دينهم إلي ما لم يبينه الله ورسوله لم يكن الله قد أكمل للأمة دينهم، ولا أتم عليهم نعمته، فنحن نعلم أن كل حق يحتاج الناس إليه في أصول دينهم لا بد أن يكون مما بينه الرسول، إذ كانت فروع الدين لا تقوم إلا بأصوله، فكيف يجوز أن يترك الرسول أصول الدين التي لا يتم الإيمان إلا بها لا يبينها للناس؟ ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقاً أو اعتقاداً زعم أن الإيمان إلا العلم بأن الرسول لم يذكره. وهذا مما احتج به علماء السنة علي من دعاهم إلي قول الجهمية القائلين بخلق القرآن، وقالوا: إن هذا لو كان من الدين الذي يجب الدعاء إليه لعرفه الرسول، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ودعا أمته إليه، كما ذكره أبو عبد الرحمن الأذرمي الأزدي في مناظرته للقاضي أحمد بن أبي دؤاد قدام الواثق. وهذا مما رد به علماء السنة على من زعم أن طريقة الاستدلال على إثبات الصانع سبحانه بإثبات الأعراض وحدوثها من الواجبات التي لا يحصل الإيمان إلا بها، وأمثال ذلك. وبالجملةـ فالخطاب له مقامات: فإن كان الإنسان في مقام دفع من يلزمه ويأمره ببدعة ويدعوه إليها أمكنه الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يقول: لا أجيبك إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله، بل هذا هو الواجب مطلقاً. وكل من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله فقد دعا إلى بدعة وضلالة، والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم، فإن الشريعة مثل سفينة نوح عليه السلام، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وقد قال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 135] ، وقال تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 3] . و «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته إن أصدق الكلام كلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» . وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في سياق حجة الوداع: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله تعالى» . وفي الصحيح: «أنه قيل لعبد الله بن أبي أوفى: هل وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: لا، قيل: فلم، وقد كتب الوصية على الناس؟ قال: وصى بكتاب الله» . وقد قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213] وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59] ، ومثل هذا كثير. وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له، وفي مقام النظر أيضاً، فعليه أن يعتصم أيضاً بالكتاب والسنة، ويدعوا إلى ذلك، وله أن يتكلم مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 ذلك، ويبين الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة، فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة، فإن الله سبحانه وتعالى ضرب الأمثال في كتابه، وبين بالبراهين العقلية توحيده وصدق رسله وأمر المعاد وغير ذلك من أصول الدين، وأجاب عن معارضة المشركين، كما قال تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} [الفرقان: 33] . وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخاطباته، ولما قال: «ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر. فقال له أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن كثير؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر آية من آيات الله كلكم يراه مخلياً به، فالله أعظم» ولما سأله أيضاً عن إحياء الموتى ضرب له المثل بإحياء النبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وكذلك السلف، فروى عن ابن عباس أنه لما أخبر بالرؤية عارضه السائل بقوله تعالى {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] فقال له: ألست ترى السماء. فقال: بلي، قال: أتراها كلها؟ قال: لا فبين له أن نفي الإدراك لا يقتضي نفي الرؤية. وكذلك الأئمة كالإمام أحمد في رده على الجهمية، لما بين دلالة القرآن على علوه تعالي واستوائه على عرشه، وأنه مع ذلك عالم بكل شيء، كما دل على ذلك قوله تعالى: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير} [الحديد: 4] ، فبين أن المراد بذكر المعية أنه عالم بهم، كما افتتح الآية بالعلم وختماها العلم، وبين سبحانه أنه مع علوه على العرش يعلم ما الخلق عاملون، كما في حديث العباس بن عبد المطلب الذي رواه داود وغيره عن النبي صلي الله عليه وسلم قال فيه «والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه» فبين الإمام أحمد إمكان ذلك بالاعتابر العقلي، وضرب مثلين، ولله المثل الأعلى، فقال: لو أن رجلاً في يده قوارير فيها ماء صاف، لكان بصره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 قد أحاط بما فيها مع مباينته، فالله ـ وله المثل الأعلى ـ قد أحاط بصره بخلقه، وهو مستو على عرشه، وكذلك لو أن رجلاً بنى داراً لكان مع خروجه عنها يعلم ما فيها، فالله الذي خلق العالم يعلمه مع علوه عليه، كما قال تعالي {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] . وإذا كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضة بالعقل، وادعى أن العقل يعارض النصوص، فإنه قد يحتاج إلي حل شبهته وبيان بطلانها. فإذا أخذ النافي يذكر ألفاظا مجملة مثل أن يقول: لو كان فوق العرش لكان جسماً، أو لكان مركبا وهو منزه عن ذلك، ولو كان له علم وقدرة لكان جسماً، وكان مركباً، وهو منزه عن ذلك، ولو خلق واستوى وأتى لكان تحله الحوادث، وهو منزه عن ذلك ولو قامت به الصفات لحلته الأعراض، وهو منزه عن ذلك. فهنا يستفصل السائل ويقول له: ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة؟ فإن أراد بها حقاً وباطلاً قبل الحق ورد الباطل، مثل أن يقول: أنا أريد بنفي الجسم نفي قيامه بنفسه وقيام الصفات به، ونفي كونه مركباً ن فنقول: هو قائم بنفسه، وله صفات قائمة به، وأنت سميت هذا تجسيما لم يجز أن أدع الحق الذي دل عليه صحيح المنقول وصريح المعقول لأجل تسميتك أنت له بهذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وأما قولك: ليس مركباً فإن أردت به أنه سبحانه ركبه مركب، أو كان متفرقاً فتركب، وأنه يمكن تفرقه وانفصاله، فالله تعالى منزه عن ذلك، وإن أردت أنه موصوف بالصفات، مباين للمخلوقات، فهذا المعني حق، ولا يجوز رده لأجل تسميتك له مركبا، فهذا ونحوه مما يجاب به. وإذا قدر أن المعارض أصر على تسمية المعاني الصحيحة التي ينفيها بألفاظه الاصطلاحية المحدثة، مثل أن يدعي أن ثبوت الصفات المخلوقات يستحق أن يسمى في اللغة تجسيماً وتركيباً ونحو ذلك، قيل له: هب أنه سمي بهذا الاسم، فنفيك له أما أن يكون بالشرع، وإما أن يكون بالعقل. وأما الشرع فليس فيه ذكر هذه الأسماء في حق الله، لا بنفي ولا إثبات، ولم ينطق أحد من سلف الأمة وأئمتها في حق الله تعالى بذلك، لا نفياً ولا إثباتاً، بل قول القائل: إن الله جسم أو ليس بجسم، أو جوهر أو ليس بجوهر، أو متحيز أو ليس بمتحيز، أو في جهة أو ليس في جهة، أو تقوم به الأعراض والحوادث أو لا تقوم به، ونحو ذلك ـ كل هذه الأقوال محدثة بين أهل الكلام المحدث، لم يتكلم السلف والأئمة فيها، لا بإطلاق النفي ولا بإطلاق الإثبات، بل كانوا ينكرون على أهل الكلام الذين يتكلمون بمثل هذا النوع في حق الله تعالي نفياً وإثباتاً. وإن أردت أن نفي ذلك معلوم بالعقل، وهو الذي تدعيه النفاة، ويدعون أن نفيهم المعلوم بالعقل عارض نصوص الكتاب والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 قيل له: فالأمور العقلية المحضة لا عبرة فيها بالألفاظ، فالمعني إذا كان معلوماً إثباته بالعقل لم يجز نفيه لتعبير المعبر عنه بأي عبارة بها، وكذلك إذا كان معلوماً انتفاؤه بالعقل لم يجز إثباته بأي عبارة عبر بها المعبر، وبين له بالعقل ثبوت المعنى الذي نفاه وسماه بألفاظه الاصطلاحية. وقد يقع في محاورته إطلاق هذه الألفاظ لأجل اصطلاح ذلك النافي ولغته، وإن كان المطلق لها لا يستجيز إطلاقها في غير هذا المقام، كما إذا قال الرافضي: أنتم ناصبة تنصبون العداوة لآل محمد، فقيل له: نحن نتولى الصحابة والقرابة، فقال: لا ولاء إلا ببراء، فمن لم يتبرأ من الصحابة لم يتول القرابة، فيكون قد نصب لهم العداوة. فيقال له: هب أن هذا يسمي نصباً. فلم قلت: إن هذا محرم؟ فلا دلالة لك علي ذم النصب بهذا التفسير، كما لا دلالة علي ذم الرفض بمعنى موالاة أهل البيت، إذ كان الرجل موالياً لأهل البيت كما يحب الله ورسوله، ومنه قول القائل: إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي وقول القائل أيضاً: إذا كان نصبا ولاء الصحاب ... فإني كما زعموا ناصبي وإن كان رفضاً ولاء الجميع ... فلا برح الرفض من جانبي الألفاظ نوعان. النوع الأول الألفاظ نوعان. النوع الأول والأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 نوع مذكور في كتاب الله وسنة رسوله وكلام أهل الإجماع، فهذا يجب اعتبار معناه، وتعليق الحكم به، فإن كان المذكور به مدحاً استحق صاحبه المدح، وإن كان ذماً استحق الذم، وإن أثبت شيئاً وجب إثباته، وإن نفي شيئاً وجب نفيه، لأن كلام الله حق، وكلام رسوله حق، وكلام أهل الإجماع حق. وهذا كقوله تعالى {قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 1-4] ، وقوله تعالى {هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن} [الحشر: 22-23] ونحو ذلك من أسماء الله وصفاته. وكذلك قوله تعالى {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] ، وقوله تعالى {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103] ، وقوله تعالى {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22-23] ، وأمثال ذلك مما ذكره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهذا كله حق. ومن دخل في اسم مذموم في الشرع كان مذموماً، كاسم الكافر والمنافق والملحد ونحو ذلك، ومن دخل في اسم محمود في الشرع كان محموداً، كاسم المؤمن والتقي والصدق، ونحو ذلك. النوع الثاني وأما الألفاظ التي ليس له أصل في الشرع فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها، إلا أن يبين أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 بها النصوص هي من هذا الضرب، كلفظ الجسم والحيز والجهةوالجوهروالعرض، فمن كانت معارضته بمثل هذه الألفاظ لم يجز له أن يكفر مخالفه، إن لم يكن قوله مما يبين الشرع أنه كفر، لأن الكفر حكم شرعي متلقي عن صاحب الشريعة، والعقل قد يعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرأ في الشرع، كما أنه ليس كل ما كان صواباً في العقل تجب في الشرع معرفته. ومن العجب قول من يقول من أهل الكلام: إن أصول الدين التي يكفر مخالفها هي علم الكلام الذي يعرف بمجرد العقل. وأما ما لا يعرف بمجرد العقل فهي الشرعيات عندهم، وهذه طريقة المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم كأتباع صاحب الإرشاد وأمثالهم. فيقال لهم: هذا الكلام تضمن شيئين: أحدهما: أن أصول الدين هي التي تعرف بالعقل المحض دون الشرع، والثاني: أن المخالف لها كافر، وكل من المقدمتين وإن كانت باطلة فالجمع بينهما متناقض، وذلك أن ما لا يعرف إلا بالعقل لا يعلم أن مخالفه كافر الكفر الشرعي، فإنه ليس في الشرع أن من خالف ما لا يعلم إلا بالعقل يكفر، وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول صلى الله عليهم وسلم فيما أخبر به أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم. وفي الجملة فالكفر متعلق بما جاء به الرسول، وهذا ظاهر على قول من لا يوجب شيئاً ولا يحرمه إلا بالشرع، فإنه لو قدر عدم الرسالة لم يكن كفر محرم، ولا إيمان واجب عندهم ومن أثبت ذلك بالعقل فإنه لا ينازع أنه بعد مجيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الرسول تعلق الكفر والإيمان بما جاء به، لا بمجرد ما يعلم بالعقل، فكيف يجوز أن يكون الكفر معلقاً بأمور لا تعلم إلا بالعقل؟ إلا أن يدل الشرع على أن تلك الأمور التي لا تعلم إلا بالعقل كفر، فيكون حكم الشرع مقبولاً. لكن معلوم أن هذا لا يوجد في الشرع، بل الموجود في الشرع تعليق الكفر بما يتعلق به الإيمان، وكلاهما متعلق بالكتاب والرسالة، فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع تصديقه وطاعته. ومن تدبر هذا رأى أهل البدع من النفاة يعتمدون على مثل هذا، فيبتدعون بدعاً بآرائهم ليس فيها كتاب ولا سنة، ثم يكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه، وهذا حال من كفر الناس بما أثبتوه من الأسماء والصفات التي يسميهما هو تركيباً وتجسيماً وإثبات لحلول الصفات والأعراض به، ونحو ذلك من الأقوال التي ابتدعتها الجهمية والمعتزلة، ثم كفروا من خالفهم فيها. والخوارج الذين تأولوا آيات من القرآن وكفروا من خالفهم فيها أحسن حالاً من هؤلاء، فإن أولئك علقوا الكفر بالكتاب والسنة، لكن غلطوا في فهم النصوص، وهؤلاء علقوا الكفر بكلام ماأنزل الله به من سلطان. ولهذا كان ذم السلف للجهمية من أعظم الذم، حتى قال عبد الله بن المبارك: إنا لنكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 بل الحق أنه لو قدر أن بعض الناس غلط في معان دقيقة لا تعلم إلا بنظر العقل، وليس فيها بيان في النصوص والإجماع، لم يجز لأحد أن يكفر مثل هذا، ولا يفسقه، بخلاف من نفى ما أثبتته النصوص الظاهرة المتواترة، فهذا أحق بالتكفير، إن كان المخطئ في هذا الباب كافراً. وليس المقصود هنا بيان مسائل التكفير، فإن هذا مبسوط في موضع آخر، ولكن المقصود أن عمدة المعارضين للنصوص النبوية أقوال فيها اشتباه وإجمال، فإذا وقع الاستفسار والاستفصال تبين الهدى من الضلال. فإن الأدلة السمعية معلقة بالألفاظ الدالة على المعاني، وأما دلالة مجرد العقل فلا اعتبار فيها بالألفاظ. وكل فول لم يرد لفظه ولا معناه في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة فإنه لا يدخل في الأدلة السمعية، ولا تعلق للسنة والبدعة بموافقته ومخالفته، فضلاً عن أن يعلق بذلك كفر وإيمان، وإنما السنة موافقة للأدلة الشرعية، والبدعة مخالفتها. وقد يقال عما لم يعلم أنه موافق لها أو مخالف: إنه بدعة، إذ الأصل أنه ما لم يعلم أنه من الشرع فلا يتخذ شريعة وديناً، فمن عمل عملاً لم يعلم أنه مشروع فقد تذرع إلي البدعة، وإن كان ذلك العمل تبين له فيما بعد أنه مشروع، وكذلك من قال في الدين قولاً بلا دليل شرعي، فإنه تذرع إلى البدعة، وإن تبين له فيما بعد موافقته للسنة. والمقصود هنا أن الأقوال التي ليس لها أصل في الكتاب والسنة والإجماع ـ كأقوال النفاة التي تقولها الجهمية والمعتزلة وغيرهم، وقد يدخل فيها ما هو حق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وباطل ـ هم يصفون بها أهل الإثبات للصفات الثابتة بالنص، فإنهم يقولون: كل من قال: إن القرآن عير مخلوق أو إن الله يرى في الآخرة أو إنه فوق العالم فهو مجسم مشبه حشوى. وهذه الثلاثة مما اتفق عليها سلف الأمة وأئمتها، وحكى إجماع أهل السنة عليها غير واحد من الأئمة والعالمين بأقوال السلف، مثل أحمد بن حنبل وعلي بن المديني، وإسحاق بن إبراهيم، وداود بن علي، وعثمان بن سعيد الدارمي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وأمثال هؤلاء. ومثل عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي العباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري، ومثل أبي بكر الإسماعيلي، وأبي نعيم الأصبهاني، وأبي عمر بن عبد البر، وأبي عمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الطلمنكي ويحيى بن عمار السجستاني، وأبي إسماعيل الأنصاري، وأبي القاسم التميمي، ومن لا يحصي عدده إلا الله من أنواع أهل العلم. فإذا قال النفاة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم: لو كان الله يرى في الآخرة لكان في جهة، وما كان في جهة فهو جسم، وذلك على الله محال، أو قالوا: لو كان الله تكلم بالقرآن، بحيث يكون الكلام قائماً به، لقامت به الصفات والأفعال، وذلك يستلزم أن يكون محلاً للأعراض والحوادث، وما كان محلاً للأعراض والحوادث، فهو جسم، والله منزه عن ذلك، لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث العالم، وحدوث العالم إنما علم بحدوث الأجسام، فلو كان جسم ليس بمحدث لبطلت دلالة إثبات الصانع. فهذا الكلام ونحوه هو عمدة النفاة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم، ومن وافقهم في بعض بدعتهم، وهذا ونحوه في العقليات التي يزعمون أنها عارضت نصوص الكتاب والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 فيقال لهؤلاء: أنتم لم تنفوا ما نفيتموه بكتاب ولا سنة ولا إجماع، فإن هذه الألفاظ ليس لها وجود في النصوص، بل قولكم: لو رؤي لكان في جهة، وما كان في جهة فهو جسم، وما كان جسم فهو محدث كلام تدعون أنكم علمتم صحته بالعقل، حينيئذ فتطالبون بالدلالة العقلية على هذا النفي، وينظر فيه بنفس العقل. ومن عارضكم من المثبتة أهل الكلام من المرجئة وغيرهم كالكرامية والهشامية وقال لكم فليكن هذا لازما للرؤية، وليكن هو جسماً أو قال لكم: أنا أقول إنه جسم وناظركم على ذلك بالمعقول، وأثبته بالمعقول كما نفيتموه بالمعقول، لم يكن لكم أن تقولوا له: أنت مبتدع في إثبات الجسم فإنه يقول لكم: وأنتم مبتدعون في نفيه، فالبدعة في نفيه كالبدعة في إثباته، وإن لم تكن أعظم، بل النافي أحق بالبدعة من المثبت، لأن المثبت أثبت ما أثبتته النصوص، وذكر هذا معاضدةً للنصوص، وتأييداً لها، وموافقة لها، ورداً على من خالف موجبها. فإن قدر أنه أنه ابتدع في ذلك كانت بدعته أخف من بدعة من نفى ذلك نفياً عارض به النصوص ن ودفع موجبها، ومقتضاها، فإن ما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين، وما لم يعلم أنه خالفها فقد يسمى بدعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: البدعة بدعتان: بدعة خالفت كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه بدعة ضلالة، وبدعة لم تخالف شيئاً من ذلك، فهذه قد تكون حسنة، لقول عمر: نعمت البدعة هذه. هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل. ومن المعلوم أن قو ل نفاة الرؤية والصفات والعلو على العرش والقائلين بأن الله لم يتلكم، بل خلق كلاماً في غيره، ونفيهم ذلك لأن إثبات ذلك تجسيم، هو إلي مخالفة الكتاب والسنة والإجماع السلفي والآثار أقرب من قول من أثبت ذلك، وقال ـ مع ذلك ـ ألفاظاً يقول: إنها توافق معنى الكتاب والسنة، لا سيما والنفاة متفقون على أن ظواهر النصوص تجسيم عندهم، وليس عندهم بالنفي نص، فهم معترفون بأن قولهم هو البدعة، وقول منازعهم أقرب إلى السنة. ومما يوضح هذا أن السلف والأئمة كثر كلامهم في ذم الجهمية النفاة للصفات، وذموا المشبهة أيضاً، وذلك في كلامهم أقل بكثير من ذم الجهمية، لأن مرض التعطيل أعظم من مرض التشبيه، وأما ذكر التجسيم وذم المجسمة فهو لا يعرف في كلام أحد من السلف والأئمة، كما لا يعرف في كلامهم أيضاً القول بأن الله جسم، أو ليس بجسم، بل ذكروا في كلامهم الذي أنكروه على الجهمية نفي الجسم، كما ذكره أحمد في كتاب الرد على الجهمية: ولما ناظر برغوث وألزمه بأنه جسم، امتنع أحمد من موافقته على النفي والإثبات، وقال: هو أحد صمد، لم يلد ولم يولد، لم يكن له كفواً أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 مثال: الكلام على الرؤية والمقصود هنا أن نفاة الرؤية ـ من الجهمية والمعتزلة وغيرهم ـ إذا قالوا: إثباتها يستلزم أن يكون الله جسماً، وذلك منتف، وادعوا أن العقل دل على المقدمتين، احتيج حينئذ إلى بيان بطلان المقدمتين، أو إحداهما، فإما أن يبطل نفس التلازم أونفي اللازم، أو المقدمتان جميعاً. وهنا افترقت طرق مثبتة الرؤية: فطائفة نازعت في الأولى، كالأشعري وأمثاله ـ وهو الذي حكاه الأشعري عن أهل الحديث وأصحاب السنة، وقالوا: لا نسلم أن كل مرئي يجب أن يكون جسماً. فقالت النفاة: لأن كل مرئي في جهة، وما كان في جهة فهو جسم، فافترقت نفاة الجسم على قولين: طائفة قالت: لا نسلم أن كل مرئي يكون في جهة، وطائفة قالت: لا نسلم أن كل ما كان في جهة فهو جسم. فادعت نفاة الرؤية أن العلم الضروري حاصل بالمقدمتين، وأن المنازع فيهما مكابر. وهذا هو البحث المشهور بين المعتزلة والأشعرية، فلهذا صار الحذاق من متأخري الأشعرية على نفي الرؤية وموافقة المعتزلة، فإذا أطلقوها موافقة لأهل السنة فسروها بما تفسرها به المعتزلة، وقالوا: المزاع بيننا وبين المعتزلة لفظي. وطائفة نازعت في المقدمة الثانية ـ وهي أنتفاء اللازم ـ وهي كالهشامية والكرامية وغيرهم، فأخذت المعتزلة وموافقوهم يشنعون على هؤلاء، وهؤلاء وإن كان في قولهم بدعة وخطأ، ففي قول المعتزلة من البدعة والخطأ أكثر مما في قولهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ومن أراد أن يماظر مناظرة شرعية بالعقل الصريح فلا يلتزم لفظاً بدعياً، ولا يخالف دليلاً عقليا ولا شرعياً، فإنه يسلك طريق أهل السنة والحديث والأئمة الذين لا يوافقون على إطلاق الإثبات ولا النفي بل يقولون: ما تعنون بقولكم: إن كل مرئي جسم؟. فإن فسروا ذلك بان كل مرئي يجب أن يكون قد ركبه مركب، أو أن يكون كان متفرقاً فاجتمع، أو أنه يمكن تفريقه، ونحو ذلك، منعوا هم المقدمة الأولى، وقالوا: هذه السماوات مرئية مشهودة، ونحن لا نعلم أنها كانت متفرقة مجتمعة، وإذا جاز أن يرى ما يقبل التفريق فما لا يقبله أولى بإمكان رؤيته، فالله تعالى أحق بأن تمكن رؤيته من السماوات ومن كل قائم بنفسه، فإن المقتضى للرؤية لا يجوز أن يكون أمراً عدمياً، بل لا يكون إلا وجودياً، وكلما كان الوجود أكمل كانت الرؤية أجوز، كما قد بسط في غير هذا الموضع. وإن قالوا: مرادنا بالجسم المركب أنه مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة نازعوهم في هذا، وقالوا: دعوى كون السماوات مركبة من جواهر منفردة، أو من مادة وصورة دعوى ممنوعة أو باطلة، وبينوا فساد قول من يدعي هذا، وقول من يثبت الجوهر الفرد أو يثبت المادة والصورة، وقالوا: إن الله خلق هذا الجسم المشهود هكذا، وإن ركبه ركبه من أجسام أخري وهو سبحانه يخلق الجسم من الجسم، كما يخلق الإنسان من الماء المهين، وقد ركبت العظام في مواضعها من بدن ابن آدم، وركب الكواكب في السماء، فهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 معروف. وأما أن يقال إنه خلق أجزاء لطيفة لا تقبل الانقسام ثم ركب منها العالم فهذا لا يعلم بعقل ولا سمع، بل هو باطل، لأن كل جزء لا بد أن يتميز منه جانب عن جانب، والأجزاء المتصاغرة كأجزاء الماء تستحيل عند تصغرها، كما يستحيل الماء إلى الهواء، مع أن المستحيل يتميز بعضه عن بعض. وهذه المسائل قد بسطت في غير هذا الموضع، وبين أن الأدلة العقلية بينت جواز الرؤية وإمكانها، وليست العمدة على دليل الأشعري ومن وافقه في الاستدلال لأن المصحح للرؤية مطلق الوجود، بل ذكرت أدلة عقلية دائرة بين النفي والإثبات لا حيلة لنفاة الرؤية فيها. والمقصود هنا بيان كلام كلي في جنس ما تعارض به نصوص الإثبات من كلام النفاة الذي يسمونه عقليات. وإن قالوا: مرادنا أن المرئي لا بد أن كون معايناً تجاه الرائي، وما كان كذلك فهو جسمونحو هذا الكلام، قالوا لهم: الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر» ، وقال: «هل تضامون في رؤية الشمس صحواً ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فهل تضامون في رؤية القمر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر» . وهذا تشبيه للرؤية، لا للمرئي بالمرئي، وفي لفظ في الصحيح: «إنكم ترون ربكم عياناً» فإذن قد أخبرنا أنا نراه عياناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وقد أخبرنا أيضاً أنه قد: استوى على العرش فهذه النصوص يصدق بعضها بعضاً، والعقل أيضاً يوافقها، ويدل على أنه سبحانه مباين لمخلوقاته فوق سماواته، وأن وجود موجود لا مباين للعالم ولا مجانس له محال في بديهة العقل، فإذا كانت الرؤية مستلزمة لهذه المعاني فهذا حق، وإذا سميتم انتم هذا قولاً بالجهة وقولاً بالتجسيم لم يكن هذا القول نافياً لما علم بالشرع والعقل، إذ كان معنى هذا القول ـ والحال هذه ـ ليس منتفياً لا بشرع ولا عقل. ويقال لهم: ما تعنون بأن هذا إثبات للجهة والجهة ممتنعة؟ أتعنون بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً؟ فإن أردتم أمرا وجودياً ـ وقد علم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والله فوق سماواته بائن من مخلوقاته، لم يكن ـ والحالة هذه ـ في جهة موجودة، فقولكم: إن المرئي لا بد أن يكون في جهة موجودة قول باطل، فإن سطح العالم مرئي، وليس هو في عالم آخر. وإن فسرتم الجهة بأمر عدمي كما تقولون: إن الجسم في حيز، ولاحيز تقدير مكان، وتجعلون ما وراء العالم حيزاً. فيقال لكم: الجهة ـ والحيز ـ إذا كان أمراً عدمياً فهو لا شيء، وما كان في جهة عدمية أو حيز عدمي، فليس هو في شيء، ولا فرق بين قول القائل: هذا ليس في شيء وبين قوله: هو في العدم أو أمر عدمي فإذا كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الخالق تعالى مبايناً للمخلوقات عالياً عليها، وما ثم موجود إلا الخالق أو المخلوق، لم يكن معه غيره من الموجودات، فضلاً عن أن يكون هو سبحانه في شيء موجود يحصره أو يحيط به. فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية، فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه، ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة أيضاً، وقالوا: إنما قابل بدعة ببدعة، ورداً باطلاً بباطل. مثال آخر: كلمة جبر ونظير هذا القصص المعروفة التي ذكرها الخلال في كتاب السنة هو وغيره في مسألة اللفظ ومسألة الجبر ونحوهما من المسائل، فإنه لما ظهرت القدرية النفاة للقدر وأنكروا أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأن يكون خالقاً لكل شيء وأن تكون أفعال العباد من مخلوقاته، أنكر الناس هذه البدعة، فصار بعضهم يقول في مناظرته: هذا يلزم منه أن يكون الله مجبراً للعباد على أفعالهم، وأن يكون قد كلفهم ما لا يطيقونه، فالتزم بعض من ناظرهم من المثبتة إطلاق ذلك، وقال: نعم يلزم الجبر، والجبر حق، فأنكر الأئمة ـ كـ الأوزاعي وأحمد بن حنبل ونحوهما ـ ذلك على الطائفتين، ويروى إنكار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 إطلاق الجبر عن الزبيدي وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم. وقال الأوزاعي وأحمد ونحوهما: من قال إنه جبر فقد أخطأ، ومن قال لم يجبر فقد أخطأ، بل يقال: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ونحو ذلك. وقالوا: ليس للجبر أصل في الكتاب والسنة، وإنما الذي في السنة لفظ الجبل لا لفظ الجبر فإنه قد صح «عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال لأشج عبد القيس إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة. فقال: أخلقين تخلقت بهما، أم خلقين جبلت عليه؟ فقال: بل خلقين جبلت عليهما. فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله» . وقالوا: إن لفظ الجبر لفظ مجمل فإن الجبر إذا أطلق في الكلام فهم منه إجبار الشخص على خلاف مراده، كما تقول الفقهاء: إن الأب يجبر ابنته على النكاح أو لا يجبرها، وإن الثيب البالغ العاقل لا يجبرها أحد على النكاح بالاتفاق، وفي البكر البالغ نزاع مشهور، ويقولون: إن ولي الأمر يجبر المدين على وفاء دينه، ونحو ذلك، فهذه العبارات معناها إجبار الشخص على خلاف مراده، وهو كلفظ الإكراه: إما أن يحمله على الفعل الذي يكرهه ويبغضه فيفعل خوفاً من وعيده، وإما أن يفعل به الشيء بغير فعل منه. ومعلوم أن الله سبحانه تعالي إذا جعل في قلب العبد إرادة للفعل ومحبة له حتى يفعله ـ كما قال تعالي {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات: 7]ـ لم يكن هذا جبراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 بهذا التفسير، ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى، فإنه هو الذي جعنل الراضي راضيا، والمحب محبا، والكاره كارها. وقد يراد بالجبر نفس جعل العبد فاعلا، ونفس خلقه متصفاً بهذه الصفات، كما في قوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعاً * إذا مسه الشر جزوعاً * وإذا مسه الخير منوعاً} [المعارج: 19-20] . فالجبر بهذا التفسير حق، ومنه قول محمد بن كعب القرظي في تفسير اسمه الجبار قال: هو الذي جبر العباد على ما أراد. ومنه قول علي رضي الله عنه في الأثر المشهور عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم داحي المدحوات، فاطر المسموكات، جبار القولب على فطراتها: شقيها وسعيدها فالأئمة منعت من إطلاق القول بإثبات لفظ الجبر أو نفيه بدعة يتناول حقاً باطلاً. مثال ثالث: اللفظ بالقرآن وكذلك مسألة اللفظ، فإنه لما كان السلف والأئمة متفقين على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وقد علم المسلمون أن القرآن بلغه جبريل عن الله إلي محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه محمد إلي الخلق، وأن الكلام إذا بلغه المبلغ عن قائله لم يخرج عن كونه كلام المبلغ عنه، بل هو كلام لمن قاله مبتدئاً، لا كلام من بلغه عنه مؤدياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا قال «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» وبلغ هذا الحديث عنه واحد بعد واحد حتى وصل إلينا كان من المعلوم أنا إذا سمعناه من المحدث به إنما سمعنا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تلكم به بلفظه ومعناه، وإنما سمعناه من المبلغ عنه بفعله وصوته، ونفس الصوت الذي تلكم به النبي صلى الله عليه وسلم لم نسمعه، وإنما سمعنا صوت المحدث عنه، والكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا كلام المحدث. فمن قال: إن هذا الكلام ليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مفترياً، وكذلك من قال: إن هذا لم يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أحدثه في غيره، أو إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بلفظه وحروفه، بل كان ساكتاً أو عاجزاً عن التكلم بذلك، فعلم غيره ما في نفسه، فنظم هذه الألفاظ ليعبر بها عما في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، او نحو هذا الكلام ـ فمن قال هذا كان مفترياً، ومن قال: إن هذا الصوت المسموع صوت النبي صلى الله عليه وسلم، كان مفترياً. فإذا كان هذا معقولاً في كلام المخلوق، فكلام الخالق أولى بإثبات ما يستحقه من صفات الكمال، وتنزيه الله أن تكون صفاته وأفعاله هي صفات العباد وأفعالهم، أو مثل صفات العباد وأفعالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فالسلف والأئمة كانوا يعلمون أن هذا القرآن المنزل المسموع من القارئين كلام الله، كما قال تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] ، ليس هو كلاماً لغيره، لا لفظه ولا معناه، ولكن بلغه عن الله حبريل، وبلغه محمد رسو ل الله عن جبريل، ولهذا أضافه الله إلى كل من الرسولين، لأنه بلغه وأداه، لا لأنه أحدث لا لفظه ولا معناه، إذ لو كان أحدهما هو الذي أحدث ذلك لم يصح إضافة الإحداث إلى الآخر، فقال تعالى {إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين} [الحاقة: 40-43] فهذا محمد صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى {إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين} [المطففين: 19-21] فهذا تجبريل عليه السلام. وقد توعد الله تعالى من قال {إن هذا إلا قول البشر} [المدثر: 25] ، فمن قال: إن هذا القرآن قول البشر فقد كفر: وقال بقول الوحيد الذي أوعده الله سقر، ومن قال: إن شيئاً منه قول البشرفقد قال ببعض قوله، ومن قال: إنه ليس بقول رسول كريم، وإنما هو قول شاعر أو مجنون أو مفتر، أو قال: هو قول شيطان نزل به عليه ونحو ذلك، فهو أيضاً كافر ملعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وقد علم المسلمون الفرق بين أن يسمع كلام المتكلم منه أو من المبلغ عنه، وأن موسى سمع كلام الله من الله بلا واسطة، وأنا نحن نسمع كلام الله من المبلغين عنه، وإذا كان الفرق ثابتاً بين من سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم منه وبين من سمعه من الصاحب المبلغ عنه، فالفرق هنا أولى، لأن أفعال المخلوق وصفاته أشبه بأفعال المخلوق وصفاته من أفعاله وصفاته بأفعال الله وصفاته. ولما كانت الجهمية يوقلون: إن الله لم يتكلم في الحقيقة بل خلق كلاماً في غيره ومن أطلق منهم أن الله تكلم حقيقة، فهذا مراده، فالنزاع بينهم لفظي ـ كان من المعلوم أن القائل إذا قال: هذا القرآن مخلوق كان مفهوم كلامه أن الله لم يتكلم بهذا القرآن، وأنه ليس هو كلامه، بل خلقه في غيره. وإذا فسر مراده بأني أردت أن حركات العبد وصوته والمداد مخلوق، كان هذا المعني ـ وإن كان صحيحاً ـ ليس هو مفهوم كلامه، ولا معنى قوله، فإن المسلمين إذا قالوا: هذا القرآن كلام الله لم يريدوا بذلك أن أصوات القارئين وحركاتهم قائمة بذات الله، كما أنهم إذا قالوا: هذا الحديث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يريدوا بذلك: أن حركات المحدث وصوته قامت بذات رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل وكذلك، إذا قالوا في إنشاد لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 هذا شعر لبيد وكلام لبيد، لم يريدوا بذلك أن صوت المنشد هو صوت لبيد، بل أرادوا أن هذا القول المؤلف، لفظه ومعناه، وهو لبيد، وهذا منشد له، فمن قال: إن هذا القرآن مخلوق أو: إن القرآن المنزل مخلوق أو نحو هذه العبارات، كان بمنزلة من قال: إن هذا الكلام ليس هو كلام الله ن وبمنزلة من قال عن الحديث المسموع من المحدث: إن هذا ليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بهذا الحديث، وبمنزلة من قال: إن هذا الشعر ليس هو شعر لبيد، ولم يتكلم به لبيد، ومعلوم أن هذا كله باطل. ثم إن هؤلاء صاروا يقولون: هذا القرآن المنزل المسموع هو تلاوة القرآن وقراءته، وتلاوة القرآن مخلوقة، وقراءة القرآن مخلوقة. ويقولون: تلاوتنا للقرآن مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة، ويدخلون في ذلك نفس الكلام المسموع، ويقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق، يدخلون في ذلك القرآن الملفوظ المتلو المسموع. فأنكر الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة هذا، وقالوا: اللفظية جهمية، وقالوا: افترقت التجهمية ثلاث فرق: فرقة قالت: القرآن مخلوق، وفرقة قالت: نقف فلا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، وفرقة قالت: تلاوة القرآن واللفظ بالقرآن مخلوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 فلما انتشر ذلك عن أهل السنة غلطت طائفة فقالت: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، وتلاوتنا له غير مخلوقة، فبدع الإمام أحمد هؤلاء، وأمر بهجرهم. ولهذا ذكر الأشعري في مقالاته هذا عن أهل السنة وأصحاب الحديث، فقال: والقول باللفظ والوقف عندهم بدعة، من قال اللفظ بالقرآن مخلوق فهو مبتدع عندهم، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع. وكذلك ذكر محمد بن جرير الطبري في صريح السنة أنه سمع غير واحد من أصحابه يذكر عن الإمام أحمد أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع. وصنف أبو أحمد بن قتيبة في ذلك كتاباً، وقد ذكر أبو بكر الخلال هذا في كتاب السنة وبسط القول في ذلك، وذكر ما صنفه أبو بكر المروزي في ذلك، وذكر قصة أبي طالب المشهورة التي نقلها عنه أكابر أصحابه، كعبد الله وصالح ابنيه والمروزي وأبي محمد فوران ومحمد بن إسحاق الصاغني وغير هؤلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وكان أهل الحديث قد أفتوقوا في ذلك، فصار طائفة منهم يقولون: لفظنا بالقرآن غير مخلوق ومرادهم أن القرآن المسموع غير مخلوق، وليس مراده صوت العبد، كما يذكر ذلك عن أبي حاتم الرازي، ومحمد بن داود المصيصي، وطوائف غير هؤلاء. وفي أتباع هؤلاء من قد يدخل صوت العبد أو فعله في ذلك أو يقف فيه، ففهم ذلك بعض الأئمة، فصار يقول: أفعال العباد أصواتهم مخلوقة، رداً لهؤلاء، كما فعل البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما من أهل العلم والسنة. وصار يحصل بسبب كثرة الخوض في ذلك ألفاظ مشتركة، وأهواء للنفوس، حصل بسبب ذلك نوع من الفرقة والفتنة، وحصل بين البخاري وبين محمد بن يحيى الذهلي في ذلك ما هو معروف، وصار قوم مع البخاري كمسلم بن الحجاج نحوه، وقوم عليه كأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وكل هؤلاء من أهل العلم والسنة والحديث، وهم من أصحاب أحمد بن حنبل، ولهذا قال ابن قتيبة: إن أهل السنة لم يختلوفوا في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ. وصار قوم يطلقون القول بأن التلاوة هي المتلو، والقراءة هي المقروء، وليس مرادهم بالتلاوة المصدر، ولكن الإنسان إذا تكلم بالكلام فلا بد له من حركة، ومما يكون عن الحركة من أقواله التي هي حروف منظومة ومعان مفهومة، والقول والكلام يراد به تارة المجموع فتدخل الحركة في ذلك، ويكون الكلام نوعاً من العمل وقسماً منه، ويراد به تارةً ما يقترن بالحركة ويكون عنها، لا نفس الحركة، فيكون الكلام قسيماً للعمل، ونوعاً آخر ليس هو منه ولهذا تنازع العلماء في لفظ العلم المطلق: هل يدخل فيه الكلام؟، على قولين معروفين لأصحاب أحمد وغيرهم، وبنوا على ذلك ما إذا حلف لا يعمل اليوم علملاً، فتكلم، هل يحنث أم لا؟ على قولين، وذلك لأن لفظ الكلام قد يدخل في العمل وقد لا يدخل. فالأول كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل والنهار، فقال رجل: لو لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان» أخرجاه في الصحيحين، فقد جعل فعل هذا الذي يتلوه آناء الليل والنهار عملاً، كما قال: لعملت فيه مثل ما يعلم فلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 والثاني كما في قوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10] ، وقوله تعالى {وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه} [يونس: 61] فالذين قالوا التلاوة هي المتلو من أهل العلم والسنة قصدوا أن التلاوة هي القول والكلام المقترن بالحركة، وهي الكلام المتلو. وآخرون قالوا: بل التلاوة غير المتلو، والقراءة غير المقروء، والذين قالوا ذلك من أهل السنة والحديث أرادوا بذلك أن أفعال العباد ليس هي كلام الله، ولا أصوات العباد هي صوت الله، وهذا الذي قصده البخاري، وهو مقصود صحيح. وسبب ذلك أن لفظ: التلاوة، والقراءة، واللفظ مجمل مشترك: يراد به المصدر، ويراد به المفعول. فمن قال: اللفظ ليس هو الملفوظ، والقول ليس هو المقول وأراد باللفظ والقول المصدر، كان معني كلامه أن الحركة ليست هي الكلام المسموع، وهذا صحيح. ومن قال اللفظ هو الملفوظ، والقول هو نفسه المقول وأراد باللفظ والقول مسمى المصدر، صار حقيقة مراده أن اللفظ والقول المراد به الكلام المقول الملفوظ هو الكلام المقول الملفوظ، وهذا صحيح. فمن قال: اللفظ بالقرآن، أو القراءة، أو التلاوة، مخلوقة أو لفظي بالقرآن، أو تلاوتي دخل في كلامه نفس الكلام المقروء المتلو، وذلك هو كلام الله تعالى. وإن أراد بذلك مجرد فعله وصوته كان المعني صحيحاً، لكن إطلاق اللفظ يتناول هذا وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ولهذا قال أحمد في بعض كلامه: من قال لفظي بالقرآن كخلوق يريد به القرآن فهو جهمي أحترازاً عما إذا أراد به فعله وصوته. وذكر اللالكائي، أن بعض من كان يقول ذلك رأى في منامه كأن عليه فروة رجل يضربه، فقال له: لا تضربني، فقال: إني لا أضربك، وإنما أضرب الفروة، فقال: إن الضرب إنما يقع ألمه علي، فقال هكذا إذا قلت: لفظي بالقرآن مخلوق وقع الخلق على القرآن. ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، أو تلاوتي دخل في ذلك المصدر الذي هو علمه، وأفعال العباد مخلوقة، ولو قال: أردت به أن القرآن المتلو غير مخلوق، لا نفس حركاتي قيل له: لفظك هذا بدعة، وفيه إجمال وإيهام، وإن كان مقصودك صحيحاً كما يقال للأول إذا قال: أردت أن فعلي مخلوق: لفظك أيضاً بدعة، وفيه إجمال وإيهام وإن كان مقصودك صحيحاً. فلهذا منع أئمة السنة الكبار إطلاق هذا وهذا، وكان هذا وسطاً بين الطرفين، وكان أحمد وغيره من الأئمة يقولون: القرآن تحيث تصرف كلام الله غير مخلوق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 فيجعلون القرآن نفسه حيث تصرف غير مخلوق، من غير أن يقترن بذلك ما يشعر أن أفعال العباد وصفاتهم غير مخلوق. وصارت كل طائفة من النفاة والمثبتة في مسألة التلاوة تحكي قولها عن أحمد، وهم ـ كما ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال وقال: إن كل واحدة من هاتين الطائفتين تذكر قولها عن أحمد وهم يفقهون قوله لدقة معناه. ثم صار ذلك التفرق موروثاً في أتباع الطائفتين، فصارت طائفة تقول: إن اللفظ بالقرآن غير مخلوق، موافقة لـ أبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وأمثالهما كأبي عبد الله بن منده وأهل بيته، وأبي عبد الله بن حامد، وأبي نصر السجزي، وأبي إسماعيل الأنصاري، وأبي يعقوب الفرات الهروي وغيرهم. وقوم يقولون نقيض هذا القول من غير دخول في مذهب ابن كلاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 مع اتفاق الطائفتين على أن القرآن كله كلام الله، لم يحدث غيره شيئاً منه، ولا خلق منه شيئاً في غيره: لا حروفه، ولا معانيه ـ مثل حسين الكرابيسي وداود بن علي الأصبهاني وأمثالهما. وحدث مع هذا من يقول بقول ابن كلاب: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفس المتكلم، هو الأمر بكل ما أمر به، والنهي عن كل ما نهى عنه، والإخبار بكل ما أخبر به، وإنه إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة. وجمهور الناس من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم أنكروا ذلك، وقالوا: إن فساد هذا معلوم بصريح العقل فإن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن، ولا معنى {قل هو الله أحد} هو معنى {تبت يدا أبي لهب} . وكان يوافقهم على إطلاق القول بأن التلاوة غير المتلو وأنها مخلوقة، من لا يوافقهم على هذا المعنى، بل قصده أن التلاوة هي أفعال العباد وأصواتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وصار أقوام يطلقون القول بأن التلاوة غير المتلو، وأن اللفظ بالقرآن مخلوق، فمنهم من يعرف أنه موافق لابن كلاب، ومنهم من يعرف مخالفته له، ومنهم من لا يعرف منه لا هذا ولا هذا، وصار أبو الحسن الأشعري ونحوه ـ ممن يوافق ابن كلاب على قوله ـ موافقاً للإمام أحمد وغيره من أئمة السنة في المنع من إطلاق هذا وهذا، فيمنعون أن يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، وهؤلاء منعوه من جهة كونه يقال في القرآن: إنه يلفظ أو لا يلفظ وقالوا اللفظ: الطرح والرمي، ومثل هذا لا يقال في القرآن. ووافق هؤلاء على التعليل بهذا طائفة ممن لا يقول بقول ابن كلاب في الكلام كالقاضي أبي يعلى وأمثاله، ووقع بين أبي نعيم الأصبهاني وأبي عبد الله بن منده في ذلك ما هو معروف، وصنف أبو نعيم في ذلك كتابه في الرد على اللفظية والحلولية، ومال فيه إلى كجانب النفاة الفائلين بأن الىلاوة مخلوقة، كنا مال ابن منده إلى جانب من يقول إنها غير مخلوقه، وحكى كل منهما من الحق وجد فيه من المنقول الثبت عن الأئمة ما يوافقه. وكذلك وقع بين أبي ذر الهروي وأبي نصر السجزي في ذلك، حتى صنف أبو نصر السجزي كتابه الكبير في ذلك المعروف بالإبانة، وذكر فيه من الفوائد والآثار والانتصار للسنة وأهلها أموراً عظيمة المنفعة، لكنه نصر فيه قول من يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأنكر على ابن قتيبة وغيره ما ذكروه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 التفصيل، ورجح طريقة من هجر البخاري، وزعم أن أحمد بن حنبل كان يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأنه رجع إلى ذلك. وأنكر ما نقله الناس عن أحمد من إنكار على الطائفتين، وهي مسألة أبي طالب المشهورة. وليس الأمر كما ذكره، فإن الإنكار على الطائفتين مستفيض عن أحمد عند أخص الناس به من أهل بيته وأصحابه الذين اعتنوا بجمع كلام الإمام أحمد، كـ المروزي والخلال وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهم، وقد ذكروا من ذلك ما يعلم لك عارف له أنه أثبت الأمور عن أحمد. وهؤلاء العراقيون أعلم بأقوال أحمد من المتنسبين إلى السنة والحديث من أهل خرسان، الذين كان ابن منده وأبو نصر وأبو إسماعيل الهروي وأمثالهم يسلكون حذرهم، ولهذا صنف عبد الله بن عطاء الإبراهيمي كتاباً فيمن أخذ عن أحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 العلم، فذكر طائفة ذكر منهم أبو بكر الخلال، وظن أنه أبو محمد الخلال شيخ القاضي أبي يعلي وأبي بكر الخطيب، فاشتبه عليه هذا بهذا. وهذا كما أن العرقيين المنتسبين إلى أهل الإثبات من أبتاع ابن كلاب كأبي العباس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري، وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري، والقاضي أبي بكر ابن الباقلاني، وأمثالهم، أقرب إلى السنة وأتبع لأحمد بن حنبل وأمثاله من أهل خراسان المائلين إلى طريقة ابن كلاب، ولهذا كان القاضي أبو بكر بن الطيب يكتب في أجوبته أحياناً: محمد بن الطيب الحنبلي، كما كان يقول الأشعري، إذ كان الأشعري وأصحابه منتسبين إلي أحمد بن حنبل وأمثاله من أئمة السنة، وكان الأشعري أقرب إلى مذهب أحمد بن حنبل وأهل السنة من كثير من المتأخرين المنتسبين إلى أحمد الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة، كابن عقيل، وصدقة بن الحسين، وابن الجوزي، وأمثالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وكان أبو ذر الهروي قد أخذ طريقة ابن الباقلاني وأدخلها إلى الحرم، ويقال إنه أول من أدخلها إلى الحرم، وعنه أخذ ذلك من أخذه من أهل المغرب فإنهم كانوا يسمعون عليه البخاري ويأخذون ذلك عنه، كما أخذه أبو الوليد الباجي، ثم رحل الباجي إلى العرق، فأخذ طريقة الباقلاني عن أبي جعفر السمناني قاضي الموصل صاحب ابن الباقلاني، ونحن قد بسطنا الكلام في هذه المسائل وبينا ما حصل فيها من النزاع والاضطراب في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن الأئمة الكبار كانو يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة، لما فيه من لبس الحق بالباطل ن ممع ما توقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة والألفاظ التي بينت معانيها، فإن ما كان مأثوراً حصلت له الألفة، وما كان معروفا حصلت به المعرفة، كما يرى عن مالك رحمه الله أنه قال: إذا قل العلم ظهر الجفاء، وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء. فإذا لم يكن اللفظ منقولاً ولا معناه معقولاً ظهر الجفاء والأهواء، ولهذا تجد قوماً كثيرين يحبون قوماً ويبغضون قوماً لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها، بل يوالون على إطلاقها أو يعادون، من غير أن تكون منقولة نقلا صحيحاً عن النبي صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الله عليه وسلم وسلف الأمة، ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها، ولا يعرفون لازمها ومقتضاها. وسبب هذا إطلاق أقوال ليست منصوصة، وجعلها مذاهب يدعى إليها، ويوالي ويعادى عليها. وقد ثبت في الصحيح «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي عليها ويعادي غير النبي صلى الله عليه وسلم وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به بين الأمة، يوالون علي ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون. ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان ـ وإن تنازعوا فيما تنازعوا فيه من الأحكام ـ فالعصمة بينهم ثابتة، وهم يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، فبعضهم يصيب الحق فيعظم الله أجره ويرفع درجته، وبعظهم يخطئ بعد إجتهاده في طلب الحق، فيغفر الله له خطأه، تحقيقاً لقوله تعالى {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286] سواء كان خطؤهم في حكم علمي أو حكم خبري نظري، كتنازعهم في الميت هل يعذب ببكاء أهله عليه؟ وهل يسمع الميت قرع نعالهم؟ وهل رأي محمد ربه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وأبلغ من ذلك أن شريحاً أنكر قراءة من قرأ {بل عجبت ويسخرون} [الصافات: 12] وقال: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي، فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبد الله أعلم منه أو قال: أفقه منه ـ وكان يقرأ) بل عجبت) فأنكر على شريح إنكاره، مع أن شريحاً من أعظم الناس قدراً عند المسلمين، ونظائر هذا متعددة. والأقوال إذا حكيت عن قائلها أو نسبت الطوائف إلى متبوعها فإنما ذاك على سبيل التعريف والبيان، وأما المدح والذم والموالاة والمعاداة فعلى الأسماء المذكورة في القرآن العزيز، كاسم المسلم والكافر، والمؤمن والمنافق، والبر والفاجر، والصادق والكاذب، والمصلح والمفسد، وأمثال ذلك، وكون القول صواباً أو خطأ يعرف بالأدلة الدالة على ذلك المعلومة بالعقل والسمع، والأدلة الدالة على العلم لا تتناقض كما تقدم. والتناقض هو أن يكون أحد الدليلين يناقض مدلول الآخر: إما بأن ينفي أحدهما عين ما يثبته الآخر، وهذا هو التناقض الخاص الذي بذكره أهل الكلام والمنطق، وهو اختلاف قضيتين بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 إحداهما كذب الأخرى. وأما التناقض لمطلق فهو أن يكون موجب أحد الدليلين ينافي موجب الآخر: إما بنفسه، وإما بلازمه، مثل أن ينفي أحدهما لازم الآخر أو يثبت ملزومه، فإن انتقاء لازم الشيء، يقتضي انتفاءه، وثبوت ملزومه يقتضي ثبوته. ومن هذا الباب الحكم على الشيئين المتماثلين من كل وجه مؤثر في الحكم بحكمين مختلفين، فإن هذا تناقض أيضاً، إذ حكم الشيء حكم مثله، فإذا حكم على مثله بنقيض حكمه كان كما لو حكم عليه بنقيض حكمه. وهذا التناقض العام هو الاختلاف الذي نفا الله تعالى عن كتابه بقوله عز وجل: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82] ، وهو الاختلاف الذي وصف الله به قول الكفار في قوله تعالى {إنكم لفي قول مختلف * يؤفك عنه من أفك} [الذاريات: 8-9] . وضد هذا هو التشابه العام الذي وصف الله به القرآن في قوله {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني} [الزمر: 23] ، وهذا ليس هو التشابه الخاص الذي وصف الله تعالى به القرآن في قوله {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} [آل عمران: 7] ، فإن ذلك التشابه العام يراد به التناسب والتصادق والائتلاف. وضده: الاختلاف الذي هو التناقض والتعارض، فالأدلة الدالة على العلم لا يجوز أن تكون متناقضة متعارضة، وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ومن صار من أخل الكلام إلى القول بتكافؤ الأدلة والحيرة فإنما ذلك لفساد استدلاله إما لتقصيره، وإما لفساد دليله، ومن أعظم أسباب ذلك الألفاظ المجملة التي تشتبه معانيها. وهؤلاء الذين يعارضون الكتاب والسنة بأقوالهم بنوا أمرهم على اصل فاسد، وهو أنهم جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها هي الأقوال المحكمة التي جعلوها أصول دينهم، وجعلوا قول الله ورسوله من المجمل الذي لا يستفاد منه علم ولا هدى، فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه، كما يجعل الجهمية من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم ما أحدثوه من الأقوال التي نفوا به صفات الله، ونفوا بها رؤيته في الآخرة وعلوه على خلقه، وكون القرآن كلامه ونحو ذلك، جعلوا تلك الأقوال محكمة، وجعلوا قول الله ورسوله مؤولاً عليها، أو مردوداً، أو غير ملتفت إليه ولا متلقى للهدى منه فتجد أحدهم يقول: ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، ولا له كم، ولا كيف، ولا تحله الأعراض والحوادث ونحو ذلك، وليس بمباين للعالم ولا خارج عنه. فإذا قيل: إن الله أخبر أن له علماً وقدرة، قالوا لو كان له علم وقدرة للزم أن تحله الأعراض، وأن يكون جسماً، وأن يكون له كيفية وكمية، وذلك منتف عن الله، لما تقدم. ثم قد تقول: إن الرسول قصد بما ذكره من أسماء الله وصفاته أموراً لا نعرفها، وقد تقول: إنه قصد خطاب الجمهور فإفهامهم الأمر على غير حقيقته، لأن مصلحتهم في ذلك قد يفسر صفة بصفة، كما يفسر الحب والرضا والغضب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 بالإرادة، أو السمع والبصر بالعلم، والكلام والإرادة والقدرة بالعلم، ويكون القول في الثانية كالقول في الأولى، يلزمها من اللوازم في النفي والإثبات ما يلزم التي نفاها، فيكون مع جمعه في كلامه أنواعاً من السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات قد فرق بين المتماثلين: بأن جعل حكم أحدهما مخالفاً لحكم الآخر، ويكون قد عطل النصوص عن مقتضاها، ونفى بعض ما يستحق الله من صفات الكمال، ويكون النافي لما أثبته هو قد تسلط عليه، وأورد عليه فيما أثبته هو نظير ما أورده هو على من أثبت ما نفاه، وإن كان النافي لما أثبته أكثر تناقضاً منه. ثم هؤلاء يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المجملة ديناً، يوالون عليه ويعادون، بل يكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه، ويقول: مسائل أصول الدين: المخطئ فيها يكفر وتكون تلك المسائل مما ابتدعوه. معلوم أن الخوارج هم مبتدعة مارقون، كما ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة ذمهم والطعن عليهم، وهم إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه، وجعلوا من خالف ذلك كافرا، لاعتقادهم أنه خالف القرآن، فمن ابتدع أقوالاً ليس له أصل في القرآن، وجعل من خالفها كافراً كان قوله شراً من قول الخوارج، ولهذا اتفق السلف والأئمة على أن قول الجهمية شر من قول الخوارج. وأصل قول الجهمية هو نفي الصفات بما يزعمون من دعوى العقليات التي عارضوا بها النصوص، إذ كان العقل الصريح الذي يستحق أن تسمى قضاياه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 عقليات موافقاً للنصوص لا مخالفاً لها، ولما كان قد شاع في عرف الناس أن قول الجهمية مبناه على النفي صار الشعراء ينظمون هذا المعنى، كقول أبي تمام: جهمية الأوصاف إلا أنهم ... قد لقبوها جوهر الأشياء فهؤلاء ارتكبوا أربع عظائم: أحدها: ردهم لنصوص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والثاني: ردهم ما يوافق ذلك من معقول العقلاء، والثالث: جعل ما خالف ذلك من أقوالهم المجملة أو الباطلة هي أصول الدين، والرابع: تكفيرهم، أو تفسيقهم، أو تخطئتهم لمن خالف هذه الأقوال المبتدعة المخالفة لصحيح المنقول وصريح المعقول. وأما أهل العلم والإيمان: فهم على نقيض هذه الحال، يجعلون كلام الله وكلام رسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه، وإليه يرد ما تنازع الناس فيه، فما وافقه كان حقاً، وما خالفه كان باطلاً، ومن كان قصده متابعته من المؤمنين، وأخطأ بعد اجتهاده الذي أستفرغ به وسعه غفر الله له خطأه، سواء كان خطؤه في المسائل العلمية الحبرية، او المسائل العلمية، فإنه ليس كل ما كان معلوماً متيقناً لبعض الناس يجب أن يكون معلوماً متيقناً لغيره. وليس كل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه كل الناس ويفهمونه، بل كثير منهم لم يسمع كثيراً منه، وكثير منهم قد يشتبه عليه ما أراده، وإن كان كلامه في نفسه محكماً مقروناً بما يبين مراده، لكن أهل العلم يعلمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ما قاله، ويميزون بين النقل الذي يصدق به والنقل الذي يكذب به، ويعرفون ما يعلم به معاني كلامه صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالي أمر الرسول بالبلاغ المبين، وهو أطوع الناس لربه، فلا بد أن يكون قد بلغ البلاغ المبين، ومع البلاغ المبين لا يكون بيانه ملتبساً مدلساً. معنى الاستواء على العرش والآيات التي ذكر الله فيها أنها متشابهات لا يعلم تأوليها إلا الله، إنما نفى عن غيره علم تأويلها، لا علم تفسيرها ومعناها، كما أنه لما سئل مالك رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ـ وكذلك ربيعة قبله ـ فبين مالك أن معنى الاستواء معلوم، وأن كيفيته مجهولة، فالكيف المجهول هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، وأما ما يعلم من الاستواء وغيره فهو من التفسير الذي بينه الله ورسوله. والله تعالى قد أمرنا أن نتدبر القرآن، وأخبر أنه أنزله لتعقله، ولا يكون التدبر والعقل إلا لكلام بين المتكلم مراده به، فأما من تكلم بلفظ يحتمل معاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 كثيرة ولم يبين مراده منها فهذا لا يمكن أن يتدبر كلامه، ولا يعقل، ولهذا تجد عامة الذين يزعمون أن كلام الله يحتمل وجوهاً كثيرة، وأنه لم يبين مراده من ذلك قد اشتمل كلامهم من الباطل على ما لا يعلمه إلا الله، بل في كلامهم من الكذب في السمعيات نظير ما فيه من الكذب في العقليات، وإن كانوا لم يتعمدوا الكذب، كالمحدث الذي يغلط في حديثه خطأ، بل منتهى أمرهم: القرمطة في السمعيات، والسفسطة في العقليات، وهذان النوعان مجمع الكذب والبهتان. فإذ قال القائل: استوى يحتمل خمسة عشر وجهاً أو أكثر أو أقل، كان غالطاً، فإن قول القائل: استوى على كذا له معنى، وقوله: استوى إلى كذا له معنى، وقوله: استوى وكذا له معنى، وقوله: استوى بلا حرف يتصل به له معنى، فمعانيه تنوعت بتنوع ما يتصل به من الصلات، كحرف الاستعلاء والغاية وواو الجمع، أو ترك تلك الصلات. وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أن كلام الله مبين غاية البيان، موفى حق التوفية في الكشف والإيضاح، وقد بسط الكلام على هذا النص وغيره، وبين نحو من عشرين دليلاً على أن هذه الآية نص في معنى واحد لا يحتمل معنى آخر، وكذلك ذكر هذا في غير هذا النص. فإن الكلام هنا أربعة أنواع: أحدهما: أن نبين أن ما جاء به الكتاب والسنة فيه الهدى والبيان. والثاني: أن نبين أن ما يقدر من الاحتمالات فهي باطلة، قد دل الدليل الذي به يعرف مراد المتكلم على أنه لم يردها. الثالث: أن نبين أن ما يدعى أنه معارض لها من العقل فهو باطل. الرابع: أن نبين أن العقل موافق لها معاضد، لا مناقض لها معارض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 ما يعارضون به الأدلة الشرعية من العقليات فاسد متناقض. الوجه الثامن عشر ما يعارضون به الأدلة الشرعية من العقليات فاسد متناقض. الوجه الثامن عشر أن يقال: ما يعارضون به الأدلة الشرعية من العقليات في أمر التوحيد والنبوة والمعاد قد بينا فساده في غير هذا الموضع وتناقضه، وأن معتقد صحته من أجهل الناس وأضلهم في العقل، كما بينا انتهاءهم في نفي الصفات والأفعال إلى حجة التركيب والتشبيه والاختصاص، وانتهاءهم في جحد القدر إلى تعارض الأمر والمشيئة، وانتهاءهم في مسألة حدوث العالم والمعاد إلى إنكار الأفعال. وبينا أن ما يذكرونه على النفي ألفاظ مجملة مشتبهة تتناول حقاً وباطلاً، كقولهم: إن الرب تعالى لو كان موصوفاً بالصفات من العلم والقدرة وغيرها مباينا للمخلوقات لكان مركباً من ذات وصفات، ولكان مشاركاً لغيره في الوجود وغيره، ومفارقاً له في الوجوب وغيره، فيكون مركبا مما به الاشتراك والامتياز، ولكان له حقيقة غير مطلق الوجود، فيكون مركباً من وجود وماهية، ولكان جيماً مركباً من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، والمركب مفتقر إلى جزئه، والمفتقر إلى جزئه لا يكون واجباً بنفسه. معنى المركب وقد بينا فساد هذا الكلام بوجوه كثيرة يضيق عنها هذا الموضع، فإن مدار هذه الحجة على ألفاظ مجملة، فإن المركب يراد به ما ركبه غيره، وما كان مفترقاً فاجتمع، كأجزاء الثوب والطعام والأدوية من السكنجبين وغيره، وهذا هو المركب في لغة العرب وسائر الأمم. وقد يراد بالمركب ما يمكن تفريق بعضه عن بعض، ومعلوم أن الله تعالى منزه عن جميع هذه التركيبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ويراد بالمركب في عرفهم الخاص ما تميز منه شيء، كتميز العلم عن القدرة، وتميز ما يرى ونحو ذلك، وتسمية هذا المعنى تركيباً وضع وضعوه ليس وافقا للغة العرب، ولا لغة أحد من الأمم، وإن كان هذا مركبا فكل ما في الوجود مركب، فإنه ما من موجود إلا ولا بد أن يعلم منه شيء دون شيء، والمعلوم ليس الذي هو غير معلوم. وقولهم: إنه مفتقر إلى جزئه تلبيس، فإن الموصوف بالصفات اللازمة له يمتنع أن تفارقه أو يفاقها، وليست له حقيقة غير الذات الموصوفة حتى يقال: إن تلك الحقيقة مفتقرة إلى غيرها، والصفة اللازمة يسميها بعض الناس غير الموصوف، وبعض الناس يقول: ليست غير الموصوف. ومن الناس من لا يطلق عليها لفظ المغايرة بنفي ولا إثبات حتى يفصل ويقول إن أريد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر فهي غير، وإن أريد بهما ما جاز مفارقة أحدهما للآخر بزمان أو مكان أو فليست بغير، فإن لم يقل: هي غير الموصوف لم يكن هناك غير لازم للذات، فضلا عن أن تكون مفتقرة إله، وإن قيل: هي غيره فهي والذات متلازمان لا توجد إحداهما إلا مع الأخرى، ومثل هذا التلازم بين الشيئين يقتضي كون وجود أحدهما مشروطا بالآخر، وهذا ليس بممتنع، وإنما الممتنع أن يكون يقتضي كون وجود أحدهما إلا مع الأخر، وهذا ليس بممتنع، وإنما الممتنع أن يكون كل من الشيئين موجبا للآخر، فالدور في العلل ممتنع، والدور في "الشروط جائز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ولفظ الافتقار هنا: إن أريد به افتقار المعلول إلى علته كان باطلا، وإن أريد به أفتقار المشروط إلى شرطه ـ فهذا هو تلازم من الجانبين، وليس ذلك ممتنعا، والواجب بنفسه يمتنع أن يكون مفتقراً إلى ما هو خارج عن نفسه، فأما ما كان صفة لازمة لذاته وهو داخل في مسمى أسمه، فقول القائل: إنه مفتقر إليها كقوله: إنه مفتقر إلى نفسه. فإن القائل إذا قال: دعوت الله أو عبدت الله كان اسم الله متناولا للذات المتصفة بصفاتها، ليس أسم الله أسما للذات مجردة عن صفاتها اللازمة لها. مذهب النفاة في الصفات والرد عليه وحقيقة ذلك أنه لا تكون نفسه إلا بنفسه، ولا تكون ذاته إلا بصفاته، ولا تكون نفسه إلا بما هو داخل في مسمى أسمها، وهذا نحق، ولكن قول القائل إن هذا افتقار إلى غيره تلبيس، فإن ذلك يشعر أنه مفتقر إلى ما هو منفصل عنه، وهذا باطل، لأنه قد تقدم أن لفظ الغير يراد به ما كان مفارقاً له بوجود أو زمان أو مكان ويراد يه ما أمكن العلم به دونه والصفة لا تسمى غيرا له بهذا المعنى، وأما بالمعنى الثاني فلا يمتنع أن يكون وجوده مشروطا بصفات، وأن يكون مستلزما لصفات، وإن سميت تلك الصفات غيراً فليس في إطلاق اللفظ ما يمنع صحة المعاني العقلية، سواء جاز إطلاق اللفظ أو لم يجز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وهؤلاء عمدوا إلى المعاني كالصحيحة العقلية وأطلقوا عليها ألفاظاً مجملة تتناول الباطل الممتنع، كالرافض الذي يسمى أهل السنة ناصبة، فيوهم أنهم نصبوا العداوة لأهل البيت رضي الله عنهم. وقد بينا في غير هذا الموضع أن إثبات المعاني القائمة التي توصف بها الذات لا بد منه لكل عاقل، وأنه لا خروج عن ذلك: إلا بجحد وجود الإرادة، فقود هذه المقالة يستلزم أن يكون وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى، وهذا منتهي الإلحاد، وهو مما يعلم بالحس والعقل والشرع أنه في غاية الفساد، ولا مخلص من هذا إلا بإثبات الصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات، وهو دين الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وذلك أن نفاة الصفات من المتفلسفة ونحوهم يقولون: إن العاقل والمعقول والعقل، والعاشق والمعشوق والعشق، واللذة واللذيذ والملتذ: هو شيء واحد، وإنه موجود واجب له عناية، ويفسرون عنايته بعلمه أو عقله، ثم يقولون: وعلمه أو عقله هو ذاته، وقد يقولون: إنه حي عليم قدير مريد متكلم سميع بصير، ويقولون: إن ذلك كله شيء واحد، فإرادته عين قدرته، وقدرته عين علمه، وعلمه عين ذاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وذلك أن من أصلهم: أنه ليس له صفة ثبوتية، بل صفاته: إما سلب، كقولهم: ليس بجسم ولا متحيز، وإما إضافة كقولهم: مبدأ وعلة، وإما مؤلف منهما كقولهم: عاقل ومعقول وعقل، ويعبرون عن هذه المعاني بعبارات هائلة، كقولهم: إنه ليس فيه كثرة كم، ولا كثرة كيف، أو إنه ليس له أجزاء حد، ولا أجزاء كم، أو أنه لا بد من إثباته موحداً توحيدا، منزهاً مقدساً عن المقولات العشر: عن الكم، والكيف، والأين، والوضع، والإضافة، ونحو ذلك. ومضمون هذه العبارات وأمثالها نفي صفاته، وهم يسمون نفي الصفات توحيداً وكذلك المعتزلة ومن ضاهاهم من الجهمية يسمون ذلك توحيداً. وهم ابتدعوا هذا التعطيل الذي يسمونه توحيداً، وجعلوا اسم التوحيد واقعاً على غير ما هو واقع عليه في دين المسلمين، فإن التوحيد الذي بعث الله له رسله، وأنزل به كتبه، هو أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً، ولا يجعل له نداً، كما قال تعالى {قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 1-6] . ومن تمام التوحيد أن يوصف الله تعالى يما وصف به نفسه، وبما وصفه رسوله، ويصان ذلك عن التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل، كما قال تعالى {قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 1-4] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 ومن هنا ابتدع من ابتدع لمن اتبعه على نفي الصفات اسم الموحدين وهؤلاء منتهاهم أن يقولوا: هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، كما قاله طائفة منهم، أو بشرط نفي الأمور الثبوتية، كما قاله ابن سينا وأتباعه، أو يقولون: هو الوجود المطلق لا بشرط، كما يقوله القونوي وأمثاله. ومعلوم بصريح العقل الذي لم يكذب قط أن هذه الأقوال باطلة متناقضة من وجوه: الرد على نفاة الصفات من وجوه. الأول الرد على نفاة الصفات من وجوه. الأول أحدهما: أن جعل عين العلم عين القدرة، ونفس القدرة هي نفس الإدارة والعناية، ونفس الحياة هي نفس العلم والقدرة، ونفس العلم نفس الفعل والإبداع ونحو ذلك معلوم الفساد بالضرورة، فإن هذه حقائق متنوعة ن فإن جعلت هذه الحقيقة هي تلك كان بمنزلة من يقول: إن حقيقة السواد هي حقيقة الطعم هي حقيقة اللون، وأمثال ذلك مما يجعل الحقائق المتنوعة حقيقة واحدة. الثاني الوجه الثاني: أنه من المعلوم أن القائم بنفسه ليس هو القائم بغيره، والجسم ليس هو العرض، والموصوف ليس هو الصفة، والذات ليست هي النعوت، فمن قال: إن العالم هو العلم، والعلم هو العالم فضلاله بين. وكذلك معلوم أن العلم ليس هو المعلوم، فمن قال: إن العلم هو المعلوم، والمعلوم هو العلم فضلاله بين أيضاً. ولفظ العقل إذا أريد به المصدر فليس المصدر هو العاقل الذي هو اسم الفاعل، ولا المعقول الذي هو اسم مفعول، وإذا أريد بالعقل جوهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 قائم بنفسه فهو العاقل، فإذا كان يعقل نفسه أو غيره فليس عين عقله لنفسه أو غيره هو عين ذاته، وكذلك إذا سمى عاشقاً ومعشوقاً بلغتهم، أو قيل: محبوب ومحب بلغة المسلمين، فليس الحب والعشق هو نفس العاشق ولا المحب، ولا العشق ولا الحب هو المعشوق ولا المحبوب، بل التمييز بين مسمى المصدر ومسمى اسم الفاعل واسم المفعول، والتفريق بين الصفة والموصوف مستقر في فطر العقول ولغات الأمم، فمن جعل أحدهما هو الآخر كان قد أتى من السفسطة بما لا يخفى على من يتصور ما يقول: ولهذا كان منتهى هؤلاء السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات. الثالث الوجه الثالث: أن يقال: الوجود المطلق بشرط الإطلاق، أو بشرط سلب الأمور الثبوتية، أو لا بشرط، مما يعلم بصريح العقل انتفاؤه في الخارج، وإنما يوجد في الذهن، وهذا مما قرروه في منطقهم اليوناني، وبينوا أن المطلق بشرط الإطلاق كإنسان مطلق بشرط الإطلاق، وحيوان مطلق بشرط الإطلاق جسم مطلق بشر الإطلاق، ووجود مطلق بشرط الإطلاق: لا يكون إلا في الأذهان دون الأعيان. ولما اثبت قدماؤهم الكليات المجردة ع الأعيان التي يسمونها المثل الأفاطونية أنكر ذلك حذاقهم، وقالوا: هذه لا تكون إلا في الذهن، ثم الذين ادعوا ثبوت هذه الكليات في الخارج مجردة قالوا: إنها مجردة عن الأعيان المحسوسة ن ويمتنع عندهم أن تكون هذه هي المبدعة للأعيان، بل يمتنع أن تكون شرطاً في وجود الأعيان، فإنها إما أن تكون صفة للأعيان، أو جزءاً منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وصفة الشيء لا تكون خالقة للموصوف، وجزء الشيء لا يكون خالقاً للجملة، فلو قدر أن في الخارج وجوداً مطلقاً بشرط الإطلاق امتنع أن يكون مبدعاً لغيره من الموجودات، بل امتنع أن يكون شرطاً في وجود غيره، فإذن تكون المحدثات والممكنات المعلوم حدوثها وافتقارها إلى الخالق المبدع مستغنية عن هذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق، إن قيل: إن له وجوداً في الخارج، فكيف إذا كان الذي قال هذا القول هو من أشد الناس إنكاراً على من جعل وجود هذه الكليات المطلقة المجردة عن الأعيان خارجاً عن الذهن. وهم قد قرروا ا، العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه، فجعلوا الوجود المطلق موضوع هذا العلم، لكن هذا هو المطلق الذي ينقسم إلى واجب وممكن، وعلة ومعلول، وقديم ومحدث. ومورج التقسيم مشترك بين الأقسام. فلم يمكن هؤلاء أن يجعلوا هذا الوجود المنقسم إلى واجب وممكن هو الوجود الواجب، فجعلوا الوجود الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق، أو بشرط سلب الأمور الثبةتية، ويعبرون عن هذا بأن وجوده ليس عارضاً لشيء من الماهيات والحقائق. وهذا التعبير مبني على أصلهم تالفاسد، وهو ا، الوجود يعرض للحقائق الثابتة في الخارج، بناء على أنه في الخارج وجود الشيء غير حقيقته، فيكون في الخارج حقيقة يعرض لها الوجود تارة، ويفارقها أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ومن هنا فرقوا في منطقهم بين الماهية والوجود، وهم لو فسروا الماهية بما يكون في الأذهان، والوجود بما يكون في الأعيان، لكان هذا صحيحاً لا ينازع فيه عاقلن وهذا هو الذي تخيلوه في الأصل، لكن توهموا أن تلك الماهية التي في الذهن هي بعينها الموجود الذي في الخارج، فظنوا أن في هذا الإنسان المعين جواهر عقلية قائمة بأنفسها مغيرة لهذا المعين، مثل كونه حيواناً ناطقاً وحساساً ومتحركاً بالإرادة ونحو ذلك. والصواب أن هذه كلها أسماء لهذا المعين، كل اسم يتضمن صفة ليست هي الصفة التي يتضمنها الاسم الآخر، فالعين في الخارج هو هو، ليس هناك جوهران اثنان، حتى يكون أحدهم عارضاً للآخر أو معروضاً، بل هناك ذات وصفات، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أنه لم يمكن ابن سينا وأمثاله أن يجعلوه الوجود المنقسم إلى واجب وممكن، فجعلوه الوجود المطلق بشرط الإطلاق، أو بشرط سلب الأمور الثبوتية، كما بين ذلك في شفائه وغيره من كتبه. وهذا مما قد بين هو ـ ومما يعلم كل عاقل ـ أنه يمتنع وجوده في الخارج، ثم إذا جعل مطلقاً بشرط الإطلاق لم يجز أن ينعت بنعت يوجب امتيازه، فلا يقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 هو واجب بنفسه، ولا ليس بواجب بنفسه، فلا يوصف بنفي ولا إثبات، لن هذا نوع من التمييز والتقييد. وهذا حقيقة قول القرامطة الباطنية الذين يمتنعون عن وصفه بالنفي والإثبات، ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع، كما أن الجمع بين النقيضين ممتنع. وأما إذا قيد بسلب الأمور الثبوتية دون العدمية، فهو أسوأ جالاً من المقيد بسلب الأمور الثبوتية والعدمية، فإنه يشارك غيره في مسمى الوجود ويمتاز عنه بأمور وجودية، وهو يمتاز عنها بأمور عدمية، فيكون كل من الموجودات أكمل منه. وأما إذا قيد بسلب الأمور الثبوتية والعدمية معا، كان أقرب إلى الوجود من أن يمتاز بسلب الوجود دون العدم، وإن كان هذا ممتنعاً فذاك ممتنع أيضاً، وهو أقرب إلى العدم، فلزمهم أن يكون الوجود الواجب الذي لا يقبل العد هو الممتنع الذي لا يتصور وجوده في الخارج، وإنما يقدره الذهن تقديراً، كما يقدر كون الشيء موجوداً معدوماً، أو لا موجوداً ولا معدوماً، فلزم الجمع بين النقيضين، والخلو عن النقيضين. وهذا من أعظم الممتنعات بإتفاق العقلاء ن بل قد يقال: إن جميع الممتنعات ترجع إلى الجمع بين النقيضين، فلهذا كان ابن سينا وأمثاله من أهل دعوة القرامطة الباطنية من أتباع الحاكم الذي كان بمصر، وهؤلاء وأمثالهم من رؤوس الملاحدة الباطنيةن وقد ذكر ذلك عن نفسه، وأنه كان هو وأهل بيته من أهل دعوة هؤلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 المصريين الذين يسميهم المسلمون الملاحدة، لإلحادهم في أسماء الله وآياته إلحاداً أعظم من إلحاد اليهود والنصاري. وأما ملاحدة المتصوفة: كابن عربي الكائي، وصاحبه الصدر القونوي، وابن سبعين، وابن الفارض وأمثالهم، فقد يقولون: هو الوجود المطلق، كما قاله القونوي، وجعله هو الوجود من حيث هو هو، مع قطع النظر عن كونه واجباً وممكناً وواحداً وكثيراً، وهذا معنى قول ابن سبعين وأمثاله القائلين بالإحاطة. ومعلوم أن المطلق لا بشرط ـ كالإنسان المطلق لا بشرط ـ يصدق على هذا الإنسان وهذا الإنسان، وعلى الذهني والخارجي، فالوجود المطلق لا بشرط يصدق على الواجب والممكن، والواحد والكثير، والذهني، والخارجي، وحينئذ فهذا الوجود المطلق ليس موجودا في الخارج مطلقاً بلا ريب. ومن قال: إن الكلي الطبيعي موجود في الخارج فقد يريد به حقا ًوباطلاً، فإن أراد بذلك أن ما هو كلي في الذهن موجود في الخارج معيناً: أي تلك الصورة الذهنية مطابقة للأعيان الموجودة في الخارج، كما يطابق الاسم لمسماه، والمعني الذهني الموجود الخارجي، فهذا صحيح. وإن أراد بذلك أن نفس الموجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 في الخارج كلي حين وجوده في الخارج، فهذا باطل، مخالف للحس والعقل، فإن الكلي هو الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. وكل موجود في الخارج معين متميز بنفسه عن غيره يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، أعني هذه الشركة التي يذكرونها في هذا الموضع، وهي اشتراك الأعيان في النوع، واشتراك الأنواع في الجنس، وهي اشتراك الكليات في الجزئيات. والقسمة المقابلة لهذه الشركة، هي قسمة الكلي إلى جزئياته، كقسمة الجنس إلى أنواع، والنوع إلى أعيانه. وأما الشركة التي يذكرها الفقهاء في كتاب الشركة، والقسمة المقابلة لها التي يذكرها الفقهاء في باب القسمة، وهي المذكورة في قوله تعالى {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم} [القمر: 28] ، وقوله {لكل باب منهم جزء مقسوم} [الحجرات: 44] . فتلك شركة في الأعيان الموجودة في الخارج، وقسمتها قسمة للكل إلى أجزاءه، كقسمة الكلام إلى الاسم والفعل والحرف، والأول كقسمة الكلمة الاصطلاحية إلى اسم وفعل وحرف. وإذا عرف أن المقصود الشركة في الكليات، لا في الكل، فمعلوم أنه لا شركة في المعينات، فهذا الإنسان المعين ليس فيه شيء من هذا المعين، ولا في هذا شيء من هذا. ومعلوم أن الكلي الذي يصلح لاشتراك الجزئيات فيه لا يكون هو جزءاً من الجزئي الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. فمن قال: إن الإنسان الكلي جزء من هذا الإنسان المعين أو إن الإنسان المطلق جزء من هذا المعين بمعني أن هذا المعين فيه شيء مطلق، أو شيء كلي، فكلامه ظاهر الفساد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وبهذا تنحل شبه كثيرة توجد في كلام الرازي، وأمثاله من أهل المنطق، ونحوهم ممن التبس عليهم هذا المقام. وجود الله هل هو ماهيته أو زائد على ماهيته؟ وبسبب التباس هذا عليهم حاروا في وجود الله تعالى: هل هو ماهيته، أم هو زائد على ماهيته؟ وهل لفظ الوجود ن مقول بالتواطؤ والتشكيك، أو مقول بالاشتراك اللفظي؟ فقالوا: إن قلنا: إن لفظ الوجود مشترك اشتراكاً لفظياً لزم ألا يكون الوجود منقسماً إلى واجب وممكن، وهذا خاف ما اتفق عليه العقلاء، وما يعلم بصريح العقل. وإن قلنا: إنه متواطئ أو مشكك، لزم أن تكون الموجودات مشتركة في مسمى الوجود، فيكون الوجود مشتركاً بين الواجب والممكن، فيحتاج الوجود المشترك إلى ما يميز وجود هذا عن وجود هذا، والامتياز يكون بالحقائق المختصة، فيكون وجود هذا زائداً على ماهيته، فيكون الوجود الواجب مفتقراً إلى غيره. ويذكرون ما يذكره الرازي وأتباعه: أن للناس في وجود الرب تعالى ثلاثة أقوال فقط: أحدها أن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي فقط. والثاني: أن وجود الواجب زائد على ماهيته. والثالث: أنه وجود مطلق، ليس له حقيقة غير الوجود المشروط بسلب كل ماهية ثبوتية عنه. رأي ابن تيمية فيقال لهم: الأقوال الثلاثة باطلة، والقول الحق ليس واحداً من الثلاثة. وإنما أصل الغلط هو توهمهم أنا إذا قلنا: إن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن لزم أن يكون في الخارج وجود هو نفسه الواجب، وهو نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 في الممكن، وهذا غلط، فليس في الخارج بين الموجودين شيء هو نفسه فيهما، ولكن لفظالوجود ومعناه الذي في الذهن، والخط الذي يدل على اللفظ يتناول الموجودين ويعمهما، وهما يشتركان فيه، فشمول معنى الوجود الذي في الذهن لهما كشمول لفظ الوجود والخط الذي يكتب به هذا اللفظ لهما، فهما مشتركان في هذا، وأما نفس ما يوجد في الخارج فإنما يشتبهان فيه من بعض الوجوه، فأما أن تكون نفس ذات هذا وصفته فيها شيء من ذات هذا وصفته، فهذا مما يعلم فساده كل من تصوره، ومن توقف فيه فلعدم تصوره له. وحينئذ فالقول في اسم الوجود كالقول في اسم الذات والعين والنفس والماهيةوالحقيقة وكما أن الحقيقة تنقسم إلى: حقيقة واجبة وحقيقة ممكنة، وكذلك لفظ الماهية ولفظ الذات ونحو ذلك، فكذلك لفظ الوجود فإذا قلنا: إن الحقيقة أو الماهية تنقسم إلى واجبة وممكنة لم يلزم أن تكون ماهية الواجب فيها شيء من ماهية الممكن، فذلك إذا قيل: الوجود ينقسم إلى واجب وممكن لم يلزم أن يكون الوجود الواجب فيه شيء من وجود غيره، بل ليس فيه وجود مطلق ولا ماهية مطلقة، بل ماهيته هي حقيقية، وهي وجوده. وإذا كان المخلوق المعين وجوده الذي في الخارج هو نفس ذاته وحقيقته وماهيته التي في الخارج، ليس في الخارج شيئان، فالخالق تعالى أولى أن تكون حقيقته هي وجوده الثابت الذي لا يشركه فيه أحد، وهو نفس ماهيته التي هي حقيقته الثابتة في نفس الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ولو قدر أن الوجود المشترك بين الواجب والممكن موجود فيهما في الخارج، وأن الحيوانية المشتركة هي بعينها في الناطق والأعجم: كان تميز أحدهما عن الآخر بوجود خاص، كما يتميز الإنسان بحيوانية تخصه، وكما أن السواد والبياض إذا اشتركا في مسمى اللون تميز أحدهما بلونه الخاص عن الآخر. وهؤلاء الضالون يجعلون الواحد اثنين، والأثنين واحد، فيجعلون هذه الصفة هي هذه الصفة، ويجعلون الصفة هي الموصوف، فيجعلون الاثنين واحداً كما قالوا: إن العلم هو القدرة وهو الإرادة، والعلم هو العالم، ويجعلون الواحد اثنين، كما يجعلون الشيء المعين الذي هو هذا الإنسان هو عدتة جواهر: إنسان، وحيوان، وناطق، وناطق، وحساس، ومتحرك بالإرادة، ويجعلون كلاً من هذه الجواهر غير الآخر، ومعلوم أنه جوهر واحد له صفات متعددة، وكما يفرقون بين المادة والصورة ويجعلونهما جوهرين عقليين قائمين بأنفسهما، وإنما المعقول هو قيام الصفات بالموصوفات، والاعراض بالجواهر، كالصورة الصناعية: مثل صورة الخاتم والدرهم والسرير والثوب، فإنه عرض قائم بجوهر هو الفضة والخشب والغزل، وكذلك الاتصال والانفصال قائمان بمحل هو الجسم. وهكذا يجعلون الصورة، الذهنية ثابتة في الخارج كقولهم في المجردات المفارقات للمادة وليس معهم ما يثبت أنه مفارق إلا النفس الناطقة إذا فارقت البدن بالموت، والمجردات هي الكليات التي تجردها النفس من الأعيان المشخصة، فيرجع الأمر إلى النفس وما يقوم بها، ويجعلون الموجد في الخارج هو الموجود في الذهن، كما يجعلون الوجود الواجب هو الوجود المطلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 فهذه الأمور من أصول ضلالهم: حيث جعلوا الواحد متعدداً، والمتعدد وحدا، وجعلوا من في الذهن في الخارج، وجعلوا ما في الذهن، ولزم من ذلك أن يجعلوا الثبت منتفياً، والمنتفي ثابتاً، فهذه الأمور من أجناس ضلالهم، وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أنا ننبه على بعض ما نبين به تناقضهم وضلالهم في عقلياتهم التي نفوا بها صفات الله عز وجل، وعارضوا بها نصوص الرسول الثابتة بصحيح المنقول الموافقة لصريح المعقول، وكلما أمعن الفاضل الذكي في معرفة أقوال هؤلاء الملاحدة ومن وافقهم في بعض أقوالهم من أهل البدع، كنفاة بعض الصفات الذين يزعمون أن المعقول عارض كلام الرسول، وأنه يجب تقديمه عليه، فإنه يتبين له انه يعلم بالعقل الصريح ما يصدق ما أخبر به الرسول، وما به يتبين فساد ما يعارض ذلك. ولكن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة وصاروا يدخلون فيها من المعاني ماليس هو المفهوم منها في لغات الأمم، ثم ركبوها وألفوها تأليفاً طويلاً بنوا بعضه على بعض، وعظموا قولهم، وهولوه في نفوس من لم يفهمه، ولا ريب أن فيه دقة وغموضاً لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة، فإذا دخل معهم الطالب وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته فأخذ يعترض علهم قالوا له: أنت لا تفهم هذا، وهذا لا يصلح لك، فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية يحملها على أن تسلم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده، وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل، ونقلوا الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 في مخاطبتهم درجات، كما ينقل إخوانهم القرامطة المستجيبين لهم درجة حتى يوصلوهم إلى البلاغ الأكبر والناموس الأعظم، الذي مضمونه جحد الصانع، وتكذيب رسله، وجحد شرائعه، وفساد العقل والدين، والدخول في غاية الإلحاد ن المشتمل على غاية الفساد في المبدأ والمعاد. كيف نعرف الضلال ونتجنبه وهذا القدر الذي وقع فيه ضلال المتفلسفة لم يقصده عقلاؤهم في الأصل، بل كان غرضهم تحقيق الأمور والمعارف، لكن وقعت لهم شبهات ضلوا بها، كما ضل من ضل ابتداء من المشركين منهم ومن غيرهم من الكفار ممن ضل ببعض الشبهات، ولهذا يجب على من يريد كشف ضلال هؤلاء وأمثالهم: أن يوافقهم على لفظ مجمل حتى يتبين معناه، ويعرف مقصوده، ويكون الكلام في المعاني العقلية المبينة، لا في معان مشتبهة بألفاظ مجملة. واعلم أن هذا نافع في الشرع والعقل: أما الشرع: فإن علينا أن نؤمن بما قاله الله ورسوله، فكل ما ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، فعلينا أن نصدق به، وإن لم نفهم معناه، لأنا قد علمنا أنه الصادق المصدوق الذي لا يقول على الله إلا الحق، وما تنازع فيه الأمة من الألفاظ المجملة كلفظ المتحيز والجهة، والجسم، والجوهر، والعرض وأمثال ذلك، فليس على أحد أن يقبل مسمى اسم من هذه الأسماء، لا في النفي ولا في الإثبات، حتى يتبين له معناه، فإن كان المتكلم بذلك أراد معنى صحيحاً، وافقاً لقول المعصوم كان ما أراده حقاً، وإن كان أراد به معنى مخالفاً لقول المعصوم كان ما أراده باطلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ثم يبقى النظر في إطلاق ذلك اللفظ ونفيه، وهي مسألة فقهية، فقد يكون المعنى صحيحاً ويمتنع من إطلاق اللفظ لما فيه من مفسدة، وقد يكون اللفظ مشروعاً ولكن المعنى الذي أراده المتكلم باطل، كما قال علي رضي الله عنه ـ لمن قال من الخوارج المارقين لا حكم إلا لله ـ: كلمة حق أريد بها باطل. وقد يفرق بين اللفظ الذي يدعى به الرب، فإنه لا يدعى إلا بالأسماء الحسنى، وبين ما يخبر به عنه لإثبات حق أو نفي باطل. وإذا كان في باب العبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم علينا أن نفرق بين مخاطبته وبين الإخبار عنه، فإذا خاطبناه كان علينا أن نتأدب بآداب الله تعالى، حيث قال {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} [النور: 63] فلا نقول: يا محمد، يا أحمد، كما يدعو بعضنا بعضاً بل نقول: يا رسول الله، يا نبي الله. والله سبحانه وتعالى خاطب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم فقال {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} [البقرة: 35] ، {يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك} [هود: 48] ، {يا موسى * إني أنا ربك} [طه: 11-12] ، {يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55] ، ولما خاطبه صلى الله عليه وسلم قال {يا أيها النبي} [التحريم: 1] ، {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 [المائدة: 41] ، {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67] ، {يا أيها المزمل} [المزمل: 1] ، {يا أيها المدثر} [المدثر: 1] ، فنحن أحق أن نتأدب في دعائه وخطابه. وأما إذا كان في مقام الإخبار عنه قلنا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وقلنا: محمد رسول الله وخاتم النبيين، فنخبر عنه باسمه كما أخبر الله سبحانه لما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} [الحزاب: 40] ، وقال {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا} [الفتح: 29] ، وقال {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} [آل عمران: 144] ، وقال {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد} [محمد: 2] . فالفرق بين مقام المخاطبة ومقام الإخبار فرق ثابت بالشرع والعقل، وبه يظهر الفرق بين ما يدعى الله به من الأسماء الحسنى، وبين ما يخبر به عنه وجل مما هو حق ثابت، لإثبات ما يستحقه سبحانه من صفات الكمال، ونفي ما تنزه عنه عز وجل من العيوب والنقائص، فإنه الملك القدوس السلام، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وقال تعالى {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه} [الأعراف: 180] مع قوله {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم} [الأنعام: 19] ، ولا يقال في الدعاء: يا شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وأما نفع هذا الاستفسار في العقل: فمن تكلم بلفظ يحتمل معاني لم يقبل قوله ولم يرد حنى نستفسره ونستفصله حتى يتبين المعنى المراد، ويبقى الكلام في المعاني العقلية، لا في المنازعات اللفظية، فقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، ومن كان متكلماً بالمعقول الصرف لم يتقيد بلفظ، بل يجرد بأي عبارة دلت عليه. أرباب المقالات تلقوا عن أسلافهم مقالات بألفاظ لهم: منها ما كان أعجمياً، فعربت، كما عربت ألفاظ اليونان والهند والفرس وغيرهم، وقد يكون المترجم عنهم صحيح الترجمة، وقد لا يكون صحيح الترجمة. ومنها ما هو عربي. ونحن إنما نخاطب المم بلغتنا العربية، فإذا نقلوا عن أسلافهم لفظ الهيولى، والصورة، والمادة، والعقل، والنفس، والصفات الذاتية، والعرضية، والمجرد، والتركيب والتأليف، والجسم، والجوهر، والعرض، والماهية، والجزءونحو ذلك، بين ما تحتمل هذه الألفاظ من المعاني، كما إذا قال قائلهم: النوع مركب من الجنس والفصل، كتركيب الإنسان من الحيوان والناطق، أو من الحيوانية والناطقية، وإن هذه أجزاء الإنسان وأجزاء الحد، والواجب سبحانه إذا كان له صفات لزم أن يكون مركباً، ولمركب مفتقر إلى أجزائه، والمفتقر إلى أجزائه لا يكون واجباً ـ استفسروا عن لفظ التركيب، والجزء، والافتقار، والغير فإن جميع هذه الألفاظ فيها اشتراك والتباس وإجمال. فإذا قال القائل: الإنسان مركب من الحيوان والناطق، أو من الحيوانية والناطقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 قيل له: أتعني بذلك الإنسان الموجود في الخارج، وهو هذا الشخص وهذا الشخص، أو تعني الإنسان المطلق من حيث هو هو؟ فإن أراد الأول. قيل له: هذا الإنسان، وهذا الإنسان، وغيرهما، إذا قلت ك هو مركب من هذين الجزأين. فيقال لك: الحيوان والناطق جوهران قائمان بأنفسهما. فإذا قلت: هما جزءان للإنسان الموجود في الخارج لزم أن يكون الإنسان الموجود في الخارج فيه جوهران: أحدهما حيوان، والآخر ناطق، غير الإنسان المعين. وهذا مكابرة للحس والعقل. وإن قال: أنا أريد بذلك أن الإنسان يوصف بأنه حيوان وأنه ناطق. قيل له: هذا معنى صحيح، لكن تسمية الصفات أجزاء، ودعوى أن الموصوف مركب منها وأنها متقدمة عليه، ومقومة له في الوجودين الذهني والخارجي، كتقدم الجزء على الكل، والبسيط على المركب، ونحو ذلك مما يقولونه في هذا الباب: هو مما يعلم فساده بصريح العقل. وإن قال: هو مركب من الحيوانية والناطقية. قيل له: إن أردت بالحيوانية والناطقية: الحيوان والناطقن كان الكلام واحداً. وإن أردت العرضين القائمين بالحي الناطق، وهما: صفتاه، كان مضمونه أن الموصوف مركب من صفاته، وأنها أجزاء له، ومقومة له، وسابقة عليه، ومعلوم أن الجوهر لا يتركب من الأعراض، وأن صفات الموصوف لا تكون سابقة له في الوجود الخارجي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وإن قال: أنا أريد بذلك أن الإنسان من حيث هو هو مركب من ذلك. قيل له: إن الإنسان من حيث هو هو لا وجود له في الخارج، بل هذا هو الإنسان المطلق، والمطلقات لا تكون مطلقة إلا في الأذهان، فقد جعلت المركب هو ما يتصوره الذهن، وما يتصوره الذهن هو مركب من الأمور التي يقدرها الذهن. فإذا قدرت في النفس جسماً حساساً متحركاً بالإرادة ناطقاً كان هذا المتصور في الذهن مركباً من هذه الأمور، وإن قدرت في النفس حيواناً ناطقاً كان مركباً من هذا وهذا، وإن قدرت حيواناً صاهلاً كان مركباً من هذا وهذا. وإن قلت: إن الحقائق الموجودة في الخارج مركبة من هذه الصور الذهنية كان هذا معلوم الفساد بالضرورة. وإن قلت: إن هذه مطابقة لها وصادقة عليها فهذا يكون صحيحاً إذا كان ما في النفس علماً لا جهلاً. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن سوغ جعل الحقائق المتنوعة حقيقة واحدة بالعين كان كلامه مستلزماً أن يجعل وجود الحقائق المتنوعة وجوداً واحداً بالعين، بل هذا أولى، لأن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود، فمن اشتبه عليه أن العلم هو القدرة وأنهما نفس الذات العالمة القادرة: كان أن يشتبه عليه أن الوجود واحد أولى وأحرى. وهذه الحجة المبينة على التركيب هي أصل قول الجهمية نفاة الصفات والأفعال، وهم الجهمية من المتفلسفة ونحوهم، ويسمون ذلك التوحيد. حجة الأعراض عند المتكلمين وأما المعتزلة وأتباعهم فقد يحتجون بذلك، لكن عمدتهم الكبرى حجتهم التي زعموا أنهم أثبتوا بها حدوث العالم، وهي حجة الأعراض، فإنهم استدلوا على حدوث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 العالم بحدوث الأجسام، واستدلوا على حدوث الأجسام بأنها مستلزمة للأعراض، كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق، ثم قالوا: إن الأعراض أو بعض الأعراض حادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فاحتاجوا في هذه الطريق إلى إثبات الأعراض أولا، ثم إثبات لزومها للجسم. فادعى قوم أن الجسم يستلزم جميع أنواع الأعراض، وأن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده، وادعوا أن كل جسم له طعم ولون وريح، وأن العرض لا يبقى زمانين، كما زعم ذلك من سلكه من أهل الكلام الصفاتية، نفاه الفعل الاختياري القائم بذاته، كالقاضي أبو بكر وأبي المعالي ونحوهما، ومن يوافقهم أحيانا كالقاضي أبي يعلى وغيره، ولما ادعوا أن الأعراض جميعها لا تبقى زمانين لزم أن تكون حادثة شيئا بعد شيء، والجسم لا يخلو منها، فيكون حادثا بناء على امتناع حوادث لا أول لها. وعلى هذه الطريق اعتمد كثير منهم في حدوث العالم، ومن متأخريهم أبو الحسن الآمدي وغيره. وأما جمهور العقلاء فأنكروا ذلك، وقالوا: من المعلوم أن الجسم يكون متحركا تارة، وساكنا أخرى. وهل السكون أمر وجودي أو عدمي؟ على قولين. وأما الاجتماع والافتراق فمبني على إثبات الجوهر الفرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 فمن قال بإثباته قال: إن الجسم لا يخلو عن الأكوان الأربعة، وهي: الاجتماع، والافتراق، والحركة، والسكون، ومن لم يقل بإثباته لم يجعل الاجتماع من الأعراض الزائدة على ذات الجسم. ونفاة الجوهر الفرد كثير من طوائف أهل الكلام وأهل الفلسفة، كالهشامية والنجارية، والضرارية، والكلابية، وكثير من الكرامية. وأما من قال: إن نفيه هو قول أهل الإلحاد، وإن القول بعدم تماثل الأجسام ونحو ذلك هو من أقوال أهل الإلحاد: فهذا من أقوال المتكلمين، كصاحب الإرشاد ونحوه ممن يظن أن هذا الدليل الذي سلكوه في إثبات العالم هو أصل الدين، فما يفضي إلى إبطال هذا الدليل لا يكون إلا من أقوال الملحدين. ومن لم يقل بأن الجسم يستلزم جميع أنواع الأعراض قال: إنه يستلزم بعضها كالأكوان، أو الحركة والسكون، وإن ذلك حادث. وهذه الطريقة هي التي يسلكها أكثر المعتزلة وغيرهم ممن قد يوافقهم أحيانا في بعض الأمور كـ أبي الوفاء بن عقيل وغيره. ثم هؤلاء بعد أن أثبتوا لزوم الأعراض أو بعضها للجسم، وأثبتوا حدوث ما يلزم الجسم أو حدوث بعضه، احتاجوا إلى أن يقولوا: ما لم يسبق الحوادث فهو حادث، فمنهم من اكتفى بذلك ظنا منهم أن ذلك ظاهر، ومنهم من تفطن لكون ذلك مفتقرا إلى إبطال حوادث لا أول لها، إذ يمكن أن يقال: إن الحادث بعد أن لم يكن هو كل شخص شخص من أعيان الحوادث، وأما النوع فلم يزل، فتكلموا هنا في إبطال وجود ما لا نهاية له بطريق التطبيق والموازاة والمسامتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وملخص ذلك أن ما لا يتناهى إذا فرض فيه حد كزمن الطوفان، وفرض حد بعد ذلك كزمن الهجرة، وقدر امتداد هذين إلى ما لا نهاية له، فإن لزم كون الزائد مثل الناقص، وإن تفاضلا لزم وقوع التفاضل فيما لا يتناهى. وهذه نكتة الدليل، فإن منازعيهم جوزوا مثل هذا التفاضل إذا كان ما لا يتناهى ليس هو موجودا له أول وآخر، وألزموهم بالأبد، وذلك إذا أخذ ما لا يتناهى في أحد الطرفين قدر متناهيا من الطرف الآخر، كما إذا قدرت الحوادث المتناهية إلى زمن الطوفان، وقدرت إلى زمن الهجرة، فإنها كانت لا تتناهى من الطرف المتقدم، فإنها متناهية من الطرف الذي يلينا. فإذا قال القائل: إذا طبقنا بين هذه وهذه، فإن تساويا لزم أن يكون الزائد كالناقص، أو أن يكون وجود الزيادة كعدمها، وإن تفاضلا لزم وجود التفاضل فيما لا يتناهى. كان لهم عنه جوابان: أحدهما: أنا لا نسلم إمكان التطبيق مع التفاضل، وإنما يمكن التطبيق بين المتماثلين لا بين المتفاضلين. والجواب الثاني: أن هذا يستلزم التفاضل بين الجانب التناهي، لا بين الجانب الذي لا يتناهى، وهذا لا محذور فيه. ولبعض الناس جواب ثالث، وهو أن التطبيق إنما يمكن في الموجود لا في المعدوم. وقد وافق هؤلاء على إمكان وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل طوائف كثيرة ممن يقول بحدوث الأفلاك من المعتزلة والأشعرية والفلاسفة وأهل الحديث وغيرهم، فإن هؤلاء جوزوا حوادث لا أول لها، مع قولهم بأن الله أحدث السماوات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 والأرض بعد أن لم يكونا، وألزموهم بالأبد، ونشأ عن هذا البحث كلامهم في الحوادث المستقبلة، فطرد إماما هذا الطريق الجهم بن صفوان، إمام الجهمية الجبرية، وأبو الهذيل العلاف، إمام المعتزلة القدرية، فنفيا ثبوت ما لا يتناهى في المستقبل، فقال الجهم بفناء الجنة والنار، وأبو الهذيل اقتصر على القول بفناء حركات أهل الجنة والنار. وعن ذلك قال أبو المعالي بمسألة الاسترسال: وهو أن علم الرب تعالى يتناول الأجسام بأعيانها، ويتناول أنواع الأعراض بأعيانها، وأما آحاد الأعراض فيسترسل العلم عليها، لامتناع ما لا يتناهى علما وعينا. وأنكر الناس ذلك عليه، وقالوا فيه أقوالا غليظة، حتى يقال: إن أبا القاسم القشيري هجره لأجل ذلك. وصار طوائف المسلمين في جواز حوادث لا تتناهى على ثلاثة أقوال: قيل: لا يجوز في الماضي ولا في المستقبل. وقيل: يجوز فيهما. وقيل: يجوز في المستقبل دون الماضي. ثم إن المعتزلة والجهمية نفت أن يقوم بالله تعالى صفات وأفعال، بناء على هذه الحجة. قولوا: لأن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم، وبذلك استدلوا على حدوث الجسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 فجاء ابن كلاب ومن اتبعه فوافقوهم على إنتفاء قيام الأفعال به، وخالفوهم في قيام الصفات، فأثبتوا قيام الصفات به، وقالوا: لا نسميها أعراضا لأنها باقية، والأعراض لا تبقى. وأما ابن كرام وأتباعه: فلم يمتنعوا من تسمية صفات الله أعراضا، كما لم يمتنعوا من تسميته جسما. وعن هذا الحجة ونحوها نشأ القول بأن القرآن مخلوق، وأن الله تعالى لا يرى في الآخرة، وأنه ليس فوق العرش، ونحو ذلك من مقالات الجهمية النفاة، لأن القرآن كلام، وهو صفة من الصفات، والصفات عندهم لا تقوم به. وأيضا فالكلام يستلزم فعل المتكلم، وعندهم لا يجوز قيام فعل به، ولأن الرؤية تقتضي مقابلة ومعاينة، والعلو يقتضي مباينة ومسامته، وذلك من صفات الأجسام. وبالجملة فقد صاروا ينفون ما ينفونه من صفات الله تعالى، لأن إثبات ذلك يقتضي أن يكون الموصوف جسما، وذلك ممتنع، لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث الأجسام، فلو كان جسما لبطل دليل إثبات الصانع. ومن هنا قال هؤلاء: إن القول بما دل عليه السمع من إثبات الصفات والأفعال يقدح في أصل الدليل الذي به علمنا صدق الرسول. وقالوا إنه لا يمكن تصديق الرسول لو قدر أنه يخبر بذلك، لأن صدقه لا يعلم بعد أن يثبت العلم بالصانع، ولا طريق إلى إثبات العلم بالصانع إلا القول بحودث الأجسام. قالوا: وإثبات الصفات له يقتضي أنه جسم قديم، فلا يكون كل جسم حادثا، فيبطل دليل إثبات العلم به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وقالت المعتزلة، كـ أبي الحسين وغيره: إن صدق الرسول معلوم بالمعجزة، والمعجزة معلومة بكون الله تعالى لا يظهرها على يد كاذب، وذلك معلوم بكون إظهارها على يد الكذاب قبيحا، والله منزه عن فعل القبيح، وتنزيهه عن فعل القبيح معلوم بأنه غني عنه عالم بقبحه، والغني عن الشيء العالم بقبحه لا يفعله، وغناه معلوم بكونه ليس بجسم، وكونه ليس بجسم معلوم بنفي الصفات، فلو قامت به الصفات لكان جسما، ولو كان جسما لم يكن غنيا، وإذا لم يكن غنيا لم يمتنع عليه فعل القبيح، فلا يؤمن أن يظهر المعجزة على يد كذاب، فلا يبقى لنا طريق إلى العلم بصدق الرسول. فهذا الكلام ونحوه أصل دين المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة. وكذلك أبو عبد الله بن الخطيب وأمثاله: أثبتوا وجود الصانع بأربع طرق، منها ثلاثة مبنية على أصلين، وربما قالوا بست طرق، منها خمسة مبنية على الأصلين المتقدمين في توحيد الفلاسفة وتوحيد المعتزلة. فإنه قال: الاستدلال على الصانع إما أن يكون: بالإمكان، أو الحدوث. وكلاهما: إما في الذات، وإما في الصفات، وربما قالوا: وإما فيهما. فالأول: إثبات إمكان الجسم بناء على حجة التركيب التي هي أصل الفلاسفة. والثاني: بيان حدوثه بناء على حجة حدوث الحركات والأعراض التي هي أصل المعتزلة. والثالث: إمكان الصفات بناء على تماثل الأجسام. والرابع: إمكانهما جميعا. والخامس: حدوث الصفات، وهذا هو الطريق المذكور في القرآن. والسادس: حدوث الأجسام وصفاتها، وهو مبني على ما تقدم. وهذه الطرق الست كلها مبنية على الجسم، إلا الطريق الذي سماه حدوث الصفات يعني بذلك ما يحدثه الله في العالم من الحيوان والنبات والمعدن والسحاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 والمطر وغير ذلك، وهو إنما سمى ذلك حدوث الصفات متابعة لغيره ممن يثبت الجوهر الفرد، ويقول بتماثل الأجسام، وإن ما يحدثه الله تعالى من الحوادث إنما هو تحويل الجواهر التي هي أجسام من صفة إلى صفة مع بقاء أعيانها، وهؤلاء ينكرون الاستحالة. وجمهور العقلاء وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم متفقون على بطلان قولهم، وأن الله تعالى يحدث الأعيان ويبدعها، وإن كان يحيل الجسم الأول إلى جسم آخر، فلا يقولون: إن جرم النطفة باق في بدن الإنسان، ولا جرم النواة باق في النخلة. والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع، فإن هذه الجمل هي من جوامع الكلام المحدث الذي كان السلف والأئمة يذمونه، وينكرون على أهله. والمقصود هنا أن هذه هي أعظم القواطع العقلية التي يعارضون بها الكتب الإلهية، والنصوص النبوية، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها. فيقال لهم: أنتم وكل مسلم عالم تعلمون بالاضطرار أن إيمان السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لم يكن مبنيا على هذه الحجج المبنية على الجسم، ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدا أن يستدل بذلك على إثبات الصانع، ولا ذكر الله تعالى في كتابه وفي آياته الدالة عليه وعلى وحدانيته شيئا من هذه الحجج المبنية على الجسم والعرض، وتركيب الجسم وحدوثه وما يتبع ذلك. فمن قال: إن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بهذه الطريق كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام. ومن قال: إن سلوك هذه الطريق واجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 في معرفة الصانع تعالى كان قوله من البدع الباطلة المخالفة لما علم بالاضطرار من دين الإسلام. ولهذا كان عامة أهل العلم يعترفون بهذا: وبأن سلوك هذه الطريق ليس بواجب، بل قد ذكر أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر أن سلوك هذه الطريق بدعة محرمة في دين الرسل، لم يدع إليها أحد من الأنبياء ولا من أتباعهم. ثم القائلون بان هذه الطريق ليست واجبة قد يقولون: إنها في نفسها صحيحة، بل ينهى عن سلوكها لما فيها من الأخطار، كما يذكر ذلك طائفة: منهم الأشعري والخطابي وغيرهما. وأما السلف والأئمة فينكرون صحتها في نفسها، ويعيبونها لاشتمالها على كلام باطل، ولهذا تكلموا في ذم هذا الكلام لأنه باطل في نفسه، لا يوصل إلى الحق، بل إلى باطل، كقول من قال: الكلام الباطل لا يدل إلا على باطل، وقول من قال: لو أوصى بكتب العلم لم يدخل فيها كتب علم الكلام، وقول من قال: من طلب الدين بالكلام تزندق، ونحو ذلك. ونحن الآن في هذا المقام نذكر ما لا يمكن مسلما أن ينازع فيه، وهو أنا نعلم بالضرورة أن هذه الطريق لم يذكرها الله تعالى في كتابه، ولا أمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا جعل إيمان المتبعين له موقوفا عليها، فلو كان الإيمان بالله لا يحصل إلا بها لكان بيان ذلك من أهم مهمات الدين، بل كان ذلك أصل أصول الدين، لا سيما وكان يكون فيها أصلان عظيمان: إثبات الصانع، وتنزيهه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 عن صفات الأجسام، كما يجعلون هم ذلك أصل دينهم، فلما لم يكن الأمر كذلك علم أن الإيمان يحصل بدونها، بل إيمان أفضل هذه الأمة وأعلمهم بالله كان حاصلا بدونها. فمن قال بعد هذا: إن العلم بصحة الشرع لا يحصل إلا بهذا الطريق ونحوها من الطرق المحدثة كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام، وعلم أن القدح في مدلول هذه الطرق ومقتضاها، وأن تقديم الشرع المعارض لها، لا يكون قدحا في العقليات، التي هي أصل الشرع، بل يكون قدحا في أمور لا يفتقر الشرع إليها، ولا يتوقف عليها، وهو المطلوب. فتبين أن الشرع المعارض لمثل هذه الطرق التي إنها عقليات إذا قدم عليها لم يكن في ذلك محذور. بطلان استدلال المتكلمين بقصة الخليل على رأيهم ومن عجائب الأمور: أن كثيراً من الجهمية نفاة الصفات والأفعال ن ومن اتبعهم على نفي الأفعال: يستدلون على ذلك بقصة الخليل صلى الله عليه وسلم، كما ذكر ذلك بشر المريسي، وكثير من المعتزلة، ومن أخذ ذلك عنهم، أوعمن أخذ ذلك عنهم، كأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد والرازي وغيرهم، وذكروا في كاتبهم أن هذه الطريقة هي طريقة إبراهيم الخليل عليه صلوات الله وسلامه، وهو قوله {لا أحب الأفلين} [الأنعام: 76] . قالوا: فاستدل بالأفول الذي هو الحركة والانتقال على حدوث ما قام به ذلك، كالكوكب والقمر والشمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وظن هؤلاء أن قول إبراهيم عليه السلام {هذا ربي} [الأنعام: 77] أراد به: هذا خالق السماوات والأرض، القديم الأزلي، وأنه استدل على حدوثه بالحركة. وهذا خطأ من وجوه: الوجه الأول أحدهما: أن قول الخليل {هذا ربي} ـ سواء قاله على سبيل التقدير لتقريع قومه، أو على سبيل الاستدلال والترقي: أو غير ذلك ـ ليس المراد به: هذا رب العالمين القديم الأزلي الواجب الوجود بنفسه، ولا كان قومه يقولون: إن الكواكب أو القمر أو الشمس رب العالمين الأزلي الواجب الوجود بنفسه، ولا قال هذا أحد من اهل المقالات المعروفة التي ذكره الناس: لا من مقالات أهل التعطيل والشرك الذين يعبدون الشمس والقمر والكواكب، ولا من مقالات غيرهم، بل قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم، كانوا يتخذونها أرباباً يدعونها ويتقربون إليها بالبناء عليها والدعوة لها والسجود والقرابين وغير ذلك، وهو دين المشركين الذين صنف الرازي كتابه على طريقتهم وسماه السر المكتوم في دعوة الكواكب والنجوم والسحر والطلاسم والعزائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وهذا دين المشركين من الصبئين كالكشدانيين والكنعانيين واليونانيين وأرسطواً وأمثاله من أهل هذا الدين، وكلامه معروف في السحر الطبيعي والسحر الروحاني، والكتب المعروفة بذخيرة الإسكندر بن فليبس الذي يؤرخون به، وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة. وكانت اليونان مشركين يعبدون الأوثان، كما كان قوم إبراهيم مشركين يعبدون الأوثان، ولهذا قال الخليل {إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين} [الزخرف: 26-27] ، وقال {أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} [الشعراء: 75-77] ، وأمثال ذلك مما يبين تبرؤه مما يعبدونه غير الله. وهؤلاء القوم عامتهم من نفاة صفات الله وأفعاله القائمة به، كما هو مذهب الفلاسفة المشائين، فإنهم يقولون: إن ليس له صفة ثبوتية، بل صفاته إما سلبية وإما إضافية، وهو مذهب القرامطة الباطنية القائلين بدعوة الكواكب والشمس والقمر والسجود لها، كما كان على ذلك من كان عليه من بني عبيد ملوك القاهرة وأمثالهم. فالشرك الذي نهي عنه الخليل وعادى أهله عليه كان أصحابه هم أئمة هؤلاء النفاة للصفات والأفعال، وأول من أظهر هذا النفي في الإسلام: الجعد بن درهم، معلم مروان بن محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 قال الإمام أحمد: وكان يقال إنه من أهل حران، وعنه أخذ الجهم بن صفوان مذهب نفاة الصفات، وكان بحران أئمة هؤلاء الصابئة الفلاسفة، بقايا أهل هذا الدين أهل الشرك ونفي الصفات والأفعال، ولهم مصنفات في دعوة الكواكب، كما صنفه ثابت بن قرة وأمثاله من الصابئة الفلاسفة أهل حران، وكما صنفه أبو معشر البلخي وأمثاله، وكان لهم بها هيكل العلة الأولى ن وهيكل العقل الفعال، وهيكل النفس الكلية، وهيكل زحل، وهيكل المشتري وهيكل المريخ، وهيكل الشمس، وهيكل الزهرة، وهيكل عطارد، وهيكل القمر، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. الوجه الثاني أنه لو كان المراد بقوله: {هذا ربي} أنه رب العالمين، لكانت قصة الخليل حجة على نقيض مطلوبهم، لأن الكوكب والقمر والشمس ما زال متحركاً من حين بزوغه إلى عند أفوله وغروبه، وهو جسم متحرك متحيز صغير، فلو كان مراده هذا للزم أن يقال: إن: إبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من كون المتحرك المنتقل رب العالمين، بل ولا كونه صغيراً بقدر الكوكب والشمس والقمر. وهذا ـ مع كونه لا يظنه عاقل ممن هو دون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ـ فإن جوزوه عليه كان حجة عليهم، لا لهم. الوجه الثالث أن الأفول هو المغيب والاحتجاب، ليس هو مجرد الحركة والانتقال، ولا يقول أحد ـ لا من أهل اللغة ولا من أهل التفسير ـ إن الشمس والقمر في حال مسيرهما في السماء: إنهما آفلان، ولا يقول للكواكب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 المرئية في السماء، في حال ظهورها وجريانها: إنها آفلة، ولا يقول عاقل لكل من مشى وسافر وسار وطار: إنه آفل. الوجه الرابع أن هذا القول الذي قالوه لم يقله أحد من علماء السلف أهل التفسير، ولا من أهل اللغة، بل هو من التفسيرات المبتدعة في الإسلام، كما ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدارمي وغيره من علماء السنة، وبينوا أن هذا من التفسير المبتدع. وبسبب هذا الابتداع أخذ ابن سينا وأمثاله لفظ الأفول بمعني الإمكان، كما قال في إشاراته: قال قوم إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه، لكن إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجباً، وتلوت قوله تعالى {لا أحب الأفلين} [الأنعام: 76] فإن الهوي في حظيرة الإمكان أفول ما فهذا قوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ومن المعلوم بالضرورة من لغة العرب: أنهم لا يسمون كل مخلوق موجود آفلا، ولا كل موجود بغيره آفلاً، ولو كان الخليل أراد بقوله {لا أحب الأفلين} [الأنعام: 76] هذا المعنى، لم ينتظر مغيب الكوكب والشمس والقمر، ففساد قول هؤلاء المتفلسفة في الاستدلال بالآية أظهر من فساد قول أولئك. وأعجب من هذا قول من قال في تفسيره: إن هذا قول المحققين. واستعارته لفظ: الهوي، والحظيرة لا يوجب تبديل اللغة المعروفة في معنى الأفول، فإن وضع هو لنفسه وضعاً آخر، فليس له أن يتلو عليه كتاب الله تعالى فيبدله أو يحرفه. وقد ابتدعت القرامطة الباطنية تفسيراً آخر، كما ذكره أبو حامد في بعض مصنفاته، كمشكاة الأنوار وغيرها: أن الكواكب والشمس والقمر: هي النفس، والعقل الفعال، والعقل الأول، ونحو ذلك. وشبهتهم في ذلك: أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أجل من أن يقول لمثل هذه الكواكب: إنه رب العالمين، بخلاف ما ادعوه من النفس، ومن العقل والفعال الذي يزعمون أنه رب كل ما تحت فلك القمر، والعقل الأول الذي يزعمون أنه مبدع العالم كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وقول هؤلاء ـ إن كان معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام ـ فابتداع أولئك طرق مثل هؤلاء على هذا الإلحاد. ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب: أن هذه المعاني ليست هي المفهوم من لفظ الكوكب والقمر والشمس. وأيضاً فلو قدر أن ذلك كوكباً وقمراً وشمساً بنوع من التجوز: فهذا غايته أن يسوغ للإنسان أن يستعمل اللفظ في ذلك، لكنه لا يمكنه أن يدعي أن أهل اللغة التي نزل بها القرآن كانوا يريدون هذا بهذا، القرآن نزل بلغة الذين خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد أن يستعمل ألفاظه في معان بنوع من التشبه والاستعارة، ثم يحمل كلام من تقدمه على هذا الوضع الذي أحدثه هو. وأيضاً فإنه قال تعالى {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا} [الأنعام: 76] فذكره منكراً: لأن الكواكب كثيرة، ثم قال: {فلما رأى القمر} [الأنعام: 77] ، {فلما رأى الشمس} [الأنعام: 78]] بصيغة التعريف لكي يبين أن المراد القمر والمعروف والشمس المعروفة، وهذا صريح بأن الكواكب متعددة، وأن المراد واحد منها، وأن الشمس والقمر هما هذان المعروفان. وأيضا فإنه قال {لا أحب الأفلين} والأفول هو المغيب والاحتجاب، فإن أريد بذلك المغيب عن الأبصار الظاهرة فما يدعونه من العقل والنفس لا يزال محتجاً عن الأبصار لا يرى بحال، بل وكذلك واجب الوجود، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 فالأفول أمر يعود إلى حال العارف بها، لا يكسبها صفة نقص ولا كمال، ولا فرق في ذلك بينها وبين غيرها. وأيضاً فالعقول عندهم عشرة والنفوس تسعة بعدد الأفلاك. فلو ذك القمر والشمس فقط لكانت شبهتهم أقوى، حيث يقولون: نور القمر مستفاد من نور الشمس، كما أن النفس متولدة عن العقل، مع ما في ذلك ـ لو ذكروه ـ من الفساد، أما مع ذكر كوكب من الكواكب فقولهم هذا من أظهر الأقوال للقرامطة الباطنية فساداً، لما في ذلك من عدم الشبه والمناسبة التي تسوغ في اللغة إرادة مثل هذا. والكم على فساد هذا طويل ليس هذا موضعه. ولولا أن هذا وأمثاله هو من أسباب ضلال كير من الداخلين في العلم والعبادو، إذ صاحب كتاب مشكاة الأنوار إنما بنى كلامه على أصول هؤلاء الملاحدة، وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس كلامه على أصول هؤلاء الملاحدة، وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس خطاب الله عز وجل لموسى ين عمران النبي صلي الله عليه وسلم، كما تقوله القرامطة الباطنية ونحوهم من المتفلسفة، وجعل خلع النعلين الذي خوطب به موسى صلوات الله عليه وسلامه إشارة إلى ترك الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 والآخرة، وإن كان قد يقرر خلع النعلين حقيقة، لكن جعل هذا إشارة إلى أن من خلع الدنيا والآخرة فقد حصل له ذلك الخطاب الإلهي. وهو من جنس قول من يقول: إن النبوة مكتسبة، ولهذا كان أكابر هؤلاء يطمعون في النبوة، فكن السهروردي المقتول يقول: لا أموت حتى يقال في: قم فأنذر، وكان ابن سبعين يقول: لقد زرب ابن آمنة حيث قال: لا نبي بعدي ولما جعل خلع النعلين إشارة إلى ذلك، أخذ ذلك ابن قسي ونحوه ووضع كتابه ففي خلع النعلين، واقتباس النور من موضع القدمين من مثل هذا الكلام. ومن هنا دخل أهل الإلحاد من أهل الحلول والوحدة والاتحاد، حنى آل الأمر بهم إلى أن جعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق سبحانه وتعالى، كما فعل صاحب الفصوصابن عربي وابن سبعين وأمثالهما من الملاحدة المنتسبين إلى التصرف والتحقيق. وهم من جنس الملاحدة المنتسبين إلى التشيع، لكن تظاهر هؤلاء من أقوال شيوخ الصوفية وأهل المعرفة بما التبس به حالهم على كثير من أهل العلم المنتسبين إلى العلم والدين، بخلاف أولئك الذين تظاهروا بمذهب التشيع، فإن نفور الجمهور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 عن مذهب الرافضبة مما الجمهور عن مثل هؤلاء، بخلاف جنس أهل الفقر والزهد ومن يدخل في ذلك من متكلم ومتصرف وفقير وناسك وغير هؤلاء، فإنهم لمشاركتهم الجمهور في الانتساب إلى السنة والجماعة، يخفى من إلحاد الملحد الداخل فيهم ما لا يخفي من إلحاد ملاحدة الشيعة، وإن كان إلحاد الملحد منهم أحيانا قد يكون أعظم، كما حدثني نقيب الأشراف أنه قال لعفيف التلمساني: أنت نصيري، فقال: نصير جزء مني. والكلام على بسط هذا له موضع آخر غير هذا. فإن قيل: فهب أن تقديم الشرع عليها لا يكون قدحاً في أصله، لكنه تقديماً له على أدلة عقلية، فلا بد من بيان الموجب لتقديم الشرع. قيل: الجواب من وجوه: أحدهما: أن المقصود هنا بيان أن تقديم الشرع على ما عارضه من مثل هذه العقليات المحدثة في الإسلام، ليس تقديماً له على أصله الذي يتوقف العلم بصحة الشرع عليه، وقد حصل، فإنا إنما ذكرنا في هذا المقام بيان بطلان من يزعم أنه يقدم العقل على الشرع المعارض له، وذكرنا أن الواجب تقديم ما قام الدليل على صحته مطلقاً. الجواب الثاني: أن نقول: الشرع قول المعصوم الذي قام الدليل على صحته وهذه الطرق لم يقم دليل على صحتها، فلا يعارض ما علمت صحته بما لم تعلم صحته. الجواب الثالث: أن نقول: بل هذه الطرق المعارضة للشرع كلها باطلة في العقل، وصحة الشرع مبنية على إبطالها لا على صحتها، فهي باطلة بالعقل، وبالشرع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 والقائل بها مخالف للعقل والشرع من جنس أهل النار الذين قالوا {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10] ، وهكذا شأن جميع البدع المخالفة لنصوص الأنبياء، فإنها مخالفة للسمع والعقل، فكيف ببدع الجهمية المعطلة التي هي الأصل من كلام المكذبين للرسل. والكلام على إبطال هذه الوجوه على التفصيل، وأن الشرع لا يتم إلا بإبطالها، مبسوط في غير هذا الموضع، لكن نحن نشير إلى ذلك في تمام هذا الكلام، فنقول: بطلان الاستدلال بحدوث الحركات والأعراض. الوجه التاسع عشر بطلان الاستدلال بحدوث الحركات والأعراض. الوجه التاسع عشر أن هذه المعارضات مبنية على التركيب، وقد تقدمت الإشارة إلى بطلانه، وأما الاستدلال بحدوث الحركات والأعراض فنقول: قد أورد عليهم الفلاسفة سؤالهم المشهور، وجوابهم عنه على أصلهم مما يقول جمهور العقلاء إنه معلوم الفساد بالضرورة. وذلك إما أن يكون صدر عنه بسبب حادث يقتضي الحدوث، وإما أن لا يكون، فإن لم يكن صدر عنه سبب حادث يقتضي الحدوث لزم ترجيح الممكن بلا مرجح، وهو ممتنع في البديهة، وإن حدث عنه سبب فالقول في حدوث ذلك السبب كالقول في حدوث غيره، ويلزم التسلسل الممتنع فإتفاق العقلاء بخلاف التسلسل المتنازع فيه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 مع أن كلا النوعين باطل عند هؤلاء المتكلمين، فهم مضطرون في هذا الدليل إلى الترجيح بلا مرجح تام، أو إلى القول بالتسلسل والدور، وكلاهما ممتنع عندهم. ومما ينبغي أن يعرف أن التسلسل الممتنع في هذا المكان ليس هو التسلسل المتنازع في جوازه، بل هو مما اتفق العقلاء على امتناعه، فإنه إذا قيل: إنه قدر أنه لم يكن يحدث شيئاً قط ثم حدث حادث، فإما أن يحدث بسبب حادث أو بلا سبب حادث لزم الترجيح بلا مرجح، فالناس كلهم متفقون على أنه إذا قدر أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن، لم يحدث إلا بسبب حادث، وأن القول في كل ما يحدث قول واحد. وإذا قال القائل: فلم يحدث الحادث إلا بسبب حادث، ثم زعم أن الحادث الأول يحدث بغير سبب حادث فقد تناقض، فإن قوله: لا يحدث حادثقول عام، فإذا جوز أن يحدث حادث بلا بسبب فقد تناقض، ويسمى تسلسلاً. ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في العلل والفاعلين والمؤثرات: بأن يكون للفاعل فاعل، وللفاعل فاعل إلى ما لا نهاية له، وهذا متفق على امتناعه بين العقلاء. والثاني: التسلسل في الآثار: بأن يكون الحدث الثاني موقوفا على حادث قبله، وذلك الحادث موقوف على حادث قبل ذلك، وهلم جراً، فهذا في جوازه قولان مشهوران للعقلاء، وأئمة السنة والحديث ـ مع كثير من النظار أهل الكلام والفلاسفة ـ يجوزون ذلك، وكثير من النظار وغيرهم يحيلون ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وأما إذا قيل: لا يحدث حادث قط حتى يحدث حادث فهذا ممتنع باتفاق العقلاء وصريح العقل، وقد يسمى هذا دوراً، فإنه إذا قيل: لا يحدث شيء حتى يحدث شيء كان هذا دوراً، فإن وجود جنس الحادث موقوف على وجود جنس الحادث، وكونه سبحانه لم يزل مؤثراً يراد به مؤثراً في كل شيء، وهذا لا يقوله عاقل، لكنه لازم حجة الفلاسفة، ويراد به لم يزل مؤثراً في شيء بعد شيء، وهو موجب الأدلة العقلية التي توافق الأدلة السمعية. ولما أجاب بعضهم بأن المرجح هو القدرة أو الإرادة القديمة أو العلم القديم أو إمكان الحدوث ونحو ذلك، قالوا لهم في الجواب: هذه الأمور إن لم يحدث بسببها سبب حادث لزم الترجيح بلا مرجح، وإن حدث سبب حادث، فالكلام في حدوثه كالكلام في حدوث ما حدث به. وعدل آخرون إلى الإلزام فقالوا: هذا يقتضي أن لا يحدث في العالم حادث والحس يكذبه، فقالوا لهم: إنما يلزم هذا إذا كان التسلسل باطلاً، وأنتم تقولون بإبطاله وأما نحن فلا نقول بإبطاله، وإذا كان الحدوث موقوفاً على حوادث متجددة زال هذا المحذور. والتسلسل نوعان: تسلسل في العلل، وقد اتفق العلماء على إبطاله، وأما التسلسل في الشروط ففيه قولان مشهوران للعقلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وتنازع هؤلاء: هل الإلزام لهم صحيح أم لا؟ وبتقدير كون الإلزام صحيحاً ليس فيه حل للشبهة، وإذا لم تنحل كانت حجةً على الفريقين، وكان القول بموجبها لازماً، واعتبر ذلك بما ذكره أبو عبد الله الرازي في أشهر كتبه، وهو كتاب الأربعين وما اعترض عليه به صاحب لباب الأربعين أبو الثناء محمود الأرموي، وجوابه هو عنها، فإنه الرازي ذكرها، وذكر أجوبة الناس عنها وبين فسادها، ثم أجاب هو بالإلزام مع أنه في مواضع أخر بجيب عنها بالأجوبة التي بين فسادها الموضع. قال حجتهم: جميع الممكنات مستندة إلى واجب الوجود، فكل ما لا بد منه في مؤثريته، إن لم يكن حاصلاً في الأزل، فحدوثه إن لم يتوقف على مؤثر وجد الممكن لا عن مؤثر، وإن توقف عاد الكلام فيه وتسلسل، وإن كان حاصلاً: فإن وجب حصول الأثر معه لزم دوامه لدوامه، وإن لم يجب أمكن حصول الأثر معه تارة وعدمه أخرى، فيرجح أحدهما على الآخر، وأن لم يتوقف على أمر وقع الممكن بلا مرجح، وإن توقف لزم خلاف الفرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ثم قال أجاب المتكلمون بوجه: الأول: أنه إنما أحدث العالم في ذلك الوقت لأن الإرادة لذاتها اقتضت التعلق بإيجاده في ذلك الوقت. قلت: هذا جواب جمهور الصفاتية الكلامية كابن كلاب والأشعري وأصحابهما، ونه يجيب القاضي أبو بكر، وأبو المعالي، والتميميون من أصحاب أحمد، والقاضي أبو يعلي، وابن عقيل، وابن الزاغوني وأمثالهم، وبه أجاب الغزالي في تهافت الفلاسفة، وزريفه عليه ابن رشد الحفيد، وبه أجاب الأمدي، وبه أجاب الرازي في بعض الموضع. قال: الجواب الثاني للمتكلمين: أنها اقتضت التعلق به في ذلك الوقت لتعلق العلم به. قلت: هذا الجواب ذكره طائفة من الأشعرية، ومن الناس من يجعل المرجح مجموع العلم والإرادة والقدرة، كما ذكره الشهرستاني، ويمكن أن يجعل هذا جواباً آخر. قال: الجواب الثالث: لعل هناك حكمة خفية لأجلها أحدث في ذلك الوقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 قلت: هذا الجواب يجيب به من قد يعلل الأفعال، كما هو مذهب المعتزلة والكرامية وغيرهم، وقد يوافق المعتزلة ابن عقيل ونحوه، كما قد يوافق الكرامية في تعليلهم القاضي أبو حازم ابن القاضي أبي بعلي وغيره. قال: الجواب الرابع: أن الأزلية مانعة من الإحداث لم سبق. الجواب الخامس: أنه لم يكن ممكناً قبله، ثم صار ممكناً فيه. قلت: هذان الجوابان أو تاحدهما ذكرهما غير واحد من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية وغيرهم، كالشهرستاني وغيره، وهذا جواب الرازي في بعض المواضع. قال: الجواب السادس: أن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح كالهارب من السبع إذا عرض له طريقتان متساويان، والعطشان إذا وجد قدحين متساويين. قلت: هذا جواب أكثر الجهمية المعتزلة، وبه أجاب الرازي في نهاية العقول فإنه قال في كتابه المعروف بنهاية العقول ـوهو عنده أجل ما صنفه الكلام ـ قال: قوله في المعارضة الأولى جميع جهات مؤثرية الباري عز وجل لا بد وأن يكون حاصلاً في الأزل، ويلزم من ذلك امتناع تخلف العالم عن الباري عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 قلنا: هذا إنما يلزم إذا كان موجباً بالذات، أما إذا كان قادراً فلا. قوله: القادر لما أمكنه أن يفعل في وقت، وأن يفعل قبله وبعده، توقفت فاعليته على مرجح. قلنا: المعتمد في دفع ذلك ليس إلا أن يقال: القادر لا يتوقف في فعله لأحد مقدوريه دون الآخر على مرجح. قوله: إذا جاز استغناء الممكن هنا عن المرجح فليجز في سائر المواضع ويلزم منه نفي الصانع. قلنا: قد ذكرنا أن بديهة العقل فرقت في ذلك بين القادر وبين غيره، وما اقتضت البديهة الفرق بينهما لا يمكن دفعه. قلت، وهذا الجواب هو جواب معروف عن المعتزلة، وهو وأمثاله دائماً في كتبهم يضعون هذا الجواب ويحتجون على المعتزلة في مسألة خلق الأفعال وغيرها بهذه الحجة، هو أنه لا يتصور ترجيح الممكن لا من قادر ولا من غيره، إلا بمرجح يجب عنده وجود الأثر. فهؤلاء إذا ناطروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم لم يجيبوهم إلا بجواب المعتزلة، هم دائماً إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر عليهم بهذه الحجة التي احتجت بها الفلاسفة، فإن كانت هذه الحجة صحيحة بطل احتجاجهم على المعتزلة، وإن كانت باطلة بطل جوابهم للفلاسفة. وهذا غلب على المتفلسفة والمتكلمين المخالفين للكتاب والسنة تجدهم دائماً بتناقضون، فيحتجون بالمحجة التي يزعمون أنها برهان باهر، ثم في موضع آخر يقولون: إن بديهة العقل يعلم به فساد هذه الحجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 آراء المتكلمين في إرادة الله تعالى وهو لما احتج في المحصول على إثبات الجبر، وأن إثباته يمنع القول بالتحسين والتقبيح العقلي ذكر هذه الحجة، وقال: فثبت بهذا البرهان الباهر أن هذه الحوادث إما أن تحدث ـ يعني من العبد القادر ـ على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق. وقال أيضاً في تقريرها ههنا: العمدة في إثبات الصانع احتياج الممكن إلى المؤثر، فلو جوزنا ممكناً يترجح أحد طرفيه على الآخر بلا مرجح، لم يمكنا أن نحكم لشيء من الممكنات باحتياجه إلى المؤثر وذلك يسد باب إثبات الصانع. قال: وأما الهارب من السبع إذا عن له طريقان، فإنا نمنع تساويهما من كل الوجوه وإن ساعدنا عليه، ولكن الهارب من السبع يعتقد ترجح أحدهما على الآخر من بعض الوجوه، أو يصير غافلاً عن أحدهما، فأما لو اعتقد الهارب تسويهما من كل الوجوه، فإنه يستحيل منه والحال هذه أن يسلك أحدهما. والدليل على أن الأمر كذلك أن الإنسان إذا تعرضت دواعيه إلى الحركات المتضادة فإنه يتوقف في كل موضع، لا يمكنه أن يترك إلا عند حصول المرجح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وكما قال من جعل المرجح هو الإرادة: إن الإرادة اقتضت ترجيح ذلك المقدور على غيره، ولا يمكن أن يقال: الإرادة لماذا رجحت ذلك الشيء على غيره؟ لأنه لو رجحت غيره عليه كان هذا السؤال عائداً، وعلى هذا التقدير يلزم أن كون الإرادة مرجحة معلل بعلة أخرى، وذلك محال، لأن كون الإرادة مرجحة صفة نفسية لها، كما أن كون العلم بحيث يعلم به المعلوم صفة نفسية له، وذلك أمر ذاتي له، ولما استحال تعليل الصفات الذاتية استحال تعليل كون الإرادة مرجحة. قال: وهذا الجواب باطل أيضاً، لأنا لا نعلل أصل كون الإرادة مرجحة، وإنما نعلل كونها مرجحة لهذا الشيء على ضده، ولا يلزم من تعليل خصوص المرجحية، تعليل أصل المرجحية، ألا ترى أن الممكن لما دار بين الوجود والعدم فإنا نحكم أنه لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح، ولا يكون تعليل ذلك تعليلاً لأصل كونه ممكناً، فكذلك ههنا. قلت: نظير هذا قول من يقول من القدرية المعتزلة الشيعة ونحوهم: إن الله تعالى جعل العبد مختاراً، وخلقه مختاراً، إن شاء اختار هذا الفعل، وإن شاء اختار هذا الفعل، فهو يختار أحدهما باختياره. فيقال لهم: هو جعله أهلاً للاختيار، وقابلاً للاختيار، وجائزاً منه الاختيار، وممكناً منه الاختيار، ونحو ذلك، أو جعله مختاراً لهذا الفعل على هذا؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 فإن قالوا بالأول قيل لهم: فوجود اختيار هذا الفعل دون هذا لا بد له من سبب، وإذا كان العبد قابلا لهذا ولهذا، فوجود أحد الاختيارين دون الآخر لا بد له من سبب أوجبه. وإن قالوا بالثاني أعترفوا بالحق، وأن ما فيه من أختيار الفعل المعين هو من الله تعالى، كما قال سبحانه {لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير: 28-29] . ولهذا إذا حقق القول عليهم وقيل لهم: فهذا الاختيار الحادث الذي كان به هذا الفعل، وهو إرادة العبد الحادثة، من المحدث لها؟ قالوا: الإرادة لا تعلل. فقلت لمن قال لي ذلك منهم: تعني بقولك: لا تعلل بالعله الغائية، أي لا تعلم غايتها، أو لا تعلل بالعلة الفاعلية، فلا يكون لها محدث أحدثها؟. أما الأول فليس الكلام فيه هنا، مع أنه هو يقول بتعليلها بذلك، وأما الثاني فإنه معلوم الفساد بالضرورة، فإنه من جوز في بعض الحوادث ان تحدث بلا فاعل أحدثها لزمه ذلك في غيره من الحوادث، وهذا المقام حار فيه هؤلاء المتكلمون. فالمعتزلة القدرية: إما أن ينفوا إرادة الرب تعالى: وإما أن يقولوا بإرادة أحدثها في غير محل بلا إرادة كما يقوله البصريون منهم، وهم أقرب إلى الحق من البغداديين منهم، وهم في هذا كما قيل فيهم: طافوا على أبواب المذاهب، وفازوا بأخس المطالب ـ فإنهم التزموا عرضاً يحدث لا في محل، وحادثاً يتحدث بلا إرادة، كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 التزموا في إرادة العبد أنها تحدث بلا فاعل، فنفوا السبب الفاعل للإرادة، مع أنهم يثبتون لها العلة الغائية، ويقولون: إنما أراد الإحسان إلى الخلق ونحو ذلك. والذين قابلوهم من الأشعرية ونحوهم، أثبتوا السبب الفاعل لإرادة العبد، وأثبتوا لله إرادة قديمة تتناول جميع الحوادث، لكن لم يثبتوا لها الحكمة المطلوبة والعاقبة المحمودة، فكان هؤلاء بمنزلة من أثبت العلة الفاعلية دون الغائية، وأولئك بمنزلة من أثبت العلة الغائية دون الفاعلية. آراء الفلاسفة والمتفلسفة المشاؤون يدعون إثبات العلة الفاعلية والغائية، ويعللون ما في العالم من الحوادث بأسباب وحكم. وهم عند التحقيق أعظم تناقضاً من أولئك المتكلمين، لا يثبتون لا علة فاعلية ولا غائية، بل حقيقة قولهم: أن الحوادث التي تحدث لا محدث لها، لن العلة التامة القديمة مستلزمة لمعلومها، لا يمكن أن يحدث عنها شيء. وحقيقة قولهم: أن أفعال الرب تعالى ليس فيها حكمة، ولا عاقبة محمودة، لأنهم ينفون الإرادة، ويقولون: ليس فاعلاً مختاراً، ومن نفى الإرادة كان نفيه للمراد المطلوب بها الذي هو الحكمة الغائية أولى وأخرى، ولهذا كان لهم من الاضطراب والتناقض في هذا الباب أعظم مما لطوائف أهل الملل، كما قد بسط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا التنبيه على مجامع أقوال الطوائف الكبار، وما فيها من التناقض، وأن من عارض النصوص الإلهية بما يسميه عقليات، إنما يعارضها بمثل هذا الكلام الذي هو نهاية إقدامهم وغاية مرامهم، وهو نهاية عقولهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 في دراية أصولهم. قال الرازي: قالت الفلاسفة: حاصل الكل اختيار أن كل ما لا بد منه في إيجاد العالم لم يكن حاصلاً في الأزل لأنه جعل شرط الإيجاد أولاً: الوقت الذي تعلقت الإرادة بإيجاده فيه، وثانياً: الوقت الذي تعلق العلم به فيه، وثالثا: الوقت المشتمل على الحكمة الخفية، ورابعاً: انقضاء الأزل، وخامساً: الوقت الذي يمكن فيه، وسادساً: ترجيح القادر، وشيء منها لم يوجد في الأزل، وقد أبطلنا هذا القسم. ثم قال عن الفلاسفة: والجواب المفصل عن الأول من وجهين: أحدهما: أن إرادته لم تكن صالحة لتعلق إيجاده في سائر الاوقات كان موجباً بالذات، ولزم قدم العالم، وإن كانت صالحة فترجيح بعض الأوقات بالتعلق إن لم يتوقف على مرجح وقع الممكن لا لمرجح، وإن توقف عاد الكلام فيه، وتسلسل. والثاني: أن تعلق إرادته بإيجاده أن لم يكن مشروطاً بوقت ما ملزم قدم المراد، وإن كان مشروطاً به كان ذلك الوقت حاضراً في الأزل، وإلا عاد الكلام في كيفية إحداثه، وتسلسل. وعن الثاني من وجهين: الأول: أن العلم تابع للمعلوم التابع للإراداة فامتنع كون الإرادة تابعة للعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 الثاني: أن تعين المعلوم محال، فيمتنع عقلاً إحداثه في وقت علم عدم حدوثه فيه، وعدم إحداثه في وقت علم حدوثه فيه، وذلك يوجب كونه موجباً بالذات. وعن الثالث من وجهين: أحدهما: أن حدوث وقت تلك المصلحة إن كان لا لمحدث لزم نفي الصانع، وأن كان لمحدث عاد الكلام فيه. وأيضا فتلك المصلحة إن كانت حاصلة قبل الوقت لزم حدوثها قبله، وإلا فإن وجب حدوثها في ذلك الوقت جاز في غير ذلك، ولزم نفي الصانع. وإن لم يجب عاد الكلام في اختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة، وتسلسل. الثاني: أنه مع العلم باشتمال ذلك الوقت على تلك المصلحة إن لم يمكنه الترك كان موجباً بالذات، وإن أمكنه وتوقف الفعل على مرجح تسلسل، وإلا وقع الممكن لا لمرجح. وعن الرابع من وجهين: أحدهما: أن مسمى الأزل إن كان واجباً لذاته امتنع زواله، وإلا استند إلى واجب لذاته، ولزم المحذور. والثاني: أن الأزل نفي محض، فامتنع كونه مانعاً م الإيجاد. وعن الخامس: أن انقلاب الممتنع لذاته ممكناً لذاته محال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الثاني: أن الماهية لا يختلف قبولها للوجود أو لا قبولها، لكونه شاملاً للأوقات. وعن السادس من وجهين: الأول: أنه لما استويا بالنسبة إليه كان وقوع أحدهما من غير مرجح اتفاقياً، وحينئذ يجوز في سائر الحوادث ذلك، ولزم نفي الصانع. الثاني: أنه لما استويا بالنسبة إليه فترجح أحدهما إن لم يتوقف على نوع ترجيح منه كان وقوعه لا بإيقاعه، بل من غير سبب، ولزم نفي الصانع، وإن توقف عاد التقسيم فيه: أنه هل كان حاصلاً في الأزل أم لا؟. وأما فصل الهارب والعطشان فإنا نعلم أنه ما لم يحصل لهما ميل إلى أحدهما لم يرجح. قلت: هذه الوجوه بعضها حق لا حيلة فيه، وبعضها فيه كلام مبسوط في غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا ذكر جواب الناس عن تلك الشبهة. ثم قال الرازي: والجواب أن هذا يقتضي دوام المعلول الأول لوجوب دوام واجب الوجود، ودوام الثاني لدوام الأول، وهلم جراً، وإن ينفي الحدوث أصلاً. قال: فإن قلت: واجب الوجود علم الفيض، يتوقف حدوث الأثر عنه على حدوث استعدادت القوابل بسبب الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية، فكل حادث مسبوق بآخر لا إلى أول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 قلت: حدوث العرض المعين لا بد له من سبب، فذلك السبب: إن كان حادثاً عاد الكلام في سبب حدوثه، ولزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة، وهو محال. وإن كان قديما لم يلزم من قدم المؤثر قدم الأثر، فكذلك في كلية العالم. اعتراض الأرموي على الرازي وقد اعترض الأرموي على هذا الجواب فقال: والقائل أن يقول: إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث المسبب الفاعل، بل يدل إما على حدوثه أو حدوث بعض شرائطه، وإن عنيت به السبب الفاعل لم يلزم من حدوث العرض المعين حدوثه، بل إما حدوثه أو حدوث بعض الشرائط، وحدوث الشرائط والمعدات الغير متناهية على التعاقب جائز عندكم. قال: بل الجواب الباهر عنه: أنه لا يلزم من ذلك قدم العالم الجسماني، لجواز أن يوجد في الأزل عقل أو نفس يصدر عنهما تصورات متعاقبة، كل واحد منها بعد ما يليه، حتى ينتهي إلى تصور خاص يكون شرطاً لفيضان العالم الجسماني عن المبدأ القديم. رد ابن تيمة على الأرموي قلت: الإلزام الذي ألزمهم إياه الرازي صحيح متوجه، وهو الجواب الثاني الذي أجابهم به الغزالي في كتاب التهافت. وأما اعتراض الأرموي فجوبه: أنه كان التقدير أن العلة التامة مستلزمة لمعلولها، ومعلولها لازم لعلته: امتنع أن يحدث عنها شيء، فما حدث لا بد له من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 سبب تام، وحدوث السبب التام يستلزم حدوث سبب تام له، فيلزم جود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة، وهو محال. وأما قوله: إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث السبب الفاعل، بل إما على حدوثه أو حدوث بعض شرائطه. فيقال له: هذا التقسيم صحيح إذا نظر إلى الحادث من حيث الجملة، وأما إذا نظر إلى حادث يمتنع حدوثه عن العل التامة، فلا بد له من حدوث سبب تام. وإذا قال القائل: الفاعل القديم أحدثه لما حدث شرط حدوثه. قيل: الكلام في حدوث ذلك الشرط كالكلام في حدوث المشروط، فلا بد من حدوث أمر لا يكون حادثاً عن العلة التامة، لأن العلة التامة القديمة يمتنع أن يحدث عنها شيء، فإنه يجب مقارنة معلولها لها في الأزل، والحادث ليس بمقارن لها في الأزل. وإذا قيل: حدث عنها بحدوث الاستعداد والشرائط. قيل: الكلام في كل ما يقدر حدوثه عن علة تامة مستلزمة لمعلولها، فإن حدوث حادث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها محال. وهذا الإلزام صحيح لا محيد للفلاسفة عنه. وإذا قالوا: حدث عنها أمور متسلسلة واحد بعد واحد. قيل لهم: الأمور المتسلسلة يمتنع أن تكون صادرة عن علة تامة، لأن العلة التامة القديم تستلزم معلولها فتكون معها في الأزل، والحوادث المتسلسلة ليس معها في الأزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبينا أن قولهم بحدوث الحوادث عن موجب تام أزلي لازم لهم في صريح العقل، سواء حدثت عنه بواسائط لازمة له أو بغير وسائط، وسواء سميت تلك الوسائط عقولا ونفوساً أو غير ذلك، وسواء قيل: إن الصادر الأول عنه: العنصر، كما يقول بعضهم، أو قيل: بل هو العقل، كما هو قول آخرين، فإن الوسائط اللازمة ل قديمة معه، لا يحدث فيها شيء، إذ القول في حدوث ما يحدث فيها كالقول في غيره من الحوادث. وقولهم: إن حركات الفلك بسبب حدوث تصورات النفس وإرادتها المتعاقبة، مع حدوث تلك عن الواجب بنفسه بواسطة العقل اللازم له، أو بغير واسطة العقل، أو القول بحدوثها عن العقل، أو ما قالوا من هذا الجنس الذي يسندون فيه حدوث الحوادث إلى مؤثر قديم تام لم يحدث فيه شيء ـ هو قول يتضمن أن الحوادث حدثت عن علة تامة لا يحدث فيها شيء. فإذا كان المؤثر التام الأزلي، سواء جعل ذلك شرطاً في حدوث غيره أو لم يجعل، ومتي امتنع حدوث حادث عنه كان حدوث ما يدعونه من الاستعدادات والشرائط مفتقراً إلى سبب تام. فيلزم وجود علل ومعلومات لا تتناهى دفعة، كما ذكره الرازي، وهذا من جيد كلامه. وأما الجواب الذي أجاب به الأرموي وذكر أنه باهر: فهو منقول من كلام الرازي في المطالب العالية وغيرها، وهو منقوض بهذه المعارضة، مع أنه جواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 غاب بعضه موافق لقول أهل الملل، وبعضه موافق لقول الفلاسفة الدهرية، فإنه مبني على إثبات العقول والنفوس، وأنها ليست أجساماً، وكونها قديمة أزلية لازمة لذات الله تعالى. وهذه الأقوال ليست من أقوال أهل الملل، بل هي أقوال باطلة، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبين أن ما يدعونه من المجردات إنما ثبوتها في الأذهان في الأعيان. وإنما أجاب الأرموي بهذا الجواب لأن هؤلاء المتأخرين ـ الكشهرستاني الرازي واللآمدي ـ زعموا أن ما ادعاه هؤلاء المتفلسفة من إثبات عقول ونفوس مجردة لا دليل للمتكلمين على نفيه، وأن دليلهم على حدوث الأجسام لا يتضمن الدلالة على حدوث هذه المجردات. وهذا قول باطل، بل أئمة الكلام صرحوا بأن انتفاء هذه المجردات، وبطلان دعوى وجود ممكن ليس جسماً ولا قائماً بجسم: مما يعلم انتفاؤه بضرورة العقل، كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالي وغيره بل قال طوائف من أهل النظر: إن الموجود منحصر في هذين النوعين، وإن ذلك معلوم بضرورة العقل، وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع. والمقصود هنا: أن هذا الجواب الذي ذكره الأرموي مبني على هذا الأصل. ومضمونه: أن الرب تعالى موجب بالذات للعقول والنفوس الأزلية اللازمة لذاته لا فاعل لها بمشيئته وقدرته، وهم يفسرون العقول بالملائكة، فتكون الملائكة قديمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 دخل فيه الخلق والإبداع، هل هو أمر وجودي، أو أمر عدمي؟ وهل الخلق هو المخلوق، أو غير المخلوق؟ وفيها قولان مشهوران للناس، والجمهور على أن الخلق ليس هو المخلوق، هو قول أكثر العلماء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد، وهو قول أكثر أهل الكلام، مثل طوائف من المعتزلة والرمجئة والشيعة، وهو قول الكرامية وغيرهم، وهو مذهب الصوفية، ذكره صاحب التعرف في مذاهب التصوف المعروف بـ الكلاباذي هو قول أكثر قمدماء الفلاسفة وطائفة من مأخريهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وطائفة قالت: الخلق هو المخلوق، وهو قول كثير من المعتزلة، وقول الكلابية كالأشعري وأصحابه، ومن وافقهم من أصحاب الشافعي وأحمد ومالك وغيرهم. والمقصود هنا أنهم لما احتجوا على قدم العالم بأن كون الواجب مؤثرا في العالم غير ذاتيتهما، لإمكان تعقلهما مع الذهول عنه، ولأن كونه مؤثراً معلوم دون حقيقته، ولأن المؤثرية نسبة بينهما، فهي متأخرة ومغايرة. قال: وليس التأثير أمراً سلبياً، لأنه نقيض قولنا: ليس بمؤثر، فذلك الوجودي إن كان حادثاً فتقر إلى مؤثر، وكانت مؤثريته زائدة، ولزم التسلسل، وإن كان قديماً ـ وهو صفة إضافية لا يعقل تحققها مع المضافين ـ فلزم قدمها. أجاب الرازي: بأن المؤثرية ليست صفة ثبوتية زائدة على الذات، وإلا كانت مفتقرة إلى المؤثر، فتكون مؤثريته زائدة، ويتسلسل. قلت: وهذا الجواب هو على قول من يقول: إن الخلق هو المخلوق، وإنه ليس الفعل والإبداع والخلق إلا مجرد وقوع المفعول المنفصل عنه من غير زيادة أمر وجودي أصلاً. فقال الأرموي: ولقائل أن يقول: التسلسل هاهنا واقع في الآثار، لأن المؤثرية صفة إضافية يتوقف تعقلها على المؤثر والأثر، فتكون متأخرة على الأثر فاقتضت مؤثرية أخرى بعد الأثر، حتى يكون بعد كل مؤثرية مؤثرية. قال: والمنكر هو التسلسل في المؤثرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 قال: بل الجواب عنه: أن الصفة الإضافية العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها، فإن التقدم صفة إضافية عارضة للشيء بالنسبة إلى المتأخر عنه ولو بأزمنه كثيرة، مع امتناع حصول المتقدم مع المتأخر. قلت: وقول الأرموي: لقائل، أن يقول: التسلسل هاهنا واقع في الآثار، لأن المؤثرية صفة إضافية يتوقف تعلقها على المؤثر والأثر، فتكون متأخرة عن الأثر، فاقتضت مؤثرية أخري بعد الأثر، حتى يكون بعد كل مؤثرية مؤثرية: يعترض عليه: بأن هذا يناقض قوله بعد هذا: بل الجواب عنه: أن الصفة الإضافية العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها، فإنه إن كان هذا القول صحيحاً لم يلزم عن المؤثر، وإن كانت الصفة العارضة للشيء لا تتوقف، بل يكفي فيها تحقق المؤثرية فقط. ولكنه يجيب عن هذا بأن مقصودي أن ألزم غيري إذا قال: تتوقف المؤثرية على المؤثر والأثر بأن هذا تسلسل في الآثار، لا في المؤثرات، وهذا إلزام صحيح. لكن يقال له ك كان من تمام هذا الإلزام أن تقول: المؤثرية إذا كانت عندكم صفة إضافية يتوقف تعقلها على المؤثر والأثر كانت مستلزم لوجود الأثر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فإن كونه مؤثراً بدون الأثر ممتنع، وحينئذ فمعلوم أن الأثر يكون عقب التأثير الذي هو المؤثرية، فإنه إذا خلق وجد المخلوق، وإذا أثر في غيره حصل الأثر، فالأثر يكون عقب التأثير، وهو جعل المؤثرية متأخرة عن الأثر. وليس الأمر كذلك، بل هي متقدمة على الأثر، أو مقارنة له عند بعضهم، ولم يقل أحد من العقلاء: إن المؤثرية متأخرة عن الأثر، بل قال بعضهم: إن الأثر متأخر منفصل عنها، وقال بعضهم: هو مقارن لها، وقال بعضهم: هو متصل بها، لا منفصل عنها، ولا مقارن لها وهذا أصح الأقوال. ولكن على التقديرين: تكون المؤثرية حادثة بحدوث تمامها، فيلزم أن يكون لها مؤثرية، وتكون المؤثرية الثانية عقب الؤثرية الأولى. وهذا مستقيم لا محذور فيه، فتكون المؤثرية الأولى أوجبت كونه مؤثراً في الأثر المنفصل عنه، وكونه مؤثراً في ذلك الأثر أوجب ذلك الأثر. وهذا على قول الجمهور الذين يقولون: الموجب يحصل عقب الموجب التام، والأثر يحصل عقب المؤثر التام، والمفعول يحصل عقب كمال الفاعلية، والمعلول يحصل عقب كمال العلية. وأما من جعل الأثر مقارناً للمؤثر في الزمان ـكما تقوله طائفة من المتفلسفة ومن وافقهم ـ فهؤلاء يلزم قولهم لوازم تبطله، فإنه يلزم عند وجود المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة، ومع المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة، وهلم جراً، وهذا تسلسل في تمام المؤثرية، وهو من جنس التسلسل في المؤثرات لا في الآثار، فإن التسلسل في تمام المؤثرية، وهو من جنس التسلسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 في المؤثرات أن يكون للمؤثر مؤثر معه لا يكون حال عدم المؤثر، فإن الشيء لا يفعل في حال عدمه، وإنما يفعل في حال وجوده، فعند وجود التأثير لا بد من وجود المؤثر، فإن المؤثر التام لا يكون حال عدم التأثير، بل لا يكون إلا مع وجوده، لكن نفس تأثيره يستعقب الأثر، فإن جعل تمام المؤثرية مقارناً للأثر كان من جنس التسلسل في المؤثرات، لا في الآثار. وقد يقول القائل: هذا الذي أراده الرازي بقوله: إن المؤثرية ليست صفة ثبوتية زائدة على الذات، وإلا كانت مفتقرة إلى المؤثر، فتكون مؤثريته زائدة، ويتسلسل فإنه قد يريد التسلسل المقارن لا المتعاقب، فإنها إذا كانت زائدة افتقرت إلى مؤثر يقارنها، كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والمتكلمين. والرازي قد يقول بهذا، وحينئذ فهذا التسلسل باطل باتفاق العقلاء. فيقول القائل: هذا هو الإلزام الذي ألزم به الرازي الفلاسفة، حيث قال: والجواب أن هذا يقتضي دوام المعلول الأول، لوجوب دوام واجب الوجود، ودوام الثاني لدوام الأول، وهلم جرا، وإنه ينفي الحوادث أصلاً. قال: فإن قلت: واجب الوجود عام الفيض، يتوقف حدوث الأثر عنه على استعدادات القوابل، فكل حادث مسبوق بآخر لا إلى أول. قلت: حدوث العرض المعين لا بد له من سبب، فذلك السبب إن كان حادثاً عاد الكلام في سبب حدوثة، ويلزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعةً، وهو محال، وإن كان قديماً لم يلزم من قدم المؤثر قدم الأثر، فكذلك في كلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 العالم. فيقال: هذا الكلام الذي ذكره الرازي جيد مستقيم، وهو إلزامهم الحوادث المشهودة التي قد يعبر عنها بالحوادث اليومية، فإنه لا بد لها من مؤثر تام، فإن كان قديماً أمكن وجود الحادث عن القديم، وبطل قولهم، وإن كان حادثاً فلا بد على قولهم أن يكون حادثاً مع حدوث الأثر، لا قبله، لأنهم قد قرروا أن المؤثر التام يجب أن يكون أثره معه في الزمان لا يتأخر عنه، فعلى قولهم هذا: يجب أن يكون المؤثر التام معه أثره، والأثر معه مؤثره، لا يتقدم زمان أحدهما على زمان الآخر، وحينئذ فالحادث المعين يجب أن يكون مؤثره معه حادثاً، ويكون مؤثر ذلك المؤثر معه حادثاً، فيلزم وجود أسباب ومسببات هي علل ومعلومات لا نهاية لها في زمن واحد معلوم الفساد بضرورة العقل، وقد اتفق العقلاء على امتناعه. واعتراض الأرموي عليه ساقط حينئذ. فإن ملخص قوله: إن اللازم حدوث المؤثر، أو حدوث بعض شرائطه، وهم يجوزون حدوث الشرائط والمعدات على سبيل التعاقب. فيقال لهم: هم يجوزون أن يكون بعد كل حادث حادث فيقولون: حدوث الحادث الأول شرط في حدوث الحادث الثاني، والشرط موجود قبل المشروط. ولكن هذا يناقض قولهم: إن العلة التامة تستلزم أن يكون معلومها معها في الزمان، وأن المعلوم يجب أن يكون موجوداً مع تمام العلة، لا يتأخر عن ذلك، فإن موجب هذا أنه إذا حصل شرط تمام العلة حصل معه المعلول لا يتأخر عنه، وكلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 حدث حادث كان الشرط الحادث الذي به تمت عليه العلة حادثاً معه لا قبله، ثم ذلك الحادث أيضاً يحدث الشرط الذي هو تمام علته معه لا قبله، وهلم جراً، فيلزم تسلسل تمام العلل في آن واحد وهو أن تمام علة هذا الحادث حدث في هذا الوقت، وتمام علة هذا التمام حدث في هذا الوقت، وهلم جراً. والتسلسل ممتنع في العلة، وفي تمام العلة، فكما لا يجوز أن يكون للعلة علة، وللعلة علة إلى غير غاية، فلا يجوز أن يكون لتمام العلة تمام، ولتمام العلة تمام إلى غير غاية. والتسلسل في العلل وفي تمامها متفق على امتناعه بين العقلاء، معلوم فساده بضرورة العقل، سواء قيل: إن المعلول يقارن العلة في الزمان، أو قيل إنه يتعقب العلة. ولكن هؤلاء لا يتم قولهم بقدم شيء من العالم إلا إذا كان المعلول مقارناً للعلة التامة لا يتأخر عنها، وحينئذ فيلزم أن يكون كل حادث تمام علته حادث معه، وتمام علة ذلك التمام حادث معه، وهلم جرا، فيلزم وجود حوادث لا نهاية لها في آن واحد ليست متعاقبة، وهذا مما يسلمون أنه ممتنع، ويعلم بضرورة العقل أنه ممتنع، وهو يشبه قول أهل المعاني أصحاب معمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وإذ كان هذا لازماً لقولهم لا محيد لهم عنه: لزم أن أحد أمرين: إما بطلان حجتهم وإما القول بأنه لا يحدث في العالم شيء، والثاني باطل بالمشاهدة، فتعين بطلان حجتهم. فتبين أن الذي ألزمهم إياه أبو عبد الله الرازي لا محيد عنه، وأن الأرموي لم يفهم حقيقة الإلزام، فأعترض عليه بما لا يقدح فيه. ولكن مثاب الغلط والاشتباه هنا: أن لفظ التسلسل إذا لم يرد به التسلسل في نفس الفعل فإنه يراد به التسلسل في الأثر، بمعني أنه يحدث شيء، ويراد به التسلسل في تمام كون الفاعل فاعلاً، وهذا عند من يقول: إن المؤثر التام وأثره مقترنان في الزمان كما يقوله هؤلاء الدهرية، فيقضي أن يكون ما يحدث من تمام المؤثر مقارناً للأثر لا يتقدم عليه، فتبين به فساد حجتهم. وأما من قال: إن الأثر إنما يحصل عقب تمام المؤثر فيمكنه أن يقول بما ذكره الأرموي، وهو أن كونه مؤثرا في الأثر المعين يكون مشروطاً بحادث يحدث يكون الأثر عقبه، ولا يكون الأثر مقارناً له. ولكن هذا يبطل قولهم بقدم شيء من العالم، ويوافق أصل السنة وأهل الحديث الذين يقولون: لم يزل متكلماً إذا شاء. فإنه على قول هؤلاء يقال: فعله لما يحدث من الحوادث مشروط بحدوث حادث به تتم مؤثرية المؤثر، ولكن عقب حدوث ذلك التمام يحدث ذلك الحادث، وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء أزلي، إذ الأزلي لا يكون إلا مع تمام مؤثره، ومقارنة الأثر للمؤثر زمانا ممتنعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وحينئذ فإذا قيل: هو نفسه كاف في إبداع ما ابتدعه، لا يتوقف فعله على شرط. قيل: نعم كل ما يفعله لا يتوقف على غيره، بل فعله لكل مفعول حادث يتوقف على فعل يقوم بذاته يكون المفعول عقبه، وذلك الفعل أيضاً مشروط بأثر حادث قبله. فقد تبين أن هذه المعقولات التي اضطرب فيها أكابر النظار، وهي عندهم أصول العلم الإلهي، إذا حققت غاية التحقيق: تبين أنها موافقة لما قاله أئمة السنة والحديث العارفون بما جاءت به الرسل، وتبين أن خاصة المعقول خادمة ومعينة وشاهدة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. قلت: المقصود هنا أن الأرموي ضعف الجواب بأن التسلسل المنكر هو تسلسل المؤثرات التي هي العلل، وأما تسلسل الآثار فليس بمنكر، وإذا كانت المؤثرية مسبوقة بمؤثرية، لم يلزم إلا التسلسل في الآثار. وقوله: إن هذا يقتضي التسلسل في الآثار لا في المؤثرات كلام صحيح على قول من يقول: إن الأثر لا يجب أن يقارن المؤثر في زمان بل يتعقبه لأن المؤثرية المسبوقة بمؤثرية إنما حدث بالأولى كونها مؤثرة، لا نفس المؤثر. والفرق بين نفس المؤثر ونفس تأثيره هو الفرق بين الفاعل وفعله، والمبدع وإبداعه، والمقتضي واقتضائه، والموجب وإيجابه، وهو كالفرق بين الضارب وضربه، والعادل وعدله، والمحسن وإحسانه، وهو فرق ظاهر. لكن احتجاجه بأن المؤثرية إذا كانت صفة إضافية يتوقف تحققها على المؤثر والأثر جاز أن تكون متقدمة على الأثر، كما لزم أن تكون متأخرة عن الأثر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 ليس بمستقيم. فإن كون الشيء مؤثراً في غيره لا يكون متأخراً عن أثره، بل إما أن يكون مقارناً له، أو سابقاً عليه، وإلا فوجود الأثر قبل التأثير ممتنع، ولا يحتاج إلى هذا التقدير، فإن كون التسلسل ها هنا واقعاً في الآثار: أبين من أن يدل عليه بدليل صحيح من هذا الجنس، فضلاً عن أن يدل عليه بهذا الدليل. والجواب الذي ذكره ـ من أن الصفة العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها ـ هو جواب من يقول بأن التأثير قديم، والأثر حادث. وهذا قول من يقبت لله تعالى صفة التخليق والتكوين في الأزل، وإن كان المخلوق حادثاً. وهو قول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأهل الكلام والصوفية، وهو مبني على أن الخلق غير المخلوق، وهذا قول أكثر الطوائف، لكن منهم من صرح بأن الخلق قديم والمخلوق حادث، ومنهم من صرح بتجدد الأفعال، ومنهم من لا يعرف مذهبه في ذلك. فالذي ذكره البغي عن أهل السنة: إثبات صفة الخلق لله تعالى، وأنه لم يزل خالقاً، وكذلك ذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب التعرف لمذهب التصوف أنه مذهب الصوفية، وكذلك ذكره الطحاوي وسائر أصحاب أبي حنيفة، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 قول جمهور أصحاب أحمد، كأبي إسحاق بن شاقلاً، وأبي عبد الله بن حامد، والقاضي أبي يعلى وغيرهم، وكذلك ذكره غير واحد من المالكية، وذكر أنه قول أهل السنة والجماعة، ومن هؤلاء من صرح بمعني الحركة لا بلفظها. وهؤلاء الذين يقولون بإثبات تأثير قديم هو الخلق والإبداع مع حدوث الأثر، يجعلون ذلك بمنزلة وجود الإرادة القديمة مع حدوث المراد، كما يقول بذلك الكلام وغيرهم من الصفاتية. فجواب أبي الثناء الأرموي موافق لقول هؤلاء الطوائف، وهو قوله: الصفة المعارضة للشيء لا تتوقف إلا على وجود معروضها، كما أن الإرادة القديمة لا تتوقف إلا على وجود المريد دون المراد عند من يقول بذلك، وكذلك القدرة المتعلقة بالمستقبلات تتوقف على وجود القادر، دون المقدور، فكذلك قولهم في الخلق الذي هو الفعل وهو التأثير. ولكن هذا الجواب ضعيف، فإن قوله: الصفة الإضافية العراضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها، فإن التقدم صفة إضافية عارضة للشيء بالنسبة إلى التأخر عنه ولو بأزمنة كثيرة، مع امتناع حصول المتقدم مع المتأخر يعترض عليه بأنك ادعيت دعوى كلية وأثبتها بمثال جزئي، فادعيت أن كل صفة عارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وهذه دعوى كلية، ثم احتججت على ذلك بالتقدم العارض للمتقدم، وهذا المثال لا يثبت القضية الكلية. ونظير هذا قولهم: ليس لمتعلق القول من القول صفة وجودية، فإنه ليس لكون الشيء مذكوراً أو مخبراً عنه صفة ثبوتية بذلك، فإن المعدوم يقال: إنه مذكور ومخبر عنه، فإن هذه دعوى، والمثال جزئي. والتحقيق أن متعلق القول قد يكون له منه صفة وجودية، كمتعلق التكوين والتحريم والإيجاب، وقد يكون، كمتعلق الإخبار. ثم يقال: الصفة العرضة للشيء بالنسبة إلى غيره: سواء كانت من الصفات الحقيقية المستلزمة للنسبة والإضافة كالإرادة والقدرة والعلم، أو كانت من الصفات الإضافية عند من يجوز جواز إضافة محضة، لا يستلزم صفة حقيقية قد تكون مستلزمة لوجود الاثنين المتضايفين المتباينين كالأبوة والنبوة، فأن وجود أحدهما مستلزم لوجود الآخر، وكذلك الفوقية والتحتية والتيامن والتياسر، وكذلك العلة التامة مع معلومها، فإنه ليس بينهما برزخ زمان، وإن كان المعلوم لا يكون إلا متعقباً للعلة في الزمان، لا يكون زمنه زمنها عند جمهور العقلاء، كما قد بسط في موضع آخر. وأنتم احتججتم في غير موضع بأن القبول نسبة بين القابل والمقبول، فلا يتحقق إلا مع تحققهما، وجعلتم هذا مما احتججتم به على الكرامية في مسألة حلول الحوادث، وقلتم: كونه قابلاً للحدوث يجب أن يكون من لوازم ذاته، وذلك إنما يمكن مع تحقق الحوادث في الأزل مع امتناع تحقق الحادث في الأزل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فهذا التناقض من جنس قولكم إنه قادر في الأزل مع امتناع المقدور في الأزل، وقلتم: إذا كان قابلاً للحوادث في الأزل لزم إمكان وجود الحوادث في الأزل، فأي فرق بين إمكان القبول، وإمكان المقدور، وإمكان المفعول؟ وما تقدم الشيء على غيره وكونه مثل هذا قبل زمن هذا، ولكن لا يلزم إذا لم يكن المتأخر مع المتقدم ألا يكون المقبول المقدور والأثر ممكناً مع وجود التأثير والقدرة والقبول، حتى يقال: إنه خالق مع امتناع المخلوق، وقادر مع امتناع المقدور، وقابل مع امتناع المقبول. وأيضاً فإن هذا الجواب بمنزلة جواب من يقول: إن الحوادث توجد بإرادة قديمة، والمنازعون لهم ألزموهم بأن هذا ترجيح بلا مرجح، كما تقدم. فهؤلاء يعترضون على جواب الأرموي، وهؤلاء يعترضون عليه بأنه عند وجود الأثر الحادث: إما أن يتجدد تمام التأثير، وإما أن لا يتجدد شيء لزم التسلسل كما تقدم، وإن لم يتجدد لزم حدوث الحادث بدون سبب حادث، وقد تقدم إبطاله بأن المؤثر التام لا يتخلف عنه أثره. وكان الأرموي يمكنه أن يجيب ـ على أصله ـ بأن حدوث الأجسام موقوف على حدوث التصورات المتعاقبة في العقل أو النفس، كما أجاب به عن الحجة الأولي. المقصود مما تقدم قلت: المقصود هنا أن يعرف نهاية ما ذكره هؤلاء في جواب الدهرية عن المعضلة الزباء والداهية الدهاء، وما يخفي على العاقل الفاضل ما في هذه الأجوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ونحن ولله الحمد قد بينا الجواب عن جميع حجج الفلاسفة في غير هذا الموضع وبسطنا الكلام في ذلك، وبينا كيف يمكن فساد استدلالهم من وجوه كثيرة، وكيف تتمكن كل طائفة من المسلمين من قطعهم بجواب مركب من قولهم وقول طائفة أخرى من المسلمين، حتى إذا احتاجوا إلى موافقة الدهرية على قدم الأفلاك، وأن الله لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام، ونحو ذلك مما فيه تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو إلى موافقة طائفة أخري من طوائف المسلمين على بعض أقوالهم التي ليس فيها تبليغ للرسول، بل ولا مخالفة لصريح العقل كان موافقتهم لطائفة من طوائف المسلمين على ما لا يكذبون به الرسول ولا يخالفون به المعقول، أولى بهم من موافقة الدهرية على ما فيه تكذيب للرسل ومخالفة لصريح العقل، وهذا مما تبين به أنه ليس في العقل الصريح ما يخالف النصوص الثابتة عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهو المقصود في هذا المقام. مثال في الإجابة على الفلاسفة. الرد على قولهم بقدم العالم. الكلام على امتناع التسلسل مثال في الإجابة على الفلاسفة. الرد على قولهم بقدم العالم. الكلام على امتناع التسلسل مثال الأجوبة التي يجاب بها هؤلاء الفلاسفة، أن يقال: حجتكم الأولى على قدم العالم مبنية على مقدمتين: إحداهما: أن الممكن لا بد له من مرجح تام، وامتناع التسلسل، ولفظ التسلسل فيه إجمال قد تقدم الكلام عليه، فإن التسلسل هنا: هو توقف جنس الحادث على الحادث، وهذا متفق على امتناعه، والتسلسل في غير هذا الموضع يراد به التسلسل في الفاعلين وفي الآثار، والتسلسل في تمام الفاعلين هو من التسلسل في الفاعلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 فيقال لكم: التسلسل الممتنع هو التسلسل في العلل، وفي تمامها. أما تسلسل في الشروط أو الآثار: ففيه قولان للمسلمين. وأنتم قائلون بجوازاه. فنقول: إما أن يكون هذا التسلسل جائزاً أو ممتنعاً، فإن كان ممتنعاً امتنع تسلسل الحوادث، ولزم أن يكون لها أول، وبطل قولكم بحوادث لا أول لها، وأمتنع كون حركات الأفلاك أزلية، وهذا يبطل قولكم. ثم نقول: العالم لو كان أزلياً، فإما أن يكون لا يزال مشتملاً على حوادث: سواء قيل، إنها حادثة في جسم أو عقل، أو يقال: بل كان في الأزل ليس فيه حادث، كما يقال: إنه كان جسما ساكناً، فإن كان الأول لزم تسلسل الحوادث، ونحن نتكلم على تقدير امتناع تسلسلها، فبطل هذا التقدير، وإن كانت الحوادث حدثت فيه بعد أن لم تكن، لزم جواز صدور الحوادث عن قديم لم يتغير، وهذا يبطل حجتكم، ويجوب جواز حدوث الحوادث بلا حدوث سبب. وإن قلتم: إن التسلسل في الآثار جائز ـ وهو قولكم ـ بطل استدلالكم بهذه الحجة على قدم شيء من العالم، فإنها لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم، وإنما تدل على وجود دوام كون الرب فاعلاً. فيقال لكم حينئذ: لم لا يجوز أن تكون الأفلاك، أو كل ما يقدر موجوداً في العالم، أو كل ما يحدثه الله: موقوفاً على حادث بعد حادث، ويكون مجموع العالم الموجود الآن كالشخص الواحد من الأشخاص الحادثة؟ فتبين أن احتجاجكم على مطلوبكم باطل، سواء كان تسلسل الحوادث جائزاً أو لم يكن، بل إذا لم يكن جائزاً بطلت الحجة، وبطل المذهب المعروف عندكم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وهو أن حركات الأفلاك أزلية، فإن هذا إنما يصح إذا كان تسلسل الحوادث جائزاً، فإذا كان تسلسلها ممتنعاً لزم أن يكون لحركة الفلك أول، وإن كان تسلسل الحوادث جائزاً، لم يكن في ذلك دلالة على قدم شيء من العالم، لجواز أن يكون حدوث الأفلاك موقوفاً على حوادث قبله، وهلم جراً. فإن قلتم: هذا يستلزم قيام الحوادث المتسلسلة بالقديم. كان الجواب من وجوه: أحدها: أن هذا هو قولكم، ليس هذا ممتنعاً عندكم، فإن الفلك قديم أزلي عندكم، مع أنه جسم تقوم به الحوادث. الثاني: أنه يجوز أن تكون تلك الحوادث ـ إذا امتنع قيامها بواجب الوجود ـ قائمة بمحدث بعد محدث، فإن كان صدور هذه الحوادث المتسلسلة عن الواجب القديم ممكناً بطلت حجتكم، وإن كان ممتنعاً بطل مذهبكم وحجتكم أيضاً، فإن قولكم: إن الحوادث الفلكية المتسلسلة صادرة عن قديم أزلي. الثالث: أنا نتكلم على تقدير إمكان تسلسل الحوادث. وعلى هذا التقدير فلا بد من التزام أحد أمرين: إما قيام الحوادث بالواجب وإما تسلسل الحوادث عنه بدون قيام حادث به. الرابع أن يقال: قيام الحوادث بالقديم: إما أن يكون ممتنعاً، وإما أن يكون ممكناً، فإن كان ممتنعاً لزم حدوث الأفلاك، وهو المطلوب، وإن كان جائزاً بطلت هذه الحجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الخامس: أن من قال أهل الكلام بأن: القديم لا تحله الحوادث إنما قاله لأن تسلسل الحوادث في المحل يستلزم حدوثه عندهم، فإن كان قولهم هذا صحيحاً لزم حدوث الأفلاك والنفوس وكل ما يقوم به حوادث متسلسلة، وهو يستلزم بطلان حجتكم، لأنه حينئذ يمكن صدور العالم م تكن، أو ما زال يحدث شيء بعد شيء، والأول يستلزم حدوث الحادث بلا سبب حادث، وهذا باطل، كما ذكرتموه في الحجة، لأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح. والثاني: يمتنع أن يكون في الممكنات شيء قديم، وهو نقيض مذهبكم. فإذا قالوا: نحن ما أحلنا قيام الحوادث بالواجب، لكون القديم لا تحله الحوادث ـ فإن ذلك جائز عندنا ـ بل لأنه لا تقوم به الصفات. قيل لهم: فحينئذ سهلت القضية، فإن جماهير أهل الملل من المسلمين وغيرهم بل ـ وجمهور الفلاسفة ـ يخالفونكم في هذا الأصل، وقولكم في نفي الصفات أضعف بكثير من قول من قال: القديم لا تحله الحوادث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 ولهذا كان كثير من المسلمين ـ كالكلابية ومن وافقهم ـ يقولون بإثبات الصفات للواجب، دون قيام الحوادث به، فإذا لم يكن لكم حجة على نفي قيام الحوادث به إلا ما هو حجة لكم على نفي الصفات، كانت الأدلة على بطلان قولكم كثيرة جداً. وتبين حينئذ فساد قولكم بنفي الصفات وجعل المعاني المتعددة شيئاً واحداً، وأن قولكم: إن العاشق والمعشوق والعشق، والعاقل والمعقول والعقل: شيء واحد، وإن العالم هو العلم، والقدرة هي الإرادة من أفسد الأقوال، كما قد بين فيما تقدم لما نبهنا على تلبيسكم على المسلمين، وتكلمنا على ما تسمونه تركيباً، وأنه ـ بتقدير موافقتكم على أصطلاحكم الفاسد ـ لا حجة لكم على نفيه، وهكذا تجابون على حجة التأثير. وقولهم: إن كان التأثير قديماً لزم قدم الأثر، وأن كان محدثاً، فإن كان المحدث جنس التأثير ـ وقيل بجواز ذلك ـ كان للحوادث ابتداء، وبطل مذهبكم، وإن قيل بامتناعه ـ وهو أنه لا يحدث شيء ما حتى يحدث شيء ـ فهذا ممتنع باتفاق العقلاء، وقد يسمى تسلسلاً ودواراً، وإن كان المحدث التأثير في شيء معين بعد حدوث معين قبله، لزم التسلسل وقيام الحوادث بالقديم. فإنه يقال لهم: إما أن يكون التأثير أمراً وجودياً، وإما أن لا يكون وجودياً، فإن لم يكن وجودياً بطلت الحجة وهو جواب الرازي، وهو جواب من يقول: الخلق نفس المخلوق. وإن كان وجودياً، فإما أن يكون قائماً بذات المؤثر أو بغيره، فإن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 قائماً بذاته، لزم جواز قيام الأمور الوجودية بواجب الوجود، وهذا قول مثبتة الصفات. وعلى هذا التقدير فالتسلسل في الآثار والشروط، إن كان ممكناً بطلت هذه الحجة، وأمكن تسلسل التأثيرات القائمة بالقديم، وإن كان ممتنعاً لزم جواز حدوث الحوادث عن تأثر قديم ن فتبطل حجتكم. وإن كان التأثير ـ أو تمامه ـ قائماً بغيره لزم جواز التسلسل في الشروط، وأن يكون ممكنا، وإذا كان ممكناً أمكن تسلسل التأثير، فبطلت الحجة. وذلك لأن التقدير أن تمام التأثير قائم بغير المؤثر، وعلى هذا التقدير فإن لم يكن التسلسل ممكناً كان هناك تأثير قديم بغير ذات الله تعالى، وهذا باطل لم يقل له أحد، وإن قدر إمكانه أمكن حدوث الأفلاك عنه، وهو المطلوب. ومما يجابون به عن حجة التأثير، أن يقال أيضاً: التسلسل في الآثار إن كان ممكناً بطلت الحجة، لإمكان حدوث الأفلاك عن تأثير مسبوق بتأثير آخر، وإن كان ممتنعاً لزم إما حدوث الحوادث عن تأثير قديم، أو كون التأثير عدمياً، وعلى التقديرين يبطل قولكم. وذلك لأن الحوادث مشهودة لا بد لها من إحداث محدث، وذلك الإحداث هو التأثير، فإن كان عديماً بطلت الحجة، وإن كان موجوداً، فإن كان قديماً لزم حدوث الحوادث عن تأثير قديم، فتبطل الحجة، وإن كان التأثير محدثاً ـ والتقدير أن التسلسل ممتنع ـ فيلزم أن يكون حدث بتأثير محدث، فتبطل الحجة أيضاً. وهو جواب لا مخلص لهم عنه، به ينقطع شغبهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وأما أن يجابوا بقول يخالف فيه أكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم ويجعل خلق الله عز وجل للسماوات والأرض مبنياً على مثل هذا القول الذي هو جواب المعارضة: فهذا لا يرضى به عقل ولا ذو دين. بل يحب أن يعلم أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جواباً قاطعاً لا شبهة فيه، بخلاف ما يسلكه من يسلكه من أهل الكلام الذين يزعمون أنهم يبينون العلم واليقين بالأدلة والبراهين وإنما يستفيد الناظر في كلامهم كثرة الشكوك والشبهات، وهم في أنفسهم عندهم شك وشبهة فيما يقولون: إنه برهان قاطع، ولهذا يقول أحدهم في هذا الموضع: إنه برهان قاطع، وفي موضع آخر يفسد ذلك البرهان. والذين يعارضون الثابت في الكتاب والسنة بما يزعمون أنه من العقليات القاطعة إنما يعارضونه يمثل هذه الحجج الداحضة. فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفي بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين. ولولا أنا قد بسطنا الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع ـ وهذا موضع تنبيه وإشارة، لا موضع بسط ـ لكنا نبسط الكلام في ذلك، ولكن نبهنا على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 ملخص الرد على حجة التأثير وملخص ذلك في حجة التأثير، الذي يسمى الخلق والإبداع، والتكوين والإيجاب، والاقتضاء والعلية، والمؤثرية، ونحو ذلك ـ أن يقال: التأثير في الحوادث: إما أن يكون وجودياً أو عدمياً، وإذا كان وجودياً: فإما إن يكون قديماً أو حادثاً، وعلى كل تقدير فحجة الفلاسفة باطلة. أما إن كان عدمياً فظاهر، لأنه لا يستلزم حينئذ قدم الأثر، إذ العدم لا يستلزم شيئاً موجوداً، ولأنه إذ جاز أن يفعل الفاعل للمحدثات بعد أن لم يفعلها من غير تأثير وجودي أمكن حدوث العالم بلا تأثير وجودي، كما هو قول الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، وكثير من المعتزلة. وإن كان وجودياً فإما أن يكون قديماً أو محدثاً، فإن كان التأثير قديماً فإما أن يقال بوجوب كون الأثر متصلاً بالتأثير، والمكون متصلاً بالتكوين، وإما أن لا يقال بوجوب ذلك، وإما أن يقال بوجوب المقارنة، وإما أن يقال بإمكان انفصال الأثر عن التأثير. فإن قيل بوجوب ذلك فمعلوم حينئذ بالضرورة أن في العالم حوادث، فيمتنع أن يكون التأثير في كل منها قديماً، بل لا بد من تأثيرات حادثة، ويمتنع حينئذ أن يكون في العالم قديم، لأن الأثر إنما يكون عقب التأثير، والقديم لا يكون مسبوقاً بغيره. وإن قيل: إن الأثر يقارن المؤثر فيكون زمانهما واحداً لزم أن لا يكون في العالم شيء حادث، وهو خلاف المشاهدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فإذا قيل بأن: التأثير لم يزل في شيء بعد شيء كان كل من الآثار حادثاً، ولزم حدوث كل ما سوى الله، وإن كان كل حادث مسبوقاً بحادث. وإن قيل: بل يتأخر الأثر عن التأثير القديم لزم إمكان حدوث الحوادث عن تأثير قديم، كما هو قول كثير من أهل النظر. وهو قول من يقول بإثبات الصفات الفعلية لله تعالى، وهي صفة التخليق، ويقول: إنها قديمة، وهو قول طوائف من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، والصوفية، وأهل الكلام، وغيرهم. وإن كان التأثير محدثاً فلا بد له من محدث، فإن قيل بجواز حدوث الحوادث بإرادة قديمة، أو إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح: جاز أن يحدث التأثير قائماً بالمؤثر بقدرته، أو بقدرته ومشيئته القديمة، كما يجوز من يجوز وجود المخلوقات البائنة عنه بمجرد قدرته، أو لمجرد قدرته ومشيئته القديمة. وإن قيل: لا يمكن حدوث الحوادث إلا بسبب حادث كان التأثير القائم بالمؤثر محدثاً، وإن كان التأثير محدثاً فلا بد له من محدث، وإحداث هذا التأثير تأثير، وحينئذ فيكون تسلسل التأثيرات ممكناً، وإذا كان ممكناً بطلت الحجة، فظهر بطلانها على كل تقدير. وصاحب الأربعين وأمثاله من أهل الكلام إنما لم يجيبوا عنها بجواب قاطع، لأن من جملة مقدماتها أن التسلسل ممتنع، وهم يقولون بذلك، والمحتج بها لا يقول بامتناع التسلسل، فإن الدهرية يقولون بتسلسل الحوادث، فإذا أجيبوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 عنها بجواب مستقيم على كل قول، كأن خيراً من أن يجابوا عنها بجواب لا يقول به إلا بعض طوائف أهل النظر، وجمهور العقلاء يقولون: إنه معلوم الفساد بالضرورة. وقد ذكر الرازي هذه الحجة في غير هذا الموضع، وذكر فيها أن القول بكون التأثر أمراً وجودياً أمر معلوم بالضرورية، ثم أخذ يجيب عن ذلك بمنع كونها وجودية، لئلا يلزم التسلسل. ومن المعلوم أن المقدمات التي يقول المنازع إنها ضرورية لا يجاب عنها بأمر نظري، بل إن كان المدعي لكونها ضرورية أهل مذهب معين يمكن أنهم تواطأوا على ذلك القول، وتلقاه بعضهم عن بعض، أمكن فساد دعواهم، وتبين أنها ليست ضرورية، وإن كن مما تقر به الفطر والعقول من غير تواطؤ ولا موافقة من بعضهم لبعض، كالموافقة التي تحصل في المقالات الموروثة، التي تقولها الطائفة تبعاً لكبيرها، لم يمكن دفع مثل هذه، فإنه لو دفعت الضروريات التي يقر بها أهل الفطر والعقول من غير تواطؤ ولا تشاعر، لم يمكن إقامة الحجة على مبطل. وهذا هو السفسطة التي لا يناظر أهلها إلا بالفعل، فكل من جحد القاضايا الضرورية المستقرة في عقول بني آدم، التي لم ينقلها بعضهم عن بعض، كان سوفسطائياً. فإن ادعى المدعي أن التأثير أمر وجودي، وذلك معلوم بالضرورة، لم يقل له: بل هو عدمي، لئلا يلزم التسلسل، فإن التسلسل في الآثار فيه قولان مشهوران لمنظار المسلمين وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 والقول بجوازه هو قول طوائف: كطائفة من المعتزلة يسمون أصحاب المعاني من أصحاب معمر بن عباد الذين يقولون: للخلق إلى ما لا نهاية له، لكن هؤلاء يثبتون تسلسلاً في آن واحد، وهو تسلسل في تمام التأثير، وهو باطل، وقول طوائف من أهل السنة والحديث، كالذين يقولون: إن الحركة من لوازم الحياة، وكل حي متحرك، والذين يقولون: إنه لم يزل متكلما إذا شاء، وغير هؤلاء. فإذا كان فيه قولان، فإما أن يكون جائزاً، أو يكون العلم بامتناعه نظيراً خفياً. بل الجواب القاطع يكون بوجوه قد بسطناها في غير الموضع. منها ما ذكرناه، وهو أن يقال: التأثير سواء كان وجودياً أو عديماً، وسواء كان التسلسل ممكنا ًأو ممتنعاً، فاحتجاجهم به على قدم العالم احتجاج باطل. أو يقال: إن كان التسلسل في الآثار ممكناً بطلت الحجة، لإمكان حدوثه بتأثير حادث، وإن لزم التسلسل. وإن كان ممتنعاً لزم حدوث الحوادث بدون تسلسل التأثير، وهو يبطل الحجة، فالحجة باطلة على التقديرين، وهذا جواب مختصر جامع. فإن الحجة مبناها على أنه لا بد للحوادث من تأثير وجودي، فإن كان محدثاً لزم التسلسل، وهو ممتنع، وإن كان قديماً لزم قدم الأثر. فيقال له: إن كان التسلسل في الآثار ممكنا بطلت الحجة، لإمكان حدوثه عن تأثير حادث، وذلك عن تأثير حادث، وهلم جراً، وامتناع التسلسل مقدمة من مقدمات الدليل، فإذا بطلت مقدماته بطل، إن كان التسلسل ممتنعاً، لزم أن تكون الحوادث حدثت عن تأثير وجودي قديم، وحينئذ فيمكن حدوث العالم بدون تسلسل الحوادث عن تأثير قديم، وهو المطلوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وإن شئت أدخلت المقدمة الأولى في التقدير أيضاً، كما تقدم التنبيه عليه ن، حتى يظهر الجواب على كل تقدير، وعلى قول كل طائفة من نظار المسلمين، إذ كان منهم من يقول: التأثير في المحدثات وجودي قديم، ومنهم من يقول، هو أمر عدمي، ومنهم من يقول بتسلسل الآثار الحادثة. والدهري بنى حجته عل أنه لا بد من تأثير وجودي قديم، وأنه حينئذ يلزم قدم الأثر. فيجاب على كل تقدير، فيقال: التأثير إن كان عدمياً بطلت المقدمة الأولى، وجاز حدوث الحوادث بدون تأثير وجودي، وإن كان وجودياً ـ وتسلسل الحوادث ممكن ـ أمكن حدوثه بآثار متسلسلة، وبطل قولك بامتناع تسلسل الآثار، وإن كان تسلسل الآثار ممتنعاً لزم: إما التأثير القديم، وإما التأثير الحادث بالقدرة، أو بالقدرة والمشيئة القديمة، وحينئذ فالحوادث مشهودة، فتكون صادرة عن تأثير قديم أو حادث، وإذا جاز صدور الحوادث عن تأثير قديم أو حادث بطلت الحجة. وأصل هذا الكلام: أنا نشهد حدوث الحوادث، فلا بد لها من محدث، هو المؤثر، وإحداثه هو التأثير، فالقول في إحداث هذه الحوادث والتأثير فيها، كالقول في إحداث العالم والتأثر فيه. وهؤلاء الدهرية بنوا هذه الحجة على أنه لا بد من تأثير حادث، فيفتقر إلى تأثير حادث، كما بنوا الأولى على أنه لا بد من سبب حادث، فمأخذ الحجتين من مشكاة التسلسل في الآثار: القائلون بقدم العالم، والقائلون بحدوثه، كما يجوزه طوائف من أهل الملل، أو أكثر أهل الملل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 فإذا أجيبوا على التقديرين، وقيل لهم: إن كان التسلسل جائزاً بطلت هذه الحجة وتلك، وإن لم يكن جائزاً بطلت أيضاً هذه وتلك، كان هذا جواباً قاطعاً. ولكن لفظ التسلسل فيه إجمال واشتباه، كما في لفظ الدور، فإن الدور يراد به: الدور القبلي، وهو ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء، ويراد به الدور المعي الاقتراني، وهو جائز بصريح العقل واتفاق العقلاء، ومن أطلق امتناع الدور فمراده الأول، أو هو غالط في الإطلاق. ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات، وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل، وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهذا هو التسلسل الذي أمر التبي صلى الله عليه وسلم بأن يستعاذ بالله منه، وأمر بالانتهاء عنه، وأن يقول القائل: آمنت بالله ورسله. كما في الصحيحين «عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته» . وفي رواية: «لا يزال الناس يتساءلون، حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق من خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 آمنت بالله» ورواية: «ورسوله» وفي رواية: «لا يزالون بك يا أبا هريرة حتى يقولوا: هذا الله، فمن خلق الله؟ قال: فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب، فقالوا: يا أبا هريرة هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال: فأخذ حصى بكفه فرماهم به، ثم قال: قوموا، قوموا، صدق خليلي» . وفي الصحيح أيضاً «عن أنس بن مالك عن رسول صلى الله عليه وسلم قال قال الله: إن أمتك لا يزالون يسألون: ما كذا؟ وما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟» . وهذا التسلسل في المؤثرات والفاعلين يقترن به تسلسل آخر، وهو التسلسل في تمام الفعل والتأثير، وهو نوعان: تسلسل في جنس الفعل، وتسلسل في الفعل المعين. فالأول ـ مثل أن يقال: لا يفعل الفاعل شيئاً أصلا حتى يفعل شيئاً معيناً، أو لا يحدث شيئاً حتى يحدث شيئاً، أو لا يصدر عنه شيء حتى يصدر عنه شيء، فهذا أيضاً بالطل بصريح العقل واتفاق العقلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وهذا هو الذي يصح أن يجعل مقدمة في دوام الفاعلية، بأن يقال: كل الأمور المعتبرة في كونه فاعلاً: إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن حدث فيها شيء، فالقول في حدوث ذلك الحادث كالقول في حدوث غيره، فالأمور المعتبرة في حدوث ذلك الحادث: إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن كانت محدثة لزم أن لا يحدث شيء من الأشياء حتى يحدث شيء. وهذا جمع بين النقيضين، وقد يسمى هذا دوراً، ويسمى تسلسلاً، وهذا هو الذي أجاب عنه من أجاب بالمعارضة بالحوادث المشهودة. وجوابه أن يقال: أتعني بالأمور المعتبرة الأمور المعتبرة في جنس كونه فاعلاً، أم الأمور المعتبرة في فعل شيء معين؟ أما الأول فلا يلزم من دوامها دوام فعل شيء من العالم، وأما الثاني: فيجوز أن يكون كل ما يعتبر في حدوث المعين كالفلك وغيره حادثاً، ولا يلزم من حدوث شرط الحادث المعين هذا التسلسل، بل يلزم منه التسلسل المتعاقب في الآثار، وهو أن يكون قبل ذلك الحادث حادث، وقبل ذلك الحادث حادث، وهذا جائز عندهم وعند أئمة المسلمين، وعلى هذا فيجوز أن يكون كل ما في العالم حادثاً، مع التزام هذا التسلسل الذي يجوزونه. وقد يراد بالتسلسل في حدوث الحادث العين، أو في جنس الحوادث: أن يكون قد حدث مع الحادث تمام مؤثره، وحدث مع حدوث تمام المؤثر. وهلم جراً. وهذا أيضاً باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهو من جنس التسلسل في تمام التأثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 فقد تبين أن التسلسل إذا أريد به أن يحدث مع كل حادث حادث يقارنه، يكون تما تأثيره مع الآخر حادث، وهلم جراً، فهذا ممتنع من جنس قول معمر في المعاني التسلسلة، وإن أريد به أن يحدث قبل كل حادث حادث وهلم جراً، فهذا فيه قولان، وأئمة المسلمين وأئمة الفلاسفة يجوزونه. وكما أن التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات وفي تمام التأثير، يراد به التسلسل المتعاقب شيئاً بعد شيء، ويراد به التسلسل المقارن شيئاً مع شيء، فقولنها أيضاً: إن المؤثر يستلزم أثره يراد به أن يكون عقبه، فهذا هو الاستلزام المعروف عند جمهور العقلاء، وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء قديم. والناس لهم في أستلزام المؤثر أثره قولان: فمن قال: إن الحادث يحدث في الفاعل بدون سبب حادث فإنه يقول: المؤثر التام لا يجب أن يكون أثره معه، بل يجوز تراخيه، ويقول: أن القادر المختار يرجع أحد مقدوريه بمجرد قدرته التي لم تزل، أو بمجرد مشيئته التي لم تزل، وإن لم يحدث عند وجود الحادث سبب. والقول الثاني: أن المؤثر التام يستلزم أثره. لكن في معنى هذا الاستلزام قولين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 أحدهما: أن يكون معه، بحيث يكون زمان الأثر زمان المؤثر، فهذا هو الذي تقوله المتفلسفة، وهو معلوم الفساد بصريح العقل عند جمهور العقلاء. والثاني: أن يكون الأثر عقب تمام المؤثر، وهذا يقر به جمهور العقلاء وهو يستلزم أن لا يكون في العالم شيء قديم، بل كل ما فعله القديم الواجب بنفسه، فهو محدث. وإن قيل: إنه لم يزل فعالاً، وإن قيل بدوام فاعليته، فذلك لا يناقض حدوث كل ما سواه، بل هو مستلزم لحدوث كل ما سواه، فإن كل مفعول فهو محدث، فكل ما سواه مفعول، فهو محدث مسبوق بالعدم، فإن المسبوق بغيره سبقاً زمانياً لا يكون قديماً، والأثر المتعقب لمؤثره، الذي زمانه عقب زمان تمام مؤثره، ليس مقارناً له في الزمان، بل زمنه متعقب لزمان تمام التأثير، كتقدم بعض أجزاء الزمان على بحض وليس في أجزاء الزمان شيء قديم، وإن كان جنسه قديماً، بل كل جزء من الزمان مسبوق بآخر، فليس من التأثيرات المعينة تأثير قديم، كما ليس من أجزاء الزمان جزء قديم. فمن تدبر هذه الحقائق، وتبين له ما فيها من الاشتباه والالتباس: تبين له محارات أكابر النظار في هذه المهامه التي تحار فيها الأبصار. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 عمدة الفلاسفة في قدم العالم على مقدمتين وحقيقة الأمر: أن هؤلاء الفلاسفة بنوا عمدتهم في قدم العالم على مقدمتين: إحداهما: أن الترجيح لا بد له من مرجح تام يجب به. والثانية أنه لو حدث الترجيح للزم التسلسل، وهو باطل. وهم متناقضون قائلون بنقيض هاتين المقدمتين. جواز التسلسل أما جواز التسلسل، فإن أرادوا به التسلسل المتعاقب في الآثار شيئاً بعد شيء، فهم يقولون بجواز ذلك، وحينئذ فلا يمتنع أن يكون كل ما سوى الله محدثاً، كائناً بعد أن لم يكن، كالفلك وغيره، وإن كان حدوثه مؤقوفاً على سبب حادث قبله، وحدوث ذلك السبب موقوف على سبب حادث قبله. وإن أرادوا التسلسل المقترن ـ وهو أنه لو حدث حادث، للزم أن يحدث معه تأثيره، ومع حدوث تمام تأثيره يحدث تأثير المؤثرـ فهذا باطل بصريح العقل، وهم يوافقون على امتناعه. وإن عنوا بالتسلسل: أنه لو حدث ترجيح جنس الفعل للزم هذا التسلسل فهو صادق، ولكن هذا يفيد أنه لا يحدث مرجح يوجب ترجيح الفعل، بل لا يزال جنس الفعل موجوداً، فهذا يسلمه لهم أئمة المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 لكن ليس في هذا ما يقتضي صحة قولهم بقدم شيء من العالم، بل هذا يقتضي حدوث كل ما سوى الله، فإنه إذا كان جنس الفعل لم يزل، لزم أنه لا تزال المفعولات تحدث شيئاً بعد شيء، وكل مفعول محدث مسبوق بعدم نفسه، ولكن هؤلاء ظنوا أن المفعول يجب أن يقارن الفاعل في الزمان، ويكون معه من غير أن يتقدم الفاعل على مفعوله بزمان. وهذا غلط بين لمن تصوره، وهو معلوم الفساد بالعقل عند عامة العقلاء، ولهذا لم يكن في العقلاء من قال: إن السماوات والأرض قديمة أزلية إلا طائفة قليلة، ولم يكن في العالم من قال: إنها مفعولة وهي قديمة إلا شرذمة من هذه الطائفة الذين خالفوا المعقول وصحيح المنقول. وقولهم بأن المؤثر التام الأزلي يستلزم أثره بهذا الاعتبار الذي زعموه، أي: يكون معه لا يتقدم المؤثر على أثره بالزمان، يوجب أن لا يحدث في العالم شيء، وهو خلاف المشاهدة، فقد قالوا بما يخالف الحس والعقل وأخبار الأنبياء. وهذه هي طرق العلم. وإذن، كان الممتنع إنما هو جواز التسلسل في أصل التأثير، والتسلسل المقارن مطلقاً. وأما التسلسل في الآثار شيئاً بعد شيء فهم مصرحون به: معترفون بجوازه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وقدم العالم ليس لازماً مستلزماً لجواز التسلسل. وإنما خصوا به المعتزلة ومن اتبعهم من الكلابية وغيرهم، الذين وافقوهم على نفي الأفعال القائمة به، أو نفي الصفات والأفعال، فقالوا لهم: أنتم قدرتم في الأزل ذاتاً معطلة عن الفعل، فيمتنع أن يحدث عنها شيء لأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح. فالطريق الذي به ينقطع هؤلاء الفلاسفة أن يقال: إن كان التسلسل في الآثار شيئاً بعد شيء ممتنعاً بطلت الحجة، وإن كان جائزاً أمكن أن يكون حدوث كل شيء من العالم مبيناً على حوادث قبله، إما معان حادثة شيئاً بعد شيء في غير ذات الله تعالى، وإما أمور قائمة بذات الله تعالى، كما يقوله أهل الحديث وأهل الإثبات، الذين يقولون: لم يزل متكلماً إذا شاء، فعالاً لما يشاء، وإما غير ذلك، كما قاله الأرموي وغيره. وبالجملة: فالتقديرات في تسلسل الحوادث معددة، ومهما قدر منها كان أسهل من القول بأن السماوات والأرض أزلية، وأن الله لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وهؤلاء الفلاسفة إنما يبحثون بمجرد عقولهم، فليس في العقل ما يوجب ترجيح قدم الأفلاك على سائر التقديرات، ومن يقر بالسمع ـ كمن يقر بالشرائع منهم ـ فأي تقدير قدره كان أقرب إلى الشرع من قولهم بقدم الأفلاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الترجيح بلا مرجح وأما المقدمة الثانية - وهي الترجيح بلا مرجح - فإنهم ألزموا بها القائلين بالحدوث بدون سبب حادث، وهي لهم ألزم، فإن الحوادث المتجددة تقتضي تجدد أسباب حادثة، فالحدوث أمر ضروري على كل تقدير، والذات القديمة المستلزمة لموجبها: إن لم يتوقف حدوث الحوادث عنها على غيرها لزم مقارنة الحوادث لها في الأزل، وهذا باطل بالضرورة والحس، وإن توقف على غيرها فذلك الغير إن كان قديماً أزلياً كان معها، فيلزم مقارنة الحوادث لها، وإن كان حادثاً، فالقول في سبب حدوثه كالقول في غيره من الحوادث. فهؤلاء الفلاسفة أنكروا على المتكلمين - نفاة الأفعال القائمة به - أنهم أثبتوا حدوث الحوادث بدون سبب حادث، مع كون الفاعل موصوفاً بصفات الكمال، وهم أثبتوا حدوث الحوادث كلها بدون سبب حادث، ولا ذات موصوفة بصفات الكمال، بل حقيقة قولهم أن الحوادث تحدث بدون محدث فاعل، إذ كانوا مصرحين بأن العلة التامة الأزلية يجب أن يقارنها معلولها، فلا يبقى للحوادث فاعل أصلاً، لا هي ولا غيرها. فعلم أن قولهم أعظم تناقضاً من قول المعتزلة ونحوهم، وأن ما ذكروه من الحجة في قدم العالم، هو على حدوثه أدل منه على قدمه، باعتبار كل واحدة من مقدمتي حجتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ومن تدبر هذا وفهمه تبين له أن الذين كذبوا بآيات الله صم وبكم في الظلمات، وأن هؤلاء وأمثالهم من أهل النار، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} (الملك: 10) ، وهذا مبسوط في موضع آخر. والمقصود هنا أن نبين أن أجوبة نفاة الأفعال الاختيارية القائمة بذات الله تعالى لهؤلاء الدهرية أجوبة ضعيفة،. كما بين ذلك، وبهذا استطالت الفلاسفة والملاحدة وغيرهم عليهم. فالذين سلكوا هذه المناظرة لا أعطوا الإيمان بالله ورسوله حقه، ولا أعطوا الجهاد لأعداء الله تعالى حقه، فلا كملوا الإيمان ولا الجهاد. وقد قال الله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} (الحجرات: 15) ، وقال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} (آل عمران: 81) . «قال ابن عباس: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق: لئن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه» . فقد أوجب الله تعالى على المؤمنين الإيمان بالرسول والجهاد معه، ومن الإيمان به: تصديقه في كل ما أخبر به، ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به، وألحد في أسماء الله وآياته. وهؤلاء أهل الكلام المخالفون للكتاب والسنة، الذين ذمهم السلف والأئمة، لا قاموا بكمال الإيمان ولا بكمال الجهاد، بل أخذوا يناظرون أقواما من الكفار وأهل البدع، الذين هم أبعد عن السنة منهم، بطريق لا يتم إلا برد بعض ما جاء به الرسول، وهي لا تقطع أولئك الكفار بالمعقول، فلا آمنوا بما جاء به الرسول حق الإيمان ولا جاهدوا الكفار حق الجهاد، وأخذوا يقولون أنه لا يمكن الإيمان بالرسول ولا جهاد الكفار، والرد على أهل الإلحاد والبدع إلا بما سلكناه من المعقولات، وإن ما عارض هذه المعقولات من السمعيات يجب رده - تكذيباً أو تأويلاً أو تفويضاً - لأنها أصل السمعيات. وإذا حقق الأمر عليهم وجد الأمر بالعكس، وأنه لا يتم الإيمان بالرسول والجهاد لأعدائه، إلا بالمعقول الصريح المناقض لما ادعوه من العقليات، وتبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 أن المعقول الصريح مطابق لما جاء به الرسول، لا يناقضه ولا يعارضه، وأنه بذلك تبطل حجج الملاحدة، وينقطع الكفار، فتحصل مطابقة العقل للسمع، وانتصار أهل العلم والإيمان على أهل الضلال والإلحاد، ويحصل بذلك الإيمان بكل ما جاء به الرسول، واتباع صريح المعقول، والتمييز بين البينات والشبهات. كل ما يحتج به النفاة يدل على نقيض قولهم وقد كنت قديماً ذكرت في بعض كلامي أني تدبرت عامة ما يحتج به النفاة من النصوص، فوجدتها على نقيض قولهم أدل منها على قولهم، كأحتجاجهم على نفي الرؤية بقوله تعالى {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103] فبينت أن الإدراك هو الإحاطة لا الرؤية، وأن هذه الآية تدل على إثبات الرؤية أعظم من دلالتها على نفيها. وكذلك إحتجاجهم على أن القرآن أو عبارة القرآن مخلوقة بقوله تعالى {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه} [الأنبياء: 2] بينت أن دلالة هذه الآية على نقيض قولهم أقوى، فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث وبعضه ليس بمحدث، وهو ضد قولهم. والحدوث في لغة العرب العامة ليس هو الحدوث في اصطلاح أهل ال كلام، فإن العرب يسمون ما تجدد حادثاً، وما تقدم على غيره قديماً، وإن كان بعد أن لم يكن، كقوله تعالى {كالعرجون القديم} [يس: 39] ، وقوله تعالى عن إخوة يوسف {تالله إنك لفي ضلالك القديم} [يوسف: 95] ، وقوله تعالى {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} [الأحقاف: 11] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وقوله تعالى عن إبراهيم {أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون} [الشعراء: 75-76] . وكذلك استدلالهم بقوله: الأحد الصمد على نفي علوه على الخلق وأمثال ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع. ثم تبين لي بعد ذلك مع هذا أن المعقولات في هذا كالسمعيات، وأن عامة ما يحتج به النفاة من المعقولات هي أيضاً على نقيض قولهم أدل منها على قولهم، كما يستدلون به على نفي الصفات ونفي الأفعال، وكما يستدل به الفلاسفة على قدم العالم، ونحو ذلك والمقصود هنا التنبيه، وإلا فالبسط له موضع آخر. وعمدة من نفى الأفعال والصفات من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة، ومن اتبعهم على هذه الحجة التي زعموا أنهم يقررون بها حدوث العالم وإثبات الصانع، فجعلوا ما قامت به الصفات أو الأفعال محدثاً، حتى يستدلوا بذلك على أن العالم محدث، ويلزم من ذلك أن لا يقوم بالصانع لا الصفات ولا الأفعال. وإذا تدبر العاقل الفاضل تبين له أن إثبات الصانع وإحداثه للمحدثات لا يمكن إلا بإثبات صفاته وأفعاله، ولا تنقطع الدهرية من الفلاسفة وغيرهم قطعاً تاماً عقلياً لا حيلة لهم فيه، إلا على طريقة السلف أهل الإثبات للأسماء والأفعال والصفات، وأما من نفى الأفعال أو نفى الصفات فإن الفلاسفة الدهرية تأخذ بخناقه، ويبقى حائراً شاكاً مرتاباً مذبذباً، بين أهل الملل المؤمنين بالله ورسوله وبين هؤلاء الملاحدة، كما قال تعالى في المنافقين {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} [النساء: 143] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وهذا موجود في كلام عامة هؤلاء الذين في كلامهم سنة وبدعة، ولا ريب أنهم يردون على الفلاسفة وغيرهم أموراً، ولكن الفلاسفة ترد عليهم أموراً، وهم ينتصرون في غالب الأمر بالحجة العقلية على الفلاسفة، أكثر مما تنتصر الفلاسفة بالحجة العقلية عليهم، ولكن قد تقول الفلاسفة أموراً باطلة من جنس العقليات فيوافقونهم عليها فيستطيلون بها عليهم وقد تقول الفلاسفة أموراً صحيحة موافقة للشريعة فيردونها عليهم، وهم لا يصيبون الصدق والعدل إلا إذا وافقوا الشريعة، فإذا خالفوها كان غايتهم أن يقابلوا الفاسد بالفاسد، الباطل بالباطل، فتبقي الفلاسفة العقلاء في شك، ويبقى العقلاء منهم في شك، لا حصل لهؤلاء نور الهدى ولا لهؤلاء. وإنما يحصل النور والهدى بأن يقابل الفاسد بالصالح، والباطل بالحق، والبدعة بالسنة والضلال بالهدى، والكذب بالصدق. وبذلك يتبين أن الأدلة الصحيحة لا تعارض بحال، وأن المعقول الصريح مطابق للمنقول الصحيح. وقد رأيت من هذا عجائب، فقل أن رأيت حجة عقلية هائل لمن عارض الشريعة، قد انقدح لي وجه فسادها وطريق حلها، إلا رأيت بعد ذلك من أئمة بلك الطائفة من قد تفطن لفسادها وبينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 وذلك لأن الله خلق عباده على الفطرة، والعقول السليمة مفطورة على معرفة الحق، لولا المعارضات، ولهذا أذكر من كلام رؤوس الطوائف من العقليات ما يبين ذلك، لا لأنا محتاجون في معرفتنا إلى ذلك، لكن ليعلم أن أئمة الطوائف معترفون بفساد هذه القضايا، التي يدعي إخوانهم أنها قطعية، مع مخالفتها للشريعة، ولأن النفوس إذا علمت أن ذلك القول قاله من هو من أئمة المخالفين، استأنست بذلك واطمأنت به، ولأن ذلك يبين أن تلك المسألة فيها نزاع بين تلك الطائفة، فتنحل عقد الإصرار والتصميم على التقليد. فإن عامة الطوائف ـ وإن ادعوا العقليات ـ فجمهورهم مقلدون لرؤوسهم، فإذا رأوا الرؤوس قد تنازعوا واعترفوا بالحق، انحلت عقدة الإصرار على التقليد. إبطال الأبهري حجة الفلاسفة على قدم العالم وقد رأيت الأثير الأبهري - وهو ممن يصفه هؤلاء المتأخرون بالحذق في الفلسفة والنظر، ويقدمونه على الأرموي، ويقولون: الأصبهاني صاحب القواعد هو وغيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 تلامذته - رأيته قد أبطل حجة هؤلاء المتفلسفة على قدم العالم بما يقرر ما ذكرته من إبطالها، وكان ما أجاب به عن حجتهم أولى بدين المسلمين، كما ذكره الأرموي، مع أنه ينتصر للفلاسفة أكثر من غيره. فقال في فصل ذكر فيه ما يصح من مذاهب الحكماء وما لا يصح: قال: (ثم قالوا: إن الواجب لذاته يجب أن يكون واجباً من جميع جهاته، أي يجب أن تكون جميع صفاته لازمة لذاته، إما أن تكون كافية فيما له من الصفات، وجودية كانت أو عدمية، أو لا تكون. والثاني باطل، وإلا لتوقف شيء من صفاته على غيره، وذاته متوقفة على وجود تلك الصفة، أو عدمها، فذاته تتوقف على غيره، وهو محال. قال: (وهذا ضعيف، لأنا نقول: لا نسلم أن ذاته تتوقف على وجود تلك الصفة أو عدمها، بل ذاته تستلزم تلك الصفة أو عدمها، ولا يلزم من ذلك ذاته إما على وجودها أو عدمها) . قال: (ثم قالوا: إن الباري تعالى يستلزم جملة ما يتوقف عليه وجود العالم، فيلزم من دوامه أزلية العالم، وهو ممتنع، لا محال أن يكون له إرادات حادثة، كل واحدة منها تستند إلى الأخرى، ثم تنتهي في في جانب النزول إلى أرادة تقتضي حدوث العالم، فلزم حدوثه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 قلت: فهذا الجواب خير من الذي ذكره الأرموي، وذكر أنه باهر، والأرموي نقله من المطالب العالية للرازي، فإنه ذكره، وقال: (إنه هو الجواب الباهر) ، ووافقه عليه القشيري المصري: فهذا أصح في الشرع والعقل. أما الشرع: فإن هذا فيه قول بحدوث كل ما سوى الله، وذلك القول فيه إثبات عقول ونفوس أزليبة مع الله تعالى، والفرق بين القولين معلوم عند أهل الملل والشرائع. وأما العقل: فإن قول الأرموي فيه إثبات أمور ممكنة، يحدث فيها حوادث متعاقبة من غير أمر يتجدد من الواجب، وهذا يقتض حدوث الحوادث بلا محدث، فإن الواجب بنفسه إذا كان علة مستلزمة لمعلولها، لم يجز تأخر شيء من معلوله عنه، بخلاف ما ذكره الأبهري، فإنه ليس فيه إلا أن الواجب مستلزم لآثاره شيئاً بعد شيء، وهذا متفق عليه بينهم، فإنه ليس فيه إلا تسلسل الآثار، والأبهري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 والأرموي وغيرهما يقولون بتسلسل الآثار، بل قول أولئك يقتضي أن يكون الفلك هو رب ما دونه، وهو المحدث للحوادث بأفعاله القائمة به المتعاقبة، وقول الأبهري يقتضي أن يكون الله هو رب العالمين، وهو محدث لكل شيء مما يقوم به من الأفعال المتعاقبة. ولا ريب أن قول أولئك فاسد في العقل، كما هو فاسد في الشرع، فإن الفلك إذا كان ممكناً فجميع صفاته وحركاته ممكنة، ولا يترجح شيء من ذلك إلا بوجود المرجح التام، فالمرجح التام إن كان موجوداً في الأزل لزم وجود مقتضاه في الأزل. ثم ذلك المرجح إن كان في نفسه علة تامة لمعلوله، بحيث لا يتجدد به ولا منه شيء، امتنع أن يصدر عنه شيء، بعد أن لم يكن صادراً لا في الفلك ولا في غير الفلك، لا دائم ولا منقطع، وامتنع أن تكون حركة الفلك الدائمة صادرة عن هذا، لا سيما مع اختلاف الحركات والمتحركات، وأنه بسيط عندهم من كل وجه، وهو في الأزل علة تامة، فيمتنع أن تصدر عنه المختلفات والمتجددات، كما أن جميع المتحركات الممكنات لا تدوم حركتها إلا بدوام السبب المحرك المنفصل عنها، وهذا لأن حال الفاعل إذا كانت حين أحدث هذا المتأخر كحاله حين أحدث ذلك المتقدم، امتنع تخصيص هذا الحال بالفصل دون هذه، كما يقولون هم ذلك. وإن قالوا: (إنما كان هذا لأن حركة الفلك لم يمكن وجودها كلها، أو لم يمكن وجود الحوادث كلها في الأزل، فتأخر فيضه لتأخر استعداد القوابل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 قيل: هذا إنما يمكن أن يقال إذا كان القابل ليس هو صادراً عن الفاعل، مثل القوابل لأثر الشمس، فإن أثر الشمس فيها مختلف باختلاف تلك القوابل، فتسود وجه القصار وتبيض الثوب، وترطب الفاكهة تارة، وتجففها أخرى، ولهذا إنما قال سلفهم هذا في العقل الفعال، فقالوا إنه يتأخر فيضه على القوابل، لتأخر استعداد القوابل بسب الحركات الفلكية، فالموجب لاستعداد القوابل ليس هو الموجب للفيض عندهم. وهذا قالوه لاعتقادهم وجود هذا العقل، وهذا لا يستقيم في المبدع لكل شيء، الذي منه الإعداد ومنه الإمداد، لا يتوقف فعله على غيره. فأما إذا كان الفاعل هو الفاعل للقابل والمقبول، عاد السؤال جذعاً، وقيل: فلم جعل القوابيل تقبل على ذلك الوجه، دون غيره؟ ولم جعل الحركة الفلكية علي هذا الوجه دون غيره، مع أن الممكن ليس له من نفسه شيء أصلاً، لا طبيعة ولا غيرها؟ بل الموجب هو الفاعل لطبيعته وحقيقته، وليس له حقيقة في الخارج مباينة للموجود في الخارج، بل البارىء هو المبدع للحقائق كلها. ومن قال: (إن للممكن ماهية مغايرةً في الخارج للأعيان الموجودة في الخارج) . أو قال: (إنه شيء ثابت في القدم) ، فلا يمكنه أن يقول: إن تلك المعدومات أوجبت قدرة الفاعل على بعضها دون بعض، مع أنها كلها ممكنة: إلا لأمر آخر، مثل أن يقال: ما يمكن غير هذا، وهذا هو الأصلح، أو الأكمل والأفضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وبهذا تظهر حجة الله تعالى في قوله: {يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} (الرعد: 4) ، فإنه دل بهذا على تفضيله بعض المخلوقات على بعض، مع استوائها فيما تساوت فيه من الأسباب. كما قال في الآية الأخرى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء} . (فاطر: 27- 28) . فإذا قال القائل: إنما تفاضلت واختلفت لاختلاف القوابل، وأسباب أخرى من الهواء والتراب والحب والنوى. قيل له: وتلك القوابل والأسباب هي أيضاً من فعله، ليست من فعل غيره، فهو الذي أعد القوابل، وهو الذي أمد كل شيء بحسب ما أعده له، وحينئذ فقد تبين أنه خلق الأمور المختلفة، ومن كل شيء زوجين، فبطل أن يكون واحداً بسيطاً لا يصدر عنه إلا واحد لازم له، لا يصدر عنه غيره، ولا يمكنه فعل شيء سواه، فإن فعل المختلفات الحادثات يدل على أنه فاعل بقدرته ومشيئته، ولهذا قال: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28) . قال طائفة من السلف: العلماء به فإن من جعله غير قادر على إحداث فعل، ولا تغيير شيء من العالم، بل لزمه ما لا يمكنه مفارقته: لم يخشه، إنما يخشى الكواكب والأفلاك التي تفعل الآثار الأرضية عنده، أو ما كان نحو ذلك، ولهذا عبدها هؤلاء من دون الله، ولهذا كان دعاؤهم لها وخشيتهم منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ولهذا تبرأ الخليل من مخافتها لما ناظرهم في عبادة الكواكب والأصنام، وقال: {لا أحب الأفلين} (الأنعام: 76) . قال تعالى: {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} (الأنعام: 80- 81) . وقال تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (الأنعام: 82) ، فإن المشركين يخافون بالمخلوقات من الكواكب وغيرها، وهم قد أشركوا بالله، ولا يخافون الله إذ أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وإنما يخشاه من عباده العلماء، الذين لا يعلمون أنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم، فهؤلاء الدهرية الفلاسفة وأمثالهم لا يخافون الله تعالى. فإن قال قائل: فهم يقرون بالعبادات، ويقولون: (ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بفنون اللغات تحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات) لا سيما الإسلاميون منهم، فإنهم يعظمون الأدعية والعبادات. قيل: هم لا يقرون بأن الله نفسه يحدث شيئاً بسبب الدعاء أو غيره، وإنما الحوادث كلها عندهم بسبب حركة الفلك، لا بشيء آخر أصلاً، وهم إذا قالوا: (إن النفوس تقوى بالدعاء والعبادة والتجرد والتصفية، فتؤثر في هيولى العالم) كان هذا عندهم بمنزلة تأثير الأكل والشرب في الري والشبع، لا يستلزم ذلك عندهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 أمراً يحدث من عند الله تعالى، فإنه لو حدث منه أمر لزم تغيره عندهم، وبطل أصل قولهم. وهم قد يخافون ما يحدث من الحوادث بسبب أعمالهم، لاقتضاء طبيعة الوجود ذلك، كما يقولون: إن أكل المضرات يورث المرض أو الموت، والسبب لكل الحوادث حركة الفلك، وإن كانت الحوادث لا تحدث بمجرد الحركة، بل بالحركة وغيرها: أما لكون الحركة توجب امتزاجاً تستعد به الممتزجات لما يفيض عليها من العقل الفعال، أو لغير ذلك، فهم مطالبون بالموجب لحركة الفلك وحدوث جميع الحوادث: إن كان الموجب لها علة تامة في الأزل لا يتأخر عنها شيء من معلولها، امتنع أن تكون حركات الممكنات وما فيها من الحوادث صادرة عن هذه العلة، لأن ذلك يقتضي تأخر كثير من معلولاتها، مع ما فيها من الاختلاف العظيم المنافي لبساطتها التي يسمونها الوحدة. وقد بين في غير هذا الموضع أن الواحد البسيط الذي يقدرونه لا حقيقة له في الخارج أصلاً. وإذا قيل: (القوابل المفعولة الممكنة المبدعة اختلفت وتأخر استعدادها، مع كون الفاعل لها لم يزل ولا يزال على حال واحدة) كان امتناع هذا ظاهراً. بخلاف ما إذا قيل: (أن نفس الفاعل موصوف بصفات متنوعة وأفعال متنوعة، وله تعالى شؤون وأحوال، كل يوم هو في شأن، فإنه يكون تنوع المفعولات وحدوث الحادثات لتنوع أحوال الفاعل، وأنه يحدث من أمره ما شاء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وإذا طلب الفرق بينهما قيل: أحواله من مقتضيات ذاته الواجبة الوجود بنفسه، التي لا يتوقف شيء من أحوالها على أمر مستغن عنها، ولا يحتاج إليه، وإذا كان واجباً بنفسه، فما كان من لوازمه كان أيضاً واجباً لا يمكن عدمه، بخلاف الممكن الذي ليس له من نفسه وجود. فإنه إذا قيل: اختلف فعل الفاعل، وتأخر لاختلاف القابل وحدوثه. قيل: فهو أيضاً الفاعل للقابل المختلف الحادث. فكيف تصدر المختلفات الحادثات عن فاعل لا اختلاف في فعله، ولا حدوث لشيء من أفعاله؟. رد الأبهري على الرازي وتعليق ابن تيمية والأبهري قد أبطل حجة المعتزلة والأشعرية ونحوهم على حدوث الأجسام، وأراد أن يعتذر عن الفلاسفة، فقال: (فصل - في ذكر الطرائق التي سلكها الإمام - يعني أبا عبد الله الرازي - في كتبه لتقرير مذاهب المتكلمين، وكيفية الاعتراض عليها. أما الطريقة التي سلكها لحدوث العالم فمن وجهين: أحدهما: أن العالم ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو حادث، لأن تأثير المؤثر فيه: إما أن يكون حال الوجود، أوحال العدم، أو لا حال الوجود ولا حال العدم. والأول باطل، لأن التأثير حال الوجود يكون إيجاداً للموجود وتحصيلاً للحاصل، وهو محال. والثاني محال، لأن التأثير حال العدم يكون جمعاً بين الوجود والعدم، وهو محال. فيلزم أن يكون: لا حال الوجود ولا حال العدم، فيكون حال الحدوث، فكل ما له مؤثر فهو حادث. الثاني: أن الأجسام لو كانت أزلية، فإما أن تكون متحركة في الأزل، أو ساكنة والقسمان باطلان. أما الأول فلوجوه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 أحدها: أنها لو كانت متحركة في الأزل للزم المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية في شيء واحد. لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير، والأزل يتقضي عدم المسبوقية بالغير، فيلزم الجمع ضرورة. الثاني: أنه لو كانت متحركة في الأزل لكانت بحال لا تخلو عن الحوادث، وما يخلو عن الحوادث فهو حادث، وإلا لكان الحادث أزليا، هذا خلف. الثالث: أنها لو كانت متحركة في الأزل لكانت الحركة اليومية موقوفة على انقضاء ما لا نهاية له، وهو محال، والموقوف على المحال محال. الرابع: أنها لو كانت متحركة في الأزل لحصلت جملتان: إحداهما من الحركة اليومية إلى غير النهاية، والثانية من الحركة التي وقعت من الأمس إلى غير النهاية. فالجملة الثانية، إن صدق عليها أنها لو أطبقت على الأولى انطبقت عليها، كان الزائد مثل الناقص، وإن لم تصدق كانت متناهية، فالجملة الاولى أيضا متناهية، وقد فرضت غير متناهية، هذا خلف. وأما الثاني: فلأنها لو كانت ساكنة في الأزل امتنع عليها الحركة، لأن المؤثر في السكون إما أن يكون أزلياً أو حادثاً، لا جائز أن يكون حادثاً، وإلا لكان السكون حادثاً، وقد فرض أزلياً، هذه خلف، فتعين أن يكون أزلياً، فيلزم من دوامه دوام السكون، فتمتنع الحركة على الأجسام وأنها ممكنة عليها، لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الأجسام إما أن تكون بسيطة أو مركبة، فإن كانت بسيطة فيصح على أحد جوانبها ما يصح على الآخر، فيصح أن يصير يمينها يساراً ويسارها يميناً، فيصح عليها الحركة، وإن كانت مركبة كانت مجتمعة من البسائط، فكانت بسائطها قابلة للاجتماع والافتراق، وكانت قابلة للحركة، هذا خلف) . قال الأبهري (الاعتراض: قوله: بأن التأثير في الممكن إما أن يكون حالة الوجود، أو حالة العدم، أو لا حالة الوجود ولا حاله العدم. قلنا: لم لا يجوز أن يكون حال الوجود؟. وقوله: التأثير حال الوجود إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل. قلنا: لا نسلم، وإنما يكون كذلك أن لو أعطى الفاعل وجوداً ثانياً، وليس كذلك، فإن التأثير عبارة عن كون الأثر موجوداً بوجود المؤثر. وجاز أن يكون الأثر موجوداً دائماً لوجود المؤثر، والذي يدل على حصول التأثير حالة الوجود، أنه لو لم يكن كذلك لكان التأثير حالة العدم، لاستحالة الواسطة بين الوجود والعدم، والثاني كاذب، لأن التأثير حاله العدم يقتضي الجمع بين الوجود والعدم، وهو محال) . قال: (أما قوله: الأجسام لو كانت أزلية: فإما أن تكون متحركة أو ساكنة في الأزل. قلنا: لم لا يجوز أن تكون متحركة؟. قوله: يلزم الجمع بين المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير في شيء واحد. قلنا: لا نسلم، وهذا لأن المسبوق بالغير هو الحركة، وغير المسبوق بالغير هو الجسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 فإن قال: (إذا كانت الحركة أزلية كانت الحركة من حيث هي هي غير مسبوقة بالغير، لكن الحركة من حيث هي هي مسبوقة بغير، لأنها تغير وانتقال فتقتضي المسبوقية بالغير، فيلزم الجمع بين المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير في الحركة. قلنا: إذا ادعيتم ذلك فنقول: لا نسلم أن الجسم لو كان أزلياً لكانت الحركة من حيث هي هي حركة أزلية. ولم لا يجوز أن يكون الجسم أزلياً، ويصدق عليه أنه متحرك دائماً بأن تتعاقب عليه الحركات المعنية، ولا يصدق على الحركات الموجودة في الأعيان أنها أزلية، ضرورة اتصاف كل واحد منها بكونها مسبوقة بالغير؟) . قلت: هذا مضمونه ما نبه عليه في غير هذا الموضع: أن حدوث كل من الأعيان لا يستلزم حدوث النوع الذي لم يزل ولا يزال. (وأما قوله: لو كانت الأجسام متحركة لكانت لا تخلو عن الحوادث. قلنا: نعم: ولكن لم قلتم بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث؟. قوله: لو لم يكن كذلك لكان الحادث أزلياً. قلنا: لا نسلم، وإنما يلزم ذلك لو كان شيء من الحركات بعينها لازماً للجسم، وليس كذلك، بل هو قبل كل حركة حركة، لا إلى أول إلى ما لا نهاية) . قلت: هذه من نمط الذي قبله، فإن الأزلي هو نوع الحادث، لا عين الحادث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 قوله: لو كانت حادثة في الأزل لكان الحادث اليومي موقوفاً على انقضاء ما لا نهاية له. قلنا: لا نسلم، بل يكون الحادث اليومي مسبوقاً بحوادث لا أول لها، ولم قلتم: إن ذلك غير جائز؟ . قلت: مضمونة أنه يكون موقوفا على انقضاء ما لا ابتداء له، ولا أول له، وهو لا نهاية له من الطرف الأول، لكن له نهاية من الطرف الآخر. قوله: لو كانت متحركة في الأزل لحصلت جملتان، أحدهما: من الحركة اليومية، والثانية: من الحركة التي وقعت في الأمس. قلنا: لا نسلم، وإنما يلزم ذلك لو كانت الحركات مجتمعة في الوجود. قلت: هذا مضمونه أن التطبيق لا يكون إلا بين موجودين، ولكن يقال التطبيق في الخارج لا يكون إلا بين موجودين، ولكن يمكن تقدير التطبيق بين معدومين، لا سيما إذا كانا قد دخلا جميعاً في الوجود، فالمطبق بينهما إما أن يكونا مقدرين في الأذهان، لا يوجدان في الأعيان بحال، كالأعداد المجردة عن المعدودات، أو معدومين منتظرين كالمستقبلات، أو معدومين ماضيين كالحوادث المتقدمة، أو موجودين كالمقادير الموجودة والمعدودات الموجودة. ويجاب عن هذا بجواب ثان: وهو: أن الجملتين اللتين طبقت إحداهما على الأخرى، مع التفاوت في أحد الطرفين وعدم التناهي في الآخر، هما متفاضلتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 في الطرف الواحد، وتنطبق إحداهما على الآخرى في الطرف الآخر، فلا يصدق ثبوت مطابقة إحداهما للأخرى مطلقاً، ولا نفي المطابقة مطلقاً، بل يصدق ثبوت الانطباق من أحد الطرفين وانتفاؤه من الآخر، وحينئذ فلا يكون الزائد مثل الناقص: ولا يكونان متناهيين. وإذا قال القائل: نحن نطبق بينهما من الطرف الذي يلينا، فإن استويا لزم أن يكون الزائد مثل الناقص، وأن يكون وجود الزيادة كعدمها، والشيء مع عدم غيره كهو مع وجوده، وإن تفاضلا لزم أن يكون ما لا يتناهى بعضه متفاضلاً. قيل: التطبيق بينهما من الجهة المتناهية مع تفاضلهما فيها ممتنع، وفرض الممتنع قد يلزمه حكم ممتنع، فإن الحوادث الماضية من أمس إذا قدرت منطبقة على الحوادث الماضية في اليوم كان هذا التطبيق ممتنعاً، فإنه يمتنع أن يطابق هذا هذا، فإن الجملتين متفاضلتان: ومع التفاضل يمتنع التطبيق المستلزم للمعادلة والاستواء. وإذا قال القائل: أنا أقدر المطابقة في الذهن وإن كانت ممتنعة في الخارج. قيل له: فقد قدرت في الذهن شيئين مع جعلك أحدهما أزيد من الآخر من الطرف الواحد، ومساوياً له من الطرف الآخر. ومعلوم أنك إذا قدرت لم يكن تفاضلهما ممتنعاً، بل كان الواجب هو التفاضل. ودليلك مبني على تقدير التطبيق، فيلزم التفاضل فيما لا يتناهى، وكل من المقدمتين باطل، فإن قدرت تطبيقها صحيحاً عدلياً فهو باطل، وإن قدرته وإن كان ممتنعاً لم يكن التفاضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 في ذاك ممتنعاً، فدعواك أن التفاضل ممتنع فيما قدرته متفاضلاً ممنوع، بل مع تقدير التفاضل يجب التفاضل، لكن يجب التفاضل من جهة التفاضل، ولا يلزم التفاضل من الجهة الأخرى. قال الأبهري: (وإن سلمنا أنه لا يجوز أن تكون متحركة في الأزل، ولكن لم لا يجوز أن تكون ساكنة؟ قوله: بأن المؤثر في السكون إما أن يكون حادثاً أو أزلياً. قلنا: فلم قلتم بأنه لو كان أزلياً للزم دوام السكون؟ ولم لا يجوز أن يكون تأثيره فيه موقوفاً على شرط عجمي أزلي؟ والعدمي الأزلي جائز الزوال، فإذا زال الشرط زال السكون) . قلت: لقائل أن يقول: العرض الأزلي إنما يزول بسبب حادث، والقول فيه كالقول في غيره، بل لا يزول إلا بسبب حادث، فيحتاج إلى حدوث سبب يحدث ليزول السكون، وهو يقول: المقتضي لزوال السكون كالمقتضي لحدوث العالم، وهو الإرادة المسبوقة بإرادة لا إلا أول، لكن هذا التقدير يصحح القول بحدوث العالم. فيقال: إن كان الجسم أزلياً وأمكن حدوث الحركة فيه، كان المقتضي لحركته مجوزاً لحدوث العالم، لكن هذا يبطل حجة الفلاسفة، ولا يصحح حجية أن الجسم الأزلي يمتنع تحريكه فيما بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وأيضاً فإنه ههنا بحثاً آخر، وهو أن السكون هل هو أمر ثبوتي مضاد للحركة، أو هو عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك؟ وفيه قولان معروفان، فإذا كان عدمياً لم يفتقر إلى سبب. (قال: وأما الطريقة التي يسلكها في كون الباري فاعلاً بالاختيار فمن وجهين: أحدهما: أنه لو كان موجباً بالذات وجب أن لا ينفك عنه العالم، فيلزم إما قدم العالم، وإما حدوث الباري تعالى. الثاني: أنه لو كان موجباً بالذات لما حصل تغير في العالم، لأنه يلزم من دوامه دوام معلوله، وإلا كان ترجيحاً بلا مرجح، ويلزم من دوام معلوله دوام معلول معلوله، وهكذا إلى أن يلزم دوام جميع المعلولات) . قال الأبهري: (الاعتراض: أما الوجه الأول فلا نسلم أن القدم منتف، وأما الحجة التي ذكرها فقد مر ضعفها. وأما الثاني فلا نسلم أنه لو كان موجباً بالذات للزم دوام معلولاته، وإنما يلزم ذلك أن لو كان جميع معلولاته قابلة للدوام، وهذا لأن من جملة معلولاته الحركة، وهي غير قابلة للبقاء) . ولقائل أن يقول: اعتراض الأبهري هنا ضعيف. أما الأول فيقال: هب أن ما ذكره على انتفاء القدم ضعيف، لكن لا يلزم من ضعف الدليل المعين انتفاء المدلول، وأنت قد بينت ضعف دليل الفلاسفة على القدم، وإذا كان القول بالموجب بالذات يستلزم قدم العالم، ولا دليل لهم عليه، كان قولهم أيضاً لا دليل عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 والأبهري قد ذكر في غير هذه الموضع ما احتج به على حدوث العالم ببيان انتفاء لازم القدم، ولكن إن كان قصده بيان فساد ما ذكره الرازي فـ الرازي ذكر وجهين. وهب أن الأول ضعيف، لكن الثاني قوي، وهو قوله: (لو كان موجباً بالذات ما حصل تغير في العالم) . وتحرير ذلك أن يقال: الموجب بالذات يراد به العلة التامة التي تستلزم معلولها، ولو كانت شاعرة به، ويراد ما يفعل بغير إرادة ولا شعور، وإن كان فعله متراخياً. ومن المعلوم أنه لم يقصد إفساد القسم الثاني، وإنما قصد إفساد القسم الأول. فيقال: إذا كان الموجب علة تامة تستلزم معلولها كان معلولها لازماً لها، ومعلول معلولها لازماً، فيمتنع تأخر شيء من لوزمها ولوازم لوازمها، فلا يكون هناك شيء محدث، فلا يحصل في العالم تغير. وأما قول المعترض: (إنما يلزم أن لو كان جميع معلولاته قابلة للقدم، والحركة لا تقبله) . فيقال: هذا الاعتراض باطل لوجوه: أحدها: أنه إذا جاز أن تكون العلة التامة التي تستلزم معلولها لها معلول لا يقبل البقاء، وهو الحركة، والحوادث تحدث بسببه، جاز أن يكون ذلك المعلول حوادث يقوم بها، وتكون كل الأمور المباينة موقوفة على تعاقب تلك الحوادث، كما قد ذكره الأبهري نفسه في الإرادات المتعاقبة، وقال: (يجوز أن يكون للباري إرادات حادثة، وكل واحدة منها تستند إلى الأخرى، ثم تنتهي في جانب النزول إلى إرادة تقتضي حدوث العالم، فيلزم حدوثه، وإذا كان هذا جائزاً امتنع أن يكون موجباً بذاته، بمعنى أنه يسلتزم أن يكون موجباً بذاته، بمعنى أنه يستلزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 موجباته، بل يجوز مع هذا أن تتأخر عنه موجباته، وعلى هذا فلا يكون العالم قديماً، وليس هذا هو الموجب بذاته في هذا الاصطلاح الذي تكلم به الرازي، وأراد به إفساد قول الفلاسفة الدهرية، فإن الموجب بذاته في هذا الاصطلاح الذي بينه وبينهم هو العلة التامة التي تستلزم معلولها. الوجه الثاني: أن يقال: إن أردتم بالموجب بالذات ما يستلزم معلوله، فالتغيرات التي في العالم تبطل كونه موجباً بهذا الاعتبار، وإن أردتم بالموجب بالذات ما قد تكون مفعولاته أمراً لا يلزمه، بل يحدث شيئاً بعد شيء، فحينئذ إذا وافقكم المنازعون على تسميته موجباً بالذات لم يكن في ذلك ما ينافي أن تكون مفعولاته تحدث شيئاً بعد شيء، ولا يمتنع أن تكون هذه الأفلاك من جملة الحوادث المتأخرة، فبطل قولكم. الوجه الثالث: ذلك المعلول الذي لا يقبل الدوام كحركة الفلك: هل للباري موجب له بذاته بوسط أو بغير وسط، أو أيجابه له موقوف على حادث آخر؟ فإن قيل بالأول، لزم الحركات المتعاقبة، وأن تكون قابلة للدوام، وهو ممتنع. وإن قيل بالثاني، قيل: فإيجابه لما تأخر من هذه الحركة: إما يكون موقوفا على شرط أو لا يكون، فإن يكن موقوفا على شرط، لزم تقدمه لتقدم الموجب الذي لا يقف تأثيره على شرط، وهو ممتنع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وإن قيل: بل إيجابه للجزء الثاني مشروط بحدوث الجزء الأول، وهلم جرا: كان معناه أن إيجابه لكل جزء مشروط بوجود جزء آخر، وهو قبله: وهو علة تامة لشيء من تلك الأجزاء، فيجب أن لا يحصل شيء منها، لأن تلك الأجزاء متعاقبة أزلاً وأبداً، وما من وقت يفرض إلا وهو مشابه من الأوقات، فليس هو في شيء من الأوقات علة تامة لشيء من الحوادث، فيكون إحداثه لكل حادث مشروطاً بحادث لم يحدثه، والقول في ذلك الحادث الذي هو شرط كالقول في الحادث الذي هو مشروط، فإذا لم يكن محدثاً للأول فلا يكون محدثاً للثاني، فلا يكون محدثاً لشيء من الحوادث على قولهم (هو علة تامة) وهو المطلوب. فإنه لو قال: (لو كان موجباً بذاته لما حصل في العالم شيء من التغير) وهذا يهدم قولهم، فإنهم بين أمرين: إما أن يقولوا ليس بعلة تامة لمعولاته، أو يقولوا: معلولاته مقارنة له، فأما جمعهم بين كونه علة تامة في الأزل، وبين كون المعلول يوجد شيئاً فشيئا، فجمع بين الضدين. فإن العلة التامة: هي التي تستلزم معولولها، لا يتأخر عنها معلولها، ولا يقف اقتضاؤها على غيرها. وهم يقولون: إنه في كل وقت ليس علة تامة لما يحدثه فيه، بل فعله مشروط بأمر متقدم، وليس هو علة تامة لذلك الشرط المتقدم، فلا يكون علة تامة، لا للمتقدم من الحوادث ولا للمتأخر، فلا بد للحوادث من مقتض آخر. وهذا لا يرد على من يقول: (أحدث الحوادث بإرادات متعاقبة أو أفعال متعاقبة) فإنه لا يقول: هو موجب بنفسه للممكنات، ولا يقول: هو في الأزل علة تامة لها، بل بقوله: ليس بعلة أصلاً لشيء من مخلوقاته، بل فعلها بمشيئته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وقدرته، إذ الفعل الثاني منه مشروط بالأول، لأن الأفعال الحادثة لا تكون إلا متعاقبة، وليس هو موجباً بذاته لشيء من تلك الأفعال، ولا للمفعولات بها، ولا يلزم من ذلك لا قدم شيء من الأفعال بعينه، ولا قدم شيء من المفعولات بعينه: لا فلك ولا غيره، والحوادث جميعها التي في العالم والتغيرات يحدثها شيئاً بعد شيء، بأفعاله الحادثة شيئاً بعد شيء، فكل يوم هو في شأن. بخلاف ما إذا قالوا: هو علة تامة مستلزمة لمعلولها، وجعلوا من المعلولات ما لا يكون إلا شيئاً فشيئاً، فإن هذا جميع بين المتنافيين، يمنزلة من قال: معلوله مقارن له، معلوله ليس مقارناً له. وإذا قالوا: هو موجب بنفسه للفلك وأجزاء العالم الأصلية، وليس موجباً بنفسه للحوادث المتجددة، بل أيجابه لها مشروط بما يكون قبلها من الحوادث. قيل: هذه حقيقة قولكم وحينئذ فلا يكون نفسه موجباً لشيء من الحوادث، لا الأول ولا الثاني، لا بوسط ولا بغير وسط، وهو المطلوب، فالقول بالموجب بالذات وحدوث المحدثات عنه بوسط وبغير وسط جمع بين النقيضين. ثم هذا القول يبطل قولكم بكونه موجباً للعالم بذاته، لأنهم يقولون: إن العالم لا قيام له بدون الحركة، وإنها صورته التي لولا هي لبطل، فإذا كان إيجابه للعالم بدون الحركة ممتنعاً وإيجابه للحركة في الأزل ممتنعاً: لم يكن موجباً لا للعالم ولا للحركة، فإن المبدع المشروط بشرط يمتنع إبداعه بدون إبداع شرطه، وإبداع شرطه ممتنع على أصلهم، فإذن إبداعه ممتنع، وهذا لأنهم جعلوا الباري ليس له فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 يقوم بذاته أصلاً، ولا يتجدد منه شيء، ولا فيه شيء أصلاً، وعندهم أن ما كان كذلك لا يحدث عنه شيء أصلاً. ثم قالوا: الحوادث كلها صادرة عنه، لأن الحركة لم تزل ولا تزال صادرة عنه، وكيف تصدر حركات لم تزل ولا تزال في أمور ممكنة، عن شيء لا يحدث عنه ولا فيه شيء على أصلهم؟. ومما يوضح هذا أن قدماء هؤلاء الفلاسفة كأرسطو وأتباعه كانوا يقولون: إن الأول محرك للعالم حركة الشوق، كتحريك المحبوب لمحبه، والإمام المقتدى به للمؤتم المقتدي به. وبهذا أثبتوه، وجعلوه علة للعالم، حيث قالوا: إن الفلك لا يقوم إلا بالحركة الإرادية، والحركة الإرادية لا تتم إلا بالمراد المحبوب الذي يحرك المريد حركة اشتياق، فالباري عندهم علة بهذا الاعتبار، وهو بهذا الاعتبار لم يبدع الأفلاك ولا حركاتها، لكن هو شرط في حصول حركتها. وعلى هذا القول فقد يقال: العالم قديم واجب بنفسه، بل هم يصرحون بذلك، والأول الذي هو المحبوب واجب قديم بنفسه، كما يقول آخرون منهم: بل العالم واجب قديم بنفسه، وليس هناك علة محبوبة محركة له بالشوق خارجة عن العالم. وإذا كان كذلك كانت الحركات حادثة في واجب بنفسه، وإذ لزمهم كون الواجب بنفسه محلاً للحوادث والحركات، لم يكن معهم ما يبطلون به كون الأول كذلك، وحينئذ فلا يكون لهم حجة على كونه موجباً بالذات، وهم يعترفون بذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وإنما نفوا عن الأول ذلك لكونه ليس جسماً عند أرسطو وأتباعه، ولا دليل لهم على ذلك إلا كون الجسم لا يمكن أن يكون فيه حركة غير متناهية، بناء على أن الجسم متناه، فيمتنع أن يتحرك حركة غير متناهية. هذه الحجة عمدتهم، وهي مغلطية من أفسد الحجج، فإنه فرق بين ما لا يتناهى في الزمان، بل يحدث شيئاً بعد شيء، وبين ما لا يتناهى في المقدار، والنزاع إنما هو في حركة الجسم دائماً حركة لا تتناهى، ليس هو كونه في نفسه ذا قدر لا تتناهى، فأين هذا من هذا؟ وهذا مبسوط في موضع آخر. ويقال لهم: حدوث الحوادث عن فاعل لا يحدث فيه شيء: إما أن يكون ممكناً، وإما أن يكون ممتنعاً، فإن كان ممكناً أمكن حدوث الحوادث جميعها عن الأول بدون حدوث شيء، كما يقوله من يقوله من أهل الكلام وغيرهم من المعتزلة والكلابية وغيرهم، وإن كان ممتنعاً بطل قولهم بحدوث الحوادث الدائمة عنه مع أنه لم يحدث فيه شيء، وهذا أفسد. وإذا قالوا: أولئك خصصوا بعض الأوقات بالحدوث بدون سبب حادث من الفاعل. قيل: وأنتم جعلتم جميع الحوادث تحصل بدون سبب حادث من الفاعل. وإذا قلتم لهم: كيف يحدث بعد أن لم يكن محدثاً بدون حدوث قصد ولا علم ولا قدرة؟ قالوا لكم: فكيف تحدث الحوادث دائماً بدون حدوث قصد ولا علم ولا قدرة؟ بل بدون وجود ذلك؟ وأنتم تقولون: يحدث للفلك تصورات وإرادات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وهي سبب الحركات المتعاقبة، فما السبب الموجب لحدوث تلك الحوادث، ولم يحدث شيء أصلاً يوجب حدوثها؟. ولو قال قائل: الإنسان دائماً يتجدد له تصورات وإرادات وحركات بدون سبب حادث، ولا يحدثها محدث أصلاً، ألم يكن ذلك ممتنعاً؟. فإن قيل: بإحداثه للأول استعان على إحداث الثاني. قيل: فما الموجب لإحداثه الأول، وهو لم يزل في إحداث إذا قدر أزلياً لم يكن هناك أول، بل لم يزل في إحداث. فإن قيل تلك الحوادث التي للإنسان صدرت عن العقل الفعال بدون سبب حادث. قيل: فالعقل الفعال دائم الفيض عندهم، فلم خص هذه التصورات والإرادت والحركات بوقت دون وقت؟. قالوا: لعدم استعداد القوابل، فإذا استعد الإنسان للفيض أفاض عليه واهب الصور. فإذا قيل لهم: فما الموجب لحدوث الاستعداد؟ قالوا: ما يحدث من الحركات الفلكية والامتزاجات العنصرية، فلا يجعلون العقل الفعال هو الموجب لما يحدث من الاستعداد، بل يحيلون ذلك على تحركيات خارجة عنه وعن إفاضته. فإن قالوا مثل هذا في الأول، لزم أن يكون المحدث لشروط الفيض غيره، وشبهوه بالفعال في كونه لا يفيض عنه إلا بعض الأشياء دون بعض، لكن الفعال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 تحدث عنه الأشياء شيئا بعد شيء عندهم، أما الأول فلا يحدث عنه شيء، بل معلوله لازم له، فهو أنقص رتبة في الإحداث عندهم من الفعال. وإن قالوا: بل هو المحدث للشروط شيئاً فشيئاً. قيل: أنتم قلتم في الفعال: (إنه دائم الفيض، لا يخص من تلقاء نفسه وقتاً دون وقت بفيض) فالأول إذا خص وقتاً دون وقت من تلقاء نفسه بشيء لم يكن فياضاً بل كان الفياض أجود منه، وإن كان التخصيص من غير تلقاء نفسه كان ذلك لمشارك له في الفعل، كما في الفياض. فهم بين أمرين: إما أن يجعلوه عاجزاً عن الانفراد بالإحداث كالفعال، بل أدنى منه، وإما أن يجعلوه بخيلاً لا فياضاً، فيكون الفعال أجود منه. وأيضاً فإذا قالوا: إنه علة تامة وموجب تام لمعلوله وموجبه، وفاعل تام في الأزل لمفعوله، فجعلوا ما سواه معلوله ومفعوله وموجبه، وإن كان ذلك بوسط، كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول، فإن الموجب التام والعلة التامة والتكوين التام إما أن يقول القائل: يجوز تراخي المكون عنه، كما يقوله من يقوله من أهل الكلام، وإما أن يقول: هو مستلزم به. فإن قيل بالأول أمكن تراخي المفعولات كلها، وبطل قولهم بوجوب قدم شيء من العالم، بل يمتنع قدم شيء من العالم لامتناع مقارنة الكون للمكون. وإن قيل بالثاني فلا يخلو: إما أن يقال: يجب اقتران مفعوله به في الزمان، بحيث يكون معه، لا يكون عقب تكوينه. وإما أن يقال: بل كون الكائن إنما يكون عقب تكوين المكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 فإن قالوا بالأول كما يدعونه لزمهم أن لا يحدث في العالم شيء، وهو خلاف الحس والمشاهدة. وإن قالوا بالثاني، لزم أن يكون كل معلول له مسبوقاً بغيره زمانياً، فلا يكون شيء من العالم قديماً أزلياً معه، وهو المطلوب. وإذ كان أقتران المفعول بفاعله في الزمان ممتنعاً على تقدير دعوى استلزامه له، فاقترانه به على تقدير عدم وجوب الاستلزام أولى. فتبين أن يمتنع قدم شيء من العالم على كل تقدير. وهذا بين لم تصوره تصوراً تاماً. ولكن وقع اللبس والضلال في هذا الباب من الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم من أهل الكلام، لما ادعوا ما يمتنع في صريح العقل عند هؤلاء - من كون المؤثر التام يتأخر عنه أثره، والحوادث تحدث بسبب حادث - فر هؤلاء إلى أن جعلوا المؤثر يقترن به أثره، ولا يحدث حادث إلا بسبب حادث، ولم يحققوا واحداً من الأمرين، بل كان قولهم اشد فساداً وتناقضاً من قول أولئك المتكلمين. فإن كون المؤثر يستلزم أثره يراد به شيئان: أحدهما: أن يكون الأثر المكون المفعول المصنوع مقرناً للمؤثر ولتأثيره في الزمن، بحيث لا يتأخر عنه تأخراً زمانياً بوجه من الوجوه، وهذا مما يعرف جمهور العقلاء بصريح العقل أنه باطل في كل شيء، فليس معهم في العالم مؤثر تام يكون زمنه زمن أثره، ويكون زمن حصول الأثر المفعول زمن حصول التأثير، بل إنما يعقل التأثير أن يكون الأثر عقب المؤثر، وإن كان متصلاً به، كأجزاء الزمان والحركة الحادثة شيئاً بعد شيء، وإن كان ذلك متصلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 أما كون الجزء الثاني من الزمان والحركة مقارناً للجزء الأول في الزمن، فهذا مما يعلم فساده بصريح العقل. وهذا معلوم في جميع المؤثرات الطبيعية والإرادية، وما صار مؤثراً بالشرع وغير الشرع. فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، ولعبده، أنت حر، فالطلاق والعتاق لا يقع مع التكلم بالتطليق والإعتاق، وإنما يقع عقب ذلك. وإذا قال: إذا طلقت فلانة ففلانة طالق، لم تطلق الثانية إلا عقب طلاق الأولى، لا مع تطليق الأولى في الزمان، وهذا الذي عليه عامة العلماء قديماً وحديثاً، ولكن شرذمة من المتأخرين، الذين استزل هؤلاء عقولهم، ظنوا أن الطلاق يكون مع التكلم في الزمان، وهذا غلط عند عامة العلماء. وكذلك إذا قال: إذا مت فأنت حر، فالمدبر يعتق عقب موت سيده، لا مع موت سيده. وهكذا في الأمور الحسية، إذا قال: (كسرت الإناء فانكسر) ، و (قطعت الحبل فانقطع) ، فانكسار المنفعل وانقطاعه يحصل عقب كسر الكاسر وقطع القاطع، ولهذا إذا لم يكن المحل قابلا قيل: (قطعته فلم ينقطع، وكسرته فلم نكسر) كما يقال: علمته فلم يتعلم. ولفظ (التعليم، والقطع، والكسر) ونحو ذلك يراد به الفعل التام الذي يستلزم أثره، فهذا كالعلة التامة التي تستلزم معلولها لا تقبل التخصيص، ويراد به المقتضي الموجب المتوقف اقتضاؤه على شروط، فهذا قد يتخلف عنه موجبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ومن هذا الباب قوله تعالى: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] ، وقوله: {إنما أنت منذر من يخشاها} [النازعات: 45] ، وقوله: {إنما تنذر من اتبع الذكر} [يس: 11] ، فالمراد به الهدى التام المستلزم لحصول الاهتداء، وهو المطلوب في قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} . وكذلك الإنذار التام المستلزم خشية المنذر وحذره مما أنذر به من العذاب، وهذا بخلاف قوله: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} (فصلت: 17) ، فالمراد به البيان والإرشاد المقتضى للاهتداء، وإن كان موقوفاً على شروط وله موانع. وهكذا إذا قيل: هو موجب بذاته، أو علة بذاتة، ونحو ذلك،: إن أريد بذلك أنه موجب ما يوجبه من مفعولاته بمشيئته وقدرته، في الوقت الذي شاء كونه فيه، فهذا حق، لا منافاة بين كونه موجباً وفاعلاً بالاختيار على هذا التفسير. وإن أريد به أنه موجب بذات عرية عن الصفات، أو موجب تام لمعلول مقارن له - وهذا قول هؤلاء - وكل من الأمرين باطل. فقد قامت الدلائل القينية على اتصافه بصفات الإثبات، وقامت الدلائل اليقينية على امتناع كون الأثر مقارناً للمؤثر وتأثيره في الزمان، ولو كان فاعلاً بدون مشيئته وقدرته كالمؤثرات الطبيعية، فكيف في الفاعل بمشيئته وقدرته؟ فإن هذا مما يظهر للعقلاء امتناع أن يكون شيء من مقدوراته قديماً أزلياً لم يزل ولا يزال. فمن تصور هذه الأمور تصوراً تاماً، علم بالاضطرار أنه يمتنع أن يكون في العالم شيئ قديم، وهو المطلوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 فإن قال قائل: المنازعون لنا الذين يقولون: لم يزل متكلماً إذا شاء، أو لم يزل فاعلاً إذا شاء، أو لم تزل الإرادات والكلمات تقوم بذاته شيئاً بعد شيء، ونحو ذلك، وهم يقولون بحدوث الحوادث في ذاته شيئاً بعد شيء، فنحن نقول بحدوث الحوادث المنفصلة عنه شيئاً بعد شيء: إما حدوث تصورات وإرادات في النفس الفلكية، وإما حصول حركات الفلك المتعاقبة، فلم كان قولنا ممتنعاً وقولهم ممكناً؟. قيل لهم: أنتم قلتم: إنه مؤثر تام، أو علة تامة في الأزل، فلزمكم أن لا يتأخروا عنه شيء من آثاره، سواء كانت صادرة بوسط أو بغير وسط. فإذا قلتم: صدر عنه عقل - مثلا - والعقل أوجب نفساً فلكية وفلكاً، أو ما قلتم. قيل لكم: المعلول الأول إن كان تاماً من كل وجه لا يمكن أن يحدث فيه شيء - فهو أزلي - كان معلوله العقل معه أزلياً، فإن العقل حينئذ يكون علة تامة في الأزل، فيلزم أن يكون معلوله معه أزلياً، وهكذا معلول المعلول، هلم جراً. وإذا قلتم: الحركة لا تقبل البقاء. قيل لكم: فيمتنع أن يكون لها موجب تام في الأزل، بل يكون الموجب لها غير تام في الأزل، بل صار موجباً، وحدوثه كونه موجباً يمتنع أن يتوقف على أثر غيره، إذ ليس هناك موجب غيره. ويمتنع أن يحدث تمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 إيجابه منه، لأنه علة تامة يجب اقتران معلولها بها في الأزل، فذلك التمام: إن كان قديماً لزم كون معلول المعلول قديماً، وهلم جراً، وإن كان حادثاً حدث عن العلة التامة الأزلية حادث بدون سبب حادث، وهذا ينقض قولهم بامتناع حادث بلا سبب. فأنتم بين أمرين، أيهما قلتموه بطل قولكم: إن قلتم (أنه علة تامة في الأزل) ، لزم أن لا يتأخر عنه معلوله. وإن قلتم (ليس بعلة تامة) لزم أن يحدث تمام كونه علة بدون سبب حادث، فيلزمكم جواز حدوث الحوادث بلا سبب. وأيهما كان بطل قولكم، فإنه إذا بطل كونه علة تامة في الأزل امتنع قدم شيء من العالم، وإن جاز حدوث الحوادث بلا سبب حادث بطلت حجتكم، وجاز حدوث كل ما سواه. وإذا قلتم: هو علة تامة للفلك دون حركاته. قيل لكم: هو علة للفلك ولحركاته المتعاقبة شيئاً بعد شيء، فهل كان علة تامة لهذه الحركات في الأزل، أم حدث تمام كونه علة لها شيئاً بعد شيء؟. فإن قلتم: هو علة تامة في الأزل، لزمكم إما مقارنتها كلها له في الأزل، وإما تخلف المعلول عن علته التامة، وكلاهما يبطل قولكم. وإن قلتم: حدث تمام كونه علة لحركة حركةً منها. قيل لكم: فحدوث التمام قد حدث عندكم بدون سبب حادث، وذلك يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب، وهذا أمر بين لمن تصوره تصوراً تاماً، ليس لهم حيلة في دفعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وأما الذين يقولون: (إنه لم يزل متكلماً إذا شاء، أو فاعلاً بمشيئته، وإنه يقوم به إرادة أو كلمات متعاقبة شيئاً بعد شيء) فهؤلاء لا يجعلونه في الأزل قط علة تامة، ولا موجباً تاماً، ولا يقولون: إن فاعلية شيء من المفعولات يتم في الأزل. بل عندهم كون الشيء مفعولاً ومصنوعاً مع كونه أزلياً جمع بين النقيضين، وإذا امتنع كون المفعول الذي هو أثر المكون أزلياً، امتنع كون تأثيره وتكوينه المستلزم له قديماً أزلياً، فأمتنع أن يكون علة تامة في الأزل لشيء من الأشياء. ولكن ذاته تستلزم بما يقوم بها من الأفعال شيئاً بعد شيء، وكلما تم فاعلية مفعول وجد ذلك المفعول وجد ذلك المفعول، كما قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (يس: 82) ، فكلما كون الشيء كونه فحصل المكون عقب تكوينه، وهكذا الأمر دائماً، فكل ما سواه مخلوق حادث بعد أن لم يكن، وتمام تكوينه وتخليقه لم يكن موجوداً في الأزل، بل إنما تم تخليقه وتكوينه بعدئذ، وعند تمام التكوين والتخليق حصل المكون المخلوق عقب التكوين والتخليق، لا مع ذلك في الزمان، فأين هذا القول من قولكم؟ ‍!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 دلالة السمع على أفعال الله تعالى ونحن ننبه عى دلالة السمع على أفعال اله تعالى الذي به تنقطع الفلاسفة الدهرية، ويتبين به مطابقة العقل للشرع. ولا ريب أن دلالة ظاهر السمع ليس فيها نزاع، لكن الذين يخالفون دلالته يدعون أنها دلالة ظاهرة لا قاطعة، والدلالة العقلية القاطعة خالفتها، فأصل الدلالة متفق عليه، فنقول: معلوم بالسمع اتصاف الله تعالى بالأفعال الاختيارية القائمة به، كالاستواء إلى السماء، والاستواء على العرش، والقبض، والطي، والإتيان، والمجيء، والنزول، ونحو ذلك. بل والخلق، والإحياء، والإماتة، فإن الله تعالى وصف نفسه بالإفعال اللازمة كالاستواء، وبالأفعال المتعدية كالخلق، والفعل المتعدي مستلزم للفعل اللازم، فإن الفعل لا بد له من فاعل، سواء كان متعدياً إلى مفعول أو لم يكن. والفاعل لا بد له من فعل، سواء كان فعله مقتصراً عليه أم متعدياً إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 غيره. والفعل المتعدي إلى غيره لا يتعدى حتى يقوم بفاعله، إذ كان لا بد له من الفاعل. وهذا معلوم سمعاً وعقلاً. أما السمع فإن أهل اللغة العربية التي نزل بها القرآن، بل وغيرها من اللغات، متفقون على أن الإنسان إذا قال: (قام فلان وقعد) وقال: (أكل فلان الطعام وشرب الشراب) فإنه لا بد أن يكون في الفعل المتعدي إلى المفعول به ما في الفعل اللازم وزيادة، إذ كلتا الجملتين فعلية، وكلاهما فيه فعل وفاعل، والثانية امتازت بزيادة المفعول، فكما أنه في الفعل اللازم معنا فعل وفاعل ففي الجملة المتعدية معنا أيضاً فعل وفاعل وزيادة مفعول به. ولو قال قائل: الجملة الثانية ليس فيها فعل قائم بالفاعل، كما في الجملة الأولى، بل الفعل الذي هو (أكل) و (شرب) نصب المفعول - من غير تعلق بالفاعل أولاً - لكان كلامه معلوم الفساد، بل يقال: هذا الفعل تعلق بالفاعل أولاً، كتعلق (قام وقعد) ، ثم تعدى إلى المفعول، ففيه ما في الفعل اللازم وزيادة التعدي، وهذا واضح لا يتنازع فيه اثنان من أهل اللسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 فقوله تعالى: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} (الحديد: 4) تضمن فعلين: أولهما متعد إلى المفعول به، والثاني مقتصر لا يتعدى، فإذا كان الثاني - وهو قوله تعالى: {ثم استوى} - فعلاً متعلقاً بالفاعل، فقوله (خلق) كذلك بلا نزاع بين أهل العربية. ولو قال قائل: (خلق) لم يتعلق بالفاعل، بل نصب المفعول به ابتداء، لكان جاهلاً، بل في (خلق) ضمير يعود إلى الفاعل كما في (استوى) . وأما من جهة العقل: فمن جوز ان يقوم بذات الله تعالى فعل لازم به، كالمجيء والاستواء، ونحو ذلك، لم يمكنه أن يمنع قيام فعل يتعلق بالمخلوق كالخلق والبعث والإماتة والإحياء. كما أن من جوز أن تقوم به صفة لا تتعلق بالغير كالحياة لم يمكنه أن يمنع قيام الصفات المتعلقة بالغير، كالعلم والقدرة والسمع والبصر، ولهذا لم يقل أحد من العقلاء بإثبات أحد الضربين دون الآخر، بل قد يثبت الأفعال المتعدية القائمة به كالتخليق من ينازع في الأفعال اللازمة. كالمجيء والإتيان. وأما العكس فما علمت به قائلاً. وإذا كان كذلك كان حدوث ما يحدثه الله تعالى من المخلوقات تابعاً لما يفعله من أفعاله الاختيارية القائمة بنفسه، وهذه سبب الحدوث، والله تعالى حي قيوم لم يزل موصوفاً بأنه يتكلم بما يشاء. فعال لما يشاء. وهذا قد قاله العلماء الأكابر من أهل السنة والحديث. ونقلوه عن السلف والأئمة، وهو قول طوائف كثيرة من أهل الكلام والفلسفة المتقدمين والمتأخرين، بل هو قول جمهور المتقدمين من الفلاسفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وعلى هذا فيزول الإشكال ويكون إثبات خلق السماوات والأرض إنما يتم بما جاء به الشرع، ولا يمكن القول بحدوث العالم على أصل نفاة الأفعال الذين يزعمون أن العقل قد دل على نفيها، ويقدمون هذا الذي هو عندهم دليل عقلي على ما جاء به الكتاب والسنة، والعقل عند التحقيق يبطل هذا القول ويوافق الشرع، فإنه إذا تبين أن القول بنفيها يمتنع معه القول بحدوث شيء من الحوادث: لا العالم ولا غيره، والحوادث مشهودة، كان العقل قد دل على صحة ما جاء به الشرع في ذلك، والله سبحانه موصوف بصفات الكمال، منزه عن النقائص، وكل كمال وصف به المخلوق من غير استلزامه لنقص فالخالق أحق به، وكل نقص نزه عنه المخلوق فالخالق أحق بأن ينزه عنه، والفعل صفة كمال لا صفة نقص، كالكلام والقدرة، وعدم الفعل صفة نقص، كعدم الكلام وعدم القدرة، فدل العقل على صحة ما دل عليه الشرع، وهو المطلوب. وكان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين، فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها، والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا، فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها. ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشهري وغيرهما، وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه، ثم قيل عن الحارث: إنه رجع عن قوله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وقد ذكر الحارث في كتاب فهم القرآن عن أهل السنة في هذه المسألة قولين، ورجح قول ابن كلاب، وذكر ذلك في قول الله تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} [التوبة: 105] وأمثال ذلك، وأئمة السنة والحديث على إثبات النوعين، وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم، كـ حرب الكرماني وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما، بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة، وأن ذلك هو مذهب أئمة السنة والحديث من المتقدمين والمتأخرين، وذكر حرب الكرماني أنه قول من لقيه من أئمة السنة كـ أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد ين منصور. وقال عثمان بن سعيد وغيره: إن الحركة من لوازم الحياة، فكل حي متحرك، وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات، الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وطائفة أخرى من السلفية كـ نعيم بن حماد الخزاعي والبخاري صاحب الصحيح وأبي بكر بن خزيمة، وغيرهم كـ أبي عمر بن عبد البر وأمثاله: يثبتون المعنى الذي يثبته هؤلاء، ويسمون ذلك فعلاً ونحوه، ومن هؤلاء من يمتنع عن إطلاق لفظ الحركة لكونه غير مأثور. وأصحاب أحمد منهم من يوافق هؤلاء، كـ أبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهما، ومنهم من يوافق الأولين، كـ أبي عبد الله بن حامد وأمثاله، ومنهم طائفة ثالثة - كالتميميين وابن الزاغوني غيرهم - يوافقون النفاة من أصحاب ابن كلاب وأمثالهم. ولما كان الإثبات هو المعروف عند أهل السنة والحديث كـ البخاري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 وأبي زرعة وأبي حاتم ومحمد بن يحيى الذهلي وغيرهم من العلماء الذين أدركهم الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة، كان المستقر عنده ما تلقاه عن أئمته: من أن الله تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء، وأنه يتكلم بالكلام الواحد مرة بعد مرة. وكان له أصحاب كـ أبي علي الثقفي وغيره تلقوا طريقة ابن كلاب، فقام بعض المعتزلة وألقى إلى ابن خزيمة سر قول هؤلاء، وهو أن الله لا يوصف بأنه يقدر على الكلام إذا شاء، ولا يتعلق ذلك بمشيئته، فوقع بين ابن خزيمة وغيره وبينهم في ذلك نزاع، حتى أظهروا موافقتهم له فيما لا نزاع فيه، وأمر ولاة الأمر بتأديبهم لمخالفتهم له، وصار الناس حزبين، فالجمهور من أهل السنة وأهل الحديث معه، ومن وافق طريقة ابن كلاب معه، حتى صار بعده علماء نيسابور وغيرهم حزبين، فـ الحاكم أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 السلمي وأبو عثمان النيسابوري وغيرهم معه وكذلك يحيى بن عمار السجستاني وأبو عبد الله بن منده وأبو نصر السجزي وشيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهم معه، وأما أبو ذر الهروي وأبو بكر البيهقي وطائفة أخرى فهم مع ابن كلاب. وكذلك النزاع كان بين طوائف الفقهاء والصوفية والمفسرين وأهل الكلام والفلسفة وهذه المسألة كانت المعتزلة تلقبها بمسألة (حلول الحوادث) وكانت المعتزلة تقول: إن الله منزه عن الأعراض والأبعاض والحوادث والحدود، ومقصودهم نفي الصفات ونفي الأفعال، ونفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 مباينته للخلق وعلوه على العرش، وكانوا يعبرون عن مذاهب أهل الإثبات أهل السنة بالعبادات المجملة التي تشعر الناس بفساد المذهب، فإنهم إذا قالوا (إن الله منزه عن الأعراض) لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما ينكر، لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منزه عن الاستحالة والفساد كالأعراض التي تعرض لبني آدم من الأمراض والأسقام، ولا ريب أن الله منزه عن ذلك، ولكن مقصودهم أنه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا كلام قائم به، ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها هم أعراضاً. وكذلك إذا قالوا: (إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات) أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات، ولا تحوزه المصنوعات، وهذا المعنىصحيح، ومقصودهم: أنه ليس مبايناً للخلق ولا منفصلاً عنه، وأنه ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، وأن محمداً لم يعرج به إليه، ولم ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقرب إليه شيء، ولا يتقرب إلى شيء، ولا ترفع إليه الأيدي في الدعاء ولا غيره، ونحو ذلك من معاني الجهمية. وإذا قالوا: (إنه ليس بجسم) أوهموا الناس أنه ليس من جنس المخلوقات، ولا مثل أبدان الخلق، وهذا المعنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلك أنه لا يرى ولا يتكلم بنفسه، ولا يقوم به صفة، ولا هو مباين للخلق، وأمثال ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وإذا قالوا: (لا تحله الحوادث) أوهموا الناس أن مرادهم أنه لا يكون محلاً للتغيرات والاستحالات ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين فتحيلهم وتفسدهم، وهذا معنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلك أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه، ولا له كلام ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه لا يقدر على استواء أو نزول أو إتيان أو مجيء، وأن المخلوقات التي خلقها لم يكن منه عند خلقها فعل أصلاً، بل عين المخلوقات هي الفعل، ليس هناك فعل ومفعول، وخلق ومخلوق، بل المخلوق عين الخلق، والمفعول عين الفعل، ونحو ذلك. وابن كلاب ومن اتبعه وافقوهم على هذا وخالفوهم في إثبات الصفات، وكان ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي وغيرهم يثبتون مباينة الخالق للمخلوق وعلوه بنفسه فوق المخلوقات، وكان ابن كلاب وأتباعه يقولون: إن العلو على المخلوقات صفة عقلية تعلم بالعقل، وأما استواؤه على العرش فهو من الصفات السمعية الخبرية التي لا تعلم إلا بالخبر، وكذلك الأشعري يثبت الصفات بالشرع تارة وبالعقل أخرى، ولهذا يثبت العلو ونحوه مما تنفيه المعتزلة، وثبت الاستواء على العرش، ويرد على من تأوله بالاستيلاء ونحوه مما لا يختص بالعرش، بخلاف أتباع صاحب الإرشاد فإنهم سلكوا طريقة المعتزلة فلم يثبتوا الصفات إلا بالعقل، وكان الأشعري وأئمة أصحابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 يقولون: إنهم يحتجون بالعقل لما عرف ثبوته بالسمع، فالشرع هو الذي يعتمد عليه في أصول الدين والعقل عاضد له معاون. فصار هؤلاء يسلكون ما يسلكه من سلكه من أهل الكلام المعتزلة ونحوهم فيقولون: إن الشرع لا يعتمد عليه فيما وصف الله به وما لا يوصف، وإنما يعتمد في ذلك عندهم على عقلهم، ثم ما لم يثبته إما أن ينفوه وإما أن يقفوا فيه. ومن هنا طمع فيهم المعتزلة، وطمعت الفلاسفة في الطائفتين، بإعراض قلوبهم عما جاء به الرسول وعن طلب الهدى من جهته، وجعل هؤلاء يعارضون بين العقل والشرع كفعل المعتزلة والفلاسفة، ولم يكن الأشعري وأئمة أصحابه على هذا، بل كانوا موافقين لسائر أهل السنة في وجوب تصديق ماء جاء به الشرع مطلقاً، والقدح فيما يعارضه، ولم يكونوا يقولون: (إنه لا يرجح إلى السمع في الصفات) ولا يقولون: (الأدلة السمعية لا تفيد اليقين) بل كل هذا مما أحدثه المتأخرون الذين مالوا إلى الاعتزال والفلسفة من أتباعهم، وذلك لأن الأشعري صرح بأن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ليس موقوفاً على دليل الأعراض، وأن الاستدلال به على حدوث العالم من البدع المحرمة في دين الرسل، وكذلك غيره ممن يوافقه على نفي الأفعال القائمة به قد يقول: إن هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 الدليل دليل الأعراض صحيح، لكن الاستدلال به بدعة، ولا حاجة إليه، فهؤلاء لا يقولون: إن دلالة السمع موقوفة عليه، لكن المعتزلة القائلون بأن دلالة السمع موقوفة على صحته صرحوا بأنه لا يستدل بأقوال الرسول على ما يجب ويمتنع من الصفات، بل ولا الأفعال، وصرحوا بأنه لا يجوز الاحتجاج على ذلك بالكتاب والسنة، وإن وافق العقل، فكيف إذا خالفه؟ وهذه الطريقة هي التي سلكها من وافق المعتزلة في ذلك كصاحب الإرشاد وأتباعه، وهؤلاء يردون دلالة الكتاب والسنة، تارة يصرحون بأنا وإن علمنا مراد الرسول فليس قوله مما يجوز أن يحتج به في مسائل الصفات، لأن قوله إنما يدل بعد ثبوت صدقه الموقوف على مسائل الصفات، وتارة يقولون: إنما لم يدل لأنا لا نعلم مراده لتطرق الاحتمالات إلى الأدلة السمعية، وتارة يطعنون في الأخبار. فهذه الطرق الثلاث التي وافقوا فيها الجهمية ونحوهم من المبتدعة: أسقطوا بها حرمة الكتاب والرسول عندهم، وحرمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حتى يقولون: إنهم لم يحققوا أصول الدين كما حققناها، وربما اعتذروا عنهم بأنهم كانوا مشتغلين بالجهاد، ولهم من جنس هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 الكلام الذي يوافقون به الرافضة ونحوهم من أهل البدع، ويخالفون به الكتاب والسنة والإجماع، مما ليس هذا موضع بسطه، وإنما نبهنا على أصول دينهم وحقائق أقوالهم، وغايتهم أنهم يدعون في أصول الدين المخالفة للكتاب والسنة: المعقول والكلام، وكلامهم فيه من التناقض والفساد ما ضارعوا به أهل الإلحاد، فهم من جنس الرافضة: لا عقل صريح ولا نقل صحيح، بل منتهاهم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئاً من الكتاب والسنة، حتى في المسائل العملية والقضايا الفقهية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 ومع ذلك فهم لا يحتاجون من العقليات في أصول الدين إلى ما يحتاج إليه المعتزلة، فإن المعتزلة يزعمون أن النبوة لا تتم إلا بقولهم في التوحيد والعدل، فيجعلون التكذيب بالقدر من أصولهم العقلية، وكذلك نفي الصفات. وأما هؤلاء فالمشهور عندهم أنه إذا رؤيت المعجزة المعتبرة علم بالضرورة أنه تصديق للرسول، وإثبات الصانع أيضاً معلوم بالضرورة أو بمقدمات ضرورية، فالعقليات التي يعلم بها صحة السمع مقدمات قليلة ضرورية، بخلاف المعتزلة فإنهم طولوا المقدمات وجعلوها نظرية، فهم خير من المعتزلة في أصول الدين من وجوه كثيرة، وإن كان المعتزلة خيراً منهم من بعض الوجوه. وأبو الحسن الأشعري لما رجع عن مذهب المعتزلة سلك طريقة ابن كلاب، ومال إلى أهل السنة والحديث، وانتسب إلى الإمام أحمد، كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها، كـ الإبانة والموجز والمقالات وغيرها، وكان مختلطاً بأهل السنة والحديث كاختلاط المتكلم بهم، بمنزلة ابن عقيل عند متأخريهم، لكن الأشعري وأئمة أصحابه أتبع لأصول الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة من مثل ابن عقيل في كثير من أحواله، وممن اتبع ابن عقيل كـ أبي الفرج ابن الجوزي في كثير من كتبه، وكان القدماء من أصحاب أحمد كـ أبي بكر عبد العزيز وأبي الحسن التميمي وأمثالهما يذكرونه في كتبهم على طريق ذكر الموافق للسنة في الجملة، ويذكرون ماذكره من تناقض المعتزلة، وكان بين التميميين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 وبين القاضي أبي بكر وأمثاله من الأئتلاف والتواصل ما هو معروف، وكان القاضي أبو بكر يكتب أحياناً في أجوبته في المسائل محمد بن الطيب الحنبلي ويكتب أيضاً الأشعري، ولهذا توجد أقوال التميميين مقاربة لأقواله وأقوال أمثاله المتبعين لطريقة ابن كلاب، وعلى العقيدة التي صفنها أبو الفضل التميمي اعتمد أبو بكر البيهقي في الكتاب الذي صنفه في مناقب الإمام أحمد لما أراد أن يذكر عقيدته، وهذا بخلاف أبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن بطة وأبي عبد الله بن حامد وأمثالهم، فإنهم مخالفون لأصل قول الكلابية. والأشعري وأئمة أصحابه، كـ أبي الحسن الطبري وأبي عبد الله بن مجاهد الباهلي والقاضي أبي بكر. متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليد، وإبطال تأويلها، وليس له في ذلك قولان أصلاً، ولم يذكر أحد عن الأشعري في ذلك قولين أصلاً، بل جميع من يحكي المقالات من أتباعه وغيرهم يذكر أن ذلك قوله، ولكن لأتباعه في ذلك قولان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وأول من اشتهر عنه نفيها أبو المعالي الجويني، فإنه نفى الصفات الخبرية، وله في تأويلها، ففي الإرشاد أولها، ثم إنه في (الرسالة النظامية) رجع عن ذلك، وحرم التأويل. وبين إجماع السلف على تحريم التأويل. واستدل بإجماعهم على أن التأويل محرم، ليس بواجب ولا جائز، فصار من سلك طريقته ينفي الصفات الخبرية، ولهم في التأويل قولان، وأما الأشعري وأئمة أصحابه فإنهم مثبتون لها، يردون على من ينفيها أو يقف فيها، فضلاً عمن يتأولها. أقوال السلف في الأفعال الاختيارية بالله تعالى وأما مسألة قيام الأفعال الاختيارية به: فإن ابن كلاب والأشعري وغيرهما ينفونها، وعلى ذلك بنوا قولهم في مسألة القرآن، وبسبب ذلك وغيره تكلم الناس فيهم في هذا الباب بما هو معروف في كتب أهل العلم، ونسبوهم إلى البدعة وبقايا بعض الاعتزال فيهم، وشاع النزاع في ذلك بين عامة المنتسبين إلى السنة من أصحاب أحمد وغيرهم. وقد ذكر أبو بكر عبد العزيز في كتاب الشافعي عن أصحاب أحمد في معنى أن القرآن غير مخلوق قولين مبنيين على هذا الأصل: أحدهما: أنه قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته والثاني: أنه لم يزل متكلماً إذا شاء. وكذلك ذكر أبو عبد الله بن حامد قولين، وممن كان يوافق على نفي ما يقوم به من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته - كقول ابن كلاب - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 أبو الحسن التميمي وأتباعه والقاضي أبو يعلى وأتباعه كـ ابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وأمثالهم، وإن كان في كلام القاضي ما يوافق هذه تارة وهذا تارة. وممن كان يخالفهم في ذلك أبو عبد الله بن حامد، وأبو بكر عبد العزيز وأبو عبد الله بن بطة وأبو عبد الله بن منده، وأبو نصر السجزي ويحيى بن عمار السجستاني وأبو إسماعيل الأنصاري وأمثالهم. والنزاع في هذا الأصل بين أصحاب مالك وبين أصحاب الشافعي وبين أصحاب أبي حنيفة، وبين أهل الظاهر أيضاً، فداود بن علي صاحب المذهب وأئمتهم على إثبات ذلك، وأبو محمد بن حزم على المبالغة في إنكار ذلك، وكذلك أهل الكلام، فالهشامية والكرامية على إثبات ذلك، والمعتزلة على نفي ذلك، وقد ذكر الأشعري في المقالات عن أبي معاذ التومني وزهير الأثري وغيرهما إثبات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 ذلك، وكذلك المتفلسفة، فحكوا عن أساطينهم - الذين كانوا قبل أرسطو أنهم كانوا يثبتون ذلك، وهو قول أبي البركات صاحب المعتبر وغيره من متأخريهم، وأما أرسطو وأتباعه - كالفارابي وابن سينا - فينفون ذلك، وقد ذكر أبو عبد الله الرازي عن بعضهم أن إثبات ذلك يلزم جميع الطوائف وإن أنكروه، وقرر ذلك. وكلام السلف والأئمة ومن نقل مذهبهم في هذا الأصل كثير يوجد في كتب التفسير والأصول. قال إسحاق بن راهويه: حدثنا بشر بن عمر: سمعت غير واحد من المفسرين يقول: الرحمن على العرش استوى: أي ارتفع. وقال البخاري في صحيحه: (قال أبو العالية استوى إلى السماء: ارتفع) ، قال: (وقال مجاهد: استوى: علا على العرش) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وقال الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره المشهور: (وقال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: (استوى إلى السماء: ارتفع إلى السماء) وكذلك قال الخليل بن أحمد. وروى البيهقي في كتاب الصفات قال: (قال الفراء: ثم استوى أي صعد، قاله ابن عباس، وهو كقولك للرجل: كان قاعداً فاستوى قائماً) . وروى الشافعي في مسنده عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن يوم الجمعة: وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش» . والتفاسير المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدحيم، وتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم، وتفسير أبي بكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 بن المنذر، وتفسير أبي بكر عبد العزيز، وتفسير أبي الشيخ الأصبهاني، وتفسير أبي بكر بن مردويه، وما قبل هؤلاء التفاسير مثل تفسير أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وبقي بن مخلد وغيرهم، ومن قبلهم مثل تفسير عبد بن حميد وتفسير سنيد وتفسير عبد الرازق، ووكيع بن الجراح فيها من هذا الباب الموافق لقول المثبتين مالا يكاد يحصى، وكذلك الكتب المصنفة في السنة التي فيها آثار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة التابعين. وقال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائله المعروفة التي نقلها عن أحمد وإسحاق وغيرهما، وذكر معها من الآثار عن النبي صلى الله عيه وسلم والصحابة وغيرهم ما ذكر، وهو كتاب كبير صنفه على طريقة الموطأ ونحوه من المصنفات، قال في آخره في الجامع: (باب القول في المذهب: هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع، خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 جالسنا وأخذنا عنهم العلم) وذكر الكلام في الإيمان والقدر والوعيد والإمامة وما أخبر به الرسول من أشراط الساعة وأمر البرزخ والقيامة وغير ذلك - إلى أن قال: (وهو سبحانه بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان، ولله عرش، وللعرش حملة يحملونه، وله حد، والله أعلم بحده، والله على عرشه عز ذكره وتعالى جده ولا إله غيره، والله تعالى سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، يقظان لا يسهو، رقيب لا يغفل، يتكلم ويتحرك ويسمع ويبصر وينظر ويقبض ويبسط ويفرح ويحب ويكره ويبغض ويرضى ويسخط ويغضب، ويرحم ويغفو ويغفر ويعطي ويمنع، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، كيف شاء، وكما شاء، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير) - إلى أن قال: (ولم يزل الله متكلماً عالماً، فتبارك الله أحسن الخالقين) . وقال الفقيه الحافظ أبو بكر الأثرم في كتاب السنة، وقد نقله عنه الخلال في السنة: (حدثنا إبراهيم بن الحارث - يعني العبادي - حدثني الليث بن يحيى، سمعت إبراهيم بن الأشعث، قال أبو بكر - هو صاحب الفضيل - سمعت الفضيل بن عياض: يقول: (ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف، لأن الله وصف نفسه فأبلغ فقال: {قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 أحد} (الإخلاص) فلا صفة أبلغ مما وصف الله عز وجل به نفسه، وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الاطلاع، كما شاء أن ينزل، وكما شاء أن يباهي، وكما شاء أن يطلع، وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهم أن كيف وكيف وإذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل أنت: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء) . وقد ذكر هذا الكلام الأخير عن الفضيل بن عياض البخاري في كتاب خلق الأفعال، هو وغيره من أئمة السنة، وتلقوه بالقبول. وقال البخاري: (وقال الفضيل بن عياض: إذا قال لك الجهمي (أنا كافر برب يزول عن مكانه) فقل: (أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء) . قال البخاري: (وحدث يزيد بن هارون عن الجهمية فقال: (من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما تقرر في قلوب العامة فهو جهمي) . كلام الخلال في كتاب السنة وقال الخلال في كتاب السنة: (أخبرني جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا أحمد ابن محمد المقدمي، حدثنا سلميان بن حرب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 قال: سأل بشر بن السري حماد بن زيد فقال: يا أبا إسماعيل، الحديث الذي جاء «ينزل الله إلى السماء الدنيا» يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد بن زيد، ثم قال: هو في مكانه، يقرب من خلقه كيف يشاء) . قول الأشعري في كتابه المقالات وقال أبو الحسن الأشعري في كتابه المقالات، لما ذكر مقالة أهل السنة وأهل الحديث فقال: (ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر؟» كما جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (النساء: 59) ، ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين، وأن لا يحدثوا في دينهم ما لم يأذن الله، ويقرون بأن الله يجيء يوم القيامة، كما قال: {وجاء ربك والملك صفا صفا} (الفجر: 22) وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} (ق: 16) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 قال الأشعري: (وبكل ما ذكرنا من أقوالهم نقول، وإليه نذهب) . أقوال أهل السنة: لـ أبي عثمان الصابوني في رسالته وقال أبو عثمان إسماعيل الصابوني الملقب بشيخ الإسلام في رسالته المشهورة عنه في السنة، وقد ذكر أبو القاسم التميمي في كتاب الحجة في بيان المحجة له، قال: (ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل، ولا تكييف؟، بل يثبتون له ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله تعالى، وكذلك يثبتون ما أنزل الله في كتابه من ذكر المجيء والإتيان في ظلل من الغمام والملائكة، وقوله عز وجل: {وجاء ربك والملك صفا صفا} (الفجر: 22) . وقال: (سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعت إبراهيم بن أبي طالب يقول: سمعت أحمد بن إبراهيم أبا عبد الله الرباطي يقول: حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ذات يوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وحضره إسحاق بن إبراهيم - يعني ابن راهويه - فسئل عن حديث النزول، صحيح هو؟ قال: نعم، قال، فقال له بعض قواد عبد الله: يا أبا يعقوب، أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال نعم، قال: كيف ينزل؟ فقال له إسحاق: أثبته فوق حتى أصف لك النزول، فقال الرجل: أثبته فوق، فقال إسحاق: قال الله عز وجل: {وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر: 22] فقال له الأمير عبد الله: يا أبا يعقوب هذا يوم القيامة، فقال إسحاق: أعز الله الأمير ‍‍ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم؟ . وروى بإسناد عن إسحاق بن إبراهيم قال: قال لي الأمير عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب، هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا» كيف ينزل؟ قال: قلت: إعز الله الأمير؟ لا يقال لأمر الرب كيف؟ إنما ينزل بلا كيف. وبإسناد عن عبد الله بن المبارك: أنه سأله سائل عن النزول ليلة النصف من شعبان، فقال عبد الله: يا ضعيف، ليلة النصف؟ ينزل في كل ليلة، فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن، كيف ينزل؟ أليس يخلو ذلك المكان؟ فقال عبد الله بن المبارك: ينزل كيف شاء) . وقال أبو عثمان الصابوني: (فلما صح خبر النزول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النزول على ماقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعتقدوا تشبهاً له بنزول خلقه، وعلموا وعرفوا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الرب تبارك وتعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق، تعالى الله عما يقول المشبهة والمعطلة علواً كبيراً، ولعنهم لعناً كثيراً) . قول البيهقي في كتابه الأسماء والصفات وروى الحافظ ابو بكر البيهقي في كتابه الأسماء والصفات (حدثنا أبو عبد الله الحافظ، سمعت أبا زكريا العنبري، سمعت أبا العباس - يعني السراج - سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: دخلت يوماً على طاهر بن عبد الله بن طاهر، وعنده منصور بن طلحة، فقال لي: يا أبا يعقوب، إن الله ينزل كل ليلة؟ فقلت له: نؤمن به، فقال له طاهر: ألم أنهك عن هذا الشيخ؟ ما دعاك إلى أن تسأله عن مثل هذا؟ قال إسحاق: فقلت له: إذا أنت لم تؤمن أن لك رباً يفعل ما يشاء تحتاج أن تسألني) . قال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، سمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانىء، سمعت أحمد بن سلمة يقول، سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: جمعني وهذا المبتدع - يعني إبراهيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 بن أبي صالح - مجلس الأمير عبد الله بن طاهر فسألني الأمير عن أخبار النزول، فسردتها فقال إبراهيم: كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء، فقلت: آمنت برب يفعل ما يشاء، فرضي عبد الله كلامي، وأنكر على إبراهيم) . قال: (هذا معنى الحكاية) . وروى أبو إسماعيل الأنصاري بإسناده عن حرب الكرماني، قال: (قال إسحاق بن إبراهيم: لا يجوز الخوض في أمر الله تعالى، كما يجوز الخوض في فعل المخلوقين، لقوله تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (الأنبياء: 23) ولا يجوز لأحد أن يتوهم على الله تعالى بصفاته وأفعاله - يعني كما نتوهم فيهم - وإنما يجوز النظر والتفكر في أمر المخلوقين، وذلك أنه يمكن أن يكون الله موصوفاً بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثها إلى السماء الدنيا كما يشاء، ولا يسأل: كيف نزوله؟ لأن الخالق يصنع ما يشاء كما يشاء. وعن حرب قال: قال إسحاق بن إبراهيم: ليس في النزول وصف) . قول الخلال في كتاب السنة وقال أبو بكر الخلال في كتاب السنة (أخبرني يوسف بن موسى أن أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - قيل له: أهل الجنة ينظرون إلى ربهم عز وجل ويكلمونه ويكلمهم؟ قال: نعم، ينظر وينظرون إليه، ويكلمهم ويكلمونه، كيف شاء وإذا شاء) . قال: (وأخبرني عبد الله بن حنبل، قال: أخبرني أبي حنبل بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 إسحاق، قال: قال عمي: نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء وكما شاء، بلا حد ولا صفة يبلغها واصف، أو يحده أحد، فصفات الله له ومنه، وهو كما وصف نفسه {لا تدركه الأبصار} بحد ولا غاية {وهو يدرك الأبصار} (الأنعام: 103) هو عالم الغيب والشهادة، وعلام الغيوب، ولا يدركه وصف واصف وهو كما وصف نفسه، وليس من الله من شيء محدود، ولا يبلغ علم قدرته أحد، غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (الشورى: 11) وكان الله قبل أن يكون شيء، والله هو الأول وهو الآخر، ولا يبلغ أحد حد صفاته. قال: وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدثهم، قال: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى «إن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا» ، و «إن الله يرى» و «إن الله يضع قدمه» وما أشبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 هذه الأحاديث، فقال أبو عبد الله: نؤمن بها، ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى - أي لا نكيفها ولا نحرفها بالتأويل، فنقول: معناها كذا - ولا نرد منها شيئاً، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، إذا كان بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية، ليس كمثله شيء. وقال حنبل في موضع آخر. عن أحمد. قال: (ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه، قد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه، فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء. فنعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه) . قال: (فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته. وصفاته منه وله، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك. ولا تبلغه صفة الواصفين، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت، وما وصف به نفسه من كلام ونزول، وخلوه بعبده يوم القيامة، ووضعه كتفه عليه - هذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة، والتحديد في هذا كله بدعة، والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه: سميع، بصير، لم يزل متكلماً عالماً غفوراً، عالم الغيب والشهادة، علام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 الغيوب. فهذه صفات وصف الله بها نفسه، لا تدفع ولا ترد، وهو على العرش بلا حد، كما قال تعالى: {ثم استوى على العرش} (الأعراف: 45) كيف شاء، المشيئة إليه عز وجل، والاستطالة له، ليس كمثله شيء، وهو خالق كل شيء، وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير، قول إبراهيم لأبيه، {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} (مريم: 42) فنثبت أن الله سميع بصير، صفاته منه، لا نتعدى القرآن والحديث، والخبر بضحك الله، ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، وبتثبيت القرآن، لا يصفه الواصفون، ولا يحده أحد، تعالى الله عما تقوله الجهمية والمشبهة. قلت له: والمشبهة ما يقولون؟ قال: من قال بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، فقد شبه الله بخلقه، وهذا يحده، وهذا كلام سوء، وهذا محمدود، والكلام في هذا لا أحبه. وقال محمد بن مخلد: قال أحمد: نحن نصف الله بما وصف نفسه، وبما وصفه به رسوله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وقال يوسف بن موسى: إن أبا عبد الله قيل له: ولا يشبه ربنا شيئاً من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه؟ قال: نعم، ليس كمثله شيء) . فقول أحمد: (إنه ينظر إليهم ويكلمهم كيف شاء وإذا شاء) وقوله: (هو على العرش كيف شاء وكما شاء) وقوله: (هو على العرش بلا حد كما قال: {ثم استوى على العرش} كيف شاء، المشيئة إليه، والاستطاعة له، ليس كمثله شيء) . قلت: وهو خالق كل شيء، وهو كما وصف نفسه سميع بصير شيء يبين أن نظره وتكليمه وعلوه على العرش واستواءه على العرش مما يتعلق بمشيئته واستطاعته. وقوله: (بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد) نفى به إحاطة علم الخلق به، وأن يحدوه أو يصفون على ما هو عليه، إلا بما أخبر عن نفسه، ليبين أن عقول الخلق لا تحيط بصفاته، كما قال الشافعي في خطبة الرسالة: (الحمد الله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه) ولهذا قال أحمد: (لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية) فنفى أن يدرك له حد أو غاية، وهذا أصح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 القولين في تفسير الإدراك، وقد بسط الكلام على شرح هذا الكلام في غير هذا الموضع. وما في الكلام من نفي تحديد الخلق وتقديرهم لربهم وبلوغهم صفته لا ينافي ما نص عليه أحمد وغيره من الأئمة، كما ذكره الخلال أيضاً، قال: (حدثنا أبو بكر المروزي، قال: سمعت أبا عبد الله - لما قيل له: روى علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك، أنه قيل له: كيف نعرف الله عز وجل؟ قال: على العرش بحد - قال: قد بلغني ذلك عنه، وأعجبه، ثم قال أبو عبد الله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} (البقرة: 210) ثم قال: {وجاء ربك والملك صفا صفا} (الفجر: 22) . قال الخلال: وأنبأنا محمد بن علي الوراق، حدثنا أبو بكر الأثرم، حدثني محمد بن إبراهيم القيسي، قال: قلت لأحمد بن حنبل: يحكى عن ابن المبارك - وقيل له: كيف تعرف ربنا؟ - قال: في السماء السابعة على عرشه بحد، فقال أحمد: هكذا هو عندنا. وأخبرني حرب بن إسماعيل قال: قلت لإسحاق - يعني ابن راهويه -: هو على العرش بحد؟ قال: نعم بحد. وذكر عن ابن المبارك قال: هو على عرشه بائن من خلقه بحد. قال: وأخبرنا المروزي قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: قال الله تبارك وتعالى: {الرحمن على العرش استوى} (طه: 5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة، وفي قعور البحار ورؤوس الآكام وبطون الأودية، وفي كل موضع، كما يعلم علم ما في السماوات السبع وما فوق العرش، أحاط بكل شيء علماً، فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات البر والبحر ولا رطب ولا يابس إلا قد عرف ذلك كله وأحصاه، فلا تعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره) . فهذا مثاله مما نقل عن الأئمة، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبينوا أن ما أثبتوه له من الحد لا يعلمه غيره، كما قال مالك وربيعة وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، فبين أن كيفية استوائه مجهولة للعباد، فلم ينفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر، ولكن نفوا علم الخلق به، وكذلك مثل هذا في كلام عبد العزير بن عبد الله بن الماجشون وغير واحد من السلف، والأئمة ينفون علم الخلق بقدره وكيفيته. قول عبد العزيز الماجشون وبنحو ذلك قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون في كلامه المعروف، وقد ذكره ابن بطة في الإبانة، وأبو عمر الطلمنكي في كتابه في الأصول، ورواه أبو بكر الأثرم، قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 (حدثنا عبد الله بن صالح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة أنه قال: (أما بعد، فقد فهمت ما سألت عنه فيما تتابعت فيه الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير، وكلت الألسن عن تفسير صفته، وانحسرت العقول عن معرفة قدره) - إلى أن قال: (بأنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعلم من يموت ويبلى قدر من لا يموت ولا يبلى؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حداً أو منتهى يعرفه عارف، أو يحد قدره واصف؟ الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته: عجزها عن تحقيق صفة ما لم يسصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها، إذا لم تعرف منها قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف؟ هل تستدل بذلك على شيء من طاعته؟ أو تنزجر به عن شيء من معصيته؟ ـ وذكر كلاما طويلا، إلى أن قال ـ: فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فقد استهوته الشياطين في الأرض حيران، فصار يستدل - بزعمه - على جحد ما وصف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 الرب وسمى من نفسه بأن قال: لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا، فعمى عن البين بالخفي، يجحد ما سمى الرب من نفسه، بصمت الرب عما لم يسم، فلم يزل يملي له الشيطان، حتى جحد قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة} {إلى ربها ناظرة} (القيامة: 22 -23) فقال: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحد - والله - أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر في وجهه في مقعد صدق عند مليك مقتدر، قد قضى أنهم لا يموتون، فهم بالنظر إليه ينضرون) وذكر كلاماً طويلاً كتب في غير هذا الموضع. قول آخر لالخلال في السنة قول آخر لالخلال في السنة وقال الخلال في السنة: (أخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله يقول: (من زعم أن الله لم يكلم موسى فقد كفر بالله، وكذب القرآن، ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، يستتاب من هذه المقالة، فإن تاب وإلا ضربت عنقه) . قال: (وسمعت أبا عبد الله قال: {وكلم الله موسى} (النساء: 164) فأثبت الكلام لموسى كرامة منه لموسى، ثم قال تعالى يؤكد كلامه: {تكليما} (النساء: 164) . قلت لأبي عبد الله: (الله عز وجل يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم، فمن يقضي بين الخلائق إلا الله عز وجل؟ يكلم عبده ويسأله، الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 متكلم، لم يزل الله يأمر بما يشاء ويحكم، وليس به عدل ولا مثل، كيف شاء، وأنى شاء) . قال الخلال: (أخبرنا محمد بن علي بن بحر أن يعقوب بن بختان حدثهم، أن أبا عبد الله سئل عمن زعم أن الله لم يتكلم بصوت؟ فقال: بلى، تكلم بصوب، وهذه الأحاديث كما جاءت نرويها، لكل حديث وجه، يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر. حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله - يعني ابن مسعود - قال: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجداً، حتى إذا فزغ عن قلوبهم - قال: سكن عن قلوبهم - نادى أهل السماء: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال: كذا وكذا) . قال الخلال: (وأنبأنا أبو بكر المروزي: سمعت أبا عبد الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 - وقيل له: إن عبد الوهاب قد تكلم وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام - فتبسم أبو عبد الله وقال (ما أحسن ما قال! عافاه الله!) . وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم موسى لم يتكلم بصوت، فقال أبي: بلى، تكلم تبارك وتعالى بصوت، وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت، وحديث ابن مسعود: (إذا تكلم الله بالوحي سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان) قال أبي: والجهمية تنكره، قال أبي: وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يتكلم فهو كافر، إنما نروي هذه الأحاديث كما جاءت) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 قلت: وهذا الصوت الذي تكلم الله به ليس هو الصوت المسموع من العبد، بل ذلك صوته كما هو معلوم لعامة الناس، وقد نص على ذلك الأئمة: أحمد وغيره، فالكلام المسموع منه هو كلام الله، لا كلام غيره، كما قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} (التوبة: 6) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي» رواه أبو داود وغيره. وقال صلى الله عليه وسلم: «زينوا القرآن بأصواتكم» ، وقال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» . ذكر الخلال عن إسحاق بن إبراهيم قال لي أبو عبد الله يوماً - وكنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 سألته عنه: تدري ما معنى (من لم يتغن بالقرآن) ؟ قلت: لا - قال: هو الرجل يرفع صوته، فهذا معناه، إذا رفع صوته لقد تغنى به. وعن صالح بن أحمد أنه قال لأبيه: (زينوا القرأن بأصوتكم) فقال: التزيين أن يحسنه. وعن الفضل بن زياد قال: سألت أبا عبد الله عن القراءة؟ فقال: يحسنه بصوته من غير تكلف. وقال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن القراءة بالألحان، فقال: كل شيء محدث فإنه لا يعجبني، إلا أن يكون صوت الرجل لا يتكلفه. وقال القاضي أبو يعلى: هذا يدل من كلامه على أن صوت القارىء ليس هو الصوت الذي تكلم الله به، لأنه أضافه إلى القارىء الذي هو طبعه من غير أن يتعلم الألحان. قول البخاري في كتاب خلق أفعال العباد وقال أبو عبد الله البخاري - صاحب الصحيح - في كتاب خلق الأفعال: يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وليس هذا لغير الله عز وجل» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 قال أبو عبد الله البخاري: (وفي هذا دليل على أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق، لأن صوت الله يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا، قال: {فلا تجعلوا لله أندادا} (البقرة: 22) فليس لصفة الله ند ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين) . ثم روى بإسناده حديث عبد الله بن أنيس - الذي استشهد به في غير موضع من الصحيح، تارة يجزم به، وتارة يقول: (ويذكر عن عبد الله بن أنيس) - قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة» ، وذكر الحديث - الذي رواه في صحيحه - عن أبي سعيد، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 يقول الله يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: يا رب، ما بعث النار؟ قال: من كل ألف - أراه قال: تسعمائة وتسعة وتسعين - فحينئذ تضع الحامل حملها» {وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} (الحج: 2) وذكر حديث ابن مسعود - الذي استشهد به أحمد - وذكر الحديث الذي رواه في صحيحه عن عكرمة: سمعت أبا هريرة يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله: كأنه سلسلة على صفوان» ، فإذا {فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} (سبأ: 23) وذكر حديث ابن عباس المعروف من حديث الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن نفر من الأنصار - وقد رواه احمد ومسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 في صحيحه وغيرهما، وساقه البخاري من طريق ابن إسحاق عنه - «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ما تقولون في هذا النجم الذي يرمى به؟ قالوا: كنا يا رسول الله نقول حين رأيناه يرمى بها: مات ملك، ولد مولود، مات مولود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك كذلك، ولكن الله إذا قضى في خلقه أمراً يسمعه أهل العرش فيسبحون، فيسبح من تحتهم بتسبيحهم، فيسبح من تحت ذلك، فلم يزل التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، حتى يقول بعضهم لبعض: لم سبحتم؟ فيقولون: سبح من فوقنا فسبحنا بتسبيحهم، فيقولون: أفلا تسألون من فوقكم مم سبحوا؟ فيسألونهم، فيقولون: قضى الله في خلقه كذا وكذا، الأمر الذي كان، فيهبط الخبر من سماء إلى سماء، حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فيتحدثون به، فتسترقه الشياطين بالسمع، على توهم منهم واختلاف، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 ثم يأتون به إلى الكهان من أهل الأرض، فيحدثونهم، فيخطئون ويصيبون، فتحدث به الكهان، ثم إن الله حجب الشياطين عن السماء بهذا النجوم، فانقطعت الكهانة اليوم، فلا كهانة» . وقال البخاري أيضاً: (ولقد بين نعيم بن حماد أن كلام الرب ليس بخلق، وأن العرب لا تعرف الحي من الميت إلا بالفعل، فمن كان له فعل فهو حي، ومن لم يكن له فعل فهو ميت، وأن أفعال العباد مخلوقة، فضيق عليه حتى مضى لسبيله، وتوجع أهل العلم لما نزل به) . قال: (وفي اتفاق المسلمين دليل على أن نعيماً ومن نحا نحوه ليس بمارق، ولا مبتدع، بل البدع والترؤس بالجهل بغيرهم أولى، إذ يفتون بالآراء المختلفة مما لم يأذن به الله) . كلام المحاسبي في فهم القرآن وقال الحارث بن أسد المحاسبي في كتاب فهم القرآن لما تكلم على ما يدخل في النسخ وما لا يدخل فيه النسخ، وما يظن أنه متعارض من الآيات، وذكر عن أهل السنة في الإرادة والسمع والبصر قولين في مثل قوله: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} (الفتح: 27) وقوله: {وإذا أردنا أن نهلك قرية} (الإسراء: 16) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 وقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (يس: 82) وكذلك قوله: {إنا معكم مستمعون} (الشعراء: 15) وقوله: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} (التوبة: 105) ونحو ذلك، فقال: (قد ذهب قوم من أهل السنة إلى أن الله استماعاً حادثاً في ذاته، وذكر أن هؤلاء وبعض أهل البدع تأولوا ذلك في الإرادة على الحوادث. قال: (فأما من ادعى السنة، فأراد إثبات القدر، فقال: إرادة الله تحدث إن حدثت من تقدير سابق الإرادة، وأما بعض أهل البدع فزعموا أن الإرادة إنما هي خلق حادث، وليست مخلوقة، ولكن بها كون الله المخلوقين) . قال: (وزعموا أن الخلق غير المخلوق، وأن الخلق هو الإرادة، وأنه ليست بصفة لله من نفسه) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 قال: (ولذلك قال بعضهم: إن رؤيته تحدث) . واختار الحارث المحاسبي القول الآخر، وتأول المنصوص على أن الحادث هو وقت المراد لا نفس الإرادة، قال: وكذلك قوله: {إنا معكم مستمعون} وقوله: {فسيرى الله عملكم} تأوله على أن المراد حدوث المسموع والمبصر، كما تأول قوله تعالى: {حتى نعلم} (محمد: 31) حتى يكون المعلوم بغير حادث علم في الله، ولا بصر، ولا سمع، ولا معنى حدث في ذات الله، تعالى عن الحوادث في نفسه) . كلام محمد بن الهيصم في جمل الكلام وقال محمد بن الهيصم في كتاب جمل الكلام له: لما ذكر جمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 الكلام في القرآن، وأنه مبني على خمسة فصول: أحدها: أن القرآن كلام الله، فقد حكى عن جهم بن صفوان أن القرآن ليس كلام الله على الحقيقة، إنما هو كلام خلقه الله، فنسب إليه، كما قيل: سماء الله، وأرض الله، وكما قيل: بيت الله، وشهر الله، وأما المعتزلة فإنهم أطلقوا القول بأنه كلام الله على الحقيقة، ثم وافقوا جهماً في المعنى، حيث قالوا: كلام الله خلقه بائناً منه، وقال عامة المسلمين: إن القرآن كلام الله على الحقيقة، وإنه تكلم به. والفصل الثاني في أن القرآن غير قديم، فإن الكلابية وأصحاب الأشعري زعموا أن الله لم يزل يتكلم بالقرآن، وقال أهل الجماعة: بل إنما تكلم بالقرآن حيث خاطب به جبريل، وكذلك سائر الكتب. والفصل الثالث: أن القرآن غير مخلوق، فإن الجهمية والنجارية والمعتزلة زعموا أنه مخلوق، وقال أهل الجماعة: إنه غير مخلوق. والفصل الرابع: أنه غير بائن من الله، فإن الجهمية وأشياعهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 من المعتزلة قالوا إن القرآن بائن من الله، وكذلك سائر كلامه، وزعموا أن الله خلق كلاماً في الشجرة فسمعه موسى، وخلق كلاماً في الهواء فسمعه جبريل، ولا يصح عندهم أن يوجد من الله كلام يقوم به في الحقيقة، وقال أهل الجماعة: بل القرآن غير بائن من الله، وإنما هو موجود منه، وقائم به) . وذكر محمد بن الهيصم في مسألة الإرادة والخلق والمخلوق وغير ذلك ما يوافق ما ذكره هنا من إثبات الصفات الفعلية القائمة بالله التي ليست قديمة ولا مخلوقة. كلام الدارمي في النقض على بشر المريسي وقال عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه المعروف بنقض عثمان بن سعيد، على بشر المريسي الجهمي العنيد فما افترى على الله في التوحيد قال: (وادعى المعارض أيضاً: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل فيقول: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من داع؟» قال: (فادعى أن الله لا ينزل بنفسه، إنما ينزل أمره ورحمته، وهو على العرش، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 وبكل مكان من غير زوال، لأنه الحي القيوم، والقيوم بزعمه من لا يزول) . قال: (فيقال لهذا المعارض: وهذا أيضاً من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان، لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان، فما بال النبي صلى الله عليه وسلم يحد لنزوله الليل دون النهار، ويؤقت من الليل شطره أو الأسحار؟ أفأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار، أو يقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولا: هل من داع فأجيب؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطي؟ فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان إلى الإجابة والاستغفار بكلامهما دون الله، وهذا محال عند السفهاء، فكيف عند الفقهاء؟ قد علمتم ذلك، ولكن تكابرون، وما بال رحمته وأمره ينزلان من عنده شطر الليل، ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر، ثم يرفعان؟ لأن رفاعة يرويه يقول في حديثه «حتى ينفجر الفجر» . قد علمتم، إن شاء الله، أن هذا التأويل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 أبطل باطل، لا يقبله إلا كل جاهل. وما دعواه أن تفسير (القيوم) الذي لا يزول عن مكانه ولا يتحرك، فلا يقبل منك هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن بعض أصحابه أو التابعين، لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء، ويتحرك إذا شاء، ويهبط ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط، ويقوم ويجلس إذا شاء، لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك، كل حي متحرك لا محالة، وكل ميت غير متحرك لا محالة، ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول رب العزة إذ فسر نزوله مشروحاً منصوصاً، ووقت لنزوله مخصوصاً، لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبساً ولا عويصاً) . قال: (ثم أجمل المعارض جميع ما ينكر الجهمية من صفات الله تعالى وذاته المسماة في كتابه، وفي آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعد منها بضعاً وثلاثين صفة نسقاً واحداً، يحكم عليها ويفسرها بما حكم المريسي وفسرها وتأولها حرفاً حرفاً، خلاف ما عنى الله وخلاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 ما تأولها الفقهاء الصالحون، لا يعتمد في أكثرها إلا على المريسي، فبدأ منها بالوجه، ثم بالسمع، والبصر، والغضب، والرضا، والحب، والبغض، والفرح، والكره، والضحك، والعجب، والسخط، والإرادة، والمشيئة، والأصابع، والكف، والقدمين. وقوله: {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص: 88) {فأينما تولوا فثم وجه الله} (البقرة: 115) {وهو السميع البصير} (الشورى: 11) و {خلقت بيدي} (ص: 75) {وقالت اليهود يد الله مغلولة} (المائدة: 64) و {يد الله فوق أيديهم} (الفتح: 10) {والسماوات مطويات بيمينه} (الزمر: 67) وقوله: {فإنك بأعيننا} (الطور: 21) و {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} (البقرة: 210) {وجاء ربك والملك صفا صفا} (الفجر: 22) {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} (الحاقة: 17) و {الرحمن على العرش استوى} (طه: 5) و {الذين يحملون العرش ومن حوله} (غافر: 7) . وقوله {ويحذركم الله نفسه} (آل عمران: 30: 28) و {ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم} (آل عمران: 77) و {كتب ربكم على نفسه الرحمة} (الأنعام: 54) و {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} (المائدة: 116) و {الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} (البقرة: 22) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 قال: (عمد المعارض إلى هذه الصفات والآيات فنسقها ونظم بعضها بعض، كما نظمها شيئاً بعد شيء، ثم فرقها أبواباً في كتابه، وتلطف بردها بالتأويل كتلطف الجهمية، معتمداً فيها على تفسير الزائغ الجهمي بشر بن غياث المريسي دون من سواه، مستتراً عند الجهال بالتشنع بها على قوم يؤمنون بها، ويصدقون الله ورسوله فيها، بغير تكييف ولا تمثال، فزعم أن هؤلاء المؤمنين بها يكيفونها ويشبهونها بذوات أنفسهم، وأن العلماء بزعمه قالوا: ليس في شيء منها اجتهاد رأي، ليدرك كيفية ذلك، أو يشبه شيء منها بشيء مما هو في الخلق موجود) . قال: (وهذا خطأ، لما أن الله ليس كمثله شيء، فكذلك ليس ككيفيته شيء. قال: أبو سعيد: فقلنا لهذا المعارض المدلس بالتشنيع: أما قولك: إن كيفية هذه الصفات وتشبيهها بما هو في الخلق خطأ، فإنا لا نقول: إنه خطأ، كما قلت، بل هو عندنا كفر، ونحن لكيفيتها وتشبيهها بما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 هو في الخلق موجود أشد أنفاً منكم، غير أنا - كما لا نشبهها ولا نكيفها - لا نكفر بها ولا نكذبها، ولا نبطلها بتأويل الضلال، كما ابطلها إمامك المريسي في أماكن من كتابك سنبينها لمن غفل عنها ممن حواليك من الأغمار. وأما ما ذكرت من اجتهاد الرأي في تكييف صفات الله فإنا لا نجيز اجتهاد الرأي في كثير من الفرائض والأحكام التي نراها بأعيننا، وتسمع في آذاننا، فكيف في صفات الله التي لم ترها العيون، وقصرت عنها الظنون؟ غير أنا لا نقول فيها كما قال إمامك المريسي: إن هذه الصفات كلها كشيء واحد، وليس السمع منه غير البصر، ولا الوجه منه غير اليد، ولا اليد منه غير النفس، وأن الرحمن ليس يعرف - بزعمكم - لنفسه سمعاً من بصر، ولا بصراً من سمع، ولا وجهاً من يدين، ولا يدين من وجه، هو كله بزعمكم سمع وبصر ووجه، وأعلى وأسفل. ويد ونفس، وعلم ومشيئة وإرادة، مثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 خلق الأرضين والسماء والجبال والتلال والهواء، التي لا يعرف لشيء منها شيء من هذه الصفات والذوات ولا يوقف لها منها على شيء، فالله المتعالي عندنا أن يكون كذلك، فقد ميز الله في كتابه السمع من البصر فقال: {إنني معكما أسمع وأرى} (طه: 46) و {إنا معكم مستمعون} (الشعراء: 15) وقال: {ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم} (آل عمران: 77) ففرق بين الكلام والنظر دون السمع، فقال عند السماع والصوت: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير} (المجادلة: 1) . و {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} (آل عمران: 181) ولم يقل: قد رأى الله قول التي تجادلك في زوجها. وقال موضع الرؤية إنه: {الذي يراك حين تقوم} {وتقلبك في الساجدين} (الشعراء: 219: 218) وقال تعالى: {وقل اعملوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 فسيرى الله عملكم ورسوله} (التوبة: 105) ولم يقل: يسمع الله تقلبك ويسمع الله عملكم، فلم يذكر الرؤية فيما يسمع، ولا السماع فيما يرى، لما أنهما عنده خلاف ما عندكم. وكذلك قال الله تعالى: {ودسر} {تجري بأعيننا} (القمر: 14: 13) {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} (الطور: 48) {ولتصنع على عيني} (طه: 39) ولم يقل لشيء من ذلك: على سمعي. فكما نحن لا نكيف هذه الصفات لا نكذب بها كتكذيبكم، ولا نفسرها كباطل تفسيركم) . ثم قال: (باب الحد والعرش. قال أبو سعيد: وادعى المعارض أيضاً أنه ليس لله حد ولا غاية ولا نهاية) . قال: (وهذا هو الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته، واشتق منها جميع أغلوطاته، وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهماً إليها أحد من العالمين، فقال له قائل ممن يحاوره: قد علمت مرادك أيها الأعجمي، تعني أن الله لا شيء، لأن الخلق كلهم قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 علموا أنه ليس له شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة، وأن (لا شيء) ليس له حد ولا غاية ولا صفة، فالشيء أبدا موصوف لا محالة، ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية، وقولك: لا حد له يعني أنه لا شيء. قال أبو سعيد: والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره، ولا يجوز أن يتوهم لحده غاية في نفسه، ولكن نؤمن بالحد، ونكل علم ذلك إلى الله، ولمكانه أيضا حد، وهو على عرشه فوق سمواته، فهذان حدان اثنان. وسئل عبد الله بن المبارك، بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على عرشه بائن من خلقه. قيل: بحد؟ قال: بحد. حدثناه الحسن بن الصباح البزار عن علي بن الحسين بن شقيق عن ابن المبارك. فمن ادعى أنه ليس لله حد فقد رد القرآن، وادعى أنه لا شيء، لأن الله وصفة حد مكانه في مواضع كثيرة، من كتابه فقال: {الرحمن على العرش استوى} (طه: 5) {أأمنتم من في السماء} (الملك: 16) {إني متوفيك ورافعك إلي} (آل عمران: 55) {يخافون ربهم من فوقهم} (النحل: 50) {إليه يصعد الكلم الطيب} (فاطر: 10) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد، ومن لم يعترف به فقد كفر بتنزيل الله، وجحد آيات الله. و «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله فوق عرشه فوق سماواته» و «قال للأمة السواداء: أين الله؟ قالت: في السماء، قال أعتقها فإنها مؤمنة» . فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنها مؤمنة» دليل على أنها لو لم تؤمن بأن الله في السماء، كما قال الله ورسوله، لم تكن مؤمنة وأنه لا يجوز في الرقبة المؤمنة إلا من يحد الله أنه في السماء، كما قال الله ورسوله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبو معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن «عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه: يا حصين، كم تعبد اليوم إلهاً؟ قال: سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء، قال فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء» ، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم، على الكافر، إذ عرف أن إله العالمين في السماء، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فحصين الخزاعي في كفره يومئذ كان أعلم بالله الجليل الأجل من المريسي وأصحابه، مع ما ينتحلون من الإسلام، إذ ميز بين الإلة الخالق الذي في السماء، وبين الآلهة والأصنام المخلوقة التي في الأرض. وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين: أن الله في السماء، وحدوه بذلك، إلا المريسي الضال وأصحابه، حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوه بذلك، إذا حزب الصبي شيء يرفع يده إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها، وكل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 ثم انتدب المعارض لتلك الصفات التي ألفها وعددها في كتابه من الوجه والسمع والبصر وغير ذلك يتأولها، ويحكم على الله وعلى رسوله فيها حرفاً بعد حرف وشيئاً بعد شيء، بحكم بشر بن غياث المريسي، لا يعتمد فيها على إمام أقدم منه، ولا أرشد منه عنده، فاغتنمنا ذلك كله منه، إذ صرح باسمه، وسلم فيها لحكمه، لما أن الكلمة قد اجتمعت من عامة الفقهاء في كفره، وهتك ستره، وافتضاحه في مصره، وفي سائر الأمصار الذي سمعوا بذكره) . ثم ذكر الكلام على إبطال تأويلات الجهمية للصفات الواردة في الكتاب والسنة. كلام الدارمي في الرد على الجهمية وقال عثمان بن سعيد في كتاب الرد على الجهمية له: (باب الإيمان بكلام الله تعالى) ، قال أبو سعيد: فالله المتكلم أولاً وآخراً، لم يزل له الكلام، إذ لا متكلم غيره، ولا يزال له الكلام، إذ لا يبقى متكلم غيره، فيقول: {لمن الملك اليوم} (غافر: 16) أنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 الملك، أنا الديان، أين ملوك الأرض؟ فلا ينكر كلام الله إلا من يريد إبطال ما أنزل الله عز وجل، وكيف يعجز عن الكلام من علم العباد الكلام وأنطق الأنام؟ قال الله تعالى في كتابه {وكلم الله موسى تكليما} (النساء: 164) فهذا لا يحتمل تأويلاً غير نفس الكلام، وقال لموسى: {إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} (الأعراف: 144) وقال الله تعالى: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} (البقرة: 75) وقال {يريدون أن يبدلوا كلام الله} (الفتح: 15) وقال {لا تبديل لكلمات الله} (يونس: 64) وقال: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته} (الأنعام: 115) . وذكر آيات أخر، إلى أن قال: (وقال تعالى لقوم موسى حين اتخذوا العجل فقال {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} (طه: 89) وقال: {عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين} (الأعراف: 148) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 قال أبو سعيد: ففي كل ما ذكرنا تحقيق كلام الله وتثبيته نصاً بلا تأويل، ففيما عاب الله تعالى به العجل في عجزه عن القول والكلام بيان أن الله غير عاجز عنه، وأنه متكلم، وقائل، لأنه لم يكن ليعيب العجل بشيء هو موجود فيه. وقال إبراهيم: {بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون} (الأنبياء: 63) إلى قوله {أفلا تعقلون} (الأنبياء: 67) ، فلم يعب إبراهيم أصنامهم وآلهتهم التي يعبدون بالعجز عن الكلام إلا وأن إلهه متكلم قائل) . وبسط الكلام في ذلك، إلى أن قال: (أرأيتم قولكم: إنه مخلوق، فما بدء خلقه؟ أقال الله له (كن) فكان كلاماً قائماً بنفسه بلا متكلم به؟ فقد علم الناس - إلا ما شاء الله منهم - أن الله لم يخلق كلاماً يرى ويسمع بلا متكلم به، فلا بد من أن تقولوا في دعواكم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 الله المتكلم بالقرآن، فأضفتموه إلى الله، فهذا أجور الجور وأكذب الكذب: أن تضيفوا كلام المخلوق إلى الخالق، ولو لم يكن كفراً كان كذباً بلا شك فيه، فكيف وهو كفر لا شك فيه؟ لا يجوز لمخلوق يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدعي الربوبية ويدعوا الخلق إلى عبادته فيقول: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} (طه: 14) و {إني أنا ربك} (طه: 12) . {وأنا اخترتك} (طه: 13) ، {واصطنعتك لنفسي * اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري} (طه: 41 - 42) {إنني معكما أسمع وأرى} (طه: 46) ، {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56) . {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} (يس: 60 - 61) قد علم الخلق - إلا من أضله الله - أنه لا يجوز لأحد أن يقول هذا وما أشبهه ويدعيه غير الخالق، بل القائل به والداعي إلى عبادة غير الله كافر كفرعون الذي قال: {أنا ربكم الأعلى} (النازعات: 24) ، والمجيب له والمؤمن بدعواه أكفر وأكذب. وإن قلتم: تكلم به مخلوق فأضفناه إلى الله، لأن الخلق كلهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 بصفاتهم وكلامهم لله، فهذا المحال الذي ليس وراءه محال، فضلاً عن أن يكون كفراً، لأن الله عز وجل لم ينسب شيئاً من الكلام كله إلى نفسه أنه كلامه غير القرآن وما أنزل على رسله، فإن قد تم كلامكم ولزمتموه لزمكم أن تسموا الشعر وجميع الغناء والنوح وكلام السباع والبهائم والطير كلام الله، فهذا مما لا يختلف المصلون في بطوله واستحالته. فما فضل القرآن إذاً عندكم على الغناء والنوح والشعر إذ كان كله في دعواكم كلام الله؟ فكيف خص القرآن بأنه كلام الله ونسب كل كلام إلى قائله؟ فكفى بقوم ضلالاً أن يدعوا قولاً لا يشك الموحدون في بطوله واستحالته. ومما يزيد دعواكم تكذيباً واستحالة ويزيد المؤمنين بكلام الله إيماناً وتصديقاً أن الله قد ميز بين من كلم من رسله في الدنيا وبين من لم يكلم، ومن يكلم من خلقه في الآخرة ومن لا يكلم، فقال: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} (البقرة: 253) فميز بين من اختصه الله بكلامه وبين من لم يكلمه، ثم سمى ممن كلم الله موسى فقال: {وكلم الله موسى تكليما} (النساء: 164) فلو لم يكلمه بنفسه إلا على تأويل ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 ادعيتم، فما فضل من ذكر الله في تكليمه إياه على غيره ممن لم يكلمه؟ إذ كل الرسل في تكليم الله إياهم مثل موسى، وكل عندكم لم يسمع كلام الله، وقد قال تعالى: {أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله} (آل عمران: 77) ، ففي بيان أنه لا يعاقب قوماً يوم القيامة بصرف كلامه عنهم إلا وأنه يثيب بتكلميه قوماً آخرين. وقال أيضاً في بيان كفر الجهمية: (أخبر الله أن القرآن كلامه، وادعت الجهمية أنه خلقه، وأخبر الله تبارك وتعالى أنه كلم موسى تكليماً، وقال هؤلاء: لم يكلمه الله بنفسه، ولم يسمع موسى نفس كلام الله، إنما سمع كلاماً خرج إليه من مخلوق، ففي دعواهم دعا مخلوق موسى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 إلى ربوبيته فقال: {إني أنا ربك فاخلع نعليك} (طه: 12) فقال له موسى في دعواهم: صدقت، ثم أتى فرعون يدعوه إلى ربوبيته مخلوق كما أجاب موسى في دعواهم، فما فرق بين موسى وفرعون في الكفر إذاً؟ فأي كفر أوضح من هذا؟ وقال الله تبارك وتعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: 40) . وقال هؤلاء: ما قال لشيء قط - قولاً وكلاماً - كن فكان، ولا يقوله أبداً، ولم يخرج منه كلام قط، ولا يخرج، ولا هو يقدر على الكلام في دعواهم، فالصنم في دعواهم والرحمن بمنزلة واحدة في الكلام) . عود إلى كتاب النقض على المريسي وقال أيضاً في كتاب النقض على المريسي: (وادعيت أيها المريسي في قول الله عز وجل: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} (الأنعام: 210) وفي قوله: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك} (الأنعام: 158) فادعيت أن هذا ليس منه بإتيان، لما أنه غير متحرك عندك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 ولكن يأتي بالقيامة بزعمك، وقوله: {يأتيهم الله في ظلل من الغمام} : يأتي الله بأمره في ظلل من الغمام، ولا يأتي هو بنفسه. ثم زعمت أن معناه كمعنى قوله: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} (سورة النحل: 26) {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} (الحشر: 2) . فيقال لهذا المريسي: قاتلك الله! ما أجراك على الله وعلى كتابه بلا علم ولا بصر! أنبأك الله أنه إتيان، وتقول: ليس بإتيان، إنما هو كقوله: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} (النحل: 26) . لقد ميزت بين ما جمع الله، وجمعت بين ما ميز الله، ولا يجمع بين هذين التأويلين إلا كل جاهل بالكتاب والسنة، لأن تأويل كل واحد منهما مقرون به في سياق القراءة، لا يجهلة إلا مثلك. وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه، فوق سماواته، وأنه لا ينزل قبل يوم القيامة لعقوبة أحد من خلقه، ولم يشكوا أنه ينزل يوم القيامة ليفصل بين عباده ويحاسبهم ويثيبهم، وتشقق السماوات يومئذ لنزوله، وتنزل الملائكة تنزيلاً، ويحمل عرش ربك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 فوقهم يومئذ ثمانية، كما قال الله ورسوله. فلما لم يشك المسلمون أنا الله لا ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة لشيء من أمور الدنيا، علموا يقيناً أن ما يأتي الناس من العقوبات إنما هو من أمره وعذابه. فقوله: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} يعني مكره من قبل قواعد بنيانهم {فخر عليهم السقف من فوقهم} (النحل: 26) فتفسير هذا الإتيان خرور السقف عليهم من فوقهم، وقوله: {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} مكر بهم {وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} (الحشر: 2) ، وهم بنو النضير، فتفسير الإتيانين مقرون بهما، فخرور السقف والرعب، وتفسير إتيان الله يوم القيامة منصوص في الكتاب مفسر. قال الله تعالى: {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة * وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة * فيومئذ وقعت الواقعة * وانشقت السماء فهي يومئذ واهية * والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية * يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} (الحاقة: 13 - 18) إلى قوله تعالى: {هلك عني سلطانيه} (الحاقة: 29) ، فقد فسر الله المعنيين تفسيراً لا لبس فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 ولا يشتبه على ذي عقل، فقال فيما يصيب به من العقوبات في الدنيا: {أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس} (يونس: 24) فحين قال: {أتاها أمرنا} علم أهل العلم أن أمره ينزل من عنده من السماء وهو على عرشه، فلما قال: {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} (الحاقة: 13) الآيات التي ذكرناها، وقال أيضاً: {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا} (الفرقان: 25) و {يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور} (البقرة: 210) و {دكت الأرض دكا دكا * وجاء ربك والملك صفا صفا} (الفجر: 21- 22) علم بما نص عليه الله من الدليل وبما حد لنزول الملائكة يومئذ: (أن هذا إتيان الله بنفسه يوم القيامة، ليلي محاسبة خلقه بنفسه، لا يلي ذلك أحد غيره، وأن معناه مخالف لمعنى إتيان القواعد، لا ختلاف القضيتين) . إلى أن قال: (وقد كفانا رسول الله صلى عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 وأصحابه تفسير هذا الإتيان، حتى لا نحتاج منك له إلى تفسير) وذكر حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين في تجليه يوم القيامة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه قال: «فيقول المؤمنون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه» وذكر حديث ابن عباس من وجهين موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه «ثم يأتي الرب تعالى في الكروبيين، وهم أكثر من أهل السماوات والأرض» رواه الحاكم في صحيحه، وذكر (عن أنس بن مالك أنه قال: وتلا هذه الآية: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} قال: يبدلها الله يوم القيامة بأرض من فضة لم تعمل عليها الخطايا، ينزل عليها الجبار) . ثم قال: (ومن يلتفت أيها المريسي إلى تفسيرك المحال في إتيان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 الله يوم القيامة ويدع تفسير رسول الله صلى الله عيه وسلم وأصحابه إلا كل جاهل مجنون خاسر مغبون؟ لما أنك مفتون في الدين مأفون، وعلى تفسير كتاب الله غير مأمون، ويلك! أيأتي الله بالقيامة ويتغيب هو بنفسه؟ فمن يحاسب الناس يومئذ؟ لقد خشيت على من ذهب مذهبك هذا لأنه لا يؤمن بيوم الحساب. وادعيت أيها المريسي في قول الله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} (البقرة: 255) ، وادعيت أن تفسير القيوم عندك لا يزول، يعني الذي لا ينزل ولا يتحرك ولا يقبض ولا يبسط، وأسندت ذلك عن بعض أصحابك غير مسمى عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: القيوم الذي لا يزول، ومع روايتك هذه عن ابن عباس دلائل وشواهد أنها باطلة: إحداها: أنك رويتها وأنت المتهم في توحيد الله. والثانية: أنك رويته عن بعض أصحابك غير مسمى، وأصحابك مثلك في الظنة والتهمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 والثالثة: أنه عن الكلبي، وقد أجمع أهل العلم بالأثر على أن لا يحتجوا بالكلبي في أدنى حلال ولا حرام، فكيف في تفسير توحيد الله وتفسير كتابه؟ وكذلك أبو صالح. ولو قد صحت روايتك عن ابن عباس أنه قال: (القيوم: الذي لا يزول) لم نستنكره، وكان معناه مفهوماً واضحاً عند العلماء وعند أهل البصر بالعربية أن معنى لا يزول لا يفنى ولا يبيد، لا أنه لا يتحرك ولا يزول من مكان إلى مكان إذا شاء، كما كان يقال للشيء الفاني: هو زائل، كما قال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل يعني فان، لا أنه متحرك، فإن أمارة ما بين الحي والميت التحرك، وما لا يتحرك فهو ميت لا يوصف بحياة كما لا توصف الأصنام الميتة، قال الله تعالى: {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون} {أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون} (النحل: 20 - 21) فالله الحي القيوم القابض الباسط يتحرك إذا شاء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وينزل إذا شاء، ويفعل ما يشاء، بخلاف الأصنام الميتة التي لا تزول حتى تزال. واحتججت أيها المريسي في نفي التحرك عن الله والزوال بحجج الصبيان، فزعمت أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين رأى كوكباً وشمساً وقمراً قال: {هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الأفلين} (الأنعام: 76) ، ثم قلت: فنفى إبراهيم المحبة عن كل إله زائل، يعني أن الله إذا نزل من سماء إلى سماء، أو نزل يوم القيامة لمحاسبة العباد، فقد أفل وزال، كما أفل الشمس والقمر، فتنصل من ربوبيتهما إبراهيم، فلو قاس هذا القياس تركي طمطماني أو رومي عجمي ما زاد على ما قست قبحاً وسماجة، ويلك! من خلق الله: إن الله إذا نزل أو تحرك - أو نزل ليوم الحساب - أفل في شيء كما تأفل الشمس في عين حمئة؟ إن الله لا يأفل في شيء سواه إذا نزل أو ارتفع كما تأفل الشمس والقمر والكواكب، بل هوالعالي على كل شيء، المحيط بكل شيء في جميع أحواله من نزوله وارتفاعه، وهو الفعال لما يريد، لا يأفل في شيء، بل الأشياء كلها تخشع له وتتواضع، والشمس والقمر والكواكب خلائق مخلوقة، إذا قلت أفلت أفلت في مخلوق في عين حمئة كما قال الله تعالى، والله أعلى وأجل، لا يحيط به شيء، ولا يحتوي عليه شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 قول أبي بكر عبد العزيز في المقنع وقال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر صاحب الخلال، في أول كتابه الكبير المسمى بالمقنع، وقد ذكر ذلك عنه القاضي أبو يعلى في كتاب إيضاح البيان، في مسألة القرآن قال أبو بكر لما سألوه: (إنكم إذا قلتم: لم يزل متكلماً كان ذلك عبثاً، فقال: لأصحابنا قولان: أحدهما أنه لم يزل متكلماً كالعلم، لأن ضد الكلام الخرس، كما أن ضد العلم الجهل، قال: ومن أصحابنا من قال: قد أثبت سبحانه لنفسه أنه خالق، ولم يجز ان يكون خالقاً في كل حال، بل قلنا: إنه خالق في وقت إرادته أن يخلق، وإن لم يكن خالقاً في كل حال، ولم يبطل أن يكون خالقاً، كذلك وإن لم يكن متكلماً في كل حال يبطل أن يكون متكلماً، بل هو متكلم خالق، وإن لم يكن خالقاً في كل حال ولا متكلماً في كل حال) . قول القاضي أبي يعلي في إيضاح البيان وذكر القاضي أبو يعلى في كتابه المسمى بإيضاح البيان هذا السؤال، فقال: (نقول: إنه لم يزل متكلماً، وليس بمكلم ولا مخاطب ولا آمر ولا ناه، نص عليه أحمد في رواية حنبل فقال: لم يزل الله متكلماً عالماً غفوراً. قال: وقال في رواية عبد الله: لم يزل الله متكلماً إذا شاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 وقال حنبل في موضع آخر: سمعت أبا عبد الله يقول: لم يزل الله متكلماً، والقرآن كلام الله غير مخلوق) . قال القاضي أبو يعلى: (وقال أحمد في الجزء الذي فيه الرد على الجهمية والزنادقة: وكذلك الله يتكلم كيف شاء، من غير أن نقول جوف ولا فم ولا شفتان) . وقال بعد ذلك: (بل نقول: إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، ولا نقول: إنه كان ولا يتكلم حتى خلق) . قول عبد الله بن حامد في أصول الدين وقال أبو عبد الله بن حامد في كتابه في أصول الدين: (ومما يجب الإيمان به والتصديق أن الله متكلم، وأن كلامه قديم وأنه لم يزل متكلماً في كل أوقاته موصوفاً بذلك، وكلامه قديم غير محدث، كالعلم والقدرة) . قال: وقد يجيء على المذهب أن يكون الكلام صفة المتكلم، لم يزل موصوفاً بذلك ومتكلماً كما شاء وإذا شاء، ولا نقول: إنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 ساكت في حال أو متكلم في حال، من حيث حدوث الكلام) . قال: (ولا خلاف عن أبي عبد الله أن الله كان متكلماً قبل أن يخلق الخلق وقبل كل الكائنات، وأن الله كان فيما لم يزل متكلماً كيف شاء وكما شاء، وإذا شاء أنزل كلامه، وإذا شاء لم ينزله) . قلت: قول ابن حامد: (ولا نقول إنه ساكت في حال أو متكلم في حال من حيث حدوث الكلام) يريد به أنا لا نقول: إن جنس كلامه حادث في ذاته، كما تقوله الكرامية من أنه كان ولا يتكلم ثم صار يتكلم بعد أن لم يكن متكلماً في الأزل، ولا كان تكلمه ممكناً. قول أبي إسماعيل الأنصاري في مناقب أحمد بن حنبل وقال أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الملقب بشيخ الإسلام، في اعتقاد أهل السنة وما وقع عليه إجماع أهل الحق من الأمة: (اعلم أن الله متكلم قائل مادح نفسه، وهو متكلم كلما شاء، ويتكلم بكلام لا مانع له ولا مكره، والقرآن كلامه هو تكلم به) . قال أيضاً في كتاب مناقب أحمد بن حنبل في باب الإشارة إلى طريقته في الأصول، لما ذكر كلامه في مسأئل القرآن وترتيب البدع التي ظهرت فيه وأنهم قالوا أولاً: هو مخلوق، وجرت المحنة المشهورة، ثم مسألة اللفظية بسبب حسين الكرابيسي، إلى أن قال: وجاءت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 طائفة فقالت: لا يتكلم بعد ما تكلم، فيكون كلامه حادثاً، قال: وهذه سحارة أخرى تقذي في الدين غير عين واحدة، فانتبه لها أبو بكر بن خزيمة، وكانت حينئذ بنيسابور دار الآثار تمد إليها الدانات، وتشد إليها الركائب، ويجلب منها العلم، وما ظنك بمجالس يحبس عنها الثقفي والصبغي مع ما جمعا من الحديث والفقه والصدق والورع واللسان، والبيت والقدر لا يستر لوث بالكلام واستمام لأهله، فـ ابن خزيمة في بيت، ومحمد بن إسحاق في بيت، وأبو حامد العرشرقي في بيت، قال: فطار لتلك الفتنة ذلك الإمام أبو بكر فلم يزل يصيح بتشويهها، ويصنف في ردها كأنه منذر جيش، حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 دون في الدفاتر، وتمكن في السرائر، ولقن في الكتاتيب، ونقش في المحاريب، أن الله متكلم: إن شاء تكلم، وإن شاء سكت، فجزى الله ذلك الإمام وأولئك النفر الغر عن نصرة دينه وتوقير نبيه خبيراً) . قلت: هذه القصة التي أشار إليها عن ابن خزيمة مشهورة ذكرها غير واحد من المصنفين كـ الحاكم أبي عبد الله في تاريخ نيسابور وغيره، ذكر أنه رفع إلى الإمام أنه قد نبغ طائفة من أصحابه يخالفونه وهو لا يدري، وأنهم على مذهب الكلابية، وأبو بكر الإمام شديد على الكلابية. قال: (فحدثني أبو بكر أحمد بن يحيى المتكلم قال: اجتمعنا ليلة عند بعض أهل العلم، وجرى ذكر كلام الله: أقديم لم يزل، أو يثبت عند اختياره تعالى أن يتكلم به؟ فوقع بيننا في ذلك خوض. قال جماعة منا: إن كلام الباري قديم لم يزل، وقال جماعة: إن كلامه قديم، غير أنه لا يثبت إلا باختياره لكلامه. فبكرت أنا إلى أبي علي الثقفي، وأخبرته بما جرى، فقال: من أنكر أنه لم يزل فقد اعتقد أنه محدث، وانتشرت هذه المسألة في البلد، وذهب منصور الطوسي في جماعة معه إلى أبي بكر محمد بن إسحاق وأخبروه بذلك، حتى قال منصور: ألم أقل للشيخ إن هؤلاء يعتقدون مذهب الكلابية، وهذا مذهبهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 فجمع أبو بكر أصحابه، وقال: ألم أنهكم غير مرة عن الخوض في الكلام، ولم يزدهم على هذا في ذلك اليوم، وذكر أنه بعد ذلك خرج على أصحابه، وأنه صنف في الرد عليهم، وأنهم ناقضوه، ونسبوه إلى القول بقول جهم في أن القرآن محدث، وجعلهم هو كلابية. قال الحاكم: (سمعت أبا عبد الرحمن بن أحمد المقري يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق يقول: الذي أقول به أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله، غير مخلوق، ومن قال: إن القرآن أو شيئاً منه ومن وحيه وتنزيله مخلوق، أو يقول: إن الله لا يتكلم بعد ما كان تكلم به في الأزل، أو يقول: إن أفعال الله مخلوقة، أو يقول: إن القرآن محدث، أو يقول: إن شيئاً من صفات الله - صفات الذات - أو اسماً من أسماء الله مخلوق، فهو عندي جهمي يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه، هذا مذهبي ومذهب من رأيت من أهل الأثر في الشرق والغرب من أهل العلم، ومن حكى عني خلاف هذا فهو كاذب باهت، ومن نظر في كتبي المصنفة ظهر له وبان أن الكلابية كذبة فيما يحكون عني مما هو خلاف أصلي وديانتي) . وذكر عن ابن خزيمة أنه قال: زعم بعض جهلة هؤلاء الذين نبغوا في سنتنا هذه أن الله لا يكرر الكلام، فهم لا يفهمون كتاب الله، فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 الله قد أخبر في نص الكتاب في مواضع أنه خلق آدم، وأنه أمر الملائكة بالسجود له، فكرر هذا الذكر في غير موضع، وكرر ذكر كلامه مع موسى مرة بعد أخرى، وكرر ذكر عيسى بن مريم في مواضع، وحمد نفسه في مواضع فقال: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} (الكهف: 1) ، و {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض} (الأنعام: 1) ، {الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} (سبأ: 1) ، وكرر زيادة على ثلاثين مرة {فبأي آلاء ربكما تكذبان} (الرحمن: 16) ولم أتوهم أن مسلماً يتوهم أن الله لا يتكلم بشيء مرتين. قال الحاكم: (سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق - يعني الصبغي - يقول: لما وقع من أمرنا ما وقع ووجد بعض المخالفين - يعني المعتزلة - الفرصة في تقرير مذهبهم بحضرتنا، قال أبو علي الثقفي للإمام: ما الذي أنكرت من مذاهبنا أيها الإمام حتى نرجع عنه؟ قال: ميلكم إلى مذهب الكلابية، فقد كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد وعلى أصحابه مثل الحارث المحاسبي وغيره، حتى طال الخطاب بينه وبين أبي علي في هذا الباب، فقلت: قد جمعت أنا أصول مذاهبنا في طبق فأخرجت إليه الطبق فقلت: تأمل ما جمعته بخطي، وبينته في هذه المسائل، فإن كان فيها شيء تكرهه فبين لنا وجهه، فذكر أنه تأمله ولم ينكر منه شيئاً، وذكر لشيخه الخط وفيه: إن الله بجميع صفات ذاته واحد، لم يزل، ولا يزال، وما أضيف إلى الله من صفات فعله مما هو غير بائن عن الله فغير مخلوق، وكل شيء أضيف إلى الله بائن عنه دونه مخلوق) . وذكر أن أبا العباس القلانسي وغيره وافقوا من خالف أبا بكر، وأنه كتب إلى جماعة من العلماء تلك السمائل، وأنهم كانوا يرفعون من خالف أبا بكر إلى السلطان، وأن أمير نيسابور أمر أن يمتثل أمر أبي بكر فيهم من النفي والضرب والحبس، وأن عبد الله بن حماد قال: طوبى لهم إن كان ما يقال عنهم مكذوباً عليهم، وأن عبد الله بن حماد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 من غد ذلك اليوم قال: رأيت البارحة في المنام كأن أحمد بن السري الزاهد المروزي لكمني برجله ثم قال: كأنك في شك من أمور هؤلاء الكلابية، قال: ثم نظر إلى محمد بن إسحاق فقال: {هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب} (إبراهيم: 52) وهذه القصة مبسوطة في موضع آخر، وأكثر أهل العلم والدين كانوا مع ابن خزيمة على الكلابية. قول الأنصاري في ذم الكلام ذكر أبو إسماعيل الأنصاري العروف بشيخ الإسلام في كتاب ذم الكلام: (سمعت أبا نصر بن أبي سعيد الرداد، سمعت إبراهيم بن إسماعيل الخلال يقول: إني ذهبت بكتاب ابن خزيمة في الصبغي والثقفي إلى أمير المؤمنين، فكتب بصلبها، فقال ابن خزيمة: لا، قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم النفاق من أقوام فلم يصلبهم) . قال أبو إسماعيل: (سمعت إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني يقول: استتيب الصبغي والثقفي على قبر ابن خزيمة. وقال: (سمعت أحمد بن أبي نصر يقول: رأينا محمد بن الحسين السلمي يعني أبا عبد الرحمن السلمي صاحب التصانيف المعروفة في طريقة الصوفية - يلعن الكلابية) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 قال: (وسمعت محمد بن العباس بن محمد يقول: كان أبو علي الرفا يقول: لعن الله الكلابية) . ومن الموافقين لابن خزيمة أبو حامد الشاركي، وأبو سعيد الزاهد، ويحيى بن عمار وأبو عثمان النيسابوري الملقب بشيخ الإسلام. قال: (وسمعت عبد الواحد بن ياسين يقول: رأيت بابين قلعا من مدرسة أبي الطيب - يعني الصعلوكي - بأمره من بيتي شابين حضرا أبا بكر بن فورك، وسمعت الطيب ابن محمد، سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: وجدت أبا حامد الإسفرايني وأبا الطيب الصعلوكي وأبا بكر القفال المروزي وأبا منصور الحاكم على الإنكار على الكلام وأهله. قول السجزي في رسالته إلى أهل زبيد وقال الحافظ أبو نصر السحزي في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد في الواجب من القول في القرآن: (اعلموا - أرشدنا اله وإياكم - أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والأشعري وأقرانهم الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة وهم معهم، بل أخس حالاً منهم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 الباطن، من أن الكلام لا يكون إلا حرفاً وصوتاً ذا تأليف واتساق، وإن اختلفت به اللغات، وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذي تكلموا في العقليات وقالوا: الكلام جروف متسقة وأصوات مقطعة، وقالت - يعني علماء العربية -: الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالاسم مثل زيد وعمرو، والفعل مثل جاء وذهب، والحرف الذي يجيء لمعنى مثل هل وبل وقد، وما شاكل ذلك، فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفاً وصوتاً، فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه، وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل، وهم لا يخبرون أصول السنة ولا ما كان السلف عليه، ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك زعماً منهم أنها أخبار آحاد وهي لا توجب علماً، وألزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل على أن الكلام حرف وصوت، ويدخله التعاقب والتأليف، وذكل لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون، ولا بد له من أن يكون ذا أجزاء وأبعاض، وما كان بهذه المثابة لا يجوز أن يكون من صفات ذات الله تعالى، لأن ذات الحق لا توصف بالاجتماع والافتراق، والكل والبعض، والحركة والسكون، وحكم الصفة الذاتية حكم الذات. قالوا: فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى خلق له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 أحدثه وأضافه إلى نفسه، كما نقول: (خلق الله، وعبد الله، وفعل الله) . (قال: فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام، لقلة معرفتهم بالسنن، وتركهم قبولها، وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل) . فالتزموا ما قالته المعتزلة وركبوا مكابرة العيان وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة: المسلم والكافر، وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام، وإنما سمي ذلك كلاما على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه، وحقيقة الكلام معنى قائم بذات المتكلم، فمنهم من اقتصر على هذا القدر، ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد، فزاد فيه (تنافي السكوت والخرس والآفات المانعة فيه من الكلام) ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم، وإثبات اللغة فيه تشبيه، وتعلقوا بشبه، منها قول الأخطل: إن البيان من الفؤاد، وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 فغيروه، وقالوا: (إن الكلام من الفؤاد) وزعموا أنه لهم حجة على مقالتهم في قول الله تعالى: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} (المجادلة: 8) ، وفي قول الله عز وجل: {فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم} (يوسف: 77) واحتجوا بقول العرب: (أرى في نفسك كلاماً، وفي وجهك كلاماً) فألجأهم الضيق مما دخل عليهم في مقالتهم إلى أن قالوا: الأخرس متكلم، وكذلك الساكت والنائم، ولهم في حال الخرس والسكوت والنوم كلام هم متكلمون به، ثم أفصحوا بأن الخرس والسكوت والآفات المانعة من النطق ليست بأضداد الكلام. وهذه مقالة تبين فضيحة قائلها في ظاهرها من غير رد عليه، ومن علم منه خرق إجماع الكافة ومخالفة كل عقلي وسمعي قبله لم يناظر، بل يجانب ويقمع) . قول السجزي في الإبانة وقال أبو نصر السجزي أيضاً في كتابه المسمى بالإبانة في مسألة القرآن: لما قيل له (إن القراءة عمل، والعمل لا يكون صفة لله، والدليل على أنها عمل أنك تقول: قرأ فلان يقرأ، وما حسن فيه ذكر المستقبل فهو عند العرب عمل) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 فقال: (هذا لا يلزم، لأنك تقول: (قال الله عز وجل) و (يقول الله عز وجل) والله تعالى قال: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} (البقرة: 35) وقال تعالى: {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} (ق: 30) فقد حسن في القول ذكر المستقبل. فإن ارتكبوا العظمى، وقالوا: كلام الله شيء واحد على أصلنا لا يتجزأ، وليس بلغة، والله سبحانه من الأزل إلا الأبد متكلم بكلام واحد لا أول له ولا آخر، فقال: ويقول إنما يرجع إلى العبارة لا إلا المعبر عنه. قيل لهم: قد بينا مراراً كثيرة أن قولكم في هذا الباب فاسد، وأنه مخالف للعقليين والشرعيين جميعاً، وأن نص الكتاب والثابت من الأثر قد نطقا بفساده، قال الله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: 40) ، فبين الله سبحانه أنه يقول للشيء كن إذا أراد كونه، فعلم بذلك أنه لم يقل للقيامة بعد كوني) . وقال أيضاً في موضع آخر: ( «النبي صلى الله عليه وسلم قال: نبدأ بما بدأ الله به» ) ثم قرأ {إن الصفا والمروة من شعائر الله} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 (البقرة: 158) والله تعالى قال: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران: 59) ، وقال: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (يس: 82) ، فبين جل جلاله أنه قال لآدم بعد أن خلقه من تراب: كن، وأنه إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون، ولم يقتض ذلك حدوثاً ولا خلقاً بعد حدوث نوع الكلام، لما قام من الدليل على انتفاء الخلق عن كلام الله تعالى) . وقال أبو نصر السجزي أيضاً: (فأما الله تعالى فإنه متكلم فيما لم يزل، ولا يزال متكلماً بما شاء من الكلام، يسمع من يشاء من خلقه ما شاء من كلامه إذا شاء ذلك، ويكلم من شاء تكليمه بما يعرفه ولا يجهله، وهو سبحانه حي عليم متكلم لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء، لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، ليس بجسم، ولا في معنى جسم، ولا يوصف بأداة ولا جارحة وآلة، وكلامه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 أحسن الكلام، وفيه سور وآي وكلمات، وكل ذلك حروف، وهو مسموع منه على الحقيقة سماعاً يعقله الخلق، ولا كيفية لتكلمه وتكليمه، وجائز وجود أعداد من المكلمين يكلمهم سبحانه في حال واحدة بما يريده من كل واحد منهم، من غير أن يشغله تكليم هذا عن تكليم هذا) . قال: (ومنع كثير من أهل العلم إطلاق السكوت عليه، ومن أهل الأثر من جوز إطلاق السكوت عليه لوروده في الحديث، وقال: معناه تركه التوبيخ والتقرير والمحاسبة اليوم، وسيأتي يوم يقرر فيه ويحاسب ويوبخ، فذلك الترك بمعنى السكوت) . قال: (والأصل الذي يجب أن يعلم: أن اتفاق التسميات لا يوجب اتفاق المسمين بها، فنحن إذا قلنا إن الله موجود رؤوف واحد حي عليم بصير متكلم، وقلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم كان موجوداً حياً عالماً سميعاً بصيراً متكلماً لم يكن ذلك تشبيهاً، ولا خالفنا به أحداً من السلف والأئمة، بل الله موجود لم يزل، واحد حي قديم قيوم عالم سميع بصير متكلم فيما لم يزل، ولا يجوز أن يوصف بأضداد هذه الصفات، والموجود منا إنما وجد عن عدم، وحيي بمعنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 حله، ثم يصير ميتاً بزوال ذلك المعنى، وعلم بعد أن لم يعلم، وقد ينسى ما علم، وسمع وأبصر وتكلم بجوارح قد تلحقها الآفات، فلم يكن فيما أطلق للخلق تشبيه بما أطلق للخالق سبحانه وتعالى، وإن اتفقت مسميات هذه الصفات) . وقال أبو نصر أيضاً: (خاطبني بعض الأشعرية يوماً في هذا الفصل، وقال: التجزؤ على القديم غير جائز، فقلت له: أتقر بأن الله أسمع موسى كلامه على الحقيقة بلا ترجمان؟ فقال: نعم - وهم يطلقون ذلك، ويموهون على من لم يخبر مذهبهم- وحقيقة سماع كلام الله من ذاته، على أصل الأشعري، محال، لأن سماع الخلق - على ما جبلوا عليه من البنية، وأجروا عليه من العادة - لا يكون البتة إلا لما هو صوت أو في معنى الصوت، وإذا لم يكن كذلك كان الواصل إلى معرفته بضرب من العلم والفهم، وهما يقومان في وقت مقام السماع، لحصول العلم بهما كما يحصل بالسماع، وربما سمي ذلك سماعاً على التجوز لقربه من معناه، فأما حقيقة السماع لما يخالف الصوت فلا يتأتى للخلق في العرف الجاري) . قال: (فقلت لمخاطبي الأشعري: قد علمنا جميعاً أن حقيقة السماع لكلام الله منه على أصلكم محال، وليس ههنا من تتقيه وتخشى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 تشنيعه، وإنما مذهبك أن الله يفهم من شاء كلامه بلطيفة منه، حتى يصير عالماً متيقناً بأن الذي فهمه كلام الله، والذي أريد أن ألزمك وارد على الفهم وروده على السماع، فدع التمويه، ودع المصانعة. ما تقول في موسى عليه السلام حيث كلمه الله؟ أفهم كلام الله مطلقاً أم مقيداً؟ فتلكأ قليلاً، ثم قال: ما تريد بهذا؟ فقلت: دع إرادتي وأجب بما عندك، فأبى وقال: ما تريد بهذا؟ فقلت: أريد أنك إن قلت: إنه عليه السلام فهم كلام الله مطلقاً اقتضى أن لا يكون لله كلام من الأزل إلى الأبد إلا وقد فهمه موسى، وهذا يؤول إلى الكفر، فإن الله تعالى يقول: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} (البقرة: 255) ولو جاز ذلك لصار مم فهم كلام الله عالماً بالغيب وبما في نفس الله تعالى، وقد نفى الله تعالى ذلك بما أخبر به عن عيسى عليه السلام أنه يقول: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب} (المائدة: 116) ، وإذا لم يجز إطلاقه، وألجئت إلى أن تقول (أفهمه الله ما شاء من كلامه) دخلت في التبعيض الذي هربت منه، وكفرت من قال به، ويكون مخالفك أسعد منك، لأنه قال بما اقتضاه النص الوارد من قبل الله عز وجل ومن قبل رسول اله صلى الله عليه وسلم، وأنت أبيت أن تقبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 ذلك، وادعيت أن الواجب المصير إلى حكم العقل في هذا الباب، وقد ردك العقل إلى موافقة النص خاسئاً. فقال: هذا يحتاج إلى تأمل، وقطع الكلام) . وقال أبو نصر: (لم يزل الله متكلماً، لأن الكلام من صفات المدح للحي الفاعل، وضده من النقائص، والله منزه عنها) . وذكر كلاماً كثيراً إلى أن قال: (وقد ثبت بما ذكرناه كون القرآن مفرقاً مفصلاً، ذا أجزاء وأبعاض وآي وكلمات وحروف، وأن ما كان بخلاف ذلك لم يكن القرآن المنزل الذي آمن به المسلمون وجحده الكفار، وأن المقروء سور وآي وكلمات وحروف، وكذلك المحفوظ والمكتوب والمتلو، وأنه عريبي مبين، نازل بلسان العرب، ولسان قريش، والمراد باللسان في هذا الباب اللغة، لا اللسان الذي هو لحم ودم وعروق، تعالى الله عن ذلك، وجل عن أن يوصف إلا بما وصف به نفسه، وتنزه عن الأشباه) . قال: (ونحن نذكر عقب هذا الفصل فصلاً في ذكر حروف القرآن، وفصلاً بعد ذلك في الصوت وما ورد فيه من القرآن والحديث، وكل ذي لب صحيح يعرف بالحس والمشاهدة قبل الاستدلال أن القرآن العربي حروف، ولا فرق بين منكر ذلك ومنكر الحواس وأنها من مبادىء العلم وأسباب المدارك) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 قال: (وقد بين الله في كتابه ما لا إشكال بعده في هذا الفصل لما قال: {وإذ نادى ربك موسى} (الشعراء: 10) ، والعرب لا تعرف نداء إلا صوتاً، وقد جاء عن موسى تحقيق ذلك، فإن أنكروا الظاهر كفروا، وإن قالوا: (إن النداء غير صوت) خالفوا لغات العرب، وإن قالوا: نادى الأمير - إذا أمر غيره بالنداء - دفعوا فضيلة موسى عليه السلام المختصة به من تكليم الله إياه من غير واسطة ولا ترجمان، وليس في وجود الصوت من الله تعالى تشبيه بمن يوجد الصوت منه من الخلق، كما لم يكن في إثبات الكلام له تشبيه بمن له كلام من خلقه، وكيف وكلامه وكلام خلقه معاً عن الأشعري معنى قائم بذات المتكلم لا يختلف، فهو المشبه لا محالة) . قال: (وأما نحن فنقول: كلام الله حرف وصوت بحكم النص) ، قال: (وليس ذلك عن جارحة ولا آلة، وكلامنا حروف وأصوات، لا يوجد ذلك منا إلا بآلة، والله سبحانه وتعالى يتكلم بما شاء، لا يشغله شيء عن شيء، والمتكلم منا لا يتأتى منه أداء حرفين إلا بأن يفرغ من أحدهما ويبتدىء في الآخر، والقرآن لما كان كلاماً لله كان معجزاً، وكلام الخلق غير معجز، وفي كلام الله بيان ما كان وما سيكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وما لا يكون أبداً لو كان كيف كان يكون، والخلق لا يصلون إلى هذه الأشياء إلا بتعريف) . كلام أبي القاسم الأصبهاني في الحجة على تارك المحجة وقال أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني الشافعي في كتابه المعروف بالحجة على تارك المحجة: (أجمع المسلمون على أن القرآن كلام الله، وإذا صح أنه كلام الله صح أنه صفة الله تعالى، وأنه موصوف به، وهذه الصفة لازمة لذاته. تقول العرب: (زيد متكلم) فالكلام صفة له لا نعرف إلا أن حقيقة هذه الصفة الكلام، وإذا كان كذلك كان القرآن كلام الله، وكانت هذه الصفة لا زمة له، أزلية. والدليل على أن الكلام لا يفارق المتكلم أنه لو كان مفارقه لم يكن للمتكلم إلى كلمة واحدة، فإذا تكلم بها لم يبق له كلام، فلما كان المتكلم قادراً على كلمات كثيرة، كلمة بعد كلمة، دل على أن تلك الكلمات فروع لكلامه الذي هو صفة له ملازمة) . قال: (والدليل على أن القرآن غير مخلوق: أنه كلام الله، وكلام الله سبب إلى خلق الأشياء، قال الله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: 40) ، أي أردنا خلقه وإيجاده وإظهاره، فقوله (كن) كلام الله وصفته، والصفة التي منها يتفرع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 الخلق والفعل، وبها يتكون المخلوق، لا تكون مخلوقة، ولا يكون مثلها للمخلوق. والدليل على أنه كلام لا يشبه كلام المخلوقين أنه كلام معجز، وكلام المخلوقين غير معجز، لو اجتمع الخلق على أن يأتوا بمثل سورة من سوره، أو آية من آياته، عجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه) . كلام أبي الحسن الكرجي في الفصول في الأصول وقال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي في كتابه الذي سماه الفصول في الأصول، عن الأئمة الفحول) وذكر اثني عشر إماماً: الشافعي ومالك والثوري وابن عيينة وابن المبارك والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم. ثم قال فيه: (سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول: سمعت أبا حامد الإسفرايني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعاً من الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا، وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا، مسموعاً ومكتوباً ومحفوظاً ومنقوشاً، وكل حرف منه - كالباء والتاء - كله كلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 الله غير مخلوق، ومن قال (مخلوق) فهو كافر، عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين) . قال الشيخ أبو الحسن: (وكان الشيخ أبو حامد الإسفرايني شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام) . قال: (ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري، ويتبرؤون مما بنى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه، على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة - منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد بن علي الساجي - يقولون: سمعنا جماعة من المشايخ الثقات، قالوا: كان الشيخ أبو حامد أحمد ابن أبي طاهر الإسفرايني إمام الأئمة، الذي طبق الأرض علماً وأصحاباً إذا سعى إلى الجمعة من قطعية الكرج إلى جامع المنصور، يدخل الرباط المعروف بالزوزي المحاذي للجامع، ويقبل على من حضر، ويقول: اشهدوا علي بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، كما قاله الإمام ابن حنبل، لا كما يقوله الباقلاني، وتكرر لك منه جمعات، فقيل له في ذلك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 فقال: حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصلح، ويشيع الخبر في أهل البلاد: أني بريء مما هم عليه - يعني الأشعرية - وبريء من مذهب أبي بكر بن الباقلاني، فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية ويقرؤون عليه فيفتنون بمذهبه: فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة، فيظن ظان أنهم مني تعلموه قبل، وأنا ما قلته، وأنا بريء من مذهب الباقلاني وعقيدته) . قال الشيخ أبو الحسن الكرجي: (وسمعت شيخي الإمام أبا منصور الفقيه الأصبهاني يقول: سمعت شيخنا الإمام أبا بكر الزاذقاني يقول: كنت في درس الشيخ أبي حامد الإسفرايني، وكان ينهي أصحابه عن الكلام، وعن الدخول على الباقلاني، فبلغه أن نفراً من أصحابه يدخلون عليه خفية لقراءة الكلام، فظن أني معهم ومنهم، وذكر قصة قال في آخرها: إن الشيخ أبا حامد قال لي: يا بني، قد بلغني أنك تدخل على هذا الرجل - يعني الباقلاني - فإياك وإياه، فإنه مبتدع يدعو الناس إلى الضلالة، وإلا فلا تحضر مجلسي، فقلت: أنا عائذ بالله مما قيل، وتائب إليه، وأشهدوا على أني لا أدخل إليه) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 قال الشيخ أبو الحسن: (وسمعت الفقيه الإمام أبا منصور سعد بن علي العجلي يقول: سمعت عدة من المشايخ والأئمة ببغداد - أظن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أحدهم - قالوا: كان أبو بكر الباقلاني يخرج إلى الحمام متبرقعاً، خوفاً من الشيخ أبي حامد الإسفرايني) . قال أبوالحسن: (ومعروف شدة الشيخ أبي حامد على أهل الكلام، حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصول الأشعري، وعلقه عنه أبو بكر الزاذقاني. وهو عندي، وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابيه اللمع والتبصرة حتى لو وافق قول الأشعري وجها لأصحابنا ميزة وقال: هو قول بعض أصحابنا، وبه قالت الأشعرية، ولم يعدهم من أصحاب الشافعي، استنكفوا منهم ومن مذهبهم في أصول الفقه، فضلاً عن أصول الدين) . قلت: هذا المنقول عن الشيخ أبي حامد وأمثاله من أئمة أصحاب الشافعي، أصحاب الوجوه، معروف في كتبهم المصنفة في أصول الفقه وغيرها. وقد ذكر ذلك الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وأبو إسحاق الشيرازي وغير واحد، بينوا مخالفة الشافعي وغيره من الأئمة لقول ابن كلاب والأشعري في مسألة الكلام التي امتاز بها عن ابن كلاب والأشعري عن غيرهما، وإلا فسائر المسائل ليس لابن كلاب والأشعري بها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 اختصاص، بل ما قاله قاله غيرهما، إما من أهل السنة والحديث وإما من غيرهم، بخلاف ما قاله ابن كلاب في مسألة الكلام، وأتبعه عليه الأشعري، فإنه لم يسبق ابن كلاب إلى ذلك حد، ولا وافقه عليه من رؤوس الطوائف، وأصله في ذلك مسألة الصفات الاختيارية، ونحوها من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته تعالى: هل تقوم بذاته أم لا؟ فكان السلف والأئمة يثبتون ما يقوم بذاته من الصفات والأفعال مطلقاً، والجهمية من المعتزلة وغيرهم ينكرون ذلك مطلقاً، فوافق ابن كلاب السلف والأئمة في إثبات الصفات، ووافق الجهمية في نفي قيام الأفعال به تعالى وما يتعلق بمشيئته وقدرته. ولهذا وغيره تكلم الناس فيمن اتبعه كـ القلانسي والأشعري ونحوهما، بأن في أقوالهم بقايا من الاعتزال، وهذه البقايا أصلها هو الاستدلال على حدوث العالم بطريقة الحركات، فإن هذا الأصل هو الذي أوقع المعتزلة في نفي الصفات والأفعال. وقد ذكر الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب أنه طريق مبتدع في دين الرسل، محرم عندهم، وكذلك غير الأشعري، كـ الخطابي وأمثاله، يذكرون ذلك، لكن مع هذا من وافق ابن كلاب لا يرى بطلان هذه الطريقة عقلاً، وإن لم يقل: إن الدين محتاج إليها، فلما رأى من رأى صحتها لزمه: إما قول ابن كلاب، أو ما يضاهيه. وهذا الذي نقلوه - من إنكار أبي حامد وغيره على القاضي أبي بكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 الباقلاني - هو بسبب هذا الأصل، وجرى له بسبب ذلك أمور أخرى، وقام عليه الشيخ أبو حامد والشيخ أبو عبد الله بن حامد وغيرهما من العلماء من أهل العراق وخراسان والشام، وأهل الحجاز ومصر، مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة والمحاسن الكثيرة والرد على الزنادقة والملحدين وأهل البدع، حتى إنه لم يكن في المنتسبين إلى ابن كلاب والأشعري أجل منه ولا أحسن كتباً وتصنيفاً، وبسببه انتشر هذا القول، وكان منتسباً إلى الإمام أحمد وأهل السنة وأهل الحديث والسلف، مع انتسابه إلى مالك والشافعي وغيرهما من الأئمة حتى كان يكتب في بعض أجوبته: محمد بن الطيب الحنبلي وكان بينه وبين أبي الحسن التميمي وأهل بيته وغيرهم من التميميين من الموالاة والمصافاة ما هو معروف، كما تقدم ذكر ذلك، ولهذا غلب على التميميين موافقته في أصوله، ولما صنف أبو بكر البيهقي كتابه في مناقب الإمام أحمد - وأبو بكر البيهقي موافق لابن البقلاني في أصوله - ذكر أبو بكر اعتقاد أحمد الذي صفنه أبو الفضل عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي، وهو مشابه لأصول القاضي أبي بكر، وقد حكى عنه: أنه كان إذا درس مسألة الكلام على أصول ابن كلاب والأشعري يقول: (هذا الذي ذكره أبو الحسن أشرحه لكم وأنا لم تتبين لي هذه المسألة) فكان يحكى عنه الوقف فيها، إذ له في عدة من المسائل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 قولان وأكثركما تنطق بذلك كتبه، ومع هذا تكلم فيه أهل العلم، وفي طريقته التي أصلها هذه المسألة مما يطول وصفه، كما تكلم من قبل هؤلاء في ابن كلاب ومن وافقه، حتى ذكر أبو إسماعيل الأنصاري قال: سمعت أحمد بن أبي رافع وخلقاً يذكرون شدة أبي حامد - يعني الإسفرايني - على ابن الباقلاني، قال: وأنا بلغت رسالة أبي سعد إلى ابنه سالم ببغداد: إن كنت تريد أن ترجع إلى هراة فلا تقرب الباقلاني، قال: وسمعت الحسين بن أبي أمامة المالكي يقول: سمعت أبي يقول: لعن الله أبا ذر الهروي، فإنه أول من حمل الكلام إلا الحرم، وأول من بثه في المغاربة. قلت: أبو ذر فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف به، وكان قد قدم إلى بغداد من هراة، فأخذ طريقة ابن الباقلاني وحملها إلى الحرم، فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم، كـ أبي نصر السجزي، وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين لما ليس هذا موضعه، وهو ممن يرجح طريقة الصبغي والثقفي على طريقة ابن خزيمة وأمثاله من أهل الحديث، وأهل المغرب كانوا يحجون، فيجتمعون به ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة ويدلهم على أصلها، فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق، كما رحل أبو الوليد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 الباجي فأخذ طريقة أبو جعفر السمناني الحنفي صاحب القاضي أبي بكر، ورحل بعده القاضي أبو بكر بن العربي فأخذ طريقة أبي المعالي في الإرشاد. ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا لأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم، لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها. وهذا لي مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات، {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر: 10) . ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه، تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (البقرة: 286) . ومن اتبع ظنه وهواه فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه صواباً بعد اجتهاده، وهو من البدع المخالفة للسنة، فإنه يلزمه نظير ذلك أو وأعظم أو أصغر فيمن يعظمه هو من أصحابه، فقل من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين، لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب، ولهذا تجد كثيراً من المتأخرين من علماء الطوائف يتناقضون في مثل هذه الأصول ولوازمها، فيقولون القول الموافق للسنة، وينفون ما هو من لوازمه، غير ظانين أنه من لوازمه، ويقولون ما ينافيه، غير ظانين أنه ينافيه، ويقولون بملزومات القول المنافي ما أثبتوه من السنة، وربما كفروا من خالفهم في القول المنافي وملزوماته، فيكون مضمون قولهم: أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 يقولوا قولاً ويكفروا من يقوله، وهذا يوجد لكثير منهم في الحال الواحد، لعدم تفطنه لتناقض القولين، ويوجد في الحالين، لاختلاف نظره واجتهاده. وسبب ذلك ما أوقعه أهل الإلحاد والضلال من الألفاظ المجملة التي يظن الظان أنه لا يدخل فيها إلا الحق، وقد دخل فيها الحق والباطل، فمن لم ينقب عنها أو يستفصل المتكلم بها - كما كان السلف والأئمة يفعلون - صار متناقضاً أمبتدعاً ضالاً من حيث لا يشعر. وكثير ممن تكلم بالألفاظ المجملة المبتدعة كلفظ الجسم والجوهر والعرض وحلول الحوادث ونحو ذلك، كانوا يظنون أنهم ينصرون الإسلام بهذه الطريقة وأنهم بذلك يثبتون معرفة الله وتصديق رسوله، فوقع منهم من الخطأ والضلال ما أوجب ذلك، وهذه حال أهل البدع كالخوارج وأمثالهم، فإن البدعة لا تكون حقاً محضاً موافقاً للسنة، إذا لو كانت كذلك لم تكن باطلاً، ولا تكون باطلاً محضاً لا حق فيها، إذ لو كانت كذلك لم تخف على الناس، ولا كن تشتمل على حق وباطل، فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل: إما مخطئاً غالطاً، وإما متعمداً لنفاق فيه وإلحاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 كما قال تعالى: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} (التوبة: 47 (فأخبر أن المنافقين لو خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالاً، ولكانوا يسعون بينهم مسرعين، يطلبون لهم الفتنة، وفي المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم: إما لظن مخطىء، أو لنوع من الهوى، أو لمجموعهما، فإن المؤمن إنمايدخل عليه الشيطان بنوع من الظن واتباع هواه، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات» . وقد أمر المؤمنين أن يقولوا في صلاتهم: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} (الفاتحة: 6 - 7) ، فالمغضوب عليهم عرفوا الحق ولم يعملوا به، والضالون عبدوا الله بلا علم. ولهذا نزه الله نبيه عن الأمرين بقوله {والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى} (النجم: 1 -2) وقال تعالى: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} (ص: 45) . وهذا الذي تقدم ذكره - من إنكار أئمة العراقيين من أصحاب الشافعي قول ابن كلاب ومتبعيه في القرآن - هو معروف في كتبهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 ومعلوم أنه ليس بعد الشافعي وابن سريج مثل الشيخ أبي حامد الإسفرايني، حتى ذكر أبو إسحاق في طبقات الفقهاء عن أبي الحسين القدوري: أنه كان يقول في الشيخ أبي حامد: إنه أنظر من الشافعي، وهذا الكلام - وإن لم يكن مطابقاً لمعناه، لجلالة قدر الشافعي وعلو مرتبته - فلولا براعة أبي حامد، ما قال فيه الشيخ أبو الحسين القدوري مثل هذا القول. كلام أبي حامد الإسفرايني في التعليق في أصول الفقه وقد قال أبو حامد في كتاب التعليق في أصول الفقه: (مسألة في أن الأمر أمر لصيغته أو لقرينة تقترن به: اختلف الناس في الأمر: هل له صيغة تدل على كونه أمراً، أم ليس له ذلك؟ على ثلاثة مذاهب، فذهب أئمة الفقهاء إلى أن الأمر له صيغة تدل بمجردها على كونه أمراً إذا عريت عن القرائن، وذلك مثل قول القائل: افعل كذا وكذا، وإذا وجد ذلك عارياً عن القرائن كان أمراً، ولا يحتاج في كونه أمراً إلى قرينه. هذا مذهب الشافعي رحمه الله ومالك وأبي حنيفه والأوزاعي، وجماعة أهل العلم، وهو قول البلخي من المعتزلة. وذهبت المعتزلة بأسرها - غير البلخي - إلى أن الأمر لا سيغة له، ولا يدل اللفظ بمجرده على كونه أمراً، وإنما يكون أمراً بقرينة تقترن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 به، وهي الإرادة، ثم اختلفوا في تلك الإرادة: فمنهم من قال: هي إرادة المأمور به، فإذا قال: افعل، وأراد بذلك إيجاد المأمور به صار أمراً، وإذا عري عن ذلك لم يكن أمراً، ومنهم من قال: يحتاج إلى إرادة شيئنين: إرادة المأمور به، وإرادة كون اللفظ أمراً، ومنهم من اعتبر إرادة ثلاثة أشياء، ولسنا نتكلم معهم في هذا الفصل، فإنه شيء يتفرع على مذاهبهم، وإنما الخلاف بيننا وبينهم في الأصل، وهو أن اللفظ هل يكون أمراً بصيغته، أو بقرينة تقترن به؟ وذهب الأشعري ومن تابعه إلى أن الأمر هو معنىً قائم بنفس الآمر، لا يفارق الذات ولا يزايلها، وكذلك عنده سائر أقسام الكلام من النهي والخبر والاستخبار وغير ذلك، كل هذه المعاني قائمة بالذات لا تزايلها، كالقدرة والعلم وغير ذلك، وسواء في هذا أمر الله تعالى وأمر الآدميين، إلا أن أمر الله تعالى يختص بكونه قديماً، وأمر الآدمي محدث، وهذه الألفاظ والأصوات ليست عندهم أمراً ولا نهياً، وإنما هي عبارة عنه) . قال: (وكان ابن كلاب عبد الله بن سعيد القطان يقول: هي حكاية عن الأمر، وخالفه أبو الحسن الأشعري في ذلك، فقال: لا يجوز أن يقال: (إنها حكاية) ، لأن الحكاية تحتاج إلى أن تكون مثل المحكي، ولكن هو عبارة عن الأمر القائم بالنفس، وتقرر مذهبهم على هذا. فإذا كان هذا حقيقة مذهبهم، فليس يتصور بيننا وبينهم خلاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 في أن الأمر هل له صيغة أم لا، فإنه إذا كان الأمر عندهم هو المعنى القائم بالنفس، فذلك المعنى لا يقال: إن له صيغة، أو ليست له صيغة، وإنما يقال ذلك في الألفاظ، ولكن يقع الخلاف في اللفظ الذي هو عندهم عبارة عن الأمر، وعندنا أن هذا هو أمر، وتدل صيغته على ذلك من غير قرينة، وعندهم أنه لا يكون عبارة عن الأمر، ولا دالاً على ذلك بمجرد صيغته، ولكنه يكون موقوفاً على ما بينه الدليل، فإن دل الدليل على أنه أريد به العبارة عن الأمر حمل عليه، وأن دل الدليل على أنه أريد به العبارة عن غيره من التهديد والتعجيز والتحذير وغير ذلك حمل عليه، إلا أننا نتكلم معهم في الجملة: أن هذا اللفظ، هل يدل على الأمر من غير قرينة أم لا) ؟ وبسط كلامه في هذه المسألة إلى آخرها. وهذا أيضاً معروف عن أئمة الطريقة الخراسانية، ومن متأخريهم أبو محمد الجويني والد أبي المعالي. وقد ذكر القاضي أبو القاسم بن عساكر في مناقبه ما ذكره عبد الغافر الفارسي في ترجمة أبي محمد الجويني (قال: سمعت خالي أبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 سعيد - يعني عبد الواحد بن أبي القاسم القشيري - يقول: كان أئمتنا في عصره، والمحقوقون من أصحابنا، يعتقدون فيه من الكمال والفضل والخصال الحيمدة أنه لو جاز أن يبعث الله نبياً في عصره لما كان إلا هو، من حسن طريقته وورعه وزهده وديانته في كمال فضله) . كلام أبو محمد الجويني في عقيدة أصحاب الشافعي قال أبو محمد في آخر كتاب صنفه سماه: (عقيدة أصحاب الإمام المطلبي الشافعي وكافة أهل السنة والجماعة) وقد نقل هذا عنه أبو القاسم بن عساكر فيكتابه الذي سماه تبيين كذب المفتري. (قال أبو محمد: ونعتقد أن المصيب من المجتهدين في الأصول والفروع واحد، ويجب التعيين في الأصول، فأما في الفروع فربما يتأتى التعيين وربما لا يتأتى، ومذهب الشيخ أبي الحسن تصويب المجتهدين في الفروع، وليس ذلك مذهب الشافعي، وأبو الحسن أحد أصحاب الشافعي، فإذا خالفه في شيء أعرضنا عنه فيه، ومن هذا القبيل قوله: إنه لا صيغة للألفاظ، أي الكلام، وتقل وتعز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 مخالفته أصول الشافعي ونصوصه، وربما نسب المبتدعون إليه ما هو بريء منه، كما نسبوا إليه أنه يقول: ليس في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، وكذلك الاستثناء في الإيمان ونفي القدرة على الخلق في الأزل، وتكفير العوام، وإيجاب علم الدليل عليهم) قال: (وقد تصفحت ما تصفحت من كتبه، فوجدتها كلها خلاف ما نسب إليه) . قلت: هذه المسأئل فيها كلام ليس هذا موضعه، ولكن المقصود هنا: أنه جعل من القبيل الذي خالف فيه الشافعي وأعرض عنه فيه أصحابه: مسأل صيغ الألفاظ، وهذه هي مسألة الكلام، وقوله فيها هو قول ابن كلاب (إن كلام الله معنى واحد قائم بنفس الله تعالى: إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وإن القرآن العربي لم يتكلم الله به، بل وليس هو كلام الله، وإنما خلقه في بعض الأجسام) . وجمهور الناس من أهل السنة وأهل البدعة يقولون: إن فساد هذا القول معلوم بالاضطرار، وإن معاني القرآن ليست هي معاني التوراة، وليست معاني التوراة المعربة هي القرآن، ولا القرآن إذا ترجم بالعبرية هو التوراة، ولا حقيقة الأمر هي حقيقة الخبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 وإنما اضطر ابن كلاب والأشعري ونحوهما إلى هذا الأصل: أنهم لما اعتقدوا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته، لا فعل ولا تكلم ولا غير ذلك، وقد تبين لهم فساد قول من يقول: (القرآن مخلوق) ولا يجعل لله تعالى كلاماً قائماً بنفسه، بل يجعل كلامه ما خلقه في غيره، وعرفوا أن الكلام لا يكون مفعولاً منفصلاً عن المتكلم، ولا يتصف الموصوف بما هو منفصل عنه، بل إذا خلق الله شيئاً من الصفات والأفعال بمحل كان ذلك صفة لذلك المحل، لا لله، فإذا خلق في محل الحركة كان ذلك المحل هو المتحرك بها، وكذلك إذا خلق فيه حياة كان ذلك المحل هي الحي بها، وكذلك إذا خلق علماً أو قدرة كان ذلك المحل هو العالم القادر بها، فإذا خلق كلاماً في غيره كان ذلك المحل هو المتكلم به. وهذا التقرير مما اتفق عليه القائلون بأن القرآن غير مخلوق من جميع الطوائف مثل أهل الحديث والسنة، ومثل الكرامية والكلابية وغيرهم. ولازم هذا أن من قال: (إن القرآن العربي مخلوق) أن لا يكون القرآن العربي كلام الله، بل يكون كلاماً للمحل الذي خلق فيه، ومن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 قال (إن لفظ الكلام يقع بالاشتراك على هذا وهذا) تبطل حجته على المعتزلة، فإن أصل الحجة أنه إا خلق كلاماً في محل كان الكلام صفة لذلك المحل، فإذا كان القرآن العربي كلاماً مخلوقاً في محل، كان ذلك المحل هو المتكلم به، ولم يكون كلام الله، ولهذا قال من قال: (لا يسمى كلاماً إلا مجازاً) فراراً من أن يثبتوا كلاماً حقيقياً قائماً بغير المتكلم به، فلما عظم شناعة الناس على هذا القول، وكان تسمية هذا كلاماً حقيقة معلوماً بالاضطرار من اللغة، أراد من ينصرهم أن يجعل لفظ الكلام مشتركاً، فأفسد الأصل الذي بنوا عليه قولهم. وبإنكار هذا الأصل استطال عليهم من يقول بخلق القرآن من المعتزلة والشيعة والخوارج ونحوهم، فإن هؤلاء لما ناظرهم من سلك طريقة ابن كلاب - ومضمونها: أن الله لا يقدر على الكلام ولا يتكلم بما شاء ولا هو متكلم باختياره ومشيئته - طمع فيهم أولئك، لأن جمهور الخلق يعلمون أن المتكلم يتكلم بمشيئته واختياره، وهو قادر على الكلام، وهو يتكلم بما يشاء. ولكن منشأ اضطراب الفريقين اشتراكهما في أنه لا يقوم به ما يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 بإرادته وقدرته، فلزم هؤلاء - إذا جعلوا يتكلم بإرادته وقدرته واختياره - أن يكون كلامه مخلوقاً منفصلاً عنه، ولزم هؤلاء - إذا جعلوه غير مخلوق - أن لا يكون قادراً على الكلام، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يتكلم بما يشاء. والمقصود هنا أن عبد الله بن سعيد بن كلاب وأتباعه وافقوا سلف الأمة وسائر العقلاء على أن كلام المتكلم لا بد أن يقوم به، فما لا يكون إلا بائناً عنه لا يكون كلامه، كما قال الأئمة: كلام الله من الله ليس ببائن منه، وقالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، فقالوا: (منه بدأ) رداً على الجهمية الذين يقولون: بدأ من غيره، ومقصودهم أنه هو المتكلم به، كما قال تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} (الزمر: 1) وقال تعالى: {ولكن حق القول مني} (السجدة: 13) وأمثال ذلك. ثم إنهم - مع موافقتهم للسلف والأئمة والجمهور على هذا - اعتقدوا هذا الأصل، وهو أنه لا يقوم به ما يكون مقدوراً له متعلقاً بمشيئته، بناء على هذا الأصل الذي وافقوا فيه المعتزلة، فاحتاجوا حينئذ أن يثبتوا ما لا يكون مقدوراً مراداً، قالوا: والحروف المنظومة والأصوات لا تكون إلا مقدورة مرادة، فأثبتوا معنى واحداً، لم يمكنهم إثبات معان متعددة، خوفاً من إثبات ما لا نهاية له، فاحتاجوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 أن يقولوا (معنى واحداً) فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور المسلمين، بل جمهور العقلاء عليهم. وأنكر الناس عليهم أموراً: إثبات معنى واحد، هو الأمر والخبر، وجعل القرآن العربي ليس من كلام الله الذي تكلم به، وأن الكلام المنزل ليس هو كلام الله، وأن التوراة والإنجيل والقرآن إنما تختلف عباراتها، فإذا عبر عن التوراة بالعربية كان هو القرآن، وأن الله لا يقدر أن يتكلم، ولا يتكلم بمشيئته واختياره، وتكليمه لمن كلمه من خلقه، كموسى وآدم، ليس إلا خلق إدراك ذلك المعنى لهم، فالتكليم هو خلق الإدراك فقط. ثم منهم من يقول: السمع يتعلق بذلك المعنى وبكل موجود، فكل موجود يمكن أن يرى ويسمع، كما يقوله أبو الحسن ونحوه. ومنهم من يقول: إنه يسمع ذلك المعنى من القارىء مع صوته المسموع منه كما يقول ذلك طائفة أخرى. وجمهور العقلاء يقولون: إن هذه الأقوال معلومة الفساد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 بالضرورة، وإنما ألجأ إليها القائلين بها ما تقدم من الأصول التي استلزمت هذه المحاذير، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم. وكذلك من قال: (لا يتكلم إلا بأصوات قديمة أزلية ليست متعاقبة، وهو لا يقدر على التكلم بها، ولا له في ذلك مشيئة ولا فعل) من أهل الحديث والفقهاء والكلام المنتسبين إلى السنة، فجمهور العقلاء يقولون: إن قول هؤلاء أيضاً معلوم الفساد بالضرورة، وإنما ألجأهم إلى ذلك اعتقادهم أن الكلام لا يتعلق بمشيئة المتكلم وقدرته، مع علمهم بأن الكلام يتضمن حروفاً منظومة وصوتاً مسموعاً من المتكلم. وأما من قال: (إن الصوت المسموع من القارىء قديم) أو: (يسمع منه صوت قديم ومحدث) فهذا أظهر فساداً من أن يحتاج إلى الكلام عليه. وكلام السلف والأئمة والعلماء في هذا الأصل كثير منتشر، ليس هذا موضع استقصائه. دلالة القرآن على مسألة أفعال الله تعالى وأما دلالة الكتاب والسنة على هذا الأصل فأكثر من أن تحصر، وقد ذكر منها الإمام أحمد وغيره من العلماء في الرد على الجهمية ما جمعوه، كما ذكر الخلال في كتاب السنة، قال: (أخبرنا المروزي قال: هذا ما جمعه واحتج به أبو عبد الله على الجهمية من القرآن، وكتبه بخطه، وكتبته من كتابه، فذكر المروزي آيات كثيرة، دون ما ذكر الخضر بن أحمد بن عبد الله بن أحمد، وقال فيه: سمعت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 أبا عبد الله يقول: في القرآن عليهم من الحجج في غير موضع - يعني الجهمية -. قال الخلال: وأنبأنا الخضر بن أحمد المثنى الكندي سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: وجدت هذا الكتاب بخط أبي، فيما احتج به على الجهمية، وقد ألف الآيات إلى الآيات في السور، فذكر آيات كثيرةً تدل على هذا الأصل، مثل قوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} (البقرة: 186) وقوله تعالى: {بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} (البقرة: 117) وقوله {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة} (البقرة: 174) وقوله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} (المجادلة: 1) وقوله تعالى: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} (آل عمران: 181) وقوله تعالى: {إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم} إلى قوله تعالى - {كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} (آل عمران 45 - 47) وقوله تعالى {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 فيكون} (آل عمران: 59) وقول تعالى {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة} (آل عمران: 77) وقوله تعالى {وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك} (الأنعام: 73) . {وكلم الله موسى تكليما} (النساء: 164) وقوله: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} (الأعراف: 143) . {ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون} (يونس: 19) . {ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب} (هود: 110) . {ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم} (الشورى: 21) ، {وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} (هود: 119) ، {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (يوسف: 3) ، وقوله: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} (الكهف: 109) . وقال تعالى: {فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} (طه: 11 - 14) إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 قوله: - {إنني معكما أسمع وأرى} (طه: 46) ، {وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني} (طه: 39) . {ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى} (طه: 129) . {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم} (الأنبياء: 83 - 84) . وقوله: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} (الأنبياء: 87 - 88) . قوله {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه} (الأنبياء: 88 - 89) وقوله {الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا} (الفرقان: 59) ، وقوله: {فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها} (النمل: 80) . وقوله: {فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} (القصص: 30) . وقوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (يس: 88) وقوله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 (الصافات: 171 - 173) . وقوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} (الزمر: 67) . وقول تعالى: {هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} (غافر: 68) . {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (غافر: 60) {ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب} (الشورى: 14) . {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} (الشورى: 51) ، وقوله تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} (الزخرف: 55) . وقوله: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما} (المجادلة: 1) . قلت: وفي القرآن مواضع كثيرة تدل على هذا الأصل، كقوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} (البقرة: 29) ، وقوله: {قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين} إلى قوله: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} (فصلت: 9 - 11) ، وقوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} (البقرة: 210) وقوله: {هل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} (الأنعام: 158) ، وقوله: {وجاء ربك والملك صفا} (الفجر: 22) ، وقوله تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} (التوبة: 105) ، وقوله: {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} (يونس: 14) ، وقوله تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} (الأعراف: 54) في غير موضع في القرآن، وقوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: 40) . وقوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} (الإسراء: 16) ، وقوله تعالى: {وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} (الرعد: 11) . وقوله تعالى: {كل يوم هو في شأن} (الرحمن: 29) ، وقوله تعالى: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} (القصص: 65) ، وقوه تعالى: {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} (القصص: 62) ، {وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين} (الشعراء: 10) ، {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة} (الأعراف: 22) ، وقوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 تعالى: {قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون} (الشعراء: 15) ، وقوله: {سلام قولا من رب رحيم} (يس: 58) وقوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث} (الزمر: 23) ، وقوله: {فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون} (الجاثية: 6) ، وقوله: {فبأي حديث بعده يؤمنون} (المرسلات: 50) ، وقوله: {ومن أصدق من الله حديثا} (النساء: 87) . وأمثال ذلك كثير في كتاب الله تعالى، بل يدخل في ذلك عامة ما أخبر الله به من أفعاله، لا سيما المرتبة، كقوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (الضحى: 5) ، وقوله: {فسنيسره لليسرى} (الليل: 10) ، وقوله: {إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم} (الغاشية: 25 - 26) ، وقوله: {إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه} (القيامة: 17 - 19) ، وقوله: {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} (الانشقاق: 8) ، وقوله: {أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا} (عبس: 25 - 26) . وقوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} (الروم: 27) ، وقوله {ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين} (المرسلات: 16 - 17) ونحو ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 لكن الاستدلال بمثل هذا مبني على أن الفعل ليس هو المفعول، والخلق ليس هو المخلوق، وهو قول جمهور الناس على اختلاف أصنافهم، وقد قرر هذا في غير هذا الموضع. ثم هؤلاء على قولين: منهم من يقول: إن الفعل قديم لازم للذات لا يتعلق بمشيئته وقدرته، ومنهم من يقول: يتعلق بمشيئته وقدرته، وإن قيل إن نوعه قديم، فهؤلاء يحتجون بما هو الظاهر المفهوم من النصوص. وإذا تأول من ينازعهم أن المتجدد إنما هو المفعول المخلوق فقط من غير تجدد فعل، كان هذا بمنزلة من يتأول نصوص الإرادة والحب والبغض والرضا والسخط، على أن المتجدد ليس أيضاً إلا المخلوقات التي تراد وتحب وترضى وتسخط، وكذلك نصوص القول والكلام والحديث، ونحو ذلك: على أن المتجدد ليس إلا إدراك الخلق لذلك، وتأويل الإتيان والمجيء على أن المتجدد ليس إلا مخلوقاً من المخلوقات. فهذه التأويلات كلها من نمط واحد، ولا نزاع بين الناس أنها خلاف المفهوم الظاهر الذي دل عليه القرآن والحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 ثم ملاحدة الباطنية يقولون: إن الرسل أرادو إفهام الناس ما يتخيلونه، وإن لم يكن مطابقاً للخارج، ويجعلون ذلك بمنزلة ما يراه النائم، فتفسير القرآن عندهم يشبه تعبير الرؤيا التي لا يفهم تعبيرها من ظاهرها، كرؤيا يوسف والملك، بخلاف الرؤيا التي يكون ظاهرها مطابقاً لباطنها. وأما المسلمون من أهل الكلام النفاة فهم وإن كانوا يكفرون من يقول بهذا، فإما أن يتأولوا تأويلات يعلم بالضرورة أن الرسول لم يردها، وإما أن يقولوا: ما ندري ما أراد، فهم إما في جهل بسيط أو مركب، ومدار هؤلاء كلهم على أن العقل عارض ما دلت عليه النصوص. وقد بين أهل الإثبات أن العقل مطابق موافق لما أخبرت به النصوص، ودلت عليه، لا معارض له، لكن المقصود هنا أن نبين أن القرآن والسنة فيهما من الدلالة على هذا الأصل ما لا يكاد يحصر، فمن له فهم في كتاب الله يستدل بما ذكر من النصوص على ما ترك، ومن عرف حقيقة قول النفاة علم أن القرآن مناقض لذلك مناقضةً لا حيلة لهم فيها، وأن القرآن يثبت ما يقدر الله عليه ويشاؤه من أفعاله التي ليست هي نفس المخلوقات وغير أفعاله. ولولا ما وقع في كلام الناس من الالتباس والإجمال لما كان يحتاج أن يقال: الأفعال مفعول ليس هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 نفس المفعول، ولكن النفاة عندهم أن المخلوقات هي نفس فعل الله، ليس له فعل عندهم إلا نفس المخلوقات فلهذا احتيج إلى البيان. ومما يدل على هذا الأصل ما علق بشرط، كقوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق: 2 - 3) وقوله: {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (آل عمران: 31) وقوله: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} (الأنفال: 29) وقوله: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} (الطلاق: 1) وقوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله} (الكهف: 23 - 24) وقوله تعالى: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله} (محمد: 28) . وفي الجملة هذا في كتاب الله أكثر من أن يحصر. دلالة السنة على أفعال الله تعالى وكذلك في الأحاديث المستفيضة الصحيحة المتلقاة بالقبول، كقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه «ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه» وقوله: «أتدرون ماذا قال ربكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 الليلة؟» . وقوله في حديث الشفاعة: «إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله» . وقوله: «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات كجر السلسة على الصفا» وقوله: «إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث: أن لا تكلموا في الصلاة» . وقوله في حديث التجلي: «فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون» . وقوله: «لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه، فطلبها فلم يجدها، فنام تحت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 شجرة ينتظر الموت، فلما استيقظ إذا هو بدابته عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته» وهذا الحديث مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من غير وجه، من حديث ابن مسعود وأبي هريرة وأنس وغيرهم. وقوله: «يضحك الله إلى رجلين أحدهما صاحبه، كلاهما يدخل الجنة» وفي حديث آخر من يدخل الجنة «قال: فيضحك الله منه» وقوله «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان» . وفي حديث «قسمت الصلاة بيني وبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 عبدي نصفين، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} ، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال: أثنى علي عبدي. فإذا قال: مالك يوم الدين، قال مجدني عبدي» ، وقوله صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى: من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً» وقوله صلى الله عليه وسلم «ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا شطر الليل، أو ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» . وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأنصاري الذي أضاف رجلاً وآثره على نفسه وأهله، فلما أصبح الرجل غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «لقد ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وأنزل الله تبارك وتعالى {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (الحشر: 9) وهذه الأحاديث كلها في الصحيحين. وفي السنن من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الركوب على الدابة، قال: فقلت «يا رسول الله من أي شيء تضحك؟ قال: ربك يضحك إلى عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، قال: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري» وفي لفظ: «إن ربك ليعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري» وفي حديث أبي رزين عنه صلى الله عليه وسلم قال: «ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب، فقال له أبو رزين: أو يضحك الرب؟ قال نعم، فقال لن نعدم من رب يضحك خيراً» . وفي الصحيحين وغيرهما - في حديث التجلي الطويل المشهور الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة - فهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد، وفي مسلم من حديث جابر، ورواه أحمد من حديث ابن مسعود وغيره، قال في حديث أبي هريرة «قال: أو لست قد أعطيت العهود والمواثيق: أن لا تسأل غير الذي أعطيت؟ فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك! فيضحك الله تبارك وتعالى منه، ثم يأذن له في دخول الجنة» . وفي صحيح مسلم «عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن آدم، أترضى أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ فيقول: أي رب أتستهزىء بي، وأنت رب العالمين؟ وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألا تسألوني: مم ضحكت؟ فقالوا: مم ضحكت يا رسول الله؟ فقال: من ضحك رب العالمين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 حين قال: أتستهزىء بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزىء بك، ولكني على ما أشاء قادر» . وفي لصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقتل هذا فيلج الجنة، ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد» . وفي الصحيح أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم قال «عجب الله من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل» . وفي حديث معروف: «لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه ويسبغه، ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا تبشبش الله به كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته» . وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال: «الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون» - وفي لفظ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 «مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء» . وفي الصحيح أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله لا ينظر صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» . وفي الصحيحين عن أبي واقد الليثي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعداً في أصحابه إذ جاء ثلاثة نفر، فأما رجل فوجد فرجة في الحلقة فجلس، وأما رجل فجلس، يعني خلفهم، وأما رجل فانطلق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم عن هؤلاء النفر؟ أما الرجل الذي جلس في الحلقة فرجل أوى إلى الله فآواه الله، وأما الرجل الذي جلس خلف الحلقة فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الرجل الذي انطلق فأعرض فأعرض الله عنه» . وعن سلمان الفارسي موقوفاً ومرفوعاً قال: «إن الله يستحي أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 يبسط العبد يديه إليه يسأله فيهما خيراً فيردهما صفراً خائبتين» . وفي الصحيح عنه، فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه» . وفي الحديث الصحيح عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة: إنا لنكره الموت؟ قال: ليس ذاك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت يبشر برضوان الله وكرامته، وإذا بشر بذلك أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 الموت بشر بعذاب الله وسخطه، فكره لقاء الله، وكره الله لقاء» . وفي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» . وفي الصحيحين عن أبي سعيد «عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول عز وجل: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً» . وفي الصحيحين عن أنس قال: أنزل علينا - ثم كان من النسوخ -: أبلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا. وفي حديث «عمرو بن مالك الرواسي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، ارض عني، قال: فأعرض عني، ثلاثاً، قال: قلت: يا رسول الله، إن الرب ليرضى فيرضى، فارض عني، فرضي عني» . وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرىء مسلم، وهو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وفي الصحيحين «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله وهو حينئذ يشير إلى رباعيته» . وقال: «اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله» . وفي صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب ذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، فيقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 يخرج الملك الصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص» . وفي الصحيح «عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» . وفي حديث آخر: «أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده» . وفي الصحيحين عن أنس في حديث الشفاعة «عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول لي: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع» وذكر مثل هذا ثلاث مرات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم، فيسألهم - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي؟ قالوا: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون» . وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة «عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لله ملائكة سيارة فضلاً عن كتاب الناس، سياحين في الأرض، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيجيئون حتى يحفون بهم إلى السماء الدنيا، قال: فيقول الله عز وجل: أي شيء تركتم عبادي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 يصنعون؟ قال: فيقولون: تركناهم يحمدونك ويسبحونك ويمجدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا، قال: كيف لو رأوني؟ قال: فيقولون: لو رأوك لكانوا أشد تمجيداً وأشد ذكراً، قال: فيقول: فأي شيء يطلبون؟ قالوا يطلبون الجنة، قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: فيقولون: لا، قال: فيقول: كيف لو رأوها؟ قال: فيقولون: لو رأوها كانوا أشد عليها حرصاً وأشد لها طلباً، قال: فيقول: من أي شيء يتعوذون؟ قال: فيقولون: يتعوذون من النار، قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: فيقولون: لا، قال: فيقول: كيف لو رأوها؟ قال: فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها تعوذاً وأشد منها هرباً، قال: فيقول: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم، قال فيقولون: إن فيهم فلانا الخطاء، لم يردهم، إنما جاء في حاجة، قال: فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم» . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني قد أحببت فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض» وقال في البغض مثل ذلك. وفي الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عيه وسلم قال: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبراً اقتربت له ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد: أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما جلس قوم يذكرون الله إلا حفت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده» . وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن رجلاً أصاب ذنباً، فقال: رب، إني قد أصبت ذنباً فاغفره لي، فقال ربه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنباً آخر، فقال: أي رب، إني قد أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال ربه: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، فليعمل ما يشاء» . وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقبض الله الأرض ويطوى السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وفي الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئاً قدمه، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئاً قدمه، وينظر أمامه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل، فإن لم يجد فبكلمة طيبة» . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤية قال فيه: «فيلقى العبد فيقول: أي فل، ألم أكرمك، وأسودك وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى يا رب، قال: فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني، فيقول: أي فل - فذكر مثل ما قال الأول - ويلقى الثالث فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسولك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، قال: فيقول: فههنا إذن، قال: ثم يقال: ألا نبعث شاهدنا عليك؟ فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله ما كان ذلك، ليعذر من نفسه، وذلك المنافق» وذكر الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 وفي صحيح مسلم «عن أنس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضحك، قال: هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: فكفى بنفسك عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي بأعماله، فتنطق بأعماله قال: ثم يخلي بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بعداً لكن وسحقاً، فعنكن كنت أناضل» . وفي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة: لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقول له: قد أردت منك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي، فأبيت إلا أن تشرك» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدنو أحدكم من ربه، حتى يضع كنفه عليه، فيقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم يارب، فيقرره، ثم يقول: قد سترت عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، قال: ثم يعطى كتاب حسناته، وهو قوله: {هاؤم اقرؤوا كتابيه} وأما الكفار والمنافقون فينادون: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين» . وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، فيقول: يا رب كيف أعدك، وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده، ويقول: يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني، فيقول: أي رب، وكيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول تبارك وتعالى: أما علمت أن عبدي فلاناً استسقاك فلم تسقه؟ أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟ قال: ويقول: يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: أي رب وكيف أطعمك، وأنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً استطعمك فلم تطعمه؟ أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي» . وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قال: فيقولون: يارب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً» وهذا فيه ذكر المخاطبة وذكر الرضوان جميعاً. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آخر أهل الجنة دخولاً الجنة وآخر أهل النار خروجاً من النار: رجل يخرج حبواً، فيقول له ربه: ادخل الجنة، فيقول: إن الجنة ملأى، فيقول له ذلك ثلاث مرات، كل ذلك يعيد: الجنة ملأى، فيقول: إن لك مثل الدنيا عشر مرات» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل حلف على يمين على مال امرئ. مسلم فاقتطعه، ورجل حلف على يمين بعد العصر: أنه أعطي بسلعته أكثر مما أعطي، وهو كاذب، ورجل منع فضل ماء، يقول الله اليوم أمنعك من فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك» . وفي صحيح مسلم «عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يارسول الله؟ قال: المسبل إزاره، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 وهذا الحديثان فيهما نفي التكليم والنظر عن بعض الناس. كما نفى القرآن مثل ذلك، وأما نفي التكليم وحده ففي غير حديث. وهذا الباب في الأحاديث كثير جداً يتعذر استقصاؤه. ولكن نبهنا ببعضه على نوعه، والأحاديث جاءت في هذا الباب كما جاءت الآيات مع زيادة تفسير في الحديث، كما أن أحاديث الأحكام تجيء موافقة لكتاب الله، مع تفسيرها لمجمله، ومع ما فيها من الزيادات التي لا تعارض القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل على نبيه الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهم من آيات الله والحكمة، وامتن على المؤمنين بأن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته وزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، و «قال النبي صلى الله عيه وسلم: ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه» . وفي رواية: «ألا إنه مثل القرآن أو أكثر» . فالحكمة التي أنزلها الله عليه مع القرآن، وعلمها لأمته، تتناول ما تكلم به في الدين من غير القرآن من أنواع الخبر والأمر، فخبره موافق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 لخبر الله، وأمره موافق لأمر الله، فكما أنه يأمر بما في الكتاب أو بما هو تفسير ما في الكتاب، وبما لم يذكر بعينه في الكتاب، فهو أيضاً يخبر بما في الكتاب وبما هو تفسير ما في الكتاب، وبما لم يذكر بعينه في الكتاب، فجاءت أخباره في هذا الباب يذكر فيها أفعال الرب: كخلقه ورزقه وعدله وإحسانه وإثابته ومعاقبته، ويذكر فيها أنواع كلامه وتكليمه لملائكته وأنبيائه وغيرهم من عباده، ويذكر فيها ما يذكره من رضاه وسخطه، وحبه وبغضه، وفرحه وضحكه، وغير ذلك من الأمور التي تدخل في هذا الباب. والناس في هذا الباب ثلاثة أقسام: الناس في مسألة أفعال الله تعالى ثلاثة أقسام الجهمية المحضة من المعتزلة ومن وافقهم، يجعلون هذا كله مخلوقاً منفصلاً عن الله تعالى. والكلابية ومن وافقهم، يثبتون ما يثبتون من ذلك: إما قديماً بعينه لازماً لذات الله، وإما مخلوقاً منفصلاً عنه. وجمهور أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام، يقولون: بل هنا قسم ثالث قائم بذات الله متعلق بمشيئته وقدرته، كما دلت عليه النصوص الكثيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 ثم بعض هؤلاء قد يجعلون نوع ذلك حادثاً، كما تقوله الكرامية، وأما أكثر أهل الحديث ومن وافقهم فإنهم لا يجعلون النوع حادثاً، بل قديماً، ويفرقون بين حدوث النوع وحدوث الفرد من أفراده، كما يفرق جمهور العقلاء بين دوام النوع ودوام الواحد من أعيانه، فإن نعيم أهل الجنة يدوم نوعه ولا يدوم كل واحد واحد من الأعيان الفانية، ومن الأعيان الحادثة ما لا يفنى بعد حدوثه، كأرواح الآدميين، فإنها مبدعة، كانت بعد أن لم تكن، ومع هذا فهي باقية دائمة. والفلاسفة تجوز مثل ذلك في دوام النوع دون أشخاصه، لكن الدهرية منهم ظنوا أن حركات الأفلاك من هذا الباب، وأنها قديمة النوع، فاعتقدوا قدمها، وليس لهم على ذلك دليل أصلاً، وعامة ما يحتجون به إبطال قول من لا يفرق بين حدوث النوع وحدوث الشخص، ويقولون: إنه يلزم من حدوث الأعيان حدوث نوعها، ويقولون: إن ذلك كله حدث من غير تجدد أمر حادث. وهذا القول إذا بطل كان بطلانه أقوى في الحجة على الدهرية في إفساد قولهم، وفي صحة ما جاء به الكتاب والسنة، كما تقدم بيانه، وإن لم يبطل بطل قولهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 فالمعقول الصريح موافق للشرع متابع له كيف ما أدير الأمر، وليس في صريح المعقول ما يناقض صحيح المنقول، وهو المطلوب. ومن المعلوم: أن أصل الإيمان تصديق الرسول فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أنه لا يجوز أن يكون ثم دليل لا عقلي ولا غير عقلي يناقض ذلك، وهذا هو المطلوب هنا. ولكن أقواماً ادعوا معارضة طائفة من أخباره للمعقول. أصل خطأ المبتدعة في هذه المسألة وأصل وقوع ذلك في المنتسبين للإسلام والإيمان: أن أقواماً من أهل النظر والكلام أرادوا نصرة ما اعتقدوا أنه قوله بما اعتقدوه أنه حجة، ورأوا أن تلك الحجة لها لوازم يجب التزامها، وتلك اللوازم تنافض كثيراً من أخباره. وهؤلاء غلطوا في المنقول والمعقول جميعاً، كما اعتقدت المعتزلة وغيرهم من الجهمية نفاة الصفات والأفعال أنه أخبر أن كل ما سوى الذات القديمة المجردة عن الصفات محدث الشخص والنوع جميعاً، وظنوا أن، هذا من التوحيد الذي جاء به، واحتجوا على ذلك بما يستلزم حدوث كل ما قامت به صفة وفعل، وجعلوا هذا هو الطريق إلا إثبات وجوده ووحدانيته وتصديق رسله، فقالوا: إن كلامه مخلوق، خلقه في غيره، لم يقم به كلام، وإنه لا يرى في الآخرة، ولا يكون مبايناً للخلق، ولا بقوم به علم ولا قدرة ولا غيرهما من الصفات، ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 فعل من الأفعال، لا خلق للعالم ولا استواء ولا غير ذلك، فإنه لو قام به فعل أو صفة لكان موصوفاً محلاً للأعراض، ولو قام به فعل يتعلق بمشيئته للزم تعاقب الأفعال ودوام الحوادث، وإذا جوزوا دوام النوع الحادث أو قدمه بطل ما احتجوا على ما ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به. وهم مخطئون في المنقول والمعقول. أما المنقول: فإن الرسول لم يخبر قط بقدم ذات مجردة عن الصفات والأفعال، بل النصوص الإلهية متظاهرة باتصاف الرب بالصفات والأفعال. وهذا معلوم بالضرورة لمن سمع الكتاب والسنة، وهم يسلمون أن هذا هو الذي يظهر من النصوص، ولكن أخبر عن الله بأسمائه الحسنى وآياته المثبتة لصفاته وأفعال، وأنه: {خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش} (الفرقان: 59) . فمن قال: إن الأفلاك قديمة أزلية فقوله مناقض لقول الرسول صلى الله عليه وسلم بلا ريب، كما أن من قال (إن الرب تعالى لا علم له ولا قدرة ولا كلام ولا فعل) فقوله مناقض لقول الرسول، وليس مع واحد منهما عقل صريح يدل على قوله، بل العقل الصريح مناقض لقوله، كما قد بين في موضعه من وجوه كثيرة، مثل ما يقال: إن العقل الصريح يعلم أن إثبات عالم بلا علم وقادر بلا قدرة ممتنع، كإثبات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 علم بلا عالم وقدرة بلا قادر. وأعظم امتناعاً من ذلك أن يكون العلم هو العالم، والعلم هو القدرة، فهذا قول نفاة الصفات. وأما القائلون بقدم العالم فقولهم يستلزم امتناع حدوث حادث، فإن القديم إما واجب بنفسه أو لازم للواجب بنفسه، ولوازم الواجب لا تكون محدثة ولا مستلزمة لمحدث، فالحوادث ليست من لوازمه، وما لا يكون من لوازمه يتوقف وجوده على حدوث سبب حادث، فإذا كان القديم الواجب نفسه، أو اللازم للواجب، لا يصدر عنه حادث - امتنع حدوث الحوادث، وهذا حقيقة قولهم، فإنهم يزعمون أن العالم له علة قديمة موجبة له، وهو لازم لعلته، وعلته عندهم مستلزمة لمعلولها ومعلول معلولها، فيمتنع أن يحدث شيء في الوجود، إذ الحادث المعين يكون لازماً للقديم بالضرورة واتفاق العقلاء. وإذا قالوا: (يجوز أن يحدث عن الواجب بنفسه حادث بواسطة) قيل: الكلام في تلك الواسطة كالكلام في الأول، فإنها إن كانت قديمة لازمة له لزم قدم المعلولات كلها، وإن كانت حادثة فلا بد لها من سبب حادث. وإذا قالوا: (كل حادث مشروط بحادث قبله لا إلى أول) . قيل لهم: فليست أعيان الحوادث من لوازم الواجب بنفسه، وإذا كان النوع من لوازم الواجب امتنع وجود الواجب بنفسه بدون النوع، ونوع الحوادث ممكن بنفسه ليس فيه واجب بنفسه، فيكون نوع الحوادث صادراً عن الواجب بنفسه، فلا يجب قدم شيء معين من أجزاء العالم، لا الفلك ولا غيره، وهو نقيض قولهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 وإذا قالوا: (نوع الحوادث لازم لجرم الفلك والنفس، وهذان لازمان للعقل، وهو لازم للواجب بنفسه) . قيل لهم: فذاته مستلزمة لنوع الحوادث، سواء كان بوسط أو بغير وسط، والذات القديمة المستلزمة لمعلولها لا يحدث عنها شيء، لا بوسط ولا بغير وسط، سواء كان الحادث نوعاً أو شخصاً، لأن النوع الحادث يمتنع مقارنته لها، كما تمتنع مقارنة الشخص الحادث لها، لأن النوع الحادث إنما يوجد شيئاً فشيئاً، والمقارن لها قديم معها لا يوجد شيئاً فشيئاً، فبطل أن تكون الحوادث صادرة عن علة تامة مستلزمة لنوعها المقترن بعضه ببعض أو شخص منها، فبطل أن يكون العالم صادراً عن علة موجبة له، كما بطل وجوبه بنفسه، وهو المطلوب. ومما يبين ذلك: أن القديم يستلزم قدم موجبه، أو وجوبه بنفسه، فإن القديم إما واجب بنفسه وإما واجب بغيره، إذ الممكن الذي لا موجب له لا يكون موجوداً، فضلاً عن أن يكون قديماً، بالضرورة واتفاق العقلاء، وإذا كان واجباً بغيره فلا بد أن يكون الموجب له قديماً، بالضرورة واتفاق العقلاء، وإذا كان واجباً بغيره فلا بد أن يكون الموجب له قديماً، ولا يكون موجباً له حتى تكون شروط الإيجاب قديمة أيضاً، فيمتنع أن يكوم موجب القديم أو شرط من شروط الإيجاب حادثاً، لأن الموجب المقتضي للفاعل المؤثر يمتنع أن يتأخر عن موجبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 الذي هو مقتضاه وأثره، وهذا معلوم بالضرورة، ومتفق عليه بين العقلاء. وإذا كان كذلك فيمتنع أن يكون جميع العالم واجباً بنفسه، إذ لو كان كذلك لم يكن في الموجودات ما هو حادث، لأن الحادث كان معدوماً، وهو مفتقر إلى محدث يحدث، فضلاً عن أن يكون واجباً بنفسه. فثبت أن في العالم ما ليس بواجب، والواجب بغيره لا بد له من موجب تام مستلزم لموجبه، والموجب التام لا يتأخر عنه شيء من موجبه ومقتضاه، فيمتنع صدور الحوادث عن موجب تام، كما يمتنع أن تكون هي واجبة بنفسها، وإذا لم تكن واجبة ولا صادرة عن علة موجبة فلا بد لها من فاعل ليس موجباً بذاته، وإذا كان غاية ما يقولون: إن العالم صادر عن علة موجبة بنفسها بغير واسطة أو بوسائط لازمة لتلك العلة، فعلى هذا التقدير: يمتنع حدوث الحوادث عنه، فإن لم يكن للحوادث فاعل غيره، وإلا لزم حدوثها بلا محدث، وهذا معلوم الفساد بالضرورة. فتبين أن للحوادث محدثاً ليس هو مستلزماً لموجبه ومقتضاه، فامتنع أن يكون محدث الحوادث علة مستلزمة لمعلولها، أو أن يكون شيئاً من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 معلولاتها، وهم يقولون: إن العالم صادر عن علة مستلزمة لمعلولها، وكل ما سواها معلول لها، وهذا مما تبين بطلانه بالضرورة. ومن قال: (إن مجموع أجزاء العالم واجبة أو قديمة) فقوله معلوم الفساد بالضرورة. ومن قال: (إن الحوادث صادرة عن جزء منه واجب) فقوله أيضاً معلوم الفساد، سواء جعل ذلك الجزء الأفلاك أو بعضها، لوجهين: أحدهما: أن ذلك الجزء الذي هو واجب بغيره إذا كان علة تامة لغيره لزم أيضاً قدم معلوله معه، فيلزم أن لا يحدث شيء، وإن كان ذلك الجزء الواجب ليس هو علة تامة، امتنع صدور شيء عن غير علة تامة، ولو قدر إمكان الحدوث عن غير علة تامة أمكن حدوث كل ماسوى الله، فعلى كل تقدير قولهم باطل. الوجه الثاني: أنه من المعلول أنه ليس شيء من أجزاء العالم مستقلاً بالأبداع لغيره من أجزائه، وإن قيل: (إن بعض أجزائه سبب لبعض) فتأثيره متوقف على سبب آخر، وعلى إنتفاء موانع، فلا يمكن أن يجعل شيء من أجزاء العالم رباً واجباً بنفسه، قديماً مبدعاً لغيره، والحوادث لا بد لها من رب واجب بنفسه قديم مبدع لغيره، وليس شيء من أجزاء العالم مما يمكن ذلك فيه، فعلم أن الرب تعالى خارج عن العالم وأجزائه وصفاته، وهذا كله مبسوط في موضع آخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 والمقصود هنا بيان أنه ليس في المعقول ما يناقض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد علم أن المدعين لمعقول يناقضه صنفان: صنف يجوزون عليه وعلى غيره من الرسل فيما أخبروا به عن الله تعالى وبلغوه إلى الأمم عن الله تعالى الكذب عمداً أو خطأ، أو أن يظهر نقيض ما يبطن، كما يقول ذلك من يقوله من الكفار بالرسل، ومن المظهرين لتصديقهم، كالمنافقين من المتفلسفة والقرامطة والباطنية ونحوهم ممن يقول بشيء من ذلك. وصنف لا يجوزون عليهم ذلك، وهذا هو الذي يقوله المتكلمون المنتسبون إلى الإسلام على اختلاف أصنافهم. والمبتدعة من هؤلاء مخطئون في السمع وفي العقل، ففي السمع حيث يقولون على الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقل عمداً أو خطأ، وفي العقل حيث يقررون ذلك بما يظنونه براهين، وإذا كانت الدعوى خطأ لم تكن حجتها إلا باطلة، فإن الدليل لازم لمدلوله، ولازم الحق لا يكون إلا حقاً، وأما الباطل فقد يلزمه الحق، فلهذا يحتج على الحق بالحق تارة وبالباطل تارة، وأما الباطل فلا يحتج عليه إلا بباطل، فإن حجته لو كانت حقاً لكان الباطل لازماً للحق، وهذا لا يجوز، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 لأنه يلزم من ثبوت الملزوم ثبوت اللازم، فلو كان الباطل مسلتزلماً للحق لكان الباطل حقاً، فإن الحجة الصحيحة لا تستلزم إلا حقاً، وأما الدعوى الصحيحة: فقد تكون حجتها صحيحية، وقد تكون باطلة. ومن أعظم ما بنى عليه المتكلمة النافية للأفعال وبعض الصفات أو جميعها أصولهم التي عارضوا بها الكتاب والسنة: هي هذه المسألة، وهي نفي قيام ما يشاؤه ويقدر عليه بذاته من أفعاله وغيرها. كلام الرازي والآمدي عن أدلة النفاة وقد ذكر أبو عبد الله الرازي - هو وأبو الحسن الآمدي ومن اتبعهما - أدلة نفاة ذلك، وأبطلوها كلها، ولم يستدلوا على نفي ذلك إلا بأن ما يقوم به إن كان صفة كمال كان عدمه قبل حدوثها نقصاً، وإن كان نقصاً اتصافه بالنقص، والله تعالى منزه عن ذلك. وهذه الحجة ضعيفة، ولعلها أضعف مما ضعفوه، ونحن نذكر ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 ذكره أبو عبد الله ابن الخطيب في ذلك في أجل كتبه الكلامية الذي سماه نهاية العقول في دراية الأصول وذكر أنه أورد فيه من الحقائق والدقائق ما لا يكاد يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين، والسابقين واللاحقين، من الموافقين والمخالفين، ووصفه بصفات تطول. قال: (وهذا كله لا يعلمه إلا من تقدم تحصيله لأكثر كلام العلماء، وتحقق وقوفه على مجامع بحث العقلاء، من المحقين والمبطلين، والموافقين والمخالفين) . قال: (فإنني قلما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 تكلمت فيه في المبادىء والمقدمات، بل أكثر العناية كان مصروفاً إلى تلخيص النهايات والغايات) . وقال في هذا الكتاب: (الأصل الثاني عشر، وهو ما يستحيل على الله) قال: (المسألة الرابعة في أنه يستحيل عليه أن يكوم محلاً للحوادث، واتفقت الكرامية على تجويز ذلك، وأما تجدد الأحوال: فالمعتزلة اختلفوا في تجويزه، مثل المدركية والسامعية والمبصرية والمريدية والكارهية، وأما أبو الحسين البصري فإنه أثبت تجدد العالميات في ذاته) . قال: (وأما الفلاسفة فمع أنهم في المشهور أبعد الناس عن هذا المذهب، ولكنهم يقولون بذلك من حيث لا يعرفونه، فإنه يجوزون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 تجدد الإضافات على ذاته، مع أن الإضافة عندهم عرض وجودي، وذلك يقتضي كون ذاته موصوفة بالحوادث، وأما أبو البركات البغدادي فقد صرح باتصاف ذاته بالصفات المحدثة) . قلت: أبو عبد الله الرازي غالب مادته في كلام المعتزلة: ما يجده في كتب أبي الحسين البصري، وصاحبه محمود الخوارزمي، وشيخه عبد الجبار الهمداني ونحوهم، وفي كلام الفلاسفة: ما يجده في كتب ابن سينا وأبي البركات ونحوهما، وفي مذهب الأشعري: يعتمد على كتب أبي المعالي كالشامل ونحوه كتب القاضي أبي بكر وأمثاله، وهو ينقل أيضاً من كلام الشهرستاني وأمثاله. وأما كتب القدماء كـ أبي الحسن الأشعري وأبي محمد بن كلاب وأمثالهما، وكتب قدماء المعتزلة والنجارية والضرارية ونحوهم، فكتبه تدل على أنه لم يكن يعرف ما فيها، وكذلك مذهب طوائف الفلاسفة المتقدمين، وإلا فهذا القول الذي حكاه عن أبي البركات هو قول أكثر قدماء الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو، وقول كثير منهم، كما نقل ذلك أرباب المقالات عنهم، فنقل أرباب المقالات الناقلون لاختلاف الفلاسفة في الباري ما هو؟ قالوا: قال سقراط وأفلاطون وأرسطو: إن الباري لا يعبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 عنه إلا بهو فقط، وهو الهوية المحضة غير المتكثرة، وهي الحكمة المحضة والحق المحض، وليست لله صورة مثل الصورة التي تكترث في العنصر، وهو الأيس الذي لا يحيط به الذهن ولا العقل، ولا يجوز عليه التغير ولا الصفة ولا العدد ولا الإضافة ولا الوقت ولا المكان ولا الحدود، ولا يدرك بالحواس ولا بالعقول من جهة غاية الكنه، ولكن بأنه واحد أزلي ليس باثنين، لأنا إن أوقعنا عليه العدد لزمته التثنية، وإن أوقعنا عليه الإضافة لزمه الزمان والمكان والقبل والبعد، وإن أوقعنا عليه المكان لزمه الحدود، وجعلناه متنايهاً إلى غيره، وقال تاليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 وبلاطرخس ولوقيوس وكسيفايس وأنبذقليس جميعاً: إن الباري واحد ساكن، غير أن أنبذقليس قال: إنه متحرك بنوع سكون، كالعقل المتحرك بنوع سكون، فذلك جائز، لأن العقل إذا كان مبدعاً فهو متحرك بنوع سكون، فلا محالة أن المبدع متحرك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 بسكون، لأنه علة، قالوا: وشايعه على هذا القول فيثاغورس ومن بعده إلى زمن أفلاطون. وقال زينون وديمقراط وساغوريون: إن الباري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 متحرك في الحقيقة، وإن حركته فوق الذهن، فليس زوالاً. قالوا: وقال تاليس - وهو أحد أساطين الحكمة -: إن صفة الباري لا تدركها العقول إلا من جهة آثاره، فأما من جهة هويته: فغير مدرك له صفة من نحو ذاته، بل من نحو ذواتنا، وكان يقول: أبدع الله العالم لا لحاجة إليه، بل لفضله، ولولا ظهور أفاعيل الفضيلة لم يكن ههنا وجود، وكان يقول: إن فوق السماء عوالم مبدعة أبدعها من لا تدرك العقول كنهه. وقال فيثاغورس نحو قال تاليس: لا يدرك من جهة النفس، هو فوق الصفات العلوية الروحانية، غير مدرك بجوهريته، بل من قبل آثاره في كل عالم، فيوصف وينعت بقدر ظهور تلك الآثار في ذلك العالم، وهو الواحد الذي رامت العقول إدراك معرفته عرفت أن ذواته مبدعة مسبوقة مخلوقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 قالوا: وقال انكسيمانس نحو مقالة هذين، غير أنه يجوز لقائل أن يقول: إن الباري يتحرك بحركة فوق هذه الحركات. كلام ابن ملكا قلت: وكذلك أبو البركات في المعتبر حكى المقالتين عن غيره، بل عن القائلين بقدم العالم، فقال: (قال القائلون بالحدوث للقدميين: فإذا كان الله لم يزل جواداً خالقاً قديماً في الأزل، فالحوادث في العالم كيف وجدت؟ أعن القديم أم عن غيره؟ فإن قلتم: هو خالقها، وعنه صدر وجودها، فقد قلتم بأن القديم خلق المحدث، وأراد خلقه بعد أن لم يرد، وإن قلتم: إن غيره فعل الحوادث، فقد أشركتم بعد ما بالغتم في التوحيد لواجب الوجود بذاته) . قال: (فقال القدميون: بل الخالق الأول الواحد القديم هو خالق المخلوقات بأسرها من قديم وحديث، وحده لا شريك له في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 وجوده وخلقه وملكه وأمره، وتشعب رأيهم في ذلك إلى مذهبين: فمنهم من قال: إنه خلق الأشياء القديمة دائمة الوجود بدوام وجوده والحوادث شيئاً بعد شيء، أراد فخلق، وخلق فأراد، أوجب خلقه إرادته، وأوجب إرادته خلقه. مثال ذلك: أنه أراد خلق آدم الذي هو الأب فخلقه وأوجده، وأراد بوجود الأب وجود الابن، أراد فجاد، وجاد فأراد، إرادة بعد إرادة لموجود بعد موجود، فإذا قلتم: لم أوجد؟ قيل: لأنه أراد فجاد، ولم أراد؟ قيل: لأنه أوجد، فوجود الحوادث يقتضي بعضها بعضاً من وجوده السابق واللاحق. فإن قالوا: كيف تحدث له الإرادة؟ وكيف يكون له حال منتظرة تكون بعد أن لم تكن؟ وكيف يكون محل الحوادث؟ قيل: وكيف يكوم محلاً لغير الحوادث؟ أعني الإرادة القديمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 فإن قيل: لإنها له منه. قيل: والإرادات له منه. فإن قيل: الإرادة القديمة له في قدمه. قيل: والحديثة له في قدمه، لأن السابق من وجوده بالإرادة السابقة أوجب عنده إرادة لاحقة، فأحدث خلقاً بعد خلق بإرادة بعد إرادة وجبت في حكمته من خلقه بعد خلقه، فاللاحق من إرادته وجب عن سابق إرادته بتوسط مراداته، وهكذا هلم جراً) . قال: (والتنزيه عن الإرادة الحادثة كالتنزيه عن الأرادة القديمة، في كونه محلاً لها، لكنه لا وجه لهذا التنزيه، كما سنتكلم عليه في فصل العلم، إذا قلنا في علمه: لم يعلم؟ وكيف يعلم؟. قال: (فهذا أحد المذهبين) قال:، (وأما المذهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 الآخر: فإن أهله يقولون إن كل حادث يتجدد بعد عدمه، فله سبب يوجب حدوثه، وذلك السبب حادث أيضاً، حتى ترتقي أسباب الحوادث إلى الحركة الدائمة في المتحركات الدائمة) وساق تمام قول هؤلاء، وهو قول أرسطو وأتباعه. وقد نقل غير واحد أن أول من قال بقدم العالم من الفلاسفة هو أرسطو، وأما أساطين الفلاسفة قبله فلم يكونوا يقولون بقدم صورة الفلك، وإن كان لهم في المادة أقوال أخر، وقد بسط الكلام على هذا الأصل في مسألة العلم وغيره لما رد على من زعم أنه لا يعلم الجزئيات، حذراً من التغير والتكثر في ذاته، وذكر حجة أرسطو وابن سينا ونقضها. وقال: (فأما القول بإيجاب الغيرية فيه بإدراك الإغيار والكثرة بكثرة المدركات، فجوابه المحقق: أنه لا يتكثر بذلك تكثراً في ذاته، بل في إضافاته ومناسباته، وتلك مما لا يعيد الكثرة على هويته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وذاته، ولا الوحدة التي أوجبت وجوب وجوده بذاته ومبدئيته الأولى التي بها عرفناه، وبحسبها أوجبنا له ما أوجبنا، وسلبنا عنه ما سلبنا، هي وحدة مدركاته ونسبه وإضافاته، بل إنما هي وحدة حقيقته وذاته وهويته) . قال: (ولا تعتقدن أن الوحدة المقولة في صفات واجب الوجود بذاته قيلت على طريق التنزيه، بل لزمت بالبرهان عن مبدئيته الأولى ووجوب وجوده بذاته والذي لزم عن ذلك لم يلزم إلا في حقيقته وذاته، لا مدركاته وإضافاته، فأما أن يتغير بإدراك المتغيرات فذلك أمر إضافي (لا معنى في نفس الذات، وذلك مما لم تطبله الحجة، ولم يمنعه البرهان، ونفيه من طريق التنزيه والإجلال لا وجه له، بل التنزيه من هذا التنزيه والإجلال من هذا الإجلال أولى) . وتكلم على قول أرسطو، إذ قال: من المحال أن يكون كماله بعقل غيره، إذ كان جوهراً في الغاية من الإلهية والكرامة والعقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 فلا يتغير، والتغير فيه انتقال إلى الأنقص، وهذا هو حركة ما، فيكون هذا العقل ليس عقلاً بالفعل، لكن بالقوة، فقال أبو البركات: (ما قيل في منع التغير مطلقاً حتى يمنع التغير في المعارف والعلوم: فهو غير لازم في التغير مطلقاً، بل هو غير لازم البتة، وإن لزم كان لزومه في بعض تغيرات الأجسام، مثل الحرارة والبرودة، وفي بعض الأوقات، لا في كل حال ووقت، ولا يلزم مثل ذلك في النفوس التي تخصها المعرفة والعلم دون الأجسام، فإنه يقول: إن كل تغير وانفعال فإنه يلزم أن يتحرك قبل ذلك التغير حركة مكانية) . قال: (وهذا محال، فإن النفوس تتجدد لها المعارف والعلوم من غير أن تتحرك على المكان، على رأيه، فإنه لا يعتقد فيها أنها مما يكون في مكان البتة، فكيف أن تتحرك فيه؟ وإنما ذلك للأجسام في بعض التغيرات والأحوال، كالتسخن والتبرد، ولا يلزم فيهما أبداً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وإنما ذلك فيما يصعد بالبخار من الماء ويتدخن من الأرض من الأجزاء التي هي كالهباء دون غيرها من الأحجار الكبار الصلبة التي تحمى حتى تصير بحيث تحرق وهي في مكانها لا تتحرك، والماء يسخن سخونة كثيرة وهو في مكانه لا يتبخر وإنما يتبخر منه بعض الأجزاء، ثم تكون الحركة المكانية بعد الاستحالة، لا قبلها: كما قال: إن جميع هذه هي حركات توجد بأخرة بعد الحركات المكانية، وفيما عدا ذلك فقد يسود الجسم ويبيض هو في مكانه لم يتحرك قبل الاستحالة ولا بعدها، فما لزم هذا في كل جسم، بل في بعض الأجسام، ولا في كل حال ووقت، بل في بعض الأحوال والأوقات، ولا كان ذلك على طريق التقدم كما قال، بل على طريق التبع، ولو لزم في التغيرات الجسمانية لما لزم في التغيرات النفسانية، ولو لزم التغيرات النفسانية ايضاً لما لزم انتقال الحكم فيه إلى التغيرات في المعارف والعلوم والعزائم والإرادات، فالحكم الجزئي لا يلزم كلياً، ولا يتعدى من البعض إلى البعض، وإلا لكانت الأشياء على حالة واحدة) . وبسط الكلام في مسألة العلم، وقال - لما ذكر القولين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 المتقدمين -: (والقائلون بالحدوث قالوا: إنه لا يحتاج إلى هذا التمحل، وسموه على طريق المجادلة باسم التمحل للتشنيع والتسفيه، بل نقول: بأن المبدىء المعيد خلق العالم وأحدثها بإرادة قديمة أزلية أراد بها في القدم إحداث العالم حتى أحدثه) . وقال: (وقيل في جوابهم: إن ذلك المبدأ لا يتغير ويتخصص في القدم إلا معقول يجعله مقصوداً في العلم القديم عند الإرادة القديمة، حيث أراده في مدة العدم السابق لحدوث العالم التي هي مدة غير متناهية البداية، وما لا يعقل ولا يتصور لا يعلم، وما لا يمكن أن يعلم لا يعلمه عالم، لا لأن الله لا يقدر على علمه، لكن لأنه في نفسه غير مقدرور عليه، ثم ما الذي يقولونه في حدوث العالم: من مشيئة الله وإرادته التي بها يقبل الدعاء من الداعي، ويحسن إلى المحسن، ويسيء إلى المسيء، ويقبل توبة التائب، ويغفر للمستغفر، هل يكون ذلك عنه أو لا يكون؟ فإن قالوا بأنه لا يكون أبطلوا بذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 الشرع الذي قصدهم نصرته، وأبطلوا حكم أوامره ونواهيه، وكل ما جاء لأجله من الحث على الطاعة، والنهي عن المعصية، وإن قالوا: يكون ذلك بأسره عنه فهل هو بإرادة أم بغير إرادة؟ وكونه بغير إرادة أشنع، وإن كان بإرادة فهل هي إرادة قديمة أم محدثة؟ فإن كانت قديمة فالإرادات القديمة غير واحدة، وما أظنهم يقولون: إن المرادات الكثيرة صدرت عن إرادة واحدة. قال: (وإن قالوا: إن ذلك يصدر عنه بإرادات حادثة، فقد قالوا بما هربوا منه أولاً) . تعليق ابن تيمية قلت: فأبو البركات لاستبعاد عقله أن تصدر المرادات الكثيرة عن إرادة واحدة ظن أن هؤلاء لا يقولون به، وهم يقولون به، فإن هذا قول ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف، يقولون: إنه يعلم المعلومات كلها بعلم واحد بالعين، ويريد المرادات كلها بإرادة واحدة بالعين، وإن كلامه الذي تكلم به من الأمر بكل مأمور والخبر عن كل مخبر عنه هو أيضاً واحد بالعين، ثم تنازع القائلون بهذا الأصل: هل كلامه معنى فقط والقرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 العربي ليس هو كلامه، أو كلامه الحروف أو الحروف والأصوات التي نزل بها القرآن وغيره، وهي قديمة العين؟ على قولين. ومن القائلين بقدم أعيان الحروف والأصوات من لا يقول هي واحدة، بل يقول: هي متعددة، وإن كانت لا نهاية لها، ويقول بثبوت حروف، أو حروف ومعان لا نهاية لها في آن واحد، وأنها لم تزل ولا تزال، وهذا مما أوجب قول القائلين بأن كلام الله مخلوق، وأنه ليس له كلام قائم بذاته، لما رأوا أن ما ليس بمخلوق فهو قديم العين، والثاني ممتنع عندهم، فتعين الأول. وأولئك الصنفان قالوا: والأول ممتنع، فتعين الثاني، وهؤلاء إنما قالوا هذه الأقوال لظنهم أنه يمتنع أن تقوم به الأمور الاختيارية: لا كلام باختياره، ولا غير كلام، كما قد بين في موضعه. وهذا الأصل هو القول بقيام الحوادث به هو قول هشام بن الحكم وهشام الجواليقي وابن مالك الحضرمي وعلي بن الهيثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 وأتباعهم، وطوائف من متقدمي أهل الكلام والفقه، كأبي معاذ التومني وزهير الأثري، وداود الأصبهاني وغيرهم كما ذكره الأشعري عنهم في المقالات، وقال (وكل القائلين بأن القرآن ليس بمخلوق - كنحو عبد الله بن سعيد بن كلاب، ومن قال: إنه محدث، كنحو زهير الأثري - يعني وداود الأصبهاني - ومن قال: إنه حدث، كنحو أبي معاذ التومني - يقولون: إن القرآن ليس بجسم ولا عرض) . وأما أقوال أئمة الفقه والحديث والتصوف والتفسير وغيرهم من علماء المسلمين وكذلك كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان فكلام الرازي يدل على أنه لم يكن مطلعاً على ذلك. كلام آخر للرازي والمقصود هنا أن نبين غاية حجة النفاة، فإنه بعد أن ذكر الخلاف قال: (والمعتمد أن نقول: كل ما صح قيامه بالباري تعالى: فإما أن يكون صفة كمال، أو لا يكون، فإن كان صفة كمال استحال أن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 حادثاً، وإلا كانت ذاته قبل اتصافه بتلك الصفة خالية عن صفة الكمال، والخالي عن الكمال الذي هو ممكن الاتصاف به ناقص، والنقص على الله محال بإجماع الأمة، وإن لم يكن صفة كمال استحال اتصاف الباري بها، لأن إجماع الأمة على أن صفات الله بأسرها صفات كمال، فإثبات صفة لا من صفات الكمال خرق للإجماع وإنه غير جائز) . قال: (وهذا ما نعول عليه، وإنه مركب من السمع والعقل) . قال: (والذي عول عليه أصحابنا أنه لو صح اتصافه بالحوادث لوجب اتصافه بالحوادث أو بأضادها في الأزل، وذلك يوجب اتصافه بالحوادث في الأزل، وإنه محال) . وقال: (وهذا الدلالة مبنية على أن القابل للضدين يستحيل خلوه عنهما، وقد عرفت فساده) . قال: (ومن أصحابنا من أورد هذه الدلالة على وجه لا يحتاج في تقريرها إلى البناء على ذلك الأصل، وهو أنه لو كان قابلاً للحوادث لكان قابلاً لها في الأزل، وكون الشيء قابلاً للشيء فرع عن إمكان وجود المقبول، فيلزم صحة حدوث الحوادث في الأزل، وهو محال) . قال: (إلا أن ذلك معارض بأن الله قادر في الأزل، ولا يلزم من أزلية قادريته صحة أزلية المقدور، فكذلك ههنا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 قال: (ومنهم من قال: لو كانت الحوادث قائمة به لتغير، وهو محال) . قال: (وهذا ضعيف، لأنه إن فسر التغير بقيام الحوادث به اتحد اللازم والملزوم، وإن فسر بغيره امتنع إثبات الشرطية) . قال: (وأما المعتزلة فجلهم تمسكوا بأن المفهوم من قيام الصفة بالموصوف حصولها في الحيز تبعاً لحصول ذلك الموصوف فيه، والباري تعالى ليس في الجهة، فامتنع قيام الصفة به) . قال: (وقد عرفت ضعف هذه الطريقة) . قال: (ومشايخهم استدلوا بأن الجوهر إنما يصح قيام المعاني الحادثة به لكونه متحيزاً، بدليل أن العرض لما لم يكن متحيزاً لم يصح قيام هذه المعاني به) . قال: (وإنه باطل، لاحتمال أن يقال: إن الجوهر إنما صح قيام الحوادث به لا لكونه متحيزاً، بل لأمر آخر مشترك بينه وبين الباري تعالى، وغير مشترك بينه وبين العرض. سلمنا ذلك، إلا أنه من المحتمل أن يكون الجوهر يقبل الحوادث لكونه متحيزاً، والله تعالى يقبلها لوصف آخر، لصحة تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة) . قال: (واستدلوا أيضاً بأنه لو صح قيام حادث به لصح قيام كل حادث به) . قال: (وهذه دعوى لا يمكن إقامة البرهان عليها) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 قال: (فهذه عيون ما تمسكت به الناس في هذه المسألة) . تعليق ابن تيمية قلت: أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس منازعة للكرامية، حتى يذكر بينه وبينهم أنواع من ذلك، وميله إلى المعتزلة والمتفلسفة أكثر من ميله إليهم، واختلف كلامه في تكفيرهم، وإن كان هو قد استقر أمره على أنه لا يكفر أحداً من أهل القبلة، لا لهم ولا للمعتزلة ولا لأمثالهم. وهذه المسألة من أشهر المسائل التي ينازعهم فيها، ومع هذا قد ذكر أن قولهم يلزم أكثر الطوائف، وذكر أنه ليس لمخالفيهم عليهم حجة صحيحة، إلا الحجة التي احتج هو بها، وهي من أضعف الحجج، كما سنبينه إن شاء الله تعالى. وأما الحجج التي يحتج بها الكلابية والمعتزلة فقد بين هو فسادها، مع أنه قد استوعب حجج النفاة، والذي ذكره هو مجموع ما يوجد في كتب الناس مفرقاً. ونحن نوضح ذلك: فأما الحجة الأولى - وهي: (أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، فلو جاز اتصافه بها لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث، فهو حادث) فهذه الحجة مبنية على مقدمتين، وفي كل من المقدمتين نزاع معروف بين طوائف من المسلمين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 أما الأولى - وهي أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده - فأكثر العقلاء على خلافها، والنزاع فيها بين طوائف الفقهاء والنظار، ومن الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة، كأصحاب احمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم، ومن قال ذلك التزم أن يكون لكل جسم طعم ولون وريح وغير ذلك من أنواع الأعراض، ولا دليل لأصحابها عليها. وأبو المعالي في كتابه المشهور الذي سماه الأرشاد إلى قواطع الأدلة لم يذكر على ذلك حجة، بل هذه المقدمة احتاج إليها في مسألة حدوث العالم لما أرد أن يبين أن الجسم لا يخل من كل جنس من أجناس الأعراض عن عرض منه، فأحال على كلامه مع الكرامية، ولما تكلم مع الكرامية في هذه المسألة أحال على كلامه في مسألة حدوث العالم مع الفلاسفة، ولم يذكر دليلاً عقلياً، لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء وإنما احتج على الكرامية بتناقضهم. ومضمون ما اعتمد عليه من قال: (إن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده) أن الجسم لا يخلو عن الأكوان الأربعة: الاجتماع، والافتراق، والحركة، والسكون، فتقاس بقية الأعراض عليها، واحتجوا بأن القابل لها لا يخلو عنها وعن ضدها بعد الاتصاف، كما سلمته الكرامية، فكذلك قبل الاتصاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 فأجابهم من خالفهم - كالرازي وغيره - بأن الأولى قياس محض بغير جامع، فإذا قدر أن الجسم يستلزم نوعاً من أنواع الأعراض، فمن أين يجب أن يستلزم بقية الأنواع؟ وأيضاً فإن الذي يسلمونه لهم الحركة والسكون، والسكون: هل وجود أو عدم؟ فيه قولان معروفان، وأما الاجتماع والافتراق فهو مبني على مسألة الجوهر الفرد، ومن قال: (إن الأجسام ليست مركبة من الجواهر الفردة) - وهم أكثر الطوائف - لم يقل بأن الجسم لا يخل من الاجتماع والافتراق، بل الجسم البسيط عنده واحد، سواء قبل الافتراق أو لم يقبله، وكذلك إذا قدر أن فيه حقائق مختلفة متلازمة لم يلزم من ذلك أن يقبل الاجتماع والافتراق. وأما كونه لا يخلو عنهما بعد الاتصاف فأجابوا عنه بمنع ذلك في الأعراض التي لا تقبل البقاء كالحركات والأصوات، وأما ما يقبل البقاء فهو مبني على أن الباقي هل يفتقر زواله إلى ضد أم لا؟ فمن قال: (إن الباقي لا يفتقر زواله إلى ضد) أمكنه أن يقول بجواز الخلو عن الاتصاف بالحادث بعد قيامه بدون ضد يزيله، ومن قال: (لا يزول إلا بضد) قال: إن الحادث لا يزول إلا بضد حادث، فإن الحادث بعد الحدوث لا يخلو المحل منه ومن ضده، بناءً على هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 الأصل، فإن كان هذا الأصل صحيحياً ثبت الفرق، وإن كان باطلاً منع الفرق، وتناقضهم يدل على فساد أحد قوليهم. ثم القائلون بموجب هذا الأصل طوائف كثيرون، بل أكثر الناس على هذا، فلا يلزم من تناقض الكرامية تناقض غيرهم. وأما المقدمة الثانية - (وهي أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث) - فهذه قد نازع فيها طوائف من أهل الكلام والفلسفة والفقه والحديث والتصوف وغيرهم، وقالوا: التسلسل الممتنع هو التسلسل في العلل، فأما التسلسل في الآثار المتعاقبة والشروط المتعاقبة فلا دليل على بطلان، بل لا يمكن حدوث شيء من الحوادث، لا العالم ولا شيء من أجزاء العالم، إلا بناء على هذا الأصل، فمن لم يجوز ذلك لزمه حدوث الحوادث بلا سبب حادث، وذلك يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، كما قد بسط هذا في مسألة حدوث العالم، وبين أنه لا بد من تسلسل الحوادث أو الترجيح بلا مرجح، وأن القائلين بالحدوث بلا سبب حادث يلزمهم الترجيح بلا مرجح، وأن القائلين بقدم العالم يلزمهم الترجيح بلا مرجح ويلزمهم حدوث الحوادث بلا محدث أصلاً، وهذا أفسد من حدوثها بلا سبب حادث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 والطوائف أيضاً متنازعة في هذا الأصل، وجمهور الفلاسفة وجمهور أهل الحديث لا يمنعون ذلك. وأما أهل الكلام: فللمعتزلة فيه قولان، وللأشعرية فيه قولان. وأما الحجة الثانية - وهي أنه (لو كان قابلاً لها لكان قابلاً لها في الأزل، وذلك فرع إمكان وجودها ووجودها في الأزل محال - فقد أجاب عنها بالمعارضة بأنه قادر على الحوادث، ولا يلزم من كون القدرية أزلية أن يكون إمكان المقدور أزلياً. قلت: ويمكن أن يجاب عنها بوجوه أخرى: أحدها: أنه لا يسلم أنه إذا كان قابلاً لحدوث الحادث أن يكون قابلاً له في الأزل إلا إذا أمكن وجود ذلك في الأزل، فإنه إذا قيل: (هو قابل لما يمتنع أن يكون أزلياً) كان بمنزلة أن يقال: هو قادر على ما يمتنع أن يكون أزلياً، فمن اعتقد امتناع حدوث حادث في الأزل، وقال مع ذلك بأنه قادر على الحوادث وقابل لها، لم يلزمه القول بإمكان وجود المقدور المقبول في الأزل، لكن هذا المقام هو مقام الذين يقولون (يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث) والكلام في هذا مشترك بين كونه قادراً وقابلاً، فمن جوز حدوث الحوادث بلا سبب حادث - كالكلابية وأمثالهم من المعتزلة والكرامية - كان كلامه في هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 بمنزلة كلامه في هذا، ومن قال: (إن حدوث الحوادث لا بد له من سبب حادث) - كما يقوله من يقوله من أهل الكلام والفلسفة وأهل الحديث وغيرهم الذين يقولون: إ: نه تقوم به الأمور المتعلقة بقدرته ومشيئته، ولم يزل كذلك، أو يقولون بتعاقب ذلك في غيره، كما يشترك في هذه الأصل من يقوله من الهشامية والمعتزلة والمرجئة وأهل الحديث والسلفية والفلاسفة ومن وافق هؤلاء من أتباع الأشعري وغيرهم - فقولهم في هذا كقولهم في هذا. الوجه الثاني: أن يلتزم قائل ذلك إمكان وجود المقبول في الأزل، كما يلتزم من يلتزم إمكان وجود المقدور في الأزل، وقد عرف أن لطوائف المسلمين في هذا الأصل قولين معروفين، فإن ما لا يتناهى من الحوادث: هل يمكن وجوده في الماضي والمستقبل أو في الماضي فقط أو فيهما جميعاً؟ على ثلاثة أقوال معروفة، قال بكل قول طوائف من نظار المسلمين وغيرهم. الوجه الثالث: أن يجاب بجواب مركب، فيقال: هو قابل لما هو قادر عليه، فإن كان ثبوت جنسها في الأزل ممكناً كان قابلاً لذلك في الأزل وقادراً عليه في الأزل، وإن لم يكن ثبوت هذا الجنس ممكناً في الأزل كان قابلاً للممكن من ذلك، كما هو قادر على الممكن من ذلك. الوجه الرابع: أن يقال: كونه قابلاً أو ليس بقابل: هو نظر في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 محل هذه الأمور، وليس نظراً في إمكان تسلسلها أو امتناع ذلك، كما أن النظر في كونه يقبل الاتصاف بالصفات - كالعلم والقدرة - هو نظر في إمكان اتصافه بذلك. فأما وجوب تناهي ما مضى من الحوادث أن ما بقي، وإمكان وجود جنس الحوادث في الأزل: فذلك لا اختصاص له بمحل دون محل، فإن قدر امتناع قيام ذلك به فلا فرق بين المتسلسل والمتناهي، وإن قدر إمكان ذلك كان بمنزلة إمكان حدوث الحوادث المنفصلة، والكلام في إمكان تسلسلها وعدم إمكان ذلك مسألة أخرى. الجواب الخامس: أن يقال: هذه الأمور المقبولة هي من الحوادث المقدورة، بخلاف الصفات اللازمة له، فإنها ليست مقدورة، فالمقبولات تنقسم إلى مقدور وغير مقدور، كما أن المقدورات تنقسم إلى مقبول وغير مقبول، وما يقوم بالذات من الحوادث هو مقبول مقدور، وحينئذ فإذا كان وجود المقدور في الأزل محالاً كان وجود هذا المقبول في الأزل محالاً، لأن هذا المقبول مقدور من المقدورات، وإذا كان وجود هذه الحوادث المقدورة المقبولة محالاً في الأزل لم يلزم من ذلك امتناع وجودها فيما لا يزال، كسائر الحوادث، ولم يزل من كون الذات قابلة لها إمكان وجودها في الأزل. الجواب السادس: أن يقال: أنتم تقولون: (إنه قادر في الأزل) مع امتناع وجود المقدور في الأزل، وتقولون: (إنه قادر في الأزل على ما لا يزال) فإن كان هذا الكلام صحيحاً أمكن أن يقال في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 المقبول كذلك، ويقال: هو قابل في الأزل مع امتناع وجود المقبول في الأزل، وهو قابل في الأزل لما لا يزال، وإن كان هذا الكلام باطلاً لزم إمكان وجود المقدور في الأزل، وإما امتناع كونه قادراً في الأزل، وعلى التقديرين: يبطل ما ذكرتموه من الفرق بين القادر وبين القابل بقولكم: (تقدم القدرة على المقدور واجب دون تقدم القابل على المقبول) . الجواب السابع: أن يقال: أنتم اعتمدتم في هذا على أن تلك القابلية يجب أن تكون من لوازم الذات، ويلزم من ذلك إمكان وجود المقبول في الأزل، لأن قابلية الشيء لغيره نسبة بين القابل والمقبول، والنسبة بين الشيئين موقوفة عليهما، فيقال لكم: إن كانت النسبة بين الشيئين موقوفة عليهما - أي على تحققهما معاً في زمن واحد، كما أقتضاه كلامكم - بطل فرقكم، وهو قولكم (بأن تقدم القدرة على المقدور واجب) فإن القدرة نسبة بين القادر والمقدور، مع وجوب تقدم القدرة على المقدور، وهكذا تقولون (الإرادة قديمة، مع امتناع وجود المراد في الأزل) وتقولون: (الخطاب قديم، مع امتناع وجود المخاطب في الأزل) فإذا كنتم تقولون بأن هذه الأمور التي تتضمن النسبة بين شيئنين تتحقق في الأزل مع وجود أحد المنتسبين دون الآخر، أمكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 أن يقال: إن القابلية متحققة في الأزل، مع امتناع تحقق المقبول في الأزل، كما قال كثير من الناس: إن التكوين ثابت في الأزل، مع امتناع وجود المكون في الأزل. وأما الحجة الثالثة - وهو أن قيام الحوادث به تغير، والله منزه عن التغير - فهذه هي التي اعتمد عليها الشهرستاني في نهاية الإقدام ولم يحتج بغيرها. وقد أجاب الرازي وغيره عن ذلك بأن لفظ (التغير) مجمل، فإن الشمس والقمر والكواكب إذا تحركت أو تحركت الرياح أو تحركت الأشجار والدواب من الأناسي وغيرهم فهل يسمى هذا تغيراً، أولا يسمى تغيراً؟ فإن سمي تغيراً كان المعنى أنه إذا تحرك المتحرك فقد تحرك، وإذا تغير بهذا التفسير فقد تغير، وإذا قامت به الحوادث - كالحركة ونحوها - فقد قامت به الحوادث، فهذا معنى قوله: (إن فسر بذلك فقد اتحد اللازم والملزوم) . فيقال: وما الدليل على امتناع هذا المعنى؟ وإن سماه المسمى تغيراً، وإن كان هذا لا يسمى تغيراً بل المراد بالتغير غير مجرد قيام الحوادث، مثل أن يعني بالتغير الاستحالة في الصفات، كما يقال: تغير المريض، وتغيرت البلاد، وتغير الناس، ونحو ذلك، فلا دليل على أنه يلزم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 الحركة ونحوها من الحوادث مثل هذا التغير، ولا ريب أن التغير المعروف في اللغة هو المعنى الثاني، فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب - إذا كانت جارية في السماء -: إن هذا تغير، وإنها تغيرت، ولا يقولون للإنسان إذا كانت عادته أن يقرأن القرآن ويصلي الخمس: إنه كلما قرأ وصلى قد تغير، وإنما يقولون ذلك لمن لم تكن عادته هذه الأفعال، فإذا تغيرت صفته وعاداته قيل: إنه قد تغير. وحينئذ فمن قال: (إنه سبحانه لم يزل متكلماً إذا شاء، فعالاً لما يشاء) لم يسم أفعاله تغيراً، ومن قال: (إنه تكلم بعد أن لم يكن متكلماً، وفعل بعد أن لم يكن فاعلاً) فإنه يلزم من قال: (إن الكلام والفعل يقوم به) ما يلزم من قال: (إن الكلام والفعل يقوم بغيره) والقول في أحد النوعين كالقول في الآخر. وإذا قدر أن النزاع لفظي فلا بد من دليل سمعي أو عقلي يجوز أحدهما ويمنع الآخر. وإلا فلا يجوز التفريق بين المتماثلين بمجرد الدعوى، أو بمجرد إطلاق لفظي من غير أن يكون ذلك اللفظ مما يدل على ذلك المعنى في كلام المعصوم، فأما إذا كان اللفظ في كلام المعصوم - وهو كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل الإجماع - وعلم مراده بذلك اللفظ، فإنه يجب مراعاة مدلول ذلك اللفظ، ولا يجوز مخالفة قول المعصوم. وإطلاق التغير على الأفعال، كإطلاق لفظ (الغير) على الصفات، وإطلاق لفظ (الجسم) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 على الذات، وكل هذه الألفاظ فيها إجمال واشتباه وإبهام. ومذهب السلف والأئمة: أنهم لا يطلقون لفظ (الغير) على الصفات، لا نفياً ولا إثباتاً، فلا يطلقون القول بأنها غيره ولا بأنها ليست غيره، إذ اللفظ مجمل، فإن أراد المطلق بالغير المباين فليست غيراً، وإن أراد بالغير ما قد يعلم أحدهما دون الآخر، فهي غير، وهكذا ما كان من هذا الباب. وإذا كان هذا كلامهم في لفظ (الغير) فلفظ (التغير) مشتق منه. ومن تأمل كلام فحول النظر في هذه المسألة علم أن الرازي قد استوعب ما ذكروه، وأن النفاة ليست معهم حجة عقلية تثبت على السبر، وإنما غايتهم إلزام التناقض لمن يخالفهم من المعتزلة والكرامية والفلاسفة. ومن المعلوم أن تناقض المنازع يستلزم فساد أحد قوليه، لا يستلزم فساد قوله بعينه الذي هو مورد النزاع، ولهذا كان من ذم أهل الكلام المحدث من أهل العلم لأنهم يصفونهم بهذا، ويقولون: يقابلون فاسداً بفاسد، وأكثر كلامهم في إبداء مناقضات الخصوم. وأيضاً فغير ذلك الخصم لا يلتزم مقالته التي ناقض به المورد النزاع، كما في هذه المسألة، فإنه وإن كانت الكرامية قد تناقضوا فيها فلم يتناقض فيها غيرهم من الأئمة والسلف وأهل الحديث وغيرهم من طوائف أهل النظر والكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وقد قال أبو القاسم الأنصاري - شيخ الشهرستاني وتلميذ أبي المعالي - في شرح الإرشاد: (أجود ما يتمسك به في هذه المسألة تناقض الخصوم) . أقوال الجويني في مسألة أفعال الله ورد ابن تيمية عليه وهو كما قال: فإنه لم يجد لمن تقدمه في ذلك مسلكاً سديداً، لا عقلياً ولا سمعياً. واعتبر ذلك بما ذكره أبو المعالي في كتابه الذي سماه: الإرشاد إلى قواطع الأدلة وقد ضمنه عيون الأدلة الكلامية التي يسلكها موافقوه، وقد تكلم على هذا الأصل في موضعين من كتابه: أحدهما: في مسألة حدوث العالم، فإنه استدل بدليل الأعراض المشهور، وهو أن الجسم لا يخلو من الأعراض، وما لا يخلو عنها فهو حادث، وهو الدليل الذي اعتمدت عليه المعتزلة قبله، وهو الذي ذمه الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر، وبين أنه ليس من طرق الأنبياء وأتباعهم، والدليل هو مبني على إثبات أربع مقدمات: الأعراض، وإثبات حدوثها، وأن الجسم لا يخلو منها، وإبطال حوادث لا أول لها، فلما صار إلى المقدمة الثالثة قال: (وأما الأصل الثالث - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 وهو تبيين استحالة تعري الجواهر عن الأعراض - فالذي صار إليه أهل الحق: أن الجوهر لا يخلو عن كل جنس من الأعراض وعن جميع أضداده، لا كان له أضداد. وإن كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن أحد الضدين، وإن قدر عرض لا ضد له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه) . قال: (وجوزت الملحدة خلو الجوهر عن جميع الاعراض، والجواهر في اصطلاحهم تسمى الهيولى والمادة، والأعراض تسمى الصورة) . قال: (وجوز الصالحي العرو عن جملة الأعراض ابتداء، ومنع البصريون من المعتزلة من العرو عن جميع الأكوان، وجوزوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 الخلو عما عداها، وقال الكعبي ومتبعوه: يجوز الخلو عن الأكوان، ويمتنع العرو عن الألوان) . قال: (وكل مخالف لنا يوافقنا على امتناع العرو عن الأعراض بعد قبول الجواهر لها، فيفرض الكلام على الملحدة في الأكوان، فإن القول فيها يستند إلى الضرورة، فإننا ببديهة العقل نعلم أن الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق لا تعقل غير متماسة ولا متباينة. ومما يوضح ذلك: أنها إذا اجتمعت فيما لا يزال فلا يتقرر اجتماعها إلا عن افتراق سابق، إذا قدر لها الوجود قبل الاجتماع، وكذلك إذا طرأ الافتراق عليها اضطررنا إلا العلم بأن الافتراق مسبوق باجتماع، وغرضنا في ورم إثبات حدث العالم، يتضح بالأكوان) ,. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 قلت: أثبات الأكوان بقبول الحركة والسكون هو الذي لا يمكن دفعه، فإن الجسم الباقي لا بد له من الحركة أو السكون، وأما الأجتماع والافتراق فهو مبني على إثبات الجوهر الفرد، والنزاع فيه كثير مشهور، فإن من ينفيه لا يقول: إن الجسم مركب منه، ولا إن الجوهر كانت متفرقة فاجتمعت، والذين يثبتونه أيضاً لا يمكنهم إثبات أن الجواهر كانت متفرقة فاجتمعت، فإنه لا دليل على أن السماوات كانت جواهر متفرقة فجمع بينها، ولهذا قال في الدليل: (فإنا ببديهة العقل نعلم أن الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق لا تعقل غير متماسة ولا متباينة) . وهذا كلام صحيح، لكن الشأن في أثبات الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق، فما ذكره من الدليل مبني على تقدير أنها كانت متفرقة فاجتمعت، وهذا التقدير غير معلوم، بل هو تقدير منتف في نفس الأمر عند جمهور العقلاء من المسملين وغيرهم. ثم قال أبو المعالي: (وإن حاولنا رداً على المعتزلة فيما خالفونا فيه تمسكنا بنكتتين: إحداهما: الاستشهاد بالإجماع على امتناع العرو عن الأعراض بعد الاتصاف بها. فنقول: كل عرض باق فإنه ينتفي عن محله بطريان ضده، ثم الضد إنما يطرأ في حال عدم المنتفى به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 على زعمهم، فإذا انتفى البياض فهلا جاز أن لا يحدث بعد انتفائه لون، إن كان يجوز الخلو من الألوان، وتطرد هذه الطريقة في أجناس الأعراض) . قلت: مضمون هذا أنه قاس ما بعد الاتصاف على ما قبله، وقد أجابه المنازعون عن هذا بأن الفرق بيهما: أن الضد لا يزول إلا بطريان ضده، فلهذا لم يخل منهما: فإن كان هذا الفرق صحيحاً بطل القياس، وإلا منع الحكم في الأصل، وقيل: بل يجوز خلوه بعد الإتصاف إذا أمكن زوال الضد بدون طريان آخر، وما ذكره في السواد والبياض قضية جزيئية، فلا تثبت بها دعوى كلية، ومن أين يعلم أن كل طعم في الأجسام إذا زال فلا بد أن يخلفه طعم آخر؟ وكل ريح إذا زالت فلا بد أن يخلفها ريح آخر؟ وكذلك في الإرادة والكراهة ونحو ذلك، فمن أين يعلم أن المريد للشيء المحب له إذا زالت إرادته ومحبته فلا بد أن، يخلفه كراهية وبغضه؟ ولم لا يجوز خلو الحي عن حب المعين وبغضه وإردته وكراهته؟ قال: (ونقول أيضاً: الدال على استحالة قيام الحوادث بذات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 الرب سبحانه وتعالى: أنها لو قامت به لم يخل عنها، وذلك يقضي بحدثه، فإذا جوز الخصم عرو الجوهر عن حوادث مع قبوله لها صحةً وجوزاً فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول البارىء للحوادث) . قلت: فلقائل أن يقول: هذا غايته إلزام لهؤلاء المعتزلة: إنكم إذا جوزتم ذلك يكن لكم حجة على استحالة قبول الباري للحوادث. فيقال: إما أن يكون هذا لازماً، وإما أن لا يكون لازماً: فإذا كان لازماً دل ذلك على أنه لا دليل للمعتزلة على ذلك، ولا دليل له أيضاً، فإن مجرد موافقة المعتزلة له لا يكون دليلاً لواحد منهما في شيء من المسائل التي لم نعلم فيها نزاعاً، فكيف مع ظهور النزاع؟ وإن لم يكن لازماً لهم لم يكن حجة عليهم. فقد تبين أنه لم يذكر حجة على أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده. الموضع الثاني - قال في أثناء الكتاب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 (فصل) مما يخالف فيه الجوهر حكم الإله: قبول الأعراض، وصحة الاتصاف بالحوادث، والرب يتقدس عن قبول الحوادث) . قال: (وذهبت الكرامية إلى أن الحوادث تقوم بذات الرب، ثم زعموا أنه لا يتصف بما يقوم به من الحوادث، وصاروا إلى جهالة لم يسبقوا إليها، فقالوا: القول الحادث يقوم بذات الرب، وهو غير قائل به، وإنما يقول بالقائلية، والقائلية عندهم القدرة على التكلم، وحقيقة أصلهم: أن أسماء الرب لا يجوز أن تتجدد، ولذلك وصفوه بكونه خالقاً في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 الأزل، ولم يتحاشوا من قيام الحوادث به، وتنكبوا إثبات وصف جديد له ذكراً وقولاً) . قال: (والدليل على بطلان ما قالوه: أنه لو قبل الحوادث لم يخل منها، لما سبق تقريره في الجواهر، حيث قضينا باستحالة تعريها عن الأعراض، ولو لم تخل عن الحوادث لم تسبقها، وينساق ذلك إلى الحكم بحدث الصانع) . قال: (ولا يستقيم هذا الدليل على أصل المعتزلة،، مع مصيرهم إلى تجويز خلو الجوهر عن الأعراض، على تفصيل لهم أشرنا إليه، وإثباته أحكاماً متجددة لذات الرب تعالى من الإرادة المحدثة القائمة لا بمحل على زعمهم، ويصدهم أيضاً عن طرد دليل في هذه المسألة: إنه إذا لم يمتنع تجدد أحكام للذات من غير أن تدل على الحدث لم يبعد مثل ذلك في اعتوار نفس الأعراض على الذات) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 هذا كلامه، ولقائل أن يقول: قوله: (الدليل على بطلان ما قالوه: أنه لو قبلها لم يخل منها لما سبق تقريره في الجواهر) هو لم يذكر دليلاً هناك إلا قياس ما قبل الاتصاف على ما بعده، وهو ليس حجة علمية عقلية، بل غايته: احتجاج بموافقة منازعة في مسألة عظيمة عقلية ترد لأجلها نصوص الكتاب والنسة، وينبني عليها من مسائل الصفات والأفعال أمور عظيمة اضطرب فيها الناس، فمن الذي يجعل أصول الدين مجرد قول قالته طائفة من أهل الكلام وافق بعضهم بعضاً عليه من غير حجة عقلية ولا سمعية؟. وقد أجابه المنازعون بجواب مركب، وهو إما الفرق - إن صح - وألا منع حكم الاصل. وأيضا فأنه قد قرر هناك وهنا أن المعتزلة أئمة الكلام الذين أظهروا في الإسلام نفي الصفات والأفعال، وسموا ذلك تقديساً له عن الاعراض والحوادث، وقد ذكر أبوالمعالي أنه لا حجة لهم على استحالة اتصافه بالحوادث، وانه يلزمهم نقيض ذلك، أما الأول: فإن القابل للشيء عندهم يجوز أن يخلو عنه وعن ضده، وأما لزوم هذا القول لهم: فلإ ثباتهم أحكاما متجددة للرب، وأنه إذا لم يمتنع تجدد أحكام للذات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 من غير أن يدل على الحدوث: لم يبعد مثل ذلك في اعتوار أنفس الأعراض، وكان ما ذكره الأستاذ أبو المعالي يقتضي أن القول بحلول الحوادث يلزم المعتزلة، وأنه لادليل لهم على نفي ذلك، وهو أيضاً لم يذكر دليلاً لموافقيه على نفي ذلك. فأفاد ما ذكره أن أئمة النفاة لحلول الحوادث به القائلين بأنه لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته لا دليل لهم على ذلك، بل قولهم يستلزم قول أهل الإثبات لذلك. قال: (ونقول للكرامية: مصيركم إلى إثبات قول حادث مع نفيكم اتصاف الباري به تناقض، إذ لو جاز قيام معنى بمحل من غير أن يتصف المحل بحكمه لجاز شاهداً قيام أقوال وعلوم وإرادات بمحال من غير أن تتصف المحال بأحكام موجبة عن المعاني، وذلك يخلط الحقائق ويجر إلى جهالات) . قال: (ثم نقول لهم: إذا جوزتم قيام ضروب من الحوادث بذاته، فما المانع من تجويز قيام أكوان حادثة بذاته على التعاقب؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وكذلك سبيل الإلزام فيما يوافقوننا على استحالة قيامه به من الحوادث. ومما يلزمهم: تجويز قيام قدرة حادثة وعلم حادث بذاته، على حسب أصلهم في القول والإرادة الحادثين ولا يجدون بين ما جوزوه وامتنعوا عنه فصلاً) . قال: (ونقول لهم: قد وصفتم الرب تعالى بكونه متحيزاً، وكل متحيز جسم وجرم، ولا يتقرر في المعقول خلو الأجرام من الأكوان، فما المانع من تجويز قيام الأكوان بذات الرب؟ ولا محيص لهم عن شيء مما ألزموه) . قلت: ولقائل أن يقول: هذه الوجوه الأربعة التي ذكرها ليس فيها حجة تصلح لإثبات الظن في الفروع، فضلاً عن إثبات يقيني في أصول الدين يعارض به نصوص الكتاب والسنة، فإن غاية هذا الكلام - إن صح - أن الكرامية تناقضوا، وقالوا قولاً ولم يلتزموا بلوازمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 فيقال: إن كان ما ذكره لازماً لزمهم الخطأ: إما في إثبات الملزوم، وإما في نفي اللزم، ولم يتعين الخطأ في أحدهما، فلم لا يجوز أن يكون خطؤهم في نفي اللوازم؟ فإن أقام على ذلك دليلاً عقلياً كان هو حجة كافية في المسألة وإلا استفدنا خطأ الكرامية في أحد قوليهم، وإن لم يكن ما ذكره لازماً لهم لم يفد لا إثبات تناقضهم ولا دليلاً في مورد النزاع. ثم يقال: أما الوجه الأول فحاصله نزاع لفظي: هل يتصف بالحوادث أو لا يتصف؟ كالنزاع في أمثال ذلك، وإذا كان من أصلهم الفرق بين اللازم وغير اللازم، بحيث يسمون اللازم صفة دون العارض، كاصطلاح من يفرق بين الصفات والأفعال فلا يسمى الأفعال صفات وإن قامت بمحل كاصطلاح من يفرق بين الأقوال والأفعال، فلا يسمى ما يتكلم به الإنسان عملاً، وإن كان له فيه حركة ونحو ذلك - كانت هذه أموراً اصطلاحية لفظية لغوية، لا معاني عقلية، والمرجح في إطلاق الألفاظ - نفياً وإثباتاً - إلى ما جاءت به الشريعة، فقد يكون في إطلاق اللفظ مفسدة وإن كان المعنى صحيحاً. وما ألزمهم إياه في الشاهد: فأكثر الناس يلتزمونه في الأفعال، فإن الناس تفرق في الإطلاقات بين صفات الإنسان وبين أفعاله، كالقيام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 والقعود والذهاب والمجيء، فلا يسمون ذلك صفات، وإن قامت بالمحل. وكذلك العلم الذي يعرض للعالم ويزول، والإرادة التي تعرض له وتزول، قد لا يسمون ذلك صفة له، وإنما يصفونه بما كان ثابتاً له كالخلق الثابت. وبالجملة فهذه بحوث لفظية سمعية، لا عقلية، وليس هذا موضعها. وأما قيام الأكوان به على التعاقب، وقيام ما أحالوا قيامه به، فهم يفرقون بين ما جوزوه ومنعوه بما يفرق به مثبتة الصفات بين ما توصفوه به وبين ما منعوه، فكما أنهم يصفونه بصفات الكمال فلا يلزمهم أن يصفوه بغيرها، فكذلك هؤلاء يقولون، فإن صح الفرق وإلا كانوا متناقضين. ومن المعلوم أن الله تعالى لما وصف بالسمع والبصر - كما دلت عليه النصوص - ألزمت النفاة لأهل الإثبات إدراك الشم والذوق واللمس، فمن الناس من طرد القياس، ومنهم من فرق بين الثلاثة والاثنين، ومنهم من فرق بين إدراك اللمس، وإدراك الشم والذوق، لكون النصوص أثبتت الثلاثة دون الاثنين. فإذا قال المعتزلة البصريون والقاضي أبو بكر وأبو المعالي وغيرهما ممن يصفه بالإدراكات الخمسة، لمن لم يصفه إلا باثنين أو ثلاثة: يلزمكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 طرد القياس، لزمهم إما الفرق وإلا كانوا متناقضين، ولم يكن هذا دليلاً على إبطال اتصافه بالسمع والبصر، كذلك إذا قال من جعل الإدراكات الخمسة تتعلق به، كما فعله هؤلاء ومن وافقهم، كـ القاضي أبي يعلى ونحوه لمن أثبت الرؤية: يلزمكم أن تصفوه بتعلق السمع والشم والذوق واللمس به، كما قلتم في الرؤية، كانوا أيضاً على طريقين: منهم من يذكر الفرق، ومنهم من يفرق بين اللمس وغيره، لمجيء النصوص بذلك دون غيره. قال أبو المعالي في إرشاده: (فإن قيل: قد وصفتم الرب تعالى بكونه سميعاً بصيراً، والسمع والبصر إدراكان، ثم ثبت شاهداً إدراكات سواهما: إدراك يتعلق بقبيل الطعوم، وإدراك يتعلق بقبيل الروائح، وإدراك يتعلق بالحرارة والبرودة واللين والخشونة، فهل تصفون الرب تعالى بأحكام هذه الإدراكات أم تقتصرون على وصفة بكونه سميعاً بصيراً قلنا: الصحيح المقطوع به عندنا: وجوب وصفه بأحكام الإدراك، إذ كل إدراك ينفيه ضد فهو آفة فما دل على وجوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 وصفه بحكم السمع والبصر، فهو دال على وجوب وصفه بأحكام الإدراك، ثم يتقدس الرب تعالى عن كونه شاماً ذائقاً لامساً: فإن هذه الصفات منبئة عن ضروب من الاتصالات، والرب يتعالى عنها، وهي لا تنبىء عن حقائق الإدراكات، فإن الإنسان يقول: شممت تفاحة فلم أدرك ريحها، ولو كان الشم دالاً على الإدراك لكان ذلك بمثابة قول القائل: أدركت ريحها، ولم أدركه، وكذلك القول في الذوق واللمس) . قلت: ولا يلزم من تناقض هؤلاء - إن كانوا متناقضين - نفي الرؤية التي تواترت بها النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقلت: وأما تعاقب الحوادث: فهم نفوه، بناء على امتناع حوادث لا أول لها، فإن صح هذا الفرق وإلا لزمهم طرد الجواز، كما طرده غيرهم ممن لا يمنع ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وأما حدوث القدرة والعلم فنفوهما، لأن عدم ذلك يستلزم النقص، لعموم تعلق العلم والقدرة، بخلاف الإرادة والكلام، فإنه لا عموم لهما، فإنه سبحانه لا يتكلم إلا بالصدق، لا يتكلم بكل شيء، ولا يريد إلا مايسبق علمه به، لا يريد كل شيء، بخلاف العلم والقدرة، فإنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير. وهذا كما فرقت المعتزلة بين هذا وهذا، فقالوا: إن له إرادة حادثة وكلاماً حادثاً، ولم يقولوا: له عالمية حادثة وقادرية حادثة، فالسؤال على الفريقين جميعاً. فإن صح الفرق، وإلا كانوا متناقضين. وقد أثبت غيرهم قيام علم بالموجود بعد وجوده، ولم يجعل ذلك عين العلم المتعلق به قبل وجوده، كما دل على ذلك ظاهر النصوص. وقد أثبت ذلك من أهل الكلام والفلسفة طوائف، كـ أبي الحسين البصري وأبي البركات وغيرهم، وغير المتقدمين مثل هشام بن الحكم وأمثاله، ومثل جهم. والمفرق - إن صح فرقه - وإلا لزم تناقضه. وقيام الأكوان به نفوه، لأنها هي دليلهم على حدوث العالم كما استدلت بذلك المعتزلة، وهم يقولون: المتصف بالأكوان لا يخلو منها. وهذا معلوم بالبديهة كما بينه الأستاذ أبو المعالي في أول كلامه، وقال: (نفرض الكلام في الأكوان، فإن القول فيها يستند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 إلى الضرورة، فإذا كان من المعلوم بالضرورة: أن القابل للأكوان لا يخلو عنها، فلو وصفوه بالأكوان للزم أن لا يخلو عنها، وهم يقولون بامتناع تسلسل الحوادث، ويقولون: ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، كما يوافقهم على ذلك أبو المعالي وأمثاله، فإن كان هذا الفرق صحيحاً بطل الإلزام وصح فرقهم، وإن لم يكن هذا الفرق صحيحاً لم يكن في ذلك حجة للمنازع لهم، بل يقول القائل: كلاكما مخطىء، حيث قلتم بامتناع دوام الحوادث وتسلسلها. ومعلوم أن هذا كلام متين لا جواب عنه، فإن فرقهم بين الأكوان وغيرها هو العلم الضروري من الجميع بأن القابل للأكوان لا يخلو منها، فما قبل الحركة والسكون لم يخل من أحدهما، فهذا هو محيصهم عما ألزمهم به، فإن كانت الأكوان كغيرها في أن القابل للشيء لا يخلو عنه ضده فقد ثبت تناقضهم إذا كان قابلاً لها، وإن لم تكن مثل غيرها - كما تقوله المعتزلة - صح فرقهم. وهم يدعون أنه ليس قابلاً لها، كما قد وافقهم على ذلك المعتزلة والأشعرية. فإذا قال المعترض عليهم: يجب على أصلهم أن يكون قابلاً لها، لأنهم يصفونه بكونه متحيزاً، وكل متحيز جسم وجرم، قيل: هذا كما تقوله المعتزلة للأشعرية: يلزمكم إذا قلتم إن له حياة وعلماً وقدرة: أن يكون متحيزاً، لأنه لا يعقل قيام هذه الصفات إلا بمتحيز، ويقولون: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 إنه لا يعقل موصوف بالعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة إلا ما هو جسم، فإذا وصفتموه بهذه الصفات لزمكم أن يكون جسماً. فإذا قال هؤلاء للمعتزلة: قد اتفقنا نحن وأنتم على أنه حي عليم قدير، وليس بمحيز ولا جسم، فإذا عقلنا موجوداً حياً عليماً قديراً ليس بجسم عقلنا حياة وعلماً وقدرة لا تقوم بجسم، قالوا: وأنتم وافقتمونا على أنه حي عليم قدير، وإثبات حي عليم قدير بلا حياة ولا علم ولا قدرة مكابرة للعقل واللغة والشرع. قالت الكرامية لهؤلاء: قد اتفقنا نحن وأنتم على أنه موصوف بالحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك من الصفات، مع اتفاقنا نحن وأنتم على أنه لا يتصف بالأكوان، فهكذا إذا جوزنا عليه أن يسمع أصوات عباده حين يدعونه، ويراهم بعد أن يخلقهم، ويغضب عليهم إذا عصوه، ويحب العبد إذا تقرب إليه بالنوافل، ويكلم موسى حين أتى الوادي، ويحاسب خلقه يوم القيامة، ونحو ذلك مما دلت عليه النصوص، لم يلزمنا مع ذلك أن تجوز عليه حدوث الأكوان. ومن تدبر كلام هؤلاء الطوائف - بعضهم مع بعض - تبين له أنهم لا يعتصمون فيما يخالفون به الكتاب والسنة إلا بحجة جدلية يسلمها بعضهم لبعض، وآخر منتهاهم: حجة يحتجون بها في إثبات حدوث العالم لقيام لاأكوان به أو الأعراض، ونحو ذلك من الحجج التي هي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 أصل الكلام المحدث، الذي ذمه السلف والأئمة وقالوا: إنه جهل، وإن حكم أهله (أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام) ولكن من عرف حقائق ما انتهى إليه هؤلاء الفضلاء الأذكياء ازداد بصيرة وعلماً ويقيناً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وبأن ما يعارضون به الكتاب والسنة من كلامهم الذي يسمونه عقليات: هي من هذا الجنس الذي لا ينفق إلا بما فيه من الألفاظ المجملة المشتبهة، مع من قلت معرفته بما جاء به الرسول وبطرق إثبات ذلك، ويتوهم أن يمثل هذا الكلام يثبت معرفة الله وصدق رسله، وأن الطع في ذلك طعن فيما به يصير العبد مؤمناً، فيتعجل رد كثير مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لظنه أنه بهذا الرد يصير مصدقاً للرسول في الباقي. وإذا أنعم النظر تبين له أنه كلما ازداد تصديقاً لمثل هذا الكلام ازداد نفاقاً ورداً لما جاء به الرسول، وكلما ازداد معرفة بحقيقة هذا الكلام وفساده ازداد إيماناً وعلماً بحقيقة ما جاء به الرسول، ولهذا قال من قال من الأئمة: (قل أحد نظر في الكلام إلا تزندق وكان في قلبه غل على أهل الإسلام) بل قالوا: (علماء الكلام زنادقة) . ولهذا قيل: إن حقيقة ما صنفه هؤلاء في كتبهم من الكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 الباطل المحدث المخالف للشرع والعقل هو: ترتيب الأصول في تكذيب الرسول، ومخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول، ولولا أن هؤلاء القوم جعلوا هذا علماً مقولاً وديناً مقبولاً، يردون به نصوص الكتاب والسنة، ويقولون: إن هذا هو الحق الذي يجب قبوله، دون ما عارضه من النصوص الإلهية والأخبار النبوية، ويتبعهم على ذلك من طوائف أهل العلم والدين ما لا يحصيه إلا الله: لاعتقادهم أن هؤلاء أحذق منهم وأعظم تحقيقاً، لميكمن بنا حاجة إلى كشف هذه المقالات، مع أن الكلام هنا لا يحتمل إلا الاختصار. قول الرازي في الأربعين ومقصودنا بحكاية هذا الكلام: أن يعلم أن ما ذكره الرازي في هذه المسألة قد استوعب فيه جميع حجج النفاة، وبين فسادها. وأما الحجة التي احتج بها فهي أضعف من غيرها كما سيأتي بيانه. وقد ذكر أن هذه المسألة تلزم عامة الطوائف. وذكر في كتاب الأربعين أنها تلزم أصحابه أيضاً، فقال في الأربعين: (المشهور أن الكرامية يجوزون ذلك، وينكرون سائر الطوائف، وقيل: أكثر العقلاء يقولون به، وإن أنكروه باللسان، فإن أبا علي وأبا هاشم من المعتزلة وأتباعهما قالوا: إنه يريد بإرادة حادثة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 لا في محل، ويكره بكراهة حادثة لا في محل، إلا أن صفة المريدية والكارهية محدثة في ذاته تعالى. وإذا حضر المرئي والمسموع حدث في ذاته تعالى صفة السامعية والمبصرية، لكنهم إنما يطلقون لفظ التجدد دون الحدوث. وأبو الحسين البصري يثبت في ذاته علوماً متجددة بحسب تجدد المعلومات. والأشعرية يثبتون نسخ الحكم، مفسرين ذلك برفعه أو انتهائه، والارتفاع والانتهاء عدم بعد الوجود، ويقولون: إنه عالم بعلم واحد يتعلق قبل وقوع المعلوم بأنه يسقع، وبعده يزول ذلك التعلق ويتعلق بأنه وقع، ويقولون: بأن قدرته تتعلق بإجاد المعين، وإذا وجد انقطع ذلك التعلق، لامتناع إيجاد الموجود، وكذا تعلق الإرادة بترجيح المعين، وأيضاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 المعدوم لا يكوم مرئياً ولا مسموعاً، وعند الوجود يكون مرئياً ومسموعاً، فهذه التعلقات حادثة. فإن التزام جاهل كون المعدوم مرئياً ومسموعاً، قلنا: الله تعالى يرى المعدوم معدوماً، لا موجوداً، وعند وجوده يراه موجوداً لا معدوماً، لأن رؤية الموجود معدوماً أو بالعكس غلط، وأنه يوجب ما ذكرنا، والفلاسفة - مع بعدهم عن هذا - يقولون بأن الإضافات - وهي القبلية والبعدية والمعية - موجودة في الأعين، فيكون الله مع كل حادث، وذلك الوصف الإضافي حدث في ذاته وأبو البركات من المتأخرين منهم صرح في المعتبر بإرادات محدثة، وعلوم محدثة في ذاته تعالى، زاعماً بأنه لا يمكن الاعتراف بكونه إلهاً لهذا العالم إلا مع هذا القول، ثم قال: (الإجلال من هذا الإجلال والتنزيه من هذا التنزيه واجب) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 قال الرازي: (واعلم أن الصفة إما حقيقية عارية عن الإضافة كالسواد والبياض، أو حقيقة تلزمها إضافة كالعلم والقدرة، فإنه يلزمها تعلق بالمعلوم والمقدور، وهو إضافة مخصوصة بينهما، وإما إضافة محضة ككون الشيء قبل غيره وبعده ويمينه ويساره، فإن تغير هذه الأشياء لا يوجب تغيراً في الذات، ولا في صفة حقيقية منها. فنقول: تغير الإضافات لا محيص عنه، وأما تغير الصفات الحقيقية: فالكرامية يثبتونه، وغيرهم ينكرونه، فظهر الفرق بين مذهب الكرامية وغيرهم. لا نسمي ذلك صفة، ولا نقول: إن ذلك تغير في الصفات الحقيقية، كما تقدم) . ثم استدل الرازي بثلاثة أوجه: (أحدها: أن صفاته صفات كمال، فحدوثها يوجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 نقصانه، يعني قبل حدوثها، والإضافات لا وجود لها في الأعيان، دفعاً للتسلسل، فلا يرد نقصاً) . ولقائل أن يقل: هذا الدليل قد تقدم الكلام عليه، والمنازع لا يسمي ذلك صفة، وإن وصف الموصوف بنوع ذلك، فليس لك فرد من الأفراد صفة كمال مستحقة القدم، يحيث يكون عدمها في الأزل نقصاً، وما اقتضت الحكمة حدوثه في وقت لم يكن عدمه قبل ذلك نقصاً، بل الكمال عدمه حيث لا تقتضي الحكمة وجود حدوثه، ووجوده حيث اقتضت الحكمة وجوده، كالحوداث المنفصلة، فليس عدم كل شيء نقصاً عما عدم منه. وأيضاً فالحوادث لا يمكن وجودها إلا متعاقبة، وقدمها ممتنع وكان ممتنع الوجود لم يكن عدمه نقصاً، والتسلسل المذكور هو التسلسل في الآثار والشروط ونحوها، وهذا فيه قولان مشهوران، فالمنازع قد يختار جوازه، لا سيما من يقول: إن الرب لم يزل فاعلاً متكلماً إذا شاء. (الثاني: لو كانت ذاته قابلة للحوادث لكانت تلك القابلية من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 لوازمها، وأزلية القابلية توجب صحة وجود المقبول أزلاً، لأن قابلية الشيء للغير نسبة بينهما، والنسبة بين الشيئين موقوفة عليهما، لكن وجود الحوادث في الأزل محال، ولا يلزم علينا القدرة الأزلية، لأن تقدم القدرة على المقدور واجب، دون تقدم القابل على المقبول) . قال الأرموي: (ولقائل أن يقول: ما ذكرتم بتقدير التسليم يقتضي أزلية صحة وجود الحوادث، لا صحة أزلية وجود الحوادث، وقد عرفت الفرق بينهما في مسألة الحدوث، والفرق المذكور - إن صح - أغنى عن الدليل السابق، وإلا نفى النقص، وأيضاً إذا صح الفرق، مع أن الدليل المذكور ينفيه، لزم بطلان الدليل) . قلت: فقد ذكر الأرموي في بطلان هذا الدليل ثلاثة أوجه: أحدها: الفرق بين صحة أزلية الحدوث وأزلية صحة الحدوث، وسيأتي إن شاء الله الكلام فيه، وبيان أنه فرق فاسد. لكن يقال: إن صح هذا الفرق بطل الدليل، وإن لم يصح لزم إمكان الحوادث في الأزل، ولزم إمكان وجود المقدور والمقبول في الأزل، وكلاهما يبطل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 الدليل، أو يقال: ما كان جواباً لكم عن المقدور كان جواباً لنا عن المقبول، أو يقال: إن صح هذا الفرق بطل الدليل، وإن لم يصح هذا الفرق فاللازم أحد أمرين: إما إمكان دوام الحوادث وإما امتناع دوامها، فإن كان اللازم هو الأول لزم إمكان وجود جنس الحوادث المقبولة في الأزل وبطل الدليل، وإن كان اللازم هو الثاني كان وجودها في الأزل ممتنعاً. وحينئذ فإذا جاز أن يقال: هو قادر عليها مع امتناع وجود المقدور أمكن أن يقال: هو قابل لها مع امتناع وجود المقبول. وقول الأرموي: والفرق المذكور إن صح أغنى عن الدليل السابق وإلا بقي النقص. قد يقال: أراد به الفرق بين أزلية الصحة وصحة الأزلية. وقد يقال: عنى به الفرق بين القادر والقابل، فإن أراد الأول كان معنى كلامه: إن صح الفرق أمكن أن يكون قابلاً لها في الأزل وتكون صحتها أزلية، أي لم تزل ممكنة صحيحة، مع امتناع صحة أزلية الحوادث كما يقولون، إذ لم تزل الحوادث ممكنة صحيحة جائزة مع امتناع كون الحادث أزلياً، ويقولون: صحة الجواز وإمكانها أزلي لا متناع انقلابها من الامتناع إلى الإمكان من غير سبب حادث مع امتناع وجودها في الأزل وامتناع أزليتها. وهذا الفرق ذكره الغزالي في تهافت الفلاسفة والرازي وغيرهما في جواب من قال بأن إمكان وجود المقدورات لا أصل له، فقالوا: نحن نقول: إمكان الحوادث لا بداية لها، ونقول الشيء المعين بشرط كونه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 حادثاً لا بداية لأزليته، ولا يلزم من ذلك إمكان وجود شيء من الحوادث في الأزل، لأن كونه حادثاً مع كونه أزلياً ممتنع. وهذا الفرق عند التحقيق باطل، فإنه مسلتلزم للجمع بين النقيضين، فإن الحادث يجب أن يكون مسبوقاً بالعدم. فإذا قيل بأن الحادث لم يزل ممكناً، وأن صحته وإمكانه أزليته، كان معناه أن ما كان مسبوقاً بالعدم يمكن أن يكون أزلياً، والأزلي لا يكون مسبوقاً بالعدم، فكان معناه أن ما يجب أن يكون حادثاً يمكن أن يكون قديماً، وما يجب كونه مسبوقاً بالعدم يجوز أن يكون أزلياً غير مسبوق بالعدم، وهذا جمع بين النقيضين. فإذا قيل: الحادث المعين إمكانه هل هو أزلي أو حادث؟ قيل: بل هو حادث، فإن كون الحادث المعين في الأزل ممتنع لذاته، وهذا الممتنع لا يكون قط، ولكن حدثت أسباب أوجبت إمكان حدوثه، فكان إمكان حدوثه ممكناً، كوجود الولد المشروط بوجود والده، فإن كونه ابن فلان يستلزم وجود فلان، ويمتنع أن يكون وجود ابن فلان موجوداً قبل وجود فلان، والممتنع لذاته لا يكون مقدوراً، وتجدد القادرية بتجدد إمكان المقدور ليس ممتنعاً، فإن الجميع حاصل بمسيئة الرب وقدرته، وهو سبحانه بما يحدث بمشيئته وقدرته يجعل المعدوم موجوداً، فيجعل ما لم يكن ممكناً مقدوراً يصير ممكناً مقدوراً، وهذا مبسوط في موضع آخر. والمقصود شرح مراد الأرموي، فإذا أراد بالفرق الفرق بين صحة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 الأزلية وأزلية الصحة، كان معنى كلامه: إن صح هذا الفرق بطل الدليل، فإنه يقول في الحوادث المقبولة ما يقال في الحوادث المنفصلة من الفرق بين صحة أزليتها وأزلية صحتها، لكن لو أراد بالفرق هذا لم يستقم قوله: (إن هذا الفرق إن صح إنى عن الدليل السابق) بل هذا الفرق إن صح بطل الدليل المذكور، فهذا يرجح أنه أراد بالفرق بين القادر والقابل، فيكون قد ذكر ثلاثة أجوبة، نقول إن صح الفرق بينهما بأن القابل يستلزم وجود المقبول في الأزل دون القادر، فهذا الفرق يغني عن الدليل، وإن لم يصح هذا الفرق انتقض الدليل بالقادر. الوجه الثاني: أنه إن صح الفرق بين المقدور والمقبول بأن المقدور يجب تأخره عن القدرة، والمقبول لا يجب ذلك فيه، كان هذا وحده دليلاً على وجوب حصول الحادث في الأزل إذا كان قابلاً له، وحينئذ فلا حاجة إلى أن يستدل على ذلك بما ذكره من النسبة إن كان الفرق صحيحاً، وإن لم يكن صحيحاً صح النقض به. الثالث: أن الدليل المذكور يوجب وجود المقدور في الأزل، لأن القادرية على الشيئين نسبة بينهما، والنسبة بين الشيئين متوقفة عليهما، فإن صح الفرق بين المقدور والمقبول - مع أن الدليل يتناولهما جميعاً وينفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 الفرق - لزم بطلان الدليل، فيلزم بطلان مقدمة الدليل أو انتفاضه، وكلاهما مبطل له، وهذا بين. قال الرازي: (الثالث قول الخليل: {لا أحب الأفلين} (الأنعام: 67) يدل على أن المتغير لا يكون إلهاً) . ولقائل أن يقول: إن كان الخليل صلى الله عليه وسلم احتج بالأفول على نفي كونه رب العالمين، لزم أنه لم يكن ينفي عنه حلول الحوادث، لأن الأفول هو المغيب والاحتجاب باتفاق أهل التفسير واللغة، وهو مما يعلم من اللغة اضطراراً، وهو حين بزغ قال: (هذا ربي) فإذا كان من حين يزوغه إلى حال أفوله لم ينف عنه الربوبية دل على أنه لم يجعل حركته منافية لذلك، وإنما جعل المنافي الأفول، وإن كان الخليل صلى الله عليه وسلم إنما احتج بالأفول على أنه لا يصلح أن يتخذ رباً يشرك به، ويدعى من دون الله، فليس فيه تعرض لأفعال الله تعالى، فقصة الخليل إما أن تكون حجة عليهم، أو لا لهم ولا عليهم. قال الرازي: (واحتجوا بأن الدليل على أن الكلام والسمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 والبصر صفات حادثة، ولا بد لها من محل، وهو ذاته تعالى، ولأنه يصح قيام الصفات القديمة بذاته تعالى باتفاق منا ومن الأشعرية، والقدم لا يعتبر في المقتضى، فإنه عبارة عن نفس الأزلية وهو عدمي، فالمقتضى هو كونها صفات، والحوادث كذلك فليلزم قيامها به) . قال: (والجواب عن الأول بالجواب عن أدلة حدوث تلك الصفات، وعن الثاني بأن تلك الصفات قد تكون مخالفة لهذه بالنوع، سلمنا أنه لا فارق سوى القدم فلم قلتم: إنه عدمي، فإنه عبارة عن نفي العدم السابق، ونفي النفي ثبوت؟) قلت: ليس المقصود هنا ذكر أدلة المثبتة، فإن النصوص تدل على ذلك في مواضع لا تكاد تحصى إلا بكلفة، وإنما الغرض بيان: هل في العقل ما يعارض النصوص؟ ومن أراد تقرير ما احتجوا به من الدليل العقلي على الإثبات قدح فما يذكره النفاة من امتناع حدوث تلك الأمور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 وعمدة المانعين هو امتناع حلول الحوادث، وامتناع تسلسلها، فإذا كانوا لا ينفون حدوثها في ذاته إلا لامتناع حلول الحوادث: لم يجز أن يجيبوا عن أدلة الحدوث بمجرد دليل امتناع حلول الحوادث إن لم يجيبوا عن المعارض، لأن ذلك دور، فإذا قال القائل: الدليل على بطلان دليل المثبتة هو تدليل النفاة، قيل له: دليل النفاة لا يتم إلا ببطلان دليل المثبتة، فإذا لم تمكن المطالبة إلا بدليل المثبتة كان صحة دليل النفاة متوقفاً على صحته، وذلك دور، فإنه لا يتم نفي ذلك إلا بالجواب عن حجة المثبتين، فيكون قولهم بانتفاء حلول الحوادث مبيناً على انتفاء حلول الحوادث، فلا يكون لهم حجة على ذلك. فالمثبتون معهم السمعيات الكثيرة المتواترة بخلاف النفاة، فإنه ليس معهم شيء من السمع، وإنما يدعون قيام الدليل العقلي على امتناع قيام الحوادث به، فإذا أراد بعض المثبتين أن يقيم دليلاً عقلياً على قيامها به أو إمكان قيامها به، احتاج إلى أن يجيب عن أدلة النفاة، والنفاة لا يتم دليلهم على النفي حتى يجيبوا على أدلة المثبتين، وإلا فلو قدر تعارض الأدلة العقلية من الجانبين فتكافأتا، وبقيت الأدلة السمعية خالية عن معارض يجب تقدمه عليها، فإذا احتج المثبتون بالآيات والأحاديث لم يمكن للنفاة أن يقولوا هذا يثبت قيام الحوادث به وذلك ممتنع، إلا إذا أقاموا الدليل العقلي على الامتناع، أجابوا عما يحتج به المثبتة من الدليل العقلي، فلا بد للنفاة من هذا وهذا، بخلاف المثبتة فإنه يمكنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 أن يقولا السمع دل على ذلك، ولم يقيموا دليلاً عقلياً خالياً عن المعارض المقاوم ينفي ذلك، فلا يحتاج المثبتون إلى دليل عقلي يوافق السمع، يل يكفيهم إبطال ما يعارضه، وإذا أقاموا دليلاً عقلياً فعورضوا بأدلة النفاة لم يحتاجوا إلى إبطالها، بل تكفيهم المعارضة، فإذا أبطلوا كانوا قد سدوا على النفاة الأبواب. فلهذا كان ما يحتاج إليه النفاة من إقامة دليل عقلي، وإبطال ما يعارضه، مما احتاج إليه المثبتة، بل يكفيهم منع مقدمات المعارض، فإن أبطلوها فقد زادوا، وتكفيهم الممعارضة بالعقليات، فإن بينوا رجحان عقلياتهم فقد زادوا، وإذا بينوا صحة عقلياتهم وبطلان عقليات النفاة ومعهم السمعيات، كانوا قد أثبتوا أن معهم السمع والعقل، وأن المنازغ ليس معه لا سمع ولا عقل. وأما أدلة المثبتين فهو ما يذكرونه من الشرعيات والعقليات، وهم قد قدحوا في أدلة النفاة، فيتم كلامهم. وأما التسلسل فالكرامية ومن وافقهم لا يجيزونه، كما لا يجيزه كثير من المعتزلة ومن وافقهم، وأما من يجوز التسلسل في الآثار من أهل الحديث والكلام والفلسلفة وغيرهم، فهؤلاء قد عرف طعنهم في أدلة النفاة، وطعن النفاة في أدلة بعض، حتى متكلمة أهل الإثبات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 من الأشعرية وغيرهم متنازوعون في ذلك قد عرف. وأيضاً فإن المثبتين يقلون: كونه قادراً على الفعل بنفسه صفه كمال، كما أن قدرته على المفعول المنفصل صفة كمال، فإنا إذا عرضنا على صريح العقل من يقدر على الفعل القائم به والمنفصل عنه ومن لا يقدر على أحدهما علم أنا لأول أكمل، كما إذا عرضنا عليه من يعلم نفسه وغيره ومن لا يعلم إلا أحدهما، وأمثال ذلك، ويقول من يجوز دوام الحوادث وتسلسلها: إذا عرضنا على صريح العقل من يقدر على الأفعال المتعاقبة الدائمة ويفعلها دائمة متعاقبة، ومن لا يقدر على الدائمة المتعاقبة كان الأول أكمل. وكذلك إذا عرضنا على العقل من فعل الأفعال المتعاقبة مع حدوثها، ومن لا يفعل حادثاً أصلاً لئلا يكون عدمه قبل وجوده عدم كمال، شهد صريح العقل بأن الأول أكمل، فإن الثاني ينفي قدرتهوفعله للجميع، لئلا يعدم البعض في الأزل، والأول يثبت قدرته وفعله للجميع مع عدم البعض في الأزل، فذاك ينفي الجميع حذراً من فوت البعض، والثاني يثبت ما يثبته من الكمال مع فوت البعض، ففوت البعض لازم على التقديرين، وامتاز الأول بإثبات كمال في قدرته وفعله لم يثبته الثاني. وأيضاً فهم يقولون: كون الكلام لا يقوم بذاته يمنع أن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 كلامه، فإن ما قام به شيء من الصفات والأفعال عاد حكمه إليه، لا إلى غيره، فإذا خلق في محل علماً أو قدرة أو كلاماً كان ذلك صفة للمحل الذي خلق فيه، فذلك المحل هو العالم القادر المتكلم به، فإذا خلق كلاماً في محل كان ذلك الكلام المخلوق كلام ذلك المحل، لا كلامه، فإذا خلق في الشجرة: {إني أنا الله رب العالمين} (القصص: 30) ولم يقم هو به كلام كان ذلك كلاماً للشجرة، فتكون هي القائلة: (إني أنا الله رب العالمين) وهذا باطل، فيتعين أن يقوم به الكلام، وكونه لا يقدر أن يتكلم ولا يتكلم بما شاء، بل يلزمه الكلام كما تلزمه الحياة، مع كون تكليمه هو خلق مجرد الإدراك، يقتضي أن يكون القادر على الكلام الذي يتكلم باختياره أكمل منه، فإنا إذا عرضنا على العقل من يتكلم باختياره وقدرته ومن كلامه بغير اختياره وقدرته كان الأول أكمل، فتعين أن يكون متكلماً بقدرته ومشيئته كلاماً يقوم بذاته، وكذلك في مجيئة وإتيانه واستوائه وأمثال ذلك، إن قدرنا هذه أموراً منفصلة عنه: لزم أن لا يوصف بها، وإن قدرناها لازمة لذاته لا تكون بمشيئته وقدرته: لزم عجزه وتفضيل غيره عليه، فيجب أن يوصف بالقدرة على هذه الأفعال القائمة به، التي يفعلها بمشيئته وقدرته، وهذا هو الذي تعنيه النفاة بقولهم: لا تحله الحوادث، كما يعنون نفي العلم والقدرة ونحوهما بقولهم: لا تحله الأعراض. وأيضاً فإن ما به تثبت الصفات القائمة به، تثبت الأفعال القائمة به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 التي تحصل بقدرته واختياره، ونحو ذلك، وذلك أنه يقال: العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام ونحو ذلك صفات كمال، فلو لم يتصف الرب بها اتصف بنقائضها كالجهل والعجز والصمم والبكم والخرس، وهذه صفات نقص، والله منزه عن ذلك، فيجب اتصافه بصفات الكمال، ويقال: كل كمال يثبت لمخلوق من غير أن يكون فيه نقص بوجه من الوجوه فالخالق تعالى أولى به، وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق سبحانه أولى بتنزيهه عنه، بل كل كمال يكون للموجود لا يستلزم نقصاً فالواجب الوجود أولى به من كل موجود، وأمثال هذه الأدلة المبسوطة في غير هذا الموضع. فإذا قال النفاة من الجهمية والمتفلسفة والباطنية: هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة، فلا يلزم من رفع أحدهما ثبوت الثاني، إلا أن يكون المحل قابلاً لهما، فأما ما لا يقبلهما كالجماد فلا يقال فيه حي ولا ميت، ولا أعمى ولا بصير. أجيبوا عن ذلك بعدة أجوبة: مثل أن يقال: هذا اصطلاح لكم، وإلا فاللغة العربية لا فرق فيها، والمعاني العقلية لا يعتبر فيها مجرد الاصطلاحات. ومثل أن يقال: فما لا يقبل هذه الصفات كالجماد أنقص مما يقبلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 ويتصف بالناقص منها، فالحي الأعمى أكمل من الجماد الذي لا يوصف ببصر ولا عمى، وهذا بعينه يقال فيما يقوم به من الأفعال ونحوها التي يقدر عليها ويشاؤها، فإنه لو لم يتصف بالقدرة على هذه الأفعال لزم اتصافه بالعجز عنها، وذلك نقص ممتنع كما تقدم، والقادر على الفعل والكلام أكمل من العاجز عن ذلك. فإذا قال النافي: (إنما يلزم اتصفاه بنقيض ذلك لو كان قيام الأفعال به ممكناً، فأما ما لا يقبل لك كالجدار فلا يقال: هو قادر على الحركة ولا عاجز عنها) . فيقال: هذا نزاع لفظي كما تقدم، ويقال أيضاً: فما لا يقبل قيام الأفعال الاختيارية به والقدرة عليها كالجماد أنقص مما يقبل ذلك كالحيوان، فالحيوان الذي يقبل أن يتحرك بقدرته وإرادته إذا قدر عجزه هو أكمل مما لا يقبل الاتصاف بذلك كالجماد، فإذا وصفتموه بعدم قبول ذلك كان ذلك أنقص من أن تصفوه بالعجز عن ذلك، وإذا كان وصفه بالعجز عن ذلك صفة نقص، مع إمكان اتصافه بالقدرة على ذلك، فوصفه بعدم قبول الأفعال والقدرة عليها أعظم نقصاً. فإن قال النافي: لو جاز ان يفعل أفعالاً تقوم به بإرادته وقدرته للزم أن يكون محلاً للحوادث، وما قبل الشيء لا يخل عنه وعن ضده، فيلزم تعاقبها، وما تعاقبت عليه الحوادث فهو حادث، لامتناع حوادث لا أول لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 قيل لهم: هذا مبني على مقدمتين: على أن ما يقبل الشيء لا يخلو عنه وعن ضده، وعلى امتناع دوام الحوادث، وكل من المقدمتين قد بين فسادها كما تقدم. ثم قبل العلم بفساده يعلم بصريح العقل أن ما ذكر في إثبات هذه الأفعال من الأدلة العقلية الموافقة للأدلة الشرعية أبين وأظهر وأصرح في العقل من امتناع دوام الحوادث وتعاقبها، فإن هذه المقدمة في غاية الخفاء والاشتباه، وأكثر العقلاء من جميع الأمم ينازعون فيها ويدفعونها، وهي أصل علم الكلام الذي ذمه السلف والأئمة، وبهذه المقدمة استطالت الدهرية على من احتج بها من متكلمة أهل الملل، وعجزوهم عن إثبات كون الله تعالى يحدث شيئاً لا العالم ولا غيره، والذين اعتقدوا صحة هذه المقدمة من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم ظنوا أن حدوث العالم وإثبات الصانع لا يتم إلا بها، وفي حقيقة الأمر هي تنافي حدوث العالم وإثبات الصانع، بل لا يمكن القول بإحداث الله تعالى لشيء من الحوادث إلا بنقيضها، ولا يمكن إثبات خلق الله لما خلقه تصديق رسله فيما أخبروا به عنه إلا بنقيضها، فما جعلوه أصلاً ودليلاً على صحة المعقول والمنقول، هو مناف مناقض للمنقول والمعقول، كما قد بسط في غير هذا الموضع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وأيضاً فإن هؤلاء النفاة يقولون: لم يكن الرب تعالى قادراً على الفعل فصار قادراً، وكان الفعل ممتنعاً فصار ممكناً، من غير تجدد شيء أصلاً يوجب القدرة والإمكان، وهذا معنى قول القائل: إنه يلزم أن ينقلب الشيء من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي، وهذا مما تجزم العقول ببطلانه، مع ما فيه من وصف الله بالعجز وتجدد القدرة له من غير سبب. ومن اعتذر منهم عن ذلك - مثل كثير منهم - قالوا: إن الممتنع هو القدرة على الفعل في الأزل، فنفس انتفاء الأزل يوجب إمكان الفعل والقدرة عليه. قيل لهم: الأزل ليس هو شيئاً كان موجوداً فعدم، ولا معدوماً فوجد، حتى يقال: إنه تجدد أمر أوجب ذلك، بل الأزل كالأبد، فكما أن الأبد هو الدوام في المستقبل، فالأزل هو الدوام في الماضي، فكما أن الأبد لا يختص بوقت دون وقت، فالأزل لا يختص بوقت دون وقت، فالأزلي هو: الذي لم يزل كائناً، والأبدي هو: الذي لا يزال كائناً، وكونه لم يزل ولا يزال معناه دوامه وبقاؤه، الذي ليس له مبتدأ ولا منتهى، فقول القائل: (شرط قدرته انتفاء الأزل) كقول نظيره: (شرط قدرته انتفاء الأبد) . فإذا كان سلف الأمة وأئمتها وجماهير الطوائف أنكروا قول الجهم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 كونه تعالى لا يقدر في الأبد على الأفعال، فكذلك قول من قال: لا يقدر في الأزل على الأفعال، وقول أبي الهذيل: (إنه تعالى لا يقدر على أفعال حادثة في الأبد) يشبه قول من قال: (لا يقدر على أفعاله حادثة في الأزل) ، وقد بسط الكلام على هذا، وقول من يفرق بين النوعين في غير هذا الموضع. الاستدلال على النفي والرد عليه وقد استدل بعضهم عل النفي بدليل آخر، فقال: إن كل صفة تفرض لواجب الوجود فإن حقيقته كافية في حصولها أولا حصولها وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل، وهذا يقتضي إمكانه، فيكون الواجب ممكناً، هذا خلف، وحينئذ يلزم من دوام حقيقته دوام تلك الصفة. والمثبتون يجيبون عن هذا بوجوه: أحدها: أن هذا إنما يقال فيما كان لازماً لذاته في النفي أو الإثبات، أما ما كان موقوفاً على مشيئته وقدرته كأفعاله فإنه يكون إذا شاءه الله تعالى، ولا يكون إذا لم يشأه، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فإن بين المستدل أنه لا يجوز ان يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته كان هذا وحده كافياً في المسألة، وإن لم يبين ذلك لم يكن فيما ذكره حجة. الثاني: أن يقال: إن هذا منقوض بأفعاله، فإن حقيقته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 كافية في حصولها، ولا لزام افتقاره إلى سبب منفصل، وذلك يقتضي إمكانه، فيكون الواجب ممكناً، فما كان جواباً عن الأفعال كان جواباً للمثبتين القائلين: إنه يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته، ومن جوز أنه يفعل بعد أن لم يكن فاعلاً بمحض القدرة والمشيئة القديمة قال هنا كذلك كما يقول الكرامية، ومن قال: (إنه لم يزل يفعل ويتكلم إذا شاء) قال هنا كذلك، كما يقولوه من يقوله من أئمة السنة والحديث. الثالث: أن يقال: أتعني بقولك (ذاته كافية) أنها مستلزمة لوجود اللازم في الأزل؟ أم هي كافية فيه وإن تأخر وجوده؟ فإن عنيت الأول انتقض عليك بالمفعولات الحادثة، فإنه يلزمك إما عدمها وإما افتقاره إلى سبب منفصل، إذ كان مالا تكفي فيه الذات يفتقر إلى سبب منفصل، وإن عنيت الثاني كان حجة عليك، إذ كان مما تكفي الذات يمكن تأخره. الرابع: ان يقال: قولك (يفتقر إلى سبب منفصل) تعني به شيئاً يكون من فعل الله تعالى، أو شيئاً لا يكون من فعله؟ أما الأول فلا يلزم افتقاره إلى غيره، فإنه إذا كان هو فاعل الأسباب فهو فاعلها وفاعل ما يحدث بها، فلا يكون مفتقراً إلى غيره، وأما إن عنيت بالسبب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 ما لا يكون من فعله لزمك أن كل مالا يكفي فيه الذات فلا يستلزم وجوده في الأزل ألا يوجد إلا بشريك مع الله ليس من مخلوقاته، ومعلوم أن هذا خلاف إجماع أهل الإيمان، بل خلاف إجماعه جماهير العقلاء، وهو خلاف المعقول الصريح أيضاً، فإن ذلك الشريك المقدر إن كان واجب الوجود بنفسه إلهاً آخر لزم إثبات خالق قديم مع الله مشارك له في فعله لا يفعل إلا به، وهذا مع أنه لم يقل به أحد من بني آدم، فهو باطل في نفسه، لأنه يستلزم افتقار كل من الفاعلين إلى الآخر، فإن التقدير في هذا المشترك هو أن أحدهما لا يستقل به، بل يحتاج إلى معاونة الآخر، وما احتاج إلى معاونة الآخر كان فقيراً إلى غيره ليس بغني، وكان عاجزاً ليس بقادر، فإن كان هذا دليلاً على انتفاء الوجوب بطل دليلك، وإن لم يكن دليلاً بطل دليلك أيضاً، فإنه مبني عليه، وإن كان ذلك الشريك المقدر ليس واجب الوجود بنفسه فهو ممكن لا يوجد إلا بالواجب نفسه، فلزم أن يكو من مفعولاته. الجواب الخامس: أن يقال قول المحتج: (كل ما يفرض له فإما أن تكون ذاته كافية في ثبوت حصوله أو لا تكفي في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 حصوله، وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل) كلام باطل، وذلك أنه يقال: لا نسلم أن مالا يكون مجرد الذات كافية في ثبوته أو انتفائه يفتقر فيه إلى سبب منفصل، وإنما يلزم ذلك أن لو لم تكن الذات قادرة على ما يتصل بها من الأفعال، فإذا كانت قادرة على ذلك أمكن أن يكون ما يتجدد له من الثبوت موقوفاً على ما يقوم بها من مقدوراتها، فليس مجرد الذات مقتضية لذلك، ولا افتقرات إلى سبب منفصل، وذلك أن لفظ (الذات) فيه إجمال واشتباه، وبسبب الإجمال في ذلك وقعت شبهة في مسائل الصفات والأفعال؟، فإنه يقال له: ما تريد بذاته؟ أتريد به الذات المجردة عما يقوم بها من مقدوراتها ومرادتها؟ أم تعني به الذات القادرة على ما تريده مما يقوم لها ومما لا يقوم بها؟ فإن أرادت به الأول كان التلازم صحيحاً، فإنه إذا قدر ذات لا يقوم بها شيء من ذلك، كان ما يثبت لها وما ينفي عنها إن لم تكن هي كافية فيه، وإلا افتقرت إلى سبب منفصل، لأنه لا يقوم بها ما تقدر عليه وتريده، لكن يقال: ثبوت التلازم ليس بحجة إن لم تكن الذات في نفس الأمر كذلك، وكون الذات في نفس الأمر كذلك هو رأس المسألة، ومحل النزاع، فلا يكون الدليل صحيحاً حتى يثبت المطلوب ولو ثبت المطلوب لم يحتج إلى الدليل، فتكون قد صادرت على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 المطلوب حيث جعلته مقدمة إثبات نفسه، وهذا باطل بصريح العقل واتفاق أهل العارفين بذلك. وإن أردت بذات النوع الثاني لم يصح التلازم، فإنه إذا قدر ذات تقدر على أن تفعل الأفعال التي تختارها وتقوم بها، لم يلزم أن يكون ما يتجدد من تلك الأفعال موقوفاً على سبب منفصل، ولا يكون مجرد الذات بدون ما يتجدد من مقدورها ومرادها كافياً في كل فرد من ذلك، بل قد يكون الفعل الثاني لا يوجد إلا بالأول، والأول بما قبله وهلم جراً، فليس مجرد الذات بدون ما تجدده كافياً في حصول المتأخرات، ولا هي مفتقرة في ذلك إلى أمور منفصلة عنها، فلفظ (الذات) قد يراد به الذات بما يقوم بها، وقد يراد به الذات المجردة عما يقوم بها. فإذا قيل (هل الذات كافية) إن أريد به الذات المجردة فتلك لا حقيقة لها في الخارج عند أهل الإثبات، وإذا قدرت تقديراً فهي لا تكفي في إثبات ما يثبت لها، وإن أريد به الذات المنعوتة فإنه يقوم بها الأفعال الاختيارية، فمعلوم أن هذه الذات لا يجب أن يتوقف ما يتجدد لها من فعل ومفعول على سبب منفصل عنها، ونظير هذا قول نفاة الصفات: إن الصفات هل هي زائدة على الذات أو ليست زائدة؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 فإنا قد بينا في غير هذا الموضع أن الذات المجردة عن الصفات لا حقيقة لها، بل الصفات زائدة على ما يثبته النفاة من الذات، وأما الذات الموصوفة بصفاته القادرة على أفعالها فتلك مستلزمة لما يلزمها من الصفات، قادرة على ما تشاؤه من الأفعال، فهي لا تكون إلا موصوفة، لا يمكن أن تتجرد عن الصفات اللازمة لها، حتى يقال: هل هي زائدة عليها أو ليست زائدة عليها؟ بل هي داخلة في مسمى اسمها، والأفعال القائمة بها بقدرتها وإرادتها كذلك. فكما أنه مسمى بأسمائه الحسنى، منعوت بصفاته العلى، قبل خلق السماوات والأرض، وبعد إقامة القيامة، وفيما بين ذلك، لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال، منعوتاً بنعوت الإكرام والجلال، فكذلك هو مسمى بأسمائه الحسنى منعوت بصفاته العلى، قبل هذه الأفعال وبعدها. وكان أن ذلك ثابت قبل حدوث المفعولات وبعدها، فهو ايضاً ثابت قبل حدوث الأفعال وبعدها، ومن آياته الشمس والقمر والكواكب، وما تستحقه هذه الأعيان من الأسماء والصفات هو ثابت لها قبل الحركات المعينة وبعدها، ولا يحتاج أن يقدر لها ذات مجردة عن النور وعن دوام الحركة، ثم زيد عليها النور ودوام الحركة، فالخالق سبحانه أولى بثبوت الكمال له وانتفاء النقص عنه، والمخلوقات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 إنما احتاجت فيما يحدث عنها إلى سبب منفصل لأنها هي في نفسها محتاجة إلى الفاعل المنفصل، فلا يوجد شيء من ذاته وصفاتها وأفعالها إلا بأمر منفصل عنها، وأما الخالق سبحانه وتعالى فهو الغني عما سواه، فلا يفتقر في شيء من ذاته وصفاته وأفعاله إلى أمر منفصل الذي هو مفتقر إليه، فلا يحتاج فيما يجدده من أفعاله القائمة بنفسه التي يريدها ويقدر عليها إلى أمر مستغن عنه، كما لا يحتاج في مفعولاته المنفصلة عنه إلى ذلك وأولى، وإذا كان قد خلق من الأمور المنفصلة عنه ما جعله سبباً لأفعال تقوم بنفسه، كما يخلق الطاعات التي ترضيه، والتوبة التي يفرح بها، والدعاء الذي يجيب سائله، وأمثال ذلك من الأمور، فليس هو في شيء من ذلك مفتقراً إلى ما سواه، بل هو سبحانه الخالق للجميع، وكل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغني عن كل ما سواه، وهذا كما أن ما يفعله من المخلوقات بعضها ببعض، كإنزال المطر بالسحاب وإنبات النبات بالماء، لا يوجب افتقاره إلى الأسباب المنفصلة، إذ هو خالق هذا وهذا، وجاعل هذا سبباً لهذا، وقد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع بما لا يليق بهذا المكان. الجواب السادس: أن يقال: قولهم إن لم يكن ذاته كافية في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 حصولها لزم افتقاره إلى سبب منفصل، وذلك يقضي إمكانه، فيكون الواجب ممكناً تمنع فيه المقدمة الأولى التلازمية التي هي شرطية متصلة، وذلك أن الذات إن لم تكن كافية في حصولها، إنما يلزم افتقار ذلك الحادث إلى سبب منفصل، لا يلزم افتقار نفس الذات إلى سبب منفصل، فإن المحتج يقول: كل صفة تفرض فذاته كافيه في حصولها أو لا حصولها، لأنه لو لم يكن كذلك لزم افتقاره إلى سبب منفصل. فيقال له: بتقدير أن لا تكون الذات كافية في نفي تلك الصفة أو ثبوتها، يلزم أن يكون نفيها أن إثباته موقوفاً عل أمر غير الذات، وأما كون الذات تكون موقوفة على ذلك الغير، فهذا ليس بلازم من هذا التقدير، إلا أن يتبين أنه إذا كان شيء من الأمور التي توصف بها من السلب والإيجاب موقوفاً على الغير، وجب أن يكون هو نفسه موقوفاً على الغير، وهو لم يبين ذلك. ومن المعلوم أن القائلين بهذا يقولون: إن ما يتجدد من الأمور القائمة به، فهو موقوف على مشيئته وقدرته، وذاته ليست موقوفة على مشيئته وقدرته، ويقولون: إنه يجوز أن يقف ذلك على ما يحدثه هو من الحوادث بمشيئته وقدرته، وهو في نفسه ليس موقوفاً على ما يحدثه من الحوادث المتعلقة بمشيئته وقدرته، وليس في الوجود موجود سواه وسوى مخلوقاته حتى يقال إن تلك الأمور موقوفة عليه، بل غاية ما يمكن أن يقال إنها موقوفة على مشيئته وقدرته أو توابع مشيئته وقدرته. وأصحاب هذا القول يقولون ذلك، وتكون تلك الأمور موقوفة على ذلك، لا يقتضي أن يكون هو نفسه موقوفاً على ذلك، ولكن هذا المحتج إن لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 يقرر مقدمات حجته لم تكم حجته صحيحة، وحجته مبنية على أنه لو لم تكف ذاته في حصول ما ينفي ويثبت للزم افتقاره إلى غيره، وإنما يلزم افتقار تلك المنفيات والمثبتات إلى ذلك الغير، فإن هذا بين، فإن لم يبن أن افتقار تلك الأمور إلى الغير مستلزم لافتقاره، وإلا لم تكن حجة صحيحة، لا سيما وتلك الأمور على هذا التقدير ليست من لوازم ذاته، فإنها لو كانت من لوازم ذاته كانت ذاته كافية فيها، ولوازم الذات متى افتقرت إلى الغير لزم افتقار الذات إلى الغير، فإن الملزوم لا يوجد إلا باللازم، واللازم لا يوجد إلا بذلك الغير، فالملزوم لا يوجد إلا بذلك الغير، ولكن ذلك الغير لا يجب أن يكون فاعلاً أو علة فاعلة، بل يجوز أن يكو شرطاً ملازماً. وقد بين في غير هذا الموضع أن نفس ذات الواجب إذا قيل: هي ملازمة لصفاته الواجبة له، أو صفاته الواجبة له ملازمة لذاته، أو كل من الصفات الواجبة ملازم للأخرى، كان هذا حقاً وهو متضمن أن تحقيق كل من ذلك مشروط بتحقق الآخر. وأما كون الرب تعالى مفتقر إلى شيء مباين له غنى عنه، فهذا ممتنع، فإنه سبحانه الغني عن كل شيء، فإذا قدر أن بعض لوازمه توقف على ما هو مباين له لم يكن وجوده ثابتاً إلا بوجود ذلك المباين، وكان الله مفتقراً إليه، والله غني عن كل شيء. وأما إذا لم يكن الأمر من لوازم ذاته، بل كان من الأمور العارضة، فلا ريب أن أهل الإيمان والسنة يقولون إن الله لا يفتقر في شيء من الأشياء إلى غيره، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 لا في ذاته ولا في صفاته ولا أفعاله، سواء قام بذاته أو لم يقم بذاته، ولكن هو بنفسه غني عن كل ماسواه، ولا يقال إنه نفسه غني عن نفسه، وليس في كونه مستلزماً لصفاته وفاعلاً لأفعاله ما يقتضي افتقاره إلى غير نفسه، فإنه إذا كان وحده مستلزماً لصفاته وفاعلاً لأفعاله ما يقتضي افتقاره إلى غير نفسه، فإنه إذا كان وحده مستلزماً لصفاته، فاعلاً لجميع أفعاله، لم يكن شيء مما وجد بغيره، بل جميع ما وجد فلا يخرج من ذاته وصفاته وأفعاله، فلا يتصور أن يكون مفتقراً إلى غير نفسه المقدسة سبحانه وتعالى. ولكن المقصود أن هذا المحتج إذا قال له المعترض: ما المانع أن تكون هذه الأمور العارضة موقوفة على غير مع كون الحق واجب بذاته؟ لم يكن فيما ذكر حجة، بل ذكر أن تلك الأمور إذا لم تكن من لوازم ذاته بحيث تكون مجرد الذات كافيه فيها، وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل، واللازم إنما هو افتقار تلك الأمور إلى سبب منفصل، فإن بين أن ما يقوم بالواجب يمتنع أن يكون موقوفاً على سبب منفصل تمت حجته، وإلا فلا، ولا يمكن أن يقيم حجه إلا على أنه لا يقف على ما هو مستغن عن الواجب بنفسه، وهذا حق. وأما كونه لا يقف على ما هو مفتقر إلى الواجب فهذا لا يمكن إقامة الدلالة عليه. الوجه السابع: أن يقال: قولك بأن عواض ذاته لا يتوقف على الغير يستلزم أن عواض ذاته يتوقف على الغير، وإذا كان تقدير ثبوته مستلزماً لانتفائه دل على أن تقدير ثبوته مستلزم لجمع بين النقيضين، فلا يكون ثابتاً، وإن شئت قلت: قولك لا تقوم به الحوادث مستلزم لقيام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 الحوادث به، فيلزم الجمع بين النقيضين، وإن شئت قلت: قولك لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته يستلزم نقيض ذلك فيكون باطلاً، وهذا يصلح أن يكون دليلاً مستقلاً في أول المسألة، وذلك لأن هذا العالم المشهود إما أن يكون واجباً بذاته أو ممكناً، فإن كان واجباً بذاته فمن المعلوم قيام الحوادث به، فيلزم قيامها بالواجب بذاته. وأيضاً فمن المعلوم أن ما يقوم ببعض الأفلاك من الحوادث ليست ذاته كافيه له، بل هو موقوف على غيره، فيكون ما يقوم بالواجب بنفسه موقوفاً على غيره، وإن كان هذا العالم ممكناً وهو الحق، فلا بد له من واجب، فذلك الواجب إما أن يكون علة تامة مستلزمة في الأزل لجميع معلولاته أو لا، والأول باطل لأنه لو كان كذلك لم يتأخر شيء من معلولاته. والثاني يقتضي أنه فعل بعد أن لم يكن فعل، وذلك يقتضي تجدد فاعلية فأما أن يكون تجدد ذلك مستلزماً لكون متجدداته توجب افتقار ذاته إلى غيره أو لا، فإن لم تكن بطلت الحجة، وإن استلزم ذلك ثبت افتقار ما يتجدد بذاته إلى غيره. فلو قيل: إن الواجب لا تقوم بذاته هذه الأمور للزم أن تقوم بذاته هذه الأمور، فيلزم الجمع بين النقيضين. وإن قيل: تجدد الفاعلية لا يستلزم قيام شيء به، بل تجددت من غير حدوث شيء أصلاً. قيل: فكذلك ما يتجدد من الأمور القائمة بذاته ممكن حينئذ تجدده من غير حدوث شيء اصلاً بطريق الأولى. وإن شئت أن تكون هذه معارضة ودليلاً في رأس المسألة، ونقول: ما يتجدد من مفعولاته هل يتقضي أفتقار ذاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 إلى غيره أما لا؟ فإن قيل لا يقتضي، فكذلك ما يتجدد من أفعاله القائمة به وإلا فلا. وهذا لأن نفاة الأمور القائمة به منهم من يقول حدثت الحوادث المباينة له من غير تجدد شيء أصلاً، كما يقول ذلك من يقول من المعتزلة والكلابية وغيرهم، ومنهم من يقول: بل ما زالت الحوادث تحدث مع كونه مستلزماً لجميع مفعولاته، كما تقول ذلك الدهرية الفلاسفة، والدهرية منهم من يقول: إن العالم واجب الوجود بنفسه، ومنهم من يقول: إن الأول علة غائية له، وكل من هذه الأقوال يلزمه من التناقض ما يبين به أنه لا يمكنه إبطال القول بقيام مراداته ومحبوابته بذاته. معارضة بعض المتكلمين للرازي وقد عارض بعضهم الرازي فيما ذكره من أن هذه المسألة تلزم عامة الطوائف، فقال: المراد بالحادث: الموجود الذي وجد بعد العدم، ذاتاً كان أو صفة، أما ما لا يوصف بالوجود - كالأعدام المتجددة، والأحوال عند من يقول بها، والإضافات عند من لا يقول: إنها وجودية - فلا يصدق عليها اسم الحادث، وإن صدق عليها اسم المتجدد، فلا يلزم من تجدد الإضافات والأحوال في ذات الباري أن تكون محلاً للحوادث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 قال: وما قاله الإمام - يعني الرازي - في هذا المقام إن أكثر العقلاء قالوا به وإن أنكروه باللسان، وبينه بصور، فليس كذلك، لأن أكثر ما ذكر من تلك الأمور فإنما هي متجددة لا محدثة، والمتجدد أعم من الحادث، فلا يلزم من وجود العام وجود الخاص قلت: ولقائل أن يقول: هذا ضعيف من وجوه: الرد عليهم من وجوه الوجه الأول أن الدليل الذي استدلوا به على نفي الحوادث ينفي المتجددات أيضاً كقولهم: إما أن يكون كمالاً أو نقصاً، وقولهم: لو حصل ذلك لزم التغير، وقولهم: إما أن تكون ذاته كافية فيه أو لا تكون، وقولهم: كونه قابلاً له في الأزل يستلزم إمكان ثبوته في الأزل، فإنه لا يمكن أن يحصل في الأزل لا متجدد ولا حادث، ولا يوصف الله بصفة نقص، سواء كان متجدداً أو حادثاً، وكذلك التغير لا فرق بين أن يكون بحادث أو متجدد، فإن قالوا: تجدد المتجددات ليس تغيراً، قال أولئك: وحدوث الحركات الحادثة ليس تغيراً، فإن قالوا: (بل هذا يسمى تغيراً) منعوهم الفرق، وإن سلموه كان النزاع لفظياً، وإذا كان استدلالهم ينفي القسمين لزم إما فساده وإما النقض. الوجه الثاني أن يقال: تسمية هذا متجدداً وهذا حادثاً فرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 لفظي، لا معنوي، ولا ريب أن أهل السنة والحديث لا يطلقون عليه سبحانه وتعالى أنه محل للحوادث، ولا محل للأعراض، ونحو ذلك من الألفاظ المبتدعة التي يفهم منها معنى باطل، فإن الناس يفهمون من هذا أن يحدث في ذاته ما سمونه هم حادثاً كالعيوب والآفات، والله منزه عن ذلك سبحانه وتعالى، وإذا قيل: فلان ولي على الأحداث، أو تنازع أهل القبلة في أهل الأحداث، فالمراد بذلك: الأفعال المحرمة كالزنا والسرقة وشرب الخمر وقطع الطريق، والله أجل وأعظم من أن يخطر بقلوب المؤمنين قيام القبائح به، والمقصود أن تفرقة المفرق بين المتجدد والحادث أمر لفظي، لا معنى عقلي، ولو عكسه عاكس فسمى هذا متجدداً وهذا حادثاً لكان كلامه من جنس كلامه. الوجه الثالث أن دعوى المدعي أن الجمهور إنما يلزمهم تجدد الإضافات والأحوال والأعدام، لا تجدد الحادث الذي وجد بعد العدم، ذاتاً كان أو صفة، دعوى ممنوعة لم يقم عليها دليلاً، بل الدليل يدل على أن أولئك الطوائف يلزمهم قيام أمور وجودية حادث بذاته، مثال ذلك سبحانه وتعالى يسمع ويرى ما يخلقه من الأصوات والمرئيات. وقد أخبر القرآن بحدوث ذلك في مثل قوله: {وقل اعملوا فسيرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 الله عملكم ورسوله والمؤمنون} (التوبة: 105) وقوله تعالى: {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} (يونس: 14) . وقد أخبر بسمعه ورؤيته في مواضع كثيرة، كقوله لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} (طه: 46) وقوله: {الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين} (الشعراء: 218 - 219) وقوله: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} (آل عمران: 181) . {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله} (المجادلة: 1) . وفي الصحيح «عن عائشة رضي الله عنها قالت: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، لقد كانت المجادلة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت، وإنه ليخفى علي بعض كلامها، فأنزل الله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله} » ، ومثل هذا كثير. فيقال لهؤلاء: أنتم معترفون وسائر العقلاء بما هو معلوم بصريح العقل أن المعدوم لا يرى موجوداً قبل وجوده، فإذا وجد فرآه موجوداً وسمع كلامه فهل حصل أمر وجودي لم يكن قبل، أو لم يحصل شيء؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 فإن قيل: لم يحصل أمر وجودي، وكان قبل أن يخلق لا يراه، فيكون بعد خلقه لا يراه أيضاً، وإن قيل: حصل أمر وجودي، فذلك الوجودي إما أن يقوم بذات الرب، وإما أن يقوم بغيره، فإن قام بغيره لزم أن يكون غير الله هو الذي رآه، وإن قام بذاته علم أنه قام به رؤية ذلك الموجود الذي وجد، كما قال تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} (التوبة: 105) ، وما سموه إضافات وأحوالاً وتعلقات وغير ذلك. يقال لهم: هذه أمور موجوده أو ليست موجودة؟ فإن لم تكن موجودة فلا فرق بين حاله قبل أن يرى ويسمع وبعد أن يرى ويسمع، فإن العدم المستمر لا يوجب كونه صار رائياً سامعاً، وإن قلتم: بل هي أمور وجودية، فقد أقررتم بأن رؤية الشيء المعين لم تكن حاصلة، ثم صارت حاصلة بذاته، وهي أمر وجودي. والمتفلسفة لا يقتصر في إلزامهم على تجدد الإضافات، بل يلزمون بكونه محدثاً للحوادث المتجددة شيئاً فشيئاً، والإحداث هو من مقولة أن يفعل، وأن يفعل: أحد المقولات العشر، وهي أمور وجودية. فيقال: كونه فاعلاً لهذه الحوادث المعينة بعد أن لم يكن فاعلاً لها، إما أن يكون أمراً حادثاً وإما أن لا يكون حدث كونه فاعلاً، فإن لم يحدث كونه فاعلاً فحاله قبل أن يحدثها وبعد أن يحدثها واحد، وقد كان قبل أن يحدثها غير فاعل لها، فيلزم أن لا يحدث شيء، أو يحدث بلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 محدث، وأنتم أنكرتم على المتكلمة الجهمية والمعتزلة أن قالوا: الذات تفعل بعد أن لم تكن فاعلة، بلا أمر تجدد، فكيف تقولون: هي دائماً تفعل الحوادث شيئاً بعد شيء، من غير أن يحدث لها أمر؟ وأيضاً فالفاعلية التامة لكل واحد من الحوادث إن كانت موجودة في الأزل قبل حدوثه لزم تأخر الفعل عن الفاعلية التامة، وهذا باطل، وذلك يبطل قولهم. وإن قالوا: بل الفاعلية التامة لكل حادث تحدث بعد أن لم تكن حادثة، فقد صارت الذات فاعلة لذلك الحادث بعد أن لم تكن فاعلة، وكونها فاعلة هي من مقولة أن يفعل، هي إحدى المقولات العشر التي هي الأجناس العالية، المسماة عندهم بقاطيغورياس، وهي كلها وجودية، فيلزم اتصاف الرب بقيام الأمور الوجودية به شيئاً بعد شيء، كما أختاره كثير من سلفهم وخلفهم. وهكذا يمكن تقرير كل ما ذكر الرازي من إلزام الطوائف شيئاً بعد شيء لمن تصور ذلك تصوراً تاماً، وكل من قال: (لم يحدث شيء موجود) فإنه يلزمه التناقض البين الذي لا ينازع فيه المنصف الذي يتصور ما يقول تصوراً تاماً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وقد اعتذر من اعتذر من الفلاسفة عما ألزمهم إياه من الإضافات بأن قالوا: الإضافات لا توجد إلا كذلك، فلا يتصور فيه الكمال قبلها، ولأنها تابعة لغيرها، فلا يثبت فيها الكمال، بل في متبوعها. قلت: ولقائل أن يقول: هذا بعينه يقوله المثبتون، فإن الكلام إنما هو في الحوادث المتعلقة بمشئيته وقدرته. ومن المعلوم امتناع ثبوت الحوادث جميعها في الأزل: فإذا قال القائل: (الإضافات لا توجد إلا حادثة) قيل له: والحوادث المعلقة بمشيئته وقدرته لا توجد لا حادثة. وأما قوله: (الإضافة تابعة لغيرها، فلا يثبت فيها الكمال) فعنه جوابان: أحدهما: أن الدليل لا يفرق بين التابع والمتبوع، فإن صح الفرق ظل الدليل، وإن لم يصح انتقض الدليل، فيبطل على التقديرين. الثاني: أن يقال: وهكذا ما يتعلق بمشيئته وتقدرته، هو تابع أيضاً، فلا يثبت فيه الكمال. يوضح ذلك: أنه سبحانه مستحق في أزله لصفات الكمال، لا وزر أن يكون شيء من الكمال الأزلي إلا وهو متصف به في أزله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 كالحياة والعلم والقدرة وغير ذلك، وإنما الشأن فيما لا يمكن وجوده في الأزل. طريقة الأئمة في مسألة القرآن ومما يبين لك أن الرازي وأمثاله كانوا يعتقدون ضعف هذه المسألة - مع فرط رغبتهم في إبطال قول الكرمية إذا أمكنهم - أنه لم يعتمد على ذلك في مسألة كلام الله تعالى في أجل كتبه نهاية العقول، ومسأل الكلام هي من أجل ما يبنى على هذا الأصل. وذلك أن الطريقة المعروفة التي سلكها الأشعري وأصحابه في مسألة القرآن، هم ومن وافقهم على هذا الأصل من أصحاب أحمد وغيرهم، كأبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم من أصحاب أحمد، وكأبي المعالي الجويني وأمثاله وأبي القاسم الرواسي وأبي سعيد المتولي وغيرهم من أصحاب الشافعي، والقاضي أبي الوليد الباجي وأبي بكر الطرطوشي والقاضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 أبي بكر بن العربي وغيرهم من أصحاب مالك. وكأبي منصور الماتريدي وميمون النسفي وغيرهما من أصحاب أبي حنيفة، أنهم قالوا: لو كان القرآن مخلوقاً للزم أن يخلقه: إما في ذاته، أو في محل غيره، أو أن يكون قائماً بنفسه لا في ذاته ولا في محل آخر. والأول: يستلزم أن يكون الله محلاً لحوادث، والثاني: يقتضي أن يكون الكلام كلام المحل الذي خلق فيه، فلا يكون ذلك الكلام كلام الله، كسائر الصفات إذا خلقها في محل، كالعلم والحياة والحركة واللون وغير ذلك، والثالث: يقتضي أن تقوم الصفة بنفسها، وهذا ممتنع. فهذه الطريقة هي عمدة هؤلاء في مسألة القرآن. وقد سبقهم عبد العزيز المكي صاحب الحيدة المشهورة إلى هذا التقسيم. قول عبد العزيز الكناني في مسألة القرآن وصفات الله والتعليق عليه وقد يظن الظان أن كلامهم هو كلامه بعينه، وأنه كان يقول بقولهم، وأن الله لا يقوم بذاته ما يتعلق بقدرته ومشيئته، وأن قوله من جنس قول ابن كلاب. وليس الأمر كذلك، فإن عبد العزيز ـ هذا ـ له في الرد على الجهمية وغيرهم من الكلام ما لا يعرف فيه خروج عن مذهب السلف وأهل الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 وذلك أنه قال بعد أن ذكر جوابه لبشر فيما احتج به بشر من النصوص مثل قوله تعالى {الله خالق كل شيء} [الزمر: 62] ، وقوله تعالى: {إنا جعلناه قرآنا عربيا} [الزخرف: 3] ، قال: (فقال بشر: يا أمير المؤمنين عندي أشياء كثيرة، إلا أنه يقول بنص التنزيل، وأنا أقول بالنظر والقياس، فليدع ما مطالبتي بنص التنزيل، ويناظرني بغيره؟، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقول بقولي ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال) . وذكر عبد العزيز أنه طلب من بشر أن يناظره على وجه النظر والقياس ويدع مطالبته بنص التنزيل - إلى أن قال: (فقال عبد العزيز: يا بشر، تسألني أم أسألك؟ فقال بشر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 سل أنت، وطمع في، وجميع أصحابه! وتوهموا أني إذا خرجت عن نص التنزيل لم أحسن أن أتكلم بشيء غيره) . قال عبد العزيز: (فقلت: يا بشر، تقول: إن كلام الله مخلوق؟ قال: أقول: إن كلام الله مخلوق) قال: (فقلت له: يلزمك واحدة من ثلاث لا بد منها: أن تقول: إن الله خلق القرآن - وهو عندي أناكلامه - في نفسه، أو خلقه قائماً بذاته ونفسه، أو خلقه في غيره، فقل ما عندك، قال بشر: أقول: إنه مخلوق، وإنه خلقه كما خلق الأشياء كلها. قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين، تركنا القرآن ونص التنزيل والسنن والأخبار عند هربه منها وذكر أنه يقيم الحجة، وأنا أقول معه بخلق القرأن، فقد رجع بشر إلى الحيدة عن الجواب، وانقطع عن الكلام، فإن كان يريد أن يناظرني على أنه يجيبني عما أسأله عنه، وإلا فأمير المؤمنين أعلى عيناً في صرفي، فإنما يريد بشر أن يقع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 معه من لا يفهم، فيخدعه عن دينه، ويحتج عليه بما لا يعقله، فتظهر حجته عليه، فيبيح دمه. قال: فأقبل عليه المأمون فقال: أجب عبد العزيز عما سألك عنه، فقد ترك قوله ومذهبه وناظرك على مذهبك وما ادعيت أنك تحسنه وتقيم الحجة به عليه، فقال بشر: قد أجبته، ولكنه يتعنت، فقال المأمون: يأبى عليك عبد العزيز إلا أن تقول واحدة من ثلاث، فقال: هذا أشد طلباً من مطالبته بنص التنزيل، ما عندي غير ما أجبته به. قال: فأقبل على المأمون فقال: يا عبد العزيز، تكلم أنت في شرح هذه المسألة وبيانها ودع بشراً فقد انقطع عن الجواب من كل جهة. فقلت: نعم، سألته عن كلام الله تعالى: أمخلوق هو؟ قال: نعم، فقلت له ما يلزمه في هذا القول، وهو واحدة من ثلاث لا بد منها: أن يقول إن الله خلق كلامه في نفسه، أو خلقه في غيره، أو خلقه قائماً بذاته ونفسه، فإن قال (إن الله خلق كلامه في نفسه) فهذا محال لا يجد سبيلاً إلى القول به من قياس ولا نظر ولا معقول، لأن الله لا يكون مكاناً للحوادث، ولا يكون فيه شيء مخلوق، ولا يكون ناقصاً فيزيد فيه شيء إذا خلقه، تعالى الله عن ذلك عز وجل وتعظم! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 وإن قال: (خلقه الله في غيره) فيلزمه في النظر والقياس أن كل كلام خلقه في غيره هو كلام الله عز وجل، لا يقدر أن يفرق بينهما، فيجعل كلامه كلاماً لله، ويجعل قول الكفر والفحش وكل قول ذمه الله وذمه قائله: كلاماً لله عز وجل، وهذا محال لا يجد السبيل إليه ولا إلى القول به، لظهور الشناعة والفضيحة والكفر على قائله، تعالى الله عن ذلك! وإن قال: (خلقه قائماً بنفسه وذاته) فهذا هو المحال الباطل الذي لا يجد إلى القول به سبيلاً في قياس ولا نظر ولا معقول، لأنه لا يكون الكلام إلا من متكلم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد، ولا العلم إلا من عالم، ولا القدرة إلا من قدير، ولا يرى ولا رئي كلام قط قائم بنفسه يتكلم بذاته. وهذا مما لا يعقل ولا يعرف، ولا يثبت في نظر ولا قياس ولا غير ذلك، فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقاً علم أنه صفة لله، وصفات الله كلها غير مخلوقة، فبطل قول بشر. فقال المأمون: أحسنت يا عبد العزيز، فقال بشر: سل عن غير هذه المسألة فلعله يخرج من بيننا شيء. فقلت: أنا أدع هذه المسألة وأسأل عن غيرها، قال: سل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 قال عبد العزيز: فقلت لبشر: ألست تقول: إن الله كان ولا شيء، وكان ولما يفعل شيئاً ولما يخلق شيئاً؟ قال: بلى. فقلت: فبأي شيء حدثت الأشياء بعد أن لم تكن شيئاً؟ أهي أحدثت نفسها أم الله أحدثها؟ فقال: الله أحدثها، فقلت له: فبأي شيء حدثت الأشياء إذ أحدثها الله؟ قال: أحدثها بقدرته التي لم تزل. قلت له: إنه أحدثها بقدرته كما ذكرت، أفليس تقول: إنه لم يزل قادراً؟ قال: بلى. قلت له: فتقول: إنه لم يزل يفعل؟ قال: لا أقول هذا. قلت له: فلا بد أن يلزمك أن تقول: أنه خلق بالفعل الذي كان عن القدرة، وليس الفعل هو القدرة، لأن القدرة صفة لله. ولا يقال لصفة الله هي الله ولا هي غير الله، فقال بشر: ويلزمك أنت أيضاً أن تقول: إن الله لم يزل يفعل ويخلق، وإذا قلت ذلك فقد ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله. قال عبد العزيز: فقلت لبشر: ليس لك أن تحكم علي وتلزمني مالا يلزمني وتحكي عني ما لم أقل، إني لم أقل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 (إنه لم يزل الخالق يخلق، ولم يزل الفاعل يفعل) ليلزمني ما قلت. وفي نسخة أخرى: (وإنما قلت إنه لم يزل الفاعل سيفعل، ولم يزل الخالق سيخلق، لأن الفعل صفة الله، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع) قال بشر: أنا أقول إنه أحدث أشياء بقدرته، فقل ما شئت، فقال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين، قد أقر بشر أن الله كان ولا شيء، وأنه أحدث الأشياء بعد أن لم تكن شيئاً بقدرته، وقلت أنا: إنه أحدثها بأمره وقوله عن قدرته، فلم يخل يا أمير المؤمنين أن يكون أول خلق خلقه الله خلق بقول قاله، أو بإرادة أرادها، أو بقدرة قدرها، فبأي ذلك كان فقد ثبت أن ههنا إرادة ومريداً ومراداً، وقولاً وقائلاً ومقولاً له، وقدرة وقادراً ومقدوراً عليه، وذلك كله متقدم قبل الخلق، وما كان قبل اللخق متقدماً فليس هو من الخلق في شيء. فقد كسرت قول بشر بالكتاب والسنة واللغة العربية والنظر والمعقول) ثم ذكر حجة أخرى. والمقصود هنا: أن عبد العزيز احتج بتقسيم حاصر معقول، فإن الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 تعالى إذا خلق شيئاً فإما أن يخلقه في نفسه، أو في غيره، أو يخلقه قائماً بنفسه، وقد أبطل الأقسام الثلاثة. ولا ريب أن المعتزلة يقولون: إنه خلقه في غيره، فأبطل ذلك عبد العزيز بالحجة العقلية التي يتداولها أهل السنة، وهو أنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن كلام الله، فإن كان مخلوقاً في محل آخر غيره لزم أن يكون كل كلام مخلوق في محل كلام الله، لتماثلهما بالنسبة إلى الله، ويلزم أن يكون ما يخلقه تعالى من كلام الجلود والأيدي والأرجل كلام الله، فإذا قالوا: {أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم} (فصلت: 21) ، كان الناطق هو المنطق، وبشر لم يكن من القدرية، بل كان ممن يقر بأن الله تعالى خالق أفعال العباد، فألزمه عبد العزيز أن يكون كلام كل مخلوق كلام الله، حتى قول الكفر والفحش، وهذا الإلزام صرح به حلولية الجهمية من الاتحادية ونحوهم كصاحب الفصوص والفتوحات المكية ونحوه، وقالوا: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 ولهذا قال من قال من السلف: من قال: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا} (طه: 14) مخلوق، فقد جعل كلام الله بمنزلة قول فرعون، الذي قال: {أنا ربكم الأعلى} (النازعات: 24) لأن عنده هذا الكلام خلقه الله في الشجرة، وذلك خلقه في فرعون، فإذا كان هذا كلام الله كان هذا كلام الله. كما قال سليمان بن داود الهاشمي - أحد أئمة الإسلام نظير الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي بكر بن أبي شيبة وأمثالهم - قال: (من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقاً كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال: {أنا ربكم الأعلى} من هذا؟ وكلاهما عنده مخلوق، فأخبر بذلك أبو عبيد، فاستحسنه وأعجبه، ذكر ذلك البخاري في كتاب خلق أفعال العباد. وكذلك ذكر نظير هذا عبد الله بن المبارك وعبد الله بن إدريس ويحيى بن سعيد القطان، وهذا مبني على أن الله خالق أفعال العباد، فإذا كان قد خلق في محل: (إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني) وخلق في محل: (أنا ربكم الأعلى) كان ذلك المحل الذي خلق فيه ذلك الكلام أولى بالعقاب من فرعون، وإذا كان ذلك كلام الله كان كلام فرعون كلام الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 وأما كونه خلقه قائماً بنفسه فهو ظاهر البطلان أيضاً، لأن الصفات لا تقوم بنفسها، ولكن الجهمية تقول: خلق علماً لا في محل، والبصريون من المعتزلة يقولون: خلق إرادة وقدرة لا في محل، وطائفة منهم يقولون: خلق بخلق بعد خلق لا في محل، وهذه المقالات ونحوها مما يعلم فساده بصريح العقل. وأما القسم الأول - وهو كونه سبحانه خلقه في نفسه - فأبطله عبد العزيز أيضاً لكن ما في نفس الله تعالى يحتمل نوعين: أحدهما: أن يقال: أحدث في نفسه بقدرته كلاماً بعد أن لم يكن متكلماً. وهذا قول الكرامية وغيرهم ممن يقولون: كلام الله حادث ومحدث في ذات الله تعالى، وأن الله تكلم بعد أن لم يكن يتكلم أصلاً، وأن الله يمتنع ان يقال في حقه: ما زال متكلماً، وهذا مما أنكره الإمام أحمد وغيره. والثاني: أن يقال: لم يزل الله متكلماً إذا شاء كما قاله الأئمة، وكل من هاتين الطائفتين لا تقول: (إن ما في نفس الله مخلوق) بل المخلوق عندهم لا يكون إلا منفصلاً عن نفس الله تعالى، وما قام به من أفعاله وصفاته فليس بمخلوق. ولا ريب أن بشراً وغيره من القائلين بخلق القرآن كانوا يقولون: إنه خلق منفصلاً عنه كما خلق غيره من المخلوقات، فأما نفس خلق الرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 عند من يقول الخلق غير المخلوق - وهم الأكثرون - فلا يقولون: إن الخلق مخلوق. ومن قال بتجدد ما يقوم به من الأفعال أو الإرادات أو الإدراكات لم يقل: إن ذلك مخلوق، فإنه إذا كان ثم خلق وخالق ومخلوق لم يكن الخلق داخلا في المخلوق. ولهذا كان من يقول: (إن كلام الله قائم بذاته) متفقين على أن كلام الله غير مخلوق، ثم هم بعد هذا متنازعون على عدة أقوال: هل يقال: إنه معنى واحد أو خمسة معان لم تزل قديمة، كما يقوله ابن كلاب والأشعري؟ أو أنه حروف وأصوات قديمة أزلية لم تزل قديمة، كما يذكره عن ابن سالم وطائفة. أو يقال: بل هو حروف وأصوات حادثة في ذاته بعد أن لم يكن متكلماً، كما يقوله ابن كرام وطائفة. أو يقال: إنه لم يزل متكلماً إذا شاء، وإنه إذا شاء تكلم بصوت يسمع وتكلم بالحروف، كما يذكر ذلك عن أهل الحديث والأئمة؟ والمقصود هنا أن ما قام بذاته لا يسميه أحد منهم مخلوقاً، سواء كان حادثاً أو قديماً. وبهذا يظهر احتجاج عبد العزيز على بشر، فإن بشراً من أئمة الجهمية نفاة الصفات، وعنده لم يقم بذات الله تعالى صفة لا فعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 ولا قدرة ولا كلام ولا إرادة بل ما ثم عنده إلا الذات المجردة عن الصفات والمخلوقات المنفصلة عنها، كما تقول ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم، فاحتج عليه عبد العزيز بحجتين عقليتين: إحداهما: أنه إذا كان كلام الله مخلوقاً ولم يخلقه في غيره ولا خلقه قائماً بنفسه: لزم أن يكون مخلوقاً في نفس الله، وهذا باطل. الثانية: إن المخلوقات المنفصلة عن الله خلقها الله بما ليس من المخلوقات: إما القدرة - كما أقر به بشر - وإما فعله وأمره وإرادته - كما قاله عبد العزيز - وعلى التقديرين: ثبت أنه كان قبل المخلوقات من الصفات ما ليس بمخلوق، فبطل أصل قول بشر والجهمية: إنه ليس لله صفة، وإن كل ماسوى الذات المجردة فهو مخلوق. وتبين أن الذات يقوم بها معان ليست مخلوقة. وهذا حجة مثبتة الصفات القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق على من نفى الصفات وقال بخلق القرآن، فإن كل من نفى الصفات لزمه القول بخلق القرآن. يبقى كلام أهل الإثبات فيما يقوم بذاته: هل يجوز أن يتعلق شيء منه بمشيئته وقدرته أم لا؟ وهل عبد العزيز ممن يجوز ان يقوم بذاته ما يتعلق بمشئيته وقدرته، أو ممن يقول: لا يكون المراد المقدور إلا منفصلاً عنه مخلوقاً؟ ويجعل المقدور هو المخلوق، وهما في الأصل قولان معروفان ذكرهما الحارث المحاسبي وغيره عن أهل السنة حسبما تقدم إيراده. وهذا القول الثاني هو قول ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم. والقول الأول: هو قول أئمة أهل الحديث والهشامية والكرامية وطوائف من أهل الكلام من المرجئة. كأبي معاذ التومني وزهير الأثري وغيرهم ومن وافق هؤلاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم. فقد يقول القائل: إن عبد العزيز موافق لابن كلاب، لأنه قال: إن الله لا يكون مكاناً للحوادث، ولا يكون فيه شيء مخلوق، ولا يكون ناقصاً فيزيد فيه شيء إذا خلقه، لكن إذا تدبر المتدبر سائر كلام عبد العزيز وجده من أهل القول الأول: قول أهل الحديث، لأنه قال بعد هذا لبشر: بأي شيء حدثت الأشياء؟ قال: أحدثها الله بقدرته التي لم تزل، قال عبد العزيز: فقلت له: إنه قد أحدثها بقدرته كما ذكرت، أفلست تقول: إنه لم يزل قادراً؟ قال: بلى، فقلت له: فتقول إنه لم يزل يفعل؟ قال: لا أقول هذا، قلت: فلا بد أن يلزمك أن تقول: إنه خلق بالفعل الذي كان بلا قدرة، لأن القدرة صفة. وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 عبد العزيز بعد هذا: لم أقل لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل، وإنما الفعل صفة، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع. وقد أثبت عبد العزيز فعلاً مقدوراً لله هوصفة له ليس من المخلوقات، وأنه به خلق المخلوقات، وهذا صريح في أنه يجعل الخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول، وأن الفعل صفة لله، مقدور لله، إذا شاء، ولا يمنعه منه مانع، وهذا خلاف قول الأشعري ومن وافقه. يبقى أن يقال: هذا الخلق - الذي يسمى التكوين - من الناس من يجعله قديماً، ومنهم من يجعله مقدوراً مراداً، وعبد العزيز صرح بأن الفعل الذي به يخلق الخلق مقدور له، وهذا تصرح بأنه يقوم بذات الله عنده ما يتعلق بقدرته، وما كان موجوداً مقدوراً لله فهو مراد له بالضرورة واتفاق الناس. وأيضاً فإنه قال: قد أقر بشر أن الله أحدث الأشياء بقدرته، وقلت أنا: إنه أحدثها بأمره وقوله عن قدرته، فقد صرح بأن القول يكون عن قدرته، فجعل قول الله مقدروراً له مع أنه صفة له عنده. وهذا قول من يقول: إنه يقدر على التكلم، وإنه بمشيئته وقدرته، وليس هو قول من يقول: إن القول لازم له، لا يتعلق بقدرته ومشيئته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 فتبين أن عبد العزيز الكناني يثبت أنه يقوم بذات الله تعالى ما يتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه لا يجعل كل واحد من ذلك قديماً، وإن كان النوع قد يكون قديماً، لأن بشراً لما قال له: أحدثها بقدرته التي لم تزل، قال له: أفليس تقول: لم يزل قادراً؟ قال: بلى، قال: فتقول إنه لم يزل يفعل؟ قال: لا، قال: فلا بد أن يلزمك أن تقول: إنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة. وهذا لأنه إذا كان لم يزل قادراً ولا مخلوقاً ثم وجد مخلوق، لم يكن قد وجد بقدرة بلا فعل، فإنه لو كان مجرد القدرة كافياً في وجوده بلا فعل للزم مقارنة المخلوق للقدرة القديمة. وهذا المقام هو المقام المعروف، وهو أنه: هل يمكن وجود الحوادث بلا سبب حادث أم لا؟ فإن جمهور العقلاء يقولون: إن انتفاء هذا معلوم بالضرورة، وإن ذلك يقتضي الترجيح بلا مرجح، وهذا هو الذي ذكره عبد العزيز، بخلاف قول من يقول: إن نفس القادر يرجح أحد طرفي مقدروه بلا مرجح، كما يقوله أكثر المعتزلة والجهمية، أو بمجرد إرادة قديمة كما تقوله الكلابية والكرامية فإن هذا هو الذي ذكره بشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 يبقى هنا السؤال على عبد العزيز، هو الذي ألزمه إياه بشر، حيث قال له: وأنت أيضاً يلزمك أن تقول: لم يزل يفعل ويخلق، وإذا كان كذلك ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله، لأن الحادث إن لم يفتقر إلى سبب حادث كفت القدرة القديمة، وإن افتقر إلى سبب حادث فالقول في حدوث ذلك السبب كالقول في الذي حدث به، فيلزم تسلسل الحوادث، فيلزمك أنه لم يزل يفعل ويخلق، فيكون المخلوق معه، فأجابه عبد العزيز بأني لم أقل (لم يزل الخالق يخلق، ولم يزل الفاعل يفعل، ليلزمني ما قلت، وإنما الفعل صفة، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع) وفي النسخة الأخرى: (وإنما قلت: لم يزل الخالق سيخلق، والفاعل سيفعل، لأن الفعل صفة، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع) . ومضمون كلامه: أنني لم أقل إن الله لم يزل يخلق الأشياء المنفصلة ويفعلها، ولا يلزمني هذا كما لزمك، لأنك جعلت المخلوقات تحصل بالقدرة القديمة من غير فعل من القادر يقوم به، فإذا لم تتوقف المخلوقات على غير القدرة، والقدرة قديمة، لزم وجود المخلوقات معها، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، والحدوث بلا سبب، لأن القدرة دائمة أزلاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 وأبداً، ووجود المخلوقات ممكن، والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح، وعند وجود المرجح التام يجب وجوده، لأنه لو لم يجب لكان قابلا للوجود والعدم، فيبقى ممكناً كما كان، فلا يترجح إلا بمرجح تام. فتبين أن وجود القدرة التي يمكن معها وجود المخلوقات لا يوجد المخلوق مع مجردها، بل لا بد من أمر آخر يفعله الرب. قال عبد العزيز: وهذا الفعل صفة لله، ليس من المخلوقات المنفصلة عنه، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع، فأما قول القائل: (إن ذلك الفعل الذي لم يكن ثم كان بالقدرة وهو صفة) فإنه يسأل عن سبب حدوثه، كما يسأل عن سبب حدوث المخلوق به. فيجيب عنه عبد العزيز بأجوبة. أحدها: الجواب المركب وهو أن يقول: تسلسل الآثار الحادثة إما أن يكون ممكناً وإما أن يكون ممتنعاً، فإن كان ممكناً فلا محذور في التزامه، وإن كان ممتنعاً لم يلزمني ذلك، ولا يلزم من بطلان التسلسل بطلان الفعل الذي لا يكون المخلوق إلا به، فإنا نعلم أن المفعول المنفصل لا يكون إلا بفعل، والمخلوق لا يكون إلا بخلق، قبل العلم بجواز التسلسل أو بطلانه، ولهذا كان كثير من الطوائف يقولون: الخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول، فيثبتون لك مع إبطال التسلسل، مثل كثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ومن الصوفية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وأهل الحديث والكلام من الكرامية والمرجئة والشيعة وغيرهم، وهؤلاء منهم من يقول: الفعل الذي هو التكوين قديم، والمكون المنفصل حادث، كما يقولون مثل ذلك في الإرادة، ومنهم من يقول: بل ذلك حادث الجنس بعد أن لم يكن، وكلا الفرقين لا يقولون: إن ذلك مخلوق، بل يقولون: إن المخلوق وجد به كما وجد بالقدرة. الجواب الثاني: أن يقول: ما ذكرته من التسلسل لازم لكل من قال: إن جنس الحوادث يكون بعد أن لم يكن، فهو لازم لك ولي إذا قلت بهذا، فلا أختص بجوابه، وأما وجود المفعول بدون فعل: فهذا لازم لك وحدك، وهو الذي احتججت به عليك، فحجتي عليك ثابتة تبطل قولك دون قولي. والإلزام الذي ذكرته أنت مشترك بيني وبينك، فلا يخصني جوابه. الجواب الثالث: أن يقول: أنا قلت: الفعل صفة، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع، والفعل القائم به ليس هو المخلوق المنفصل عنه، وإنما يجب أن يكون المخلوق معه في الأزل إذا ثبت أن الفعل يستلزم فعلاً قبله، وأن الفعل اللازم يستلزم ثبوت الفعل المتعدي إلى المخلوق، فإن ذك يستلزم ثبوت غير المخلوق. وكل هذه المقدمات فيها ممانعات ومعارضات، وتحتاج إلى حجج لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 يذكر المريسي منها شيئاً، وعبد العزيز لم يلتزم شيئاً من ذلك، وإنما التزم أن الفعل صفة لله تعالى، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع، وحجته يحصل بها المقصود. وقوله في النسخة الأخرى - إن صح عنه: (إنما قلت لم يزل الفاعل سيفعل، والخالق سيخلق) قد نفى فيه ان يكون نفس الفعل قديماً، فضلاً عن أن يكون المفعول قديماً. وقوله: (إن الفعل صفة لله، والله يقدر عليه، لا يمنعه منه مانع) يمنع قدم عين الفعل، لا يمنع قدم نوعه، إلا أن يثبت امتناع تسلسل الآثار، وليس في كلامه تعرض لنفي ذلك ولا إثباته. وقوله: (لم يزل سيفعل) إن صح عنه يحتمل معنيين: أحدهما: أنه لم يزل موصوفاً بأنه سيفعل ما يفعله من جميع المفعولات أعيانها وأنواعها، كما يقوله من يقول بحدوث نوع الفعل القائم به كما يقوله من يقول بحدوث أنواع المنفصلات عنه. والثاني: أنه لم يزل الفاعل سيفعل شيئاً بعد شيء، فهو متقدم على كل واحد واحد من أعيان المفعولات. فعلى الأول يمتنع أن يكون شيء من أنواعها أو أعيانها قديماً، وعلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 الثاني لا يمتنع تقدم النأواع، بل قد يمتنع تقدم أعيان المخلوقات، فلا يكون شيء من المخلوقات مع الله في الأزل على التقديرين. وجماع ذلك: أن الذي ألزمه عبد العزيز للمريسي لازم له، مبطل لقوله بلا ريب، وعليه جمهور الناس، فإن جماهير الناس يقولون: الخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول، وهذا قو ل جماهير الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وجماهير الصوفية وجماهير أهل الحديث، بل كلهم، وكثير من أهل الكلام والفلسفة أو جماهيرهم، فهو قول أكثر المرجئة من الكرامية وغيرهم، وأكثر الشيعة، وكثير من المعتزلة والكلابية، وكثير من الفلاسفة، ولأصحاب مالك والشافعي واحمد في ذلك قولان، فالذي عليه أئمتهم: أن الخلق غير المخلوق، وهو آخر قولي القاضي أبي يعلى وقول جمهور أصحاب أحمد، وهو الذي حكاه البغوي عن أهل السنة، وهو قول كثير من الكلابية. قول عبد العزيز الكناني في مسألة القرآن وصفات الله والتعليق عليه وأما قوله: (إنه قادر على الفعل لا يمنعه منه مانع) فكلامه يقتضي أنه لم يزل قادراً على الفعل لا يمنعه منه مانع، وهذا الذي قاله هو الذي عليه جماهير الناس، ولهذا أنكروا على من قال: لم يكن قادرا على الفعل في الأزل. وكان من يبغض الأشعري ينسب إليه هذا، لتنفر عنه قلوب الناس، وأراد أبو محمد الجويني وغيره تبرئته من هذا القول، كما قد ذكرناه في غير هذا الموضع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وإذا كان لم يزل قادراً على الفعل كان هذا صفة كمال، فلهذا قال عبد العزيز: (لأن الفعل صفة والله قادر عليه لا يمنعه منه مانع) وقد خلق المخلوقات بفعله فوجدت بالفعل الذي هو الخلق، والفعل الذي هو الخلق بقدرة الله تعالى، والقدرة على خلق المخلوق هي القدرة عليه. كما قال تعالى: {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى} (يس: 81) ، وقوله تعالى: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} (القيامة: 40) ، وقوله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} (الأنعام: 65) الآية، ونحو ذلك مما فيه وصف الله بالقدرة على الأفعال المتناولة للمفعولات، وفيه بيان أن الخلق ليس هو المخلوق، ولا أن نفس خلقه للسماوات والأرض هو السماوات والأرض، والقدرة التي تزل ثم وجدت المخلوقات بدون فعل اصلاً. فيقول له المريسي: فذلك الفعل الذي هو صفته وهو يقدر عليه لا يمنعه منه مانع، إن كان قديماً كان كالقدرة، وكان السؤال علي كالسؤال عليك، وإن كان حادثاً من غير تقدم فعل آخر سألتك عن سبب حدوثه بالقدرة التي لم تزل كما سألتني عن سبب حدوث تقدم فعل آخر سألتك عن سبب حدوثه بالقدرة التي لم تزل كما سألتني عن سبب حدوث المخلوق بالقدرة التي لم تزل، وإن كان ذلك الفعل كان بفعل آخر وتسلسل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 الأمر: لزم تسلسل الأفعال، ولزم أن يكون الفاعل لم يزل يفعل، والخالق لم يزل يخلق. فيقول له عبد العزيز: لم أقل إنه قديم، بل قلت: إنه صفة، والله قادر عليه، لا يمنعه منه مانع، وماكان مقدوراً له لا يمنعه منه مانع لم يجب أن يكون قديماً معه، بل إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله. وأماسؤالك عن سبب حدوثه فهنا لأهل الإثبات جوابان: أحدهما: - وهو جواب الكرامية ومن وافقهم - أن إثبات الفعل للمفعول والخلق للمخلوق لا بد منه، فإنا نعقل أن القادر على الفعل قبل أن يفعله ليس له فعل، فإذا فعله كان هناك فعل به فعل المفعول، وخلق به خلق المخلوق، ونحن مقصودنا إثبات فعل وصفة لله تقوم به مغاير مخلوقاته، وكلامه من هذا الباب، ونحن لم نورد عليكم التسلسل، فإن ذلك باطل على قولنا وقولكم جميعاً. الجواب الثاني: أن يقول من يجيب به: لا يمتنع أن يكون قبل الفعل المعين ما هو أيضاً فعل فعله الله بقدرته، ولا يضرني التسلسل، فإن ذلك جائز ممكن، فإن هذا تسلسل في الأفعال والآثار والشروط، وهذا ليس بممتنع. فعلى الجواب الأول: يظهر قوله: (إنما قلت لم يزل الخالق سيخلق وسيفعل، ولم أقل لم يزل يخلق ويفعل) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 وأما على الجواب الثاني: (فإذا قال: لم يزل يخلق ويفعل، بل أقول: إنه لم يزل سيخلق وسيفعل، فنقرره بوجهين: أحدهما: أن الفعل لا يستلزم وجود مخلوق، بل يكون الفعل قائماً بنفسه بعد فعل قائم بنفسه، وهلم جراً من غير وجود مخلوق منفصل عنه. الثاني: أنه لو قدر تسلسل المفعولات كتسلسل الأفعال فما من مفعول ولا فعل إلا وهو حادث كائن بعد أن لم يكن، فليس مع الله في الأزل شيء من المفعولات ولا الأفعال، إذ كان كل منهما حادثاً بعد أن لم يكن، والحادث بعد أن لم يكن لا يكون مقارناً للقديم الذي لم يزل، وإذا قيل: (إن نوع الأفعال أو المفعولات لم يزل) فنوع الحوادث لا يوجد مجتمعاً، لا يوجد إلا متعاقباً، فإذا قيل: (لم يزل الفاعل يفعل، والخالق يخلق) - والفعل لا يكون إلا معيناً، والخلق والمخلوق لا يكون إلا معيناً - فقد يفهم أن الخالق للسماوات والإنسان لم يزل يخلق السماوات والإنسان، والفاعل لذلك لم يزل يفعله، وليس كذلك، بل لم يزل الخالق لذلك سيخلقه، ولم يزل الفاعل لذلك سيفعله، فما من مخلوق من المخلوقات ولا فعل من الأفعال إلا والرب تعالى موصوف بأنه لم يزل سيفعله، ليس موصوفاً بأنه لم يزل فاعلاً له خالقاً له، بمعنى أنه موجود معه في الأزل، وإن قدر أنه كان قبل هذا الفعل فاعلاً لفعل آخر، وقبل هذا المخلوق خالقاً لمخلوق آخر، فهو لم يزل بالنسبة إلى كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 فعل ومخلوق سيفعله وسيخلقه، لا يقال: لم يزل فاعلاً له خالقاً بمعنى مقارنته له. وإذا أريد أنه لم يزل فاعلاً للنوع، كان هذا بمعنى قولنا: (إنه لم يزل سيفعل ما يفعله) لكن هذه العبارة تفهم من الباطل ما لا تفهمه تلك العبارة. وهذا الموضع للناس فيه أقوال، فإن جمهور أهل السنة يقولون: لم يزل الله خالقاً فاعلاً، كما قال الإمام أحمد: لم يزل الله عالماً متكلماً غفوراً، بل يقولون: لم يزل يفعل، إما بناء على أن الفعل قديم وإن كان المفعول محدثاً، أوبناء على قيام الأفعال المتعاقبة بالفاعل. ومذهب بشر وإخوانه الجهمية: أن المخلوقات كلها كائنة بدون فعل ولا خلق وكلام الله من جملتها، فألزمه عبد العزيز على أصله، فقال له: إذا قلت: كان الله ولما يفعل ولما يخلق شيئاً، وهو لم يزل قادراً، ثم خلق المخلوقات، فأنت تقول: لم يزل قادراً ولا تقول: لم يزل يفعل المخلوقات، فلا بد له من أن يكون هناك فعل حصل بالقدرة، وليس هو القدرة التي لم تزل ولا هو المخلوق المنفصل، إذ لو كان كذلك لكان المخلوق قد وجد من غير خلق، والمفعول قد وجد من غير فعل، وهذا أعظم امتناعاً في العقل من كونه وجد بغير قدرة، فإنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 إذا عرض على العقل مفعول مخلوق حدث بعد أن لم يكن بلا فعل ولا خلق كان إنكار العقل لذلك أعظم من إنكاره لحدوثه من غير قدرة الفاعل، وإنكاره لحدوثه من غير فاعل أعظم امتناعاً في العقل من هذا وهذا، فإذا قيل: فعله الفاعل بلا قدرة، أنكره العقل، وإذا قيل: فعله بالقدرة التي لم تزل بدون فعل، كان إنكاره أعظم، وإذا قيل: حدث بلا فاعل، كان أعظم وأعظم، فإن الفاعل بلا فعل كالعالم بلا علم، والحي بلا حياة، والقادر بلا قدرة نحو ذلك وذلك نفي لجزء مدلول اللفظ الذي دل عليه بالتضمن، وأما نفي القدرة عن الفاعل فهو نفي لما دل عليه باللزوم العقلي. وإذا قال القائل: (بل يجوز أن يكون المفعول المخلوق حدث بلا فعل ولا خلق غيره، لأنه لو كان بفعل للزم أن يكون للفعل فعل، ولزم التسلسل وأن يكون محلاً للحوادث) . قيل: فعلى هذا يجوز أن يكون المفعول المخلوق حدث بلا قدرة من الفاعل، لأن ثبوت القدرة يستلزم ثبوت الصفات وقيام الأعراض به. فإذا قال: (الفعل بدون القدرة ممتنع، وليس في العقل ما يحيل لوازم القدرة، بل علمنا بامتناع الفعل بلا قدرة أعظم من علمنا بامتناع قيام الصفات به، وإن سماها المسمي أعراضاً) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 قيل له: والمخلوق المفعول بلا فعل ولا خلق أعظم امتناعاً في العقل. وليس في العقل ما يحيل لوازم الفعل الذي كان بالقدرة، بل علمنا بامتناع ذلك أعظم من علمنا بامتناع قيام الأفعال به، وإن سماها المسمي حوادث. يبين ذلك: أن افتقار المخلوق إلى خلق والمفعول المنفصل إلى فعل يعلم باللزوم العقلي وبالقول السمعي، فإن (فاعل وخالق) مثل متكلم وقائل ومريد ومتحرك وغير ذلك من الأسماء التي تستلزم قيام معان بالمسميات. فلما ظهرت حجة عبد العزيز على المريسي في أنه لا بد من فعل للرب تعالى بقدرته، كما قال له: (يلزمك أن تقول إنه خلق بلا فعل الذي كان عن القدرة، وليس الفعل هو القدرة، لأن القدرة صفة لله، ولا يقال لصفة الله: هي الله، ولا يقال: إنه غير الله) ولم يقل عبد العزيز أنها ليست هي الله ولا غيره، بل قال: لا يقال إنها هي الله، ولا يقال إنها غيره. وقل عبد العزيز هذا هو قول أئمة السنة، كالإمام أحمد وغيره، وهو قول ابن كلاب وغيره من الأعيان. ولكن طائفة من أصحاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 أحمد مع طائفة من متكلمي الصفاتية أصحاب الأشعري يقولون: لا هي الله ولا غيره. وتلك العبارة هي الصواب، كما قد بسط في غير هذا الموضع، فإن لفظ (الغير) فيه إجمال، فلا يصح إطلاقه لا نفياً ولا إثباتاً على الصفة، ولكن يصح نفي إطلاقه نفياً أو إثباتاً، كما قال السلف مثل ذلك في لفظ (الجبر) ونحوه من الألفاظ المجملة: إنه لا يطلق لا نفيها ولا إثباتها، وإذا قيل: (لا يطلق لا هذا ولا هذا) لم يلزم إثبات قسم ثالث، لا هو الموصوف ولا غير الموصوف، بل يلزم إثبات مالا يطلق عليه لفظ الغير، لا ما ينفي عنه المغايرة. ومقصود عبد العزيز: أن القدرة صفة لله، ليست هي الفعل الذي كان عن القدرة، فإنه يقول: لم يزل الله قادراً، ولا يقول: لم يزل فاعلاً. فعارضه المريسي بأن هذا يلزمك أيضاً، فيلزمك أن تقول: لم يزل يفعل ويخلق. وإذا قلت ذلك فقد ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله. فقال له عبد العزيز: ليس لك أن تحكم علي وتلومني ما لا يلزمني، وتحكي عني ما لم أقل، وذلك لأن عبد العزيز لم يقل في هذا قولاً يحكى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 عنه، ولكن قال له: إما أن تلتزم أنت ما ألزمتني، وإلا التزمت أن تقول: إن المخلوق لم يزل مع الله. وهذا الذي قاله المريسي إنما يلزم عبد العزيز إذا أبطل كل قسم مما يمكن أن يقال في هذا المقام، وهو لم يفعل ذلك، ولا سبيل له إليه، بخلاف ما ألزمه إياه عبد العزيز، فإنه لازم له لامحالة، إذ كان قوله: (إن المخلوقات كلها - وكلام الله عنده من جملتها - حدثت بعد أن لم تكن من غير فعل فعله الله، بل بقدرته التي لم تزل) مع أن عبد العزيز قد بين فيما بعد أن ما أقر به المريسي يكفيه في الاحتجاج في مسألة القرآن، فإن المريسي أقر بأن الله خلقها بقدرته، فأثبت هنا معنى هو صفة لله تعالى ليس بمخلوق، فبطل أصل قوله الذي نفى به الصفات، وقال: إنا القرآن مخلوق، لكن عبد العزيز بين له ما يلزمه، وما أقر به، وأن الحجة تحصل بهذا وبهذا، وأما المريسي فعارضه بأن قال: يلزمك ما ألزمتني. وذلك مبني على مقدمات لم يذكر منها واحدة. أحدها: أن يقول: إذا كان أحدث الأشياء بفعله الكائن عن قدرته حصل المقصود من غير إثبات قديم مع الله تعالى، ولهذا قال له عبد العزيز: (إنما قلت: الفعل صف لله، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع) وفي نسخة أخرى زيادة على ذلك: (إنما قلت: إنه لم يزل الفاعل سيفعل، ولم يزل الخالق سيخلق، لأن الفعل صفة لله) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 وهذه الزيادة لم تتقدم في كلام عبد العزيز، فإما أن تكون ملحقة من بعض الناس في بعض النسخ، أو يكون معنى الكلام: إنما قولي هذا، وإنما قلت إني إنما اعتقدت والتزمت هذا، أو يكون المعنى: إنما أقول وأعتقد هذا. والأشبه أن هذه الزيادة ليست من كلام عبد العزيز، فإنها لا تناسب ما ذكره من مناظرته المستقيمة، ولم يتقدم من عبد العزيز ذكر هذا الكلام ولا ما يدل عليه. بخلاف قوله: (إنما الفعل صفة لله، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع) فإن هذا كلام حسن صحيح، وهو لم يكن قد قاله، ولهذا لم يقل: إني قلت ذلك، ولكن قال: هذا هو الذي يجب أن يقال، وهو الذي يلزمني أن أقوله، لأني بينت أن المخلوق لا يكون إلا بفعل عن قدرة الله، والفعل قائم بالله، ليس هو مخلوقاً منفصلاً، وهذا مراده بقوله: (إنه صفة) لم يرد بذلك أن الفعل المعين لازم لذات الله تعالى، لأنه قد قال: (والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع) . فحصل بذلك مقصود عبد العزيز من أنها فعلاً أحدث الله به المخلوقات عن قدرته، فأقام الحجة على أنه يقوم بالله تعالى أمر غير المخلوقات عن القدرة، واعترف له المريسي بالقدرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 فقد ثبت على كل تقدير أن قبل المخلوق شيئاً خارجاً عن المخلوق، سواء كان هو القدرة وحدها أو كان مع ذلك الفعل والقول والإرادة، وما كان متقدماً قبل المخلوق فليس هو من المخلوق، فبطل قول المريسي: إن ما لا يسمى بالله فهو مخلوق، فإن هذه الأمور يقال: (إنها غير الله) وإذا قلنا: (الله الخالق وما سواه مخلوق) فقد دخل في مسمى اسمه صفاته، فإنها داخلة في مسمى اسمه. ولما قال النبي صلى الله عيه وسلم: «من حلف بغير الله فقد أشرك» لم يكن الحلف بعزةالله ونحوه حلفاً بغير الله. ولما حدثت الجهمية واعتقدوا أن القرآن خارج عن مسمى اسم الله تعالى، قال من قال من السلف: (الله الخالق وما سواه مخلوق، إلا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق) ، فاستثنوا القرآن مما سواه، لما أدخله من أدخله فيما سواه، ولفظ (ما سواه) هو كلفظ (الغير) وقد قلنا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 إن القرآن وسائر الصفات لا يطلق عليه أنه هو، ولا يطلق عليه أنه غيره، فكذلك لا يطلق عليه أنه مما سواه، ولا أنه ليس مما سواه، لكن مع القرينة قد يدخل في هذا تارة وفي هذا تارة. فما كان بعض الناس قد يفهم أن القرآن هو مما سواه قال من قال من السلف (ماسواه مخلوق) ، إلا القرآن، فإنه كلام الله غير مخلوق: منه بدأ، وإليه يعود) ومن لم يفهم دخول الكلام في لفظ (سواه) لم يحتج إلى هذا الاستثناء، بل قال: (الله الخالق وما سواه مخلوق. والقرآن كلام الله غير مخلوق) لا يقول: (إلا القرآن) أي القرآن هو كلامه، وكلامه وفعله وعمله وسائر ما يقوم بذاته لا يكون مخلوقاً، وإنما المخلوق ما كان مبياناً له، ولهذا قال السلف والأئمة، كأحمد وغيره: (القرآن كلام الله ليس ببائن منه) وقالوا: (كلام الله من الله) . وقال أحمد بن حنبل لرجل سألة فقال له: (ألست مخلوقاً؟ فقال: بلى، فقال: أو ليس كلامك منك؟ قال: بلى، قال: والله ليس بمخلوق، وكلامه منه) ومراده أن المخلوق: إذا كان كلامه صفةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 له هو داخل في مسمى اسمه، وهو قائم به، فالخالق أولى أن يكون كلامه صفة له داخلة في مسمى اسمه، وهو قائم به، لأن الكلام صفة كمال، وعدمه صفة نقص، فالمتكلم أكمل ممن لا يتكلم. والخالق أحق بكل كمال من غيره. والسلف كثيراً ما يقولون: الصفة من الموصوف، والصفة بالموصوف، فيقولون: علم الله من الله، وكلام الله من الله، ونحو ذلك، لأن ذلك داخل في مسمى اسمه. فليس خارجاً عن مسماه، بل هو داخل في مسماه، وهو من مسماه. فعبد العزيز قرر حجته بأن الفعل صفة لله عن قدرته، لا يمنعه منه مانع، وهذا كاف، وما ألزمه إياه بشر لا يلزمه إلا بمقدمات لم يقرر بشر منها شيئاً. وأي تقدير من تلك التقديرات قال به القائل كان خيراً من قول المريسي. التقدير الأول: قول من يقول: إن الفعل حادث قائم بذات الله بقدرته، كما يقول ذلك من يقوله من الكرامية. وهذا خير من قول المريسي وأمثاله من الجهمية، فإن ما يلزم أصحاب هذا القول من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 تسلسل الحوادث يلزمهم مثله، والذي يلزمهم من نفي الخلق الفعل لا يلزم أصحاب هذا القول. وأما قولهم: (إنه محل للحوادث) فمثل قولهم: إنه محل للأعراض) . التقدير الثاني: قول من يقول: إن الفعل قديم أزلي، كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية، ومن الفقهاء: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والصوفية. وهذا أيضاً على هذا التقدير يكون من جنس قول الصفاتية، وهؤلاء لا يقولون بقيام الحوادث به ولا تسلسلها، وإذا ألزمهم المريسي وإخوانه أن يقال: فإذا كان الفعل لم يزل والإرادة لم تزل: لزم أن يكون المفعول المراد لم يزل. وقيل لهم: فحدوث الحوادث لا بد له من سبب قالوا: هذا السؤال مشترك بيننا وبينكم، لكن عبد العزيز لم يجب بهذا الجواب، فإنه لو أجاب به لانتفضت حجته التي احتج بها على المريسي، فإنه احتج بأنه لم يزل قادراً، فلو قال (الفعل قديم) قال المريسي: إنه لم يزل فاعل عندك. وأيضاً فعبد العزيز ذكر أنه يقدر على الفعل لا يمنعه منه مانع، وذكر غير ذلك. التقدير الثالث: ان الفعل الذي كان عن قدرته كان قبله فعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 آخر كان عن قدرته أيضاً، وهلم جراً، ولم يكن شيء من المفعولات والمخلوقات موجوداً معه في الأزل، فإن الفعل ينقسم إلى متعد ولازم، فإذا قدر دوام الأفعال اللازمة لم يجب دوام الأفعال المتعدية، وعلى هذا التقدير فإذا قال: (كان الله ولما يخلق شيئاً ولما يفعل شيئاً) لم يزل أن لا يكون هناك فعل قائم بنفسه بدون مخلوق مفعول، ولا يجب أن يكون المخلوق لم يزل مع الله تعالى. وهذا التقدير إن لم ينفه المريسي بالحجة لم يكن ما ألزمه لعبد العزيز لازماً. وإذا قال السلف والأئمة: (إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء) فقد أثبتوا أنه لم يتجدد له كونه متكلماً، بل نفس تكلمه بمشيئته قديم، وإن كان يتكلم شيئاً بعد شيء، فتعاقب الكلام لا يقتضي حدوث نوعه إلا إذا وجب تناهي المقدورات المرادات، وهو المسمى بتناهى الحوادث. والذي عليه السلف وجمهور الخلف: أن المقدورات المرادات لا تتناهى، وهم بهذا نزهوه عن كونه كان عاجزاً عن الكلام، كالأخرس الذي لا يمكنه الكلام، وعن أنه كان ناقصاً فصار كاملاً، وأثبتوا مع ذلك أنه قادر على الكلام باختياره. وحجة عبد العزيز على المريسي تتم على هذا التقدير، ولا يكون مع الله في الأزل مخلوق. التقدير الرابع: أنه لو قيل: (بأن كل ماسوى الله مخلوق، محدث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 كائن بعد أن لم يكن، فليس مع الله في أزله شيء من المخلقوات، لكنه لم يزل يفعل) ولم يوجب ذلك أن يكوم معه شيء من المفعولات المخلوقات، وإنما يوجب ذلك كون نوع المفعول لم يزل، مع أن كل واحد من آحاده حادث لم يكن ثم كان معه، فليس من ذلك شيء مع الله في الأزل. وعبد العزيز لم يقل هذا ولم يلتزمه، بل ولا التزم شيئاً من هذه التقديرات، ولا يلزمه واحد منها بعينه إلا بتقدير امتناع ما سواه، ولكن المقصود أن إلزام المريسي له بأن يكون المخلوق لم يزل مع الله لا يلزمه التزامه، فإنه على التقديرات الثلاث لا يلزم وجود شيء من المفعولات ولا نوعها في الأزل. وأما على التقدير الرابع: فإنما يلزم أنه لم يزل نوع المفعول لا شيء من المفعولات بعينه. وهذا التقدير إذا كان باطلاً: فالمريسي لم يذكر إبطاله، ولا إبطال شيء من التقديرات، وهو لو أراد أن يبطل هذا لم يبطله إلا بإبطال التسلسل في الآثار، كما هو طريقة من أبطل ذلك من أهل الكلام، ولكن المريسي وموافقوه الذين يقولون: (بأن الله يخلق المخلوقات بغير فعل قائم به) ، ويقولون: (الخلق هو المخلوق) ، ويقولون: (إن المخلوقات كلها وجدت بعد أن لم تكن موجودة، من غير أن يتجدد من الله فعل ولا قصد ولا أمر من الأمور، بل ولا من غيره) - فيقولون: إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 الأمر ما زال على وجه واحد، ثم حدثت جميع المحدثات، وكانت جميع المخلوقات، وليس هناك من الفاعل شيء غير وجودها، بل حاله قبل وجودها ومع وجودها وبعد وجودها واحد، لم يتجدد منه أمر يضاف الحدوث إليه. فأصحاب القول الأول يلتزمون التسلسل مع قولهم: (بأن كل ما سوى الله محدث، كائن بعد أن لم يكن مسبوق بعدم نفسه، لكن تحدث الحوادث شيئاً بعد شيء، وهو محدثها بأفعاله سبحانه التي يفعلها أيضاً شيئاً بعد شيء) وأصحاب الثاني يقولون: (بل حدثت من غير سبب حادث) كما ترى. ومن المعلوم: أنه إذا عرض على العقل القولان كان بطلان هذا القول أظهر من بطلان ذلك القول، فإن ترجيح أحد طرفي الممكن بغير مرجح، وتخصيص الشيء عن أمثاله التي تماثله من كل وجه بلا مخصص، وحدوث الحوادث جميعها بدون سبب حادث - بل مع كون الأمر قبل حدوثها ومع حدوثها على حال واحد - هو أبعد في المعقول، وأنكر في القلوب من كون المحدثات لم تزل تحدث شيئاً بعد شيء، ومن كون الله سبحانه لم يزل يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء، كما أنه لا يزال في الأبد يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 فلو قدر أن عبد العزيز والمريسي انتهيا إلى هاتين المقدمتين لم يكن للمريسي أن يلزم عبد العزيز بشيء إلا ألزمه عبد العزيز بما هو أشنع منه، فكيف وعبد العزيز لم يحتج إلى شيء من ذلك؟ بل بين أنه لا بد أن يكون قبل المخلوق ما به يخلق المخلوق من صفات الله وأفعاله، فيبطل ما يدعيه المريسي ونحوه من أن الله لا صفة له ولا كلام ولا فعل، بل خلق المخلوقات وخلق الكلام الذي سماه كلامه بلا صفة ولا فعل ولا كلام. وهذان الجوابان اللذان يمكن عبد العزيز أن يجيب بهما عن إلزامه التسلسل يمكن معهما جواب ثالث مركب منهما، كما تقدم التنبيه على ذلك، وهو أن يقول: إن كان التسلسل ممتنعاً بطل هذا الإلزام، وإن كان ممكناً أمكن التزامه كما قد ذكرنا في غير هذا الموضع: أن المسلمين وغيرهم من أهل الملل القائلين بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، يمكنهم أن يجيبوا بمثل هذا الجواب للقائلين بقدم العالم من الفلاسفة وغيرهم، المحتجين على ذلك بحجتهم العظمى التي اعتمد عليها ابن سينا وابن الهيثم وغيرهما حيث احتجوا على المعتزلة ونحوهم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 أهل الكلام، فقالوا: الموجب التام للعالم إن كان ثابتاً في الأزل لزم قدمه، وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وإن لم يكن ثابتاً في الأزل احتاج في حدوث تمامه إلى مرجح، والقول فيه كالقول في الأول، ويلزم التسلسل. وعظم شأن هذه الحجة على هؤلاء المتكلمين، لأنهم يقولون ببطلان التسلسل، وبحدوث الحوادث من غير سبب حادث، ويقولون بأن المرجح التام لايستلزم أثره، بل القادر أو المريد يرجح أحد مقدوريه أو أحد مراديه على الآخر بلا مرجح، فصاروا بين أمرين: إما إثبات الترجيح بلا مرجح، وإما التزام التسلسل، وكلامهما مناقض لأصولهم، ولهذا عدل من عدل في جوابها إلى الإلزام والمعارضة بالحوادث اليومية. جواب على الفلاسفة في مسألة التسلسل ونحن قد بينا جوابها من وجوه: منها أن يقال: التسلسل يراد به أمور، أحدها: التسلسل في المؤثرات والفاعلين والعلل، وهذا باطل بصريح العقل، واتفاق العقلاء، ومنها: التسلسل في تمام كون المؤثر مؤثراً، وهذا كالذي قبله باطل بصريح العقل، وقول جمهور العقلاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 ومنها: التسلسل الذي في معنى الدور، مثل أن يقال: لا يحدث حادث أصلاً حتى يحدث حادث، وهذا أيضاً باطل بضرورة العقل واتفاق العقلاء. ومنها: التسلسل في الآثار المتعاقبة، وتمام التأثير في الشيء المعين، مثل أن يقال: لا يحدث هذا حتى يحدث قبله، ولا يحدث هذا إلا ويحدث بعده، وهلم جراً، وهذا فيه نزاع مشهور بين المسلمين وبين غيرهم من الطوائف، فمن المسلمين وغيرهم من جوزه في المستقبل دون الماضي. وإذا عرفت هذه الأنواع قالوا: إذا لم يكن المؤثر تاماً في الأزل لم يحدث عنه شيء حتى يحدث حادث به يتم كونه مؤثراً، إذ القول في ذلك الحادث كالقول في غيره، فيكون حقيقة الكلام: أنه لا يحدث شيء ما حتى يحدث شيء، وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء. لكن هذا الدليل إن طلبوا به أنه لم يزل مؤثراً في شيء بعد شيء فهذا يناقض قولهم، وهو حجة عليهم، وإن أرادوا أنه كان في الأزل مؤثراً تاماً في الأزل لم تتجدد مؤثريته، لزم من ذلك أنه لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثا، فيلزم أن لا يحدث في العالم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 شيء. ولهذا عارضهم الناس بالحوادث اليومية. وهذا لازم لا محيد لهم عنه، وهو يستلزم فساد حجتهم. وإن أرادوا أنه مؤثر في شيء فالحجة لا تدل على ذلك، وهو أيضاً باطل من وجوه، كما قد بسط في موضع آخر. فالمؤثر التام يراد به المؤثر في كل شيء، والمؤثر في شيء معين، والمؤثر تأثيراً مطلقاً في شيء بعد شيء: فالأول هو الذي يجعلونه موجب حجتهم، وهو يستلزم أن لا يحدث شيء، فعلم بطلان دلالة الحجة على ذلك. ويراد به التأثير في شيء بعد شيء، فهذا هو موجب الحجة، وهو يستلزم فساد قولهم، وأنه ليس في العالم شيء قديم، بل لا قديم إلا الرب رب العالمين. ويراد به التأثير في شيء معين، فالحجة لا تدل على هذا، فلم يحصل مطلوبهم بذلك، بل هذا باطل من وجوه أخرى. فبهذا التقسيم ينكشف ما في هذا الباب من الإجمال والاشتباه. فكل حادث معين فيقال: هذا الحادث المعين إن كان مؤثره التام موجوداً في الأزل لزم جواز تأخير الأثر عن مؤثره التام، فبطل قولهم. وإن قيل: بل لا بد أن يحدث تمام مؤثره عند حدوثه، فالقول في حدوث ذلك التمام كالقول في حدوث تمام الأول. وذلك يستلزم التسلسل في حدوث تمام التأثير. وهو باطل بصريح العقل، فيلزم على قولهم حدوث الحوادث بغير سبب حادث. وهذا أعظم مما أنكروه على المتكلمين من التسلسل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 فإن قيل: فما الفرق بين هذا التسلسل وبين التسلسل في تمام تأثير معين بعد معين. قيل: الفرقف بينهما من وجوه: أحدها: أن هؤلاء قد قالوا إنه مؤثر تام في الأزل، والمؤثر التام مستلزم أثره معه، فيلزمكم أن لا يحدث عنه شيء، بل تكون جميع الممكنات قديمة أزلية، وهذا باطل بالحس والمشاهدة. فادعوا أمرين باطلين: أحدها: أنه كان مؤثراً تاماً في الأزل، وأن المؤثر التام يكون أثره معه في الزمان حتى يكون الأثر مقارناً للمؤثر في الزمان. فإن قيل: إنه يتقدم عليه بالعلية، وهذا بخلاف قول من قال: لم يزل مؤثراً في شيء بعد شيء، فهذا لم يقل إنه كان مؤثراً في الأزل في شيء قط، ولم يكن مؤثراً تاماً في الأزل قط. الثاني: أنهم إن قالوا: إن الأثر يجب أن يقارنه أثره في الزمان لزم أن لا يحدث شيء. وإن قالوا: بل الأثر عقب المؤثر في الزمان لزم أن لا يكون معه قديم، وحينئذ فمن قال بهذا قال: إنه لم يزل مؤثراً في شيء بعد شيء، وكل ما سواه حادث مسبوق بالعدم. الثالث: أن هؤلاء يقولون: كل حادث معين لا بد أن يحدث تمام تأثيره فيكون هو حادثا عقب تمام التأثير، فأي شيء كونه الله كان عقب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 تكوين الرب له، كأجزاء الزمان والحركة التي توجد شيئاً فشيئاً، فقوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (يس: 82) ، فيكون الحادث عقب تكوين الرب له، كما يكون الانكسار عقب التكسر، والطلاق عقب التطليق، فيلزم على هذا حوادث متعاقبة شيئاً بعد شيء. وهذا غير ممتنع عند من يقول بهذا من أئمة أهل الملل، ومن الفلاسفة، بخلف قول المتفلسفة ومن وافقهم على أن الأثر يكون مع المؤثر في الزمان، كما قالوا: الفلك قديم بقدم علته، وهو معه في الزمان. فهؤلاء إن قالوا بحدوث الحوادث بدون سبب حادث لزمهم المحذور الذي فروا منه. وإن قالوا: بل عند كل حادث يحدث مع زمن حدوثه وحدوث تمام مؤثره لزم حدوث حوادث لا تتناهى في آن واحد من غير تجدد شيء عن المؤثر الأزلي. فلزمهم التسلسل في تمام أصل التأثير، لا في تأثير معين، وهو ممتنع مع قولهم بحوادث لا تتناهى في آن واحد. وهم وسائر العقلاء يسلمون بطلان هذا، وإنما نازع فيه معمر صاحب المعاني، وقد ظهر بطلان ذلك، فإنه تسلسل في أصل التأثير، لا في تأثير المعينات، فلزمهم المحال الذي لزم أصحاب معمر، ويلزمهم المحال والتناقض الذي اختصوا به؟، وهو قولهم بأن المؤثر مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 مؤثره في الزمان، مع كون الرب مؤثراً تاماً في الأزل، فيلزمهم أن لا يحدث في العالم شيء. ومنها أن يقال: التسلسل جائز في أصلكم، فلا تكون الحجة برهانية، بل تكون جدلية، وهي تلزمنا بتقدير صحتها أحد أمرين: إما القول بالترجيح بلا مرجح، وإما القول بالتسلسل، وإلا كنا قد تناقضنا في نفي هذا وهذا، ولكن جواز التناقض علينا يقتضي بطلان أحد قولينا، فلم قلتم: إن قولنا الباطل هو نفي الترجيح بلا مرجح، مع اتفاقنا على بطلانه؟ فقد يكون قولنا الباطل: هو نفي التسلسل في الآثار الذي نازعنا فيه من نازعنا من إخواننا المسلمين مع منازعتكم لنا في ذلك، وإذا كان كذلك فالتزامنا لقول نوافق فيه إخواننا المسلمين وتوافقوننا أنتم عليه وتبطل به حجتكم على قدم العالم، أولى أن نلتزمه من قول يخالفنا فيه هؤلاء وهؤلاء، وتقوم به حجتكم على قدم العالم. الجواب الثالث: الجواب المركب، وهو أن يقال: إن كان التسلسل في تمام التأثير ممكناً بطلت الحجة، فإنه يمكن حينئذ أن يحدث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 كل ما سوى الله بأن يحدث تمام تأثيره. وإن كان ممتنعاً لزم إما أن لا يحدث شيء، وهو خلاف المشاهد، وإما أن تحدث الحوادث بدون سبب حادث، وهو يبطل الحجة، فبطلت الحجة على كل تقدير. وإن شئت قلت: إن التسلسل في الآثار إن كان ممكناً بحيث يحدث شيئاً بعد شيء ولا يكون علة تامة في الازل، لزم حدوث كل ما سوى الله، وبطلت الحجة، وإن كان ممتنعاً لزم أيضاً أن تحدث الحوادث عن المؤثر التام الأزلي، فيلزم حدوث جميع الحوادث عنه، ولزم حينئذ حدوث العالم، فتبطل حجة قدمه، فالحجة باطلة على التقديرين. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. مراجعة تعليق عبد العزيز الكناني وأما قول عبد العزيز: (فقد ثبت أن ههنا إرادة ومريداً، ومراداً. وقولاً وقائلاً، ومقولاً له. وقدرة، وقادراً، ومقدوراً عليه. وذلك كله متقدم قبل الخلق) فيحتمل أمرين: أحدهما: أنه أراد بالمراد: المراد المتصور في علم الله، وبالمقدور عليه: الثابت في علم الله، وبالمقول له، المخاطب الثابت في علم الله المخاطب خطاب التكوين، كما قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 شيئا أن يقول له كن فيكون} (يس: 82) وهذه معان ثابتة لله تعالى قبل وجود المخلوق، لهذا اضطربت نفاة الصفات من المعتزلة وغيرهم في هذه الأمور، فتارةً يثبتونها في الخارج، وتارة ينفونها مطلقاً. ومن هنا غلط من قال: (المعدوم شيء) فإنهم ظنوا أنه لما كان لا بد من تمييز ما يريده الله مما لا يريده ونحو ذلك، توهموا أن هذا يقتضي كون المعدوم ثابتاً في الخارج. وليس الأمر كذلك، بل هي معلومة لله تعالى ثابتة في علم الله تعالى. وضل آخرون في مقابلة هؤلاء كهشام الفوطي فإنه ذكر عنه الأشعري في المقالات أنه كان يقول: (لم يزل الله عالماً أنه واحد لا ثاني له، ولا يقول: إنه لم يزل عالماً بالأشياء) وقال: (إذا قلت: لم يزل عالماً بالأشياء، أثبتها لم تزل مع الله) وإذا قيل له: (أفتقول بأن الله لم يزل عالماً بأن ستكون الأشياء؟ قال: إذا قلت بأن ستكون فهذه إشارة إليها ولا يجوز أن يشار إلا إلى موجود) وكان لا يسمى ما لم يخلقه ولم يكن شيئاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 والثاني: أن يريد بذلك نفس الفعل المقدور المراد الذي يكون به المخلوق. وأما القول: فهو المصدر كما تقدم، والمقول هو الكلام، فإن في إحدى النسختين: (مقولاً له) وفي الأخرى: (ومقولاً) . وعلى هذا فقول عبد العزيز: (إن قال خلق كلامه في نفسه فهذا محال لا يجد سبيلاً إلى القول به من قياس ولا نظر ولا معقول، لأن الله لا يكون مكاناً لحوادث، ولا يكون فيه شيء مخلوق، ولا يكون ناقصاً فيزيد فيه شيء إذا خلقه، تعالى الله عن ذلك!) مراده: أنه لا يكون مكاناً لما حدث مطلقاً. وهو ما حدث جنسه، كالكلام عند من يقول: إنه حادث الجنس فإنه يقول: إن الله صار متكلماً بعد أن لم يكن متكلماً، فيكون جنس الكلام محدثاً، وكذلك إذ قيل: أراد بعد أن لم يكن مريداً، فحدث جنس الإرادة، وكذلك إذا قيل: علم بعد أن لم كن عالماً، فيكون جنس العلم حادثاً، وأمثال هذا، فإن الله لا يكون مكانا لأجناس الحوادث. وعلى هذا فيكون عبد العزيز قد ذكر على بطلان قول المريسي عدة حجج: أنه لا يكون مكاناً للمخلوقات، ولا يكون مكاناً لما جنسه حادث، ولا يكون ناقصاً فيزيد فيه شيء، فهذه ثلاث حجج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 وهذا لا ينافي ما ذكره من أنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة، وأن الفعل صفة، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع، وأنه أحدث الأشياء بأمره وقوله عن قدرته، ونحو ذلك، فإن هذا الفعل والقول المقدور الذي ليس هو مخلوقاً منفصلاً عنه ليس جنسه محدثاً عنده، وإن كان الواحد من آحاده يكون بعد أن لم يمكن. فالجنس لا يقال له حادث ولا محدث، بل لم يزل الله موصوفاً بذلك عنده. ولهذا قال: (ولا يكون فيه شيء مخلوق، ولا يكون ناقصاً فيزيد فيه شيء إذا خلقه) فإن ما كان جنسه محدثاً كان قد زادت به الذات، وقد عرف أن المخلوق عنده: ما كان مسبوقاً بفعله الذي خلق به وقوله وقدرته، وأن المخلوق لا يكون إلا منفصلاً عنه. فهذا الذي قاله عبد العزيز فيه رد على الكرامية ومن وافقهم في أنهم جوزوا عليه أن يحدث له جنس الكلام ونحوه مما لم يكن موجوداً فيه قبل ذلك، وجوزوا أن يحدث له جنس صفات الكمال، ومتى قيل: (إنه لم يكن موصوفاً بجنس من أجناس صفات الكمال حتى حدث له) لزم أن يكون قبل ذلك ناقصاً عن صفة من صفات الكمال، فلا يكون متكلماً، بل يكون موصوفاً قبل ذلك بعدم الكلام، وهذا الذي قاله عبد العزيز هو نظير قول الإمام أحمد وغيره من الأئمة. رأي أحمد بن حنبل في مسألة أفعال الله قال أحمد في (رده على الجهمية) : باب ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى: - (فقلنا: لم أنكرتم ذلك؟ قالوا: إن الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 لم يتكلم، ولا يتكلم، وإنما كون شيئاً فعبر عن الله، وخلق صوتاً فأسمع، وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين. فقلنا: هل يجوز لمكون أوغير الله أن يقول: {يا موسى * إني أنا ربك} (طه: 12) أويقول: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} (طه: 14) ؟ فمن قال ذلك زعم أن غير الله ادعى الربوبية، ولو كان كما زعم الجهمي: أن الله كون شيئاً كان يقول ذلك المكون: {يا موسى إني أنا الله رب العالمين} (القصص: 30) وقد قال جل ثناؤه {وكلم الله موسى تكليما} (النساء: 164) ، وقال تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} (الأعراف: 143) ، وقال تعالى: {إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} (الأعراف: 144) هذا منصوص القرآن. فأما ما قالوا: (إن الله لا يتكلم) فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خثيمة عن عدي بن حاتم الطائي قال: «قال رسول الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان» . وأما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان وأدوات، فقد قال تعالى: {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن} (الأنبياء: 79) أتراها أنها يسبحن بجوف وفم ولسان وشفتين، والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا: {لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} فصلت: 21) أتراها أنها نطقت بجوف وفم ولسان؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء، وكذلك الله يتكلم كيف شاء، من غير أن نقول: بجوف ولا فم ولا شفتين ولا لسان. فلما خنقته الحجج قال: إ: ن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره، فقلنا: وغيره مخلوق؟ قالوا: نعم، قلنا: مثل قولكم الأول، إلا أنكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 تدفعون عن أنفسكم الشنعة، وحديث الزهري قال: «لما سمع موسى كلام الله قال: يا رب، هذا الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي، وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت، فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له: صف لنا كلام ربك، فقال سبحان الله! وهل أستطيع أن أصفه لكم؟ قالوا: فشبهه، قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها، فكأنه مثله» . فقد ذكر أحمد في هذا الكلام: أن الله تعالى يتكلم كيف شاء، وذكر فيما استشهد به من الأثر (أن الله كلم موسى عليه السلام بقوة عشرة آلاف لسان) وأن له قوة الألسن كلها، وهو أقوى من ذلك، وأنه إنما كلم موسى على قدر ما يطيق، ولو كلمه بأكثر من ذلك لمات. وهذا بيان منه لكون تكلم الله متعلقاً بمشيئته وقدرته كما ذكر عبد العزيز. وهو خلاف قول من يجعله كالحياة القديمة اللازمة للذات، التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 لا تتعلق بمشيئة ولا قدرة. وبين أيضاً في كلامه أنه سبحانه تكلم وسيتكلم رداً على الجهمية وأستدل على أنه تكلم بالحديث الذي في الصحيحين عن عدي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه» وجعل قوله: «سيكلمه ربه» دليلاً على أنه سيتكلم، فبين أن التكلم عنده مستلزم للتكليم متضمن للتكلم، ليس هو مجرد خلق إدراك في المستدل. وقال الإمام أحمد: (وقلنا للجهمية: من القائل يوم القيامة: {يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} (المائدة: 116) أليس الله هو القائل؟ قالوا: يكون الله شيئاً فيعبر عن الله، كما كون شيئاً فعبر لموسى، قلنا: فمن القائل {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم} (الأعراف: 6 - 7) أليس الله هو الذي يسأل؟ قالوا: هذا كله إنما يكون شيء فيعبر عن الله، فقلنا: قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أنه لا يتكلم، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله، لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك، ولا تزول من مكان إلى مكان. فلما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 ظهرت عليه الحجة قال: إن الله قد يتكلم، ولكن كلامه مخلوق. قلنا: وكذلك بنوا آدم كلامهم مخلوق، فقد شبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم: قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاماً، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة! بل نقول: إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، ولا نقول: إن كان ولا يتكلم حتى خلق كلاماً، ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علماً فعلم، ولا نقول: إنه كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول: إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 نوراً، ولا نقول: إنه قد كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة) . فقد بين أحمد في هذا الكلام الإنكار على النفاة الذي شبهوه بالجمادات التي لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان، مثل الأصنام المعبودة من دون الله، والإنكار على من زعم أنه كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام. فشبهه بالآدمي الذي كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 لا يتكلم حتى خلق الله له كلاماً. فأنكر تشبيهه الجماد الذي لا يتكلم، وبالإنسان الذي كان قادر على الكلام حتى خلق الله له الكلام، فكان قادراً على الكلام في وقت دون وقت. وبين أن من وصف الله ذلك فقد جمع بين الكفر - حيث سلب ربه صفة الكلام وهي من أعظم صفات الكمال، وجحد ما أخبرت به النصوص - وبين التشبيه. ثم قال أحمد: (بل نقول: إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، ولا نقول: إنه كان ولا يتكلم حتى خلق..) فبين أن الكلام يتعلق بمشيئته وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء فرد قول من لا يجعل الكلام متعلقاً بالمشيئة، كقول الكلابية ومن وافقهم، ومن يقول: (كان ولا يتكلم حتى حدث له الكلام) كقول الكرامية ونحوهم، وقال: (لا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلاما، لا نقول: إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علماً فعلم، ولا نقول: إنه كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسة قدرة، ولا نقول: إنه قد كان له ولا نور له حتى خلق لنفسه نوراً، ولا نقول: إنه كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة) فنزهه سبحانه عن سلب صفات الكمال في وقت من الأوقات، وإنا لا نقول: تجددت له صفات الكمال، بل لم يزل موصوفاً بصفات الكمال، ومن صفات الكمال: إنه لم يزل متكلماً إذا شاء، لا أن يكون الكلام خارجا عن قدرته ومشيئته، ولهذا لم يقل: لم يزل عالماً إذا شاء، ولا قال: يعلم كيف شاء، وقد قال في موضع آخر فيما رواه عنه حنبل: (لم يزل الله عالماً متكلماً غفوراً) . وكلام أحمد وغيره من الأئمة في هذا الأصل كثير ليس هذا موضع بسطه، مثل ما ذكره البخاري في آخر صحيحه في كتاب التوحيد والرد على الجهمية قال: باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرهما من الخلائق، وهو فعل الرب وأمره، فالرب تعالى بصفاته وفعله وأمره - وفي نسخه (وكلامه) - هو الخالق المكون، غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 مخلوق، وما كان يفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مكون مخلوق) . وقال بعد ذلك: باب قول الله تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} إلى قوله {ماذا قال ربكم قالوا الحق} (سبأ: 23) ولم يقولوا ماذا خلق ربكم. قال عز وجل: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} (البقرة: 255) ، وقال مسروق عن أبن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئاً، فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا: {ماذا قال ربكم قالوا الحق} (سبأ: 23) ويذكر عن جابر بن عبد الله بن أنيس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان» . وذكر حديث أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير» وذكر حديث أبي سعيد الخدري قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك! فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار» والحديث فيه طول، استوفاه في موضع آخر. وقال بعد ذلك: باب ما جاء في قول الله تعالى: {كل يوم هو في شأن} (الرحمن: 29) وقال: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} (الأنبياء: 2) وقوله تعالى: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} (الطلاق: 1) ، وإن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين، لقوله تعال: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (الشورى: 11) وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث: أن لا تكلموا في الصلاة» وقول ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 عباس: كتابكم أحدث الأخبار بالرحمن عهداً، محضاً لم يشب. ومن تدبر كلام أئمة السنة المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظراً، وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول، ولهذا تأتلف ولا تختلف، وتتوافق ولا تتناقض، والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول، فتشعبت بهم الطرق، وصاروا مختلفين في الكتاب، مخالفين للكتاب وقد قال تعالى: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} (البقرة: 176) . ولهذا قال الإمام أحمد في أول خطبته فيما أخرجه في الرد على الزنادقة والجهمية (الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصيرون منهم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم من ذال تائه قد هدوه؟ فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم!. ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مخالفون للكتاب، مختلفون في الكتاب، مجموعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين) . ومن أعظم أصول التفريق بينهم في هذه المسألة - مسألة أفعال الله تعالى وكلام الله ونحوه ذلك مما يقوم بنفسه ويتعلق بمشيئته وقدرته - فإن هذا الأصل لما أنكره من أنكره من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة ونحوهم، وظنوا أنه لا يمكن إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع إلا إثبات حدوث الجسم، ولا يمكن إثبات حدوثه إلا بإثبات حدوث ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة، ألجأهم ذلك إلى أن ينفوا عن الله صفاته وأفعاله القائمة به المتعلقة بمشيئته وقدرته، أو ينفوا بعض ذلك، وظنوا أن الإسلام لا يقوم إلا بهذا النفي، وأن الدهرية من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 الفلاسفة وغيرهم لا يبطل قولهم إلا بهذا الطريق، وأخطأوا في هذا وهذا. أما الفلاسفة الدهرية فإن هذه الطريقة زادتهم إغراء، وأوجبت لهم حجة عجز هؤلاء عن دفعها إلا بالمكابرة التي لا تزيد الخصم إلا قوة وإغراء، فقالو لهم: كيف يحدث الحادث بلا سبب حادث؟ وكيف تكون الذات حالها وفعلها وجميع ماينسب إليها واحداً من الأزل إلى الأبد؟ والعالم يصدر عنها في وقت دون وقت من غير فعل يقوم به ولا سبب حدث؟. فكان ما جعلوه أصل للدين وشرطاً في معرفة الله تعالى منافياً للدين ومانعاً من كمال معرفة الله، وكان ما أحتجوا به من الحجج العقلية هي في الحقيقة على نقيض مطلوبهم أدل، فالحوادث لا تحدث إلا بشرط جعلوه مانعا من الحدوث. وأما أمور الإسلام: فإن هذا الأصل اضطرهم إلى نفي صفات الله تعالى لئلا تنتقض الحجة، ومن لم ينف الصفات نفى الأفعال القائمة به وغيرها مما يتعلق بمشيئته وقدرته. فلزمهم من عدم الإيمان ببعض ما جاء به الرسول ومن جحد بعض ما يستحقه الله تعالى من أسمائه وصفاته، ما أوجب له من من التناقض والإرتياب ما تبين لأولى الألباب. فلم يعطوا الإيمان بالله ورسوله حقه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 ولا الجهاد لعدو الله ورسوله حقه، وقد قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا} (الآية (الحجرات: 15) . هذا مع دعواهم أنهم أعظم علماً وإيماناً وتحقيقاً لأصول الدين وجهاداً لأعدائه بالحجج من الصحابة، وإن هم في ذلك إلا كبعض الملوك الذين لم يجاهدوا العدو، بل أخذوا منهم بعض البلاد، ولا عدلوا في المسلمين العدل الذي شرعه الله للعباد إذا ادعى أنه أمكن وأعدل من عمر بن الخطاب وأصحابه رضوان الله عليهم. أقوال مختلفة في كلام الله تعالى ثم إنهم بسبب ذلك تفرقوا في أصول دينهم كتفرقهم في كلام الله من القرآن وغيره، فإنهم تفرقوا فيه شيعاً: شيعة قالت: هومخلوق، وحقيقة قولهم: لم يتكلم الله هبه، كما كان قدماؤهم يقولون: لكن المعتزلة صاروا يطلقون اللفظ بأن الله متكلم حقيقة، وكان مرادهم مراد من قال: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، كما ذكره أحمد: إنهم تارة ينفون الكلام، وتارة يقولون: يتكلم بكلام مخلوق، وهو معنى الأول. وهذا في الحقيقة تكذيب للرسل الذي إنما أخبروا الأمم بكلام الله الذي أنزله إليهم. وجاءت الفلاسفة القائلون بقدم العالم فقالوا أيضاً: متكلم، وكلامه ما يفيض من العقل الفعال على نفوس الأنبياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 وهذا قول من وافقهم من القرامطة الباطنية ونحوهم ممن يتظاهر بالإسلام ويبطن مذهب الصابئة والمجوس ونحو ذلك. وهو قول طوائف من ملاحدة الصوفية كأصحاب وحدة الوجود ونحوهم الذين أخذوا دين الصابئة والفراعنة والدهرية فأخرجوه في قالب المكاشفات والولاية والتحقيق. والذين قالوا ليس هو مخلوقاً ظن فريق منهم أنه لا يقابل المخلوق إلا القديم اللازم للذات الذي يثبتونه بدون مشيئة الرب وقدرته كثبوت الذات فقالوا ذلك. ثم طائفة رأت أن الحروف والأصوات يمتنع أن تكون كذلك، فقالت: كلامه هو مجرد معنى واحد، هو الأمر والنهي والخبر، وأنه إن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وإن عبر عنه بالعربية، كان قرآناً، فلزمهم أن تكون معاني القرآن هي معاني التوراة والإنجيل، وأن يكون الأمر هو النهي وهو الخبر، وأن تكون هذه صفات له لا أنواعاً له، ونحو ذلك مما يعلم فساده بصريح العقل. وطائفة قالت بل هو حروف وأصوات أزلية لا تتعلق بمشئيته وقدرته كما قال الذين من قبلهم. واتفق الفريقان على أن تكليم الله لملائكته وتكليمه موسى وتكليمه لعباده يوم القيامة ومناداته لمن ناداه ونحو ذلك: إنما هو خلق إدراك في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 المستمع أدرك به ما لم يزل موجوداً، كما أن تجليه - عند من ينكر مباينته لعباده وأن يكشف لهم حجاباً منفصلاً عنهم - ليس هو إلا خلق إدراك في أعينهم من غير أن يكون هناك حجاب منفصل عنهم يكشفه لهم. وطائفة ثالثة لما رأت شناعة كل من القولين قالت: بل يتكلم بعد أن لم يكن يتكلم بصوت وحروف، وكلامه حادث قائم بذاته متعلق بمشيئته وقدرته، وأنكروا أن يقال: لم يزل متكلماً إذا شاء، إذ ذلك يقتضي تسلسل الحوادث وتعاقبها، وهذا هو الدليل الذي استدلوا به على حدوث أجسام العالم. فليتدبر المؤمن العالم كيف فرق هذا الكلام المحدث المبتدع بين الأمة، وألقى بينها العداوة والبغضاء، مع أن كل طائفة تحتاج أن تضاهي من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، إذ مع كل طائفة من الحق ما تنكره الأخرى، فالذين قالوا بخلق القرآن إنما ألقاهم في ذلك أنهم رأوا أنه لا يمكن أن يكون الكلام لازماً للذات لزوم العلم، بل الكلام يتعلق بمشيئتة المتكلم وقدرته، فقالوا: يكون من صفات الفعل، والمتكلم: من فعل الكلام، ثم لم يثبتوا فعلاً إلا منفصلاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 عنه، لنفيهم أن يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته. وصار من قابلهم يريد أن يثبت كلاما لازما للمتكلم لا يتعلق بمشيئته وقدرته: إما معنى، وإما حروفاً، ويثبت أن المتكلم لا يقدر على التكلم، ولا يمكنه أن يقول غير ما قال، ويسلب المتكلم قدرته على القول والكلام وتكلمه باختياره ومشيئته، فإذا قال له الأول: (المتكلم من فعل الكلام) ، قال هو: (المتكلم من قام به الكلام) ولكن ذاك يقول: لا يقوم الكلام بفاعله، وهذا يقول: لا يختار المتكلم أن يتكلم. فأخذ هذا بعض صفة الكلام وهذا بعضها، والمتكلم المعروف: من قام به الكلام ومن يتكلم بمشيئته وقدرته، ولهذا يوجد كثير من المتأخرين المصنفين في المقالات والكلام يذكرون في أصل عظيم من أصول الإسلام الأقوال التي يعرفونها. وأما القول المأثور عن السلف والأئمة الذي يجمع الصحيح من كل قول فلا يعرفونه ولا يعرفون قائله، فالشهرستاني صنف المل والنحل وذكر فيها من مقالات الأمم ما شاء الله، والقول المعروف عن السلف والأئمة لم يعرفه ولم يذكره، والقاضي أبو بكر وأبو المعالي والقاضي أبو يعلى وابن الزاغوني وأبو الحسين البصري ومحمد بن الهيثم ونحو هؤلاء من أعيان الفضلاء المصنفين، تجد أحدهم يذكر في مسألة القرآن أو نحوها عدة أقوال للأمة، ويختار واحداً منها، والقول الثابت عن السلف والأئمة كالإمام أحمد ونحوه من الأئمة لا يذكره الواحد منهم، مع أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 عامة المنتسبين إلى السنة من جميع الطوائف يقولون: إنهممتبعون للأئمة كمالك والشافعي وأحمد وابن المبارك وحماد بن زيد وغيرهم، لا سيما الإمام أحمد، فإنه بسبب المحنة المشهورة من الجهمية له ولغيره أظهر من السنة ورد من البدعة ما صار به إماماً لمن بعده، وقوله هو قول سائر الأئمة، فعامة المنتسبين إلى السنة يدعون متابعته والاقتداء به سواء كانوا موافقين له في الفروع أو لا فإن أقوال الأئمة في أوصول الدين متفقة، ولهذا كلما اشتهر الرجل بالانتساب إلى السنة كانت موافقته لأحمد أشد، ولما كان الأشعري ونحوه أقرب إلى السنة من طوائف من أهل الكلام كان انتسابه إلى أحمد أكثر من غيره، كما هو معروف في كتبه. وقد رأيت من أتباع الأئمة أبي حنيفة ومالك والشأفعي وأحمد وغيرهم من يقول أقوالاً ويكفر من خالفها، وتكون الأقوال المخالفة هي أقوال أئمتهم بعينها، كما أنهم كثيراً ما ينكرون أقوالاً ويكفرون من يقولها، وتكون منصوصة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكثرة ما وقع من الاشتباه والاضطراب في هذا الباب، ولأن شبه الجهمية النفاة أثرت في قلوب كثير من الناس، حتى صار الحق الذي جاء به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 الرسول - وهو المطابق للمعقول - لا يخطر ببالهم ولا يتصورونه، وصار في لوازم ذلك من العلم الدقيق ما لا يفهمه كثير من الناس، والمعنى المفهوم يعبر عنه بعبارات فيها إجمال وإبهام يقع بسببها نزاع وخصام. والله تعالى يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر: 10) . عدم ذكر مصنفي أصول الدين وكان هذا من تلك البدع الكلامية كبدع الذين جعلوا أصل الدين مبنياً على كلامهم في الأجسام والأعراض، ولهذا كثر ذم السلف والأئمة لهؤلاء، وإذا رأيت الرجل قد صنف كتاباً في أصول الدين ورد فيه من أقوال أهل الباطل ما شاء الله، ونصر فيه من أقوال أهل الحق ما شاء الله، ومن عادته أنه يستوعب الأقوال في المسأل فيبطلها إلا واحداً، ورأيته في مسألة كلام الرب تعالى وأفعاله أو نحو ذلك ترك من الأقوال ما هو معروف عن السلف والأئمة - تبين أن هذا القول لم يعرفه ليقبله أو يرده، إما لأنه لم يخطر بباله، أو لم يعرف قائلاً له، أو لأنه خطر له فدفعه بشبهة من الشبهات، وكثيراً ما يكون الحق مقسوماً بين المتنازعين في هذا الباب، فيكون في قول هذا حق وباطل، وفي قول هذا حق وباطل، والحق بعضه مع هذا وبعضه مع هذا وهو مع ثالث غيرها، والعصمة إنما هي ثابتة لمجموع الأمة، ليست ثابتة لطائفة بعينها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 فإذا رأيت من صنف في الكلام - كصاحب الإرشاد والمعتمد ومن أتبعهما ممن لم يذكروا في ذلك إلا أربعة أقوال وما يتعلق بها - علم أنه لم يبلغهم القول الخامس ولا السادس، فضلاً عن السابع، فالذين يسلكون طريقة ابن كلاب كصاحب الإرشاد ونحوه يذكرون قول المعتزلة وقول الكرامية ويبطلونهما، ثم لا يذكرون مع ذلك إلا ما يقولون فيه. (وذهبت الحشوية المنتمون إلى الظاهر إلى أن كلام الله تعالى قديم أزلي، ثم زعموا أنه حروف وأصوات، وقطعوا بأن المسموع صوت القراء ونغماتهم عين كلام الله تعالى، وأطلق الرعاع منهم القول بأن المسموع صوت الله، تعالى الله عن قولهم! وهذا قياس جهالاتهم. ثم قالوا: إذا كتب كلام الله بجسم من الأجسام رقوماً ورسوماً وأسطراً وكلما فهي بأعينها كلام الله القديم، فقد كان إذ كان جسماً حادثاً ثم أنقلب قديماً، ثم قضوا بأن المرئي من الأسطر هو الكلام القديم الذي هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 حرف وأصوات، وأصلهم أن الأصوات على تقطيعها وتواليها كانت ثابتة في الأزل قائمة بذات الباري تعالى وقواعد مذهبهم مبينة على دفع الضرورات) . فلم يذكر أبوالمعالي إلا هذا القول من قول المعتزلة والكلابية والكرامية. ومعلوم أن هذا القول لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، ولا نعرف هذا القول عن معروف بالعلم من المسلمين، ولا رأينا هذا في شيء من كتب المسلمين، ولا سمعناه من أحمد منهم. فما سمعنا من أحد، ولا رأينا في كتاب احد أن المداد الحادث انقلب قديماً، ولا أن المداد الذي يكتب به القرآن قديم، بل رأينا عامة المصنفين من أصحاب أحمد وغيرهم ينكرون هذا القول، وينسبون ناقله عن بعضهم إلى الكذب. وأبو المعالي وأمثاله أجل من أن يتعمد الكذب، لكن القول المحكي قد يسمع من قائل لم يضبطه، وقد يكون القائل نفسه لم يحرر قولهم، بل يذكر كلاماً مجملاً يتناول النقيضين، ولايميز فيه بين لوازم أحدهما ولوازم الآخر، فيحكيه الحاكي مفصلاً ولا يجمله إجمال القائل، ثم إذا فصله يذكر لوازم أحدهما دون ما يعارضها ويناقضها، مع اشتمال الكلام على النوعين المتناقضين أو احتماله لهما أيضاً، وقد يحكيه الحاكي باللوازم التي لم يلتزمها القائل نفسه. وما كل من قال قولاً التزمه لوازمه، بل عامة الخلق لا يلتزمون لوازم أقوالهم، فالحاكي يجعل ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 يظنه من لوازم قوله هو أيضاً من قوله، لا سيما إذا لم ينف القائل ما يظنه الحاكي لازماً، فإنه يجعله قولاً بطريق الأولى. ولا ريب أن من الناس من يقول: هذا القرآن كلام الله، وما بين اللوحين كلام الله، ويقول: إن كلام الله محفوظ في القلوب متلو بالألسن، مسموع بالآذان مكتوب في المصاحف. وهذا الإطلاق حق متفق عليه بين المسملين، ثم من هؤلاء من إذا سئل عن المداد وصوت العبد: أقديم هو؟ أنكر ذلك، وربما سكت عن ذلك، وكره الكلام فيه بنفي أو إثبات، خشية أن يجره ذلك إلى بدعة، مع أنه لو سمع من يقول: (إن المداد قديم) ألزمه العقوبة به والعذاب الأليم. وأما صوت العبد فقد تكلم فيه طائفة من المنتسبين إلى الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما، فمنهم من قال: إن الصوت المسموع قديم، ومنهم من يقول: يسمع شيئين الصوت القديم والمحدث، وهذا خطأ في العقل الصريح، وهو بدعة، وقول قبيح. والإمام أحمد وجماهير أصحابه منكرون لما هو أخف من ذلك، فإن أحمد وأئمة أصحابه قد أنكروا على من قال: اللفظ بالقرآن غير مخلوق، فكيف بمن قال: اللفظ به قديم، فكيف بمن قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 الصوت غير مخلوق؟ فكيف بمن قال: الصوت قديم؟ وقد بدعوا هؤلاء، وأمروا بهجرهم، وقد صنف المروذي في ذلك مصنفاً كبيراً ذكره الخلال في كتاب السنة كما جهموا وبدعوا من قال: اللفظ به مخلوق أيضاً، كما بين في موضعه. إذا المقصود هنا أن من أكابر الفضلاء من لا يعرف أقوال الأئمة في أكابر المسائل، لا أقوال أهل الحق ولا أهل الباطل، بل لم يعرف إلا بعض الأقوال المبتدعة في الإسلام، ومن المعلوم أن السلف والأئمة كان لهم ليس هو قول المعتزلة ولا الكلابية ولا الكرامية، ولا هو قول المسلمين بالحشوية، فأين ذلك القول؟ أكان أفضل الأمة وأعلمها وخير قرونها لا يعلمون في هذا حقاً ولا باطلاً؟ ومعلوم أن كل قول من هذه الأقوال فاسد من وجوه، وقد يكون بعضها أفسد من بعض، فقول المعتزلة الذي قالوا: (إن كلام الله مخلوق) وإن كان فاسداً من وجوه، فقول الكلابية فاسد من وجوه، وقول الكرامية فاسد من وجوه. والإمام أحمد وغيره من الأئمة أنكروا هذه الأقوال كلها: أنكروا قول الكلابية والكرامية بالنصوص الثابتة عنهم، وإنكارهم لقول المعتزلة متواتر مستفيض عنهم، وأنكروا على من جعل ألفاظ العباد بالقرآن غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 مخلوقة، فكيف بالقول المنسوب إلى هؤلاء الحشوية؟. ولهذا لما كان أبو حامد مستمداً من كلام أبي المعالي وأمثاله، وأراد الرد على الفلاسفة في التهافت، ذكر أنه يقابلهم بكلام المعتزلة تارة، وبكلام الكرامية تارة، وبكلام الواقفة تارة، كما يكلمهم بكلام الأشعرية، وصار في البحث معهم إلى مواقف غايته فيها بيان تناقضهم، وإذا ألزموه فر إلى الوقف. ومن المعلوم أنه لا بد في كل مسألة دائرة بين النفي والإثبات من حق ثابت في نفس الأمر أو تفصيل. ومن المعلوم أن كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام لا بد أن يناقضه حق معلوم من دين الإسلام موافق لصريح العقل، فإن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بمحالات العقل، وإنما يخبرون بمجازات العقول، وما يعلم بصريح العقل أنتفاؤه لا يجوز أن يخبر به الرسل، بل تخبر بما لا يعلمه العقل وبما يعجز العقل عن معرفته. ومن المعلوم أن السلف والأئمة له قول خارج عن قول المعتزلة والكرامية والأشعرية والواقفة، ومن علم ذلك القول فلا بد أن يحكيه ويناظرهم به، كما يناظرهم بقول المعتزلة وغيرهم، لكن من لم يكن عارفاً بآثار السلف وحقائق أقوالهم وحقيقة ما جاء به الكتاب والسنة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 وحقيقة المعقول الصريح الذي لا يتصور أن يناقض ذلك لم يمكنه أن يقول إلا بمبلغ علمه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، وإنكان ذلك في المسائل العملية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم، فالفاضل المجتهد في طلب العلم، بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه، إذا كان مقصوده متابة الرسول بحسب إمكانه: هو أحق بان يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأه، تحقيقاً لقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (البقرة: 286) . عدم ذكر الشهرستاني لقول السلف في نهاية الإقدام والشهرستاني - لما كان أعلم بالمقالات من إخوانه - ذكر في مسألة الكلام قولاً سادساً، وظن أنه قول السلف، فقال في نهاية الإقدام - بعد أن ذكر قول الفلاسفة، والمعتزلة والأشعرية، والكرامية، وأن المعتزلة لما قالت: (أجمع المسلمون قبل ظهور هذا الخلاف على أن القرآن كلام الله، واتفقوا على أنه سور وآيات وحروف منظمومة وكلمات مجموعة، وهي مقروءة مسموعة على التحقيق، لها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 مفتتح ومختتم، وأنه معجزه للرسول صلى الله عليه وسلم دالة على صدقه، وأن الأشعرية تفرق بين اللفظ والمعنى، وتثبت معنى هو مدلول اللفظ) - ثم قال: (قال السلف والحنابلة: قد تقرر الاتفاق على أن ما بين الدفتين كلام الله، وأن ما نقرؤه ونكتبه ونسمعه عين كلام الله، فيجب أن تكون تلك الكلمات والحروف هي بعينها كلام الله، ولما تقرر الاتفاق على أن كلام غير مخلوق فيجب أن تكون تلك الكلمات أزلية غير مخلوقة. ولقد كان الأمر في أول الزمان على قولين: أحدهما القدم، والثاني الحدوث، والقولان مقصوران على الكلمات المتوبة والآيات المقروءة بالألسن، فصار الآن قول ثالث، وهو حدوث الحروف والكلمات وقدم الكلام والأمر الذي تدل عليه العبارات، وقد حتم قدحاً ليس منها وهو خلاف القولين. فكانت السلف على إثبات القدم والأزلية لهذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 الكلمات، دون التعرض لمعنى وراءها، فأبدع الأشعري قولاً، وقضى بحدوث الحروف وهو خرق الإجماع، وحكم بأن ما نقرأه كلام الله مجازاً لا حقيقة، وهو عين الابتداع، فهلا قال: ورد السمع بأن ما نقرأه ونكتبه كلام الله، دون أن يتعرض لكيفيته وحقيقته؟ كما ورد السمع بإثبات كثير من الصفات من الوجه واليدين، إلى غير ذلك من الصفات الخبرية) . قال: قال السلف: ولا يظن بنا أن نثبت القدم للحروف والأصوات التي قامت بألسنتنا، وصارت صفات لنا، فأنا على قطع نعلم افتتاحها واختتامها وتعلقها بأكسابنا وأفعالنا، وقد بذل السلف أرواحهم، وصبروا على أنواع البلايا والمحن من معتزلة الزمان، دون أن يقولوا: القرآن مخلوق: ولم يكن ذلك على حروف وأصوات هي أفعالنا وأكسابنا، بل هم عرفوا يقيناً أن لله تعالى قولاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 وكلاماً وأمراً، وأن أمره غير خلقه، بل هو أزلي قديم بقدمه. كما ورد القرآن بذلك في قوله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} (الأعراف: 54) وقوله تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد} (الروم: 4) وقوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: 40) فالكائنات كلها إنما تتكون بقوله وأمره، وقوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (يس: 82) ، وقوله تعالى: {وإذ قال ربك} (البقرة: 30) ، {وإذ قلنا للملائكة} (البقرة: 34) ، {قال الله} (المائدة: 115) ، فالقول قد ور في السمع مضافاً إلى الله أخص من إضافة الخلق، فإن المخلوق لا ينسب إلى الله تعالى إلا من جهة واحدة وهي الخلق والإبداع، والأمر ينسب إليه لا على تلك النسبة، وإلا فيرتفع الفرق بين الخلق والأمر، والخلقيات والأمريات. قالوا: ومن جهة العقل: العاقل يجد فرقاً ضرورياً بين (قال) و (فعل) وبين (أمر) و (خلق) . ولو كان القول فعلا كسائر الأفعال بطل الفرق الضروري، فثبت أن القول غير الفعل، وهو قبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 الفعل، وقبليته قبلية أزلية، إذ لو كان له أول لكان فعلاً سبقه قول آخر، ويتسلسل) . قال: (وحققوا زيادة تحقيق فقالوا: قد ورد في التنزيل أظهر مما ذكرناه من الأمر، وهو التعرض لإثبات كلمات الله، حيث قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته} (الأنعام: 115) وقال: {ولولا كلمة سبقت من ربك} (يونس: 19) ، وقال تعالى: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} (الكهف: 109) ، وقال تعالى {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} (لقمان: 17) ، وقال تعالى: {ولكن حق القول مني} (السجدة: 13) ، وقال: {ولكن حقت كلمة العذاب} (الزمر: 71) فتارة يجيء الكلام بلفظ الأمر، وتثبت له الوحدة الخالقية التي لا كثرة فيها: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} (القمر: 50) ، وتارة يجيء بلفظ الكلمات وتثبت لها الكثرة البالغة التي لا وحدة فيها ولا نهاية لها {ما نفدت كلمات الله} فله تعالى إذاً أمر وكلمات كثيرة، وذلك لا يتصور إلا بحروف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 فعن هذا قلنا: أمره قديم، وكلماته أزلية، والكلمات مظاهر الأمر، والروحانيات مظاهر الكلمات، والأجسام مظاهر الروحانيات، والإبداع والخلق إنما يبتدي من الأرواح والأجسام وأما الكلمات والحروف والأمر فأزلية قديمة، وكما أن أمره لا يشبه أمرنا، فكلماته وحروف كلماته لا تشبه كلامنا، وهي حروف قدسية علوية، وكما أن الحروف بسائط الكلمات، والكلمات أسباب الروحانيات، والروحانيات مدبرات الجسمانيات، وكل الكون قائم بكلمات الله محفوظ بأمر الله) . قال: (ولا يغفلن عاقل عن مذهب السلف وظهور القول في حدوث الحروف فإن له شأناً، وهم يسلمون الفرق بين القراءة والمقروء والكتابة والممكتوب، ويحكمون بأن القراءة التي هي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 صفتنا وفعلنا، غير المقروء الذي ليس هو صفة لنا ولا فعلنا غير أن المقروء بالقراءة قصص وأخبار وأحكام وأمر، وليس المقروء الذي ليس هو صفة لنا ولا فعلنا غير بأن المقروء بالقراءة قص وأخبار وأحكام وأمر، وليس المقروء من قصة آدم وإبليس هو بعينه المقروء من قصة موسى وفرعون، وليست أحكام الشرائع الماضية هي بعينها أحكام الشرائع الخاتمة، فلا بد إذاً من كلمات تصدر عن كلمة وترد على كلمة. ولا بد من حروف تتركب منها الكلمات، وتلك الحروف لا تشبه حروفنا، وتلك الكمات لا تشبه كلامنا) . قلت: فهذا القول الذي ذكره الشهرستاني وحكاه عن السلف والحنابلة ليس هو من الأقوال التي ذكرها صاحب الإرشاد وأتباعه، فإن أولئك لم يحكوا إلا قول من يجعل القديم عين صوت العبد والمداد، وهذا القول لا يعرف به قائل له قول أو مصنف في الإسلام. وأما القول الذي ذكره الشهرستاني: فقال به طائفة كبيرة، وهو أحد القولين لمتأخري أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم من الطوائف، وهو المذكور عن أبي الحسن بن سالم وأصحابه السالمية، وقد قاله طائفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 غير هؤلاء، كما ذكر ذلك الأشعري في كتاب المقالات لما ذكر كلام ابن كلاب فقال: (قال ابن كلاب: إن الله لم يزل متكلماً، وإن كلامه صفة له قائمة به، وإنه قدمي بكلامه، وإن كلامه قائم به، كما أن العلم قائم به، والقدرة قائمة به، وإن الكلام ليس بحروف ولا صوت، ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض، وإنه معنى واحد قائم بالله) . قال: (وقال بعض من أنكر خلق القرآن: إن القرآن يسمع ويكتب، وإنه متغاير غير مخلوق، وكذلك العلم غير القدرة، والقدرة غير العلم، وإن الله لا يجوز أن يكون غير صفاته، وصفاته متغايرة، وهو غير متغاير) . قال: (وزعم هؤلاء أن الكلام غير محدث، وأن الله لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 يزل متكلماً، وأنه مع ذلك حروف وأصوات، وأن هذه الحروف الكثيرة لم يزل الله متكلماً بها) . قلت: فبعض هذا القول الذي ذكره الشهرستاني عن السلف منقول بعينه عن السلف، مثل إنكارهم على من زعم أن الله خلق الحروف، وعلى من زعم أن الله لا يتكلم بصوت، ومثل تفريقهم بين صوت القارىء وبين الصوت الذي يسمع من الله، ونحو ذلك. فهذا كله موجود عن السلف والأئمة. وبعض ما ذكره من هذا القول ليس هو معروفاً عن السلف والأئمة، مثل إثبات القدم والأزلية لعين اللفظ المؤلف المعين، ولكن القول الذي أطبقوا عليه: هو أن كلام الله غير مخلوق، ولكن الناس تنازعوا في مرادهم بذلك، والنزاع في ذلك موجود في عامة الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. والنزاع في ذلك مبني على هذا الأصل، هو كون قوله - مع أنه غير مخلوق ومع أنه قائم به، ومع أنه لم يزل متكلماً -: هل يتعلق بقدرته ومشيئته أم لا؟ فهذا القول السابع لم يذكره الشهرستاني ونحوه، إذ الأقوال المعروفة للناس في مسألة الكلام سبعة أقوال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 موقف الرازي في مسألة القرآن وأفعال الله والمقصود هنا: أن أبا عبد الله الرازي في أكثر كتبه، لم يبن مسألة القرآن على الطريقة المعروفة لـ الأشعري، وهو أنه يمتنع أن يحدث في نفسه كلام، لكونه ليس محلاً للحوادث، وذلك لأنه قد ضعف هذا الأصل، فلم يمكنه أن يبني عليه، بل أثبت ذلك بإجماع مركب، فقرر بأن الكلام له معنى غير العلم والإرادة، خلافاً للمعتزلة ونحوهم. وإذا كان كذلك فكل من قال بذلك قال: إنه معنى واحد قديم قائم بذات الله تعالى، فلو لم يقل بذلك لكان خلاف الإجماع. فهذا هو العمدة التي اعتمد عليها في نهاية العقول وهو ضعيف، فإن الإقوال في المسألة متعددة قول غير المعتزلة والكلابية. وكان من الممكن أن يقال له: إن ثبت أنه لا يقوم بالله ما يتعلق بمشيئته وقدرته أمكن أن يجعل كلام الله قديماً بالطريقة المعروفة، فإنه يمتنع أن يحدثه قائماً في نفسه أو في محل آخر، فإذا أمتنع حدوثها في نفسه تعين قدمه. وإن لم يثبت ذلك، بل أمكن أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته أمكن هنا قول الكرامية وقول أهل الحديث الذين يقولون: إنه قول السلف والأئمة، فلم يتعين قول الكلابية، فذكر في نهاية العقول ما جرت عادته وعادة غيره بذكره، وهو أن معنى الكلام: إما أن يكون هو الإرادة والعلم، وإما أن يكون الطلب مغايراً للإرادة، والحكم الذهني مغايراً للعلم. والأول باطل، لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 الإنسان في الشاهد قد يخبر بما يعلمه ولا يعتقده، وقد يأمر بأمر لا يريده، كالسيد إذا كان قصده امتحان العبد. قال: (وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب، لانعقاد الإجماع على أن ماهية الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب) . قال: (فثبت أن أمر الله ونهيه وخبره صفات حقيقية، قائمة بذاته، مغايره لذاته وعلمه، وأن الألفاظ الواردة في الكتب الإلهية دالة عليها. وإذا ثبت ذلك وجب القطع بقدمها، لأن الأمة علىقولين في هذه المسألة: منهم من نفى كون الله موصوفاً بالأمر والنهي والخبر بهذا المعنى، ومنهم من أثبت ذلك. وكل من أثبته موصوفاً بهذه الصفات زعم أن هذه الصفات قديمة. فلو أثبتنا كونه تعالى موصوفاً بهذه الصفات، ثم حكمنا بحدوث هذه الصفات، كان ذلك قولاً ثالثاً خارقاً للإجماع، وهو باطل) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 وأورد على نفسه أسئلة: فمنها قول القائل: (لم قلتم إن تلك المعاني قديمة. قولكم: كل من أثبت تلك المعاني أثبتها قديمة؟ قلنا: القول في إثباتها مسألة، والقول في قدمها مسألة أخرى، فلو لزم من ثبوت إحدى المسألتين ثبوت الأخرى، لزم من أثبات كونه تعالى عالماً بعلم قديم، إثبات كونه تعالى متكلماً بكلام قديم، وإن سلمنا أن هذا النوع من الإجماع يقتضي قدم كلام الله، لكنه معارض بنوع آخر من الإجماع، وهو أن أحداً من الأمة لم يثبت قدم كلام الله بالطريق الذي ذكرتموه، فيكون التمسك بما ذكرتموه خرقاً لإجماع) . وذكر في جواب ذلك (قوله: لو لزم من إثبات هذه الصفة إثبات قدمها - لأن كل من قال بالأول قال بالثاني - لزم من القول بإثبات العلم القديم إثبات الكلام القديم، لأن كل من قال بالأول قال بالثاني - قلنا: الفرق بين الموضعين مذكور في المحصول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 فإن المعتزلة يساعدوننا على الفرق بين الموضعين، فلا نطول قوله: إثبات قدم كلام الله بهذه الطريق على خلاف الإجماع. قلنا: قد بينا في كتاب المحصول أن إحداث دليل لم يذكره أهل الإجماع لا يكون خرقاً للإجماع) . قلت: المقصود أن يعرف أنه عدل عن الطريقة المشهورة، وهو أنه لو أحدثه في نفسه لكان محلاً للحوادث - مع أنه عمدة ابن كلاب والأشعري ومن اتبعهما - لضعف هذا الأصل عنده، ولو أعتقد صحته لكان ذلك كافياً مغنياً له عن هذه الطريقة التي أحدثها. وليس المقصود هنا الكلام في مسألة القرآن، فإن هذا مبسوط في مواضعه، وإنما الغرض التنبيه على اعتراف الفضلاء بأن هذا الأصل ضعيف. وأما ضعف ما اعتمده في مسألة القرآن: فمبين في موضع آخر، فإن إثبات المقدمة الأولى فيها كلام ليس هذا موضعه، إذ كانت العمدة فيه على أمر الممتحن وخبر الكاذب. والمنازع يقول: هذا إظهار للأمر والخبر، وإلا فهو في نفس الأمر لم يدل الخبر هنا على معنى في النفس. ولهذا يقول الله تعالى عن الكاذبين إنهم: {يقولون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} (الفتح: 11) فهم ينازعون في أن الكاذب قام بنفسه حكم أو دل لفظه على معنى في نفسه، بل أظهر الدلالة على معنى في نفسه كذباً. وأما المقدمة الثانية فضعيفة. وذلك أنه يقال: هب أن هذا ثبت، لكن لم لا يجوز أن يتكلم بحروف ومعان قائمة في ذاته حادثة؟ وهذا القول قول طوائف من المسلمين، فليس هو خلاف الإجماع، فإن أبطل هذا بقوله: (ليس هو محلاً للحوادث) . قيل: فهذا - إن صح - فهو دليل كاف، كما سلكه من سلكه من الناس، وإن لم يصح بطلت الدلالة، فتبين أنه لا بد في إثبات قدمه من هذه المقدمة. وأما قوله: (كل من أثبت اتصاف الله بهذه المعاني فإنه يقول بقدمها) فليس الأمر كذلك. بل كثير من أهل الحديث وأهل الكلام يثبتونها ولا يقولون بقدمها. وأما الفرق الذي ذكره في المحصول فهو أن الأمة إذا اختلفت في مسألتين على قولين: فإن كان مأخذهما واحداً - كتنازعهم في الرد وذوي الأرحام - لم يكن لمن بعدهم إحداث موافقة هؤلاء في مسألة وهؤلاء في مسألة. وإن كان المأخذ مختلفاً - كتنازعهم في الشفعة وميراث ذوي الأرحام - جاز موافقة هؤلاء في مسألة وهؤلاء في مسألة، فظن أن قدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 الكلام مع إثبات هذه المعاني من هذا الباب، وليس الأمر كذلك، فإن مأخذ إثبات هذه المعاني ليس هو مأخذ القدم، فإن القدم مبني على مسألة الصفات، وعلى أنه: هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته؟ وأما إثبات هذه المعاني فمسألة أخرى. والناس لهم في مسمى (الكلام) أربعة أقوال: أحدهما: أنه اللفظ الدال على المعنى، والثاني أنه المعنى المدلول عليه باللفظ، والثالث: أنه مقول بالاشتراك على كل منهما، والرابع: أنه اسم لمجموعهما، وإن كان مع القرينة يراد به أحدهما، وهذا قول الأئمة وجمهور الناس، وحينئذ فمن أثبت هذه المعاني وقال: إن اسم (الكلام) يتناولهما بالعموم أو الأشتراك يمكنه إثبات قيام اللفظ والمعنى جميعاً بالذات. ثم من جوز تعلق ذلك بمشيئته وقدرته يمكنه أن لا يقول بالقدم، أو لا يقول بالقدم في الكلام المعين وإن قال بالقدم في نوع الكلام، ومن لم يجوز ذلك فمنهم طائفة يقولون بقدم الحروف، وطائف تقول بقدم المعاني دون الحروف، وما به يستدل أولئك على حدوث الحروف كالتعاقب والمحل يعارضونهم بمثله في المعاني، فإنه بالنسبة إلينا متعاقبة، ولها محل لا يليق بالله تعالى. فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 جاز أن تجعل فينا متعددة مع اتحادها في حق الله تعالى، وأن محلها منه ليس كمحلها منا: أمكن أن يقال في الحروف كذلك: إنها وإن تعددت فينا فهي متحدة هناك، وليس المحل كالمحل. وإذا قيل: (هي مرتبة فينا) قيل: فكذلك المعاني مرتبة فينا. فترتيب أحدهما كترتيب الآخر. وإذا قيل: (دعوى أتحادهما مخالف لصريح العقل) . قيل: وكذلك دعوى اتحاد المعاني، فكلام هؤلاء من جنس كلام هؤلاء. والمقصود هنا: الكلام على هذا الأصل، وهي مسألة الصفات الاختيارية كالأفعال ونحوها مما يقوم به، ويتعلق بمشيئته وقدرته. وأما قول القائل: (الجمهور على خلاف ذلك، وإنما الخلاف فيه مع الكرامية) فهذا قول من ظن أن طوائف المسلمين منحصرة في المعتزلة والكلابية والكرامية، بل أكثر طوائف المسلمين يجوزون ذلك: من أهل الكلام وأهل الحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم. وأما أئمة أهل الحديث والسنة فكالمجمعين على ذلك، فكلام من يعرف كلامه في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 ذلك صريح فيه، والباقون معظمون لمن قال ذلك، شاهدون له بأنه إمام في السنة والحديث، لا ينسبونه إلى بدعة. وأما متأخرو أهل الحديث فلهم فيها قولان، ولأصحاب أحمد قولان، ولأصحاب الشافعي قولان، ولأصحاب مالك قولان، ولأصحاب أبي حنيفة قولان، وللصوفية قولان، وجمهور أهل التفسير على الإثبات. وأما أهل الكلام فقد ذكر الأشعري هذا في كتاب المقالات عن غير واحد من أئمة الكلام غير الكرامية، ولم يذكر للكرامية شيئاً انفردوا به إلا قولهم في الإيمان، بل ذكر عن هشام بن الحكم وغيره من الشيعة أنهم يصفونه بالحركة والسكون ونحو ذلك، وأن عامة القدماء من الشيعة كانوا يقولون بالتجسيم أعظم من قول الكرامية، وأن المتأخرين منهم هم الذين قالوا في التوحيد بقول المعتزلة، بل ذكر عنهم تجدد الصفات من العلم والسمع والبصر، والناس قد حكوا عن هشام والجهم أنهما يقولان بحدوث العلم، وهذا رأس المعطلة وهذا رأس الشيعة، لكن جهم كان يقول بحدوث العلم في غير ذاته، وهشام يقول بحدوثها في ذاته، وحكى الأشعري تجدد العلم له عن جمهور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 الإمامية. وحكى عنهم إثبات الحركة به، وأن كلهم يقولون بذلك إلا شرذمة منهم، وذكر عن هشام بن الحكم وهشام بن الجواليقي وأبي مالك الحضرمي وعلي بن ميثم وغيرهم أنهم يقولون إرادته حركة، وهل يقال: إنها غيره أم لا؟ على قولين لهم، وذكر عن طائفة أنهم يقولون: يعلم الأشياء قبل كونها، إلا أعمال العباد، فإنه لا يعلمها إلا في حال كونها، وهذا قول غلاة القدرية، كمعبد الجهني وأمثاله، وهو أحد قولي عمروبن عبيد. وذكر عن زهير الأثري أنه كان يقول: إن الله ليس بجسم ولا محدود، ولا يجوز عليه الحلول والمماسة، ويزعم أن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 تعالى: {وجاء ربك والملك صفا صفا} (الفجر: 22) ، ويزعم أن القرآن كلام الله محدث غير مخلوق) . قال: (وكان أبو معاذ التومني يوافق زهيراً في أكثر قوله، ويخالفه في القرآن، ويزعم أن كلام الله: حدث غير محدث ولا مخلوق، وهو قائم بالله لا في مكان، وكذلك قوله في محبته وإرادته أيضاً) . قال زهير: كلام الله حدث وليس بمحدث، وفعل وليس بمفعول، وامتنع أن يزعم أنه خلق، ويقول: ليس بخلق ولا مخلوق، وإنه قائم بالله، ومحال أن يتكلم بالله بكلام قائم بغيره، كما يستحيل أن يتحرك بحركة قائمة بغيره، وكذلك يقول في إرادة الله ومحبته وبغضه: إن ذلك أجمع قائم بالله. قال الأشعري: (وبلغني عن بعض المتفقهة أنه كان يقول: إن الله لم يزل متكلماً، بمعنى أنه يزل قادراً على الكلام، ويقول: إن كلام الله محدث غير مخلوق) . قال: (وهذا قول داود الأصبهاني) . قال: (وكل القائلين بأن القرآن غير مخلوق، كنحو عبد الله بن كلاب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 ومن قال إنه محدث كنحو زهير، ومن قال: إنه حدث كنحو أبي معاذ التومني - يقولون: إن القرآن ليس بجسم ولا عرض) . وأما الحجة التي احتج بها الرازي للنفاة فهي أيضاً ضعيفة من وجوه. أحدها: أن المقدمة التي اعتمد عليها فيه قوله: (إن الخالي عن الكمال الذي يمكن الاتصاف به ناقص) . فيقال: معلوم أن الحوادث المتعاقبة لا يمكن الاتصاف بها في الأزل، كما لا يمكن وجودها في الأزل، فإن ما كان وجوده مشروطاً بحادث سابق له امتنع إمكان وجوده قبل وجود شرطه، وعلى هذا: فالخلو عن هذه في الأزل لا يكون خلواً عما يمكن الاتصاف به، والخالي عما لا يمكن اتصافه به ليس بناقص. الوجه الثاني: أن يقال: هو لم يثبت امتناع ما ذكره من النقص بدليل عقلي، ولا ينص كتاب ولا سنة، بل إنما أثبته بما ادعاه من الإجماع. وهذه طريقته وطريقة أبي المعالي قبله ومن وافقهم، يقولون: إن امتناع النقص على الله تعالى إنما علم بالإجماع، لا بالنص ولا بالعقل، وإذا كان كذلك فمعلوم أن المنازعين في اتصافه بذلك هم من أهل الإجماع، فكيف يحتج بالإجماع في مسائل النزاع؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 فإن قال: هؤلاء وافقونا على امتناع النقص عليه، وإنما نازعونا في كون ذلك نقصاً. قيل له: إما أن يكونوا وافقوا على إطلاق اللفظ، وإما أن يكونوا وافقوا على معانية. فإن وافقوا على إطلاق القول بأنه سبحانه منزه عن النقص، وقالوا: ليس هذا من النقص، لم يكن مورد النزاع داخلاً فيما عنوه بلفظ النقص، ومعلوم إن الإجماع حينئذ لا يكون حاصلاً على المعنى المتنازع فيه، ولكن على لفظ لم يدخل فيه هذا المعنى عند بعض أهل الإجماع، ومثل هذا لا يكون حجة في المعنى، ولكن غايته - إذا قام الدليل على أن هذا يسمى في اللغة نقصاً -: أن يكونوا لم يعبروا باللفظ اللغوي، وهذا بتقدير أن لا يكون له مساغ في اللغة: إنما فيه خطأ لغوي، فكيف إذا كانت هذه المقدمات غير مسلمة لهم في اللغة أيضاً؟ ومثل هذا ليس بحجة على المعاني المتنازع فيه، وإنما يكون حجة لفظية، لو صحت مقدماته، فلا يحصل بها المقصود. وإن كانوا وافقوا على نفي المعاني التي يعبر عنها بلفظ النقص: فمعلوم أن المعنى المتنازع فيه لم يوافقهم عليه، فتبين أن مورد النزاع لا إجماع على نفيه قطعاً، فلا يجوز الإحتجاج على نفيه بالإجماع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 الوجه الثالث: أن يقال: إن قول القائل: (إن الأمة اجتمعت على تنزه الله تعالى عن النقص، وقوله: أجتمعت على تنزيه الله تعالى عن العيب والآفة ونحو ذلك) . وهذا القدر ليس بمنقول اللفظ عن كل واحد من الأمة، لكن نحن نعلم أن كل مسلم فهو ينزه الله تعالى عن النقص والعيب، بل العقلاء كلهم متفقون على ذلك، فإنه ما من احد ممن يعظم الصانع سبحانه وتعالى وصف الله بصفة وهو يعتقد أنها آفة وعيب ونقص في حقه، وإن كان بعض الملحدين يصفه بما يعتقده هو نقصاً وعيباً، فهذا من جنس نفاة الصانع تعالى، ولهذا كان نفاة الصفات إنما نفوها وهم يعتقدون أن إثباته يقتضي النقص كالحدوث والإمكان ومشابهة الأحياء، مثبتوها إنما اثبتوها لاعتقادهم أن إثباتها يوجب الكمال. وعدمها يستلزم النقص والعدم ومشابهة الجمادات، وكذلك مثبتة القدر ونفاته، بل بعض نفاة النبوة زعموا أنهم نفوها تعظمياً لله أن يكون رسوله من البشر، وأهل الشرك أشركوا تعظيماً لله أن يعبد بلا وساطة تكون بينه وبين خلقه. فإذا كان كذلك فمن المعلوم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 أن الإنسان لو احتج بإجماع المسملين على نفي النقص والعيب عن الله تعالى على من يثبت الصفات، مدعياً أن إثباتها نقص وعيب أو بالعكس، لقال له المثبتة: نحن لم نوافقك على نفي هذا المعنى الذي سميته أنت نقصاً وعيباً، فلا تحتج علينا بالموافقة على لفظ لم نوافقك على معناه، وأمكنهم حينئذ أن يقولون: نحن ننازعك في هذا المعنى وإن سميته أنت نقصاً وعيباً، فلا يكون حجة ثابتة، إلا أن يقوم دليل على انتفاء ذلك غير الإجماع المشروط بموافقتهم. الوجه الرابع: أن يقال له: قولك: (إجماع الأمة على أن صفاته كلها صفات كمال) إن عنيت بذلك صفاته كلها اللازمة له لم يكن في هذا حجة لك، وإن عنيت ما يحدث بقدرته ومشيئته لم يكن هذا إجماعاً، فإنك أنت وغيرك من أهل الكلام تقولون: إن صفة الفعل ليست صفة كمال ولا نقص، والله موصوف بها بعد أن لم يكن موصوفاً، فكونه خالقاً ومبدعاً وعادلاً ومحسناً ونحو ذلك عندك أمور حادثة متجددة، وليست صفة مدح ولا كمال، وإن قلت (المفعولات ليست قائمة به، بخلاف ما يقوم به) . قيل لك: هب أن الأمر كذلك، لكن ما يحدث بقدرته ومشيئته إما أن يقال: هو متصف به أولا يقال: هو متصف به، فإن قيل (ليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 متصفاً لا بهذا ولا بهذا، وإن قيل (هو متصف به) كان متصفاً بهذا وهذا. ومعلوم أن المشهور عند أهل الكلام من عامة الطوائف أنهم يقسمون الصفات إلى صفات فعلية وغير فعلية، مع قول من يقول منهم: إن الأفعال لا تقوم به، فيجعلونه موصوفاً بالأفعال، كما يقولون: إنه موصوف بأنه خالق ورازق، وعندهم هذه أمور كائنة بعد أن لم تكن، ولما قال لهم من يقول بتسلسل الحوادث من الفلاسفة وغيرهم: (الفعل إن كان صفة كمال لزم اتصافه به في الأزل، وإن كان صفة نقص امتنع اتصافه به في الأبد) أجابوا عن ذلك بأن الفعل ليس صفة كمال ولا نقص. الوجه الخامس: احتجاجه بقوله: (إن الأمة مجمعة على أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 صفاته لا تكون إلا صفة كمال) أضعف من احتجاجه بإجماعهم على تنزيه عن صفة النقص، فإن كونه منزهاً عن صفات النقص مشهور في كلام الناس، وأما كون صفاته لا تكون إلا صفات كمال، فليس هذا اللفظ مشهوراً معروفاً عن الأئمة، ومن اطلق ذلك منهم فإنما يطلقه على سبيل الإجمال، لما استقر بالقلوب من ان الله موصوف بالكمال دون النقص. وهذه الإطلاقات لا تدل على دق المسائل، ولوقيل لمطلق هذا: (كونه يفعل أفعالاً بنفسه يقدر عليها ويشاؤها هو صفة نقص أو كمال) ؟ لكان إلى أن يدخل ذلك في صفات الكمال أو يقف عن الجواب أقرب منه إلى أن يجعل ذلك من صفات النقص. الوجه السادس: أن هذا الإجماع حجة عليهم، فإنا إذا عرضنا على العقول موجودين أحدهما يمكنه أن يتكلم ويفعل بمشيئته كلاماً وفعلاً يقوم به والآخر لا يمكنه ذلك بل لا يكون كلامه إلا غير مقدور له ولا مراد، أو يكون بائناً عنه - لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل موجودين وكذلك إذا عرضنا على العقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 موجودين من المخلوقين، أو موجودين مطلقاً، أحدهما يقدر على الذهاب والمجيء والتصرف بنفسه، والآخر لا يمكنه ذلك - لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني، كما أنا إذا عرضنا على العقل موجودين من المخلوقين أو موجودين مطلقاً، أحدهما حي عليم قدير، والآخر لا حياة له ولا علم ولا قدرة، لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني. فنفس ما به يعلم أن اتصافه بالحياة والعلم والقدرة صفة كمال، به يعلم أن اتصافه بالأفعال والأقوال الاختيارية التي تقوم به. التي بها يفعل المفعولات المباينة، صفة كمال. والعقلاء متفقون على أن الأعيان المتحركة، أو التي تقبل الحركة. أكمل من الأعيان التي لا تقبل الحركة، كما أنهم متفقون على أن الأعيان الموصوفة بالعلم والقدرة والسمع والبصر، أو التي تقبل الاتصاف بذلك أكمل من الأعيان التي لا تتصف بذلك ولا تقبل الاتصاف به. وهذه الطريقة هي من أعظم الطرق في إثبات الصفات، وكان السلف يحتجون بها، ويثبتون أن من عبد إلهاً لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، فقد عبد رباً ناقصاً معيباً مؤوفاً، ويثبتون أن هذه صفات كمال، فالخالي عنه ناقص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 ومن المعلوم أن كل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه يثبت للمخلوق، فالخالق أحق له، وكل نقص تنزه عنه مخلوق، فالخالق سبحانه أحق بتنزيه عنه. ولما أورد من أورد من الملاحدة نفاة الصفات بأن عدم هذه الصفات إنما يكون نقصاً إذا كان المحل قابلاً لها، وإنما يكون عدم البصر عمى، وعدم الكلام خرساً، وعدم السمع صمماً: إذا كان المحل قابلاً لذلك كالحيوان، فأما ما لا يقبل ذلك كالجماد، فإنه لا يوصف بهذا ولا بهذا - أجيبوا عن هذا بأن ما لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا أعظم نقصاً مما يقبلهما ويتصف بأحدهما، وإن اتصف بالنقص، فالجماد الذي لا يقبل الحياة والسمع والبصر الكلام أعظم نقصاً من الحيوان الذي يقبل ذلك، وإن كان أعمى أصم أبكم. فمن نفى الصفات جعله كالأعمى الأصم الأبكم، ومن قال: إنه لا يقبل لا هذا ولا هذا جعله كالجماد الذي هو دون الحيوان الأعمى الأصم الأبكم، وهذا بعينه موجود في الأفعال، فإن الحركة بالذات مستلزمة للحياة وملزومة لها، بخلاف الحركة بالعرض كالحركة القسرية التابعة للقاسر، والحركة الطبيعية التي تطلب بها العين العود إلى مركزها لخروجها عن المركز، فإن تلك حركة بالعرض. والعقلاء متفقون على ما كان من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 الأعيان قابلاً للحركة فهو أشرف مما لا يقبلها، وما كان قابلاً للحركة بالذات فهو أعلى مما لا يقبلها بالعرض، وما كان متحركاً بنفسه كان أكمل من الموات الذي تحركه بغيره. وقد بسط في غير هذا الموضع. فصل ونحن نتكلم على هذه الحجة - حجة الكمال والنقصان - كلاماً مطلقاً لا يختص بنظم الرازي، إذ يقول القائل: أنا أصوغها على غير الوجه الذي صاغها عليه الرازي فنقول: أعلم أن الطوائف المسلمين لهم في هذا الأصل الذي تنبني عليه مسألة الأفعال الاختيارية القائمة بذات الله تعالى أربعة أقوال تتفرع إلى ستة. وذلك أنهم متنازعون: هل يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغير الأفعال؟ على قولين مشهورين، ومتنازعون في أن الأمور المتجددة الحادثة: هل يمكن تسلسلها ودوامها في الماضي والمستقبل، أو في المستقبل دون الماضي، أو يجب تناهيها وانقطاعها في الماضي والمستقبل؟ على ثلاثة أقوال معروفة. فصارت الأقوال أربعة: طائفة تقول: يقوم به ما يتعلق بمشئيته وقدرته، ثم هل يقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 ما زال كذلك، أو يقال: حدث هذا الجنس بعد أن لم يكن؟ على قولين. وطائفة تقول: لا يقوم به شيء من ذلك، ثم هل يمكن دوام ذلك وتسلسله خارجاً عنه؟ على قولين. وكل من الطائفتين تنازعوا: هل يمكن وجود هذه المعاني بدون محل تقوم به؟ على قولين. فالقائلون من أهل القبلة بجواز تسلسل الحوادث: منهم من قال: تقوم به، ومنهم من قال: تحدث لا في محل، ومنهم من قال: تحدث في محل غيره. والمانعون لذلك من أهل القبلة: منهم من قال: تقوم له ولها ابتداء، ومنهم من قال: بل تحدث قائمة في غيره ولها ابتداء، ومنم من قال: بل تحدث لا في محل ولا ابتداء. وقد ذكرنا حجة المانعين من قيام المقدرورات والمرادات به، وكلام من ناقضها. ونحن نذكر حجة المانعين من التسلسل في الآثار، وكلام بعض من عارضهم من أهل القبلة. وهذا موجود في عامة الطوائف، حتى في الطائفة الواحدة، فإن أبا الثناء الأرموي قد ذكر في لباب الأربعين لأبي عبد الله الرازي من الاعتراضات على ذلك ما يناسب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 هذا الوضع، وتابع في ذلك طوائف من النظار، كأبي الحسن الآمدي وغيره، بل نفس الرازي قد ذكر في مواضع من كتبه نقض ما ذكره في الأربعين ولم يجب عن ذلك، كما قد حكينا كلامه في موضع آخر، وسيأتي إن شاء الله كلام الرازي في إفساد هذه الحجج التي ذكرها في تناهي الحوادث بأمور لم يذكر عنها جواباً. حجج الرازي على حدوث العالم ومعارضة الأموري له وذلك أن أبا عبد الله الرازي ذكر في الأربعين في مسألة حدوث العالم من الحجج على حدوث الأجسام أو العالم ما لم يذكره في عامة كتبه. البرهان الأول فذكر خمس حجج: الأولى: أنه لو كانت الأجسام قديمة لكانت إما متحركة أو ساكنة، والأول يستلزم حوادث لا أول لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 امتناع حوادث لا أول لها من وجوه واحتج على انتفاء ذلك بستة أوجه: (الأول والتعليق عليه) أن ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير، وماهية الأزل تنفيها، فامتنعت أزلية الحركة. فعارضه أبو الثناء الأرموي بأنه: لقائل أن يقول: كون ماهية الحركة مركبة من جزء سابق وجزء لاحق لا ينافي دوامها في ضمن أفرادها المتعاقبة لا إلى أول، وهو المعني بكونها أزلية. قلت: ونكتة هذا الاعتراض أن يقال: إن المستدل قال: ماهية الحركة تقتضي أن تكون مسبوقة بالغير، فهل المراد بالغير: أن تكون الحركة مسبوقة بما ليس بحركة، أو أن يكون بعض أجزائها سابقاً لبعض؟ أما الأول فباطل، وهو الذي يشعر به قوله: (ماهية الحركة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 تقتضي المسبوقية بالغير) ، فإن ذلك قد يفهم منه أم ماهيتها تقضي أن تكوم مسبوقة بغير الحركة، ولو كان الأمر كذلك لا متنع كون المسبوق بغيره أزلياً، لكن لا يصلح أن يريد إلا الثاني، وهو أن ماهيتها تقتضي تقديم بعض أجزاها على بعض، وحينئذ فقد منعوه المقدمة الثانية وهي قولهم: (إن ماهية الأزل تنفي ذلك) ، وقالوا: لا نسلم أن ما كان كذلك لا يكون أزلياً، بل هذا رأس المسألة، ولا سيما وهو - وجماهير المسلمين وغيرهم من أهل الملل - يسلمون أن ما كان كذلك فإنه يصلح أن يكون أبدياً. ومعلوم أن ماهية الحركة تقتضي أن يكون بعضها متأخراً عن بعض، ولا يمتنع مع ذلك وجود ما لا انقضاء له من الحركات. قالوا: فكذلك لا يمتنع وجود ما لا ابتداء له منها، كما لم يمنتع وجود ما لا أول لوجوده وهو القديم الواجب الوجود، مع إمكان تقدير حركات وأزمنة لا ابتداء لها مقارنة لوجوده، والكلام في انتهاء المحقق كالكلام في انتهاء المقدر. الثاني والتعليق عليه قال الرازي: الوجه الثاني: (لو كانت أدوار الفلك متعاقبة لا إلى أول كان قبل كل حركة عدم لا إلى أول، وتكل العدمات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 مجتمعة في الأزل، وليس معها شيء من الوجودات، وإلا لكان السابق مقارنا للمسبوق، فلمجموع الوجودات أول) . قال الأرموي: (ولقائل أن يقول: إن عنيت باجتماعها تحققها بأسرها معا حينا ما فهو ممنوع، لأنه ما من حين يفرض إلا وينتهي واحد منها فيه لوجود الحركة التي هي عدمها، ضرورة تعاقب تلك الحركات لا إلى أول، وإن عنيت به أنه لا ترتيب في بدايات تلك العدمات كما في بدايات الوجودات، فلا يلزم من اجتماع بعض الوجودات معها المحذور) . قلت: مضمون هذا: أن عدم كل حركة ينتهي بوجودها، فليست الأعدام متساوية في النهايات، فلا تكون مجتمعة في شيء من الأوقات، لأنه في كل وقت يثبت بعضها دون بعض لوجود حادث يزول به عدمه، ولكن لا بداية لكل عدم منها، فإن ما حدث لم يزل معدوما قبل حدوثه، بخلاف الحركات، فإن لكل بداية، وحينئذ فلا يمتنع أن يقارن الوجود بعضها دون بعض، كما يقارن الوجود الباقي الأزلي عدم كل ما سواه، فالمستدل يقول: عدم كل حادث ثابت في الأزل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 وليس الجنس حادثا، حتى يكون مسبوقا بعدم الجنس، وإنما الحادث أفراده، كما في دوامه في الأبد. فليس لعدم المجموع تحقق في الأزل، والعدم السابق لأفراد الحركات بمنزلة العدم اللاحق لها. ولا يقال: إن تلك الإعدام مجتمعة في الأبد. والفرق بين عدم المجموع وعدم كل فرد فرد: فرق ظاهر، والمستدل يقول: عدم كل واحد أزلي، فمجموع الأعدام أزلي. وهذا بمنزلة أن يقول: كل واحد من الأفراد حادث، فالمجموع حادث، أو كل حادث فله بداية فالمجموع له بداية، وبمنزلة أن يقول: كل حادث فله انقضاء، فمجموع الحوادث له انقضاء، أو كل واحد مسبوق بغيره، فالمجموع مسبوق بغيره. فإذا قال المتكلم عن المستدل: قول المعترض: (إن عنيت باجتماعها تحققها بأسرها معا حينا ما فهو ممنوع، لأنه ما من حين يفرض إلا وينتهي واحد منها فيه) ليس بمستقيم، فإنها مجتمعة في الأزل. قال المتكلم عن المعترض: ليس الأزل ظرفا معينا يقدر فيه وجود أو عدم، كما أن الأبد ظرفا معينا يقدر فيه وجود أو عدم، ولكن معنى كون الشيء أزليا: أنه ما زال موجودا، أو ليس لوجوده ابتداء، ومعنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 كونه أبديا، أنه لا يزال موجودا، أو ليس لوجوده انتهاء. ومعنى كون عدم الشيء أزليا: أنه ما زال معدوما حتى وجد، وإن كان عدمه مقارنا لوجود غيره. وقائل ذلك يقول: لا يتصور اجتماع هذه العدمات في وقت من الأوقات أصلا، بل ما من حال إلا فيه عدم بعضها ووجود غيره، فقول القائل: (إن العدمات مجتمعة في الأزل) فرع إمكان اجتماع هذه الأعدام، واجتماع هذه الأعدام ممتنع. وسيأتي تمام الكلام على ذلك بعد هذا. الثالث والتعليق عليه قال الرازي: (الثالث) : إنه إن لم يحصل شيء من الحركات في الأزل، أو حصل ولم يكن مسبوقاً بغيرها - فلكلها أول، وإن كان مسبوقاً بغيرها كان الأزل مسبوقاً بالغير) . قال الأرموي: (ولقائل أن يقول: ليس شيء من الحركات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 الجزئية أزلياً، بل كل واحدة منها حادثة. وإنما القديم الحركة الكلية بتعاقب الأفراد الجزئية، وهي ليست مسبوقة بغيرها، فلم يلزم أن يكون لكل الحركات الجزئية أول) . قلت: قول المستدل: (إن حصل شيء من الحركات في الأزل ولم يكن مسبوقاً بغيرها فلها أول) يريد به: ليس مسبوقاً بحركة أخرى، فإن الحركة المعينة التي لم تسبقها حركة أخرى تكون لها إبتداء، فلا تكون أزلية، إذ الأزلي لا يكون إلا الجنس. أما الحركة المعينة إذا قدرت غير مسبوقة بحركة كانت حادثة، كما أنها إذا كانت مسبوقة كانت حادثة، ولم يرد بقوله: (إن حصل شيء من الحركات في الأزل ولم يكن مسبوقاً بغيره فلها أول) أي لم يكن مسبوقاً بغير الحركات، فإن ما كان في الأزل ولم يكن مسبوقاً بغيره لا يكون له أول، فلو أراد بالغير غير الحركات لكان الكلام متهافتاً، فإن ما كان أزلياً لا يكون مسبوقاً بغيره، فالجنس عند المنازع أزلي، وليس مسبوقاً بغيره، والواحد من الجنس ليس بأزلي، وهو مسبوق بغيره. وما قدر أزلياً لم يكن مسبوقاً بغيره. سواء كان جنساً أو شخصاً، لكن إذا قدر أزلياً - وليس مسبوقاً بغيره - فكيف يكون له أول؟ ولكن إذا قدر مسبوقاً بالغير كان له أول، فالمسبوق بغير هو الذي له أول، وأما ما ليس مسبوقاً بغيره فكيف يكون له أول؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 ومع هذا فيقال له: تقدير كون الحركة المعينة في الأزل ومسبوقة بأخرى جمع بين النقيضين، فهو ممتنع لذاته، والممتنع لذاته يلزمه حكم ممتنع، فلا يضر ما لزم على هذا التقدير. وأما على التقدير الآخر - وهو حصول شيء منها في الأزل مع كونه مسبوقاً - فقد أجابوا الأرموي: بأن وجود الحركة المعينة في الأزل محال أيضاً، وإذا كان ذلك ممتنعاً جاز أن يلزمه حكم ممتنع، وهو كون الأزلي مسبوقاً بالغير، وإنما الأزلي هو الجنس، وليس مسبوقاً بالغير. وقد اعترض بعضهم على هذا الاعتراض بأن قال: فحيئنذ ليس شيء من الحركات حاصلاً في الأزل، إذ لو حصل في الأزل لا متنع زواله، وما هذا شأنه يمتنع كوناً أزلياً. وجواب هذا الاعتراض أن يقال: ليس شيء من الحركات المعينة في الأزل، إذ ليس شيء منها لا أول له، بل كل واحد منها له أول، لكن جنسها: هل له أول؟ وهذا غير ذلك، والمنازع يسلم أن ليس شيء من الحركات المعينة أزلياً، وإنما نزاعه في غير ذلك، كما أنه يسلم أنه ليس شيء من الحركات المعينة أبدياً، مع أنه يقول: جنسها أبدي. الرابع والتعليق عليه قال الرازي: الوجه الرابع: (كلما تحرك زحل دورة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 تحركت الشمس ثلاثين فعدد دورات زحل أقل من عدد دورات الشمس، والاقل من غير متناه، والزائد على المتناهي بالمتناهي متناه، فعددهما متناه) . قال الأرموي: (ولقائل أن يقول: تضعيف الواحد إلى غير النهاية أقل من تضعيف الاثنين كذلك مع كونهما غير متناهيين) قلت: هذا الذي ذكره الأرموي معارضة ليس فيه منع شيء من مقدمات الدليل، ولا حل له، ثم قد يقول المستدل: الفرق بين مراتب الأعداد وأعداد الدورات من وجهين. أحدهما: أن مراتب الأعداد المجردة لا وجود لها في الخارج، وإنما يقدرها الذهن تقديراً، كما يقدر الأشكال المجردة يقدر شكلاً مستديراً وشكلاً أكبر منه وشكلاً أكبر من الآخر وهلم جراً، وتلك الأشكال التي يقدرها الذهن لا وجود لها في الخارج، وكذلك الأعداد المجردة لا وجود لها في الخارج، فالكم المتصل أو المنفصل إذا أخذ مجرداً عن الموصوف به لم يكن إلا في الذهن، وكذلك الجسم التعليمي - وهو أن يقدر طول وعرض وعمق مجرد عن الموصوف به - وإذا كان كذلك لم يلزم من إمكان تقدير ذلك في الذهن إمكان وجوده في الخارج، فإن الذهن تقر فيه الممتنعات، كاجتماع النقيضين والضدين، فيقدر فيه كون الشيء موجوداً معدوماً، وكون الشيء متحركاً ساكناً، ويقدر فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 أن كون الشيء لا موجوداً ولا معدوماً، ولا واجباً ولا ممكناً ولا ممتنعاً، إلا غير ذلك من التقديرات الذهنية التي لا تسلتزم إمكان ذلك في الخارج، ولهذا يمكن تقدير خط لا يتناهى وسطح لا يتناهى، وتقدير أشكال بعضها أكبر من بعض بلا نهاية وأبعاد لا نهاية لها، ولا يلزم من إمكان تقدير ما لا نهاية له في الذهن إمكان ذلك في الخارج، والمنازعون يسلمون امتناع أجسام لا يتناهى قدرها وأبعاد لا تتناهى وعلل ومعلولات لا تتناهى، مع إمكان تقدير ذلك في الذهن. فإذا قيل لهم: كذلك تقدير أعداد لا تتناهى، أو تقدير مراتب أعداد لا تتناهى بعضها أفضل من بعض، إذا قدر في الذهن لم يدل ذلك على إمكان وجوده في الخارج - بطلت معارضتهم، وكان من عارض تقدير الأعداد التي لا تتناهى بتقدير الأشكال التي لا تتناهى وتقدير التفاضل في هذا كالتفاضل في هذا: أولى ممن عارض تفاضل الدورات بتفاضل مراتب الأعداد، فإنه إذا قيل: تضعيف الواحد إلى غير نهاية أقل من تضعيف الاثنين. قيل: وإذا فرض خط عرضه بقدر الكف لا يتناهى طولاً وخط عرضه بقدر الذراع لا يتناهى، فالذي بقدر الكف أقل، وإذا فرض أجسام مستديرة كل منها بقدر رأس الإنسان لا تتناهى، وأخرى كل منها بقدر الفلك لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 تتناهى، كانت مقادير تلك أصغر، مع أن الجميع لا يتناهى، كان معلوماً أن هذه المعارضة أعدل وأولى بالقبول من تلك المعارضة. الوجه الثاني: إن كان تضعيف الأعداد ومراتبها وسائر المقادير إلى غير نهاية كان هذا التضعيف إنما هو في الذهن، فكل ما يتصوره الذهن من ذلك ويقدره فهو يتناهى، والذهن لا يزال يضعف حتى يعجز، وهكذا أذا نطق بأسماء الأعداد أو بألفاظ فلا يزال ينطق حتى يعجز، وإن قدر أنه لا يعجز بل لا يزال الذهن يقدر اللسان ينطق فإن جميع ذلك داخل في الوجود الذهني واللفظي والجناني واللساني، وكل ما يدخل من ذلك في الوجود فهو متناه وله مبدأ محدود، فله أول ابتدء منه، وهو من ذهن الإنسان ولفظه، وكل ما يوجد منه متعاقباً فإنه منتهاه، لكن هذا يدل على جواز ما لا نهاية له في المستقبل، وأن الشيء قد يكون له بداية ولا يكون له نهاية، فإن ما يخطر بالأذهان وينطق به اللسان له بداية، ويمكن وجود ما لا يتناهى منه، ومن هذا الباب أنفاس أهل الجنة وألفاظهم وحركاتهم، فإنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، ومن هذا الباب تسبيح الملائكة دائماً. فهذا المذكور من تضعيف الأعداد ذهناً ولفظا يدل على وجود ما لا يتناهى في المستقبل إذا كان له بداية محدودة، وأما التفاضل فيه - سواء أريد به تضعيف الذهن، أو اللسان، أو جميعهما - فمعلوم أنه إذا قيل: ضعف الواحد وضعف ضعفه وضعف ضعف ضعفه وهلم جراً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 وقيل: ضعف الاثنين وضعف ضعفهما وضعف ضعف الضعف وهلم جرا، فإن أريد بكون تضعيف الواحد أقل من تضعيف الاثنين، أن ما وجد من نطق اللسان بالتضعيف أو ما يخطر بالقلب من التضعيف أقل، فهذا ممنوع إذا قدر التساوي في المبدأ والحركة، وإن قدر التفاضل فأكثرهما أسبقهما مبدأ وأقواهما حركة، وحينئذ فقد يكون تضعيف الواحد هو الأكثر. وإن أريد بذلك أن مسمى أحد اللفظين أكثر مما في كل مرتبة من مراتب التضعيف، فإذا ضعف الواحد خمس مرات كان اثنين وثلاثين، وإذا ضعف الاثنان خمس مرات كان أربعاً وستين مرة، فهذه الأربع والستون ليست معدوداً موجوداً في الخارج ولا في الذهن حتى يقال: وجد التفاضل فيما لا يتناهى، وإنما نطق بلفظ أعداد متناهية، والمعدودات ليست موجودة لا في الذهن ولا في الخارج، فلو قدر وجود ألفاظ الأعداد من هذه المرتبة ومن هذه المرتبة في الذهن واللسان لم يلزم إذا قدر أنهما غير متناهيين أن يكونا متفاضلين مع استوائهما في المبدأ والحركة. وإن أراد أن مسمى هذا لو وجد لكان أكبر من مسمى هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 فيقال: نعم، ولكن لم قلت: إن وجود ذلك المسمى ممكن؟ وهذا كما لو قال القائل: (ما لا يتناهى أقدره في ذهني وأتكلم بلفظه) لم يكن في ذلك ما يقتضي أنه يمكن وجوده في الخارج، كما يقدر ذهناً ولساناً ما لا يتناهى من الأجسام والأبعاد والأشكال، فهذا هذا، فهذا مما يجيب به المستدل عن المعارضة بمراتب الأعداد. وهذا الفرق - وإن كما قد أوردناه - فقد ذكره غير واحد من النظار المفرقين بين العدد والحركات من متكلمي المسلمين وغيرهم، وذكر هؤلاء هذا الفرق المعروف عند من يوافق المستدل على هذا النقض هو أن تضعيف العدد ليس أمراً موجوداً، بل مقدراً، بخلاف ما وجد من الحركات. وهكذا فرق من فرق بين الماضي والمستقبل، بأن الماضي قد وجد، بخلاف المستقبل، والممتنع وجود ما لا يتناهى، لا تقدير ما لا يتناهى. ومن يوافق المعترض يقول: الماضي أيضاً قد عدم، فليست أفراده موجودة معاً والمحذور وجود ما لا يتناهى فيما كان مجتمعاً، بل مجتمعاً منتظما بعضه ببعض، بحيث يكون له ترتيب طبيعي أو وضعي. وهذا فرق ابن سينا وأتباعه من المتفلسفة، ولكن ابن رشد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 يقول: إن مذهب الفلاسفة الفرق بين المجتمع وغير المجتمع، سواء كان المجتمع له ترتيب أو ليس له ترتيب، وإنما النزاع بينهم في النفوس البشرية المفارقة: هل هي موجودات متميزة غير متناهية أم لا؟ ويقول هؤلاء: لا نسلم أن ما كان وعدم، أو ما سيكون، إذا قدر أن بعضه أقل من بعض يجب أن يكون متناهياً، والمؤمنون بأن نعيم الجنة دائم لا ينقضي من المسلمين وأهل الكتاب يسلمون ذلك، ولم ينازع فيه من أهل الكلام إلا الجهم ومن وافقه على فناء النعيم، وأبو الهذيل القائل بفناء الحركات، وهما قولان شاذان قد اتفق السلف والأئمة وجماهير المسلمين على تضليل القائلين بهما، ومن أعظم ما أنكروه السلف والأئمة على الجهمية: قولهم بفناء الجنة. وقال الأشعري في كتاب المقالات: وأختلفوا أيضاً في معلومات الله عز وجل ومقدوراته: هل لها كل، أو لا كل لها؟ على مقالتين، فقال أبو الهذيل: إن لمعلومات الله كلاً وجميعاً، ولما يقدر الله عليه: كل وجميع، وإن أهل الجنة تنقطع حركاتهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 يسكنون سكوناً دائماً. وقال أكثر أهل الإسلام: ليس لمعلومات الله، ولا لما يقدر عليه كل ولا غاية. واختلفوا أيضاً: هل لأفعال الله سبحانه آخر، أم لا آخر لها؟ على مقالتين، فقال الجهم بن صفوان: إن لمعلومات الله ومقدوراته غاية ونهاية، ولأفعاله آخر، وإن الجنة والنار تفنيان ويفنى أهلهما، حتى يكون الله آخر، وإنهما لا تزالان باقيتين، وكذلك أهل الجنة لا يزالون في الجنة يتنعمون، وأهل النار في النار يعذبون، ليس لذلك آخر، ولا لمعلومات الله ومقدوراته غاية ولا نهاية. وقد ذكر بعض الناس بين الماضي والمستقبل فرقاً بمثال ذكره، كما ذكره صاحب الإرشاد وغيره، وهو أن المستقبل بمنزلة ما إذا قال قائل: لا أعطيك درهماً إلا أعطيتك بعده درهماً، وهذا كلام صحيح، والماضي بمنزلة لا أعطيك درهماً إلا أعطيتك قبله درهماً، وهذا كلام متناقض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 لكن هذا المثال ليس بمطابق، لأن قوله: (لا أعطيك) نفي للحاضر والمستقبل، ليس نفياً للماضي، فإذا قال (لا أعطيك هذه الساعة أو بعدها شيئاً إلا أعطيتك قبله شيئاً) اقتضى أن لا يحدث فعلاً الآن حتى يحدث فعلاً في الزمن الماضي، وهذا ممتنع. أو بمنزلة أن يقول: (لا أفعل حتى أفعل) وهذا جمع بين النقيضين. وإنما مثاله أن يقول: ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله درهماً، فكلاهما ماض. فإذا قال القائل: (ما يحدث شيء إلا ويحدث بعده شيء) كان مثاله أن يقول: ما حدث شيء إلا حدث قبله شيء، لا يقول لا يحدث بعده شيء) كان مثاله أن يقول: ما حدث شيء إلا حدث قبله شيء، لا يقول (لا يحدث في المستقبل شيء إلا حدث قبله شيء) وكل ما له ابتداد وانتهاء كعمر العبد، يمتنع أن يكون فيه عطاء لا انتهاء له، أو عطاء لا ابتداء له، وإنما الكلام فيما لم يزل ولا يزال. والناس لهم في إمكان وجود ما لا يتناهى أقوال: أحدها: امتناع ذلك مطلقاً، في الماضي والمستقبل والحاضر، في كل شيء، وهذا قول الجهم وأبي الهذيل. والثاني: جواز ذلك، حتى في الأبعاد التي لا تتناهى، وهو قول طائفة من فلاسفة الهند وطائفة من نظار أهل الملة وغيرهم، يقولون: إن الرب له قدر لا يتناهى. ثم من هؤلاء من يقول: لا يتناهى من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 جميع الجهات، ومنهم من يقول: يتناهى من جهة العرش فقط، وأما من سائر الجهات فإنه لا يتناهى. وقد ذكر الأشعري في المقالات هذه الأقوال وغيرها عن طوائف، وممن ذكر ذلك: الكرامية، وطائفة من أتباع الأئمة، كـ القاضي أبي يعلى وغيره، وهؤلاء منهم من يقول بتناهي الحوادث في الماضي، مع قوله بوجود ما لا يتناهى من المقدار في الحاضر. وكذلك معمر وأتباعه من أصحاب المعاني، يقولون بوجود معان لا تتناهى في آن واحد، مع قولهم بامتناع حوادث لا أول لها، فصار بعض الناس يقول بجواز التناهي في الحوادث الماضية والأبعاد، ومنهم من يقول بجواز ذلك في الأبعاد دون الحوادث، فهذه ثلاثة أقوال. الرابع: قول من يقول: لا يجوز ذلك فيما دخل في الوجود، لا في الماضي ولا في الحاضر، ويجوز فيما لم يوجد بعد، وهو المستقبلات، وهذا قول كثير من النظار. الخامس: قول من يقول: يجوز ذلك في الماضي ولامستقبل، ولا يجوز فيما يوجد في آن واحد، لا في الأبعاد ولا الأنفس ولا المعاني، وهو قول ابن رشد، وحكاه عن الفلاسفة. وزعم أن النفوس البشرية واحدة بعد المفارقة، كما زعم أنها كانت كذلك قبل المفارقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 السادس: قول من يقول: ما كان مجتمعاً مترتباً فإنه يجب تناهيه كالعلل والأجسام، فتلك لها ترتيب طبيعي، وهذه لها ترتيب وضعي، وكلها موجودة في آن واحد. وأما ما لم يكن له ترتيب - كالأنفس - أو كان له ترتيب ولكن يوجد متعاقباً - كالحركات - فلا يمتنع فيه وجود ما لا يتناهى، وهذا قول ابن سينا، وهو المحكي عندهم عن أرسطو وأتباعه، لكن ابن رشد ذكر أن هذا القول لم يقله أحد من الفلاسفة إلا ابن سينا. وأما وجود علل ومعلولات لا تتناهى: فهذا مما لم يجوزه أحد من العقلاء. إذا عرف هذا تكلمنا على الاحتجاج بتفاضل الدورات التي لا تتناهى، فإن الشمس تقطع الفلك في السنة مرة، والقمر اثنتي عشرة مرة، وهذا مشهود، والمشتري في كل اثنتي عشرة سنة مرة، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة، فتكون دورات القمر بقدر دورات زحل ثلاثمائة وستين مرة، ودورات الشمس بقدر دورات زحل ثلاثين مرة، فتكون دورات هذا أضعاف دورات هذا، وكلاهما لا يتناهى عند القائلين بذلك، والأقل من غير المتناهي متنهاه، والزائد على المتناهي متناه، وقد عرف أن المعارضة بالعدد باطلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 وقد يقال: هذا من جنس تطبيق الحوادث الماضية إلى اليوم بالحوادث الماضية إلى أمس، فإن كلاهما لا يتناهى مع التفاضل. وهو الوجه الخامس الذي سيأتي. لكن بينهما فروق مؤثرة: منها: أنه هناك هذه الحوادث هي تلك بعينها، لكن زادت حوادث اليوم، فغاية تلك: أن يكون ما لا إبتداء له من الحوادث لا يزال في زيادة شيئاً بعد شيء، وأما هنا: فهذه الدورات ليست تلك. ومنها: أنه هناك فرض انطباق اليوم على الأمس، مع اشتراكهما في عدم البداية، وهذا التطبيق ممتنع. فإن حقيقته: أنا نقدر تماثلهما وتفاضلهما، فإنه إذا طبق أحدهما على الآخر لزم التماثل مع التفاضل، لأنهما استويا في عدم البداية وفي حد النهاية، وهما متفاضلان، وهذا تقدير ممتنع، بخلاف الدورتين، فإنهما هنا مشتركان في عدم البداية، وفي حد النهاية، فالتفاضل هنا حاصل مع الاشتراك في عدم النهاية عند هؤلاء، فهذا لا يحتاج إلى فرض وتقدير، حتى يقال: هو تقدير ممتنع، بخلاف ذلك. ولكن التقابل يوافق ذلك التقابل في أن كليهما قد عدمت فيه الحوادث الماضية، ويوافقه في أن كليهما قد قدر فيه انتهاء الحوادث من أحد الجانبين، فهما متفقان من هذين الوجهين، مفترقان من ذينك الوجهين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 وحينئذ فيقال: الدهرية يزعمون أن حركات الفلك لا بداية لها ولا نهاية، لا يجعلون لها آخراً تنتهي إليه فلا يصح اعتمادهم على أن هذه الحوادث متناهية من أحد الجانبين، بل يلزمهم قطعاً أن تكون الحركة الفلكية التي زعموا أنها لم تزل ولا تزال متفاضلةً، فدورات زحل عنهم لم تزل ولا تزال، وكذلك دورات الشمس والقمر، مع أن دورات القمر دورات بقدر دورات الشمس اثنتي عشرة مرة، ودورات الشمس بقدر دورات زحل ثلاثين مرة، فكل من هذين لا يتناهى في الماضي والمستقبل، وهذا أقل من هذا بقدر متناه، وهذا أزيد من هذا بقدر متناه، فإذا كان الأقول من غيره متناهياً لزم أن يكون كل من الدورات متناهياً. وهذا الوجه لا يرد على من قال من أئمة الإسلام وأهل الملل بجواز حوادث لا تتناهى، فإن أولئك يقولون بأن حركة الفلك لها ابتداء ولها انتهاء، وأنه محدث مخلوق، كائن بعد أن لم يكن، وأنه ينشق وينفطر، فتبطل حركة الشمس والقمر، وكل واحد من دورات الفلك وكواكبه وشمسه وقمره له عندهم بداية ونهاية. وهذا الدليل إنما يدل على أن حركته يمتنع أن تكون غير متناهية، ولا يلزم إذا وجب تناهي حركة جسم معين أن يجب تناهي جنس الحوادث، إلا إذا كان الدليل الذي دل على تناهي حرك المعين يدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 على تناهي الجنس، وليس الأمر، فإن هذا الدليل لا يتناول إلا الفلك، وهو دليل على حدوثه، وامتناع أن تكون حركته بلا بداية ولا نهاية، فهو يدل على فساد مذهب أرسطو وابن سينا، وأمثالهما ممن يقول بأن الفلك قديم أزلي. فهذا حق متفق عليه بين أهل الملل وعامة العقلاء. وهو قول جمهور الفلاسفة، ولم يخالف في ذلك إلا شرمذة قليلة، ولهذا كان الدليل على حدوثه قوياً، والاعتراض الذي اعترض به الأرموي ضعيفاً، بخلاف الوجوه الدالة على امتناع جنس دوام الحوادث، فإن أدلتها ضعيفة، واعتراضات غيره عليها قوية. وهذا مما يبين أن ما جاءت به الرسل هو الحق، وأن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول، وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس منه، كالذين جعلوا من السمع: أن الرب لم يزل معطلاً عن الكلام والفعل، لا يتكلم بمشيئته، ولا يفعل بمشيئته، بل ولا يمكنه عندهم أنه لا يزال يتكلم بمشيئته ويفعل بمشيئته. فجعل هؤلاء هذا قول الرسل، وليس هو قولهم، وجعل هؤلاء من المعقول: أنه يمتنع دوام كونه قادراً على الكلام والفعل بمشيئته. وعارضهم آخرون: فادعوا أن الواحد من مخلوقاته كالفلك أزلي معه، وأنه لم يزل ولا تزال حوادثه غير متناهية، فهذه الدورات لا تتناهى، وهذه لا تتناهى، مع أن هذه بقدر هذه مرات متناهية، وكون الشيئين لا يتناهيان أزلاً وأبداً، مع كون أحدهما بقدر الآخر مرات، مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 كونه مفعولاً معلوماً مساوياً لفاعله في الزمن - هو الذين أنفردوا به. وأما الفاعلية فيما لا يتناهى ابتداء وانتهاء، فهو الذي ذكر في هذا الوجه. وقد يقال: يلزم مثل هذا في كلمات الله وإرادته التي كل منها غير متناه أزلا وأبداً، وإن كان أحدهما أكثر من الآخر. وقد يذكر هنا أن مقدرار القمر أصغر من مقدار الشمس فحركته وإن زادت في الدورات فقد نقصت في المقدار، لكن هذا لا ينفع إلا إذا عرف تساوي مقدار جميع حركات الكواكب التي كل منها غير متناه، وإلا لزم التفاضل فيما لا يتناهى، فإذا كان تساويها باطلاً كان هذا السؤال باطلاً. الخامس والتعليق عليه قال الرازي: الوجه الخامس: (نقدر أن الأدوار الماضية من اليوم لا إلى أول جملة، ومن الأمس كذلك، ثم نطبق الطرف المتناهي من إحدى الجملتين في الوهم على الطرف المتناهي من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 الأخرى، ونقابل كل فرد إحداهما بنظيره من الأخرى، فإن لم تقصر إحداهما عن الأخرى في الطرف الآخر كان الشيء مع غيره كهو لا مع غيره، وإن قصرت كانت متناهية، والأخرى زائدة بقدر متناه فهي متناهية أيضاً) . قال الأرموي: (ولقائل أن يقول: الجملة الناقصة لا تنقطع من طرف المبدأ، وإنما يكون الشيء مع غيره كهو لا مع غيره، إذا كان أفراد الزائد مثل أفراد الناقص كما في مراتب الأعداد من الواحد إلى ما لا يتناهى ومن العشرة إلى ما لا يتناهى، إذا طبقنا إحدى الجملتين على الأخرى) . قلت: المعترض لم يبين فساد الحجة، بل عارضها معارضة، وغيره قد يمنع كلتا المقدمتين أو إحداهما، فالمعترض يقول: (وإن قصرت كانت متناهية) فنقول: إنما تكون متناهية لو كانت منقطعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 من طرف المبدأ، فأما مع عدم انقطاعها فلا نسلم تناهيها، كما أن المستقبل وتضعيف العدد لما لم يكن منقطعاً من جهة المنتهى لم يكن متناهياً، وإن أمكن فيه مثل هذه المقابلة. وأما غيره فيجيب بثلاثة أجوبة: أحدها: قوله: (فإن لم تقصر إحداهما عن الأخرى في الطرف الآخر كان الشيء مع غيره كهو لا مع غيره) فنقول: هذا إنما يلزم إذا طبقنا إحدى الجملتين على الأخرى) والتطبيق في المعدوم ممتنع، كما في تطبيق مراتب الأعداد من الواحد إلى ما لا يتناهى، ومن العشرة إلى ما لا يتناهى، ومن المائة إلى ما لا يتناهى فإنا نعلم أن عدد تضعيف الواحد أقل من عدد تضعيف العشرة، وعدد تضعيف العشرة أقل من عدد تضعيف المائة، وعدد تضعيف المائة أقل من تضعيف الألف، والجميع لا يتناهى، وهذه الحجة من جنس حجة مقابلة دورات أحد الكوكبين بدورات الآخر، لكن هناك الدورات وجدت وعدمت، وهنا قدرت الأزمنة والحركات الماضية ناقصه وزائدة. ومما يجاب به عن هذه الحجة - وهي أشهر حججهم - أن يقال: لا نسلم إمكان التطبيق، فإنه إذا كان كلاهما لا بداية له، وأحدهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 انتهى أمس، والآخر انتهى اليوم: كان تطبيق الحوادث إلى اليوم على الحوادث إلى الأمس ممتنعاً لذاته، فإن الحوادث إلى اليوم أكثر، فكيف تكون إحداهما مطابقة للأخرى؟ فلما كان التطبيق ممتنعاً جاز أن يلزمه حكم ممتنع. أيضاً فيقال: نحن نسلم أنها متناهية من الجانب المتناهي، لكن لم قلت: إذا كانا متناهيين من أحد الجانبيين كانا متناهيين من الجانب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 الآخر؟ وهذا أول المسألة، والتفاضل وقع من الجانب المتناهي، لا من الجانب الذي ليس بمتناه، فلم يقع فيما لا يتناهى تفاضل. السادس والتعليق عليه قال الرازي: السادس: (لو كانت الأدوار الماضية غير المتناهية كان وجود اليوم موقوفاً على إنقضاء ما لا نهاية له، والموقوف على المحال محال) . قال الأرموي: ولقائل أن يقول: انقضاء ما لا نهاية له محال، وأما انقضاء ما لا بداية له ففيه نزاع. قلت: هنا نزاع لفظي ونزاع معنوي، أما اللفظي، فهو أنه إذا قدر تسلسل الحوادث في الماضي وعدم إنقطاعها وأنها لا أول لها، فهل يعبر عن هذا بأن يقال: لا نهاية لها، أو يقال: لا بداية لها، ولا يقال لا نهاية لها؟ فالمستدل عبر بأنه لا نهاية لها، والمعترض أنكر ذلك، وهذا نزاع لفظي. وذلك أنه يقال: هذا غير متناه، بمعنى أنه ليس له حد محدود، وقد يقال: (غير متناه) بمعنى أنه لا آخر له، ويقال (هذا له نهاية) أي: له آخر، و (هذا لا نهاية له) أي: لا آخر له، والحوادث الماضية إذا قدر أنها لم تزل، فإنه يقال: (لا نهاية لها) بالمعنى الأول، وأما بالمعنى الثاني: فقد انقضت وانصرمت ولها آخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 وهذه الحجة اعتمد عليها أكثر المتكلمين كـ أبي المعالي ومن قبله وبعده من المعتزلة والأشعرية، وذكروا أنه اعتمد عليها يحيى النحوي وغيره من المتقدمين، وظنوا أن ما لا يتناهى يمتنع أن يكون منقضياً منصرماً، فإن ما أنقضى وانصرم فقد تناهى، فكيف يقال: إنه لا نهاية له؟ واشتبه عليهم لفظ (النهاية) لما فيه من الإجمال والاشتباه) فإن الماضي له آخر انتهى إليه، فهو متناه بهذا الاعتبار، بلا نزاع وبهذا المعنى يقال: إنه انصرم وانقضى، وفرغ ونفد، وأما بالمعنى المتنازع فيه فهو أنه لا بداية له: أي لم تزل آحاده متعاقبة. وأما النزاع المعنوي فهو أنه: هل يعقل انقضاء ما يقدر أنه لا بداية له ولا ينتهي مم جهة مبدئه أو لا؟ ولا ريب أن المستدل لم يذكر دليلاً على امتناع انقضاء ذلك، لكن أخذ لفظ (ما لا يتناهى) ولفظ (ما لا يتناهى) فيه إجمال، فقد يعني به ما لا يتناهى في المستقبل من جهة آخره، فإذا قيل: (إن هذا ينقضي) كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 ذلك جمعاً بين النقيضين، وقد يعني به ما لا بداية له، وهو ينازع في إمكان ذلك، لأنه حينئذ يكون له نهاية بلا بداية، وكأنه يقول: ما له نهاية فلا بد له من بداية، ومنازعوه يقولون: هذا مسلم في الأشخاص، فكل شخص ينتهي فلا بد له من مبدأ، إذ لو لم يكن له مبدأ لكان قديماً، وما وجب قدمه امتنع عدمه كما سيأتي، وينازعونه في النوع، ويقولون: يمكن أن يقال: إن الله لم يزل يفعل شيئاً بعد شيء. وسيأتي إن شاء الله كلام الرازي على إفساد هذه الحجة التي ذكرها ههنا على تناهي الحوادث بكلام لم يذكر عنه جواباً. قال الرازي: وإن كان الجسم في الأزل ساكناً كان ذلك ممتنعاً، (لأن) السكون وجودي، وكل وجودي أزلي فإنه يمتنع زواله. والمنازع نازعه في كون السكون وجودياً، ولم ينازعه في أن الوجود الأزلي يمتنع زواله، وقد قرر ذلك الرازي بأن القديم إما واجب بذاته أو ممكن يكون مؤثرة بذاته، سواء كان تأثيره بنفسه أو بشرط لازم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 له، ولا يحتاج إلى هذا، بل يقال: القديم إن كان واجباً بنفسه امتنع عدمه، وإن لم يكن كذلك فالمقتضى له - سواء سمى موجباً أو مختاراً - إما أن يتوقف اقتضاؤه له على شرط محدث أو لا، والثاني ممتنع، فإن القديم لا يتوقف على شرط محدث، إذ لو توقف عليه لكان القديم مع المحدث أو بعده، وإذا لم يتوقف على شرط محدث لزم ان يكون قد وجد المقتضى التام المستلزم له في الأزل، وحينئذ فيجب دوامه بدوام المقتضى التام، ثم كون القديم لا يكون مقتضية له اختيار: فيه كلام ونزاع ليس هذا موضعه، والمقصود هنا: أن منازعه نازعه في كون السكون وجودياً. وقد احتج عليه الرازي بأن (تبدل حركة الجسم الواحد بالسكون وبالعكس، يقتضي كون أحدهما وجودياً، لأن رفع العدم ثبوت، فيكون الآخر وجودياً، لأن الحركة هي: الحصول في حيز مسبوقاً بالحصول في الآخر، والسكون هو: الحصول في حيز مسبوقاً بالحصول فيه، فاختلافهما إنما هو بالمسبوقية بالغير، وإنها وصف عرضي لا يمنع اتحاد الماهية، فيلزم كونهما وجوديين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 قال الأرموي: (ولقائل أن يقول: الحركة والسكون متقابلان تقابل الضدين، أو تقابل العدم والملكة. والبديهة حاكمة باختلاف الضدين في تمام الماهية، وكذا العدم والملكة، وايضاً المسبوقية وصف عرضي لما به الاشتراك، والوصف العرضي لما به الاشتراك يكون ذاتياً للماهية المركبة منهما) . قلت: مضمون ذلك أن الرازي احتج بأن السكون من جنس الحركة، وإنما يختلفان في كون أحدهما مسبوقاً بالغير، وهذا اختلاف في وصف عرضي لا يمنع التماثل في الحقيقة، فمنعه الأرموي بمقدمتين، بل أبطل الأولى بأن المتقابلين تقابل الضدين - كالسواد والبياض، والحلاوة والمرارة، ونحو ذلك - هما مختلفان في الحقيقة، وكذا المتقابلان تقابل العدم والملكة - كالعمى والبصر، والحياة والموت، والعلم والجهل، ونحو ذلك - والحركة مع السكون: إما من هذا وإما من هذا، فكيف تجعل حقيقة أحدهما مماثلة لحقيقة الآخر، وأنهما لا يختلفان إلا بوصف عرضي؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 وإيضاح هذا: أن الحركة ليست من جنس الحصول المشترك بينها وبين السكون، فإن كون الشي في هذا الحيز وفي هذا الحيز معقول، مع قطع النظر عن كونه متحركاً، فإنه إذا قدر أنه سكن في الحيز الثاني كان هذا الحصول من جنس ذلك الحصول، وأما نفس حركته: فأمر زائد على مطلق الحصول المشترك، ومنع الثانية، وجعل سند منعه: أن قول القائل: (المسبوقية وصف عرضي) إن عنى أنها ليست ذاتية: فلا دليل على ذلك، وإن عنى أنه عرضية لما اشتركا فيه: فالعرض لما به الاشتراك قد يكون ذاتياً للحقيقة المركبة من المشترك والمميز، كالناطقية فإنها تعرض للحيوانية ليست ذاتية لها، ثم أنها ذاتية للإنسانية المركبة من الحيوانية والناطقية. والرازي قد يمكنه أن يجيب عن هذا بأن كون هذا مسبوقاً بهذا إنما هو أمر إضافي، أي هو متأخر عنه، مثل هذا لا يكون من الصفات الذاتية، كالحركتين المتماثلتين الثانية مع الأولى، فإنهما إذا كانت متماثلتين لم يجز أن يجعل كون إحداهما مسبوقة بالغير دون الاخرى من الصفات الذاتية المفرقة بينهما. ولقائل أن يقول: الحجة والاعتراض مبني على أن الصفات اللازمة للحقيقة تنقسم إلى ذاتي وعرضي، كما يقوله من يقوله من أهل المنطق، فإن تقسيم الصفات اللازمة للحقيقة إلى ما هو ذاتي داخل في الحقيقة، وما هو عرضي خارج عنها: قول لا يقوم عليه دليل، بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 الدليل يقوم على نقيضه، ولهذا لما لم يكن في نفس الأمر بينهما فرق لم يحدد المفرقون بينهما حداً بفصل بينهما، بل ما ذكروه من الضوابط منتقض، كما هو مبسوط في موضعه، وإذا كانت الصفتان متلازمتين في الوجود والعدم والثبوت والانتفاء، لا توجد هذه إلا مع هذه، وإذا انتفت هذه انتفت هذه: كان التفريق بجعل إحداهما مقومة والأخرى عرضية تحكماً. ثم إذا قيل: الذات هي المركبة من الصفات الذاتية، والصفات الذاتية ما لا تتصور الذات إلا بها، لم تعرفه الذات إلا بالصفات الذاتية، ولا الصفات الذاتية إلا بالذات. وأيضاً، فإن هذا مبني على أن وجود الشيء في الخارج زائد على حقيقته الموجودة في الخارج، وهو أيضاً قول باطل ضعيف. وأيضاً، فالذات الموجودة في الخارج القائمة بنفسها كهذا والإنسان: إن قيل: (إنه مركب من عرضين) . لزم كون الجوهر مركباً من عرضين، وإن يكونا سابقين له، وهذا ممتنع في البديهة، وإن قيل: (إنه ركب من جوهرين كل منهما يحمل عليه، كما يقال: هو حيوان ناطق) لزم أن يكون فيه جوهران، أحدهما: حيوان، والآخر: ناطق، وهذا مكابرة للحس والعقل، إذ هو حيوان واحد موصوف بأنه ناطق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 وإذا كان كذلك فكون الحصول الذي هو مسبوق بحصول آخر إذا كان ذلك لازماً له كان من الصفات اللازمة، وإذا افترق الشيئان في الصفات اللازمة لم يجب أن تكون حقيقة أحدهما مثل حقيقة الآخر. فإن المتماثلين هما المشتركان فيما يجب ويجوز ويمتنع، فإذا وجب لأحدهما ما لا يجب للآخر لم يكن مثله. وللأرموي أن يقول: قد تبين بطلان المقدمتين، سواء كان بطريقة المنطقيين، أو بطريقة سائر أهل النظر الذين أنكروا على المنطقيين ما ذكروه، كما أنكر سائر طوائف أهل النظر من المسلمين وغيرهم عليهم كثيراً مما ذكروه في الحدود وغيرها، كما هو معروف في كتب أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية والكرامية وطوائف الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وليس المقصود هنا بسط ما يتعلق بهذا. قال الرازي: (وإنما قلنا السكون لا يمتنع زواله، لأن الخصم يسلم جواز حركة كل جسم، ولأن المتحيز يجوز خروجه من حيزه، لأنه إن كان بسيطاً كانت طبائع جوانبه متساوية، فيجوز على كل منها ما يجوز على الآخر، وإن كان مركباً كان هذا لازماً لبسائطه، وخروجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 عن حيزه هو الحركة. ولقائل أن يقول: هذا يقتضي إمكان كون نوع الجسم يقبل الحركة، فإذا قدر أن السكون وجودي وله موجب مستلزم له، كان امتناع الحركة لمعنى آخر يختص به الجسم المعين لم يوجد لغيره من الأجسام، فلا يلزم إذا قدر أنه موجود أزلي أنه يمكن زاواله، بل هذا جمع بين المتناقضين، فما قدر موجوداً أزلياً لا يمكن زواله بحال، ولا يمكن أن يجمع بين تقديرين متناقضين، وقبول كل جسم للحركة لا يحتاج إلى هذا. فإذا قيل: (إن السكون عدم الحركة) أمكن مع كون السكون أزلياً من إثبات الحركة ما لا يمكن مع تقدير كونه وجودياً، وذلك أنه حينئذ لا تتوقف الحركة إلا على وجود مقتضيها وانتفاء مانعها، وليس هناك معنى وجودي أزلي يحتاج إلى زواله. وقد أورد بعضهم على استدلاله على أن السكون أمر وجودي اعتراضاً بالغاً، فقال: هذا فيه نظر من جهة أن مقدمة الدليل مناقضة للمطلوب، لأن المطلوب كونهما وجوديين، ومقدمة الدليل أن أحدهما وجودي، ولا يمكن تقريره إلا بما سبق، وهو يقتضي أن يكون أحدهما عدمياً، فادعاء كونهما وجوديين بعد ذلك مناقض له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 قلت: وهذا كلام جيد، فإن الأمرين اللذين تبدل أحدهما بالأخر ورفعه: إن لزم أن يكون أحدهما وجودياً والآخر عدمياً لزم أن تكون الحركة والسكون أحدهما وجودياً والآخر عدمياً، وهو نقيض المطلوب، وإن جاز أن يكونا جميعاً وجوديين أو عدميين بطل الدليل - وهو قوله: لأن تبدل أحدهما بالآخر يقتضي أن يكون أحدهما وجودياً، لان المرفوع إن كان وجودياً وإلا فالرافع وجودي، لأن رفع العدم ثبوت - فإنه على هذا التقدير يمكن رفع العدم بالعدم، والوجود بالوجود. وإن قيل: بل يجب أن يكونا وجوديين، أو يكون أحدهما وجودياً، ولا يجوز أن يكونا عدميين، لأن العدم لا يرتفع بالعدم كما يرتفع الوجود بالوجود والعدم بالوجود، أو بالعكس. قيل: بل العدمان قد يتضادان كما قد يتلازمان، فكما أن عدم الشرط مستلزم لعدم المشروط، فعدم الأمور الواجب واحد منها ينافي عدمها كلها، فإذا كان الجنس لا يوجد إلا بوجود نوع له فصل امتنع مع وجود الجنس عدم جميع الأنواع والفصول، فكان عدم بعضها ينافي عدمها كلها. وهذا كما يقال في التقسيم، وهو الشرطي المنفصل: قد يكون مانعاً من الجمع والخلو، كقول القائل: العدد إما شفع وإما وتر، وقد يكون مانعاً من الجمع فقط، كقول القائل: الجسم إما أسود وإما أبيض، وقد يكون مانعاً من الخلو فقط، فما كان مانعاً من الخلو فقط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 أو من الجمع: امتنع اجتماع العدمين فيه، فكما أن الشفعية تنافي الوترية في العدد فعدم الشفعية ينافي عدم الوترية، لا ثبوتها، فلا يحصل العدمان معاً، بل إذا ثبت أحد العدمين لم يثبت العدم الآخر، فيكون الدعم رافعاً للعدم. وأيضاً فمطلوب المستدل: أن تكون الحركة والسكون وجوديين، فإذا قال: (تبدل الحركة بالسكون يقتضي كون أحدهما وجودياً، لأن رفع العدم ثبوت) كان إثبات كونهما وجوديين موقوفاً على تقدير كون أحدهما عدمياً، لأنه قال (لأن رفع العدم ثبوت) فإن لم يكن أحدهما عدمياً لم يصح هذا، وإذا كان المرفوع عدمياً امتنع أن يكونا وجوديين، والمطلوب كونهما وجوديين، فصار المطلوب مناقضاً لمقدمة الدليل، كما ذكره المعترض. لكنه قال: فالأولى أن يقال في تقريره: إن الحركة وجودية إجماعاً، ولأنه مبصر، فوجب أن يكون السكون أيضاً وجودياً بالتقرير الذي سبق. ثم ذكر اعتراض الأرموي فقال: وأورد بينهما إما تقابل التضاد أو العدم والملكة، والبديهة حاكمة باختلاف ماهية المتضادين والمتقابلين. قال: وأجيب بان التضاد بين الشيئين إذا كان عارضاً لهما كما بين الأسود والأبيض لم يلزم ذلك، وما نحن فيه كذلك، فإن التضاد عارض لهما بسبب المسبوقية بالغير، وهي عدمية، فلم يجز أن تكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 جزءاً ولأنه ليس جعل السكون عبارة عن دعم الحركة أولى من العكس، فإما أن يكونا عدميين وهو باطل وفاقاً، وفتعين أن يكونا وجوديين. ولقائل أن يقول: التضاد بين الحركة والسكون من جنس التضاد بين الحياة والموت، والعلم والجهل، والقدرة والعجز، والسواد والبياض، والعمى والبصر، والحلاوة والحموضة، ونحو ذلك من الصفات الثبوتية، أو التي بعضها ثبوتي وبعضها عدمي، ليس هو من جنس تضاد القائمين بأنفسهما، كالأسود والأبيض، فإن التضاد إنما يكون في المعتقبين اللذين يعتقبان على محل واحد، كما قال متكلمة أهل الإثبات: الضدان كل معنيين يستحيل اجتماعهما في محل واحد لذاتيهما من جهة واحدة، فما لم يكن المعنيان قائمين بمحل واحد فلا تضاد، والحركة والسكون يعتقبان على المحل الواحد إما تعاقب اللونين والطعمين وإما تعاقب العلم والبصر والسمع وعدم ذلك، فكيف يكون أحدها مثل الآخر لا يفارقه إلا بصفة عرضية؟ وفي الجملة: فالحركة والسكون هما إن كانا وجوديين فهما عرضان، وإن كان أحدهما وجودياً فأحدهما عرض والآخر عدم العرض، وعلى التقديرين: فليسا قائمين بأنفسهما، فلا يجوز تشبيهما بالأجسام، كالأسود والأبيض، والطويل والقصير، والعالم والجاهل، بل يجب تشبيههما بالاعراض وعدم كالسواد والبياض والعلم وعدم العلم ونحو ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 فقول الأرموي: (إن الحركة والسكون متقابلان تقابل الضدين، أو تقابل العدم والملكة. وعلى التقديرين: يجب اختلاف ماهيتها لا تماثلهما) كلام صحيح، وقول المعارض له: إن الاختلاف إذا كان لعارض كما بين الأسود والأبيض: لم يجب اختلاف الماهيتين، فإن ماهية الأسود من جنس ماهية الأبيض: كلام باطل، لأن الأسود والأبيض من باب الأجسام القائمة بأنفسهما، لا من باب الصفات والأعراض. وأيضاً، فالأسود والأبيض لا يتقابلان تقابل الضدين، ولا تقابل العدم والملكة فليس من هذا الباب، اللهم إلا إذا مريد بذلك: أن الحيز الذي فيه الأسود لا يكون فيه الأبيض، وحينئذ فيكون تضاد الأبيض والأسود كتضاد الأسودين والأبيضين. وأيضاً، فيقال: اختلاف الأسود والأبيض يراد به اختلاف عينهما، مع قطع النظر عن السواد والبياض، أوبشرط السواد والبياض، فإن أريد الأول فلا اختلاف بين ذاتيهما مع قطع النظر عن اللونين، فإن الجسم الذي هو الأسود قد يكون نفس الجسم الذي هو الأبيض وإن أريد بالاختلاف اختلافهما بشرط اللون المختلف، فحينئذ يكون اختلافهما كاختلاف السواد والبياض، فإن الشيء المشروط بالسواد مخالف للشيء المشروط بالبياض. ولا يجوز أن يقال: إن الذاتين متماثلين إلا مع التجريد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 عن الاختلاف، وإلا فإذا أخذت الذاتين مشروطتين بالاختلاف لم يكونا متماثلتين التماثل الذي لا يشترط فيه الاختلاف، كيف والتماثلان يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر؟ والشيء في حال سواده لا يجوز أن يكون أبيض، وهو في حال بياضه لا يكون أسود؟ فلا يكون الأسود حال كونه مشروطاً بالسواد يجوز عليه ما يجوز على الأبيض حال كونه مشروطاً بالبياض. وقول القائل: (إن الإختلاف بين الحركة والسكون عارض بسبب المسبوقية بالغير) ليس بمسلم له، فإنه يعقل التضاد بينهما مع عدم خطور المسبوقية بالبال، كما يعقل التضاد بين العلم والجهل، والقدرة والعجز، والسواد والبياض. وقول القائل: (ليس جعل السكون عبارة عن عدم الحركة بأولى من العكس) دعوى مجردة، فلا نسلم انتفاء هذه الأولوية، بل هذه الدعوى بمنزلة قول القائل: ليس جعل العمى عدم البصر بأولى من العكس، وليس جعل الصمم عدم السمع بأولى من العكس، وليس جعل الجهل البسيط عدم العلم بأولى من العكس، وليس جعل المتقابلين عدماً والآخر وجوداً بأولى من العكس. ومعلوم أن كل هذه دعاى مجردة بل باطلة، فإنا نعلم بالحس أن الحركة أمر وجودي، كما نعلم أن الحياة والعلم والقدرة، والسمع والبصر أمر وجودي، وأما كون ما يقابل ذلك هو ضد ما ينافيها أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 عدمها من محلها فهذا فيه نظر، ولهذا تنازع العقلاء في هذا دون الأول، وكثير من النزاع في ذلك يكون لفظياً، فإنه قد يكون عدم الشيء مستلزماً لأمر وجودي، مثل الحياة مثلاً، فإن عدم حياة البدن مثلاً مستلزماً لأعراض وجودية. والناس تنازعوا في الموت: هل هو عدمي أو وجودي؟ ومن قال: (إنه وجودي) احتج بقوله تعالى: {خلق الموت والحياة} (الملك: 2) فأخبر أنه خلق الموت كما خلق الحياة، ومنازعه يقول: العدم الطارىء يخلق كما يخلق الوجود، أو يقول: الموت المخلوق هو الأمور الوجودية اللازمة لعدم الحياة، وحينئذ فالنزاع لفظي. وكذلك تنازعوا في الظلمة: هل هي وجودية أو عدمية. وهي عدم النور عما من شأنه قبوله، ومن قال: (إنها وجودية) يحتج بقوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور} (الأنعام: 1) والآخر يقول: كل ما يتجدد ويحدث من الأمور الوجودية والعدمية، فالله سبحانه جاعله، أو يقول: عدم النور مستلزم لأمور وجودية، هي الظلمة المجعولة، وكون السكون وجودياً أبعد من كون الموت والظلمة ونحو ذلك وجودياً، والسكون قد يراد به قوة في الجسم تمنع حركته، كالطبيعة التي في الحجر التي توجب استقراره في الأرض، وهذا أمر وجودي، لكن من قال (إن السكون عدمي) لم يجعل تلك الطبيعة هي السكون، بل قد يسمون ذلك اعتماداً، ويفرقون بين السكون والاعتماد، لكن قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 يقال له: فالجسم إذا كان ساكناً، فإما أن يكون السكون وجودياً أو مستلزماً لأمر وجودي، وحينئذ فالمقتضى لذلك الأمر الوجودي: إما موجب بنفسه، ويساق الدليل إلى آخره، لكن من قال: (إن الجسم الأول كان ساكناً في الأزل ثم تحرك) يقول في هذا ما يقوله القائلون بحدوث الأجسام، فإنهم إذا قالوا: (حدثت هي وحركتها من غير سبب يقتضي حدوثها) قال لهم هذا المنازع: بل كان ما قدر قديماً من الأجسام ساكناً، ثم حدثت حركته من غير سبب يقتضي حركتها، وهذا يقوله من يقول: إن الأول جسم، وإنه يتجدد له الفعل بعد أن لم يكن له فاعلاً، ويقول: الكلام في حدوث الفعل القائم به كالكلام في حدوث المفعول المنفصل عنه. وذلك أن أهل الكلام والنظر من أهل القبلة وغيرهم تنازعوا في ثبوت جسم قديم: فطائفة قالت: بامتناع جسم قديم، وحدوث كل جسم، وتنازعوا في المحدث للجسم، هل أحدث بعد أن لم يكن محدثاً بدون سبب حادث أصلاً، أم لا بد من سبب حادث؟ وهل تقوم به أمور حادثة كإرادة حادثة، وتصور حادث، بل وفعل حادث؟ على قولين لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 وطائفة قالت بثبوت جسم قديم: ثم هؤلاء منهم من قال: لم يزل فاعلاً متحركاً، ومنهم من قال: بل تجدد له الفعل والحركة، فإذا احتج الأولون على هؤلاء بأن الجسم لو كان أزلياً لم يخل من الحركة والسكون، والحركة لا تكون أزلية، لامتناع دوام الحوادث وتسلسلها، والسكون لايكون أزلياً لأنه وجودي، فلو كان أزلياً لامتنع زواله، لأن الوجودي الأزلي يمتنع زواله، لأن المقتضي له إما موجب بنفسه أو لازم للموجب بنفسه، ثم نقول: والسكون يجوز زواله فلا يكون أزلياً. أجابوهم عن جواز الحوادث بأجبوتهم المعروفة كما تقدم التنبيه على ذلك، وأجابوهم على السكون الأزلي بأن قالوا: ما ذكرتموه يناقض ما ذكرتموه في حدوث الأجسام. وذلك أنكم إذا قلتم بحدوثها فلا يخلو: إما أن تقولون بجواز تسلسل الحوادث، وإما أن لا تقولوا بجواز ذلك. فإن قلتم بجواز تسلسل الحوادث وأن الأجسام حدثت بشرط حوادث متعاقبة، كما قال ذلك من قاله من القائلين بحدوث الأجسام، كالأرموي والأبهري وغيرهما. قالوا لهم: فإذا جوزتم تسلسل الحوادث بطل دليلكم على امتناع التسلسل في الآثار، وأمكن حينئذ أن يكون الجسم القديم لم يزل متحركاً، فبطل دليلكم على حدوث الجسم. وإن قلتم لا يجوز تسلسل الحوادث والآثار، وقلتم بحدوث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 الأجسام من غير سبب حادث - لزم أن لا يكون حدوث الحادثات متوقفاً على سبب حادث، بل كان الفاعل المختار يحدث ما يحدث من غير سبب حادث أصلاً، كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ومن وافقهم. وحيئنذ فيقول لهم منازعوهم من الهشامية والكرامية وغيرهم: فيجوز حينئذ أن يكون الجسم القديم الازلي تحرك بعد أن كان ساكناً من غير سبب أوجب ذلك، بل بمحض المشيئة والقدرة، لأن القادر المختار يمكنه ترجيح احد طرفي الممكن بلا مرجح: يرجح السكون تارة والحركة أخرى. فإن قالوا هم: نحن نقول: (يفعل بعد أن لم يكن فاعلاً، فإذا قلتم السكون أمر وجودي جعلتموه فاعلاً في الأزل لأمر وجودي. والفعل في الأزل محال) . قالوا لهم: نحن ليس لنا غرض في أن نجعل السكون أمراً وجودياً، ولا أن نجعله فاعلاً في الأزل لأمر وجودي، بل اتفقنا نحن وأنتم على أنه يفعل ما لم يكن فاعلاً له من غير سبب حادث، لكن نزاعنا في الفعل: هل يقوم به؟ وفي الفاعل: هل هو جسم؟ فإذا طالبتمونا بسبب فعله للحركة بعد السكون، قلنا لكم: هذا بمنزلة فعله لكل محدث بعد أن لم يكن فاعلاً، والفرق إنما يعود إلى محل الفعل لا إلا سببه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 ومقتضيه. وتلك مسألة أخرى قد تكلم عليها في غير هذا الموضع وإلا فمن جهة المطالبة بسبب الفعل الحادث لا فرق بيننا وبينكم، بل قولنا أقرب إلى المعقول من قولكم، فإن أحداث الأمور المنفصلة بدون حدوث فعل يقوم بالفاعل أمر غير معقول، بخلاف العكس. فإذا قالوا لهم: السكون أمر وجودي، فإذا كان أزلياً كان له موجب قديم، فيمتنع زواله. قالوا لهم: حدوث ما يحدث إما أن يقف على سبب حادث، وإما أن لا يقف، فإن وقف على أمر حادث بطل قولكم بحدوث الأجسام، وإن لم يقف فقد يقال: فرق بين حدوث حادث يزيل أمراً وجودياً وحدوث حادث يزيل أمراً عدمياً، فإن لم يقف بطل قولكم بحدوث الاجسام، وإن وقف فلا فرق بين حدوث حادث يزيل أمراً وجودياً، أو حدوث حادث لايزيل أمراً وجودياً. وذلك أنه إن جوز على الفاعل أن يحدث ما يحدث من غير تجدد أمر فقد تغير الأمر الذي لم يزل بلا سبب اقتضى التغير إلا محض مشيئة الفاعل وقدرته، وحيئنذ فيجوز أن يتغير السكون الذي لم يزل بدون سبب يقتضي التغير إلا محض مشيئة الفاعل وقدرته. وإذا كان الفاعل القادر المختار قادر على أن يحدث ما يحدث ويجعل المعدوم موجوداً بدون سبب حادث أصلاً لأنه يمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، كان قادراً على أن يجعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 الساكن متحركاً بدون سبب حادث أصلاً، لأنه يمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا إحداث الاجسام التي تكون ساكنة ومتحركة أعظم من إحداث نفس حركاتها، فإذا أمكنه إحداثها بدون سبب حادث فإحداث حركاتها أمكن وأمكن. ويقال لهم: لو خلق الباري تعالى جسماً ساكناً ثم أراد تحريكه بدون سبب حادث: أكان ذلك ممكناً أو ممتنعاً؟ فإن قلتم: (يمتنع ذلك) بطل مذهبكم ودليلكم. وإن قلتم: (يمكن ذلك) قيل لكم: فالقول في زوال ذلك السكون كالقول في زوال غيره. فإنه يقال: السكون أمر وجودي، وذلك السكون الوجودي لا بد له من سبب. وحيئنذ فتجيء مسألة زوال الضد: هل هو بإحداث ضد آخر، أو بإحداث عدمه، أو بخلق فناء، أو نفس الاعراض لا تبقى؟ فيقال في هذا ما يقال في ذلك. ومن قال: (السكون الوجودي لا يبقى زمانين بل ينقضي شيئاً فشيئاً) . قيل له: فكذلك إذا قدر السكون قديماً فإنه لا يبقى زمانين، بل يحدث شيئاً فشيئاً، وحينئذ فكل جزء من أجزاء السكون ليس هو قديماً بنفسه، كما قلتم في كل جزء من أجزاء الحركة: ليس هو قديماً بنفسه. فإذا كان القائلون بأن السكون أمر وجودي يقولون: إنه يتجدد شيئاً فشيئاً كما يقولون مثل ذلك في الحركة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 قيل لهم: فيكون دليلكم على امتناع كون الازلي ساكناً من جنس دليلكم على امتناع كونه متحركاً، وهو تناهي الحوادث، وقد تقدم الكلام فيه. فإذا قالوا: (السكون أمر وجودي فإذا كان قديماً امتنع زواله، لأن ما وجب قدمه امتنع عدمه، لأن القديم إما أن يكون واجباً بنفسه أو من لوازم الواجب بنفسه) . قيل لهم: هذا مثل أن يقال: عدم الفعل هو تركه، وترك الفعل أمر وجودي، فإذا كان قديماً امتنع عدمه، لأن ما وجب قدمه امتنع عدمه. فإذا قالوا: (عدم الفعل ليس هو تركاً وجودياً) أمكن أن يقال: عدم الحركة ليس هو سكوناً وجودياً. وقد ضعف الآمدي وغيره هذه الحجة: حجة الحركة والسكون، وهي فاسدة على أصول من يقول بان الأعراض لا تبقى زمانين من هذه الجهة، وهي في الأصل من حجج المعتزلة الذين يقولون بجواز بقاء الأعراض، لكن من ينازعهم من الهشامية والكرامية وغيرهم: ممن يقول بإثبات جسم قديم، وأنه قام به من الفعل ما لم يكن قائماً - سواء سموا ذلك حركة، كما يقر بعضهم بذلك، أو لم يسموه حركة كما يمتنع بعضهم من ذلك - فإن المقصود المعاني العقلية لا الإطلاقات اللفظية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 فإذا قال من قال من معتزلة البصرة: (إن إفناء الاجسام بإحداث فناء لا في محل، كما إن إحداثها بحدوث إرادة لا في محل) والتزموا حدوث عرض لا محل له، وحدوث الحوادث بلا سبب حادث، وأن من الحوادث ما يحدث بدون إرادة، وقالوا: لا يزوال الضد إلا بحدوث ضده. قال لهم هؤلاء: فكذلك إذا قدرنا جسماً قديماً متحرك بعد أن كان ساكناً، كان زوال ذلك السكون بحدوث ضده من الحركة وحدوث ذلك بما به يحدث المنفصل، ومن قال: (العرض يعدم بإحداث إعدام) كما هو أحد القولين لمتكلمة أهل الإثبات من الأشعرية والكرامية وغيرهم، قالوا: ذلك السكون يعدم بإحداث إعدام والقول في سبب حدوث الإعدام كالقول في حدوث سبب الإحداث. وإن قالوا: (إن السكون ينقضي شيئاً فشيئاً كما تنقضي الحركة شيئاً فشيئاً) كما قالوا مثل ذلك في سائر الأعراض - كما هو أحد قولي أهل الإثبات من الأشعرية وغيرهم - قالوا لهم: فالسكون إذن كالحركة، فكما أن الحركة متعاقبة الأجزاء فكذلك السكون. ولا ريب أن هذه الأمور تلزم المستدلين بدليل الحركة والسكون لزوماً لا محيد عنه، وإنما التبس مثل هذا لأن الواحد من هؤلاء يبنى على المقدمة الصحيحة في موضع، ويلتزم ما يناقضها في موضع آخر، فيظهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 من تناقض أقوالهم ما يبين فسادها، لكن قد يكون ما أثبتوه في أحد الموضعين صحيحاً متفقاً عليه، فلا ينازعوهم الناس فيه ولا في مقدماته، وقد تكون المقدمات فيها ضعف، لكن لكون النتيجة صحيحة يتساهل الناس في تسليم مقدماتها. وإنما يقع تحرير المقدمات والنزاع فيها إذا كانت النتيجة مورد نزاع. والمسلمون متفقون على أن الله سبحانه وتعالى وصفاته اللازمة لذاته لايجوز عليها العدم، وقد اشتهر في اصطلاح المتكلمين تسميته بالقديم، بل غالب المعتزلة ومن سلك سبيلهم غالب ما يسمونه بالقديم، وإن كان من المعتزة وغيرهم من لايسميه بالقديم، وإن سماه بالأزلي، وأكثرهم يجعلون القدم أخص وصفه، كما أن الفلاسفة المتأخرين الإلهيين غالب ما يسمونه به (واجب الوجود) ، والمتقدمون منهم غالب ما يسمونه به (العلة الأولى) و (المبدأ الأول) . فإذا قرر المقرر أن ما وجب قدمه امتنع عدمه كان من المعلوم أن الرب القديم الواجب الوجود يمتنع عدمه تعالى، وليس عند المسلمين قديم قائم بنفسه غيره، حتى يقال: إنه يمتنع عدمه، والمتفلسفة القائلون بقدم الأفلاك يقولون: إنه يمتنع عدمها، فهذه المقدمة وإن كانت صحيحة في نفسها فلا يصلح أن يستدل بها من قال بما يناقضها أو بما يستلزم ما يناقضها، فإن نفس ما يستدل به عليها إذا ناقض قوله أمكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 معارضه أن يبطل حجته بالاعتراض المركب، لاسيما إذا اقتضى فساد قوله على التقديرين. فمن كان من أصل قوله إن الفاعل المختار له أن يرجح أحد المقدورين على الآخر بلا مرجح أصلاً، بمجرد كونه قادراً، أو بمجرد إرادته القديمة، وقدر مع ذلك جسم قديم قادر مختار يقبل الحركة والسكون، كان تحركه بعد سكونه الدائم بمنزلة تحريكه لغيره، فإن أمكن تحركيه لغيره بمجرد كونه قادراً أو بمجرد إرادته أمكن ذلك في هذا الموضع، ولا يمتنع من ذلك إلا أن يقوم دليل على أن الجسم يمتنع قدمه، أو أن القديم يمتنع كونه يتحرك، لكن هؤلاء إذا لم يثبتوا حدوث الجسم أو امتناع تحريك القديم إلا بهذا الدليل لم يمكنهم أن يجعلوا من مقدمات الدليل حدوث الجسم أو امتناع حركة القديم، بل إذا كان حدوث الجسم أو امتناع حركة القديم موقوفاً على هذا الدليل كانوا قد صادروا على المطلوب، وجعلوا المطلوب حجة في إثبات نفسه، لكن غيروا العبارات، وداروا الدورات، وهم من موضعهم لم يتغيروا، فلهذا كان من وافقهم وفهم كلامهم حائراً لم يفده علماً، ومن لم يفهمه ووافقهم كان جاهلاً مقلداً لأقوام جهال ضلال يظهرون أنهم من أعلم الناس بأصول الدين والكلام والعقليات. ثم إن الرازي ذكر من جهة المنازعين بأن هذه الوجوه الستة في امتناع كون الجسم أزلياً متحركاً - التي تقدمت، وتقدم اعتراض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 الأرموي عليها - معارضة: (بأن امتناع الحركة في الأزل إن كان لذاتها وجب أن لا توجد أصلاً، وإن كان لغيرها فذلك المانع إن كان واجباً لذاته فكذلك، وإن كان واجباً لغيره عاد الكلام فيه وتسلسل، أو ينتهي إلى واجب الوجود لذاته، ولزم امتناع زوال المانع. فإن قلت: المانع هو مسمى الأزل، لأنه ينافي المسبوقية بالغير التي تقتضيها الحركة، وإنه زائل فيما لايزال. قلت: الترديد المذكور عائد في مسمى الأزل أنه: هل هو واجب لذاته أو لغيره؟) . وأجاب الرازي عن هذه المعارضة فقال: (قوله: صحة الحركة أزلية، قلنا: إنه لايلزم من أزلية الصحة صحة الأزلية) . قلت: ولقائل أن يقول: ما تعني بقولك: صحة الحركة أزلية، أتعني به: أنه يصح وجود الحركة في الأزل؟ أم تعني به أنه في الأزل يصح الحكم عليها بالصحة فيما لا يزال؟ أما الأول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 فهو تسليم للمطلوب، وأما الثاني: فهو حكم علمي لا كلام فيه. كالأحكام العقلية الذهنية فينا، فإنه يصح في الأزل الحكم بالامتناع على الممتنعات كما يصح الحكم بالجواز على الجائزات، ثم يقال: الحركة في الأزل إما ممتنعة الإمكان العام الذي يدخل فيه الواجب وإما ممكنة، فإن كانت ممتنعة فهو باطل كما تقدم، وإن كانت ممكنة كان الدليل على امتناعها باطلاً، فبطلت الوجوه الدالة على امتناع الحركة في الأزل. ولم يرض أبو الحسن الآمدي هذا الجواب الذي ذكره الرازي، بل ذكر جواباً آخر، فقال: (وجوابه أن يقال: لا يلزم من امتناع الوجود الأزلي على الحركة لذاتها امتناع الوجود الذي ليس بأزلي، فإذاً ما هو ممتنع غير زائل، وهو الوجود الأزلي، وما هو الجائز لم يكن ممتنعاً) . قلت: ولقائل أن يقول: هذا يستلزم انقلاب الشيء من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي من غير تجدد سبب يوجب هذا الانقلاب بما لا ينضبط لا في الوجود ولا في العقل، فإن الإمكان الذاتي ثابت بالضرورة والاتفاق، وما من وقت يقدر فيه الإمكان إلا والإمكان ثابت قبله، لا إلى غاية، فليس للإمكان ابتداء محدود. يبين ذلك: أنه قد يقال: صحة الحركة إو إمكان الحركة أو جواز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 الحركة، وصحة الفعل أو جواز أو إمكان الفعل إما أن يكون به ابتداء وإما أن لا يكون، فإن لم يكن له ابتداء لزم أنها لم تزل جائزة ممكنة، فلا تكون ممتنعة، فتكون جائزة في الأزل. وإن كان لجوازها ابتداء فمعلوم أنه ما من وقت يقدره الذهن إلا والجواز ثابت قبله، فكل ما يقدر فيه الجواز فالجواز ثابت قبله لا إلى غاية، فعلم أنه ليس للجواز بداية، فيكون جواز ثبوت الحركات دائماً لا ابتداء له، ويلزم من ثبوت الجواز عدم الامتناع. وإذا قال القائل: إن مسمى الحركة ممتنع في الأزل، قيل: معنى هذا الكلام أن مسمى الحركة يمتنع أن يكون قبله حركة أخرى لا إلى أول، وزوال الأزل ليس موقوفاً على تجدد أمر من الأمور، فإن المتجدد هو من الحوادث، فتكون الحركة ممتنعة، ثم صارت ممكنة من غير تجدد أمر من الأمور. فإن قيل: المتجدد هو عدم الأزل أو انقضاء الأزل أو نحو ذلك. قيل: عدم الأزل ليس شيئاً كان موجوداً فعدم ولا معدوماً فوجد، إذ معنى الأزل في الماضي كمعنى الأبد في المستقبل، فما ليس بأزلي فهو متجدد حادث، فإذا قيل (يشترط في جواز المتجدد الحادث تجدد المتجدد الحادث) كان المعنى أنه يشترط في إمكان الشيء ثبوته، ومن المعلوم أن ثبوته كاف في إمكانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 يوضح هذا: أن القائل إذا قال: كل ما يسمى متجدداً حادثاً إما أن يكون ممكناً في الأزل وإما أن لا يكون، فإن كان ممكناً بطل القول بامتناعه في الأزل، وإن كان ممتنعاً ثم صار ممكناً لزم انقلاب الشيء من كونه ممكناً إلى كونه ممتنعاً من غير تجدد شيء أصلاً، وإذا كان القول بحدوث الحوادث بلا سبب ممتنعاً لاستلزامه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، فالقول بتجدد الإمكان والجواز أو حدوث الإمكان والجواز بلا سبب حادث أولى بالامتناع، إذا كانت الحقيقة المحكوم عليها بالجواز والإمتناع هي هي بالنسبة إلى كل ما يقدر في كل وقت وقت، وإذا كانت نسبة الحقيقة إلى كل ما يقدر من الأوقات كنسبتها إلى الوقت الآخر امتنع اختصاص أحد الوقتين بجواز الحقيقة فيه دون الوقت الآخر، وإذا امتنع الاختصاص إلا بمخصص، ولا مخصص، لزم: إما الامتناع في جميع الأوقات، وهو باطل بالحس والإجماع، فلزم الإمكان والجواز في جميع الأوقات وهو المطلوب. وعلى هذا التقدير: فيمكن أن ينظم ما ذكروه من المعارضة بعبارة لا يرد عليها ما ذكر بأن يقال: إن قيل إن الحركة لم تزل ممكنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 ثبت المطلوب، وإن قيل إنها كانت ممتنعة ثم صارت ممكنة فالامتناع إما لذاتها وإما لموجب واجب بذاته، وعلى التقديرين فيلزم دوام الامتناع، وإن كان لا لذاتها ولا لموجب بذاته فلا بد أن يكون الامتناع لأمر واجب بغيره، وحيئنذ فالكلام في ذلك المانع في غيره، ويلزم التسلسل، ثم يقال: تسلسل الموانع إن كان ممكناً ثبت جواز التسلسل، وأمكن القول بتسلسل الحوادث، وإن كان تسلسل الموانع ممتنعاً بطل كون الامتناع متسلسلاً، وقد بطل كونه واجباً بنفسه أو بغيره، فلا يكون الامتناع ثابتاً في الأزل، فيثبت نقيضه، وهو الإمكان. وإيضاح ذلك بعبارة أخرى أن يقال: مسمى الحركة إما أن يكون ممتنعاً في الأزل، وإما أن لا يكون، فإن لم يكن ممتنعاً في الأزل ثبت إمكانه، فيكون مسمى الحركة ممكناً في الأزل، وإن كان ممتنعاً في الأزل فامتناع إما لنفسه، وإما لموجب واجب بنفسه، أو لازم للواجب، وحينئذ فلا يزول الامتناع، وإن كان لمعنى متسلسل لزم جواز التسلسل، وهو يستلزم بطلان الأصل الذي بنى عليه امتناع تسلسل الحوادث. وسر هذا الدليل: أن الأزل ليس هو شيئاً معيناً محدوداً، ولكن ما من وقت يقدر إلا وقبله شيء آخر، وهلم جراً. وهذا هو التسلسل، فيلزم من تحقق الأزل التسلسل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 لكن قد يقال: تسلسل العدميات ليس كتسلسل الوجوديات، بل تسلسل العدميات ممكن، بخلاف تسلسل الوجوديات، ويكون حدوث حدوث الحوادث موقوفاً علىتسلسل العدميات، فيقال: إن لم يكن تسلسل العدميات أمراً محققاً فلا حقيقة له، فيكون إمكان حدوث الحوادث موقوفاً على ما لا حقيقة له. وهذا باطل، وإن كان تسلسلها أمراً محققاً فقد ثبت أن تسلسل الأمور المحققة جائز، وأنه أزلي، مع أن كل واحد من تلك التسلسلات ليس بأزلي، وهذا ينقض ما ذكروه في امتناع تسلسل الحوادث، فهم بين أمرين: إما أن يقولون بالترجيح بلا مرجح، وإما أن يقولون بجواز التسلسل، وهذا بعينها هو الذي يلزمهم في قولهم: إنه لا بد للحوادث من ابتداء، فكما أنهم في هذا يلزمهم إما الترجيح بلا مرجح وإما التسلسل، فكذلك في قولهم (إنه لا بد لإمكانها من ابتداء) يلزمهم إما هذا وإما هذا، والقول بالترجيح بلا مرجح تام ممتنع، وهم متفقون على أن الترجيح بلا فاعل مرجح ممتنع، لكن لا يشترطون تمام ما به يكون مرجحاً، بل يقولون: يحصل الترجيح التام من غير حصول الرجحان، ويحصل الرجحان بدون المرجح التام، بناء على أن القادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح، إذ أن الإرادة القديمة ترجح أحد المثلين بلا مرجح والقول بجواز التسلسل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 يبطل القول بامتناع التسلسل. فثبت بطلان قولهم على التقديرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 حدوث العالم والأجسام قال الرازي: (البرهان الثاني: كل جسم متناهي القدر، وكل متناهي القدر محدث) وقرر الثانية بأن (متناهي القدر يجوز كونه أزيد وأنقص فاختصاصه له دونهما لمرجح مختار، وإلا فقد ترجح الممكن لا عن المرجح. وفعل المختار محدث) . معارضة الأرموي قال الأرموي: (ولقائل أن يمنع لزوم الترجيح لا لمرجح) . تعليق ابن تيمية قلت: مضمونه أنه يقول: لانسلم أنه لم يكن المرجح للقدر مختاراً لزم الترجيح بلا مرجح، بل قد يكون أمراً مستلزماً للقدر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 فإن المرحج أعم من أن يكون مختاراً أو غير مختار. فإذا قدر المرجح أمراً مستلزماً لذلك القدر إما أمر قائم به أو أمر منفصل عنه حصل المرجح للقدر. وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام على هذا إذا ذكرنا اعتراضات الآمدي على هذا. البرهان الثالث للرازي قال الرازي: (البرهان الثالث: لو كان الجسم أزلياً لكان في الأزل مختصاً بحيز معين، لأن كل موجود مشار إليه حساً بأنه هنا أو هناك يجب كونه كذلك، والأزلي يمتنع زواله لما تقدم، فامتنعت الحركة عليه، وقد ثبت جوازها) . معارضة الأرموي له قال الأرموي: (ولقائل أن يقول: معنى الأزلي الدائم لا إلى أول، فيكون معنى قولنا: لو كان الجسم أزلياً لكان في الأزل مختصاً بحيز معين، أنه لو كان الجسم دائماً لا إلى أول لكان حصوله في حيز واحد معين دائماً، وهو معنى السكون. وهذا ممنوع، بل دائماً يكون حصوله في موضع معين إما عيناً وإما على البدل: أي يكون في كل وقت في حيز معين غير الذي كان حاصلاً فيه قبله) . انتهى. تعليق ابن تيمية قلت: مضمون هذا الاعتراض: أن المشار إليه بأنه هنا أو هناك لا يستلزم حيزاً معيناً يمتنع انتقاله عنه. غاية ما يقال: إنه لا بد من حيز، أما كونه واحداً بعينه في جميع الأوقات فلا. وإذا استلزم نوع الحيز لا عينه أمكن كونه تارة في هذا وتارة في هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 يوضح هذا: أن هذا الحكم لازم للجسم، سواء قدر أزلياً أو محدثاً، فإن الجسم المحدث لا بد له من حيز أيضاً، مع إمكان انتقاله عنه. فإن قال: لا بد للجسم من حيز معين يكون فيه، إذ المطلق لا وجود به في الخارج. فإذا كان أزلياً امتنع زواله، بخلاف المحدث. قيل: ليس الحيز أمراً وجودياً، بل هو تقدير المكان. ولو قدر وجودي فكونه فيه نسبة وإضافة ليس أمراً وجودياً أزلياً. وأيضاً فيقال: مضمون هذا الكلام: لو كان أزلياً لزم أن يكون ساكناً لا يتحرك عن حيزه، لأن الموجود الأزلي لا يزول. فيقال: إن لم يكن السكون وجودياً بطل الدليل. وإن كان وجودياً فأنت لم تقم دليلاً على إمكان زوال السكون الوجودي الأزلي. وإنما أقمت الحجة على أن جنس الجسم يقبل الحركة. ومعلوم أنه إذا كان كل جسم يقبل الحركة وغيرها من الصفات كالطعم واللون والقدرة والعلم وغير ذلك، ثم قدر أن في هذه الصفات الوجودية ما هو أزلي قديم لوجوب قدم ما يوجبه لم يلزم إمكان زوال هذه الصفة التي وجب قدم ما يوجبها. فإن ما وجب قدم موجبه وجب قدمه. وامتنع حدوثه ضرورة. فإن قيل: نحن نشاهد حركة الفلك فامتنع أن يقال: لم يزل ساكناً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 قيل: أولاً: ليس الكلام في حدوث الفلك بعينه، بل في حدوث كل جسم، فإذا قدر جسم أزلي ساكن غير الفلك لم يكن فيما ذكره ولا في حركة الفلك دليل على حدوثه، لا سيما عند من يقول القديم الأزلي الخالق جسم لم يزل ساكناً، كما يقوله كثير من النظار من الهشامية والكرامة وغيرهم. وقيل: ثانياً: الفلك - وإن كان متحركاً - فحيزه واحد لم يخرج عن ذلك الحيز، وحركته وضعية ليست حركة مكانية تتضمن نقله من حيز إلى حيز. وحينئذ فقوله (وقد ثبت جواز الحركة) إن أراد به الحركة المكانية كان ممنوعاً، وإن أراد غيرها كالحركة الوضعية لم يلزم من ذلك جواز انتقاله من هذا الحيز إلى غيره. وقد سبق الآمدي إلى هذا الاعتراض، فإنه قال في الأعتراض على المقدمة الأولى: (الأزل ليس هو عبارة عن زمان مخصوص ووقت مقدر حتى يقال بحصول الجسم في الحيز فيه، بل الأزل لا معنى له غير كون الشيء لا أول له، والأزل على هذا يكون صادقاً على ذلك الشيء في كل وقت يفرض كون ذلك الشيء فيه. فقول القائل: (الجسم في الأزل موصوف بكذا) أي في حالة كونه متصفاً بالأزلية. وما من وقت يفرض ذلك الجسم فيه إلا وهو موصوف بالأزلية. وأي وقت قدر حصول ذلك الجسم فيه وهو في حيز معين لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 يلزم أن يكون حصوله في ذلك الحيز المعين أزلياً، لأن نسبة حصوله في ذلك الحيز المعين كنسبة حصولة في ذلك الوقت المعين. وما لزم من كون الجسم الازلي لا يخلو عن وقت معين أن يكون كونه في الوقت المعين أزلياً، فكذلك الحصول في الحيز المعين) . قال: (وفيه دقة مع ظهوره) . قلت: ويوضح فساد هذه الحجة أن قوله: (كل جسم يجب اختصاصه بحيز معين، لأن كل موجود مشار إليه حساً بأنه هنا أو هناك يجب كونه كذلك) يجاب عنه بأن يقال: أتريد به أنه يجب اختصاصه بحيز معين مطلقاً، أو يجب اختصاصه بحيز معين حين الإشارة إليه؟ أما الأول فباطل، فليس كل مشار إليه إشارة حسية يجب اختصاصه دائماً بحيز معين، فإنه ما من جسم إلا وهو يقبل الإشارة الحسية، مع العلم بأنا نشاهد كثيراً من الأجسام تتحول عن أحيازها وأمكنتها. فإن قال: (بل يجب أن يكون حين الإشارة إليه له حيز معين) فهذا حق، لكن الإشارة إليه ممكنة في كل وقت، فالاختصاص بمعين يجب أن يكون في كل وقت. أما كونه في كل الأوقات لا يكون إلا في ذلك المعين لا في غيره فلا، والأزلي: هو الذي لم يزل، فليس بعض الأوقات أخص به من بعض حتى يقال: يكون في ذلك الوقت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 المعين في حيز معين، بل يجوز أن يكون في وقت في هذا الحيز وفي وقت آخر في حيز آخر. وتمام ذلك ما تقدم ذكره من أن الأزل ليس شيئاً معيناً حتى يطلب له حيز معين، بل هو عبارة عن عدم الأول. البرهان الرابع ثم ذكر الرازي البرهان الرابع والخامس. وليس متعلقين بهذا المكان. ومضمون الرابع: أن (كل ماسوى الواحد ممكن بذاته، وكل ممكن بذاته فهو مفتقر إلى المؤثر. والمؤثر لا يؤثر إلا في الحادث لا في الباقي، سواء كان تأثيره فيه في حال حدوثها أو حال عدمه، لأن التأثير في الباقي من باب تحصيل الحاصل) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 (والمقدمة الأولى من هذه الحجة مبنية على وتوحيد الفلاسفة، وهو نفي التركيب، وأن كل مركب فهو مفتقر إلى أجزائه، وأجزاؤه غيره، وهو في غاية الضعف، كما بسط في غير موضع. والثانية مبنية على أن علة الافتقار هي الحدوث لا الإمكان) . تعليق ابن تيمية قلت: إنه إن أريد بذلك الحدوث مثلاً دليل على أن المحدث يحتاج إلى محدث، أو أن الحدوث شرط في افتقار المفعول إلى الفاعل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 فهذا صحيح. وإن أريد بذلك أن الحدوث هو الذي جعل المحدث مفتقراً إلى الفاعل فهذا باطل. وكذلك الإمكان إذا أريد به أنه دليل على الافتقار إلى المؤثر، أو أنه شرط في الافتقار إلى المؤثر فهذا صحيح. وإن أريد به أنه جعل نفس الممكن مفتقراً فهذا باطل. وعلى هذا فلا منافاة بين أن يكون كل من الإمكان والحدوث دليلاً على الافتقار إلى المؤثر، وشرطاً في الافتقار إلى المؤثر. وإنما النزاع في مسألتين: أحدهما: أن الواجب بغيره هل يصح كونه مفعولاً لمن يقول: الفلك قديم معلول ممكن، فهذا مما ينكره جماهير العقلاء، ويقولون: لا يمكن مقارنته لفاعله أزلاً وأبداً ويقولون: الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا معدوماً تارة وموجوداً أخرى، فنفس المخلوقات مفتقرة إلى الخالق بذاتها، واحتياجها إلى المؤثر أمر ذاتي، لا يحتاج إلى علة، فليس كل حكم ثبت للذوات يحتاج إلى علة، إذ ذلك يفضي إلى تسلسل العلل، وهو باطل باتفاق العلماء، بل من الأحكام ما هو لازم للذوات لايمكن أن يكون مفارقاً للذوات ولا يفتقر إلى علة، وكون كل ما سوى الله فقيراً إليه محتاجاً إليه دائماً هو من هذا الباب. فالفقر والاحتياج أمر لازم ذاتي لكل ما سوى الله، كما أن الغنى والصمدية أمر لازم لذات الله. وهنا ينشأ النزاع في المسألة الثانية، وهو أن المحدث المخلوق هل افتقاره إلى الخالق المحدث وقت الإحداث فقط، أو هو دائماً مفتقر إليه؟ على قولين للنظار. وكثير من أهل الكلام المتلقى عن جهم وأبي الهذيل يقولون: إنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 لا يفتقر إليه إلا في حال الإحداث، لا في حال البقاء، وهذا في مقابلة قول الفلاسفة الدهرية القائلين بأن افتقار الممكن إلى الواجب لا يستلزم حدوثها، بل افتقاره إليه في حال بقائه أزلاً وأبداً، وكلا القولين باطل. وهو في أكثر كتبه ينصر خلاف ذلك، ولكن نحن نقرر أن كل ما سوى الواجب فهو محدث، وأن التأثير لا يكون إلا في حادث، وأن الحدوث والإمكان متلازمان، وهو قول جمهور العقلاء من أهل الملل والفلاسفة، وإنما أثبت ممكناً ليس بحادث طائفة من متأخري الفلاسفة كابن سينا والرازي فلزمهم إشكالات لا محيص عنها - مع أنهم في كتبهم المنطقية يوافقون أرسطو وسلفهم - وهو أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثاً. وقد أنكر ابن رشد قولهم بأن الشيء الممكن الذي يقبل الوجود والعدم يكون قديماً أزلياً، وقال: (لم يقل بهذا أحد من الفلاسفة قبل ابن سينا. قلت: وابن سينا ذكر في الشفاء في مواضع أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثاً، فتناقضى في ذلك تناقضاً في غير هذا الموضع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وقد أورد هو على هذه الحجة معارضة مركبة، تستلزم فساد إحدى المقدمتين، وهي المعارضة بكونه تعالى عالماً بالعلم قادراً بالقدرة، فإن علمه إن كان واجباً لذاته وذاته واجبة أيضاً فقد وجد واجبان، وبطلت المقدمة الأولى، وإن كان ممكناً كان واجباً بغيره لوجوب ذاته، ولزم كون الأثر والمؤثر دائمين وبطلت المقدمة الثانية، ولم يجب عن هذه المعارضة، بل قال: (وأما الجواب عن كونه عالماً بالعلم قادراً بالقدرة فصعب) . وقد اعترض الأرموي على ما ذكره في المقدمتين، أما الأولى فإن الرازي قال: (لو وجد واجبان وجوباً ذاتياً لتشاركا في الوجوب الذاتي وتباينا بالتعيين، فيلزم تركبهما مما به المشاركة والمباينة، وكل مركب مفتقر إلى غيره لافتقاره إلى جزئه، وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته) . قال الأرموي: (ولقائل أن يقول: قد يكون الوجوب والتعيين وصفين عرضيين للماهية البسيطة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 قلت: تقدم الكلام على هذا في التركيب، وذكر ما استدلوا به على امتناع كونه عرضياً، فإن الوصف العرضي يحتاج إلى سبب منفصل عن الذات، فيكون وجوب الواجب مفتقراً إلى شيء غير الواجب، وأيضاً فيكون وجوب الواجب وصفاً عرضياً. وهو ظاهر الفساد، وأيضاً التفريق في الصفات اللازمة للحقيقة بين الذاتي والعرضي تحكم محض. ولكن لقائل أن يقول: قول القائل: تشاركاً في الوجوب الذاتي، أتعني به تشاركهما في مطلق الوجوب، أو أن أحدهما شارك الآخر في الوجوب الذي يخصه؟. فإن أراد الأول، قيل له: وكذلك قد اشتركا في مطلق التعين، فإن هذا واجب، وهذا واجب، وهذا معين وهذا معين، والمعينات مشتركة في مسمى التعين، كما أن الواجبات مشتركة في مسمى الوجوب، والموجودات مشتركة في مسمى الوجود، والماهيات مشتركة في مسمى الماهية، والحقائق مشتركة في مسمى الحقيقة وكذلك سائر الأسماء العامة المطلقة الكلية. وحينئذ فلم يتباينا في مطلق التعيين، كما لم يتباينا في مطلق الوجوب. وإن قال: اشتركا في عين الوجوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 قيل: هذا ممتنع، كما أن اشتراكهما في عين التعين ممتنع. وإن جاء لقائل أن يقول: هذا شارك هذا في نفس وجوبه الذي يخصه، لجاز لآخر أن يقول: إن هذا شارك هذا في نفس تعينه الذي يخصه، وإنما المستدل أخذ الوجوب مطلقاً، وأخذ التعين مقيداً وكان الواجب أن يسوي بينهما في الإطلاق والتعيين، إذ هما متلازمان فإن وجوب هذا ملازم لعينه ووجوب هذا ملازم لعينه، فيمتنع انفكاك أحدهما عن الآخر. ولو عكس عاكس قوله لكان قوله مثل قوله، بأن يقول: اشتركا في التعين الذاتي، فإن لكل منهما تعيناً ذاتياً وتبايناً في الوجوب فإن لكل منهما وجوباً يخصه. ومعلوم أن هذا فاسد، فكذلك نظيره. وفي الجملة فالصفات المتلازمة لا يكون بعضها أخص من بعض، فإذا قدر إنسانان فكل منهما له إنساناً تخصه، وحيوانية تخصه، وناطقية تخصه، وهي متلازمة، لا توجد إنسانيته دون ناطقيته، ولا ناطقيته دون إنسانيته، ولا توجد واحدة منهما دون عينه المعينة، وإن وجد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 إنسانية أخرى وناطقية أخرى، فتلك نظير إنسانيته وناطقيته ليست هي هي بعينها، كما أن هذا الإنسان نظير هذا الإنسان ليس هو إياه بعينه، إلا أن يراد بلفظ العين النوع، كما يقال لمن عمل مثل ما يعمل غيره: هذا عمل فلان بعينه، فالمقصود أنه ذلك النوع بعينه، ليس المقصود أنه ذلك العمل المشخص الذي قام بذات ذلك الفاعل فإنه مخالف للحس، فقد تبين أن الموجودين والواجبين ونحو ذلك لم تركب أحدهما من مشارك ومميز، بل ليس فيه إلا وصف مختص به تميز به عن غيره، وإن كانت صفاته بعضها يشابه فيها غيره وبعضها يخالف فيها غيره. فإذا قيل: لو قدر واجبان أو موجودان إن إنسانان لكان أحدهما يشابه الآخر في الوجوب أو الوجود أو الإنسانية لكان صحيحاً، ولكان يمكن ذلك أنه يشابهه في الحقيقة كما يمكن أن يخالفه. ثم هب أن كلاً منهم فيه ما يشارك به غيره وما يتميز به عنه، فقوله: (إنه مركب مما به الاشتراك والامتياز) إن عنى بذلك أنه موصوف بالأمرين فصحيح، وإن عنى أن هناك أجزاء تركبت ذاته منها فهذا باطل، كقول من يقول: إن الإنسان مركب من الحيوانية والناطقية، فإنه لا ريب أنه موصوف بهما. وأما كون الإنسان المعين له أجزاء تركب منها فهذا باطل كما تقدم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 ولو سلم أن مثل هذا يسمى تركيباً فقوله: (كل مركب مفتقر إلى غيره) يدخل فيه ما ركبه المركب كالأجسام المركبة من مفرداتها من الأغذية والأدوية والأشربة ونحو ذلك، ويدخل فيه ما يقبل تفريق أجزائه كالإنسان والحيوان النبات، ويدخل فيه ما يتميز بعض جوانبه عن بعض، ويدخل فيه الموصوف بصفات لازمة له، وهذا هو الذي أراده هنا. فيقال له: حينئذ يكون المراد أن كل ما كان له صفة لازمة له فلابد في ثبوته من الصفة اللازمة له. وهذا حق. وهب أنك سميت هذا تركيباً فليس ذلك ممتنعاً في واجب الوجود، بل هو الحق الذي لا يمكنه نقيضه. قولك: (المركب مفتقر إلى غيره) معناه أن الموصوف بصفة لازمة له لا يكون موجوداً بدون صفته اللازمة له، لكن سميته مركباً، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وسميت صفته اللازمة له جزءاً وغيراً، وسميت استلزامه إياها افتقاراً، فقولك بعد هذا (كل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته) معناه: أن كل مستلزم لصفة لازمة له لا يكون موجوداً بنفسه، بل بشيء مباين له، ومعلوم أن هذا باطل. وذلك لأن المعلوم أن ما كانت ذاته تقبل الوجود والعدم فلا يكون موجوداً بنفسه، بلا لا بد له من واجب بنفسه يبدعه، وهذا حق فهو مفتقر إلى شيء مباين له لم يكن موجوداً له يبدعه، وهذا هو الغير الذي يفتقر إليه الممكن، وكل ما افتقر إلى شيء مباين له لم يكن موجوداً بنفسه قطعاً. أما إذا أريد بالغير الصفة اللازمة، وأريد بالافتقار التلازم، فمن أين يقال: إن كل ما استلزم صفة لازمة له لا يكون موجوداً بنفسه، بل يفتقر إلى مبدع مباين له؟. وقد ذكرنا مثل هذا في غير موضع، وبينا أن لفظ (الجزء) و (الغير) و (الافتقار) و (التركيب) ألفاظ مجملة موهاً بها على الناس، فإذا فسر مرادهم بها ظهر فساده وليس هذا المقام مقام بسط هذا. ونحن هذا البرهان عندنا صحيح وهو أن كل ماسوى الله ممكن، وكل ممكن فهو مفتقر إلى المؤثر، لأن المؤثر لا يؤثر إلا في حال حدوثه، لكن يقرر ذلك بمقدمات لم يذكرها الرازي هنا، كما بسط في موصع آخر. وأما الجواب عن المعارضة بكون الرب عالماً قادراً، فجوابه: أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 الواجب بذاته يراد به الذات الواجبة بفسها، المبدعة لكل ما سواها، وهذا واحد. ويراد به: الموجود بنفسه الذي لا يقبل العدم. وعلى هذا: فالذات واجبة، والصفات واجبة، ولا محذور في تعداد الواجب بهذا التفسير، كما لا محذور في تعدد القديم إذا أريد به ما لا أول لوجوده. وسواء كان ذاتاً أوصفه لذات القديم، بخلاف ما إذا أريد بالقديم الخالقة لكل شيء، فهذا واحد لا إله إلا هو، وقد يراد بالواجب الموجود بنفسه القائم بنفسه، وعلى هذا: فالذات واجبة دون الصفات. وعلى هذا: فإذا قال القائل: الذات مؤثرة في الصفات، والمؤثر والأثر ذاتان. قيل له: لفظ التأثير مجمل، أتعني بالتأثير هنا: كونه أبدع الصفات وفعلها، أم تعني به كون ذاته مستلزماً لها؟ فالأول ممنوع في الصفات، والثاني مسلم. والتأثير في المبدعات هو بالمعنى الأول، لا بالمعنى الثاني. بل قد بينا في غير هذا الموضع: أنه يمنع أن يكون مع الله شيء من المبدعات قديم بقدمه. البرهان الخامس قال الرازي في البرهان الخامس: (لو كان الجسم قديماً لكان قدمه: إما أن يكون عين كونه جسماً، وإما مغايراً لكونه جسماً والقسمان باطلان، فبطل القول بكون الجسم قديماً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 إنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون قدم الجسم عين كونه جسماً، لأنه لو كان كذلك لكان العلم بكونه جسماً علماً بكونه قديماً، فكما أن العلم بكونه جسماً ضروري، لزم أن يكون العلم بكونه قديماً ضرورياً، ولما بطل ذلك فسد هذا القسم. وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون قدم الجسم زائداً على كونه جسماً لأن ذلك الزائد: إن كان قديماً لزم أن يكون قدمه زائداً عليه، ولزم التسلسل. وإن كان حادثاً فكل حادث فله أول، وكل قديم فلا أول له، فلو كان قدم القديم عبارة عن ذلك الحادث للزم أن يكون ذلك الشيء له أول، وأن لا يكون له أول، وهو محال) . ثم قال: (فإن عارضوا بكونه حادثاً، قلنا: الحادث عبارة عن مجموع الوجود الحاصل في الحال والعدم السابق. ولا يبعد حصول العلم بالوجود الحاصل مع الجهل بالعدم السابق، بخلاف القديم، فإنه لا معنى له إلا نفس وجوده، فظهر الفرق) . ثم قال: وهذا وجه جدلي فيه مباحثات دقيقة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 قال: (وليكن هذا آخر كلامنا في شرح دلائل حدوث الأجسام) . معارضة الأرموي قلت: قال الأرموي: (لقائل أن يقول: ضعف الأصل والجواب لايخفى) . تعليق ابن تيمية قلت: قد بين في غير هذا الموضع فساد مثل هذه الحجة من وجوه، وهي مبنية على أن القديم: هل هو قديم بقدم، أم لا؟ فمذهب ابن كلاب والأشعري - في أحد قوليه - وطائفة من الصفاتية: أنه قديم بقدم، ومذهب الأشعري - في القول الآخر - والقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي علي بن أبي موسى وأبي المعالي الجويني وغيرهم: ليس كذلك، وهم متنازعون في البقاء، فقول الأشعري وطائفة معه: أنه باق ببقاء، وهو قول الشريف وأبي علي بن أبي موسى وطائفة، وقول القاضي أبي بكر وطائفة كالقاضي أبي يعلى نفى ذلك. وحقيقة الأمر: أن النزاع في هذه المسألة اعتباري لفظي، كما قد بسط في غير هذا الموضع وهو متعلق بمسائل الصفات: هل هي زائدة على الذات، أم لا؟ وحقيقة الأمر: أن الذات أن أريد بها الذات الموجودة بالخارج فتلك مستلزمة لصفاتها، يمتنع وجودها بدون تلك الصفات، وإذا قدر عدم اللازم لزم عدم الملزوم، فلا يمكن فرض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 الذات الموجودة في الخارج منفكة عن لوازمها، حتى يقال: هي زائدة أو ليست زائدة، لكن يقدر ذلك تقديراً في الذهن، وهو القسم الثاني، فإذا أريد بالذات ما يقدر في النفس مجرداً عن الصفات، فلا ريب أن الصفات زائدة على هذه الذات المقدرة في النفس، ومن قال من متكلمة أهل السنة: (إن الصفات زائدة على الذات) فتحقيق قوله أنها زائدة على ما أثبته المنازعون من الذات، فإنهم أثبتوا ذاتاً مجردة عن الصفات، ونحن نثبت صفاتها. زائدة على أثبتوه هم، لا أنا نجعل في الخارج ذاتاً قائمة بنفسها ونجعل الصفات زائدة عليها، فإن الحي الذي يمتنع أن لا يكون إلا حياً، كيف تكون له ذات مجردة عن الحياة؟ وكذلك ما لا يكون إلا عليماً قديراً، كيف تكون ذاته مجردة عن العلم والقدرة؟. والذين فرقوا بين الصفات النفسية والمعنوية قالوا: القيام بالنفس والقدم - ونحو ذلك من الصفات النفسية - بخلاف العلم والقدرة، فإنهم نظروا إلى ما لا يمكن تقدير الذات في الذهن بدون تقديره، فجعلوه من النفسية، وما يمكن تقديرها بدونه، فجعلوه معنوياً، ولا ريب أنه لا يعقل موجود قائم بنفسه ليس قائماً بنفسه، بخلاف ما يقدر أنه عالم، فإنه يمكن ذاته بدون العلم. وهذا التقدير عاد إلى ماقدروه في أنفسهم، وإلا ففي نفس الأمر جميع صفات الرب اللازمة له هي صفات نفسية ذاتية، فهو عالم بنفسه وذاته، وهو عالم بالعلم، وهو قادر بنفسه وذاته، وهو قادر بالقدرة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 فله علم لازم لنفسه، وقدرة لازمة لنفسه، وليس ذلك خارجاً عن مسمى اسم نفسه. وعلى كل تقدير فالاستدلال على حدوث الأجسام بهذه الحجة في غاية الضعف، كما اعترفوا هم به، فإن ما ذكروه يوجب أن لا يكون في الوجود شيء قديم، سواء قدر أنه جسم أو غير جسم، فإنه يقال: لو كان الرب - رب العالمين - قديماً لكان قدمه إما أن يكون عين كونه رباً، وإما زائداً على ذلك، والأمران باطلان، فبطل كونه قديماً. أما الأول: فلأنه لو كان كذلك لكان العلم بكونه رباً أو واجب الوجود أو نحو ذلك علماً بكونه قديماً، وهذا باطل. وأما الثاني: فلأن ذلك الزائد إن كان قديماً يلزم أن يكون قدمه زائداً عليه، ولزم التسلسل، وإن كان حادثاً كان للقديم أول، فما كان جواباً عن مواضع الإجماع كان جواباً في مورد النزاع، وإن كان العلم بكونه رب العالمين يستلزم العلم بقدمه، لكن ليس العلم بنفس الربوبية هو العلم بنفس القدم، بل قد يقوم العلم الأول بالنفس مع ذهولها عن الثاني، وقد يشك الشاك في قدمه، مع العلم بأنه ربه، ويخطر له أن للرب رباً حتى يتبين له فساد ذلك. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث الصحيح في قوله: «إن الشيطان يأتي أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ فيقول: الله، فيقول: فمن خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته» وقد بسطت هذا في موضع آخر كما سيأتي إن شاء الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 والمقصود هنا: أن هذه البراهين الخمسة التي احتج بها على حدوث الأجسام قد بين أصحاب المعظمون له ضعفها، بل هو نفسه أيضاً بين ضعفها في كتب أخرى، مثل المطالب العالية وهي آخر ما صنفه وجمع فيها غاية علومه، والمباحث المشرقية وجعل منتهى نظره وبحثه تضعيفها. وقد بسط الكلام على هذا في مواضع، وبين كلام السلف والأئمة في هذا الموضع، كالإمام أحمد وغيره، وكلام النظار الصفاتية كأبي محمد بن كلاب وغيره، وأن القائل إذا قال: عبدت الله، ودعوت الله، وقال: الله خالق كل شيء، ونحو ذلك، فاسمه تعالى يتناول الذات والصفات، ليست الصفات خارجة عن مسمى اسمه، ولا زائدة على ذلك، بل هي داخلة في مسمى اسمه، ولهذا قال أحمد فيما صفنه في الرد على الجهمية نفاة الصفات: (قالوا: إذا قلتم الله وعلمه، والله وقدرته، والله ونوره، قلتم بقول النصارى. فقال لا نقول: الله وعلمه، والله وقدرته، والله ونوره، ولكن الله بعلمه وقدرته ونوره هو إله واحد) فبين أحمد أنا لا نعطف صفاته على مسمى اسمه العطف المشعر بالمغايرة، بل ننطق بما يبين أن صفاته داخلة في مسمى اسمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 ولما ناظره الجهمية في محنته المشهورة، فقال له عبد الرحمن بن إسحاق القاضي: ما تقول في القرآن: أهو الله، أم غير الله؟ يعني إن قلت (هو الله) فهذا باطل، وإن قلت: (غير الله) فما كان غير الله فهو مخلوق. فأجابه أحمد بالمعارضة بالعلم، فقال: ما تقول في علم الله: أهو الله، أم غير الله؟ فقال: أقول في كلامه ما أقوله في علمه وسائر صفاته، وبين ذلك في رده على الجهمية: بأنا لا نطلق لفظ الغير نفياً ولا إثباتاً، إذ كان لفظاً مجملاً، يراد بغير الشيء ما بيانه، وصارت مفارقته له، ويراد بغيره، ما أمكن تصوره بدون تصوره، ويراد به غير ذلك. وعلم الله وكلامه ليس غير الذات بالمعنى الأول، وهو غيرها بالمعنى الثاني، ولكن كونه ليس غير الله بالمعنى الأول فعلى إطلاقه وأما كونه غير الله بالمعنى الثاني ففيه تفصيل، فإن أريد بتصوره معرفته المعرفة الواجبة الممكنة في حق العبد فلا يعرفه هذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 المعرفة من لم يعرف أنه حي عليم قادر متكلم، فلا يمكن تصوره ومعرفته بدون صفاته، فلا تكون مغايرة لمسمى اسمه، وإن أريد أصل التصور، وهو الشعور به من بعض الوجوه، فقد يشعر به من لا يخطر له حينئذ أنه حي ولا عليم ولا متكلم، فتكون صفاته مغايرة له بالاعتبار الثاني. وأجاب أحمد أيضاً بأن الله لم يسم كلامه غيراً، ولا قال: إنه ليس بغير، يعني والقائل إذا قال: ماكان غير الله أو سوى الله فهو مخلوق فإن احتج على ذلك بالسمع فلا بد أن يكون مندرجاً هذا اللفظ في كلام الشارع، وليس كذلك، وإن احتج بالعقل فالعقل إنما يدل على خلق الأمور المباينة له، وأما صفاته القائمة بذاته فليست مخلوقة، والذي يجعلون كلامه مخلوقاً يقولون: هو بائن عنه، والعقل يعلم أن كلام المتكلم ليس ببائن عنه. وبهذا التفصيل يظهر أيضاً الخلل فيما ذكروه من الفرق بين الصفات الذاتية والمعنوية، بأن الذاتية لا يمكن تقدير الذات في الذهن بدون تقديرها، بخلاف المعنوية، فإنه يقال لهم: أم تعنون بتقدير الذات في الذهن، أو تصور الذات، أو نحو ذلك من الألفاظ؟ أتعنون به اصل الشعور والتصور والمعرفة ولو من بعض الوجوه، أم تريدون به التصور والمعرفة والشعور الواجب أو الممكن أو التام؟ فإن عنيتم الأول فما من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 صفة تذكر إلا يمكن أن يشعر الإنسان بالذات مع عدم شعوره بها. وقد يذكر العبد ربه ولا يخطر له حينئذ كونه قديماً أزلياً، ولا باقياً أبدياً، ولا واجب الوجود بنفسه، ولا قائماً بنفسه، ولا غير ذلك. وكذلك قد يخطر له ما يشاهده من الأجسام ولا يخطر له كونه متحيزاً أو غير متحيز. وإن عنيتم الثاني فمعلوم أن الإنسان لا يكون عارفاً بالله المعرفة الواجبة في الشرع، ولا المعرفة التي تمكن بني آدم، ولا المعرفة التامة، حتى يعلم أنه حي عليم قدير، وممتنع، لمن يكون عارفاً بأن الله متصف بذلك إذا خطر بباله ذاته وهذه الصفات: أن يمكن تقدير ذاته موجودة في الخارج بدون هذه الصفات، كما يمتنع أن يقدر ذاته موجودة في الخارج بدون أن تكون قديمة واجبة الوجود قائمة بنفسها، فجميع صفاته تعالى اللازمة لذاته يمتنع مع تصور الصفة والموصوف والمعرفة بلزوم الصفة للموصوف، يمتنع أن يقدر إمكان وجود الذات بدون الصفات اللازمة لها مع العلم باللزوم، وإن قدر عدم العلم باللزوم، أو عدم خطور الصفات اللازمة بالبال، فيمكن خطور الذات بالبال بدون شيء من هذه الصفات وإذا علم لزوم بعض الصفات دون بعض، فما علم لزومه لايمكن تقدير وجود الذات دونه، وما لا يعلم لزومه أمكن الذهن أن يقدر وجوده دون وجود تلك الصفة التي لم يعلم لزومها، لكن هذا الإمكان معناه عدم العلم بالامتناع، لا العلم بالإمكان في الخارج، إذ كل ما لم يعلم الإنسان عدمه فهو ممكن عنده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 إمكاناً ذهنياً بمعنى عدم علمه بامتناعه، لا إمكاناً خارجياً، بمعنى أنه يعلم إمكانه في الخارج. وفرق بين العلم بالإمكان، وعدم العلم بالامتناع، وكثير من الناس يشتبه عليه هذا بهذا، فإذا تصور ما لا يعلم امتناعه، أو سئل عنه، قال: هذا ممكن، وهذا غير ممتنع، وهذا لو فرض وجوده لم يكن من فرضه محال. وإذا قيل له: قولك (إنه لو فرض وجوده لم يلزم منه محال) قضية كلية وسلب عام، فمن أين علمت أنه لا يلزم من فرض وجوده محال، والنافي عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل؟ وهل علمت ذلك بالضرورة المشتركة بين العقلاء، أم بنظر مشترك، أم بضرورة اختصصت بها، أم بنظر اختصصت به؟ فإن كان بالضرورة المشتركة وجب أن يشركك نظراؤك من العقلاء في ذلك، وليس الأمر كذلك عندهم. وإن كان بنظر مشترك، فإين الدليل الذي تشترك فيه أنت وهم؟ وإن كان بضرورة مختصة أو نظر مختص، فهذا أيضاً باطل، لوجهين، أحدهما: أنك تدعي أن هذا مما يشترك فيه العقلاء، ويلزمهم موافقتك فيه، وتدعي أنهم إذا ناظروك كانوا منقطعين معك بهذه الحجة، وذلك يمنع دعواك الإختصاص بعلم ذلك، والثاني: أن اختصاصك بعلم ذلك ضرورة أو نظراً إنما يكون لاختصاصك بما يوجب تخصيصك بذلك، كمن خص بنبوة أو تجربة أو نحو ذلك مما ينفرد به، وأنت لست كذلك فيما تدعي إمكانه. ولا تدعي اختصاصك بالعلم بإمكانه، وإن ادعيت ذلك لم يلزم غيرك موافقتك في ذلك، إن لم تقم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 عليه دليلاً يوجب موافقتك، سواء كان سمعياً أو عقلياً، وأنت تدعي أن هذا من العلوم المشتركة العقلية، وهذه الأمور لبسطها موضع آخر. والمقصود هنا التنبيه على هذا الأصل الذي نشأ منه التنازع أو الاشتباه في مسأئل الصفات من هذا الوجه. وتفريق هؤلاء المتلكمين في الصفات اللازمة للموصوف بين ما سموها نفسية وذاتية، وما سموها معنوية، يشبه تفريق المنطقيين في الصفات اللازمة بين ما سموه ذاتياً مقوماً داخلاً في الحقيقة، وما سموه عرضياً خارجاً عن الذات، مع كونه لازماً لها. وتفريقهم في ذلك بين لازم الماهية ولازم وجود الماهية. كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع. وبين أن هذه الفروق إنما تعود عند الحقيقة إلى الفرق بين ما يتصور في الأذهان، وهو الذي قد يسمى ماهية، وبين ما يوجد في الأعيان، وهو الذي قد يسمى وجودها، وأن ما يتصور في النفس من المعاني ويعبر عنه بالألفاظ: له لفظ دل عليه بالمطابقة هو الدال على تلك الماهية، وله جزء من المعنى هو جزء تلك الماهية، واللفظ المذكور دال عليه بالتضمن، وله معنى يلزمه خارج عنه، فهو اللازم لتلك الماهية الخارج عنها. واللفظ يدل عليه باللالتزام، وتلك الماهية التي في الذهن، هي بحسب ما يتصوره الذهن من الصفات الموصوف. تكثر تارة وتقل تارة، وتكون تارة مجملة وتارة مفصلة، وأما الصفات اللازمة للموصوف في الخارج فكلها لازمة له، لا تقوم ذاته مع عدم شيء منها، وليس منها شيء يسبق الوصوف في الوجود العيني، كما قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 يزعمونه من أن الذاتي يسبق الموصوف في الذهن والخارج، وتلك الصفات هي أجزاء الماهية المتصورة في الذهن، كما أن لفظ كل صفة جزء من تلك الألفاظ، إذا قلت: جسم حساس نام مغتذ متحرك بالإرادة ناطق، وأما الموصوف الموجود في الخارج كالإنسان، فصفاته قائمة به حالة فيه، ليست أجزاء الحقيقة الموجودة في الخارج سابقة عليها سبق الجزء على الكل، كما يتوهمه من يتوهمه من هؤلاء الغالطين كما قد بسط في موضعه. وقول هؤلاء المتكلمين في الصفات اللازمة (إنها زائدة على حقيقة الموصوف (يشبه قول أولئك (إن الصفات اللازمة العرضية خارجة عن حقيقة الموصوف) وكلا الأمرين منه تلبيس واشتباه، حاد بسببه كثير من النظار الأذكياء، وكثر بينهم النزاع والجدال، والقيل والقال، وبسط هذا له موضع آخر. وإنما المقصود هنا التنبيه على ذلك والله أعلم وأحكم، وإن كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 قد بسط الكلام على ضعفها في غير هذا الموضع، مع أن هذا الذي ذكره مستوعب لما ذكره غيره من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم في ذلك. طريقة الآمدي في الاستدلال على حدوث العالم وكان المقصود ما ذكروه في تناهي الحوادث، ولهذا لم يعتمد الآمدي في مسألة حدوث العالم على شيء من هذه الطرق، بل بين ضعفها، واحتج بما هو مثلها أو دونها في الضعف، وهو أن الأجسام لا تنفك عن الأعراض، والأعراض لا تبقى زمانين، فنكون حادثة، وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث، وهذا الدليل مبني على مقدمتين: على أن كل عرض في زمان، فهو لايبقى زمانين، وجمهور العقلاء يقولون: إن هذا مخالف للحس والضرورة، وعلى امتناع حوادث لا أول لها، وقد عرف الكلام في ذلك، والوجوه التي ضعف بها الآمدي ما احتج به من قبله على حدوث الأجسام يوافق كثير منها ما ذكره الأرموي، وهو متقدم على الأرموي. فإما أن يكون الأرموي رأى كلامه وأنه صحيح فوافقه، وإما أن يكون وافق الخاطر الخاطر، كما يوافق الحافر الحافر، أو أن يكون الآرموي والآمدي أخذا ذلك أو بعضه من كلام الرازي أو غيره. وهذا الاحتمال أرجح، فإن هذين وأمثالهما وقفوا على كتبه التي فيها هذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 الحجج، مع أن تضعيفها مما سبق هؤلاء إليه كثير من النظار. ومن تكلم من النظار ينظر ما تكلم به من قبله، فإما أن يكون أخذه عنه، أو تشابهت قلوبهم. وبكل حال فهما - مع الرازي ونحوه - من أفضل بني جنسهم من المتأخرين، فاتفاقهما دليل على قوة هذه المعارضات، لا سيما إذا كان الناظر فيها ممن له بصيرة من نفسه يعرف بها الحق من الباطل في ذلك، بل يكون تعظيمه لهذه البراهين لأن كثيراً من المتكلمين من هؤلاء وغيرهم اعتمد عليها في حدوث الأجسام، فإذا رأى هؤلاء وغيرهم من النظار قدح فيها وبين فسادها علم أن نفس النظار مختلفون في هذه المسالك، وأن هؤلاء الذين يحتجون بها هم بعينهم يقدحون فيها، وعلى القدح فيها استقر أمرهم، وكذلك غيرهم قدح فيها، كأبي حامد الغزالي وغيره. وليس هذا موضع استقصاء ذكر من قدح في ذلك. وإنما المقصود القدح في هذه المسالك التي يسمونها براهين عقلية ويعارض بها نصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف. ثم إن نفس حذاقهم قدحوا فيها. مسلك الآمدي على إثبات حدوث الأجسام فأما المسلك الأول الذي ذكره الرازي فقال الآمدي: (المسلك السادس لبعض المتأخرين من أصحابنا في الدلالة على إثبات حدوث الأجسام، وهو أنه لو كانت الأجسام أزلية، لكانت في الأزل: إما أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 تكون متحركة أو ساكنة) وساق المسلك إلى آخره. ثم قال: (وفيه وفي تقريره نظر، وذلك أن القائل يقول: إما أن تكون الحركة عبارة عن الحصول في الحيز بعد الحصول في حيز آخر، والسكون عبارة عن الحصول في الحيز بعد أن كان في ذلك الحيز، أو لا تكون كذلك. فإن كان الأول فقد بطل الحصر بالجسم في أول زمان حدوثه فإنه ليس متحركاً لعدم حصوله في الحيز بعد أن كان في حيز آخر وليس ساكناً لعدم حصوله في الحيز بعد أن كان فيه، وإن كان الثاني فقد بطل ما ذكره في تقرير كون السكون أمراً وجودياً، ولا محيص عنه. فإن قيل: الكلام إنما هو في الجسم في الزمن الثاني، والجسم في الزمن الثاني ليس يخلو عن الحركة والسكون بالتقسير المذكور، فهو ظاهر الإحالة، فإنه إذا كان الكلام في الجسم إنما هو في الزمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 الثاني من وجود الجسم، فالزمن الثاني ليس هو حالة الأزلية، وعند ذلك لا يلزم أن يكون الجسم أزلاً لا يخلو عن الحركة والسكون) . قال: (وإن سلمنا الحصر فلم قلتم بامتناع كون الحركة أزلية؟ وما ذكروه من الوجه الأول في الدلالة فإنما يلزم أن لو قيل بأن الحركة الواحدة بالشخص أزلية، وليس كذلك، بل المعنى يكون الحركة أزلية أن أعداد أشخاصها المتعاقبة لا أول لها، وعند ذلك فلا منافاة بين كون كل واحدة من آحاد الحركات المشخصة حادثة ومسبوقة بالغير، وبين كون جملة آحادها أزلية بمعنى أنها متعاقبة إلى غير النهاية) . قال: (وما ذكروه في الوجه الثاني باطل أيضاً، فإن كل واحدة من الحركات الدورية وإن كانت مسبوقة بعدم لا بداية له، فمعنى اجتماع الأعدام السابقة على كل واحدة من الحركات في الأزل: أنه لا أول لتلك الأعدام ولا بداية، ومع ذلك فالعدم السابق على كل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 حركة وإن كان لا بداية له، فيقارنه وجود حركات قبل الحركة المفروضة لا نهاية لها على جهة التعاقب) أي: يعاقبه وجود حركات لا نهاية لها قبل الحركة المفروضة (وليس فيه مقارنة السابق للمسبوق وعلى هذا فيكون الكلام في العدم السابق على حركة حركة، وعلى هذا فحصول شيء من الموجودات الأزلية مع هذه الأعدام أزلاً على هذا النوع لا يكون ممتنعاً، إذ ليس في مقارنة للمسبوق على ما عرف) . قال: (وفيه دقة فليتأمل) . تعليق ابن تيمية قلت: هذا هو الاعتراض الذي ذكره الأرموي، وقد ذكره غيرهما، والظاهر أن الأرموي تلقى هذا عن الآمدي، وهم يقولون: اجتماع الأعدام لا معنى له سوى أنها مشتركة في عدم البداية والأولية، وحينئذ فعدم كل حركة يمكن أن يقارنه وجود أخرى، وليس فيه مقارنة السابق للمسبوق. وهذا الذي قالوه صحيح. لكن قد يقال: هذا الاعتراض إنما يصح لو كان احتج بأن في ذلك مقارنة السابق للمسبوق فقط، وهو لم يحتج إلا بأن العدمات تجتمع في الأزل، وليس معها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 شيء من الموجودات، إذ كان معها موجود لكان هذا الموجود مقارناً لتلك العدمات المجتمعة، منها عدمه، فاقترن السابق والمسبوق، فعمدته اجتماعها في الأزل. وقد قالوا له: إن عنيت باجتماعها تحققها بأسرها معاً حيناً، فهو ممنوع، لأنه من من حين يفرض إلا وينتهي واحد منها. وهو يقول: أنا لم أعن باجتماعهما في حين حادث، ليلزمني انتهاء واحد منها، وإنما قلت: هي مجتمعة في الأزل. وفصل الخطاب أن يقال: العدم ليس بشيء، وليس لعدم هذه الحركة حقيقة ثابتة مغايرة لعدم الأخرى، حتى يقال: إن أعدامها اجتمعت في الأزل، أو لم تجتمع، بل معنى حدوث كل منها أنهاكانت بعد أن لم تكن، وكون الحوادث كلها مشتركة في أنها لم تكن لا يوجب أن يكون عدم كونها حقائق متغايرة ثابتة في الأزل. يوضح ذلك أن يقال: أتعني بكونها مسبوقية بالعدم أن جنسها مسبوق بالعدم، أو كل واحد منها مسبوق بالعدم؟ أما الأول فهو محل النزاع، وأما الثاني فإذا قدر أن كل واحد كان بعد أن لم يكن - والجنس لم يزل كائناً - لم يجز أن يقال: الجنس كائن بعد أن لم يكن، ولا يلزم من كون كل من أفراده مسبوقاً بعدم أن يكون الجنس مسبوقاً بالعدم، إلا إذا ثبت حدوث الجنس، وهو محل النزاع. وعدم الحوادث هو نوع واحد ينقضي بحسب الحدوث، فكلما حدث حادث انقضى من ذلك العدم ذلك الحادث، ولم ينقض عدم غيره، فالأزلي حينئذ عدم أعيان الحوادث، كما أن الأزلي عند من يقول بأنه لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 أول لها هو جنس الحوادث، فجنس وجودها أزلي، وعدم كل من أعيانها أزلي، ولا منافاة بين هذا وهذا إلا أن يثبت وجوب البداية، وهو محل النزاع. إيراد أحد المتكلمين الدليل على وجه آخر وبهذا يظهر الجواب عما ذكره بعضهم في تقرير هذا الوجه، فإن بعضهم لما رأى ما أوردوه على ما ذكره الرازي حرر الدليل على وجه آخر فقال: القول بكون كل من الحركات الجزئية مسبوقاً بأخرى لا إلى أول يستلزم المحال فيكون محالاً. بيان الأول: أن كل واحد منه من حيث إنه حادث يقتضي أن يكون مسبوقاً بعدم أزلي، لأن كل حادث مسبوق بعدم أزلي، فهذا يقتضي أن تكون تلك العدمات مجتمعة في الأزل، ومن حيث إنه ما من جنس يفرض إلا وجب أن يكون فرد منها موجوداً يقتضي ألا تكون تلك العدمات مجتمعة في الأزل، وإلا لزم أن يكون السابق مقارناً للمسبوق، ولا شك أن اجتماعهما في الأزل وعدم اجتماعهما فيه متناقضان، فالمستلزم له محال. فيقال لمن احتج بهذا الوجه: العدم الأزلي السابق على كل من الحوادث إن جعلته شيئاً ثابتاً في الأزل متميزاً عن عدم الحادث الآخر فهذا ممنوع، فإن العدم الأزلي لا امتياز فيه أصلاً ولا يعقل حتى يقال: إن هناك أعداماً، ولكن إذا حدث حادث علم أنه انقضى عدمه الداخل في ذلك النوع الشامل لها، وليس شمول جنس الموجودات لها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 كشمول جنس العدم للمعدومات، فإن الموجودات لها امتياز في الخارج، فشخص هذا الموجود متميز في الخارج عن شخص الآخر وأما العدم فليس بشيء أصلاً في الخارج، ولا امتياز فيه بوجه من الوجوه. ولكن هذا الدليل قد بني على قول من يقول: المعدوم شيء ولا يبعد أن يكون الرازي أخذ هذا الوجه من المعتزلة القائلين بهذا فإنهم يثبتون المعدوم شيئاً، فيكون هذا الحادث في حال عدمه شيئاً وهذا الحادث في حال عدمه شيئاً، وحينئذ فللحوادث أعدام متميزة ثابتة في الأزل. وهؤلاء القائلون بهذا يقولون ذلك في كل معدوم ممكن، سواء حدث أو لم يحدث، فإذا قال القائل: (للحوادث أعدام أزلية ثابتة في الأزل متميزة) لم يتوجه إلا على قول هؤلاء، وهذا القول قد عرف فساده. وبتقدير تسليمه فيجاب عنه بما ذكره هؤلاء، وهو أن اجتماعه في الأزل بمعنى غير انتفاء البداية ممتنع، وعدم البداية ليس أمراً موجوداً حتى يعقل فيه اجتماع. وعلى هذا فيقال: لا نسلم أن الأزل شيء مستقر أو شيء موجود، وليس للأزل حد محدود حتى يعقل فيه اجتماع، بل الأزل عبارة عن عدم الابتداء، وما لا ابتداء له فهو أزلي، وما لا انتهاء له فهو أبدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 وما من حين يقدر موجوداً إلا وليس هو الأزل، ففي كل حين بعضهما موجود وبعضها معدوم، فوجود البعض مقارن لقدم البعض دائماً وحينئذ فاجتماعها في الأزل معناه اشتراكهما في أن كل واحد ليس له أول، وعدم اجتماعها فيه معناه أنه لم يزل في كل حين واحد منها موجوداً، وعدمه زائلاً، ولا تناقض بين اشتراكها في عدم الابتداء، ووجود أشخاصها دائم، إلا إذا قيل: يمتنع جنس الحوادث الدائمة. وقد اعترض المستدل بهذا على ما ذكره الآمدي والأرموي في الوجه الأول. قال: فإن قلت: الأزلي الحركة الكلية، بمعنى أن كل فرد منها مسبوق بالآخر، لا إلى أول، لا أفرادها الموجودة التي تقتضي المسبوقية بالغير. ثم قال: قلت: فحينئذ ما هو المحكوم عليه بالأزلي غير موجود في الخارح، لامتناع وجود الحركة الكلية في الخارج، وما هو موجود منها في الخارج فهو ليس بأزلي. ولقائل أن يقول: هذا غلط نشأ من الإجمال الذي لفظ الكلي. وذلك أنه إنما يمتنع وجود الكلي في الخارج مطلقاً، إذا كان مجرداً عن أفراده، كوجود إنسان مطلق، وحيوان مطلق، وحركة مطلقة، لا تختص بمتحرك. ولا بجهة ولون مطلق، لا يكون أبيض ولا أسود، ولا غير ذلك من الألوان المعينة. فإذا قدر حركة مطلقة لا تختص بمتحرك معين كا ن وجودها في الخارج ممتنعاً. وأما الحركات المتعاقبة، فوجود الكلي فيها هو وجود تلك الأفراد، كما إذا وجد عدة أناسى فوجود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 الإنسان الكلي هو وجود أشخاصه، ولا يحتاج أن يثبت للكلي في الخارج وجوداً غير وجود أشخاصه، بل نفس وجود أشخاصه هو وجوده. ومعلوم إنه إذا أريد بوجود الكلي في الخارج وجود أشخاصه لا ينازع فيه أحد من العقلاء، وإن كانوا قد يتنازعون في أن الكلي المطلق لا بشرط، وهو الطبيعي: هل هو موجود في الخارج، أم لا؟ وحيئنذ فمرادهم بوجود الحركة الكلية في الخارج هو وجود أفرادها المتعاقبة شيئاً بعد شيء، فكل فرد مسبوق بالغير، وليس هذا الجنس المتعاقب الذي يوجد بعضهم شيئاً فشيئاً بمسبوق بالغير. وإن شئت قلت: لا نسلم أن الكلي لا يوجد في الخارج، ولكن نسلم أنه لا يوجد في الخارج كلياً، وهذا هو الكلي الطبيعي، وهو المطلق لا بشرط، كمسمى الإنسان لا بشرط، فإنه يوجد في الخارج، لكن معيناً مشخصاً، وتوجد أفراده إما مجتمعة وإما متعاقبة، كتعاقب الحوادث المستقبلة، فوجود الحركات المعينة كوجود سائر الأشياء المعينة، ووجود مسمى الحركة كوجود سائر المسميات الكلية، والمحكوم عليه بالأزلية هو النوع الذي لا يوجد إلا شيئاً فشيئاً، لا يوجد مجتمعاً. فإن قال القائل (مسمى الحركة ليس بموجود في الخارج على وجه الاجتماع، كما يوجد من أفراد الإنسان) فقد صدق، وإن قال (إنه لا يوجد شيئاً فشيئاً) فهذا ممنوع. وم قال ذلك لزمه أن لا يوجد في الخارج حركة أصلاً، لا متناهية ولا غير متناهية، وهذا مخالف للحس والعقل. وقد تفطن ابن سينا لهذا الموضع، وتكلم في وجود الحركة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 بكلام له، وقد نقله عنه الرازي وغيره، وقد تكلمنا عليه وبينا فساده فيما سيأتي إن شاء الله. قال الآمدي: (وباقي الوجوه في الدلالة ما ذكرناه في امتناع حوادث غير متناهية في إثبات واجب الوجود، وقد ذكرت فلا حاجة إلى إعادتها) . وهو قد ذكر قبل ذلك في امتناع ما لا يتناهى أربعة طرق، فزيفها واختار طريقاً خامساً، الأول: التطبيق، وهو أن يقدر جملة (فلو كا ما قبلها لا نهاية له، فلو فرضنا زيادة متناهية على الجملة المفروضة، ولتكن الزيادة عشرة مثلا، فالجملة الأولى: إما أن تكون مساوية لنفسها مع فرض الزيادة عليها، أو أزيد، أو أنقص. والقول المساواة والزيادة محال، فإن الشيء لا يكون مع غيره كهو لا مع غيره، ولا أزيد. وإن كانت الجملة الأولى ناقصة بالنظر إلى الجملة الثانية، فمن المعلوم أن التفاوت بينهما إنما هو بأمر متناه، وعند ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 فالزيادة لا بد أن يكون لها نسبة إلى الباقي بجهة من جهات النسب على نحو زيادة المتناهي على المتناهي. ومحال أن يحصل بين ما ليس بمتناهيين النسبة الواقعة بين المتناهيين. وأيضاً فإنه إذا كانت إحدى الجملتين أزيد من الأخرى بأمر متناه، فليطبق بين الطرفين الآخرين، بأن تأخذ من الطرف الأخير من إحدى الجملتين عدواً مفروضاً، ومن الأخرى مثله، وهلم جراً، فإما أن يتسلسل الأمر إلى غير النهاية، فيلزم منه مساواة الانقص للأزيد في كلا طرفيه: وهو محال. وإن قصرت الجملة الناقصة في الطرف الذي لانهاية له فقد تناهت، والزائدة إنما زادت على الناقصة بأمر متناه، وكل ما زاد على المتناهي بأمر متناه فهو متناه) . قال: (وهذا لا يستقيم لا على قواعد الفلاسفة، وعلى قواعد المتكلمين) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 أما الفلاسفة فإنهم قضوا بأن كل ما له ترتيب وضعي كالأبعاد والامتدادات، أو الترتيب الطبيعي وآحاده موجودة معاً كالعلل والمعلولات، فالقول بعدم النهاية فيه مستحيل، وما سوى وذلك فالقول بعدم النهاية فيه غير مستحيل، وسواء كانت آحاده موجودة معاً كالنفوس بعد مفارقة الأبدان أو هي على التعاقب والتجدد كالأزمنة والحركات الدورية، فإن ما ذكروه - وإن استمر لهم فيما قضوا فيه بالنهاية - فهو لازم لهم فيما قضوا فيه بعدم النهاية. وعند ذلك فلا بد من بطلان أحد الأمرين: إما الدليل إن كان اعتقادهم عدم النهاية حقاً، وإما اعتقاد عدم النهاية إن كان الدليل حقاً، لاستحالة الجمع) . قال: (وليس لما يذكره الفيلسوف من جهة الفرق بين العلل والمعلولات والأزمنة والحركات قدح في الجمع، وهو قوله: إن ما لا ترتيب له وضعاً، ولا آحاده موجودة معاً - وإن كان ترتيبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 طبيعياً - فلا يمكن فرض جواز قبوله الانطباق، وفرض الزيادة والنقصان فيه، بخلاف مقابله، لأن المحصل يعلم أن الاعتماد على هذا الخيال في تناهي ذوات الأضلاع، وفيما له الترتيب الطبيعي وآحاده موجودة معاً، ليس إلا من جهة إفضائه إلى وقوع الزيادة والنقصان بين ما ليس بمتناهيين، وذلك إنما يمكن بفرض زيادة على ما فرض الوقوف عنده من نقطة ما من البعد المفروض أو وحدة ما من العدد المفروض، وعند ذلك فلا يخفى إمكان فرض الوقوف على جملة من أعداد الحركات والنفوس الإنسانية المفارقة لأبدانها، وجواز فرض الزيادة عليها بالتوهم مما هو من نوعها، وإذ ذاك فالحدود المستعملة في القياس المذكور في محل الاستدلال بعينها مستعملة في صورة الإلزام، مع اتحاد صورة القياسية من غير فرق. وأيضاً، فليس كل جملتين تفاوتتا بأمر متناه تكونان متناهيتين فإن عقود الحساب مثلاً لا نهاية لأعدادها، وإن كانت الأوائل أكثر من الثواني بأمر متناه وهذه الأمور - وإن كانت تقديرية ذهنية - فلا خفاء أن وضع القياس المذكور فيها على نحو وضعه في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 الأمور الموجودة بالفعل، فلا تتوهمن الفرق واقعاً من مجرد هذا الاختلاف. والقول بأن ما زادت به إحدى الجملتين على الأخرى لابد وأن تكون له نسبة إلى الثاني غير مسلم، ولا يلزم من قبول المتناهي لنسبة المتناهي إليه قبول غير المتناهى لنسبة المتناهى إليه) . حول إبطال القول بعدم النهاية قال: (وأما المتكلم فله في إبطال القول بعدم النهاية طرق، الأول: ما أسلفناه من الطريقة المذكورة، ويلزم عليه ما ذكرناه، ما عدا التناقض اللازم للفيلسوف من ضرورة اعتقاد عدم النهاية، فيما ذكرناه من الصور وعدم اعتقاد المتكلم لذلك، غير أن المناقضة لازمة للمتكلم من جهة اعتقاده عدم النهاية في معلومات الله تعالى ومقدوراته، مع وجود ما ذكرناه من الدليل الدال على وجوب النهاية فيها) . قال: (وما يقال: من أن المعني بكون المعلومات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 والمقدورات غير متناهية صلاحية العلم لتعلقه بما يصح أن يعلم، وصلاحية القدرة لتعلقها بكل ما يصح أن يوجد، وما يصح أن يعلم ويوجد غير متناه، لكنه من قبيل التقديرات الوهمية، والتجويزات الإمكانية، وذلك مما لا يمتنع كونه غير متناه، بخلاف الأمور الوجودية، والحقائق العينية. فلا أثر له في القدح أيضاً، فإن هذه الأمور - وإن لم تكن من موجودات الأعيان، غير أنها متحققة في الأذهان، ولا يخفى أن نسبة ما فرض استعماله فيما له وجود ذهني على نحو استعماله فيما له وجود عيني) . تعليق ابن تيمية قلت: التفريق بين الشيئين يحتاج إلى ثبوت الوصف الفارق وثبوت تأثيره، والآمدي سلم لهم الوصف ونازعهم في كونه مؤثراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 والتحقيق أن ما ذكروه من الوصف متوحه في القدرة، فإن تعلقها بالمعدوم من باب التجويز، بخلاف العلم فإن فساد تعلقه بالمعدوم ليس من باب التجويز، فإن المعدوم هنا معلوم للعالم، ليس المراد بذلك أن ثم صفة تصلح أن يعلم بها المعدوم إذا وجد، بل هو معلوم قبل وجوده، بخلاف القدرة فإن تعلقها بالمعدوم معناه أنها صفة صلاحة لتعلق المعدوم إذا وجد. قلت: وأيضاً فإن قول القائل: المعني بكون المعلومات والمقدروات غير متناهية هو صلاحية العلم والقدرة للتعلق، وهو وإن سلم في القدرة، فلا يسلم في العلم، فإن الكلام ليس هو في إمكان العلم بها، بل في العلم الذي يقال إنه علم موجود أزلي متعلق بما لا نهاية له، وهذا أمر موجود. وعن هذه الشبهة صار طائفة من النظار إلى استرسال العلم على آحاد نوع العرض، كما قاله أبو المعالي، وحكي ذلك عن أبي الحسين البصري وداود الجواربي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 قال أبو المعالي: (الأجسام جنس واحد، والأعراض أجناسها محصورة، وأفراد الجنس غير محصورة) قال: (فلا يجوز وجود أجناس لا تتناهى، لأنه يجب حينئذ وجود ما لا يتناهى في العلم، والدليل دال على نفي النهاية في هذا وهذا) . قال: (وأما آحاد الأعراض فإن العلم يسترسل عليها استرسالاً، وأما الجواب بصلاحية التعلق فهو جواب الشهرستاني ونحوه) . الثاني قال: (الطريق الثاني - يعني في بيان امتناع ما لا نهاية له - قوله: لو وجد أعداد لا نهاية لها لم تخل: إما أن تكون شفعاً أو وتراً، أو شفعاً ووتراً معاً. أو لا شفعاً ولا وتراً، فإن كانت شفعاً فهي تصير وتراً بزيادة واحد، وإن كانت وتراً فهي تصير شفعاً بزيادة واحد، وإعواز الواحد لما لا يتناهى محال، وإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 كانت شفعاً ووتراً فهو محال، لأن الشفع ما يقبل الانقسام بمتساويين، والوتر غير قابل لذلك، والعدد الواحد لا يكون قابلاً وغير قابل له معاً، وإن لم يكن شفعاً ولاوتراً، فيلزم منه وجود واسطة بين النفي والإثبات، وهو محال، وهذه المحالات إنما لزمت من القول بعدد لا نهاية له، فالقول به محال) . قال: (وهو محال من النمط الأول في الفساد، لوجهين: الأول: قد نسلم استحالة الشفعية أو الوترية فيما لا نهاية له، والقول بأن ما لا يتناهى لا يعوزه الواحد الذي به يصير شفعاً إن كان وتراً أو وتراً إن كان شفعاً، فدعوى مجردة، ومحض استبعاد لا دليل عليه. الوجه الثاني: أنه يلزم عليه عقود الحساب، ومعلومات الله تعالى ومقدوراته، فإنها غير متناهية إمكاناً، مع إمكان إجراء الدليل المذكور فيها) . تعليق ابن تيمية قلت: ولقائل أن يقول: أما الوجه الأول فضعيف، فإن كون ما لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 يتناهى معوزاً للواحد كالمعلوم فساده بالضرورة، بل يمكن أن يقال: ما لا يتناهى لا يمكن أن يكون لا شفعاً ولاوتراً، لأن الشفع والوتر نوعا جنس العدد المحصور الذي له طرفان: مبدأ، ومنتهى. فأما إذا قدر ما لا مبدأ ولا منتهى له فليس عدداً محصوراً، فلا يكون شفعاً ولا وتراً، كما يقولوه المسلمون وغيرهم من أهل الملل فيما يحدثه الله تعالى في المستقبل من نعيم الجنة: إنه لا شفع ولا وتر. وهذا أيضاً قول الفلاسفة الطبيعية والإلهية: إن ما لا نهاية له لا يكون شفعاً ولا وتراً، وذلك أن ما لا نهاية له ليس طرفان. والشفع: ما يقبل الانقسام بقسمين متساويين، وهذا إنما يعقل فيما له طرفان منتهيان، وإذا لم يمكن أن يكون شفعاً لم يمكن أن يكون وتراً. وأما عقود الحساب فالمقدر منها في الذهن محصور متناه، وما لا يتناهى لا تقدره الأذهان، بل كل مايضعفه الذهن من عقود الحساب فهو متناه، والمراتب في نفسها متناهية، ولكن إحدى المرتبتين لو وجدت أفرادها في الخارج لكانت أكثر من الأولى، وليس ذلك تفاوتاً في أمور موجودة، ولا في الأذهان ولا في الأعيان. الثالث قال أبو الحسن الآمدي: (الطريق الثالث: أنه لو وجد أعداد لا نهاية لها. فكل واحد منها محصور بالوجود، فالجملة محصورة بالوجود، وما لا يتناهى لا ينحصر بحاصر) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 قال: (وهو أيضاً فاسد لثلاثة أوجه: الأول: لا نسلم أن الوجود زائد على الموجود، حتى يقال: يكون الوجود حاصراً له، بل الوجود هو ذات الموجود وعينه على ما يأتي. الثاني: وإن كان زائداً على كل واحد من آحاد الجملة، فلا نسلم كونه حاصراً بل عارض مقارن لكل واحد من الآحاد والمعارض المقارن للشيء لايكون حاصراً له. الثالث: سلمنا أن الوجود حاصر لكل واحد من آحاد الجملة، ولكن لا نسلم أن الحكم على الآحاد يكون حكماً على الجملة، ولهذا يصدق أن يقال لكل واحد من آحاد الجملة: إنه جزء الجملة، ولا يصدق على الجملة أنها جزء الجملة) . تعليق ابن تيمية ولقائل أن يقول: في إفساد هذا الوجه أيضاً: قول القائل (إنه محصور في الوجود) أيريد به أن هناك سوراً موجوداً حصر ما يتناهى أو ما لا يتناهى بين طرفيه، أم يريد به أنه موصوف بكونه موجوداً؟ فإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 أراد الأول فهو باطل، فإنه ليس للموجودات شيء خارج عن الموجودات يحصرها. سواء قيل: إنها متناهية أو غير متناهية، وإن قيل: إن كل واحد مما لا يتناهى من الموجودات فهو موجود، فهذا حق. فإذا سمى المسمى هذا حصراً كان هذا إطلاقاً لفظياً، وكان قوله حينئذ (ما لا يتناهى لا يكون محصوراً) بمنزلة قوله (لا يكون موجوداً) وهذا محل النزاع، فقد غير العبارة، وصادر على المطلوب. ثم ما لا يتناهى في المستقبل موجود باتفاق أهل الملل وعامة الفلاسفة، ولم ينازع في ذلك إلا من شذ كالجهم وأبي الهذيل ونحوهما ممن هو مسبوق بإجماع المسلمين، محجوج بالكتاب والسنة، مخصوم بالأدلة العقلية مع مخالفة جماهير العقلاء من الأولين والآخرين، وهو مع هذا محصور بالوجود، كما أن ما لا يتناهى في الماضي محصور بالوجود، لكنهم يفرقون بأن الماضي دخل في الوجود، بخلاف المستقبل، ومنازعوهم يقولون: الماضي دخل، ثم خرج، فصارا جميعاً معدومين، والمستقبل لم يدخل في الوجود، وهة تفريق صوري، حقيقته أن الماضي كان وحصل، والمستقبل لم يحصل بعد. فيقال لهم: ولم قلتم: إن كل ما حصل وكان يمتنع أن يكون دائماً لم يزل؟ وهو وإن كان متناهياً من الجانب الذي يلينا فالمستقبل أيضاً متناه في هذا الواجب، وإنما الكلام في الطرفين الآخرين. وأيضاً فالحوادث الماضية عدمت بعد وجودها، فهي الآن معدومة، كما أن الحوادث المستقبلة الآن معدومة، فلا هذا موجود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 ولا هذا موجود الآن، وكلاهما له وجود في غير هذا الوقت، ذاك في الماضي، وهذا في المستقبل، وكون الشيء ماضياً ومستقبلاً أمر إضافي بالنسبة إلى ما يقدر متأخراً عن الماضي ومتقدماً على المستقبل، وإلا فكل ماض قد كان مستقبلاً، وكل مستقبل سيكون ماضياً، كما أن كل حاضر قد كان مستقبلاً، وسيصير ماضياً. الرابع قال الآمدي: (الطريق الرابع: أنه لو وجد ما لا يتناهى، فما من وقت يقدر إلا وهو متناه في ذلك الوقت، وانتهاء ما لا يتناهى محال) . قال: (وهو أيضاً غير سديد، فإن الانتهاء من أحد الطرفين - وهو الأخير - وإن سلمه الخصم، فلا يوجب النهاية في الطرف الآخر. ثم يلزم عليه عقود الحساب، ونعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، فإنه وإن كان متناهياً من طرف الابتداء فغير متناه إمكاناً في طرف الاستقبال) . تعليق ابن تيمية قلت: هذا الوجه من جنس الوجه السادس الذي ذكره الرازي، وهو أنه: (لو كانت الحوادث الماضية غير متناهية كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 وجود اليوم موقوفاً على انقضاء ما لا نهاية له، وانقضاء ما لا نهاية له محال، والموقوف على المحال محال) . وقد اعترض عليه الأرموي بما اعترض به هو وغيره، بأن انقضاء ما لا نهاية له محال. وأما انقضاء ما لا بداية له ففيه النزاع، وهو من جنس جواب الآمدي، فإن الانتهاء الذي يسلمه الخصم هو من أحد الطرفين دون الآخر، والآخر هو الابتداء. وقد تقدم ذلك. كلام آخر للآمدي ثم قال الآمدي: (والأقرب في ذلك أن يقال: لو كانت العلل والمعلولات غير متناهية، وكل واحد منها ممكناً على ما وقع به الفرض. فهي: إما متعاقبة، وإما معاً، فإن كانت متعاقبة فقد قيل: إن ذلك محال، لوجوه ثلاثة. الأول: أن كل واحد منها يكون مسبوقاً بالعدم، والجملة مجموع الآحاد، فالجملة مسبوقة بالعدم، وكل جملة مسبوقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 بالعدم، فلوجودها أول تنتهي إليه، وكل ما لوجوده أول ينتهي إليه فالقول غير متناه محال. الثاني: أن كل واحد منها يكون مشروطاً في وجوده علته قبله، ولا يوجد حتى توجد علته، وكذلك الكلام في علته بالنسبة إلى علتها، وهلم جراً. فإذا قيل بعدم النهاية فقد تعذر الوقوف على شرط الوجود، فلا وجود لواحد منها. وهذا كما إذا قيل: لا أعطيك درهماً إلا وقبله درهم، فإنه لما كان إعطاء الدرهم مشروطاً بإعطاء درهم قبله، وكذلك في إعطاء كل درهم يفرض إلى غير النهاية، كان الإعطاء محالاً. الثالث: هو أن القول بتعاقب العلل والمعلولات يجر إلى تأثير العلة بعد عدمها في معلولها، وتأثير المعدوم في الموجود محال) . قال: (وهذه الحجج مما لا مثبت لها. أما الأولى فلأنه لا يلزم من سبق على كل واحد من الآحاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 سبقه على الجملة فإن الحكم على الآحاد لا يلزم أن يكون حكماً على الجملة كما سبق تحقيقه. وأما الثاني فإنما يلزم أن لو كان ما توقف عليه الموجود وهو شرط في الوجود غير موجود، كما في المثال المذكور. وأما إن كان موجوداً فلا يلزم امتناع وجود المشروط. والقول بأن الشرط غير موجود محل النزاع، فلا تقبل الدعوى به من غير دليل. وأما الثالثة فإنما تلزم أيضاً أن لو كان معنى التعاقب وجود المعلول بعد عدم علته، وليس كذلك، بل معناه: وجود المعلول متراخياً عن وجود علته مع بقاء علته موجودة إلى حال وجوده، وبقائه موجوداً بعد عدم علته، وكذلك في كل علة مع معلولها، وذلك لا يلزم منه تأثير المعدوم في الموجود، ولا أن تكون العلل والمعلولات موجودة معاً، وذلك متصور في العلل الفاعلة بالاختيار) . قال: (والأقرب في ذلك أن يقال: لو كانت العلل والمعلولات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 متعاقبة، فكل واحد منها حادث لا محالة. وعند ذلك فلا يخلو: إما أن يقال بوجود شيء منها في الأزل، أو لا وجود لشيء منها في الأزل، فإن كان الأول ممتنع، لأن الأزلي لا يكون مسبوقاً بالعدم. والحادث مسبوق بالعدم، فلو كان شيء منها في الأزل لكن مسبوقاً بالعدم ضرروة كونه حادثاً، وغير حادث ضرورة كونه أزلياً، وإن كان الثاني فجملة العلل والمعلولات مسبوقة بالعدم ضرورة أن لا شيء منها في الأزل، ويلزم من ذلك أن يكون لها ابتداء ونهاية غير متوقف على سبق غيره عليه، وهو المطلوب) . تعليق ابن تيمية قلت: هذا الوجه هو الوجه الثالث الذي ذكره الرازي، حيث قال: (إما أن يقال: حصل في الأزل شيء من هذه الحركات، أو لم يحصل، فإن لم يحصل في الأزل شيء من هذه الحركات وجب أن يكون لمجموع هذه الحركات والحوادث بداية وأول، وهو المطلوب. وإن حصل في الأزل شيء من هذه الحركات، فتلك الحركة الحاصلة في الأزل إن لم تكن مسبوقة بغيرها كانت تلك الحركة أول الحركات، وهو المطلوب، وإن كانت مسبوقة بغيرها لزم أن يكون الأول مسبوقاً بغيره، وهو محال) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 وقد اعترض أبو الثناء الأرموي على هذا بأنه (ليس من الحركات الجزئية أزلياً، بل كل واحدة منها حادثة، وإنما القديم الحركة الكلية بتعاقب الأفراد الجزئية، وهي ليست مسبوقة بغيرها، فلا يلزم أن يكون لكل الحركات الجزئية أول) . وبيان هذا الاعتراض - فيما ذكره الآمدي - أن يقال: قوله: (إما ان يقال بوجود شيء منها في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 الأزل، أو لا وجود لشيء منها في الأزل) جوابه: أنه ليس شيء بعينه موجوداً في الأزل، ولكن الجنس لم يزل متعاقباً، وحيئنذ يندفع ما ذكره على التقديرين: أما الأول فإنه قال: لو كان شيء منها موجوداً في الأزل لكان مسبوقاً بالعدم غير مسبوق بالعدم، وهذا إنما يلزم إذا قيل في واحد من الحوادث المتعاقبة: إنه قديم أزلي، وهذا لا يقوله عاقل. وأما التقدير الثاني: فقوله: (وإن كان الثاني، فقول القائل: العلل والمعلولات المتعاقبة أو غيرها من الحوادث المتعاقبة تكون مسبوقة بالعدم) إنما يلزم إذا قيل: إن جنسها ليس بقديم ولا أزلي، وهذا محل النزاع. وحقيقة الأمر أن قول القائل: (إما أن يقال بوجود شيء منها في الأزل، أولا وجود لشيء منها في الأزل) معناه: إما أن شيئاً منها قديم أزلي، أو ليس شيء منها قديماً أزلياً. وهذا اللفظ محتمل، فإن أراد به أن واحداً من الحوادث المتعاقبة يكون قديماً أزلياً، فهذا لا يقولونه وإن أراد أن جنسها لم يزل يحدث شيئاً بعد شيء، وأنه لا أول للجنس، بل الجنس قديم أزلي، فهذا هو الذي يقولون. وحينئذ فلا يلزم من نفي الأزلية عن واحد نفيها عن الجنس. وذلك أن معنى الأزل ليس هو شيئاً له ابتداء محدود حتى يقال: هل حصل شيء منها في ذلك المبدأ المحدود؟ بل معنى الأزل هو معنى القدم، ومعناه: ما لا ابتداء لوجوده، ولا يقدر الذهن غايةً إلا كان قبل تلك الغاية، فإذا قال القائل: (هل وجد شيء من هذه الحوادث في الأزل) كان معناه: هل منها قديم لا أول لوجوده لم يزل موجوداً؟ والمثبت لذلك إنما يقول: لم يزل الجنس موجوداً شيئاً بعد شيء، كما يقوله المسلمون وجمهور الناس غيرهم في الأبد، فيقولون: إنه لا يزال جنس الحوادث يحدث شيئاً بعد شيء، فلو قال القائل: (الحوادث المنقضية لا تكون أبدية ولاتكون فيما لا يزال، لأنه إما أن يوجد شيء منها في الأبد، أو لا وجود لشيء منها في الأبد، فإن كان الأول فهو ممتنع، لأن الأبدي لا يكون منقضياً، بل لا يزال موجوداً وإن كان الثاني فجملة المنقضيات ملحوقة بالعدم، وما كان ملحوقاً بالعدم لم يكن أبدياً، لأن الأبدي هو ما لا يلحقه العدم، كما أن الأزلي ما لا يسبقه العدم) كان الجواب عن قول هذا القائل بأن يقال: الأبدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 هو جنس الحوادث المنقضية، لا واحد واحد منها. والجنس لا يلحقه العدم وإن لحق آحاده، كما قال تعالى {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} (ص: 54) وقال تعالى: {أكلها دائم} (الرعد: 35) فالدائم: هو الجنس، وكذلك الذي لا نفاد له هو الجنس. لا كل واحد من أعيان الرزق والمأكولات. قول آخر عن الآمدي وقد أورد الآمدي على نفسه سؤالاً وأجاب عنه، فقال: (قولكم: إن لم يوجد شيء منها في الأزل فلها أول وبداية، فنقول: لا يلزم من كون كل واحد من العلل والمعلولات غير موجود في الأزل أن تكون الجملة غير أزلية، فإنه لا يلزم من الحكم على الآحاد أن يكون حكماً على الجملة، بل جاز أن يكون كل واحد من أحاد الجملة غير أزلي، والجملة أزلية، بمعنى تعاقب آحادها إلى غير النهاية) . وقال في الجواب عن هذا: (قلنا إذا كان كل واحد من الآحاد لا وجود له في الأزل، وهو بعض الجملة، فليس بعض من أبعاض الجملة يكون موجوداً في الأزل، وإذا لم يكن شيء من الأبعاض موجوداً في الأزل، فالجملة غير موجودة في الأزل فإنه لا وجود للجملة دون وجود أبعاضها) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 تعليق ابن تيمية قلت: ولقائل أن يقول: قوله: (لا وجود للجملة دون وجود أبعاضها) أيعني به وجود أبعاضها معها؟ أو وجود أبعاضها ولو كانت متعاقبة؟ أما الأول فلا يصح، لأن ما فرض متعاقباً لايمكن أن تكون أبعاضه موجودة معه، وليس له وجود مجتمع في زمن واحد، حتى يمكن اجتماع أبعاضه معه، بل وجود أبعاضه - وهو متعاقب مع جملته - جمع بين النقيضين. وإن عنى به وجود ابعضاها كيفما كان، فيقال له: هذا صحيح، والمنتفي إنما هو وجود شيء من أبعاضها في الأزل، ولا يلزم من انتفاء كون الواحد من أبعاضها قديماً أزلياً أن لا يكون موجوداً، فإذا كان وجود الجملة موقوفاً على وجود أبعاضها فوجود أبعاض المتعاقب ممكن، وإن قال: (إن وجود الجنس المتعاقب الذي هو قديم أزلي أبدي موقوف على كون الواحد من آحاده قديماً أزلياً أو أبدياً) فهذا محل النزاع. فتبين أن الجواب فيه مغلطة، وحقيقة الجواب أنه يجب الحكم على الجملة بما يحكم به على أفرادها، وقد بين هو وغيره فساد هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 الجواب، فإنه إذا لم يكن بعض الجملة أزلياً كان ذلك سلباً للأزلية عن أفراد الجنس، ونفي الأزلية هو لحدوث، فيصير معنى الكلام: إذا كان كل واحد من الأفراد أو الأبعاض المتعاقبة حادثاً وجب أن يكون الجنس المتعاقب حادثاً، وقد عرف فساد هذا الكلام. وأبو الحسن الآمدي وغيره أدخلوا هذه المقدمة - أعني منع العلل المتعاقبة - في إثبات واجب الوجود، ولا حاجة بهم إليها، وهي مبنية على مقدمتين، إحداهما: أن العلة قد تتقدم المعلول، وقد ذكر هو في كتابه المسمى بـ (دقائق الحقائق) نقيض ما ذكره هنا في كتابه المسمى (أبكار الأفكار) وذكر في إثبات واجب الوجود هذه الطريقة التي تقدمت حكايتها عنه، وقال فيها: إن كانت العلل والمعلولات غير متناهية، فإما أن تكون متعاقبة أو معاً، لا جائز أن يقال بالأول إذ قد بينا امتناع الافتراق بين العلة والمعلول فيما تقدم) . والذي قاله فيما تقدم هو أن العلة أو الفاعل لا يفتقر في كونه علة لمعلوله، ولا كون المعلول معلولاً، إلى سبق العدم، فإن ما كان من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 المعلولات الوجودية مسبوقاً بالعدم: إما أن يكون وجوده بإيجاد العلة له في حال وجوده، أو في حال عدمه، لا جائز أن يكون ذلك له في حال عدمه، لامتناع اجتماع الوجود والعدم، فلم يبق إلا أن يكون موجوداً له في حال وجوده، لا بمعنى أنه أوجد بعد وجوده، بل بمعنى أن ما قدر له من الوجود غير مستغن عن العلة، بل يستند إليها، ولولاها لما كان، وإذا ذاك الفرق بين أن يكون المعلول وجوده مسبوقاً بالعدم، أو غير مسبوق بالعدم. تعليق ابن تيمية قلت: هذه الحجة هي حجة ابن سينا وأمثاله، على أن المعلول يكون مع العلة في الزمان، وهي حجة فسادة، وبتقدير صحتها لا تنفع الآمدي في هذا المقام، فإن الناس لهم في مقارنة المعولل لعلته والمفعول لفاعله ثلاثة أقوال: الأقوال في مقارنة المعلول لعلته الثانية قيل: يجب أن يقارن الأثر ولتأثيره، بحيث لا يتأخر الأثر عن التأثير في الزمان، فلا يتعقبه ولا يتراخى عنه، وهذا قول هؤلاء الدهرية، القائلين بأن العالم قديم عن موجب قديم، وقولهم أفسد الأقوال الثلاثة، وأعظمها تناقضاً، فإنه إذا كان الأثر كذلك لزم أن لا يحدث في العالم شيء، فإن العلة التامة إذا كانت تسلتزم مقارنة معلولها لها في الزمان، وكان الرب علة تامة في الأزل - لزم أن يقارنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 كل معلول، وكل ما سواه معلول له: إما بواسطة، وإما بغير واسطة فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء. وأيضاً، فما يحدث من الحوادث بعد ذلك يفتقر إلى علة تامة مقارنة له، فيلزم تسلسل علل. أو تمام علل ومعلولات في آن واحد. وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء. وإن قدر أن الرب لم يكن علة تامة في الأزل بطل قولهم. وقيل: بل يجب تراخي الأثر عن المؤثر التام، كما يقوله أكثر أهل الكلام، ويلزم من ذلك أن يصير المؤثر مؤثراً تاماً، بعد أن لم يكن مؤثراً تاماً، بدون سبب حادث، أو أن الحوادث تحدث بدون مؤثر تام، وأن الممكن يرجح وجوده على عدمه بدون المرجح التام. وهذا قول كثير من أهل الكلام، منهم من يقول: القادر يرجح أحد المقدورين بلا مرجح. ومنهم من يقول: بل يرجح بالإرادة القديمة الأزلية. ومن هؤلاء وهؤلاء من يقول: بل يرجح مع كون الرجحان أولى لا مع وجوبه، وهو قول محمود الخوارزمي من الأولين، وهو قول محمد بن الهيثم الكرامي وغيره من الآخرين، فإن الكرامية مع الأشعرية والكلابية يقولون: المرجح هو الإرادة القديمة الأزلية، ويقولون: إن الإرادة لا توجب المراد. لكن منهم من يقول: من شأن الإرادة أن ترجح بلا مزية للترجيح، بل مع تساوي الأمرين، كما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 تقوله الأشعرية: ومنهم من يقول: ترجيح أولوية الترجيح، وهذا قول الكرامية. والقول الثالث: أن المؤثر التام يستلزم وجود أثره عقبه، لا معه في الزمان، ولا متراخياً عنه، كما قال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: 40) وعلى هذا فيلزم حدوث كل ما سوى الرب، لأنه مسبوق بوجود التأثير، ليس زمنه زمن التأثير، والقادر المريد يستلزم مع وجود القدرة والإرادة وجود المقدور المراد، والقدرة والإرادة حاصلان قبل المقدور المراد، ومع وجود المقدور المراد هما مستلزمان له، وهذا قول أكثر أهل الإثبات. وعلى هذا فيجب الفرق بين وجود العلة والفاعل والمؤثر عند وجود الأثر في الزمان، فإن هذا لا بد منه، وبين وجود العلة التي هي الفعل والتأثير في الزمان، فإن هذا هو الذي يتعقبه المفعول المعلول، الذي هو الأثر. ومن الناس من فرق بين التأثير القادر المختار، وتأثير العلة الموجبة فزعم أن الأول لا يكون إلا مع تراخي الأثر، والثاني لا يكون إلا مع مقارنة الأثر للمؤثر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 وهذا أيضاً غلط، فإن الأدلة الدالة توجب التسوية لو قدر أنه يمكن أن يكون المؤثر غير قادر مختار، فكيف إذا كان ذلك ممتنعاً؟. وكون المعلول والمفعول لا يكون مفعولاً معلولاً إلا بعد عدمه هو من القضايا الضرورية التي اتفق عليها عامة العقلاء من الأولين والآخرين، وكل هؤلاء يقولون: ما كان معلولاً يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا حادثاً مسبوقاً بالعدم. وممن قال ذلك أرسطو وأتباعه، حتى ابن سينا وأمثاله صرحوا بذلك. لكن ابن سينا تناقض مع ذلك، فزعم أن الفلك هو قديم أزلي، مع كونه ممكناً يقبل الوجود والعدم. وهذا مخالف لما صرح به هو، وصرح به أئمته وسائر العقلاء، وهو مما أنكره عليه ابن رشد الحفيد، وبين أن هذا مخالف لما صرح به أرسطو وسائر الفلاسفة وأن هذا لم يقله أحد قبله. وأرسطو لم يكن يقسم الوجود إلى واجب وممكن، ولا يقول: إن الأول موجب بذاته للعالم، بل هذا قول ابن سينا وأمثاله، وهو - وإن كان أقرب إلى الحق مع فساده وتناقضه - فليس هو قول سلفه، بل قول أرسطو وأتباعه: إن الأول إنما افتقر إليه الفلك لكونه يتحرك للتشبه به، لا لكون الأول علة فاعلة له. وحقيقة قول أرسطو وأتباعه: أن ما كان واجب الوجود فإنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 يكون مفتقراً إلى غيره، فيكون جسماً مركباً حاملاً للأعراض، فإن الفلك عندهم واجب بذاته، وهو كذلك، كما قد بسط كلامهم والرد عليهم في غير هذا الموضع، وبين ما وقع من الغلط في نقل مذاهبهم، وأن أتباعهم صاروا يحسنون مذاهبهم، فمنهم من يجعل الأول محدثاً للحركة بالأمر، وليس هذا قولهم، فإن الأول عندهم لا شعور له بحركة ولا إرادة، وإنما الفلك يتحرك عندهم للتشبه به، فهو يحركه كتحريك الإمام للمؤتم به، أو المعشوق لعاشقه، لا تحريك الآمر لمأموره، كما يزعمه ابن رشد وغيره. ومنهم من يقول: بل هو علة مبدعة فاعلة للأفلاك، كما يقوله ابن سينا وأتباعه، وليس هذا أيضاً قولهم. ولكن كثير من هؤلاء المتأخرين لا يعرفون من مذاهب الفلاسفة إلا ما ذكره ابن سينا وأتباعه، وليس هذا أيضاً قولهم. ولكن كثير من هؤلاء المتأخرين لا يعرفون من مذاهب الفلاسفة إلا ما ذكره ابن سينا كأبي حامد الغزالي والرازي والآمدي وغيرهم، ويذكرون ما ذكره ابن سينا من حججه، كما ذكره الآمدي في هذا الموضع، حيث قال: (إن العلة أو الفاعل لا يفتقر في كونه علة إلى سبق العدم، لأن تأثير العلة في المعلول إنما هو في حال وجود المعلول) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 فيقال لهم: ليس في هذا ما يدل على أن المعلول يجوز أن يكون قديماً أزلياً غير مسبوق بالعدم، بل قولكم: (وإذ ذاك فلا فرق بين أن يكون المعلول وجوده مسبوقاً بالعدم، أو غير مسبوق) دعوى مجردة. فتبين أن ما ذكره الآمدي وغيره من امتناع الافتراق بين العلة والمعلول في الزمن، ووجوب مقارنتهما في الزمن، من أضعف الحجج، بل ما ذكره لا يدل على جواز الإقتران، فضلاً عن أن يدل على وجوب الاقتران، بل غاية ما ذكره أن سبق العدم ليس بشرط في إيجاد العلة، ولا يلزم من كونه ليس بشرط وجوب الاقتران، بل قد يقال بجواز الاقتران، وجواز التأخير. وحينئذ فلقائل أن يقول: هذا الذي ذكرته، وإن كان باطلاً، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبين فيه أن للناس في هذا المقام ثلاثة أقوال: قيل: يجوز أن يقارن المعلول العلة في الزمان، فيقترن الأثر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 بالمؤثر في الزمان، كما يقوله ابن سينا ومتابعوه. وقيل: بل يجب تراخي الأثر عن المؤثر وتأثيره، كما يقوله أكثر المتكلمين. وقيل: بل الأثر يتعقب التأثير، ولا يكون معه في الزمان، ولا يكون متراخياً عنه، وهذا هو الصواب، كما قال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: 40) لهذا يقال: طلقت المرأة فطلقت، وأعتقت العبد فعتق، فالعتق والطلاق عقب التطليق والإعتاق، لا يقترن به ولا يتأخر عنه. وبين أن من قال باقتران الأثر بالمؤثر كما يقوله هؤلاء المتفلسفة، فإن ذلك يستلزم أن لا يكون لشيء من الحوادث فاعل، ويستلزم أن لا يحدث شيء في العالم، ومن قال بالتراخي فقوله يستلزم أن المؤثر التام لا يستلزم الأثر، بل يحدث الحادث بلا سبب حادث، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن هذا الجواب الذي ذكره هو مأخوذ من كلام ابن سينا، وهو مع فساده غايته أن المعلول يجوز أن يقارن وجوده وجود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 العلة، لا يجب أن يكون مسبوقاً بالعدم مع وجود العلة، وليس في هذا بيان أنه يمتنع تأخر وجوده عن وجود العلة. والأقسام الممكنة ثلاثة: إما أن يقال بوجوب المقارنة، أو بوجوب التأخر، أو بجواز الأمرين، وما ذكرته لا يدل على شيء من ذلك، ولو دل فإنما يدل على جواز الاقتران، لا على وجوبه، وأنت فيما ذكرته هناك جوزت تأخر المعلول، فلا منافاة بين الأمرين. وذلك أن غاية ما ذكرته أن المؤثر - أي: المعلول الذي هو المصنوع المفعول - إما أن تكون تأثيراته قديمة كواجب الوجود، وذلك لا ينفي أن يكون التأثير به هو الأحداث، فإن فاعل هذه الحادثات تأثيره فيها في حال الوجود مع كونها محدثة، فليس كون التأثير فيها في حال وجودها مما ينفي أنه لا بد أن تكون محدثة. وقولك: (إذا كان التأثير فيها في حال وجودها فلا فرق بينه أن يكون وجودها مسبوقاً بالعدم، أو غير مسبوق) دعوى مجردة، لاستواء الحالين. والعقلاء يعلمون - بضرورة عقلهم - أن المبدع الفاعل لا يعقل أن يبدع القديم الأزلي الذي لم يزل موجوداً، وإنما يعقل إبداع ما لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 يكن ثم كان، بل العقلاء متفقون على أن الممكن الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا حادثاً بعد عدمه، ولا يكون قديماً أزلياً. وهذا مما اتفق عليه الفلاسفة مع سائر العقلاء، وقد صرح به أرسطو وجميع أتباعه، حتى ابن سينا وأتباعه، ولكن ابن سينا وأتباعه تناقضوا، فادعوا في موضع آخر أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه قد يكون قديماً أزلياً، ومن قبله من الفلاسفة - حتى الفارابي - لم يدعو ذلك، ولا تناقضوا. وقد حكينا أقوالهم في غير هذا الموضع. وأما المقدمة الثانية التي بنوا عليها امتناع العلل المتعاقبة، فهي مبينة على امتناع حوادث لا أول لها، والمتفلسف لا يقول بذلك، فلم يمكنهم أن يجعلوها مقدمة في إثبات واجب الوجود. والتحقيق أنه لا يحتاج إليها، بل ولا يحتاج في إثبات واجب الوجود إلى هذه الطريقة، كما قد بينا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع. وهؤلاء تجدهم - مع كثرة كلامهم في النظريات والعقليات، وتعظيمهم للعلم الإلهي الذي هو سيد العلوم وأعلاها، وأشرفها وأسناها - لا يحققون ما هو المقصود منه، بل لا يحققون ما هو المعلوم لجماهير الخلائق، وإن أثبتوه طولوا فيه الطريق مع إمكان تقصيرها، بل قد يورثون الناس شكاً فيما هو معلوم لهم بالفطرة الضرورية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 والرسل صلوات الله عليهم وسلامه بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بإفسادها وتغييرها. قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} (الروم: 30 - 32) . وفي الصحيحين «عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم {فطرة الله التي فطر الناس عليها} قالوا: يا رسول الله، أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً» . فالإقرار بالخالق سبحانه وتعالى، والاعتراف بوجود موجود واجب الوجود قديم أزلي، كما أنه مركوز في الفطرة مستقر في القلوب، فبراهينه وأدلته متعددة جداً، ليس هذا موضعها، وهؤلاء عامة ما يذكرونه من الطرق: إما أن يكون فيه خلل، وإما أن يكون طويلاً كثير التعب، والغالب عليهم الأول. إثبات الرازي للصانع فالرازي أثبت الصانع بخمسة مسالك، وهي كلها مبنية علىمقدمة واحدة. (الأول) الاستدلال بحدوث الذوات كالاستدلال بحدوث الأجسام المبني على حدوث الأعراض كالحركة والسكون، وامتناع ما لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 نهاية له وهذا طريق المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية كأبي المعالي - بناء على أن أجسام العالم محدثه، وكل محدث فله محدث. تعليق ابن تيمية أما المقدمة الأولي فقد تبين كلامهم فيها، ومناقضة بعضهم بعضاً، وأنهم التزموا لأجلها: إما جحد صفات الله وأفعاله القائمة به، وإما جحد بعض ذلك، وأنهم اشترطوا في خلق الله تعالى للعالم ما ينافي خلق العالم، فسلطوا عليهم أهل الملل والفلاسفة جميعاً. وأما الثاني فهي أظهر وأعرف وأبده في العقول من أن تحتاج إلي بيان، فبنوها على أن كل محدث فهو ممكن الوجود، وأن الممكن يحتاج في وجوده إلى مؤثر موجود، وكل من هاتين المقدمتين صحيحة في نفسها، مع أن القول بافتقار المحدث إلى المحدث أبين وأظهر في العقل من القول بافتقار الممكن إلى المؤثر الموجود، فبتقدير بيانهم للمقدمتين يكونون قد طولوا وداروا بالعقول دورة تبعد على العقول معرفة الله تعالى والإقرار بثبوته، وقد يحصل لها في تلك الدورة من الآفات ما يقطعها عن المقصود، فكانوا كما قيل لبعض الناس: أين أذنك؟ فرفع يده وأدارها على رأسه، ومدها وتمطى، وقال: هذه أذني، وكان يمكنه أن يشير إليها بالطريق المستقيم القريب، ويقول: هذه أذني. وهو كما قيل: أقام يعمل أياماً رويته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وهو نظير ما يذكر عن يعقوب بن إسحاق الكندي فيما حكاه عنه السيرافي من قوله: هذا من باب فقد عدم الوجود، وفقد عدم الوجود هو الوجود، فكيف وقد ذكروا في افتقار الممكن إلى الواجب بنفسه مع ظهوره وبيانه، كما قد بيناه في غير هذا الموضع: ما هو نقيض المقصود: من التعليم، والبيان: وتحرير الأدلة والبراهين. وقد تكلمنا على تقرير ما يتعلق بهذا المقام في غير هذا الموضع. الثاني قال الرازي: (المسلك الثاني: الاستدلال بإمكان الأجسام على وجود الصانع سبحانه وتعالى، وهو عمدة الفلاسفة. قالوا: الأجسام ممكنة، وكل ممكن فل بد له من مؤثر. أما بيان كونها ممكنة، فبالطريق المذكورة في مسألة الحدوث، وأما بيان أن الممكن لا بد له من مؤثر فبالطريق المذكورة هنا) . تعليق ابن تيمية قلت: وهذه الطريقة هي طريقةابن سينا وأمثاله من المتفلسفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 وليست طريقة أرسطو والقدماء من الفلاسفة. وابن سينا كان يعجب بهذه الطريقة ويقول: إنه أثبت واجب الوجود من نفس الوجود، من غير احتياج إلى الاستدلال بالحركة، كما فعل أسلافه الفلاسفة. ولا ريب أن طريقته تثبت وجوداً واجباً، لكن لم تثبت أنه مغاير للأفلاك إلا ببيان إمكان الأجسام، كما ذكره الرازي عنهم. وإمكان الأجسام هو مبني على توحيدهم المبني على نفي صفات الله تعالى، كما تقدم التنبيه عليه. وهو من أفسد الكلام، كما قد بين ذلك في غير موضع. ومن طريقهم دخل القائلون بوحدة الوجود وغيرهم من أهل الإلحاد القائلين بالحلول والإتحاد، كصاحب الفصوص وأمثاله الذين حقيقة قولهم: تعطيل الصانع بالكلية، والقول بقول الدهرية الطبيعية دون الإلهية. الثالث قال: (المسلك الثالث: الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الصانع، سواء كانت الأجسام واجبة وقديمة، أو ممكنة وحادثة) . قال: (وتقريره أن يقال: اختصاص كل جسم بما له من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 الصفات: إما أن يكون لجسميته، أو لما يكون حالاً في الجسمية، أو لما يكون محلاً لها، أو لما لا يكون حالاً فيها ولا محلاً لها. وهذا القسم الأخير: إما أن يكون جسماً أو جسمانياً، أولا جسماً ولا جسمانياً وتبطل كل هذه الأقسام سوى القسم الأخير بما مر تقريره في إثبات المسلك الأول في مسألة حدوث العالم) . تعليق ابن تيمية قلت: وهذا هو القول بتماثل الأجسام وأن تخصيص بعضها بالصفات دون بعض يفتقر إلى مخصص، والقول بتماثل الأجسام في غاية الفساد، والرازي نفسه قد بين بطلان ذلك في غير موضع. وهذا الذي أحال عليه ليس فيه إلا أن الجسم لا يكون اختصاصه بالحيز واجباً، بل جائزاً وبتقدير ثبوت هذا في التحيز لا يلزم مثله في سائر الصفات. وما ذكره من الدليل لا يصح، وذلك أنه قال: (اختصاصه بذلك إن كان واجباً) : فإما أن يكون الوجوب لنفس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 الجسمية، أولأمر للجسمية، أو لأمر الجسمية عرضت له، أو لأمر غير عارض لها، ولا معروض لها. والأول يوجب اشتراك الأجسام في تلك الصفة، وإن كان لعارض: فإما أن يكون ممتنع الزوال، وهو اللازم، أو ممكن الزوال، وهو العارض، فإن العرض في اصطلاحهم أعم من العرض، فإن كان ممتنع الزوال: فإن كان الامتناع لنفس الجسمية عاد الإشكال الأول، وإن كان لغيرها أفضى للتسلسل، وإن كان لمعروض الجسمية لم يصح، لأن المعقول من الجسمية الذهاب في الجهات، فلو كان في محل لكن ذلك المحل يجب أن يكون ذاهباً في الجهات، فيكون محل الجسمية جسماً، لأنه إن لم يكن ذاهباً في الجهات لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 يكن له اختصاص بالحيز، فلا يعقل حصول الجسم المختص بالحيز في محل غير مختص بالحيز، وإذا كان محله ذاهباً في الجهات كان جسماً، وحينئذ فالقول في اختصاصه بذلك الحال فيه كالقول في الحيز لا يجوز أن يكون للجسمية أو لوازمها، بل لأمر عارض ممكن الزوال، فيكون ذلك الحيز ممكن الزوال، وهو المقصود) . قلت: ولقائل أن يقول: هذا الدليل مبني على تماثل الأجسام، وأكثر العقلاء على خلافه، وقد قرر الرازي في موضع آخر أنها مختلفة لا متماثلة. وهو مبني أيضاً على الكلام في الصورة والمادة، ونحو ذلك مما ليس هذا موضع بسط الكلام فيه، لكن يبين فساده ببيان موضع المنع في مقدماته. قوله: (إن كان الامتناع لغير الجسمية أفضى إلى التسلسل) ممنوع، فإن الأجسام إذا كانت مشتركة في مسمى الجسمية، وقد اختص بعضها بصفات أخرى، لم يجب في ذلك التسلسل، كما في سائر الأمور التي تشترك في شيء وتفترق في شيء، فالمقادير والحيوانات إذا اشتركت في مسمى القدر والحيوانية، واختص بعضها عن بعض بشيء آخر لازم له، لم يلزم التسلسل، سواء قيل بتماثل الأجسام أو اختلافها، فإنه إن قيل باختلافها كانت ذات كل واحد موصوفة بصفات لازمة لها لا توجد في الآخر، كسائر الحقائق المختلفة، وإن قيل بتماثلها كتماثل أفراد النوع، فالموجب لوجود كل فرد من تلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 الأفراد هو الموجب لصفاته اللازمة له، لا تفتقر صفاته اللازمة له إلى موجب غير الموجب لذاته، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين فيه فساد ما يقوله المنطقيون: من أن اختلاف أفراد النوع إنما هو بسبب المادة القابلة، ونحو ذلك، فإنهم بنوه على أن للحقيقة الموجودة في الخارج سبباً غير سبب وجودها، وهذا غلط لا يستريب فيه من فهمه، مع أنه لاحاجة بنا هنا إلى هذا، بل نقول: مجرد اشتراك الاثنين في كون كل منهما جسماً أو متحيزاً أو موصوفاً أو مقدراً أو غير ذلك، لا يمنع اختصاص أحدهما بصفات لازمة له، وليس إذا احتاج اختصاصه بالحيز إلى سبب غير الجسمية المشتركة يلزم أن يكون ذلك المخصص له مخصص آخر، بل المشاهد خلاف ذلك، فإن اختصاص الأجسام المشهودة بأحيازها ليس للجسمية المشتركة، بل لأمر يخصها، هو من لوازمها، بمعنى أن المقتضي لذاتها هو المقتضى لذلك اللازم. وأيضاً، فقوله: (إن كان الامتناع لمعروض الجسمية فهو محال) ممنوع. وقوله: (لأن المعقول من الجسمية الامتداد في الجهات فمحله لا بد أن يكون له ذهاب في الجهات) . يقال له: محل الامتداد في الجهات هو الممتد في الجهات، كما أن محل التحيز هو المتحيز، ومحل الطول والعرض والعمق هو الطويل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 العريض العميق، ومحل المقدار هو المقدر، وكذلك محل السواد والبياض هو الأسود والأبيض. وهذا في كل ما يوصف بصفة، فمحل الصفة هو الموصوف، وهكذا جميع مسميات المصادر وغيرها من الأعراض محلها الأعيان القائمة بنفسها، فإذا كانت الجسمية هي الامتداد في الجهات التي هي الطول والعرض والعمق مثلاً، كان محلها هو الشيء الممتد في الجهات الذي هو الطويل العريض العميق وحينئذ فمحلها له اختصاص بالحيز، ويكون ذلك المعروض للجسمية الذي هو محل لها الممتد في الجهات هو المقتضي لاختصاصه بما اختص به من الصفات اللازمة، وهو مستلزم لذلك، كما هو مستلزم للامتداد في الجهات، فجنس الجسم مستلزم لجنس الامتداد، وجنس الأعراض والصفات، فالجسم المعين هو مستلزم للامتداد المعين في الجهات المعينة، ومستلزم للصفات المعينة التي يقال: إنها لازمة له، حتى إنه متى قدر عدم تلك اللوازم فقد تبطل حقيقته، فالموجب لها هو الموجب لحقيقته، وهذا مطرد في كل ما يقدر من المواصفات المستلزمة لصفاتها، كالحيوانية والناطقية للإنسان، وكذلك الإغتذاء والنمو للحيوان والنبات مثلاً، فإن كون النبات نامياً متغذياً هو صفة لازمة له، لعموم كونه جسماً، ولا لسبب غير حقيقته التي يختص بها، بل حقيقته مستلزمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 لنموه وأغتذائه، وهذه الصفات أقرب إلى أن تكون داخلة في حقيقته من كونه ممتداً في الجهات، وإن كان ذلك أيضاً لازماً له، فإنا نعلم أن النار والثلج والتراب والخبز والإنسان والشمس والفلك وغير ذلك كلها مشتركة في أنها متحيزة ممتدة في الجهات، كما أنها مشتركة في أنها موصوفة بصفات قائمة بها، وفي أنها حاملة لتلك الصفات، وما به افترقت وامتاز بعضها عن بعض أعظم مما فيه اشتركت، فالصفات الفارقة بينها الموجبة لاختلافها ومباينة بعضها لبعض أعظم مما يوجب تشابهها ومناسبة بعضها لبعض، فمن يقول بتماثل الجواهر والأجسام يقول: إن الحقيقة هي ما اشتركت فيه من التحيزية والمقدارية وتوابعها، وسائر الصفات عارضة لها، تفتقر إلى سبب غير الذات. ومن يقول باختلافها يقول: بل المقدارية للجسم والتحيزية للمتحيز، كالموصوفية للموصوف، واللونية للملون، والعرضية للعرض، والقيام بالنفس للقائمات بأنفسها، ونحو ذلك، ومعلوم أن الموجودين إذا اشتركا في أن هذا قائم بنفسه وهذا قائم بنفسه: لم يكن أحدهما مثلاً للآخر، وإذا اشتركا في أن هذا لون وهذا لون، وهذا طعم وهذا طعم، وهذا عرض وهذا عرض: لم يكن أحدهما مثلاً للآخر، وإذا اشتركا في أن لهذا مقداراً ولهذا مقداراً، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 ولهذا حيزاً ومكاناً ولهذا حيزاً ومكاناً: كان أولى أن لا يوجب هذا تماثلهما، لأن الصفة للموصوف أدخل في حقيقته من القدر للمقدر، والمكان للمتمكن، والحيز للمتحيز، فإذا كان اشتراكهما فيما هو أدخل في الحقيقة لا يوجب التماثل، فاشتراكهما فيما هو دونه في ذلك أولى بعدم التماثل. والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا: التنبيه على مجامع ما أثبتوا به الصانع. الرابع قال الرازي: (المسلك الرابع الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض على وجود الصانع تعالى، مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء إنساناً، فإذا كانت تلك التركيبات أعراضاً حادثة، والعبد غير قادر عليه، فلا بد من فاعل آخر، ثم من ادعى العلم بأن حاجة المحدث إلى الفاعل ضروري ادعى الضرورة هنا، ومن استدل على ذلك بالإمكان أو القياس على حدوث الذوات، فكذلك يقول أيضاً في حدوث الصفات) . قال: (والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات، وبين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 الاستدلال لحدوثها أن الأول يقتضي أن لا يكون الفاعل جسماً والثاني لا يقتضي ذلك) . تعليق ابن تيمية قلت: هذه الطريقة جزء من الطريقة المذكورة في القرآن وهي التي جاءت بها الرسل، وكان عليها سلف الأمة وأئمتها وجماهير العقلاء من الآدميين، فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يحدثه في العالم من السحاب والمطر والنبات والحيوان، وغير ذلك من الحوادث ويذكر في آياته خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ونحو ذلك، لكن القائلون بإثبات الجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم يسمون هذا استدلالاً بحدوث الصفات، بناءً على أن هذه الحوادث المشهود حدوثها لم تحدث ذواتها، بل الجواهر والأجسام التي كانت موجودة قبل ذلك لم تزل من حين حدوثها بتقدير حوادثها، ولا تزال موجودة، وإنما تغيرت صفاتها بتقدير حدوثها كان تتغير صفات الجسم إذا تحرك بعد السكون، وكما تتغير ألوانه، وكما تتغير أشكاله. وهذا مما ينكره عليهم جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 وحقيقة قول هؤلاء الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم: أن الرب لم يزل معطلاً لا يفعل شيئاً، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ثم إنه أبدع جواهر من غير فعل يقوم به، وبعد ذلك ما بقي يخلق شيئاً، بل إنما تحدث صفات تقوم بها، ويدعون أن هذا قول أهل الملل: الأنبياء وأتباعهم، وبينهم وبين الفلاسفة في مثل هذا نزاع أخطأ فيه كل من الفرقين، فإن الفلاسفة يقولون بإثبات المادة والصورة، ويجعلون المادة والصورة جوهرين، وهؤلاء يقولون: ليست الصورة إلا عرضاً قائماً بجسم. والتحقيق: أن المادة والصورة لفظ يقع على معان. كالمادة والصورة الصناعية والطبيعية، والكلية والأولية. فالأول: مثل الفضة إذا جعلت درهماً وخاتماً وسبيكة، والخشب إذا جعل كرسياً، واللبن والحجر إذا جعل بيتاً، والغزل إذا نسج ثوباً، ونحو ذلك. فلا ريب أن المادة هنا التي يسمونها الهيولى: هي أجسام قائمة بنفسها، وأن الصورة أعراض قائمة بها، فتحول الفضة من صورة إلى صورة هو تحولها من شكل إلى شكل، مع أن حقيقتها لم تتغير أصلاً. وبهذا يظهر لك خطأ قول القائل: إن من أثبت افتقار المحدث إلى الفاعل بالقياس على حدوث الذوات قال هنا كذلك. وهذه الطريقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 طريقة أبي علي وأبي هاشم ومن وافقهما. فيقال: هؤلاء إنما قاسوا على افتقار الكتابة إلى كاتب، والبناء إلى بان، ونحو ذلك. ومعلوم أن البناء والكاتب لم يبدع جسماً، وإنما أحدث في الأجسام تأليفاً خاصاً، وهو عرض من الأعراض. فكيف يجعل مثل هذا محدثاً للذوات، ويجعل الذي خلق الإنسان من نطفة، والشجرة من نواة، إنما أحدث الصفات؟ لكن المعتزلة لا يقولون: إن الجسم يحدث جسماً، وإنما يحدث عرضاً. والثاني: من معاني المادة والصورة: هي الطبيعية، وهي صورة الحيوانات والنباتات والمعادن ونحو ذلك، فهذه إن أريد بالصورة فيها نفس الشكل الذي لها فهو عرض قائم بجسم، وليس هذا مراد الفلاسفة. وإن أريد بالصورة نفس هذا الجسم المتصور، فلا ريب أنه جوهر محسوس قائم بنفسه. ومن قال: (إن هذا عرض قائم بجوهر) من أهل الكلام فقد غلط، وحينئذ فيقول المتفلسف: إن هذه الصورة قائمة بالمادة والهيولى، إن أراد بذلك ما خلق منه الإنسان كالمني - وهو لم يرد ذلك - فلا ريب أن ذاك جسم آخر فسد واستحال، وليس هو الآن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 موجوداً، بل ذاك صورة، وهذا صورة، والله تعالى خلق إحداهما من الأخرى وإن أراد أن هنا جوهراً بنفسه غير هذا الجسم المشهود الذي هو صورة، وأن هذا الجسم المشهود - الذي هو صورة - قائم بذلك الجوهر العقلي، فهذا من خيالاتهم الفاسدة. ومن هنا تعرف قولهم في الهيولى الكلية، حيث ادعوا أن بين أجسام العالم جوهراً قائماً بنفسه، تشترك في الأجسام. ومن تصور الأمور وعرف ما يقول علم أنه ليس بين هذا الجسم المعين وهذا الجسم المعين قدر مشترك موجود في الخارج أصلاً، بل كل منهما متميز عن الآخر بنفسه المتناولة لذاته وصفاته، ولكن يشتركان في المقدارية وغيرها، من الأحكام اللازمة للأجسام، وعلم أن اتصال الجسم بعد انفصاله هو نوع من التفرق، والتفرق والاجتماع هما من الأعراض التي يوصف بها الجسم، فالإتصال والإنفصال عرضان، والقابل لهما نفس الجسم الذي يكون متصلاً تارة، ومنفصلاً تارة أخرى، كما يكون مجتمعاً تارة ومفترقاً أخرى ومتحركاً تارة وساكناً أخرى. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. الخامس قال الرازي: (والطريقة الخامسة - وهي عند التحقيق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 عائدة إلى الطرق الأربع - وهي الاستدلال بما في العالم من الإحكام والإتقان على علم الفاعل، والذي يدل على علم الفاعل هو بالدلالة على ذاته أولى) . تعليق ابن تيمية قلت: والمقصود هنا التنبيه على أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الموافق لصريح المعقول، وأن ما بينه من الآيات والدلائل والبراهين العقلية في إثبات الصانع سبحانه ومعرفة صفاته وأفعاله هو فوق نهاية العقول، وأن خيار ما عند حذاق الأولين والآخرين من الفلاسفة والمتكلمين هو بعض ما فيه، لكنهم يلبسون الحق بالباطل، فلا يأتون به على وجهه، كما أن طريقة الاستدلال بحدوث المحدثات على إثبات الصانع الخالق هي طريقة فطرية ضرورية، وهي خيار ما عندهم، بل ليس عندهم طريقة صحيحة غيرها، لكنهم أدخلوا فيها من الاختلال والفساد ما يعرفه أهل التحقيق والانتقاد، الذي آتاهم الله الهدى والسداد. وقد بسط الكلام على هذه المطالب في غير الموضع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 بسم الله الرحمن الرحيم: فصل وأما ما تكلموا به في وجود واجب الوجود وتحيرهم فيه هل وجوده حقيقة أو زائد على حقيقته؟ وفي صفاته وأفعاله؟ فهذا بحر واسع قد بسطناه في غير هذا الموضع. وقد اعترف الرازي بحيرته في مسائل الذات والصفات والأفعال وهو تارة يقول بقول هؤلاء وتارة يقول بقول هؤلاء والآمدي متوقف في مسائل الوجود والذات ونحو ذلك مع أنه لم يذكر دليلاً على إثبات واجب الوجود البتة فإنه ظن أن الطرق المذكورة ترجع إلى الاستدلال بالإمكان على المرجع الموجب فلم يسلك في إثبات واجب الوجود إلا هذه الطريقة التي هي طريقة ابن سينا لكن ابن سينا وأتباعه قرروها أحسن من تقرير الآمدي فإن أولئك أثبتوا أثبتوا واجب الوجود بالبرهان العقلي الذي لا ريب فيه لكن احتجوا على مغايرته للموجودات المحسوسة بطريقتهم المبنية على نفي الصفات وهي باطلة. كلام الآمدي في الأبكار في أثبات واجب الوجود وأما الآمدي فلم يقرر إثبات واجب الوجود بحال، بل قال في كتاب أبكار الأفكار في أعظم مسائل الكتاب وهي مسألة إثبات واجب الوجود: مذهب أهل الحق من المتشرعين وطوائف الإلهيين القول بوجوب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 وجود وجوده لذاته لا لغيره، وكل ما سواه فمتوقف في وجوده عليه خلافاً لطائفة شاذة من الباطنية ومنشأ الاحتجاج على ذلك ما نشاهده من الموجودات العينية ونتحققه من الأمور الحسية فإنه إما أن يكون واجباً لذاته أو لا يكون واجباً لذاته فإن كان الأول فهو المطلوب، وإن كان الثاني فك موجود لا يكون واجباً لذاته فهو ممكن لذاته لأنه لو كان ممتنعاً لذاته لما كان موجوداً وإذا كان ممكناً فالوجود والعدم عليه جائزان عند ذلك فإما أن يكون في وجوده مفتقراً إلى مرجح أو غير مفتقر إليه فإن لم يكن مفتقراً إلى المرجح فقد ترجح أحد الجائزين من غير مرجح وهو ممتنع وإن افتقر إلى المرجح فذلك المرجح إما واجب لذاته أو لغيره، فإن كان الأول فهو مطلوب وإن كان الثاني فذلك الغير إما أن يكون معلولاً لمعلوله أو لغيره، فإن كان الأول فيلزم أن يكون كل واحد منهما مقوماً للآخر، ويلزم من ذلك أن يكون كل واحد منهما مقوماً لمقوم نفسه فيكون كل فليحج منهما مقوماً لنفسه لأن مقوم المقوم مقوم، وذلك يوجب جعل كل واحد من الممكنين متقوماً بنفسه والمقوم بنفسه لا يكون ممكناً وهو خلاف الفرض. ولأن التقويم إضافة بين المقوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 والمقوم فيستدعى المغايرة بينهما، ولا مغايرة بين الشيء ونفسه، وإن كان الثاني: وهو أن يكون ذلك الغير معلولاً للغير، فالكلام في ذلك الغير كالكلام في الأول، وعند ذلك فإما أن يقف الأمر على موجود هو مبدأ الموجودات غير مفتقر في وجوده إلى غيره، أو يتسلسل الأمر إلى غير النهاية، فإن كان الأول فهو المطلوب، وإن كان الثاني فهو ممتنع. ثم ذكر الأدلة المتقدمة على إبطال التسلسل وبين فسادها كلها كما تقدم حكاية قوله، واختار الحجة المذكورة عنه التي حكيناها، فقال وإن كانت العلل والمعلولات المفروضة موجودة معاً فلا يخفى أن النظر إلى الجملة غير النظر إلى كل واحد واحد من آحادها فإن حقيقة الجملة غير حقيقة كل واحد من الآحاد، وعند ذلك فالجملة موجودة، وهي إما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة، لا جائز أن تكون واجبة، وإلا لما كانت آحادها ممكنة، وقد قيل: إنها ممكنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 كما سبق، وإن كانت واجبة فهو مع الاستحالة عين المطلوب، وإن كانت ممكنة فلا بد لها من مرجح، والمرجح إما أن يكون داخلاً فيها أو خارجاً عنها، لا جائز أن يقال بالأول، فإن المرجح للجملة للجملة مرجح لآحادها، يلزم أن يكون مرجحاً لنفسه ضرورة كونه من الآحاد، ويخرج بذلك عن أن يكون ممكناً وهو خلاف الفرض، وأن يكون مرجحاً لعلته لكونه من الآحاد، وفيه جعل العلة معلولاً والمعلول علة، وهو دور ممتنع. وأن كان المرجح خارجاً عنها فهو إما ممكن أو واجب، فإن كان ممكناً فهو من الجملة، وهو خلاف الفرض فلم يبق إلا أن يكون واجباً لذاته، وهو المطلوب. قلت: فهذه الطريقة التي ذكرها لم يذكر غيرها في إثبات الصانع. ثم أورد على نفسه أسئلة كثيرة، منها قول المعترض: لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي ليصح ما ذكرتموه، ولا يلزم من صحة ذلك في المتناهي، مع إشعاره بالحصر، صحته في غير المتناهي، سلمنا أن مفهوم الجملة حاصل فيما لا يتناهى وأنه ممكن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 ولكن لا نسلم أنه زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية وعند ذلك فلا يلزم أن يكون معللاً بغير علة الآحاد. سلمنا أنه زائد على الآحاد، ولكن ما لمانع أن يكون مترجحاً بآحاد الداخلة فيه، لا بمعنى أنه مترجح بواحد منها ليلزم ما ذكرتموه بل طريق ترجحه بالآحاد الداخلة فيه ترجح كل واحد من الآحاد بالآخر إلى غير النهاية، وعلى هذا فلا يلزم افتقاره إلى مرجح خارج عن الجملة، ولا أن يكون المرجح للجملة مرجح لنفسه ولا لعلته. ثم قال في الجواب: قولهم: لا نسلم أن مفهوم الجملة زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية. قلنا: إن أردتم أن مفهوم الجملة هو نفس المفهوم من كل واحد من الآحاد فهو ظاهر الإحالة. وإن أردتم به الهيئة الاجتماعية من آحاد الأعداد، فلا خفاء بكونه زائداً على كل واحد من الآحاد، وهو المطلوب. قولهم: ما لمانع من أن يكون الجملة مترجحة بآحادها الداخلة فيها كما قرروه؟ قلنا: إما ان يقال: تترجح الجملة بمجموع الآحاد الداخلة فيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 أو بواحد منها فإن كان بواحد منها فالحال الذي ألزمناه حاصل وإن كان بمجموع الآحاد فهو نفس الجملة المرفوضة، وفيه ترجح الشيء بنفسه وهو محال. تعليق ابن تيمية فهذا ما ذكره في كتابه المشهور بأبكار الأفكار المصنف في الكلام وليس في هذا تعرض لإبطال علل ومعلولات ممكنة مجتمعة لا نهاية لها ولكن فيه إثبات واجب الوجود خارجاً عنها، وقد ذهب طائفة من أهل الكلام كأصحاب معمر إلى إثبات معان لانهاية لها مجتمعة وهي الخلق، وهي شرط في الحدوث. ثم إنه في كتابه المسمى بدقائق الحقائق في الفلسفة ذكر هذه الحجة وزاد فيها إبطال إثبات علل ومعلولات لا نهاية لها، ولكنه اعتراض عليها باعتراض وذكر أنه لا جواب له عنه، فبقيت حجته على إثبات واجب الوجود موقوفة على هذا الجواب. فقال بعد أن ذكر ما ذكره هنا الجملة إما أن تكون باعتبار ذاتها واجبة، أو ممكنة، إذا كانت الآحاد ممكنة ومعناه افتقار كل واحد إلى علته وكانت الجملة هي مجموع الآحاد فلا مانع من إطلاق الوجوب وعدم الإمكان عليها، بمعنى أنها غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 مفتقرة إلى أمر خارج عن ذاتها وإن كانت أبعاضها مما يفتقر بعضها إلى بعض فتوهم ساقط، فإنه إذا قيل إن الجملة غير ممكنة فقد بينا في المنطقيات أن كل ما ليس بممكن بالمعنى الخاص، فإما واجب بذاته وإما ممتنع، لا جائز أن يقال بالامتناع، وإلا لما كانت موجودة، بقي أن تكون واجبة بذاتها، وإذا كانت الجملة هي مجموع آحادها وكل واحد من الآحاد ممكن، فالجملة أيضاً ممكنة بذاتها، والواجب باعتبار ذاته يستحيل أن يكون ممكناً باعتبار ذاته وإن كانت ممكنة فلا بد لها من مرجح لضرورة كونها موجودة، والمرجح فإما أن يكون ممكناً أو واجباً لا جائز أن يكون ممكناً إذ هو من الجملة، ثم يلزم أن يكون مرجحاً لنفسه لكونه مرجحاً للجملة، والمرجح للجملة مرجح لآحادها وهو من آحادها، وذلك محال، ثم يلزم أن يكون علة علته وهو دور ممتنع، وإن كان واجباً لذاته غير مفتقر إلى علة في وجوده فإما أن يكون علة للجملة أو لبعضها، فإن كان علة للجملة لزم أن يكون علة لكل واحد من آحادها، إذ الجملة هي مجموع الآحاد، وهو محال من جهة إفضائه إلى كون كل واحد من آحاد الجملة المفروضة معللاً بعلتين وهي العلة الواجبة الوجود، وما قيل إنه علة له من آحاد الجملة، وإن كان علة لبعض منها لا يكون معلولاً لغيره فهو خلاف الفرض. وهذه المحالات إنما لزمت من القول بعدم النهاية فهو محال كيف وكل علل ومعلولات قيل باستنادها إلى علة لا علة لها فالقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 بكونها غير متناهية محال، وجمع بين متناقضين، وهو القول بأن ما من علة إلا ولها علة، والقول بانتهاء العلل والمعلولات إلى علة لا علة لها. فإذا قد اتضح بما مهدنا امتناع كون العلل والمعلولات غير متناهية وإن القول بان لا نهاية لها محال. ثم قال: ولقائل أن يقول: إثبات الجملة لما لا يتناهى وإن كان غير مسلم لكن ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود، ويكون ترجحها بترجح آحادها، وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير النهاية على ما قيل. قال: وهذا إشكال مشكل، وربما يكون عند غيري حله. قلت: فهذا استدلاله على واجب الوجود لم يذكر في كتبه غيره، وأما حدوث العالم فأبطل طرق الناس، وبناه على أن الجسم لا يخلو من الأعراض الحادثة، إذ العرض لا يبقى زمانين، واستدل على امتناع حوادث لا أول لها بعد ان أبطل وجوه غيره بالوجه الذي تقدم، وتقدم ما فيه من الضعف الذي بينه الأرموي وغيره، ثم إذا ثبت حدوث العالم فإنه لم يستدل بالحدوث على المحدث إلا بطريقة الذين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 بنوا ذلك على الإمكان، وهو ان ذلك يتضمن التخصيص المفتقر إلى مخصص، لأنه ترجيح لأحد طرفي الممكن، فهو لا يستدل بالحدوث على المحدث، إلا بناء على أن ذلك ممكن يفتقر إلى واجب، ولا يجعل الممكن دالاً على الواجب، إلا بناء على نفي التسلسل، والتسلسل قد أورد عليه السؤال الذي قال إنه لا جواب له عنه. وكل هذه المقدمات التي ذكرها لا يفتقر إثبات الصانع إليها، وبتقدير افتقاره إليها فأبطال التسلسل ممكن، فتتم تلك المقدمات وذلك أن إثبات الصانع لا يفتقر إلى حدوث الأجسام كما تقدم، بل نفس ما يشهد حدوثه من الحوادث يغنى عن ذلك، والعلم بأن الحادث يفتقر إلى المحدث هو من أبين العلوم الضرورية وهو أبين من افتقار الممكن إلى المرجح، فلا يحتاج أن يقرر ذلك بان الحدوث ممكن، أو أنه كان يمكن حدوثه على غير ذلك الوجه، فتخصيصه بوجه دون وجه ممكن جائز الطرفين، فيحتاج إلى مرجح مخصص بأحدهما. وهذه الطريقة يسلكها من متأخري أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم على ذلك. من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم. وقد نبهنا على أنها وإن كانت صحيحة فإنها تطويل بلا فائدة فيه، واستدلال على الأظهر بالأخفى، وعلى الأقوى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 بالأضعف، كما لا يحد الشيء بما هو أخفى منه، وإن كان الحد مطابقاً للمحدود مطرداً منعكساً يحصل به التمييز، مع أن الحد والاستدلال بالأخفى قد يكون فيه منفعة من وجوه أخرى، مثل من حصلت له شبهة أو معاندة في الأمر الجلي فيبين له بغيره، لكون ذلك أظهر عنده فإن الظهور والخفاء أمر نسبي إضافي، مثل من يكون من شانه الاستخفاف بالأمور الواضحة البينة، فإذا كان الكلام طويلاً مستغلقاها به وعظمة، كما يوجد في جنس هؤلاء إلى غير ذلك من الفوائد، لكن ليس هذا مما يتوقف العلم والبيان عليه مطلقاً، وهذا هو المقصود هنا وهؤلاء كثيراً ما يغلطون، فيظنون أن المطلوب لا يمكن معرفته إلا بما ذكروه من الحد والدليل، وبسبب هذا الغلط يضل من يضل، حتى يتوهم أن ذلك الطريق المعين إذا بطل انسد باب المعرفة. ولهذا لما بني الآمدي وغيره على هذه الطريقة التي تعود إلى طريقة الإمكان، وبنوا طريقة الإمكان على نفي التسلسل، حصل ما حصل، فكان مثل هؤلاء مثل من عمد إلى أمراء المسلمين وجندهم الشجعان الذين يدفعون العدو ويقاتلونهم، فقطعهم، ومنعهم الرزق الذي به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 يجاهدون، وتركوا واحداً، ظناً أنه يكفي في قتال العدو وهو أضعف الجماعة وأعجزهم، ثم أنهم مع هذا قطعوا رزقه الذي به يستعين فلم يبق بإزاء العدو أحد. ومثل نهر كبير كدجلة والفرات كان عليه عدة جسور فقطعها كلها ولم يترك إلا واحد طويلاً بعيداً ضعيفاً، ثم إنه خرقه في أثنائه حتى انقطع الطريق، ولم يبق لأحد طريق إلى العبور، وهو مع هذا يستعمل الناس في الآلات التي يصنع بها الجسور، ويشعر الناس أنه لا يمكن أحداً أن يعبر إلا بما يصنعه. أو مثل رجل كان لمدينته أسوار متداخلة سور خلف سور، كل سور منه يحفظ المدينة، فعمد المتولي فهدم تلك الأسوار كلها وترك سوراً هو أضعفها وأطولها وأصعبها حفظاً، ثم إنه مع ذلك خرق منه ناحية يدخل منها العدو، فلم يبق للمدينة سور يحفظها. فيقال إن إثبات الصانع ممكن بطرق كثيرة منها الاستدلال بالحدوث على المحدث، وهذا يكفى فيه حدوث الإنسان نفسه أو حدوث ما يشاهد من المحدثات كالنبات والحيوان وغير ذلك، ثم إنه يعلم بالضرورة أن المحدث لا بد من محدث، وإذا قدر أنه أثبت الصانع بحدوث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 العالم لزم أن المحدث لا بد من محدث، ثم إذا قدر أنه استدل بطريقة الإمكان إما ابتداء وإما مع طريقة الحدوث، فالعلم بأن الممكن يفتقر إلى الواجب علم ضروري لا يفتقر إلى نفي التسلسل. إبطال التسلسل وأيضاً فإبطال التسلسل له طرق كثيرة، وذلك أنه يمكن أن يقال فيه وجوه: الوجه الأول أحدها: أن الموجودات بأسرها إما أن تكون واجبة الوجود، أو ممكنة الوجود، أو ممتنعة الوجود، والأقسام الثلاثة باطلة، فلزم أن يكون بعضها واجباً، وبعضها ممكناً. أما الثالث فهو باطل لأن ما وجد لا يكون ممتنع الوجود. والثاني: باطل أيضا لأن ممكن الوجود هو الذي وجوده وعدمه، وما كان كذلك لم يوجد إلا بغيره. فلو كان مجموع الموجودات ممكنة، لافتقرت الموجودات كلها إلى غيرها، وما ليس بموجود فهو معدوم، والمعدوم لا يفعل الموجود بالضرورة. والأول باطل أيضاً لأنا نشاهد ما يحدث بعد أن لم يكن، كالحيوان والنبات والمعدن والسحاب والأمطار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 والحادث عدم ووجد أخرى، فلا يكون ممتنعاً لأن الممتنع لا يوجد ولا واجباً بنفسه لأن الواجب بنفسه لا يعدم، فثبت أنه ممكن، وثبت أن في الموجودات ما هو ممكن بنفسه وأنه ليس كلها ممكناً، فثبت أن فيها موجوداً ليس بممكن، والموجود الذي ليس بممكن هو الواجب بنفسه، فإن الموجود إما أن يكون وجوده بنفسه وهو الواجب أو بغيره وهو الممكن، ولا يجوز أن يكون ممتنع لأن الممتنع هو الذي لا يجوز أن يوجد فيمتنع أن يكون في الوجود ممتنع. فتبين أن في الموجودات واجباً وممكناً، وليس فيها ممتنع. وإن شئت قلت: إما أن يقبل من جهة نفسه العدم وهو الممكن، أو لا يقبل العدم وهو الواجب بنفسه، وإن شئت قلت إما أن يفتقر إلى غيره وهو الممكن أو لا يفتقر وهو الواجب. وإذا كانت الموجودات إما واجبة وإما ممكنة، وليس كلها ممكناً ولا كلها واجباً تعين أن فيها واجباً وفيها ممكناً. الوجه الثاني أن يقال كل ممكن بنفسه لا يوجد إلا بموجب يجب به وجوده، لأنه إذا لم يحصل ما به يجب وجوده ممكناً قابلاً للوجود والعدم، فلا يوجد. وما به يجب وجوده لا يكون ممكناً، لأن الممكن لا يجب به شيء لافتقاره إلى غيره، فالمفتقر إلى الممكن مفتقر إليه وإلى ما به وجب الممكن، وإذا كان الممكن وحده لا يجب به شيء، علم افتقار الممكن إلى واجب بنفسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 الوجه الثالث أن يقال: طبيعة الإمكان سواء فرضت الممكنات متناهية أو غير متناهية لا يوجب الوجود بنفسها، فإن ما كان كذلك لم يكن ممكناً. فلا بد للمكن من حيث هو ممكن من موجود ليس بممكن، والمراد بالممكن في هذه المواضع الممكن الإمكان الخاص، وهو الذي يقبل الوجود والعدم فيكون الواجب والممتنع قسيميه. فأما إذا أريد به الممكن الإمكان العام، وهو قسيم الممتنع، فكل موجود فهو ممكن بالإمكان العام. ثم الموجود إما موجود بنفسه وإما بغيره، وليس كل موجود وجد بنفسه، لأن منها المحدثات التي يعلم بضرورة العقل أن وجودها ليس بأنفسها. فثبت أن من الموجودات ما هو موجود بنفسه، وما هو موجود بغيره. الوجه الرابع أن يقال الموجودات ليست كلها موجودة بغيرها، لأن الغير إن كان معدوماً امتنع أن يكون الموجود موجوداً بما ليس بموجود. وإن كان الغير موجوداً كان الموجود خارجاً عن جملة الموجودات. وإذا لم تكن الموجودات كلها موجودة بغيرها: فإما أن تكون كلها أو كل منها موجوداً بنفسه، وإما أن لا يكون والأول ممتنع لأن المحدثات التي يشهد حدوثها يعلم بالضرورة أنها ليست موجودة بنفسها، وإذا لم تكن كلها موجودة بغيرها ولا كلها موجودة بنفسها، تعين أن منها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 ما هو موجود بنفسه ومنها ما هو موجود بغيره، وهذا لك أن تعتبره في كل فرد فرد من الموجودات، وفي المجموع فتقول: يمتنع في كل فرد من الموجودات أن يكون موجوداً بغير موجود، لأنه إذا كان كل واحد من الموجودات موجوداً بغير موجود لزم أن يكون كل من الموجودات موجوداً بمعدوم وهذا ممتنع وإذا امتنع فإما أن يكون كل موجود موجوداً بنفسه، وإما أن يكون موجوداً بمعدوم، وهذا ممتنع، وإذا امتنع فإما أن يكون كل موجود موجوداً بنفسه، وإما أن يكون موجوداً بوجود غيره، وإما أن يكون منها ما هو موجود بنفسه ومنها ما هو موجود بوجود غيره. والأول ممتنع لوجود الحوادث التي لا توجد بأنفسها. والثاني ممتنع لأن كل واحد واحد من الموجودات إذا كان موجوداً بوجود غيره، والغير من الموجودات التي لا توجد إلا بموجود غيرها لم يكن فيها إلا ما هو مفتقر محتاج إلى الغير، وما كان بنفسه مفتقراً محتاجاً إلى الغير ولم يوجد إلا بوجود ذلك الغير، وما كان في نفسه لا يوجد إلا بغيره، فأولى أن لا يكون بنفسه مبدعاً لغيره، فيلزم أن لا يكون في الموجودات ما هو موجود بنفسه، ولا ما هو فاعل لغيره، فيلزم حينئذ أن لا يوجد شيء من الموجودات، لأن الموجود إما موجود بنفسه، وإما بوجود غيره، وهذا إنما لزم لما قدر أن كل موجود موجود بغيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 فتعين أن من الموجودات ما هو موجود بنفسه وهو المطلوب. وأما إذا اعتبرت ذلك في المجموع، فمجموع الموجود لا يكون واجباً بنفسه، لأن من أجزائه ما هو ممكن محدث كائن بعد أن لم يكن، والمجموع يتوقف عليه، والمتوقف على الممكن لا يكون واجباً بنفسه، ولا يكون المجموع مفتقراً إلى غيره المباين له فإن ذلك لا يكون إلا معدوماً، والموجود لا يكون مفتقراً إلى فاعل معدوم ليس بموجود فضلاً عن مجموع الموجود. فتعين أن يكون المجموع مفتقراً إلى ما هو داخل في المجموع، وذلك البعض لا يكون إلا واجباً بنفسه، إذ لم يكن واجباً بنفسه لكان ممكناً مفتقراً إلى غيره، فيكون مجموع كل واحد من الموجودات مفتقراً إلى غيره، وذلك الغير مجموع الممكنات ليس مفتقراً إلى ما هو بعض الممكنات، فإن مجموعهما أعظم من بعضها، وذلك البعض يشرك لمجموع في الفقر والإحتياج إلى الغير، ففيه ما فيها من الإحتياج والفقر إلى الغير، مع أن المجموع أعظم منه، فإذا كانت الأجزاء كلها فقيرة محتاجة، والمجموع محتاجاً فقيراً، أمتنع أن يكون شيء من الأجزاء بالمجموع وحده، فضلاً عن أن يكون بجزء آخر فضلاً عن أن يكون المجموع الذي كل أجزائه فقراء بواحد من تلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 الأجزاء الفقراء. وهذا كله بين ضروري لا يستريب فيه من تصوره. ويمكن تصوير هذه المواد على وجوه أخرى. فصل وكذلك يمكن تصوير هذه الأدلة في مادة الحدوث بأن يقال: الموجودات إما أن تكون كلها حادثة، وهو ممتنع، لأن الحوادث لا بد من فاعل، وذلك معلوم بالضرورة، ومحدث الموجودات كلها لا يكون معدوماً، وذلك أيضاً معلوم بالضرورة، وما خرج عن الموجودات لا يكون إلا معدوماً، فلو كانت الموجودات كلها محدثة للزم: إما حدوثها بلا محدث، وإما حدوثها معدوم. وكلاهما معلوم الفساد بالضرورة، فثبت أنه لا بد في الوجود من موجود قديم، وليس كل موجود قديماً بالضرورة الحسية، فثبت أن الموجودات تنقسم إلى قديم ومحدث. وهاتان المقدمتان وهو أن كل حادث فلا بد من محدث، وأن المحدث للموجود لا يكون إلا موجوداً، مع انهما معلومتان بالضرورة، فإن كثيراً من أهل الكلام أخذوا يقررون ذلك بأدلة نظرية، ويحتجون على ذلك بأدلة، وهي وإن كانت صحيحة، لكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 النتيجة أبين عند العقل من المقدمات، فيصير كمن يحج الأجلى بالأخفى، وهذا وإن كان قد يذمه كثير من الناس مطلقاً، فقد ينتفع به في مواضع، مثل عناد المناظر ومنازعته في المقدمة الجلية، دون ما هو أخفى منها، ومثل حصول العلم بذلك من الطرق الدقيقة الخفية الطويلة، لمن يرى أن حصول العلم له بمثل هذه الطرق أعظم عنده وأحب إليه، وأنه إذا خوطب بالأدلة الواضحة المعروفة للعامة، لم يكن مزية على العامة، ولمن يقصد بمخاطبته بمثل ذلك، أن مثل هذه الطرق معروف معلوم عندنا، لم ندعه عجزاً وجهلاً، وإنما أعرضنا عنه استغناء عنه بما هو خير منه، واشتغالاً بما هو أنفع من تطويل لا يحتاج إليه، إلى أمثال ذلك من المقاصد. فأما كون الحادث لا بد له من محدث، فهي ضرورية عند جماهير العلماء، وكثير من متكلمة المعتزلة ومن اتبعهم جعلوه نظرياً، كما سيأتي ذكره بعد هذا. وأما كون المعدوم لا يكون فاعلاً للموجودات فهو أظهر من ذلك، ولذلك اعترف بكونه ضرورياً من استدل على أن المحدث لا بد له من محدث موجود، والممكن لا بد له من مؤثر موجود، كالرازي وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 كلام الرازي في إثبات وجود الله قال الرازي: أما كون المؤثر موجوداً فإنه لا فرق بين نفي المؤثر وبين مؤثر منفي والحكم بالاكتفاء المؤثر المنفي حكم بعدم الإحتياج إلى المؤثر. قال: والعلم بذلك ضروري، ولا يتصور في هذا المقام الاستدلال بالكلام المشهور من أن المعدوم لا تميز فيه فلا يمكن استناد الأثر إليه، لأنه يتوجه عليه شكوك معروفة. قال: والجواب عنها وإن كان ممكناً، إلا أن العلم بفساد استناد الأثر الموجود إلى المؤثر المعدوم أظهر كثيراً من العلم بذلك، والدليل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 والأجوبة عن الأسولة التي تورد عليه وإيضاح الواضح لا يزيده إلا خفاء. قال: وقول القائل: هب أن المؤثر ليس بمعدوم فلم يجب أن يكون موجوداً؟ قلنا: لا واسطة بين الوجود والعدم، وقول القائل: الماهية تقتضي الإمكان لا بشرط الوجود ولا العدم فهو متوسط بين الوجود والعدم قلنا: نحن لا ندعي أن كل حقيقة فهي إما الوجود وإما العدم، حتى يلزم من كون الماهية مغايرة لهما فساد ذلك الحصر بل ندعي أن العقل يحكم على كل حقيقة من الحقائق التي لا نهاية لها أنها لا تخلو عن وصفي الوجود والعدم، وإذا كان كذلك فكون الماهية مغايرة للوجود والعدم لا يقدح في قولنا: إنه لا واسطة بين الوجود والعدم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 تعليق ابن تيمية قلت: هذا السؤال والجواب عنه لا يحتاج إليه مع علمنا الضروري بأن المؤثر في الموجود لا يكون إلا موجوداً وهذا قد سبقه إليه غير واحد من النظار. كلام الجويني في الإرشاد كأبي المعالي الجويني فإنه قال في الإرشاد: فإن قال قائل: قد دللتم فيما قدمتم على العلم بالصانع، فيم تنكروه على من يقدر الصانع عدما قلنا: العدم عندنا نفي محض، وليس المعدوم على صفة من صفات الإثبات، ولا فرق بين نفي الصانع، وبين تقدير الصانع منفياً من كل وجه، بل نفي الصانع وإن كان باطلاً بالدليل القاطع فالقول به غير متناقض في نفسه، والمصير إلى إثبات صانع منفي متناقض، وإنما يلزم القول بالصانع المعدوم المعتزلة، حيث أثبتوا للمعدوم صفات الإثبات وقضوا بأن المعدوم على خصائص الأجناس. قال: والوجه أن لا نعد الوجود من الصفات فإن الوجود نفس الذات، وليس بمثابة التحيز للجوهر، فإن التحيز صفة زائدة على ذات الجوهر، وجود الجوهر عندنا نفسه من غير تقدير مزيد. قال: والأئمة يتوسعون في عد الوجود من الصفات، والعلم به علم بالذات. قال الكيا الهراسي الطبري: إذا قلنا الباري موجود فوجوده ذاته هذا بالاتفاق من أصحابنا القائلين بالأحوال والنافين لها إلا على رأي المعتزلة الذين قالوا: المعدوم شيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 كلام أبي القاسم الأنصاري وقال أبو القاسم الأنصاري شارح الإرشاد والقاضي أبو بكر: وإن أثبت الأحوال فلم يجعل الوجود حالاً فإن العلم به علم بالذات، وعند أبي هاشم ومتبعيه الوجود من الأحوال، وهو من أثر كون الفاعل قادراً. قال وما قاله إمام الحرمين: من أن الأئمة يتوسعون في عد الوجود من الصفات فإنما قالوا ذلك لما بيناه من ان صفة النفس عندهم تفيد ما تفيده النفس فلا فرق بين وجود الجوهر وتحيزه. وهكذا قال الكيا: الوجود بمنزلة التحيز للجوهر، فإن التحيز للجوهر نفس الجوهر خالف أبا المعالي. قال ومن الدليل على وجود الصانع أنه موصوف بالصفات القائمة به كالحياة والقدرة والعلم ونحوها وهذه الصفات مشروطة بوجود محلها وقد يكون الشيء موجوداً ولا يكون مختصاً بهذه الصفات ويستحيل الاختصاص بهذه الصفات من غير تحقق وجود. قال ومما يحقق ما قلناه قيام الدليل القاطع على أنه فاعل ومن شرط الفاعل أن يكون موجوداً. تعليق ابن تيمية قلت: هذا الثاني هو ما ذكره أبو المعالي فإن إثبات الصانع إثبات لوجوده، وإلا فصانع منتف كنفي الصانع، وأما الأول فهو وإن كان صحيحاً لكن النتيجة أبين من المقدمات فإن العلم بأن الصانع لا يكون إلا موجوداً أبين من كون ما تقوم به الصفة لا يكون إلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 موجوداً، وكلاهما معلوم بالضرورة، لكن الفاعل الذي يبدع غيره أحق بالوجود، وكما أن الوجود من محل الصفة فإن محل الصفة قد يكون جماداً وقد يكون حيواناً وقد يكون قادراً، وقد يكون عاجزاً، والصفة وإن كانت مفتقرة إلى محل وجودي فهو من باب الأفتقار إلى المحل القابل وأما المفعول المفتقر إلى الفاعل فهو من باب الافتقار إلى الفاعل. ومعلوم أن الحاجة إلى الفاعل فيما له فاعل أقوى من الحاجة إلى القابل فيما له قابل. وأيضاً فإن القابل شرط في المقبول لا يجب تقدمه عليه بل يجوز اقترانهما بخلاف الفاعل فإنه لا يجوز أن يقارن المفعول، بل لا بد من تقدمه عليه. ولهذا اتفق العقلاء على أنه لا يجوز أن يكون كل من الشيئين فاعلاً للآخر لا بمعنى كونه علة فاعلة ولا بغير ذلك من المعاني، وأما كون كل من الشيئين شرطاً للآخر فإنه يجوز، وهذا هو الدور المعي، وذاك هو الدور القبلي، وقد بسط هذا في غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 الموضع، وبين ما دخل على الفلاسفة من الغلط في مسائل الصفات من هذا الوجه حيث لم يميزوا بين الشرط والعلة الفاعلة بل قد يجعلون ذلك كله علة، إذ العلة عندهم يدخل فيها الفاعل والغاية، وهما العلتان المفصلتان اللتان بهما يكون وجود المعلول والقابل، الذي قد يسمى مادة وهيولى مع الصورة، وهما علتا حقيقة الشيء في نفسه، سواء قيل إن حقيقته غير العين الموجودة في الخارج كما يدعون ذلك أو قيل هي هي كما هو المعروف عن متكلمي أهل السنة. والمقصود هنا أن الدليل لما دل على أنه لا بد من موجود واجب بنفسه أي لا يكون له فاعل يوجده: لا علة فاعلة، ولاما يسمى فاعلاً غير ذلك، صاروا يطلقون عليه الواجب بنفسه، ثم أخذوا ما يحتمله هذا اللفظ من المعاني، فأرادوا إثباته كلها، فصاروا ينفون الصفات وينفون أن يكون له حقيقة موصوفة بالوجود لئلا تكون الذات متعلقة بصفة، فلا تكون واجبة بنفسها. ومعلوم أن كون الذات مستلزمة لصفة كمال يمتنع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 تحققها بدونها لا يوجب افتقارها إلى فاعل أو علة فاعلة، ولكن غاية ما فيه أن تكون الذات مشروطة بالصفة والصفة مشروطة بالذات، وأن تكون الصفة إذا قيل بأنها واجبة لا تقوم إلا بموصوف فإذا قيل: هذا فيه افتقار الواجب إلى غيره لم يلزم أن يكون ذلك الغير فاعلاً ولا علة فاعلة بل إذا قدر أنه يطلق عليه غير فإنما هو شرط من المشروط وكون الذات مشروطة بالصفة اللازمة لها والصفة مشروطة بالذات لا يمنع أن يكون الجميع واجباً بنفسه لا يفتقر إلى فاعل ولا إلى علة فاعلة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. والمقصود أنه إذا كان قد علم أن الصفة المشروطة بمحلها تقتضي أن يكون محلها موجوداً فالمفعول المفتقر إلى فاعل موجب يقتضي أن يكون فاعله موجوداً بطريق الأولى. وأيضاً فيقال: الحوادث المشهودة لا بد لها من محدث إذ المحدث من حيث هو محدث وكل ما يقدر محدثاً سواء قدر متناهياً أو غير متناه لا يوجد بنفسه بل لا بد له من فاعل ليس بمحدث والعلم بذلك ضروري إذ طبيعة الحدث تقتقي الإفتقار إلى فاعل فلا بد لكل ما يقدر محدثاً من فاعل فيمتنع أن يكون فاعل كل المحدثات محدثاً فوجب أن يكون قديماً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 وأيضاً فالمحدث مفتقر إلى محدث كامل، مستقل بالفعل، إذ ما ليس مستقلاً بالفعل مفتقر إلى غيره فلا يكون هو وحده الفاعل، بل الفاعل هو وذلك الغير فلا يكون وحده فاعلاً للمحدث ثم ذلك الغير إن كان محدثاً فلا بد له من فاعل أيضاً فلا بد للمحدثات من فاعل مستقل بالفعل مستغن عن جميع محدثاته، والعقل يعلم ضرورة افتقار المحدث إلى المحدث الفاعل ويقطع به ويعلمه ضرورة أبلغ من علمه بافتقار الممكن إلى الواجب الموجب له، فلا يحتاج أن يقال في ذلك أن المحدث يتخصص بزمان دون زمان أو بقدر دون قدر ولا بد للتخصيص مكن مخصص فإن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث أبين في العقل وأبده له. ولهذا قال تعالى {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} الطور 35 قال جبير بن مطعم: لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها أحسست بفؤادي قد انصدع. وقال {أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} الواقعة 58 - 59 إذ كان كل من القسمين: وهو كونهم خلقوا من غير خالق، وكونهم خلقوا أنفسهم معلوم الانتفاء بالضرورة فإن الإنسان يعلم بالضرورة أنه لم يحدث من غير محدث وأنه لم يحدث نفسه. فلما كان العلم بأنه لا بد له من محدث، وأن محدثه ليس هو إياه علماً ضرورياً ثبت بالضرورة أن له محدثاً خالقاً غيره، وكل ما يقدر فيه انه مخلوق فهو كذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 والخلق يتضمن الحدوث والتقدير ففيه معنى الإبداع والتقدير وإذا علمت أن الممكن لا بد له من مرجح يجب به وإلا لم يكن موجوداً بل يبقى معدوماً على أصح القولين، أو متردداً بين الوجود والعدم على الآخر فالمحدث لا بد له من فاعل يستغن به المفعول فيكون به وإلا بقي مفتقراً إلى غيره وإذا قدر محدثه أيضاً فهو أيضاً محدث لم يستغن به لأن ذلك المحدث مفتقر إلى غيره فالمفتقر إليه مفتقر إلى ذلك الغير، الذي هو الأول مفتقر إليه بطريق الأولى، فلا توجد الحوادث إلا بفاعل غني عن غيره وكل محدث مفتقر إلى غيره فلا توجد الحوادث إلا بفاعل قديم غير محدث فهذه طرق متعددة يثبت بها الموجود الواجب بنفسه القديم. فصل ويمكن تصوير هذه المادة في الغنى والفقر، وفي الخلق وعدم الخلق، والقدرة وعدم القدرة، والكمال والنقصان، والحياة والموت، والعلم والجهل، وغير ذلك بأن يقال: كل موجود فإما أن يكون غنياً بنفسه عما سواه، وإما أن يكون مفتقراً إلى ما سواه، والمفتقر إلى ما سواه لا يوجد إلا بغنى عما سواه، فيلزم وجوده الغني عما سواه على التقديرين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 والحوادث مفتقرة إلى غيرها، فثبت أن من الموجودات ما هو غني بنفسه ومنها ما هو مفتقر إلى ما سواه ومثل أن يقال: كل موجود فإما أن يكون مخلوقاً وإما ألا يكون مخلوقاً، والمخلوق لا يكون مخلوقاً إلا بخالق ليس بمخلوق. وقد علم أن الحوادث لا تكون إلا مخلوقة، فثبت أن في الموجودات ما هو حادث مخلوق، ومنها ما هو خالق لتلك الحوادث ليس بمخلوق، وهو المطلوب. ومثل أن يقال: الموجودإما أن يكون قادراً بنفسه، وإما ألا يكون قادراً بنفسه، وما ليس بقادر بنفسه لا يكون قادراً إلا بإقدار القادر بنفسه، والحوادث المشهودة كانت معدومة، والمعدوم لا يكون موجوداً بنفسه فضلاً عن أن يكون قادراً بنفسه، فثبت أن في الموجودات ما هو محدث ومنها ما هو موجود قادر بنفسه، والقادر بنفسه لا يكون إلا قديماً أزلياً واجباً بنفسه، فثبت انقسام الموجودات إلى هذا وهذا، وهو المطلوب. ومثل أن يقال: الموجودإما أن يكون كاملاً ليس فيه نقص يحتاج إلى غيره. وإما أن يكون ناقصاً يحتاج في كماله إلى غيره، ومعلوم أن الحوادث المشهودة ليس لها من نفسها وجود، فضلاً عن أن تكون كاملة بنفسها، وأنها بعد وجودها مفتقرة إلى من يكمل نقصها، فثبت أن الموجودات فيها كامل ليس فيه نقص يحتاج فيه إلى غيره، وما ليس فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 نقص، لا يكون إلا كاملاً قديماً أزلياً واجباً بنفسه، فثبت انقسام الموجودات إلى هذا وهذا، وهو المطلوب. ومثل أن يقال: الموجودإما عالم بنفسه، وإما محتاج في العلم إلى من يعلمه، وإما أن لا يقبل العلم، ومعلوم أن الإنسان مفتقر في حصول علمه إلى من يعلمه، ليس علمه من لوازم ذاته، فإنه خرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً ثم حدث له العلم بعد ذلك، فثبت أن في الموجود ما ليس عالماً بنفسه، بل هو مفتقر في حصول العلم له إلى من يعلمه، ومعلوم أن كل ما ليس بعالم بنفسه فلا بد له من عالم يعلمه، وذاك العلم إن كان عالماً بنفسه وإلا افتقر إلى عالم بنفسه، فلا بد له من عالم يعلمه، وذاك العالم إن كان عالماً بنفسه وإلا افتقر إلى عالم بنفسه فلا بد أن ينتهي الأمر إلى عالم بنفسه قطعاً للتسلسل الممتنع، فثبت أن في الوجود ما هو عالم بنفسه، وما ليس عالماً بنفسه بل بمن يعلمه كما قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} إلى قوله: {اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} العلق 1 - 5 وقال: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} البقرة 255. وما كان عالماً بنفسه فإن يكون موجوداً بنفسه أولى وأحرى، فإن العلم صفة له، وإذا كانت تلك الصفة قديمة واجبة لا تفتقر إلى فاعل يفعلها في العالم بنفسه، فلا يكون الموصوف بها قديماً واجباً بطريق الأولى والأحرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 ومثل أن يقال الموجود: إما حي بنفسه وإما حي بغيره، وإما ليس بحي. ومعلوم أن الحي بغيره موجود، فإن الإنسان يكون في بطن أمه قبل نفخ الروح فيه ليس بحي ثم يصير حياً بعد ذلك. فثبت وجود الحي بغيره الذي جعله حياً. وذلك الذي جعله حياً إما أن يكون حياً بنفسه، وإما بغيره. والحي بغيره يحتاج إلى حي، فلا بد أن ينتهي الأمر إلى حي بنفسه قطعاً للتسلسل الممتنع، فثبت أن في الوجود ما هو حي بنفسه، والحي بنفسه لا يكون إلا واجباً قديماً بنفسه، فإن ذاته إذا كانت مستلزمة لحياته، بحيث لا تكون حياته حاصلة له من غيره، فغن تكون ذاته واجبة بنفسها، لا تكون حاصلة بغيرها أولى وأحرى فغن الحياة قائمة في الموصوف الحي بها، فإذا كانت الحياة قديمة أزلية واجبة بنفسها يمتنع عدمها، فالحي الموصوف بها أن يكون حياً قديماً أزلياً واجباً بنفسه أولى وأحرى. والتسلسل الذي يسمى التسلسل في العلل والمعلولات، والمؤثر والأثر والفاعل والمفعول، والخالق ولمخلوق هو ممتنع باتفاق العقلاء. وبصريح المعقول، بل هو ممتنع في بديهة العقل بعد التصور، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منه في قوله صلى الله عليه وسلم «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ فيقول: الله فيقول: من خلق الله فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته» فأمره بالاستعاذة منه ليقطع عنه الله الوساوس الفاسدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 التي يلقيها الشيطان بغير اختياره ويؤذيه بها، حتى قد يتمنى الموت، أو حتى يختار أن يحترق ولا يجدها، وهي الوسوسة التي سأله عنه الصحابة فقالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حمة أو يخر من السماء إلى الأرض خيراً له من أن يتكلم به فقال: ذلك صريح الإيمان، وفي رواية: ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. فقال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة. وأراد بذلك أن كراهته هذه الوسوسة ونفيها هو محض الإيمان وصريحة. فصل واعلم أن علم الإنسان بأن كل محدث لا بد له من محدث أو كل ممكن لا بد له من واجب أو كل فقير فلا بد له من غني، أو كل مخلوق فلا بد له من خالق، أو كل معلوم فلا بد له من يعلم، أو كل أثر فلا بد له من مؤثر، ونحو ذلك من القضايا الكلية والأخبار العامة هو علم كلي بقضية كلية، وهو حق في نفسه، لكن علمه بأن هذا المحدث المعين لا بد له من محدث، وهذا الممكن المعين لا بد له من واجب، هو أيضاً معلوم له مع كون القضية معينة مخصوصة جزئية، وليس علمه بهذه القضايا المعينة المخصوصة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 موقوفاً على العلم بتلك القضية العامة الكلية، بل هذه القضايا المعينة المخصوصة موقوفاً على العلم بتلك القضية العامة الكلية، بل هذه القضايا المعينة قد تسبق إلى فطرته، قبل أن يستشعر تلك القضايا الكلية وهذا كعلمه بأن الكتابة لا بد من كاتب، والبناء لا بد له من بأن فإنه إذا رأى كتابه معينة علم انه لا بد لها من كاتب. وإذا رأى بنياناً علم أنه لا بد له من بأن وإن لم يستشعر في ذلك الحال كل كتابه كانت أو تكون، أو يمكن أن تكون، ولهذا تجد الصبي ونحوه يعلم هذه القضايا المعينة الجزئية، وإن كان عقله لا يستحضر القضية الكلية العامة، وهذا كما أن الإنسان يعلم أن هذا المعين لا يكون أسود أبيض، ولا يكون في مكانين، وإن لم يستحضر أن كل سواد وكل بياض فأنهما لا يجتمعان، وأن كل جسمين فإنهما لا يكونان في مكان واحد، وهكذا إذا رأى درهماً ونصف درهم، علم أن هذا الكل أعظم من هذا الجزء، وإن لم يستحضر أن كل كل فإنه يجب أن يكون أعظم من جزئه. وكذلك إذا قيل: هذا العدد الأول مساو لهذا العدد الثاني، وهذا العدد الثاني مساو لهذا العدد الثالث، فإنه يعلم أن الأول مساو لمساوي الثاني وهو مساو للثالث، وإن لم يستحضر أن كل مساو لمساو فهو مساو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 وكذلك إذا علم أن الشخص موجود علم أنه ليس بمعدوم، وإذا علم انه ليس بمعدوم علم أنه موجود، ويعلم انه لا يجتمع وجوده وعدمه بل يتناقضان، وأن لم يستحضر قضية كلية عامة أنه لا يجتمع نفي كل شيء وإثباته ووجوده وعدمه، وهكذا عامة القضايا الكلية. فإنه قد يكون علم الإنسان بالحكم في أعيانها المشخصة الجزئية أبده للعقل من الحكم الكلي، ولا تكون معرفته بحكم المعينات موقوفه على تلك القضايا الكليات، ولهذا كان علم الإنسان أنه هو لم يحدث نفسه، لا يتوقف على علمه بان كل إنسان لم يحدث نفسه، ولا على أن كل حادث لم يحدث نفسه، بل هذه القضايا العامة الكلية صادقة، وتلك القضية المعينة صادقة، والعلم بها فطري ضروري لا يحتاج أن يستدل عليه، وإن كان قد يمكن الاستدلال على بعض المعينات بالقضية الكلية، ويستفاد العلم بالقضية الكلية بواسطة العلم بالمعينات، لكن المقصود أن هذا الاستدلال ليس شرطاً في العلم، بل العلم بالمعينات قد يعلم كما تعلم الكليات وأعظم، بل قد يجزم بالمعينات من لا يجزم بالكليات، ولهذا لا تجد أحداً يشك في أن هذه الكتابة لا بد لها من كاتب، وهذا البناء لا بد له من باب، بل يعلم هذا ضرورة. وإن كان العلم بان كل حادث لا بد له من محدث فاعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 قد اعتقده طوائف من النظار نظرياً حتى أقاموا عليه دليلاً: إما بقياس الشمول، وإما بقياس التمثيل. فالأول قول من يقول: كل محدث لا بد له من محدث والثاني قول من يقول هذا محدث فيفتقر إلى محدث قياساً على البناء والكتابة. ثم القائلون بأن كل محدث لا بد له من محدث، منهم من يثبت هذا بالاستدلال على أن الحادث مختص والتخصيص لا بد له من مخصص ثم من الناس من يثبت هذا بأن المخصوص ممكن، والممكن لا بد له من مرجح لوجوده، ثم من الناس من يثبت هذا بأن نسبة الممكن إلى الوجود والعدم سواء، فلا بد من ترجيح أحد الجانبين. وكثير من الناس يجعل المقدمة الأولى في هذه القضايا ضرورية، بل يجعلها أبين من الثانية، التي استدل بها عليها، وهذا الاضطراب غنما يقع في القضايا الكلية العامة. وأما كون هذا البناء لا بد له من بان، وهذه الكتابة لا بد لها من كاتب، وهذا الثوب المخيط لا بد له من خياط وهذه الآثار التي في الأرض من آثار الأقدام لا بد لها من مؤثر وهذه الضربة لا بد لها من ضارب، وهذه الصياغة لا بد لها من صائغ، وهذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 الكلام المنظوم المسموع لا بد له من متكلم وهذا الضرب والرمي والطعن لا بد له من ضارب ورام وطاعن. فهذه القضايا المعينة الجزئية لا يشك فيها أحد من العقلاء، ولا يفتقر في العلم بها إلى دليل، وإن كان ذكر نظائرها حجة لها، وذكر القضية التي تتناولها وغيرها حجة ثانية فيستدل عليها بقياس التمثيل وبقياس الشمول لكن هي في نفسها معلومة للعقلاء بالضرورة، مع قطع نظرهم عن قضية كلية، كما يعلم الإنسان أحوال نفسه المعينة، فإنه يعلم أنه لم يحدث نفسه، وإن لم يستحضر أن كل حادث لا يحدث بنفسه. ولهذا كانت فطرة الخلق مجبولة على أنهم شاهدوا شيئاً من الحوادث المتجددة، كالرعد والبرق والزلازل ذكروا الله وسبحوه لأنهم يعلمون أن ذلك المتجدد لم يتجدد بنفسه بل له محدث أحدثه وإن كانوا يعلمون هذا في سائر المحدثات لكن ما اعتادوا حدوثه صار مألوفا لهم بخلاف المتجدد الغريب، وإلا فعامة ما يذكرون الله ويسبحونه عنده من الغريب المتجددة قد شهدوا من آيات الله المعتادة ما هو أعظم منه ولو لم يكن إلا خلق الإنسان فإنه من أعظم الآيات، فكل أحد يعلم أنه هو لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 يحدث نفسه ولا أبواه أحداثاه ولا أحد من البشر أحدثه، ويعلم أنه لا بد له من محدث، فكل أحد يعلم أن له خالقاً خلقه، ويعلم انه موجود، حي عليم قدير، سميع بصير، ومن جعل غيره حياً كان أولى أن يكون حياً، ومن جعل غيره عليماً كان أولى أن يكون عليماً، ومن جعل غيره قادراً كان أولى أن يكون قادراً، ويعلم أيضاً أن فيه من الإحكام ما دل على علم الفاعل، ومن الإختصاص ما دل على إرادة الفاعل، وأن نفس الإحداث لا يكون إلا بقدرة المحدث، فعلمه بنفسه المعينة المشخصة الجزئية يفيده العلم بهذه المطالب الإلهية وغيرها ن كما قال تعالى {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} الذاريات 21. فصل إذا تبين ذلك فالآية والعلامة والدلالة على الشيء يجب أن يكون ثبوتها مستلزماً لثبوت المدلول الذي هي آية له وعلامة عليه، ولا تفتقر في كونها آية وعلامة ودلالة إلى أن تندرج تحت قضية كلية، سواء كان المدلول عليه قد عرفت عينه، أو لم تعرف عينه، بل عرف على وجه مطلق مجمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 فالأول مثل أن يقال: علامة دار فلان أن على بابها كذا، أو على عتبها كذا، أو علامة فلان أنه كذا وكذا، فإذا رؤيت تلك العلامة عرف ذلك المعين. والثاني أن يقال: علامة من يكون أميراً أو قاضياً أن تكون هيئته كذا وكذا، فإن رؤيت تلك الهيئة علم أن هناك أميراً أو قاضياً وإن لم تعلم عينه. وإذا كان كذلك فجميع المخلوقات مستلزمة للخالق سبحانه وتعالى بعينه، وكل منها يدل بنفسه على أن له محدثاً بنفسه، ولا يحتاج أن يقرن بذلك أن كل محدث فله محدث، كما قدمناه أن العلم بأفراد هذه القضية لا يجب أن يتوقف على كلياتها، بل قد تكون دلالته على المحدث المعين أظهر وأسبق. ولهذا كان ما يشهده الناس من الحوادث آيات دالة على الفاعل المحدث بنفسها، من غير أن يجب أن يقترن بها قضية كلية: أن كل محدث فله محدث، وهي أيضاً دالة على الخالق سبحانه، من حيث يعلم أنه لا يحدثها إلا هو، فإنه كما يستدل على أن المحدثات لا بد لها من محدث قادر، عليم، مريد، حكيم، فالفعل يستلزم القدرة، والإحكام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 يستلزم العلم، والتخصيص يستلزم الإرادة وحسن العافية يستلزم الحكمة. وكل حادث يدل على ذلك كما يدل عليه الآخر، وكل حادث كما دل على عين الخالق، فكذلك الآخر يدل عليه، فلهذا كانت المخلوقات آيات عليه، وسماها الله آيات، والآيات لا تفتقر في كونها آيات إلى قياس كلي: لا قياس تمثيلي، ولا قياس شمولي، وإن كان القياس شاهداً لها مؤيداً لمقتضاها، لكن علم القلوب بمقتضى الآيات والعلامات لا يجب أن يقف على هذا القياس، بل يعلم موجبها مقتضاها، وإن لم يخطر لها أن كل ممكن فإنه لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، أو لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح. ومن هنا يتبين لك أن ما تنازع فيه طائفة من النظار وهو أن علة الإفتقار إلى الصانع، هل هو الحدوث أو الإمكان، أو مجموعيهما، لا يحتاج إليه، وذلك أن كل مخلوق فنفسه وذاته مفتقرة إلى الخالق، وهذا الافتقار وصف له لازم. ومعنى هذا أن حقيقته لا تكون موجودة إلا بخالق يخلقه، فإن شهدت حقيقته موجودة في الخارج علم أنه لا بد لها من فاعل، وإن تصورت في العقل علم أنها لا توجد في الخارج إلا بفاعل، ولو قدر أنها تتصور تصوراً مطلقاً علم أنها لا توجد إلا بفاعل فهي في نفسها لا توجد إلا بفاعل وهذا يعلم بنفس تصورها وإن لم يشعر القلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 بكونها حادثة أو ممكنة، وإن كان كل من الإمكان والحدوث دليلاً أيضاً على هذا الافتقار، لكن الحدوث يستلزم وجودها بعد العدم، وقد علم أنها لا توجد إلا بفاعل، والإمكان يستلزم أنها لا تكون إلا بموجد، وذلك يستلزم إذا وجدت أن تكون بموجد وهي من حيث هي هي، وإن لم تدرج تحت وصف كلي يستلزم الافتقار إلى الفاعل أي لا تكون موجودة إلا بفاعل، ولا تدوم وتبقى إلا بالفاعل المبقي المديم لها، فهي مفتقرة إليه في حدوثها، سواء قيل إن بقاءها وصف زائد عليها أو لم يقل. ولهذا يعلم العقل بالضرورة أن هذا الحادث لا يبقى إلا بسبب يبقيه، كما يعلم أنه لم يحدث إلا بسبب يحدثه، ولو بنى الإنسان سقفاً ولم يدع شيئاً يمسكه لقال له الناس: هذا لا يدوم ولا يبقى، وكذلك إذا خاط الثوب بخيوط ضعيفة وخاطه خياطة فاسدة قالوا له هذا لا يبقى البقاء المطلوب فهم يعلمون بفطرتهم افتقار الأمور المفتقرة إلى ما يبقيها كما يعلمون افتقارها إلى ما يحدثها وينشئها. وما يذكر من الأمثال المضروبة والشواهد المبينة لكون الصنعة تفتقر إلى الصانع في حدوثها وبقائها، إنما هو للتنبيه على ما في الفطرة كما يمثل بالسفينة في الحكاية المشهورة عن بعض أهل العلم، أنه قال له طائفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 من الملاحدة: ما الدلالة على وجود الصانع؟ فقال لهم: دعوني فخاطري مشغول بأمر غريب. قالوا قالوا: ما هو؟ قال: بلغني أن في دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها. فقالوا له: أمجنون أنت؟ قال: وما ذاك قالوا أهذا يصدقه عاقل؟ فقال: فكيف صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف والحوادث العجيبة وهذا الفلك الدوار السيار يجري وتحدث هذه الحوادث بغير محدث، وتتحرك هذه المتحركات بغير محرك؟ فرجعوا على أنفسهم بالملام وهكذا إذ قيل: فهذه السفينة أثبتت نفسها في الساحل بغير موثق اوثقها ولا رابط ربطها، كذبت العقول بذلك. فهكذا إذ قيل: إن الحوادث تبقى وتدوم بغير مبق يبقيها، ولا ممسك يمسكها. ولهذا نبه سبحانه على هذا وهذا فالأول: كثير وأما الثاني: ففي مثل قوله {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا} فاطر 41 وقوله {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} الروم 25 وقوله {رفع السماوات بغير عمد ترونها} الرعد 2 وهذا الإبقاء يكون بالرزق الذي يمد الله به المخلوقات كما قال الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 تعالى {الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون} الروم 40. كلام الشهر ستأتي في نهاية الإقدام وهذا الذي ذكرناه، من أن نفس الأعيان المحدثة كالإنسان تستلزم وجود الصانع الخالق. وأن علم الإنسان بأنه مصنوع يستلزم العلم بصانعه بذاته من غير احتياج إلى قضية كلية، تقترن بهذا وهو معنى ما يذكره كثير من الناس، مثل قول الشهر ستأتي: أما تعطيل العالم عن الصانع العليم القادر الحكيم، فليست أراها مقالة ولا عرفت عليها صاحب مقالة إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية أنهم قالوا: كان العالم في الأزل أجزاء مبثوثة تتحرك على غير استقامة فاصطكت اتفاقاً فحصل العالم بشكله الذي تراه عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 قال: ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر الصانع، بل هو يعترف بالصانع لكنه يحيل سبب وجود العالم على البخت والاتفاق احترازاً عن التعليل، فما عدت هذه المسألة من النظريات التي يقام عليها برهان، فإن الفطرة السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها، بصانع عليم قادر حكيم {أفي الله شك} إبراهيم 10 {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} الزخرف 87 {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم} الزخرف 9 وإن هو غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء {دعوا الله مخلصين له الدين} يونس 22 {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} الإسراء 67. قال ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة الصانع، وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشرك: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 إلا الله فأعلم انه لا إله إلا الله ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد {ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا} غافر 12 {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة} الزمر 45 {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا} الإسراء 46. قال وقد سلك المتكلمون طريقاً في إثبات الصانع، وهو الاستدلال بالحوادث على محدث صانع وسلك الأوائل طريقاً آخر وهو الاستدلال بإمكان الممكنات على مرجح لأحد طرفي الإمكان. قلت: وهذا الطريق الثاني لم يسلكه الأوائل، وإنما سلكه ابن سينا ومن وافقه ولكن الشهرستاني وأمثاله لا يعرفون مذهب أرسطو والأوائل إذ كان عمدتهم فيما ينقلونه من الفلسفة على كتب ابن سينا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 قال ويدعي كل واحد في جهة الاستدلال ضرورة وبديهة. قال وأنا أقول: ما شهد به الحدوث، أو دل عليه الإمكان بعد تقديم المقدمات دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياجه في ذاته إلى مدبر هو منتهى مطلب الحاجات، يرغب إليه، ولا يرغب عنه، ويستغنى به ولا يستغنى عنه ويتوجه إليه ولا يعرض عنه ويفزع إليه في الشدائد والمهمات فإن احتياج نفسه أوضح من احتياج الممكن الخارج إلى الواجب والحادث إلى المحدث. وعن هذا المعنى كانت تعريفات الحق سبحانه في التنزيل على هذا المنهاج {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} النمل 62 {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} الأنعام 63 {قل من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 يرزقكم من السماوات والأرض} يونس {أمن يبدأ الخلق ثم يعيده} النمل 64. وعن هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم «خلق الله العباد على معرفته فاجتالتهم الشياطين عنها» . قلت: لفظ الحديث في الصحيح: «يقول الله خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» قال: فتلك المعرفة هي ضرورة الاحتياج، وذلك الاجتيال من الشيطان هو تسويلة الاستغناء ونفي الحاجة والرسل مبعوثون لتذكير وضع الفطرة وتطهيرها عن تسويلات الشياطين فإنهم الباقون على أصل الفطرة وما كان له عليهم من سلطان {فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى} الأعلى 10 - 11 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} طه 44. قلت: الذي في الحديث: إن الشياطين امرتهم أن يشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً وهذا المرض العام في أكثر بني آدام وهو الشرك كما قال تعالى {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} يوسف 106 وأما التعطيل فهو مرض خاص لا يكاد يقع إلا عن عناد كما وقع لفرعون. وليس في الحديث أن الشياطين سولت لهم الاستغناء عن الصانع فإن هذا لا يقع إلا خاصاً لبعض الناس أو لكثير منهم في بعض الأحوال وهو جنس السفسطة بل هو شر السفسطة والسفسطة لا تكون عامة لعدد كثير دائماً بل تعرض لبعض الناس أو لكثير منهم في بعض الأشياء قال: ومن رحل إلى الله قربت مسافته حيث رجع إلى نفسه أدنى رجوع فعرف احتياجه إليه في تكوينه وبقائه وتقلبه في أحواله وأنحائه ثم استبصر من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس ثم استشهد به على الملكوت لا بالملكوت عليه ... الخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 تعليق ابن تيمية قلت هو وطائفة معه يضنون أن الضمير في قوله {حتى يتبين لهم أنه الحق} فصلت 53 عائد إلى الله تعالى ويقولون هذه جمعت طريق من استدل بالخلق على الخالق، ومن استدل بالخالق على المخلوق. والصواب الذي عليه المفسرون وعليه تدل الآية أن الضمير عائد إلى القرآن وأن الله يري عباده من الآيات الفقيه والنفسية ما يبين لهم أن القرآن حق وذلك يتضمن ثبوت الرسالة وأن يسلم ما أخبر به الرسول كما قال تعالى {قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد * سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} فصلت 52 53. والمقصود هنا التنبيه على أن حاجة المعين إلى العلم لا تتوقف على العلم بحاجة كل من هو مثله والاستدلال على ذلك بالقياس الشمولي والتمثيلي. وأيضا فالحاجة التي يقترن مع العلم بها ذوق الحاجة هي اعضم وقعا في النفس من العلم الذي لا يقترن به ذوق. ولهذا كانت معرفة النفوس بما تحبه وتكرهه، وينفعها ويضرها، هو أرسخ فيها فيها من معرفتها بما لا تحتاج إليه، ولا تكرهه ولا تحبه، ولهذا كان ما يعرف من أحوال الرسل مع أممهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 بالأخبار المتواترة ورؤية الآثار من حسن عاقبة أتباع الرسل، وسوء عاقبة المكذبين، أنفع من معرفة صدق الرسول وأتباعه مما يفيد العلم فقط، فإن هذا يفيد العلم مع الترغيب والترهيب، فيفيد كمال القوتين: العلمية والعملية بنفسه، بخلاف ما يفيد العم، ثم العلم يفيد العمل. ولهذا كان أكثر الناس على أن الإقرار بالصانع ضروري فطري، وذلك أن اضطرار النفوس إلى ذلك أعظم من اضطرارها إلى مالا تتعلق به حاجتها. ألا ترى أن الناس يعرفون من أحوال من تتعلق به منافعهم ومضارهم، كولاة أمورهم وممالكيهم، وأصدقائهم وأعدائهم، مالا يعلمونه من أحوال من لا يرجونه ولا يخافونه، ولا شيء أحوج إلى شيء من المخلوق إلى خالقه فهم يحتاجون إليه من جهة ربوبيته، إذ كان هو الذي خلقهم، وهو الذي يأتيهم بالمنافع، ويدفع عنهم المضار: {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} النحل 53. وكل ما يحصل من أحد فإنما هو بخلقه وتقديره وتسبيبه وتيسيره، وهذه الحاجة التي توجب رجوعهم إليه حال اضطرارهم، كما يخاطبهم بذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 في كتابه، وهم محتاجون إليه من جهة ألوهيته، فإنه لا صلاح لهم إلا بأن يكون هو معبودهم الذي يحبونه ويعظمونه، ولا يجعلون له أنداداً يحبونهم كحب الله، بل يكون ما يحبونه سواه، كأنبيائه وصالحي عباده، إنما يحبونهم لأجله، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار» ومعلوم أن السؤال، والحب، والذل، والخوف، والرجاء، والتعظيم، والإعتراف بالحاجة، والافتقار، ونحو ذلك، مشروط بالشعور بالمسؤل المحبوب المرجو، المخوف، المعبود، المعظم، الذي تعترف النفوس بالحاجة إليه والإفتقار، الذي تواضع كل شيء لعظمته، واستسلم كل شيء لقدرته، وذل كل شيء لعزته. فإذا كانت هذه الأمور مما تحتاج النفوس إليها ولا بد لها منها، بل هي ضرورية فيها كان شرطها ولازمها، وهو الاعتراف بالصانع به، أولى أن يكون في النفوس. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «كل مولود يولد على الفطرة» يروي عن ربه: «خلقت عبادي حنفاء» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 ونحو ذلك، لا يتضمن مجرد الإقرار بالصانع فقط، بل إقراراً يتبعه عبودية لله بالحب والتعظيم وإخلاص الدين له ن وهذا هو الحنيفية. وأصل الإيمان قول القلب وعمله، أي علمه بالخالق وعبوديته للخالق، والقلب مفطور على هذا وهذا. وإذا كان بعض الناس قد خرج عن الفطرة بما عرض له من المرض، إما بجهله، وإما بظلمه، فجحد بآيات الله واستيقنتها نفسه ظلماً وعلواً، لم يمتنع أن يكون الخلق ولدوا على الفطرة. وقد ذكرنا في غير هذا الموضع طائفة من قول من ذكر أن المعرفة ضرورية، والعلم الذي يقترن به حب المعلوم قد يسمى معرفة، كما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمعروف ما تحبه القلوب مع العلم، والمنكر ما تكرهه وتنفر عنه عند العلم به. فلهذا قد يسمى من كان فيه مع علمه بالله حب لله وإنابة إليه عارفاً، بخلاف العالم الخالي عن حب القلب وتألهه، فإنهم لا يسمونه عارف. ومن المعلوم أن وجود حب الله وخشيته والرغبة إليه وتألهه في القلب، فرع وجود الإقرار به، وهذا الثاني مستلزم للأول. فإذا كان هذا يكون ضرورياً في القلب، فوجود الإقرار السابق عليه اللازم له، أولى أن يكون ضرورياً، فإن ثبوت الملزوم لا يكون إلا مع ثبوت اللازم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 وقد يراد بلفظ المعرفة العلم الذي يكون معلومة معيناً خاصاً، وبالعلم الذي هو قسيم المعرفة ما يكون المعلوم به كلياً عاما، وقد يراد بلفظ المعرفة ما يكون معلومة الشيء بعينه، وإن كان لفظ العلم يتناول النوعين في الأصل، كما بسط في موضع آخر، وسيأتي كلام الناس في الإقرار بالصانع، هل يحصل بهذا وبهذا. وقد بينا في غير هذا الموضع الكلام على قولهم: علة الحاجة إلى المؤثر: هل هي الحدوث، أو الإمكان، أو مجموعها؟ وبينا أنه إن أريد بذلك أن الحدوث مثلا دليل على أن هذا المحدث يحتاج إلى محدث، أو أن الحدوث شرط في إفتقار المفعول إلى فاعل، فهذا صحيح، وإن أريد بذلك أن الحدوث هو الذي جعل المحدث مفتقراً إلى الفاعل فهذا باطل، وكذلك الإمكان إذا أريد به أنه دليل على إلى المؤثر، أو أنه شرط في الافتقار إلى المؤثر فهذا صحيح، وإن أريد به أنه جعل نفس الممكن مفتقراً، فهذا باطل. وعلى هذا فلا منافاة بين أن يكون كل من الإمكان والحدوث دليلاً على الافتقار إلى المؤثر، وشرطاً في الافتقار إلى المؤثر، وإنما النزاع في مسألتين: إحداهما: أن الواجب بغيره إزلاً وأبداً: هل يصح أن يكون مفعولاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 لغيره؟ كما يقوله من يقول من المتفلسفة: إن الفلك قديم معلول ممكن لواجب الوجود ازلاً وأبداً، فهذا هو القول الذي ينكره جماهير العقلاء من بني آدم. ويقولون ك إن كون الشيء مفعولاً مصنوعاً، مع كونه مقارناً لفاعله أزلاً وأبداً ممتنع ويقولون أيضاً: إن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا موجوداً تارة ومعدوماً أخرى، فأما ما كان دائم الوجود فهذا عند عامة العقلاء ضروري الوجود، وليس من الممكن الذي يقبل الوجود والعدم. وهذا مما وافق عليه الفلاسفة قاطبة حتى ابن سينا وأتباعه. ولكن ابن سينا تناقض فادعى في باب إثبات واجب الوجود أن الممكن قد يكون قديماً أزلياً مع كونه ممكناً، ووافقه على ذلك طائفة من المتأخرين، كالرازي وغيره، ولزمهم على ذلك من الاشكالات ما لم يقدروا على جوابه، كما قد بسط في موضعه وعلى هذا فالإمكان والحدوث متلازمان، فكل ممكن محدث وكل محدث ممكن. وأما تقدير ممكن مفعول واجب لغيره، مع أنه غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 محدث، فهذا ممتنع عند جماهير العقلاء. وأكثر الفلاسفة من أتباع ارسطو وغيره مع الجمهور يقولون: إن الإمكان لا يعقل إلا في المحدثات وأما الذي أدعى ثبوت ممكن قديم فهو ابن سينا ومن وافقه ولهذا ورد عليهم في إثبات هذا الإمكان سؤالات لا جواب لهم عنها. موافقة الرازي لابن سينا وإنكار ابن رشد على ابن سينا والرازي لما كان مثبتاً لهذا الإمكان، لابن سينا، كان في كلامه من الاضطراب ما هو معروف في كتبه الكبار والصغار، مع أن هؤلاء كلهم يثبتون في كتبهم المنطقية ما يوافقون فيه سلفهم أرسطو وغيره: أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثاً كائناً بعد أن لم يكن، وقد ذكر أبو الوليد بن رشد الحفيد هذا وقال: ما ذكره ابن سينا ونحوه، من أن الشيء يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم، مع كونه قديماً أزلياً قول لم يقله أحد من الفلاسفة قبل ابن سينا قلت: وابن سينا قد ذكر أيضاً في غير موضع أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم، لا يكون إلا حادثاً، مسبوقاً بالعدم، كما قاله سلفه وسائر العقلاء، وقد ذكرت ألفاظه من كتاب الشفاء وغيره في غير هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 الموضع، وهو مما يتبين به اتفاق العقلاء على أن كل ممكن يقبل الوجود والعدم فلا يكون إلا حادثاً كائناً بعد أن لم يكن، وهذا مما يبين أن كل ما سوى الواجب بنفسه فهو محدث، كائن بعد أن لم يكن، وهذا لا يناقض دوام فاعليته. والمقصود هنا أن نفس الحدوث والإمكان دليل على الافتقار إلى الموثر، وأما كون أحدهما جعل نفس المخلوقات مفتقرة إلى الخالق فهذا خطأ، بل نفس المخلوقات مفتقرة إلى الخالق بذاتها، واحتياجها إلى المؤثر أمر ذاتي لها، لا يحتاج إلى علة، فإنه ليس كل حكم ثبت للذوات يحتاج إلى علة، إذ ذلك يفضي إلى تسلسل العلل. وهو باطل باتفاق العلماء، بل من الأحكام ما هو لازم للذوات، لا يمكن أن يكون مفارقاً للذوات، ولا يفتقر إلى علة، وكون كل ما سوى الله فقيراً إليه محتاجاً إليه دائماً هو من هذا الباب. فالفقر والاحتياج أمر لازم ذاتي لكل ما سوى الله، كما أن الغني والصمدية أمر لازم لذات الله، فيمتنع أن يكون سبحانه فقيراً، ويمتنع أن يكون إلا غنياً عن كل ما سواه، ويمتنع فيما سواه أن يكون غنياً عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 بوجه من الوجوه، ويجب في كل ما سواه أن يكون فقيراً محتاجاً إليه دائماً في كل وقت. وهنا ينشأ النزاع في المسألة الثانية، وهو أن المحدث المخلوق هل افتقار إلى الخالق المحدث وقت الإحداث فقط، أو هو دائماً مفتقر إليه، على قولين للنظار. وكثير من أهل الكلام المحدث المتلقى عن جهم وأبي الهذيل ومن تبعهما من المعتزلة وغيرهم، يقولون إنه لا يفتقر إليه إلا في حال الإحداث لا في حال البقاء وهذا القول في مقابلة قول الفلاسفة الدهرية، الذين يقولون: افتقار الممكن إلى الواجب لا يستلزم حدوثه بل افتقاره إليه في حال بقائه دائماً ازلاً وأبداً. فهؤلاء زعموا وجود الفعل بلا حدوث شيء وأولئك زعموا أن المخلوق لا يفتقر إلى الخالق لا يحتاج دائماً وكلا القولين باطل كما قد بسط في موضعه. والمقصود هنا أن كثيراً مما يجعلونه مقدمات في أدله إثبات الصانع، وإن كان حقاً فإنه لا يحتاج إليه عامة الفطر السليمة، وإن كان من عرضت له شبهة قد ينتفع به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 والكلام على إبطال الدور والتسلسل هو من هذا الباب، وما سلكوه من الطرق بقطع التسلسل والدور فهو طريق صحيح أيضاً. وجماع ذلك أن الدور نوعان، والتسلسل نوعان أما الدور: فقد يراد به أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا، ولا هذا إلا مع هذا، ويسمى هذا الدور المعي الاقتراني. ويراد به أنه لا يوجد هذا إلا بعد هذا، ولا هذا إلا بعد هذا ونحو ذلك، وهو الدور البعدي. فالأول ممكن، كالأمور المتضايفة، مثل البنوة والأبوة، وكالمعلولين لعلة واحدة، وسائر الأمور المتلازمة التي لا يوجد منها إلا مع الآخر، كصفات الخالق سبحانه المتلازمة وكصفاته مع ذاته وكسائر الشروط كغير الشروط كغير ذلك مما هو من باب الشرط والمشروط. وأما الثاني فممتنع، فإنه إذا كان هذا لا يوجد إلا بعد ذاك، وذاك لا يوجد إلا بعد هذا، لزم أن يكون ذاك موجوداً قبل هذا، وهذا قبل ذاك، فيكون كل من هذا وذاك موجوداً قبل أن يكون موجوداً، فيلزم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 اجتماع الوجود والعدم غير مرة، وذلك كله ممتنع. ومن هذا الباب أن يكون هذا فاعلاً لهذا، او علة فاعلة أو علة غائية، ونحو ذلك لأن الفاعل والعلة ونحو ذلك يمتنع أن يكون فعلاً لنفسه، فكيف يكون فاعلاً لفاعل نفسه؟ وكذلك العلة الفاعلة لا تكون علة فاعلة لنفسها فكيف لعلة نفسها؟ وكذلك العلة الغائية التي يوجدها الفاعل هي مفعولة للفاعل ومعلولة في وجودها له لا لنفسها، فإذا لم تكن معلولة لنفسها فكيف تكون معلولة لمعلول نفسها؟ فهذا ونحوه من الدور المستلزم تقدم الشيء على نفسه أو على المتقدم على نفسه، وكونه فاعلاً لنفسه المفعولة أو لمفعول نفسه، أو علة لنفسه المعلولة أو لمعلول معلول نفسه أو معلولاً مفعولاً لنفسه، أو لمعلول نفسه ومفعول نفسه كل ذلك ممتنع ظاهر الامتناع ولهذا اتفق لعقلاء على امتناع ذلك. وأما التسلسل في الآثار والشروط ونحو ذلك، ففيه قولان معروفان لأصناف الناس وأما التسلسل في الفاعلين والعلل الفاعلة ونحو ذلك فهذا ممتنع بلا ريب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 فإذا تبين هذا فنقول: لو كان جميع الموجودات ممكناً مفتقراً إلى فاعل غيره فذلك الغير إن كان هو الغير الفاعل له، لزم كون كل منهما فاعلاً للآخر وهذا من الدور القبلي الممتنع باتفاق العقلاء وإن كان ذلك الغير غيراً آخر، لزم وجود فاعلين ومفعولين إلى غير غاية، وإن شئت قلت: لزم مؤثرون كل منهم مؤثر في الآخر إلى غير غاية وإن شئت قلت لزم علل كل منها معلول للآخر إلى غير غاية. وكل من هؤلاء ممكن الوجود، مفتقر إلى غيره لا يوجد بنفسه. فهنا سؤالان: أحدهما: قول القائل: لم لا يجوز أن يكون المجموع واجباً بنفسه وإن كان كل فرد من أفراد ممكناً بنفسه؟ وقد أجيب عن هذا بأنه يستلزم ثبوت واجب الوجود بنفسه مع أنه باطل أيضاً لأن المجموع هو الأجزاء المجتمعة مع الهيئة الاجتماعية وكل من الأجزاء ممكن بنفسه والهيئة الاجتماعية عرض من الأعراض الذي لا يقوم بنفسه فهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 أيضاً ممكن لنفسه بطريق الأولى فكل من الأجزاء ومن الهيئة الاجتماعية ممكن لنفسه فامتنع أن يكون هناك ما يقدر واجباً بنفسه. وأيضاً فإن ما توصف به الأفراد قد يوصف به المجموع وقد لا يوصف فإن كان اتصاف الأفراد به لطبيعة مشتركة بينها وبين المجموع وجب اتصاف المجموع بخلاف ما إذا حدث للمجموع بالتركيب وصف منتف في الأفراد. ومعلوم أن كل واحد واحد إذا لم يكن موجوداً إلا بغيرة، وهو فقير محتاج فكثرة المفتقرات المحتاجات واجتماعها لا يوجب استغناءها إلا أن يكون في بعضها معاونة للآخر، كالضعيفين إذا اجتمعا حصل باجتماعهما قوة، لأن كلا منهما مستغن عن غيره من وجه محتاج إليه من وجه وأما إذا قدر أن كلا منهما مفتقر إلى غيره من كل وجه امتنع أن يحصل لهما بالاجتماع قوة أو معونة من أحدهما للأخر إذ التقدير أن كل كل منهما ليس له شيء إلا من الآخر وهذا هو الدور القبلي، دور الفاعلين والعلل الفاعلية والغائية فلا يحصل لأحدهما من الآخر شيء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 والتقدير أنه ليس له من نفسه شيء فلا يحصل بالاجتماع وجود أصلاً. يبين هذا أن كل جزء فهو مفتقر من كل وجه إلى غيره والمجموع أيضاً مفتقر من كل وجه إلى الأفراد فإنه أي فرد من الأفراد قدر عدمه لزم عدم المجموع فليس في المجموع وجود يعطيه للأفراد ولا لشيء من الأفراد وجود يعطيه للمجموع او لغيره من الأفراد وهذا بخلاف ما إذا اجتمعت آحاد العشرة فإن كونها عشرة لا يحصل لأفرادها كما أن كل فرد ليس وجوده مستفاداً من اجتماع العشرة فلما لم يكن كل من الأفراد وجوده من العشرة ولا من غيره من الأفراد أمكن وجوده بنفسه، وأمكن أن يكون شرطاً في وجود الفرد الآخر، وأن يكون الحكم الحاصل باجتماع العشرة لا يحصل لفرد فرد، فتبين أن مجموع الممكنات لا يكون ممكناً وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. سؤال للآمدي وأجوبة عنه والسؤال الثاني : سؤال الامدي وهو قوله: ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود ويكون ترجحها بترجح آحادها وترجح كل واحد بالآخر إلى غير نهاية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 فيقال عن هذا أجوبة: الأول أنه إذا كان كل من الجملة ممكناً بنفسه لا يوجد إلا بغيره فكل من الآحاد، ليس وجوده بنفسه، والجملة ليس وجودها بنفسها، فليس هناك شيء وجوده بنفسه فلا يكون وجوده إلا بغيره. فتعين أن يكون هناك غير ليس هو جملة مجموع الممكنات، ولا شيئاً من الممكنات وما ليس كذلك فهو موجود بنفسه، وهو الواجب بنفسه ضرورة. وأما قوله: يكون ترجح كل واحد بالآخر أي يكون كل من الممكنات موجوداً بممكن آخر على سبيل التسلسل. فيقال له: نفس طبيعة الإمكان شاملة لجميع الآحاد وهي مشتركة فيها، فلا يتصور أن يكون شيء من أفراد الممكنات خارجاً عن هذه الطبيعة العامة الشاملة، ونفس طبيعة الإمكان توجب الافتقار إلى الغير، فلو قدر وجود ممكنات بدون واجب بنفسه، للزم استغناء طبيعة الإمكان عن الغير، فيكون ما هو ممكن مفتقراً إلى غيره ليس ممكناً مفتقراً إلى غيره، وذلك جمع بين النقيضين. يبين ذلك أنه مهماً قدر من الممكنات التي ليست متناهية، فإنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 ليس واحد منها موجوداً بنفسه، بل هو مفتقر إلى ما يبدعه ويفعله. فالثاني منها مشارك للأول في هذه الصفة من كل وجه، فليس لشيء منها وجود من نفسه ولا للجملة، فلا يكون هناك موجود أصلاً. بل إذا قال القائل: هذا موجوداً بآخر، والآخر إلى غير نهاية، أو هذا أبدعه آخر، والآخر أبداه آخر إلى نهاية كان حقيقة الكلام أنه يقدر معدومات لا نهاية لها. فإن قدر فاعلاً إذا لم يكن موجوداً بنفسه، لم يكن له من نفسه إلا العدم، وقد قدر فاعله ليس له من نفسه إلا العدم. فكل من هذه الأمور المتسلسلة ليس لشيء منها من نفسه إلا العدم، ولا للمجموع من نفسه إلا العدم، وليس هناك إلا الأفراد والمجموع، وكل من ذلك ليس منه إلا العدم فيكون قد قدر مجموع ليس منه إلا العدم، وما كان كذلك امتنع أن يكون منه وجود، فإن مالا يكون منه إلا العدم، ولا من مجموعه، ولا من أفراد، يمتنع أن يكون منه وجود. فإذا قدر ممكنات متسلسلة كل منها لا وجود له من نفسه لم يكن هناك إلا العدم والوجود موجود محسوس، فعلم أن فيه ما هو موجود بنفسه، ليس وجوده من غيره وهو المطلوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 الثاني أن يقال: الموجود الذي ليس من نفسه، يمتنع أن يكون وجود غيره منه فإن وجود نفسه بنفسه، واستغناء نفسه بنفسه وقيام نفسه بنفسه، أولى من وجود غيره بوجوده، واستغناء غيره به، وقيام غيره به، فإذا قدر ممكنات ليس فيها ما وجوده بنفسه امتنع أن يكون فيها ما وجود غيره به بطريقة الأولى فلا يجوز أن يكون كل ممكن لا يوجد بنفسه وهو مع هذا فاعل لغيره إلى غير نهاية. وهذا مما لا يقبل النزاع بين العقلاء الذين يفهمونه وسواء قيل: إن المؤثر في مجموع الممكنات هو قدرة الله تعالى بدون أسباب، أو قيل: أنها مؤثرة فيها بالأسباب التي خلقها أو قيل: إن بعضها مؤثر في بعض بالإيجاب أو الإبداع أو التوليد أو الفعل أو غير ذلك مما قيل فإن كل من قال قولاً من هذه الأقوال لا بد أن يجعل للمؤثر وجوداً من موجود بنفسه، لا يمكن أحد ان يقول: كل منها مؤثر وليس له من نفسه إلا العدم، وليس هناك مؤثر له من نفسه وجود، فإنه يعلم بصريح العقل أنه إذا قدر أن كل تلك الأمور ليس لشيء منها وجود من نفسه وجود ولا بنفسه لم يكن له تأثير من نفسه ولا بنفسه، فإن مالا يكون موجوداص بنفسه ومن نفسه فأولى به إن لا يكون مؤثراً في وجود غيره بنفسه ومن نفسه فإذا لم يكن هناك ما هو موجود بنفسه ولا مؤثر بنفسه بل كل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 منها غير موجود بنفسه ولا مؤثر بنفسه، كان كل معدوماً بنفسه، معدوم التأثير بنفسه، فنكون قد قدرناً أموراً متسلسلة كل منها لا وجود له بنفسه ولا تأثير له بنفسه وليس هناك مغاير لها يكون موجوداً مؤثراً فيها، فليس هناك لا وجود ولا تأثير قطعاً. وإذا قال القائل: كل من هذه الأمور التي لا توجد بنفسها يبدع الآخر الذي لا يوجد بنفسه كان صريح العقل يقول له: فما لا يكون موجوداً بنفسه لا يكون مؤثراً بنفسه فكيف تجعله مؤثراً في غيره ولا حقيقة له فإن قال: بل حقيقته توجد بذلك الغير. قيل له: ليس هناك غير يتحقق به فإن الغير الذي قدرته هو أيضاً لا وجود له ولا تأثير أصلاً إلا بما تقدره من غير آخر ليس له وجود ولا تأثير. ونكتة هذا الجواب أن تقدير العقل لما لا يوجد بنفسه بعد، ولا يحقق له وجود بغيره كونه مؤثراً مبدعاً لغيره من أعظم الأمور بطلاناً وفساداً فإن إبداعه للغير لا يكون إلا بعد وجوده وهو مع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 كونه ممكناً يقبل الوجود والعدم ليس موجود فكل ما قدر إنما هي معدومات. الثالث يوضح هذا الجواب الثالث: وهو أن نقول: قول القائل: الممكن الذي لم يوجد هو معدوم ليس بموجود أصلاً والمعدوم الذي لم يحصل له ما يقتضي وجوده هو باق مستمر على العدم. وإذا قال القائل: الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح فهذا بين ظاهر في جاب الإثبات فإنه لا يكون موجوداً إلا بمقتضي لوجوده إذا كان ليس له من نفسه وجود. وأما في النفي فمن الناس من يقول: علة عدمه عدم علة وجوده ويجعل لعدمه علة كما لوجوده علة وهذا قول ابن سينا وأتباعه والتحقيق الذي عليه جمهور النظار من المتكلمين والمتفلسفين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 وهو الآخر من قولي الرازي أن عدمه لا يفتقر إلى علة تجعله معدوماً فالعدم المحض لا يعلل ولا يعلل به إذ العدم المحض المستمر لا يفتقر إلى فاعل ولا علة ولكن عدم علته مستلزم لعدمه ودليل على عدمه فإذا أريد بعلة عدمه ما يستلزم عدمه ويدل على عدمه فهو صحيح وإن أريد بعلة عدمه تحقق العدم الذي يفتقر في تحقق إلى علة موجبة له فليس كذلك فإن العدم المستمر لا يفتقر إلى علة موجبة. فقول القائل: الممكن لا يوجد إلا بمرجح بمنزل قوله: لا يوجد بنفسه لا يوجد إلا بغيره ولا يحتاج أن يقول مالا يوجد بنفسه لا يعدم إلا بغيره فإن مالا يوجد بنفسه فليس له من نفسه وجود. وإذا قلت: له من نفسه العدم فهذا له معينان: إن أردت أن حقيقة مستلزمة للعدم لا تقبل الوجود فليس كذلك بل هي قابلة للوجود وإن أردت أن حقيقته لا تقتضي الوجود، بل ليس لها من نفسها غير العدم، وأن وجودها لا يكون إلا من غيرها لا من نفسها، فهذا صحيح فالفرق بين كونه ليس له من نفسه إلا العدم، وبين كون نفسه مستلزمة للعدم، فرق بين مع أن قولنا: له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 من نفسه وليس له من نفسه، لا نريد به أنه في الخارج نفس ثابتة ليس لها إلا العدم، أو هي مستلزمة للعدم فإن هذا يتخيله من يقول: المعدوم شيء ثابت في الخارج، أو يقول الماهيات في الخارج أمور مغايرة للوجود المحقق في الخارج وهذا كله خيال باطل كما قد بسط في موضعه. ولكن الماهية والشيء قد يقدر في الذهن قبل وجوده في الخارج، وبعد ذلك فما في الإذهان مغايرة لما في الأعيان. وإذا قلنا: هذا الممكن يقبل الوجود والعدم، أو نفسه أو حقيقته لا تقتضي الوجود ولا تستلزم العدم، فنعني به أن ما تصوره العقل من هذه الحقائق لا يكون موجوداً في الخارج بنفسه، وليس له في الخارج وجود من نفسه ولا يجب عدمه في الخارج بل يقبل أن تتحقق حقيقته في الخارج فيصير موجوداً، ويمكن أن لا تتحقق حقيقته في الخارج فلا يكون موجوداً، وليس في الخارج حقيقة ثابتة أو موجودة تقبل الإثبات والنفي بل المراد أن ما تصورناه في الأذهان: هل يتحقق في الأعيان أولا يتحقق؟ وما تحقق في الأعيان هل تحققه بنفسه أو بغيره؟ فإذا قدر أن المتصورات في الإذهان ليس فيها ما يتحقق بنفسه في الخارج، فليس فيها ما هو مبدع بنفسه لغيره في الخارج بطريق الأولى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 وليس فيها إلا ما هو معدوم في الخارج، بل ليس فيها إلا ما هو ممتنع في الخارج، فإن الممكن إذا قدر عدم موجود بنفسه يبدعه كان ممتنعاً لغيره، فإذا قدر انه ليس في الخارج إلا ما ليس له وجود بنفسه، لم يكن في الخارج إلا ما هو ممتنع الوجود، وإما لنفسه إما لغيره، ولا يكون عدم شيء من ذلك مفتقراً إلى علة توجب عدمه، بل هو معدوم بنفسه سواء أمكن وجوده أو امتنع، وحينئذ فلا يكون في الخارج إلا العدم المستمر. وإذا قيل، بعد هذا: الذي لا وجود له من نفسه موجود، بهذا الذي لا وجود له من نفسه وهلم جرا، كان بمنزلة أن يقال: هذا المعدوم موجود بهذا المعدوم وهلم جرا بل المعدوم أن يقال: هذا الممتنع موجود بهذا الممتنع فيكون هذا تناقضاً حيث جعلت المعدوم موجوداً بمعدوم، وسلسلت ذلك فجمعت بين تسلسل المعدومات وبين جعل كل واحد منها هو الذي أوجد المعدوم الآخر. الرابع أن يقال: الممكن لا يتحقق وجوده بمجرد ممكن آخر، فإن ذلك الممكن الآخر لا يترجح وجوده على عدمه إلا بغيره وإذا كان الممكن الذي قدر انه الفاعل المؤثر المرجح لم يترجح وجوده على عدمه، بل يقبل الوجود والعدم، فالممكن الذي قدر أنه الأثر المفعول المصنوع المرجح أولى أن لا يترجح وجوده على عدمه، بل هو قابل للوجود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 والعدم، بل الممكن لا يكون موجوداً إلا عند ما يجب به وجوده، فإنه ما دام متردداً بين إمكان الوجود والعدم لا يوجد فإذا حصل ما به يجب وجوده وجد، وإذا كان كذلك فنفس الممكن لا يجب به ممكن، بل لا يجب الممكن إلا بواجب، والواجب غما بنفسه، وإما بغيره، والواجب بغيره هو الممكن من نفسه الذي لا يوجد إلا بما يجب وجوده وحينئذ فيمتنع تسلسل الممكنات، بحيث يكون هذا الممكن هو الذي وجب به الآخر، بل إنما يجب الآخر بما هو واجب، وما كان ممكناً باقياً على الإمكان لم يكن واجباً: لا بنفسه ولا بغيره، فإذا قدر تسلسل الممكنات القابلة للوجود والعدم من غير أن يكون فيها موجود بنفسه كانت باقية على طبيعة الإمكان، ليس فيها واجب، فلا يكون فيها ما يجب به شيء من الممكنات بطريق الأولى، فلا يوجد شيء من الممكنات وقد وجدت الممكنات هذا خلف. وإنما لزم هذا لما قدرنا ممكنات توجد بممكنات، ليس لها من نفسها وجود من غير أن يكون هناك واجب بنفسه. واعلم أن الناس قد تنازعوا في الممكنات: هل يفتقر وجودها إلى ما به يجب وجودها، بحيث تكون إما واجبة الوجود معه، وإما ممتنعة العدم. أو قد يحصل ما تكون معه بالوجود أولى مع إمكان العدم، وتكون موجودة لمرجح الوجود مع إمكان العدم. فالأزل قول الجمهور والثاني قول من يقول ذلك من المعتزلة ونحوهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وكثير من الناس يتناقض في هذا الأصل، فإذا ابنينا على القول الصحيح فلا كلام وإن أردنا أن نذكر ما يعم القولين قلنا: الخامس أن الممكن لا يتحقق وجوده بمجرد ممكن آخر لم يتحقق وجوده، بل لا يتحقق وجوده إلا بما يحقق وجوده. وحينئذ فإذا قدرنا الجميع ممكنات ليس فيها ما تحقق وجوده، لم يحصل شرط وجود شيء من الممكنات فلا يوجد شيء منها لأن كل ممكن إذا أخذته مفتقراً إلى فاعل يوجده، فهو في هذه الحال لم يتحقق وجوده بعده فإنه ما دام مفتقراً إلى أن يصير موجوداً فليس بموجود فإنه موجوداً ينافي كونه مفتقراً إلى أن يصير موجوداً، فلا يكون فيها موجود، فلا يكون فيها ما يحصل به شرط وجود الممكن، فضلاً عن أن يكون فيها ما يكون مبدعاً لممكن أو فاعلاً له فلا يوجد ممكن وقد وجدت الممكنات، فتسلسل الممكنات بكون كل منها مؤثراً في الآخر ممتنع وهو المطلوب. واعلم أن تسلسل المؤثرات لما كان ممتنعاً ظاهر الامتناع في فطر جميع العقلاء لم يكن متقدمو النظار يطيلون في تقريره لكن المتأخرون أخذو يقرورنه وكان أسباب ذلك اشباه التسلسل في الآثار التي هي الفعال بالتسلسل في المؤثرين الذين هم الفاعلون، فإن جهم بن صفوان وأبا الهذيل العلاف ومن اتبعهما من اهل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة وسلكه من سلكه من المعتزلة والكلابية والكرامية وغيرهم، اعتقدوا بطلان هذا كله. وعن هذا امتنعوا أن يقولوا: إن الرب لم يزل متكلماً إذا شاء ثم اختلفوا: هل كلامه مخلوق أو حادث النوع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 أو قديم العين وهو معنى أو قديم العين وهو حروف او حروف وأصوات مقترن بعضها ببعض أزلاً وأبداً؟ على الأقوال المعروفة في هذا الموضوع. ثم إن جهما وأبا الهذيل العلاف منعا ذلك في الماضي والمستقبل ثم إن جهما كان أشد تعطيلاً، فقال بفناء الجنة والنار، وأما أبو الهذيل فقال بفناء حركات الجنة وجعلوا الرب تعالى فيما لا يزال لا يمكن أن يتكلم ولا يفعل، كما قالوا: لم يزل وهو لا يمكن أن يتكلم وأن يفعل، ثم صار الكلام والفعل ممكناً بغير حدوث شيء يقتضي إمكانه وأما أكثر أتباعهما ففرقوا بين الماضي والمستقبل، كما ذكر في غير هذا الموضع والمقصود هنا انه لما جعل من جعل التسلسل نوعاً واحداً، كما جعل من جعل الدور نوعاً واحداً حصلت شبهة فصار بعض المتأخرين كالآمدي والآبهري يوردون أسولة على تسلسل المؤثرات ويقولون إنه لا جواب عنها فلذلك احتيج إلى بسط الكلام في ذلك. فصل وما سلكه هؤلاء المتاخرون في إبطال الدور والتسلسل في العلل والمعلولات دون الآثار فهو طريق صحيح أيضاً، وإن كان منهم من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 يورد على ذلك شكوكاً يعجز بعضهم عن حلها، كما قد بسط في غير هذا الموضع. لكنه طريق طويل مشق لا حاجة إليه، ولهذا لم يسلكه أحد من النظار المتقدمين من أهل الكلام المحدث، فضلاً عن السلف والأئمة فشيوخ المعتزلة، والأشعرية، والكرامية، وغيرهم من أصناف أهل الكلام، أثبتوا الصانع الحدوث والإمكان وما يتعلق بذلك من غير احتياج إلى بناء ذلك على إبطال الدور والتسلسل، كما هو الموجود في كتبهم فلا يوجد بناء إثبات الصانع على قطع الدور والتسلسل في العلل والمعلولات دون الآثار في كلام مثل أبي علي الجبائي، وأبي هاشم، وعبد الجبار بن أحمد، وأبي الحسين البصري، وغيرهم ولا في كلام مثل أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي بكر بن فورك وأبي إسحق الإسفراييني، وأبي المعالي الجوني وأمثالهم ولا في كلام محمد كرام ومحمد بن الهيصم وأمثالهم ولا في كتب من يوافق المتلكمين في كثير من طرقهم، مثل كلام أبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلي وأبي الوفاء بن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وأمثالهم وكذلك غير هؤلاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 ولا في كلام متكلمي الشيعة كالموسوي والطوسي وأمثالهما، لا أعلم أحداً من متكلمي طوائف المسلمين جعل إثبات الصانع موقوفاً على إبطال الدور والتسلسل في العلل والمعلولات دون الآثار وإن كان هؤلاء يبطلون ما يبطلونه من الدور والتسلسل. فالمقصود أنهم لم يجعلوا إثبات الصانع متوقفاً عليه، بل من يذكر منهم إبطال التسلسل يذكره في مسائل الصفات والأفعال، فإن هذا فيه نزاع مشهور فيذكرون إبطال التسلسل مطلقاً في العلل والآثار لإبطال حوداث لا أول لها بدليل التطبيق ونحوه، وأما التسلسل في الفاعلين والعلل الفاعلة، والعلل الغائية دون الاثار فإنهم مع اتفاقهم على بطلانه لا يحتاجون إليه في إثبات الصانع. وأما التسلسل في الآثار والشروط فهذا احتاج إليه من احتاج من نفاة ما يقوم به المقدورات والمرادات كالكلابية، وأكثر المعتزلة والكرامية ومن وافق هؤلاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 ومن أقدم من رأيته ذكر نفي التسلسل في أثبات واجب الوجود في المؤثراتخاصة دون الآثار ابن سينا وهوبناه على نفي التسلسل في العلل فقط، ثم اتبعه من سلك طريقة كالسهوردي المقتول وأمثاله وكذلك الرازي والآمدي والطوسي وغيرهم. لكن هؤلاء زادوا عليه احتياج الطريقة إلى تفي الدور أيضاً. والدور القبلي مما اتفق العقلاء على نفيه، ولوضوح انتفائه لم يحتج المقدمون والجمهور إلى ذكر ذلك، لأن المستدل بدليل ليس عليه أن يذكر كل ما قد يخطر بقلوب الجهال من الاحتمالات وينفيه، فإن هذا لا نهاية له، وإنما عليه أن ينفي من الاحتمالات ما ينقدح ولا ريب أن اتقداح الاحتمالات يختلف باختلاف الأحوال. ولعل هذا هو السبب في أن بعض الناس يذكر في الأدلة من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 الاحتمالات التي ينفيها مالا يحتاج غيره إلى ذلك، ولكن هذا لا ضابط له، كما أن الأسولة والمعارضات الفاسدة التي يمكن أن يوردها بعض الناس على الأدلة لا نهاية لها فإن هذا من باب الخواطر الفاسدة، وهذا لا يحصيه أحد إلا الله تعالى، لكن إذا وقع مثل ذلك لناظر أو مناظر فإن الله ييسر من الهدى ما يبن له فساد ذلك، فإن هدايته لخلقه وإرشاده لهم هو بحسب حاجتهم إلى ذلك وبحسب قبولهم الهدى وطلبهم له قصداً وعملاً. موقف الرازي من طريقة ابن سينا ولهذا لما شرح الرازي طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود وقال إنه لم يذكر فيها إبطال الدور، وذكر ما ذكره في إبطال الدور ثم قال والإنصاف أن الدور معلوم البطلان بالضرورة، ولعل ابن سينا إنما تركه لذلك والطريقة التي سلكها ابن سينا في إثبات واجب الوجود ليس هي الطريقة أئمة الفلاسفة القدماء كأرسطو وأمثاله وهي عند التحقيق لا تفيد إلا إثبات مجرد واجب. وأما كونه مغايراً للأفلاك فهو مبني على نفي الصفات، وهو توحيدهم الفاسد الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 قد بينا فساده في غير هذا الموضع ولهذا كان من سلك هذه الطريقة قد يفضى به الأمر إلى إنكار وجود واجب مغاير لوجود الممكنات كما يقوله أهل الوحوة القائلون بوحدة الوجود من متأخري متصوفة هؤلاء الفلاسفة كابن عربي وابن سبعين وأمثالهما، والقول بوجود قول حكاه ارسطو واتباعه عن طائفة من الفلاسفة وأبطلوه. والقائلون بوحدة الوجود حقيقة قولهم هو قول ملاحدة الدهرية الطبيعية الذين يقولون: ما ثم موجود إلا هذا العالم المشهود، وهو واجب بنفسه، وهو القول الذي أظهره فرعون لكن هؤلاء ينازعون أولئك في الإسم، فأولئك يسمون هذا الموجود بأسماء الله وهؤلاء لا يسمونه بأسماء الله وأولئك يحسبون ان الإله الذي أخبرت عنه الرسل هو هذا الموجود، وأولئك لا يقولون هذا، وأولئك لهم توجه إلى الوجود المطلق، وأولئك ليس لهم توجه إليه. وفساد قول هؤلاء يعرف بوجوه: منها العلم بما يشاهد حدوثه كالمطر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 والسحاب، والحيوان، والنبات، والمعدن، وغير ذلك من الصور والأعراض، فإن هذه يمتنع أن يكون وجودها واجباً لكونها كانت معدومة ويمتنع أن تكون ممتنعة لكونها وجدت فهذه مما يعلم بالضرورة أنها ممكنة ليست واجبة ولا ممتنعة. ثم إن الرازي جعل هذه الطريقة التي سلكها ابن سينا هي العمدة الكبرى في إثبات الصانع، كما ذكر ذلك في رسالة إثبات واجب الوجود ونهاية العقول والمطالب العالية وغير ذلك من كتبه وهذا مما لم يسلكه أحد من أئمة النظار المعروفين من أهل الإسلام بل لم يكن في هؤلاء من سلك هذه الطريقة إثبات الصانع فضلاً عن أن يجعلها هي العمدة ويجعل مبناها على ما سنذكره من المقدمات. وقد رأيت من أهل عصرنا من يصنف في أصول الدين ويجعلون عمدة جميع الدين على هذا الأصل تبعاً لهؤلاء لكن منهم من لا يذكر دليلاً بل يجعل عمدته في نفي النهاية امتناع وجود مالا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 يتناهي من غير حجة أصلاً ولا يفرق بين النوعين ويرتب على ذلك جميع أصول الدين. ثم من هؤلاء المصنفين من يدخل مع أهل وحدة الوجود المدعين للتحقيق والعرفان، ويعتقد صحة قصيدة ابن الفارض لكونه قراها على القونوي وأعان على شرحها لمن شرحها من إخوانه وهم مع هذا يدعون أنهم أعظم العالم توحيداً وتحقيقاً ومعرفة. فلينظر العاقل ما هو الرب الذي أثبته هؤلاء، وما هو الطريق لهم إلى إثباته وتناقضهم فيه فإن القائلين بوحدة الوجود يقولون بقدم العالم تصريحاً أو لزوماً، وذلك مستلزم للتسلسل، ودليله الذي أثبت به واجب الوجود وعمدته فيه نفي كل ما يسمى تسلسلاً. وأيضاً ففيما صنفه من أصول الدين، يذكر حدوث العالم موافقة للمتكلمين المبطلين للتسلسل مطلقاً في المؤثرات والآثار ومع هؤلاء يقول بوحدة الوجود المستلزمة لقدمه وللتسلسل، موافقة لمتصرفة الفلاسفة الملاحدة كابن العربي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 وإذا كان ما ذكره ابن سينا وأتباعه في إثبات واجب الوجود صحيحاً في نفسه، وإن كان لا حاجة إليه ولا يحصل المقصود من إثبات الصانع به، وكان الرازي ونحوه يزعمون أن هذه الطريقة هي الطريقة الكبرى في إثبات واجب الوجود، وهي الطريقة التي سلكها الآمدي مع أنه اعترض عليها باعتراض ذكر أنه لا جواب له عنه فنحن نذكرها على وجهها. كلام ابن سينا في إثبات وجود الله تعالى قال ابن سينا إشارة كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فإما أن يكون بحيث يجب له الوجودفي نفسه، فإن وجب فهو الحق بذاته، الواجب وجوده من ذاته، وهو القيوم، وإن لم يجب، لم يجز أن يقال: هو ممتنع، بذاته بعد ما فرض موجودا، بل إن قرن باعتبار ذاته شرط مثل عدم علته صار ممتنعا، أو مثل شرط وجود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 علته صار واجبا. وإن لم يقرن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له من ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان فيكون باعتبار ذاته الشىء الذي لا يجب ولا يمتنع فكل موجود إما واجب بذاته، وغما ممكن الوجود بحسب ذاته إشارة ماحقة في نفسه الإمكان فليس يصير موجوداً من ذاته فإنه ليس وجوده من ذاته أولى من عدمه، ومن حيث هو ممكن، فإن صار أحدهما أولى، فلحضور شىء أو غيبته، فوجود كل ممكن الوجود هو من غيره ثم قال تنبيه: إما أن يتسلسل ذلك إلى غير النهاية، فيكون كل واحد من أحاد السلسلة ممكناً في ذاته، والجملة معلقة بها فتكون غير واجبة أيضا، وتجب بغيرها. ولنرد هذا بياناً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 شرح: كل جملة كل واحد منها معلول، فإنها تقتضي علة خارجة عن آحادها وذلك لأنها إما أن تقتضي علة أصلاً، فتكون واجبة غير معلولة، وكيف يتأتى هذا: وإنما تجب بآحادها؟ وإما أن تقتضي علة، هي الآحاد باسرها، فتكون معلولة لذاتها، فإن تلك الجملة والكل شىء واحد 0 وأما الكل، بمعنى كل واحد، فليس تجب به الجملة 0 وإما أن تقتضي علة هي بعض الاحاد أولى بذلك من بعض إن كان كل واحد منها معلولاً ولأن علته أولى بذلك، وإما أن تقتضي علة خارجة عن الآحاد كلها وهو الثاني إشارة: كل علة جملة هي غير شىء من آحادها، فهي علة: أولاً: للآحاد، ثم للجملة، وإلا فلتكن الآحاد غير محتاجة إليها. فالجملة إذا تمت بآحادها لم تحتج إليها، بل ربما كان شىء علة لبعض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 الآحاد دون بعض، ولم يكن علة للجملة على الإطلاق إشارة كل جملة مترتبة من علل ومعلولات على الولاء، وفيها علة غير معلولة، فهي طرف، لأنها كانت وسطاً فهي معلولة إشارة كل سلسلة مترتبة من علل ومعلولات كانت متناهية أو غير متناهية فقد ظهر أنها لم يكن فيها إلا معلول، احتاجت إلى علة خارجة عنها لكنها يتصل بها لا محالة طرف، فظهر أنه إن كان فيها ما ليس بمعلول، فهو طرف ونهاية، فكل سلسلة تنتهي إلى واجب الوجود بذاته تعليق على كلام ابن سينا قلت: مضمون هذا الكلام ان الموجود إما واجب بنفسه، وإما ممكن لا يوجد إلا بغيره، كما قرر ذلك، في الإشارتين، لكن قد قيل إن في الكلام تكريراً لا يحتاج إليه، وإذا كان الممكن لا يوجد إلا بغيره فهو مفعول معلول، ويمتنع تسلسل المعلولات، لأن كل واحد من تلك الآحاد ممكن، والجملة متعلقة بتلك الممكنات، فتكون ممكنة غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 واجبة أيضاً، فتجب بغيرها، وما كان غير جملة الممكنات وآحادها فهو واجب فهذا معنى قوله: إما أن يتسلسل ذلك إلى غير النهاية، فيكون كل واحد من آحاد السلسلة ممكناً في ذاته والجملة معلقة بها، فتكون غير واجبة أيضاً وتجب بغيرها لكن قوله إما أن يتسلسل يحتاج أن يقال: وإما ان لا يتسلسل، فقيل إنه حذف ذلك اختصاراً إذ كان هو مقصوده والمعنى: وإن لم تتسلسل الممكنات انتهت إلى واجب الوجود، وهو المطلوب ولو قيل بدل هذا اللفظ: إن تسلسل ذلك كان هو العبارة المناسبة لمطلوبه ثم ذكر شرح هذا الدليل على وجه تفصيلي، بعد ان ذكره محملاً، فقال: إذا تسلسلت الممكنات، وكل منها معلول، فغنها تقتضي علة خارجة عن آحادها لأنه إما يكون لها علة، وإما أن لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 يكون، وإذا كان لها علة، فالعلة إما المجموع، وإما بعضه، وإنما خارج عنه، والأقسام ممتنعة، إلا الأخير أما الأول وهو أن لا تقتضي علة أصلاً فتكون الجملة واجبة غير معلولة، فهذا لا يتاتى، لأنها إنما تجب بآحادها، وما وجب كان معلولاً واجباً بغيره وهذا يقرره بعضهم كالرازي بوجهين: أحدهما: أن الجملة مركبة من الآحاد وىحادها غيرها، وما افتقر إلى غيره لم يكن واجباً بنفسه، وهو تقرير ضعيف، لأنه لو قدر أن كل واحد من الأجزاء واجب بنفسه، لم يمتنع أن تكون الجملة واجبة بنفسها، فإن مجموع الأمور الواجبة بنفسها لا يمتنع أن تكون غير محتاجة إلى أمور خارجة عنها، وهذا هو المراد بكونه واجباً بنفسه 0 ولكن هذا من جنس حجتهم على نفي الصفات بنفي التركيب وهي حجة داحضة الوجه الثاني: أن كل واحد من الآحاد ممكن غير واجب، والجملة لا تحصل إلا بها فما لا يحصل إلا بالممكن اولى ان يكون ممكناً، وهذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 التقرير خير من ذاك، وهذا التقرير الثاني هو الذي ذكره السهروردي في تلويحاته وهو أحد الوجهين الذين ذكرهما الرازي وهو أحد الآمدي أيضاً قال السهروردي: لما كان كل واحد من الممكنات يحتاج إلى العلة، فجميعها محتاج لأنه معلول الآحاد الممكنة، فيفتقر إلى علة خارجة عنه، وهي ممكنة، لأنها لو كانت ممكنة كانت من الجملة فتكون إذاً واجبة الوجود وقد قررها الآمدي بوجه ثالث، وهو أنها إن كانت الجملة واجبة بذاتها فهو عين المطلوب، فقال الجملة إما ان تكون واجبة لذاتها، وإما أن تكون ممكنة، لا جائز أن تكون واجبة، وإلا لما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 كانت احادها ممكنة، وقد ثيل: إنها ممكنة قال: ثم وإن كانت واجبة فهو مع الاستحالة عين المطلوب وهذا الوجه الثاني الذي ذكره هو وجه ثالث، وليس هذا بمحصل للمقصود، لأنه حينئذ لا يلزم ثبوت واجب بنفسه خارج عن جملة الممكنات كلام الآمدي في دقائق الحقائق وقد أورد بعضهم على هذا سؤلاً، فقال: إذا كانت الآحاد ممكنة، ومعناه افتقار كل واحد إلى علته، وكانت الجملة هي مجموع الآحاد، فلا مانع من إطلاق الوجوب وعدم الإمكان عليها، بمعنى أنها غير مفتقرة إلى امر خارج عنها، وإن كانت أبعاضها مما يفتقر بعضها إلى بعض قال الآمدي: وهذا ساقط، لأنه إذا كانت الجملة غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 ممكنة، كانت واجبة بذاتها، وهي مجموع الاحاد. وكل واحد من الاحاد ممكن، فالجملة أيضاً ممكنة بذاتها، والواجب بذاته لا يكون ممكناً بذاته قلت: وهذا السؤال يحتمل ثلاثة اوجه: احدهما أن يقال: إنها واجبة بالآحاد والأجتماع جميعاً، ومعلوم ان الجملة هي الآحاد واجتماعها، فإذا كان ذلك كان ممكناً، كانت الذات ممكنة، فيكون السؤال ساقطاً كما قال الآمدي: الثاني: أن يقال: المجموع واجب بآحاده الممكنة، ولا يجعل المجموع نفسه ممكناً، بل يقال: المجموع واجب بالآحاد الممكنة وهذا هو السؤال الذي يقصده من يفهم ما يقول، وحينئذ فسيأتي جوابه بان الاجتماع الذي للممكنات أولى أن يكون ممكناً لكونه عرضاً لها، والعرض محتاج إلى موارده، فإذا كانت ممكنة كان هو اولى بالإمكان، وغير ذلك الاحتمال الثالث: أن يقال: كل واحد من الآحاد يترجح بالآخر، والمجموع ممكن أيضا، لكنه يترجح بترجح الآحاد المتعاقبة وهذا السؤال ذكره الآمدي مورداً له على هذه الحجة في كتابه المسمى بدقائق الحقائق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 قال: ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود، وبكون ترجحها بترجح آحادها، وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير النهاية قال: وهذا شكال مشكل، وربما يكون عنده غيري حله تعليق ابن تيمية على كلام الآمدي ولقائل أن يقول: إن أريد بكون الجملة ممكنة، انها ممكنة غير واجبة، بل مفتقرة إلى أمر خارج عنها، فلذلك يوجب افتقارها إلى غيرها، وهو المطلوب وإن أريد أنها ممكنة بنفسها، واجبة بالآحاد المتسلسلة فهذا السؤال هو في معنى السؤال الذي قبله، وإنما الاختلاف بينهما في أن الأول قال: لم لا تكون واجبة بنفسها، بمعنى أنها غير مفتقرة إلى أمر خارج عن آحادها بل المجموع واجب بآحادها الممكنة والثاني قال: لم لا تكون ممكنة بنفسها واجبة بآحادها على وجه التسلسل لكن قد يقال: إنه في احد التقديرين ادعى وجوب الهيئة الاجتماعية بنفسها مع إمكان الآحاد، وفي الثاني ادعى ان الهيئة الاجتماعية ممكنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 بنفسها، لكنها واجبة بالآحاد المتسلسلة، ومعلوم أن كليهما باطل، والأول أظهر بطلاناً من الثاني، فإنها إذا كانت الآحاد كلها ممكنة، والاجتماع نسبة وإضافة بينها، غايته أن يكون عرضاً قائماً بها، امتنع ان يكون واجباً بنفسه، فإن الموصوف الممكن يمتنع أن تكون صفته واجبة الوجود بنفسها وأما الثاني فلأن الهيئة الاجتماعية إذا كانت معلول الآحاد الممكنة كانت أولى بالإمكان، فإن معلول الممكن أولى أن يكون ممكناً، وإن شئت قلت: المفتقر إلى الممكن أولى أن يكون ممكناً والآحاد ليس فيها إلا ما هو ممكن، فلا يكون في الاجتماع وأحاده إلا ما هو ممكن لا يوجد بنفسه، وما لا يوجد بنفسه يمتنع أن يوجد به غيره، إذا لم يحصل له ما يوجد به فإن وجوده في نفسه قبل وجود غيره به، فإذا لم يكن وجوده إلا بموجد يوجده، فلان لا يكون وجود غيره به بدون الموجد الذي يوجده أولى واحرى، وكل من الممكنات واجتماعها ليس موجوداً بنفسه، فيمتنع ان يكون شيء منها موجداً لغيره، فامتنع ترجح بعضها ببعض، وترجح المجموع بالآحاد وفي الجملة، فكلا السؤالين يتضمن افتقار الاجتماع إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 الآحاد فكلاهما لم يدع فيه إلا وجوبها بالآحاد، لم يدع وجوباً بالذات غير الوجوب بالآحاد لكن الآمدي وهي هذا السؤال لما أضافة إلى غيره بعبارة أخرى واعتبار، ثم إنه اعترف بعدم قدرته على حله لما أورده من جهة نفسه بعبارة أخرى واعتبار آخر ومن أجاب عن الآمدي في الفرق بينهما يقول: السؤال الأول قيل فيه: إن المجموع واجب بنفسه، بعبارة ممتنع وهذا قيل فيه: إنه ممكن وجب بالآحاد وهذا الجواب بالفرق ضعيف، وذلك لأنه إذا قيل: هو ممكن واجب بالآحاد، فقد قيل: إنه واجب بتلك الآحاد، وتلك الآحاد كلها ممكنة، ومعلول الممكن أولى أن يكون ممكناً، فيمتنع أن يكون معلول الممكن قبل وجوب الممكن، والممكن لا يجب إلا بالواجب بنفسه بل ما كان واحد من الممكنات جزء علة لوجوده فهو ممكن فكيف إذا كان كل من الممكنات التي لا نهاية لها جزء علة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 وجوده؟ فإن الاجتماع الذي يحصل للممكنات المتسلسلة، التي هي علل ومعلولات، يتوقف على كل واحد من تلك الأمور، التي كل منها علة معلول، فالاجتماع أولى بالإمكان وأبعد عن الوجوب، إن قدر أن له حقيقة غير الآحاد فثبت انه إذا قدر سلسلة العلل والمعلولات، كل منها ممكن فلا بد لها من أمر خارج عنها، وهذا أمر متفق عليه بين العقلاء وهو من أقوى العلوم اليقينية والمعارف القطعية ولولا أن طوائف من متأخري النظار طولوا في ذلك وشكك فيه بعضهم، كالآمدي، والأبهري لما بسطنا فيه الكلام المجموع مغاير لكل واحد من الآحاد وأصل هذا السؤال مبناه على أن المجموع ليس هو كل واحد واحد من الآحاد، إذا المجموع مغاير لكل واحد من الآحاد فقد يقال: هو واجب بكل واحد واحد من الآحاد، وحينئذ فالمجموع ممكن من جهة كونه مجموعاً واجباً بالآحاد الممكنة، لا سيما وهؤلاء الفلاسفة الذين احتجوا بهذا 0 هم واكثر الناس، يقولون: لا يجب في كل جملة ان توصف بما يوصف به آحادها كلام ابن سينا قال ابن سينا: ليس إذا صح على كل واحد حكمه صح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 على كل محصل، وإلا لكان يصح أن يقال الكل من غير المتناهي يمكن أن يدخل في الوجود، لأن كل واحد يمكن أن يدخل في الوجود، فيحمل الإمكان على الكل، كما حمل على كل واحد كلام السهروردي وكذلك قال السهروردي الحكم على الكل بما على كل واحد لا يجوز، فإن كل ممكن غير الحركة جائز وقوعه دفعة واحدة، وليس كذلك الجميع، وكل واحد من الضدين ممكن في محل، والكل معاً غير ممكن الرد على ذلك من وجوه الوجه الأول أن يقال: نفس الاجتماع يمتنع أن يكون واجباً بنفسه بدون الأجزاء، فإن فساد هذا معلوم بالضرورة، ولم يقله أحد، كيف والاجتماع عرض يفتقر إلى محله، فإذا كان محل العرض غير واجب بنفسه، كان العرض المفتقر إلى الممكن بنفسه أولى أن يكون ممكناً غير واجب بنفسه وإنما يتوهم وجوبه بالأجزاء الممكنة، وحينئذ فيكون ذلك الاجتماع ممكناً بنفسه، واجباً بالأجزاء وإذا كان ممكناً بنفسه، فنفس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 اجتماع الآحاد من جمله أجزاء المجموع فيقال: المجموع هو الآحاد مع الهيئة الاجتماعية، وكل واحد من ذلك ممكن، ليس واجباً بنفسه، وحينئذ فلا يكون هنا مجموع منفصل عن الأجزاء، فلو قيل: وجب المجموع الآحاد، لكان قولاً بوجوب أحد الجزأين الممكنين بالآخر، وهو وجوب الجزء الممكن بنفسه، الذي هو الصورة الاجتماعية، بسائر الأجزاء التي كل منها ممكن بنفسه وإذا كان كذلك كان هذا مضمونه حصول أحد الممكنين بالآخر من غير شيء واجب نفسه ومن المعلوم أن المعلق بالممكن بنفسه أولى أن يكون ممكناً بنفسه، والممكن بنفسه لا يوجد إلا بغيره، فيلزم أن لا يوجد واحد منهما على هذا التقدير، والتقدير أن الممكنات قد وجدت، فهناك شيء خارج هن الممكنات وجدت به الرد على ذلك من وجوه الوجه الثاني بأن يقال: المجموع الذي هو هيئة اجتماعية نسبة وإضافة بين آحاد الممكنات، ليس هو جوهراً قائماً بنفسه، فيمتنع أن تكون واجبة بنفسها، فإن العرض مفتقر إلى غيره والنسبة من أضعف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 الأعراض، وما كان مفتقراً إلى ممكن من الممكنات امتنع وجوبه بنفسه، فالمفتقر إلى كل واحد واحد من الممكنات ممكن بنفسه، ولا يوجد شيء مما هو ممكن بنفسه إلا بغيره، لم يوجد شيء من ذلك إلا بغيره، ويمتنع وجود الممكن بمجرد ممكن، فإن الممكن لا يوجد بنفسه، فلا يوجد به غيره بطريق الأولى وهو معنى قولهم: المعلق بالممكن أولى أن يكون ممكناً الوجه الثالث أن يقال: المجموع إما أن يكون مغايراً لكل واحد واحد، وإما أن لا يكون. فإن لم يكن مغايراً بطل هذا السؤال، ولم يكن هناك مجموع غير الآحاد الممكنة، وإن كان مغايراً لها فهو معلول لها، ومعلول الممكن أولى أن يكون ممكناً. وهذا معنى قول ابن سينا إن الجملة إذا لم تقتض علة أصلاً، أي لم يستلزم علة تكون موجبة للجملة، كانت واجبة غير معلومة وكيف يتأتى هذا وإنما تجب بآحادها. يقول: هي لم تجب بنفسها، وإنما وجبت بآحادها، وما وجب بغيره لم يكن واجباً بنفسه. كلام الآمدي في خطبة أبكار الأفكار وإيضاح هذا بالكلام على عبارة الآمدي حيث قال هذا إشكال مشكل وربما يكون عند غيري حله مع أنه يعظم ما يتكلم فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 من الكلام والفلسفة ويقول في خطبة كتابه أبكار الأفكار ما تقوله الفلاسفة من أنه لما كان كمال كل شيء وتمامه بحصول كمالاته الممكنة له، كان كمال النفس الإنسانية بحصول ما لها من الكمالات، وهي الإحاطة بالمعقولات، والعلم بالمجهولات، ولما كانت العلوم متكثرة، والمعارف متعددة، وكان الزمان لا يتسع لتحصيل جملتها، مع تقاصر الهمم وكثرة القواطع، كان الواجب السعي في تحصيل أكملها، والإحاطة بأفضلها، تقديماً لما هو الأهم فالأهم، وما الفائدة في معرفته أتم، ولا يخفى أن أولى ما تترامى إليه بالبصر أبصار البصائر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 وتمتد نحوه أعناق الهمم والخواطر، ما كان موضوعه أجل الموضوعات وغايته أشرف الغايات، وإليه مرجع العلوم الدينية، ومستند النواميس الشرعية وبه صلاح العالم ونظامه، وحله وإبرامه والطرق الموصلة إليه يقينيات، والمسالك المرشدة نحوه قطعيات. وذلك هو العلم الملقب بعلم الكلام، الباحث في ذات واجب الوجود، وصفاته وأفعاله، ومتعلقاته، ولما كنا مع ذلك قد حققنا أصوله، ونقحنا فصوله، وأحطنا بمعانيه، وأوضحنا مبانيه، وأظهرنا أغواره، وكشفنا أسراره، وفزنا فيه بقصب سبق الأولين، وحزنا غايات أفكار المتقدمين والمتأخرين، واستنزعنا منه خلاصة الألباب وفصلنا القشر عن اللباب، سألني بعض الأصحاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 والفضلاء من الطلاب جمع كتاب حاو لمسائل الأصول جامع لأبكار أفكار العقول. وذكر تمام الكلام، فهو مع هذا الكلام، ومع ما في كلامه من ذكر مباحث أهل الفلسفة والكلام، يذكر مثل هذا السؤال المشكل الوارد على طريقة معرفة واجب الوجود، الذي لم يذكر طريقاً سواه، ويذكر أنه مشكل وليس عنده حله، ولكن من عدل عن الطرق الصحيحة الجلية، القطعية القريبة البينة، إلى طرق طويلة بعيدة، لم يؤمن عليه مثل هذا الانقطاع، كما قد نبه العلماء على ذلك غير مرة، وذكروا أن الطرق المبتدعة إما أن تكون مخطرة لطولها ودقتها وإما أن تكون فاسدة ولكن من سلك الطريق المخوقة، وكانت طريقاً صحيحة فإنه يرجى له الوصول إلى المطلوب. ولكن لما فعل هؤلاء ما فعلوا، وصاروا يعارضون بمضمون طرقهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 صحيح المنقول وصريح المعقول، ويدعون أن لا معرفة إلا من طريقهم، أولا يكون عالماً كاملاً إلا من عرف طريقهم احتيج إلى تبين ما فيها دفعاً لمن يحارب الله ورسوله، ويسعى في الأرض فساداً، وبياناً للطرق النافعة غير طريقهم، وبياناً لأن أهل العلم والإيمان عالمون بحقائق ما عندهم، ليسوا عاجزين عن ذلك، ولكن من كان قادراً على قطع الطريق، فترك ذلك إيماناً واحتساباً، وطلباً للعدل والحق، وجعل قوته في الجهاد في أعداء الله ورسوله، كان خيراً ممن جعل ما أوتيه من القوة فيما يشبه قطع الطريق {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون * وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون * أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين * مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون * أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين} . البقرة 11- 19 فإن الهدى الذي بعث الله به رسوله، لما كان فيه معنى الماء الذي يحصل به الحياة، ومعنى النور الذي يحصل به الإشراق، ذكر هذين المثلين، كما قال تعالى {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} الأنعام 122 وكما ضرب المثل بهذا وهذا في قوله تعالى {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} الرعد 17. وقال تعالى {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا * أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} النساء 60 - 63. ومن أعظم المصائب أن يصاب الإنسان فيما لا سعادة له ولا نجاة له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 إلا به، ويصاب في الطريق الذي يقول إنه به يعرف ربه، ويرد عليه فيه إشكال لا ينحل له، مع أنه من أكبر رؤوس طوائف أهل الكلام والفلسفة، بل قد يقال: إنه لم يكن فيهم في وقته مثله. والمقصود هنا ذكر عبارته في الإشكال الذي أورده وهو قوله: ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود ويكون ترجحها بترجح آحادها، وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير نهاية. الرد على الآمدي فيقال له: والأمور التي شملها وجوب أو إمكان أو امتناع أو غير ذلك، إن لم يكن هناك إلا مجرد شمول ذلك الوصف لها من غير أمر وجودي زائد على الآحاد، فليس اجتماعها زائداً على أفرادها، وإن كان هناك اجتماع خاص كالتأليف الخاص، فهذا التأليف والاجتماع الخاص زائد على الأفراد، وإذا كان كذلك فليس في مجرد تقدير ممكنات شملها الإمكان ما يقتضى أن يكون اشتراكها في ذلك قدراً زائداً على الآحاد، كما أن العشرة المطلقة ليست قدراً زائداً على آحاد العشرة. لكن نحن نذكر التقسيمات الممكنة التي تخطر بالبال، ليكون الدليل جامعاً، فنقول: إذا قال القائل في مثل المعلولات الممكنة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 الجملة معلولة بالآحاد. فيقال له: إما أن لا يكون هنا جملة غيرالآحاد، كما ليس للعشرة جملة غير آحاد العشرة، وإما أن تكون الجملة غير الآحاد، كالشكل المثلث، فإن اجتماع الإضلاع الثلاثة غير وجودها مفترقة، وكالعشرة المصفوفة فإن اصطفافها غير العشرة المطلقة فإن كان الأول فالجملة هي الآحاد المتعاقبة وكلها ممكن فالجملة كلها ممكنة. وإن كان الثاني فالجملة إما ان يراد بها الهيئة الاجتماعية دون أفرادها، وإما أن يراد بها الأفراد دون الاجتماع، وإما ان يراد بها الأمران، والأول هو الذي أراده بالسؤال. لكن ذكرنا كل ما يمكن أن يقال فإذا قال: الاجتماع ممكن، وترجحه بالآحاد المتعاقبة. قيل له: فيكون الاجتماع معلول الآحاد وموجبها ومقتضاها والآحاد ممكنة ومعلول الممكن أولى أن يكون ممكناً، فيكون حينئذ كل من الآحاد ممكناً ونفس الجملة ممكنة، لكن هذا الممكن معلول تلك الممكنات، وقد علم أن الممكن لا يوجد بنفسه، فلا يكون شيء من تلك الآحاد موجوداً بنفسه، ولا الجملة موجودة بنفسها، فلا يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 في جميع ما ذكر ما يوجد بنفسه، وما لا يوجد بنفسه إذا وجد ن فلا بد له من موجد. ومما يبين ذلك أن الجملة إذا قيل: هي ممكنة معلولة الآحاد المتعاقبة، كان هاك ممكن زيد على تلك الممكنات، فكان الممكنات التي هي معلولات متعاقبة زيدت معلولا آخر، ومعلوم أنها بزيادة معلول آخر تكون أحوج إلى الواجب منها لو لم تزد ذلك المعلول. ولو قيل: إنها زيدت علة ممكنة لم يغن عنها شيئاً فكيف إذا زيدت معلولا ممكناً. ومما يبين هذا أن الجملة قد تكون مقترنة وقد تكون متعاقبة فالمقترنة مثل اجتماع أعضاء الإنسان واجتماع أبعاض الجسم المركب سواء كان لها ترتيب وضعي كالجسم أو لم يكن كاجتماع الملائكة والناس والجن والبهائم وغير ذلك. وأما المتعاقبة فمثل تعاقب الحوادث كاليوم والأمس، والولد مع الولد ونحو ذلك. والجملة المقترنة أحق بالاجتماع مما تعاقبت أفرادها، فإن ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 تعاقبت أفراده قد يقال: إنه ليس بموجود، لأن الماضي معدوم والمستقبل معدوم، ولهذا جوز من جوز عدم التناهي في هذا دون ذاك، وفرق بين الماضي والمستقبل لأن الماضي دخل في الوجود بخلاف المستقبل، وفرق قائل ثالث بين ماله اجتماع وترتيب كالجسم، وبين ما فقد أحدهما كالنفوس والحركات. وإذا كان كذلك فإذا قال اقائل: الجملة ممكنة وهي معلولة الآحاد، فلو كانت الجملة هنا مقترنة مجتمعة في زمان احد، لكان الأمر فيها أظهر من المتعاقبة التي لا اقتران لآحادها، ولا أجتماع لها في زمن واحد، والعل والمعلولات لا تكون إلا مجتمعة، لا تكون متعاقبة. لكن المقصود أن ما يذكره يشمل القسمين فلو قدر أنها متعاقبة لكان ذلك يشملها. والآمدي جعل العمدة في نفي تناهي العلل والمعلولات على أنه قال: والأقرب في ذلك أن يقال: لو كانت العلل والمعلولات غير متناهية، وكل واحد منها ممكن على ما وقع به الغرض فهي غما متعاقبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وإما معاً، فإن قيل بالأول فقد أبطل بثلاثة اوجه ثم زيفها وقال والأقرب في ذلك أن يقال: لو كانت العلل والمعلولات متعاقبة فكل واحد منها حادث لا محالة، وعند ذلك فلا يخلو ما أن يقال بوجود شيء منها في الأزل، أولا وجود لشيء منها في الأزل فإن كان الأول فهو ممتنع، لأن الأزلي لا يكون مسبوقاً بالعدم والحادث مسبوق بالعدم وإن كان الثاني فجملة العلل والمعلولات مسبوقة بالعدم ضرورة أن لا شيء منها في الأزل ويلزم من ذلك أن يكون لها ابتداء ونهاية وماله ابتداء ونهاية فهو متوقف على سبق غيره عليه، وأما أن كانت العلل والمعلولات المفروضة موجودة معاً. ثم ساق الدليل كما حكيناه عنه، وهذه التقاسيم والتطويل لا يحتاج إليها، وهي باطلة في نفسها ن فزاد في الدليل مايستغنى عنه ويكون توقف الدليل عليه مبطلاً له، إذا لم يبطل إلا بما ذكره. وهذا كثيراً ما يقع في كلام أهل الكلام المذموم، يطولون في الحدود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 والأدلة بما لا يحتاج التعريف والبيان إليه ثم يكون ما طولوا به مانعاً من التعريف والبيان، فيكونون مثل من يريد الحج من الشام فيذهب إلى الهند ليحج من هناك فينقطع عليه الطريق فلم يصل إلى مكة. وجوه الرد على الآمدي الأول أن يقال: ما ذكره من الدليل على امتناع علل ومعلولات مجتمعة، يتناول العلل والمعلولات مطلقاً سواء كانت متعاقبة، أو لم تكن. وإذا كان دليل الامتناع يعم القسمين، فلا حاجة إلى التقسيم ولكن زيادة هذا القسم كزيادة القسم فيما ذكره بعد ذلك، حيث قال وإن كانت العلل والمعلولات معاً، فالنظر إلى الجملة غير النظر إلى كل من الآحاد وحينئذ فالجملة إما أن تكون واجبة، وأما أن تكون ممكنة وهذا لا يحتاج إليه أيضاً. فإن قد ذكر أن الآحاد ممكنة مفتقرة إلى الواجب فبتقدير أن لا تكون الجملة زائدة على الآحاد يكون الأمر أقرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 وهو بعد هذا قد أورد انه لا يلزم من كون الأفراد ممكنة كون الجملة ممكنة، وأجاب عن ذلك بأن هذا ساقط. وهذا السؤال والجواب كاف عن ذلك التطويل، بزيادة قسم لا يحتاج إليه لكن هذا القسم وإن لم يحتج إليه فإنه لم يضره بخلاف ما ذكره من زيادة تعاقب العلل، فغنه زيادة أفسد بها دليله، مع استغناء الدليل عنها. الثاني وذلك يظهر بالوجه الثاني: وهو انه قال لو كانت العلل والمعلولات متعاقبة فكل واحد منها حادث لا محالة فيلزم أن تكون الأولى حادثة، او تكون كلها حادثة مسبوقة بالعدم، وهذا قد استدل به طائفة من أهل الكلام على امتناع حوادث لا تتناهى. وقد تقدم الاعتراض عليه، وبين الفرق بين ما هو حادث بالنوع وحادث بالشخص وأن ما كان لم تزل آحاد متعاقبة. كان كل منها بمنزلة الآخر، وكل منها مسبوق بالعدم، وليس النوع مسبوقاً بالعدم. وقول القائل الأزلي لا يكون مسبوقاً بالعدم. لفظ مجمل فإن أراد به أن الواحد الذي هو بعينه أزلي لا يكون مسبوقاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 بالعدم، فهذا صحيخح وليس الكلام فيه. وإن أراد أن النوع الأزلي الذي لم يزل ولا يزال، ولا يكون مسبوقاً بالعدم فهذا محل النزاع. فقد صادر على المطلوب بتغيير العبارة وكأنه قال لا يمكن دوام الحوادث كما لو قال الأبدي لا يكون منقطعاً وكل من أفراد المستقبلات منقطع فلا تكون المستقبلات أبدية. فيقال النوع هو الأبدي ليس كل واحد أبدياً كذلك يقال في الماضي وهذا الكلام قد بسط في غير هذا الموضع. الثالث أن يقال: هذه المقدمة فيها نزاع مشهور بين العقلاء ولعل أكثر الأمم من أهل الملل والفلاسفة ينازع فيها وأما وجود علل ومعلولات لا نهاية لها فلم يتنازع فيها أحد من العقلاء المعروفين. فلو قدر أن تلك المقدمة المتنازع فيها صحيحة لكان تقدير المقدمة المجمع عليها بمقدمة متنازع فيها خلاف ما ينبغي في التعليم والبيان والاستدلال، لا سيما وليست أوضح منها، ولا لها دليل يخصها فإنه ربما ذكرت المقدمة المتنازع فيها لاختصاصها بدليل أو وضوح ونحو ذلك وأما بدون ذلك فهو خلاف الصواب في الاستدلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 الرباع أن الغزالي سلك مسلكاً في تعجيز الفلاسفة عن إثبات الصانع، بان قال دليلكم مبني على نفي التناهي عن العلل والمعلولات قال وأنتم لا يمكنكم ذلك، مع إثباتكم حوادث لا تتناهى، فإن ما تذكرونه من دليل نفي النهاية في العلل يلزم مثله في الحوادث وما تذكرونه مما يسوغ وجود حوادث لا تتناهى يلزمكم نظيره في العلل. وهذا الذي قاله وإن كان قد استدركه من استدركه عليه، لكن هو أجود مما فعله الآمدي فإن مقصوده إلزامهم أحد امرين إما عدم إثبات الواجب وإما الإقرار بحدوث العالم وبين أن إثبات الصانع معلوم بإثبات الحوادث، وأن افتقار المحدث إلى المحدث أمر ضروري فهذا خير من أن يجعل إثبات الصانع موقوفاً على تقسيمها إلى التعاقب والاقتران وإن العلل المتعاقبة لا يمكن إبطالها إلا بالتسوية بين امتناع كون الحادث المعين دائماً لم يزل، وكون نوع الحوادث دائماً لم يزل، فإن هذا فيه من التطويل ووقف العلم بالصانع على مثل هذه المقدمة ما لا يخفى. الخامس أن الدليل الذي ذكره غايته أن يثبت ان الحوادث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 لها ابتداء، إذ لو كانت العلل متعاقبة محدثة، وللحوادث أول، لزم أن يكون للحادث أول. وهذا غايته أن يكون بمنزلة إثبات حدوث العالم. وهو وأمثاله مع كونهم يحتجون على حدوث العالم، فلم يقولوا: إن المحدث لا بد له من محدث، كما هو قول الجمهور، ولا أثبتوا ذلك بان الحدوث مخصص بوقت دون وقت فيفتقر إلى مخصص كما فعله كثير من أهل الكلام، بل ولا بان الممكن يفتقر إلى المرجح لوجوده بل قالوا المحدث ممكن والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح ثم أوردوا جواز التسلسل في العل لن وأجابوا عن ذلك. فإذا كان الجواب عن ذلك لا يتم إلا بإثبات حدوث العلل، كما، كان غايتهم أن يثبتوا افتقار الممكن إلى علة حادثة، فهم بعد ذلك إن قالوا: والمحدث لا بد له من محدث، كانوا قد قالوا حقاً، لكن طولوا بذكر تقسيمات لا فائدة فيها بل تضعف الدليل، وكانوا مستغنين عنها في الأول. وإن لم يقولوا: والمحدث لا بد له من محدث، لم يكن ما ذكروه نافعاً. فإن مجرد حدوث العلة، إن لم يستلزم وجود المحدث لم يثبت واجب الوجود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 فتبين أن ما سلكوه إما أن لا يفيد، أو يكون فيه من التطويل والتعقيد، قد يكون فيه منفعة لمن يسفسط ويعاند ولمن لاتنقاد نفسه إلا بمثل ذلك، كما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع. ومضمون ما ذكروه دور في الاستدلال فلا يكون استدلالاً صحيحاً، فإنه إذا قدر علل ومعلولات متعاقبة وأثبت امنتناع ذلك، لأن الحادث لا يكون أزلياً، لزم أن هذه العلل محدثة. فيقال له: فلم لا يجوز ان يكون استناد الممكنات إلى العلل محدثة، فلا بد أن يقول على طريقته: إن المحدث ممكن، والممكن يفتقر إلى علة، وعلته لا تكون محدثة فيكون حقيقة كلامه: المحدث يفتقر إلى محدث، لأن المحدث يفتقر إلى محدث، إذا كان حقيقة ما يقوله: إن المحدث لا بد له من علة لأنه ممكن فيفتقر إلى مرجح، ومرجحة لا يكون محدثاً لأن المحدث ممكن لا بد له من علة. وإن غير العبارة فقال: هذا الممكن لا بد له من علة والعلة لا تكون ممكنة، لأن الممكن لا بد له من علة كان قد قال: الممكن له علة لأن الممكن له علة وكل ذلك إثبات الشيء بنفسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 والمقصود هنا أن ما ذكر من امتناع التسلسل في العل يشمل ما إذا قدرت متعاقبة كما إذا قدرت مقترنة، وأنه حينئذ يكون الاجتماع معلولاً لها، كان أولى أن يكون ممكناً لا يوجد بنفسه ولا يوجد ممكن بممكن لا موجد له، فإن مالم يوجد نفسه أولى أن لا يوجد غيره فإذا لم يكن في الآحاد ما يوجد نفسه كان أولى أن لا يوجد غيره لا الجملة ولا غيرها من الآحاد. يبين هذا ان الممكن لا يوجد بنفسه بل لا يوجد إلا بغيره فإذا قدر أن ثم ممكنات موجودة، سواء كانت عللاً أو لم تكن، وسواء كانت متناهية أو غير متناهية، لم يكن فيها شيء وجد بنفسه، فإذا كان المجموع لا يوجد إلا بها وليس فيها شيء موجود بنفسه، لم يكن في جميع ما ذكر ما يوجد بنفسه لا جملة ولا تفصيلا وإذا وجد مالا يوجد بنفسه لم يوجد إلا بغيره. ألا ترى أنه لو قال: الحوادث لا توجد بنفسها، لم يكن فرق بين الحوادث التي لها نهاية والتي لا نهاية لها بل كل من الحوادث التي لا تتناهى لا يوجد بنفسه بل لا بد له من محدث. والذهن إذا قدر ممكنات محصورة ومحدثات محصورة ليس لها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 محدث ولا مبدع علم امتناع ذلك فإذا قدرها لاتتناهى، لم تكن هذه الحال توجب استغناءها عن المحدث المبدع، وتجعلها غنية عن مبدع خارج عنها بل كلما كثر ذلك كان أولى بالحاجة إلى المبدع، فما لا يوجد بنفسه إذا ضم إليه مالا يوجد بنفسه مرات متناهية أو غير متناهية، كان ذلك مثل ضم المعدومات بعضها إلى بعض، وذلك لا يغنى عنها شيئاً، بل المعدومات لا تفتقر حال عدمها إلى فاعل، وأما هذه التي لا بد لها من فاعل، إذا كثرت، كان احتياجها إلى الفاعل أوكد وأقوى، وتسلسل الممكنات لا يخرجها عن طبيعة الإمكان الموجب لفقرها إلى المبدع، كما أن طبيعة الحدوث لا تخرج المحدثات عن طبيعة الحدوث الموجبة لفقرها إلى الفاعل. ومن جوز تسلسل الحوادث، وقال: كل منها حادث والنوع ليس بحادث، لا يمكنه أن يقول: كل من الممكنات ممكن، والجملة ليست ممكنة، كما لا يمكنه أن يقول: كل من الموجودات موجود، والجملة ليست موجودة، ولا يقول: كل من الممتنعات ممتنع والجملة ليست ممتنعة، بل الامتناع لجملة الممتنعات إولى منه لآحادها، وكذلك الإمكان لجملة الممكنات أولى منه لآحادها، والفقر إلى الصانع الذي يستلزمه الإمكان لجملة الممكنات أولى منه لآحادها، وأما الوجود لجملة الموجودات فليس هو اولى منه لآحادها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 وإن قيل: هو واجب للجملة، وذلك أن جملة الموجودات موقوفة على وجود كل منها، بخلاف وجود الواحد منها، فإنها لا تتوقف على وجود الجملة. وأما الممتنعات فامتناع جملتها ليس موقوفاً على امتناع كل منها، بل كل منها ممتنع لذاته، فامتناع الجملة لذاتها أولى وأحرى، اللهم إلا ان يكون الامتناع مشروطاً بأفرادها، كالمتلازمين اللذين يمتنع وجود أحدهما دون الآخر، ولا يمتنع اجتماعهما. وكذلك الممكنات إذا كان كل منها ممكناً لذاته بحيث يفتقر إلى الفاعل ولا يوجد بنفسه فليس إمكان كل منها مشروطاً بالآخر ولا معلقاً به، ولا لإمكان هذا تأثير في إمكان هذا، كما في الامتناع، بخلاف الموجودات، فإنه قد يكون وجود أحد الأمرين إما مشروطاً وإما علة للآخر. بخلاف ما إذا قدر موجودات واجبة بأنفسها، فإنه حينئذ لا يكون وجود بعضها موقوفاً على وجود البعض، وأما ما هو ممكن بنفسه أو ممتنع بنفسه، فليس إمكانه وامتناعه مشروطاً بغيره، بل نفس تصور حقيقتة يوجب العلم بامتناعه وإمكانه. وحينئذ فكلما كثر أفراد هذه الحقيقة كان العلم بامتناعها أو إمكانها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 أكثر، والعلم بامتناع الجملة أو إمكانها أولى وأحرى ولو قدرنا واجبات بأنفسها غنية عن الغير، بحيث لا يكون بعضها شرطاً في البعض، لكانت الجملة واجبة، ولم يكن وجوبها بدون وجوب الآحاد، وامتنع أن يقال: الجملة ممتنعة أو ممكنة مع وجوب كل من الآحاد بنفسه وجوباً لا يقف فيه على غيره. فتبين أنه إذا كان من الأمور ما هو ممكن في نفسه، لا يقف إمكانه على غيره، ومعنى إمكانه أنه لا يستحق بنفسه وجوداً ويمتنع وجوده بنفسه، وهو بالنظر إلى نفسه فقير محض، أي الفقر الذاتي الذي يمتنع معه غناه بنفسه، وسواء قلنا: إن عدمه لا يفتقر إلى مرجح أو قلنا إن عدمه لعدم المرجح، وقدرنا عدم المرجح، فهو في الموضعين لا يستحق إلا العدم، لا يستحق وجوداً أصلاً. فكثرة مثل هذا، وتقدير مالا يتناهى من هذا الضرب، لا يقتضي حصول وجود له، أو غني في وجوده عن غيره، ولا وجود بعض هذه الأمور ببعض، فإن كثرة هذه الأمور التي لا تستحق إلا العدم توجب كثرة استحقاقها للعدم، وكثرة افتقارها إلى موجد يكون موجوداً بنفسه. فإذا قدر أمور لا نهاية لها، ليس فيها شيء يستحق الوجود، كان قول القائل: إن بعضها يوجد بعضاً، في غاية الجهل. فإن مالا يستحق في نفسه أن يكون موجوداً، كيف يستحق أن يكون موجوداً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 لغيره وكيف وكيف يكون وجوده ما هو مساو له في أنه لا يستحق الوجود. يبين هذا أنه إذا كان هذا لا يستحق الوجود، وهذا لا يستحق الوجود، لم يكن جعل هذا علة والآخر معلولاً باولى من العكس، فإن شرط الفاعل أن يكون موجوداً، فإذا لم يكن موجوداً امتنع أن يكون فاعلاً وكل منهما لا يستحق أن يكون موجوداً فلا يكون فاعلاً. وإذا قال: إن أحد هذين وجد بالاخر فهذا إنما يعقل إذا كان الآخر موجوداً، وذاك الآخر لا يكون موجوداً بنفسه، لا يكون موجوداً إلا بغيره، وذلك الغير الذي يفتقر إليه الممكن، ليس هو أي غير كان، بل لا بد من غير يحصل به وجوده، ووجوده بحيث يستغنى به عما سواه، فلذلك الغير الذي يفتقر إليه الممكن، من شرطه أن يكون مستقلا بإبداع الممكن لا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه فمتى قدر أنه محتاج إلى غيره، كان الممكن محتاجاً إلى هذا الغير وإلى هذا الغير، فلا يحصل وجوده بأحد الغيرين، بل لا بد منهما وكذلك لو قدر من الأغيار ما يقدر، فلا بد أن يكون ما يفتقر إليه الممكن غير محتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، وليس الممكنات ما هو بهذا الشرط، بل كل منها يحتاج إلى غيره، فلو قدر أن الممكن يوجد بممكن إلى نهاية او غير نهاية، والجملة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 الممكنة توجد بالأفراد، لكان الغير الذي يفتقر إليه الممكن محتاجاً إلى غيره، مع أن كلا من المحتاجين لا يغني عن نفسه شيئاً أصلاً ألبتة. يزيد هذا إيضاحاً أن الممكن مع عدم المقتضى التام يكون ممتنعاً لا ممكناً وأعني بالمقتضى التام الذي يلزم من وجوده وجود المقتضى، لكن يكون ممتنعاً لغيره، فإذا كان كل من الممكنات له علة ممكنة، والعلة الممكنة ليست مقتضياً تاماً، فإنها لا توجد إلا بغيرها، إذ الممكن مفتقر إلى غيره، فوجوده مجرداً عن مقتضية تام، كان كل منها ممتنعاً، وتقدير ممتنعات لا نهاية لها يوجب قوة امتناعها، ويمتنع مع ذلك ان تكون جملتها ممكنة، فضلاً عن أن تكون واجبة. فتبين بذلك أن جملة العلل الممكنات التي لا تتناهى جملة ممتنعة، فامتنع أن يقال: هي موجودة معلولة للأفراد، لأن الممتنع لا يكون موجوداً لا معلولاً ولا غير معلول. يبين ذلك ان تقدير معلول لا علة له ممتنع، والممكن الموجود معلول لغيره، فإذا قدر علل ممكنة لا تتناهى كان كل منها معلولاً فقد قدر معلولات لا تتناهي. ومن المعلوم بالضرورة أن وجود معلولات لا تتناهى لا يقتضي استغناءها عن العلة. وإذا قيل: إن الجملة معلولة للآحاد فقد ضم معلول إلى معلولات لا تتناهى، وذلك لا يقتضي استغناءها عن العلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 فتبين أن من توهم كون العلل الممكنة التي لا تتناهى، التي هي معلولات لا تتناهى، يمكن أن يكون لها معلول لا يتانهى، فإنما قدر ثبوت معلولات لا تتناهى ليس فيها علة. وإذا كانت المعلولات المتناهية لا بد لها من علة، فالمعلولات التي لا تتناهى أولى بذلك، فإن طبيعة المعلول تستلزم الافتقار إلى العلة. وهذا يظهر باعتبار المعاني التي يوصف بها الممكن، فإنه قدر واحد من هذا النوع كان ذلك مستلزماً لعلته وموجبه وصانعه وفاعله ومبدعه، وإذاقدر اثنان كان الاستلزام أعظم وإذا قدر مالا يتناهى كان الاستلزام أعظم فإنه إذا كان الواحد منها بدون الواجب ممتنعاً فالاثنان ممتنع وممتنع وتقدير مالا يتناهى من هذا تقدير ممتنعات لا تتناهى. وإن قيل: إن وجود الواحد منها يستلزم وجود الواجب فتقدير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 اثنين أولى أن يستلزم وجود الصانع، ولو أمكن وجود مالا يتناهى من العلل الممكنة كان ذلك أعظم في امتناعها، فكيف بما يتناهى، كما يقدر من يقدر أن العقل أولى أبدع الثاني والثاني أبدع الثالث، وفلكه إلى العاشر المبدع لما تحت الفلك، وإذا قدر مالا يتناهى كان الاستلزام أعظم. فتبين أنه كلما كثرت الممكنات وتسلسلت كان ذلك أعظم في دلالتها على ثبوب الواجب واستلزامها له، والإنسان قد يتوهم إذا فرض علل هي معلولات لا تتنتهى، وتوهم أن العلة تكون وحدها مؤثرة في المعلول أو مقتضية له او موجبة فهذا ممتنع، فإن العلة إذا كانت معلولة لزم أنها لا تقوم بنفسها بل تفتقر إلى غيرها، فالنعلول المفتقر إليها مفتقر إلى علة علتها التي هي مفتقرة إليه، فيكون معلولها كما أنه مفتقر إليها مفتقر إلى كل ما هي مفتقرة إليه فإذا قدر من ذلك مالا يتناهى قدر انه محتاج إلى أمور لا تتناهى وليس فيها ما هو موجود بنفسه ولا غنى عن غيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 ومن المعلوم أنه كلما كثرت الأمور المشروطة في وجود الموجود كان وجوده موقوفاً عليها كلها، وكان أبعد عن الوجود من الموجود الذي لا يتوقف وجوده إلا على بعض تلك الأمور، فإذا كان الممكن لا يوجد بعلة واحدة ممكنة، بل يمتنع وجوده بها، فإذا كثرت العلل الممكنة التي يتوقف وجوده عليها، كان وجوده أعظم في الامتناع، وأبعد عن الجواز، وإذا كانت الممكنات قد وجدت فقد وجد قطعاً مقتض لها مستغن عن غيره وكلما تدبر المتدبر هذه المعاني أزداد لها تبيناً وعلم ان كل ما يقدر وجوده من الممكنات فإنه دال على الواجب الغني بنفسه عن كل ممكن مباين له. ومن العجب أن هؤلاء يذكرون في إثبات واجب الوجود من الشبهات ما يذكرون، وإن كانوا يجيبون عنها. ثم إذا أخذوا وجوده إما مبرهناً وإما مسلماً، وصفوة من الصفات السلبية بأمور لم يدل عليها ما دل على وجوده، بل يصفونه بما يمتنع معه وجوده، حتى يعلم أن ما وصفوا به واجب الوجود لا يكون إلا ممتنع الوجود، كما قد بسط في غير هذا الموضع ولا يذكرون من القوادح المعارضة لتلك الأسلوب بعض ما يذكرونه في إثبات وجوده وإن توهموا بطلانها، مع أن تلك المعارضات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 هي صحيحة قادحة فيما ينفى صفاته، بل الشيطان يلقى إليهم من الشبهات القادحة في الحق ما لو حصل لهم نظير من الأمور القادحة في الباطل لما اعتقدوه. فهذا كله إذا أريد بالجملة الاجتماع المغايرة لكل واحد واحد، وغن أريد بها كل واحد واحد كان الأمر أظهر وأبين فإن كل واحد واحد ممكن مفتقر إلى الفاعل، فإذا لم يكن هناك جملة غير الآحاد امتنع أن يكون هناك غير الآحاد الممكنة مما يوصف بوجوب أو إمكان وإن أريد بالجملة مجموع الأمرين الآحاد والاجتماع، كان الاجتماع جزءاً من أجزاء المجموع، فيكون هناك اجزاء متعاقبة، وجزء هو الاجتماع، وهذا الجزء يمتنع أن يكون واجباً بنفسه لأنه مفتقر إلى الممكنات، ولأنه عرض قائم بغيره، واحسن احواله ان يكون كالتأليف مع المؤلف، فإذا كان المؤلف ممكناً بنفسه فتأليفه أولى، بل قد يقال: ليس للجملة هنا أمر وجودي مغاير للأفراد المتعاقبة، وإنما لها أمر نسبي اعتباري، كالنسبة التي بين أفراد العشرة، وهذا وغيره مما يبين امتناع وجوبها بنفسها، فيبقى هذا الجزء ممكناً بنفسه فقيراً إلى غيره كسائر الأجزاء، فيكون حينئذ هناك كل منها محتاج إلى الموجد، فيحتاج كل منها إلى الموجد، والجملة هنا داخل في قولنا: كل منها، فإنه جزء من هذا الكل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 فتبين انه كيفما ادبر المر ليس في الممكنات المتعاقبة لا واجب بنفسه ولا بغيره، إلا أن يكون هناك واجب بنفسه خارج عن الممكنات إذا كان كل فرد فرد ممكناً والاجتماع أيضاً ممكن بطريق الولى والمران ممكنان بطريق الأولى والحرى وكل من الأفراد مستغن عن الهيئة الاجتماعية فإنه موجود بدونها، وما احتاج إلى الممكن المستغن عنه كان أحق بالإمكان وايضاح ذلك أنه إذا قدر كل موجود معلول مفعول مفتقر، وليس في الوجود إلا ما هو كذلك، كما إذا قدر ان الممكنات ليس لها مقتض واجب بنفسه، فإنه يكون المر كذلك وإن لم يجعل بعضها معلولاً لبعض، فهذا التقدير يقتضي أن لا يوجد شيء منها، لأنها لا توجد بانفسها، إذ التقدير كذلك، وما لم يكن موجوداً بنفسه فهو اولى ان لا يوجد غيره، فلا يكون شيء منها موجوداً بنفسه ولا موجوداً بغيره ومعلوم أن الموجود إما موجود بنفسه، وإما موجود بغيره، فإذا قدر انها موجودة، وقدر مع ذلك انها لا موجودة بأنفسها، ولا بموجد أوجدها لزم الجمع بين النقيضين، ولو قدر مع ذلك موجداً لغيره، والمعدوم لا يوجد غيره، فإذا لم يكن فيها ما هو موجود بنفسه لم يكن فيها ما هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 موجد لغيره، وهذا أعظم امتناعاً من تقدير أفعال لا فاعل لها، وجوادث لا محدث لها فإن تلك يكون التقدير فيها انها وجدت بلأنفسها، والتقدير هنا لم توجد بأنفسها ولا هناك ما هو موجود بنفسه يوجدها، ولا هناك غير موجود يوجدها وإنما التقدير معلولات مفتقرات، والمعلول من حيث هو معلول، والمفتقر من حيث هو مفتقر ليس فيه ما يقتضي وجوده، وإذا لم يكن لها وجود، ولا لمقتضيها وجود، لزم انتفاء الوجود عنها كلها، وهذا مع كونها موجودة جمع بين النقيضين وهذا كلام محقق وتنبيه للإنسان بان يعلم أن مجرد تقدير معلولات ممكنة لا هي موجودة بنفسها ولا فيها علة موجودة بنفسه لا يقتضى وجود ذلك في الخارج فليس كل ما قدرته الذهان امكن وجوده في الأعيان لا سيما مع سلب الوجود عنها من نفسها ومن موجد يوجدها وإذا قدر ان المعلول الممكن له علة ممكنة فهي ايضاً معدومة من تلقاء نفسها، كما هي معدوم من تلقاء نفسه فليس فيما قدر قط شيء موجود فمن أين يحصل لها الوجود؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 فصل: اعتراض الأبهري على حجة قطع التسلسل في العلل وقد أورد الأبهري ومن اتبعه على هذه الحجة المذكورة لقطع التسلسل في العلل اعتراضاً زعم انه يبين ضعفها، فقال في كلامه على ملخص الرازي وغيره قول القائل: مجموع تلك العلل الممكنة يحتاج إلى كل واحد منها الخ 0 قلنا: لم لا يجوز أن يكون المؤثر في ذلك المجموع واحداً منها أما قوله بأن ذلك لا يكون علة لنفسه ولا لما قبله فلا يكون علة للمجموع قلنا لا نسلم وإنما يلزم أن لو كان علة المجموع علة لكل واحد من أجزائه فلم قلتم إنه كذلك وهذا لن الشيء جاز ان يكون علة للمجموع من حيث هو مجموع فلا يكون علة لكل واحد من أجزائه، فإن الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات وليس علة لكل واحد من أجزائه لاستحالة كونه علة لنفسه لا يقال بأن مجموع تلك العلل المتسلسلة ممكن وكل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجية فذلك المجموع افتقر إلى علة خارجية عنه لنا نقول لا نسلم ان كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجية عنه فإن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن لافتقاره إلى الممكن، وليس مفتقراً إلى علة خارجية عنه لا يقال بأن المجموع المركب من آحاد كل واحد منها محتاج إلى علة خارجية لأنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 نقول لا نسلم وإنما يكون كذلك أن لو لم يكن كل واحد منها معولاً لآخر إلى غير النهاية لا يقال إن جملة ما يفتقر إليه المجموع إما ان يكون نفس المجموع أو داخلاً فيه أو خارجاً عنه والأول محال وإلا لكان الشيء علة نفسه والثاني محال، وإلا لكان بعض الأجزاء كافياً في المجموع والثالث حق قلنا إن أردتم بجملة ما يفتقر إليه المجموع جملة الأمور التي يصدق على كل واحد منها انه مفتقر إليه، فلم قلتم بانه لا يجوز أن يكون هو نفس المجموع، والذي يدل عليه أن جملة المور التي يفتقر إليها الواجب والممكن ليس داخلاً في المجموع لتوقفه على كل جزء منه ولا خارجاً عنه فهو نفس المجموع وإن أردتم العلة الفاعلية فلم قلتم إنه يلزم أن يكون بعض الأجزاء كافياً في المجموع وإذا كان المجموع ممكناً في نفسه فهو مفتقر إلى غيره فما يفتقر إليه المجموع إما ان يكون هو المجموع أو داخلاً فيه أو خارجاً منه والأول محال وإلا لكان الشيء علة لنفسه والثاني محال وإلا لكان بعض الأجزاء كافياً في المجموع، لأن المجموع إذا كان ممكناً وإنما يفتقر إلى البعض، لزم أن يكون البعض هو المقتضي للمجموع، فيلزم أن يكون مقتضياً لنفسه ولعلته، وإن كان ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 يفتقر إليه المجموع خارجاً عن المجموع فهو المطلوب وهذا التحرير يوجب أن يكون البعض علة فاعلة للمجموع، والعلة الفاعلة كافية للمجموع وقوله إن أردتم بجملة ما يفتقر إليه المجموع جملة المور التي يصدق على كل واحد منها انه مفتقر إليه فلم قلتم بانه لا يجوز أن يكون هو نفس المجموع الرد على الأبهري من وجوه فيقال له: لأن المجموع إن لم يكن زائداً على تلك الأمور التي كل منها معلول فليس هنا مجموع غير المعلولات، والمعلولات التي لا يوجد شيء منها بنفسه، بل لا بد له من موجد موجود إذا لم يكن فيها موجد موجود، وامتنع ان يكون مجموعها حتصلاً بمجموعها، وإن كان المجموع معلولاً لها فهو اولى بالافتقار، وهذا امر معلوم بالضرورة وما قدح فيه كان قدحاً في الضروريات فلا يسمع الوجه الثالث الجواب عن معارضته وهو قوله إن جملة الأمور التي يتوقف عليها الواجب والممكن ليس داخلاً في المجموع لتوقفه على كل جزء منه ولا خارجاً عنه فهو نفس المجموع وملخص هذا الكلام أن مجموع الموجودات ليس متوقفاً على بعض الأجزاء لتوقفه على الجميع، ولا متوقفاً على ما خرج عن المجموع، فالمجموع متوقف على المجموع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 فيقال له هذا يناقض ما ذكرته أولاً من ان المؤثر في مجموع الموجودات واحد منها، وزعمت أن هذا معارضة لقولهم مجموع الممكنات لا يجوز أن يكون المؤثر فيها واحداً وإذا كان هذا يناقض ذاك فإما ان تقول المؤثر في المجموع جزؤه او المؤثر فيه هو المجموع فإن قلت إنه جزؤه بطل هذا الاعتراض وسلم هذا الدليل الدال على امتناع معلولات ممكنة ليس لها علة واجبة، وبذلك يحصل المقصود من إثبات واجب الوجود 0 وغن قلت إن المؤثر هو المجموع بطل اعتراضك على ذلك الدليل وسلم ذلك الدليل عن المعارضة، فحصل به المقصود الوجه الرابع أن يقال قولك جملة الأمور او مجموع المور الذي يفتقر إليه الواجب والممكن ليس داخلاً في المجموع يتضمن أن مجموع الموجودات يفتقر إلى أمر من المور وانت لم تذكر على ذلك دليلاً فلم قلت إن مجموع الموجودات يفتقر إلى أمر وأولئك إنما ادعوا ان مجموع الممكنات يفتقر إلى امر من المور وهذا معلوم بادلة متعددة، بل بلضرورة، وما ذكرته ليس بمعلوم الوجه الخامس أن يقال مجموع الموجود المتضمن للواجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 لا يقبل العدم وما لا يقبل العدم فليس بممكن، وما ليس بممكن فهو واجب، فالمجموع حينئذ واجب وما كان واجباً لم يفتقر إلى أمر من الأمور وقولك إن المجموع مفتقر إلى المجموع هو معنى قول القائل إنه واجب بنفسه، فإن الواجب بنفسه لا يستغني عن نفسه، بل لا بد له من نفسه وإذا كنت قد أقررت انه واجب بنفسه بطل قولك إنه يفتقر إلى أمر وهذا بخلاف مجموع العلل الممكنة فإنه لا يمكن أن يكون واجباً بنفسه لأنه ليس فيها ما هو موجود بنفسه، وإذا لم يكن في المجموع ما هو موجود بنفسه كان امتناع المجموع أن يكون واجباً بنفسه أولى وأحرى وهذا السؤال الذي أورده هذا من جنس السؤال الذي أورده الآمدي بل هو هو ولعل احدهما اخذه من الآخر وهو أن تكون الجملة مترجحة بالآحاد وكل منها مترجح بالآخر إلى غير نهاية واجاب عنه الآمدي في أحد كتابيه وقال في الآخر إنه لا يعرف عنه جواباً وذكر عن قوم أنهم قالوا المجموع واجب بنفسه بهذا الاعتبار واستفسط هذا الاعتراض ومقصود الجميع أن مجموع المعلولات التي لا تتناهي لا تفتقر إلى شيء غير آحادها المتعاقبة وفساد هذا معلوم بالاضطرار بعد جودة التصور وإنما أشكل على من أشكل لعدم التصور التام فإنه إذا قال القائل علل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 لا تتناهى أو ممكنات لا تتناهى كل منها مترجح أو معلول بالآخر توهم الذهن أن هذا يتضمن تقدير موجودات في الخارج كل منها معلول الموجود الآخر وان الأمر هكذا إلى غير نهاية ولهذا أراد طائفة أن يبطلوا هذا التسلسل بجنس ما يبطلون به الآثار التي لا تنتهي كالحركات التي لا تتناهى، وهذا غلط، فإن المقدر هو أمور ليس فيها ما يوجد بنفسه بل لا يوجد إلا بعلة مباينة له موجودة وكلها بهذه المثابة إلى غير نهاية وهذا في الحقيقة تقدير معدومات بعضها علة لبعض في وجوده إلى غير نهاية من غير أن يوجد شيء منها وكما أن المعدوم إذا كان باطلاً وإن قدر وجوده مع ذلك كان جمعاً بين النقيضين وإذا كان تقدير معلول معدوم بعلة معدومة تقتضي وجوده ولم يوجد ممتنع في بديهة العقل من جهة انه لم يوجد ومن جهة أن علته ليست موجودة، فكثرة هذه العلل اولى بالامتناع، وتسلسلها إلى غير نهاية اعظم في الامتناع، فكذلك إذا قدر ما هو معلول ممكن لا يوجد إلا بموجد يوجده، وقدر انه ليس هناك موجود يوجده، فإن وجوده يكون ممتنعاً، فإن قدر موجوداً كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 جمعاً بين النقيضين. وتسلسل هذه المعلولات من غير أن تنتهي إلى موجوداً بنفسه أعظم في الامتناع، لكن من توهم أنها موجودات متسلسلة التبس عليه المر، وتقدير كونها موجودات متسلسلة ممتنع في نفسه، بل هو جمع بين النقيضين، لأن التقدير انه ليس فيها ما يوجد بنفسه ولا يوجد إلا بموجد موجود، وإذا لم يكن فيها موجود بنفسه ولا موجد موجود امتنع أن يكون فيها إلا معدوم، فتقدير وجودها جمع بين النقيضين وبيان ذلك أن كلا منها هو مفتقر إلى موجد يوجده، فلا يوجد بنفسه، وعلته لم توجد بنفسها، فليس فيها موجود بنفسه، وليس هنا علة موجودة بنفسها 0 فإذا قدر في كل منها أنه موجود بغيره، فذلك الغير هو بمنزلته أيضاً لا وجود له من نفسه، فليس هناك موجود يوجدها إلا ما يقدر منها، وكل منها إذا لم يكن له من نفسه وجود فأن لا يكون موجداً لغيره بطريق الأولى والأحرى، فلا له من نفسه وجود ولا إيجاد، وغيره من جنسه ليس له من نفسه وجود ولا إيجاد، فمن أين يكون لشيء منها وجود بلا وجود لنفسه ولا إيجاد؟ إذ الإيجاد فرع الوجود اعتراض الأبهري فاسد من وجوه قلت وهذا الاعتراض فاسد جداً وبيان فساده من وجوه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 الوجه الأول: أن يقال: هو اعتراض على قولهم مجموع العلل الممكنة ممكن لافتقار المجموع إلى الآحاد الممكنة ولا يجوز أن يكون المؤثر في المجموع واحداً من العل الممكنة، لن ذلك لا يكون علة لنفسه ولا لما قبله من العلل، فامتنع أن يكون مؤثراً في المجموع، فقال المعترض: إنما يلزم هذا أن لو كان علة المجموع علة لكل واحد من أجزائه فلم قلتم إنه كذلك؟ فيقال له أولاً: نحن لا نعني بالمجموع مجرد الهيئة الاجتماعية، بل نعني به كل واحد من الأفراد والهيئة الاجتماعية، وحينئذ فتكون علة المجموع علة كل واحد من أجزائه، وهذا معلوم بالضرورة، فإن المؤثر إذا كان مؤثراً في مجموع الآحاد مع الهيئة الاجتماعية فقد أثر في كل جزء من أجزائه، فإنه لو لم يؤثر في كل جزء من الجزاء لجاز انتفاء ذلك الجزء، وإذا انتفى المجموع، والتقدير أنه في المجموع بحيث جعل المجموع موجوداً، والمجموع هو الأفراد والهيئة الاجتماعية، فلو قدر انه غير موجود لزم الجمع بين النقيضين، وهو الممتنع وهذا الممتنع لزم من تقدير كونه مؤثراً في المجموع، بحيث جعل المجموع موجوداً مع تقدير عدم بعض أجزاء المجموع، فعلم أنه يستلزم من كونه أثر في المجموع وجود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 المجموع، ويلزم من وجود المجموع انه لا ينتفى شيء من أجزائه، فعلم أن ما استلزم ثبوت المجوع استلزم ثبوت كل من أجزائه، وإن لم يكن المستلزم علة فاعلة، فكيف إذا كان المستلزم على فاعلة؟ فتبين أن ثبوت العلة الفاعلة للمجوع يتضمن أن يكون علة لكل من أجزائه، ولو تخيل متخيل أن الواحد من الجملة علة لسائر الأجزاء، والأجزاء علة للمجموع، أو أنه علة للمجموع، والمجموع علة للآحاد، فيكون ذلك الواحد علة العلة. قلنا هذا لا يضر لأن العلة علة، وكما يمتنع في الواحد أن يكون علة علة نفسه، فيمتنع أن يكون علة نفسه بطريق الأولى، فلو كان بعض الأجزاء علة للمجموع، والمجموع علة لكل من الأجزاء أو بالعكس، لزم أن يكون ذلك الجزء علة علة نفسه، وعلة علل نفسه، وهو ما قبل ذلك الجزء من العلل التي قدر أنه لا نهاية لها وهذا بين لا يتصوره أحد إلا يعلم امتناعه بالبديهة، ومن نازع فيه كان إما لعدم تصوره له، وإما لعنادة وحينئذ فيكفي أن يقال: هذا معلوم بالبديهة، فالشبهة الواردة عليه من جنس شبه السوفسطائية فلا يستحق جواباً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 الوجه الثاني أن يحل ما ذكره من المعارضة، وهي قوله: وهذا لأن الشيء جاز أن يكون علة للمجموع من حيث هو علة للمجموع من حيث هو مجموع، ولا يكون علة لكل واحد من أجزائه، فغن الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات، وليس علة لكل واحد من أجزائه، لاستحالة كونه علة لنفسه. قلنا: لا نسلم أن الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات، وإنما هو علة لبعض الموجودات وهي الممكنات، وأما الموجود الواجب بنفسه فلا علة له وهو من الموجودات، وإذا كانت الموجودات، وإذا كانت الموجودات منقسمة إلى واجب وممكن، والواجب علة للمكن، لم يكن الواجب علة لمجموع الموجودات، بل علة لبعضها، وبعضها لا علة له. فإن قيل: إنما قلنا الواجب للمجموع من حيث هو مجموع لا لكل واحد، فهو علة للهيئة الاجتماعية. قيل: أولا: لا نسلم أن المجموع له وجود يزيد على الآحاد ويقال: ثانياً إذا قدر أن المجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية أمر مغاير للأفراد فالواحد من تلك الأفراد إذا كان علة للهيئة الاجتماعية فالعلة مغايرة للمعلول، ليست العلة بعض المعلول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 وهذا بين إذا تصوره المتصور معلوم بالبديهة. ولكن لفظ المجموع فيه إجمال قد يعنى به الأفراد المجتمعة، وقد يعنى به اجتماعها، وقد يعنى به الأمران ومعلوم انه يمتنع أن يكون بعض الأفراد المجتمعة علة لكل من الأفراد المجتمعة وهذا هو المطلوب. وأما الاجتماع إذا قدر انه مغاير للأفراد فالواحد منها يكون علة لذلك الاجتماع المغاير لذلك المفرد وغيره، وإن أريد الأفراد والاجتماع كان الاجتماع جزءاً من أجزاء المجموع، فيكون الواحد من ذلك المجموع علة لسائر الأجزاء، وهذا ممكن فالواجب سبحانه وتعالى هو المبدع لسائر الموجودات، ومبدع للاجتماع الحاصل منها ومنه إذا قدر ذلك الاجتماع مغايراً للأفراد لكن ذلك الاجتماع هو من جملة سائر الموجودات. فإذا قيل: إنه مبدع لسائر الموجودات، دخل في ذلك كل ما سواه من الموجودات أعيانها وأعراضها، ودخل في ذلك الاجتماع الحاصل منه ومنها، وهو الهيئة الاجتماعية، إذا قدر أنها موجودة، فإن ذلك الاجتماع أمر مغاير للواجب بنفسه، فهو داخل في سائر الموجودات سواه، فهو من جملة مصنوعاته. ومما يوضح ذلك أن الاجتماع إذا قدر أمراً مغايراً للأفراد: أمراً يحدث بحدوث ما يحدث من الممكنات فكلما حدث ممكن كان له مع سائر الممكنات اجتماع وذلك الاجتماع حادث بحدوثه، فإذا قدر أن ما سوى الله حادث، فاجتماع وجود الحوادث مع وجود الله وهو أيضاً حادث وهو كمعية المخلوقات مع خالقها، وهذه المعية ونحوها هو مما يجوز حدوثه باتفاق العقلاء، بل هو متفقون على جواز حدوث النسب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 والإضافات بين الخالق والمخلوق، سواء قيل: إنها وجودية أو عدمية، ولو قدر أن من الممكنات ما هو قديم أزلي، كما يقوله من يقول بقدم شيء من العالم، فاجتماع ذلك الممكن مع ذلك الواجب معلول للواجب، والواجب ليس هو بعض ذلك الاجتماع بل هو بعض الأمور المجتمعة، وبعض الأمور المجتمعة إذا كان علة لسائر الأبعاض كان هذا ممكناً وذلك الاجتماع هو بعض آخر، فالواجب الذي هو بعض الأمور المجتمعة التي منها الاجتماع علة لسائر الأبعاض والاجتماع واحد منها، فليس في ذلك امتناع كون بعض الجملة علة لجميع أبعاض الجملة، وهذا هو المطلوب انتقاؤه، فتبين أن امتناع كون بعض الممكنات، فإن الأول يقتضى كونه علة لنفسه، وكون الممكن المفعول المصنوع مبدع نفسه ويخلقها أظهر امتناعاً من كونه يخلق غيره بعد وجوده. ولهذا قال تعالى {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} الطور 35 فإنه من المعلوم في بدائه الفطر امتناع كونهم حدثوا من غير محدث وامتناع كونهم أحدثوا أنفسهم فعلم أن لهم محدثاً أحدثهم. الوجه الثالث لا نسلم أن المجموع المركب من الواجب والممكن يكون الواجب وحجه علة له، بل علته الأجزاء جميعها، وذلك لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 المجموع متوقف على كل من الأجزاء: الواجب والممكنات، فالمجموع من حيث هو مجموع توقفه على كل جزء كتوقفه على الجزء الآخر، إذ كان لا يوجد إلا بوجود كل من الأجزاء ثم إذا كان بعض الأجزاء علة لبعض، كان المجموع مفتقراً إلى الجزء الواجب، وإلى الجزء المفتقر إلى الجزء الواجب، ولا يلزم من ذلك أن يكون مجرد الواجب مقتضياً للمجموع بلا واسطة، بل لولا الجزء الآخر الممكن لما حصل المجموع ن فتبين أن الواجب لا يكون وحده علة للمجموع من حيث هو مجموع، وإنما يكون علة لسائر الأجزاء، وهو وسائر الأجزاء علة للمجموع. نعم يلزم أن يكون علة بنفسه للممكنات، وهو بتوسط الممكنات أو مع الممكنات علة للمجموع من حيث هو مجموع، ومثل هذا منتف في الأجزاء الممكنة فإنه لا يمكن أن يكون للمجموع لا بنفسه ولا بتوسط غيره. أما الأول فلأن الجزء الواجب إذا لم يكن وحده علة للمجموع، فالجزء الممكن أولى، ولأن المجموع متوقف على جميع الأجزاء فلا يستقل به واحد منها. وأما الثاني فلأن الممكن لا يكون علة لنفسه ولا لما قبله من العلل، ولأن المجموع متوقف على جميع الأجزاء بالضرورة، فإن المعلول لا يكون علة علته وإذا امتنع كونه علة لنفسه ولسائر الأجزاء المتقدمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 عليه لم يحصل به وحده هذه الأجزاء، والمجموع متوقف على هذه الأجزاء فلا يكون شيء من الأجزاء الممكنة علة للمجموع لا بنفسه ولا بتوسط معلولاته بخلاف الجزء الواجب فإنه إذا قيل عنه إنه علة لمجموع بنفسه وبتوسط معلولاته كان هذا المعنى ممتنعاً في الممكن فالمعنى الذي يمكن أن يجعل فيه الواجب علة للمجموع الذي هو واحد منه يمتنع مثله في الممكنات فلا يتصور أن يكون علة للمجموع الذي هو واحد منه وهذا يكشف ما في الاعتراض من التلبيس والغلط: الوجه الرابع أن يقال: لا نسلم أن الواجب علة للمجموع من حيث هو مجموع، بل الواجب علة للمكنات من الأجزاء والآحاد علة للمجموع، ومثل هذا لا يمكن أن يقال في مجموع العلل الممكنة ولا في مجموع الممكنات فإنه لا يمكن أن يكون شيء منها علة لسائر الأجزاء، إذ كل منها معلول لا يكون علة لنفسه ولا لعلله، وإذا كان كل من الأجزاء معلولاً والمجموع معلول الآحاد كان المجموع أولى بأن يكون معلولاً. الوجه الخامس أن يقال في إبطال هذا الاعتراض: نحن ذكرنا الحجة لإثبات أن يكون في الوجود واجب بنفسه، فإما أن يكون في الموجودات واجب بنفسه وإما أن لا يكون فإن كان فيها واجب بنفسه حصل المقصود وإن لم يكن فيها واجب بنفسه بطل الاعتراض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 الوجه السادس أن يقال: الاعتراض مبناه على أن مجموع الموجودات له علة هو بعضهوهو الواجب فإن لم يكن في المجموع بعض واجب بطل الاعتراض وهذا الاعتراض مذكور على سبيل المعارضة لأنا قد ذكرنا انا نعلم بالضرورة أن مجموع العلل الممكنة إذا كان له علة كان علة لكل منها وأن العلم بذلك ضروري، وبيناه بياناً لا ريب فيه، وإذا تبين أن صحة الاعتراض مستلزمة لثبوت واجب الوجود، كان واجب الوجود ثابتاً على تقدير صحة الاعتراض وعلى تقدير فساده وإذا كان ثابتاً على التقديرين تقدير النفي وتقدير الإثبات، ثبت أنه ثابت فينفس الأمر وهو المطلوب وهذا بين لمن تأمله ولله الحمد. يمكن إيراد الجواب على وجوه الوجه الأول: أن يقال: أما أن يقدر ثبوت الواجب في نفسه، وإما أن يقدر انتفاؤه، فغن قدر ثبوته في نفس الأمر حصل المقصود وامتنع أن يكون في نفس الأمر ما ينفي وجوده وإن قدر انتقاؤه لزم بطلان الاعتراض المذكور على دليل ثبوته وإذا بطل الاعتراض كان الدليل المذكور على ثبوتهه سليماً عما يعارضه فيجب ثبوته مدلوله وهو الواجب الوجود فلزم ثبوت وجود سواء قدر المعترض ثبوته أو قدر انتفاءه وما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 لزم ثبوته على تقدير ثبوته وتقدير انتفائه كان ثابتاً في نفس الأمر قطعاً وهو المطلوب. فإن قيل: كيف يمكن تقدير ثبوته مع تقدير انتفائه وفي ذلك جمع بين النقيضين قيل: نعم هذا لأن تقدير انتفائه لما كان ممتنعاً في نفس الأمر جاز أن يلزمه ما هو ممتنع في نفس الأمر وهذا مما يقرر ثبوته. وأيضاً فإذا كان تقدير انتفائه يستلزم الجمع بين النقيضين كان تقديراً ممتنعاً في نفس الأمر، ويكون تقدير انتفائه ممتنعاً في نفس الأمر وإذا كان انتفاؤه ممتنعاً كان ثبوته واجباً وهو المطلوب. فإن قيل: إذا كان انتفاؤه ف ينفس الأمر ممتنعاً قطعاً وكان بطلان الاعرتاض معلقاً بانتفائه لم يلزمه بطلان الاعتراض وإذا صح الاعتراض بطل الدليل المذكور قلنا تقدير انتفائه هو جزء الدليل على بطلان الاعتراض ليس هو بطلان الاعتراض ومن المعلوم أن انتفاء الدليل لا يوجب انتفاء يدل عليه في نفس الأمر فغن الدليل لا يجب عكسه فلو كان انتفاؤه بس الأمر وحده دليلً على بطلان الاعتراض لم يلزم صحة الاعتراض بتقدير نقيض هذا الدليل فكيف إذا كان جزء دليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 فإن قيل بطلان جزء الدليل يوجب بطلان الدليل فيبطل ما ذكر من الدليل على فساد الاعتراض. قيل لفظ جزء الدليل مجمل، فإن أريد بالجزء قسم من القسام المقدرة كان هذا باطلاً فإنه لا يلزم من بطلان قسم في الأقسام المقدرة بطلان الدليل إذا كان غيره من الأقسام صحيحاً وإن أريد بجزء الدليل مقدمة من مدماته فهذا صحيح فإنه إذا بطلت مقدمة الدليل بطل لكن مقدمة الدليل هنا صحيحة فإنها تقسيم دائر بين النفي والإثبات ومن المعلوم أن التقسيم الدائر بين النقيضين يستلزم بطلان أحد القسمين في نفس الأمر ومقدمة الدليل ليست اجتماع النقيضين فإن هذا ممتنع وإنما هي صحة التقسيم إلى النفي والإثبات. والمقدمة الثانية حصول المطلوب على كل من التقديرين فإذا كان التقسيم دائراً بين النفي والإثبات والمطلوب حاصل على كل منهما ثبت حصوله في نفس الأمر وغن كان احد القسمين منتفياً في نفس الأمر فغن المطلوب حاصل على التقدير الآخر فلا يضر انتفاء هذا التقدير، وإنما ذكرت هذه التقديرات ليتبين أن ما ذكره المعترض لا يقدح في صحة الدليل المذكور على واجب الوجود بل الدليل صحيح على تقدير النقيضين وهذا من أحسن الدورات في النظر والمناظر لإبطال الاعتراضات الفاسدة بمنزلة عدو قدم يريد محاربة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 الحجيج وهناك عدة طرق يمكن أن ياتي من كل منها فإذا وكل بكل طريق طائفة ياخذونه كان من المعلوم أن الذي يصادفه طائفة ولكن إرسال تلك الطوائف ليعلم انه منع المحذور على كل تقدير إذ كان من الناس من هو خائف ان ياتي من طريقة فيرسل من يزيل خوفه ويوجب أمنه. الوجه الثاني ويمكن إيراد الجواب على وجه آخر. وهو ان يقال: إما أن يقدر فساد هذا الاعتراض في نفس الأمر، وإما أن يقدر صحته فإنه لا يخلو من أحدهما. وذلك أنه إما أن يكون مفسداً للدليل المذكور على بطلان تسلسل المؤثرات وإما أن لا يكون مبطلاً مفسداً فغن لم يكن مفسداً للدليل لفساده في نفسه ثبت صحة الدليل، وهو المطلوب وإن كان مفسداً للدليل فلا يفسده إلا إذا كان متوجهاً صحيحاً وإلا فالاعتراض الفاسد لا يفسد الدليل، وإذا كان متوجهاً صحيحاً لزم ثبوت واجب الوجود فإنه لا يصح إن لم يكن مجموع الموجودات فيها واجب وإذا صح أن فيها واجباً حصل المقصود، فيلزم ثبوت الموجود الواجب على تقدير صحته وفساده. الوجه الثالث ويمكن إيراد الجواب على صورة ثالثة، وهو أن يقال: إما أن يقدر أن في الموجودات ما هو واجب بنفسه وإما أن لا يكون فإن كان فيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 واجب بنفسه حصل المقصود وإن لم يقدر أن فيها ما هو واجب لم يكن لها مجموع يكون جزء علة له، فبطل الاعتراض. وإذا بطل الاعتراض كان الدليل المذكور على واجب الوجود مستلزماً لمدلوله، وهو الموجود الواجب فيلزم ثبوت واجب الوجود. وأصل الغلط في هذا الاعتراض الذي يظهر به الفرق أن التقدير المستدل به قدر فيه أمور ليس فيها موجود بنفسه، بل كل منها مفتقر إلى غيره واجتماعها أيضاً مفتقر فليس هناك إلا فقير محتاج والتقدير المعترض به قدر أن موجوداً واجباً بنفسه معه ممكنات موجودة به ولكن المجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية يفتقر إلى بعض الجملة وذلك البعض هو واجب بنفسه فهنا في الجملة واحد واجب بنفسه هو علة لسائر الأجزاء وللمجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية وتلك ليس فيها واجب بنفسه بل كل من الأجزاء والمجموع ممكن بنفسه فكيف يجعل افتقار هذا إلى خارج عنه كافتقار ذاك إلى خارج عنه والهندي لم يجب عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 فإن قيل: فقد قدرتم عدم وجوب الوجود، فكيف يكون موجوداً بتقدير عدمه لما ذكرتم من الدليل؟ قلنا: لأن التقدير الممتنع قد يستلزم أمراً موجوداً واجباً وجائزا كما قد يستلزم أمراً ممتنعاً لأن التقدير هو شرط مستلزم للجزاء، والملزوم يلزم من تحققه تحقق اللازم ولا يلزم من انتقائه انتفاء اللازم. وهذا كما لو قيل: لو جاز أن يحث اجتماع الضدين لافتقر إلى محدث بل قد يكون اللازم ثابتا على تقدير النقيضين كوجود الخالق مع كل واحد من الملخوقات، فإنه موجود سواء كان موجوداً أو لم يكن. وحينئذ فيجوز أن يكون التقدير الممتنع، وهو تقدير عدم الواجب يستلزم وجوده، كما يكون التقدير الممكن، فإذا قدر عدمه لزم بطلان الاعتراض المذكور، وذلك يستلزم سلامة الدليل عن المعارض والدليل يستلزم وجوده. وأيضاً فإن تقدير عدمه تقدير ممتنع في نفس الأمر والتقدير الممتنع قد يستلزم أمراً ممتنعاً فاستلزم تقدير عدمه الجمع بين النقيضين وهو ثبوت وجوده مع ثبوت عدمه ن وهذا ممتنع فعلم أن تقدير عدمه ممتنع، وه المطلوب وعلم أنه لا بد من وجوده، وإن قدر في الأذهان عدم وجوده فتقدير عدمه في الأذهان لا يناقض وجوده في الخارج وقد ثبت وجوده فلا بد من وجوده على كل تقدير، وبهذا وغيره يظهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 الجواب عن اعتراضه على سائر ما ذكروه من التقديرات في احتياج مجموع الممكنات إلى واجب خارج عنها. ونحن نبين ذلك: قوله: لا يقال بان مجموع تلك السلسة ممكن ن وكل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجة عنه وذلك المجموع مفتقر إلى علة خارجة عنه لأنا نقول: لا تسلم أن كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجة عنه فإن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن لافتقاره إلى الممكن وليس محتاجاً إلى علة خارجة عنه. والجواب عن هذا أن يقال: هو القائل: كل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجة عنه قضية بديهية ضرورية بعد تصورها فإن المعنى بالممكن مالا يوجد بنفسه بل لا بد له من موجد مقتض سواء سمي فاعلاً أو علة فاعلة أو مؤثراً. وإذا كان كذلك فإذا كان المجموع ممكناً لا يوجد بنفسه لم يكن له بد من موجد يوجده وقد علم أن المجموع لا يوجد بنفسه بنفسه إذ لو كان كذلك لكان واجباً بنفسه. ومن المعلوم بالضرورة أن المجموع الذي هو الأفراد واجتماعها إذا لم يكن موجداً مقتضياً فبعض المجموع أولى أن لا يكون مقتضياً موجداً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 فإنه من المعلوم ببدائه العقول أن المجموع إذا لم يجز أن يكون موجداً ولا مقتضيا ولا فاعلاً ولا علة فاعلة فبعضه إولى أن لا يكون كذلك فإن المجموع يدخل فيه بعضه، فإذا كان بجميع أبعاضه لا يكفي في الاقتضاء والفعل والإيجاد فكيف يكفي بعضه في ذلك؟ وهذا دليل مستقل في هذا المقام وهو أن المجموع إذا لم يكن علة فاعلة بل هو معلول مفتقر فيعضه إولى أن لا يكون علة فاعلة، بل معلول مفتقر فعلم أن مجموع الممكنات إذا كان مفتقراً إلى المؤثر فكل من أبعاض المجموع إولى بالافتقار إلى المؤثر فتبين أن كل ممكن ومجموع الممكنات مفتقر إلى المؤثر، وهو المطلوب ولله الحمد والمنة. الرد على باقي الاعتراض وأما قول المعترض: لانسلم أن كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجة عنه إن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن لافتقاره إلى الممكن وليس محتاجاً إلى علة خارجة عنه. الوجه الأول فيقال له: اولاً: منشأ هذه الشبهة أنلفظ المجموع فيه إجمال يراد به نفس الهيئة الاجتماعية ن ويراد به جميع الأفراد ويراد به المجموع، والمجموع المركب الذي هو كل واحد واحد من الأفراد لا يفتقر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 إلى الممكن فإن منها الواجب وهو لا يفتقر إلى الممكن ولكن الهيئة الاجتماعية إذا قدر أن لها تحققاً في الخارج فهي التي يقال: أنها متوقفة على الممكن. وحينئذ فيظهر الفرق بين مجموع الممكنات ومجموع الموجودات، فإن مجموع الممكنات هو نفس الهيئة الممكنة، وكل من الأفراد ممكن والمجموع المتوقف على الممكن أولى بالإمكان وأما مجموع الموجودات فليس كل منها ممكناً، بل منه الواجب، فليس المجموع ممكناً، بمعنى ان كل واحد منها ممكن، فظهر الفرق. وحينئذ فيقال له: هذا باطل من وجوه: أحدها: أن يقال: أنت قد قلت في الاعتراض على الدليل الأول: إن الواجب بذاته علة لمجموع الموجودات. وقلت هنا إن المجموع مفتقر إلى الممكن فإن كان معلول الواجب يجب استغناؤه عن الممكنات بطل اعتراضك الأول وصح الدليل الأول لأنه حينئذ لا يكون المجموع مستغنياً بالواجب، بل هو محتاج إلى الممكنات، فلا يكون الواجب علة للمجموع إلا مع اقتضائه لجميع الممكنات، ثم هو مع الممكنات إما المجموع وإما علة المجموع، ومثل هذا منتف في مجموع الممكنات فإن الواحد منها لا يجوز أن يكون علة لسائرها، إذ ليس علة لنفسه ولا لعلته وعلة علته، وإذا لم يكن في الممكنات إلا ما هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 معلول لم يكن فيها ما يوجب سائرها، فلم يكن فيها ما يصلح أن يكون علة للمجموع بوجه من الوجوه. وإن قلت: إن معلول الواجب يجب استغناؤه عن الممكنات، سواء اقتضاه بوسط أو بغير وسط، وإنه لما كان الواجب مقتضياً للوسط كانت الحاجة في الحقيقة إلى الواجب والغنى به، إذ كان هو مبدع الممكنات التي هي لغيرها شروط أو وسائط أو علل أو ما قيل من الأمور. فيقال لك: على هذا التقدير فمجموع الموجودات التي فيها الواجب بنفسه ليس مفتقراً إلى شيء من الممكنات بل افتقاره إلى الواجب وحده، فبطل اعتراضك على هذا الدليل الثاني، وأي الدليلين صح حصل المقصود. وتلخيص هذا الجواب: أن مجموع الموجودات من حيث هو مجموع، إن قال هو معلول الواجب وحده او بوسط بحيث لا يقال مفتقر إلى غيره بطل هذا الاعتراض وهو كونه مفتقراً إلى الممكن. وإن قال: هو معلول الواجب، لكون الممكن من معلول الواجب وهو معلول الممكن والواجب كان هذا مفسداً لاعتراضه على الدليل الأول، لكون مجموع الممكنات لا يكون معلولاً لواحد منها بوجه من الوجوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 الوجه الثاني الوجه الثاني: أن يقال: قولك: لا نسلم أن كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجة لأن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن وليس محتاجاً إلى علة خارجة غلط. وذلك أن لفظ الممكن فيه إجمال قد يراد بالممكن ما ليس بممتنع فيكون الواجب بنفسه ممكناً. ويراد بالممكن ما ليس بموجود مع إمكان وجوده، فيكون ما وجد ليس بممكن بل واجب بغيره. ثم ما يقبل الوجود والعدم هو المحدث عند جمهور العقلاء، بل جميعهم، وبعضهم تناقض فجعله يعم المحدث والقديم الذي زعم أنه واجب بغيره. ويراد بالممكن ما ليس له من نفسه وجود، بل يكون قابلاً للعدم هو وكل جزء من أجزائه. وأنت قد سميت مجموع الموجود ممكناً ومرادك أن المجموع يقبل العدم ولا يقبله كل جزء من أجزائه. وهؤلاء الذين قالوا: إن مجموع الممكنات أو مجموع العلل الممكنة ممكن مرادهم أن كل ما كان لا يقبل الوجود بنفسه، بل يكون قابلاً للعدم بنفسه، وكل جزء من أجزائه قابل للعدم، يفتقر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 إلى علة خارجة عنه، وهذا هو المفهوم عند إطلاقهم من الممكن بنفسه المفتقر إلى علة خارجة، فإن الممكن بنفسه مالا يوجد بنفسه أي نفسه قابلة للعدم. وهذا لا يكون عند وجوب بعضها، فإن القابل للعدم حينئذ إنما هو بعض نفسه جملة نفسه، فغلطك أو تغليطك حصل مما في لفظ الممكن بنفسه من الإجمال. والأدلة العقلية إنما يعترض على معانيها، فإن كنت أوردت هذا سؤالاً لفظياً كان قليل الفائدة، وإن كان سؤالاً معنوياً كان باطلاً في نفسه. والقوم لما قالوا: الموجود إما أن يكون واجباً بنفسه، وإما أن يكون ممكناً بنفسه. جعلوا الوجود منحصراً في هذين القسمين، أي جعلوا كل واحد واحد من الموجودات منحصراً في هذين القسمين. وأما الجملة الجامعة لهذا وهذا، فهي جامعة للقسمين، ومرادهم بالممكن في أحد القسمين: ما يكون كل شيء منه لا يوجد إلا بشيء منفصل عنه ومرادهم بالواجب بنفسه مالا يفتقر إلى مباين له بوجه من الوجوه. ومن المعلوم أن الأول مفتقر إلى مقتض خارج عنه، وأن مجموع تلك الممكنات ممكن مفتقر إلى ما هو مفتقر إلى مقتض مباين له. والمفتقر إلى المفتقر المباين له اولى أن يكون مفتقراً إلى البماين، وأما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 الثاني فلا يجوز أن يكون مفتقراً إلى مباين له وأما افتقاره إلى نفسه أو جزئه، فهذا لا ينافي كونه غنياً عماً يباينه. وحينئذ فمجموع الموجودات التي بعضها واجب وبعضها ممكن ليس هو من الممكن بهذا التفسير، بل هو من الواجب لعدم افتقاره إلى مباين له. وإذا قيل: إن المجموع واجب بنفسه، لكونه واجباً بما هو واجب بنفسه، أو قيل: هو واجب بنفسه، وأريد بذلك أن فيه ما هو واجب بنفسه، وسائره مستغن بذلك الواجب بنفسه، فالمجموع واجب ببعضه، والواجب ببعضه يدخل بهذا الاعتبار في الواجب بنفسه تبين مغلطة المعترض. وقيل له: قولك: المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن. أتعني به انه مفتقر إلى أمر مباين، أم تعني به أنه مفتقر إلى بعضه. أما الأول فباطل. وأما الثاني فحق، ولكن إذا قيل: إن مجموع الممكنات التي كل منها مفتقر إلى مباين للمجموع هو أيضاً ممكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 مفتقر إلى مباين لهذا المجموع، لم يعارض هذا المجموع الموجودات، فإن مجموع الموجودات لا يصح أن يكون ممكناً بمعنى أنه مفتقر إلى مباين له إذ ليس في أجزائه ما هو مفتقر إلى مباين للمجموع، فإذا كان هو متوقفاً على آحاده، وليس في آحاده ما هو متوقف على أمر مباين له، لم يجب أن يكون هو متوقفاً على أمر مباين له وأيضاً فمن المعلوم بالضرورة أن مجموع الموجودات لا يتوقف على أمر مباين له، إذ المباين لمجموع الموجودات ليس بموجود، ومجموع الموجودات لا يكون معلولا لأمر غير موجود، بخلاف مجموع الممكنات، فإنه يكون معلولاً لأمر غير ممكن، فكيف يقاس أحدهما بالآخر؟ أم كيف يعارض هذا بهذا؟ إذا كان مجموع الموجودات لا يفتقر إلى أمر خارج عنها ليس بموجود، فكذلك يجوز أن يكون مجموع الممكنات لا يفتقر إلى أمر خارج عنها ليس بممكن؟ وهل هذا الإ بمنزلة من قال: إذا كان الموجودات لا تفتقر في وجودها إلى ما ليس بموجود، فمجموع المعدومات لا تفتقر في وجودها إلى ما ليس بمعدوم وهل هذا إلا مجرد مقايسة لفظية مع فرط التباين في المعنى؟ وهل يقول عاقل: إن الموجود الواجب بنفسه والموجود الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 وجب بغيره إذا لم يحتج إلى معدوم، فالمعدوم الذي لم يجب بنفسه ولا بغيره يكون موجوداً بأمر معدوم، والممكن ليس به من نفسه وجود، بل لا وجود له إلا من غيره سواء قيل: إن عدمه لا يفتقر إلى علة أو قيل: إن عدمه لعدم مقتضيه، فمجموع الممكنات التي ليس فيها ما وجوده بنفسه لا تكون إلا معدومة وكل منها لا يكون موجوداً إلا إذا كان وجوده بغيره سواء سمي هو معلولاً لغيره أو مفعولاً لغيره كيف تكون موجودة بغيرها؟ ونكتة هذا الجواب أن لفظ الممكن يراد به الممكن بالإمكان الذي توصف به الممكنات المفتقرة إلى مقتض مباين، فيلزم أن لا يكون لها ولا لشيء منها وجود بوجه من الوجوه إلا من المباين. وأما الإمكان الذي وصف به مجموع الموجودات، فمعناه أن ذلك المجموع لم يجب إلا بوجوب ما هو داخل فيه، فبعض ذلك المجموع واجب بنفسه، فلا يكون ذلك المجموع مفتقراً إلى مباين له. الوجه الثالث ويتضح هذا بالوجه الثالث: وهو أنا نقول ابتداء: كل موجود فإما أن يكون وجوده بامر مباين له، وإما أن لا يكون وجوده بأمر مباين له، وكل ما كان وجوده بامر مباين له لا يكون موجوداً إلا بوجود ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 يباينه، ومجموع الممكنات لا توجد إلا بمباين لها فلا يوجد شيء منها إلا بمباين لها، وبعضها ليس بمباين لها فلا يوجد ببعضها بخلاف مجموع الموجودات فإنها لا تفتقر إلى مباين لها وإنما تفتقر إلى بعضها. وحينئذ فإذا صيغت الحجة هذه على هذا الوجه، تبين أنه لا بد من موجود مباين للممكنات خارج عنها، وهو المطلوب، وأن مجموع الموجودات لا بد لها من موجود هو بعهضا فوجد به مجموعها. وحينئذ فيلزم ثبوت واجب الوجود على التقديرين، فكان ما ذكروه من الاعتراض دليلاً على إثبات واجب الوجود لا على نفيه. فصل غلط المبتدعة في الله سبحانه على طرفي نقيض واعلم أن هؤلاء غلطوا في مسمى واجب الوجود وفيما يقتضيه الدليل من ذلك حتى صاروا في طرفي نقيض فتارة يثبتونه ويجزدونه عن الصفات حتى يجعلوه وجوداً مطلقاً ثم يقولون: هو الوجود الذي في الموجودات، فيجعلون وجود كل ممكن وحادث هو الوجود الواجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 بنفسه، كما يفعل ذلك محققة صوفيتهم كابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني وأمثالهم. وتارة يشككون في نفس الوجود الواجب، ويقدرون أن يكون كل موجود ممكناً بنفسه لا فاعل له، وأن مجموع الوجود ليس فيه واجب بنفسه، بل هذا معلول مفعول وهذا معلول مفعلول، وليس في الوجود إلا ما هو معلول مفعول، فلا يكون في الوجود ما هو فاعل مستغن عن غيره فتارة يجعلون كل موجود واجباً بنفسه، وتارة يجعلون كل موجوزد ممكناً بنفسه. ومعلوم بضرورة العقل بطلان كل من القسمين، وأن من الموجودات ما هو حادث. كان تارة موجوداً وتارة معدوماً، وهذا لا يكون واجباً بنفسه، وهذا لا بد له من موجود واجب بنفسه. ومن غلطهم في مسمى واجب الوجود أنهم لم يعرفوا ما هو الذي قام عليه الدليل، وجوده مستفاداً من أمر مباين له، بل وجوده بنفسه، وكون وجوده بنفسه لا ينفي أن يكون موجوداً بنفسه، وأن يكون ما دخل في مسمى نفسه من صفاته لازماً له، فالدليل دل على أنه لا بد للممكنات من أمر خارج عنها يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 موجوداً بنفسه. فلا يكون وجوده بامر خارج عنه وحينئذ فاتصافه بصفاته، سواء سمي ذلك تركيباً او لم يسم، لا يمنعه ان يكون واجباً بنفسه ر يفتقر إلى أمر خارج عنه. ولهذا كانت صفاته واجبة الوجود بهذا الاعتبار، وإن لزم من ذلك تعدد مسمى واجب الوجود بهذا المعنى. بخلاف ما إذا عنى به أنه الموجود الفاعل للممكنات فإن هذا واحد سبحانه لا شريك له. وأما إذا عني به الموجود بنفسه القائم بنفسه. فالصفات اللازمة تكون ممكنة، لكن هذا يقتضي أن يكون في الممكنات ما هو قديم أزلي وهذا باطل كما قد بسطناه في موضع آخر. الوجه الثالث أن يقال: قولك: المجموع المركب من لاواجب والممكن ممكن ممنوع بان يقال ليس المجموع إلا الأفراد الموجودة في الخارج والمجموع هو جميع تلك الأفراد وتلك الأفراد بعضها واجب وبعضها ممكن، والجميع ليس هوصفة ثبوته قائمة بالأفراد، وإنما هو امر نسبي إضافي كالعدد والموجود في الخارج، فليست جملته غير آحاد المعنية ومعلوم أن الجملة ليست هي كل واحد من الآحاد بعينه لكن هي الآحاد جميعها فالآحاد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 جميعها هي الجملة والمجموع وهذا لا حقيقة له غير الآحاد والآحاد بعهضا واجب وبعضها ممكن. يبين ذلك أنه قد قال بعد هذا: إن جملة الأمور التي يتوقف عليها الواجب والممكن ليس داخلاً في المجموع لتوقفه على كل جزء منها ولا خارجاً عنه فهي نفس المجموع. فإن قال: بل المجموع هو الهيئة الاجتماعية الحاصلة باجتماع الواجب والممكن وتلك ممكنة لتوقفها على غيرها. قيل: تلك النسبة ليست أعياناً قائمة بانفسها، ولا صفات ثبوتية بالأعيان، بل أمر نسبي إضافي، سواء كانت نسبة عدمية أو ثبوتيه إذا قيل: هي ممكنة لم يضر، فإن الواجب الذي هو واحد من المجموع موجب لسائر الممكنات، وتلك النسبة من الممكنات، ولا يكون جزء المجموع موجباً للمجموع، بمعنى انه موجب لكل واحد من الأفراد، فإن هذا يقتضي أن يكون موجباً لنفسه، وهو ممتنع، بل بمعنى انه موجب لما سواه وللهيئة الاجتماعية وهذا صحيح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 أو يقال: هو موجب لماسواه والهيئة الاجتماعية إن كانت ثبوتية فهي ممكنة من جملة الممكنات التي هي سواه وإن كانت عدمية فالأمر ظاهر الوجه الرابع أن يقال: مجموع الموجودات إما أن يكون فيها واجب بنفسه وإما أن لا يكون أي إما أن يقدر ذلك وإما أن لا يقدر. فإن قدر فيها واجب بنفسه وجوب الواجب بنفسه وهو المطلوب، وإن لم يقدر ذلك هذه الحجة، وقد تقدم تقرير هذا الكلام. الدليل الثالث على إبطال التسلسل وأما الدليل الثالث على إبطال التسلسل وهو قولهم: إن جملة ما يفتقر إليه المجموع: إما أن يكون نفس المجموع، أو داخلاً فيه أو خارجاً عنه. والأول محال، وإلا لكان الشيء علة نفسه. والثاني محال وإلا لكان بعض أجزائه كافياً في المجموع والثالث حق اعتراض الأبهري عليه فقد اعترض عليه بقوله: قلنا إن أردتم بجملة ما يفتقر إليه المجموع جملة الأمور التي يصدق على كل واحد منها انه مفتقر إليه، فلم قلتم بانه لا يجوز أن يكون هو نفس المجموع، والذي يدل عليه أن جملة الأمور التي يفتقر إليه الواجب والممكن ليس داخلاً في المجموع لتوقفه على كل جزء منه ولا خارجاً عنه، فهو نفس المجموع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 وإن أردتم العلة الفاعلية فلم قلتم أنه يلزم أن يكون بعض الأجزاء كافياً في المجموع؟ الجواب عن هذا الاعتراض من وجوه الوجه الأول أن نقول: العلم بكون مجموع المعلولات الممكنة معلولاً ممكناً أمر معلوم بالأضطرار، فإن المجموع مفتقر إلى المعلولات الممكنة، والمفتقر إلى المعلول أولى أن يكون معلولاً، وحينئذ فما أورده من القدح في تلك الحجة لا يضر إذ كان قدحاً في الضروريات فهو من جنس شبه السوفسطائية. الوجه الثاني أن مجموع المعلولات الممكنة إما أن يكون واجباً بنفسه وإما أن يكون ممكناً وإذا كان ممكناً فالمقتضى له غما نفسه أو جزؤه أو أمر خارج عنه. أما كون مجموع المعلولات الممكنات واجباً بنفسه فهو معلوم الفساد بالضرورة، لأن المجموع غما كل واحد واحد من الأفراد، وغما الهيئة الاجتماعية، وإما مجموعهما، وكل من ذلك ممكن. فإذاً ليس الأفراد ممكنة وكل منها معلول ولو قدر مالا غاية له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 والمعلول من حيث هو معلول لا بد له من علة، فكل منها لا بد له من علة، وتعاقب معلولات لا تتناهى لا يمنع ان يكون كل منها محتاجاً إلى العلة، فإذا لم يكن ثم مجموع إلا هذه الآحاد التي كل منها معلول محتاج، لزم أن لا يكون في الوجود إلا ما هو معلول محتاج، ومن المعلول بالضرورة أن المعلول المحتاج لا يوجد بنفسه. فعلى هذا التقدير لا يكون في الوجود ما يوجد بنفسه، وما لا يوجد بنفسه لا يوجد إلا بموحد، والموجد إذا لم يكن موجوداً بنفسه كان مما لا يوجد بنفسه فلا يوجد فيلزم أن لا يوجد شيء، وقد وجدت الموجودات، فيلزم الجمع بين النقيضين: وهو أن لا يكون شيء من الموجودات موجوداً، إذا قدر انه ليس فيها شيء موجود بنفسه، وهي كلها موجودة، فلا بد من غير موجود بنفسه. فيكون الموجود موجوداً بنفسه، غير موجود بنفسه، وهو جمع بين النقيضين. الوجه الثالث أن يقال: أردنا بجملة ما يفتقر إليه المجموع العلة الفاعلة، فغن الكلام إنما هو في إثبات الفاعل لمجموع الممكنات، ليس هو فيما هو أعم من ذلك قوله: إن أردتم العلة الفاعلة التامة، فلم قلتم: إنه يستلزم أن يكون بعض الأجزاء كافياً في المجموع؟ فيقال: قلنا ذلك لأنه إذا وجدت العلة الفاعلة التامة لزم وجود المعلول، فإنه إنما نعني بالعلة مجموع ما يلزم من وجوده وجود المعلول، فغن الممكن لا يوجد حتى يحصل المرجح التام المستلزم لوجوده، فإذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 كان الفاعل فاعلاً باختياره، فلا بد من القدرة التامة والإرادة الجازمة، فلا يحصل الممكن بدون ذلك، ومتى وجد ذلك وجب حصول المفعول الممكن، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاء الله وجب وجوده، وما لم يشأ الله امتنع وجوده، فإن حصل للمكن المؤثر التام وجب وجوده بغيره، وإن لم يحصل امتنع وجوده لانتفاء المؤثر التام، فوجوده لا يحصل إلا بغيره. وأما عدمه فقد قيل: إنه أيضاً لا بد له من علة، وهو قول ابن سينا وأتباعه المتأخرين الذين يقولون: إن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح. وقيل: لا يحتاج عدمه إلى علة، وهو قول نظار السنة المشهورين كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وهو آخر قول الرازي فإنه يقول بقول هؤلاء تارة، وهؤلاء تارة، لكن هذا آخر قوليه. فإن العدم عندهم لا يفتقر إلى علة، وإذا قيل: عدم لعدم علته، فمعناه أن عدم علته مستلزم لعدمه، لا أنه هو الذي أوجب عدمه، بل إذا عدمت علته علمنا أنه معدوم فكان ذلك دليلاً على عدمه، لا أن أحد العدمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 أوجب الآخر، فإن العدم لا تأثير له في شيء أصلاً، بل عدمه يستلزم عدمه علته، وعدم علته يستلزم عدمه من غير أن يكون أحد العدمين مؤثراً في الآخر. وأما وجوده فلا بد له من المؤثر التام، وإذا حصل المؤثر التام وجب وجوده، وإلا امتنع وجوده. ولهذا تنازع الناس في الممكن: هل من شرطه أن يكون معدوماً؟ فالذي عليه قدماء الفلاسفة كأرسطو وأتباعه من المتقدمين والمتأخرين كأبن رشد وغيره حتى الفارابي معلمهم الثاني، فإن أرسطو معلمهم الأول. وحتى ابن سينا وأتباعه وافقوا هؤلاء أيضاً لكن تناقضوا وعليه جمهور نظار أهل الملل من المسلمين وغيرهم: أن من شرطه أن يكون معدوماً وأنه لا يعقل إلامكان فيما لم يكن معدوماً. وذهب ابن سينا وأتباعه إلى أن القديم الموجود بغيره يوصف بالإمكان وإن كان قديماً أزلياً لم يزل واجباً بغيره، لكنه قد صرح هو وأصحابه في غير موضع بنقيض ذلك كما قاله الجمهور، وقد ذكرت بعض ألفاظه في كتابه المسمى بالشفاء في غير هذا الموضع وأصحابه الفلاسفة المتبعين لأرسطو وأصحابه مع الجمهور أنكروا ذلك عليه وقالوا إنه خالف به سلفهم، كما خالف به جمهور النظار وخالف به ما ذكره هو مصرحاً به في غير موضع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 وذلك لأن الممكن بنفسه هو الذي يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد، وذلك أنما يعقل فيما يكون معدوماً، ويمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد، بل يستمر عدمه. فأما ما لم يزل موجوداً بغيره فكيف يقال فيه إنه يمكن وجوده وعدمه؟ أو يقال فيه إنه يقبل الوجود والعدم؟ ومما يوضح ذلك أن القابل للموجود والعدم غما أن يكون هو الموجود في الخارج أو الماهية الموجودة في الخارج عند من يقول: الوجود زائد على الماهية أو ما ليس موجوداً في الخارج. فإن قيل بالأول فهو ممتنع، لأن ما كان موجوداً في الخارج أزلاً وأبداً: واجباً بغيره فإنه لا يقبل العدم أصلاً. فكيف يقال: إنه يقبل الوجود والعدم؟ وإن قيل أمر آخر، فذلك لا حقيقة له حتى يقبل وجوداً أو عدماً، لأن وجود كل شيء عين ماهيته في الخارج، ولكن الذهن قد يتصور ماهية غير الوجود الخارجي، فإذا اعتبرت الماهية في الذهن والوجود في الخارج أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 بالعكس فاحدهما غير الآخر، وأما إذا اعتبر ما في الخارج فقط أو ما في الذهن فقط فليس هناك وجود وماهية زائدة ومن تصور هذا تصوراً تاماً لم ينازع فيه، وإنما ينازع من لم يميز بين الذهني والخارجي، واشتبه عليه أحدهما بالآخر، وأيضاً فلو قدر أن في الخارج ماهية ووجوداً لواجب قديم أزلي، فهذه كما يقوله كثير من المتكلمين: إن لواجب الوجود ماهية غير زائدة على وجوده، وحينئذ فمثل وجود هذه الماهية لا يقبل العدم كما أن وجود الماهية الواجبة بنفسها لا تقبل العدم. وإن قيل: نحن نريد بذلك أن ماهية الممكن الزائدة على وجوده القديم الأزلي كماهية الفلك هي من حيث هي هي مع قطع النظر عن وجودها وعدمها تقبل الوجود والعدم. قيل: إثبات هذه الماهية زائدة على الوجود باطل. كما قد بين في موضع آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 وبتقدير التسليم فهذا كما يقدر أن وجود واجب الوجود زائد على ماهيته. ومعلوم أنه لا يستلزم ذلك كون ماهيته قابلة للعدم. ثم يقال: قول القائل: الماهية من حيث هي هي تقدير للماهية مجردة عن الوجو د والعدم، وهذا تقدير ممتنع في نفسه، فإن الماهية لو قدر تحققها فإما أن تكون موجودة أو معدومة، فلا يمكن تقديرها مجردة في الخارج حتى يقال: إن تلك الماهية تقبل الوجود معدومة، فلا يمكن تقديرها مجردة في الخارج حتى يقال: إن تلك الماهية تقبل الوجود والعدم. وأيضاً، فلو قيل: إنه يمكن تقديرها مجردة، فهذا إنما يمكن في الماهية إذا كانت يمكن أن تكون موجودة ويمكن أن تكون معدومة. وأما ما كان الوجود لازماً لها قديماً ازلياً يمتنع عدمه، فكيف يتصور ان يقال: إن هذه الماهية تقبل العدم وهي لم تزل واجبة الوجود، فليس لها وقت من الأوقات تقبل فيه العدم، وإذا قدرت مجردة في الذهن فليست هذه المقدرة في الذهن هي الموجودة في الخارج المستلزمة للوجود القديم الأزلي. فإن قيل: هذا كما نقول في ماهية المحدث أنه يقبل الوجود والعدم. قيل: إن سلم لكم أن ماهية المحدث زائدة على وجودهما موافقتكم لسائر العقلاء على أنه يمتنع تحققها في الخارج إلا إذا كانت موجودة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 وحين وجودها لا تكون معدومة، بمعنى كونها تقبل الوجود والعدم قيل أحد إمرين: إما ان يقال: الماهية المقدرة في الذهن يمكن أن تكون موجودة في الخارج، ويمكن أن تكون معدومة، وإما أن يقال: هذه الحقيقة يمكن أن تكون في الخارج معدومة، فإذا اخترنا من ذلك حال عدمها قيل: يمكن وجودها بعد العدم، وإن كان حين وجودها: قيل: يمكن عدمها بعد الوجود، ومثل هذا ممتنع في الماهية القديمة الازلية التي يجب وجودها ويمتنع عدمها، سواء قدر ان وجوبها بنفسها أو بغيرها كما أن صفات الرب عند من قال: ممكنة مع كونها قديمة أزلية واجبة بالذات، فإنها عندهم لا يمكن عدمها ولا تقبله، فإن ما وجب قدمه من الأمور الوجودية امتنع عدمه باتفاق العقلاء. فإن ما يجب قدمه لا يكون إلا واجباً بنفسه ولا بغيره ليس قديما باتفاق العقلاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 فإنه إذا قدر أنه ليس واجباً بنفسه فلا بد أن يكون من لوازم الواجب بنفسه، فإنه إذا لم يكن من لوازمه، بل جاز وجوده تارة وعدمه أخرى. لم يكن هناك موجب لذاته ولا ذاته واجبة بنفسها فامتنع قدمه. وإذا كان من لوازم الواجب بنفسه امتنع عدمه إلا إذا عدم الملزوم، فإن اللازم لا ينتفي إلا إذا انتفى الملزوم والملزوم الواجب بنفسه يمتنع عدمه فيمتنع عدم لازمه، وما امتنع عدمه لا يكون ممكن العدم. فإن قيل: فالممكنات التي هي محدثة هي واجبة بغيرها، إذا وجدت تجب بوجوب سببها. فما شاء الله كان وجب وجوده، وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده. وهي ممتنعة حال عدمها. ومع هذا فهي تقبل الوجود والعدم، ولا يلزم من عدمها عدم الواجب. قيل: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما أن تلك كانت معدومة تارة وموجودة أخرى فثبت قبولها للوجود والعدم، فلا يمكن أن يقال: إنها لا تقبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 العدم بخلاف ما هو لم يعدم قط ولم يكن عدمه في وقت من الأوقات. الثاني: أن هذه لا يوجبها نفس الواجب إذا لو كان كذلك لكانت لازمة لذاته قديمة أزلية، بل إنما توجبها الذات مع ما يحدث من الشروط التي بها تم حصول المقتضى التام، فحينئذ ليست من لوازم الواجب بنفسه بل من لوازم مؤثرها التام، ومن جملة ذلك الأمور الحادثة التي هي شرط في حدوثها، وإذا عدمت فأنها تعدم لانتفاء بعض هذه الشروط الشروط الحادثة، أو لحدوث مانع ضاد وجودها، ومنع تمام علتها التامة فعدمت لعدم بعض الحوادث أو وجود بعض الحوادث، كما وجدت لحدوث بعض الحوادث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 وقدم بعضها أيضا. فلهذا لم تكن من لوازم ذاته المجدة في الأزل. بخلاف ما كان من لوازم ذاته في الأزلية الواجبة الوجود، وعدمها ممتنع تحقق ذاته في الأزل بدونها فمتى قدر عدمه لزم عدم الذات الأزلية الواجبة الوجود ن وعدمها ممتنع، فعدم لازمها الأزلي ممتنع، فلا يكون لازمه الأزلي ممكنا ً البتة، بل لا يكون إلا واجباً قديماً أزلياً لا تقبل ذاته العدم. وهذا هو المطلوب. فقد تبين أن ما كان أزلياً فإنه واجب الوجود يمتنع عدمه لا يكون ممكناً البتة، وهذا مما اتفق عليه العقلاء أولوهم وأخرون. حتى أرسطو وجميع أتباعه الفلاسفة إلى الفارابي وغيره، وكذلك ابن سينا وأتباعه. لكن هؤلاء تناقضوا فوافقوا سلفهم والجمهور في موضع، وخالفوا العقلاء قاطبة مع مخالفتهم لأنفسهم في هذا الموضع. حيث قضوا بوجود موجود ممكن يقبل الوجود والعدم مع كونه قديماً أزلياً وأجباً، وإن قيل: هو واجب بغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 ولهذا لا يوجد هذا القول عن أحد من عقلاء قبل هؤلاء، ولا نقله أهل المقالات عن احد من الطوائف. وإنما يوجد في كلام هؤلاء وأتباعهم وإذا عرف هذا فإن قال هؤلاء: نحن نريد به العدم الاستقبالي أي يقبل ان يعدم في المستقبل قيل فهذا يبطل قولكم. لأن ما كان واجباً بغيره أزلياً لم يقبل العدم لا في الماضي ولا في المستقبل. وكذلك هو عندكم أزلياً كان أبديا يمتنع عندكم عدمه. وإن قيل: نريد به أن ما تصور في الذهن يمكن وجوده في الخارج ويمكن أن لا يوجد. قيل: إذا كان أزلياً واجباً بغيره لم يمكن أن يقبل العدم بحال فلا يكون ممكناً، فالممكن لا يكون ممكنا إن لم يكن معدوماً في الماضي أو المستقبل. وإذا قيل: إن من الممكن يقبل الوجود والعدم لم نرد به انه يقبلهما على سبيل الجمع، فإن هذا جمع بين النقيضين بل المراد به أنه يقبل الوجود بدلاً عن العدم، والعدم بدلاً عن الوجود، فإذا كان معدوماً كان قابلاً لدوام العدم وقابلاً لحدوث الوجود، وإذا كان موجوداً قبل دوام الوجود، فإذا كان معدوما كان قابلاً لدوام العدم وقابلاً لحدوث الوجود، وإذا كان موجوداً قبل دوام الوجود وقبل حدوث العدم هذا إذا اعتبر حاله في الخارج وإن اعتبر حاله في الذهن فالمراد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 أن ما يتصوره في الذهن يمكن أن يوجد في الخارج، ويمكن ان لا يوجد فبكل حال إذا اعتبر الممكن ذهنياً أو خارجياً لا يتحقق فيه الإمكان إلا مع إمكان العدم تارةً ووجود أخرى، فما كان ضروري العدم كالجمع بين النقيضين لا يكون ممكنا ً ن وما كان ضروري الوجود وهو القديم الأزلي لا يكون ممكناً وقد وافق على هذا جميع الفلاسفة: ارسطو وجميع أصحابه المتقدمين والمتأخرين والعقلاء أما مع وجوب وجوده بنفسه أو بغيره دايماً، فليس هناك ممكن يحكم عليه بقبول الوجود والعدم. ولما سلك الرازي ونحوه مسلك ابن سينا في إثبات إمكان مثل هذا اضطربوا في الممكن وورد عليهم فيه إشكالات كثيرة، كما هو موجود في كتبهم كما أوردوه الرازي في محصله من الحجج الدالة على نفي هذا الممكن ولم يكن عنها جواب إلا دعواه أن ما كان متغيراً فإنه يعلم إمكانة بالضرورة. وهذه الدعوى يخالفه فيها جمهور العقلاء، حتى ارسطو واصحابه ن وهذا الذي نبهنا عليه هو أحد ما يستدل به على أن كل ممكن فهو مسبوق بالعدم ن وكل ما سوى الله ممكن، فكل ما سوى الله حادث عن عدم ن كما قد بسط في موضعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 والمقصود هنا ان الدين بهذه الأدلة على افتقار الممكنات إلى واجب خارج عنها. فإن مرادهم بقولهم: جملة ما يفتقر إليه مجموع الممكنات هو المؤثر التام، وهو المرجح التام الذي يلزم من وجوده بتأثيره التام وجودها، كما ذكرناه من أن الفاعل باختياره إذا وجدت قدرته التامة وإرادته التامة وجب وجود المقدور. وهي الممكنات. وأما قوله: فلم قلتم: إنه يلزم أن يكون بعض الجزاء كافياً في المجموع فلما ذكرناه من أن المؤثر التام يستلزم وجود أثره، فإذا قدر أن المؤثر التام في المجموع هو بعض المجموع، لزم أن يكون بعض أجزاء المجموع هو المؤثر في المجموع فيكون مؤثراً في نفسه وفي غيره وهذا ظاهر فإنه إذا قدر مجموع الممكنات وقدرنا أن واحداً منها مؤثر في نفسه وفي غيره فيكون بعض أجزاء المجموع موجباً لحصول المجموع المذكور ومن المجموع نفسه وهذا ممتنع وأما المجموع المركب من الواجب والممكن، فهناك ليس بعضه مؤثراً في كل واحد واحد وفي الهيئة الإجتماعية 0 فإن من المجموع الواجب بنفسه لم يؤثر فيه شيء فظهر الفرق وأيضاً فالواجب مؤثر في الممكن وفي الهيئة الاجتماعية، ليس مؤثراً في نفسه، بخلاف مجموع الممكنات، فإن كل واحد منها لا بد من مؤثر، والاجتماع لا بد له من مؤثر، فالمجموع مفتقر إلى المؤثر بأي تفسير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 فسر، فإن فسر بالهيئة الاجتماعية فهي متوقفة على الأفراد الممكنة، والمتوقف على الممكن أولى أن يكون ممكناً، مع أن الهيئة الاجتماعية نسبة وإضافة متوقفة على غيرها، فهي ادخل في الإمكان والافتقار من غيرها وهي من أضعف الأعراض المفتقرة إلى الأعيان إن قدر لها ثبوتاً وجودياً وإلا فلا وجود لها وإن فسر المجموع بكل واحد واحد، أو فسر بالأمرين بكل واحد بالاجتماع، أو بغير ذلك بأي شيء فسر، لم يكن إلا ممكناً مفتقراً إلى غيره، وكلما كثرت الإمكانات كثر الافتقار والحاجة فإذا قيل: المؤثر في ذلك واحد منها وهو ممكن لزم أن يكون الممكن الذي لم يوجد بعد فاعلاً لجميع الممكنات، ونفسه من الممكنات، فإن نفسه لا بد له من فاعل أيضاً وهذا المعترض اخذ المجموع المركب من الواجب والممكن فعارض به المجموع من الممكنات. ولفظ المجموع فيه إجمال يراد به الاجتماع، ويراد به جميع الأفراد، ويراد به الأمران، فكانت معارضته في غاية الفساد 0 فإن ذلك المجموع فيه واجب بنفسه لا يحتاج إلى غيره، وما سواه من الأفراد والهيئة الإجتماعية مفعول له، فهذا معقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 فالله تعالى هو الموجود الواجب بنفسه، خالق لكل ما سواه وأما الهيئة الاجتماعية إن قدر لها وجود في الخارج فهي حاصلة به أيضاً سبحانه وتعالى. وأما المجموع الذي كل منه مفتقر إلى من يبدعه، وليس فيه موجود بنفسه، فيمتنع أن يكون فاعلهم واحداً منهم لأنه لا بد له من فاعل، فلو كان فاعلهم ما كان فاعل نفسه وغيره من الممكنات، ولزم أن يكون بعض أجزاء الممكنات كافياً في مجموع الممكنات، وإذا كان مجموع الممكنات يمتنع أن يكون فاعلها، فلأن يمتنع أن يكون بعضها فاعلاً لها بطريق الأولى، فإن ما يتعذر على المجموع يتعذر على بعضه بطريق الأولى، وما يفتقر إليه المجموع يفتقر إليه بعضه بطريق الأولى. وهذا المعترض أخذ ما يفتقر إليه المجموع لفظاً مجملاً، فالافتقار قد يكون افتقار المشروط إلى شرطه، وقد يكون افتقار المفعول إلى فاعله0 ثم أخذ يورد على هذا وعلى هذا، ونحن نجيب على كل تقدير. الوجه الرابع أن يقال أتعني بجملة ما يفتقر إليه المجموع ما إذا وجد وجد المجموع، وما لا يوجد المجموع إلا بوجوده كله مع قطع النظر عن كونه شرطاً أو فاعلاً، فإن جملة ما يفتقر إليه الشيء هو الجملة التي تشتمل على كل ما يفتقر إليه الشيء. فكل ما كان الشيء مفتقراً إليه فهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 داخل في هذه الجملة، وإذا حصل كل ما يحتاج إليه الشيء لم يبق الشيء محتجاً إلى شيء أصلاً، فيلزم وجوده حينئذ، فإنه ما دام مفتقراً إلى شيء لم يوجد، وإذا حصل كل ما يتوقف وجوده عليه ولم يبق وجوده موقوفاً على شيء أصلاً لزم وجوده، فينبغي بجملة ما يتوقف وجود الشيء عليه الأمور التي إذا وجدت وجد المجموع، وإن لم توجد جميعها لم يوجد المجموع. ومعلوم أنه إذا عنى به ذلك لم يمكن أن يكون ذلك بعضها، لأنه يلزم حينئذ أن يكون بعض الأجزاء كافياً في المجموع، فإنه قد فسر الجملة بما إذا حصل وجب حصول المجموع، وإن لم يحصل لم يجز حصوله، فلو كان بعض الأجزاء هو تلك الجملة لوجب أن يكون ذلك البعض كافياً في حصول المجموع، سواء قدر فاعلاً لنفسه ولباقي الجملة، أو قدر أن حصوله هو حصول المجموع، أو قدر غير ذلك من التقديرات الممتنعة، فأي تقدير قدر كان ممتنعاً، فإن جملة ما يفتقر إليه المجموع لا يكون بعض المجموع بأي تفسير فسر، وهو المطلوب. ولكن لفظ المجموع فيه إجمال، فإنه قد يعني به مجرد الهيئة الاجتماعية، وقد يعنى به كل من الأفراد، أو كل من الأفراد مع الهيئة الاجتماعية، فإن عني به الأول فلا ريب أن هذا قد يكون بعض الأفراد موجباً له، كما في المجموع المركب من الواجب والممكن، فإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 الواجب هو الموجب للممكنات، وهو الموجب أيضاً للهيئة الاجتماعية، والهيئة الاجتماعية أمر ممكن خارج عن الواجب، ليس هو بعض الهيئة الاجتماعية، لكنه بعض الأفراد، والهيئة نسبة وإضافة، وليس هو بعض النسبة والإضافة ولكن هو بعض الأفراد المنسوب بعضها إلى بعض، والنسبة وسائر الأفراد غير له، وهو الموجب لكل ما هو غير له. وأما المجموع الذي هو الأفراد فلا يكون بعضه هو الموجب لكل من الأفراد، فإن هذا يقتضي أن يكون ذلك البعض موجباً لنفسه فاعلاً لذاته، وهذا ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء بل هو من أبلغ الأمور امتناعاً، والعلم بذلك من أوضح المعارف وأجلاها، ولهذا لم يقل هذا أحد من العقلاء. وإذا المجموع كلا من الأفراد مع الهيئة فهو أبعد عن أن يكون واحد من الأفراد موجباً لنفسه ولسائر الأفراد ومع الهيئة الاجتماعية، وهذا بين ولله الحمد والمنة. واعلم أن مثل هذه الاعتراضات مع صحة الفطرة وحسن النظر يعلم فسادها، ومثل هذه الخواطر الفاسدة التي تقدح في المعلومات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 لا نهاية لها، ولا يمكن استقصاء ما يرد علي النفوس من وساوس الشيطان، ولولا أن هذين الرجلين اللذين كان يقال إنهما من أفضل أهل زمانهما في المباحث العقلية: كلاميها وفلسفيها، أورد كل منها ما ذكرت، وصار ذلك عنده مانعاً من صحة الطريق المذكور في إثبات واجب الوجود لما ذكرت ذلك لظهور فساده عند من له تصور صحيح لما ذكروه فضلاً عمن نور الله قلبه. ثم إن هؤلاء الفلاسفة يقولون كما زعم الآمدي إن كمال النفس الإنسانية هو الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات وهم مع هذا لم يعرفوا الموجود الواجب، فأي شيء عرفوه؟ جهل المبتدعته وحيرتهم وقد بلغني بإسناد متصل عن بعض رؤوسهم وهو الخونجي صاحب كشف الأسرار في المنطق وهو عند كثير منهم غاية ف يهذا الفن أنه قال عند الموت أموت وما علمت شيئاً إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب ثم قال الافتقار وصف عدمي أموت وما علمت شيئاً وذكر الثقة عن هذا الآمدي أنه قال أمعنت النظر في الكلام وما استفدت منه شيئاً إلا ما عليه العوام أو كلاماً هذا معناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 وذلك أن هذا الآمدي لم يقرر في كتبه لا التوحيد ولا حدوث العالم، ولا إثبات واجب الوجود بل ذكر في التوحيد طرقاً زيفها وذكر طريقة زعم انه ابتكرها، وهي أضعف من غيرها. وكان ابن عربي صاحب الفصوص والفتوحات وغيرهما يعظم طريقته ويقول: إن الطريقة التي ابتكرها في التوحيد طريقة عظيمة، أو ما هو نحو هذا، حتى أفضى الأمر ببعض أعيان القضاة الذين نظروا في كلامه إلى أن قال التوحيد لا يقوم عليه دليل عقلي وإنما يعلم بالسمع، فقام عليه أهل بلده وسعوا في عقوبته، وجرت له قصة. وكذلك الأصبهاني اجتمع بالشيخ إبراهيم الجعبري يوماً فقال له بت البارحة أفكر إلى الصباح في دليل على التوحيد سالم عن المعارض فما وجدته. وكذلك حدثني من قرا على ابن واصل الحموي أنه قال أبيت باليليل واستلقي على ظهري وأضع الملحفة على وجهي وأبيت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء وبالعكس وأصبح وما ترجح عندي شيء كأنه يعني أدلة المتكلمين والفلاسفة. وقد بسطنا في التوحيد وأدلته في غير هذا الموضع، وذكرنا أن الناس قبلنا قد ذكروا له من الأدلة العقلية اليقينية ما شاء الله ولكن الإنسان يريد ان يرعف ما قاله الناس وما سبقوا إليه، وبيناً أن القرآن ذكر من ذلك ما هو خلاصة ما ذكروه الناس، وفيه من بيان توحيد الإلهية ما لم يهتد إليه كثير من النظار ولا العباد، بل هو الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه. الطرق المختلفة لإثبات الخالق تعالى وهؤلاء كما ذكرت انقسموا إلى أصحاب نظر وفكر وبحث واستدلال وأصحاب إرادة وعبادة وتأله وزهد فكان منتهى أولئك الشك، ومنتهى هؤلاء الشطح. فأولئك يشكون في ثبوت واجب الوجود، او يعجزون عن إقامة الدلالة عليه. وإذا لم يكن في الوجود واجب لم يوجد شيء فتكون الموجودات كلها معدومات فيفضى بهم سوء النظر إلى جعل الموجودات معدومات أو تجويز كونها معدومات وجعل الموجود الواجب ممكناً وجعل الواجب ممكناً غاية التعطيل. والآخرون يجعلون كل موجود واجب الوجود، ويجعلون وجود كل موجود هو نفس وجود واجب الوجود، فلا يكون في الوجود وجود هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 عندهم مخلوق ولا مصنوع ولا مفتقر إلى غيره، ولا محتاج إلى سواه ن فلا يكون في الوجود ما وجد بعد عدمه ولا ما عدم بعد وجوده وهذا فيه من جعل المعدوم موجوداً ومن جعل الممكن واجباً، وجعل العبد رباً وجعل المحدث قديماً ما هو غاية الكفر والشرك والضلال. الطريقة الصحيحة الموافقة للفطرة في إثبات وجود الله تعالى هذا مع أن إثبات الموجود الواجب الغني الخالق، وإثبات الموجود الممكن المحدث الفقير المخلوق هو من أظهر المعارف وأبين العلوم. أما ثبوت الموجود المفتقر المحدث الفقير، فيما نشاهده من كون بعض الموجودات يوجد بعد عدمه، ويعدم بعد وجوده، من الحيوانات والنباتات والمعدن، وما بين السماء والأرض من السحاب والمطر والرعد والبرق وغير ذلك، وما نشاهده من حركات الكواكب. وحدوث الليل بعد النهار، والنهار بعد الليل، فهذا كله فيه من حدوث موجود بعد عدمه، ومعدوم بعد وجوده وما هو مشهود لبني أدم يرونه بأبصارهم. ثم إذا شهدوا ذلك فنقول: معلوم أن المحدثات لا بد لها من محدث. والعلم بذلك ضروري كما قد بين ولا بد من محدث لا يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 محدثاً وكل محدث ممكن والممكنات لا بد لها من واجب، وكل محدث وممكن فقير مربوب مصنوع والمفتقرات لا بد لها من غني والمربوبات لا بد لها من رب والمخلوقات لا بد لها من خالق. وأيضاً فإنه يقال: هذا الموجود إما أن يكون واجباً بنفسه وإما أن لا يكون واجباً بنفسه بل ممكناً بنفسه فهو واجباً بغيره والممكن بنفسه الواجب بغيره لا بد له من واجب بنفسه فلزم ثبوت الواجب بنفسه على التقديرين. وأيضاً فالموجود: إما أن يكون محدثاً وإما أن يكون قديماً والمحدث لا بد له من قديم فلزم وجود القديم على التقديرين. وأيضاً فالموجود إما أن يكون محدثاً وإما أن يكون والمحدث لا بد له من قديم فلزم وجود على التقديرين. وأيضاً فإما إن يكون خالقاً وإما أن لا يكون وقد علم فيما ليس بخالق كالموجودات التي علم حدوثها أنها مخلوقة والمخلوق لا بد له من خالق فعلم ثبوت الخالق على التقديرين. وأيضاً فالموجود إما غني عن كل ما سواه وغما مفتقر إلى غيره والفقير إلى غيره لا بد له من غنى بنفسه فعلم ثبوت الغني بنفسه على التقديرين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 فهذه البراهين وأمثالها كل منها يوجب العلم بوجود الرب سبحانه وتعالى الغني القديم الواجب بنفسه. طريقة ابن سينا وأتباعه في إثبات وجود الله تعالى وابن سينا وأتباعه كالرازي والآمدي والسهروردي المقتول وأتباعهم سلكوا في إثبات واجب الوجود طريقة الاستدلال بالوجود وعظموها وظن من ظن منهم انها أشرف الطرق وأنه لا طريق إلا وهو يفتقر إليها حتى ظنوا أن طريقة الحدوث مفتقرة إليها. وكل ذلك غلط بل هي طريقة توجب إثبات واجب الوجود بلا ريب لو كانوا يفسرون الممكن بالممكن الذي هو ممكن عند العقلاء سلفهم وغير سلفهم وهو الذي يكون موجوداً تارة ومعدوماً أخرى. فأما إذا فسر الممكن بالممكن الذي ينقسم إلى قديم واجب بغيره وإلى محدث مسبوق بالعدم كما هو قول ابن سينا وأتباعه فلا يصح لهم على هذا الأصل الفاسد لاإثبات واجب بنفسه ولا إثبات ممكن يدل على الواجب بنفسه. وهذه الطريقة هي في الحقيقة مأخوذة من طريقة الحدوث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 وطريقة الحدوث أكمل وأبين فغن الممكن الذي يعلم انه ممن هو ما علم أنه وجد بعد عدمه أو عدم بعد وجوده. هذا الذي اتفق العقلاء على أنه ممكن، وهو الذي يستحق أن يسمى ممكناً بلا ريب وهذا محدث فإذا كل ممكن محدث. وأما تقدير ممكن لم يزل واجباً بغيره، فأكثر العقلاء دفعوا ذلك، حتى القائلون بقدم العالم كأرسطو وأتباعه المتقدمين، وحتى هؤلاء الذين قالوا ذلك ابن سينا وأتباعه لا يجعلون هذا من الممكن بل الممكن عندهم ما أمكن وجوده وعدمه فكان موجوداً تارة ومعدوماً أخرى. وإنما جعل هذا من الممكن ابن سينا وأتباعه مع تناقضه وتصريحه بخلاف ذلك لما سلكوا في إثبات واجب الوجود الاستدلال بالموجود على الواجب فقالوا كل ما سواه يكون ممكناً بنفسه واجباً بغيره، وجعلوا العلم قديماً أزلياً مع كونه ممكناً بنفسه. وهذا خلاف قول سلفهم، وقول أئمة الطوائف سواهم وخلاف ما صرحوا أيضاً به وهذا مما أنكره ابن رشد وغيره على ابن سينا وبسط الكلام فيه له موضع آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 والمقصود هنا أن هؤلاء الذين يدعونان كمال النفس هو الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات هذا اظطرابهم في أشرف المعلومات الموجودات، بل فيما لا تنجو النفوس إلا بمعرفته وعبادته، ولكن لما سلموا للفلاسفة أصولهم الفاسدة تورطوا معهم في محاراتهم وصاروا يجرونهم كما يجر الملاحدة الباطنية الناس صنفاً صنفاً. والفلسفة هي باطن الباطنية، ولهذا صار في هؤلاء نوع من الإلحاد فقل أن يسلم من دخل مع هؤلاء ف ينوع من الإلحاد، في أسماء الله وآياته وتحريف الكلم عن مواضعه. بطلان قول الفلاسفة حول كمال النفس ونفس المقدمة الهائلة التي جعلوها غاية مطلوبهم وهو أن كمال النفس في مجرد العلم بالمعقولات مقدمة باطلة قد بسطنا الكلام عليها في الكلام على معجزات الأنبياء لم تكلمنا عن قولهم انها قوى نفسانية وذكرنا قطعة من كلامهم على ذلك وبينا أن قولهم إن كمال النفس في مجرد العلم بالمعقولات خطأ وضلال ومن هنا جعلوا الشرائع مقصودها إما إصلاح الدنيا وإما تهذيب النفس لتستعد للعلم أو لتكون الشريعة أمثالاً لتفهيم المعاد في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 العقليات كما يقوله الملاحدة الباطنية مثل أبي يعقوب السجستاني وأمثاله ولهذا لا يوجبون العمل بالشرائع على من وصل إلى حقيقة العلم، ويقولون إنه لم يجب على الأنبياء ذلك وإنما كانوا يفعلونه لأنه من تمام تبليغهم الأمم ليقتدوا بهم في ذلك لا لأنه واجب على الأنبياء وكذلك لا يجب عندهم على الواصلين البالغين من الأمة والعلماء. ودخل في ذلك طائفة من ضلال المتصوفة ظنوا أن غاية العبادات هو حصول المعرفة فإذا حصلت سقطت العبادات وقد يحتج بعضهم بقوله {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} الحجر 99 ويزعمون أن اليقين هو المعرفة وهذا خطأ بإجماع المسلمين أهل التفسير وغيرهم فإن المسلمين متفقون على أن وجوب العبادات كالصلوات الخمس ونحوها وتحريم المرحمات كالفواحش والمظالم لا يزال واجباً على كل أحد ما دام عقله حاضراً، ولو بلغ، وأن الصلوات لا تسقط عن أحد قط إلا عن الحائض والنفساء أو من زال عقله. مع أن من زال عقله بالنوم فانه يقضيها بالسنة المستفيضة المتلقاه واتفاق العلماء وأما من زال عقله بالإغماء ونحوه مما يعذر فيه ففيه نزاع مشهور: منهم من يوجب قضاءها مطلقاً كأحمد ومنهم من لا يوجبه كالشافعي ومنهم من يوجب قضاء ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 قل، وهو ما دون اليوم والليلة أو صلوات اليوم والليلية، كما مذهب أبي حنيفة ومالك والمجنون لا يقضي عند عامتهم، وفيه نزاع شاذ. فالمقصود من هذا أن الصلوات الخمس لا تسقط عن أحد له عقل، سواء كان كبيراً أو صالحاً أو عالماً. وما يظنه طوائف من جهال العباد وأتباعهم، وجهال النظار وأتباعهم وجهال الإسماعيلية والنصيرية وإن كانوا كلهم جهالاً من سقوطها عن العارفين أو الواصلين او أهل الحضرة أو عمن خرقت لهم العادات، أو عن الأئمة الإسماعيلية أو بعض أتباعهم أو عمن عرف العلوم العقلية أو عن المتكلم الماهر في النظر أو الفيلسوف الكامل في الفلسفة فكل ذلك باطل باتفاق المسلمين وبما علم بالاضطرار من دين الإسلام. واتفق علماء المسلمين على أن الواحد من هؤلاء يستتاب، فإن تاب وأقر بوجوبها وإلا قتل، فإنه لا نزاع بينهم في قتل الجاحد لوجوبها، وإنما تنازعوا في قتل من أقر بوجوبها وامتنع من فعلها مع أن أكثرهم يوجب قتله. ثم الواحد من هؤلاء إذا عاد واعتراف بالوجوب فهل عليه قضاء ما تركه فهذا على ثلاثة أنواع أحدها أن يكون قد صار مرتداً ممتنعاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 عن الإقرار بما فرضه الرسول، فهذا حكمه حكم المرتدين، وفيه للعلماء ثلاثة أقوال: إحدهما: أنه لا يقضي ما تركه في الردة ولا قبلها لا من صلاة ولا صيام ولا زكاة بناءً على أن الردة أحبطت عمله، وأنه إذا عاد عاد بإسلام جديد فيستأنف العمل، كما هو معروف في مذهب أبي حنيفة ومالك، وقول في مذهب أحمد، والثاني: أنه يقضي ما تركه في الردة وقبلها، وهذا قول الشافعي، وإحدى الروايات عن أحمد. والثالث: أنه لا يقضي ما تركه في الردة، ويقضي ما تركه قبلها، كالرواية المشهورة عن أحمد. وإن كان الواحد من هؤلاء جاهلاً وهو مصدق للرسول، لكن ظن أن من دينه سقوط هذه الواجبات عن بعض البالغين، كما يضن ذلك طوائف ممن صحب الشيوخ الجهال، وكما يظنه طائفة من الشيوخ الجهال، ولهم مع ذلك أحوال نفسانية وشيطانية. فهؤلاء مبني أمرهم على أن من ترك الصلاة قبل العلم بوجوبها فهل يقضي؟ وفيه ثلاثة أقوال: منها وجهان في مذهب أحمد: أحدهما: أنه لا قضاء عليه بحال بناء على أن حكم الخطاب لا يثبت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 في حق العبد إلا من بعد بلوغ الخطاب إليه. والثاني: عليه القضاء بكل حال كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وغيره. والثالث: يفرق بين من أسلم في دار الحرب ومن أسلم في غيرها، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة، والأول أظهر الأقوال. وأيضاً فقد تنازع الناس فيمن فوت الصلاة عمداً بغير عذر والصوم، هل يصح منه القضاء أم قد استقر عليه الذنب فلا يقبل منه القضاء؟ على قولين معروفين، وليس هذا موضع هذا. وإنما المقصود هنا أنه ليس في علماء المسلمين من يقول بسقوط الصلاة عمن هو عاقل على أي حال كان. فمن تأول قوله تعالى {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} الحجر: 99، على سقوط العبادة بحصول المعرفة فإنه يستتاب ن فإن تاب وإلا قتل. والمراد بالآية: اعبد ربك حتى تموت، كما قال الحسن البصري: لم يجعل الله لعبادة المؤمن أجلا دون الموت، وقرأ الآية. واليقين هو ما يعانيه الميت فيوقن به، كما قال الله تعالى عن أهل النار {وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين} المدثر: 46 47 وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات عثمان بن مظعون. قال أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه. والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة، ومن شركهم في نوع من إلحادهم لما ظنوا أن كمال النفس في مجرد العلم، وظنوا أن ذلك إذا حصل فلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 حاجة إلى العمل ن وظنوا أن ذلك حصل لهم، ظنوا سقوط الواجبات العامة عنهم وحل المحرمات العامة لهم. بطلان هذا القول من وجوه والرد عليهم في ذلك وضلالهم من وجوه. منها: ظنهم أن الكمال في مجرد العلم. والثاني: ظنهم أن ما حصل لهم علم. والثالث: ظنهم أن ذلك العلم هو الذي يكمل النفس. الوجه الأول وكل من هذه المقدمات كاذبة، فليس كمال النفس في مجرد العلم، ولا في أن تصير عالماً معقولاً موازياً للعالم الموجود، بل لا بد لها من العمل، وهو حب الله وعبادته، فإن النفس لها قوتان: علمية وعملية، فلا تصلح إلا بصلاح الأمرين ن وهو أن تعرف الله وتعبده. والجهمية هم خير من هؤلاء بكثير، ومع هذا فلما قال جهم ومن واقفه: إن الإيمان مجرد المعرفة، أنكر ذلك أئمة الإسلام ن حتى كفر من قال بهذا القول وكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 وهذا القول: وإن كان قد تابعه عليه الصالحي والأشعري في كثير من واكثر أصحابه فهو من أفسد الاقوال وابعدها عن الصحة كما قد بيناه في غير هذا الموضع، لما بينا الكلام في مسمى الأيمان وقبوله للزيادة والنقصان، وما للناس في ذلك من النزاع. الوجه الثاني وأما المقدمة الثانية: فلو كان كمال النفس في مجرد العلم، فليس هو أي علم كان بأي معلوم كان بل هو الذي لا بد منه: العلم بالله وهؤلاء ظنوا أنه العلم بالوجود بما هوموجود، وظنوا أن العالم أبدي ازلي. فإذا حصل له العلم بالوجود الازلي الأبدي كملت نفسه. وعلى هذا بنى أبو يعقوب السجستاني وغيره من شيوخ الفلسفة والباطنية أقوالهم، وكذلك أمثالهم من الفلاسفة كالفارابي وغيره. وابن سينا وإن كان أقرب إلى الإسلام منهم ففيه من الإلحاد بحسبه. وأبو حامد، وإن سلك أحياناً مسلكهم، لكنه لا يجعل العلم بمجرد الوجود موجباً للسعادة، بل يجعل ذلك في العلم بالله، وقد يقول في بعض كتبه: إنه العلم بالأمور الباقية، وهذا كلامهم. فمن قال: إن العالم أزلي أبدي قال بقولهم، ومن قال: إن كل ما سوى الله كان معدوماً ثم وجد لم يلزمه ذلك. وابن عربي وابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 سبعين ونحوهما جمعوا بين المسلكين، فصاروا يجعلون كمال النفس هو العلم بالوجود المطلق، إن الله هو الوجود المطلق، فأخذوا من طريقة الصوفية: أنه العلم بالله، واخذوا من كلام هؤلاء: أنه العلم بالوجود المطلق، وجمعوا بينهما فقالوا: إن الله هو الوجود المطلق الوجه الثالث وأما المقدمة الثالثة: فزعمهم أنهم حصل لهم العلم بالوجود. وهذا باطل، فغن كلامهم في الإلهيات مع قلته فالضلال أغلب عليه من الهدى ن والجهل أكثر فيه من العلم، وهي العلوم التي تبقى معلوماتها وتكمل النفوس بها عندهم. وهذه الأمور مبسوطة في غيرهذا الموضع، ولكن نبهنا عليه هنا، لأن مثل هذا الآمدي وأمثاله الذين عضموا طريقهم وصدروا كتبهم التي صنفوها في أصول دين الإسلام بزعمهم بما هو أصل هؤلاء الجهال: من أن كمال النفس الإنسانية بحصول ما لها من الكمالات، وهي الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات، وسلكوا طرقهم وقعوا في الجهل والحيرة والشك بما لا تحصل النجاة إلا به، ولا تنال السعادة إلا بمعرفته، فضلاً عن نيل الكمال الذي هو فوق ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كمل من الرجال كثير» فالكاملون من الرجال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 كثير، ولكن الذين سلكوا طريق هؤلاء من أبعد الناس عن الكمال. تقرير الآمدي لطريقة المتأخرين في إثبات واجب الوجود والمقصود هنا الكلام على مسلكه هؤلاء المتأخرين في تقرير واجب الوجود. والآمدي قد قررها في أبكار الأفكار وأورد سؤالاً على بعض مقدماتها في رموز الكنوز قد ذكرنا سؤاله وجوابه. وأما تقريره لها فقال في تقرير هذه الحجة: النظر إلى الجملة غير إلى كل واحد واحد من آحادها، فإن حقيقة الجملة غير حقيقة كل واحد من الآحاد، وعند ذلك فالجملة موجودة، فإما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة، لا جائز أن تكون واجبة كما تقدم وإن كانت ممكنه فلا بد لها من مرجح، والمرجح إما داخل فيها وإما خارج عنها. فإن كان داخلاً فيها فالمرجح للجملة مرجح لآحادها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 فيلزم أن يكون مرجحاً لنفسه لكونه من الآحاد، فيلزم أن يكون علةً لنفسه معلولاً لها، وإن كان خارجاً عنها لم يكن ممكناً لأنه من الجملة فيكون واجباً ثم أورد على ذلك قول السائل لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي ليصح ما ذكرتموه ولا يلزم من صحة ذلك في المتناهي مع إشعاره بالحصر صحته في غير المتناهي سلمنا أن مفهوم الجملة حاصل فيما لا يتناهي وانه ممكن لكن لا نسلم أنه زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية، وحينئذ فلا يلزم أن يكون معللاً بغير علة الآحاد، سلمنا انه زائد على الآحاد، ولكن ما المانع أن يكون مترجحاً بآحاده الداخلة فيه لا بمعنى أنه مترجح بواحد منها ليلزم ما ذكرتموه، بل طريق ترجيحه بالآحاد الداخلة فيه ترجح كل واحد من آحاده بالآخر إلى غير النهاية، وعلى هذا فلا يلزم افتقاره إلى مرجح خارج عن الجملة، ولا أن يكون المرجح للجملة مرجحاً لنفسه ولا لعلته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 ثم قال في الجواب قولهم لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي قلنا مسمى الجملة هو ما وصفتموه بكونه غير متناه، ولا شك أنه غير كل واحد من الآحاد، إذ كل واحد من الآحاد متناه، الموصوف بما لا يتناهي هو الأعداد المفروضة، بحيث لا يخرج عنها واحد قولهم لا نسلم ان مفهوم الجملة زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية. قلنا إن أردتم أن مفهوم الجملة هو نفس المفهوم من كل واحد من الآحاد فهو ظاهر الإحالة، وإن أردتم به الهيئة الاجتماعية من آحاد الأعداد، فلا خفاء بكونه زائداً على كل واحد من الآحاد وهو المطلوب ولقائل أن يقول يريدون بالجملة كل الآحاد، لا كل واحد منها، زلا يسلمون أن كل الآحاد أمر مغاير للآحاد المتعاقبة قولهم ما المانع من أن تكون الجملة مترجحة بآحادها الداخلة فيها كما قرروه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 قلنا إما ان يقال تترجح الجملة بمجموع الآحاد الداخلة فيها أو بواحد منها، فإن كان يوجد منها فالمحال الذي ألزمناه حاصل، وإن كان بمجموع الآحاد فهو نفس الجملة المفروضة، وفيه ترجح الشيء بنفسه، وهو محال. تعليق ابن تيمية قلت ولقائل أن يقول الحجة المذكورة لا تحتاج إلى إثبات كون الجملة غير الآحاد، وإن كان ذلك حقاً فإنه يقال لمن قال لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناه لا يخلو إما أن يكون هنا جملة غير الآحاد، وإما أن لا يكون. فإن كان بطل سؤال، وإن لم يكن كان ذلك أبلغ في الحجة، فإن كل واحد من الآحاد ممكن، وليس هنا جملة يمكن أن تكون واجبة، فكل من الممكنات يمتنع أن يوجد بنفسه أو بممكن آخر، كامتناع وجود الجملة الممكنة بكل من الممكنات وقد أورد هو هذا السؤال، فكان فيه كفاية من ان يقرر أموراً إذا حذفها كان أبلغ في الحجة وأقوى لها وكذلك السؤال الثاني وهو قوله سلمنا أن مفهوم الجملة حاصل فيما لا يتناهى وانه ممكن، لكن لا نسلم أنه زائد على الآحاد المتعاقبة، فلا يكون معللاً بغير علة الآحاد فإن هذا السؤال هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 نظير الأول بل هو هو مع تغير العبارة، فإن من نفي وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي، لم ينازع في وجود كل واحد واحد من الآحاد المتعاقبة، فإذا سلم مفهوم الجملة فيما لا يتناهي وفسر ذلك بالآحاد المتعاقبة، كان باقياً على منعه الأول 0 لكن من الناس من يقول الجملة لا تعقل إلا في المتناهي، ومنهم من قد ينازع في الجملة هل لها حقيقة غير كل واحد من الآحاد فلهذا جعلهما سؤالين وبكل حال فالسؤال إن كان متوجهاً كان ذلك أقوى في الحجة، وغن لم يكن متوجهاً لم يرد بحال وذلك انه لم يكن للجملة حقيقة غير كل واحد واحد لم يكن هنا مجموع نحتاج أن نصفه بوجوب أو إمكان غير كل واحد واحد وتلك كلها ممكنة فتكون الحجة على هذا التقدير أقل مقدمات، فإنه إذا كانت الجملة غير الآحاد، احتيج إلى نفي وجوبها بنفسها أو بالآحاد، أما إذا قدر انتفاء ذلك، لم يحتج إلى ذلك، فلا يحتاج إلى نفي الوجوب عنها، لا بنفسها ولا بالآحاد ولهذا قال في الاعتراض إذا لم تكن الجملة غير الآحاد لم يلزم ان تكون معللة بغير علة الآحاد وهذا مما يقوي الحجة فإنها إذا لم تكن معللة بغير علة الآحاد ومعلوم أنه لا بد من إثبات علة الآحاد فذلك وحده كاف بخلاف ما إذا كانت غير الآحاد، فإنه يحتاج إلى نفي وجوبها بنفسها أو الآحاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 وهذا هو السؤال الثالث وهو قوله ما المانع أن يكون المجموع وهو الجملة مترجحاً بآحاده الداخلة فيه لا بواحد منها، بل طريق ترجحه بالآحاد الداخلة فيه بترجح كل واحد من آحاده بالآخر إلى غير نهاية وقد أجاب عن هذا بقوله مجموع الآحاد نفس الجملة المفروضة، وفيه ترجح الشيء بنفسه وهو محال وهذا السؤال هو الذي ذكره في كتابه الآخر، وذكر أنه لا يعرف له جواباً حيث قال ما المانع من ترجحها بترجح آحادها، وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير نهاية قال وهذا إشكال مشكل، وربما يكون عند غيري حله والجواب الذي ذكر عنه إنما يستقيم إذا أرادوا بالجملة كل واحد واحد من الأجزاء، ولم يجعلوا للاجتماع قدراً زائداً، وجعلوا الاجتماع جزءاً، فإنه حينئذ يقال الجملة هي الآحاد، فأما إذا أريد بالجملة الاجتماع، وهو الهيئة الاجتماعية وأن ترجحها بالآحاد المتعاقبة، لم يكن الجواب صحيحاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 وهذا هو الذي استشكله في كتابه الآخر، وحينئذ يكون السؤال لم لا يجوز ترجح الاجتماع بالآحاد المجتمعة، وترجح كل واحد بالآخر وليس الجملة هو الآحاد المتعاقبة كما تقدم بل هو الهيئة الاجتماعية، ولكن يمكن تقرير هذا الجواب إذا جعلت الهيئة الاجتماعية جزءاً من أجزاء الجملة وهذا أمر اصطلاحي، فإن المجموع المركب من أجزاء قد يجعل نفس الاجتماع، ليس جزءاً من المجموع، وقد يجعل جزءاً من المجموع، فإذا جعل الاجتماع جزءاً من المجموع، كان تقرير السؤال أن هذا الجزء معلل بسائر الأجزاء، وترجح كل جزء بالآخر، وترجح جزء ممكن بجزء ممكن، كترجح جزء ممكن بأجزاء ممكنة، وحينئذ فإجابته بقوله مجموع الآحاد نفس الجملة المفروضة، وفيه ترجح الشيء بنفسه، ليس بجواب مطابق، فإنهم لم يدعوا ترجح المجموع بالمجموع، بل ترجح الاجتماع بكل واحد واحد من الأجزاء المتعاقبة، والاجتماع وإن كان جزءاً فليس هو من الأجزاء المتعاقبة، لكن هذا فيه ترجيح بعض الأجزاء ببعض، فهو كتعليل بعض الممكنات ببعض، فيعود الأمر ويقال فالجموع هو واجب بنفسه أو ممكن، معلول لنفسه أو معلول ببعضه أو بخارج عنه كما تقدم تقرير ابن سينا لحجته وقد تقدم أن المجموع إما أن لا يكون له علة، بل هو واجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 بنفسه، وهذا باطل كما تقدم وإما أن يكون له علة وهو المجموع أو بعضه أو ما هو خارج عنه، كما يقال نظير ذلك في دلالة المطابقة والتضمن والالتزام فلهذا قال في القسم الثاني وأما أن يقتضي المجموع علة هي الآحاد باسرها فتكون معلولة لذاتها، فإن تلك الجملة والكل شيء واحد، واما الكل بمعنى كل واحد فليس تجب به الجملة يقول إن كان المقتضي للمجموع هي الآحاد بأسرها بحيث تدخل فيها الهيئة الاجتماعية، لزم أن تكون الجملة الممكنة معلولة لذاتها، فإن الجملة والكل والمجموع شيء واحد، بخلاف ما إذا أريد باكل كل واحد واحد، فإن الجملة لا تجب بكل واحد واحد، إنما تجب بمجموع الآحاد، كالعشرة لا تحصل بكل فرد فرد من أفرادها، وكذلك سائر المركبات، وإنما يحصل المركب بمجموع اجزائه التي من جملتها الهيئة الاجتماعية، إن جعلت الهيئة الاجتماعية امراً وجودياً وإن لم تجعل كذلك لم يحتج إلى هذا، بل يقال المجموع هو الآحاد بأسرها، وليس هنا غير الآحاد ولعل ابن سينا أراد هذا ولهذا أوردوا عليه تلك الأسولة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وهو أن المجموع مغاير للآحاد، وأنه يجوز أن يجب المجموع بالآحاد المتعاقبة، ونحو ذلك مما تقدم وأما القسم الثالث وهو أن يكون للمجموع علة هي بعضه، فهذا قد أبطله بقول ليس بعض الآحاد أولى بذلك من بعض، إن كان كل واحد منها معلولاً، ولأن علته اولى بذلك وهذان وجهان في تقرير ذلك أحدهما أن كل جزء من الأجزاء إذا كان ممكناً ومن ذلك الهيئة الاجتماعية فليس وجوب المجموع بهذا الجزء بأولى من هذا لأنه متوقف على كل جزء جزء منها والثاني أن كل واحد من تلك الأجزاء معلول لغيره، فعلته أولى أن تكون هي الموجبة للجميع منه، سواء قيل: إن علة المجموع واحد معين، أو واحد منها غير معين. واما إذا قيل: كل واحد واحد، فذلك أبعد لأنه يقتضي اجتماع مؤثرين مستقلين على أثر واحد، وهو ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء. فإن قيل: إذا كان المجموع هو الأجزاء ونفس الاجتماع، فهذا لا يفتقر إلى شيء منفصل. قيل: هذا هو القول بوجوب ذلك بنفسه، وقد تقدم إبطاله، فإنه يكون كل جزء ممكناً بنفسه، والاجتماع ممكن بنفسه، ولم يكن هنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 ما يغاير ذلك حتى يقال: هو واجب بنفسه فلا يمكن أن يكون هنا ما هو واجب بنفسه. وقد أبطل غيره هذا القسم بوجهين: أحدهما ذكره الرازي والآمدي: أن ما كان سبب المجموع كان سبب كل واحد من أجزاء ذلك المجموع، فلو قدر جزء من أجزاء المجموع سبباً لزم كزن الجزء سبباً لنفسه، فيلزم كون الممكن علة معلولاً. وأيضاً فذلك الجزء معلول فإذا كان هو مرجحاً للمجموع كان مرجحاً لعلته فيكون علة لعلته. فصل ولم يذكر أن سينا ولا غيره في إثبات واجب الوجود قطع الدور، كما لم يذكر الجمهور قطع التسلسل لظهور فساده. وقد ذكرنا غير مرة أن المقدمة إذا كانت معلومة، مثل علمنا بأن المحدث لا بد له من محدث، بل مثل علمنا أن هذا المحدث له محدث، كان العلم بها كافياً في المطلوب، وأن ما يرد على الأمور المعلومة هو من جنس شبه السوفسطائية التي لا نهاية لها، فيجب الفرق بين ما يكون من المقدمات خفياً على أكثر الناس يحتاج إلى بيان، وما يكون معلوماً لأكثر، والشبة الواردة عليه من جنس شبه السوفسطائية. ولما كان أهل الكلام كثيراً ما يوردون يورد عليهم ما هو من جنس شبه السوفسطائية، كما يورده الكفار الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 الحق، لم يكن لهذا حد محدود ولا عد معدود، بل هو بحسب ما يخطر للقلوب. فلهذا صار كلما طال الزمان أورد المتأخرون أسولة سوفسطائية لم يذكره المتقدمون. وزاد المتأخرون مقدمة في الدليل لدفع ذلك السؤال، فزادوا أولا: أن المحدث لا يختص بوقت دون وقت إلا بمخصص، والأوقات متماثلة، والأمور المتماثلة يمتنع اختصاص بعضها دون بعض إلا بمخصص منفصل. ثم زادوا بعد هذا: ان التخصيص ممكن، والممكن لا يترجح ودوده على عدمه إذ لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وزادوا أن المرجحات يمتنع تسلسلها كما تقدم، ثم زادوا بعد هذا قطع الدور. وكذلك ابن سينا لم يذكر في برهانه أن الممكن لا يوجد من نفسه فلا بد أن يوجد بغيره فقال الرازي لا يلزم من صحة قولنا ليس الممكن موجوداً من ذاته صحة قولنا: إنه موجود بغيره لأن بين القسمين واسطة وهي أن لا يكون وجوده من شيء أصلاً لا من ذاته ولا من غيره وإذا كان كذلك لم يتم البرهان إلا بذكر هذا القسم وإبطاله: إما بادعاء الضرورة في فساده أو بذكر البرهان على فساده. قال وهو لم يفعل شيئاً من ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 فيقال له كون وجود الشيء لا من نفسه ولا من غيره، هو مما يعلم فساده بالضرورة والأمور المعلومة الفساد بالضرورة لا يجب على كل مستدل تقديرها ونفيها، فإن هذا لا غاية له، وإنما يذكر الإنسان من ذلك ما قد قيل أو خطر بالبال، فأما الذهن والصحيح الذي يعلم بالضرورة فساد مثل هذا التقدير، فهو لا يورده على نفسه ولا يورده عليه غيره وإنما يقع الإيراد عند الشك والاشتباه فإن قدر من الناس من يشك ف يهذا احتاج مثل هذا إلى البيان وقد قلنا إن الأسولة السوفسطائية ليس لها حد محدود ولا عد معدود. وهذا نظير قول القائل: إن المحدث الذي كان بعد أن لم يكن لم يحدث نفسه، وهذا كله من العلوم البديهية الضرورية الفطرية التي هي من أبين الأمور عند العقلاء. ولو احتاج المستدل أن يذكر من الأقسام ما يخطر ببال كل أحد، وإن كان فساده معلوماً بالضرورة، لقال: الممكن إذا لم يوجد بنفسه فإما أن يوجد بموجد او بغير موجد وإذا وجد بموجد، فلذلك الموجد إما أن يوجده وهو معدوم، أو يوجده وهو موجود. ثم يريد أن يبطل الثاني بأن الموجد لا يوجد وهو معدوم، كما فعل ذلك طائفة من أهل الكلام، وإذا أراد أن يبطل ذلك قال: والمعدوم لا يكون موجداً لأن العدم لا يتميز فيه شيء عن شيء والموجد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 لا بد أن يتميز عن غيره، وإذا قيل: المعدوم يتميز فيه شيء عن شيء على قول من يقول: المعدوم شيء تبين أن المعدم ليس بشيء فيكون إثبات وجود الصانع موقوفاً على إبطال قول هؤلاء كما فعل ذلك طائفة من أهل الكلام. ومن المعلوم ان إبطال هذا أدق من إبطال كون الشيء الذي لا يكون وجوده من نفسه يكون موجوداً لا بنفسه ولا بغيره، إذ كان من المعلوم البين لكل أحد أن ما لم يوجد بنفسه، فلا بد ان يكون وجوده بغيره، وأما تقدير موجود لم يوجد بنفسه ولا بغيره فهو ممتنع، فإنه لا يعني بكونه موجوداً بنفسه أن نفسه أوجدته إذ كان هذا معلوم الامتناع، بل يعني أنه لا يحتاج في وجوده إلى غيره بل وجوده واجب بنفسه، فهو موجوداً أزلاً وأبداً، فظهور صحة هذا الكلام وبطلان نقيضه أبين مما يستدل به عليه، بل يمكن هنا إيراد أسولة أخرى يطول بها الكلام. وقال الرازي أيضاً: قد كان الواجب على ابن سينا أن يتكلم قبل هذا الفصل في بيان أن سبب الممكن لا يكون مقدماً عليه تقدماً زمانياً فإنه لو جاز ذلك لما امتنع إسناد كل ممكن إلى آخر قبله لا إلى أول، وذلك عنده غير ممتنع، فكيف يمكن إبطاله لإثبات واجب الوجود. وأما إذا قامت الدلالة على أن السبب لا بد من وجوده مع المسبب فحينئذ لو حصل التسلسل لكانت تلك الأسباب والمسببات بأسرها حاضرة معاً، وذلك عنده محال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 والبرهان الذي ذكره في إبطال التسلسل أيضاً مختص بهذه الصورة، فكان الأولى تقديم الكلام في هذه المسألة، لكن لما كان في عزمه أن يذكره في موضع آخر، وهو النمط الخامس من هذا الكتاب، لا جرم تساهل فيه ههنا. قلت: مثل هذا الكلام هو الذي أوجب أن يدخل هذا القسم من أدخله ف يهذا الدليل كالآمدي وغيره، ولا حاجة إليه، بل ما ذكره ابن سينا كاف. والدليل الذي ذكره على إبطال التسلسل في العلل يوجب إبطال علل متسلسلة سواء قدرت مجتمعة أولا، كما قد تبين من كلامه، وهو لا يجوز عللاً متسلسلة لا متعاقبة ولا غير متعاقبة وإنما يجوز حوادث متسلسة، وتلك عنده شروط لحدوث الحوادث، لا علل ولا أساب بمعنى العلل، ولا يجوز عنده إسناد كل ممكن إلى ممكن قبله أصلاً، ولكن يجوز ان يكون وجوده مشروطاً بوجود ممكن قبله وبين العلة والشرط فرق معروف. ومن هنا دخل الغلط على الرازي ف يهذا الاعتراض، ولهذا كان سائر من تكلم في إبطال العلل المتسلسلة لم يحتج إلى ذكر هذا القسم أصلاً، ولا يقولون إن الممكن أو الحادث الذي يوجد قبل الممكن أو الحادث هو علة أيضاً، ولا هو مستند وجوده وإنما يقولون هو شرط فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 وأيضاً فإسناد كل ممكن إلى آخر قبله إما أن يراد به أنه يستند إلى أخر موجود قبله، فيستمر الوجود إلى حين وجود الممكن المفعول، وإما أن يراد به إلى آخر يكون موجوداً قبله ويعدم قبله. فإن أريد الأول فمعلوم أنه بطل إسناده إلى ممكن موجود مع وجوده، كان هذا متناولاً لما يوجد مع ذلك قبل وجوده ولما لم يوجد إلا عند وجوده فلا حاجة إلى تخصيص ما وجد قبل وجوده بالذكر كما لا يحتاج إلى تخصيص ما يبقى بعد وجوده بالذكر إذ الدليل يتناول كل ما كان موجوداً عند وجوده، سواء وجد قبل ذلك أيضاً أو بعد ذلك أيضاً أو لم يكن موجوداً حين وجوده. وأما إن أريد أستناده إلى الآخر يكون موجوداً قبله ويعدم أيضاً قبله، وهذا هو الذي أراده الرازي لم يحتج أيضاً إلى هذا لوجوه: أحدهما: أنه إذا بطل إسناده إلى ممكن موجود حال وجوده، فبطلان إسناده إلى ممكن يعدم حين وجوده أولى وأحرى، فإذا قام الدليل على بطلان تسلسل العلل الممكنة مع كونها معاً في الوجود، فبطلان التسلسل مع تعاقبها أظهر وأجلى. الثاني: أن الدليل الدال على بطلان التسلسل في العلل هو دليل مطلق عام سواء قدرت متقارنة أو متعاقبة فإن جميع ما ذكر من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 الأدلة الدالة على أن مجموع الممكنات مفتقرة إلى أمر خارج عنها يتناول جميع الأنواع التي يقدرها سواء قدر أنها متسلسلة على سبيل الاقتران أو على سبيل التعاقب، وسواء قدرت مع التعاقب بعدم الأول عند وجود الثاني أو يبقى بعد وجوده إلا مع وجوده لا سابقاً ولا لاحقاً. وكذلك إذا قدرت مع الاقتران لا يكون بعضها قبل بعض ولا بعده ـو يوجد بعضها قبل بعض أو بعده فمهما قدر من التقديرات التي تخطر بالبال في تسلسل المؤثرات فما ذكر من الأدلة يبطل ذلك كله ويبين امتناعه، فتبين أن ما ذكره ابن سينا كاف في ذلك لا يحتاج إلى الزيادة التي زادها الرازي والآمدي. الثالث: أنه إذ كانت الممكنات محتاجة إلى خارج عنها ليس بممكن، بل هو واجب الوجود بنفسه، فذلك يمتنع عدمه ويجب وجوده، فكان نفسه إثبات واجب الوجود كافياً في أنه يستمر الوجود حال وجود الممكن، لا يحتاج إلى ذلك الواجب. الرابع: أن ما ذكروه من الممكن يفتقر إلى الواجب، وإنما لا يكون افتقاره إليه مختصاً ببعض الأزمنة أن الواجب. وقال الرازي أيضاً لما شرح طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 وأبطل التسلسل قد بقي هنا كلام آخر وهو إبطال الدور وهو أن يكون هذا يترجح بذاك، وذاك يترجح بهذا. قال واعلم أن الدور باطل والمعتمد في إبطاله أن يقال العلة متقدمة على المعلول، ولو كان كل منهما علة للآخر لكان كل منهما متقدماً على الآخر فيكون كل منهما متقدماً على المتقدم على نفسه فيلزم تقدم كل منهم على نفسه وهو محال. وأورد على هذا ما مضمونه أن التقدم أن كان غير كون أحدهما علة للآخر فلا نسلم الأولى، وإن كان هو كون أحدهما علة للآخر كان اللازم هو الملزوم، فيكون المعنى لو كان أحدهما علة للآخر لكان للآخر. ثم قال والإنصاف أن الدور معلوم البطلان بالضرورة ولعل الشيخ إنما تركه لذلك. قلت: هذا هو الصواب فإن بطلان الدور معلوم بالضرورة، ولأجل هذا لا يخطر لأكثر العقلاء حتى يحتاجوا إلى نفيه عن قلوبهم، كما لا يخطر لهم أن الفاعل للموجودات يكون معدوماً، ولا يخطر لهم أن الشيء يحدث أو يكون لا بنفسه ولا بغيره، بل ولا يخطر لهم أنه يمكن أن يكون مفعولات متعاقبة لا فاعل لها، وهو تسلسل العلل فيكون معلول مفعول لمعلول مفعول، والمعلول معلول لمفعول آخر لا إلى نهاية فأكثر الذهان الصحيحة لا يخطر لها إمكان هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 حتى تحتاج إلى نفيه، وكذلك لا يخطر لها أنه يمكن وجود شيئين كل منهما فعل الآخر، بل هم يعلمون أن الشيء لا يفعل نفسه، فكيف يفعل فاعل نفسه؟ وقول القائل إنه لو كان كل منهما فاعلاً للآخر أو مؤثراً في الآخر أو علة في الآخر لكان كل منهما قبل الآخر كلام صحيح. وأما قول المعترض: إن أريد بالتقدم تقدم العلة على المعلول فاللازم هو الملزوم وأن أريد غيره فإنه ممنوع. فهذا عنه جوابان ـأحدهما ان يراد به التقدم المعقول في فطر الناس من تقدم الفاعل على المفعول وهو كونه قبله بالزمان أو تقدير الزمان وعلى هذا جمهور العقلاء بل قد يقولون، هذا معلوم بالضرورة وهو كون الفاعل سابقاً متقدماً على مفعوله، وإنه يمتنع أن يكون متساويين في زمان الوجود. وهذا مما يستدل به على أن كل ما سوى الله حادث، ليس في الموجودات ما يقارن الخالق ويكون معه بالزمان ولا يعرف ف يالوجود مفعول معين قارن فاعله في زمانه أصلاً، وإنما يعرف هذا في الشرط والمشروط فإن الشرط قد يقارن المشروط فلا يوجد قبله، وقد يوجد قبله، لكن لا بد من وجوده معه، كما أن الحياة إذا كانت شرطاً في العلم والإرادة أمكن أن تكون متقارنة في صفات الله تعالى، فإن حياته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 وعلمه معاً لم يسبق أحدهما الآخر، والعلم مشروط بالحياة وكذلك الذات مع الصفات اللازمة: لا يوجد أحدهما قبل الآخر، بل هما متلازمان، ولا يوجد أحدهما إلا مع الآخر. وقد يكون الشرط سابقاً للمشروط كالأعراض التي لا توجد إلا بمحل، وقد يكون المحل موجوداً قبل وجود الأعراض، وكما في أفعال الله الحادثة فإنها مشروطة بوجود ذاته وذاته متقدمة عليها. وما ذكره من ذكره من أهل الفلسفة والكلام في مسألة حدوث العالم وغيرها من أن التقدم ينقسم إلى تقدم بالذات والعلية، وقد يسمى الأول تقدماً بالعلية والثاني تقدماً بالذات كتقدم العلة على المعلول، وتقدم بالطبع، كتقدم الواحد على الاثنين. وفرقوا بينهما بأنه في الأول يكون المتقدم فاعلاً للمتأخر، وفي الثاني يكون شرطاً فيه، ومثلوا الأول بتقدم حركة اليد على حركة الخاتم والكم فإنك تقول: تحركت يدي فتحرك الخاتم فيها، فزمانهما واحد مع العلم بأن الأول متقدم على الثاني وينقسم إلى التقدم بالزمان وبالرتبة الحسية أو العقلية. وزاد طائفة منهم الشهرستاني والرازي ومت اتبعهما تقدماً آخر يمطلق الوجود، وجعلوا التقدم بعض أجزاء الزمان على بعض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 منه فيجيب عنه من يوافق جمهور العقلاء بأن التقدم المعقول إنما هو التقدم بالزمان، أو تقدير الزمان على النزاع المعروف في هذا الموضع. وأما التقدم بالمكان والمرتبة فهو تابع لهذا لما كان المتقدم في المكان يتحرك قبل حركة المتأخر كتحرك الإمام قبل المأموم، والأمير قبل المأمور. وأما التقدم بالعلية فإن عني به هذا، وإلا فلا حقيقة له، فلا تعقل علة تامة تكون هي بسائر أجزائها مقارنة لمعلولها أصلا. وقول القائل: تحركت يدي فتحرك الخاتم، ليس هو من تقدم الفاعل على المفعول، فإن حركة اليد ليست هي الفاعل لحركة الخاتم لكن هي شرط قيها فلا ترجد حركة الخاتم التابعة لحركة اليد إلا بشرط وجود حركة اليد التي هي متبوعة، كما أن حركة الأصابع لا توجد إلا بحركة الكف. فإن قيل: الحركتان معاً في الزمان، فالفاعل لهذه هو الفاعل للأخرى، وهو متقدم عليهما جميعاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 وإن قيل: بل إحداهما عقب الآخرى في الزمان كأجزاء الزمان المتلاحقة، بطل قول القائل: إنهما معاً في الزمان. وكثيراً ما يشتبه على الناس الوجود مع الشيء بالوجود عقبه، بل يطلقون لفظ المع على المعاقب له ويقولون: جاءا معاً، وإن كان مجيء أحدهما معاقباً للآخر إذا لم يكن بينهما فصل، بل يطلقون ذلك مع قرب الآخر، فالحادثات إذا كان زمانهما واحداً أو حدث أحدهما عقب حدوث الآخر بلا فصل، كأجزاء الحركة والزمان لم يميز أكثر الناس بين هذا وهذا بالحس. وحينئذ فقول القائل: تحركت يدي فتحرك كمي. يقال له: لم لا يجوز ان يكون هذا مع هذا كاجزاء الحركة والزمان بعضها مع بعض. والحركة تحدث شيئاً فشيئاً من الفاعل والقابل، فمن حرك سلسلة أو حبلاً معلق الطرفين، فإنه إذا حرك أحد الطرفين تحرك شيئاً فشيئاً، حتى تنتهي الحركة إلى الطرف الآخر، وهي متعاقبة كتعاقب زمان تلك الحركة في أحدهما أسبق من الآخر، مثل البدن إذا تحرك منتقلاً، فإن أجزاء البدن تتحرك في آن واحد، لا يسبق بعهضا بعضاً إلا ما تقدم من الحركة كما تتقدم إحدى الرجلين على الآخرى، بخلاف خرزات الظهر المتصلة تتصل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 حركتها، فإذا حركت يده تحركت جميع أجزائها وما فيها كالخاتم، وما يتصل بها كالكم، فيكون حكمها حكم الجسم المتصل إذا تحرك والحركة المنفصلة عن أخرى كحركة الرجل قبل الرجل يشهد فيها التقدم بالزمان لوجود المنفصل، وأما مع الأتصال فقد يشتبه المتصل بالمقارن، وحينئذ فأي حركة كانت من قبل المتصل فهي متصلة بما قبلها، كاتصال أجزاء زمان الحركة، فليس هناك اقتران في الزمان. وإذا قيل في حركة الكم: إن زمانها حركة اليد، كما يقال مثل ذلك في سائر المتحركات معاً بالزمان، فهنا لا نسلم أن إحدى الحركتين فاعلة للآخرى، بل غايتها أن تكون شرطاً فيها، والشرط يجوز أن يقارن المشروط، بخلاف الفاعل فإنه لا بد أن يتقدم على الفعل المفعول المعين، وإن قدر أن نوع الفعل لازم له، كما؟ إذا قدر قديم أزلي متحرك لم يزل متحركاً، فإنه سيتقدم على كل جزء من أجزاء الحركة لم يقارن وجود ذاته شيء من أجزاء الحركة وإن كان نوع الحركة لازماً له فمن حوز وجود جسم قديم لم يزل متحركاً، لا يقول: إن شيئاً معيناً من الحركة قديم أزلي، بل يقول: نوع الحركة أزلي وإن كان كل منها حادثاً كائناً بعد ان لم يكن مسبوقاً بالعدم. والمتفلسفة القائلون بقدم شيء من العالم لا دليل لهم على ذلك أصلاً، بل غاية ما عندهم إثبات قدم نوع الفعل، وقدم نوع الفعل لا يستلزم قدم فعل معين ولا مفعول معين بل ذلك ممتنع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 الرد على قولهم وقول القائل: العلة متقدمة على المعلول وإن قارنته بالزمان، وجعله الباري مع العالم بهذه المنزلة. الوجه الأول يقال له إن أردت بالعلة ما هو شرط في وجود المعلول لا مبدعاً له كان حقيقة قولك: إن واجب الوجود ليس هو مبدعاً للمكنات ولا رباً لها، بل وجوده شرط في وجودها , وهذا حقيقة قول هؤلاء فالرب على أصلهم والعالم متلازمان كل منهما شرط في الآخر والرب محتاج إلى العالم، كما أن العالم محتاج إلى الرب وهم يبالغون في إثبات غناه عن غيره، وعلى أصلهم فقره إلى غيره كفقر بعض المخلوقات. وغاية المتخذلق منهم كأرسطو أن يجعل الفلك واجب الوجود لا يقبل العدم مع كونه مفتقراً إلى المبدأ الأول لأجل التشبيه به، ويجعل المبدأ الأول غنياً عما سواه، لكن من التناقض أن يقول: إن واجب الوجود مفتقر إلى غيره، وأيضاً فالأزلي الذي يثبته لا حقيقة له، كما قد بسط في موضع آخر. وإن أراد بالعلة ما هو مبدع للمعلول له فهذا لا يعقل مع كون زمانه المعلول، لم يتقدم على المعلول تقدماً حقيقاً، وهو التقدم المعقول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 وإذا شبهوا وجود الفلك مع الرب بالصوت مع الحركة والضوء مع الشمس، كان هذا ونحوه تشبيهاً باطلاً لا يفيد إمكان صحة قولهم، فضلاً عن إثبات صحته، فإن هذه الأمور وأمثالها إما أن يقال فيها: إن الثاني موجود متصل بالأول، كأجزاء الزمان والحركة لا أنه معه في الزمان وإما أن يقال الثاني مشروط بالأول لا أن الأول مبدع للثاني فاعل له، فلا يمكنهم ان يذكروا وجود فاعل لغيره مع أن زمانهما معاً أصلاً. ونحن ذكرنا هذا التقسيم لئلا يكون الجواب مبنياً على أمور دقيقة يختص بفهمها بعض الناس، فإن الجواب كلما كان أظهر، واتفاق العقلاء عليه أكثر، كان أولى بالذكر من غيره إذ المقصود بيان الحق وإبطال الباطل، وألا فيمكن بسط الكلام في هذا وأن يقال السبب لا بد أن يتقدم على مسببه بالزمان وأن الفاء المستعلمة في هذا هي فاء التعقيب. فقول القائل: تحركت يدي فتحرك كمي يدل على أن الثاني عقب الأول ويقال إن فاء التسبب تتضمن التعقيب من غير عكس، فكل مسبب فإنه يكون بعد سببه فليس كل ما كان عقب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 غيره يكون مسبباً عنه بل قد يكونان مسببين لسبب آخر وإن كان شرطاً فيه. ثم الكلام في هذا ينجر إلى الفرق بين السبب وجزئه والشرط، وليس هذا موضع استقصائه، فإن المقصود حاصل بدون ذلك، وإنما المقصود هنا أن تقدم العلة الفاعلة على المعلول المفعول أمر معقول عند جماهير العقلاء من الأولين والآخرين وإنما يجوز كون المفعول المعلول مقارناً لفاعله طائفة قليلة من الناس، كابن سينا والرازي ونحوهما. وقد زعم الرازي في محصله وغيره أن المتكلمين والفلاسفة يجوزون وجود الممكن القديم عن موجب بالذات، وهي العلة القديمة لكن المتكلمون يقولون إنه فاعل بالاختيار فلهذا يمنعون قدم شيء من الممكنات والمتفلسفة يقولون إنه غير فاعل بالاختيار فلهذا قالوا بقدم معلوله، وهذا الذي قاله غلط على الطائفتين جميعاً كما قد بسطناه في موضع آخر. فالمتكلمون الذين يقولون بامتناع مفعول قديم، يقولون إن ذلك ممتنع على أي وجه قدر فاعله ويقولون: كون الرب فاعلاً بغير الاختيار ممتنع أيضاً وليس امتناع أحدهما مشروطاً بالعلم بامتناع الآخر. والفلاسفة القائلون بقدم الأفلاك لهم قولان في العلة الأولى: هل هي فاعلة بالاختيار أو موجبة بلا اختيار؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 وقد ذكر القولين عنهم أبو البركات صاحب المعتبر وغيره وهو يختار أنه فاعل بالاختيار مع قوله بقدم الفعل وليست مسألة القدم ملازمة لمسألة الفاعل بالاختيار، لا عند هؤلاء ولا عند هؤلاء، كما ادعاه الرازي على الطائفتين وكذلك القول بإمكان معلول مفعول مقارن لفاعله هو قول بعض القائلين بقدم العالم لا قولهم كلهم ولا قول واحد من أتباع الرسل، ولا ممن يقول بان اله خالق لما برأه محدث له. وحينئذ فالقول بتقدم الفاعل على مفعوله تقدماً مفعولاً زمانياً وإما مقدراً تقدير الزمان قول جمهور العقلاء فهذا أحد الجوابين. الوجه الثاني أن يقال: هب أنهم أرادوا بالتقدم تقدم العلة على المعلول، من غير تقدم بالزمان ولا تقدير الزمان، وكان اللازم هو الملزوم، لكن الشيء الواحد إذا عبر عنه بعبارتين تدل كل منهما على وصف غير الوصف الآخر، كان تعدد المعاني نافعاً، وإن كانت الذات واحدة، ولهذا قد تعلم الذات بوصف ولا تعلم بوصف آخر، فإذا كان ذات التقدم ذات العلة فليس المفهوم من نفس العلة هو المفهوم من نفس التقدم، وإن كان متلازمين، بل معنى العلة أنه اقتضاه وأوجبه، ومعنى التقدم أنه قبله. وقد يفهم السبق والقبلية من لا يعلم أنه علة بعد. فإذا قيل: لو كان علة قبله كان هذا صحيحاً. ثم العقل يجزم بأن الشيء لا يكون قبل نفسه، فضلاً عن أن يكون قبل ما هو قبل نفسه، بأي وجه فسر معنى السبق والقبلية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 وحينئذ فيستدل بهذا على ذلك من لم يفهم الامتناع من لفظ العلة. وأما من فهم الامتناع من لفظ العلة، كما عليه جمهور الفطر السليمة فلا يحتاج إلى هذا. ولكن كون الشيء دليلاً على الشيء معناه أنه يلزم من ثبوته ثبوته. والشيئان المتلازمان كل منهما يصلح أن يكون دليلاً على الآخر، ثم من شأن الإنسان أن يستدل بالظاهر على الخفي، لكن الظهور والخفاء من الأمور النسبية، فقد يظهر لهذا ما لا يظهر لهذا، وقد ظهر للإنسان في وقت ما يخفي عليه في وقت آخر. فلهذا أمكن أن يستدل بهذا على ذاك، وبذاك على هذا، إذا قدر إن هذا أظهر من ذاك تارة، وذاك أظهر من هذا أخرى، وإما بحسب شخصين، وإما بحسب حالين. وهذه المعاني من تفطن لها انجلت عنه شبه كثيرة فيما يورده الناس على الحدود والأدلة التي قد يقال إنه لا فائدة فيها ولا حاجة إليها، وذاك صحيح وقد يقال: بل ينتفع بها وهذا أيضاً صحيح. لكن من حصر العلم بطريق عينه، هو مثل واحد معين ودليل معين، أخطأ كثيراً كما أن من قال: إن حد غيره ودليله لا يفيد بحال أخطأ كثيراً، وهذا كما أن الذين أوجبوا النظر، وقالوا: لا يحصل العلم إلا به مطلقاً، أخطأوا والذين قالوا: لا حاجة إليه بحال، بل المعرفة دائماً ضرورية لكل أحد في كل حال أخطأوا بل المعرفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 وإن كانت ضرورية في حق أهل الفطر السليمة فكثير من الناس يحتاج فيها إلى النظر، والإنسان قد يستغني عنه في حال ويحتاج إليه ف يحال وكذلك الحدود قد يحتاج إليها تارة ويتغنى عنها أخرى كالحدود اللفظية والترجمة قد يحتاج إليها تارة وقد يستغنى عنها أخرى وهذا له نظائر. وكذلك كون العلم ضرورياً ونظرياً والاعتقاد قطعياً وظنياً، أمور نسبية فقد يكون الشيء قطعياً عند شخص وفي حال وهو عند آخر وفي حال أخرى مجهول فضلاً عن أن يكون مظنوناً وقد يكون الشيء ضرورياً لشخص وفي حال ونظرياً لشخص آخر وفي حال أخرى. وأما ما أخبر به الرسول فإنه حق في نفسه لا يختلف باختلاف عقائد الناس وأحوالهم فهو الحق الذي لا يقبل النقيض ولهذا كل ما عارضه فهو باطل مطلقاً. ومن هنا يتبين لك أن الذين بنوا أمورهم على مقدمات إما ضرورية أو نظرية أو قطعية أو ظنية بنوها على أمور تقبل التغير والاستحالة فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء وأما ما جاء به الرسول فهو حق لا يقبل النقيض بحال فهو صلى الله عليه وسلم يخبر بالحق كما قال أهل الجنة لما دخلوها: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق} الأعراف 43 وقد قال تعالى: {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا} البقرة 119 {وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} الأحزاب 46 وقال تعالى {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون * ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون} المؤمنون 69 -7 1. وقال تعالى {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم * والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم * ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم} محمد 1- 2 ومثل هذا كثير. فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بالحق ويقيم عليه الأدلة العقلية البرهانية الموصلة إلى معرفته كالأقيسة العقلية وهي الأمثال المضروبة. قال تعالى {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا} الإسراء 89 وقال تعالى {ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} الكهف 54 إلى قوله تعالى {ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا * ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا} الكهف 56 - 57. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 وقال تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون} الزمر: 27. وهو سبحانه يجيب عن المعارضات كما قال تعالى {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} الفرقان 23 وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن الطريقة الشرعية تتضمن الخبر بالحق والتعريف بالطرق الموصلة إليه النافعة للخلق وأما الكلام على كل ما يخطر ببال كل أحد من الناس من الشبهات السوفسطائية فهذا لا يمكن أن يبينه خطاب على وجه التفصيل. والعلوم الفطرية الضرورية حاصلة مع صحة الفطرة وسلامتها، وقد يعرض للفطرة يفسدها ويمرضها فترى الحق باطلاً، كما في البدن إذا فسد أو مرض فإنه يجد الحلو مراً ويرى الواحد اثنين فهذا يعالج بما يزيل مرضه. والقرآن فيه شفاء لما في الصدور من الأمراض. والنبي صلى اله عليه وسلم علم أن وسواس التسلسل في الفاعل يقع في النفوس، وأنه معلوم الفساد بالضرورة، فأمر عند وروده بالاستعاذة بالله منه والانتهاء عنه، كما في الصحيحين واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 هذا الله خلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله» . وفي لفظ آخر «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ فيقول اله وزاد فليقل: آمنت بالله ورسله» . وفي لفظ آخر يقول: «من خلق كذا؟ من خلق كذا حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته» هذا لفظ البخاري أو نحوه وفي مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «قال الله عز وجل: إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله سبحانه» . وفي البخاري عن أنس قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يبرح الناس يتساءلون: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 وقد سئل بعض السالكين طريقة هؤلاء كالرازي ونحوه فقيل له: لم لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عند هذا الوسواس بالبرهان المبين لفساد التسلسل والدور بل أمر الاستعاذة؟ فاجاب بأن مثل هذا مثل من عرض له كلب ينبح عليه ليؤذيه ويقطع طريقة، فتارة يضربه بعصا وتارة يطلب من صاحب الكلب أن يزجره قال فالبرهان هو الطريق الأول وفيه صعوبة والاستعاذة بالله هو الثاني وهو أسهل. واعترض بعضهم على هذا الجواب بأن هذا يقتضي أن طريقة البرهان أقوى وأكمل وليس الأمر كذلك، بل طريقة الاستعاذة أكمل وأقوى، فإن دفع الله للوسواس عن القلب أكمل من دفع الإنسان ذلك عن نفسه. فيقال: السؤال باطل، وكل من جوابيه مبني على الباطل فهو باطل وذلك أن هذا الكلام مبناه على أن هذه الأسئلة الواردة على النفس تندفع بطريقين أحدهما البرهان والآخر الاستعاذة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستعاذة وأن المبين لفساد الدور والتسلسل قطعه بطريق البرهان وأن طريقة البرهان تقطع الأسولة الواردة على النفس بدون ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بطريقة البرهان. الطريقة النبوية إيمانية وبرهانية وهذا خطأ من وجوه، بل النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطريقة البرهان حيث يؤمر بها، ودل على مجاميع البراهين التي يرجع إليها غاية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 نظر النظار ودل من البراهين على ما هو فوق استنباط النظار، والذي أمر به في دفع هذا الوسواس هو الاستعاذة فقط، بل أمر بالإيمان وأمر بالاستعاذة وأمر بالانتهاء ولا طريق إلى نيل المطلوب من النجاة والسعادة إلا بما أمر به لا طريق غير ذلك بيان ذلك من وجوه: الوجه الأول أن يقال: البرهان الذي ينال بالنظر فيه العلم لا بد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية فإن كل علم ليس بضروري لا بد أن ينتهي إلى علم ضروري، إذ المقدمات النظرية لو أثبت بمقدمات نظرية دائماً لزم الدور القبلي، أو التسلسل في المؤثرات في محل له ابتداء. وكلاهما باطل بالضرورة واتفاق العقلاء من وجوه. فإن العلم النظري الكسبي هو ما يحصل بالنظر في مقدمات معلومة بدون النظر إذ لو كانت تلك المقدمات أيضا نظرية لتوقف على يغرها، فيلزم تسلسل العلوم النظرية في الإنسان، والإنسان حادث كائن بعد أن لم يكن، والعلم الحاصل في قلبه حادث، فلو لم يحصل في قلبه علم إلا بعد علم قبله، للزم أن لا يحصل في قلبه علم ابتداء فلا بد من علوم بديهية أوليه يبتدؤها الله في قلبه وغاية البرهان أن ينتهي إليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 ثم تلك العلوم الضرورية قد يعرض فيها شبهات ووساوس كالشبهات السوفسطائية مثل الشبهات التي يوردونها على العلوم الحسية ولا بديهية كالشبهات التي أوردها الرازي في أول محصلة وقد تكلمنا في غير هذا الموضع. والشبهات القادحة في تلك العلوم لا يمكن الجواب عنها بالبرهان لأن غاية البرهان أن ينتهي إليها، فإذا وقع الشك فيها انقطع طريق النظر والبحث. ولهذا كان من أنكرم العلوم الحسية والضرورية لم يناظر، بل إذا كان جاحداً معانداً عوقب حتى يعترف بالحق، وإن كان غالطاً إما لفساد عرض لحسه او عقله لعجزه عن فهم تلك العلوم، وإما لنحو ذلك، فإنه يعالج بما يوجب حصول شروط العلم له وانتفاء موانعه فإن عجز عن ذلك. لفساد في طبيعته عولج بالأدوية الطبيعية أو بالدعاء والرقي والتوجه ونحو ذلك وإلا ترك. ولهذا اتفق العقلاء على أن كل شبهة تعرض لا يمكن إزالتها بالبرهان والنظر والاستدلال وإنما يخاطب بالبرهان والنظر والاستدلال من كانت عنده مقدمات علمية، وكان ممن يمكنه أن ينظر فيها نظراً يفيده العلم بغيرها فمن لم يكن عنده مقدمات علمية أو لم يكن قادراً على النظر لم تمكن مخاطبتة بالنظر والاستدلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 وإذا تبين هذا فالوسوسة والشبهة القادحة في العلوم الضرورية لا تزال بالبرهان، بل متى فكر العبد ونظر ازداد ورودها على قلبه وقد يغلبه الوسواس حتى يعجز عن دفعه عن نفسه كما يعجز عن حل الشبهة السوفسطائية. وهذا يزول بالاستعاذة بالله. فإن الله هو الذي يعيذ العبد ويجيره من الشبهات المضلة والشهوات والمغوية، ولهذا أمر العبد أن يستهدي ربه في كل صلاة فيقول {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} الفاتحة 6 - 7. وفي الحديث الإلهي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم» . وقال تعالى {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} النحل 97. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 وقال تعالى {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} فصلت 36. وفي الصحيحين عن سليمان بن صردج قال ك استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأمر الله تعالى العبد أن يستعيذ من الشيطان عند القراءة وعند الغضب ليصرف عنه شره عند وجود سبب الخير وهو القراءة ليصرف عنه ما يمنع الخير وعند وجود سبب الشر ليمنع ذلك السبب الذي يحدثه عند ذلك» . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامة وإن شاء أن يزيغه أزاغه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 وكانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم: لا ومقلب القلوب. وكان كثيراً ما يقول: والذي نفس محمد بيده. وفي الحديث: «للقلب أشد تقلباً من القدر إذا استجمع غلياناً» . وشواهد هذا الأصل كثيرة مع ما يعرفه كل أحد من حال نفسه من كثرة تقلب قلبه من الخواطر، التي هي من جنس الاعتقادات ومن جنس الإرادات، وفيها المحمود والمذموم، والله هو القادر على صرف ذلك عنه، فالاستعاذة بالله طريق مفضية إلى المقصود الذي لا يحصل بالنظر والاستدلال. الوجه الثاني والوجه الثاني: ان يقال النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالاستعاذة وحدها، بل أمر العبد أن ينتهي عن ذلك مع الاستعاذة، إعلاماً منه بان هذا السؤال هو نهاية الوسواس فيجب الانتهاء عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 ليس هو من البدايات التي يزيلها ما بعده، فإن النفس تطلب سبب كل حادث وأول كل شيء حتى تنتهي إلى الغاية والمنتهى. وقد قال الله تعالى {وأن إلى ربك المنتهى} النجن 42. وفي الدعاء المأثور الذي ذكره مالك في الموطأ حسبي الله وكفى، سمع الله لمن دعا ليس وؤاء الله مرمى. وفي رواية: ليس وراء الله منتهى. فإذا وصل العبد إلى غاية الغايات، ونهاية النهايات، وجب وقوفه، فإذا طلب بعد ذلك شيئاً آخر وجب أن ينتهي، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم العبد أن ينتهي مع استجارته بالله من وسواس التسلسل، كما يؤمر كل من حصل نهاية المطلوب وغاية المارد أن ينتهي إذ كل طالب ومريد فلا بد له من مطلوب ومراد ينتهي إليه، وإنما وجب انتهاؤه لأنه من المعلوم بالعلم الضروري الفطري لكل من سلمت فطرته من بني آدم أنه سؤال فاسد، وأنه يمتنع أن يكون لخالق كل مخلوق خالق، فغنه لو كان له خالق لكان مخلوقاً. ولم يكن خالقاً لكل مخلوق، بل كان يكون من جملة الملخوقات، والمخلوقات، كلها لا بد لها من خالق، وهذا معلوم بالضرورة والفطرة، وإن لم يخطر ببال العبد قطع الدور والتسلسل، فإن وجود المخلوقات كلها بدون خالق معلوم الامتناع بالضرورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 وإذا قلنا: يمتنع وجود المحدثات كلها بدون محدث، كان هذا متضمناً لذاك، فإن كل مخلوق محدث، فإذا كان كل محدث لا بد له من محدث فكل مخلوق لا بد له من خالق أولى، وكذلك إذا قلنا: كل ممكن لا بد له من واجب. فلما كان بطلان هذا السؤال معلوماً بالفطرة والضرورة أنر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتهي عنه كما يؤمر أن ينتهي عن كل ما يعلم فساده من الأسولة الفاسدة التي يعلم فسادها، كما لو قيل: متى حدث الله؟ او متى يموت؟ ونحو ذلك. وهذا مما يبين أن سؤال السائل: أين كان بنا؟ في حديث أبي رزين لم يكن هذا السؤال فاسداً عنده صلى الله عليه وسلم، كسؤال السائل: من خلق الله؟ فإنه لم ينه السائل عن ذلك، ولا أمره بالاستعاذة بل النبي صلى الله عليه وسلم سأل بذلك لغير واحد، فقال له: أين الله؟ وهو منزه أن يسأل سؤالاً فاسداً، وسمع الجواب عن ذلك. وهو منزه أن يقر على جواب فاسد ولما سئل عن ذلك أجاب فكان سائلاً به تارة ومجيباً عنه أخرى. ولو كان المقصود مجرد التمييز بين الرب والصنم، مع علم الرسول أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 السؤال والجواب فاسدان، لكان ف يالأسولة الصحيحة ما يغني غير الرسول عن الأسولة الفاسدة، فكيف يكون الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كان يمكن أن يقول: من ربك؟ من تعبدين؟ كما قال لحصين الخزاي: يا حصين كم تعبد اليوم؟ قال أعبد سبعة ألهة ستة في الأرض وواحداً في السماء قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال الذي في السماء فقال أسلم حتى اعلمك كلمة ينفعك الله بها فلما أسلم سأله عن الدعوة فقال قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي رواه أحمد في المسند وغير أحمد الوجه الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العبد أن يقول آمنت بالله وفي رواية ورسوله فهذا من باب دفع الضد الضار بالضد النافع، فإن قوله: آمنت بالله، يدفع عن قلبه الوسواس الفاسد. ولهذا كان الشيطان يخنس عند ذكر الله، ويوسوس عند الغفلة عن ذكر الله، ولهذا سمي الوسواس الخناس، فإنه جاثم على فؤاد ابن آدم فإن ذكر الله خنس والخنوس الاختفاء بنخفاض ن ولهذا سميت الكواكب الخنس. وقال أبو هريرة: لقيت النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة، وانا جنب فانخنست منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 ويقال: انخنست من فلان وهو اختفاء بنوع من الانخفاض والذل له فالمختفى من عدو يقالته لا يقال: انخنس منه وإنما ينخنس الإنسان ممن يهابه ويعظمه فيذل له وينخفض منه في اختفائه فهكذاالشيطان في حال ذكر يذل ويخضع ويختفي وإذا غفل العبد عن ذكر الله وسوس. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم العبد أن يقول: آمنت بالله أو آمنت بالله ورسوله فإن هذا القول إيمان وذكر الله يدفع به ما يضاده من الوسوسة القادحة في العلوم الضرورية الفطرية ويشبه هذا الوسواس الذي يعرض لكثير من الناس في العبادات حتى يشككه هل كبر أو لم يكبر؟ وهل قرا الفاتحة أم لا؟ وهو نوى العبادة أم لم ينوها؟ وهل غسل عضوه في الطهارة او لم يغسله فيشككه في علومه الحسية الضرورية. وكونه غسل عضواً أمر يشهده ببصره، وكونه تكلم بالتكبير أو الفاتحة أمر يعلمه بقلبه ويسمعه بأذنه، وكذلك كونه يقصد الصلاة مثل كونه يقصد الأكل والشرب والركوب والمشي، وعلمه بذلك كله علم ضروري يقيني اولى لا يتوقف على النظر والاستدلال ولا يتوقف على البرهان، بل هو مقدمات البرهان وأصوله التي يبنى عليها البرهان أعني البرهان النظري المؤلف من المقدمات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 وهذا الوسواس يزل بالاستعاذة وانتهاء العبد، وأن يقول إذا قال: لم تغسل وجهك؟ بلى، قد غسلت وجهي، وإذا خطر له أنه لم ينو ولم يكبر، يقول بقلبه: بلى قد نويت وكبرت فيثبت على الحق ويدفع ما يعارضه من الوسواس، فيرى الشيطان قوته وثباته على الحق، فيندفع عنه وإلا فمتى رآه قابلاً للشكوك والشبهات، مستجيباً إلى الوسواس والخطرات، أورد عليه من ذلك ما يعجز عن دفعه وصار قلبه مورداً لما توحيه شياطين الإنس والجن من زخرف القول ونتقل من ذلك إلى غيره إلى أن يسوقه الشيطان إلى الهلكة. {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} البقرة 257 {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} الأعراف 201-202. فصل ومما ينبغي أن يعرف في هذا المقام وإن كنا قد نبهنا عليه في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 مواضع أن كثيراً من العلوم تكون ضرورية فطرية فإذا طلب المستدل أن يستدل عليها خفيت ورقع فيها شك، إما لما في ذلك من تطويل المقدمات وإما لما في ذلك من خفائها، وإما لما في ذلك من كلا الأمرين. والمستدل قد يعجز عن نظم دليل على ذلك، إما لعجزه عن تصوره وإما لعجزه عن التعبير عنه فإنه ليس كل ما تصوره الإنسان أمكن كل أحد أن يعبر عنه باللسان وقد يعجز المستمع عن فهمه ذلك الدليل وإن أمكن نظم الدليل وفهمه ففد يحصل العجز عن إزالة الشبهات المعارضة إما من هذا وإما من هذا وإما منهما. كلام لابن تيمية في مبحث التصورات وهذا يقع في التصورات أكثر مما يقع في التصديقات، فكثير من الأمور المعروفة إذا حدث بحدود تميز بينها وبين المحدودات زادت خفاء بعد الوضوح لكونها أظهر عند العقل بدون ذلك الحد منها بذلك الحد. حقيقة الحدود ولكن قد يكون في الأدلة والحدود من المنفعة ما قد نبه عليه غير مرة، ولهذا تنوعت طرق الناس في الحدود والأدلة، وتجد كثيراً من الناس يقدح في حدود غيره وأدلته، ثم يذكر هو حدوداً وأدلة يرد عليها إيرادات من جنس ما يرد على تلك أو من جنس آخر، وذلك لأن المقصود بالحدود: إن كان التمييز بين المحدود وبين غيره، كانت الحدود الجامعة المانعة على أي صورة كانت مشتركة في حصول التمييز بها، وإن لم تكن جامعة مانعة كانت مشتركة في عدم حصول التمييز، وإن كان المطلوب بها تعريف المحدود فهذا لا يحصل بها مطلقاً، ولا يمتنع بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 مطلقاً بل يحصل لبعض الناس وفي بعض الأوقات دون بعض، كما يحصل بالأسماء فإن الحد تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال فلا يمكن أن يقال الاسم لا يعرف المسمى بحال، ولا يمكن أن يقال يعرف به كل أحد كذلك الحد. وإن قيل إن المطلوب بالحد أن مجرد الحد يوجب أن المستمع له يتصور حقيقة المحدود التي لم يتصورها إلا بلفظ الحاد، وأنه يتصورها بمجرد قول الحاد، كما يظنه من يظنه من الناس بعض أهل المنطق وغيرهم فهذا خطأ كخطأ من يظن أن الأسماء توجب معرفة المسمى لمن تلك الأسماء بمجرد ذلك اللفظ. وقد بسط الكلام على هذا في موضعه، وبينا ما لعيه جمهور النظار من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والصابئين والمشركين من أن الحدود مقصودها: التمييز بين المحدود وغيره، وأن ذلك يحصل بالوصف الملازم للمحدود طرداً وعكساً الذي يلزم من ثبوته ثبوت المحدود، ومن انتقائه انتقاؤه، كما هو طريقة نظار المسلمين من جميع الطوائف مثل أبي علي هاشم وأمثالهما، ومثل أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي المعالي الجويني والقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء ابن عقيل وأمثالهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 وأما طريقة أهل المنطق ودعواهم: أن الحد التام مقصوده التعريف بالحقيقة، وأن الحقيقة مؤلفة من الصفات الذاتية الداخلة في المحدود، وهي: الجنس والفصل وتقسيمهم الصفات اللازمة للموصوف إلى: داخل في الحقيقة وخارج عنها عرضي وجعل العرضي الخارج عنها اللازم على نوعين: لازم للماهية، ولازم لوجود الماهية، وبناءهم ذلك على أن ماهيات الأشياء التي هي حقائقها ثابتة في الخارج، وهي مغايرة للموجودات المعينة الثابتة في الخارج، وأن الصفات الذاتية تكون متقدمة على الموصوف في الذهن والخارج، وتكون أجزاء سابقة لحقيقة الموصوف في الوجودين: الذهني والخارجي. فهذا ونحوه خطأ عند جماهير العقلاء من نظار الإسلام وغيرهم، بل الذي عليه نظار الإسلام أن الصفات تنقسم إلى: لازمة للموصوف لا تفارقه إلا بعدم ذاته، وإلى عارضة له يمكن مفارقتها له مع بقاء ذاته وهذه اللازمة منها: ما هو لازم للشخص دون نوعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 وجنسه ومنها ما هو لازم لنوعه أو جنسه. وأما تقسيم اللازمة إلى ذاتي وعرضي، وتقسيم العرضي إلى لازم للماهية ولازم للوجود، وغير لازم بل عارض فهذا خطأ عند نظار الإسلام وغيرهم. بل طائفة من نظار الإسلام قسموا اللازم إلى: ذاتي ومعنوي، وعنوا بالصفات الذاتية: ما لا يمكن تصور الذات مع عدمه، وعنوا بالمعوي: ما يمكن تصور الذات بدون تصوره وإن كان لازما للذات فلا يلزمها إلا إذا تصور معيناً يقوم بالذات. فالأول عندهم مثل كوب قائماً بنفسه وموجوداً بل وكذلك كونه قديماً عند أكثرهم فإن ابن كلاب يقول: القديم يقدم، والأشعري له قولان أشهرهما عند أصحابه: أنه قديم بغير قدم لكنه باق ببقاء وقد وافقه على ذلك ابن أبي موسى وغيره. وأما القاضي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 أبو بكر فإنه يقول: باق بغير بقاء ووافقه على ذلك أبو يعلى وأبو المعالي وغيرهما. والثاني عندهم: مثل كونه حياً وعليماً وقديراً ونحو ذلك. وتقسيم هؤلاء اللازمة إلى ذاتي ومعنوي، كلام ليس هذا موضع بسطه فإنهم لم يعنوا بالذاتي ما يلزم الذات إذ الجميع لازم للذات، ولا عنوا بالذاتي: المقوم للذات، كاصطلاح المنطقيين: فإن هؤلاء ليس عندهم في الذوات ما هو مركب من الصفات: كالجنس والفصل، ولا يقسمون الصفات إلى مقوم داخل في الماهية هو جزء منها، وإلى عرضي خارج عنها ليس مقوماً، بل هذا التقسيم عندهم وعند جمهور العقلاء خطأ كما هو خطأ في نفس الأمر، إذ التفريق بين الذاتي المقوم، واللازم الخارج، تفريق باطل لا يعود إلا إلى مجرد تحكم يتضمن التفريق بين المتامثلين كما قد بسط في موضعه. ولهذا يعترف حذاق أئمة أهل المنطق كابن سينا وأبي البركات صاحب المعتبر وغيرهما بانه لا يمكن ذكر فرق مطرد بين هذا وهذا وذكر ابن سينا ثلاثة فروق مع اعترافه بانه ليس واحد منها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 صحيحاً واعترض أبو البركات على ما ذكره ابن سينا بما يبين فساد الفرق بين الذاتي المقوم والعرضي اللازم. وأبو البركات لما كان معتبراً لما ذكره أئمة المشائين لا يقلدهم ولا يتعصب لهم كما يفعله غيره مثل ابن سينا وأمثاله نبه على أن ما ذكره أرسطو وأصحابه في هذا الموضع مما لم تعرف صحته ولا منفعته. وغير أبي البركات بين فساده وتناقضه، وصنف مصنفات في الرد على أهل المنطق كما صنف أبو هاشم وابن النوبختي والقاضي أبو بكر بن الطيب وغيرهم. وهؤلاء الكلابية الذين يفرقون بين الصفات الذاتية والمعنوية هم أصح نظراً من هؤلاء المنطقيين وهم ينكرون ما ذكر المنطقيون من الفرق فلا يعود تفريقهم إلى تفريق المنطقيين بل تفريقهم يعود إلى ما ذكروه هم من أن الصفات الذاتية عندهم مالا يمكن تصور الذات مع تصور عدمها والصفات المعنوية ما يمكن تصور الذات مع تصور عدمها، كالحياة والعلم والقدرة، فإنه يمكن تصور الذات مع نفي هذه الصفات ولا يمكن تصور الذات مع نفي كونها قائمة بالنفس وموجودة وكذلك لا يمكن ذلك مع نفي كونها قديمة عند أكثرهم. وابن كلاب والأشعري في أحد قوليه جعل القدم كالعلم والقدرة والبقاء فيه نزاع بين الأشعري ومن أتبعه كأبي علي بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 أبي موسى وأمثاله، وبين القاضي أبي بكر ومن أتبعه كالقاضي أبي يعلي وأمثاله. وهؤلاء أيضاً تفريقهم باطل فإن قولهم: لا يمكن تصور الذات مع نفي تلك الصفة. يقال لهم: لفظ التصور مجمل يراد به تصور ما، وهو الشعور بالمتصور من طريق الوجود، ويراد به التصور التام، وما من متصور إلا وفوقه تصور أتم منه. ومن هذا دخل الداخل على هؤلاء المنطقيين الغالطين وعلى هؤلاء فإن عنوا به التصور التام للذات الثابتة في الخارج التي لها صفات لازمة لها فهذه لا يمكن تصورها كما هي عليه مع نفي الصفات فإذا عني بالماهية ما يتصوره المتصور في ذهنه فهذا يزيد وينقص بحسب تصور الأذهان. وإن عنوا به ما في الخارج فلا يوجد بدون جميع لوازمه، وإن عني بذلك أنه لا يمكن تصورها بوجه من الوجوده مع نفي هذه الصفات فهذا يرد عليهم فيما جعلوه ذاتياً مثل كونه قائماً بنفسه وكونه قديماً ونحو ذلك. فإنه قد يتصور الذات تصوراً ما من لا يخطر بقلبه هذه المعاني، بل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 من ينفي هذه المعاني أيضاً، وإن كان ضالاً في نفيها. كما أن من نفي الحياة والعلم والقدرة كان ضالاً في نفيها. وإذا قيل: لا يمكن وجود الفعل إلا من ذات قائمة بنفسها قديمة. قيل: ولا يمكن إلا من ذات حية عالمية قادرة. فإذا قيل: هذه يمكن بعض العقلاء أن يتصور كونها فاعلاً مع انتفاء هذه الصفات. قيل: هذا تصور باطل، والتصورات الباطلة لا ضابط لها. فقد يمكن ضال آخر أن يتصور كونها فاعلة مع عدم القيام بالنفس، فإن الفرق إذا عاد إلى اعتقاد المعتقدين، لا إلى حقائق موجودة في الخارج، كان فرقاً ذهنياً اعتبارياً، لا فرقاً حقيقاً من جنس فرق أهل المنطق بين الذاتي المقوم والعرضي اللازم، فإنه يعود إلى ذلك حيث جعلوا الذاتي مالا تتصور الماهية بدون تصوره والعرضي ما يمكن تصورها بدون تصوره وليس هذا بفرق في نفس الأمر وإنما يعود إلى ما تقدره الأذهان فإنه ما من تصور إلا وفوقه تصور أتم منه، فإن أريد بالتصور مطلق الشعور بالشيء فيمكن الشعور به بدون الصفات التي جعلوها ذاتيه فإنه قد يشعر بالإنسان من لا يخطر بباله انه حيوان ناطق أو جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق. وإن أرادوا التصور التام، فقول القائل: حيوان ناطق لا يوجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 التصور التام للموصوف بل ما من تصور إلا وفوقه تصور أكمل منه فغن صفات الموصوف ليست منحصرة فيما ذكروه. وإن قالوا: نريد به التصور التام للصفات الذاتية، عادت المطالبة بالفرق فيبقى الكلام دوراً. وهذا كما انهم يقولون: ماهية الشيء هي المركبة من الصفات الذاتية، ثم يقولون: الصفات الذاتية هي التي يتوقف تحقق الماهية عليها، أو يقف تصور الماهية عليها، فلا تعقل الصفة الذاتية حتى تعقل الماهية ولا تعقل الماهية حتى تعقل الصفة الذاتية لها، فيبقى الكلام دوراً. كما يجعلون الصفات الذاتية أجزاء للماهية مقومة لها سابقة لها في الحقيقة في الوجودين الذهني والخارجي مع العلم بان الذات أحق بأن تكون سابقة من الصفات إن قدر أن هناك سبقاً وإلا فهما متلازمان. وإذا قيل هي أجزاء. قيل إن كانت جواهر، كان الوهر الواحد جواهر كثيرة وإن كانت اعراضاً فهي صفات. فإذا قيل الإنسان حيوان ناطق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 قيل: إن كانت الحيوانية والناطقية أعراضاً، فهي صفات الإنسان. وإن كانت جواهر هو حساس وجوهر هو نام ومعلوم فساد هذا. وحقيقة الأمر أنها صفات لما يتصور في الإذهان وصفات لما هو موجود في الأعيان وأن الذات هي أحق بتقويم الصفات من الصفات بتقويم الذات. وأيضاً فإن أرادوا تصور الصفات مفصلة فمعلوم أن قولهم حيوان ناطق لا يوجب تصور سائر الذاتيات مفصلاً فإن كونه جسماً نامياً وحساساً ومتحركاً بالإرادة لا يدل عليه اسم الحيوان دلالة مفصلة بل مجملة وإن أرادوا بالتصور التصور سواء كان مجملاً أو مفصلاً فمعلوم أن لفظ الإنسان يدل على الحيوان والناطق كما يدل لفظ الحيوان على الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة فيكون اسم الإنسان كافياً في تعريف صفات الإنسان مثل ما أن لفظ الحيوان كاف في تعريف صفات الحيوان. فإذا كانوا في تعريف الإنسان لا يأتون إلا بلفظ يدل على صفاته الذاتية دلالة مجملة وهذا القدر حاصل بلفظ الإنسان كان تعريفهم من جنس التعريف بالأسماء وكان ما جعلوه حداً من جنس ما جعلوه اسما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 فإن كان أحدهما دالاً على الذات فكذلك الآخر وإلا فلا فلا يجوز جعل أحدهما مصوراً للحقيقة دون الآخر، غاية ما يقال إن في هذا الكلام من تفصيل بعض الصفات ما ليس في الآخر. فإن قول القائل: حيوان ناطق، فيه من الدلالة على معنى النطق باللفظ الخاص ما ليس في لفظ الإنسان. فيقال: وكذلك في لفظ النامي من الدلالة على النمو باللفظ الخاص ما ليس في لفظ الحيوان وأنتم لا توجبون ذلك. وكذلك لفظ الحساس والمتحرك بالإرادة فعلم أن كلامهم لا يرجع إلى حقيقة موجوده معقولة وإنما يرجع إلى مجرد وضع واصطلاح وتحكم واعتبارات ذهنية وهذا مبسوط في موضعه. وكذلك الذين فرقوا بين الصفات الذاتية وبين المعنوية اللازمة للذات من الكلابية وأتباعهم يعود تفريقهم إلى وضع واصطلاح وتحكم واعتبارات ذهنية لا إلى حقيقة ثابتة في الخارج ولهذا يضطربون في الفرق بين الصفات الذاتية والمعنوية. فهذا يقول إنه قديم بقدم باق ببقاء وهذا ينازع في هذا أو في هذا. والنافي يقول: هو عالم بذاته قادر بذاته كما يقول هؤلاء إنه باق بذاته قديم بذاته. وإذا أراد بذلك أن علمه من لوازم ذاته لا يفتقر إلى شيء آخر فقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 أصاب وإن أراد أنه يمكن كونه حياً عالماً قادراً بدون حياة وعلم وقدرة فقد أخطأ وذاته حقيقتها هي الذات المتسلزمة لهذه المعاني فتقدير وجودها بدون هذه المعاني تقدير باطل لا حقيقة له ووجود ذات منفكه عن جميع الصفات إنما يمكن تقديره في الأذهان لا في الأعيان، وهذه الأمور مبسوطة في موضعها. والمقصود هنا أن التعريف بالحدود والتعريف بالأدلة قد يتضمن إيضاح الشيء بما هو اخفى منه وقد يكون الخفاء والظهور من الأمور النسبية الإضافية فقد يتضح لبعض الناس أو للإنسان في بعض الأحوال ما لا يتضح لغيره أو له في وقت آخر، فينتفع حينئذ بشيء من الحدو والأدلة لا ينتفع بها في وقت آخر. وكلما كانت حاجة الناس إلى معرفة الشيء وذكره أشد وأكثر، كانت معرفتهم به وذكرهم له أعظم وأكثر، وكانت طرق معرفته أكثر وأظهر، وكانت الأسماء المعرفة له أكثر وكانت على معانيه أدل. فالمخلوق الذي يتصوره الناس ويعبرون عنه اكثر من غيره تجد له من الأسماء والصفات عندهم ما ليس لغيره، كالأسد والداهية والمخمر والسيف ونحو ذلك، فلكل من هذه المسميات في اللغة من الأسماء أسماء كثيرة، وهذا الاسم يدل على معنى لا يدل عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 الاسم الآخر، كما يقولون في السيف: صارم ومهند وأبيض وبتار ومن ذلك أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم وأسماء القرآن قال النبي صلى الله عليه وسلم «لي خمسة أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب» وقال أنا الضحوك القتال انا نبي الرحمة أنا نبي الملحمة ومن أسمائه المزمل والمدثر والرسول النبي. ومن أسماء القرآن: الفرقان والتنزيل والكتاب والهدى والنور والشفاء والبيان وغير ذلك. ولما كانت حاجة النفوس إلى معرفة ربها أعظم الحاجات كانت طرق معرفتهم له أعظم من طرق معرفة ما سواه، وكان ذكرهم لأسمائه أعظم من ذكرهم لأسماء ما سواه وله سبحانه في كل لغة أسماء واه في اللغة العربية أسماء كثيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 والصواب الذي عليه جمهور العلماء أن قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن لله تسعة وتسعين أسماً من أحصاها دخل الجنة» معناه أن من أحصى التسعة والتسعين من أسمائه دخل الجنة ليس مراده أنه ليس له إلا تسعة وتسعون أسماً، فإنه في الحديث الآخر الذي رواه أحمد وأبو حاتم في صحيحه «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو أستأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب غمي وهمي» . وثبت في الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده 5 اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت صفاته فأخبر أنه صلى الله عليه وسلم لا يحصى ثناء عليه ولو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 أحصى جميع أسمائه لأحصى صفاته كلها فكان يحصي الثناء عليه لأن صفاته إنما يعبر عنها بأسمائه. فصل طرق معرفة الله كثيرة ومتنوعة ولما كانت طرق معرفة الله والإقرار به كثيرة متنوعه صار كل طائفة من النظار تسلك طريقاً إلى إثبات معرفته، ويظن من يظن أنه لا طريق إلا تلك. وهذا غلط محض، وهو قول بلا علم. فإنه من أين للإنسان انه لا يمكن المعرفة إلا بهذا الطريق؟ فإن هذا نفي عام لا يعلم بالضرورة، فلا بد من دليل يدل عليه، وليس مع النافي دليل يدل على هذا النفي بل الموجود يدل على ان للمعرفة طرقاً أخرى، وأن غالب العارفين بالله من الأنبياء وغير الأنبياء بل من عموم الخلق عرفوه بدون تلك الطريق المعينة. وقد نبهنا في هذا الكتاب على ما نبهنا عليه من طرق أهل النظر وتنوعها على ما يأتي وأن الطرق تتنوع تارة بتنوع أصل الدليل، وتارة بزيادة مقدمات فيه يستغني عنها آخرون، فهذا يستدل بالإمكان وهذا بالحدوث، وهذا بالآيات وهذا يستدل بحدوث الذوات وهذا بحدوث الصفات وهذا بحدوث المعين كالإنسان وهذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 بحدوثه وحدوث غيره، وآخرون غلطوا فظنوا أنه لا بد من العلم بحدوث كل موصوف تقوم به الصفات وقد يعبرون عنه بلفظ الجسم، والجوهر، والمحدود، والمركب وغير ذلك من العبارت، وآخرون يستدلون بحدوث ما قام به الحوادث ويقولون كل ما قامت به الصفات محدثاً. والفلاسفة لم يسلكوا هذه الطريق لاعتقادهم أن من الأجسام ما هو قديم تحله الحوادث والصفات فكونه جسماً ومتميزاً وقديماً وتحله الصفات والحوادث ليس هو عندهم مستلزماً لكونه محدثاً بل وليس ذلك مستلزماً عند أرسطو كونه ممكناً يقبل الوجود والعدم. وكذلك لم يسلكها كثير من اهل الكلام كالهشامية والكرامية وغيرهم بل ولا سلكها سلف الأمة وأئمتها كما قد بسط في موضعه. ولم يسلكها متأخرو أهل الكلام الذين ركبوا طريقاً من قول الفلاسفة وقول أسلافهم المتكلمين كالرازي والآمدي والطوسي ونحوهم بل سلكوا طريقة ابن سينا التي ذكرها في إثبات واجب الوجود. طريقة ابن سينا وطريقة ابن سينا لم يسلكها سلفه الفلاسفة كأرسطو وأصحابه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 بل ولا سلكها جماهير الفلاسفة بل كثير من الفلاسفة ينازعونه في نفيه لقيام الحوادث والصفات بذات واجب الوجود ويقولولن إنه تقوم به الصفات والإرادات وأن كونه واجباً بنفسه لا ينافي ذلك، كما لا ينافي عندهم جميعاً كونه قديماً. ولكن ابن سينا وأتباعه لما شاركوا الجهمية في نفي الصفات وشاركوا سلفهم الدهرية في القول بقدوم العالم سلكوا في إثبات رب العالمين طريقاً غير طريقة سلفه المشائين كأرسطو وأتباعه الذين أثبتوا العلة الأولى بحركة الفلك الإرادية، وأن لها محركاً يحركها كحركة المعشوق لعاشقه وهو يحرك الفلك للتشبه بالعلة الأولى فعدل ابن سينا عن تلك الطريقة إلى هذه الطريقة التي سلخها من طريقة أهل الكلام الذين يحتجون بالمحدث على المحدث، وهو لا يقول بحدوث العالم. فجعل طريقته الاستدلال بالممكن على الواجب ورأى أولئك المتكلمين قسموا الوجود إلى قديم ومحدث، فقسمه هو إلى واجب وممكن، وأثبت الواجب بهذا الطريق، ولكن هذا بناء على أن القديم ممكن وله ماهية تقبل الوجود والعدم. وهذا مما خالفه فيه جمهور العقلاء من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم حتى أنه هو تناقض في ذلك، فوافق سلفه وجميع العقلاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 وصرح بأن الممكن لا يكون إلا ما يقبل الوجود والعدم، ثم تناقض هنا، كما قد بسط في غير هذا الموضع. عودة إلى كلام ابن سينا ونحن ننبه عليه هنا فقوله كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره، فإما أن يكون بحيث يجب له الوجود في نفسه أو لا يكون فإن وجب فهو الحق بذاته الواجب وجوده من ذاته، وهو القيوم وإن لم يجب لم يجز أن يقال هو ممتنع بذاته بعد ما فرض موجوداً، بل إن قرن باعتبار ذاته شرط مثل شرط عدم علته صار ممتنعاً أو قرن شرط وجود علته صار واجباً. واما إن لم يقرن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له من ذاته الأمر الثالث، وهو الإمكان فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب ولا يمتنع فكل موجود غما واجب الوجود بذاته وغماممكن الوجود بحسب ذاته. التعليق على كلام ابن سينا فيقال اما كون الموجود ينقسم إلى واجب، وهو الواجب بنفسه ن وإلى ممكن وموجود بغيره، وأن الموجود بغيره لا بد له من موجود بنفسه، فهذا كله حق، وهي قضايا صادقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 وأما كون الممكن بنفسه له ذات يعتقب عليها الوجود والعدم، وأنها مع ذلك قد تكون أزلية واجبة بغيرها. كما يقوله ابن سينا وموافقوه فهذا باطل عند العقلاء قاطبة من الأولين والآخرين حتى عند ابن سينا مع تناقضه. الاعتراض على ما سبق من وجوه الوجه الأول قوله إن قرن باعتبار ذاته شرط صار ممتنعاً أو واجباً وإن لم يقرن بها شرط بقي له من ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان يقتضي إثبات ذات لهذا الممكن تكون تارة واجبة وتارة ممتنعة وهذا يقتضي أن الكل ممكن ذاتاً مغايرة لوجوده وأن تلك الذات يمكن اتصافها بالوجود تارة والعدم أخرى، وهذا باطل سواء أريد به قول من يجعل المعدوم شيئاً من المعتزلة ونحوهم، أو قول من يجعل الماهيات النوعية في الخارج مغايرة للوجود في الخارج كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والكلام على فساد هذين مبسوط في غير هذا الموضع. وهو لم يذكر هنا دليلاً على صحة ذلك ومجرد ما ذكره من التقسيم لا يدل على وجود الإقسام الثلاثة في الخارج فيبقى دليله غير مقدر المقدمات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 وهذا مما يسلكه أمثال هؤلاء يذكرون أقساماً مقدرة تقديراً ذهنياً ولا يقيمون الدليل على إمكان كل من الأقسام ولا وجوده وإنما يذكرون مجرد تقدير ذلك، ويبنون على ذلك التقدير بناء من قد أثبته في الخارج، وهو لم يثبتوه في الخارج كما ذكرنا نظائر ذلك في مواضع. والمقصود هنا أن قول القائل: كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فإما واجب وإما ممكن إنما يصح إذا علم أن الموجود في الخارج له ذات يمكن أن لا يلتفت معها إلى غيرها، ليقال إن تلك الذات إما واجبة وإما أن يجب لها الوجود وإما أن لا يجب. وأما إذا كان لا شيء في الخارج إلا الموجود: إما بنفسه وإما بغيره، فالموجود بغيره إذا التفت إليه من غير التفات إلى غيره فلا ذات له يمكن الالتفات إليها حتى يقال: إنها ممكنة قابلة للوجود والعدم، بل هذا الذي قدر انه موجود بغيره إذا لم يلتفت إلى غيره فلا حقيقة له أصلاً: لا وجود ولا غيره، ولا هناك ما يكون ممكن الوجود أصلاً. فهذا التفسير لا يصح الاستدلال به إلا بعد إثبات ذات محققة في الخارج، مغايرة لما هو في الخارج من الوجود، ولما لم يثبت هذا القسم كان الاستدلال باطلاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 وإذا قيل: قد قرر هذا في غير هذا الموضع. قيل الجواب من وجهين: أحدهما أنه قد بين أيضاً في غير هذا الموضع فساد ما ذكره. الثاني: أنه بتقدير أن يقرره فلا ريب أن هذه المقدمة ما ينازع فيه كثير من العقلاء بل أكثرهم وهي مقدمة خفية تحتاج إلى بيان. ومتفلسفة الأشعرية كالرازي والآمدي حائرون فيها فالرازي له فيها قولان، والآمدي متوقف فيها، وأهل الإثبات قاطبة كالأشعري وغيره متفقون على بطلانها فكيف تكون مثل هذه المقدمة في إثبات واجب الوجود، الذي وجوده أظهر وأعرف من هذه المقدمة وهل الاستدلال على القوي بالضعيف إلا كتحديد الجلي بالخفي وهذا إذا كان في الحدود مردوداً فهو في الأدلة أولى بالرد. الوجه الثاني أن هذا باطل على كل قول. أما على قول نظار السنة يقولون: وجود كل شيء في الخارج عين حقيقته فظاهر. وأما على قول القائلين بأن المعدوم شيء المفرقين بين الوجود والثبوت، فإنهم لا يقولون ذلك إلا في المعدوم لا يقولون إن الموجود القديم ثبوته يقبل الوجود والعدم بل قد يقولون إن ماهية القديم مغايرة لوجوده لكن لا يقولون إنها تقبل الوجود والعدم. ففي الجملة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 لا يتصور عندهم ماهية متسلزمة للوجود تقبل الوجود والعدم. وأما على قول متأخري الفلاسفة الذين يجعلون وجود الممكنات زائداص على ماهياتها، فتلك الماهيات إنما تتحقق في حال الوجود، لا يمكن تجردها عن الوجود، إلا يتصور أن يكون عندهم ماهية هي نفسها تقبل الوجود والعدم، فإثبات ماهية تقبل الوجود والعدم وهي مع ذلك مستلزمة للوجود ليس قول أحد من الطوائف. الوجه الثالث أن هذا باطل، فإنها إذا كانت مستلزمة للوجود امتنع أن تقبل العدم. وإن كان عدمها ممكناً امتنع أن تستلزم الوجود فدعوى المدعي أنها يمكن وجودها وعدمها وأنها مع ذلك تستلزم الوجود لا يمكن عدمها جمع بين المتناقضين. وإذا قيل: هي باعتبار ذاتها يمكن وجودها وعدمها، وأما باعتبار سببها فإنه يجب وجودها. قيل: قول القائل: هي باعتبار ذاتها يمكن وجودها وعدمها، ليس معناه أنه يجب وجودها أو عدمها بل معناه باعتبار أنها ذاتها لا تستحق وجوداً ولا عدماً بل لا بد لها من أحدهما باعتبار غيرها. والتقدير أنها موجودة فيكون الوجود لها من غيرها واجباً والوجود الواجب ولو بغيره لا يمكن عدمه فهذه الذات الواجبة بغيرها لا يمكن عدمها بوجه من الوجوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 وهب انه لولا السبب الموجب لها لعدمت لكن هذا تقدير ممتنع فإن السبب واجب الوجود بذاته وهي من لوازمه ولازم الواجب بذاته يمتنع عدمه لأن عدم اللازم يوجب عدم الملزوم فلو عدم لازم الواجب لعدم الواجب وعدمه ممتنع فعدم لازمه ممتنع فكان عدم هذه الذات ممتنعاً فلا يكون عدمها ممكناً، فإن الممكن نقيض الممتنع وإذا كان عدمها ممتنعاً لم يكن ممكناً. الوجه الرابع أن يقال: معلوم أنه لولا وجود الفاعل لكانت معدومة بنفسها ولم يكن عدمها معلول علة منفصلة عنها. وقول القائل: علة العدم عدم العلة: إن أراد به أن عدم العلة يستلزم عدمها ويدل عليه، فهذا صحيح وإن أراد أن نفس عدم العلة هو الذي جعل المعلول معدوماً ن فهذا معلوم البطلان بصريح العقل فإن العدم المحض لا يكون له تأثير في شيء أصلاً ولأن ما لا يوجد إلا بغيره إذا لم يوجد الغير فهو باق على العدم مستمر على ما كان عليه والعدم المستمر الباقي لا يكون له علة أصلاً ولو قدر أن لكل معدوم علة لعدمه للزم تقدير علل لا تتناهى لأن ما يقدر عدمه لا يتناهى، وكل هذا باطل، فإن العدم نفي محض، ليس بشيء أصلاً حتى يقدر فيه علل ومعلولات. وإذا كان كذلك، فالممكن لا يفتقر إلى المؤثر إلا إذا قدر وجوده وإلا فمع تقدير عدمه لا يفتقر إلى شيء أصلاً فإذا قدر وجوده واجباً بغيره وجوباً قديماً أزلياً لم يكن هناك ما يقبل العدم ولا يمكن أن يقرن بذاته شرط عدم علته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 وهذا الاعتراض يمكن إيراده على قوله كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فهو إما واجب وإما ممكن. فيقال إن قيل بأن الذات هي نفس الوجود المحقق في الخارج، فذاك إذا قيل ليس له حقيقة بدون الوجود بنفسه فإذا نظر إليه مجرداً عن غيره بطلب حقيقته وكان نفياً محضاً لم يكن له حقيقة بيلتفت القلب إيها ألبته. وإن قيل إن له ذاتاً مغايرة للوجود فتلك الذات سواء قدر إمكان تحققها دون الوجود كما يقوله من يقول: المعدوم شيء أو فرض انه لا يمكن تحققها بدون الوجود، فعلى التقديرين إذا التفت إليه من غير التفات إلى غيرها لم تكن موجودة بل معدومة وانت قد فرضتها موجودة فهذا جمع النقيضين. وأيضاً فهي مع عدم الالتفات إلى غيرها ممتنعة الوجود لا جائزة الوجود، فما يمكن وجوده إذا التفت إليه من غير التفات إلى ما يقتضى وجوده كان ممتنع الوجود ن سواء فرض عدم ما يوجده او لم يفرض: لا وجوده ولا عدمه فهو لا يكون موجوداً إلا مع ما يوجده فإذا التفت إليه مجرداً عما يوجده امتنع وجوده. وإن قال القائل فرق بين التفات إليه بشرط لا أولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 بشرط أو قال بشرط عدم الموجد أولا بشرط وجوده فإنه ممتنع في الأول وممكن في الثاني. قيل له: بل هو ممتنع ف يالقسمين. فإذا أخذ لا بشرط كان ممتنع الوجود وكذلك إذا أخذ لا مع وجود الفاعل. وذلك أنه لا يمكن وجوده إلا بالفاعل ووجوده بدون الفاعل ممتنع فإذا التفت إليه لا مع لازم وجوده، كان وجوده ممتنعاً والممتنع أعم من أن يكون ممتنعاً بنفسه أو بغيره، كما أن الموجود أعم من أن يكون موجوداً بنفسه او بغيره، والامتناع لا يفتقر إلى أنيقترن به شرط وهو عدم علته، بل إذا لم يقترن به سبب وجوده كان ممتنعاً والعقل يعقل امتناعه بدون ما يوجده وإن لم يخطر له أنه قرن به عدم علته فهو في تجرده عن الاقتران بما يوجده ممتنع كما هو في الاقتران فعدم العلة ممتنع. يبين ذلك أن عدم العلة لا شيء فاقترانه بعدم العلة اقتران بعدم محض فلم تختلف حاله بين تقدير عدم هذا الاقتران وانتفائه إلا إذا قرن به ما يقتضي وجوده وإلا فهو بدون القرين المقتضي لوجوده ممتنع معدوم. وسبب هذا ان هذا الاقتران ليس هو الموجب لعدمه في نفس الأمر بل هو دليل على العدم، والأدلة تتعدد والدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدمه عدم المدلول إلا إذا كان ملازماً فالشيء إذا اخذ مع ضده كان ممتنعاً ومع عدم فاعله كان ممتنعاً وكل من الأمرين يدل على امتنعه وكذلك إذا أخذ بدون شرطه كان ممتنعاً وبدون لازمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 كان ممتنعاً والمقتضى الممكن ألزم اللوازم له وأعظم الشروط ولا فرق بين أن يقدر مع انتفاء اللازم أو يقدر لا مع ثبوت اللازم فالأمر سواء هو في كليهما ممتنع إلا مع اللازم فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع، ولهذا كل ما يقدر في الخارج فإما واجب بنفسه او بغيره وإما ممتنع بنفسه أو بغيره. فإذا قيل: هو باعتبار نفسه لا واجب ولا ممتنع. قيل: ليس في الخارج شيء لا واجب ولا ممتنع وإنما ذاك شيء يقدر ف يالذهن فيقدر في الذهن ذات يمكن وجودها وعدمها. وانت لم تتكلم فيما يقدر في الأذهان بل قلت: كل موجود فجعلت التقسيم وارداً على الأمور الموجودة ف يالخارج وتلك إما موجودة بنفسها وإما بغيرها، وليس فيها ما يمكن الالتفات إليه مع كونه غير موجود إلا إذا كان في الذهن، مع أنه في الذهن موجوداً ذهنياً الوجه الخامس قوله إن قرن باعتبار ذاته واجباً أو ممتنعاً، وغن لم يقترن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها، بقي له من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان، فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب ولا يمتنع فيقال هذا التقسيم يتضمن رفع النقيضين، فإنه لا بد أن يقترن بها حصول العلة أو عدمها. لا يمكن رفع النقيضين جميعاً وهو حصول العلة وعدمها معاً فالتقدير المقابل لهذين وهو أن لا يقترن بها حصول العلة ولا عدمها، فهو تقدير سلب النقيضين، وهو رفع وجود العلة وعدمها معاً، وهذا ممتنع وحينئذ فلا يثبت الإمكان إلا علىى تقدير ممتنع، وما لا يثبت إلا على تقدير ممتنع فهو ممتنع، فيكون الإمكان الذي أثبتوه وهو أنه لا يجب ولا يمتنع لا يحصل إلا بتقدير ممتنع، وهو رفع النقيضين فيكون ممتنعاً وهذا يوضح أن هذا الإمكان أمر لا حقيقة له في الخارج، ولا يعقل الإمكان إلا في شيء يكون موجوداً تارة معدوماً أخرى 0 واما ما يكون موجوداً لا يقبل العدم ألبتة فليس بممكن 0 كما أن المعدوم الذي لا يقبل الوجود البتة ليس بممكن، مثل نقيض صفات كمال الباري، فإن العجز والجهل ونحو ذلك أمور معدومة له لا تقبل الوجود ألبتة، كما ان حياته وقدرته وعلمه من لوازم ذاته لا تقبل العدم ألبتة بل يجب وجودها ويمتنع عدمها، وليست من الممكن الذي يقبل الوجود والعدم يبين هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 الوجه السادس وهو قوله وإن لم يقترن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها، بقي له من ذاته الأمر الثالث يقتضي أن هذا الأمر الثالث إنما يكون له من ذاته إذا لم يقرن بها احد الأمرين ومعلوم أنه لا بد ان يقرن بها أحد الأمرين، فإذا لم يكن لها الإمكان إلا في حال تجردها عن الاقتران، وهي لا تتجرد عن الاقتران، لم يكن لها من ذاتها إمكان أصلاً، فإنه جعل ما لا يمكن عدمه واجباً، سواء كان واجباً بنفسه او بغيره، وما كان واجباً لم يكن ممكناً، وإنما يكون ممكناً إذا لم يقرن به لا سبب وجوده ولا سبب عدمه يقرر هذا الوجه السابع وهو أن هذا الكلام يقتضي أنها في حال اقرانها بشرط حصول العلة واجبة ليس لها من ذاتها افمكان، والتقدير أنها موجودة، وان الموجود إما واجب وإما ممكن، وفي حال وجودها قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 اقترن بها حصول العلة، فلا يكون في حال وجودها لها من ذاتها الإمكان وحينئذ فوصفها بالإمكان في حال الوجود الواجب ممتنع، فبطل تقسيم الوجود الواجب إلى واجب وممكن بهذا الاعتبار بخلاف تقسيم من قسمه إلى واجب وممكن، وفسر الممكن بما يوصف بالوجود تارة والعدم أخرى، فيكون تارة موجوداً وتارة معدوماً فإن تقسيم الوجود إلى واجب وممكن بهذا الاعتبار لا منافاة فيه، فإنها توصف بالإمكان حال عدمها لأنه يمكن وجودها، وتوصف به في حال وجودها لأنه أمكن وجودها كما امكن عدمها الوجه الثامن أن قول القائل له من ذاته الإمكان، أو ان ذاته تقبل الوجود والعدم ونحو ذلك يقال له هذه الذات هي من حيث هي ذات، مع قطع النظر عن وجودها كما فرضتم ذلك، هي واجبة أو ممكنة او ممكتنعة، فإن كانت واجبة أو ممتنعة بطل كونها ممكنة، وإن كانت ممكنة فلا تكون ذاتاً إلا آخر يجعلها ذاتاً، كما أنها لا تكون موجودة إلا بامر آخر يجعلها موجودة. بل قياس ما ذكروه أنه لا يثبت كونها ذاتاً إلا بسبب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 ولا ينتفى كونها ذاتاً إلا بسبب، وهذا يفضي إلى التسلسل، لأن القول فيما يوصف بكونه ذاتاً كالقول فيما يوصف بكونه موجوداً الوجه التاسع أنه إذا كانت تلك الحقيقة والذات مفتقرة في كونها حقيقة وذاتاً إلى سبب، فلا سبب إلا واجب الوجود، وواجب الوجود يمتنع ان يجعلها حقيقة مع كونها معدومة، فلا يجعلها ذاتاً وحقيقة إلا مع كونها موجودة 0 وحينئذ فإذا كان وجودها واجباً به فحقيقتها واجبة به، فلا تكون قابلة للعدم، كما أن نفس الوجود لا يكون قابلاً للعدم لما فيه من الجمع بين النقيضين الوجه العاشر أنه إذا قدر أن واجب الوجود لم يجعل حقيقتها 0 وهي لا تكون لها حقيقة إلا بسبب، لم يكن هناك حقيقة تقبل الوجود والعدم الوجه الحادي عشر قوله كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره الخ يقال نحن إذا التفتنا إلى السماء او غيرها من الموجودات من غير التفات إلى غيرها لم نعقل إلا تلك العين الموجودة، فإذا قدرنا انه لا يجب لها الوجود من نفسها لم تكن موجودة إلا بموجد يوجدها، فنحن نعقل ان الشيء إما موجود بنفسه وإما موجود بغيره وإذا قسم الوجود إلى موجود بنفسه وموجود بغيره وسمي هذا ممكناً، كان هذا تقسيماً صحيحاً، وهو كتقسيمه إلى مفعول وغير مفعول، ومخلوق وغير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 مخلوق. اما كون هذا الممكن له ذات وليس له من تلك الذات وجود ولا عدم، فهذا غير معقول في شيء من الموجودات، بل المعقول انه ليس في الممكن من نفسه وجود أصلاً ولا تحقق ولا ذات ولا شيء من الأشياء وإذا قلنا ليس له من ذاته وجود، فليس معناه أنه في الخارج له ذات ليس له منها وجود، بل معناه أنا نتصور ذاتاً في أنفسنا، ونتصور أن تلك الذات لا توجد في الخارج إلا بمبدع يبدعها، فالحقائق المتصورة في الأذهان لا توجد في الأعيان إلا بمبدع يبدعها في الخارج، لا أنه في الخارج لها ذات ثابتة في الخارج تقبل الوجود في الخارج والعدم في الخارج، فإن هذا باطل وإذا كان كذلك وعلمنا أن كل موجود فإما موجود بنفسه وهو الخالق، أو موجود بغيره وهو المصنوع المفعول، والمصنوع المفعول لا يكون إلا محدثاً مسبوقاً بالعدم، بل الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثاً مسبوقاً بالعدم عند عامة العقلاء، ولو قدر أنا لم نعرف هذا فتسمية ما وجوده بنفسه ووجود غيره منه خالقاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 وتسمية ما أبدعه غيره مخلوقاً، أحسن وأبين من تسمية هذا ممكناً، إذا الممكن لا يوصف به في العادة إلا المعدوم الذي يمكن أن يوجد وأن لا يوجد، وأما وجد فقد خرج عن افمكان إلى الوجوب بالغير فالمعروف في فطر الناس أن ما مضى وجود وعدم لا يسمونه ممكناً، وإنما يسمون بالممكن شيئاً يمكن وجوده في المستقبل وعدمه في المستقبل ثم إذا عرف أن كل ما سوى الوجود بنفسه فهو مفعول مصنوع له، علم أن المصنوع المفعول لا يكون إلا محدثاً، كما قد بسط في موضعه، وهذه الاعتراضات ليست اعتراضات على إثبات واجب الوجود، فإنه حق، لكن على هذا الطريق الذي سلكه حيث أثبت ذاتاً ممكنة، مع كونها عنده قديمة أزلية، ولا يحتاج إثبات واجب الوجود إلى هذا في هذه الطريق بل إذا قيل كل موجود فإما موجود بنفسه وإما موجود بغيره، والموجود بغيره لا يوجد إلا بالموجود بنفسه، ثبت وجود الموجود بنفسه، وإذا سمي هذا واجباً وهذا ممكناً، كان ذلك أمراً لفظياً 0 لكن المقصود أنه لا يثبت واجب الوجود بما يدعي أنه ذات تقبل الوجود والعدم، وهؤي مع ذلك قديمة أزلية واجبة، فالواجب لا يقبل العدم بحال، والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 وهذه الأمور التي ذكرناها في هذا الموضع عامة النفع ويحتاج إليها في هذا الموضع وغيره، لما في القلوب من الأمراض ولكن خرجنا إليها من الكلام على المسالك التي سلكها أبو عبد الله الرازي في حدوث العالم والأجسام ن وذكرنا كلام الآمدي على تلك المسالك، فحصل هذا في الكلام على المسلك الأول فصل تقرير الآمدي للمسلك الثاني وأما المسلك الثاني فمسلك افتقار الاختصاص إلى مخصص، فقرره الآمدي من وجهين الوجه الأول أحدهما ما ذكره الرازي ثم زيفه قال الآمدي المسلك الثاني هو أن أجزاء العالم مفتقرة إلى ما يخصصها بما لها من الصفات الجائزة لها، وكل ما كان كذلك فهو محدث، فالعالم محدث أما المقدمة الأولى فقد انتهج الأصحاب فيها طريقين الأول انهم قالوا كل جسم من أجسام العالم فهو متناه، وكل متناه فله شكل معين ومقدار معين وحيز معين أما المقدمة الأولى فلما سبق تقريره وأما المقدمة الثانية فلأن كل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 جسم متناه، فلا بد له من مقدار معين، وأن يحيط به حد واحد كالكري، أو حدود كالمضلع، وهو المعني بالشكل، وأن يكون في حيز بحيث يمكن أن يشار إليه بأنه ههنا أو هناك وهذا كله معلوم بالضرورة وكل ماله شكل ومقدار وحيز معين فلا بد له من مخصص يخصصه به وبرهانه أنه ما من جسم إلا ويعلم بالضرورة أنه يجوز أن يكون على مقدار أكبر أو أصغر مما هو عليه، أو شكل غير شكله، وحيز غير حيزه، إما متيامناً عنه أو متياسراً، وإذا كان كذلك فلا بد له من مخصص بما يخصص به، وإلا كان أحد الجائزين واقعاً من غير مخصص، وهو محال الطريق الثاني أن جواهر العالم إما أن تكون مجتمعة أو متفرقة، أو مجتمعة ومتفرقة معاً أو لا مجتمعة ولا متفرقة أو البعض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 مجتمعاً والبعض متفرقاً لا جائز أن يقال بالاجتماع والافتراق معاً، ولا أنها غير مجتمعة ولا مفترقة معاً، إذ هو ظاهر الإحالة فلم يبق إلا أحد الأقسام الأخر، وأي قسم منها قدر أمكن في العقل فرض الأجسام على خلافه، فيكون ذلك جائزاً لها ن ولا بد لها من مخصص يخصصها به لما تقدم في الطريق الأول وأما بيان المقدمة الثانية، وهو أن كل مفتقر إلى المخصص محدث فهو أن المخصص لا بد أن يكون فاعلاً مختاراً، وأن يكون ما يخصصه حادثاً، لما تقدم في المسلك الأول يعني مسلك الإمكان، فإنه قدمه، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ذكره فيه وإذا ثبت أن أجزاء العالم من الجواهر والأجسام لا تخلو عن الحادث فتكون حادثة، فإذا كانت أجزاء العالم من الجواهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 والأجسام حادثة فالأعراض كلها حادثة ضرورة عدم قيامها بغير الجواهر والأجسام، والعالم لا يخرج عن الجواهر والأعراض، فيكون حادثاً قال الآمدي وهذا المسلك ضعيف أيضاً إذ لقائل أن يقول المقدمة الأولى وإن كانت مسلمة غير أن المقدمة الثانية وهي أن كل مفتقر إلى المخصص محدث ممنوعة، وما ذكر في تقريرها باطل بما سبق من المسلك الأول وبتقدير تسليم حدوث ما أشير إليه من الصفات، فلا يلزم أن تكون الجواهر والأجسام حادثة، لجواز أن تكون هذه الصفات متعاقبة عليها إلى غير النهاية، إلا بالالتفات إلى ما سبق في بيان امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها تنتهي إليه تعليق ابن تيمية على كلام الآمدي قلت هذا المسلك أضعف من مسألة الحركة والسكون، فإن هذا يفتقر إلى ما يفتقر إليه ذاك من غير عكس، إذ كلاهما مفتقر إلى بيان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 امتناع حوادث متعاقبة، وقد عرف ما فيه. وهذا يزيد باحتياجه إلى بيان أن الجسم لا يخلو عن صفات حادثة غير الحركة والسكون، وهذا يخالف فيه جمهور العقلاء، وهذا مبني على مقدمات، على أنه لا بد من قدر أو اجتماع أو افتراق، وان ذلك لا يكون إلا بمخصص، وأن كل ما لا بد له من مخصص فهو محدث أما المقدمة الأولى فجمهور العقلاء سلموا أنه لا بد له من قدر، وأما كونه لا بد له من اجتماع وافتراق فهو مبني على مسألة الجوهر الفرد وأكثر العقلاء من طوائف المسلمين وغيرهم ينكرون الجوهر الفرد، حتى الطوائف الكبار من أهل الكلام، كالنجارية والضرارية والهشامية والكلابية وكثير من الكرامية مع أكثر الفلاسفة، وإن كان القول بتركيب الجسم من المادة والصورة، كما يقوله من يقوله من المتفلسفة أيضاً، أفسد من دعوى تركبه من الجواهر الفردة، فكلا القولين ضعيف ونحن في هذا المقام مقصودنا التنبيه على جوامع الطرق ومقاصدها وأما كون ما له قدر يفتقر إلى مخصص، فهذا فيه نزاع مشهور 0 وذلك أن القدر صفة من صفات ذي القدر، كألوانه وأكوانه وسائر ما يمكن أن يتصف به الجسم من الحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 وغير ذلك، فإن صفاته نوعان منها ما يختص بالأحياء مثل هذه الصفات، ومنها ما يشترك فيه الحي وغيره، كالألوان والقدر والطعم والريح فإذا قال القائل كل ذي قدر يمكن أن يكون قدرو على خلاف ما هو عليه، كان بمنزلة أن يقول كل موصوف يمكن أن يكون موصوفاً بخلاف صفته 0 فإذا عرضنا على عقولنا ما نعلمه من الموجودات التي لها أقدار وصفات، كان تحويزنا لكونها على خلاف أقدارها كتجويزنا لها أن تكون على خلاف صفاتها، بل القدر من الصفات ولهذا لما تكلم الفقهاء في مفهوم الصفة كقوله صلى الله عليه وسلم في الإبل السائمة الزكاة تكلم بعضهم في مفهوم القدر كقوله إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، فقال آخرون القدر من جملة الصفات ولهذا كان مما احتيج به من احتج به من أهل الكلام على الفلاسفة في مسألة حدوث العالم، أن العالم له صفات وأقدار يمكن أن يكون على خلافها، فهو مفتقر إلى مخصص، لأن العالم ممكن بالاتفاق والمخصص لا يكون موجباً بالذات وقد سلك هذا الطريق أبو المعالي في النظامية فسالكو هذه الطريقة ومنازعوهم لم يفرقوا بين القدر وسائر الصفات في إمكان القبول وعدمه، والقدر المعين أقرب إلى الذات المعينة من الصفات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 المطلقة، كما أن صفاته المخصوصة ألزم له من جنس القدر، فإن نفس الجسم التعليمي الذي يقدر في الذهن لا يمكن فرضه إلا وله قدر يمكن فرضه خالياً عن جميع الصفات، لنه فرض جسم شامل لجميع الأجسام ن فلهذا قدر مجرداً عن جميع الصفات، كما يفرض عدد مجرد عن جميع المعدودات وكذلك ما يتخيله الإنسان من الأجسام بعد رؤيته له، كتخيله الإنسان والفرس والشجر والدار والمدينة والجبل ونحو ذلك، يمكنه تخيله مع عدم تخيل شيء من صفاته كألوانه وغيرها، ولا يمكنه تخيله مع نفي قدره، فاختصاص جنس الجسم بجنس القدر كاختصاص جنس الموصوفات بجنس الصفات، واختصاص الجسم المعين بقدره كاختصاصه بصفته المعينة وحقيقته المخصوصة وكل شيء له حقيقة تخصه، وقدر، وصفات تقوم به 0فهنا ثلاثة أشياء المقدار، والحقيقة، وصفات الحقيقة فقول القائل كل ذي قدر يمكن أن يكون بخلاف ذلك القدر، كقوله كل موصوف يمكن وجوده على خلاف تلك الصفات وهو أقرب من قوله كل ماله حقيقة فيمكن وجوده على خلاف تلك الحقيقة ولكن في هذا المقام يكفي أن يجعل حكم المقدار حكم سائر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 الصفات، فلا ريب أن كيفية الموصوف وصفاته ألزم له من قدره، فكيفيته أحق به من كميته، فاختصاصه بقدر دون اختصاصه بصفة فالنار والماء والهواء يلزمها كيفياتها المخصوصة أعظم مما يلزمها المقدار المعين فيقال إن أمكن أن يقرر أن كل جسم يقبل من الصفات خلاف ما هو عليه، وما كان كذلك فهو ممكن أو محدث، كان هذا دليلاً عاماً لا يختص بالمقدر، وغن لم يمكن ذلك فلا فرق بين القدر وغيره وأحد الطرق التي ذكرها إبرازي وغيره في إثبات الصانع تعالى الاستدلال بإمكان صفات الجسم أو حدوثها، لم يفرق السالكون فيه بين القدر وغيره ثم لقائل أن يقول قول القائل كل ذي قدر يمكن أن يكون أكبر أو أصغر أو كل ذي وصف يمكن أن يكون بخلاف ذلك الوصف ونحو ذلك أتريد به الإمكان الذهني إن الخارجي؟ والفرق بينهما أن إمكان الذهني معناه عدم العلم بالامتناع ن فليس في ذهنه ما يمنع ذلك. والإمكان الخارجي معناه العلم بالإمكان في الخارج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 والإنسان يقدر في نفسه أشياء كثيرة يجوزها ولا يعلم أنها ممتنعة، ومع هذا فهي ممتنعة في الخارج لأمور أخر فإن قال أريد به الإمكان الذهني، لم ينفعه ذلك، لأن غايته عدم العلم بامتناع كون تلك الصفة واجبة له وإن قال أريد إمكان الخارجي وهو أني اعلم أن كل موصوف بصفة، أو كل ذي قدر يمكن أن يكون بخلاف ذلك، كان مجازفاً في هذا الكلام، لأن هذه قضية كلية تتناول من الأفراد ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وليس معه دليل يدل على إمكان ذلك في الخارج يتناول جميع هذه الأفراد 0 غايته انه رأى بعض الموصوفات والمقدرات يقبل خلاف ما هو عليه، فإذا قاس الغائب على الشاهد كان هذا من أفسد القياس لاختلاف الحقائق، ولأن هذا ينعكس عليه فيقال له لم نر إلا ماله صفة، فيقاس الغائب على الشاهد ويقال كل قائم بنفسه فله صفة وقدر، وهذا إلى المعقول أقرب من قياسهم، فإن هذا لا يعلم انتقاضه وأما قول القائل كل ماله صفة وقدر فيقبل خلاف ذلك، فلا يعلم اطراده، فأين القياس الذي لا يعلم افتقاده من القياس الذي لا يعلم اطراده؟ والناس متفقون على أنهم لم يروا موجوداً إلا له صفة وقدر وليسوا متفقين على أن كل ما رأوه يمكن وجوده على خلاف صفاته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 وقدره مع بقاء حقيقته التي هو بها هو، ولكن مع استحالة حقيقته فاستحالة قدره وصفاته أولى ثم إن ما نشاهد من السماوات غنما نعلم جواز كونها على خلاف هذه الصفات بأدلة منفصلة، لا نعلم ذلك ضرورة ولا حساً 0 ولهذا نازع في ذلك كثير من العقلاء الذين لا يجمعهم مذهب معين تلقاه بعضهم عن بعض 0 ولو كان هذا الجواز معلوماً بالضرورة لم ينازع فيه طوائف العقلاء الذين لم يتواطأوا على قول، فإن هؤلاء لا يتفقون على جحد الضروريات ثم يقال هذا بعينه معارض بالحقائق في نفسها وصفاتها اللازمة لها، فإنه يمكن أن يقال كل موجود له حقيقة تخصه يمتاز بها عن غيره، فاختصاص ذلك الموجود بتلك الحقيقة دون غيرها من الحقائق يفتقر إلى مخصص ويقال أيضاً كل موجود له صفات لازمة تخصه، فاختصاصه بتلك الصفات دون غيرها يفتقر إلى مخصص ومن المعلوم انه قد علم بضرورة العقل واتفاق العقلاء أنه لا بد من وجود واجب بنفسه قديم ن وموجود ممكن محدث ن فإنا نشاهد حدوث الحوادث، والحادث ممكن وإلا لما وجد، وليس بواجب بنفسه وإلا لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 يعدم، ويعلم بالضرورة أن طبيعة المحدث لا تكون إلا بقديم وطبيعة الممكن لا تكون إلا بواجب، كما قد بسط في غير هذا الموضع فإذا كانت الموجودات منقسمة إلى قديم ومحدث، وواجب وممكن، فمن المعلوم انهما يشتركان في مسمى الوجود والماهية، والذات والحقيقة، وغير ذلك، ويختص الواجب بما لا يشركه فيه غيره بل من المعلوم بالضرورة إن الواجب له حقيقة تخصه لا يشركه فيها غيره ن فإن كان كل مختص يفتقر مباين له، افتقرت حقيقة الواجب بنفسه إلى مخصص مباين له، فلا يكون في الموجودات قديم ولا واجب فيلزم حدوث الحوادث بلا محدث ووجود الممكنات بلا واجب وهذا كما أنه معلوم الفساد بالضرورة فلم يذهب إليه احد من العقلاء بل غاية الدهري المعطل الكافر أن يقول: العالم قديم واجب الوجود بنفسه، لا يقول: إنه ممكن محدث ليس له مبدع وإذا قال الدهري إن العالم واجب الوجود بنفسه لزمه أن الواجب بنفسه مختص عن غيره بصفات لا يشركه فيها غيره كالحوادث من الحيوان والنبات والمعدن. ففي الجملة كل عاقل مضطر إلى إثبات موجود واجب بنفسه له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 حقيقة يختص بها عما سواه من غير مخصص مباين له خصصه بتلك الحقيقة. ومن قال: إن واجب الوجود هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو لا بشرط. فيقال له: هذا القول وإن كان فساده معلوماً بالاضطرار كما بين في موضعه قول متناقض وهو مستلزم أنه مختص عن غيره بما يخصه. وذلك أن المطلق لا يوجد في الخارج مطلقاً، ولا يوجد إلا مقيداً بقيد من القيود. فإذا قيل: موجود واجب قيده بالوجوب فلم يبق مطلقاً. وإن قال: ليس بواجب قيده بسلب الوجوب فلم يكن مطلقاً. وإن ادعى وجود موجود لا واجب ولا غير واجب لزمه رفع النقيضين جميعاً، وهو أظهر الأمور الممتنعة في بديهة العقل. ثم إنه يقيده بكونه مبدأ لغيره وبكونه عاقلاً ومعقولاً وعقلاً وعاشقاً ومعشوقاً وعشقاً، وغير ذلك من الأمور المقيدة المخصصة التي يمتاز بها من غيره ولا يكون وجوداً مطلقاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 ثم إن قال هو مطلق لا بشرط لزمه ان يصدق حمله على كل موجود كما أن الحيوان المطلق لا بشرط يصدق عليه حمله على الإنسان والفرس وغيرهما من الحيوانات وهذا متفق عليه بين العقلاء فيلزم حينئذ أن يكون كل موجود واجب الوجود، إن كان واجب الوجود هو الوجود المطلق لا بشرط كما يقوله الصدر القونوي وامثاله من الملاحدة الباطنية باطنية الرافضة وباطنية الصوفية. ومعلوم أن هذا مكابرة للحس والعقل، وهو منتهى الإلحاد في الدين. وإن قال هو مطلق بشرط الإطلاق، كما يقوله طائفة من ملاحدة الطائفتين ممن يرفع عنه النقيضين فهم قد قرروا في منطقهم ان المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان ثم يلزمهم ان لا يصفوه بالوجوب، ولا بكونه علة، ولا عاقلاً ولا معقولاً، ولا عاشقاً ولا معشوقاً لأن هذه كلها تخرج الوجود عن أن يكون مطلقاً بشرط الإطلاق وتميزه عما ليس كذلك، والمطلق لا بشرط ليس فيه اختصاص ولا امتياز. وإن قالوا: مطلق بشرط سلب سائر الأمور التثبوتيه عنه وهو الموصوف بالسلوب والإضافات دون الإثبات كما يقوله ابن سينا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 وطائفة فهذا مع أنه باطل من وجوه كثيرة ليس هو مطلقاً بل موجود مقيد بقيود سلبية وإضافية وذلك نخصيص امتاز به عن سائر الموجودات على أي وجه قدر. ثم يقال كل ما أشار إليه العقل من الأمور فلا بد له من حقيقة تختص به تميزه عما سواه كيفما كان وكل ما هو موجود في الخارج فلا بد له من وجود يختص به يمتاز به عما سواه فإن كان كل ما اختص بأمر يخصه يجب أن يكون له مخصص من خارج امتنع ان يكون في الوجود موجود بنفسه وأن تكون حقيقة من الحقائق موجودة بنفسها وأن يكون ثم وجود واجب. ثم يلزم التناقض والدور الممتنع والتسلسل الممتنع فغنه إذا افتقر كل مختص إلى مباين يخصه فذاك الثاني إما أن يفتقر إلى مخصص وإما ان لا يفتقر فإن لم يفتقر انتقضت القضية الكلية وهو المطلوب. وإن افتقر إلى الأول لزم الدور القبلي، وإن افتقر إلى غيره لزم التسلسل في العلل، وكلاهما ممتنع باتفاق العقلاء. ولو قدر مقدر أنه يلزم الدور المعي، وهو أن يكون كل من المختصين موجوداً مع الآخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 فيقال فكل منهما مختص بأمر فهو متوقف على ما اختصت به نفسه وعلى ما اختص به الآخر فيلزم أن يكون هناك اختصاصات فالقول في ذلك الاختصاص كالقول في الأول. وبالجملة اختصاص الشيء بما هو عليه من خصائص كاختصاصه بنفسه ووجوده وصفاته كلها لازمها عارضها فقول القائل كل مختص لا بد له من مخصص مباين له كقوله كل موجود فلا بد له من موجد مباين له وكل حقيقة فلا بد لها من محقق مباين لها وكل قدئم بنفسه فلا بد له من مقوم مباين له وأمثال ذلك. فإنه ما من أمر من هذه الأمور إلا ويمكن الذهن أن يقدره على خلاف ما هو عليه ومجرد تقدير إمكان ذلك في الذهن لا يوجب إمكان ذلك في الخارج، ولكن طائفة من أهل الجدل الباطل والحكمة السوفسطائية يستدلون على إمكان الشيء في الخارج بإمكانه في الذهن كما يوجد مثل ذلك في كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة. والرازي والآمدي ونحوهما يستعملون ذلك كثيراً كاستدلال الرازي وغيره على إمكان وجود موجود لا مباين للعالم ولا مجانب بأن يقولوا القسمة العقلية تقتقضي أن كل موجود فاما مباين لغيره وإما مجانب له وإما لا مباين ولا مجانب أو كل موجود فإما داخل في غيره وإما خارج عنه وإما لا داخل ولا خارج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 ويجعلون مثل هذا التقسيم دليلاً على إمكان كل من الأقسام في الخارج وقد يسمون ذلك برهاناً عقياً وهو من أفسد الكلام، فإن هذا بمنزلة القائل: كل موجود فإما أن يكون قائماً بنفسه أو قائماً بغيره، وإما أن لا يكون قائماً بنفسه ولا بغيره فإن هذا لا يقتضى إمكان وجود موجود لا قائم بنفسه ولا بغيره، بل هذا ما يعلم امتناعه بالضرورة واتفق العقلاء على امتناعه. ومثله أن يقال كل موجود إما قديم أو محدث أو لا قديم ولا محدث ومثله كل موجود غما واجب أو ممكن أو لا هذا ولا هذا وكل موجود إما خالق أو مخلوق أو لا خالق ولا مخلوق ومثله إما عالم أو جاهل أو لا عالم ولا جاهل ومثله إما حي وميت أو لا حي ولا ميت. فهذه التقسيمات وأمثالها لا تدل على إمكان كل قسم منها ولا على وجوده في الخارج باتفاق العقلاء بل العقلاء متفقون على أن الموجود إما واجب وإما ممكن وإما قديم وإما محدث وإما قائم بنفسه وإما قائم بغيره. فأما تقسيم كل قائم بنفسه إلى الحي والميت والعالم والجاهل والقادر والعاجز فهو أيضاً صحيح عند جماهير العقلاء وهو قول المثبة لأسماء الله الحسنى وهو انه حي عالم قادر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 وإنما ينازع فيه النفاة من الجهمية والباطنية فلا يسمونه بشيء من الأسماء الحسنى التي سمى بها نفسه وسمته بها رسله حتى لا يقولون هو شيء ولا موجود لأن ذلك بزعمهم يستلزم التشبيه بغيره من الأشياء والموجودات. شبهة للملاحدة وللملاحدة الفلاسفة سؤال مشهور على قول القائل إما أن يكون حياً أو ميتاً، أو عالماً أو جاهلاً، وقادراً أو عاجزاً، وسميعاً بصيراً أو أعمى وأصم، فإن هذين متقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والايجاب والفرق بينهما أن الأول سلب الشيء عما من شأنه أن يكون متصفاً به، كسلب الحياة والسمع والبصر والعلم عن الحيوان، فإنه قابل لذلك، فإذا سلب عنه لزم أن يكون ميتاً أعمى أصم جاهلاً، وأما الجماد فإنه لا يقبل الاتصاف بذلك، فلا يقال فيه حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل، ولا سميع بصير، ولا أعمى أصم الجواب عنها من وجوه قلت وقد بسطنا الكلام على هذه الشبهة، وغن كان الآمدي وأمثاله عجزوا عن حلها بل اعترفوا بورودها، وبينا الجواب عن ذلك من وجوه الأول أن مالا يقبل الاتصاف بصفات الكمال أنقص مما يقبل الاتصاف بصفات الكمال، والحي الجاهل الأعمى الأصم لقبوله للعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 والسمع والبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل ذلك ن فإذا كان يمتنع كون الواجب يقبل صفات الكمال ولا يتصف بها، فلأن يمتنع كونه لا يقبلها بطريق الأولى والثاني أن كل صفة من صفات الكمال إذا لم تستلزم نقصاً فالواجب أولى بها من الممكن، واتصافه بها أولى من الممكن لأنه أكمل، ولأن كل كمال حصل للممكن فهو من الواجب، وهم يسلمون أن كل كمال حصل للمعلوم فهو من علته، فالمعلول أولى بذلك الثالث أن كل ما أمكن اتصاف الربسبحانه فهو واجب له، لامتناع توقف شيء من صفاته على غيره الرابع أن نفي هذه الصفات نقص، وإن لم يسم جهلاً وصماً وبكماً الخامس أن ما ذكروه من التفريق بين السلب والإيجاب، والعدم والملكة، بتسمية هذا ميتاً دون هذا، اصطلاح لهم لا يجب أتباعه والله قد سمى الجماد مواتاً في مثل قوله تعالى {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء} النحل 20-21 وفي قوله تعالى {وآية لهم الأرض الميتة} يس: 33 وأمثال ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 فإذا كان قد علم انه لا بد من موجود بنفسه مختص بخصائص لا يشركه فيها غيره، مباين له، توهماً باطلاً شيطانياً وهو من جنس ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما قال يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا فيقول الله فيقول من خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته وفي حديث آخر لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله كل شيء فمن خلق الله؟ وهذا لكون الوسواس الشيطاني الباطل لا يقف عند حد الموجود الواجب القديم الخالق وهذا المقام ضل فيه طوائف من الناس صاروا ينفون ما يجب إثباته لله تعالى من الصفات لعدم علمهم بما يوجب اختصاصه بذلك ثم إنهم يتناقضون، فالمعتزلة فرقوا بين كونه عالماً وقادراً، وكونه متكلماً مريداً بأن العلم عام التعلق، فإنه سبحانه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير والكلام خاص، فإنه يتكلم بشيء دون شيء فإنه لا يتكلم إلا بالصدق والإرادة خاصة، فإنه يريد شيئاً دون شيء، لا يريد إلا ما علم أن سيكون فقال لهم الناس هب أن الأمر كذلك، لكن ما الموجب للتكلم ببعض الكلام دون بعض، ولإرادة بعض الأمور دون بعض؟ فلا بد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 من سبب يوجب التخصيص، فلا بد حينئذ أن يكون هو المخصص. فقالوا القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مخصص فيقال لهم هذا مع بطلانه يوجب تناقضكم، فإنكم قلتم لا بد للتخصيص من مخصص، ثم قلتم كل الممكنات مخصصة ووجدت بدون مخصص، بل رجح المرجح أحد المتاثلين على الآخر من غير مخصص، وإذا جوزتم في الممكنات وجود المخصصات بدون مخصص، مع أن نسبة القادر واحدة، فالموجود بنفسه أولى أن يستغني عن مخصص مما اختص به من ذاته وصفاته، وذلك أنه من المعلوم أن وجود ذاته وصفاته أولى من وجود مفعولاته، وإذا جوزتم أن يكون مخصصاً لمفعولاته المختصة بحقيقة وقدر وصفة بلا مخصص أصلاً، فتجويزكم أن تكون ذاته المختصة الواجبة بنفسها لا تفتقر إلى مخصص بطريق الأولى وهذا لا ينعكس، فإنه إذا قيل إن أفعاله تفتقر إلى مخصص، لم يلزم أن تكون ذاته مفتقرة إلى مخصص، فإن ذاته واجبة الوجود بنفسها، فهي لا تفتقر إلى سبب أصلاً، بخلاف مفعولاته فإنها مفتقرة إلى سبب، وما افتقر إلى فاعل جاز أن يقال هو مفتقر إلى مخصص، بخلاف ما لا يفتقر إلى فاعل، فإنه لا يجب أن يفتقر إلى مخصص فإذا قيل ما افتقر إلى سبب أو ما افتقر إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 فاعل، أو ما افتقر إلى علم افتقر إلى مخصص، وما لم يفتقر إلى شيء من ذلك لم يفتقر، كان هذا كاملاً معقولاً بخلاف ما إذا قيل المفتقر إلى الفاعل لا يفتقر إلى نخصص، والغني عن الفاعل يفتقر إلى مخصص، فإن هذا قلب للحقيقة، كما قالته المعتزلة الجهمية القدرية من نفي افتقار الأفعال إلى مخصص، وإثبات افتقار الذات إلى مخصص قلب للحقائق وأفسد منه قول الفلاسفة الذين يثبتون مفعولات مختلفة مع حدوث كثير منها ويقولون إن مخصصها مجرد وجود بسيط، ثم يصفونه بصفات تفيد اختصاصه بما يتميز به عن سائر الموجودات، ويقولون مع ذلك الاختصاص لا بد له من مخصص مباين له ثم العلم فيه من العموم ما ليس في القدرة، وفي القدرة من العموم ما ليس في الإدارة والمتفلسفة نفوا الاختصاص حتى أثبتوا وجوداً مطلقاً مجرداً، ثم أثبتوا له من اللوازم ما يوجب الاختصاص، مثل كونه وجوداً واجباً، وذلك يميزه عن الوجود الممكن، وجعلوه عاقلاً ومعقولاً وعقلاً، وعاشقاً ومعشوقاً وعشقاً، وملتذاً به وأنواع ذلك مما يوجب اختصاصه بهذه الأمور عمن ليس هو موصوفاً بها من الجمادات وقالوا صدر عنه العالم المختص بما له من الصفات والأقدار من غير موجب للتخصيص فهل في الوجود أعظم من هذا التناقض؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 وهو أن يكون وجود مطلق لا اختصاص فيه يوجب كل اختصاص في الوجود من غير سبب يوجب التخصيص؟ وهؤلاء ينكرون على من أثبت من أهل الكلام الحوادث بلا سبب حادث، ثم يثبتون الحوادث بلا محدث، ويثبتون التخصيصات في الموجودات بلا مخصص أصلاً، وهو شبيه بقول من يجعل الممكن الذي ليس له من نفسه وجود يوجد بلا واجب بنفسه ومن وافق هؤلاء من الكلابية في بعض الأمور يثبت صفات معدودة يختص بها ن ويجعل لها خصائص، ثم يطلب المخصص لغير تلك الصفات 0 ولهذا كان منتهى من سلك هذه السبيل إلى أن يثبت وجوداً، ثم مطلقاً، ثم يتناقض أعظم من تناقض غيره، وذلك لن كل موجود فمختص بما هو من خصائصه، سواء عن غيره طلب ما هو ممتنع لذاته فمن وصف الواجب بذلك فقد وصفه بصفة الممتنع لذاته ن وهذا نهاية هؤلاء، وهو الجمع بين النقيضين ثم يقول من يقول من متصوفتهم انه يجوز الجمع بين النقيضين، وأنه يثبت في الكشف ما يناقض صريح العقل كلام الشهر ستاني في نهاية الإقدام والشهر ستاني لما اعتمد في مناظرته للقائلين بالعلو والمباينة والصفات الفعلية ونحو هؤلاء على هذه الطريقة أورد على نفسه من اللوازم ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 اعترف معه بالحيرة، فلما احتج بأن الاختصاص بالقدر يقتضي مخصصاً، والاختصاص بالجهة يقتضي مخصصاً، قال فإن قيل بم تنكرون على من يقول القدر الذي اختص به نهاية وحداً واجب له لذاته فلا يحتاج إلى مخصص، بخلاف مقادير الخلق فإنها احتاجت إلى ذلك لأنها جائزة، وذلك لأن الجواز في الجائزات إنما يعرف بتقدير القدرة عليها، فلما كانت المقادير المخلوقة مقدورة عرف جوازها، واحتاج الجواز إلى مرجح، فإذا لم يكن فوق الباري تعالى قادر يقدر عليه لم يمكن إضافة الجواز إليه وإثبات الاحتجاج له، ألسنا اتفقنا على أن الصفات ثمان، أفهى واجبة له على هذا العدد، أم جائز أن توجد صفة اخرى؟ فإن قلتم يجب الانحصار في هذا العدد كذلك، نقول الاختصاص بالحد المذكور واجب له، إذ لا فرق بين مقدار في الصفات عداً ومقدار في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 الذات حداً وإن قلتم جائز أن توجد صفة أخرى فما الموجب للانحصار في هذا العدد والحد فيحتاج إلى مخصص حاصر؟ ثم قال قلنا المقادير من حيث إنها مقادير طولاً وعرضاً وعمقاً لا تختلف شهداً ولا غائباً في تطرق الجواز العقلي إليها واستدعاء مخصص فيقال له هذا الذي قلته هو أول المسألة، فإن المقادير من حيث هي هي لا وجود لها في الخارج، كما ان الصفات والذوات من حيث هي هي لا وجود لها في الخارج، وإنما يوجد في الخارج ذات مخصوصة بصفاتها المخصوصة، فالقول فيما اختصت به من المقدار كالقول فيما اختصت به من سائر الصفات به من الحقيقة الموصوفة بتلك الصفات ثم قال وأما الصفات وانحصارها في ثمان، فقد اختلف جواب الأصحاب عنه بوجوه منها أنهم منعوا إطلاق لفظ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 العدد عليها فضلاً عن الثمانية وقالوا قد دل الفعل بوقوعه على كون الفاعل قادراً، وباختصاصه ببعض الجائزات على كونه مريداً، وبأحكامه على كونه عالما وعلم بالضرورة أن القضايا مختلفة وورد في الشرع إطلاق العلم والقدرة والإرادة ولا مدلول سوى ما دل الفعل عليه أو ورد في الشرع إطلاقه ولهذا اقتصرنا على ذلك فلو سئل هل يجوز أن يكون له صفة أخرى اختلف الجواب عته فقيل لا يتطرق إليه الجواز فإنا لم نثبت الصفات إلا بدليل الفعل والفعل ما دل إلا على تلك وقيل يجوز عقلاً إلا أن الشرع لم يرد به فنتوقف في ذلك ولا يضر في ذلك الاعتقاد إذا لم يرد به تكليف قال ومنها أنهم فرقوا في الشاهد بين الصفات الذاتية التي تلتئم منها حقيقة الشيء وبين المقادير العرضية التي لا مدخل لها في تحقيق حقيقة الشيء فإن الصفات الذاتية لا تثبت للشيء مضافة إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 الفاعل بل هي له من غير سبب، والمقادير العرضية تثبت للشيء مضافة إلى الفاعل. فإن جعلها له بسبب ومنها أنه ولو قدر صفة زائدة على الثمان لم يخل إما أن تكون صفة مدح وكمال، او صفة ذم ونقصان، فإن كان صفة كمال فعدمها في الحال نقص، وإن كان صفة نقص فعدمها واجب، وإذا بطل القسمان تعين أنه لا يتصف بزيادة على الثمانية قال ويترتب على ما ذكرناه هل يجوز أن يكون للباري تعالى أخص وصف لا ندركه؟ وفرق بين هذا السؤال الأول، فإن السائل الأول سأل هل يجوز أن تزيد صفاته على الصفات الثمانية؟ والسائل الثاني سأل هل له أخص وصف تميز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 به عن المخلوقات؟ واختلف جواب الأصحاب عنه أيضاً فقال بعضهم ليس له أخص وصف ولا يجوز أن يكون، لأنه بذاته وصفاته تميز عن ذوات المخلوقات وصفاتها من حيث أن ذاته لا حد لها زماناً ومكاناً ولا تقبل الانقسام فعلاً ووهماً بخلاف ذوات المخلوقات لا حد لها زماناً ومكاناً ولا تقبل الانقسام فعلاً ووهماً بخلاف ذوات المخلوقات وصفاته غير متناهية في التعلق بالمتعلقات ولو كان الغرض أن يتحقق أخص وصف به يقع التميز فقد وقع التميز بما ذكرناه ن فلا أخص سوى ما عرفناه. وقال بعضهم لا بل له أخص وصف في الإلهة لا ندركه وذلك أن كل شيئين لهما حقيقتان معقولتان فإنهما يتمايزان بأخص وصفيهما وجميع ما ذكرنا من ان لا حد ولا نهاية لا انقسام للذات ولا تناهي للتعلق في الصفات كل ذلك أسلوب وصفات نفي وبالنفي لا يتميز الشيء عن الشيء بل لا بد من صفة إثبات بها يقع التميز وإلا فترتفع الحقيقة رأساً ثم إذا ثبت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 أخص الوصف فهل يجوز أن يدرك قال إمام الحرمين لا يجوز أن يدرك أصلاً وقال بعضهم يجوز أن يدرك وقال ضرار بن عمرو يدرك ذلك عند الرؤية بحاسة سادسة ونفس المسألة من محارات العقول وتصور الأخص من محارات العقول تعليق ابن تيمية على كلام الشهرستاني فيقال: هذا وما أشبه هو الذي يقال في هذا المقام من جهة من يفرق بين بعض الصفات وبعض كما يفرق بين الصفة والقدر، ومن تدبره علم أنه لا يمكن الفرق. وذلك من وجوه: الوجه الأول أن ما ذكره ليس فيه جواب فيه جواب عن الإلزام والمعارضة فإنهم عارضوه بإثبات صفات متعددة سواء كانت ثمانياً أو أكثر أو أقل، فغن اختصاص الصفات بعدد من الأعداد كاختصاص الذات بقدر من الأقدار، وإذا كان المسمي لا يسمي ذلك عدداً فمنازعه لا يسمي الآخر قدراً، وليس الكلام في الإطلاقات اللفظية بل في المعاني العقلية، وما زاد على ذلك سواء نفي ثبوته او نفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 العلم به لا يضر، فغن السؤال قائم إلا أن يثبت المثبت صفات لا نهاية لعددها وهذا ينقض قاعدة من يقول: غنه لا يوجد ما لا نهاية له وإلا فإذا أثبت الصفات متناهية كانت المعارضة متوجهة سواء عرف عددها أو لم يعرف وتفريق من فرق بين الصفات الذاتية والعرضية بأن هذه تفتقر إلى فاعل دون الأخرى لا يصح، لأن هذا إنما يجيء على قول من يقول: الماهيات غير مفعولة ولا مجعولة، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة ونحوهم وإلا فأهل السنة ومتكلموهم متفقون على أن حقائق جميع المخلوقات مخلوقة مصنوعة بل ليس لها حقيقة في الخارج إلا ما هو موجود في الخارج وما سوى ذلك فإنما هو الصورة العلمية، وما في الأذهان من ذلك فالله تعالى هو الذي جعله فيها والله سبحانه هو الذي خلق فسوى وهو الذي قدر فهدى، وهو الذي خلق، خلق الإنسان من علق، وهو الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم وهو الذي خلق الإنسان علمه البيان. فقوله: الصفات الذاتية لا تثبت للشيء مضافة إلى الفاعل قول باطل بل صفة كل موصوف مخلوق مضافة إلى الله تعالى فإنه خلق كل موصوف بصفاته وليس في المخلوق شيء لا من ذاته ولا من صفاته إلا والله تعالى خلقه وأبدعه. وأيضاً فكل صفة لازمة لموصوفها لا يكون الموصوف إلا بها فإن كان مفتقراً إلى الفاعل فالفاعل فعله بصفاته وإن كان غنياً عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 الفاعل استغنى بصفاته عن الفاعل وتسمية أهل المنطق لبعضها ذاتياً ولبعضها عرضياً لا يمنع اشتراكها في هذا الحكم. وقول القائل لو قدر صفة زائدة على الثمان لكان صفة كمال أو نقص إنما يفيده نفي ما زاد على الثمان وهذا لا يضر المعارض بل يقوي معارضته فإن تخصيص الصفات بإثبات ثمان دون ما زاد ونقص تخصيص بقدر وعدد فغن كان كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين للموصوف فالسؤال قائم فإن قال القائل هذه الصفات على هذا الوجه من لوازم الذات لا تفتقر إلى موجب غير الذات قيل له: فهكذا مورد النزاع وبطل ما ذكرته من أن اختصاص كل موصوف بصفات ومقدار يفتقر إلى مخصص منفصل عنه. الوجه الثاني أن ما ذكره من الكلام في أخص وصف هو أيضاً لازم لهم، كما أن ما ذكره في الصفات هو أيضاً لازم لهم، فإن هذا معارضة باختصاص الحقيقة في نفسها وذلك معارضة باختصاصها ببعض الصفات دون بعض وبعدد من الصفات دون ما زاد. وسواء قيل بإثبات أخص وصف أو لم يقل فإنه لا بد من ذات متميزة بنفسها عما سواها. الوجه الثالث أن يقال: أهل الإثبات للصفات لهم فيما زاد على الثمانية ثلاثة أقوال معروفة: أحدها: إثبات صفات أخرى كالرضى والغضب والوجه واليدين والاستواء، وهذا قول ابن كلاب والحارث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 المحاسبي وأبي العباس القلانسي والأشعري وقدماء أصحابه كأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن بن مهدي الطبري والقاضي أبي بكر بن الطيب وأمثالهم ن وهو قول أبي بكر بن فورك وقد حكي إجماع أصحابه على إثبات الصفات الخبرية كالوجه واليد وهو قول أبي القاسم القشيري وأبي بكر البيهقي، كما هو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل والشريف أبي علي وابن الزغوني وأبي الحسن التميمي وأهل بيته كابنه أبي الفضل ورزق الله وغيرهم، كما هو قول سائر المنتسبين إلى أهل السشنة والحديث وليس للأشعري نفسه فيإثبات صفة الوجه واليد والاستواء وتأويل نصوصها قولان، بل لم يختلف قوله أنه يثبتها ولا يقف فيها، بل يبطل تأويلات من ينفيها ولكن أبو المعالي وأتباعه ينفونها، ثم لهم في التأويل والتفويض قولان فأول قولي أبي المعالي التأويل كما ذكره في الإرشاد وآخرهما التفويض كما ذكره في الرسالة النظامية وذكر إجماع السلف على المنع من التأويل وأنه محرم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 وأما أبو الحسن وقدماء أصحابه فهم من المثبتين لها. وقد عد القاضي أبو بكر في التمهيد والإبانة له الصفات القديمة خمس عشرة صفة ويسمون هذه الصفات الزائدة على الثمانية الصفات الخبرية وكذلك غيرهم من أهل العلم والسنة مثل محمد بن جرير الطبري وأمثاله وهو قول أهل السنة والحديث من السلف وأتباعهم وهو قول الكرامية والسالمية وغيرهم. وهذا القول هو القول المعروف عند متكلمة الصفاتية لم يكن يظهر بينهم غيره حتى جاء من وافق المعتزلة على نفيها، وفارق طريقة هؤلاء وأصل هؤلاء أنهم يثبتون الصفات السمع والعقل بخلاف من اقتصر على الثمانية فإنه لم يثبت صفة إلا بالعقل. وقد أثبت طائفة منهم بعضها بالعقل كما أثبت أبو أسحق الإسفراييني صفة اليد بالعقل وكما يثبت كثير من المحققبن صفة الحب والبغض والرضى والغضب بالعقل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 القول الثاني: قول من ينفي هذه الصفات كما ذكره الشهرستاني وغيره، وهو أضعف الأقوال، فإن عندته أنه لو كان لله صفة غير لوجب أن ينصب عليها دليلاً نعلمه ولم ينصب فلا صفة له وكلتا المقدمتين باطلة فإن دعوى المدعي أنه لا بد أن ينصب الله تعالى على كل صفة من صفاته دليلاً باطل، ودعواه أنه لم ينصب دليلاً إلا نعلمه هو أيضاً باطل كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع فإن هذه القاعدة إنما هي معدة لجمل المقاصد. والثالث قول الوافقة الذين يجوزون إثبات صفات زائدة لكن يقولون لم يقم عندنا دليل على نفي ذلك ولا إثباته وهذه طريقة محققي من لم يثبت الصفات الخبرية وهذا أختيار الرازي والأمدي وغيرهما. وأئمة أهل السنة والحديث من اصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم يثبتون الصفات الخبرية لكن منهم من يقول لا نثبت إلا ما في القرآن والسنة المتواترة وما لم يقم دليل قاطع على إثباته نفيناه كما يقوله ابن عقيل وغيره أحياناً ومنهم من يقول بل نثبتها بأخبار الآحاد المتلقاة بالقبول ومنهم من يقول نثبتها بالأخبار الصحيحة مطلقاً ومنهم من يقول يعطى كل دليل حقه فما كان قاطعاً في الإثبات قطعنا بموجبه وما كان راجحاً لا قاطعاً قلنا بموجبه فلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 نقطع في النفي والإثبات إلا بدليل يوجب القطع وإذا قام دليل يرجح لأحد الجانبين بينا رجحان أحد الجانبين وهذا أصح الطرق. وكثير من الناس قد يظن صحة أحاديث فإما أن يتأولها أو يقول هي مثل غيرها من الأخبار وتكون باطلة عند أئمة الحديث. ومن الأخبار ما يكون ظاهرة يبين المراد به لا يحتاج إلى دليل يصرفه عن ظاهرة ولكن يظن قوم أنه مما يفتقر إلى تأويل كقوله الحجر السود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه. فهذا الخبر لو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ظاهرة ان الحجر صفة لله بل صريح في أنه ليس صفة لله لقوله يمين الله في الأرض فقيده في الأرض ولقوله فمن صافحه فكأنما صافح الله والمشبه ليس هو المشبه به وإذا كان صريحاً في أنه ليس صفة لله لم يحتج إلى تأويل يخالف ظاهرة ونظائر هذا كثيرة مما يكون في الاية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 والحديث ما يبين أنه لم يرد به المعنى الباطل فلا يحتاج نفي ذلك إلى دليل منفصل ولا تأويل يخرج اللفظ عن موجبه ومقتضاه. وإذا كان كذلك فالمعارضة بالصفات ثابتة على كل قول من الأقوال الثلاثة إذ لا بد فيها من اختصاص فإن كان كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين لزم افتقار صفات الله تعالى إلى مباين له. ثم رأيت أبا الحسن الآمدي قد ذكر هذا الدليل الذي ذكره الشهرستاني وبين ضعفه في كتابه المسمى بغاية المرام في علم الكلام فقال في مسألة نفي العلو وتوابع ذلك وقد سلك بعض الأصحاب في الرد على هؤلاء طريقاً شاملاً فقال لو كان الباري مقدراً بقدر متصوراً بصورة متناهياً بحد ونهاية مختصاً بجهة متغيراً بصفة حادثة في ذاته لكان محدثاً إذ العقل الصريح يقضي بأن المقادير في تجويز العقل متساوية فما من مقدار وشكل يقدر في العقل إلا ويجوز أن يكون مخصوصاً بغيره فاختصاصه بما اختص به من مقدار أو شكل أو غيره يستدعي مخصصا ولو استدعى مخصصاً لكان الباري محدثاً. قال الآمدي لكن هذا المسلك مما لا يقوى وذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 انه سلم ما يفرض من المقادير والجهات وغيرها ممكنة في أنفسها وأن ما وقع منها لا بد له من مخصص لكن إنما يلزم أن يكون الباري حادثاً ان لو كان المخصص خارجاً عن ذاته ونفسه. ولعل صاحب هذا القول لا يقول به، وعند ذلك فلا يلزم أن يكون الباري تعالى حادثاً ولا محوجا إلى غيره أصلاً فإن قيل: إن ما اقتضاه بذاته ليس هو أولى من غيره لتساوي الجميع بالنسبة إليه في جهة الاقتضاء فهو نحو الخلاف ولعل الخصم قد لا يسلم تساوي النسبة في جهة الاقتضاء إلا ان يقدر أنه لا اختلاف بين هذه الممكنات ولا محالة أن بيان ذلك متعذر جداً كيف وأنه يحتمل أن ينتهج الخصم في تخصيص هذه الصفات الثابتة للذات منهج أهل الحق في تخصيص سائر الممكنات وبه درء الإلزام. ثم استدل على هذه المسألة بما هو أضعف من هذا وهو أن البناء على ذلك مستلزم لكونه جوهراً والجواهر متماثلة وقد عرف ما في هذين الأصلين من المنازعات اللفظية والمعنوية في غير هذا الموضع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 والآمدي نفسه قد بين بطلان قول من جعل الجواهر متماثلة. ومما ينبغي أن يعرف في مثل هذه المسائل المنازعات اللفظية فإن القائل إذا قال التخصيص يفتقر إلى مخصص والتقدير إلى مقدر كان بمنزلة من يقول: التحريك يفتقر إلى محرك وأمثال ذلك وهذا لا ريب فيه فإن التخصيص مصدر خصص يخصص تخصيصاً وكذلك التقدير والتكلم ونحو ذلك ومصدر الفعل المتعدي لا بد له من فاعل يتعدى فعله فإذا قدر مصدر متعد بلا فاعل يتعدي فعله كان متناقضاً بخلاف ما إذاقيل: الاختصاص يفتقر إلى مخصص والمقدار إلى مقدر ونحو ذلك فإن هذا ليس في الكلام ما يدل عليه لأن المذكور إما مصدر فعل لازم كالاختصاص ونحوه، أو اسم ليس بمصدر كالمقدار وكل من هذين ليس في الكلام ما يوجب افتقاره إلى فاعل يتعداه فعله. فإذا قيل الموصوف الذي له صفة وقدر قد اختص بصفة وقدر فلا بد له من مخصص لم يكن في هذا الكلام ما يدل على افتقاره إلى مخصص مباين له يخصصه بذلك بخلاف ما إذا قيل إذا خص بصفة أو قدر فلا بد له من مخصص فإن هذا كلام صحيح. والناطقون من أهل النظر وغيرهم إذا قصدوا المعاني فقد لا يراعون مثل هذا، بل يطلقون اسم المفعول على ما لم يعلم أن له فاعلاً فيقول أحدهم هذا مخصوص بهذه الصفة والقدر والمخصوص لا بد له من مخصص فإذا أخذ المخصوص على أنه اسم مفعول فمعلوم أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 لا بد له من فاعل يتعدى فعله وإذا أخذ على أن المقصود اختصاصه بذلك الوصف مان هذا مما يفتقر إلى دليل وهذا مثل الموجود فإنه لا يقصد به أن غيره أوجده بل يقصد به المحقق الذي هو بحيث يوجد، فكثير من الأفعال التي بنيت للمعفول واسم المفعول التابع لها قد كثر ف يالاستعمال حتى بقي لا يقصد به قصد فعل حادث له فاعل أصلاً بل يقصد إثبات ذلك الوصف من حيث الجملة. وكثير من ألفاظ النظار من هذا الباب كلفظ الموجود والمخصوص والمؤلف والمركب والمحقق فإذا قالوا: إن الرب تعالى المخصوص بخصائص لا يشركه فيها غيره أو هو موجود، لم يريدوا أن أحداً غيره خصه بتلك الخصائص ولا أن غيره جعله موجوداً. وبسبب ذلك تجد جماعات غلطوا في هذا الموضع في مثل هذه المسألة إذا قيل الباري تعالى مخصوص بكذا وكذا او مختص بكذا وكذا قالوا فالمخصوص لا بد له ممن خصه بذلك والمخصص لا بد له من مخصص خصصه بذلك. والناس قد يبحثون عن اختصاص الشيء بأمور قبل بحثهم هل هي من نفسه او من غيره ويعلمون ويقولون إنه مخصوص بذلك وقد خص بهذا واختص به ونحو ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 ونظير ذلك ما ذكره أبو حامد في تهافت الفلاسفة لما رد عليهم مذهبهم ف ينفي الصفات وبين أنه لا دليل هم على نفيها وتكلم في ذلك بكلام حسن بين فيه ما احتجوابه من الألفاظ المجملة المبهمة كلفظ التركيب فإنهم جعلوا إثبات الصفات تركيباً وقالوا متى أثبتنا معنى يزيد على مطلق الوجود كان تركيباً وادخلوا في مسمى التركيب خمسة أنواع. أحدها: أنه ليس له حقيقة إلا الوجود المطلق لئلا يكون مركباً من وجود وماهية. والثاني: ليس له صفة لئلا يكون مركباً من ذات وصفات. والثالث: ليس له وصف مختص ومشترك لئلا يكون مركباً مما به الاشتراك وما به الامتياز لتركب النوع من الجنس والفصل أو من الخاصة والعرض العام. الرابع: أنه ليس فوق العالم لئلا يكون مركباً من الجواهر المفردة وكذلك لا يكون مركباً من المادة والصورة فلا يكون مركباً تركيباً حسياً كتركيب الجسم من الجواهر المنفردة ولا عقلياً كتركبه من المادة والصورة. وهذان نوعان بهما يصير خمسة وهذه الطريقة هي طريقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 ابن سينا فإنه زعم أن نفس الوجود إذا كان يستلزم وجوداً واجباً فالوجود الواجب له هذه الخصائص النافية لهذه الصفات ويقول ليس له أجزاء حد ولا أجزاء كم وهذا مراده. كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة وأما قدماء الفلاسفة فلم يكونوا يثبتون واجب الوجود بهذه الطريقة، بل بطريقة الحركة فلما جاء ابن رشد الحفيد يعترض على أبي حامد فيما ذكره لم يمكنه الانتصار لابن سينا بل بين أن هذه الطريقة التي سلكها ضعيفة كما ذكر أبو حامد واحتج هو بطريقة أخرى ظن أنها قوية وهي أضعف من طريقة ابن سينا فإن أبا حامد لما ذكر القول المضاف إلى الفلاسفة كابن سينا وأمثاله، وذكر أنهم ينفون تلك الأنواع الخمسة، قال ومع هذا فإنهم يقولون للباري تعالى غنه مبدأ وأول وموجود وجوهر واحد، وقديم وباق وعالم وعاقل وعقل ومعقول وفاعل وخالق ومريد وقادر وحي وعاشق ومعشوق ولذيذ وملتذ وجواد وخير محض وزعموا ان كل ذلك عبارة عن معنى واحد لا كثرة فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 قال وهذا من العجائب وهم يقولون ذات المبدأ الأول واحد وإنما تكثر الأسماء بإضافة إلى شيء أو إضافة شيء إليه أو سلب شيء عنه والسلب والإضافة لا يوجب كثرة في ذات المسلوب عنه ولكن الشان في رد هذه كلها إلى السلوب والإضافات وذكر تمام قولهم. قال أبو حامد فيقال لهم بم عرفتم استحالة الكثرة من هذا الوجه وانتم مخالفون من جميع المسلمين سوى المعتزلة فما البرهان عليه؟ فإن القائل الكثرة محال في واجب الوجود مع كون الصفات الموصوفة واحدة يرجع إلى أنه يستحيل كثرة الصفات فيه وفيه النزاع وليس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 استحالة معلوماً بالضرورة. ولهم مسلكان أحدهما أن كل واحد من الصفة والموصوف: إن كان مستغنياً عن الآخر فهما واجبا الوجود وإن كان مفتقراً إليه فلا يكون واحد منهما واجب الوجود، وإن احتاج أحدهما إلى الآخر فهو معلول والآخر هو الواجب، وأيهما كان معلولا افتقر إلى سبب فيؤدي إلى أن ترتبط ذات واجب الوجود بسبب. قال أبو حامد: المختار من هذه الأقسام هو الأخير ولكن إبطالكم القسم الأول لا دليل لكم عليه فإن برهانكم عليه إنما يتم بنفي الكثرة من هذه المسألة فكيف تنبني هذه المسألة على تلك؟ تعليق ابن تيمية قلت الجواب عن هذه الحجة يمكن بوجوه: الوجه الأول أن يقال: قولكم: إما أن يقال: قولكم: إما أن يكون أحدهما محتاجاً إلى الآخر، وإما أن يكون مستغنياً عنه: تريدون بالاحتياج حاجة المفعول إلى فاعله أو مطلق التلازم وهو كون أحدهما لا يوجد إلا بالآخر أم قسم ثالث؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 فإن أردتم الأول، لم يكن أحدهما محتاجاً إلى الآخر بل غنياً عن كونه فاعلاً له ولا يلزم أن يكونا واجبي الوجود بمعنى أن كلا منهما هو الواجب بنفسه المبدع للممكنات. وإن قيل: إن كلا منهما واجب الوجود بمعنى أنه لا مبدع له. قيل: نعم، ولا نسلم امتناع تعدد مسمى واجب الوجود بهذا التفسير، وإنما يمتنع تعدده بالتفسير الأول فإن الأدلة قامت على أن خالق الممكنات رب واحد لم تقم على نفي صفاته، بل كل من صفاته اللازمة له قديم أزلي، ممتنع عدمه، ليس له فاعل، فإذا عبر عن هذا المعنى بأنه واجب الوجود فهو حق، وإن عني بواجب الوجود ما ليس ملازماً لغيره فليست الذات وحدها واجبة الوجود ولا الصفات بل الواجب الوجود هو الذات المتصفة بصفاتها اللازمة لها، لا سيما وهم يقولون إنها مستلزمة للمعلول، فامتناع ذلك على أصلهم أبلغ، وقد عرف أن كلا من الصفات الذاتية ملازمة للأخرى والصفات ملازمة للذات وليس كل منهما مبدعاً للآخر. وإن قلتم: كل منهما محتاج إلى الآخر بمعنى انه ملازم له لم يلزم من كونه ملازماً أن يكون معلولاً. الوجه الثاني وهذا الجواب الثاني وهو أن يقال: ما تعني بواجب الوجود؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 أتعني به مالا فاعل له، أو تعني به القائم بنفسه الذي لا فاعل له؟ فإن عنيت الأول لم يمتنع أن يكون كل الصفات والذات واجب الوجود بهذا التفسير ولم يدل على امتنع تعدد الواجب بهذا التفسير دليل، كما لم يدل على امتناع تعدد القديم بهذا التفسير دليل، وإنما دل الدليل على أنه لا إله إلا الله وأن الله رب العالمين واحد لا شريك له، وهو التوحيد الذي دل عليه الشرع والعقل. فأما نفي الصفات وتسمية ذلك توحيداً فهو مخالف للشرع والعقل. وإن أراد بواجب الوجود: القائم بنفسه الذي لا فاعل له كانت الذات واجبة الوجود، وهي بالصفة واجبة الوجود ولم تكن الصفة وحدها واجبة الوجود. وإن أريد بحاجة كل من الصفة والموصوف إلى الآخر التلازم، أختير إثبات ذلك، ولم يلزم من ذلك كون أحدهما معلول الآخر، فإن المتضايفين متلازمين وليس أحدهما معلول الآخر وإن أريد بذلك كون أحدهما فاعلاً اختير نفي الحاجة بهذا التفسير وهو القسم الأول، وهو انه ليس أحدهما محتاجاً إلى الآخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 وإن أريد أن أحدهما محل للآخر، أختير جواب الغزالي وهو ان الصفة محتاجة إلى الذات من غير عكس. وعلى هذا فقول القائل: إن أحدهما معلول للآخر إن أراد به أحدهما فاعل للآخر فهو باطل فإنه لا يجب من قيام الصفة بالموصوف أن يكون الموصوف فاعلاً للصفة بل الأمر بالعكس فإن المفعول يمتنع ان يكون من باب الصفات اللازمة للموصوف. وإن أريد بذلك أن يكون أحدهما قابلاً للآخر، فلا امتناع في ذلك وإن قيل بل إن المحل علة للحال. واعلم أن هذه الحجة وأمثالها غنما نشأت الشبهة فيها من جهة أن ألفاظها مجملة فلفظ العلة يراد به العلة الفاعلة والعلة القابلة، ولفظ الحاجة إلى الغير يراد به الملازم للغير ويراد به حاجة المشروط إلى شرطه ويراد به حاجة المفعول إلى فاعله. وإذا عرف هذا فالصفات اللازمة مع الذات متلازمة وليس أحدهما فاعلا للآخر بل الذات محل للصفات وليس الواحد منهما علة فاعلة بل الموصوف قابل للصفات وهذا لا امتناع فيه بل هو الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول. لكن الغزالي لم يجب إلا بجواب واحد، ومضمون كلامهم أنهم في جميع كلامهم في نفي الصفات ينتهي أمرهم إلى أن هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 تركيب والمركب مفتقر إلى جزئه والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بنفسه لأنه محتاج. كلام الغزالي في مسألة صفات الله فقال لهم أبو حامد: نحن نختار أن يقال: الذات في قوامها غير محتاجة إلى الصفات والصفات محتاجة إلى الموصوف كما في حقنا فبقي قولكم إن المحتاج إلى غيره لا يكون واجب الوجود فيقال إن أردتم بواجب الوجود أنه ليس له علة فاعلية فلم قلتم ذلك؟ ولم استحال أن يقال كما أن ذات واجب الوجود قديم لا فاعل له فكذلك صفته قديمة معه ولا فاعل لها وإن أردتم بواجب الوجود أن لا يكون له علة قابلية فهو ليس بواجب الوجود على هذا التأويل ولكنه قديم مع هذا ولا فاعل له فما المحيل لذلك فإن قيل: واجب الوجود المطلق هو الذي ليس له علة فاعلية ولا قابلية فإذا سلم أن له علة قابلية فقد سلم كونه معلولاً، قلنا تسمية الذات القابلة علة قابلية من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 اصطلاحكم والدليل لم يدل على ثبوت واجب الوجود بحكم اصطلاحكم، إنما دل على إثبات طرف ينقطع به تسلسل العلل والمعلولات ولم يدل على هذا القدر. وقطع التسلسل يمكن بواحد له صفات قديمة لا فاعل لها كما أنه لا فاعل لذاته ولكنها تكون متقررة في ذاته. تعليق ابن رشد على الغزالي قال ابن رشد يرد أنه إذا وضع لهم هذا القسم من الأقسام التي استعملوا في إبطال الكثرة آل الأمر معهم إلى أن يثبتوا أن واجب الوجود ليس يمكن أن يكون مركباً من صفة وموصوف ولا أن تكون ذاته ذات صفات كثيرة وهذا شيء ليس يقدرون عليه بحسب أصولهم. ثم أخذ يبين أن المحال الذي راموا أن يلزموه على تقدير هذا القسم، ليس بلازم قال: فيقال لهم: إن أردتم بواجب الوجود أنه ليس له فاعلة فاعلية فلم قلتم ذلك أي فلم قلتم بامتناع كونه موصفاً بالصفات ولم استحال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 أن يقال: كما أن ذات واجب الوجود قديم لا فاعل له فكذلك صفاته قديمة لا فاعل لها. قال ابن رشد وهذا كله معاندة لمن سلك في نفي الصفات طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود بذاته وذلك أنهم يفهمون في الممكن الوجود الممكن الحقيقي ويرون أن كل ما دون المبدأ الأول هو بهذه الصفة وخصومهم من الأشعرية يسلمون هذا، ويرون أن كل ممكن فله فاعل وأن التسلسل ينقطع بالانتهاء إلى ما ليس ممكناً في نفسه فإذا سلم لهم هذه ظن بها أنه يلزم عنها أن يكون الأول الذي انقطع عنده الإمكان ليس ممكناً فوجب أن يكون بسيطاً غير مركب لكن للأشعرية أن يقولوا: أن الذي ينتفي عنه الإمكان الحقيقي ليس يلزم أن يكون بسيطاً وإنما يلزم أن يكون قديماً فقط لا علة فاعلية له فلذلك ليس عند هؤلاء برهان على أن الأول بسيط من طريقة واجب الوجود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 كلام آخر للغزالي في مسألة التركيب قال أبو حامد فإن قيل فإذا أثبتم ذاتاً وصفة وحلولاً للصفة بالذات فهو مركب وكل تركيب يحتاج إلى مركب ولذلك لم يجز أن يكون الأول جسماً لأنه مركب قلنا قول القائل كل مركب يحتاج إلى مركب كقوله كل موجود يحتاج إلى موجد، فيقال له: الأول قديم موجود لا علة له ولا موجد. فكذلك يقال: موصوف قديم ولا علة لذاته ولا لصفته ولا لقيام صفاته بذاته بل الكل قديم بلا علة وأما الجسم فإنما لم يجز أن يكون هو الأول لأنه حادث من حيث إنه لا يخلو عن الحوادث ومن لم يثبت له حدوث الجسم يلزمه أن تكون العلة الأولى جسماً كما سنلزمه عليكم فيما بعد. تعليق ابن رشد على كلام الغزالي قال ابن رشد معترضاً على أبي حامد التركيب ليس هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 مثل الوجود لأن التركيب هو مثل التحريك، أعني صفة انفعالية زائدة على ذات الأشياء التي قبلت التركيب والوجود هو صفة هذه الذات بعينها وأيضاً المركب ليس ينقسم إلى مركب من ذاته ومركب من غيره فيلزم أن ينتهي الأمر إلى مركب قديم كما ينتهي الأمر في الموجودات إلى موجود قديم. وأيضاً فإذا كان الأمر كما قلنا من أن التركيب أمر زائد على الوجود، فلقائل أن يقول إن كان يوجد مركب من ذاته فسيوجد متحرك من ذاته وإن وجد متحرك من ذاته فسيوجد المعدوم من ذاته لأن وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة إلى الفعل وكذلك الأمر في الحركة والمتحرك. قال والفصل في هذه المسألة أن المركب لا يخلو من أن يكون كل واحد من جزأيه أو أجزائه التي تركب منها شرطا في وجود صاحبه بجهتين مختلفتين أو لا يكون شرطاً أو يكون أحدهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 شرطا في وجود الثاني والثاني ليس شرطاً في وجود الأول. فأما الأول فلا يمكن أن يكون قديماً لأن التركيب نفسه شرط في وجود الأجزاء فلا يمكن أن تكون الأجزاء علة التركيب ولا التركيب علة نفسه، إلا لو كان الشيء علة نفسه وأما الثاني إذا لم يكن واحد منهما شرطاً في وجود صاحبه فإن امثال هذه إذا لم يكن في طباع أحدهما أن يلازم الآخر فإنها ليست تتركب إلا بمركب خارج عنها وإن كان أحدهما شرطا في وجود الآخر من غير عكس كالحال في الصفة والموصوف الغير جوهرية فإن كان الموصوف قديماً ومن شانه أن لا تفارقه الصفة فالمركب قديم وإذا كان هذا هكذا فليس يصح إن جوز مجوز وجود مركب قديم أن يبين على طريق الشعرية أن كل جسم محدث لأنه إن وجد مركب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 قديم وجدت أعراض قديمة أحدها التركيب لأنه أصل ما يبنون عليه وجوب حدوث الأعراض أنه لا تكون الأجزاء التي تركب منها الجسم إلا بعد الأفتراق. فإذا جوزوا مركباً قديما أمكن أن يوجد اجتماع لم يتقدمه افتراق وحركة لم يتقدمها سكون وإذا جاز هذا أمكن أن يوجد جسم ذو أعراض قديمة ولم يصح لهم أن مالا يخلو عن الحوادث حادث. تعليق ابن تيمية على كلام الغزالي وابن رشد قلت ما ذكره أبو حامد مستقيم مبطل لقول الفلاسفة وما ذكره ابن رشد إنما نشأ من جهة ما في اللفظ من الإجمال والاشتراك وكلامه في ذلك أكثر مغلطة من كلام ابن سينا الذي أقر بفساده وضعفه. وذلك أن هؤلاء قالوا لأبي حامد والمثبتين إذا أثبتم ذاتاً وصفة وحلولاً للصفة بالذات فهو مركب وكل مركب يحتاج إلى مركب. قال لهم قول القائل كل مركب يحتاج إلى مركب كقول القائل: كل موجود يحتاج إلى موجد. ومقصوده بذلك أن هذا المعنى الذي سميتموه تركيباً ليس معنى كونه مركباً إلا كون الذات موصوفة بصفات قائمة بها، ليس معناه أنه كان هناك شيء متفرق فركبه مركب بل ولا هناك شيء يقبل التفريق فإن الكلام إنما هو في إثبات صفات واجب الوجود اللازمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 الوجود بنفسه لم يكن أن تفارقه ولا أن توجد دونه ولا يوجد إلا بها فليس هناك شيئان كانا مفترقين فركبهما فركب. ولفظ المركب في الأصل اسم مفعول لقول القائل ركبته فهو مركب كما تقول فرقته فهو مفرق وجمعته فهو مجمع وألفته فهو مؤلف وحركته فهو محرك. قال الله تعالى {في أي صورة ما شاء ركبك} الانفطار 8 يقال ركبت الباب في موضعه. هذا هو المركب في اللغة لكن صار في اصطلاح المتكلمين والفلاسفة يقع على عدة معان غير ما كان مفترقاً فاجتمع كما يقول أحدهم الجسم إما بسيط وإما مركب يعنون بالبسيط الذي تشتبه أجزاؤه كالماء والهواء. وبالمركب ما اختلفت كالإنسان وقد يقولون كل جسم مركب من أجزائه لأن هذا الجزء غير هذا الجزء وإن كانوا يعتقدون أنه لم يتفرق قط، وأنه لم يزل كذلك، ويتنازعون هل الجسم مركب من الواهر المنفردة أو من الهيولى والصورة أم ليس مركباً من واحد منهماً؟ مع اتفاقهم على أنه من الأجسام ما لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 تكن أجزاؤه مفترقة فتركبت وقد يعنون بالمركب المركب من الصفات كما يقولون الإنسان مركب من الجنس والفصل وهو الحيوان الناطق وهاتان الصفتان لم تفارق إحداهما الأخرى ولا يمكن وجود الناطق إلا مع الحيوان ولا يمكن وجود حيوان إلا مع ناطق أو ما يقوم مقامه كالصاهل ونحوه. فأبو حامد وأمثاله خاطبوا هؤلاء بلغتهم في أن الموصوف بصفة لازمة له يسمى مركباً وقالوا لهم قلتم إن مثل هذا المعنى الذي سميتموه تركيباً يمتنع في الواجب الوجود فقولهم إن كل مركب مفتقر إلى مركب مغلطة نشأت من الإجمال في لفظ مركب فإنهم لم يسلموا لهم أن هناك تركيباً هو فعل مركب حتى يقال إن المركب يفتقر إلى مركب بل هناك ذات موصوفة بصفات لازمة له فإذا قال القائل كل موصوف بصفات لازمة له يفتقر إلى مركب ومؤلف يجمع بين الذات والصفات كان قوله باطلاً فقولهم في هذا الموضع كل مركب يفتقر إلى مركب من هذا الباب. وكذلك إذا قيل كل مؤلف يفتقر إلى مؤلف كما يستعمل مثل هذا الكلام غير واحد من الناس في نفي معان سماها مسم تأيفاً وتركيباً فجعل المستدل يستدل بمجرد إطلاق اللفظ من غير نظر إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 المعنى العقلي فيقال لمن سمى مثل هذا تركيباً وتأليفاً أتعني بذلك أن هنا شيئاً فعله مركب ومؤلف أو ان هنا ذاتاً موصوفة بصفات؟ أما الأول فممنوع فإنه ليس في خلق الله من يقول إن صفات الله اللازمة له متوقفة على فاعل يؤلف ويركب بين الذات والصفات. وإن عنيت الثاني فمسلم، ولا دليل لك على أن الذات القديمة الواجبة المستلزمة للصفات تفتقر إلى من يركب صفاتها فيها فلهذا قال أبو حامد هذا كقول القائل كل موجود يفتقر إلى موجد ولو قال إلى واجد لكان أقرب إلى مطابقة اللفظ. وهذا صحيح فإن الموجود اسم مفعول من وجد يجد فهو واجد. فإذا قال القائل: كل موجود يفتقر إلى واجد أو موجد نظراً إلى اللفظ كان كقوله كل مركب يفتقر إلى مركب نظراً إلى اللفظ ولكن لفظ الموجود إنما يراد به ما كان متحققاً في نفسه لا يعني به ما وجده أو اوجده غيره، كما أنهم يعنون بالمركب هنا ما كان متصفاً بصفة قائمة به أو ما كان فيه معان متعددة وكثرة لا يعنون به ما ركبه غيره فالذي جرى لهؤلاء المغالطين في لفظ التأليف والتركيب كما جرى لأشباههم في لفظ التخصيص والتقدير فإن الباب واحد فليتفطن اللبيب لهذا فإنه يحل عنه شبهات كثيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 وأما اعتراض ابن رشد على أبي حامد بقوله ليس المركب مثل الموجود بل مثل التحريك. فجوابه من وجوه: أحدها أن يقال ليس الكلام في الموازنات اللفظية بل في المعاني العقلية والمقصود هنا أن الذات القديمة الواجبة الموصوفة بصفات لا يجب أن يكون لها جامع منفصل جمع بين الذات والصفات كما أن الموجود المحقق لا يفتقر إلى موجود غير نفسه بل قد يكون موجوداً بنفسه لا يفتقر إلى فاعل كذلك اتصافها بالصفات لا يفتقر إلى فاعل. الثاني أن يقال وهب أن هذا مثل التحريك في اللفظ، فقولك: هي صفة انفعالية زائدة على ذات الأشياء التي قبلت التركيب إن عنيت انها زائدة على الذات والصفة وقيام الصفة بالذات فهذا باطل وإن عنيت انها هي قيام الصفة بالذات أو هي الصفة القائمة بالذات فليس في ذلك ما يوجب كونها انفعالية لها فاعل مباين للموصوف. الثالث أن التحريك إن عني به تحريك الشيء لغيره فليس هذا نظير مورد النزاع فإن أحداً لم يسلم أن في الذات القديمة الموصوفة بصفاتها اللازمة شيءً ركبه أحد وإن عني به مطلق الحركة صار معنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 الكلام أن اتصاف الذات بالصفات كاتصافها بالحركات وليس في واحد منهما ما يقتضي احتياج الموصوف إلى مباين له. وأما قوله ليس ينقسم الأمر إلى مركب من ذاته ومركب من غيره حتى ينتهي الأمر إلى مركب قديم كما ينتهي الأمر في الموجودات إلى موجود قديم. فيقال له بل هؤلاء المسلمون كأبي حامد وأمثاله لما خاطبوكم باصطلاحهم وأنتم جعلتم قيام الصفة بالموصوف تركيباً فإنهم يقولون بحسب اصطلاحكم إنه ينقسم إلى مركب من ذاته ومركب من غيره. وحقيقة الأمر أن ثبوت الصفات إن سميتموه تركيباً، لم نسلم لكم عدم انقسام المركب إلى قديم واجب، ومحدث ممكن وإن لم تسموه تركيباً بطل أصل كلامكم 0 ولكن أنتم سميتم هذا تركيباً ونفيتموه، فلهذا قلتم لا ينقسم المركب فكان كلامكم ممنوعاً بل باطلاً وأما قوله إن لقائل أن يقول إن كان يوجد مركب من ذاته فسيوجد متحرك من ذاته، وإن وجد متحرك من ذاته فسيوجد معدوم من ذاته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 فجوابه من وجوه أحدها منع المقدمة الأولى فما الدليل على أنه إذا وجدت ذات موصوفة بصفات لازمة له، يلزم أن توجد ذات متحركة بحركة منها، ليس معه في ذلك إلا مجرد الموازنة اللفظية الثاني أن حقيقة قوله إن افتقار التركيب إلى مركب كافتقار التحريك إلى المحرك فإن أخذ ذلك على أن له فاعلاً فلكل منهما فاعل، وإن أخذ مجرد التركيب مجرد التحرك قيل فعلى هذا يكون المعنى إذا وجد متصف بصفة بنفسه يوجد فاعل متحرك بنفسه، وإذا كان حقيقة كلامه أنه إذا كان متصفاً بالصفات من ذاته فسيوجد متصفاً بالأفعال من ذاته 0 فيقال له إما أن تكون هذه الملازمة صحيحة وغما أن لا تكون، فإن لم تكن صحيحة فليست بحجة، وإن كانت صحيحة كانت دليلاً على ثبوت أفعال الله تعالى، وكان حقيقتها أنه يلزم من ثبوت الصفات القائمة به ثبوت الأفعال القائمة به، فأي محذور في هذا إذا كانت الملازمة صحيحة؟ الثالث قوله وإن وجد متحرك من ذاته فسيوجد المعدوم من ذاته، لأن وجود المعدوم هو خروج ما هو بالقوة إلى الفعل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 وكذلك الأمر في الحركة والمتحرك وليس كذلك الوجود لأنه ليس صفة زائدة على الذات، فكل موجود لم يكن وقتاً موجوداً بالقوة ووقتاً موجوداً لنه ليس صفة زائدة على الذات، فكل موجود لم يكن وقتاً موجوداً بالقوة ووقتاً موجوداً بالفعل، فهو موجود بذاته، والمتحرك وجوده إنما هو مع القوة المحركة، فلذلك احتاج كل متحرك إلى محرك فيقال ألقني بقولك فسيوجد المعدوم من ذاته أي نفس ما كان معدوماً يوجد من الذات المعدومة، أم تعني به أن الحركة المعدومة توجد من الذات المتحركة؟ أما الأول فغير معقول، فإن المعدوم ليس له وجود أصلاً حتى يعقل أن يوجد منه ذاته أو غير ذاته، ووجوده موجود من غير موجود ممتنع بضرورة العقل، وكون المعدوم يوجد بنفسه معلوم البطلان بالبديهية وإن عنيت الثاني، فاللازم والملزوم واحد، فإن المتحرك من ذاته توجد حركته المعدومة من ذاته وقول القائل إنه إذا جاز هذا جاز وجود المعدوم من الذات المعدومة ممنوع بل باطل معلوم البطلان وقوله لأن وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة إلى الفعل، وكذلك الأمر في الحركة والمتحرك فيقال له غاية هذا أنهما يشتركان في أمر من الأمور، فمن أين يلزم إذا اشتركا في أمر ما أن يشتركا في غيره مع ظهور الفرق فإن قوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة إلى الفعل لا يجوز أن يراد به أن نفس المعدوم كان فيه قوة هي مبدأ وجوده، فإن المعدوم ليس في شيء ولا فيه شيء وإنما يقال إن ما منه وجد المعدوم كان فيه قوة وجوده، كما في النطفة قوة أن تصير علقة 0 وفي الحبة قوة أن تصير سنبلة، وفي النواة قوة أن تصير نخلة، فالذي فيه القوة ليس هو المعدوم، واما الحركة والمتحرك فنفس المتحرك فيه قوة هي مبدأ الحركة فنظير المتحرك المحل الذي وجد فيه ما كان معدوماً من الأعراض، كما يوجد اللون في المتلونات، والطعم في المطعومات، والحياة في الأحياء، فكذلك الحركة في المتحركات، فمحل هذه الصفات والحركات كان قابلاً لها وفيه قوة القبول والاستعداد لها، وأما نفس هذه الأمور التي كانت معدومة فوجدت، فليس فيها من القوة ولا غيرها شيء فقياس القائس وجود المعدوم من ذاته بوجود الحركة من المتحرك في غاية الفساد، والعلة تكون فاعلة وتكون قابلة، فلو قال القائل الموجود أو الجسم أو القائم بنفسه أو نحو ذلك يقبل الصفات والأعراض كالحركات ونحوها، وفيه قوة لذلك، فيجب أن يكون المعدوم فيه قبول لقيام الصفات والحركات به لكان قوله في غاية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 الفساد، فكيف إذا قال إذا كان المتحرك فاعلاً بنفسه لحركته، وجب أن يكون المعدوم فاعلاً لذاته، بل يقال الفاعل يمكن أن يفعل غيره وأما فعله لنفسه فممتنع فلو قال إذا كان المتحرك يفعل حركة وجب أن يفعل المعدوم حركة لكان باطلاً، فكيف إذا قال وجب أن يفعل نفسه وقوله فكل موجود لم يكن وقتاً موجوداً بالقوة ووقتاً بالفعل فهو موجود بذاته، والمتحرك وجوده إنما هو مع القوة المحركة، فلهذا احتاج كل متحرك إلى محرك فيقال له هب أنه سلم لك أن المتحرك وجوده مع القوة المحركة فلم قلت إن الحركة تحتاج إلى محرك منفصل عنه؟ ثم يقال لك هل يجوز أن يتحرك المتحرك بنفسه بعد أن لم يكن متحركاً أم لا؟ فإن أجزت هذا بطل قولك، وجاز وجود المتحرك بنفسه قبل الحركة، وقبل القوة المحركة، وإن قلت لا يجوز قيل فحركته حينئذ اما أن تكون من نفسه وإما من غيره، فإن كانت من نفسه كانت الحركة من نفس المتحرك وبطل قولك، وإن كانت من غيره وكان ذلك الغير متحركاً فالقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 فيه كالقول في الأول، وإن كان غير متحرك لزم وجود حركات متوالية عن غير متحرك، وهذا قولهم، وهو باطل وذلك أن أجزاء الحركات متعاقبة شيئاً بعد شيء فالمقتضى لكل من تلك الأجزاء يمتنع ان يكون موجباً تاماً في الأزل، لأنه لو كان كذلك للزم أن يقارنه موجبه، فإن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها 0 وحينئذ يلزم كون المحدث قديماً وهو ممتنع، أو يقال إن كانت العلة التامة تستلزم مقارنة معلولها لزم ذلك، وإن لم تستلزم ذلك جاز حدوث الحركات المتأخرة عن موجب قديم، فيجوز أن يتحرك الشيء بعد ان لم يكن متحركاً بدون سبب حادث، وهذا يبطل قولكم، وإذا لم يكن الموجب التام لها ثابتاً في الأزل لزم ان يكون حادثاً، والقول في حدوثه كالقول في حدوث غيره، فيمتنع أن يحدث هو او غيره عن علة تامة قديمة، فإذا لم يكن في الفاعل فعل حادث امتنع أن يصدر عنه شيء حادث، فامتنع صدور الحركات عن غير متحرك ومما اعترف به ابن رشد وغيره من الفلاسفة والمتكلمين وقال عن إخوانه لفلاسفة إن الذي يتمسكون به سببان: أحدهما أن فعل الفاعل يلزمه التغير وإن كل متغير فله مغير والثاني أن القديم لا يتغير بضروب من ضروب التغير وقال وهذا كله عسير البيان قلت وهذا المقام وهو حدوث الحوادث عن ذات لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 يقوم بها حادث ن مما اعترف حذاقهم بصعوبته وبعده عن المعقول، كما ذكر ذلك ابن رشد والرازي وغيرهما وهؤلاء المتفلسفة يقولون إن النفس المحركة للأفلاك يحدث لها تصورات وإرادات هي مبدأ الحركة، وأن محركها العقل الذي يريد التشبه به، او واجب الوجود الذي يطلب الفلك التشبه به بإخراج ما فيه من الأيون والأوضاع، وتحريك الواجب أو العقل للفلك أو لنفس الفلك، كتحريك المحبوب للمحب والمشتهى للمشتهى، والمعشوق للعاشق، ليس من جهة المحرك فعل أصلاً، بل ذلك يحبه فيتحرك تشبهاً به وبهذا أثبت أرسطو وأتباعه العلة الأولى، وان فوق الأفلاك ما يوجب تحريك الأفلاك والكلام على هذا من وجوه ليس هذا موضع بسطها، لكن يقال كون الفلك يتحرك للتشبه بالواجب أو إخراج ما فيه الأيون والأوضاع، كلام لا دليل عليه بل الأدلة الدالة على فساده كثيرة ليس هذا موضعها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 فنقول: هب أن الأمر كذلك فهذا إنما فيه أنه أثبت العلة الغائية للحركة. فيقال: أين السبب الفاعل لحركة الفلك؟ فإن الحركة، وإن افتقرت إلى غاية مقصودة، فتفتقر إلى مبدأ فاعل بالضرورة فإذا قالوا نفسه تحركه قيل لهم فما الفاعل لما يحدث في النفس من أسباب الحركة، كالتصورات والإرادات؟ فإن فإن هذه كانت معدومة ثم وجدت بعد العدم، فما السبب الفاعل لهذه الحركة فإن قالوا النفس هي الفاعلة لهذه الحركة، فقد جعلوها متحركة من نفسها، وهذا خلاف ما قالوه وإن قالوا شيئاً غيرها قيل لهم الكلام فيه كالكلام في النفس، فإنه إن حدث فيه ما لم يحدث سئل عن سبب ذلك وإن قيل بل المحدث لحركة النفس على حال واحدة أزلاً وأبداً قيل لهم فقد لزمكم حدوث حادث بلا سبب، وقيل لكم ذلك المحرك للنفس، إن كان علة في الأزل وجب وجود معلوله في الأزل، فيجب وجود ما حدث للنفس من التصورات والإرادات في الأزل، وهذا جمع بين النقيضين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 وإن قيل بل حدث له أمر به صار فاعلاً لما يحدث في النفس سئل عن سبب حدوث ذلك وإذا قيل الحادث استعداد النفس لأن يفيض عليها من الفعل ما تتصور به وتريد قيل فذلك الاستعداد حادث، والقول في سبب حدوثه كالقول في سبب حدوث غيره، فلا بد من أحد أمرين غما حدوث الحوادث بلا سبب حادث وإما حدوث الحوادث عن متحرك، وأيهما كان بطل قولهم 0 والأول يقولون إنه معلوم البطلان بالضرورة، فيلزمهم الثاني فقد ألزم مناظريه ما يلزمه هو أشد منه وتبين به أن قول إخوانه أشد فساداً، فإنه قال والذي لا مخلص للأشعرية منه هو إنزال فاعل أول، وإنزال فعل له أول، لأنهم لا يمكنهم أن يضعوا أن حالة الفاعل من المفعول المحدث تكون في وقت الفعل هي بعينها حالته في وقت عدم الفعل، فهنالك ولا بد حالة متجددة ونسبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 لم تكن، وذلك ضرورة إما في الفاعل، أو في المفعول، او في كليهما، وإذا كان كذلك فتلك الحال المتجددة، إذا أوجبنا أن لكل حال متجددة فاعلاً، لا بد أن يكون الفاعل لها إما فاعلاً آخر، فلا يكون ذلك الفاعل هو الأول ولا يكون مكتفياً بفعله بنفسه بل بغيره ن وإما ان يكون الفاعل لتلك الحال التي هي شرط في فعله هو نفسه ن فلا يكون ذلك الفعل الذي فرض صادراً عنه اولاً، أولاً بل يكون فعله لتلك الحال التي هي شرط في المفعول قبل فعله المفعول قال وهذا لازم كما ترى ضرورة، إلا أن يجوز أن من الأحوال الحادثة في الفاعلين مالا يحتاج إلى محدث. وهذا بعيد إلا على قول من يجوز ان ههنا أشياء تحدث من تلقائها، وهو قول الأوائل من القدماء الذين أنكروا الفاعل، وهو قول بين سقوطه بنفسه. فيقال له ك أنت ألزمت مناظريك من أهل الكلام حدوث حادث بلا سبب حادث وذكرت أن هذا ممتنع بالضرورة وهذا هو المقام المعروف الذي استطالت به المتفلسفة الدهرية على مناظريهم من أهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 الكلام المأخوذ في الأصل عن الجهمية والقدرية. فيقال له أنت يلزمك ما هو أشد من هذا، وهو حدوث الحوادث بلا فاعل وهو الذي ذكرت أنه ساقط بين السقوط وذلك أن الحوادث المشهودة أن قلت لا فاعل لها فقد لزمك هذا القول وإن قلت: لها فاعل قيل لك: أفعلها بعد أن لم تكن من غير حدوث شيء في ذاته ام لم يفعلها حتى حدث شيء في ذاته؟ فإن قلت بالأول قيل لك: فهي دائمة أو لها ابتداء؟ فإن قلت لها ابتداء فهذا قول منازعيك وإن قلت لا ابتداء لها فقد صارت الحوادث كلها تحدث عن فاعل من غير حدوث شيء فيه وقد قلت إنه لا يمكن أن يكن حال الفاعل في المفعول المحدث وقت الفعل هي بعينها حاله وقت عدم الفعل، فيلزمك أن لا يكون حاله عند وجود حوادث الطوفان هي حاله عند وجود الحوادث التي قبله، فإن الحوادث مختلفة فإن أمكن أن يكون حاله واحداً مع حدوث الحوادث المختلفة أمكن أن يكون حاله واحداً مع تجدد الحوادث لأن الحادث الثاني كالطوفان فيه من الأمور ما لم يكن له قبل ذلك نظير فتلك حوادث لا نظير لها ولا فرق بين إحداث هذا وإحداث غيره وإذا جعل المقتضي لذلك تغيرات تحدث في الفلك كان الكلام في حدوث تلك التغيرات العلوية كالكلام في حدوث التغيرات السفلية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 وإن قلت: بل حدث أمر أوجب هذه الحوادث. قيل لك: الفاعل له: إن كان هو الأول عاد الإلزام جذعاً وإن كان غيره لزمك حدوث الحوادث بلا فاعل وإن التزمت أنه ما فعلها حتى حدث فيه شيء فقد تركت قولك. وأيضاً فالفاعل المستكمل لشروط الفعل إما أن يجوز حدوث المفعول عنه بعد أن لم يكن بلا سبب حادث وإما أن لا يجوز فغن جاز فهو قول منازعك الذي ادعيت أنه فاسد بالضرورة وإن لم يجز لزم أن يكون مفعوله مقارناً له لا يتأخر عنه منه شيء فلا يجوز أن يحدث عن الفاعل شيء كما تقوله أنت وإخوانك إنه علة تامة وموجب تام والعلة التامة لا يتأخر عنها معلولها ولا شيء من معلولها فإذا كل ما تأخر عن الأول ليس معلولاً للعلة التامة، ولا مفعولا للفاعل الأول، ولا يجوز أن يكون فعلاً لغيره إذ القول في ذلك الغير كالقول فيه فيلزم أن تكون الحوادث كلها حادثة بلا محدث. وهذا لازم لهؤلاء الفلاسفة الإلهيين كما يلزم إخوانهم الطبيعيين، وهو القول الذي هو من أظهر المعارف الضرورية فساداً وقد بسط الكلام على هذه المواضع في غير هذا الموضع وإنما كان المقصود هنا التنبيه على جنس ما يغالط به هؤلاء وأمثالهم من الألفاظ المجملة كلفظ المركب ونحوه كما يغالطون بلفظ التخصيص والمخصص وأن كلام أبي حامد وأمثاله في مناظرتهم خير من كلامهم وأقوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 وأما قول ابن رشد لا يخلو إما أن يكون كل من جزأيه شرطاً في وجود الآخر أو لا يكون أو يكون الواحد شرطاً في الآخر من غير عكس. وقوله القسم الأول لا يكون قديماً وذلك أن التركيب نفسه هو شرط في وجود الآخر فليس يمكن أن تكون الأجزاء هي علة التركيب ولا التركيب علة نفسه إلا لو كان الشيء علة نفسه. فيقال له أولاً تسمية هذا تركيباً وأجزاء ليس هو من لغات بني آدم المعروفة التي يتخاطبون بها فإنه ليس في لغة الآدميين أن الموصوف بصفات يقال إنه مركب منها وأنها أجزاء له وإذا خاطبناكم باصطلاحكم فقد علمتم انه ليس المراد بالمركب إلا اتصاف الذات بصفات لازمة لها، أو وجود معان فيها أو اجتماع معان وأمور ونحو ذلك ليس المراد أن هناك مركباً ركبه غيره حتى يقال: إن المركب نفتقر إلى مركب فإن من وافقكم على اصطلاحكم في تسمية الذات الواجبة الموصوفة بصفاتها اللازمة تركيباً لم يرد بذلك أن هناك مركباً ركبها، فغن هذا لا يقوله عاقل، ولا انتم أيضاً تدعون أن مجرد اللفظ الدال على هذا المعنى يقتضي أن يكون له فاعل ولكن تدعون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 ثبوت ذلك إما بطريقة ابن سينا ونحوه الذي قد تقدم إبطالها وإما بطريقة المعتزلة التي اختارها ابن رشد واعترف بفساد طريقة ابن سينا. وإذا كان المراد بلفظ التركيب ما قد عرف فمن المعلوم ان الذات الموصوفة بصفات لازمة لها، أو فيها معان لازمة لها، لا يقال فيها: إن اتصاف الذات بالصفات أمر معلوم مفتقر إلى فاعل حتى يقال إن الأجزاء هي علة التركيب أو يقال التركيب علة نفسه. بل هذا المعنى الذي سميته تركيباً هو من لوازم الواجب بنفسه، لا يمكن أن يكون الواجب إلا موصوفاً بالصفات اللازمة له ثابتة له المعاني اللازمة له وليس لذلك علة فاعلة كما تقدم. وأما قوله إن التركيب شرط في وجود الأجزاء. فيقال له لا ريب أنه لا يمكن وجود الذات إلا موصوفة بلوازمها ولا يمكن أن توجد صفاتها إلا بوجودها، فاجتماع الذات بالصفات واجتماع الأمور المتلازمة شرط في وجود كل منها وهي أيضاً شرط في وجود ذلك الاجتماع وليس شيء من ذلك معلولاً لفاعل ولا مفتقراً إلى مباين ن وتوقف أحدهما على الآخر هو من باب الدور الاقتراني المعي، لا من باب الدور السبقي القبلي والألو جائز والثاني ممتنع فغن الأمور المتلازمة لا يوجد بعضها إلا مع بعض وليس بعضها فاعلاً لبعض بل أن كانت واجبة الوجود بنفسها وإلا افتقرت كلها إلى فاعل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 والذات التي لا تقبل العدم بما هي عليه من الصفات اللازمة هي الحق الواجب الوجود بنفسه، وأما مجرد وجود مطلق في الخارج وذات لا صفة لها فلذلك ممتنع لنفسه فضلاً عن أن يكون واجب الوجود. واتصاف الذات الواجبة بصفاتها اللازمة، سواء سمي تركيباً او لم يسم، لا يوجب افتقاره ولا افتقار الذات ولا شيء من صفاته إلى فاعل، ولا علة فاعلة، ولا ما يشبه ذلك وأما كون بعضها مستلزماً لبعض ومشروطاً به ولا يوجد إلا معه وثبوته متوقف عليه ونحو ذلك فليس في هذا ما يقتضي افتقار ذلك إلى فاعل مبدع لكن يعلم ان الذات لا تكون إلا بصفاتها اللازمة وصفاتها لا تكون إلا بها. وإذا سمى المسمي هذا افتقاراً وسمى هذه أجزاء وسمى هذا الأجتماع تركيباً لم يكن في هذه التسمية ما يوجب أن يكون هذا الموصوف مفتقراً إلى فاعل، وما جعله افتقاراً ليس هو افتقار المفعول إلى الفاعل والمعلول إلى العلة الفاعلة وإنما هو تلازم ومن سماه افتقاراً لا يمكنه أن يفسره إلا لافتقار المشروط إلى الشرط والشرط إلى المشروط ومثل هذا المعنى لازم للوجود الواجب لا ممتنع عليه وإنما الممتنع أن يفتقر إلى مباين له فيكون وجود الواجب متوقفاً على وجود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 مباين فإن كان المباين علة له لم يكن موجوداً بنفسه بل ممكناً له فاعل وعلة وإن قدر انه شرط فيه وهو غني عنه وما كان وجوده مشروطاً بما هو غني عنه لم يكن موجوداً بنفسه فلا يجوز أن يكون الرب الخالق تعالى الذي له الذات الموصوفة بصفات الكمال متوقفاً على شيء مباين له بل ولا على شيء عني عنه بوجه من الوجوده لا على فاعل ولا شرط. وهذا هو الذي يقوم عليه الدليل، فإن الممكنات التي لا وجود لها من نفسها لا توجد إلا بغيرها وما كان خارجاً عنها لم يكن وجوده إلا بنفسه ونفسه هي الذات الموصوفة بصفاتها اللازمة ليست نفسه مجرد وجود مطلق ولا ذات مجردة. ومن ادعى أن ما كان وجوده بنفسه لا يكون إلا وجوداً مجرداً وذاتاً مجردة لأن الذات الموصوفة مفتقرة إلى الصفة فلا يكون موجودة بنفسها. قيل له: الممكنات والمحدثات لم تفتقر إلى ذات مجردة ن حتى يقال إذا قيل إنها موصوفة لزم الافتقار بل افتقرت إلى ما هو خارج عنها كلها. والتعبير عن هذا المعنى يكون بعبارات فإذا قيل: ما لا يقبل العدم، أو قيل موجود بنفسه او واجب الوجود بنفسه ونحو ذلك، كان المقصود واحداً. ومن المعلوم أن مالا يقبل العدم، إذا كان ذاتاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 موصوفة بصفات الكمال، لم يجز ان يقال: اتصافها بصفات الكمال يوجب افتقارها إلى الصفات فتقبل العدم، فإن فساد هذا الكلام ظاهر، وهو بمنزلة أن يقال قولكم: موجود بنفسه أو واجب الوجود بنفسه، يقتضي افتقاره إلى نفسه والمفتقر لا يكون واجب الوجود بنفسه، بل يكون قابلاً للعدم، وإذا كان هذا فاسداً فالأول أفسد، فإن صفات كماله داخلة في مسمى نفسه فإذا كان قول القائل: هو مفتقر إلى نفسه لا يمنع وجوب وجوده فقوله إنه مفتقر إلى صفاته أولى أن لا يمنع وجوب وجوده. وكذلك إذا سمى ذلك أجزاء وقال: هو مفتقر إلى أجزائه فإن جزء الشيء وبعضه وصفته ونحو ذلك داخل في مسمى نفسه فإذا لم يكن قول القائل: هو مفتقر إلى نفسه مانعاً من وجوب وجوده ن فقوله هو مفتقر إلى جزئه وصفته ونحو ذلك أولى وتسمية مثل هذا افتقاراً لفظ فيه تلبس وتدليس يشعر الجاهل بفقره، وهذا كما لو قيل: هو غني بنفسه فإنه قد يقول القائل: فهو فقير إلى نفسه فصفاته داخلة في مسمى نفسه، وهو غني سبحانه بنفسه عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه. وهذه المعاني مبسوطة في غير هذا الموضع وقد قال ابن رشد هذا الذي يعبر على من قال بنفي تعدد الصفات هو ان تكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 الصفات المختلفة ترجع إلى ذات واحدة حتى يكون مفهوم العلم مثلاً والإرادة والقدرة مفهوماً واحداً وانها ذات واحدة، وأن يكون أيضاً العلم والعالم، والقدرة والقادر والإرادة والمريد، معنى واحداً والذي يعبر على من قال: إن ههنا ذاتاً وصفات زائدة على الذات ان تكون شرطاً في وجود الصفات والصفات شرطاً في كمال الذات، ويكون المجموع من ذلك شيئاً واجب الوجود أي موجوداً واحداً ليس فيه علة ولا معلول. قال لكن هذا لا جواب عنه في الحقيقة إذا وضع ان ههنا شيئاً واجب الوجود بذاته، فإنه يجب أن يكون واحداً من جميع الوجوه وغير مركب أصلاً، لا من شرط ومشروط، ولا من علة ومعلول، لأن كل موجود بهذه الصفة: فإما أن يكون تركيبه واجباً، وغما أن يكون ممكناً فغن كان واجباً، كان واجباً بغيره لا بذاته لأنه يعسر إنزال مركب قديم من ذاته أعني من غير أن يكون له مركب وبخاصة على قول من أنزل أن كل عرض حادث، لأن التركيب فيه يكون عرضاً قديماً، وإن كان ممكناً فهو محتاج إلى ما يوجب اقتران العلة بالمعلول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 قال وأما هل يوجد شيء مركب من ذاته على اصول الفلاسفة وإن جوزوا أعراضاً قديمة فغير ممكن وذلك أن التركيب شرط في وجوده وليس يمكن أن تكون الأجزاء هي فاعلة للتركيب، لأن التركيب شرط في وجودها، وكذلك أجزاء كل مركب من الأمور الطبيعية إذا انحلت لم يكن الاسم المعقول عليها إلا بالاشتراك مثل اسم اليد المقولة على التي هي جزء من الإنسان الحي، واليد المقطوعة، بل كل تركيب عند أرسطو طاليس فهو كائن فاسد ن فضلاً عن ان يكون لا علة له وأما هل تفضى الطريقة التي سلكها ابن سينا في واجب الوجود إلى نفي مركب قديم فليس تفضي إلى ذلك، لأنه إذا فرضنا أن الممكن ينتهي إلى علة ضرورية والضرورية لا يخلو إما أن يكون لها علة او لا علة لها، وأنها إن كانت لها علة فإنها تنتهي إلى ضروري لا علة له، فإن هذا القول إنما يؤدي من جهة امتناع التسلسل إلى وجود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 صورية ومادية إلا أن يوضع ان كل ماله صورة ومادة وبالجملة، كل مركب فواجب أن يكون له فاعل خارج عنه. وهذا يحتاج إلى بيان ولم يتضمنه القول المسلوك في شأن واجب الوجود مع ما ذكرنا أن فيه من الأختلال، ولهذا بعينه لا يفضي دليل الشعرية وهو ان كل حادث له محدث إلى أول قديم ليس بمركب، وإنما يفضي إلى أول ليس بحادث. قال وأما أن يكون العالم والعلم شيئاً واحداً فليس ممتنعاً بل واجب أن ينتهي الأمر في أمثال هذه الأشياء إلى أن يتحد المفهوم فيها وذلك أن العالم إن كان عالماً بعلم فالذي به العالم عالم أحرى ان يكون عالماً، وذلك أن كل ما استفاد صفة من غيره فتلك الصفة أولى بذلك المعنى المستفاد مثال ذلك أن هذه الأجسام الحية التي لدينا ليست حية من ذاتها بل من قبل حياة تحلها فواجب أن تكون تلك الحياة التي استفاد منها ما ليس بحي الحياة حية بذاتها أو يفضي الأمر فيها إلى غير نهاية وكذلك يعرض في العلم وسائر الصفات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 تعليق ابن تيمية قلت: ليتأمل اللبيب كلام هؤلاء الذين يدعون من الحذق والتحقيق ما يدفعون به ما جاءت به الرسل كيف يتكلمون في غاية حكمتهم ونهاية فلسفتهم بما يشبه كلام المجانين ويجعلون الحق المعلوم بالضرورة مردوداً والباطل الذي يعلم بطلانه بالضرورة مقبولاً بكلام فيه تلبيس وتدليس فإنه ذكر ما يلزم مثبة الصفات وما يلوم نفاتها. فقال: يلزم النفاة أن تكون الصفات ترجع إلى ذات واحدة فيكون مفهوم العلم والقدرة والإرادة مفهوماً واحداً وأن يكون العلم والعالم والقدرة والقادر والإرادة والمريد واحداً وقد قال إن هذا عسير. قلت: بل الواجب أن يقال: أن هذا مما يعلم فساده بضرورة فمن جعل العلم هو القدر والقدرة هي الإرادة وجعل الإرادة هي المريد والعلم هو العالم والقدرة هي القادر كان مخالفته للعوم الضرورية وسفسطته اعظم من سفسطة كثير من السوفسطائية وقود هذه المقالة أن يمكن أن يكون المتكلم هو الكلام والمتحرك هو الحركة والمصلي هو الصلاة والصائم هو الصوم، وأمثال ذلك، وإن فرق بين الصفات اللازمة وغيرها فلا فرق في الحقيقة بل هذا تحكم ويلزمه ان يكون الإنسان الناطق نفس النطق والفرس الصاهل نفس الصهيل، والحمار الناهق نفس النهيق، والجسم الحساس المترحك بالإرادة نفس الإحساس والحركة الإرادية، ويلزمه أيضاً أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 يجعل نفس الحس نفس الحركه ونفس الحيوانيه نفس الناطقية ونفس الصاهلية نفس الناهقية. وما أحق هؤلاء بدخولهم في قول الله تعالى {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} الأنعام 39. وبقوله تعالى {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} الأعراف 179. وبقوله تعالى {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} الملك 10. وقول ابن رشد كون العالم والعلم شيئاً واحداً ليس ممتنعاً، بل واجب ان ينتهي الأمر في أمثال هذه الأشياء إلى أن يتحد المفهوم فيها. فيقال له: هذا من أعظم المكابرة والفسفسطة والبهتان وقوله إن العالم إذا كان عالماً بعلم فالذي به العالم عالم أحرى أن يكون عالماً إلى آخر كلامه كلام في غاية الفساد كما أنه إذا قيل إذا كان الضارب ضارباً بضرب فالضرب اولى أن يكون ضارباً والقائم إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 كان قائماً بقيام أولى أن يكون قائماً والناطق إذا كان ناطقاً بنطق فالنطق أولى أن يكون ناطقاً والقاتل إذا كان قاتلاً ماشياً والخالق إذا كان خالقاً بخلق فالخلق أولى أن يكون خالقاً والرازق إذا كان رازقاً برزق فالرزق أولى ان يكون رازقاً والمحيي المميت إذا كان محيياً مميتاً بإحياء وإماتة فالإحياء والإماتة أولى أن يكون محيياً مميتاً. وبالجملة فهذا يلزم نظيره في عامة أسماء الله الحسنى، وفي أسماء نبيه صلى الله عليه وسلم وأسماء سائر الموجودات المشتقة يلزم أن يكون المصدر الذي اشتق منه الاسم أحق بالاسم من الفاعل، ويكون مسمى المصدر الذي هو الحدث أحق بأسماء الفاعلين والصفات المشبهة بها من من نفس الفاعل الموصوف. وتصور هذا الكلام كاف في معرفة فساده وإنما دخلت الشبهة على من قاله، لأن قوله إذا كان العالم عالماً بعلم فالذي به العالم عالم أحرى أن يكون عالماً كلام اشتبهت فيه باء الاستعانة بباء المصاحبة فظن أنه إذا قيل هذا عالم بعلم، أن العلم هو الذي أفاده العلم والعلم هو الذي أعطاه العلم كأنه معلمه فكأنه قال إذا كان المتعلم عالماً فمعلمه أولى أن يكون عالماً، وليس الأمر كذلك بل قولنا هذا عالم بعلم أي أنه موصوف بالعلم أي ليس موجوداً عن العلم ولا معرى عنه بل هو متصف به والعلم نفسه لا يعطيه العلم بل نفس العلم هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 العلم وإن كان العلم قديماً من لوازم ذاته فلم يستفيده من أحد وإن كان محدثاً فقد استفاده من غيره ولم يستفد العلم من العلم لكن هل له حال وهو كونه عالماً معللة بالعلم أم كونه عالماً نفس العلم هذا فيه نزاع بين مثبتة الحال ونفاتها ومن أثبتها لم يقل إنها صفة موجودة. وقوله ما استفاد صفة من غير فتلك الصفة يعني المستفاد منها اولى بذلك المعني المستفاد كما مثل به من الحياة كلام فاسد فإن العالم لم يستفد الصفة التي هي العلم من الصفة التي هي العلم بل نفس علمه هو نفس الصفة ليس هنا صفة مفيدة وصفة مستفادة إلا أن يقال اعلم أثبت العالمية على رأي مثبتة الحال، وعلى هذا التقدير فالعالمية ليست صفة وجودية وهو غنما كان عالماً بالعلم الوجوب للحال. لا بالحال الموجبة للعلم وإذا كان عالماً بالعلم لم يكن العلم حصل من علم آخر وإنما العلم عند هؤلاء اوجب كونه عالماً والذي عليه الجمهور أن نفس العلم هو نفس كونه عالماً فليس هنا شيئان وعلى القولين فإذا استحق الموصوف بالعلم أن يسمى عالماً لم يكن العلم أحق بأن يكون عالماً فإن هذا لا يقوله عاقل: وقوله إن الجسم إذا كانت حياته من قبل حياة تحله، فواجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 أن تكون تلك الحياة التي استفاد منها ما ليس بحي الحياة حية بذاتها. فيقال: هذا باطل من وجهين: أحدهما أن الحياة التي حلته هي الحياة التي صار بها حياً ليس هنا حياة أخرى صار بها حياً حتى يقال هنا حياة حلته وحياة جعلته حياً. الثاني أن حياته إذا قدر أنها مستفادة من حياة أخرى فتلك الحياة الأخرى قائمة بحي هو حي بها لا أن تلك الحياة هي الحية، بل الحي الموصوف بالحياة لا نفس الحياة، فلينظر العاقل نهايات مباحث هؤلاء الفلاسفة في العلم الإلهي: العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته ن ولينظر هذا المعقول الذي يعارضون به الرسول صلى الله عليه وسلم مع أن هذا مبسوط في غير هذا الموضع وليس هذا موضع بسطه. والناس شنعوا على ابي الهذيل العلاف لما قال إن الله عالم بعلم وعلمه نفسه ونسبوه إلى الخروج من العقل مع أن كلامه أقل تناقضاً من كلام هؤلاء. وأما زعمه أن ما يلزم مثبتة الصفات لا جواب عنه لأن واجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 الوجود يجب أن يكون غير مركب من شرط ومشروط. فيقال له: قد تقدم أنكم أنتم سميتم هذا تركيباً هو لا يسمى تركيباً في لغة من اللغات المعروفة لبني آدم بل إنما سماه تركيباً متأخروكم كابن سينا وأمثاله، وأما قدماؤكم فقد ذكرتم عن أرسطو طاليس أن كل تركيب فهو كائن عنده فاسد والسماء عنده ليست كائنة فاسدة فهو لا يسمي السماوات وما فيها من الكواكب مركبة مع لأنها أجسام متحيزة متحركة تقوم بها الأعراض فكيف يسمي ما كان حياً عالما قادراً مركباً؟ وإذا خاطبناكم باصطلاحكم المبتدع لنقطع شغبكم بحثنا معكم بحثاً عقلياً فإنكم تدعون أن هذه الأمور معلومة بالعقل لا بالسمع وإطلاق الألفاظ ونفيها لا تقفون أنتم فيه عند الشرع، فالواجب على أصولكم أن ما علم بالعقل ثبوته أو انتفاؤه اتبع من غير مراعاة للفظ. ونحن نبين فساد ما ذكرتموه من المعنى بالعقل الصريح مع مخاطبتكم بلغتكم فيقال له لم قلت إن ما كان مركباً من شرط لا يكون واجب الوجود؟ وأما قوله لأن تركيبه إذا كان واجباً كان واجباً بغيره لا بذاته لأنه يعسر تقدير مركب قديم من غير أن يكون له مركب. فيقال له هذا هو البحث اللفظي ذكرنا هذا لأجله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 والمركب الذي يفتقر إلى مركب هو ما ركبه غيره. كما أن المحرك الذي يفتقر إلى محرك ما حركة غيره، ولم يقل احد من العقلاء إن واجب الوجود مركب ركبة غيره، وأنتم إذا سميتم اجتماع الذات والصفات تركيباً لم تريدوا إلا الاجتماع والتعدد والتألف وكثرة المعاني ونحو ذلك لم تقصدوا بذلك ان هناك فاعلاً لذلك وإن أردتم ذلك كان باطلاً وبطل اللفظ والمعنى جميعاً فغن أصل الكلام أن الواجب إذا كان ذاتا موصوفة بصفات كان مركباً فإن أراد المريد: كان له من ركبه من الذات والصفات كان التلازم ممنوعاً بل هو باطل ضرورة فإنا إذا قدرنا واجب الوجود بنفسه الغني عن الفاعل موصوفاً بصفات لازمة له امتنع أن يكون للواجب بنفسه المستلزم لصفاته من ركب بينه وبين صفاته فإن كونه واجباً بنفسه يمنع ان يكون له فاعل وكون صفاته لازمة له يمنع جواز مفارقتها له ويمنع افتقارها إلى من يجعلها فيه، فكيف يقال: إن له مركباً ركبه، حتى يقال: إن هذا تركيب يفتقر إلى مركب ويقال يمتنع ثبوت مركب قديم، أي من ذاته ومن سمى هذا تركيباً وقال إنه قديم فإنه يقول هو تركب وتألف واجتماع ومثل هذا لا يفتقر إلى مركب مؤلف جامع، ولو قيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 على سبيل الفرض إن الذات المستلزمة للصفات هي الموصوفة بذلك فليس هنا ما يقتضي افتقارها إلى غيرها. كلام لابن رشد باطل من وجوه وأما قوله خاصة على قول من يقول كل عرض حادث لن التركيب يكون فيه عرضاً قديماً فهذا باطل من وجوه: الوجه الأول أن القائلين بأن كل عرض حادث من الأشعرية ومن وافقهم لا يسمون صفات الله أعراضاً فإذا قالوا هو عالم وله علم وهو متصف بالعلم، لم يقولوا إن علمه واتصافه بالعلم عرض، ومن سمى صفاته أعراضاً كالكرامية ونحوهم، لم يلزمهم أن يقولوا كل عرض حادث 0 وما أعلم أحداً من نظار المسلمين يقول كل عرض حادث وصفات الله القديمة عرض، فإن هذا تناقض بين، فما ذكره لا يلزم أحد من المسلمين ن فلم يقل أحد إن كل عرض حادث مع قوله إن صفات الله اللازمة له أعراض الوجه الثاني أن يقال على سبيل التقدير من قال كل عرض حادث، فإنه يقول في الأعراض الباقية إنها تحدث شيئاً بعد شيء، فإذا قدر موصوف قديم بصفات وقيل إنها أعراض والعرض لا يبقى زمانين لزم أن يقال إنها تحدث شيئاً بعد شيء وحينئذ فإذا قدر اجتماع أو تألف او تعدد في الصفات، ونحو ذلك مما سميته تركيباً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 وقيل إنه قديم وإنه عرض وإن كل عرض فهو حادث لا يبقى زمانين كان أولى بتجدد أمثاله من سائر الأعراض، فثبوت المعنى الذي سماه تركيباً وجعله عرضاً قديماً كسائر الصفات القديمة الوجه الثالث أن يقال هذا الذي سميته عرضاً قديماً حكمه سائر الصفات، فإن أقمت دليلاً على انتفاء الصفات أمكن نفي هذا، وإلا فالقول فيه كالقول في أمثاله 0 وأنت لا دليل لك على انتفاء الصفات إلا انتفاء الاجتماع والتعدد الذي سميته تركيباً، فإذا لم يمكنك نفي هذا إلا بنفي غيره من الصفات، ولا يمكنك نفي الصفات إلا بنفي هذا، كان هذا دوراً قبلياً باطلاً، وقد تبين انه لا يمكنك لا نفي هذا ولا نفي هذا، وان ما ذكرته من لفظ التركيب كلام فيه تلبيس توهم به من لا يفهم حقيقة المقصود أن مثبته الصفات أثبتوا لله تعالى ما يفتقر فيه إلى مركب يركبه معه، وكل عاقل يعلم أن مذهب المسلمين المثبتين للصفات أن صفاته القديمة لازمة لذاته لا يفتقر فيها إلى أحد سواه، ومن جعل اتصافه بها مفتقراً إلى مركب غيره فهو كافر عندهم، فضلاً عن أن يقولوا إنه مفتقر إلى مركب جمع بينه وبينها الوجه الرابع أن يقال على سبيل الفرض لو نازعك بعض إخوانك الفلاسفة في امتناع مركب قديم من ذاته لم يكن لك عليه حجة، فلو قدر أن ذلك يستلزم مركباً قديماً من ذاته، لم يكن لك على أصول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 إخوانك الفلاسفة حجة على إبطال هذا، فإن الفلك عندكم جسم قديم، وهو مركب بهذا الاصطلاح وأما قولك الفلاسفة وإن جوزوا أعراضاً قديمة فغير ممكن وجود قديم من ذاته عندهم ن لأن التركيب شرط في وجوده، ولا يمكن أن تكون الأجزاء هي فاعلة للتركيب، لأن التركيب شرط في وجودها فيقال لك إذا كان التركيب شرطاً في وجودها نوهي شرط في وجود التركيب، لم يكن أحدهما فاعلاً للآخر، بل إن كانا مفتقرين إلى الفاعل، ففاعل الأجزاء هو فاعل التركيب، وإن كانا غنيين عن الفاعل لم يفتقر أحدهما إلى الفاعل 0 والكلام على تقدير أن يكون المركب قديماً تركيبه بنفسه 0 وقولك مركب من نفسه، لا تعنى به أن أجزاءه فعلت التركيب، وإنما تعنى به أن نفس الأجزاء متلازمان وهما مستغنيان عن غيرهما الوجه الخامس أن يقال قد اعترفت بفساد طريقة ابن سينا وأنها لا تتضمن أن كل مركب فلا بد له من فاعل خارج عنه وهذا الذي قلته في طريقة ابن سينا يلزمك بطريق الأولى، فإنه ليس فيما ذكرته أن كل مركب فلا بد له من فاعل خارج عنه، إلا ما أخذته من لفظ مركب، وهذا تدليس قد عرف حاله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 وأما قولك إن دليل الأشعرية أيضاً لا يفضي إلى إثبات أول قديم ليس بمركب وإنما يفضي إلى إثبات أول ليس بحادث فهذا أيضاً توكيد لإثبات الصفات ن فإن مرادك بالمركب ما كان موصوفاً بالصفات ولا ريب أن الأدلة الدالة على إثبات الصانع ليس فيها، والحمد لله، ما ينفي إثبات الصفات فإن قلت فهم ينفون التجسيم بناء على انتفاء التركيب، ولا دليل لهم على ذلك قيل لك هذه حجة جدلية، وغايته أن تلزمهم التناقض، وذلك لا يقتضي صحة قولك الذي نازعوك فيه، وهو نازعوك في إثبات الصفات، فقلت إن إثبات الصفات يستلزم التركيب، وأنت لم تقم دليلاً على نفي هذا التركيب، فلم تقم دليلاً على نفي الصفات، وقالوا لك أيضاً لا دليل لك على نفي التجسيم، فإن عمدتك هو نفي الصفات العائد إلى نفي التركيب، وقد ظهر ذلك فإذا قلت لهم وأنتم أيضاً لا دليل لكم على ذلك، فإن دليل الحدوث لا يقتضي ذلك قالوا لك نحن أثبتنا الحدوث بحدوث الجسم، وهو المراد بقولنا مركب، فإن صح دليلهم ثبت نفي ما سموه تركيباً وغن لم يصح دليلهم لم يكن في هذا منفعة لك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 وهذه الطريق هي التي سلكها أبو حامد في مناظرته إخوانك، وهي طريق صحيحة، وقد تبين أن ما ذكره أبو حامد عن احتجاجهم بلفظ المركب جواب صحيح، وان احتجاجهم بهذا نظير احتجاج أولئك بلفظ التخصيص حيث قالوا إن المختص بشيء لا بد له من مخصص، وهذا هو الذي سلكه نفاة الصفات ويسمون نفي الصفات توحيداً وهذا هو الذي سلكه أبو عبد الله محمد بن تومرت الملقب عند أصحابه بالمهدي وأمثاله من نفاة الصفات المسمين ذلك توحيداً كلام ابن تومرت ولقب ابن تومرت أصحابه بذلك، إذ كان قوله في التوحيد قول نفاة الصفات جهم وابن سينا ويقال إنه تلقى ذلك عمن يوجد في كلامه موافقة الفلاسفة تارة ومخالفتهم أخرى قلت ولهذا رأيت لابن التومرت كتاباً في التوحيد صرح فيه بنفي الصفات، ولهذا لم يذكر في مرشدته شيئاً من إثبات الصفات ولا إثبات الرؤية، ولا قال إن كلام الله غير مخلوق ن ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها، ولهذا كان حقيقة قوله موافقاً لحقيقة قول ابن سبعين والقائلين بالوجود المطلق موافقة لابن سينا وقد ذكر ابن التومرت في فوائده المشرقية أن الوجود مشترك بين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 الخالق والمخلوق، فوجود الخالق يكون مجرداً ووجود المخلوق يكون مقيداً ما ورد في كتاب الدليل والعلم وقال ابن التومرت في كتاب الدليل والعلم فقال المعلومات على ضربين معدوم وموجود والموجود على ضربين مطلق ومقيد فالمقيد هو المخصص والاختصاص على ثلاثة اضرب الاختصاص بزمان دون زمان سواه والثاني الاختصاص بجهة دون جهة غيرها والثالث الاختصاص بخاصة دون خاصة غيرها ن والموجود المطلق هو الذي ليس بمقيد ولا بمخصص ن فلا يختص بزمان دون غيره، ولا بجهة دون غيرها، ولا بخاصة دون غيرها، فلو اختص بشيء لكان من جنسه ن فلما انتفت عنه الخواص على الإطلاق وجب له الوجود المطلق قال والموجود المطلق هو القديم الأزلي الذي استحالت عليه القيود والخواص المختص بطلق الوجود من غير تقييد ولا تخصيص وذكر كلاماً في نفي الاختصاص إلى أن قال وإذا تساوت المتناهيات في الاختصاص بجهة مقدرة امتنع عليها التخصيص من جهتها، ومن مخصص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 على الإطلاق ثم قال بعد هذا انفرد بالعلم والكمال والحكم والاختيار، وانفرد بالقهر والاقتدار، وانفرد بالخلق والاختراع وقال مع هذه المخصصات بأسرها يستحيل الكمال عليها وإن تكاملت صفاتها تعليق ابن تيمية قلت ومعلوم أن هذا تناقض، فإن نفي الاختصاص بخاصة من الخواص، ودعوى انه وجود مطلق لا يختص بوجه من الوجوه يمنع أن يختص بعلم أو قدرة أو مشيئة ونحو ذلك من الصفات، فإن العالم مختص بعلمه متميز به عن الجاهل ن والقادر مختص بقدرته متميز بها عن العاجز ن والمختار مختص بالاختيار متميز به عن المستكره، فإن أثبت شيئاً من صفات الكمال فقد أثبت اختصاصه بذلك، وإن نفى جميع الصفات ولم يثبت إلا وجوداً مطلقاً تناقض كلامه وقيل له المطلق لا يوجد إلا في الذهن لا في الخارج ن فلا يتصور أن يكون في الخارج شيء مطلق، لا حيوان ولا إنسان مطلق ولا جسم مطلق ولا موجود مطلق، بل كل موجود فله حقيقة بها لا يشركه فيها غيره وقيل له هذا الوجود المطلق اهو وجود المخلوقات أم غيره؟ فإن قال هو هو، بطل إثبات الخالق، وإن قال هو غيره قيل له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 فوجوده مثل وجود المخلوقات أو ليس مثله ن فإن كان الأول لزم أن يكون الخالق مثل المخلوق، والمثلان يجوز ويجب ويمتنع على أحدهما ما يجوز ويجب ويمتنع على الآخر، فيلزم أن يكون الشيء الواحد واجباً غير واجب، محدثاً غير محدث، وهو جمع بين النقيضين وإن قال وجوده مخالف لوجود المخلوقات فقد أثبت له وجوداً يختص به، لا يشركه فيه غيره، فلا يماثله غيره وهذا وجود مخصوص مقيد، لا وجود مطلق وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع والمقصود هنا الكلام في أن كل مختص بأمر هل يفتقر إلى مخصص منفصل عنه؟ لأن الكلام كان في المسلك الثاني في حدوث الأجسام، الذي بين فساده الآمدي والأرموي وغيرهما، فإنه مبني على مقدمتين إحداهما أنها مفتقرة إلى ما يخصصها بصفاتها والثانية أن ما كان كذلك فهو محدث. وقد بينوا فساد المقدمة الثانية كما تقدم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 وأما الأولى فقررت بوجهين أحدهما أن المختص بمقدار لا بد له من مخصص، وقد تبين فساده أيضاً الثاني أن جواهر العالم إما ان تكون مجتمعة أو مفترقة، أو مجتمعة ومفترقة معاً، أو لا مجتمعة ولا مفترقة، أو البعض مجتمعاً والبعض مفترقاً، وخلوها عنهما، وأيضاً الجمع بينهما ممتنع واما بقية الأقسام فهي ممكنة، ومهما قدر أمكن تقدير خلافه فيكون جائزاً والجائز يفتقر إلى مخصص وهذا أضعف الوجهين أحدهما انه مبني على أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة، وان كل جسم يقبل الاجتماع والافتراق، واكثر عقلاء الناس على خلاف ذلك، فإن للناس في هذا المقام أقوالاً أحدها قول من يقول إنها مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة، كما هو قول أكثر المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وموافقيهم والثاني قول من يقول إنها مركبة من جواهر لا نهاية لها كما هو قول النظام ومتبعيه والثالث قول من يقول إنها مركبة من المادة والصورة، وإنها تقبل الانقسام إلى غير نهاية، كما هو قول ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 والرابع قول من يقول إنها ليست مركبة من هذا ولا هذا، لكن تقبل الانقسام إلى جوهر لا يتجزأ، كما هو قول الشهر ستاني وغيره والخامس قول من يقول إنها ليست مركبة لا من هذا ولا هذا ن ولا تقبل الانقسام إلى جزء لا يتجزأ ولا إلى غير غاية لكن كل جزء موجود فإنه يقبل الانقسام العقلي ولا يقبل الانقسام الفعلي ولكنه يستحيل إذا تصغر، كما تفسد وتستحيل أجزاء المادة إذا صغرت فتصير هواء ن فلا يكون في الأجزاء ما لا يتميز يمينه عن شماله، ولا يكون فيها ما يقبل الانقسام إلى غير غاية وهؤلاء تخلصوا من هذا المحذور وهذا المحذور، فإن مثبتة الجزء الذي لا ينقسم ألزمهم الناس بأنه لا بد ان يتميز أحد جانبيه عن الآخر ن وما كان كذلك فهو يقبل الانقسام المتنازع فيه وألزموهم انه إذا وضع بين جوهرين فإن لاقى هذا بعين ما لاقى به هذا امتنع كونه بينهما، وإن لاقى هذا بغير ما لاقى به هذا لزم انقسامه وألزموهم من هذا الجنس إلزامات لا محيد لهم عنها ومن نفاه وقال بانه يمكن انقسام الأجسام إلى غير نهاية ألزمهم الناس أن يكون الجسم الصغير كالكبير، وان يكون ما لا يتناهى محصوراً بين حاصرين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 ثم إما أن يقول هي غير متناهية مع وجودها، كما يقوله النظام، والتزم على ذلك ان الظافر لا يحاذي ما تحته من الأجزاء لئلا يقع ما لا يتناهى تحت ما يتناهى، وصار الناس يقولون عجائب الكلام طفرة النظام ن وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري ولهم في ذلك من الكلام ما يطول وصفه أو يقول إن الانقسام إلى غير غاية ممكن فيها كما يقوله المتفلسفة كابن سينا وأمثاله ولما كان كل من القولين معلوم الفساد بالضرورة قول من أثبت ما لا يتميز بعضه عن بعض، ومن أثبت ما ينقسم إلى غير نهاية ن توقف من توقف من أفاضل النظار فيه، فتوقف فيه أبو الحسين البصري وأبو المعالي الجويني في بعض كتبه وأبو عبد الله الرازي في نهايته فهؤلاء الذين لم يثبتوا إمكان الانقسام إلى غير غاية، ولا أثبتوا ما لا يقبل امتياز بعضه عن بعض، خلصوا من هذا وهذا ن وقالوا إنه إذا صغر استحال إلى غيره، مع امتياز بعضه عن بعض لو بقي موجوداً وبالجملة نفي هذا وهذا قول طوائف قول طوائف كثيرة من أهل النظر من الكلابية والكرامية، بل والهاشمية والنجارية والضرارية وغيرهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 والمقصود هنا ان هؤلاء الذين يقولون إن جواهر العالم إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة إلى آخرها قولهم مبني على هذا الأصل، والتزموا على ذلك أن جميع ما يحدث من الحيوان والنبات والمعدن، وما يفسد من ذلك غنما هو لاجتماع الجواهر وافتراقها، فالحادث صفات الجواهر، لا أن عيناً من الأعيان يحدث، وانكروا استحالة الأجسام بعضها إلى بعض وقالوا: إن أجزاء المني باقية في الأنسان، وكذلك أجزاء النواة في الشجرة، ولكن زادت أجزاء بما انضم إليها من أجزاء الغذاء، كأجزاء الماء والهواء، وأن تلك الأجزاء أيضاً باقية لم تستحل ولم تعدم، بل تجتمع تارة وتفترق أخرى. وجماهير العقلاء على مخالفة وقائلون هؤلاء وقائلون باستحالة الأجسام بعضها إلى بعض كما أطبق على ذلك علماء الشريعة وعلماء الطبيعة وغيرهم من أصناف الناس. ولهذا يقولون: النجاسة هل تطهر بالاستحالة ام لا تطهر؟ فإذا صارت الميتة والدم ولحم الخنزير رماداً أو تراباً أو ملحاً ونحو ذلك، ففي طهارة ذلك قولان مشهوران للعلماء والقول بطهارته قول أكثر الفقهاء فإنه قول أصحاب أبي حنيفة وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد بن حنبل واتفقوا على أن الخمر إذا استحالت وانقلبت بغير قصد الإنسان أنها تطهر. والأطباء مع سائر الناس يعلمون أن الماء يستحيل هواء والهواء يستحيل ماء والنار تسحيل هواء والهواء يستحيل ماء كما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 هو مبسوط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا التنبيه على أصول هذه الحجة. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين ما يقوله هؤلاء وهؤلاء من التركيب، وأن هؤلاء يدعون التركيب من جواهر محسوسة لا تنقسم وهي الجواهر المنفردة، وهؤلاء يدعون التركيب من جواهر معقولة لا تنقسم كما يقولون في تركب الأنواع من الأجناس والفصول وفي تركب الأجسام من المادة والصورة والمركب لا بد له من واحد لا تركيب فيه ولا تقسيم. وقد بين ان ما يدعيه هؤلاء وهؤلاء من هذا الواحد لا حقيقة له في الخارج ن وإنما تقديره في الذهن. وكذلك ما يدعيه هؤلاء من الجواهر العقلية المجردة التي لا تنقسم كالعقول العشرة، فقد بين في غير هذا الموضع أنها لا تتحقق إلا في الأذهان لا في الأعيان. وتوحيد القديم الأزلي واجب الوجود، الذي مضمونه نفي الصفات عند الفريقين ينزه عن مثل هذه الآحاد والوحدات التي يثبتونها في الخارج ولا حقيقة لها إلا في الذهن ولهذا كان منتهى تحقيقهم القول بوحدة الوجود، وأن الوجود واحد، لا يميزون بين الواحد بالنوع والواحد بالشخص، فإن الواحد بالنوع كما يقال: الموجودات تشترك في مسمى الوجود والأناسي تشترك في مسمى الإنسان والحيوانات تشترك في مسمى الحيوان والأجسام تشترك في مسمى الجسم ونحو ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 وهذا المشترك هو الكلي الذي لا يوجد في الخارج كليا، ولا يكون كليا إلا في الأذهان لا في الأعيان. وبين ما دخل على المنطقيين من الغلط في دعواهم تركب الحقائق من هذه الكليات، وما دخل عليهم من الفساد في العلم الإلهي والطبيعي، وأنهم يجعلون الواحد اثنين كالجسم والأثنين واحداً كالعلم والعالم، والإرادة والقدرة ويجعلون الموجود معدوماً ن كالحقيقة الإلهية وصفاتها وأفعالها والمعدوم موجوداً كالوجود المطلق ويجعلون ما في الذهن في الخارج، كالمجردات والكليات وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه. الوجه الثاني انه لو سلم أن الجسم مؤلف من الجواهر المجتمعة فالقول في الاجتماع كالقول في المقدار وقوله: إن اختصاصه بذلك الاجتماع يفتقر إلى مخصص قد بين فساده كقوله إن اختصاصه بالمقدار إلى مخصص وهو مبني على أن كل مختص يفتقر إلى مخصص. وأما المقدمة الثانية فإنها قررت بان المخصص لا بد أن يكون فاعلاً مختاراً وان يكون ما خصصه به حادثاً وقد أبطل الآمدي وغيره كلا المقدمتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 وغاية هذا المسلك أن الأجسام لا تخلو عن الحوادث. كلام الآمدي في تقرير هذا المسلك قال الآمدي وبتقدير تسليم حدوث ماأشير إليه من الصفات فلا يلزم أن تكون الجواهر والأجسام حادثة لجواز ان تكون هذه الفصفات متعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق من امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها ينتهي إليه. ذكر الآمدي في حدوث الأجسام سبعة مسالك وزيف ستة منها قلت: وهذا الذي اعتمده الآمدي في هذه المسألة فإنه ذكر في حدوث الأجسام سبعة مسالك وزيف ستة منها: الأول: مسلك الإمكان وأنه ممكن، وكل ممكن محدث. والثاني: مسلك الاختصاص. الثالث: مسلك الخبز المعين. الرابع: مسلك القدم: أنه قديم. والخامس مسلك الإمكان أيضاً لكن فيه تقدير الحدوث بطريقة أخرى. والسادس: مسلك الحركة والسكون الذي قدمه الرازي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 وقد تقدم ما عترض به هو والأرموي وغيرهما على هذه المسالك وبينوا به فسادها. المسلك السابع الذي اعتمده قال الآمدي والمسلك السابع: المسلك المشهور للأصحاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 وعليه الاعتماد وذكر أن المسلك المشهور للأشعرية والرازي ونحوه لم يعتمد على هذا المسلك، لأنه مبني على أن الأعراض ممتنعة البقاء وقدح الآمدي في الطرق التي اعتمد عليها الرازي. قال الآمدي: وهو أنا نقول: العالم مؤلف من أجزاء حادثة، والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث، فالعالم حادث بيان الأول أن أجزاء العالم منحصرة في الجواهر والأعراض، والواهر والأعراض حادثة، فأجزاء العالم حادثة. وبيان الأول ما سبق في الوجود والممكن. بيانت الثانية إما بيان أن الأعراض حادثة فلانا بينا ان الأعراض ممتنعة البقاء وكل ممتنع البقاء فهو حادث مسبوق بعدم نفسه، فكل واحد من الأعراض حادث مسبوق بعدم نفسه وعند ذلم فإما أن تكون متعاقبة في وجودها إلى غير النهاية او هي منتهية إلى عرض ليس وراءه عرض آخر , الأول محال لما بيناه من بيان امتناع حوادث لا أول لها ينتهي إليه في إثبات واجب الوجود فلم يبق إلا الثاني وهو أن تكون جملتها متناهية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 ومسبوقة بالعدم فتكون حادثة وأما الواهر فلأنا بينا فيما تقدم امتناع عرو الواهر عن الأعراض وإذا كانت الأعراض التي لا عرو للجواهر عنها حادثة ومسبوقة بالعدم فالجواهر كذلك، لأن مالا يعرى عما له أول فله أول وهو حادث. وإلا فلو كان قديما للزم منه غما عروة عن العرض في حال قدمه، وإما أن تكون الأعراض لا أول لها وكل واحد من الأمرين محال لما تقدم. اما بيان المقدمة الثانية من أصل الدليل، فهو أن ما كانت أجزاؤه حادثة ولها أول تنتهي إليه، فالهيئة الاجتماعية الكائنة عنها تكون حادثة مسبوقة بالعدم وهو معلوم بالضرورة. فهذا تمام تقريره لهذا المسلك الذي ارتضاه. تعليق ابن تيمية ولقائل أن يقول: هذا الدليل أضعف بكثير ممن ذكره الرازي ولهذا لم يعرج الرازي على هذا لضعفه واستدل بدليل الحركة والسكون كما استدل به من استدل من المعتزلة فإن هذا الدليل مبني على مقدمتين إحداهما أن الأعراض جميعها ممتنعة البقاء وجمهور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 العقلاء من أهل الكلام وغيرهم من أصناف الناس ينكرون ذلك بل يقولون إن هذا خلاف الحس والضرورة ويجعلونه من جنس قول النظام إن الأجسام أيضاً لا تبقى. وعمدة من قال بامتناع بقائها: أن العرض لو جاز لامتنع عدمه لأن العدم لا يجوز أن يكون بحدوث ذد فإن الحادث إنما يحدث في حال عدم الثاني لامتناع اجتماع الضدين، لأنه ليس عدم الثاني لطريان الحادث بأولى من العكس ولا يجوز ان يكون بفعل القادر المختار لأن العدم نفي محض وفعل الفاعل لا يكون نفياً محضا. ومعلوم ان هذا كلام ضعيف، فإنه يمكن عدمه بالإعدام، وفعل الإعدام ليس فعلاً لعدم مستمر، بل هو إحداث لعدم ما كان موجوداً، كما أن إحداث الوجود إحداث لوجود ما كان معدوماً وهذا أمر متجدد يعقل كونه مفعولاً للفاعل. وأيضاً فالضد الحادث إذا قدر أنه أقوى من الباقي، كان إزالته له لفضل قوته، فإن كون العرضين متضادين لا يستلزم تساويهما وتماثلهما في القوة والضعف. وأيضاً فإن الفاعل المحدث للعرض الحادث يجعله مزيلاً لذلك الباقي دون العكس. ولولا أن هذا ليس موضع بسط الكلام في مثل هذه الأمور وإلا لكان ينبغي أن تبين أن مثل هذا الكلام من أسخف الكلام الذي ذمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 السلف والأئمة وغيرهم من العقلاء. فإن هؤلاء يقولون إن الله لا يمكن أن يفني شيئاً من الأجسام والأعراض بل طريق فنائها أنه لا يخلق الأعراض التي تحتاج إلى تجديد وإحداث دائماً فإذا لم يحدثها عمدمت الأجسام وفنيت بأنفسها لأنه لا وجود لها إلا بالأعراض ومثل هذا الكلام لو قاله الصبيان لضحك منهم. وأما المقدمة الثانية فهو وجوب تناهي الحوادث وقد تقدم كلامهم في إفساد جميع ما استدل به على ذلك. والطريقة التي قررها الآمدي قد تقدم اعتراض الأموري وغيره عليها وبيان فسادها. فهذا جملة ما احتج به هؤلاء الذين هم فحول النظر وأئمة الكلام والفلسفة في هذه المسائل. وقد تبين بكلام بعضهم في بعض إفساد هذه الدلائل. وهذا جملة ما يعارضون به الكتاب والسنة، ويسمونه قواطع عقلية ويقولون: إنه يجب تقديم مثل هذا الكلام على نصوص التنزيل والثابت من أخبار الرسول وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها. فلو لم يكن في المعقول ما يوافق قول الرسول لم تجز معارضته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 بمثل هذا الكلام فضلاً عن تقديمه عليه فكيف والمعقول الصريح موافق لما جاء به الرسول كما بين في موضعه بل لا يجوز أن تعارض بمثل هذا الكلام الأحكام الثابتة بالمعومات والأقيسة والظاهر وأخبار الآحاد فكيف تعارض بذلك النصوص الثابتة عن المعصوم؟ بل مثل هذا الكلام لا يصلح لإفادة ظن ولا يقين وإنما هو كلام طويل بعبارت طويلة وتقسيمات متنوعة يهابه من لم يفهمه، وعامة من وافق عليه وافق عليه تقليداً لمن قاله قبله لا عن تحقيق عقلي قام في نفسه. وكلام السلف والأئمة في ذم مثل هذا الكلام الذي احتجوا فيه بطريقة الأعراض والجواهر على حدوث الأجسام وإثبات الصانع كثير منتشر قد كتب في غير هذا الموضع. وكل من أمعن نظره وفهم حقيقة الأمر علم أن السلف كانوا أعمق من هؤلاء علماً وأبر قلوباً وأقل تكلفاً وأنهم فهموا من حقائق الأمور ما لم يفهمه هؤلاء الذين خالفوهم وقبلوا الحق وردوا الباطل والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 فصل وإذ قد عرف ما قله الناس من جميع الطوائف في مسألة الأفعال الاختيارية القائمة بذات الله تعالى، وضعف أدلة النفاة واعتراف أب يعبد الله الرازي وغيره بذلك، وانه اعتمد على حجة الكمال والنقصان، وهي ضعيفة أيضاً كما تقدم، وذكر هو وأبو الحسن الآمدي ومن اتبعهما ادلة نفاة ذلك، وأبطلوها كلها ولم يستدلوا على نفي ذلك إلا بأن ما يقوم به: إن كان صفة كمال كان عدمه قبل حدوثه نقصاً وإن كان نقصاً لزم اتصافه بالنقص والله منزة عن ذلك. ضعف تضعيف الرازي وغيره لحجة الكمال والنقصان وهذه الحجة ضعيفة ولعلها أضعف مما ضعفوه فإن لقائل أن يبطلها من وجوه كثيرة. الوجه الأول أن يقال: القول في افعاله القائمة به الحادثة بمشيئته وقدرته، كالقول في أفعاله التي هي المفعولات المنفصلة التي يحدثها بمشيئته وقدرته. فإن القائلين بقدم العالم أوردوا عليهم هذا السؤال فقالوا الفعل إن كان صفة كما لزم عدم الكمال له في الأزل وإن كان صفة نقص لزم اتصافه بالنقائص فأجابوهم بأنه ليس صفة نقص ولا كمال. وهذا كما أن من حجج النفاة أنه لو كان قابلاً لقيام الحادث به لكان القبول من لوازم ذاته ووجود المقبول في الأزل محال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 فأجيبوا بانه لا فرق بين حدوث ما يقوم به أو بغيره. فإذا قيل: لو كان قادراً على فعل الحوادث لكان ذلك من لوازم ذاته، وذلك في الأزل محال فما كان جواباً عم هذا كان جواباً عن هذا. وقد اورد الرازي على ذلك في بعض كتبه أن القادر يتقدم المقدور والقابل لا يجب أن يتقدم المقبول وهذا فرق في غاية الضعف لوجوه: أحدها: أن الكلام إنما هو في مقبول مقدور، لا في مقبول غير مقدور فإن ما كان حادثاً فالرب قادر عليه وهو قادر على افعاله القائمة به كما هو قادر على مفعولاته المنفصلة. قال تعالى: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} القيامة 40 وقال تعالى {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} الآية الأنعام 65 وقال تعالى {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} يس 81 وقال تعالى {وهو على جمعهم إذا يشاء قدير} الشورى 29 فبين أنه قادر على الإحياء والبعث والخلق والجمع، وهذه أفعال وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود البدري لما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 رآه يضرب عبداً له لله أقدر عليك منك عليه فتعين انه قادر عليه نفسه. والمقصود هنا أن الكلام إنما هو في الحوادث التي هي مقدورة ليس في كل مقبول فإذا كان المقدور لا يوجد في الأزل اتمنع وجود الحوادث كذلك، فلا يصح أن يفرق بين مقبول مقدور ومقبول غير مقدور، إذ كلاهما مقدور. الثاني: أن يقال إما أن يكون وجود الحادث في الأزل ممكناً، وإما أن يكون ممتنعاً فإن كان ممكناً أمكن وجود المقدور في الأزل وإن كان ممتنعاً امتنع وجوده مقبولا ومقدوراً. الثالث: أن يقال: إثبات المقدور حال امتناع المقدور جمع بين المتناقضين ن فلا يعقل إثبات القدرة في حال امتناع المقدور بل في حال إمكانه. ولهذا أنكر المسلمون وغيرهم على من قال من أهل الكلام إنه قادر في الأزل مع امتناع المقدور في الأزل وقالوا هذا جمع بين المتناقضين وقالوا: أنه يستلزم انتقال المقدور من الإمكان إلى الامتناع بدون سبب يوجب هذا الانتقال ويوجب أن يصير الرب قادراً بعد أن لم يكن قادراً بدون سبب يوجب ذلك وقد بسط الكلام على ذلك ف يغير هذا الموضع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 الوجه الثاني أن يقال: كونه بحيث يتكلم ويفعل ما يشاء صفة كمال، وهو لم يزل متصفاً بذلك وأما الشيء المعين فحدوثه لا نقص ولا كمال. الوجه الثالث أن يقال: ما تعني بقولك عدم ذلك نقص؟ أتعني به أن ذاته ناقصة وأنها ليست منتصفة بصفات الكمال الواجبة لها؟ أم تعني به عدم ما سيوجد لها؟ أما الأول فباطل وأما الثاني فلم قلت إن هذا ممتنع الوجه الرابع أن يقال أنتم قلتم ما ذكره أبو المعالي والرازي وغيرهما من أن تنزيهه عن النقائض إنما علم بالسمع لا بالعقل فإذا قلتم إنه ليس في العقل ما ينفي ذلك، لم يبقي ذلك إلا بالسمع، الذي هو الإجماع عندكم. ومعلوم أن السمع الذي هو الإجماع، والإجماع وغيره لم ينف هذه الأمور، وإنما نفي ما يناقض صفات الكمال كالموت المنافي للحياة والسنة والنوم المنافي للقيومية واللغوب المنافي لكمال القدرة. ولهذا كان الصواب أن الله منزه عن النقائص شرعاً وعقلا. فإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 العقل كما دل على اتصافه بصفات الكمال من العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام، دل أيضاً على نفي أضداد هذه فإن إثبات الشيء يستلزم نفي ضده ولا معنى للنقائص إلا ما ينافي صفات الكمال. وأيضاً فكل كمال اتصف به المخلوق إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما فالخالق أحق به لأنه هو الذي خلقه وكل كمال اتصف به موجود ممكن وحادث فالموجود الواجب القديم أولى به، وكل نقص تنزه عنه مخلوق موجود حادث إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما فالخالق أولى بتنزيهه عنه. الوجه الخامس أن يقال إذا عرضنا على العقل الصريح ذاتاً لا علم لها ولا قدرة ولا حياة ولا تتكلم ولا تسمع ولا تبصر أو لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات وذاتاً موصوفة بالحياة والعلم والقدرة والكلام والمشيئة كان صريح العقل قاضياً بان المتصفة بهذه الصفات التي هي صفات الكمال، بل القابلة للاتصاف بها، أكمل من ذات لا تتصف بهذه أو لا تقبل الاتصاف بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 ومعلوم بصريح العقل أن الخالق المبدع لجميع الذوات وكمالاتها أحق بكل كمال وأحق بالكمال الذي باين به جميع الموجودات وهذا الطريق وتحوه مما سلكه أهل الإثبات للصفات. فيقال: وإذا عرضنا على العقل الصريح ذاتاً لا فعل لها ولا حركة ولا تقدر أن تصعد ولا تنزل ولا تأتي ولا تجيء ولا تقرب ولا تقبض ولا تطوي ولا تحدث شيئاً بفعل يقوم بها وذاتاً تقدر على هذه الفعال ولا تحدث الأشياء بفعل لها، كانت هذه الذات أكمل فإن تلك كالجماد أو الحي الزمن المجدع، والحي أكمل من الجماد والحي القادر على العمل أكمل من العاجز عنه، كما أن ما لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم كالجماد أو كالأعمى الصم الأخرس والحي أكمل من الجماد والحي الذي يسمع ويبصر ويتكلم أكمل من الأصم الأعمى الأخرس. وإذا كان كذلك، فإذا أراد نافي الفعل أن ينفيه لئلا يصفه في الأزل بالنقص فقال لو كان فعالاً بنفسه لكان الفعل المتأخر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 معدوماً في الأزل وعدمه صفة نقص فكان متصفاً بالنقص كان بمنزلة من يقول إنه لا يقدر أن يحدث الحوادث ولا يفعل ذلك لأنه لو قدر على ذلك وفعله لكان إحداثه للحادث الثاني معدوماً قبل إحداثه وذلك نقص فيكون متصفاً بالنقص. فيقال: أنت وصفته بالكمال عن النقص، حذراً من أن تصفه بما هو عندك نوع نقص، فإن من لا يفعل قط، ولا يقدر أن يفعل، هو أعظم نقصاً ممن يقدر على الفعل ويفعله والفعل لا يكون إلا حادثاً شيئاً بعد شيء. وهذه عادة النفاة، لا ينفون شيئاً من الصفات فراراً من محذور إلا لزمهم في النفي أعظم من ذلك المحذور، كنفاة الصفات من الباطنية من المتفلسفة وغيرهم، لما قبل لهم إذا لم يوصف بالعلم والقدرة والحياة لزم أن يتصف بما يقابل ذلك كالعجز والجهل والموت. فقالوا: إنما يلزم ذلك لو كان قابلاً للاتصاف بذلك فإن المتقابلين تقابل السلب والإيجاب كالوجود والعدم إذا عدم أحدهما ثبت الآخر. وأما المتقابلان تقابل العدم والملكة، كالحياة والموت، والعمى والبصر فقد يخلو المحل عنهما، كالجماد فإنه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 فيقال لهم: فررتم عن تشبيهه بالحيوان الناقص الذي لا يسمع ولا يبصر مع إمكانه ذلك منه فشبهتموه بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا فكان ما فررتم إليه شراً مما فررتم منه. ولهذا نظائر مبسوطة ف يغير هذا الموضع. والمقصود هنا أن من نفي الأفعال الاختيارية القائمة به لئلا يكون وجود الحادث منها ناقصاً، كان قد وصفه بالنقص التام فراراً بزعمه مما يظنه نقصاً الوجه السادس أن يقال: الأفعال التي حدثت بعد ان لم تكن لم تكن وجودها قبل وجودها كمالاً، ولا عدمها نقصاً، فإن النقص إنما يكون إذا عدم ما يصلح وجوده، وما به يحصل الكمال، وما ينبغي وجوده ونحو ذلك. والرب تعالى حكيم في أفعاله. وهو المقدم والمؤخر فما قدمه كان الكمال في تقديمه، وما أخره كان الكمال في تأخيره. كما أن ما خصصه بما خصصه به من الصفات فقد فعله على وجه الحكمة، وإن لم نعلم نحن تفاصيل ذلك واعتبر ذلك بما يحدثه من المحدثات. الوجه السابع أن يقال: الحوادث يمتنع قدمها، ويمتنع أن توجد معاً، واو وجدت معاً لم تكن حوادث. ومعلوم انه إذا دار الأمر بين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 إحداث الحوادث وعدم إحداثها، كان أحداثها أكمل ولا يكون إحداثها إلا مع عدم الحادث منها في الأزل. وإذا كان كذلك صار هذا بمنزلة جعل الشيء موجوداً معدوماً، فلا يقال عدم فعل هذا او عدم تعلق القدرة به صفة نقص بل النقص عدم القدرة على جعله موجوداً فإذا كان قادراً على ذلك كان موصوفاً بصفة الكمال التي لا يمكن غيرها فكذلك المحدث للأمور المتعاقبة هو موصوف بالكمال الذي لا يمكن في الحدوث غيره. الوجه الثامن أن يقال: لا ريب أن الحوادث مشهودة وأن لها محدثاً أحدثها، فالمحدث لها: إما أن يحدثها بفعل اختياري يقوم به وإما أن تحث عنه شيئاً بعد شيء من غير فعل يقوم به ولا حدوث شيء منه ومعلوم أن اتصافه بالأول أولى لو كان الاثنين ممكناً فإن الأول فيه وصفة بصفة الكمال بخلاف الثاني فكيف والثاني ممتنع، لأن حدوث الحوادث من غير سبب حادث ممتنع. وإذا كان حال الفاعل قبل حدوثها كحاله مع حدوثها وبعد حدوثها، وهي في الحالين حادثة، لم يكن الفاعل قد فعل شيئاً ولا أحدث شيئاً بل حدثت بذاتها. وهذا الدليل قد بسط في غير هذا الموضع وبين فساد قول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 الفلاسفة الدهرية القائلين بان حركات الأفلاك تصدر عن قديم أزلي لا يحدث منه شيء وإن قولهم أفسد من قول المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام، فغن هؤلاء الفلاسفة استدلوا على قدم العالم بحجتهم العظمى، وهو انه لو حدث بعد أن لم يكن لاحتاج إلى سبب حادث والقول في ذلك السبب كالقول فيه فيلزم التسلسل او الترجيح بلا مرجح. فيقال لهم: أنتم تقولون بحدوث الحوادث شيئاً بعد شيء عن فاعل قائم بنفسه لا تقوم به صفة ولا فعل ولا يحدث له فعل ولا غير فعل. فقولكم بصدور الحوادث المختلفة الدائمة عمن لا فعل له ولا صفة ولا يحدث منه شيء أعظم فساداً من قول من يقول إنه تارة تصدر عنه الحوادث وتارة تصدر فإنه إن كان صدور الحوادث عنه من غير حدوث شيء فيه محالاً فصدورها دائماً عنه من غير حدوث شيء فيه أشد إحالة. الوجه التاسع إن يقال: أفعال الله تعالى: إما أن يكون لها حكمة هي غايتها المطلوبة، وإما أن لا يكون والناس في هذا المقام مشهوران أحدهما قول من لا يثبت إلا المشيئة والثاني قول من يثبت حكمه قائمة بالمخلوق، أو حكمه قائمة بالخالق. والأقول الثلاثة معروفة في الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 فإن نفيتم الحكمة جوزتم أن يفعل أفعالاً لا يحصل له بها كمال فيقال لهم قولوا في أفعاله القائمة بنفسه الاختيارية ما تقولونه في حدوث المفعولات عنه، وهو الفعل عندكم وإن أثبتم الحكمو، قيل لكم الحكمة الحاصلة بالفعل الحادث حادثة بعده فحدوث هذه الحكمة بعد أن لم تكن، سواء كانت قائمة بنفسه أو بغيره، اهي صفة كمال أو لا؟ فإن قلتم صفة كمال فقولوا في نفس الفعل الحادث ما قلتموه في الحكمة المطلوبة به وإن قلتم ليست صفة كمال، فقولوا في نفس الفعل الحادث ما قلتموه في الحكمة المطلوبة فقد لزمكم في الحكمة، إن أثبتموها أو نفيتموها، ما يلزمكم في نفس الفعل سواء بسواء، وهذا بين واضح الوجه العاشر أن يقول من يثبت الفعل القائم به والحكمة القائمة به معلوم بصريح العقل ان هذا صفة كمال، وأن من يكون كذلك أكمل ممن لا يفعل أو يفعل لا لحكمة فلم قلتم إن هذا ممتنع؟ فإذا قيل لئلا يلزم الكمال بعد النقص قيل لهم لم قلتم وجود مثل هذا الكمال ممتنع؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 ولفظ النقص لفظ مجمل كما تقدم فإن غايته أن يفسر بعدم ما وجد قبل أن يوجد، فيعود الأمر إلى أن هذا الموجود إذا وجد بعد أن لم يكن، لزم أن يكون معدوماً قبل وجوده فيقال ومن أين علمتم أن وجود هذا بعد عدمه محال؟ وليس في ذلك افتقار الرب إلى غيره ولا استكماله بفعل غيره، بل هو الحي الفعال لما يشاء العليم القدير الحكيم، الخبير الرحيم الودود، لا إله إلا هو، وكل ما سواه فقير إليه، وهو غني عما سواه، لا يكمل بغيره، ولا يحتاج إلى سواه ولا يستعين بغيره في فعل، ولا يبلغ العباد نفعه فينفعوه، ولا ضره فيضروه، بل هو خالق الاسباب والمسببات، وهو الذي يلهم عبده الدعاء، ثم يجيبه وييسر عليه العمل، ثم يثيبه ويلهمه التوبة، ويحبه ويفرح بتوبته وهو الذي استعمل المؤمنين فيما يرضيه، ورضي عنهم فلم يحتج في فعله لما يحبه ويرضاه إلى سواه، بل هو الذي خلق حركات العباد التي يحبها ويرضاها، وهو الذي خلق ما لايحبه ولا يرضاه من اعمالهم، لما له في ذلك من الحكمة التي يحبها ويرضاها {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون} القصص: 70، فلا إله إلا هو {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} الانبياء: 22، إذا كان هو الذي يستحق أن تكون العبادة له، وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل لا منفعة فيه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 فما لا يكون به لا يكون، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم كما قال تعالى {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} الفرقان: 23 وقال {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء} إبراهيم: 18، وهو سبحانه يحب عباده الذين يحبونه، والمحبوب لغيره أولى أن يكون محبوباً فإذا كنا إذا أحببنا شيئاً لله هو المحبوب في الحقيقة، وحبنا لذلك بطريق التبع، وكنا نحب من يحب الله لأنه يحب الله، فالله تعالى يحب الذين يحبونه، فهو المستحق أن يكون هو المحبوب المألوه المعبود، وأن يكون غاية كل حب كيف وهو سبحانه الذي يحمد نفسه ويثني على نفسه، ويحب الحمد من خلقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لا أحد أحب إليه المدح من الله وقال له الأسود بن سريع يا رسول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 الله إني حمدت ربي بمحامد فقال إن ربك يحب الحمد وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا احصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك وقد روى انه كان يقول ذلك في آخر الوتر فهو المثني على نفسه، إذا أفضل خلقه لا يحصى ثناء عليه والثناء تكرير المحامد وتثنيتها، كما في الحدث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال إذا قال العبد الحمد لله رب العالمين، قال الله حمدني عبدني فإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال ربنا ولك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، احق ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. فذكر الحمد والثناء والمجد هنا، كما ذكره في اول الفاتحة، فالحمد يتناول جنس المحامد، والثناء يقتضي تكريرها وتعديدها والزيادة في عددها 0 والمجد تعظيمها وتوسيعها والزيادة في قدرها وصفتها فهو سبحانه مستحق للحمد والثناء والمجد، ولا أحد يحسن أن يحمد كما يحمد نفسه ن ولا يثني عليه كما يثني على نفسه، ولا يمجده كما يمجد نفسه كما في حديث ابن عمر الذي في الصحيح، لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} الزمر: 67 قال يقبض الله سماواته بيده، والأرضون بيده الأخرى، ثم يمجد نفسه فيقول ـنا الملك، انا القدوس، انا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا العزيز، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئاً، أنا الذي أعدتها، أين الملوك أين الجبارون أين المتكبرون؟ أو كما قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 وفي الحديث الآخر يقول الله تعالى إني جواد، ماجد، واجد، إنما أمري إذا أردت شيئاً أن أقول له كن فيكون فصل كلام الآمدي في أبكار الأفكار في بيان امتناع حلول الحوادث بذاته تبارك وتعالى. ونحن نذكر ما ذكره أبو الحسن الآمدي في هذا الأصل وتتكلم عليه قال في كتابه الكبير المسمى أبكار الأفكار المسألة الرابعة من النوع الرابع الذي سماه إبطال التشبيه في بيان امتناع حلول الحوادث بذاته تبارك وتعالى: قال وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 النزاع فنقول المراد بالحادث المتنازع فيه الموجود بعد العدم، كان ذاتاً قائمة بنفسها، أو صفة لغيره كالأعراض وأما ما لا وجود له كالعدم، أو الأحوال عند القائلين بها، فإنها غير موصوفة بالوجود ولا بالعدم، كالعالمية والقادرية والمريدية ونحو ذلك، أو النسب والإضافات، فإنها عند المتكلم أمور وهمية لا وجود لها، فما تحقق من ذلك بعد أن لم يكن فيقال له متجدد، ولا يقال له حادث قال وعند هذا فنقول العقلاء من أرباب الملل وغيرهم متفقون على استحالة قيام الحوادث بذات الرب تبارك وتعالى غير المجوس والكرامية فإنهم اتفقوا على جواز ذلك غير أن الكرامية لم يجوزوا قيام كل حادث بذات الرب تعالى، بل قال أكثرهم هو ما يفتقر إليه في الإيجاد والخلق، ثم اختلفوا في هذا الحادث فمنهم من قال هو قوله كن ومنهم من قال هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 الإرادة أو القول في ذاته يستند إلى القدرة القديمة، لا أنه حادث بإحداث ن وأما خلق باقي المخلوقات فمستند إلى الإرادة أو القول، على اختلاف مذهبهم، فالمخلوق القائم بذاته يعبرون عنه بالحادث، والخارج عن ذاته يعبرون عنه بالمحدث، ومنهم من زاد على ذلك حادثين آخرين، وهما السمع والبصر قال وأجمعت الكرامية على أن ما قام بذاته من الصفات الحادثة لا يتجدد له منها اسم، ولا يعود إليه منها حكم، حتى لا يقال إنه قائل بقول، ولا مريد بإرادة، بل قائل بالقائلية، ومريد بالمريدية، ولم يجوزواعليه إطلاق اسم متجدد لم يكن فيما لا يزال، بل قالوا أسماؤه كلها أزلية، حتى في الخالق والرازق، وغن لم يكن في الأزل خلق ولا رزق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 قال وأما ما كان من الصفات المتجددة التي لا وجود لها في الأعيان، فما كان منها حالاً فقد اتفق المتكلمون على امتناع اتصاف الرب به، غير أبي الحسين البصري فإنه قال تتجدد عالميات لله تعالى بتجدد الملومات ن وما كان من النسب والإضافات والتعلقات، فمتفق بين أرباب العقول على جواز اتصاف الرب تعالى بها، حتى يقال إنه موجود مع العالم بعد أن لم يكن، وإنه خالق العالم بعد أن لم يكن 0 وما كان من الأعدام والسلوب 0 فإن كان سلب أمر يستحيل تقدير وجوده لله تعالى، فلا يكون متجدداً بالإجماع، مثل كونه غير جسم ولا جوهر ولا عرض، إلى غير ذلك. وإن كان سلب أمر لا يستحيل تقدير اتصاف الرب به كالنسب والإضافات، فغير ممتنع إن يتصف به الرب تعالى بعد أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 لم يكن بالإتفاق، فإنه إذا كان الحادث موجوداً صح أن يقال الرب تعالى موجود مع موجوده، وتنعدم هذه المعية عند فرض عدم ذلك الحادث فيتجدد له صفة سلب بعد أن لم تكن تعليق ابن تيمية قلت قد ذكر أن لفظ الحادث مرادهم به الموجود بعد العدم، سواء كان قائماً بنفسه كالجوهر، أو صفة لغيره كالأعراض ن وسمي ما ليس بموجود كالأحوال والسلوب والإضافات متجددات، وهذا الفرق أمر اصطلاحي، وإلا فلا فرق بين معنى المتجدد ومعنى الحادث وأيضاً فإن الأحوال عند القائلين بها، منهم من يقول بوجودها، وقالوا يصح أن تكون معلومة تبعاً لغيرها، وأن يكون وجودها تبعاً لغيرها وخالفوا أبا هاشم في قوله ليست معلومة ولا مجهولة ولا موجودة ولا معدومة وأيضاً فالنسب والإضافات عند الفلاسفة قد تكون وجودية، وأما المذاهب فيقال لفظ الحوادث والمتجدادت في لغة العرب يتناول أشياء كثيرة، وربما أفهم أو اوهم في العرف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 استحالات كالأمراض والغموم والأحزان ونحوها، إذا قيل فلان حدث به حادث وكثير منهم يعبر بالأحداث عن المعاصي والذنوب ونحو ذلك كما قد عرف هذا وأما مورد النزاع انه هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته إما من باب الأفعال كالاستواء إلى غيره والأستواء عليه، والإتيان والمجيء والنزول ونحو ذلك، وإما من باب الأقوال والكلمات، وإما من باب الأحوال كالفرح والغضب والإرادات والرضا والضحك ونحو ذلك، وإما من باب العلوم والإدراكات كالسمع والبصر والعلم بالموجود بعد العلم بأنه سيوجد وإذا كان كذلك فقوله إن العقلاء من أرباب الملل وغيرهم متفقون على استحالة ذلك غير أن الكرامية إلى آخره ليس بنقل مطابق أما أهل الملل فلا يضاف إليهم من حيث هم أرباب ملة إلا ما ثبت عن صاحب الملة، صلوات الله عليه وسلامه، أو ما أجمع عليه أهل العلم، وأما ما قاله بعض أهل الملة برأيه أو استنباطه، مع منازعة غيره له، فلا يجوز إضافته إلى الملة ومن المعلوم أنه لا يمكن أحد أن ينقل عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولا عن إخوانه المرسلين كموسى وعيسى صلوات الله عليهما، ما يدل على قول النفاة لا نصاً ولا ظاهراً، بل الكتب الإلهية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 المتواترة عنهم والأحاديث المتواترة عنهم تدل على نقيض قول النفاة وتوافق قول أهل الإثبات وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان وأئمة المسلمين أرباب المذاهب المشهورة، وشيوخ المسلمين المتقدمين، لا يمكن أحد أن ينقل نقلاً صحيحاً عن أحد منهم بما يوافق قول النفاة بل المنقول المستفيض عنهم يوافق قول أهل الإثبات فنقل مثل هذا عن أهل الملة خطأ ظاهر ولكن أهل الكلام والنظر من أهل الملة تنازعوا في هذا الأصل لما حدث في أهل الملة مذهب الجهمية نفاة الصفات وذلك بعد المائة الأولى في أواخر عصر التابعين ولم يكن قبل هذا يعرف في أهل الملة من يقول بنفي الصفات ولا بنفي الأمور الاختيارية القائمة بذاته فلما حدث هذا القول وقالت به المعتزلة وقالوا لا تحل به الأعراض والحوادث وأرادوا بذلك انه لا تقوم به صفة كالعلم والقدرة ولا فعل كالخلق والاستواء أنكر أئمة السلف ذلك عليهم كما هو متواتر معروف وعن هذا قالت المعتزلة إن القرآن مخلوق لأنه لو قام بذاته للزم أن تقوم به الأفعال والصفات، وأطبق السلف والأئمة على إنكار هذا عليهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 وكل من خالفهم قبل ابن كلاب كان يقول بقيام الصفات والأقوال والأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته به لكن ابن كلاب ومتبعوه فرقوا بين ما يلزم الذات من أعيان الصفات كالحياة والعلم وبين ما يتعلق بالمشيئة والقدرة فقالوا هذا لا يقوم بذاته لن ذلك يستلزم تعاقب الحوادث عليه كما سيأتي وابن كرام كان متأخراً بعد محنة الإمام أحمد بن حنبل وتوفي ابن كرام في حدود ستين ومائتين فكان بعد ابن كلاب بمدة وكان أكثر أهل القبلة قبلة على مخالفة المتزلة والكلابية حتى طوائف أهل الكلام من الشيعة والمرجئة كالهشامية وأصحاب أبي معاذ التومني وزهير الأثري وغيرهما كما ذكر عنهم الأشعري في المقالات وأمثال هؤلاء كانوا يقولون بقيام الحوادث به حتى صرح طوائف منهم بالحركة كما صرح بذلك طوائف من أئمة الحديث والسنة وصرحوا بأنه لم يزل متكلماً إذا شاء وأن الحركة من لوازم الحياة وأمثال ذلك بل هم يقولون إنه إنما ابتدع من ابتداع من أهل الكلام البدع المخالفة للنصوص وللمعقول بهذا الأصل كقول من قال إن الكلام معنى واحد قديم وقول من قال إن المعدوم يرى ويسمع وقول من قال بقدم صوت معين وأما غير أهل الملل فالفلاسفة متنازعون في هذا الأصل والمحكي عن كثير من أساطينهم القدماء أنه كان يقول بذلك كما تقدم نقل المقالات عنهم حتى صرح بالحركة من صرح منهم بل الذين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 كانوا قبل أرسطو من الأساطين كانوا يقولون بحدوث العالم عن أسباب حادثة وهم يقولون بهذا الأصل إما تصريحاً وإما لزوماً وكذلك غير واحد من متأخريهم كأبي البركات البغدادي صاحب المعتبر وهذا اختيار طائفة من النظار كالأثير الأبهري وغيره وما حكاه عن أبي الحسين البصري فهو قول غير واحد قبل أبي الحسين وبعده كهشام ونحوه وغيره وإبن عقيل يختار قول ابي الحسين وهو معنى قول السلف والرازي يميل إلى قول أبي الحسين بل وإلى زيادة على قوله كما ذكره في المطالب العالية بل ينصره وقوله عن الكرامية إنهم قالوا أسماؤه كلها أزلية أي معاني أسمائه أي ما لأجله استحق تلك الأسماء كالخالقية والرازقية واما نفس الاسم فهو من كلامه وكلامه عندهم حادث قائم بذاته ويمتنع عندهم أن يكون في الأزل كلام أو أسماء لن ذلك يقتضي حوادث لا أول لها، أو يقتضي قدم القول المعين، وكلاهما باطل عندهم وحكايته عن الكرامية أنهم يقولون خلق الإرادة والقول في ذاته مستند إلى القدرة القديمة وخلق ما في المخلوقات يستند إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 الإرادة والقول تعبير عن مذهبهم بعبارته وإلا فهم لا يسمون شيئاً مما يقوم بذات الرب لا مخلوقاً ولا محدثاً وغنما يقولون حادث ولا يقولون إن إرادته وكلامه لا مخلوق ولا محدوث تابع كلام الآمدي وتعليق ابن تيمية عليه قال وقد احتج أهل الحق على امتناع قيام الحوادث به بحجج ضعيفة: الأولى قالوا لو كان الباري تعالى قابلاً لحلول الحوادث بذاته لما خلا عنها أو عن أضدادها وضد الحادث وما لا يخلو عن الحوادث فيجب أن يكون حادثاً والرب تعالى ليس بحادث قال وهذه الحجة مبينة على خمس مقدمات الأولى أن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد والثانية أن ضد الصفة الحادثة لا بد وأن يكون حادثاً والثالثة أن ما قبل حادثاً فلا يخلو عنه وعن ضده والرابعة أن مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث والخامسة أن الحدوث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 على الله تعالى محال أما أن الرب تعالى ليس بحادث فقد سبق تقريره قلت هذا معلوم باتفاق أهل الملل وسائر العقلاء ممن أثبت الصانع ومعلوم بالأدلة اليقينية بل معلوم بالضرورة وقد ذكر انه قرر ذلك وهو لم يقرره فإنه إنما قرره بناء على إثبات واجب الوجود وبني ذلك على نفي التسلسل في العلل وإبطال حوادث لا أول لها وحجته على ذلك ضعيفة وقد أورد في كتابه المسمى بدقائق الحقائق على إبطال تسلسل العلل سؤلاً زعم أنه لا يعرف عنه جواباً فبطل ما ذكره من تقريره لكن هذا بحمد الله أجل من أن يحتاج إلى مثل هذا التقرير وقال وأما أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فسيأتي تقريره في حدوث الجواهر قلت لم يقرر ذلك إلا بدليل حدوث الأعراض وأنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها وإنما قرر ذلك بإبطال التسلسل في الآثار وقرر ذلك بان الحادث يمتنع أن يكون أزلياً وقد تقدم فساد ذلك بأن لفظ الحادث يراد به النوع الدائم ويراد به الحادث المعين والمعلوم امتناعه إنما هو النوع الثاني والنزاع إنما هو في الأول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 وأيضاً فإن الذي قرر به امتناع تسلسل العلل في دقائق الحقائق أورد عليه سؤلاً واعترف بأنه لا جواب له عنه وإذا كان تقريره لنفى تسلسل العلل قد بين انه ورد عليه سؤال لا يعرف جوابه فكيف بتقرير نفي تسلسل الحوادث ومن المعلوم أن العقلاء اتفقوا على نفي تسلسل العلل وتنازعوا في نفي تسلسل الحوادث فإن كان لم يقم على نفي ذاك عنده دليل عقلي فهذا أولى. والسؤال الذي أورده يرد على النوعين، وقد ذكرنا وذكرنا الجواب عنه فيما تقدم. ومضمونه أنه: لم يلا يجوز أن كان لم لا يجوز أن يكون مجموع المعلومات التي لا تتناهى وإن كان ممكناً في نفسه لكنه واجب بوجوب آحاده المتعاقبة وكل واحد واجب بما قبله وهذا وإن كان باطلاً لكن المقصود التنبيه على أن من خالف الكتاب والسنة وقال إنه ينصر بالمعقول أصول الدين يخل بمثل هذا الواجب في أعظم أصول الدين مع انه يقرر ما لا يحتاج إليه في الدين أو ما يعارض ما يثبت انه من الدين وكذلك من قال مثل هذا وأمثاله انه يتكلم بالقليات يظهر منه في أعظم المعقولات التقصير والتوقف والخيرة فيها ويحقق من المعقولات ما تقل الحاجة إليه أو ما يكون وسيلة إلى غيره مع أن المقصود بالوسيلة لم يحققه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 وقد احتج على إبطال حوادث لا أول لها بعد أن أبطل حجج موافقيه بأن ذلك يستلزم كون الحادث أزلياً وهذا الوجه ضعيف فإن المنازع يقول أشخاص الحوادث ليست أزلية وإنما الأزلي النوع فالموصوف بأنه أزلي ليس هو الموصوف بأنه حادث ثم يقال إذا لم تقدر أن تقيم حجة على امتناع تسلسل المعلولات وإثبات الصانع عندك موقوف على هذا فأي شيء ينفعك نفي حلول الحوادث عما لم تقم حجة على إثباته فضلا عن قدمه؟ قال: وإنما الإشكال في المقدمات الثلاثة الأول. قال وذلك أن لقائل أن يقول قولكم إن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد فإما أن يراد بالضد معنى وجودي يستحيل اجتماعه مع تلك الصفة لذاتيهما وإما أن يراد به ما هو اعم من ذلك وهو ما لا يتصور اجتماعه مع وجود الصفة لذاتيهما وإن كان عدماً حتى يقال فإن عدم الصفة يكون ضداً لوجودها فإن كان الأول فلا نسلم انه لا بد وان يكون للصفة ضد بذلك الاعتبار والاستدلال على موقع المنع عسير جداً وإن كان الثاني فلا نسلم أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 يلزم أن يكون ضد الحادث حادثاً وإلا كان عدم العالم السابق على وجوده حادثاً ولو كان عدمه حادثاً كان وجوده سابقاً على عدمه وهو محال قال وإن سلمنا انه لا بد أن يكون ضد الحادث معنى وجودياً ولكن لا نسلم امتناع خلو عن الصفة وضدها بهذا الاعتبار وحيث قررنا في مسألة الكلام والإدراكات أن القابل لصفة لا يخلو عنها وعن ضدها إنما كان بالمعنى الأعم لا بالمعنى الأخص فلا مناقضة قلت هذا كلام حسن جيد لو كان قد وفي بموجبه فإن هذه الطريقة مما كان يحتج بها السلف والأئمة في إثبات صفات الكمال كالكلام والسمع والبصر وقد اتبعهم في ذلك متكلمة الصفلتية من أصحاب أبي كلاب وابن كرام والأشعري وغيرهم بل أثبتوا بها عامة صفات الكمال وقد أورد عليها ما يورده نفاة الصفات وزعم أن ذلك قادح فيها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 فقال أما أهل الإثبات يعني للصفات فقد سلك بعضهم في الإثبات مسلكاً ضعيفاً وهو انهم تعرضوا لإثبات أحكام الصفات ثم توصلوا منها إلى إثبات العلم بالصفات ثانياً 0 فقالوا إن العالم لا محالة على غاية من الحكمة والإتقان وهو مع ذلك جائز وجوده وجائز عدمه كما سيأتي وهو مستند في التخصيص والإيجاد إلى واجب الوجود كما سيأتي أيضاً فيجب أن يكون قادراً عليه مريداً له عالماً به كما وقع به الاستقراء في الشاهد فإن من لم يكن قادراً لا يصح صدور شيء عنه ومن لم يكن مريداً لم يكن تخصيص بعض الجائزات عنه دون بعض بأولى من العكس إذ نسبتها إليه واحدة ومن لم يكن عالماً بالشيء لا يتصور منه القصد إلى إيجاده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 قالوا وإذا ثبت كونه قادراً مريداً عالماً وجب أن يكون حياً إذ الحياة شرط في هذه الصفات على ما عرف في الشاهد وما كان له في وجوده أو عدمه شرط لا يختلف شاهداً ولا غائباً ويلزم من كونه حياً أن يكون سميعاً بصيراً متكلماً فإن من لم تثبت له هذه الصفات من الأحياء فهو متصف بأضدادها كالعمي والطرش والخرس، على ما عرف في الشاهد أيضاً والإله تعالى يتقدس عن الاتصاف بهذه الصفات قالوا وإذا ثبت له هذه الأحكام فهي في الشاهد معللة بالصفات، فالعلم في الشاهد علة كون العالم عالماً والقدرة علة كون القادر قادراً، وعلى هذا النحو باقي الصفات، والعلة لا تختلف لا شاهداً ولا غائباً وأيضاً فإن حد العالم في الشاهد من قام به العلم والقادر من قامت به القدرة وعلى هذا النحو والحد لا يختلف شاهداً ولا غائباً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 وأيضاً فإن شرط العالم في الشاهد قيام العلم به وكذلك في القدرة وغيرها والشرط لا يختلف شاهداً ولا غائباً قلت وهذه الطريقة مع إمكان تقريرها علي هذا الوجه، فإنه يمكن تقريرها على وجه اكمل منه ومع هذا فقد قال هذه الحجة مما يضعف التمسك بها جداً وأورد عليها أنها مبنية على الجمع بين الشاهد والغائب وقد تكلمنا على ما ذكره هو وغيره في غير هذا الموضع وبينا أن الحجة لا يحتاج فيها إلى هذا الجمع ولو احتيج فيها إلى هذا الجمع فهو صحيح فإنه من باب قياس الأولى وهو أن ما كان من لوازم الكمال فثبوته للخالق أولى منه للمخلوق كما قد ذكر في غير هذا الموضع لكن المقصود هنا انه اعترض على قولهم لو لم يتصف بهذا لاتصف بضده العام الذي يتضمن النفي وهو قد ذكر هنا أنه قرره قال وأما قولهم لو لم يتصف بهذه الصفات مع كونه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 حياً لكان متصفاً بما يقابلها فالتحقيق فيه موقوف على بيان حقيقة المتقابلين يعني المتنافيين وذكر التقسيم المشهور فيه للفلاسفة وانه أربعة أقسام تقابل السلب والإيجاب، والعدم والملكة، والتضايف، والتضاد، وان تقابل العلم والجهل، أعمى والبصر، هو عندهم من باب تقابل أتعدم والملكة والملكة على اصطلاحهم كل معني وجودي أمكن أن يكون ثابتاً للشيء إما بحق جنسه للإنسان، فإن البصير يمكن ثبوته لجنسه وهو الحيوان أو بحق نوعه ككتابه زيد فإن هذا ممكن لنوع الإنسان أو بحق شخصه كاللحية للرجل فإنها ممكنة في حق الرجل قال والعدم المقابل لها ارتفاع هذه الملكة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 قال فإن أريد بتقابل الإدراك ونفيه تقابل التناقض بالسلب والإيجاب وهو انه لا يخلو من كونه سميعاً وبصيراً ومتكلماً أو ليس فهو ما يقوله الخصم، ولا يقبل نفيه من غير دليل وإن أريد بالتقابل تقابل العدم والملكة، فلا يلزم من نفي الملكة تحقق العدم ولا بالعكس إلا في محل يكون قابلاً لهما ولهذا يصح أن يقال الحجر لا أعمى ولا بصير والقول بكون البارىء تعالى قابلاً للبصر والعمى، دعوى محل النزاع والمصادرة على المطلوب وعلى هذا فقد امتنع نفي لزوم العمي والخرس والطرش في حق الله تعالى من ضرورة نفي البصر والسمع والكلام عنه قلت وقد أشكل هذا على كثير من النظار حتى ضل به لاعتقادهم صحته حتى على الآمدي فهذا كلامه في الخلو عن الضدين بالمعنى العام قد أورد عليه ما ذكر فكيف يدعي انه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 قرره وهذا الإيراد إيراد معروف للمعطلة نفاة الصفات وهو إيراد فاسد من وجوه الوجه الأول لن يقال نحن نريد بالتقابل السلب والإيجاب ونفي هذه الصفات يتضمن النقص لكل من نفيت عنه سواء قيل إنه قابل لها أو لم يقل فإنه من المعلوم بصريح العقل أن المتصف بالحياة والعلم والكلام والسمع والبصر اكمل ممن لم يتصف بذلك وما قدر انتفاء ذلك عنه كالجماد فهو أنقص بالنسبة إلى من اتصف بذلك وهو قد سلك في إثبات الصفات طريقة الكمال وهي في الحقيقة من جنس هذه، فقال واعلم أن ههنا طريقة رشيقة سهلة المعرك، قريبة المدرك يعسر على المنصف المتبحر الخروج عنها، والقدح في دلالتها، يمكن طردها في إثبات جميع الصفات النفسانية، وهي مما ألهمني الله إياها ولم أجدها على صورتها وتحريرها لأحد غيري، وهو أن يقال المفهوم من كل واحد من هذه الصفات المذكورة، مع قطع النظر عما يتصف به صفة كمال أو لا صفة كمال، لا جائز أن تكون لا صفة كمال، وإلا كان حال من اتصف بها في الشاهد أنقص من حال من لم يتصف بها إن كان عدمها في نفس الأمر كمالاً أو مساوياً من لم يتصف بها إن لم يكن عدمها في نفس الأمر كمالاً وهو خلاف ما نعلمه بالضرورة في الشاهد فلم يبق إلا القسم الأول وهو انه في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 نفسها وذواتها كمال وعند ذلك فلو قدر عدم اتصاف الباري تعالى بها لكان ناقصاً بالنسبة إلى من اتصف بها من مخلوقاته ومحال أن يكون الخالق أنقص من المخلوق قلت هذه الحجة مادتها صحيحة وقد استدل بها ما شاء الله من السلف والخلف وغن كان تصويرها والتعبير عنها يتنوع وهذه المادة بعينها يمكن نقلها إلى الحجة الأولى التي زيفها بان يقال لو لم يتصف بصفات الكمال لاتصف بنقائضها وهي صفات نقص فيكون انقص من بعض مخلوقاته الوجه الثاني أن يقال هب انهما متقابلان تقابل العدم والملكة فقولكم لا يلزم من نفي أحدهما ثبوت الآخر إلا إذا كان المحل قابلاً جوابه أن يقال الموجودات نوعان نوع يقبل الاتصاف بأحد هذين كالحيوان وصنف لا يقبل ذلك كالجماد ومن المعلوم أن ما قبل أحدهما اكمل ممن لا يقبل واحداً منهما وإن كان موصوفاً بالعمى والصم والخرس فإن الحيوان الذي هو كذلك أقرب إلى الكمال ممن لا يقبل لا هذا ولا هذا، إذ الحيوان الأبكم الأعمى الأصم يمكن أن يتصف بصفات الكمال، وما يقبل الاتصاف بصفات الكمال اكمل ممن لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال فإذا كان قد علم أن الرب تعالى مقدس عن أن يتصف بهذه النقائص مع قبوله للاتصاف بصفات الكمال، فلان يقدس عن كونه لا يقبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 الاتصاف بصفات الكمال أولى وأحرى. وهذا معلوم ببداهة العقول. الوجه الثالث: إن نقول: لا نسلم أن في الأعيان مالا يقبل الاتصاف بهذه الصفات فإن الله قادر على أن يخلق الحياة في كل جسم، وأن ينطقه كما أنطق ما شاء من الجمادات. وقد قال تعالى {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون * أموات غير أحياء} النحل 20 - 21. وإذا كان كذلك فدعواهم أن من الأعيان مالا يقبل الاتصاف بهذه الصفات رجوع منهم إلى مجرد ما شهدوه من العادة وإلا فمن كان مصدقاً بأن الله قلب عصا موسى وهي جماد ثعبانا عظيما ابتلعت الحبال والعصي لم يمكنه أن يطرد هذه الدعوى. وإذا كان سبحانه قادراً على أن يثبت هذه الصفات صفات الكمال لما كان جماداً من مخلوقاته وكان كل مخلوق يقبل ذلك بقدرة الله تعالى فهو أحق بقبول ذلك، بل بوجود به له، إذ ما كان ممكناً في حقه من صفات الكمال كان واجباً، فإنه لا يستفيد صفات الكمال من غيره بل هو مستحق لها بذاته فهي من لوازم ذاته. وهذا فصل معترض ذكرناه تنبيها على تقصير من يقصر في الاستدلال على الحق الذي قامت عليه الدلائل اليقينية العقلية مع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 السمعية مع مدافعتهم لما دلت عليه دلائل السمع والعقل، وإن كنا لا نظن بمسلم بل بعاقل أن يتكلم في جهة الربوبية بما يراه تقصيراً ولكن لا يخلو صاحب هذه الطريق من عجز أو تفريط، وكلاهما يظهر به نقصه عن حال السلف الأئمة الموافقين للشرع والعقل، وأنهم كانوا فوق المخالفين لهم في هذه المطالب الإلهية والمعارف الربانية. وهذه الحجة التي صدر بها الآمدي وزيفها هي الحجة التي اعتمد عليها الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من السالمية والفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، كالقاضي أبي يعلي وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم وهي مبنية على مقدمتين أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده وأكثر الناس ينازعونهم في ذلك، بل جميع الطوائف من أهل النظر والأثر ينازعونهم، كالمعتزلة والكرامية والشيعة والمرجئة وأهل الحديث والفقهاء والصوفية والفلاسفة. والثانية: على امتناع تسلسل الحوادث والنزاع فيها مشهور بين جميع الطوائف. قال الآمدي الحجة الثانية أنه لو قامت الحوادث بذات الرب تعالى لكان لها سبب. والسبب إما الذات وإما خارج عنها. فإن كان هو الذات وجب دوامها بدوام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 الذات، وخرجت عن أن تكون حادثة وإن كان خارجاً عن الذات فإما أن يكون معلولاً للإله تعالى أو لا يكون معلولاً له. فإن كان الأول لزم الدور، وإن كان الثاني فذلك الخارج يكون واجب الوجود بذاته مفيداً للإله تعالى صفاته فكان أولى أن يكون هو إلاله. وهذه المحالات إنما لزمت من قيام الحوادث بذات الرب تبارك وتعالى فتكون محالاً. قال الآمدي ولقائل أن يقول وإن افتقرت الصفات الحادثة إلى سبب، فالسبب إنما هو القدرة القديمة والمشيئة الأزلية القائمة بذات الرب، كما هو مذهب الكرامية على ما أوضحناه، فليس السبب هو المسبب ولا خارجاً، ولا يلزم من دوام القدرة دوام المقدور، وإلا كان العالم قديماً وهو محال. قال: فإن قيل: إذا كان المرجح للصفة الحادثة هو القدرة والاختيار، فلا بد وأن يكون الرب تعالى قاصداً لمحل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 حدوثها، ومحل حدوثها ليس إلا ذاته، فيجيب أن يكون قاصداً لذاته. والقصد إلى الشيء يستدعي كونه في الجهة وهو محال ثم ولجاز قيام كل حادث به هو محال. وأيضاً فإن الصفةالحادثة عند الكرامية إنما هو قوله كن والإرادة هي مستند المحدثات وعند ذلك فلا حاجة إلى الحادث الذي هو القول والإرادة لإمكان إسناد جميع المحدثات إلى القدرة القديمة قلنا أما الأول فمندفع فإن القصد إلى إيجاد الصفة وإن استدعي القصد إلى محل حدوثها، فإنما يلزم من ذلك أن يكون المحل في الجهة أن لو كان القصد بمعنى الإشارة إلى الجهة وليس كذلك، بل بمعنى إرادة إحداث الصفة فيه وذلك غير موجب للجهة ثم وإن كان القصد إلى إيجاد الصفة في المحل يوجب كون المحل في الجهة، فيلزم من ذلك امتناع القصد من الله تعالى إلى إيجاد الأعراض لأن القصد إلى إيجادها يكون قصداً لمحالها، ويلزم من ذلك أن تكون محالها في الجهات والقصد إلى ما هو في جهة ممن ليس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 في الجهة محال، وذلك يفضي إلى أن يكون الرب في الجهة عند قصد خلق الأعراض وهو محال والقول بأنه إذا جاز خلق بعض الحوادث في ذاته جاز خلق كل حادث فدعوى مجردة وقياس من غير جامع وهو باطل على ما أسلفناه في تحقيق الدليل وأما الثاني فحاصله يرجع إلى لزوم رعاية الغرض والحكمة في أفعال الله تعالى وهو غير موافق لأصولنا وإن كان ذلك بطريق الإلزام للخصم فلعله لا يقول به وإن كان قائلاً به فليس القول بتخطئته في القول بحلول الحوادث بذات الرب تعالى ضرورة تصويبه في رعاية الحكمة أولى من العكس قلت هذه الحجة مادتها من الفلاسفة الدهرية كابن سينا وامثاله الذين يقولون إن الرب لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثاً ولهذا يستدل بهذه الحجة على نفي الحوادث المنفصلة كما يستدل بها على نفي الحوادث المتصلة وهو أن الموجب لحدوث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 الحادث مطلقاً من الذات إن كان الذات لزم دوامه وإن كان الذات لزم دوامه وغن كان خارجاً عنها فإن كان معلولاً للذات لزم الدور لن ذلك الحادث موقوف على ذلك المعلول الخارج وذلك المعلول الخارج لا بد أن يكون حادثاً وإلا لو كان قديماً لكان كمال المقتضي لذلك الحادث قديماً وهو الذات ومعولها القديم وإذا كان المعلول الخارج حادثاً فلا يحدث إلا بسبب حادث في الذات وإلا لزم حدوث الحادث بلا سبب فيلزم أن يكون ما حدث في الذات من الذات موقوفاً على الحادث الخارج وما حدث في الخارج موقوفاً على الحادث فيها فيلزم الدور وإن كان الخارج ليس من مقتضيات الذات لزم أن يكون واجباً بنفسه فيكون ما يقوم بالرب من الحوادث موقوفاً على ذلك الواحب بنفسه ثم قال فيكون أولى بالإلهية فهذه عمدة هؤلاء الدهرية في نفي فعله للحوادث سواء كانت قائمة به أو بغيره ولهذا بين الآمدي ضعفها بين المتكلمين المنازعين للكرامية فإن قال الكرامية يقولون في الحوادث بذاته كما تقولون أنتم في الحوادث المنفصلة عنه فكما أن تلك الحوادث تحدث عندكم بكونه قادراً أو بالقدرة أو المشيئة القديمة فهكذا نقول فيما يقوم بذاته ولا ريب أن ما ذكره جواب تنقطع به عنهم مطالبة إخوانهم المتكلمين من المعتزلة والأشعرية ولكن لا تنقطع عنهم مطالبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 الفلاسفة إلا بما يقوله الجميع من أن القادر المختار يرجح أحد المتساويين لا لمرجح أو أن الإرادة الأزلية ترجح أحد المتساويين لا لمرجح والمنازعون في هذا من أهل الحديث والكلام والفلسفة يقولون إن هذا جحد للضرورة وإن هذا يقدح فيما به أثبتوا وجود الصانع فإنهم أثبتوا الصانع بأن ترجيح أحد المتساويين لا بد له من مرجح، وقد عرف كلام الناس في هذا المقام. الرد على الفلاسفة في مسألة امتناع حلول الحوادث بذاته تعالى من وجوه ونحن نذكر ما تجاب به الفلاسفة عن أهل الملل جميعاً وذلك من وجوه الوجه الأول ان يقال الحوادث إما أن يجب تناهيها أو لا يجب بل يجوز أن لا يكون لها نهاية فإن وجب تناهيها لزم أن يكون للحوادث اول ولزم جواز حدوث الحوادث بدون سبب حادث وبطلت حجتكم وقولكم بدوام حركات الفلك وأنها أزلية وإن جاز دوام الحوادث فحينئذ ما من حادث إلا وهو مسبوق بحادث وحينئذ فالأفلاك إذا كانت حادثة لزم أن يكون قبلها حادث آخر وحينئذ فيمكن أن تكون تلك الإرادات المتعاقبة القائمة بذات الواجب أو غيرها من الحوادث هي الشرط في حدوث الأفلاك كما تقولون انتم كل حادث فهو مشروط بحادث قبله فإن قالوا ذاته لا تحلها الحوادث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 قيل لهم دليلكم على نفي قيام الحوادث به إما أن يكون نافياً لقيام الصفات به مطلقاً وإما ان يخص الحوادث فإن كان الول فقد عرف فساد قولكم فيه ببيان فساد حجتكم على نفي الصفات وإبطال ما تذكرونه في التوحيد الذي مضمونه نفي الصفات كما بسط في موضعه وإن كان مختصاً فدليلكم على النفي هو هذا الدليل على امتناع حدوث الحوادث عنه فليس لكم ان تثبتوا هذا بهذا وهذا بهذا فإنه يكون دوراً وهذا من المصادرة على المطلوب فغن نفيكم لحدوث الحوادث بذاته وبغيره سواء فإذا لم يمكنكم نفي ذلك إلا بنفي حلولها بذاته كنتم قد صادرتم على المطلوب الوجه الثاني إن يقال لهم قول القائل سبب الحوادث غما الذات أو خارج عنها أتريدون به سبب كل حادث أو سبب نوع الحوادث فإن أردتم الأول منعوكم الحصر وقالوا لكم بل سبب كل حادث الذات بما قام بها من الحوادث المتعاقبة فإن قلتم هذا يستدعي تعاقب الحوادث بذاته وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث قالوا لكم فهذا يبطل قولكم بقدم الأفلاك ويوجب حدوثها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 وأيضاً فيقال لكم مالا يخلو عن جنس الحوادث إن لم يجب حدوثه بطلت هذه الحجة وغن وجب حدوثه لزم حدوث الأفلاك وحينئذ فالموجب لحدوث الأفلاك إن كان قديماً لم يحدث به حادث جاز حدوث الحادث بدون سبب حادث ولا فرق حينئذ بين أن يكون الحادث بذاته أو منفصلاً إنه فيلزم قول الكرامية 0 وإن كانت الحوادث لا تحدث إلا بحوادث متعاقبة لزم تسلسل الحوادث وبطل القائل فما لا ينفك عن حنس الحوادث فهو حادث وحينئذ فتبطل هذه الحجة فتبين انه يلزمكم إما بطلان هذه الحجة وإما تصحيح قول الكرامية وذلك يستلزم بطلان الحجة فثبت بطلانها على كل تقدير وإن أردتم سبب نوع الحوادث فيقال لكم سبب نوع الحادث المتصل كسبب نوع الحادث المنفصل عندكم وإذا جاز عندكم ان تكون الذات سبب الحوادث التي لا أول لها مع انفصاله عنها فمع قيامها به بطريق الأولى فإن اقتضاء المقتضي لما قام به أولى من اقتضائه لما باينه ولا محيص لهم عن هذا إلا بما ينفون به الصفات مطلقاً وقد عرف فساد قولهم في ذلك وأن حجتهم عليه من أسقط الحجج وحينئذ فيكون جماهير الناس خصومهم في ذلك الأصل الوجه الثالث أن يقال هب أن سبب الحادث خارج عن الذات وهو معلول الذات قولهم يلزم الدور له إنما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 يلزم الدور إذا كان ذلك الحادث الخارج موقوفاً على الحادث المتصل والمتصل موقوفاً على الخارج وأما إذا كان ذلك الخارج موقوفاً على متصل وذلك المتصل موقوف على خارج آخر والخارج الآخر موقوف على متصل آخر فإنما يلزم التسلسل في الآثار وفي تمام التأثيرات المعينة لا يلزم الدور على هذا التقدير وإذا كان اللازم هو التسلسل في الآثار والتأثيرات المعينة فذلك لا يلزم منه الدور والتسلسل جائز عند هؤلاء الفلاسفة وكثير من أهل الكلام والحديث وغيرهم وليس هذا تسلسلاً ولا دوراً في أصل التأثير فإن هذا باطل باتفاق العقلاء كالدور والتسلسل في نفس المؤثر فإن الدور والتسلسل في تمام التأثيرات المعينة فإنه كالتسلسل في الآثار المعنية والتسلسل في أصل التأثير كالتسلسل في أصل الآثار ثم يقال إن كان هذا التسلسل جائزاً بطلت هذه الحجة وإن كان ممتنعاً لزم أن يكون للحوادث أول وان تصدر الحوادث كلها عن قديم بلا سبب حادث من غير أن يجب دوام الحوادث 0 وحينئذ فيلزم صحة قول الكرامية كما يلزم صحة قول غيرهم من أهل الكلام الجهمية والقدرية وأتباعهم الذين يقولون بحدوث جميع الحوادث بدون سبب حادث وإنما النزاع بينهم في المتصل والمنفصل والوجه الرابع في الجواب أن يقال هب أن ذلك الخارج إذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 كان ليس معلول الذات يلزم إن يكون مفيداً للإله صفاته فيكون أولى بالإلهية يقال لهم هذا وغن كان باطلاً عند المسلمين وغيرهم من أهل الملل ولكن على أصولكم لا يمتنع بطلانه وذلك أن هذا لا ينافي وجوب وجوده بذاته بمعنى أنه لا فاعل له، فإن ما كان لا فاعل له لم يمتنع من هذه الجهة أن يقوم به أمر بسبب منه ومن أمر مباين له وغنما ينتفي ذلك بنفي واجب بذاته مباين له وذلك مبني على نفي واجبين بالذات وأنتم ادعيتم ذلك، وادرجتم في ذلك نفي الصفات كما ادعت الجهمية أن القديم واحد وادرجوا في ذلك نفي الصفات فقلتم أنتم لو كان له صفات لتعدد الواجب بذاته كما قال أولئك لو كان له صفات لتعدد القديم وحجتكم على ذلك ضعيفة جداً وحتى إن منكم من قال بقدم الأفلاك ووجوب وجودها بذاتها لضعف ذلك وهذا حقيقة قول أرسطو وأصحابه في الأفلاك، وهو قول أهل وحدة الوجود في كل موجود، الذين أظهروا التصوف والتحقيق، وحقيقة قولهم قول هؤلاء الدهرية المعطلة. وحينئذ فنخاطب الجميع خطابا يتناول الطوائف كلها، ونقول إما أن تكون الأفلاك واجبة الوجود بذاتها وإما أن لا تكون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 فإن قيل: إنها واجبة الوجود بذاتها، مع ان الحوادث تقوم بها، بطل قولكم: إن الواجب أو القديم لا تقوم به الحوادث. وإن قلتم: إنها معلولة مفعولة لغيرها، فالموجب لها: إن كان علة تامة لم يتأخر عنه شيء من معلوله فلا تصدر عنه الحركات والحوادث، فتفتقر الحوادث المشاهدة إلى واجب آخر، والقول فيه كالقول فيه. وإن لم يكن علة تامة فلا بد لما يتأخر حدوثه أن يكون موقوفاً على شرط حادث، والقول فيه كالقول في الذي قلبه، فيلزم التسلسل. وإذا لزم لزم دوام الحوادث المتسلسلة، ويمتنع صدورها عن علة تامة أزلية لا يقوم بها حادث، فإن ذلك يقتضي مقارنة جميع معلوها لها، لوجوب مقارنة جميع معلول العلة التامة لها، وامتناع أن يصير علة لشيء ما. بعد أن لم يكن علة بدون سبب منها، وإذا جاز أن تقوم به الحوادث المتعاقبة، فيلزم قيام الحوادث المتعلقة بالقديم على كل تقدير، فبطلي هذه الحجة. وأيضاً فقدماؤهم يقولون: إن الأول يحرك الأفلاك حركة شوقية مثل حركة المحبوب لمحبه، ولم يذكروا أن الأفلاك مبدعة له ولا معلولة لعلة فاعلة. وحينئذ فلا بد أن يقال: هي واجبة بنفسها، وهي مفتقرة في حركتها إلى المحرك المنفصل عنها، فلا يمكن من قال هذا أن يقول: إن الواجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 بنفسه لا يقوم به حادث بسبب مباين له، كما لا يمكنه أن ينفي شيئين واجبين بأنفسهما، كل منها متوقف على الآخر. إذ حقيقة قول هؤلاء أن الفلك والعلة الأولى كل منها محتاج إلى الآخر حاجة المشروط إلى شرطه، لا حاجة المصنوع إلى مبدعه. الوجه الخامس أن يقال: غاية ما ذكرتموه في الحوادث منقوص بالمتجددات كالإضافات والعدميات، فإنهم سلموا حدوثها. وهذه الحجة تتناول هذا، كما تتناول هذا، فما كان جوابكم عن هذا، كان جواب منازعيكم عن هذا. فإنه يقال: تلك الأمور الإضافية والعدمية إذا تجددت فلا بد لها من سبب متجدد، والسبب إما: الذات، وغما خارج عنها. فإن كان الأول لزم دوام الإضافات والعدميات، وإن كان الثاني لزم الدور أو التسلسل، وإن كان الثالث فالأمر الخارجي الذي أوجب تجدد تلك الإضافات والإعدام يجب أن يكون واجب والوجود. وأما الأسئلة التي ذكر أبو الحسن الآمدي أنهم أوردها على هذه الحجة فهي ضعيفة كما ذكر ضعفها، ويمكن الجواب عنها ما ذكر أيضاً. أما قول القائل: القاصد إلى الحدوث في محل يستدعي كون المحل في جهة. فإن أراد به ما يقصد حدوثه في محل مباين له، فالكرامية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 تقول بموجب ذلك. وليس هذا محل الأنواع هنا. ثم القائل لهذا إما أن يجوز كون الأمور المبانية للرب في جهة منه أو لا يجوز ذلك. فإن جوزه فقال بموجبه مع بقاء محل النزاع، وإن لم يجوزه كان ذلك دليلاً على فساد قوله في مسألة الجهة، وحينئذ فيكون ذلك أقوى لقول الكرامية ومن وافقهم. وإن أرادا ان ما يقصد حدوثه في محل هو ذاته، يوجب أن تكون ذاته في جهة من ذاته. فيقال له: هل يعقل كون الشيء في جهة من نفسه أم لا؟ فإن عقل ذلك قالوا بموجب التلازم، وإن لم يعقل ذلك منعوا التلازم. يبين ذلك أن الإنسان يحدث حوادث في نفسه بقصده وإدارته. وهذا السؤال يرد عليها، فإن عقل كون نفسه في جهة من نفسه، أمكن للمنازعين أن يقولوا بموجب ذلك في كل شيء، وإلا فلا. وأيضاً فيقال: قصد الشيء إما أن يستلزم كونه بجهة منم المقاصد، وأما أن لا يستلزم ذلك. فإن استلزم ذلك. لزم كون جميع الأجسام بجهة من الرب، فإنه إذا أحدث فيها الأعراض الحادثة كان قاصداً لها على ما ذكروه، فيلزم أن يكون بجهة منه على هذا التقدير. وحينئذ فيكون هو أيضاً بجهة منها، لامتناع كون أحد الشيئين بجهة من الآخر، من غير عكس، كما ذكروه، وإذا كان كذلك لزم أن يكون الباري في جهة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 وإذا كان كذلك بطلب حجتهم، لأن غايتها أن قصده للحوادث في ذاته يستلزم كون ذاته في جهة، بطل نفي هذا اللازم. وإما ان يقال: قصد الشيء لا يستلزم كونه بجهة من القاصد، وحينئذ فبطلت هذه الحجة، فثبت بطلانها على التقديرين. وإيضاح فسادها أنها مبنية على مقدمتين، وصحة إحداهما تستلزم بطلان الأخرى، وبطلانها يتضمن بطلان إحدى المقدمتين، فثبت بطلان إحداهما على كل تقدير، وإذا بطلت إحدى المقدمتين بطلت الحجة، فإن أحدى المقدمتين أن القاصد لا يقصد إلا ما هو في جهة. والثانية أن كون الباري في الجهة محال. فإن كانت المقدمة الأولى صحيحة لزم أن يكون في الجهة، لأنه يقصد حدوث حوادث قطعاً، فبطلت الثانية. وإن كانت الأولى باطلة، بطلت الحجة أيضال لبطلان أحدى مقدمتيها. وكما أن فساد هذه الحجة ظاهر على أصول أهل الملل وغيرهم ممن يقول بحدوث العالم، فبطلانها على رأي الفلاسفة الدهرية أظهر. فإن هؤلاء لا ينكرون حدوث الحوادث، فإن قالوا: إنها حادثة عن علة أزلية موجبة بنفسها، كما يقوله ابن سينا وأمثاله، فهؤلاء يقولون بان الحوادث تحدث عنه بوسائط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 وحينئذ فيقال: إما أن ذلك يستلزم كونها منه في جهة أو لا يستلزم؟ وتبطل الحجة على التقديرين كما تقدم. وإن قالوا: بل العالم واجب الوجود بنفسه، فقد قالوا بحدوث الحوادث عن القديم الواجب بنفسه وقيامها به، فإن الحوادث قائمة بذات الأفلاك، وحينئذ فكل ما يحتج به على نقيض ذلك فهو باطل، فإن صحة أحد النقيضين تستلزم بطلان الآخر، وبطلان اللازم الذي هو المدلول، كانت أدلته المستلزمة له كلها باطلة. وهذا الجواب خير من جواب الآمدي بقوله: القصد إلى ما هو في جهة ممن ليس في الجهة محال فإن جميع نفاة الجهة من أهل الكلام يقولون إن الرب تعالى يقصد إلى ما هو في جهة من المخلوقات، والقصد منه وليس هو في جهة عندهم. بل يقال جواباً قاطعاً: القصد في الجهة ممن ليس في الجهة، إن كان ممكناً بطلت المقدمة الأولى من الأعتراض، وإن كان ممتنعاً بطلت المقدمة الثانية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 وأما الاعتراض الثاني، وهو قولهم: لجاز قيام كل حادث به، فظاهر الفساد. فإنا إذا جوزنا قيام صفة به لم يلزم قيام كل صفة به فإذا جوزنا أن تقوم به صفات الكمال كالحياة والعلم، والقدرة والسمع والبصر، والكلام لم يلزم أن تقوم صفات النقص به، كالجهل المركب، والمرض، والسنة، والنوم، وغير ذلك من النقائض الوجودية. وإذا جوزنا أن يقوم به كلام لم نجوز قيام كل كلام به وإذا جاز إرادة به لم يجز قيام إرادة كل شيء به، وإنما يقوم به ما يليق بجلاله، وما يناسب كبرياءه إذ هو موصوف بصفات الكمال، ولا يوصف بنقائضها بحال وذلك لأن كونه سبحانه قابلاً لأن تقوم به الصفات أو الحوادث، لم يكن لمجرد كون ذلك صفة أو حادثاً، فيلزم طرد ذلك في كل صفة وحادث، كما انه إذا قيل: تقوم به أمور وجودية، ولم يلزم أن يقوم به كل موجود، لأن قيام الصفات الوجودية به لم يكن لمجرد كونها موجودة، حتى يقوم به كل موجود، وهذا كما إذا قلنا: إن رب العالمين قائم بنفسه، وهو موجود، وهو ذات متصفة بالصفات، لم يلزم من ذلك أن يكون كل ما هو قائم بنفسه، وهو موجود، وهو ذات متصفة بالصفات، أن يكون رب العالمين. والناس متنازعون في صفاته: هل تسمى أعراضا أو لا تسمى؟ مع تنازعهم في ثبوتها ونفيها، ففي مثبتة الصفات ونفاتها من يسميها أعراضا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 فإذا قيل: لو جاز أن يقوم به عرض لزم أن يقوم به كل عرض، لكان هذا أيضاً باطلاً فإن ذلك لم يكن لكونه عرضاً فيلزم قيام كل عرض به. والمسلمون متفقون على أن الله خالق كل موجود سواه فلو قيل: لو جاز أن يخلق موجوداً للزم أن يخلق كل موجود، فيلزم أن يكون خالقاً لنفسه وهو محال. أو لو قيل: لو جاز أن يخلق عالما قادرا حيا لزم أن يخلق كل حي عالم قادر، وهو حي عالم قادر، فيلزم أن يكون خالقاً لنفسه وهو محال لكان هذا كلاماً باطلاً. وأصل هذا أن السالب النافي لما نفي نفياً عاما أن يقوم بالله صفة أو أن يقوم به ما يريده ويقدره عليه لكونه حادثاً فنفي عاماً أن يقوم به حادث ونحو ذلك قابلة المثبت فناقض هذا الخبر العام وهذه القضية السالبة الكلية، وكذبها يحصل بإثبات خاص، وهو القضية الجزئية الموجبة، فيجوز قيام صفة ما من الصفات، وحادث ما من الحوادث وذلك الجائز لم يجز قيامه للمعنى المشترك بينه وبين سائر الصفات والحوادث، وإنما قام لمعنى يختص به وبأمثاله لا يشاركه فيه جميع الصفات والحوادث. لكن المشترك، كما انه ليس هو المقتضي له للقيام بالذات فليس هو مانعاً فكون القائم به صفات أو حادثاً ليس أمراً موجباً للقيام به حتى يقوم كل صفة وحادث ولا مانعا من القيام به حتى يمنع كل صفة وحادث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 فمن نفى نفيا عاماً لأجل ذلك فهو معارض بمن أثبت إثباتاً عاما لأجل ذلك، وكلاهما باطل. بل هو المستحق لصفات الكمال العارية عن النقص وهو على كل شيء قدير، ولم يزل قادراً على أن يتكلم ويفعل بمشيئة واختياره، سبحانه وتعالى. وإذا قال القائل: هذا يقتضي قيام الصفات أو الحوادث به قيل: هذا المعنى عديم التأثير، لا هو موجب للامتناع ولا للجواز. والمثبتون يقولون: كونه قادراً على الفعل والكلام بنفسه صفة كمال وكونه لا يقدر على ذلك صفة نقص، فإن القدرة على الفعل والكلام، مما يعلم بصريح العقل أنه صفة كمال، وأن من يقدر أن يخلق ويتكلم، أكمل ممن لا يقدر أن يخلق ويتكلم، فإنه يكون بمنزلة الزمن، ويقولون: بالطريق التي تثبت له صفات الكمال يثبت هذا، فإن الفاعل بنفسه الذي يقدر بنفسه على الفعل من حيث هو كذلك، أكمل ممن لا يمكنه ذلك، كما قد بسط كلامهم في غير هذا الموضع. وأيضاً فإن أراد المريد بقوله: تقوم به الحوادث كلها، أنه قادر على أن يمسك العالم كله في قبضته، كما جاءت به الأخبار الإلهية فهم يجوزون ذلك بل هذا عندهم من أعظم أنواع الكمال كما قال تعالى {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} الزمر 67. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس ما يوافق مضمون هذه الآية وأن الله تعالى يقبض العالم العلوي والسفلي ويمسكه ويهزه ويقول أنا الملك أين ملوك الأرض؟ وفي بعض الآثار: ويدحوها كما يدحو أحدكم الكرة وقال ابن عباس ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم. فإن أراد مريد بقوله إن الحوادث كلها تقوم بذاته المعنى الذي دلت عليه النصوص فهو حق وهو من أعظم الأدلة على عظمة الله وعظم قدره وقدرته وعلى فعله القائم بنفسه وفي مخلوقاته. وإن أراد بذلك أنه يتصف بكل حادث فهذا يستلزم أن يتصف بالنقائض الوجودية مثل أن يتصف بالجهل المركب الحادث ونحو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 ذلك. وهذا ممتنع لكونه نقصاً لا لكونه حادثاً فالموت والسنة والنوم والعجز واللغوب والجهل، وغير ذلك من النقائص هو منزه عنها ومقدس أزلاً وأبداً فلا يجوز أن تقوم به، لا قديمة ولا حادثة، لكونه نقاقض ما وجب له من الكمال اللازم لذاته. وإذا كان أحد النقيضين لازماً للذات، لزم انتقاء النقيض الآخر، فكل ما تنزه الرب عنه من الحوادث والصفات فهو منزه عنه لما أوجب ذلك لا للقدر المشترك بينه وبين ما قام به من الكمالات وأما السؤال الثالث وهو قوله: إنه لا حاجة إلى ذلك فيقال ليس كل مالا تعلم الحاجة إليه يجزم بنفيه فإن الله أخبر أنه كتب مقادير الخلائق قبل خلقهم ولا يعلم إلى ذلك حاجة وكذلك قد خلق آدم بيده عند أهل الإثبات مع قدرته على أن يخلقه كما خلق غيره. وأيضاً فإن عدم الحاجة إلى الشيء أوجبت نفيه فينبغي أن تنفي جميع المخلوقات فإن الله لا يحتاج إلى شيء. وأما ما يقوم بذاته فما كان الخلق محتاجاً إليه وجب إثباته، وما لم يكن الخلق محتجاً إليه كان قد انتفى هذا الدليل المعين الدال على إثباته وعدم الدليل مطلقاً لا يستلزم عدم المدلول عليه في نفس الأمر وإن استلزم عدم علم المستدل به فضلا عن عدم الدليل المعين. وأيضاً فإن الرب تعالى يمكن ان يكون له من صفات الكمال مالا يعلمه البعاد، ولا يمكنهم نفيه لانتفاء الحاجة إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 ولكن هذا السؤال يمكن تحريره على وجه آخر، وهو أن يقال: الكرامية إنما أثبتوا ما أثبتوه لاحتياج الخلق إليه، والقدرة والمشيئة الأزلية مكافية في حدوث المخلوقات المنفصلة كما هي كافية في حدوث ما قام بالذات فيكون دليلهم على ذلك باطلاً. وهذا الكلام إنما يفيد إن أفاد إبطال هذا الدليل المعين ولا يبطل دليلاً آخر ولا يبطل ثبوت المدلول، فلا يجوز أن ينفي قيام الحوادث بذاته لعدم ما يثبت ذلك بل الواجب فيما لا يعرف دليل ثبوته وانتفائه الوقف فيه. ثم هم قد يقولون: صدور المفعولات المنفصلة من غير سبب حادث يقوم بالفاعل أمر ممتنع كصدور المفعولات بدون قدرة وإرادة للفاعل. ويقولون أيضاً: قد علم أن الله خالق لعالم، والخلق ليس هو المخلوق، إذ هذا مصدر وهذا مفعول به، والمصدر ليس هو المفعول به فلا بد من إثبات خلق قائم به ومن إثبات مخلوق منفصل عنه. وهذا قول جمهور الناس، وهو أشهر القولين عند أصحاب الأئمة الأربعة أصحاب: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وهو قول جمهور الناس: أهل الحديث والصوفية وكثير من أهل الكلام أو أكثرهم وكثير من أساطين الفلاسفة أو أكثرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 لكن النزاع بينهم في الخلق المغاير للمخلوق: هل هو قديم قائم بذاته؟ أو هو منفصل عنه؟ أو هو حادث قائم بذاته؟ وإذا كان حادثاً فهل الحادث نوه؟ أو أن الحوادث هي الأعيان الحادثة ونوع الحوادث قديم لتكون صفات الكمال قديمة لله لم يزل ولا يزال متصفاً بصفات الكمال؟ هذه الأقوال الأربعة قد قال كل قول طائفة ويقولون أيضاً: إن قيام هذه الأمور بذاته من صفات الكمال وذلك أنا قد علمنا أن الله متكلم وأن المتكلم لا يكون متكلماً إلا بكلام قائم بذاته وأنه مريد، ولا يكون مريداً إلا بإرادة قائمة بذاته إذ ما قام بغيره من الكلام والإرادة لا يكون كلاماً له ولا إرادة إذ الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره ويقولون قد أخبر الله انه {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} وان تدل على أن الفعل مستقبل، فوجب أن يكون القول والإرادة حادثين بالسمع. وبالجملة عامة ما يذكر في هذا الباب يعود إلى نوع تناقض من الكرامية، وهو عمدة منازعيهم، ليس معهم ما يعتمدون عليه إلا تناقضهم وتناقض أحد المتنازعين لا يستلزم صحة قول الآخر لجواز ان يكون الحق في قول ثالث لا قول هذا ولا قول هذا لا سيما إذا عرف أن هناك قولاً ثالثاً وذلك القول يتضمن زوال الشبه القادحة في كل من القولين الضعيفين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 الحجة الثالثة عند الآمدي على امتناع حلول الحوادث بذات الله تعالى قال الآمدي الحجة الثالثة: أنه لو كان قابلاً لحلول الحوادث بذاته لكان قابلاً لها في الأزل، وإلا كانت القابلية عارضة لذاته واستدعت قابلية أخرى، وهو تسلسل ممتنع، وكون الشيء قابلاً للشيء، فرع إمكان وجود المقبول فيستدعي تحقق كل واحد منهما ويلزم من ذلك إمكان حدوث الحوادث في الأزل وحدوث الحادث في الأزل ممتنع للتناقض بين كون الشيء أزلياً وبين كونه حادثاً. قال الآمدي ولقائل أن يقول لا نسلم أنه لو كان قابلاً لحلول الحوادث بذاته لكان قابلاً لها في الأزل فإنه لا يلزم من القبول للحادث فيمالا يزال، مع إمكانه القبول له أزلا مع كونه غير ممكن أزلاً والقول بأنه يلزم منه التسلسل يلزم عليه الأيجاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 بالقدرة للمقدور، وكون الرب خالقاً للحوادث فإنه نسبة متجددة بعد أن لم يكن فما هو الجواب ههنا به يكون الجواب ثم وإن سلمنا أنه يلزم من القبول فيما لا يزال القبول أزلاً فلا نسلم أن ذلك يوجب إمكان وجود المقبول أزلاً ولهذا على أصلنا الباري موصوف في الأزل قادراً على خلق العالم ولا يلزم منه إمكان وجود العالم أزلاً. قلت: قد ذكر في إفساد هذه الحجة وجهين، هما منع لكلتا مقدمتيها، فإن مبناها على مقدمتين: إحداهما: أنه لو كان قابلا، لكان القبول أزليا. والثانية أنه يمكن وجود المقبول مع المقبول. فيقال في الأولى لا نسلم أنه إذا كان قابلاً للحوادث في الأبد يلزم قبلوها في الأزل لأن وجودها فيما لا يزال ممكن وجودها في الأزل ممتنع فلا يلزم من قبول الممكن قبول الممتنع وهذا كما يقال إذا أمكن حدوث الحوادث فيما لا يزال أمكن حدوثها في الأزل. وقد احتجوا على ذلك بأنه يجب أن يكون القبول من لوازم الذات إذ لو كان من عوارضها لكان للقبول قبول آخر ولزم التسلسل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 فأجاب عن هذه الحجة بالمعارضة بالإيجاد والإحداث فإنه عند من يمنع تسلسل الأثار من عوارض الذات لا من لوازمها فالقول في قبولها كالقول في فعله لها إذ التسلسل في القابل كالتسلسل في الفاعل. وهذا الجواب من جنس جوابه عن الحجة الأولى، وهو جواب صحيح على أصل من وافق الكرامية من المعتزلة والأشعرية والسالمية وغيرهم. وهؤلاء أخذوا هذا الأصل عن الجهمية والقدرية من المعتزلة ونحوهم. وأما المقدمة الثانية فيقال: لا نسلم انه يلزم من ثبوت القبول في الأزل، إمكان وجود المقبول في الأزل بدليل أن القدرة ثابتة في الأزل ولا يمكن وجود المقدور في الأزل عند هذه الطوائف. وهذا الجواب أيضاً جواب لمن وافقه على ذلك والنكتة في الجوابين: أن ما ذكروه في المقبول ينتقض عليهم بالمقدور فإن المقبول من الحوادث هو نوع من المقدورات، لكن فارق غيره في المحل فهذا مقدور في الذات، وهذا مقدور منفصل عن الذات، فإن قدرته قائمة بذاته ومقدور القدرة هو فعله القائم بذاته وإن كانت المخلوقات أيضاً مقدورة عندهم، فهذا المنفصل عندهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 مقدور، وفعله القائم بذاته مقدور وقدرته قائمة بمحل هذا المقدور المتصل دون المنفصل. والناس لهم في وجود المقدور بمحل القدرة وخارجاً عنها أقوال: منهم من يقول القدرة القديمة والمحدثة توجد في محل المقدور كأئمة أهل الحديث والكرامية وغيرهم. ومنهم من يقول القدرتان توجدان في غير محل المقدور، كالجهعية والمعتزلة وغيرهم. ومنهم من يقول المحدثة لا تكون إلا في محل المقدور، والقديمة لا تكون في محل المقدور، وهم الكلابية ومن وافقهم. ومتنازعون أيضاً هل يمكن أن تكون القدرتان أو إحداهما متعلقة بالمقدور في محلها وخارجة عن محلها جميعاً. والمقصود هنا ان ما عارضهم به معارضة صحيحة ولكن كثير من الناس من أهل الحديث والكلام والفلسفة وغيرهم يقولون في المقدور ما يقولون في المقبول ويقولون بجواز حوادث لا تتناهى ومنهم من يخص ذلك بالمقدورات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 فيقال لهؤلاء: حينئذ فيجوز حوادث لا تتناهى في المقبولات والمقدورات كما في المقدورات المنفصلة لا فرق بينهما. والجواب القاطع المركب ان يقال إما يكون وجود حوادث لا تتناهي ممكناً وغما أن يكون ممتنعاً فإن كان الأول كان وجود نوع الحوادث في الأزل ممكناً وحينئذ فلا يكون اللازم منفياً فتبطل المقدمة الثانية. وإن كان ممتنعاً لم يجز أن يقال إنه قابل لها في الأزل قبولاً يستلزم إمكان وجود المقبول وحينئذ فلا يلزم وجودها في الأزل فتبطل المقدمة الأولى. فتبين أنه لا بد من بطلان إحدى المقدمتين وأيهما بطلت بطلت الحجة فهذا جواب ليس بإلزامي بل هو علمي يبطل الحجة قطعاً. وهنا طريقة ثالثة في الجواب على قول من قال: إنه لم يزل متكلماً إذا شاء وإن الحركة من لوازم الحياة من أهل السنة والحديث وغيرهم فغن هؤلاء يقولون إنه قابل لها في الأزل وإنها موجودة في الأزل. وما ذكره من الحجة يستلزم صحة قول هؤلاء في المقدور والمقبول فإنهم يقولون هو قادر عليها فيما لا يزال وهي ممكنة فيما لا يزال فوجب أنه لم يزل قادراً وأنها ممكنة فإن هذه القدرة والإمكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 إما أن تكون قديمة وإما أن تكون حادثة فإن كانت قديمة حصل المطلوب وإن كانت حادثة فلا بد لها من سبب حادث وذلك يستلزم التسلسل والتسلسل يتضمن دوام القدرة وإمكان الفعل، فثبت أنه لم يزل قادراً على الفعل والفعل ممكن له وهو المطلوب. وإيضاح ذلك أنه إذا كان قادراً على الفعل وجب أن يكون قادراً عليه في الأزل وإلا كانت القادرية عارضة لذاته واستدعت القادرية قادرية أخرى، وذلك يقتضي التسلسل فإن كان التسلسل باطلاً لزم دوام نوع القادرية لأنه يمتنع أن تكون عارضة إذ كانت العارضة تستلزم التسلسل الباطل على هذا التقدير وما استلزم الباطل فهو باطل وإذا امتنع كونها عارضة ثبت كونها لازمة لأنه متصف بها قطعاً وإن كان ممكناً لزم إمكان دوام قادريات لا تتناهى لأنه يتصف بها، ويمتنع تجددها له، إذ كانت قدرته من لوازم ذاته لامتناع أن يكون غير القادر يجعل نفسه قادراً بعد أن لم يكن وذلك يقتضي دوام نوع القادرية فلا بد في الأزل من ثبوت القادرية على التقديرين، وهو المطلوب. وإذا كان كذلك فالقدرة على الشيء فرع إمكان المقدور، إذ القادرية نسبة بين القادر والمقدور، فتستدعي تحقق كل منهما، وإلا فما لا يكون ممكنا لا يكون مقدورا، فلا تكون القادرية عليه ثابتة في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 الأزل، فدل على أنه يلزم من ثبوت القدرة في الأزل إمكان وجود المقدور في الأزل. وحينئذ فذلك يدل على إمكان الفعل في الأزل فلا يكون هنا ما يمنع وجود المقدور المقبول في الأزل فصار ما ذكروه حجة على النفي هو حجة على الإثبات لكن هذا حجة لإمكان وجود المقبول في الأزل ويمكن أن يحتجوا على وجود المقبول في الأزل بأن يقولوا: لو لم يقم بذاته ما هو مقدور مراد له دائماً للزم أن لا يحدث شيئاً لكنه قد أحدث الحوادث فثبت دوام فاعليته وقابليته لما يقوم بذاته من مقدورات ومرادات. وبيان التلازم أن الحادث بعد أن لم يكن إن حدث بغير سبب لزم ترجيح الممكن بلا مرجح، وتخصيص أحد المثلين من الوقتين وغيرهما بلا مخصص وهذا ممتنع. وإن حدث بالسبب فالقول في ذلك السبب كالقول في غيره فيلزم تسلسل الحوادث. ثم تلك الحوادث الدائمة: إما أن تحدث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها وهو ممتنع لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها ولا شيء منه وإما أن تحدث عن غير علة تامة وما ليس بعلة تامة ففعله للحادث موقوف على الشرط الذي به يتم فاعليته لذلك الحادث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 وذلك الشرط إما منه وغما من غيره فإن كان من غيره لزم أن يكون رب العالمين محتاجاً في أفعاله إلى غيره وإن كان منه لزم أن يكون دائماً فاعلاً للحوادث. وتلك الحوادث إما ان تحدث بغير أحوال تقوم به وإما أنه لا بد من أحوال تقوم به والثاني يستلزم انه لم يزل قادراً قابلاً فاعلاً تقوم به الأفعال. والأول باطل، لأنه إذا كان في نفسه أزلاً وابداً على حال واحدة لم يقم به حال من الأحوال أصلاً كانت نسبة الأزمان والكائنات إليه واحدة فلم يكن تخصيص أحد الزمانين بحوادث تخالف الحوادث في الزمان الآخر اولى من العكس. وتخصيص الأزمنة بالحوادث المختلفة أمر مشهود ولأن الفاعل الذي يحدث ما يحدثه من غير فعل يقوم بنفسه غير مفعول بل ذلك يقتضي أن الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق وأن مسمى المصدر هو مسمي المفعول به وأن التأثير هو الأثر. ونحن نعلم بالاضطرار أن التأثير أمر وجودي وإذا كان دائماً لزم قيامه بذاته دائماً وأن تكون ذاته دائماً موصوفة بالتأثير والتأثير صفة كمال فهو لم يزل متصفاً بالكمال قابلاً للكمال مستوجباً للكمال. وهذا أعظم في إجلاله وإكرامه سبحانه وتعالى. وبهذه الطريق وأمثالها يتبين أن الحجة العقلية التي يحتج بها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 أهل الضلال فإنه يحتج بها على نقيض مطلوبهم كما أن الحجج السمعية التي يحتجون بها حالها كذلك. وذلك مثل احتجاجهم على قدم الأفلاك بأنه إذا كان مؤثراً في العالم فإما أن يكون التأثير وجودياً أو عدمياً والثاني معلوم الفساد بالضرورة. لكن هذا قول كثير من المعتزلة والأشعرية، وهو قول من يقول الخلق هو المخلوق وإن كان وجودياً فإن كان حادثاً لزم التسلسل ولزم كونه محلاً للحوادث فيجب أن لا يكون قديماً وغن كان قديماً لزم قدم مقتضاه فيلزم قدم الأثر. فيقال أولاً هذا يقتضي أن لا يكون شيء من آثاره محدثاً وهذا خلاف المشاهدة. وموجب هذه الحجة ان الأثر يقترن بالمؤثر التام التأثير وإذا كان كذلك فكلما حدث من الحوادث شيء كان التأثير التام منتفياً في الأزل وكذلك أيضا كلما تجدد شيء من المتجددات وحينئذ فيلزم أنه لم يكن في الأزل تأثير يستلزم آثاره وهذا نقيض قولهم. وحينئذ فيلزم حدوث التأثير وتسلسله وإذا كان التأثير وجودياً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 وجب أن يكون قائماً بالمؤثر، وهذا يقتضي دوام ما يقوم بذاته من أحواله وشؤونه التي هي من آثار قدرته ومشيئته. وهذه الحجج الثلاث المذكورة مبناها على جواز التسلسل في الآثار والكرامية لا تقول بذلك لكن يقول به غيرهم من المسلمين وأهلل الملل وغير أهل الملل. والكرامية تجيب من يوافقها على التسلسل بما تقدم من المعارضات أو الممانعات. الحجة الرابعة عند الآمدي قال الآمدي الحجة الرابعة انه لو قامت الحوادث بذاته لكان متغيراً والتغير على الله محال، ولهذا قال الخليل عليه السلام {لا أحب الأفلين} الأنعام: 76، أي المتغيرين قال ولقائل أن يقول إن أردتم بالتغير حلول الحوادث بذاته، فقد اتحد اللازم والملزوم، وصار حاصل المقدمة الشرطية لو قامت الحوادث بذاته، لقامت الحوادث بذاته وهو غير مفيد. ويكون القول بأن التغير على الله بهذا الاعتبار محال دعوى محل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 النزاع فلا يقبل، وإن أردتم بالتغير معنى آخر وراء قيام الحوادث بذات الله تعالى فهو غير مسلم ن ولا سبيل إلى إقامة الدلالة عليه تعليق ابن تيمية قلت لفظ التغير في كلام الناس المعروف هو يتضمن استحالة الشيء كالإنسان إذا مرض يقال غيره المرض ويقال في الشمس إذا اصفرت تغيرت والأطعمة إذا استحالت يقال لها تغيرت قال تعالى {فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين} محمد: 15 فتغير الطعم استحالت من الحلاوة إلى الحموضة ونحو ذلك ومنه قول الفقهاء إذا وقعت النجاسة في الماء الكثير لم ينجس، إلا أن يتغير طعمه أو لونه أو ريحه وقولهم إذا نجس الماء بالتغير زال بزوال التغير ولا يقولون إن الماء إذا جرى مع بقاء صفائه أنه تغير ولا يقال عند الإطلاق للفاكهة والطعام إذا حول من مكان إلى مكان انه تغير ولا يقال للإنسان إذا مشى أو قام أو قعد قد تغير اللهم إلا مع قرينة، ولا يقولون للشمس والكواكب إذا كانت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 ذاهبة من المشرق إلى المغرب إنها متغيرة بل يقولون إذا إصفر لون الشمس إنها تغيرت ويقال وقت العصر ما لم يتغير لون الشمس ويقولون تغير الهواء إذا برد بعد السخونة، ولا يكادون يسمون مجرد هبوبه تغيراً، وإن سمى بذلك فهم يفرقون بين هذا وهذا 0 لونه لون لباس المسلمين وتقول العرب تغايرت الأشياء إذا اختلفت والغيار البدال قال الشاعر فلا تحسبني لكم كافراً ... ولا تحسبني أريد الغيارا ويقولون نزل القوم يغيرون أي يصلحون الرحال ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أتي بابي قحافة ورأسه ولحيته كالثغامة فقال غيروا الشيب، وجنبوه السواد أي غيروا لونه إلى لون آخر أحمر أو أصفر وتقول العرب غيرت الشيء فتغير غيراً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره أي قرب تغيره من الجدب إلى الخصب وغار الرجل على أهله يغار، إذا حصل له غضب أحال صفته من حال إلى حال وقال النبي صلى الله عليه وسلم «من رأى منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقبله وذلك أضعف الإيمان» وقال «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 وتغيير المنكر تبديل صفته حتى يزول المنكر بحسب الإمكان وغن لم يكن إلا بتغير الإنسان في نفسه غضباً لله ولهذا لم يطلق على الصفة الملازمة للموصوف أنها مغايرة له لأنه لا يمكن أن يستحيل عنها ولا يزايل والغير والتغير من مادة واحدة فإذا تغير الشيء صار الثاني غير ما كان فما لم يزل على صفة واحدة لم يتغير ولا تكون صفاته مغايرة له والناس إذا قيل لهم التغير على الله ممتنع فهموا من ذلك الاستحالة والفساد مثل انقلاب صفات الكمال إلى صفات نقص، أو تفرق الذات ونحو ذلك مما يجب تنزيه الله عنه وأما كونه سبحانه يتصرف بقدرته، فيخلق ويستوي ويفعل ما يشاء بنفسه ويتكلم إذا شاء، ونحو هذا لا يسمونه تغيراً ولكن حجج النفاة مبناها على ألفاظ مجملة موهمة كما قال الإمام أحمد: يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم حتى يتوهم الجاهل أنهم يعظمون الله وهم إنما يقودون قولهم إلى فرية على الله ومن أعجب الأشياء احتجاجهم بقصة إبراهيم الخليل وهم مع افترائهم فيها على التفسير واللغة إنما هي حجة عليهم لا لهم كما قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 بعضهم في قوله {لا أحب الأفلين} الأنعام: 76 أي المتغيرين وربما قال غيره المتحركين أو المنتقلين وقال بعض المتفلسفة المتأخرين الممكنين وأراد بالممكن ما يتناول القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه وزعم بعضهم كالرازي في تفسيره أن هذا قول المحققين وهؤلاء من أعظم الناس تحريفاً للفظ الأفول ولفظ الإمكان فإنهم وسائر العقلاء يسلمون أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا ما كان معدوماً فأما القديم الأزلي الذي لم يزل فيمتنع عندهم وعند سائر العقلاء أن يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم ولكن يتناقضون تناقضاً بيناً فقالوا الفلك ممكن يقبل الوجود والعدم وهو مع ذلك قديم أزلي ثم استعمال لفظ الأفول في الممكن الذي يقبل الوجود والعدم من أعظم الكذب على اللغة والتفسير فإن المخلوقات الموجودة كالشمس والقمر والكواكب والأدميين وغيرهم لا يسمون في حال حضورهم آفلين وهؤلاء اجترأوا على ذلك لما جعلت الجهمية أهل الكلام المحدث المتحرك آفلاً فجعلوا كل متحرك آفلاً وزعموا أن إبراهيم عليه السلام احتج بالحركة على امتناع كون المتحرك رب العالمين فلما قال هؤلاء هذا قال أولئك نحن نجعل كل ما سوى الرب آفلاً فجعلوا السموات والأرض وكل ما سواه آفلاً وفسروا بذلك القرآن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 وهذا لا يعرف في لغة العرب أن الأفول بمعنى التحرك والانتقال، ولا بمعنى التغير الذي هو استحالة من صفة إلى صفة دع ما هومن باب التصرف الذي لا تستحيل فيه الصفات وإبراهيم إنما قال {لا أحب الأفلين} الأنعام: 76 رداً لمن كان يتخذ كوكباً يعبده من دون الله، كما يفعله أهل دعوة الكواكب، كما كان قومه يفعلون ذلك لا رداً على من قال إن الكوكب هو رب العالمين، فإن هذا لم يقله أحد لكن قومه كانوا مشركين، ولو كان إبراهيم مقصودة نفي كون الكوكب رب العالمين، واحتج على ذلك بالأفول لكانت حجة عليهم لأنه لما رأى الكوكب والقمر والشمس بازغة كانت متحركة من حين بزوغها إلى حين غروبها وهو في تلك الحال لا ينفي عنها المحبة كما نفاها حين غابت فعلم بذلك أن ما ذكر من التغير والحركة والانتقال لم يناف مقصود إبراهيم عليه السلام وإنما نافاه التغيب والاحتجاب فإن كان مقصودة نفي كونه رب العالمين كان ذلك حجة عليهم لا لهم وكانوا قد حكوا عن إبراهيم انه لم يجعل التغير والحركة والانتقال مانعة من كون الموصوف بذلك رب العالمين فما ذكروه لو صح كان حجة عليهم لا لهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 وبكل حال فإبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من حب المتصف بذلك كما جعل الأفول مانعاً فعلم أن ذلك ليس من صفات النقص التي تنافي كون المتصف بها معبوداً عند إبراهيم قال الآمدي وأما المعتزلة فمنهم من قال المفهوم من قيام الصفة بالموصوف حصولها في الحيز تبعاً لحصول محلها فيه والباري ليس بمتحيز فلا تقوم بذاته الصفة ومنهم من قال الجوهر إنما صح قيام الصفات به لكونه متحيزاً ولهذا فإن الأعراض لما لم تكن متحيزة لم يصح قيام المعاني بها والباري ليس بمتحيز فلا يكون محلاً للصفات قال وهذه الشبهة تدل على انتفاء الصفة عن الله تعالى مطلقاً قديمة كانت أو حادثة وهي ضعيفة جداً أما الشبهة الأولى فلقائل أن يقول لا نسلم انه لا معنى لقيام الصفة بالموصوف إلا ما ذكروه بل معنى قيام الصفة بالموصوف تقوم الصفة بالموصوف في الوجود وعلى هذا فلا يلزم أن يكون المعلول قائماً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 بالعلة لكونه متقوماً بها في الوجود إذ ليس المعلول صفة ولا العلة موصوفة به وأما الشبهة الثانية فلقائل أن يقول لا نسلم أن قيام الصفات بالجوهر لكونه متحيزاً بل أمكن أن يكون ذلك لمعنى مشترك بينه وبين الباري تعالى وغن كان ذلك لكونه متحيزاً فلا يلزم من انتفاء الدليل في حق الله تعالى انتفاء المدلول كما تقدم تحقيقة وقد أمكن أن يكون ذلك لمعنى اختص به الباري تعالى ولا يمتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين في صورتين قلت أما الحجة الأولى فيقال قيام الصفة بالموصوف معروف يتصور بالبديهة وهو أوضح مما حدوه به حيث قالوا إن ذلك هو حصول الصفة في الحيز تبعاً لحصول محلها فيه فإن الناس يفهمون قيام اللون والطعم والريح بالموصوف بذلك وغن لم يخطر بقلوبهم هذا الحصول فإن ادعى مدع أن كل موصوف متحيز وأن قيام الصفة بدون المتحيز ممتنع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 فيقال من الناس من ينازعك في هذا ومنهم من يوافقك عليه والموافقون لك منهم من يقول كل قائم بنفسه متحيز ولا اعلم قائماً بنفسه إلا المتحيز ومنهم من يقول بل أعلم قائماً بنفسه غير المتحيز فقولك لا يصح إلا إذا ثبت لك أن كل موصوف متحيز وثبت لك وجود موجود ليس بمتحيز، حتى يستلزم ثبوت موجود ليس بموصوف وجمهور الخلق ينكرون هذه الدعوى بل يقولون إثبات موجود لا يوصف بشيء من الصفات بل هو ذات مجردة كإثبات وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص وهذا كله ممتنع لمن تصوره بضرورة العقل ويقولون هذا غنما يعقل تصوره في الأذهان لا في الأعيان، والذهن يقدر فيه الممتنعات، كالجمع بين الضدين والنقيضين والجواب المركب أن يقال ما تعني بقولك متحيزاً اتعني به ما كان له حيز موجود يحيط به أم تعني به ما يقدر المقدر له حيزاً عدمياً أو ما كان منحازاً عن غيره؟ فإن عنيت الأول كان باطلاً متناقضاً فإن الأجسام إن كانت متناهية لم تكن في حيز وجودي فإنها إذا كانت متناهية لو كانت في حيز وجودي لزم أن يكون الجسم في جسم آخر إلى ما لا يتناهي في حيز وجودي لأن ذلك الحيز هو أيضاً داخل فيما لا يتناهي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 فهذا جواب برهاني والجواب الإلزامي أن قولك كل موصوف يحيط به حيز وجودي يستلزم وجود أجسام لا تتناهى وهذا باطل عندك فإن العالم متحيز موصوف وليس في حيز وجودي وإن قلت أعني به أمراً عدمياً قيل لك لاشيء وما جعل في لاشيء لم يجعل في شيء فكأنك إن قلت المتحيز ليس في غيره وحينئذ فلا نسلم لك امتناع كون الرب متحيزاً بهذا الاعتبار وكذلك إن فسرته بالمنحاز المباين لغيره كان نفي اللازم ممتنعاً فإن قلت قد قام الدليل على حدوث ما كان كذلك لأن ما كان كذلك لم يخل من الحوادث والأعراض أو كان مختصاً بقدر أو صفة أو تميز منه شيء عن شيء وهذا تركيب عاد الكلام إلى هذه المواد الثلاثة وقد علم أنها مادة الكلام الباطل وقد بين فساد ذلك بوجوه وحينئذ بوجوه وحينئذ فلا يمكنك نفي شيء من موارد النزاع إلا بنفي ذلك فيعود الكلام إلى نفي ذلك وأما الحجة الثانية فقول القائل إن الجوهر إنما صح قيام الصفة به لكونه متحيزاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 فيقال أولاً لا نسلم أن قيام الصفة بمحلها يحتاج إلى علة أعم من المحل بل صفة لازمة لمحلها وهي محتاجة إلى ذلك المحل المعين لمعنى يخص ذلك المعين لا يعلل كونها فيه بأعم منه لأن العلة إذا كانت أعم من المعلول كانت منتقضة وإن قيل نحن نعلل جنس قيام الصفات لا يحتاج إلى غير محل يقوم به وإن لم يخطر بالقلب كونه متحيزاً وإن قيل إن التحيز لازم للمحل الذي تقوم به الصفات قيل وقيام الموصوف بنفسه لازم أيضاً وغير ذلك ثم الكلام في التحيز على ما تقدم وبالجملة فهذا كلام في جنس الصفات لا في خصوص الحوادث ولا ريب أن نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة كلامهم الموضعين واحد وفساد اصولهم مبين في غير هذا الموضع طريقة الامدي في إثبات امتناع حلول الحوادث بذات الله تعالى قال الآمدي والمعتمد في المسألة حجتان تقريرية وإلزامية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 أما التقريرية فهو أن يقال لو جاز قيام الصفات الحادثة بذات الرب تعالى فغما أن يوجب نقصاً في ذاته أو في صفة من صفاته أو لا يوجب شيئاً من ذلك فإن كان الأول فهو محال باتفاق العقلاء وأهل الملل وإن كان الثاني فإما أن تكون في نفسها صفة كمال أو لا صفة كمال لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان الرب تعالى ناقصاً قبل اتصافه بها وهو محال أيضاً بالاتفاق ولا جائز أن يقال بالثاني لوجهين اتفاق الأمة وأهل الملل قبل الكرامية على امتناع اتصاف الرب بغير صفات الكمال ونعوت الجلال والثاني أن وجود كل شيء أشرف من عدمها فإذا كان اتصاف الرب بها لا يوجب تقصاً في ذاته ولا في صفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 من صفاته على ما وقع به الفرض فاتصافه إذا بما هو في نفسه كمال لا عدم كمال ولو كان كذلك لكان ناقصاً اتصافه بها وهو محال كما سبق الرد عليه من وجوه قلت: فهذا عمدته وهو من أفضل هؤلاء المتأخرين، وهي من أضعف الحجج كما قد بسط في غير هذا الموضع. الوجه الأول وبيان ذلك من وجوه: الوجه الأول: أن عمدته في ذلك على مقدمة زعم أنها إجماعية، فلا تكون المسألة عقلية، ولا ثابتة بنص، بل بالإجماع المدعي ومثل هذا الإجماع عنده من الأدلة الظنية، فكيف يصلح أن يثبت بها مثل هذا الأصل؟ وإذا كانت هذه المسألة مبنية على مقدمة إجماعية لم يكن العلم بها قبل العلم بالسمع، لأن الإجماع دليل سمعي وهم بنوا عليها كون القرآن غير مخلوق. قالوا: لأنه لو خلقه في ذاته لكان محلاً للحوادث وحينئذ فقبل العلم بهذا الإجماع يمكن تقدير قيام كلام حادث بذاته وإرادات حادثة بذاته، وغير ذلك فلا يكون شيء من هذه المسائل من المسائل العقلية. وإذا لم تكن من العقلية لم تكن من العقليات التي يتوقف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 صحة السمع عليها بطريق الأولى وحينئذ فلا يجوز معارضة نصوص الكتاب والسنة بها، ويقال قد عارض الظواهر النقلية قواطع عقلية فليس هنا عقلي لا قاطع ولا غير قاطع بل غاية ما هنا دعوى المدعي للإجماع. وهؤلاء إذا احتج عليهم المحتج في إثبات الاستواء والنزول والمجيء، والإتيان وغير ذلك بنصوص الكتاب والسنة أدعوا أن هذه المسائل لا يحتج فيها بالسمع وأن الأدلة السمعية قد عارضها العقل. فإذا اعترفوا بأنه لم يعارضها إلا ما ادعوه من الدليل المبنى على مقدمة زعموا أنها معلومة بالإجماع كان عليهم أن يسمعوا من الأدلة السمعية ما هو أقوى من هذا ويذكروا من الإجماعات ما هو أبين من هذا الإجماع لا سيما والأدلة السمعية المثبتة للصفات الخبرية ولقيام الحوادث به أضعاف ما يدل على كون الإجماع حجة من السمع وهي أقوى دلالة. فإذا كانت الأدلة السمعية المثبتة لهذه الصفات أقوى مما يدل على كون الإجماع حجة امتنع أن تعارض هذه النصوص بنصوص الإجماع فضلاً عن نفس الإجماع فضلاً عما هو مبني على مقدمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 مبنية على الإجماع لو كان البناء حقاً فكيف إذا كان باطلاً؟ الوجه الثاني أن يقال: هذا الإجماع لم ينقل بهذا اللفظ عن السلف والأئمة، لكن لعلمنا بعظمة الله في قلوبهم نعلم أنهم كانوا ينزهونه عن النقائص والعيوب. وهذا كلام مجمل، فكل من رأى شيئاً عيباً أو نقصاً نزه الله عنه بلا ريب. وإن كان من هؤلاء الجهمية الاتحادية من يقول إنه موصوف بكل النقائص والعيوب، كما هو موصوف عنده بكل المدائح إذ لا موجود إلا هو فله جميع النعوت محمودها ومذمومها. وهذا القائل يدعي أن هذا غاية الكمال المطلق كما قال ابن عربي وغيره لعلي لذاته هو الذي يكون له الكمال المطلق الذي يتضمن جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية سواء كانت محمودة عقلاً وشرعاً وعرفاً أو مذمومة عقلاً وشرعاً وعرفاً وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 وجمهور العقلاء الذين يتصورون هذا القول، يقولون هذا معلوم الفساد بالحس والعقل كما هو كفر باتفاق أهل الملل. ومن المعلوم أن كل متنازعين في هذا الباب فإن أحدهما يزعم أنه وصف الحق تعالى بصفة نقص لكن منازعه لا يسلم له ذلك. فإذا قال أنت وافقتني على تنزيهه عن النقص والعيب. قال له: هذا الذي نازعتك فيه ليس هو عندي نقصاً ولا عيباً فأي شيء تنفعك موافقتي لك على لفظ أنازعك في معناه. وإن قال بل اتفقنا على كل ما هو نقص في نفس الأمر فالله منزه عنه وهذا نقص في نفس الأمر فيجب تنزيه الله عنه. قال له: أنا وافقتك على أن كل ما هو نقص في نفس الأمر منزه عنه ولم أوافك على أن كل ما أثبت أنت أنه نقص بدليل تدعي صحته فإنه منزه عنه. وحاصله أن الإجماع لم يقع بلفظ يعلم به دخول مورد النزاع فيه ولكن يعلم أن كل ما عتقده الرجل نقصاً فإنه ينزه الله عنه وما تنازعا في ثبوته يقول المثبت أنا لم أوافقك على انتقاء هذا ولكن أنت تقول هذا نقص فعليك أن تنفيه كما نفيت ذلك النقص الآخر وانا أقول ليس هذا بنقص وذلك الأمر الآخر الذي نفيته نفيته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 لمعنى منتف فيما أثبته وأنا ما نفيت ذاك إلا لمعنى يختص به، فإن كان ذلك المأخذ صحيحاً لم تجب التسوية وإن كان باطلاً لزم خطئ في نفي ذاك وحينئذ فإن كانا مستويين لزم خطئ في الفرق بينهما، وليس خطء في إثبات ما أثبته بأولى من خطيء في نفي ذاك وحينئذ فإن كمانا مستويين لزم خطئ في لافرق بينهما وليس خطئ في إثبات ما أثبته بأولى من خطئ في نفي ما نفيته فإنما يفيدك هذا تناقضي إن صح التسوية لا يفيدك صحة مذهبك وإن ثبت الفرق بطل قولك. فتبين ان هذا الإجماع هو من الإجماعات المركبة التي ترجع إلى حجة جدلية ولو كانت صحيحة لم تفد إلا تناقض الخصم. الوجه الثالث أن يقال: ما ذكرته من الحجة معارض بتجويزك على الله إحداث الحوادث بعد أن لم تكن، وهو كونه فاعلاً فالفاعلية: إما أن تكون صفة كمال وإما أن لا تكون صفة كمال. فإن كانت كمالاً، كان قد فاته الكمال قبل الفعل وإن لم تكن كمالاً لزم اتصافه بغير صفات الكمال وهذا محال لهذين الوجهين. وإذا قلت إن الفعل نسبة وإضافة. قيل لك: وإضافة هذا الحادث إليه نسبة وإضافة ولا فرق بينهما إلا كون أحدهما متصلاً والآخر منفصلاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 ومعلوم أن الإجماع على تنزيه الله تعالى عن صفات النقص، متناول لتنزيهه عن كل نقص من صفاته الفعلية وغير الفعلية وأنت وجميع الطوائف تقسمون الصفات إلى صفات ذاتية وصفات فعلية ومتفقون على تنزيهه عن النقص في هذا وفي هذا. وأيضاً فهذا منقوص بسائر ما جوزوه من تجدد الإضافات والسلوب فإن الرب منزه عن الاتصاف بالنقائص في الثبوت والسلب والإضافة فما كان جوابهم في المتجددات كان جواباً لمنازعيهم في المحدثات. وهم يجيبون في المتجددات بأنه لا يمكن ثبوتها في الأزل. فيقال لهم: وكذلك الحوادث المتعاقبة لا يمكن ثبوتها في الأزل وهو وأمثاله يجيبون الدهرية بمثل ذلك في مسألة حدوث العالم. فإن من حججهم شبة برقلس قالوا إن الجود صفة كمال وعدمه صفة نقص فلو كان العالم قديماً لكان الرب تعالى في الأزل جواداً ولو كان حادثاً لما كان الرب تعالى في الأزل جواداً لعدم العالم عنه وهو محال. ثم قال في الجواب وأما الشبهة الرابعة فحاصل لفظ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 الجود فيها يرجع إلى صفة فعلية وهو كون الرب تعالى موجداً وفاعلاً لا لغرض يعود إليه من حلب نفع أو دفع ضر وعلى هذا فلا نسلم أن الصفات الأفعال من كمالاته تعالى وليس ذلك من الضروريات فلا بد له من دليل كيف وأنه لو كان من الكمالات لقد كان كمال واجب متوقفاً على وجود معلوله عنه، ومحال أن يستفيد الأشرف كماله من معلوله، كما قرروه في كونه موجوداً بالإرادة وإن سلمنا أنه كمال لكن إنما يكون عدمه في الأزل نقصاً ان لو كان وجود العالم في الأزل ممكناً وهو غير مسلم وهو على نحو قولهم في نفي النقص عنه بعدم إيجاده للكائنات الفاسدات كالصور الجوهرية العنصرية والأنفس الإنسانية لتعذر وجودها أزلاً من غير توسط ولا يلزم من كون العالم غير ممكن الوجود إزلاً أن لا يكون ممكن الحدوث لما حققناه. فهذا الجواب الذي أجاب به في هذا الموضع، إذا أجابته به الكرامية كان جوابهم له أحسن من جوابه لأولئك، وأدنى أحواله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 أن يكون مثله فإنه قال صفة الإحداث والفعل مطلقاً ليست بصفة كمال مع كونه اتصف بها بعد أن لم يكن. فيقال له لا فرق بينهما إلا من جهة أن أحدهما بنفسه والآخر مباين عنه ومن المعلوم أن ما يتصرف بنفسه أكمل ممن لا يتصرف بنفسه. الوجه الرابع أن يقال قول القائل إما أن تكون في نفسها صفة كمال أو لا صفة كمال. قلنا ليست في نفسها صفة كمال قوله فيلزم اتصاف الرب بما ليس من صفات الكمال وذلك ممتنع. قلنا متى يكون الممتنع إذا كان ذلك مع غيره صفة كمال أو إذا لم يكن مع غيره صفة كمال وذلك أن الشيء وحده قد لا يكون صفة كمال لكن هو مع غيره صفة كمال وما كان كهذا لم يجز اتصاف الرب به وحده لكن يجوز اتصافه به مع غيره ولا يلزم من كونه ليس صفة كمال منع قيامه بالرب مطلقاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 وهذا كالإرادة للفعل الخالية عن القدرة على المراد، ليست صفة كمال، فإن من أرادة شيئاً وهو عاجز عنه كان ناقصاً ولكن إذا كان قادراً على ما أراد كانت الإرادة مع القدرة صفة كمال. فلو قال قائل: مجرد الإرادة هل هو كمال أو لا؟ فإن قيل هو كمال انتقض بإرادة العاجز المتمني المتحسر. وإن قيل ليس بكمال لزم اتصافه بما ليس بكمال. قيل له الإرادة مع القدرة كمال. وكذلك قوله كن إما أن يكون صفة كمال أولا فإن كان صفة كمال فينبغي أن يكون كمالاً للعبد، ومعلوم أن العبد لو قال للمعدوم كن كان هاذيا لا كاملاً وإن لم يكن كمالاً فلا يوصف به الرب. فيقال له كن من القادر على التكوين الذي إذا قال للشيء كن فيكون كمال ومن غيره نقص. وكذلك الغضب إما أن يكون صفة كمال أولا فغن كان كمالاً فيحمد كل غضبان وإن كان نقصاً فكيف اتصف الرب به؟ فيقال الغضب على من يستحق الغضب عليه من القادر على عقوبته صفة كمال وأما غضب العاجز أو غضب الظالم فلا يقال إنه كمال ونظائر هذا كثيرة. وإذا كان كذلك فكونه قادراً على الأفعال المتعاقبة وفعله لها شيئاً بعد شيء صفة كمال وكل منها بشرط غيره كمال وأما الواحد منها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 مع عدم غيره فليس بكمال فإنه من المعلوم أنا إذا عرضنا على العقل الصريح ذاتاً لا تقدر أن تتصرف بنفسها وذاتاً تتصرف دائماً شيئاً بعد شيء كانت هذه الذات أكمل من تلك وكان الكمال قدم هذا النوع. وكذلك إذا قدرنا شيئاً يتكلم إذا شاء بما شاء وهو لم يزل كذلك وآخر لا يمكنه الكلام وإلا بعض الأحيان أو حدث له الكلام بعد أن لم يكن كان الأول أكمل. ونكتة الجواب: أن الواحد منها إذا لم يكن وحده كمالاً لا يلزم ان لا يكون مع سائر النوع كمالاً. لكن هذا الجواب إنما يناسب قول من يقول: لم يزل متصفاً بهذا النوع. والكرامية لا تقول بذلك بل تقول حدث له النوع بعد أن لم يكن لكن الكرامية تقول قولنا في هذا النوع كقول غيرنا في الحوادث المنفصلة وهو أن دوام هذا لما كان ممتنعاً لامتناع الحوادث في الأزل لم يلزم أن لا يكون متصفاً بصفات الكمال لأن عدم الممتنع ليس بنقص. الوجه الخامس وتحقيق هذا: أن يقال: قول القائل: إذا كان هذا كمالاً كان الرب ناقصاً قبل اتصافه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 يقال له: متى يكون ناقصاً إذا وجوده قبل ذلك ممكناً أو لم يكن ممكناً والأول ممتنع، فإن عدم الممتنعات لا يكون نقصاً والحوادث عندهم يستحيل وجودها في الأزل فلا يكون عدمها نقصاً. الوجه السادس ان يقال: متى يكون عدم الشيء نقصاً إذا عدم في الحال التي يصلح ثبوته فيها او إذا عدم في حال لا يصلح ثبوته فيها الأول مسلم والثاني ممنوع. وهم يقولون كل حادث فإنما حدث في الوقت الذي كانت الحكمة مقتضية له، وحينئذ فوجوده ذلك الوقت صفة كمال وقبل ذلك صفة نقص. مثال ذلك تكليم الله لموسى صفة كمال لما أتى وقبل أن يتمكن من سماع كلام الله فصفة نقص. الوجه السابع أن يقال الأمور التي لا يمكن وجودها إلا حادثة أو متعاقبة أيما أكمل عدمها بالكلية او جودها على الوجه الممكن؟ ومعلوم أن وجودها على الوجه الممكن أكمل من عدمها وهكذا يقولون في الحوادث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 الوجه الثامن أن يقال: قول القائل اتفاق الملل قبل الكرامية على امتنع اتصاف الرب بغير صفات الكمال كلام مجمل. فإن أريد بذلك أن الناس ما زالوا يقولون إن الله موصوف بصفات الكمال منزه عن النقائض فالكرامية تقول بذلك وإن أردت أن الناس قبل الكرامية كانوا يقولون إن الله لا يقوم به شيء من مقدوراته ومراداته فهذا غلط. فإن جمهور الخلائق على جواز ذلك قبل الإسلام وبعد الإسلام فالتوراة مملوءة من وصف الله بمثل ذلك وكذلك الإنجيل وسائر نبوات الأنبياء مثل الزبور ونبوة أشعيا وأرميا وأساطين الفلاسفة كانوا يقولون بذلك والسلف من الصحابة والتابعين وأهل الحديث متواتر عنهم ذلك. ثم هذا الرجل لما أوردت عليه الدهرية هذا في صفة الخالقية قال صفة الخالقية لا صفة نقص ولا صفة كمال. الوجه التاسع قوله إن وجود الشيء أشرف من عدمه. يقال له: وجوده أشرف مطلقاً أم في الوقت الذي يمكن وجوده فيه ويصلح وجوده فيه؟ أما الأول فممنوع فإن وجود الجهل المركب ليس أشرف من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 عدمه ولا وجود تكذيب الرسول أشرف من عدمه ولا وجود الممتنع أشرف من عدمه. وإن أريد وجود الممكن الصالح. قيل فلا نسلم أن ما حدث كان يمكن حدوثه ويصلح حدوثه قبل وقت حدوثه وحينئذ فلا يلزم من كونه وقت وجوده كمالاً أن يكون قبل وجوده نقصاً. ومدار الدليل على مقدمتين مغلطتين إحداهما أن ما وجد من الكمال كان عدمه قبل ذلك نقصاً وهذا فيه تفصيل كما تبين والثاني أن ما لا يكون وحده كمالاً يجب نفيه عن الرب مطلقاً وهذا فيه تفصيل كما سبق فإنه يقال إن كان الحادث كمالاً فعدمه قبل ذلك نقص وإن لم يكن كمالاً لم يتصف الرب بما ليس بكمال وكلا المقدمتين فيها من التموية والإجمال ما قد بين ويحتمل من البسط أكثر من هذا. رد الآمدي على الكرامية من ثمانية أوجه قال الآمدي الحجة الثانية من جهة المناقضة للخصم والإلزام وذلك من ثمانية أوجه. الأول أن من مذهب الكرامية انهم لا يجوزون إطلاق اسم متجدد على الله تعالى فيما لا يزال، كما بيناه من قبل فلو قامت بذاته صفات حادثة لا تصف بها وتعدي إليه حكمها كالعلم فإنه إذا قام بمحل وجب اتصافه بكونه عالماً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 وكذا في سائر الصفات القائمة بمحالها، وساء كان المحل قديماً أو حادثاً وسواء كانت الصفة قديمة أو حادثة إذ لا فرق بين القديم والحادث من حيث أنه محل قامت به صفته إلا فيما يرجع إلى أمر خارج فلا أثر له وإذا ثبت ذلك فيلزم أن يقال إنه قائل بقول ومريد بإرادة ويلزم من ذلك تجدد اسم لم يكن له قبل قيام الصفة الحادثة به وهو مناقض لمذهبهم. تعليق ابن تيمية قلت ولقائل أن يقول: هذا أمر اصطلاحي لفظي ليس بحثاً عقلياً فإن كونهم لا يسمونه إلا بما هو لازم لذاته دون ما يعرض لها أمر اصطلحوا عليه ولا يرد عليهم العلم والقدرة ونحوهما، فإنه من لوازم ذاته، ولعلهم يدعون في ذلك توقيفاً، كما يدعي غيرهم في كثير مما لا يطلقه من الأسماء. وأيضاً فيقال: هذا إما أن يكون لازماً لهم وإما أن لا يكون لازماً فإن لم يكن لازماً بطل النقض به وإن كان لازما أمكن التزامه، وليس فيه إلا تجدد أسماء له مما تجدد من أفعاله. والمنازع يقول بمثل ذلك في جميع الأفعال، فإنه تجدد استحقاقه لأسمائها عند تجدد الأفعال كالخالق والرازق ونحو ذلك. وحينئذ فيمكن إذا كان هذا صواباً أن يجمع بين الصوابين فيقال بتجدد الحادث وتجدد الاسم أيضاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 وأيضاً فيقال: الكرامية قالوا هذا لكونه عندهم متصفاً في الأزل بصفات الكمال وكون أسمائه كلها الأسماء الحسنى التي تتضمن مدحاً له وثناء عليه وكون ذلك الحادث لا يمكن أن يمكن ازلياً فلا يكون مما يوجب أسماً. وحينئذ فيقال: إما أن يمكن دوام نوع ذلك الحادث، وإما ان لا يمكن فإن أمكن كانوا قد أخطأوا في نفي دوامه وإن لم يمكن فإما أن يكون تجدد اسم له ممكناً اولا يكون. فإن كان ممكناً أخطاوا في نفي ذلك الاسم، وإن لم يكن ممكناً كانوا مصيبين فبتقدير خطئهم على بعض التقديرات لا يلزم صواب قول منازعيهم. الثاني قال الآمدي أن الكرامية موافقون على أن القول والإرادة لا يقومان إلا بحي كالسمع والبصر وقد وافقوا على ان الحي إذا خلا عن السمع والبصر لا يخلو عن ضده وعند ذلك فإما أن يقولوا بأن الله يخلو عن القول الحادث والإرادة الحادثة وعن ضده فلا يجدون إلى الفرق بينه وبين السمع والبصر سبيلاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 وإن قالوا بأنه لا يخلو الرب عن القول والإرادة وعن ضده فلا يخلو ذلك الضد إما أن يكون قديماً أو حادثاً فإن كان الأول فيلزم من ذلك عدم الموجود القديم ضرورة حدوث ضده، وهو محال بالاتفاق وبالدليل على ما سيأتي، وإن كان الثاني فالكلام في ذلك الضد كالكلام في الأول ويلزم من ذلك تعاقب الحوادث على الرب تعالى علىوجه لا يتصور خلوه عن واحد منها والحوادث المتعاقبة لا بد وأن تكون متناهية علىما سبق في إثبات واجب الوجود وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ضرورة. تعليق ابن تيمية فيقال: ولقائل أن يقول: نظير الحادث والإرادة الحادثة عندهم التسمع الحادث والتبصر الحادث، فإنهم يقولون: إنه عند وجود المسموعات والمرئيات تجدد ما يسمونه التسمع والتبصر، فهذا الحادث نظير ذلك الحادث، وعندهم أنه يخلو من وجود مثل هذا وضده العام، بخلاف نفس السمع والبصر، فإن ذاك عندهم بمنزلة القائلية والمريدية وعندهم انه لا يخلو عن القائلية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 والمريدية وضدها العام كما لا يخلو عن نفس السمع والبصر وضده العام. فإن قيل: منهم من يفرق بين القول والإرادة وبين التسمع والتبصر. فيقال قد قيل إن هذا ليس هو المشهور عنهم. وسواء كان هو المشهور أو لم يكن، فإنه يقال: إن كانت صورة الإلزام كصورة الوفاق لزم خطأ من فرق بين الصورتين منهم، وإن كان بينهما فرق مؤثر في الحكم لزم خطأ المسوى منهم وعلى التقديرين لا يلزم صواب المنازع لهما. وأيضاً فإنه يقال: إما أن يكون تعاقب الحوادث ممكناً وإما ان يكون ممتنعاً فإن كان ممكناً كانوا أخطأوا في قولهم: يخلو عن القول والإرادة وعن ضدها إذ يمكن تعاقب ذلك عليه دائماً وإن كان ممتنعاً كان هذا الامتناع هو الفرق بين ذلك وبين السمع والبصر، فإنه يمكن اتصافه في الأزل بالسمع والبصر، دون اتصافه بالحادث من القول والإرادة. لكن على هذا لا يلزم تناقضهم في أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده فإنهم يقولون ليس هو قابلاً في الأزل للاتصاف بالحوادث. لكن يقال لهم: هذا فرع إمكان اتصافه بالحوادث فلم قلتم إن ذلك ممكن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 فيقولون: وهذا الإلزام والمعارضة فرع امتناع اتصافه بالحوادث فلم قلتم إن ذلك ممتنع؟ فعلم أن مثل هذا الإلزام لا ينقطع به لا هم ولا خصومهم المسلمون لهم امتناع تسلسل الحوادث. وأما من يقول إنه يمكن تسلسل الحوادث فإنه يبين خطأهم في هذا التفريق ويقول: إذا كان الحي لا يخلو عما يقبله وعن ضده، والرب تعالى قابل للاتصاف بالقول والإرادة، لزم ان لا يخلو عن ذلك وعن ضده لكن ضده صفة نقص كضد السمع والبصر، فيلزم انه ما زال متصفاً بالقول والإرادة والاتصاف بنوع ذلك ممكن. ولهم جواب ثالث عما ذكره من الإلزام وهو ان يقال نحن قلنا الحي القابل لهذا لا يخلو عنه وعن ضده العام الذي يدخل فيه عدم هذه الصفات لم نقل إنه لا يخلو عنه وعن ضد وجودي فإن هذا ليس قولنا فإن القابل للشيء ولضده الوجودي قد يخلو عنهما عندنا. ولكن الأشعرية يقولون: إن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده الوجودي. وإذا كان كذلك، فضد القول والإرادة عدم ذلك، فلا يقال: القول في ضد ذلك كالقول فيه، ويلزم تسلسل الحوادث، لأن ضد ذلك عدم والعدم لا يفتقر إلى فاعل عندنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 ولا يضر عدم الشيء في الأزل ووجوده فيما لا يزال كالأفعال المحدثة. وهذا جواب محقق لهم. لكنه لا يتم ألا بأن يكون عدم القول والإرادة في الأزل ليس صفة نقص. وقولهم في ذلك كقول المعتزلة وهم خير من المعتزلة من وجهين: من جهة انهم يجعلون القول والإرادة قائمة بذاته وهذا بحث آخر لا يختص بهذه المسألة. ومن جهة أنهم يثبتون مشيئة أزلية وقابلية أزلية. وأيضاً فما ادعاه من انه أثبت أن الحوادث لا بد وأن تكون متناهية ليس كما ذكر. وقد عرف الكلام فيما ذكر هو وغيره وضعف ذلك. الثالث قال أبو الحسن الآمدي يعني في بيان تناقضهم أن من مذهبهم أن القول الحادث والإرادة الحادثة عرض كاللون والطعم والرائحة، وأنه يجوز في الشاهد تعري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 الجواهر عن الأقوال والإرادات، والطعوم والرائح والألوان، مع جواز اتصافها بها، وقد أحالوا قيام الألوان والطعوم والرائح بذات الله تعالى، وجوزوا ذلك في القول والإرادة، ولو قيل لهم لم قضيتم بجواز قيام الطعوم والألوان والروائح بذات الله تعالى من غير أن يلزم استحالة التعري عنها، كما في القول الحادث والإرادة الحادثة، لم يجدوا إلى الفرق سبيلاً. تعليق ابن تيمية فيقال: ولقائل أن يقول: جوابهم في هذا كجواب الأشعرية والسالمية، إذا قيل لهم: لم وصفتم الرب بالقول والإرادة، ولم تصفوه بالطعم واللون والريح؟ فإذا قالوا: لأن القول والإرادة من الصفات المشروطة بالحياة، وهي صفة كمال بخلاف الطعم واللون والريح، أو غير هذا من الفرق قالت الكرامية نظير ذلك، فالفرق بين هذا وهذا ليس من خصائص مسألة حلول الحوادث، فإن نفي ذلك عند من ينفيه واجب، سواء قال بحلول الحوادث أو لم يقل، وإنما يفترقان في أن هذا يجوز حدوث ذلك بخلاف الآخر، فحاصله أنهم لم ينفوا الطعم واللون والريح، لكونه لو قبلها لم يخل منها، فإن هذا الأصل عندهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 فاسد، بل نفوها لما فارقت به صفات الحي وأيضاً فيقال الفرق الذي فرقوا به بين اللون والريح وبين القول والإرادة، إما أن يكون مؤثراً، وإما أن لا يكون. فإن كان مؤثراً بطل الإلزام، وإن لم يكن مؤثراً لزم خطؤهم في إحدى الصورتين لا بعينها، فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيما نفوه لا فيما أثبتوه، فلا يدل على صحة الصورتين لا بعينها، فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيما نفوه لا فيما أثبتوه، فلا يدل على صحة قول المنازع لهم فيما أثبتوه، فإن أقام المنازع لهم دليلاً عقلياً أو سمعياً على نفي اللون والريح، دون القول والإرادة، كان ذلك فرقاً مؤثراً، وإن أقام دليلاً على نفي حلول الجميع، كان ذلك حجة كافية دون الإلزام. الوجه الرابع قال الآمدي هو أن من مذهبهم أن الرب متحيز، وانه مقابل للعرش وأكبر منه وليس مقابلاً لجوهر فرد من العرش. وقد قالوا: بأن العرض الواحد لا يقوم بجوهرين ن والصفة الحادثة في ذات الله تعالى وهي القول أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 الإرادة كما هو مذهبهم، يوجب قيامها مع اتحادها بجزئين فصاعداً، وهو مناقض لمذهبهم. تعليق ابن تيمية قلت: ولقائل أن يقول قولهم: إن العرض لا يقوم بجوهرين، مع قولهم بقيام القول والإرادة بالله تعالى، أمر لا يختص بمسألة الحوادث، فإن العلم والقدرة والمشيئة القديمة عندهم بذات الله تعالى، فالقيام بذاته لا يفترق الحال فيه بين أن يكون قديماً أو حادثاً، من جهة بذات الله تعالى، فالقيام بذاته لا يفترق الحال فيه بين أن يكون قديماً أو حادثاً، من جهة كونه صفة واحدة قامت بجزأين، بل هذا بحث يتعلق بمسألة الصفات مطاقاً ولها موضع آخر. وأيضاً فيقال: إذا كان من مذهبهم أن الرب متحيز، كما حكاه عنهم، مع أن ابن الهيصم وغيره منهم ينكر أن يكون متحيزاً، فما ذكر من حجة المعتزلة عليهم غايتها إلزامهم إذا قامت به الصفات والحوادث أن يكون متحيزاً، فإذا كانوا ملتزمين لذلك كان هذا طرد قولهم، ويبقى البحث ليس هو في هذه المسألة، بل يبقى الكلام مع المعتزلة يعود إلى مسألة التحيز. والكلام إذا عاد إلى أصل واحد، كان الكلام فيه أخف، مع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 انهم يمكنهم أن يلزموا المعتزلة بقيام الحوادث به وإن لم يكن متحيزاً إذا كان لكل من المسألتين مأخذ يخصه وبينهما اتفاق وافتراق. وأيضاً فإن ذكر قولهم في العرش ههنا لا يظهر له وجه، إلا أن يقال هم يقولون بالتحيز، والمتحيز مركب من الجواهر المنفردة، والعرض الواحد لا يقوم بجوهرين، فلا تقوم به إرادة ولا قول. وهذا القول إن توجه كان سؤلاً عليهم في أصل إثبات الصفات لله سواء كانت قديمة أو حادثة، لا يختص هذا بمسألة حلول الحوادث. والكرامية لهم في إثبات الجوهر الفرد قولان فمن نفى ذلك لم يلزمه هذا الإلزام، ومن أثبته كان جوابه عن هذا كجواب غيره من الصفاتية في الصفات القائمة بالملائكة والآدميين وغيرهم، وكان لهم أيضاً أجوبة أخرى، كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع. الوجه الخامس قال الآمدي هو أن من مذهبهم أن مستند المحدثات إنما هو القول الحادث أو الإرادة الحادثة، ومستند القول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 والإرادة القدرة القديمة والمشيئة الأزلية، ولا فرق بين الحادث والمحدث من جهة تجدده، وهو إنما كان مفتقراً إلى المرجح من جهة تجدده، وقد استويا في التجدد، فلو قيل لهم لم لا أكتفي بالقدرة القديمة والمشيئة الأزلية في حدوث المحدثات من غير توسط القول والإرادة، كما اكتفى بها في القول والإرادة لم يجدوا إلى الفرق سبيلاً. تعليق ابن تيمية فيقال: ولقائل أن يقول: من الصفات ما يثبت بالسمع، وقد يكون أثبتوا ذلك بالسمع، كما أثبت الصفاتية من السلف والخلف كابن كلاب والأشعري، والقاضي أبي بكر، والقشيري، والبيهقي، تكوين آدم باليدين بالسمع، مع أن غيره لم يحتج إلى ذلك. كما أثبت أيضاً الأشعري، وغيره التكوين يكن سمعاً، مع أن العقل يكتفي بالقدرة. ونقل ذلك عن أهل السنة والحديث، وقال عنهم إن الله لم يخلق شيئاً إلا قال له: كن. وذكر أنه: بقولهم يقول. والقرآن قد أخبر أنه إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون. وأن تخلص الفعل المضارع للاستقبال. وكذلك إذا ظرف لما يستقبل من الزمان يتضمن معنى الشرط غالباً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 فلما رأوا السمع دل على أن المحدث يتعلق بقول وإرادة يكون المحدث عقبه مع علمهم بأن قول الرب وإرادته لا يقوم إلا بذاته قالوا ذلك. وأيضاً فجميع الطوائف فرقوا بين حادث وحادث، وشرطوا في هذا ما لم يشرطوه في الآخر. فالفلاسفة يقولون: كل حادث مشروط بما قبله من الحوادث، ولا يسوون بين الحوادث. والمعتزلة البصريون يقولون كل المحدثات لا تحدث إلا بإرادة، ولا تقوم الصفات إلا بمحل. وقالوا إن الإرادة حدثت بلا إرادة وقامت في غير محل، وكذلك الفناء عندهم. والأشعرية فرقوا بين خلق وغيره. وأيضاً فلا يخلو: إما أن يكون بين هذين الحادثين فرق مؤثر، وغما أن لا يكون، فإن كان بينهما فرق مؤثر بطل الإلزام، وإن لم يكن فرق مؤثر لزم خطؤهم في أحد القولين: إما في الاكتفاء في الحدوث بالقدرة القديمة، وغما في إثبات شيء حادث للمحدثات المنفصلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 وحينئذ فقد يكونون إنما أخطأوا في الاكتفاء بمجرد القدرة والإرادة القديمة، كما يقوله من يقول إن الحوادث لا بد لها من سبب حادث، وحينئذ فيلزمهم القول بدوام الحوادث. كما هو قول من قاله من السلف وأهل الحديث والكلام والفلسفة. وفي الجملة هذا الإلزام إذا صح يلزم الخطأ في أحد الموضعين، لا يلزم صحة قول المنازع. الوجه السادس قال الآمدي يخص القائلين بحدوث القول، وذلك انهم وافقوا على أن القول مركب من حروف منتظمة، والحروف متضادة، فإنا كما نعلم استحالة الجمع بين السواد والبياض، نعلم استحالة الجمع بين الحروف ن وأنه يتعذر الجمع بين الكاف والنون، من قوله: كن. وقد وافقوا على استحالة تعري الباري عن الأقوال الحادثة في ذاته بعد قيامها به، وعند ذلك فإما أن يقال باجتماع حروف القول في ذات الباري تعالى، أولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 يقال باجتماعها فيه. فإن قيل باجتماعها: فإما أن يقال بتجزىء ذات الباري تعالى، وقيام كل حرف بجزء منه، وإما أن يقال بقيامها بذاته مع اتحاد الذات. فإن كان الأول فهو محال لوجهين: الأول: أنه يلزم منه التركيب في ذات الله تعالى وقد أبطلناه في إبطال القول بالتجسيم. الثاني: أنه ليس اختصاص بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض. أولى من العكس. وإن كان الثاني، فيلزم منه اجتماع المتضادات في شيء واحد وهو محال. وإن لم نقل باجتماع حروف القول في ذاته، فيلزم منه مناقضة أصلهم في أن ما اتصف به الرب تعالى يستحيل عروه عنه بعد اتصافه به، والحرف السابق الذي عدم عند وجود اللاحق قد كان صفة للرب وقد زال بعد وجوده له. تعليق ابن تيمية قلت ولقائل أن يقول: هذا غايته ان يستلزم خطأهم في قولهم: إن ما يقوم به من الحوادث لا يخلو منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 ولا ريب أن أكثر الناس يخالفونهم في هذا، ولا يقولون بدوام الحادث المعين. فمن قال بإثبات الاستواء والنزول، وغيرهما من الأفعال القائمة بذاته، المتعلقة بمشيئته وقدرته، لا يقول: إن ذلك يدوم. وكذلك أكثر القائلين بأن الله كلم موسى بنداء بصوت سمعه موسى، والنداء بالصوت قائم بذات الله تعالى، لا يقولون: إن ذلك النداء بعينه دائم أبداً، ونظائره كثيرة. وإذا كان كذلك، فيقال إما أن يكون بقاء الحادث الذي هو الحروف والأصوات ممكناً، أو ممتنعاً. فإن كان ممكناً، صح قول الكرامية. وإن كان ممتنعاً، صح قول من ينازعهم في دوام الحادث ويقول: إنه لا يبقى، مع اتفاق الجميع على قيام الحوادث به. وحينئذ فعلى التقديرين لا يلزم صحة قول المنازع النافي لقيام الحوادث به. وأيضاً فيقال قول القائل إنه يستحيل الجمع بين الحروف، هو من موارد النزاع. فذهب طوائف إلى إمكان اجتماعها من القائلين بقدم الحروف، والقائلين بحدوثها. وهذا قول السالمية وغيرهم من القائلين باجتماعها مع قدمها، وقول من قال باجتماعها مع حدوثها كالكرامية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 وقد قال بالأول: طوائف من أهل الحديث والفقه والكلام، من أصحاب مالك والشافعي واحمد وغيرهم. وإذا كان هذا من موارد النزاع، فإذا قال مثل هذا القائل نحن نعلم استحالة اجتماع الحروف، كما نعلم استحالة اجتماع الضدين كالسواد والبياض. قيل له فالذي تنصرهم أنت من الكلابية والأشعرية قالوا بأن المعاني التي هي معاني الحروف المنتظمة، هي معنى واحد في نفسه والأمر والنهي والخبر صفات لموصوف واحد، فالذي هو الأمر هو الخبر ن والذي هو الخبر هو النهي وقالوا إن ذلك بالسريانية كان إنجيلاً. ولا ريب أن جمهور العقلاء من الأولين والأخرين القائلين بأن القرآن غير مخلوق، والقائلين بأنه مخلوق ن يقولون: إن فساد هذا القول معلوم بالضرورة من عدة أوجه: منها كون الأمر هو عين الخبر. ومنها كون الخبر عن الخالق بمثل آية الكرسي هو الخبر عن المخلوق بمثل {تبت يدا أبي لهب وتب} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 ومنها كون معاني التوراة إذا عربت تكون معاني القرآن إلى أمثال ذلك. ولهذا لم يقل هذا القول من طوائف المسلمين ولا غير المسلمين إلا ابن كلاب ومن اتبعه. وهذا القول يتضمن أن تكون المعاني المتنوعة معنى واحداً. ولو قال: إن المعاني التي للحروف يمكن اجتماعها في زم واحد، كان أقرب إلى المعقول من كونها معنى واحد. ولو قال قائل إن الحروف المجتمعة هي حرف واحد في الحقيقة، وغنما الحروف المتفرقة صفات للحرف لا أقسام له، كان هذا شبيهاً بقول من يقول إن تلك المعاني المتنوعة معنى واحد. وذلك انه من المعلوم بالاضطرار أن الحروف المنتظمة مطابقة لمعانيها المدلول عليها بها، تحدث بحدوثها في نفس المتكم. وإذا قال القائل إن الحروف متضادة يمتنع اجتماع اثنين منها في محل واحد، أمكن أن يقال إن المعاني متضادة يمتنع اجتماع اثنين في محل واحد. فإن غاية ما يقال إن محل المعاني واحد بخلاف محل الحروف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 فإنه متعدد لكن تعدد المحل واتحاده لا ينفي التضاد فإن المثلين متضادان وغن كانا متماثلين في الحقيقة والمحل، فالباء والتاء تتضادان أعظم من تضاد الباء والحاء إذ الحرفان يتعدد محلها يمكن اجتماعها ن بخلاف ما يتحد محلهما والضدان إنما يمتنع اجتماعهما في محل واحد لا في محلين. فإذا قدر أن الحروف لا تكون إلا في محل واحد كانت بمنزلة معانيها التي لا تكون إلا في محل واحد. وإذا قدر أن لها محلين أمكن اجتماعها، كما تجتمع أصوات المتكلمين جميعاً. لكن الواحد منا لا يقدر منا لا يقدر على ذلك لكون حركة بعض آلاته مستلزماً لحركة الآخر وإلا فلو قدر أنا يمكننا تحريك الجميع كالذي ينفخ بيديه في هذه نفاخة وفي هذه نفاخة، أمكن اجتماع الحروف واجتماع الأصوات في زمن واحد مع تعدد المحل. وإنما الذي يظهر امتناعه اجتماع حرفين في محل واحد في زمن واحد. ولكن هذا قد يقال فيه إنه بمنزلة معاني الكلام فإن الواحد منا يجد من نفسه أنه لا يمكنه جمع معاني الكلام في زمن واحد في قلبه. وإذا كان كذلك فمن قال باجتماع المعاني لزمه ما يلزم من قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 باجتماع الحروف، فكيف من قال إن المعاني تكون معنى واحداً. والفضلاء من أصحاب اعري يعترفون بضعف لوازم هذا القول مع نصرهم لكثير من أقواله الضعيفة. استطرادات مقالة الآمدي في مسألة كلام الله تعالى حتى الآمدي لما تكلم في مسألة الكلام قال فإن قيل وإذا ثبت أنه متصف بصفة الكلام، وان كلامه قديم وأنه ليس بحرف ولا صوت، فهو متحد لاكثره فيه في نفسه، بل التكثر إنما هو في تعلقاته ومتعلقاته فإن قيل عاقل ما لا يماري نفسه في انقسام الكلام إلى أمر ونهي وغيره من أقسام الكلام، وإن ما انقسم إليه حقائق مختلفة وأمور متمايزة وانها من أخص أوصاف الكلام، لا أن الاختلاف عائد إلى نفس العبارات والتعلقات والمتعلقات، ولهذا فإنا لو قطعنا النظر عن العبارات والتعلقات والمتعلقات ورفعناها وهماً لم يخرج الكلام عن كونه منقسماً وأيضاً فإن ما أخبر به عن القصص الماضية والأمور السالفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 مختلفة متمايزة وكذلك المامورات والمنهيات مختلفة أيضاً فلا يتصور أن يكون الخبر عما جرى لموسى هو نفس الخبر عما جرى لعيسى، ولا الأمر بالصلاة هو نفس الأمر بالزكاة وغيرها ولا أن ما تعلق بزيد هو نفس ما تعلق بعمرو ولا ما سمى خبراً هو عين ما سمى أمراً إذ الأمر طلب والخبر لا طلب فيه بل هو حكم بنسبة مفرد إلى مفرد إيجاباً أو سلباً فثبت ان الكلام انواع مختلفة، والكلام عام للكل فيكون كالجنس لها. قلنا قد بينا فيما تقدم أن الكلام قضية واحدة ومعلوم واحد قائم بالنفس، وأن اختلاف العبارات عنه بسبب اختلاف التعلقات والمتعلقات وهذا النوع من الاختلاف ليس راجعاً إلى اخص صفة الكلام بل إلى أمر خارج عنه وعلى هذا نقول إنه لو قطع النظر عن التعلقات والمتعلقات الخارجة فلا سبيل إلى توهم اختلاف في الكلام النفساني أصلاً ولا يلزم منه رفع الكلام في نفسه وزوال حقيقته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 قال وعلى هذا فلا يخفى اندفاع ما استبعدوه من اتحاد الخبر واختلاف المخبر واتحاد الأمر واختلاف المأمور وكذلك اختلاف الأمر والخبر مع اتحاد صفة الكلام. قال فإن قيل إذا قلتم بأن الكلام قضية واحدة وأن اختلاف العبارات عنها بسبب المتعلقات الخارجة فلم لا جوزتم أن تكون الإرادة والقدرة والعلم وباقي الصفات راجعة إلى معنى واحد ويكون اختلاف التعبيرات عنه بسبب المتعلقات لا بسبب اختلافه في ذاته وذلك بأن تسمى إرادة عند تعلقه بالتخصيص وقدرة عند تعلقه بالإيجاد وهكذا سائر الصفات. وإن جاز ذلك فلم لا يجوز أن يعود ذلك كله إلى نفس الذات من غير احتياج إلى الصفات. وقال أجاب الأصحاب عن ذلك بأنه يمتنع أن يكون الاختلاف بين القدرة والإرادة بسبب التعلقات والمتعلقات، إذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 القدرة معنى من شانه تأتي الإيجاد به والإرادة معنى من شانه تأتي تخصيص الحادث بحال دون حال، وعند اختلاف التأثيرات لا بد من الاختلاف في نفس المؤثر وهذا بخلاف الكلام فإن تعلقاته بمتعلقاته لا توجب أثراً فضلاً عن كونه مختلفاً. قال وفيه نظر وذلك انه وإن سلم امتناع صدور الآثار المختلفة عن المؤثر الواحد مع إمكان النزاع فيه فهو موجب للاختلاف في نفس القدرة وذلك لأن القدرة مؤثرة في الوجود والوجود عند أصحابنا نفس الذات، لا انه زائد عليها وإلا كانت الذوات ثابتة في العدم وذلك مما لا نقول به وإذا كان الوجود هو نفس الذات ثابتة في العدم وذلك مما لا قول به وإذا كان الوجود هو نفس الذات فالذوات مختلفة، فتأثير القدرة في آثار مختلفة، فيلزم أن تكون مختلفة كما قرروه، وليس كذلك. وأيضاً فإن ما ذكروه من الفرق، وإن استمر في القدرة والإرادة فغير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 مستمر في باقي الصفات كالعلم والحياة والسمع والبصر، لعدم كونها مؤثرة في أثر ما. قال والحق ان ما أورده من الإشكال على القول باتحاد الكلام وعود الاختلاف إلى التعلقات والمتعلقات مشكل وعسى أن يكون عند غيري حله، ولعسر جوابه فر بعض أصحابنا إلى القول بان كلام الله القائم بذاته خمس صفات مختلفة وهي الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء. تعليق ابن تيمية هذا كلامه. فيقال: قول القائل: إن الكلام خمس صفات، أو سبع أو تسع، أو غير ذلك من العدد، لا يزال ما تقدم من الأمور الموجبة تعدد الكلام. وقد رأيت انه يلزم من قال باتحاد معنى الكلام اتحاد الصفات كلها، ثم رفعها بالكلية، وجعلها نفس الذات وهذا يعود إلى قول القائلين بان الوجود واحد، ولا يميزون بين الواحد بالعين والواحد بالنوع، وذلك لأنه من جوز على الحقائق المتنوعة أن تكون شيئاً واحداً غلا فرق بين هذا وهذا وذلك من جنس من يقول إن العالم هو العلم والعلم هو القدرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 ولهذا كان منتهى هؤلاء النفاة إلى أن يجعلوا الوجود الذي هو نوع واحد واحداً بالعين، فيجعلون وجود الخالق هو عين وجود المخلوقات، ووجود زيد هو عين وجود عمرو، ووجود الجنة هو عين وجود النار ووجود الماء هو عين وجود النار. ومنشأ ضلال هؤلاء كلهم أنهم يأخذون القدر المشترك بين الأعيان، وهو الجنس اللغوي، فيجدونه واحداً في الذهن، فيظنون أن ذلك هو وحدة عينية، ولا يميزون بين الواحد بالجنس والواحد بالعين، وأن الجنس العام المشترك لا وجود له في الخارج وإنما يوجد في الأعيان المتميزة. ولهذا شبه بعض أهل زماننا الكلام في أنه جنس واحد مع تعدد أنواعه بالنوع الواحد، وعلى قوله لا يبقى في الخارج كلام أصلا، ولو اهتدى لعلم أن هذا الكلام ليس هذا الكلام كما أن هذه الحركة ليست هذه الحركة وأن اشترك أنواع الكلام في الكلام كاشتراك أنواع الحركة في الحركة، بل اختلاف معاني الكلام أعظم من اختلاف أنواع الحركات من بعض الوجوه والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا ان يقال: من جوز أن تكون القدرة والإرادة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 والعلم حقيقة واحدة كما أن الطلب والخبر حقيقة واحدة، فلماذا لا يجوز أن تكون حقيقة الحروف المختلفة حقيقة واحدة، وكذلك حقيقة الأصواب؟ لست أعني واحدة بالنوع بل. واحدة بالعين كما جعل الكلام واحداً بالعين، وكما سوغ ان تكون الصفات المتنوعة واحدة بالعين. والذين قالوا: إن الكلام حروف وأصوات متقارنة قديمة لا يسبق بعضها بعضاً وهو مع ذلك واحد، إنما قالوه تبعاً لأولئك وجرياً على قياس قولهم، وهو لازم لهم مع ظهور فساده، وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم. ويلزم من قال ذلك أن يجعل الطعم واللون والريح شيئاً واحداً. وإذا قيل: هذا كالسواد والبياض. قيل له: ويلزمك ان تجعل السواد والبياض شيئاً واحداً، كما جعلت العلم والقدرة والحياة شيئاً واحداً. فإذا قال: نحن تكلمنا فيما يمكن اجتماعه من المعاني، والسواد والبياض متضادان. قيل: الجواب من وجهين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 أحدهما: أنه يلزمك هذا في المعاني المختلفة التي يمكن اجتماعها، كالطعم واللون والريح، فقل إنها شيء واحد، كما أن العلم والإرادة والقدرة، والطلب والخبر والأمر والنهي شيء واحد. الثاني: أن يقال: تضاد الحروف كتضاد معاني الكلام، أو تضاد الحركات لا كتضاد السواد والبياض. فإن المحل الواحد لا يتسع لحركتين ولا لمعنيين فلا يتسع لحرفين وصوتين وفرق بين ما يتضادان لأنفسهما وما يتضادان لضيق المحل. وإذا كان كذلك، كان تضاد الحروف والحركات، كتضاد معاني الكلام. فإن قلب الإنسان يعجز في الساعة الواحدة عن جمع جميع معاني الكلام، فإلحاق حروف الكلام بأسبابها، وهي الحركات ومضموناتها ومدلولاتها، وهي المعاني، أولى من إلحاقها بالمتضادات لنفسها، كالسواد والبياض. وحينئذ فإذا جعلت معاني الكلام شيئاً واحداً فاجعل حروف الكلام شيئاً واحداً، وإلا فما الفرق؟ وقد يقال في الفرق: إن الحروف مقاطع الأصوات والأصوات تابعة لأسبابها، وهي الحركات. والحركات: إما متماثلة وإما مختلفة، وكل من الحركات المختلفة والمتماثلة متضادة، لا يمكن اجتماع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 حركتين في محل واحد في زمن واحد، فلا يجتمع صوتان، فلا يجتمع حرفان. والحركات هي من الأكوان، والأكوان كالألوان، فكما لا يجتمع لونان مختلفان في محل واحد في وقت واحد، فلا يجتمع كونان مختلفان في محل واحد في وقت واحد. بخلاف معاني الكلام، كالطلب الذي يتضمن الحب للمأمور به والبعض للمنهى عنه، والخبر الذي يتضمن العلم والاعتقاد للمخبر عنه فإنها وإن كانت حقائق متنوعة لكن لا يمنع اجتماعها فإن الأمر بالشيء لا يضاد النهي عن غيره ولا العلم بثالث فلم تتضاد لأنفسها ولكنها لعجز العبد عن جمعها. فالأمور ثلاثة أنواع: ما امتنع اجتماعها لنفسها، كالألوان المختلفة. وما امكن اجتماعها، وقد تجتمع كالعلم والإرادة والقدرة، والطعم واللون والريح. وما يعجز بعض الأحياء عن جمعها، كجمع الإرادات الكثيرة والاعتقادات الكثيرة في زمن واحد فهذه ليس بين حقائقها منافاة تمنع اجتماعها، ولكن العبد يعجز عن جمعها، كما أنه لا يمتنع ان يعمل بلسانه عملاً وبيده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 عملا، وبرجله عملا، وأن يسمع كلام هذا القارئ وهذا القارئ وهذا القارئ، فالجمع بين هذه الأمور قد يتعذر العبد لا لامتناع اجتماعها في نفسه، فإن سمع هذا لا ينافي سمع هذا لذاته، ولا هذه الحركة تنافي هذه الحركة لذاتها ولهذا يعقل اجتماع هذه بخلاف اجتماع الضدين. وكذلك رؤية المرئيات المختلفة لا تتضاد، ولكن يتضاد تحريك الأجفان إلى جهتين مختلفتين، فنفس الحركات متضادة، وأما ما يحصل عنها من إدراك، فليس هو في نفسه متضاداً. فإذا قدر إدراك لا يفتقر إلى حركة، أو يحصل بحركة واحدة، كمن ينظر إلى السماء بتحديق واحد، لم يكن إدراكه لهذه المدركات في آن واحد متضاداً، فهل يمكن أن يقال في الصوت مثل ذلك، وأنه يمكن حصول أصوات بلا حركات وحينئذ فلا تتضاد تلك الأصوات المجتمعة في محل واحد في زمن واحد؟ فيه نزاع، وجمهور العقلاء على امتناعه فإن كان هذا مما يمكن اجتماعه صار كمعاني الكلام والصفات وإن لم يمكن اجتماعه صار كالمتضادات. وعلى هذا التقدير: فمن قال بإمكان اجتماع هذه الأمور لم يكن في قوله من الاستبعاد اعظم من قول من يقول: تكون تلك الحقائق المختلفة شيئاً واحداً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 وليس اجتماع ما يظهر تضاده بأعظم من اتحاد ما يعلم اختلافه. وإذا قال القائل: الأمور الإلهية لا تشبه بأحوال العباد، بل العبد يختلف علمه باختلاف المعلومات وإرادته باختلاف المرادات ويتعدد ذلك فيه والباري ليس كذلك. قيل: فإذا جوزتم أن يكون ما يعلم تعدده واختلافه في المخلوقين واحداً لا تعدد فيه ولا تنوع في حق الخالق أمكن منازعكم أن يقول كذلك، فيقول: ما يمتنع اجتماعه في حقنا لا يمتنع اجتماعه في حقه لأنه واسع لا يقاس بالمخلوقين. بل اجتماع الأمور التي يظهر تضادها فينا أقرب من اتحاد الأمور التي نعلم اختلافها، فإن كون الشيء هو نفس ما يخالفه، أمر فيه قلب الحقائق. وأما اجتماع الشيء وغيره في حق الخالق، مع امتناع اجتماعهما في حق المخلوقات فيدل على أنه يمكن في حقه ما لا يمكن في حق الخلق وذلك يدل على عظمته وقدرته. وأيضاً فقد يقول الكرامية وأمثالهم: إن محل هذه الحروف والأصوات ليس هو بعينه محل الأخرى، والله واسع عظيم، لا يحيط العباد به علماً، ولا تدركه أبصارهم. وبالجملة فالناس متنازعون في إمكان اجتماع الحروف وإمكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 قدمها، والنزاع في ذلك قديم ذكره الأشعري في المقالات وأصحاب أحمد متنازعون في ذلك، وكذلك أصحاب مالك، وأبي حنيفة والشافعي، وغيرهم من الطوائف وكذلك أهل الحديث والصوفية. وحينئذ فيقال: إما أن يكون ذلك ممتنعاً وغما ان يكون ممكناً فغن كان ممتنعاً لم يكن ظهور امتناعه أعظم من ظهور امتناع قول الكلابية الذي يوجب قدم المعاني المتنوعة التي هي مدلول العبارات المنتظمة، ويجعلها مع ذلك معنى واحداً. فإن الألفاظ قوالب المعاني، ونحن كما لا نعقل الحروف إلا متوالية متعاقبة فلا تعقل معانيها إلا كذلك وبتقدير أن نعقل اجتماع معانيها، فهي معان متنوعة ليست شيئاً واحداً. ولهذا لما قالت الكلابية لهؤلاء: الحروف متعاقبة، والسين بعد الباء وذلك يمنع قدمها. أجابوهم بثلاثة أجوبة كما ذكر ابن الزاغوني وقالوا هذا معارض بمعارض الحروف فإنها متعاقبة عندنا وانتم تقولون بقدمها. الثاني أن التعاقب والترتيب نوعان: أحدهما ترتيب في نفس الحقيقة والثاني ترتيب في وجودها فإذا كانت موجودة شيئاً بعد شيء كان الثاني حادثاً وأما الترتيب الذاتي العقلي فهو بمنزلة كون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 الصفات تابعة للذات وكون الإرادة مشروطة بالعلم والعلم مشروطاً بالحياة. وادعوا أن تقدم الحروف من هذا الباب وهذا الذي يقال له تقدم بالطبع وهو تقدم الشرط على المشروط كتقدم الواحد على الإثنين وجزء المركب على جملته ومثل هذا الترتيب لا يستلزم عدم الثاني عند وجود الأول. فقول هؤلاء إن كان باطلاً، فكون العلم هو الحياة، والحياة هي الإرادة، ومعنى القرآن هو معنى التوراة، ومعنى آية الكرسي وقل هو الله أحد هو معنى آية الدين وتبت يدا أبي لهب هو باطل أيضاً سواء كان مثله في البطلان أو أخفى بطلاناً منه او أظهر بطلاناً منه. وحينئذ فيقال: هب أن قول السالمية والكرامية باجتماع الحروف محال، فقول الكلابية أيضاً محال، فلا يلزم من بطلان ذاك صحة هذا. وقول المعتزلة والفلاسفة أبطل من الكل. وحينئذ فيكون الحق هو القول الآخر وهو انه لم يزل متكلماً بحروف متعاقبة لا مجتمعة. وهذا يستلزم قيام الحوادث به، فمن قال بهذا لم يكن تناقض الكرامية حجة عليه، ولم يلزم من بطلان قولهم بطلان هذا الأصل وإن كان اجتماع الحروف ممكناً بطل أصل الاعتراض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 ومعلوم أن القسمة العقلية أربعة لأن الحروف: إما أن يمكن قدم أعيانها، وحينئذ يلزم إمكان اجتماعها وإما ان لا يمكن قدم أعيانها بل قدم أنواعها وإما ان لا يمكن قدم أعيانها ولا أنواعها. وأما القسم الرابع: وهو قدم أعيانها لا أنواعها، فهذا لا يقوله عاقل وعلى التقديرين فإما أن يمكن اجتماعها وإما ان لا يمكن فهذه خمسة أقسام. وأيضاً فإذا أمكن الاجتماع، فإما ان يكون بقاؤها ممكناً، وإما أن لا يكون فالقول المذكور عن الكرامية يتضمن حدوث اعيانها وأنواعها، لكن مع إمكان اجتماعها وبقائها بعد الحدوث وهذا قول من أقوال متعددة. وبإزاء ذلك من يقول: يجب حدوثها ويمتنع بقاؤها إما مع إمكان الاجتماع وإما مع عدم إمكان الاجتماع. ومن يقول يجب قدم نوعها لا قدم أعيانها قد يقول بإمكان الاجتماع وقد لا يقول. والناس متنازعون في تكليم الله لعباده: هل هو مجرد خلق إدراك لهم من غير تجدد تكليم من جهته أو لا بد من تجدد تكليم؟ على قولين للمنتسبين إلى السنة وغيرهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 فالأول: قول الكلابية والسالمية، ومن وافقهم من أصحاب هؤلاء الأئمة القائلين بان الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته بل هو بمنزلة الحياة. والثاني: قول الأكثرين من أهل الحديث والسنة من أصحاب هؤلاء الأئمة وغيرهم وهو قول أكثر أهل الكلام من المرجئة والشيعة والكرامية والمعتزلة وغيرهم. قالوا: ونصوص الكتاب والسنة تدل على هذا القول، ولهذا فرق الله بين أيحائه وتكليمه كما ذكر في سورة النساء وسورة الشورى. والأحاديث التي جاءت بأنه يكلم عباده يوم القيامة ويحاسبهم وأنه إذا قضى أمراً في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان إلى غير ذلك مما يطول ذكره. وإذا كان كذلك امتنع أن لا يقوم كلام الله به فإنه يلزم ان لا يكون كلامه بل كلام من قام به كما قد قرر في موضعه. والله سبحانه يحاسب الخلق في ساعة واحدة، لا يشغله حساب هذا عن حساب هذا وكذلك إذا ناجوه ودعوه أجابهم كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين. قال الله حمدي عبدي فإذا قال الرحمن الرحيم. قال الله أثنى على عبدي. فإذا قال: مالك يوم الدين قال مجدني عبدي فإذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 قال إياك نعبد وإياك نستعين. قال هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولبعدي ما سأل. فإذا قال أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل. فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقول هذا لكل مصل، والناس يصلون في ساعة واحدة والله تعالى يقول لكل منهم هذا. وقد روي ان أبن عباس قيل له: كيف يحاسب الله الخلق في ساعة واحدة؟ فقال كما يرزقهم في ساعة واحدة وأمثال ذلك كثير. وحينئذ فمن قال: إن هذه أقوال قائمة بنفسه تتعلق بمشيئته وقدرته يلزمه أحد أمرين إما أن يقول باجتماعها في محل واحد، وإما أن يقول إن ذاته واسعة تسع هذه الأقوال كلها. ونحن نعقل ان يقوم بالذات الواحدة حروف كثيرة في آن واحد. وأصوات مجتمعة في آن واحد لكن لا يكون هذا حيث هذا إذ لا يعقل في الشاهد أنهما يجتمعان في محل واحد. وقد يقال: إن مثل هذا يجيء على قول من يقول: إنه يقوم بذاته لا نهاية لها، وإرادات لا نهاية لها، وقدر لا نهاية لها، فإن ذلك كقيام أفعال وأقوال لا نهاية لها. وهذا على وجهين: فمن قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 إن ذلك يقوم به على سبيل التعاقب فهو كمن يقول إنه تقوم به الكلمات والأفعال على سبيل التعاقب. ومن قال إنها كلها أزلية كما تقوله طائفة يقولون إنه تقوم به علوم لا نهاية لها في آن واحد كما يقوله أبو سهل الصعلوكي وغيره فإن هذا يشبه قول من يقول: تقوم به حروف لا نهاية لها في آن واحد. لكن قد يقال: اجتماع العلوم بمعلومات، والإرادات بمرادات، قد يقال إنه لا يتضاد كاجتماع معاني الكلام بخلاف اجتماع حروف فإنه كاجتماع أصوات واجتماع أصوات كاجتماع حركات. وجماع ذلك ان الحقائق: إما أن تكون متماثلة، وإما أن لا تكون. وإذا لم تكن متماثلة فإما أن يمكن اجتماعها في محل واحد في زمن واحد، وإما أن لا يمكن فالأولى المختلفة التي ليست بمتضادة، كالعلم والقدرة، وكالطعم واللون والثاني المتضادة، كسواد والبياض. وكالعجز مع القدرة، كالعلم بمعلومات والقدرة على مقدورات والإرادة ليست هي متضادة بل يمكن اجتماع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 ذلك، لكن قد يضيق عنه المحل، كما يضيق قلب العبد عن إجتماع أمور كثيرة من ذلك وإن كان قد يجتمع في قلبه من ذلك ما يسعه قلبه. والقلوب تختلف أيضاً بذاتها، ولهذا يمكن بعض الناس أن يقرأ ويفعل بيده ورجله وآخر لا يمكنه ذلك، كما يمكن هذا الحركة القوية الشديدة، والآخر لا يمكنه ذلك، ويمكن هذا أن يرى ويسمع من المختلفات ما لا يمكن الآخر رؤيته او سماعه. وإذا كان كذلك فالكلام في الصوت في شيئين: أحداهما: في بقائه وقدمه كما في بقاء الحركة وقدمها، ولا ريب في إمكان بقاء نوع الصوت والحركة، بمعنى حدوث الحركة والصوت شيئاً فشيئاً كحركة الفلك والكواكب. وأما إمكان قدم نوع الصوت والحركة ففيه قولان مشهوران للنظار فالجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم تنكر إمكان قدم ذلك وكثير من أئمة أهل الحديث والفقه والتصوف الفلاسفة يجوزون قدم ذلك ومنهم من يجوز قدم نوع الصوت لا نوع الحركة. وأما بقاء الصوت المعين والحركة المعينة فجمهور العقلاء يحيلون بقاء ذلك وقدمه، بل امتناع قدم ما يمتنع بقاؤه اولى فإن ما وجب قدمه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 وجب بقاؤه وامتنع عدمه ومن الناس من جوز بقاء الصوت المعين والحركة المعينة وبعض هؤلاء جوز قدم الصوت المعين. ولا فرق بين الحركة والصوت وأما الحروف المنطوق بها فالناس متنازعون: هل هي طرف للصوت أم يمكن وجود حروف منظومة بلا صوت على قولين. وإذ قيل: لا يمكن وجود حرف منطوق له إلا بصوت، فالحرف قد يعبر به عن نهاية الصوت وتقطعه وقد يعبر به عن نفس الصوت المقطع، كما يعبر بلفظ الحرف عن الحرف المكتوب، ويراد به مجرد الشكل تارة مجرداً عن المادة ويراد به مجموع المادة والشكل وهو المداد المصور. والمسألة الثانية: أن الأصوات المتنوعة سواء قيل بوجوب تعقبها شيئاً بعد شيء أو قيل بإمكان بقاء الصوت المعين: هل تقوم بالصائت الواحد، إذا كان محل هذا الصوت ليس هو بعينه محل هذا الصوت وإن كان الصائت واحداً؟ ولا ريب أن هذا أولى من قيام الحركات المتنوعة بالمتحرك الواحد، إذا قامت كل حركة بمحل غير محل الأخرى. وأما اجتماع الصوتين والحركتين في محل واحد فهو متعذر للتضاد عند اكثر العقلاء أو لضيق المحل عند بعضهم، كاجتماع العلمين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 والقدرتين والإرادتين المختلفتين والإدراكين، ثم إذا قدر ان محل هذه الصفات لا يكون إلا جسماً، فيبقى الكلام في الجسم هل هو مركب هل مركب من الجواهر المنفردة؟ أو من المادة والصورة؟ اولا من هذا ولا من هذا؟ لنظار ثلاثة أقوال في تركيب الجسم وفي ذلك للنظار ثلاثة أقولا: فمن قال بالمركب من الجواهر المنفردة اضطربوا في محل العلم ونحوه من العبد: هل هو جزء مفرد في القلب، كما يذكر عن ابن الرواندي؟ او أن الأعراض المشروطة بالحياة إذا قامت بجزء من الجملة اتصف بها سائر الجملة، كما يقوله المعتزلة؟ أو حكم العرض لا يتعدى محله بل يقوم، بل يقوم بكل جوهر فرد عرض يخصه من العلم والقدرة ونحو ذلك، كما يقوله الأشعري؟ على ثلاثة أقوال. ومن لم يقل بالجوهر الفرد لم يلزمه ذلك بل يقول: إن العرض القائم بالجسم ليس بمنقسم في نفسه، كما أن الجسم ليس بمنقسم، وأما قبوله للقسمة فهو كقبول الجسم للقسمة. وهؤلاء يقولون: إن الإنسان تقوم به الحياة والقدرة والحس بجميع بدنه، ويقولون: إن بدن الإنسان ليس مركباً من الجواهر المنفردة فلا يرد عليهم ما ورد على أولئك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 وأما الأعراض القائمة بروحه من العلم والإرادة ونحو ذلك فهي أبعد عن الأنقسام من الأعراض ببدنه، وروحه أبعد عن كونها مركبة من الجواهر المنفردة من بدنه وإن قيل إنها جسم. وعلى هذا فإذا قيل: يقوم بها علم واحد بمعلوم واحد كان هذا بمنزلة أن يقال يقوم بالعين إدراك واحد لمدرك واحد وبمنزلة أن يقوم بداخل الأذن سمع واحد لمسموع واحد. وهذا وغيره مما يجيبون به المتفلسفة الذين قالوا إن النفس الناطقة لا تتحرك ولا تسكن ولا تصعد ولا تنزل وليست بجسم فإن عمدتهم على ذلك كونها يقوم بها مالا ينقسم، كالعلم بما لا ينقسم فيجب أن لا ينقسم وإذا لم تنقسم امتنع كونها جسما وكلا المقدمتين ممنوعة، كما قد بسط الجواب عن هذه الحجة التي هي عمدتهم في غير هذا الموضع. ولما عسر جواب هذه على الرازي ونحوه من أهل الكلام، اعتقدوا أن القول بالمعاد مبني على إثبات الجوهر الفرد لظنهم أنه لا يمكن الجواب عن هذه إلا بإثبات الجوهر الفرد وأن القول بالمعاد يفتقر إلى القول بان أجزاء البدن تفرقت ثم اجتمعت. وليس الأمر كذلك، فإن إثبات الجوهر الفرد مما أنكره أئمة السلف والفقهاء وأهل الحديث والصوفية وجمهور العقلاء وكثير من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 طوائف أهل الكلام كالهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية. والقول بمعاد الأبدان مما اتفق عليه أهل الملل، فكيف يكون القول بمعاد الأبدان مستلزما للقول بالجوهر الفرد؟ وبسط هذه الأمور له موضع آخر. والمقصود هنا التنبيه على ما ذكره من البحث مع الكرامية. وحينئذ فيقال قول الكرامية الذي حكاه عنهم من انه يستحيل تعري الباري عن الأقوال الحادثة في ذاته بعد قيامها قول لا يوافقهم عليه كل من وافقهم على أصل هذه المسألة، فإن الموافقين لهم على أصل المسألة هم أكثر الناس، وأئمتهم من الطوائف كلها، حتى من أئمة أهل السنة والحديث وأئمة الفلاسفة أهل الشرع وأهل الرأي وأما هذا القول فموافقهم عليه قليل. عود إلى مناقشة كلام الأمدي في مسألة كلام الله تعالى قال وعند ذلك فإما ان يقال باجتماع حروف القول في ذاته تعالى أو لا يقال باجتماعها فيه فإن قيل باجتماعها: فإما ان يقال بتحري ذات الباري وقيام كل حرف بجزأ منه وإماأن يقال بقيامها بذاته مع اتحاد الذات، فإن كان الأول فهو محال لوجهين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 أحدهما انه يلزم منه التركيب في ذات الله وقد أبطلناه في أبطال لقول بالتجسيم. قلت: ولقائل أن يقول: قول القائل: إما أن يتجزأ ويلزم منه التركيب لفظ مجمل كما قد عرف غير مرة فإن هذا يفهم منه إما جواز الافتراق عليه، أو أنه مفترقاً فاجتمع أو ركبه ونحو هذه المعاني التي لا يقولونها. فإن أراد المريد بقوله إما أن يقال بتجزي ذات الباري تعالى هذا المعنى فهم لا يقولون بتجزئة، ولكن لا يلزم من رفع امتناع كون الذات واسعة تسع هذا وهذا وهذا وأن كل واحد يقوم لا يقوم الآخر وهذا هو الذي عناه بلفظ التجزي والتركيب. كلام الآمدي في نفي التجسيم وتعليق ابن تيمية وقوله إنه أبطل هذا في أبطال القول بالتجسيم فهم يقولون ليس فيما ذكرته في نفي التجسيم حجة على نفي قولهم. وذلك أنه قال والمعتمد في نفي التجسيم أن يقال لو كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 الباري جسماً، فإما أن يكون كالأجسام وإما أن لا يكون كالأجسام فغن قيل إنه لا كالأجسام كان النزاع في اللفظ دون المعنى، والطريق في الرد ما أسلفناه في كونه جوهراً. وإن قيل إنه كالأجسام فهو ممتنع لثمانية اوجه: منها أربعة وهي ما ذكرناها في استحالة كونه جوهراً وهي الأول والثالث والرابع والخامس ويختص الجسم بأربعة أخرى. قلت والذي ذكره في إبطال كونه جوهراً هو أن المعتمد هو أنا نقول لو كان الباري جوهراً لم يخل إما أن يكون جوهراً كالجواهر أولا كالجواهر والأول باطل لخمسة أوجه وإن قيل إنه جوهر لا كالجواهر فهو تسليم للمطلوب فإنا إنما ننكر كونه جوهراً كالجواهر وإذا عاد الأمر إلى الإطلاق اللفظي فالنزاع لفظي ولا مشاحة فيه إلا من وجهة ورد التعبد من الشارع به، ولا يخفي أن ذلك مما لا سبيل إلى إثباته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 قال وعلى هذا فمن قال إنه جوهر، بمعنى أنه موجود لا في موضوع، والموضوع هو المحل المقوم ذاته المقوم لما يحل فيه، كما قاله الفلاسفة، أو أنه جوهر بمعنى أنه قائم بنفسه غير مفتقر في وجوده إلى غيره، كما قاله أبو الحسين البصري، مع اعترافه أنه لا يثبت له أحكام الجواهر، فقد وافق في المعنى وأخطأ في الإطلاق، من حيث إنه لم ينقل عن العرب إطلاق الجوهر بأزاء القائم بنفسه، لا ورد فيه إذن من الشرع. فيقال: إذا كان قول القائل: إنه جوهر لا كالجواهر وجسم لا كالأجسام موافقاً لقولك في المعنى، وإنما النزاع بينك وبينهم ف ياللفظ قامت حجته عليك لفظاً ومعنى. أما اللفظ فمن وجهين: أحداهما أنه كما أن الشارع لم يأذن في إثبات هذه الألفاظ له فلم يأذن في نفيها عنه، وأنت لم تسمه سخياً لعدم إذن الشرع، فليس لك أن تقول ليس بسخي لعدم إذن الشرع في هذا النفي بل إذا لم يطلق إلا ما إذن فيه الشرع، لا يطلق لا هذا ولا هذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 ثم أنت تسميه قديماً، وواجب الوجود، وذاتاً، ونحو ذلك مما لم يرد به الشرع، والشارع يفرق بين ما يدعي به من الأسماء، فلا يدعي إلا بالأسماء الحسنى، وبين ما يخبر بمضمونه عنه من الأسماء لإثبات معنى يستحقه، نفاة عنه ناف لما يستحقه من الصفات، كما انه من نازعك في قدمه أو وجوب وجوده قلت مخبراً عنه بما يستحقه إنه قديم وواجب الوجود، فإن كان النزاع مع من يقول هو جوهر وجسم في اللفظ فعذرهم في الإطلاق أن النافي ما يستحقه الرب من الصفات في ضمن نفي هذا الاسم، فأثبتنا له ما يستحقه من الصفات بإثبات مسمى هذا الاسم، كما فعلت أنت وغيرك في اسم قديم وذات وواجب الوجود ونحو ذلك. الثاني: أنك احتججت على نفي ذاك العرب لم ينقل عنها إطلاق الجوهر بإزاء القائم بنفسه. فيقال لك: ولم ينقل عنها إطلاقة بإزاء كل متحيز حامل للأعراض ولا نقل عنها إطلاق لفظ ذات بإزاء نفسه وإنما لفظ الذات عندهم تأنيث ذو فلا تستعمل إلا مضافة كقوله تعالى {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} الأنفال 1 وقوله {إنه عليم بذات الصدور} الأنفال 43. وقول النبي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 صلى الله عليه وسلم: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله» . وقول خبيب وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع وأمثال ذلك أي في جهة الله أي لله تعالى. ولهذا أنكر ابن برهان وغيره على المتكلمين إطلاق لفظ ذات الله. وإذا كان كذلك فأنت أطلقت لفظ الذات على ما لم تطلقه العرب بغير إذن من الشرع. ولو قال لك قائل: إن الله ليس بذات. نازعته. فهكذا يقول منازعك في اسم الجوهر والجسم إذا كان موافقاً لك على معناهما. وأيضاً فإن لفظ الجوهر والجسم قد صار في أصطلاحكم جميعاً أعم مما استعملت فيه العرب فإن العرب لا تسمي كل متحيز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 جوهراً ولا تسمي كل مشار إليه جسماً فلا تسمي الهواء جسماً. وفي أصطلاحكم سميتم هذا جسماً، كما سميتم في اصطلاحكم باسم الذات كل موصوف أو كل قائم بنفسه أو كل شيء فلستم متوقفين في الاستعمال لا على حد اللغة العربية ولا على إذن الشارع لا في النفي ولا في الإثبات. فإن لم يكن لك حجة على منازعك إلا هذا، كان خاصماً لك، وكان حكمه فيما تنازعتما فيه كحكمكما فيما اتفقتما أو فيما انفردت به من هذا الباب. وأيضاً فحكايتك عن الفلاسفة أنهم يسمونه جوهراً، والجوهر عندهم الموجود لا في موضوع إنما قاله ابن سينا ومن تبعه. وأما أرسطو وأتباعه وغيرهم من الفلاسفة فيسمونه جوهراً، فالوجود كله ينقسم عندهم إلى جوهر وعرض، والمبدأ الأول داخل عندهم في مقوله الجوهر. والأظهر أن النصارى إنما أخذوا تسميته جوهراً عن الفلاسفة فإنهم ركبوا قولاً من دين المسيح ودين المشركين الصابئين. وأما النزاع المعنوي فيقال: قول القائل إنه جوهر كالجواهر أو جسم كالأجسام لفظ مجمل، فإنه قد يراد به أنه مماثل لكل جوهر وكل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 جسم فيما يجب ويجوز ويمتنع عليه وقد يريد به أنه مماثل لها في القدر المشترك بينها كلها، بحيث يجب ويجوز ويمتنع عليه ما يجب ويجوز ويمتنع على ما حصل فيه القدر المشترك منها، ولو أنه واحد. فأما الأول فإنه إما أن يقول مع ذلك بتماثل الأجسام والجواهر، وإما أن يقول باختلافها فإن قال بتماثلها كان قوله هو القول الثاني، إذ كان يجوز على كل منها ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه باعتبار ذاته. وإن قال باختلافها امتنع مع ذلك أن يقول إنه كالأجسام فإنه من المعلوم على هذا التقدير أن كل جسم ليس هو مثل الآخر، ولا يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر فكيف يقال في الخالق سبحانه إنه يجوز عليه ما يجوز على كل مخلوق قائم بنفسه حتى في الجماد والنبات والحيوان. هذا لا يقوله عاقل حتى القائلون بوحدة الوجود، فهؤلاء عندهم هونفس وجود الأجسام المخلوقة، ولكن هم مع هذا لا يقولون إنه يجوز على وجود جميع الموجودات ما يجوز على وجود هذا. وهذا وإن قال: إنه كالأجسام المخلوقة في القدر المشترك بينها بحيث يجوز عليه ما يجوز على المجموع لا على كل واحد واحد فهذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 أيضاً قول معلوم الفساد ولا نعرف قائلاً معروفاً يقول به فإن هذا هو التشبيه والتمثيل الذي يعلم تنزه الله عنه إذ كان كل ما سواه مخلوقاً والمخلوقات تشترك في هذا المسمى فيجوز على المجموع من العدم والحدوث والافتقار ما يجب تنزيه الله عنه بل لو جاز ووجب وامتنع عليه ما يجوز ويجب ويمتنع على الممكنات والمحدثات لزم الجمع بين النقيضين، فإنه يجب له الوجود والقدم، فلو وجب ذلك للمحدث، مع أنه لا يجب له ذلك، لزم أن يكون ذلك واجباً للمحدث غير واجب له، ولو جاز عليه الإمكان والعدم، مع أن الواجب بنفسه، القديم الذي لا يقبل العدم، لا يجوز عليه الإمكان والعدم للزم أن يمتنع عليه العدم لا يمتنع عليه، وأن يجب له الوجود، لا يجب له، وذلك جمع بين النقيضين. فتنزيه الله عما يستحق التنزيه عنه من مماثلة المخلوقين يمنع أن يشاركها في شيء من خصائصها، سواء كانت تلك الخاصة شاملة لجميع المخلوقات، أو مختصة ببعضها. فعلم أن القول بأنه جوهر كالجواهر، أو جسم كالأجسام، سواء جعل التشبيه لكل منها، أو بالقدر المشترك بينها، لم تقل به طائفة معروفة أصلاً. فإن كان النزاع ليس إلا مع هؤلاء فلا نزاع في المسألة فتبقى بحوثه المعنوية في ذلك ضائعة، وبحوثه اللفظية غير نافعة مع أني إلى ساعتي هذه لم أقف على قول لطائفة ولا نقل عن طائفة أنهم قالوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 جسم كالجسام مع أن مقالة المشبهة الذين يقولون يد كيدي وقدم كقدمي وبصر كبصري مقالة معروفة وقد ذكرها الأئمة كيزيد ابن هارون، واحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية وغيرهم وأنكروها وذموها، ونسبوها إلى مثل داود الجواربي البصري وأمثاله. ولكن مع هذا صاحب هذه المقالة لا يمثله بكل شيء من الجسام بل ببعضها ولا مع ذلك أن يثبتوا التماثل من وجه والاختلاف من وجه لكن إذا أثبتوا من التماثل ما يختص بالمخلوقات كانوا مبطلين على كل حال. وفي الجملة الكلام في التمثيل والتشبيه ونفيه عن الله مقام والكلام في التجسيم ونفيه مقام آخر. فإن الأول دل على نفيه الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، واستفاض عنهم الإنكار على المشبهة الذين يقولون يد كيدي وبصر كبصري وقدم كقدمي. وقد قال الله تعالى {ليس كمثله شيء} الشورى: 11 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 وقال تعالى {ولم يكن له كفواً أحد} الإخلاص: 4 وقال {هل تعلم له سميا} مريم: 65 وقال تعالى {فلا تجعلوا لله أندادا} البقرة: 22. وأيضاً فنفي ذلك معروف بالدلائل العقلية التي لا تقبل النقيض كما قد بسط الكلام على ذلك في غير موضع ن وأفردنا الكلام على قوله تعالى {ليس كمثله شيء} الشورى: 11 في مصنف مفرد. وأما الكلام في الجسم والجوهر ونفيهما أو إثباتهما فبدعة ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك لا نفياً ولا إثباتاً. والنزاع بين المتنازعين في ذلك بعضه لفظي وبعضه معنوي اخطأ هؤلاء من وجه، وهؤلاء من وجه فإن كان النزاع مع من يقول هو جسم أو جوهر إذا قال لا كالأجسام ولا كالجواهر إنما هو اللفظ فمن قال هو كالأجسام والجواهر يكون الكلام معه بحسب ما يفسره من المعنى. فإن فسر ذلك بالتشبيه الممتنع على الله تعالى كان قوله مردوداً وذلك بأن يتضمن قوله إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله فكل قول تضمن هذا فهو باطل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 وإن فسر قوله جسم لا كالأجسام بإثبات معنى آخر مع تنزيه الرب عن خصائص المخلوقين كان الكلام معه في ثبوت ذلك المعنى وانتفائه. فلا بد أن يلحظ في هذا المقام إثبات شيء من خصائص المخلوقين للرب أولا وذلك مثل أن يقول أصفه بالقدر المشترك بين سائر الأجسام والجواهر كما أصفه بالقدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات وبين كل حي عليم سميع بصير وإن كنت لا أصفه بما تختص به المخلوقات وإلا فلو قال الرجل هو حي لا كالأحياء وقادر لا كالقادرين وعليم لا كالعلماء وسميع لا كالسمعاء وبصير لا كالبصراء ونحو ذلك واراد بذلك نفي خصائص المخلوقين فقد أصاب. وإن أراد نفي الحقيقة التي للحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك مثل أن يثبت الألفاظ وينفي المعنى الذي أثبته الله لنفسه، وهو من صفات كماله فقد أخطأ. إذا تبين هذا فالنزاع بين مثبتة الجوهر والجسم ونفاته يقع من جهة المعنى في شيئين أحدهما انهم متنازعون في تماثل الأجسام والجواهر على قولين معروفين. فمن قال بتماثلها قال كل من قال إنه جسم لزمه التمثيل. ومن قال إنها لا تتماثل قال إنه لا يلزمه التمثيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 ولهذا كان أولئك يسمون المثبتين للجسم مشبهة بحسب ما ظنوه لازماً لهم كما يسمى نفاة الصفات لمثبتيها مشبهة ومجسمة حتى سموا جميع المثبتة للصفات مشبهة ومجسمة وحشوية وغثاء وغثراء ونحو ذلك ما ظنوه لازماً لهم. لكن إذا عرف أن صاحب القول لا يلتزم هذه اللوازم لم يجز نسبتها إليه على إنها قول له سواء كانت لازمة في نفس الأمر أو غير لازمة، بل إن كانت لازمة مع فسادها دل على فساد قوله. وعلى هذا النزاع بين هؤلاء وهؤلاء في تماثل الأجسام وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبين الكلام على جميع حججهم. والثاني أن مسمى الجسم في اصطلاحهم قد تنازعوا فيه هل هو مركب من أجزاء منفردة أو من الهيولى والصورة أو لا مركب لا من هذا ولا من هذا؟ وإذا كان مركباً فهل هو جزآن أو ستة أجزاء أو ثمانية أجزاء أو ستة عشر جزءاً أو اثنان وثلاثون؟ هذا كله مما تنازع فيه هؤلاء فمثبتوا التركيب المتنازع فيه في الجسم يقولون لأولئك إنه لازم لكم إذا قالوا هو جسم وأولئك ينفون هذا اللزوم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 وقد يكون في المجسمة من يقول إنه جسم مركب من الجواهر المنفردة وينازعهم في امتناع مثل هذا التركيب عليه ويقول لا حجة لكم على نفي ذلك إلا ما اقمتموه من الأدلة على كون الأجسام محدثة أو ممكنة وكلها أدلة باطلة، كما بسط في موضعه. وبينهم نزاع في أمور أخرى ينازعهم فيها من لا يقول هو جسم مثل كونه فوق العالم أو كونه ذا قدر أو كونه متصفاً بصفات قائمة به. فالنفاة يقولون هذه لا تقوم إلا بجسم، وأولئك قد ينازعونهم في هذا أو بعضه، وينازعونهم في إتنفاء هذا المعنى الذي سموه جسماً فهم ينازعون إما في التلازم وإما في انتفاء اللازم. إذا تبين أن هذه الأمور كلها ترجع إلى هذه الأمور الثلاثة فإن الحجج الثمانية التي ذكرها الآمدي على نفي الجوهر، وأربعة مختصة بالجسم. ذكر الآمدي أربعة حجج على نفي الجوهر مختصة بالجسم الحجة الأولى قوله لو كان جوهراً كالجواهر فإما أن يكون واجباً لذاته وإما أن لا يكون فإن كان واجباً لذاته لزم اشتراك جميع الجواهر في وجوب الوجود لذاتها ضرورة اشتراكها في معنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 الجوهرية وإن كان ممكناً لزم أن لا يكون واجباً لذاته وإن كان لا كالجواهر فهو تسليم للمطلوب. الرد عليه فيقال لا نسلم انه إذا كان واجبا لذاته لزم اشتراك جميع الجواهر في وجوب الوجود ولا يلزم أن الاشتراك في الجوهرية يقتضي الاشتراك في جميع الصفات التي تجب لكل منها وتمتنع عليه وتجوز له. وكذلك سيقال لا نسلم أنه إذا لم يكن كالجواهر كان تسليماً للمطلوب وذلك انه إذا قيل لا كالأحياء وعالم لا كالعلماء وقادر لا كالقادرين لا يلزم من ذلك نفي هذه الصفات ولا إثبات خصائص المخلوقات. فمن قال هو جوهر وفسره إما بالمتحيز وغما بالقائم بذاته وغما بما هو موجود في موضوع لم يسلم أن الجواهر متماثلة بل يقول تنقسم إلى واجب وممكن كما ينقسم الحي والعليم إلى هذا وهذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 فإن قال إذا كان متحيزاً فالمتحيزات مماثلة له كان هذا مصادرة على المطلوب، لأنه نفي كونه جسماً بناءً على نفي الجوهر ونفي الجوهر بناء على نفي على نفي المتحيز. والمتحيز هو الجسم أو الجوهر والجسم فيكون قد جعل الشيء مقدمة في إثبات نفسه وهذه هي المصادرة. الحجة الثانية قال الآمدي انه إما أن يكون قابلاً للتحيزية أو لا يكون فإن كان الأول لزم أن يكون جسماً مركباً وهو محال كما يأتي وغن كان الثاني لزم أن يكون بمنزلة الجوهر الفرد. ولقائل أن يقول إن عنيت بالتحيزية تفرقته بعد الاجتماع أو اجتماعه بعد الافتراق فلا نسلم أن ما لا يكون كذلك يلزم أن يكون حقيراً. وإن عنيت به ما يشار إليه أو يتميز منه شيء عن شيء لم نسلم أن مثل هذا ممتنع بل نقول إن كل موجود قائم بنفسه فإنه كذلك، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 وأن ما لا يكون كذلك فلا يكون إلا عرضاً قائماً وانه لا يعقل موجود إلا ما يشار إليه أو ما يقوم بما يشار إليه كما قد بسط في موضعه وسيأتي الكلام على نفي حجته. الحجة الثالثة قال لا يخلو غما ان يكون لذاته قابلاً لحلول الأعراض المتعاقبة أولاً فإن كان الأول فيلزم ان يكون محلاً للحوادث وهو محال كما يأتي وإن كان الثاني فيلزم امتناع ذلك على كل الجواهر ضرورة الاشتراك بينها في المعنى وهو محال خلاف المحسوس. الرد عليه من وجوه ولقائل أن يقول الجواب من وجوه الأول أنا لا نسلم حلول الأعراض المتعاقبة وأنت قد اعتمدت في هذا الوجه الذي ذكرته من تناقض أهل هذا القول على نفي الجسم والجوهر فلو جعلت هذا حجة في ذلك لزم المصادرة على المطلوب إذ كنت في كل من المسألتين تعتمد على الأخرى وإن اعتمدت على نفيه بالوجوه الأخر فقد عرف فساد كلامك وكلام غيرك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 الوجه الثاني الثانية أن يقال ولم قلت إنه إذا امتنع حلول الحوادث على بعض الجواهر بعض وبعض القائمين بأنفسهم دون بعض وبعض الموصوفات دون بعض فلو قال لك قائل الاشتراك في كون كل من الشيئين ذاتاً قائمة بنفسها موصوفة بالصفات يوجب اشتراكهما في حلول الحوادث لكان هذا القول إما أن يلزمك وإما أن لا يلزمك فإن لزمك كان هذا لازماً لك ولمنازعك فليس لك أن تنفيه وإن لم يلزمك فما كان جوابك عن إلزام من يلزمك به هو جواب منازعك. فإن قلت الاشتراك في الجوهرية اشتراك في المعنى الذي لآجله جاز قيام الحوادث به. قال لك كل من الخصمين والاشتراك في الذاتية والموصوفية والقيام بالنفس اشتراك في المعنى الذي لجله جاز قيام الحوادث به وأنت إذا أنصفت علمت أن البابين واحد. الحجة الثالثة الثالثة أن يقال ما تعنى بقولك الأعراض المتعاقبة أتعني به أحواله التي دلت النصوص على قيامها به أم غير ذلك؟ الأول مسلم لكن لا نسلم مساواة المخلوقات له في خصائصه والثاني ممنوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 الحجة الرابعة قال أنه لا يخلو إما ان تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها انها هنا أو هناك او لا تكون قابلة لذلك فإن كان الأول فيكون متحيزاً إذ لا معنى للتحيز إلا هذا و التحيز على الله محال لوجهين التحيز على الله محال لوجهين الأول أنه إما ان يكون منتقلاً عن حيزه أو لا يكون منتقلاً عنه فيكون متحركاًوإن لم يكن منتقلاً عنه فيكون ساكناً والحركة والسكون حادثان على ما يأتي وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث الثاني أن اختصاصه بحيزه إما ان يكون لذاته او لمخص من خارج فإن كان الأول فليس هو أولى من تخصيص غيره من الجواهر به ضرورة المساواة في المعنى وإن كان لغيره وجب أن يكون الرب مفتقراً إلى غيره في وجوده فلا يكون واجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 الوجود وإن كان غير متحيز لزم في كل جوهر ان يكون غير متحيز ضرورة المساواة في المعنى وهو محال. وأنه لا معنى للجوهر غير المتحيز بذاته فما لا يكون كذلك لا يكون جوهراً. تعليق ابن تيمية قلت: ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه إذا كان قابلاً للإشارة كان متحيزاً. وقوله: لا معنى للمتحيز إلا هذا: إن أراد به أن المفهوم من كونه مشاراً إليه هو المفهوم من كونه متحيزاً كان قوله فاسداً بالضرورة. وإن أراد أن ما صدق عليه هذا صدق عليه هذا. قيل له: من الناس من ينازعك في هذا ويقول: إنه سبحانه فوق العالم ويشار إليه وليس بمتحيز. فإن قال: هذا فساده معلوم بالضرورة. قيل له: ليس هذا بأبعد من قولك إنه موجود قائم بنفسه، متصف بالصفات مرئي بالأبصار، وهو مع هذا لا يشار إليه، وليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا مداخل له. فإن قلت: إحالة هذا من حكم الوهم. قيل لك: وإحالة موجود قائم بنفسه يشار إليه ولا يكون متحيزاً من حكم الوهم. بل تصديق العقول بموجود يشار إليه ولا يكون متحيزاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 أعظم من تصديقها بموجود قائم بنفسه متصف بالصفات لا يشار إليه وليس بداخل العالم ولا خارجه. ثم يقال ثانياً: لم قلتم: أنه يمتنع أن يكون متحيزاً؟ قولك: إما أن يكون متحركاً أو ساكناً يقال لك فلم لا يجوز أن لا يكون قابلاً للحركة والسكون، وثبوت أحدهما فرع قبوله له؟ فإن قلت كل متحيز فهو قابل لهما. قيل لك: علمنا بهذا كعلمنا بأن كل موجود قائم بنفسه موصوف بالصفات إما مباين لغيره، وإما محايث فإن جوزت موجوداً قائماً بنفسه، لا مباين ولا محايث، فجوز وجود موجود متحيز ليس يمتحرك ولا ساكن. فإن قلت: المتحيز إما أن يكون منتقلاً عن حيزه أو لا يكون منتقلاً عنه. والأول هو الحركة والثاني هو السكون. قيل لك: ليس كل متحيز أمراً وجودياً فإن العالم متحيز وليس له حيز وجودي ومن قال إن الباري وحده فوق العالم أو سلم لك إنه متحيز لم يقل إنه في حيز وجودي. وحينئذ فالحيز أمر عدمي، فقولك إما أن يكون منتقلاً عنه أو لا كقولك: إما أن يكون منتقلاً بنفسه أولا وهو معنى قولك إما أن يكون متحركاً أو ساكناً وهذا إثبات الشيء بنفسه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 فإن قلت: هذا بين مستقر في الفطرة والعلم به بديهي. قيل لك: ليس هذا بأبين من قول القائل: إما أن يكون صانع العالم حيث العالم وإما أن لا يكون حيث العالم والأول هو المحايثة والدخول فيه، والثاني هو المباينة والخروج عنه. فإن قلت: يمكن أن لا يكون داخلاً فيه ولا خارجاً عنه. قيل لك: ويمكن أن لا يكون المتحيز منتقلاً ولا يكون ساكناً، كما تقوله أنت فيما تقول إنه قائم بنفسه لا منتقل ولا ساكن فإن قلت: أنا أعقل هذا فيما ليس بمتحيز ولا أعقله في المتحيز. قيل: وكيف عقلت اولاً ثبوت ما ليس بمتحيز بهذا التفسير؟ والمنازع يقول أنا لا أعقل إلا ما هو داخل أو خارج. فإذا قلت أنت: هذا فرع قبول ذلك وقابل ذلك هو المتحيز فما لا يكون كذلك لا يكون قابلاً للمباينة والمحاديثة والدخول والخروج. قال لك: نحن لا نعقل موجوداً إلا هذا. فإن قلت بل هذا ممكن في العقل وثابت أيضاً. قال لك: وكذلك متحيز لا يقبل الحركة والسكون هو أيضاً ممكن في العقل وثابت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 فإن قلت الفطرة تدفع هذا. قيل لك: وهي لدفع ذاك أعظم. فإن قلت ذاك حكم الوهم. قيل وهذا حكم الوهم. فإن قلت العقل أثبت موجوداً ليس بمتحيز. قيل لك: إنما أثبت ذاك بمثل هذه الأدلة التي تتكلم على على مقدماتها. فإن أثبت مقدمات النتيجة بالنتيجة، كنت مصادراً على المطلوب فأنت لا يمكنك إثبات موجود ليس بمتحيز إلا بمثل هذا الدليل وهذا الدليل لا يثبت إلا ببيان إن مكان وجود موجود ليس بمتحيز فلا يجوز أن تجعله مقدمة حجة في إثبات نفسه. ويقول له الخصم: ثالثاً هب أنك تقول: لا بد له إذا كان متحيزاً من الحركة والسكون فنحن نقول: إن كل قائم بنفسه لا يخلو عن الحركة والسكون فإنه إما أن يكون منتقلاً أو لا يكون منتقلاً فإن كان منتقلاً فهو متحرك وإلا فهو ساكن. فإن قلت: ثبوت الانتقال وسلبه فرع قبوله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 قيل لك: هذا التقسيم معلوم بالضرورة في كل قائم بنفسه، كما ذكرت أنه معلوم بالضرورة في كل ما سميته متحيزاً، وحيزه عدم محض فإنه إذا لم يكن إلا الانتقال وعدم الانتقال فالانتقال هو الحركة وعدمه هو السكون. وإذا قلت: هذان متقابلان تقابل العدم والملكة فلا بد من ثبوت القبول. كان الجواب من وجوه: الأول: أن يقال مثل هذا فيما سميته متحيزاً. الثاني: أن يقال هذا اصطلاح اصطلحته وإلا فكل ما ليس بمتحرك وهو قائم بنفسه فهو ساكن كما أن كل ما ليس بحي فهو ميت. الثالث أن يقال هب أن الأمر كذلك ولكن إذا اعتبرنا الموجودات فما يقبل الحركة أكمل مما لا يقبلها فإذا كان عدم الحركة عما من شأنه أن يقبلها صفة نقص فكونه لا يقبل الحركة أعظم نقصاً كما ذكرنا مثل ذلك في الصفات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 ونقول رابعاً الحركة الاختيارية للشيء كمال له، كالحياة ونحوها، فإذا قدرنا ذاتين إحداهما تتحرك باختيارها والأخرى لا تتحرك أصلاً كانت الأولى أكمل. ويقول الخصم: رأبعاً قوله لم لا يجوز أن يكون متحركاً قولك: الحركة حادثة. قلت: حادثة النوع او الشخص؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وقولك مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث إن أريد به ما لا يخلو عن نوعها فممنوع والثاني لا يضر وانت لم تذكر حجة على حدوث نوع الحركة إلا حجة واحدة وهو قولك الحادث لا يكون أزلياً وهي ضعيفة كما عرف. إذ لفظ الحادث يراد به النوع ويراد به الشخص فاللفظ مجمل كما أن قول القائل الفاني لا يكون باقياً لفظ مجمل فإن أراد به أن القائم بنفسه لا يكون باقياً فهو حق وإن أراد به أن ما كان فاني الأعيان لا يكون نوعه باقياً فهو باطل فإن نعيم الجنة دائم باق مع أن كل أكل وشرب ونكاح وغير ذلك من الحركات تفنى شيئاً بعد شيء وإن كان نوعه لا يفنى. وأما قوله في الوجه الثاني: إن اختصاصه بحيزه: إما أن يكون لذاته أو لمخصص من خارج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 فيقال أتعني بالحيز شيئاً موجوداً أو شيئاً معيناً سواء كان موجوداً أو معدوماً أو شيئاً مطلقاً، فإن عنيت الأول فالرب سبحانه لا يجب أن يكون متحيزاً بهذا الاعتبار عند المنازع بل ولا عند طائفة معروفة. وإن عنيت الثاني لم يسلم المنازع كونه متحيزاً بهذا الاعتبار وإن عنيت الثالث، فيقال لك حينئذ فليس اختصاصه بحيز معين من لوازم ذاته، بل هو باختياره. وإذا كان يخصص بعض الأحياز بما شاء من مخلوقاته فتصرفه بنفسه أعظم من تصرفه بمخلوقاته. وأما قولك ليس هو أولى من تخصيص غيره من الجواهر به ضرورة المساواة في المعنى. فكلام ساقط لوجوده: الأولى: أن الله يخص ما شاء من الأحياز بما شاء من الجواهر ولا يقال ليس هذا أولى من هذا فكيف يقال إنه ليس أولى من بعض مخلوقاته بما هو قادر عليه مختار له؟ والثاني إن يقال فما من جوهر إلا وله حيز يختص به دون غيره من الجواهر سواء قيل إنه حيزه الطبيعي أو لا فعلم أن مجرد الاشتراك في كل حيز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 الثالث: أن كل جوهر مختص من غيره بصفة تقوم به ومقدار يخصه مع اشتراكها في الجواهرية فكيف لا يختص بحيزه؟ الرابع: أن الحيز ليس أمراً وجودياً، وإنما هو أمر عدمي والجواهر الموجودة لا بد أن يكون لبعضها نسبة إلى بعض بالعلو والسفول والتيامن والتياسر والملاقاة والمباينة ونحو ذلك وكل منها مختص من ذلك بما هو مختص به لا تشاركه فيه سائر الجواهر فكيف يجب أن يشارك المخلوق لخالقه؟ الخامس: أن هذا مبني على تماثل الجواهر وهو ممنوع بل هو مخالف للحس وسيأتي كلامه في إبطاله. السادس: أنا لو فرضنا الجواهر متماثلة فالمخصص لكل منها بما يختص به هو مشيئة الرب وقدرته وإذا كان بقدرته ومشيئته يصرف مخلوقاته فكيف لا يتصرف هو بقدرته ومشيئته، كما أخبرت عنه رسله وكما انزل بذلك كتبه حيث أخبر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أستوى على العرش، وأمثال ذلك من النصوص. وأما قوله إن كان غير متحيز لزم ان يكون كل جوهر غير متحيز فعنه جوابان: الأول: أن يقال له ولأمثاله كالرازي والشهر ستاني ونحوهما من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 المتأخرين الذين أثبتوا جواهر معقولة غير متحيزة موافقة للفلاسفة الدهرية أو قالوا: إنه دليل على نفي ذلك: أنتم إذا ناظرتم الملاحدة المكذبين فادعوا إثبات جواهر غير متحيزة عجزتم عن دفعهم أو فرطتم، فقلتم: لا نعلم دليلا على نفيها، أو قلتم بإثباتها وإذا ناظرتم إخوانكم المسلمين الذين قالوا بمقتضى النصوص الإلهية والطريقة السلفية وفطرة الله التي فطر عباده عليها، والدلائل العقلية السليمة عن المعارض، وقالوا: إن الخالق تعالى فوق خلقه، سعيتم في نفي هذا القول لوازم هذا القول وموجباته، وقلتم: لا معنى للجوهر إلا المتحيز بذاته، فإن كان هذا القول حقا فادفعوا به الفلاسفة الملاحدة، وإن كان باطلا فلا تعارضوا به المسلمين. أما كونه يكون حقا إذا دفعتم ما يقوله إخوانكم المسلمون، ويكون باطلا إذا عجزتم عن دفع الملاحدة في الدين فهذا طريق من بخس حظه من العقل والدين، وحسن النظر والمناظرة عقلا ًوشرعا. والجواب الثاني: أنك قلت في أول هذا الوجه: إما أن تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها أنها ههنا أو هناك، أو لا تكون قابلة. ثم قلت: فإن كان الأول فيكون متحيزاً. فكان حقك أن تقول: وإن لم تكن ذاته قابلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 للإشارة إليه لزم في كل جوهر أن لا يكون مشاراً إليه وأن لا يكون متحيزاً. وإذا قلت ذلك، قيل لك، إثبات جوهراً لا يشار إليه هو قول المتفلسفة الذين يثبتون جواهر لا يشار إليها، وقول النصارى الذين ينفون العلو. وحينئذ فيقولون: لا نسلم أن كل جوهر فإنه يجب ان يكون مشاراً إليه وأنت قد اعترفت في بحثك مع الفلاسفة بهذا وهذا القول وإن كان باطلاً لكن المقصود تبيين ضعف حجج هؤلاء النفاة نفياً يستلزم نفي الصفات. ويقال لك: إثبات جوهر لا يشار إليه كإثبات قائم بنفسه لا يشار إليه. وإن قال: أنا ذكرت هذا لنفي كونه جوهراً كالجواهر. فيقال: من قال هذا يقول: هو جوهر كالجواهر التي يدعي إثباتها من يقول بإثبات الجواهر العقلية المجردة فإنه هو جوهر كالجواهر العقلية المجردة، فمن نفي هذه الجواهر أبطل قولهم وإلا فلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 الحجة الخامسة قال الآمدي أنه لو كان جوهراً كالجواهر لما كان مفيداً لوجود غيره من الجواهر فإنه لا أولوية لبعض الجواهر بالعلية دون بعض، ويلزم من ذلك أن لا يكون شيء من الجواهر معلولاً، او ان يكون كل جوهر معلولاً للآخر، والكل محال. فإن قيل: الجواهر، وإن تماثلت في الجوهرية ألا أنها متمايزة بأمور موجبة لتعين كل واحد منها عن الآخر، وعند ذلك فلا مانع من اختصاص بأمور وأحكام لا وجود لها في البعض الأخر، ويكون ذلك باعتبار ما به التعين، لا باعتبار ما به الاشتراك، فنقول، والكلام في اختصاص كل واحد بما به التعين كالكلام في الأول فهو تسلسل ممتنع فلم يبق إلا أن يكون اختصاص كل واحد من المتماثلات بما اختص به لمخصص من خارج وذلك على الله محال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 تعليق ابن تيمية قلت: ولقائل أن يقول: قوله: لو كان جوهراً كالجواهر إن عني به أنه لو كان جوهراً مماثلا للجواهر فيما يجب ويجوز ويمتنع لم ينفعه هذا لوجوه: الأول أن إذا لا يقوله عاقل يتصور، لمافيه من الجمع بين النقيضين كما تقدم الثاني انه إذا كان يقتضي هذا أنه يماثل كل جوهر فيما يجب ويجوز ويمتنع لم يلزم انتفاء مشابهته له من بعض الوجوه، فغن نفي التماثل في مجموع هذه الأمور، يكون بانتفاء التماثل في واحد من أفرادها فإذا قدر انه خالف غيره في فرد هذه الأمور لم يكن مثله في مجموها ولكن ذلك لا ينفي مماثلة في فرد آخر وحينئذ فلا يكون قول القائل: هو جوهر لا كالجواهر صحيحاً، ولا يكون النزاع معه في اللفظ بل لا بد ان ينفي عنه مماثلة المخلوقات في كل ما هو من خصائصها. الثالث: انه على هذا التقدير يكون مشابهاً لها من وجه مخالفاً من وجه وليس في كلامه ما يبطل ذلك بل قد صرح في غير هذا الموضع بأن هذا هو الحق ذكر الآمدي حجة من حجج القائلين بالقدم فقال في مسألة حدوث الأجسام لما ذكر حجة القائلين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 بالقدم، قال: الوجه العاشر أنه لو كان العالم محدثا فمحدثه إما ان يكون مساوياً له من كل وجه، او مخالفاً له من كل وجه، فإن كان الأول فهو حادث، والكلام فيه كالكلام في الأول، ويلزم التسلسل الممتنع، وإن كان الثاني فالمحدث ليس بموجود، وإلا لما كان مخالفاً له من كل وجه وهو خلاف الفرض، وإذا لم يكن موجوداً امتنع ان يكون موجباً للموجود كما سبق، وإن كان الثالث فمن وجهة ما هو مماثل للحادث يجب أن يكون حادثاً، والكلام فيه كالأول وهو تسلسل محال وهذه المحاولات إنما لزمت من القول بحدوث بالعالم فلا حدوث. رده عليها ثم قال في الجواب: وأما الشبهة العاشرة فالمختار من أقسامها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 إنما هو القسم الأخير، ولا يلزم من كون القديم مماثلا للحوادث من وجه أن يكون مماثلاً للحادث من جهة كونه حادثاً، بل لا مانع من الاختلافات بينهما في صفة القدم والحدوث وإن تماثلاً بأمر آخر، وهذا كما أن السواد والبياض مختلفان من وجه دون وجه لاستحالة اختلافهما من كل وجه وإلا لما اشتركا في العرضية واللونية والحدوث، واستحالة تماثلها من كل وجه وإلا كان السواد بياضاً ومع ذلك فما لزم من مماثلة السواد للبياض من وجه أن يكون مماثلاً له في صفة البياضية. وإن عني به انه لو كان جوهراً مماثلاً في مسمى الجوهرية، فهذا مثل أن يقال: لو كان حياً مماثلاً للأحياء في مسمى الحيية أو عالماً مماثلاً للعلماء في مسمى العالمية أو قادراً مماثلاً للقادرين في مسمى القادرية أو موجوداً مماثلاً للموجودات في مسمى الموجودية، وحينئذ فموافقته في ذلك لا تستلزم أن يكون مماثلاً لها فيما يجب ويجوز ويمتنع إلا أن تكن الجواهر كلها كذلك. ومعلوم أن من يقول هو جوهر لا يقول إن الجواهر متماثلة بل يقول إنه مخالف لغيره بل جمهور العقلاء يقولون إن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 الجواهر مختلفة في الحقائق وحينئذ فتبقى هذه الوجوه موقوفة على القول بتماثل الجواهر والمنازع يمنع ذلك بل ربما قال العلم باختلافها ضروري. ودعوى تماثلها مخالف للحس والعلم الضروري فإنا نعلم أن حقيقة الماء مخالفة لحقيقة النار، وأن حقيقة الذهب مخالفة لحقيقة الخبز وأن حقيقة الدم مخالفة لحقيقة التراب، وأمثال ذلك وأن اشتراكهما في كونهما جوهرين هو اشتراكهما في كونهما قائمين بأنفسهما او متحيزين أو قابلين للصفات وهذا اشتراك في بعض صفاتها لا في الحقيقة الموصوفة بتلك الصفات. الثالث: أنه إن أراد بقوله: إنه جوهر كالجواهر أنه مماثل لكل جوهر في حقيقته ويجوز عليه ما يجوز على كل جوهر، فهذا لا يقوله عاقل. وأنما أراد المنازع انه إما قائم بنفسه وإما متحيز وإما نحو ذلك من المعاني التي يقول إن الاشتراك فيه كاشتراك في كون كل منهما حياً قائماً بنفسه ونحو ذلك، فيبقى النزاع في أن مسمى الجوهر عند هؤلاء يقتضي تماثل أفراده. وهؤلاء يقولون: لا بل هو اسم لما تختلف أفراده وفي أن هؤلاء يقولون: الاشتراك في التحيز الاصطلاحي يقتضي التماثل في الحقيقة وهؤلاء ينفون ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 ومعلوم عند التحقيق أن قول النفاة للتماثل هو الحق كما قد بسط في موضعه. وهؤلاء يقولون: قولنا جوهر كقولكم ذات قائمة بنفسها ونحو ذلك. فتبين أن ما ذكره من الدليل على نفي الجوهر هو دليل على نفي ما اتفقت الطوائف على نفيه فإن أحداً من العقلاء لا يقول إنه جوهر بمعنى مماثلته لكل قائم بنفسه فيما يجب ويجوز ويمتنع وما قاله المثبتة منه ما سلم لهم معناه ومنه مالا حجة له على نفيه إلا حجته على نفي الجسم، وحينئذ فيكون الكلام في نفي الجوهر مفرعاً على الكلام في نفي الجسم. وقوله: إن الوجوه الأربعة التي نفي بها الجوهر ينفي بها الجسم لا يستقيم فإنه إنما نفي بها الجوهر بمعنى انه مماثل لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع وهذا مما يسلمه له من يقول إنه جوهر وجسم فإقامة الدليل عليه نصب للدليل في غير محل النزاع لم ينف بها الجوهر بالمعنى الذي يثبته من قال. وحرف المسألة أن كلامه مبني على تماثل الجواهر ومن يقول ذلك لا يقول إنه جوهر ولا جسم فالكلام في هذا الباب فرع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 على تلك المسألة ولو هذا صحيحاً لكان العلم بحدوث الأجسام وإمكانها من اسهل الأمور فإن بعضها محدث بالمشاهدة والمحدث ممكن فإذا كانت متماثلة جاز على كل واحد منها ما جاز على الآخر فيلزم إما حدوثها وإما إمكان حدوثها وعلى التقديرين يحصل المقصود. والنافي لتماثلها لا يقول السؤال الذي أورده إنها متماثلة في الجوهرية لكنها متمايزة ومتغايرة بأمور موجبة للتعين هو الموجب للاختصاص بل تقول أنها مختلفة بحقائقها وأنفسها لكنها تشابهت في كونها قائمة بأنفسها أو كونها متحيزة قابلة للصفات وهذا معنى اتفاقها في الجوهرية كما ذكرة هو في الاعتراض على دليل القائلين بتماثلها. ويقول أيضا إن الأمور المتماثلة من كل وجه لا يجوز تخصيص أحدها بما يتميز به عن الآخر إلا لمخصص وإلا لزم ترجيح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح ومشيئة الله تعالى ترجح أحد الأمرين لحكمة تقتضي ذلك، وتلك الحكمة مقصودة لنفسها، وإلا فنسبة الإرادة إلى المتماثلين سواء وتلك الحكمة المرادة تنتهي إلى حكمة تراد لنفسها كما بسط في موضعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 وأيضاً فإن القائل: إن هذه الجواهر المشهودة متماثلة في الحقيقة، ولكن الفاعل المختار خص كلا منها بصفات تخالف بها الآخر، يقتضي أن لها حقيقة مجردة عن جميع الصفات التي اختلفت فيها، فيكون الماء المشهود له حقيقة غير هذا الماء المشهود، والنار المشهودة لها حقيقة غير هذه النار المشهودة ويكون ما خالف به هذا لهذا في الماء والنار أمراً عارضاً لتلك الحقيقة لا صفة ذاتية لها ولا لازمة. وهذا مكابرة للحس، وأيضاً فعلى هذا القول لا يكن لشيء من الموجودات صفة ذاتية ولا صفة لازمة لذاته أصلاً بل كل صفة يوصف بها عارضة له يمكن زوالها مع بقاء حقيقته لأن كل ما اختلفت به الأعيان أمر عارض لها ليس بداخل في حقيقتها عند من يقول بتماثل الجواهر والأجسام. وحينئذ فيكون الإنسان الذي هو حيوان ناطق يمكن زوال كونه حيواناً وكونه ناطقاً، مع بقاء حقيقته وذاته وكذلك الفرس يمكن زوال حيوانيته وصاهليته مع بقاء حقيقته وذاته وهكذا كل الأعيان. ثم يقال: إذا قدرنا عدم هذه الصفات التي هي لازمة للأنواع وذاتية لها، لم يبق هناك ما يعقل كونه جوهراً لا مماثلاً ولا مخالفاً فإنا إذا نظرنا إلى هذا الإنسان وقدرنا أنه ليس بحي ولا ناطق ولا ضاحك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 ولا حساس ولا متحرك بالإرادة لم يعقل هنالك جوهر قائم بنفسه غيره تعرض له هذه الصفات، بل إثبات ذلك نوع من الخيال الذي لا حقيقة له وهذا الخيال في الجواهر المحسوسة نظير خيال من أثبت الجواهر المعقولة لكن تلك محلها العقل، وهذه محلها الخيال، فإنا يمكننا تقدير هذا الشكل مع عدم كونه حيواناً ناطقاً، لكن حينئذ يكون المقدور شكلاً مجرداً هو عرض ن الأعراض وهو الذي يسمى الجسم التعليمي كما نقدر أعداداً مجردة عن المعدات، وهذه المقادير المجردة والأعداد المجردة لا وجود لها إلا في الأذهان واللسان، وكل جسم موجود له قدر يخصه وهذه هي الجسمية والجوهرية التي يثبتها من يقول بعدم تماثل الجواهر، وهي نظير الصورة فدعوى أولئك أن الصورة الجسمية جوهر، وأن المادة جوهر آخر هو نظير دعوى هؤلاء أن الصورة الجسمية جواهر متماثلة وليس هنا إلا هذه الأعيان القائمة بأنفسها وما قام بها من الصفات والمقادير التي هي أشكالها وصورها. ثم من العجيب أن هؤلاء المتكلمين المتأخرين، كأبي حامد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 والشهرستاني والرازي والآمدي وأمثالهم، ممن يوافق أهل المنطق يوافقون أهل المنطق فيما يدعونه من انقسام صفات الجواهر والأجسام إلى ذاتي وعرضي وانقسام العرض إلى لازم للماهية وعارض لها وانقسام العارض إلى لازم ومفارق، مع ما في هذا الكلام من الخطأ فإن الصفات في الحقيقة إنما تنقسم إلى لازم للماهية وعارض لها. وأما تقسيم اللازم إلى ذاتي وعرضي وإثبات شيئين في هذه الأعيان أحدهما الذات، والثاني هذا الموجود المشاهد فكلام باطل كما قد بسط في موضعه. ثم إنهم في قولهم بتماثل الجواهر والأجسام يدعون ان جميع صفات الأجسام التي تختلف بها إنما هي عارضة لها قابلة لزوالها ليس منها شيء لازم للحقيقة ولا هو من موجبات الذات ومقتضياتها فيا سبحان الله أين ذلك التلازم الذي غلوتم فيه حتى تجعلون الحقيقة مؤلفة من صفاتها الذاتية وتقولون إن الذات هي المقتضية للوازم ولوازم اللوازم؟ وهنا يقولون ليس لهذه الأعيان حقيقة قائمة بنفسها إلا ما تشترك كلها فيه وليس لشيء منها لازم يخصه ولا لازم يفارق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 به غيره بل ليست اللوازم إلا ما لزم جميع ما يسمى جوهراً وجسماً. وهذا المعنى قد رأيت منه عجائب لهؤلاء النظار، يتكلم كل منهم مع كل قوم على طريقتهم بكلام يناقض ما تلكم به على طريقة أولئك، مع تناقض كل من القولين في نفس الأمر وهذا إما ان يكون لكونه لم يفهم أن هذا المعنى الذي أثبته بهذه العبارة هو الذي نفاه بتلك فلا يكون قد تصور حقيقة ما يقول، بل تصور ما يتقيد باللفظ بحيث إذا خرج المعنى عن ذلك اللفظ لم يعرف أنه هو، وهذا قبيح بمن يدعى النظر في العقليات المحضة التي لا تتقيد بلغة ولا لفظ، وإما أن يكون مع نسيانه وذهوله في كل مقام لما قاله في المقام الآخر، وهذا أشبه أن يظن بم له عقل وتصور صحيح لكنه يدل على ان له في المسألة قولين، وأنه يقول في كل مقام ما ترجح عنده في ذلك المقام ولا يمشي مع الدليل مطلقاً بل يتناقض وإما أن يكون مع فهمه التناقض وحينئذ فإما ان لا يبالي بتناقض كلامه وإما ان يرجح هذا في هذا الموطن وهذا في هذا الموطن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 فصل ومن العجب أنكلامه وكلام أمثاله يدور في هذا الباب على تماثل الأجسام وقد ذكر النزاع في تماثل الأجسام وأن القائلين بتماثلها من المتكلمين بنوا ذلك على انها مركبة من الجواهر المنفردة وأن الجواهر متماثلة. ثم أنه في مسألة تماثل الجواهر ذكر انه لا دليل على تماثلها، فصار أصل كلامهم الذي ترجع إليه هذه الأمور كلاماً بلا علم، بل بخلاف الحق مع انه في الله تعالى وقد قال تعالى {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} الاعراف 33 وقال تعالى عن الشيطان {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} البقرة 169. كلام الآمدي في أن الجواهر متجانسة غير متحدة قال في كتابه هذا الكبير الفصل الرابع في أن الجواهر متجانسة غير متحدة: اتفقت الأشاعرة وأكثر المعتزلة على أن الجواهر متماثلة متجانسة وذهب النظام والنجار من المعتزلة بناء على قولهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 بتركب الجواهر من الأعراض إلى أن الجواهر إن تركبت من الأعراض المختلفة فهي مختلفة ولهذا فإنا ندرك الاختلاف بين بعض الجواهر كالاختلاف الواقع بين النار والهواء والماء والتراب ضرورة كما يدرك الاختلاف بين السواد والبياض والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وسائر الأعراض المختلفة. قال وهو باطل اما كون الجواهر مركبة من الأعراض فيما سبق وأما ما ندركه من الاختلاف بين الجواهر كالأمثلة المضروبة فلا نسلم أنه عائد إلى اختلاف الجواهر في أنفسها بل هو عائد إلى الأعراض القائمة، واختلاف الاعراض لا يدل على اختلاف المعروض له في نفسه. تعليق ابن تيمية قلت: النجار ليس هو من المعتزلة بل هو رأس مقالة وهو يخالف المعتزلة في القدر فيثبته وفي غير ذلك من أصول المعتزلة لكنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 يوافقهم على نفي الصفات ويخالفهم أيضاً في تماثل الأسماء والأحكام والوعيد. وجمهور الناس على ان الأجسام مختلفة من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم وقد ذكر الأشعري في مقالاته النزاع في ذلك. تابع كلام الآمدي والمقصود هنا اعترافه بأنه لا حجة للقائلين بالتماثل فإنه قيل ما ذكرتموه وإن دل على إبطال مأخذ القائلين بالاختلاف فما دليلكم في التماثل والتجانس فلئن قلتم: دليل التماثل اشتراك جميع الجواهر في صفات نفس الجوهر وهي التحيز وقبول الأعراض والقيام بنفسه فنقول وما المانع من كون الجواهر مختلفة بذواتها، وإن اشتركت فيما ذكرتموه من الصفات؟ فإنه لا مانع من اشتراك المختلفات في عوارض عامة لها، وإنما يثبت كون ما ذكرتموه صفات نفس الجوهر أن لو لم يكن الجواهر مختلفة، وهذه أعراض عامة لها، وإنما يمتنع كون الجواهر مختلفة وأن هذه أعراض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 عامة لها أن لو كانت هذه الصفات صفات نفس الجوهر وهو دور ممتنع. قال واعلم أن طرق أهل الحق في إثبات المجانسة، وإن اختلفت عباراتها فكلها آيلة إلى ما ذكر وما قيل عليه من الإشكال فلازم لا مخلص منه إلا بان يقال: نحن لا نعنى بتجانس الجواهر غير كونها مشتركة فيما ذكرناه من الصفات وعند ذلك فحاصل النزاع يرجع إلى التسمية لا إلى نفس المعنى. تعليق ابن تيمية قلت: فهذا قوله مع اطلاعه على طرق القائلين بالتجانس ورغبته في نصرهم لو أمكنه، فذكر أن جميع ما ذكروه من الطرق يرجع إلى ما ذكره وهو مما يعلم بالاضطرار أنه لا يدل على تماثلها، بل يدل على اشتراكها في معنى من المعاني، وليس جعل ما به الاشتراك هو الذات وما به الاختلاف من الصفات باولى من العكس، وهذا على سبيل التنزل وإلا فنحن نعلم بالضرورة والحس اختلاف الأجسام المختلفة، كما نعلم اختلاف الاعراض المختلفة، وما ذكره من أن الاختلاف عائد إلى الاعراض، لا إلى المعروض، فمخالفة للحس، فإن نفس النار مخالفة للماء ليس مجرد حرارة النار هي المخالفة لبرودة الماء، بل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 نحن نعلم أن النار تخالف الماء أعظم مما نعلم أن الحرارة تخالف عرضاً قائماً بغيره، وهو صفة محسوسة بالمس، وكذلك بين السواد والبياض من الاشتراك في العرضية واللونية، والقيام بالغير، والرؤية بالبصر، وغير ذلك من الصفات أعظم من الاشتراك بين الماء والنار ن فإن الاشتراك بينهما هو في القدر ونحو ذلك من الكميات، والاشتراك في الكيفية أعظم من الاشتراك ف يالكمية فإذا كان ذلك لا يوجب التماثل فذاك بطريق الأولى. وأيضاً فالحرارة قد تنكسر بالبرودة في مثل الفاتر، فإنه لا يبقى حاراً كحرارة النار ولا بارداً برودة الماء المحض، واما نفس الماء والنار فلا يجتمعان. وأيضاً فالأعراض المختلفة تشترك في محل واحد واما نفس الأقسام فلا تشترك في محل واحد وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا بيان اعتراف هؤلاء بفساد الأصول التي بنوا عليها ما خالفوه من النصوص، وبيان تناقضهم في ذلك، وأنهم يقولون إذا تكلموا في المنطق وغيره بما يناقض كلامهم هنا ويبعد أو يمتنع في العادة ان يكون هذا لمجرد اختلاف الاجتهاد، مع الفهم التام في الموضعين، بل يكون لنقص كمال الفهم والتصور وخوفاً أن لا يكون القولان متنافيين فلا يهجم بإثبات التناقض أو لنوع من الهوى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 والغرض ولو لم يكن إلا مراعاة الطائفة التي يتكلم باصطلاحها أن لا يخالفها فيما هو مشهورات أقوالها ولعل كلا الأمرين موجود في مثل هذه المعاني التي تعبر عنها العبارات الهائلة ولها عند أصحابها هيبة ووهم عظيم والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا نوع تنبيه على أن ما يدعونه من العقليات المخالفة للنصوص لا حقيقة لها عند الاعتبار الصحيح، وإنما هي من باب القعقعة بالشنان لمن بفزعه ذلك من الصبيان، ومن هو شبيه بالصبيان وإذا أعطي النظر في المعقولات حقه من التمام، وجدها براهين ناطقة بصدق ما أخبر به الرسول، وأن لوازم ما أخبر به لازم صحيح، وأن من نفاه لجهله بحقيقة الأمر، وفزعاً باطناً وظاهراً كالذي يفزع من الآلهة المعبودة من دون الله أن تضره ويفزع من عدو الإسلام لما عنده من ضعف الإيمان. قال تعالى عن الخليل صلوات الله عليه {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} الأنعام 80 - 81، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 قال الله تعالى {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} الأنعام 82. ومن خالف الرسل لا يلم من الشرك والإفك {سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين} الصافات 180 - 182 {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} الاعراف 152 قال أبو قلابة هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة. وما أشبه هؤلاء في رعبهم من الألفاظ الهائلة التي لم يعلموا حقيقتها بمن راى العدو المخذول، فلما رأى لباسهم رعب منهم قبل تحقق حالهم ن، ومن كشف حالهم وجدهم في غاية الضعف والعجز. ولكن قال تعالى {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} آل عمران 151. وبسط هذا يطول والمقصود التنبيه فهذا ما ذكره في الجوهر وأما الجسم فإنه اعتمد في نفيه على هذه الوجوه الأربعة وقد عرف حالها. كلا الآمدي في الجسم وقال ويختص بأربعة أوجه: الوجه الأول: أنه إذا ثبت ان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 الرب غير متصف بكونه جوهراً امتنع أن يكون متصفاً بكونه جسماً، لأن الجسم مركب من الجواهر ومفتقر إليها، ويلزم من انتفاء ما لا بد منه في كونه جسما أن لا يكون جسما. تعليق ابن تيمية قلت: هذا الوجه بين الضعف وذلك أنه لو قدر انتفاء كون الشيء جوهراً منفرداً لم يلزم أن لا يكون جسماً مؤلفاً من الجواهر فإن الأجسام جميعها كل منها عنده ليس جوهراً منفرداً، مع كونها مؤلفة من الجواهر، وهو لم يقم دليلا على نفي كونه جوهراً ولا نفى ما يستلزم الجوهر. وهذا كما لو أقام دليلاً على أنه ليس بعلم أو قدرة أو كلام أو مشيئة لم يستلزم ذلك أن لا تكون هذه من لوازمه فنفى كون الشيء أمراً من الأمور غير نفي كونه ملزوماً لذلك الأمر. وأيضاً فيقال: أنت لم تقم دليلاً على كون الجواهر متماثلة، بل صرحت بأنه لا دليل على ذلك، فبطل ما ذكرته في نفي الجوهر. وأيضاً فيقال لفظ الجوهر فيه إجمال وله عدة معان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 أحدها الجوهر الفرد وعلى هذا فالجسم ليس بجوهر، وفي كونه مركباً منه نزاع. الوجه الثاني: المتحيز، وعلى هذا فالجسم جوهر، ومن نفى الجوهر الفرد قال كل جسم جوهر، وكل جوهر جسم، ومن أثبته قال: الجوهر أعم من الجسم. والوجه الثالث: الجواهر العقلية عند من يثبت جوهراً ليس بمتحيز كالعقول والنفوس والمادة والصور فإن هؤلاء المتفلسفة المشائين يدعون ان الجوهر خمسة أقسام. وجمهور العقلاء يدفعون هذا ويقولون: هذه الأمور التي سميتوها جواهر عقلية إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان. وقد يراد بالجواهر ما هو قائم بنفسه، فمن كان الجوهر أعم عنده من الجسم، فإذا انتفى الأعم انتفى الأخص وكذلك من كان الجوهر عنده مرادفاً للجسم، وأما من كان الجوهر عنده لا يتناول معنى الجسم، مثل أن يقدر أنه لا يستعمل لفظ الجوهر إلا في الفرد، فهذا لا يلزم من نفي كونه جوهراً نفي كونه جسماً، إلا بالحجة التي ذكرها، وهو ان يقال: الجسم مركب من الجواهر، فالحجة لا تستقيم إلا على تقدير ثبوت هذا الاصطلاح، مع أني لا أعرفه اصطلاحاً لأحد مطلقاً، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 ولكن بعض الناس قد يخص به الفرد مع أنه هو وغيره دائما يسمون الجسم جوهراً. ولهذا قال هذا الآمدي وغيره ف ينفي كونه جوهراً: إما أن يكون قابلاً للتجزية فيكون جسماً مركباً، وإما ان لا يكون قابلاً للتجزية فيكون في غاية الصغر والحقارة، وكثيراً ما يقع في كلامهم لفظ الجوهر متناولاً للجسم وكثيراً ما يقع مختصاً بالفرد فما ذكره اولا في نفي الجوهر بالمعنى العام فالجسم يدخل فيه فإن صح ما ذكره صح نفي الجسم لكن قد عرف ضعفه. وأما إذا كان المنفي هو الجوهر الفرد فقط، فيحتاج ان يقول إن الجسم مركب منه لينفي الجسم. لكن هذا فيه نزاع معروف وأكثر الناس على انه ليس بمركب من الجواهر المنفردة وهو الصواب كما قد بسط في موضعه. فمن الناس من يقول: إنه مركب من جواهر متناهية لا تقبل القسمة بوجه من الوجوه حتى ولا بالوهم ومنهم من يقول: هو مركب من جواهر غير متناهية كذلك، ومنهم من يقول هو مركب من الهيولي والصورة لكنه يقبل القسمة إلى غير نهاية، ومنهم من يقول ليس بمركب لكنه يقبل التقسيم إلى الجواهر المنفردة التي لا تتجزأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 ومنهم من يقول: بل كل موجود فلا بد أن يتميز منه شيء عن شيء، فلا يتصور وجود جوهر لا يتميز منه شيء عن شيء، لكن إذا تصغرت الأجزاء استحالت، وقد لا تقبل القسمة الفعلية، بل إذا قسمت استحالت، كما في أجزاء الماء إذا تصغرت فإنها تصير هواء، فهي وإن كان يتميز منها شيء عن شيء، لكن ليس لها من القوة ما يحتمل الانقسام الفعلي، بل تستحيل إذا أريد بها ذلك. وعلى هذا القول فلا نثبت شيئاً لا يتميز منه جانب عن جانب، ولا يثبت ما لا نهاية له في ضمن مالا يتناهى، ولا انقسام إلى غير نهاية، بل كل موجود فإنه يتميز منه شيء عن شيء، وهو قد يستحيل قبل وجود الانقسامات التي لا تتناهى. فتزول بهذا القول الإشكالات الواردة على غيره، مع انه مطابق للواقع، فتبين ضعف هذا الوجه. تابع كلام الآمدي الوجه الثاني في نفي الجسمية عن الله تعالى الوجه الثاني قال الآمدي أنه قد ثبت ان الرب متصف بالعلم والقدرة وغيرهما من الصفات، فلو كان جسما كالأجسام لزم من اتصافه بهذه الصفات المحال، وذلك من وجهين: الوجه الأول: أنه لو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 اتصف بهذه الصفات فإما أن يكون كل جزء من اجزائه متصفاً بجميع الصفات وإما ان يكون المتصف بجملتها بعض الأجزاء وإما أن يكون كل جزء مختصاً بصفة، وإما أن تقوم كل صفة من هذه الصفات مع اتحادها بجملة الأجزاء فإن كان الأول يلزم منه تعدد الآلهة وأما الثاني فهو ممتنع لأنه لا أولوية لبعض تلك الأجزاء بان يكون هو المتصف دون الباقي ولأنه يلزم ان يكون الإله هو ذلك الجزء دون غيره لأن حكم العلة لا يتعدى محلها وإن كان الثالث فل أولولية أيضاً وإن كان الرابع فهو محال لما فيه من قيام المتحد بالمعتدد. ولقائل أن يقول الاعتراض على هذا من وجوه. الرد عليه من وجه الأول قولك: لو اتصف بكل واحدة من هذه الصفات فإما ان يكون كل جزء من أجزائه متصفاً بجميع هذه الصفات. إلى آخره فرع على ثبوت الأجزاء وذلك ممنوع فلم قلت إن كل كا هو جسم فهو مركب من الأجزاء؟ فإن هذا مبني على ان الاجسام مركبة من الجواهر المنفردة وهذا ممنوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 وجمهور العقلاء على خلافة، وهو لم يثبته هنا بالدليل، فيكفي مجرد المنع وبسط ذلك في موضعه. وكل من أمعن في معرفة هذا المقام علم أن ما ذكروه من أن الجسم مركب من جواهر منفردة متشابهة عرض لها التركيب، او من مادة وصورة، وهما جوهران، من أفسد الكلام. وإذا كان كذلك أمكن أن يكون كل من الصفات القائمة بجميع المحل شائعة في جميع الموصوف، ولا يلزم أن يكون الواحد قام بأجزاء بل القول في الصفة الحالة كالقول في المحل الذي هو الموصوف. الثاني أن يقال: القول في وحدة الصفة وتعددها وانقسامها وعدم انقسامها كالقول في الموصوف وسواء في ذلك الصفات المشروطة بالحياة كالقدرة والحس ـ بل والحياة نفسها أو التي لا تشترط بالحياة كالطعم واللون والريح، فإن طعم التفاحة مثلا شائع فيها كلها، فإذا بعضت تبعض ولا يقال إنها قام طعم واحد بجملة التفاحة، بل إن قيل: إن التفاحة أجزاء كثيرة، قيل: أم بها طعوم كثيرة، وإن قيل: هي شيء واحد قيل: قام بها طعم واحد. فإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 قيل فهذا هو التقدير الأول، وهو اتصاف كل جزء من هذه الأجزاء بجميع هذه الصفات قيل: ليس كذلك. أما أولا: فلمنع التجزي. وأما ثانياً فلأنه لم يقل بكل جزء إلا جزء من الصفة القائمة بالجمع، لم تقم جميع الصفة بكل جزء وحينئذ فيطل التلازم المذكور وهو كون كل جزء إليها، فإن الإله سبحانه هو المتصف بأنه بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير، أما إذا قدر موصوف قام به جزء من هذه القدرة لا تنقسم هي ولا محلها لم يلزم أن يكون ذلك الجزء قادراً، فضلا عن أن يكون رباً إذ القادر لا يجب أن يكون من قام به جزء من القدرة ولا الحي من قام به جزء من الحياة ولا العالم من قام به جزء من العلم. فإن قيل: كيف يعقل انقسام القدرة والحياة والعلم؟ قيل: كما يعقل انقسام محل هذه الصفات فإن الإنسان تقوم حياته بجميع بدنه وكذلك الحس والقدرة ببدنه من صفاته فكما أن بدنه ينقسم فالقائم ببدنه ينقسم. فإن قيل إذا انقسم لم يبق قدرة ولا علماً ولا حياة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 قيل: وكذلك المحل لا يبقى يدا ولا عضوا لا قادراً ولا حيا ولا عالما ولا حساسا، فإن الجزء المنفرد بتقدير وجوده هو أحقر من أن يقال إنه يد أو عضو أو بدن حي عالم قادر فكيف يقال فيه إنه إله. الثالث أن ما ذكروه معارض بقيام هذه الصفات في الإنسان، فإن الإنسان تقوم به الحياة والقدرة والحس، ولم نذكر العلم ولا نحتاج أن نقول كما قالت المعتزلة: إن الاعراض المشروطة بالحياة إذا قامت بجزء في الجملة عاد حكمها إلى جميع الجملة، بل نذكر من الاعراض ما يعلم قيامه بالبدن الظاهر كالحياة والحس والحركة والقدرة فإن هذا التقسيم الذي ذكروه يرد عليه فإنه إن قيل: إن كل جزء من أجزائه متصف بهذه الصفات لزم تعدد الإنسان وإن كان المتصف بجملتها بعض الأجزاء فلا اولوية، وبزم أن لا يتعدى حكم الصفة محلها. والتقدير أن ظاهر البدن كله حي حساس، وإن قيل كل واحد يختص بصفة فهو معلوم الفساد بالضرورة مع أنه لا أولوية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 وإن قيل: تقوم الصفة الواحدة بالجملة لزم قيام الواحد بالمتعدد. فإذا كان هذا التقسيم وارداً على ما يعلم قيام الصفات به لم ينف قيامها به علم أنها حجة باطلة. الرابع قوله والرابع محال لأنه يلزم منه قيام المتحد بالمتعدد. فيقال: لا نسلم التلازم فإن هذا القيام مبناه على أنه حينئذ يقوم الواحد بالمعتدد، فإنه فرض قيام علم واحد وقدرة واحدة وحياة واحدة بجملة أجزاء. وهذا الأصل فاسد فإن المعلوم من وحدة الصفة الحالية وتعددها هو المعلوم من وحدة المحل وتعدده فالحياة القائمة بجسم حي إذا قيل: هي حياة واحدة، قيل هو حي واحد وإذا قيل الحي أجزاء متعددة قيل: الحياة أجزاء متعددة، فالحال ومحله سواء في الاتحاد والتعدد. وحينئذ فقولهم: أنه قام المتحد بالمتعدد كلام باطل بل ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 فسروا به الاتحاد في احدهما كان موجوداً في الآخر، وما فسروا به تعدد أحدهما كان موجواً في الآخر. الخامس أنا لا نسلم الحصر فيما ذكروه من الأقسام بتقدير انقسام الجسم بل من الممكن أن يقال: قام كل جزء من أجزاء هذه الصفات بجزء من أجزاء الموصوف وكل جزء منه متصف بجزء من الصفة. وهذا التقسيم غير ما ذكره من الأقسام، ليس فيه اتصاف كل جزء بجميع الصفة، ولا المتصف بجميعها بعض الجملة، ولا كل جزء مختصاً بجميع صفته، ولا قيام واحد بمتعدد. فإن قال: الصفة لا تنقسم ومحلها ينقسم. قيل: هذه مكابرة للحس والعقل، بل انقسامها محلها يبين هذا أن من أعظم عمد مثبتي الجوهر الفرد قولهم: إن الحركة قائمة بالجسم، والزمان مقدار الحركة، والزمان فيه الآن الذي لا ينقسم، فلا ينقسم قدره من الحركة، فلا ينقسم الجزء الذي يحلها، فإنما استدلوا على وجود الجزء الذي لا ينقسم إلا بوجود جزء من الحركة لا ينقسم، فعلم أن انقسام الحال عندهم كانقسام محله مع أن هذا معلوم بالحس والعقل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 وكذلك المتفلسفة القائلون بان النفس الناطقة ليست جسما: عمدتهم انه يقوم بها مالا ينقسم، ومالا ينقسم إلا بما لا ينقسم، فقد اتفقت الطوائف على أن الصفة إذا لم تنقسم كان محلها لا ينقسم. السادس أن قوله: إما أن يكون كل جزء من الأجزاء متصفاً بهذه الصفات. يقال له: إن أردت أنه يتصف به كما تتصف به الجملة فهذا لا يقوله عاقل، فإنه ليس في الأجسام ما يكون صفة جميعه صفة للجوهر الفرد منه، على الوجه الذي هي به صفة لجمعية وإن أردت انه متصف به كما يليق بذلك الجزء فلم قلت إن ما اتصف به بالصفة على هذا الوجه يمكن انفراده عن غيره فضلا عن كونه إلها؟ وهذا لأنه ليس في جميع ما يعلم من الموصوفين المنفردين بأنفسهم ما هو جوهر فرد، ولا في شيء مما يشاهد من الموصوفين ما هو جوهر فرد، بل والجوهر الفرد بتقدير وجوده لا يحس به ولا يوجد منفرداً فما كان لا يوجد وحده حتى ينضم إليه أمثاله كيف يكون حياً فضلاً عن أن يكون فرساً أو بعيراً؟ فضلا عن أن يكون أنساناً أو ملكاً أو جنبا فضلا عن أن يكون إلهاً؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 وهل ذكر مثل هذا في حق الله إلا من أعظم الدليل على جهل قائله؟ فإنهم لا يعلمون شيئاً من الجواهر المنفردة يسمى باسم جملته لقيام الصفة بالجملة فكيف يجب في حق الله إذا قامت به الصفات الكمال أن يكون بتقدير ما ذكروه يجب فيه مثل ذلك؟ السابع أن يقال: كما أنه لا يجب في كل جزء من الإنسان ان يكون انساناً لأنه قام به من الصفات ما يقوم بالإنسان ولا في كل جزء من اجزاء الفرس وسائر الحيوان ان يكون فرساً، لكونه من الجملة التي قامت بها الصفة، فلماذا يجب في كل ما كان من الإله ان يكون إلها لقيام الإله بالإله الموصوف كله، مع أن كل واحد من الموجودات لا يكون حكم جزئه حكم كله، لقيام الصفة بالجميع، وهل هذا إلا من أفسد الحجج وإن كان هو من اعظم عمد النفاة؟ تابع كلام الآمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى قال: في بيان المحال من اتصافه بهذه الصفات هو أنه لا يخلو إما أن يكون اتصافه بها واجباً لذاته او الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 لغيره، لا جائز ان يقال بالأول، وإلا لزم اتصاف كل جسم بها وجوباً لذاته ن للتساوي ف يالحقيقة على ما وقع به الفرض، وإن كان الثاني فيلزم أن يكون الرب مفتقراً إلى ما يخصصه بصفاته، والمحتاج إلى غيره في إفادة صفاته لاه لا يكون إلها. تعليق ابن تيمية قلت: ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون اتصافه بها واجباً لذاته؟ قوله: يلزم اتصاف كل جسم بها للتساوي في الحقيقة على ما وقع به الفرض. قيل: الذي وقع به الفرض أنه جسم كالأجسام، وذلك يقتضي الاشتراك في مسمى الجسمية، فلم قلت: إن ذلك يستلزم التساوي في الحقيقة فإن هذا مبني على تماثل الأجسام وهو ممنوع وهو باطل. وإن قيل: إنه يقتضي مماثلة كل جسم في حقيقية بحيث يجوز عليه ما يجوز على كل جسم ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له فهذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقول ولا يعرف هذا قولاً لطائفة معروفة وفساده ظاهر لا يحتاج إلى إطناب، ولكن لا يلزم من فساده أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 لا يكون النزاع إلا لفظاً فإن المنازع يقول: ليس هو مثل كل جسم من الأجسام فيما يجب ويجوز ويمتنع ولكن شاركها غيره في مسمي الجسمية كما إذا قيل: هو حي وغيره حي، شاركه في مسمى الحي وكذلك شارك غيره في مسمى العالم والقادر والموجود والموجود والذات والحقيقة فما كان من لوازم القدر المشترك ثبت لهما، وما أخص بأحدهما لم يثبت للآخر. ومعلوم ان مسمى الجسمية إن قيل إنه يستلزم أن يجوز على كل جسم ما جاز على الآخر. فلا يقول عاقل: إن الله جسم بهذا التفسير. ومن قال: إنه جسم، لم يقل: إن القدر المشترك إلا كالقدر المشترك في الذات والقائم بالنفس ومسمى التحيز، ويقول مع ذلك: إن هذا المسمى وقع على أمور مختلفة الحقائق، كالموصوف والقائم بالنفس ونحو ذلك. وبالجملة إن ثبت تماثل الأجسام في كل ما يجب ويجوز ويمتنع أغناه عن هذا الكلام، وإن لم يثبت لم ينفعه هذا الكلام، فهذا الكلام لا يحتاج إليه على التقديرين، فالمنازع يقول: مسمى الجسم كمسمى الموصوف والقائم بنفسه والذات والماهية، والموجود ينقسم إلى واجب بنفسه وواجب بغيره، وإذا كان أحد النوعين واجباً بنفسه، لم يجب أن يكون كل موصوف قائماً بنفسه، ولا كل موجود، وكذلك لا يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 كل جسم. فتبين أن كل ما ذكره مغلطة لأنه قال: إما أن يقال: إنه جسم كالأجسام، وإما أن يقال: جسم لا كالأجسام، فإن قيل بالثاني كان النزاع في اللفظ لا في المعنى، فدل ذلك على أن قوله في المعنى موافق لقول من يقول: جسم لا كالأجسام، ثم جعل القسم الأول هو القول بتماثل الأجسام، فكان حقيقة قوله: إنه إما أن يقال إنه مماثل للأجسام في حقيقتها بحيث يتصف بما تتصف به من الوجوب والجواز والامتناع، وإما أن لا يقال بذلك، فمن لم يقل بذلك لم ينازعه في المعنى، ومن قال بالأول فقلوه باطل. ومعلوم أن أحداً من الطوائف المعروفة وأهل الأقوال المنقولة لم يقل: إنه جسم مماثل للأجسام كما ذكر. ومعلوم أيضاً أن فساد هذا أبين من أن يحتاج إلى ما ذكره من الأدلة، فإن فساد هذا معلوم بالأدلة اليقينية لما في ذلك من الجمع بين النقيضين، إذ كان كل منهما يلزم أن يكون واجباً بنفسه لا واجباً بنفسه، محدثاً لا محدثا، ممكنا لا ممكنا، قديماً لا قديما إذ المتماثلان يجب اشتراكهما في هذه الصفات. وإذا كان القول الذي نفاه لم يقله أحد، ولم ينازعه فيه أحد والقول الذي ادعى أنه موافق لقائله في المعنى لا يخالف فيه قائلة، بقي مورد النزاع لم يذكره ولم يقم دليلا على نفيه وهو قول من يقول: هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 جسم كالأجسام، بمعنى أنه مشارك لغيره في مسمى الجسمية، كما يشاركه في مسمى الموصوفية والقيام بالنفس، وأنه لم يثبت له لوازم القدر المشترك، ولا يثبت له شيء من خصائص المخلوقين، ولا يكون مماثلاً لشيء من الأجسام فيما يجب ويجوز ويمتنع عليه، لأن الأجسام المخلوقة لها خصائص تختص باعتبارها ثبت لها ما يجب ويجوز ويمتنع عليه. والقدر المشترك عند هؤلاء لا يستلزم شيئاً من خصائص المخلوقين، وهذا القدر لم يتعرض له هنا بنفي ولا إثبات لكنه يقول: إن القدر المشترك يستلزم التماثل في الحقيقة، وإن ما لزم كلا من الأجسام لزم الآخر وإنما يفترقان فيما يعرض لهما بمشيئة الخالق. لكن هذا القول لم يقرر هنا، فبقي كلامه بلا حجة، مع أن هذا القول فاسد في نفسه كما قد عرف. وهو لما قرره في موضع آخر بناه على أصلين: على إثبات الجوهر الفرد وتماثل الجواهر. وكلاهما منوع باطل، قد قرر هو انه لا حجة عليه، مع أن القول بانه جسم كالأجسام ما علمت أنه قاله أحد، ولا نقله أحد عن أحد وهو مع هذا لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 يذكر دليلاً على نفيه، فكيف قد أقام دليلاً على نفي قول من يقول: هو جسم لا كالأجسام؟ تابع كلام الآمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى الحجة الثالثة: قال: هو أنه لو كان جسما لكان له بعد وامتداد، وذلك إما أن يكون غير متناه أو متناهيا، فإن كان غير متناه: فإما أن يكون غير متناه من جميع الجهات، أو من بعض الجهات دون بعض، فإن كان الأول فهو محال لوجهين: الأول: ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى، والثاني: يلزم منه أن لا يوجد جسم غيره، أو أن تتداخل الأجسام وهو يخالط القاذورات وهو محال، وإن كان الثاني فهو ممتنع أيضا لوجهين: الأول ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى، والثاني: أنه إما أن يكون اختصاص أحد الطرفين بالنهاية دون الآخر لذاته أو لمخصص من خارج، فإن كان الأول فهو محال لعدم الأولوية، وإن كان الثاني فيلزم أن يكون الرب مفتقرا في إفادة مقداره إلى موجب ومخصص، ولا معنى للبعد غير نفس الأجزاء على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 ما تقدم، فيكون الرب معلول الوجود، وهو محال. وإن كان متناهيا من جميع الجهات فله شكل ومقدار، وهو إما أن يكون مختصا بذلك الشكل والقدر لذاته، أو لأمر خارج، فإن كان الأول لزم منه اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة، وإن كان الثاني فالرب محتاج في وجوده إلى غيره وهو محال. تعليق ابن تيمية قلت: ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون مختصاً بالشكل والمقدار لذاته؟ قوله: إن ذلك يستلزم اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة، إنما يصح إذا سلم أن طبيعة الأجسام كلها متحدة، وهذا ممنوع بل باطل بل معلوم الفساد بالضرورة والحس، فإن طبيعة النار ليست طبيعة الماء ولا طبيعة الحيوان طبيعة النبات وهذا مبني على القول بأن الأجسام متماثلة في الحقيقة، وهذا لو صح لأغنى عن هذه الوجوه كلها، وهو في كتابه لما ذكر قول من يقول بتجانس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 الأجسام من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية قال: إنهم بنوا ذلك على أصلهم: أن الجسم هو الجوهر المؤلف أو الجوهر المؤتلفة وأن الجواهر متجانسة وأن التأليف من حيث هو تأليف غير مختلف فالأجسام الحاصلة منها غير مختلفة. ومعلوم أن هذين الأصلين اللذين بنوا عليهما تماثل الأجسام قد أبطلها هو وغيره، وهي مما يخالفهم فيها جمهور العقلاء، فأكثر العقلاء لا يقولون إن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة، لا جمهور أهل الملل ولا جمهور الفلاسفة، بل جمهور أهل الكلام من الهشامية والنجارية والضرارية والكلابية والكرامية لا يقولون بذلك، فكيف بمن عدا أهل الكلام من سائر أنواع أهل العلم؟ فإنهم من أعظم الناس إنكاراً لذلك. وكذلك القول بتماثل الجواهر قول لا دليل عله إذ المتنازعون في الجواهر المنفردة: منهم من يقول باختلافها ومنهم من يقول بتماثلها. وأيضاً فقول القائل إما أن تكون مختصاً بذلك المقدار لذاته أو لأمر خارج. يقال له أتريد بذاته مجرد الجسمية المشتركة أم ذاته الذي يختص بها ويمتاز بها عن غيره؟ أما الأول فلا يقول عاقل، فإن عاقلا لا يعلل الحكم المختص بالأمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 المشترك، فلا يقول عاقل، إن ما اختص به أحد الشيئين عن الآخر كان للقدر المشترك بينهما فإن القدر مستلزمة للمعلول، الملزوم أعم من العلة فإذا لم يكن المشترك ملزوماً للمختص كما أن، لا يكون علة أولى وأحرى فإن الملزوم حيث وجد وجد اللازم. ومعلوم انه ليس حيث المشترك يوجد المختص، إذ المشترك يوجد في هذا والمختص بالآخر منتف. وفي الجملة فهذا ما لا يتنازع فيه العقلاء، فلا يكون اختصاص أحد الجسمين عن الآخر بخصائصه لمجرد الجسمية المشتركة بل تلك الخصائص مما يمتنع ثبوتها لسائر الأجسام. وحينئذ فيقال: معلوم أن كل جسم مختص بخصائص وخصائصه لا تكون لأجل الجسمية المشتركة، وذلك يمنع تماثل الأجسام، لأنها لو كانت متماثلة للزم أن يكون اختصاص بعضها بخصائصه لمختص والمخصص إما الرب وإما غيره وتخصيص غيره ممتنع لأنه جسم من الأجسام فالكلام فيه كالكلام في غيره، ولأن التقدير أنها متماثلة، فليس هذا بالتخصيص أولى من هذا وتخصيصه أيضاً ممتنع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 لأنه يستلزم ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بغير مرجح وذلك ممتنع وإذا قيل المرجح هو القدرة والمشيئة. قيل نسبة القدرة والمشيئة إلى جميع المتماثلات سواء فيمتنع الترجيح بمجرد ذلك، فلا بد أن يكون المرجح ما لله تعالى في ذلك من الحكمة، والحكمة تستلزم علم الحكيم بأن أحد الأمرين أولى من الآخر، وأن يكون ذلك الراجح أحب إليه من الآخر. وحينئذ فذلك يستلزم تفاصيل المعلومات المرادات وذلك يمنع تساويها وهو المطلوب. وهذا الكلام يتعلق بمسألة حكمه الله في خلقه وأمره، وهو مبسوط في غير هذا الموضع. ونفاة ذلك غاية ما عندهم انهم يزعمون أن ذلك يقتضي افتقاره إلى الغير لأن من فعل شيئاً لمراد كان مفتقراً إلى ذلك المراد مستكملا به، والمستكمل بغيره ناق بنفسه. وهذه الحجة باطلة كبطلان حجتهم في نفي الصفات وذلك أن لفظ الغير مجمل فإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى شيء مباين منفصل عنه فهذا ممنوع فإن مفعولاته ومراداته هو الفاعل لها كلها، لا يحتاج في شيء منها إلى غيره وإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى ما هو مقدور له مفعول له، كان حقيقة ذلك انه مفتقر إلى نفسه أو لوازم نفسه. ومعلوم أنه سبحانه موجود بنفسه لا يفتقر إلى ما هو غير له مباين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 له، وأنه مستوجب لصفات الكمال التي هي من لوازم ذاته فإذا قال القائل إنه مفتقر إلى نفسه كان حقيقته أنه لا يكون موجوداً إلا بنفسه وهذا المعنى حق. وإذا قيل هو مفتقر إلى صفاته اللازمة أو جزئه أو لوازم ذاته او نحو ذلك كان حقيقة ذلك أنه لا يكون موجودا إلا بصفات الكمال، وأنه يمتنع وجوده دون صفات الكمال التي هي من لوازم ذاته وهذا حق ومعلوم: إن الأمور التي لا يمكن وجودها إلا حادثة متعاقبة ليس الكمال في أن يكون كل منها ازليا فإن ذلك ممتنع ولا في أن ذلك لا يكون، فإن ذلك نقص وعدم، بل في أن تكون كل منها أزليا فإن ذلك ممتنع، ولا في أن ذلك لا يكون، فإن ذلك نقص وعدم، بل في أن تكون بحسب إمكانها على ما تقتضيه الحكمة، فيكون وجود تلك المرادات للحكمة من أعظم نعوت الكمال التي يجب أن يوصف بها، ونفيها عنه يقتضي وصفه بالنقائص، وإن كل كمال يوصف به فليس مفتقراً فيه إلى غيره أصلا، بل هو من لوازم ذاته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، الذين يصفونه بالنقائص ويسلبونه الحكمة التي هي محض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 بل لا يقتضي إثباتها إلا استلزام ذاته لنعوت كماله وكمال نعوته لا افتقار إلى شيء مباين لنفسه المقدسة. وأيضاً فيقال القول في استلزام الذات لقدرها الذي لم يقدره المشركون كما قال تعالى {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} الزمر 67 كاستلزام الذات لسائر صفاتها من العلم والقدرة والحياة، فإنه لو كان مختص يحتاج إلى مخصص لزم الدور أو التسلسل الباطلان فلا بد من مختص بما يختص به يختص بذلك لنفسه وذاته لا لأمر مباين له. وهذا هو حقيقة الواجب لنفسه المستلزم لجميع نعوته من غير افتقار إلى غير نفسه، مع أنما ذكره في وجوب تناهي الأبعاد قد أبطل فيه مسالك الناس كلها، وأنشأ مسلكا ذكر أنه لم يسبقه إليه أحد وإذا حرر الأمر عليه وعليهم في تلك المسالك كان القدح فيها أقوى من مسالكهم في النفي، فلو قدر ان أثنين أثبت احدهما موجوداً قائماً بنفسه لا يتناهى وأثبت الآخر موجوداً لا يكون متناهيا ولا غير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 متناه كان قول الثاني أفسد والأول أقرب إلى الصواب وما من مقدمة يدعون بها إفساد قول الأول إلا وفي أقوالهم ما هو أفسد منها. والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل، وتارة بين القولين الباطلين لتبين بطلانهما، أو بطلان أحدهما او كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر فإن هذا ينتفع به كثيراً في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم، ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحاً وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسداً لتنقطع بذلك حجة الباطل فإن هذا أمر مهم، إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت ولكن صالوا عليها أصول المحاربين لله ولرسوله فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله. وقد حكى الأشعري وغيره عن طوائف أنهم يقولون إنه لا يتناهى وهؤلاء نوعان: نوع يقول: هو جسم ونوع يقول ليس بجسم فإذا أراد النفاة أن يبطلون قول هؤلاء لم يمكنهم ذلك فإنهم إذا قالوا: يلزم أن يخالط اقاذورات والأجسام قالوا: كما أثبتم موجوداً لا يشار إليه ولا هو داخل ولا خارج، فنحن نثبت موجوداً هو داخل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 ولا يخالط غيره فإذا قالوا هذا لا يعقل قالوا وذلك لا يعقل. ومذهب النفاة أبعد في العقل من مذهب الحلولية، ولهذا إذا ذكر القولان لأهل الفطر السليمة نفروا عن قول النفاة أعظم من نفورهم عن قول الحلولية وكذلك ما ذكره من امتناع النهاية من بعض الجوانب دون بعض فإن هذا قاله طائفة ممن يقول إنه على العرش. وقول هؤلاء وإن قيل إنه باطل فقول النفاة أبطل منه إما احتجاجه على هؤلاء بأن اختصاص أحد الطرفين بالنهاية دون الآخر محال لعدم الأولوية، أو لافتقاره إلى مخصص من خارج فيقولون له أنت دائما تثبت تخصيصاً من هذا الجنس كما تقول إن الإرادة تخصص أحد المثلين لا لموجب فإذا قيل لك: هذا يستلزم ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح قلت هذا شان الإرادة والإرادة صفة من صفاته فإذا كانت ذاته مستلزمة لما من شأنه ترجيح أحد المثلين لذاته بلا مرجح فلأن تكون ذاته تقتضي ترجيح أحد المثلين بلا مرجح أولى. وهذا للمعتزلة والفلاسفة ألزم، فإن المعتزلة يقولون إن القادر المختار يرجح بلا مرجح والفلاسفة يقولون: مجرد الذات اقتضت ترجيح الممكنات بلا مرجح آخر فقد اتفقوا كلهم على أن الذات توجب الترجيح لأحد المتماثلين بلا مرجح فكيف يمكنهم مع هذا ان يمنعوا كونها تستلزم تخصيص أحد الجانبين بلا مخصص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 ولو قال لهم منازعهم الموجودان القائمان بأنفسهما لا بد أن يكون بينهما حد وانفصال فعلمنا التناهي من جانب هذا الموجود واما الجانب الآخر فلا نعلم امتناعه إلا إذا علمنا امتناع وجود أبعاد لا تتناهى، وهذا غير معلوم لنا، أو هو باطل لكان قوله أقوى من قولهم. والمقصود هنا أن غايتهم في إبطال قول هؤلاء أن ينتهوا إلى أبطال بعد لا يتناهى أو إلى عدم الأولوية أو وجوب المخالطة. وهذه المقدمات يمكن منازعوهم أن ينازعوهم فيها أعظم مما يمكنهم هم منازعة أولئك في مقدمات حجتهم ويرد عليهم من المناقضات والمعارضات أعظم مما يرد على أولئك، وهذا مبسوط في موضعه. فهذه الحجة وأمثالها من حجج النفاة يمكن إبطالها من وجوه كثيرة بعضها جهة المعارضة بأقوال أهل باطل آخر وبيان انه ليس أولئك بأبطل من قول هؤلاء، فإذا لم يمكن الاستدلال على نفي أحد القولين إلا بالمقدمة التي بها نفي القول الآخر، لم يكن نفي أحدهما أولى من نفي الآخر، بل إن كانت المقدمة صحيحة لزم نفيهما جميعاً، وغن كانت باطلة لم تدل على نفي واحد منهما فكيف إذا كانت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 المقدمة التي استدل بها المستدل على نفي قول منازعه قد قال بها وبما هو أبلغ منها؟ وبعض ما تبطل به هذه الحجة يكون من جهة أهل الحق الذين لم يقولوا باطلا. بطلان حجته من وجوه ونحن نذكر ما يحضر من إبطالها بالكلام على مقدماتها والمواضع التي ينازعه فيها الناس الوجه الأول قوله لو كان جسما لكان له بعد وامتداد فإن هذا مما نازعه فيه طائفة ممن يقول هو جسم وهو مع ذلك واحد لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه فلا يشار إلى شيء منه دون شيء، فإن هذا معروف عن طائفة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم والرازي قد ذكر ذلك عن بعضهم لكنه ادعى أن هذا القول لا يعقل وأن فساده معلوم بالضرورة. وكذلك قول من قال إنه فوق العرش وإنه مع ذلك ليس بجسم كما يذكر ذلك عن الأشعري، وكثير من أهل الكلام والحديث والفقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو قول القاضي أبي يعلي وأبي الحسن الزاغوني وقول أبي الوفاء بن عقيل في كثير من كلامه وهو قول أبي العباس القلانسي، وقبله أبو محمد بن كلاب وطوائف غير هؤلاء. فإذا قال القائل: كونه جسماً مع كون غير منقسم أو كونه فوق العرش مع كونه غير جسم مما يعلم فساده بضرورة العقل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 فيقال: ليس العلم بفساد هذا بأظهر من العلم بفساد قول من قال إنه موجود قائم بنفسه فاعل لجميع العالم وأنه مع ذلك لا داخل في العالم ولا خارج عنه ولا حال فيه ولا مباين له لا سيما إذا قيل مع ذلك إنه حي عالم قادر وقيل مع ذلك ليس له حياة ولا علم ولا قدرة، أو قيل: هو عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق وأن العلم والحب نفس العالم المحب ونفس الحب هو نفس العلم أو قيل مع ذلك إنه حي بحياة عليم بعلم قدير بقدرة سميع يسمع بصير يبصر متكلم بكلام وقيل مع ذلك إنه لا داخل في مخلوقاته ولا خارج عنها ولا حال فيها ولا مباين لها وأن إرادته لهذا المراد ونفس رؤيته لهذا هو نفس رؤيته لهذا ونفس علمه بهذا هو نفس علمه بهذا وأن الكلام معنى واحد بالعين فمعنى آية الكرسي وآية الدين وسائر القرآن والتوراة والإنجيل وسائر ما تكلم به هو شيء واحد فإن كانت هذه الأقوال مما يمكن صحتها في العقل فصحة قول من قال هو فوق العرش وليس بجسم او هو جسم وليس بمنقسم أقرب إلى العقل. وإن قيل بل هذا القول باطل في العقل فيقال تلك أبطل في العقل ومتى بطلت تلك صح هذا. وإذا قيل النافي لإمكان تلك الأمور هو الوهم لا العقل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 وإلا فالعقل بجوز وجود ما ذكر قيل: والنافي لإمكان هذا هو الوهم وإلا فالعقل يجوز وجود ما ذكر وإذا قيل البرهان العقلي دل على وجود ما أنكره الوهم قيل والبرهان العقلي دل على وجود ما أنكره الوهم هنا. ومن تأمل هذا وجده من اصح المعارضة وأبين التناقض في كلام هؤلاء النفاة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. الوجه الثاني قوله وإذا كان له بعد وامتداد فإما أن يكون غير متناه وإما أن يكون متناهياً. فيقال من الناس من يقول إنه غير متناه وهؤلاء منهم من يقول جسم ومنهم من يقول غير جسم وقد حكى القولين أبو الحسن الأشعري في المقالات وحكاهما غيره أيضاً ومن الناس من قال هو متناه من بعض الجهات وهذا مذكور عن طائفة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم وقد قاله بعض المنتسبين إلى الطوائف الأربعة من الفقهاء كما ذكره القاضي أبو يعلى في عيون المسائل فإن هذه الأقوال يوجد عامتها في بعض أتباع الأئمة منها ما يوجد في في بعض أصحاب أبي حنيفة ومنها ما يوجد في بعض أصحاب مالك، ومنها ما يوجد في بعض أصحاب الشافعي ومنها مايو جد في بعض أصحاب أحمد، ومنها ما يوجد في بعض أصحاب اثنين أو ثلاثة أو الأربعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 قوله إن كان غير متناه من جميع الجهات فهو محال لوجوه الأول ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى. فيقال له أنت قد أبطلت أدلة نفاة ذلك ولم تذكر إلا دليلاً هو أضعف من أدلة غيرك فبقيت الدعوى بلا دليل. قوله الثاني انه يلزم منه نفي الأجسام أو تداخلها، ومداخلة القاذورات. فيقال هؤلاء يقولون لا يلزم منه شيء من ذلك بل هو غير متناه مع كونه جسماً أو مع كونه غير جسم ويقولون لا يلزم نفي سائر الأجسام ولا مداخلتها. فإذا قيل لهم هذا ينفيه العقل قالوا نفي العقل لهذا كنفيه وجوده قائماً بنفسه فاعلاً للعالم وهو مع ذلك لا حال في العالم ولا بائن من العالم بل نفي العقل لهذا أعظم من نفيه لهذا وما قيل من الاعتذار عن ذلك بالفرق بين الوهم والعقل يمكن في هذا بطريق الأولى كما بسط في موضعه. فإن هؤلاء ادعوا أن قول القائل كل موجودين غما أن يكونا متحايثين أو متباينين أو كل موجودين قائمين بأنفسهما فإما أن يكونا متبايني، أو متلاصقين ن أو كل موجود قائم بنفسه فلا بد أن يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 مشاراً إليه. وان قول القائل بإثبات موجود لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا حال فيه ولا مباين له ولا يشار إليه ولا يقرب من شيء ولا يبعد من شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء وأمثال ذلك من الصفات السالبة النافية. هو محال في العقل. قالوا إن هذا الموجب لذلك التقسيم، والمحيل لوجود هذا، إنما هو الوهم دون العقل، وأن الوهم يحكم غير المحسوس بحكم المحسوس، وهذا باطل. فقيل لهم فأنتم لم تثبتوا بعد وجود مالا يمكن الإحساس به وحكم الفطرة أولى بديهي، والوهم عندكم إنما يدرك الأشياء المعينة كإدراك العداوة والصداقة، كإدراك الشاة عدواة الذئب وصداقة اكبش. وهذه أحكام كلية والكليات من حكم العقل لا من حكم الوهم. فهذا وأمثاله مما أبطل به ما ذكروه من الاعتذار بأن هذا حكم الوهم لكن المقصود هنا أن ذلك العذر إن كان صحيحاً فلمنازعيهم أن يعتذروا به ههنا فيقولون ما ذكرتموه من كونه لو كان فوق العرش، أو لو كان جسماً لكان ممتداً متناهياً أو غير متناه هو من حكم الوهم وهو فرع كونه قابلاً لثبوت الامتداد ونفيه، أو لثبوت النهاية ونفيها، ونحن نقول هو فوق العرش أو هو فوق العرش وهو مع ذلك لا يقبل أن يكون ممتداً ولا غير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 ممتد ولا أن يكون متناهياً ولا غير متناه كما قلتم أنتم إنه موجود قائم بنفسه مبدع للعالم مسمى بالأسماء الحسنى وأنه مع ذلك لا يقبل أن يقال هو متناه ولا غير متناه بل ذاته لا تقبل إثبات ذلك ولا نفيه ولا تقبل أن يقال هو حال في العالم ولا خارج عنه فلا توصف ذاته بالدخول ولا بالخروج فإن ذاته لا تقبل الاتصاف لا بإثبات ذلك ولا بنفيه فهذا ونحوه قولكم فغن كان هذا القول صحيحاً أمكن من أثبت العلو دون التجسيم أو العلو والتجسيم ونفي ما يذكر من لوازمه أن يقول فيه ما تقولونه أنتم حيث أثبتم موجوداً قائماً بنفسه مبدعاً للعالم، ونفيتم ما يذكر من لوازمه، فإن لزوم تلك اللوازم لما أثبتوه أظهر في صريح العقل من لزوم هذه اللوازم لما أثبته هؤلاء، فإن أمكنكم نفي اللزوم، وادعيتم أن القول باللزوم وإحالة ما أثبتموه من حكم الوهم دون العقل أمكن خصومكم أن يقولوا مثل ذلك ما قلتموه بطريق الأولي. وهذا يفهمه من تصور حقيقة قول الطائفتين وأدلتهم العقلية، فإنه إذا قابل بين قول هؤلاء وقول هؤلاء تبين له صحة الموازنة وان الإثبات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 أقرب إلى صريح المعقول وأبعد عن التناقض، كما أنه أقرب إلى صحيح المنقول. الوجه الثالث وكذلك يقال في الوجه الثالث فإن لإثبات النهاية من أحد الطرفين دون الآخر أبعد عن الإحالة من إثبات موجود قائم لا يمكن أن يقال فيه هو متناه ولا أن يقال غير متناه. وكذلك إثبات موجود لا نهاية له من الطرفين أقرب إلى المعقول من كونه لا يقبل إثبات النهاية ولا نفيها. قوله فيلزم أن يكون الرب مفتقراً في إفادة مقداره إلى موجب ومخصص ولا معنى للبعد غير نفس الأجزاء فيكون الرب معلولا لغيره. يقال ما من أحد من النفاة إلا وقد قال نظير هذا فالكلابية والأشعرية يقولون الذات اقتضت صفات معدودة دون غيرها من الصفات فإنهم وغن تنازعوا في كون صفاته كلها معلومة للبشر فإنهم لم يتنازعوا في إثبات صفات لا تناهي بل لا بد إن تكون صفاته متناهية فجعلوا الذات مقتضية لعدد معين دون غيره من الأعداد، ولصفات معينة دون غيرها من الصفات بل واقتضت الأمر بشيء دون غيره من المأمورات، وبإرادة شيء دون غيره من المرادات مع أن نسبتها إلى جميع المرادات والمأمورات نسبة واحدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 وأصلهم أنه يجوز تخصيص أحد المثلين دون الآخر بغير مخصص بل بمحض الإرادة ن وأن الذات اقتضت تلك الإرادة على ذلك الوجه دون غيرها، لا لأمر آخر. فإذا قيل الذات اقتضت تناهياً من جانب دون جانب أو قدراً مخصوصاً، لم يكن هذا في صريح العقل بأبعد من الامتناع من ذلك، لا سيما وهو مع ذلك يقولون لم يكن هذا في صريح العقل بأبعد من الامتناع من ذلك لا سيما وهو مع ذلك يقولون إن هذه الإرادة اقتضت أن تكون الحوادث متناهية من أحد الطرفين دون الآخر فالحوادث عندهم لا تناهي من جانب المستقبل مع تناهيها من جانب الماضي ومع إمكان تقدم الحوادث على مبدأ حدوثها وتأخرها عن ذلك المبدأ، ولكن الإرادة هي المخصصة لأحد المثلين والذات هي المخصصة لتلك الإرادة المعينة دون غيرها من الإرادات وهي المخصصة للكلام المعين الذي هو أمر بشيء معين دون غيره من الكلام والأوامر. والمعتزلة يقولون إن تلك الذات هي المخصصة لأحد المقدورين دون أمثاله من المقدورات، وكذلك هي المخصصة لكونها آمرة ومتكلمة وفاعلة بالأمر المعين والكلام المعين والفعل المعين، دون غيره من الأوامر والكلام والفعل، وهي المخصصة للإرادة أو لكونه مريداً دون غير تلك الإرادة أو غير تلك المريدية. والفلاسفة يقولون إن الذات أو الوجود الذي لا اختصاص له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 بحقيقة من الحقائق ولا صفة من الصفات هو المخصص للعالم كله بما هو عليه من الحقائق والصفات والمقادير وأنه علة تامة موجبة للمعلول مع أن الحوادث من المعلولات ليست أعيانها أزلية ولم يكن فيه ما يوجب تأخر شيء من المعلولات، ولا قام به صفة ولا معنى ولا فعل يوجب التخصيص، لا بحقيقة دون حقيقة ولا بصفة دون صفة ولا لحادث دون حادث ولا لتأخير ما يتأخر. والعالم يشهد فيه من الحقائق والحوادث الحادثة ما يعلم معه بالضرورة أنه لا بد له من مخصص، وهم لا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً، ليس فيه اختصاص وجودي بوجه من الوجوه، فضلاً عن إن يكون مقتضباً لتخصيص حقيقة دون حقيقة ن وصفة دون صفة والحدوث من غير سبب يقتضي الحدوث، وهذه الأمور لبسطها موضع آخر. والمقصود أن هؤلاء القائلين بعدم التناهي، أو بالتناهي من جانب دون جانب مع كون قولهم فاسداً فنفاة كون الرب على العرش الذين يحتجون على نفي ذلك بنفي الجسم وعلى نفي الجسم بهذه الحجج يلزمهم من التناقض أعظم مما يلزم المثبتين والمقدمات التي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 يحتجون بها هي أنفسها وما هو أقوى منها من جنسها تدل على فساد أقوالهم بطريق الأولى، فإن كانت صحيحة دلت على فساد قولهم ومتى فسد قولهم صح قول المثبتة لامتناع رفع النقيضين، وإن كانت باطلة لم تدل على فساد قول المثبتة فدل ذلك على أن هذه المقدمات مستلزمة فساد قول النفاة دون قول أهل الإثبات. وهذه الطريق هي ثابتة في الأدلة الشرعية والعقلية فإنا قد بينا في الرد على أصول الجهمية النفاة للصفات في الكلام على تأسيس التقديس وغيره أن عامة ما يحتج به النفاة لرؤية والنفاة فرق العرش ونحوهم من الأدلة الشرعية الكتاب والسنة هي نقيض قولهم وهكذا أيضاً عامة ما يحتجون به من الأدلة العقلية إذا وصلت معهم فيها إلى آخر كلامهم وما يجيبون به معارضهم، وجدت كلامهم في ذلك يدل على نقيض قولهم وأن ما يذكرونه من المناظرات العقلية هو على قول أهل الإثبات أدل منه على قولهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 الوجه الرابع قوله إذا كان متناهياً من جميع الجهات فاختصاصه بالشكل والمقدار إن كان لذاته لزم منه اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة. فيقال له لا نسلم اشتراك جميع الأجسام في ذلك ولا نسلم أن االأجسام متحدة في الطبيعة وقد عرف أن النزاع في هذه المسألة من النظار من أشهر الأمور وهذا المصنف نفسه قد بين فساد حجج أصحابه المدعين تماثلها وتماثل الجواهر فإذا كان هو نفسه قد بين فساد حجج أصحابه المدعين تماثلها وتماثل الجواهر. فإذا كان هو نفسه قد بين فساد حجج القائلين بالاتحاد في الطبيعة كان قد أفسد حجته بما ذكره هو من الأدلة العقلية على فسادها فضلاً عما يذكره غيره من العقلاء وقد بسط هذا في موضعه وإنما المقصود هنا التنبيه على أن كل مقدمة في هذه الحجة يمكن منعها، ويكون قول المانع فيها أقوى من قول المحتج. تابع كلام الأمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى قال أنه لو كان جسماً لكان مركباً ممن الأجزاء، وهو محال لوجهين الأول أنه يكون مفتقراً إلى كل واحد من تلك الأجزاء ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه، وكل منها غير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 مفتقر إليه وما افتقر إلى غيره كان ممكناً لا واجباً لذاته وقد قيل إنه واجب لذاته. تعليق ابن تيمية قلت ولقائل أن يقول هذا باطل من وجوه بطلان هذا من وجوه الأول أن الذين قالوا إنه جسم لا يقول أكثرهم إنه مركب من الأجزاء بل ولا يقولون إن كل جسم مركب من الأجزاء فالدليل على امتناع ما هو مركب من الأجزاء فقط لا يكون حجة على من قال إنه ليس بمركب وإن كان بناءً على أن كل جسم مركب فهذا ممنوع. وإن قيل لا نعني بالأجزاء أجزاء كانت موجودة بدونه، وإنما نعني بها أنه لا بد أن يتميز منه شيء عن شيء. قيل فحينئذ لا يلزم أن يكون ذلك الذي يمكن أن يصير جزءاً غير مفتقر إليه إذ هو لا بد منه في وجود الجملة، وليس موجوداً دونها، فالجملة لا تستغني عنه وهو أيضاً لا يستغني عنها، فتكون الحجة باطلة. الثاني أن يقال ما تعني بقولك إنه يكون مفتقراً إلى كل واحد من تلك الأجزاء أتعني انه يكون مفعولاً للجزء أو معلولاً لعلة فاعلة أو تعني انه يكون وجوده مشروطاً بوجود الجزء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 بحيث لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر فإن ادعيت الأول كان التلازم باطلاً فإنه من المعلوم أن الأجسام التي خلقها الله تعالى ليس شيء من أجزائها فاعلاً لها ولا علة فاعلة لها فإذا لم يكن شيء من المركبات المخلوقة جزؤه فاعلاً له ولا علة فاعلة له، كان دعوى أن ذلك قضية كلية من أفسد الكلام، فإنه لا يعلم ثبوتها في شيء من الجزئيات المشهودة، فضلاً عن أن تكون كلية. وإن قيل نعني بالافتقار أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا. قيل ولم قلتم إن مثل هذا ممتنع على الواجب بنفسه فإن الممتنع عليه أن يكون فاعلاً أو علة فاعلة إذ قيل بإمكان علة فاعلة لا تفعل بالاختيار فأما كونه لا يكون وجوده مستلزماً للوازم لا يكون موجوداً إلا بها، فالواجب بنفسه لا ينافي ذلك، سواء سميت صفات أو أجزاء أو ما سميت. الثالث ويظهر هذا بالوجه الثالث وهو أن النافي لمثل هذا التلازم إن كان متفلسفاً فهو يقول إن ذاته مستلزمة للممكنات المنفصلة عنه فكيف يمتنع أن تكون مستلزمة لصفاته اللازمة له، أو لما هو داخل في مسمى اسمه وهو أيضاً يسلم أن ذاته تستلزم كونه واجباً وموجوداً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 وعاقلاً ومعقولا وعقلا، ولذيذاً وملتذاً به ن ومحباً لذاته ومحبوباً لها، وأمثال ذلك من المعاني المتعددة. فإذا قيل هذه كلها شيء واحد. قيل: هذا مع كونه معلوم الفساد بالضرورة لكونه تضمن أن العلم هو الحب وأن العالم المحب هو العلم والحب فإن قدر إمكانه فقول القائل إن الجسم ليس بمركب من الهيولي والصورة ولا من الجواهر المنفردة، بل هو واحد بسيط أقرب إلى العقل من دعوى اتحاد هذه الحقائق. وإن كان من المعتزلة وامثالهم فهم يسلمون ذاته تستلزم أنه حي عالم قادر وإن كان من الصفاتية فهم يسلمون استلزام ذاته للعلم والقدرة والحياة وغير ذلك من الصفات فما من طائفة من الطوائف إلا وهي تضطر إلى أن تجعل ذاته مستلزمة للوازم وحينئذ فنفي هذا التلازم لا سبيل لأحد إليه سواء سمي افتقاراً أو يسم وسواء قيل إن هذا يقتضي التركيب أو لم يقل. الرابع أن يقال قول القائل إن المركب مفتقر إلى كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 واحد من تلك الأجزاء أتعنى بالمركب تلك الأجزاء أو تعني به اجتماعها آو الأمرين أو شيئاً رابعاً فإن عنيت الأول كان المعنى أن تلك الأجزاء مفتقرة إلى تلك الأجزاء وكان حاصله أن الشيء المركب مفتقر إلى المركب وان الشيء مفتقر إلى نفسه، وان الواجب بنفسه مفتقر إلى الواجب بنفسه. ومعلوم أن الواجب بنفسه لا يكون مستغنياً عن نفسه بل وجوبه بنفسه يستلزم أن نفسه لا تستغني عن نفسه. فما ذكرتموه من الافتقار هو تحقيق لكونه واجباً بنفسه، لا مانع لكونه واجباً بنفسه. وإن قيل إن المركب هو الاجتماع الذي هو اجتماع الأجزاء وتكبها. قيل فهذا الاجتماع هو صفة وعرض للأجزاء لا يقول عاقل إنه واجب بنفسه دون الأجزاء بل إنما يقال هو لازم للأجزاء والواجب لنفسه هو الذات القائمة بنفسها وهي الأجزاء لا مجرد الصفة التي هي نسبة بين الأجزاء وإذا لم يكن هذا هو نفس الذات الواجبة بنفسها وإنما هو صفة لها فالقول فيه كالقول في غيره مما سميتموه أنتم أجزاء وغايته أن تكون بعض الأجزاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 مفتقرة إلى سائرها وليس هذا هو افتقار الواجب بنفسه إلى جزئه. وإن قيل إن المركب هو المجموع أي الأجزاء واجتماعها فهذا من جنس أن يقال المركب هو الأجزاء لكن على هذا التقدير صار الاجتماع جزءاً من الأجزاء. وحينئذ فإذا قيل هو مفتقر إلى الأجزاء كان حقيقته انه مفتقر إلى نفسه أي لا يستغني عن نفسه، وهذا حقيقة وجوبه بنفسه، لا مناف لوجوبه بنفسه. وإن عنيت به شيئاً رابع فلا يعقل هنا شيء رابع فلا بد من تصويره. ثم هذا الكلام عليه. وإن قال بل المجموع يقتضي افتقاره إلى كل جزء من الأجزاء. قيل افتقار المجموع إلى ذلك الجزء كافتقار إلى سائر الأجزاء وذلك الجزء وسائر الأجزاء هي المجموع فعاد الأمر إلى انه مفتقر إلى نفسه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 فإن قيل فأحد الجزأين مفتقر إلى الآخر أو قيل الجملة مفتقرة إلى كل جزأ إلى آخره. قيل أولاً ليس هذا هو حجتكم فإنما ادعيتم افتقار إلى الآخر أن أحدهما فاعل للآخر آو علة فاعلة له، فهذا باطل بالضرورة فإن المركبات الممكنة ليس أحد أجزائها علة فاعلة للآخر ولا فاعلاً له باختياره فلو قدر أن في المركبات ما يكون جزؤه فاعلاً لجزئه لم يكن كل مركب كذلك فلا تكون القضية كلية فلا يجب أن يكون مورد النزاع داخلاً فيما جزؤه مفتقر إلى جزئه فكيف إذا لم يكن في بعض أجزائه علة فاعلة للجزء الآخر؟ وإن عنيت أن أحد الجزأين لا يوجد إلا مع الجزء الآخر فهذا غنما فيه تلازمهما وكون أحدهما مشروطاً بالآخر وذلك دور معي اقتراني وهو ممكن صحيح لا بد منه في كل متلازمين وهذا لا ينافي كون المجموع واجباً بالمجموع. وإذا قيل في كل من الأجزاء هل هو واجب بنفسه أم لا؟ قيل إن أردت هل هو مفعول معلول لعلة فاعلة أم لا؟ فليس في الأجزاء ما هو كذلك بل كل منها واجب بنفسه بهذا الاعتبار وإن عنيت أنه هل فيها في الأجزاء ما هو كذلك بل كل منها واجب بنفسه بهذا الاعتبار وإن عنيت أنه هل فيها ما يوجد بدون وجود الآخر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 فليس فيها ما هو مستقل فيها ما هو مستقل دون الآخر ولا هو واجب بنفسه بهذا الاعتبار والدليل دل على إثبات واجب بنفسه غنى عن الفاعل والعلة الفاعلة لا على أنه لا يكون شيء غني عن الفاعل مستلزماً للوازم. فلفظ الواجب بنفسه فيه إجمال واشتباه دخل بسببه غلط كثير فما قام عليه البرهان من إثبات الواجب بنفسه ليس هو ما فرضه هؤلاء النفاة فإن الممكن هو الذي لا يوجد إلا بموجد يوجده والواجب هو الذي يكون بنفسه، لا بموجد يوجده فكونه بنفسه مستلزماً للوازم لا ينافي أن يكون ذاتاً متصفة بصفات الكمال وكل من الذات والصفات ملازم للأخر وكل من الصفات ملازمة للأخرى وكل ما يسمى جزءاً فهو ملازم للآخر. وإذا قيل هذا فيه تعدد الواجب. قيل إن أردتم تعدد الإله الموجود بنفسه الخالق للممكنات فليس كذلك وغن أردتم تعدد معان وصفات له أو تعدد ما سميتموه أجزاء له فلم قلتم إنه كان كل من هذه واجباً بنفسه ن أي هو موجود بنفسه أي هو موجود بنفسه لا بموجد يوجده مع أن وجوده ملزوم لوجود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 الآخر يكون ممتنعاً ولم قلتم إن ثبوت معنيين أو شيئين واجبين متلازمين يكون ممتنعاً؟ وهذا كما تقوله المعتزلة إنكم إذا أثبتم الصفات قلتم بتعدد القديم. فيقال لهم إن قلتم إن ذلك بتضمن تعدد آلهة قديمة خالقة للمخلوقات فهذا التلازم باطل. وإن قلتم يستلزم تعدد صفات قديمة للإلهة القديم. فلم قلتم إن هذا محال؟ فعامة ما يلبس به هؤلاء النفاة ألفاظ مجملة متشابهة إذا فسرت معانيها وفصل بين ما هو حق منها وبين ما هو باطل زالت الشبهة وتبين أن الحق الذي لا محيد عنه هو قول أهل الإثبات للمعاني والصفات. الخامس أن يقال قولك إن المركب مفتقر إلى كل واحد من تلك الأجزاء ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه ليس فيه ما يدل على افتقار المركب إلى أجزائه فإن كونه يستحيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 وجوده دون الأجزاء يقتضي أنه لا يوجد بدونها بل لا يوجد إلا وهي موجودة. وكون الشيء لا يوجد إلا مع الشيء لا يقتضي افتقاره إليه بل إنما يكون مفتقراً إليه إذا كان لا يوجد إلا به ألا ترى أن المتضايفين لا يوجد أحدهما دون الآخر ولا يقال إن أحدهما مفتقر إلى الآخر كالنبوة والأبوة بل كلاهما معلول علة منفصلة فمعلولاً العلة لا يوجد أحدهما دون الآخر وهما جميعاً مفتقران إلى العلة ليس أحدهما مفتقراً إلى الآخر فإذا قدر انه لا علة لهما لم يكن أحدهما مفتقراً إلى العلة ليس أحدهما مفتقراً إلى الآخر فإذا قدر أنه لا علة لهما لم يكن أحدهما مفتقراً إلى الآخر ولا إلى علة. السادس أن يقال قولك وكل منهما غير مفتقر إليه خطأ ظاهر. فإنه ليس من ضرورة كون المركب متوقفاً على كل من أجزائه أن لا يكون شيء من تلك الجزاء متوقفاً عليه وذلك أن المركب إن أريد به نفس الجزاء المجتمعة كان المعنى أن المجتمع متوقف على أو أن كل جزء متوقف على سائر الأجزاء أو على جزء آخر أو المجتمع على نفسه وأي شيء فرض من ذلك لم يلزم أن يكون أحد الجزأين هو المفتقر دون الآخر وإن قدر أن المركب هو الاجتماع أو الاجتماع مع الأجزاء فإنه إذا قدر أنها متلازمة لم يكن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 أحد الأجزاء واجباً بنفسه بمعنى إمكان وجوده دون سائر الأجزاء لا الاجتماع ولا غيره بل لا يوجد شيء منها إلا بالآخر فلا يكون شيء من الأجزاء غير مفتقر إلى المركب بل كل منها مفتقر إليه. وهذا لا يقاس بالواحد مع العشرة الذي يمكن وجوده دون وجود العشر فإن أجزاء العشرة ليست متلازمة وغنما الكلام في أمور متلازمة لا يمكن وجود بعضها دون بعض كالصفات اللازمة للرب تعالى. وما سماه النفاة أجزاء فإنه لا يمكن وجود صفة من تلك الصفات دون الذات بل ولا دون الصفة الأخرى وكذلك ما سموه جزءاً لا يمكن وجوده دون الجميع ولا دون جزءا آخر، فامتنع أن يقال إن كل جزء من الأجزاء غير مفتقر إلى المجموع المركب مع أن المجموع المركب مفتقر إليه بل إذا سمي هذا التلازم افتقاراً فافتقار الصفة وما سموه جزءاً إلى المجموع اعظم من افتقار الذات الواجبة بنفسها أو ما سموه المجموع المركب الواجب بنفسه إلى الصفة أو الجزء فإن المجموع هو الواجب بنفسه الذي لا يقبل العدم أصلاً وكل جزء من أجزائه فلا يتصور وجوده بدون وجود الآخر وهذا كما يقولون إن الحيوانية والناطقية جزء من الإنسانية ومع هذا يمتنع وجود الجزء دون هذه الماهية المركبة وكذلك يقولون إن الجسم مركب من المادة والصورة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 ويمتنع وجود أحدهما بدون الجسم بل والجوهر الفرد عند عامة القائلين به يمتنع وجوده بدون وجود الجسم. السابع أن يقال قولك إن المركب الواجب بنفسه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه وكل منها غير مفتقر إليه كلام باطل وهو بالعكس أولى. وذلك أن ما قدر انه جزء إذا كان مفتقر إليه لزم أن يكون واجباً بنفسه وإذا كان واجباً بنفسه فإما أن يكون مستقلاً لا يتوقف على وجود الجزء الآخر ولا الجملة أو لا بد له من ذلك فإن كان مستقلاً بنفسه لا يتوقف على جزء آخر ولا على المجموع لزم تعدد الأمور الواجبة بنفسها المستقلة التي يستغني بعضها عن بعض ولا يتوقف واحد منها على الآخر ولا على الجملة. ومعلوم أنه إذ كان هذا جائزاً لزم أن يكون هناك مجموع كل منه واجب بنفسه والمجموع واجب بتلك الواجبات فإذا قدر تعدد الواجب بنفسه كان هذا مبطلاً لأصل هذا الكلام فضلاً عن فروعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 ومع تقدير تعدده يمتنع عدم تعدده فيكون الدليل الذي استدل به على نفي التركيب مستلزماً لثبوت التركيب فيكون دليله يدل على نقيض مطلوبه وهذا أبلغ ما يكون في بطلان قوله. وإن قدر أن للمجموع غير تلك الأفراد فإن ما لزم الواجب كان واجباً ويبقى حينئذ الكلام في أن المجموع إن كان زائدا على العدد غنما وجوبه بالعدد نزاع لا فائدة فيه فإنه إذا قدر عشرة كل منهم واجب بنفسه لزم أن تكون العشرة واجبة قطعاً وإذا كان كل من العشرة لا يقبل العدم لنفسه فالعشرة لا تقبل العدم بطريق الأولى والأحرى. وانضمام الواجب بنفسه إلى الواجب بنفسه إذا قدر ذلك لا يوجب ضعفاً لأحدهما بل نفس ذلك الاجتماع هو من لوازم وجودهما بطريق الأولى والأحرى وإذا قدر أن اتصال بعضها ببعض من لوازم وجودها الواجب بنفسه لم يكن ممتنعاً فإن الواجب بنفسه على هذا التقدير لا يمتنع أن يكون له لوازم وملزومات واجبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 ومن العجب أن هؤلاء القوم كهذا وأمثاله من الخائضين في واجب الوجود على طريقة ابن سينا الذين جعلوا التركيب عمدتهم في نفي ما ينفونه يوردون في طريق إثبات واجب الوجود أسولة تفسد ما ذكروه في انتفاء التركيب بالضرورة وهي لا تفسد امتناع التسلسل وهو مع ذلك يوردونها في طريق إثباته إشكالاً على إبطال القول بالتسلسل الذي جعلوه مقدمة من مقدمات إثباته حتى يبقوا دائماً في نصرة التعطيل بالباطل وهم إذا نصروا الإثبات ببعض ما نصروا به التعطيل، كان فيه كفاية وبيان لفساد التعطيل. وبيان ذلك أنهم لما أثبتوا واجب الوجود جعلوا إثباته موقوفاً على إبطال التسلسل، لما قالوا إن الممكن لا بد له من مرجح مؤثر ثم إما أن يتسلسل الأمر حتى يكون لكل ممكن مرجح ممكن فتتسلسل العلل والمعلولات الممكنة أو ينتهي الأمر إلى واجب لنفسه ثم قالوا لم لا يجوز أن يكون التسلسل جائزاً كما قد تكلم على هذا في غير هذا الموضع. ومن أعظم أسولتهم قولهم لم لا يكون المجموع واجباً بأجزائه المتسلسلة، وكل منها واجب بالآخر وهذا السؤال ذكره الآمدي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 وذكر انه لا يستطيع أن يجيب عنه، ومضمونه وجوب وجود أمور ممكنة بنفسها ليس فيها ما هو موجود واجب بنفسه لكن كل منها معلول للآخر والمجموع معلول بالأجزاء. ومن المعلوم أنا إذا فرضنا مجموعاً واجباً بأجزائه الواجبة التي لا تقبل العدم كان أولى في العقل من مجموع يجب بأجزاء كل منها ممكن لا يوجد بنفسه فإن المحتاج إلى الممكنات أولى بالإمكان أما الذي يكون وجوده لازماً للواجبات فلا يمكن عدمه. والعقل الصريح الذي لم بكذب قط يعلم أن المركب المجموع من أجزاء كل منها ممكن لا وجود له بنفسه هو أيضاً ممكن لا وجود له وأما المركب من أجزاء كل منها واجب بنفسه فإنه لا يمتنع كونه واجباً بنفسه أي بتلك الأجزاء التي منها واجب. وإذا قيل الإجتماع نفسه مفتقر إلى الأجزاء التي كل منها واجب بنفسه كان ذلك نزاعاً لفظياً. والمقصود أن العقل يصدق بإمكان هذا ولا يصدق بإمكان أجزاء كل منها ممكن ن والمجموع واجب بها وهؤلاء قلبوا الحقائق العقلية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 فقالوا إذا اجتمعت واجبات بأنفسها صارت ممكنة وإذا اجتمعت ممكنات بأنفسها صارت واجبة فإذا تكلموا في نفي الصفات الواجبة لله جعلوا كون المركب يستلزم أجزاءه موجباً لامتناع المركب الذي جعلوه مانعاً من العلو والتجسيم ومن ثبوت الصفات ولا يوردون على أنفسهم ما أوردوه في إثبات واجب الوجود، وإيراده هنا أولى لأن فيه مطابقة لسائر أدلة العقل مع تصديق ما جاءت به الرسل وما في ذلك من إثبات صفات الكمال لله تعالى بل وإثبات حقيقته التي لا يكون موجوداً إلا بها فكان بمكنهم أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون المجموع الواجب أو المركب الواجب أو الجملة الواجبة واجبة بوجوب كل جزء من أجزائها التي هي واجبة بنفسها لا تقبل العدم؟ وكان هذا خيراً من أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون المجموع الذي كل من أجزائه ممكن بنفسه هو واجباً بنفسه أو واجباً بأجزائه؟ وهذا الآمدي مع أنه من أفضل من تكلم من أبناء جنسه في هذه الأمور وأعرفه بالكلام والفلسفة اضطرب وعجز عن الجواب عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 الشبهة الداحضة القادحة في إثبات واجب الوجود هو دائماً يحتج بنظيرها الذي هو أضعف منها على نفي العلو وغيره من الأمور الثابتة بالشرع والعقل ويقول إن ذلك يستلزم التجسيم وأن المخالفين في الجسم جهال. ولو أعطى النظر حقه، لعلم أن الجهل المركب فضلاً عن البسيط أجدر بمن سلك مثل تلك الطريق فإن من شك في أوضح الأمرين وأبينهما في العقل وفي أمر لم يشك أحد من الأولين والآخرين فيه كان أولى بالجهل ممن قال بما قات به الأنبياء وارسل وأتباعهم وسائر عقلاء بني آدم من الأولين والآخرين وعلم ثبوته بالبراهين اليقينية. وذلك أنه لم يجوز أحد من بني آدم وجود فاعل للعالم ولذلك الفاعل فاعلة إلى ما لا نهاية له من غير أن يكون هناك فاعل موجود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 بنفسه فمن شك في جواز هذا أو عجز عن جواب شبهة مجوزة كان جهلة بيناً وكان أجهل من افحش الناس قولاً بالباطل المحض من التشبيه والتجسيم حتى لو فرض القول الذي يحكى عن غالية المنتقضة لله من اليهود وغيرهم مثل الذين يصفونه بالبكاء والحزن وعض اليد حتى جرى الدم ورمد العين سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. فإذا قدر واجب بنفسه موصوف بهذه النقائص لم يكن هذا أبعد في العقل من وجود فاعل ليس موجوداً بنفسه، له فاعل ليس موجوداً بنفسه، إلى ما لا يتناهى فإن هذا وصف لجميع الفاعلين بالعدم الذي هو غاية النقص فإن غاية النقص أنه يرجع إلى أمور عدمية، فكيف عدم ما يقدر فاعلاً للعالم؟ فتبين أن هؤلاء الذين يدعون العقليات التي تعارض السمعيات هم من أبعد الناس عن موجب العقل ومقتضاه كما هم من أبعد الناس عن متابعة الكتاب المنزل والنبي المريل وأن نفس ما به يقدحون في أدلة الحق التي توافق ما جاء به الرسول لو قدحوا به فيما يعارض ما جاء به الرسول لسلموا عن التناقض وصح نظرهم وعقلهم واستدلالهم، ومعارضتهم صحيح المنقول وصريح المعقول بالشبهات الفاسدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 كلام الأمدي في مسألة هل وجوده تعالى زائد على ذاته أم لا؟ والتعليق عليه ومن أعجب الأشياء أن هذا الآمدي لما تكلم على مسألة هل وجوده زائد على ذاته أم لا ذكر حجة من قال لا يزيد وجوده على ذاته فقال احتجوا بأنه لو كان زائداً على ذاته لم يخل إما أن يكون واجباً أو ممكناً لا جائز أن يكون واجباً لأنه مفتقر إلى الذات ضرورة كونه صفة لها ولا شيء من المفتقر إلى غيره يكون، واجباً فإذا وجوده لو كان زائداً على ذاته لم كان واجباً، فلم يبق إلا أن يكون ممكناً، وإذا كان ممكناً فلا بد له من مؤثر، والمؤثر فيه إما الذات أو خارج عنها، والأول ممتنع، لأنه يستلزم كون الذات قابلة وفاعلة، ولأن المؤثر في الوجود لا بد أن يكون موجوداً، فتأثيرها في وجودها يفتقر إلى وجودها فالوجود مفتقر إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 نفسه، وهو محال وإن كان المؤثر غيرها، كان الوجود الواجب مستفاداً له من غيره فلا يكون الوجود واجباً بنفسه. ثم قال وهذه الحجة ضعيفة إذ لقائل أن يقول ما لا مانع من كون الوجود الزائد على الماهية واجباً لنفسه قولكم لأنه مفتقر إلى الماهية والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً لنفسه قلنا لا نسلم أن الواجب لنفسه لا يكون مفتقراً إلى غيره، بل الواجب لنفسه هو الذي لا يكون مفتقر إلى مؤثر فاعل، ولا يمتنع أن يكون موجباً بنفسه، وإن كان مفتقراً إلى القابل، فإن الفاعل الموجب بالذات لا يمتنع توقف تأثيره على القابل وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه أو لما هو خارج عنه، وهذا كما يقوله الفيلسوف في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 العقل الفعال بانه موجب بذاته للصور الجوهرية والأنفس الإنسانية وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفاً على وجود الهيولى القابلة. قال وإن سلمنا أنه لا بد وأن يكون ممكناً، ولكن لا نسلم أن حقيقة الممكن هو المفتقر إلى المؤثر بل الممكن هو المفتقر إلى الغير والافتقار إلى الغير أعم من الافتقار إلى المؤثر وقد تحقق ذلك بالافتقار إلى الذات القابلة. فيقال ففي هذا الكلام جوز أن يكون الوجود الواجب مفتقراً إلى الماهية، وذكر أن الواجب بنفسه هو الذي لا يفتقر إلى المؤثر ليس هو الذي لا يفتقر إلى الغير، وإن كونه ممكناً بمعنى افتقاره إلى الغير لا إلى المؤثر هو الإمكان الذي يوصف به الوجود الواجب المفتقر إلى الماهية. وهذا الذي قاله هو بعينه يقال له فيما ذكره هنا حيث قال إن المجموع مفتقر إلى كل من أجزائه والمفتقر إلى الغير لا يكون واجبا بنفسه لأنه ممكن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 فيقال له: لا نسلم أن المفتقر إلى الغير على الإطلاق لا يكون واجباً بنفسه بل المفتقر إلى المؤثر لا يكون واجباً بنفسه وافتقار المجموع إلى كل من أجزائه ليس افتقاراً إلى مؤثر بل إلى الغير كافتقار الوجود إلى الماهية إذا فرض تعددها. ويقال: قولك إن المجموع يكون ممكناً اتعني بالممكن ما يفتقر إلى مؤثر أم ما يفتقر إلى الغير؟ فإن قلت الأول كان باطلاً، وإن قلت الثاني، فلم إن الواجب بنفسه الذي لا يفتقر إلى فاعل لا يكون ممكناً بمعنى انه يفتقر إلى غير لا إلى فاعل؟ فهذا الكلام الذي ذكره هو بعينه يجيب به نفسه عما ذكره هنا بطريق الأولى والاحرى، فإن توقف المجموع الواجب باجزائه على كل من أجزائه لا ينفي وجوبه بنفسه، التي هي المجموع مع الأجزاء اما توقف الوجود على الماهية المغايرة له، فإنه يقتضي توقف الوجود الواجب على ما ليس داخلاً فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 ومعلوم ان افتقار الشيء إلى جزئه ليس هو كافتقاره إلى ما ليس جزاه، بل الأول لا ينفي كمال وجوبه، إذ كان افتقاره إلى جزئه ليس أعظم من افتقاره إلى نفسه والواجب بنفسه لا يستغني عن نفسه فلا يستغني عما هو داخل في مسمى نفسه، أما إذا قدر وجود واجب وماهية مغايرة له، كان الواجب مفتقراً إلى ما ليس داخلاً في مسمى اسمه فمن جوز ذاك كيف يمنع هذا. ولهذا كان قول مثبتة الصفات خيراً من قول أبي هاشم وأمثاله من المعتزلة وأتباعهم الذين قالوا: إن وجود كل موجود في الخارج مغاير لذاته الموجود في الخارج وأن وجود واجب الوجود زائداً على ماهيته وإن كان قد وافقه على ذلك طائفة من أهل الإثبات في إثناء كلامهم حتى من أصحاب الأئمة الأربعة احمد وغيره كأبن الزاغواني وهو احد قولي الرازي بل هو الذي رجحه في أكثر كتبه وكذلك أبو حامد. فإبطال مثل هذا التركيب أولى من إبطال ذاك، وأدنى الأحوال ان يكون مثله، فإن من قال: إن الوجود زائد على الماهية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 لزمه ان يجعل الماهية قابلة للوجود والوجود صفة لها، فيجعل الوجود الواجب صفة لغيره، والصفة مفتقرة إلى محلها وهذا الافتقار أقرب إلى أن تكون الصفة ممكنة، من افتقاره إلى صفته اللازمة له وإلى ما يقدر أنه جزؤه الذي لا يوجد إلا في ضمن نفسه؟ وأما افتقار الصفة إلى الموصوف فإدل على إمكان الصفة بنفسها، فإذا كان الوجود الواجب لا يمتنع ان يكون صفة لماهية فكيف يمتنع أن يكون مجموعاً؟ وغاية ما يقال: إن الاجماع صفة للأجزاء المجتمعة الموجودة الواجبة ومعلوم أن صفة الأجزاء الواجبة بنفسها أولى أن تكون موجودة واجبة من صفة الماهية التي هي في نفسها ليست وجوداً. فهذا الذي ذكره هناك حجة عليه هنا مع انه يمكن تقريره بخير مما قرره، فإنه قد يقال: إن هذا تقرير ضعيف. وذلك أنه قال: لا نسلم أن الواجب لنفسه لا يكون مفتقراً إلى غيره، فإن الواجب لنفسه هو الذي لا يكون مفتقراً إلى مؤثر فاعل، ولا يمتنع ان يكون موجباً بنفسه وإن كان مفتقراً إلى القابل، فإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 الفاعل الموجب بالذات لا يمتنع توقف تأثيره على القابل وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه أو لما هو خارج عنه وهذا كما يقول الفيلسوف في العقل الفعال بأنه موجب بذاته للصور الجوهرية والأنفس الإنسانية وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفاً على وجود الهيولى القابلة. فقد يقال إن هذا التقدير ضعيف لوجوه. الوجه الأول: أن الكلام فيما هو واجب بنفسه، لا فيما هو موجب لغيره أو فاعل له، وإذا قدر ان الموجب الفاعل يقف على غيره، لم يلزم أن يكون الواجب بنفسه يقف على غيره. الوجه الثاني: أن الموجب الفاعل لا تقف نفسه على غيره، وإنما يقف تأثيره، ولا يلزم من توقف تأثيره على غيره توقفه، وهذا كما ذكره من التمثيل بالعقل الفعال، فإن أحداً لا يقول: إن نفسه تتوقف على غيره الذي يقف عليه تأثيره، فإذا كان هذا في الموجب فكيف بالواجب. بل هم يقولون: إن نفس إيجابه يتوقف على غيره بل وصول الأثر إلى المحل يتوقف على استعداد المحل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 الوجه الثالث: ان هذا التمثيل يمكن في غير الواجب بنفسه أما هو سبحانه وتعالى فلا يتصور أن تقف ذاته على غيره، ولا فعله على غيره، فإن القوابل هي أيضاً من فعله، فالكلام في فعله للمقبول لها، كالكلام في فعله للقابل، فكل ما سواه فقير إليه مفعول له، وهو مستغن عن كل ما سواه من كل وجه، بخلاف الفاعل المخلوق الذي يتوقف فعله على قابل، فإنه فعل مفتقر إلى شيء منفصل عنه لكن يمكن ان يجاب عنه بان يقال: إذا كان الموجب لغيره المتوقف إيجابه على غيره لا يمنع أن يكون موجباً بنفسه، كما قالوا في العقل الفعال، فإن يكون توقف إيجابه على غيره لا يمنع ان يكون واجباً بنفسه أولى وأحرى، فإن الموجب لغيره واجب وزيادة إذ لا يوجد إلا ما هو موجود ولا يوجب إلا ما هو واجب. والعقل الفعال يقولون: هو واجب بغيره، وهو موجب بغيره، لا واجب بنفسه. ومقصوده أن الوجوب والإيجاب بالذات لا يمنع توقف ذلك على غيره، وإنما يمنع كونه مفعولاً للغير. وتلخيص الكلام: أنه إذا قيل: إن الوجود زائد على الماهية، كانت الماهية محلا للوجود الواجب فيكون الواجب لنفسه مفتقراً إلى قابل لا إلى فاعل. فنقول: الواجب هو الذي لا يكون مفتقراً إلى فاعل، ليس هو الذي لا يكون مفتقراً إلى قابل، فإن الذي قام عليه قطع التسلسل أن الواجب لا فاعل له ولا علة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 أما كون الوجود الواجب له محل، هو موصوف به أم لا؟ فذاك كلام آخر لكنه عضد ذلك بأن الإيجاب بالذات لا ينافي كون الموجب له محل يقبله، فكذلك الواجوب بالذات لا ينفي أن يكون له محل يقبله واستشهد بالعقل الفعال لكنهم يقولون العقل الفعال ليس بموجب بالذات واما الرب الموجب بالذات فليس له محل يقبله. فتبين ان الاستشهاد بهذا لا يصح وليس التمثيل به مطابقاً. والمقصود هنا أن الذي يعتمد عليه هو وأمثاله في نفي ما يسمونه التركيب، هم أنفسهم قد أبطلوه في مواضع أخر واحتجوا به في موضع آخر وهو حيث احتجوا به أضعف منه حيث أبطلوه. وكذلك ما ذكره من الوجه الثاني على إبطال التركيب فإنه قال: كلام الأمدي عن إبطال التركيب الوجه الثاني في امتناع كونه مركباً من الأجزاء أن تلك الأجزاء إما أن تكون واجبة الوجود لذاتها، أو ممكنة، أو البعض واجبا والبعض ممكناً، لا جائز أن يقال بالأول، على ما سيأتي تحقيقه في إثبات الوحدانية، وإن كان الثاني أو الثالث، فلا يخفي أن المفتقر إلى الممكن المحتاج إلى الغير أولى بالإمكان والاحتياج، والممكن المحتاج لا يكون واجباً لذاته، ومالا يكون واجباً لذاته لا يكون إلهاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 رد ابن تيمية عليه من وجوه قلت: ولقائل أن يقول: هذا الوجه أيضاً فاسد من وجوه: الوجه الأول أن يقال: لم لا يجوز أن تكون تلك الأجزاء كلها واجبة قوله: على ما سيأتي تحقيقة في مسألة التوحيد. يقال له: الذي ذكرته فيما بعد مسألة التوحيد هي الطريقة المعروفة لأبن سينا وأتباعه من الفلاسفة وهي وجهان: الوجه الأول: مبناه على أن المركب يفتقر إلى أجزائه، وهذا هو الوجه الأول الذي ذكرته هنا، فصار مدار هذا الوجه الثاني على الأول، فلم يذكر إلا الأول، وقد نبين فساده. الوجه الثاني: الذي ذكرته في التوحيد: مبناه على كون الوجوب يصير معلولا وهذا هو الذي ذكرته في كون الوجود الواجب لا يزيد على الماهية، لئلا يكون معلولا للماهية. وأنت قد أفسدت هذا الوجه وبما أفسدته به يفسد الآخر أيضاً فتبين أن ما ذكرته في مسألة التوحيد يعود إلى وجه واحد. وأنت قد قدمت فساده، فالحوالة على ما سيأتي وما سيأتي منه ما هو مكرر، فكلاهما فاسد. وهو دائما في كلامه يذكر فساد هذه الطريقة، حتى أنه لما استدلت الفلاسفة أتباع ابن سينا وغيرهم على أن الأجسام ممكنة بهذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 الطريقة واستدل بها طائفة على حدوث العالم وهذا أول طريقة ذكرها في حدوث العالم فقال قد احتج الأصحاب بمسالك: الأول قولهم: العالم ممكن الوجود بذاته وكل ممكن بذاته فهو محدث. وقرر الإمكان بأن قال أجسام العالم مؤلفة ومركبة لما سبق بيانه في الأجسام، وكل ما كان مؤلفا مركبا فهو مفتقر إلى أجزائه، وكل مفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بذاته، فالأجسام ممكنة لذواتها والأعراض قائمة بالإجسام ومفتقرة إليها، والمفتقر إلى الممكن أولى أن يكون ممكنا. ثم ضعف هذا المسلك: قال وقولهم: إن العالم مركب مسلم، ولكن ما المانع أن تكون أجزاؤه واجبة؟ وما ذكروه من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 الدلالة فقد بينا ضعفها في مسألة الوحدانية فهنا لما احتجوا بهذه الدلالة على حدوث العالم ذكر ضعفها، وأحال على ما ذكره في الوحدانية، فكيف يحتج بها بعينها في مثل هذا المطلوب بعينه، وهو كون الأجسام ممكنة لأنها مركبة ويحيل على ما ذكره في التوحيد. ومعلوم انه لو أبطلها حيث تعارض نصوص الكتاب والسنة واعتمد عليها حيث لا تناقض ذلك، لكان مع ما فيه من التناقض أقرب إلى العقل والدين من أن يحتج بها في نفي لوازم نصوص الكتاب والسنة ويبطلها حيث لا تخالف نصوص الأنبياء. الوجه الثاني أن يقال: أنت أيضاً قد بينت في الكلام على إثبات وحدانية الله تعالى فساد هذه الطريقة التي سلكها ابن سينا وغيره من الفلاسفة التي أحلت عليها هنا. وذلك أنه قال الفصل الثاني في امتناع وجود إلهين لكل واحد منهما من صفات الإلهية ما للآخر وقد احتج النافون للشركة بمسالك ضعيفة: المسلك الأول: وهو ما ذكره الفلاسفة، وذلك أنهم قالوا: لو قدر وجود واجبين كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 واحد منهما واجب لذاته، فلا يخلو: إما أن يقال باتفاقهما من كل وجه، أو باختلافهما من كل وجه، أو باتفاقهما من وجه دون وجه، فغن كان الأول فلا تعدد في مسمى واجب الوجود، إذ التعدد والتغاير دون مميز محال، وإن كان الثاني فما اشتركا في وجوب الوجود، وإن كان الثالث فما به الاشتراك غير ما به الأفتراق، وما به الاشتراك إن لم يكن هو وجوب الوجود فليسا بواجبين بل أحدهما دون الآخر، وإن كان الاشترك بوجوب الوجود فهو ممتنع لوجهين: الوجه الأول: هو أن ما به الاشتراك من وجوب الوجود: إما أن يتم تحققه في كل واحد من الواجبين بدون ما به الافتراق أو لا يتم دونه، فغن كان الأول فهو محال، وإلا كان المعنى المشترك المطلق متحققا في الأعيان من غير مخصص وهو محال وإن كان الثاني وجوب الوجود ممكناً لافتقاره في تحققه إلى غيره، فالموصوف به، وهو ما قيل بوجوب وجوده، أولى أن يكون ممكناً الوجه الثاني: أن مسمى واجب الوجود إذا كان مركباً من أمرين، وهو وجوب الوجود المشترك، وما به الافتراق، فيكون مفتقراً في وجوده إلى كل واحد من مفردية وكل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 واحد من المفردين مغاير للجملة المركبة منهما، ولهذا يتصور تعقل كل أحد من الأفراد مع الجهل بالمركب منها، والمعلوم غير المجهول، وكل ما كان مفتقراً إلى غيره في وجوده إلى غيره ممكناً لا واجباً لذاته، إذ لا معنى لواجب الوجود لذاته إلا ما لا يفتقر في وجوده إلى غيره وهذه المحالات إنما لزمت من القول بتعدد واجب الوجود لذاته فيكون محالاً. قال: وربما استروح بعض الأصحاب في إثبات الوحدانية إلى هذا المسلك أيضاً وهو ضعيف إذ لقائل أن يقول وإن سلمنا الاتفاق بينهما من وجه والافتراق من وجه وأن ما به الاتفاق هو وجوب الوجود، ولكن لم قلتم بالامتناع؟ وما ذكرتموه في الوجه الأول إنما يلزم ان لو كان مسمى وجوب الوجود معنى وجودياً وأما بتقدير أن يكون امراً سلبياً ومعنى عدمياً، وهو عدم افتقار الوجود إلى علة خارجة فلا فلم قلتم بكونه أمراً وجودياً. ثم بسط الكلام في كونه عدميا بما ليس هذا موضع الكلام فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 تابع كلام الآمدي قال وعلى هذا فقد بطل القول بالوجه الثاني فإنه إذا كان حاصل الوجوب يرجع إلى صفة سلب، فلا يوجب ذلك التركيب من ذات واجب الوجود، وإلا لما وجد بسيط أصلاً فإنه ما من بسيط إلا ويتصف بسلب غيره عنه، وإن سلمنا أن وجوب الوجود أمر وجودي، ولكن ما ذكرتموه من لزوم التركيب فهو لازم، وإن كان واجب الوجود واحداً من حيث ان مسمى واجب الوجود مركب من الذات المتصفة بالوجوب ومن الوةجوب الذاتي، فما هو العذر عنه مع اتحاد الوجود فهو العذر مع تعدده. تعليق ابن تيمية قلت: الوجه الأول ذكره الرازي قبله في إبطال هذا، والوجه الثاني ذكره الرازي كما ذكره الشهرستاني قبله وهو أن هذا منقوض بمشاركة واجب الوجود لسائر الموجودات في مسمى الوجود وامتيازه عنها بوجوب الوجود، فقد صار فيه على أصلكم ما به الاشتراك وما به الامتياز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 والآمدي يقول: إن وجوب الوجود بالاشتراك اللفظي، وقاله قبله الشهرستاني والرازي وأتباعه في ذلك. يبين بطلان ما أحال عليه في قوله لا يجوز أن تكون الأجزاء كلها واجبة على ما سيأتي تحقيقه في مسألة التوحيد. ومن أعجب خذلان المخالفين للسنة وتضعيفهم للحجة إذا نصر بها حق، وتقويتها إذا نصر بها باطل: أن حجة الفلاسفة على التوحيد قد أبطلها لما استدلوا بها على أن الإله واحد، والمدلول حق لا ريب فيه، وإن قدر ضعف الحجة، ثم إنه يحتج بها بعينها على نفي لوازم علو الله على خلقه، بل ما يستلزم تعطيل ذاته فيجعلها حجة فيما يستلزم التعطيل، ويبطلها إذا احتج بها على التوحيد. وأيضاً فما ذكره في إبطال هذه الحجة يبطل الوجه الأول أيضاً، فإنه إذا لم يمتنع واجبان بأنفسهما فإن لا يمتنع جزءان كل منهما واجب بنفسه بطريق الأولى والآحرى. واعلم أن الوجهين اللذين أبطلا بهما الحجة: أحدهما منع كون الوجوب أمراً ثبوتياً والثاني المعارضة: أما المعارضة فوارده على هؤلاء الفلاسفة، لا مندوحة لهم عنها. ومعارضة الشهرستاني والرازي وأظن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 الغزالي أجود من معارضة الآمدي ومن اعتذر عن ذلك بان الواجب لفظ مشترك لزم بطلان توحيد الفلاسفة بطريق الأولى، فإنه لا محذور حينئذ في إثبات أمور متعددة كل منها يقال له واجب الوجود بمعنى غير ما يقال للآخر. فبكل حال يلزم: إما لزوم التركيب، وإما بطلان توحيدهم وأيهما كان لازما لزم الآخر فإنه إذا لزم التركيب بطل توحيدهم، وإذا بطل توحيدهم أمكن تعدد الواجب وهذا يبطل امتناع التركيب. ولا ريب أن أصل كلامهم، بل وكلام نفاة العلو والصفات، مبنى على إبطال التركيب وإثبات بسيط كلي مطلق مثل الكليات، وهذا الذي يثبتونه لا يوجد إلا في الأذهان، والذي أبطلوه هو لازم لكل الأعيان، فأثبتوا ممتنع الوجود في الخارج، وأبطلوا واجب الوجود في الخارج. ونحن نبين بطلان ذلك بغير ما ذكره هؤلاء: فنقول: قول القائل إما أن يقال باتفاقهما من كل وجه أو اختلافهما من كل وجه أواتفاقهما من وجه دون وجه إن أريد به انهما يتفقان في شيء بعينه موجود في الخارج، ولكن يشتبهان من بعض الجوه، مع أن كلا منها مختص بما قام به نفسه كالبياضين أو الأبيضين المشتبهين، مع أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 ليس في أحدهما شيء مما في الآخر، وغن أراد بقوله أو اختلافهما من كل وجه أنهما لا يشتبهان في شيء ما ولا يشتركان في شيء ما، فليس في الوجود شيئان إلا بينهما اشتراك في شيء وتشابه في شيء ما، ولو انه مسمى الوجود وإن أراد امتياز أحدهما عن الآخر فكل منهما ممتاز عن الآخر من كل وجه وإن كانا مشتركين في أشياء بمعنى اشتباهما لا بمعنى أن في الخارج شيئاً بعينه اشتركا فيه كما يشترك الشركاء في العقار. وإذا عرف أن هذه الألفاظ مجملة فنقول هم مشتبهان مشتركان في وجوب الوجود كما أن كل متفقين في اسم متواطئ بالمعنى العام، سواء كان متماثلاً وهو التواطؤ الخاص، أو مشككا وهو المقابل للتواطؤ الخاص، كالموجودين والحيوانين، والإنسانين والسوادين اشتركا في مسمى اللفظ الشامل لهما مع أن كلا منهما متميز في الخارج عن الآخر من كل وجه فهما لم يشتركا في أمر يختص بأحدهما، بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه وإنما اشتركا في مطلق الوجود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 والوجود المطلق المشترك الكلي لا يكون كلياً لا في هذا ولا في هذا، بل هو كلي في الأذهان، مختص في الأعيان. وإذا قيل: الكلي الطبيعي موجود فمعناه أن ما كان كلياً في الذهن يوجد ف بالخارج، لكن لا يتصور إذا وجد أن يكون كلياً، كما يقال العام موجود في الخارج ن وهو لا يوجد عاماً. وقوله: غما أن يختلفا من كل وجه أو يتفقا من كل وجه. قلنا: إذا أريد بالاختلاف ضد الاشتباه، فقد يقال: ليسا مختلفين من كل وجه. وإن أريد الامتياز فهما مختلفان من كل وجه. وقوله: إذا كانا متفقين من كل وجه زال الامتياز يصح إذا أريد بالاختلاف ضد الأمتياز، فإنهما إذا لم يتميز أحدهما عن الآخر بوجه بطل الامتياز. وأما إذا أريد بالاتفاق التشابه والتماثل فقد يكونان متماثلين من كل وجه كتماثل أجزاء الماء الواحد. والتماثل لا يوجب أن يكون أحد المثلين هو الآخر، بل لا بد أن يكون غيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 وحينئذ فقوله: ما به الاشتراك غير ما به الامتياز. قلنا: لم يشتركا في شيء خارجي حتى يحوجا أشتراكهما فيه إلى الامتياز، بل هما ممتازان بأنفسهما، وإنما تشابها. أو تماثلا في شيء والمتماثلان لا يحوجهما التماثل إلى مميز بين عينيهما، بل كل منهما ممتاز عن الأخر بنفسه. وقوله: ما به الاشتراك: إما وجوب الوجود أو غيره. قلنا: كل منهما مختص بوجوب وجوده الذي يخصه، كما هو مختص بسائر صفاته التي تخص نفسه، وهو أيضاً مشابه الآخر في وجوب الوجود، فما اشتركا فيه من الكلي لا يقبل الاختصاص، وما اختص به كل منهما عن الآخر لا يقبل الاشتراك، فضلا عن أن يكون ما اشتركا فيه محتاجاً إلى مخصص، وما اختص به كل منهما يقاربه فيه مشترك. وحينئذ فالاشتراك في وجوب الوجود المشترك والامتياز بوجوب الوجود المختص، والاشتراك أيضاً في كل مشترك، والامتياز بكل مختص. وقوله: إن كان الاشتراك بوجوب الوجود فهو ممتنع لوجهين: الوجه الأول: أن المشترك غما أن يتم بدون ما به الافتراق، وذلك محال، وإلا كان المطلق متحققاً في الأعيان من غير مخصص وإن لم يتم إلا بما به الافتراق كان وجوب الوجود ممكناً لافتقاره في تحققه إلى غيره. قلنا: أن أريد بالمشترك بينهما المعنى المطلق الكلي فذاك لا يفتقر إلى ما به الامتياز، وليس له ثبوت في الأعيان حتى يقال: إنه يلزم أن يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 المطلق في الأعيان من غير مخصص، وإن أريد به ما يقوم بكل منهما من المشترك، وهو ما يوجد في الأعيان من الكلي، فذاك لا اشتراك فيه الأعيان، فإن كل ما لأحدهما فهو مختص به لا اشتراك فيه. وحينئذ فالموجود من الوجوب هو مختص بأحدهما بنفسه، لا يفتقر إلى مخصص، فلا يكون الوجوب الذي لكل منهما في الخارج مفتقراً إلى مخصص. وإذا لم يكن ذلك بطل ما احتجوا به على كونه ممكناً. وأما المشترك الكلي المطلق من الوجوب فذاك ليس موجوداً لهذا ولا لهذا، ولا متحققاً في الأعيان. وحينئذ فلا يلزم أن الكلي يتحقق في الأعيان بلا مخصص. وأيضاً فيقال: هب أن المشترك لا يتحقق في الأعيان إلا بالمختص، فهذا لا يمنع وجوب وجوده، إذا الواجب هو مالا فاعل له، ليس هو مالا لازم ولا ملزوم له. وهذا الآمدي ذكر هذا فيما تقدم، وبين أن الوجود الواجب لا يمتنع توقفه على القابل، وإنما يمتنع توقفه على الفاعل. وبهذا يبطل الوجه الثاني وهو كون الوجود الواجب مركباً مما به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 الاشتراك وما به الامتياز، فإن ما به الاشتراك لم يوجد في الخارج، وما به الامتياز لم يقع فيه اشتراك، فليس في أحدهما ما به الاشتراك وما به الامتياز، ولكن كل منهما موصوف بصفة يشابهه بهذا الآخر وهو الوجوب، واتصاف الموصوف بصفة يشابهه بها غيره من وجه وأمر يختص به، إنما يوجب ثبوت معان تقوم به وأن ذاته مستلزمة لتلك المعاني، وهذا لا ينافي وجوب الوجود، بل لا يتم وجوب الوجود إلا به، ولو سلم أن مثل هذا تركيب فلا نسلم أن مثل هذا التركيب ممتنع، كما تقدم بيانه. فقد تبين بطلان الوجه الأول من وجهين، وبطلان الوجه الثاني من وجهين، غير ما ذكروه، والله اعلم. والوجه الأول من الوجهين هو الذي اعتمده ابن سينا في إشارته، وقد بسطنا الكلام عليه في جزء مفرد، شرحنا فيه أصول هذه الحجة التي دخل منها عليهم التلبيس في منطقهم وإلهياتهم، وعلى من أتبعهم كالرازي والسهرورودي والطوسي وغيرهم. وقد ذكرنا عنه هناك جوابين: الأول: أن هؤلاء عمدوا إلى الصفات المتلازمة في العموم والخصوص، ففرضوا بعضها مختصاً، وبعضها عاماً بمجرد التحكم، كالوجود والثبوت، والحقيقة والماهية ونحو ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 فإذا قيل: الواجب والممكن كل منهما يشارك الآخر في الوجود، ويفارقه بحقيقته أو ماهيته. قيل لهم: معنى الوجود يعمهما ومعنى الحقيقة يعمهما، وكل منهما يمتاز عن الآخر بوجوده المختص به، كما يمتاز عنه بحقيقته التي تختص به، فليس جعل هذا مشتركا وهذا مختصاً باولى من العكس. وهكذا إذا قدر واجبان لكل منهما حقيقة فهمما مشتركان في مطلق الوجوب ومطلق الحقيقة، وكل منهما يمتاز عن الآخر بما يخصه من الوجوب والحقيقة. فما قلتم به الامتياز متلازم، وما قلتم به الاشتراك متلازم، ولا يفتقر ما جعلتم به الاشتراك إلى ما جعلتم به الامتياز، ولا ما جعلتم به الامتياز إلى به الاشتراك، بل كل منها موصوف بما به الامتياز، وهو ما يخصه. وتلك الخصائص تشابه خصائص الآخر من بعض الوجوه، فذلك القدر المشترك الذي لا يختص بأحدهما هو ما به الاشتراك. فإذا قيل هذا لون وهذا لون، كانت لونية كل منهما مختصة به، واللونية العامة مشتركة بينهما. وكذلك إذا قيل: هذا حيوان وهذا حيوان، وهذا إنسان وهذا إنسان، وهذا أسود وهذا أسود، وأمثاله ذلك فليس شيء من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 الموجودات في الخارج مركباً من نفس ما ب الاشتراك وما به الامتياز، بل هو مختص بوصف، وذلك الوصف يشابه غيره، لكن هو مشتمل على صفات، بعضها اعم عن بعض، أي بعضها يوجد نظيره في غيره أكثر مما يوجد نظير الآخر وأما هو نفسه فلا يوجد في غيره. وأما الجواب الثاني: فلا ريب أن كلا منهما فيه وجوب، وفيه معنى آخر غير الوجوب، بل نفس الواجب الواحد فيه الوجوب وفيه ذاته، وهذا هو النقض الذي عارضهم به الآمدي. لكن قول القائل: وجوب الوجود حينئذ يكون ممكناً لافتقاره في تحققه إلى غيره، فالموصوف به أولى أن يكون ممكناً، كلام مجمل. فإنه يقال: ما تعني بكون الوجوب مفتقراً إلى غيره: أتعني به انه مفتقر إلى مؤثر أم مستلزم لغيره؟ فإن عنيت الأول فهو باطل، فإنه لا يحتاج الوجوب سواء فرض مختصاً أو مشتركاً إلى فاعل، ولكن لا بد له من محل يتصف به. فإن الوجوب لا يكون إلا لواجب، وافتقار الوجوب إلى محله الموصوف به لا يمنع المحل أن يكون واجباً، بل ذلك يستلزم كونه واجبا. وقول القائل: إن الوجوب يكون ممكناً إن أراد به افتقاره إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 محل، فهذا حق لكن هذا لا يستلزم كونه مفتقراً إلى فاعل، ولا كون المحل مفتقراً إلى فاعل. فقوله وإن كان الثاني كان الوجوب ممكناً، فالموصوف به أولى مغلطة. فإن الإمكان الذي يوصف به الوجوب إنما هو افتقاره إلى محل لا إلى فاعل. ومعلوم أنه إذا كانت صفة الموصوف تفتقر إليه لكونه محلاً لها لا فاعلاً، لم يلزم أن يكون الموصوف أولى بان يكون محلا، ولو قدر أن الوجوب يفتقر إلى مميز غير المحل، فهو من افتقار الشرط إلى المشروط، واللازم إلى الملازم، ليس هو من باب افتقار المعلول إلى العلة الفاعلة. ومثل هذا لا يمتنع على وجوب الوجود، بل لا بد لوجوب الوجود من تلك، إذ وجوب الوجود ليس هو الواجب الوجود، بل هو صفة له، مع أن الواجب الوجود له لوازم وملزومات، وذلك لا يوجب افتقاره إلى المؤثر، فالوجوب أولى أن لا يفتقر إلى مؤثر لأجل ما له من اللوازم والملزومات. فهذان وجهان غير ما ذكره هو وأمثاله هنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 الوجه الرابع: أن يقال: لم لا يجوز أن يكون بعض تلك الأجزاء واجباً وبعضها ممكناً؟ قوله الموقوف على الممكن أولى بالإمكان. قيل: متى إذ كان الجزء الممكن من مقتضيات الجزء الواجب أو بالعكس. وهذا كما أن مجموع الوجود: بعضه واجب لنفسه، وبعضه ممكن. والممكن منه من مفعولات الواجب لنفسه، ولا يلزم من ذلك أن يكون مجموع الموجودات أولى بالإمكان من الموجودات الممكنة. وهذا الجواب يقوله من يقوله في مواضع أحدها في الذات مع الصفات. فإذا قيل له: الذات والصفات مجموع مركب من أجزاء، فغما أن تكون واجبة كلها، أو بعضها واجب وبعضها ممكن أمكنه أن يقول: الذات الجبة والصفات ممكنة بنفسها وهي واجبة بالذات كما يجيب بمثل ذلك طائفة من الناس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 فإذا قيل: المجموع متوقف على الممكن. قال: إن ذلك الممكن من مقتضيات الواجب بنفسه. وهذا يقوله هؤلاء إذا فسر إمكان الصفات بأنها تفتقر إلى محل. فالذات لا تفتقر إلى محل، فالذات لا تفتقر إلى فاعل ولا محل، والصفات لا بد لها من محل. وإن فسر الواجب بما لا يفتقر إلى موجب فالصفات أيضاً لا تفتقر إلى موجب. لكنه قد يسلم لهم هؤلاء أن الصفات لها موجب، وهو الذات. وقولهم: إن الشيء الواحد لا يكون فاعلا وقابلاً من أفسد الكلام كما قد بسط في موضعه فيقول هؤلاء الذات موجبة للصفات ومحل لها، والذات واجبة بنفسها، والصفات واجبة بها، والمجموع واجب، وإن توقف على الممكن بنفسه الواجب بغيره لأن الواجب بنفسه مستلزم للصفات، ولا اجتماع المجموع. وأيضاً فيقوله من يقول: إنه يقوم بذاته أمور متعلقة بمشيئة وقدرته، فإن تلم أيضاً ممكنة بنفسها، وقد تدخل في مسمى أسمائه. ففي الجملة ليس معهم حجة تمنع كون الجموع فيه ما هو واجب موجب لغيره. وإذا قيل: المحتاج إلى الغير أولى بالاحتياج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 قيل: هب أن الأمر كذلك، لكن إذا كان الغير من لوازم الجزء الواجب بنفسه، كان المجموع من لوازم الجزء بنفسه. وحاصلة أن في الأمور المجتمعة ما هو مستلزم لسائرها. وإذا قيل فحينئذ لا يكون الواجب بنفسه إلا ذلك الملزوم. قيل: هذا نزاع لفظي فإن الممكنات لا بد لها من فاعل عن الفاعل والدليل دل على هذا، وليس فيما ذكرتموه ما ينفي أن تكون ذاته مستلزمة لأمور لازمة له، واسمه يتناول الملزوم واللازم جميعاً، وغن سمى الملزوم واجباً بنفسه، واللازم واجباً بغيره، كما قاله من قاله في الذات والصفات. فيقول المنازع له فهذه مجموع الأدلة التي ذكرها هو وغيره على نفي كون الواجب بنفسه جسماً أو جوهراً، قد تبين انه لا دلالة في شيء منها، بل هي على نقيض مطلوبهم أدل منها على المطلوب. وهذا ذكرناه لما أحال عليه قوله إن الحروف إذا قام كل منها بمحل غير محل الآخر يلزم التركيب وقد أبطلناه في إبطال التجسيم. ثم قال الوجه الثاني انه قال ليس اختصاص بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض أولى من العكس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 ولقائل أن يقول هذا الوجه في غاية الضعف وذلك انه إذا كانت الحروف مقدورة له. حادثة بمشيئته، كما ذكرته عن منازعيك فتخصيص كل منها بمحله، كتخصيص جميع الحوادث بما اختصت به من الصفات والمقادير والأمكنة والأزمنة. وهذا إما أن يرد إلى محض المشيئة وإما إلى حكمة جلية أو خفية وقد تنازع الناس في الحروف التي في كلام الآدميين هل بينها وبين المعاني مناسبة تقتضي الاختصاص على قولين مشهورين. وأما اختصاصها بمحالها في حق الأدميين بسبب يقتضي الاختصاص فهذا لا نزاع فيه. فعلم أن الاختصاص منه بالمحل أولى منه بالمعنى. واما قوله إن قالوا باجتماع الحروف بذاته مع اتحاد الذات فيلزم منه اجتماع المتضادات في شيء واحد فهذا قد تقدم أن للناس فيه قولين وان القائلين باجتماع ذلك إن كان قولهم فاسداً فقول من يقول باجتماع المعاني المتعاقبة وأنها شيء واحد وأن الصفات المتنوعة شيء واحد أعظم فساداً. وأما قوله وغن لم يقولوا باجتماع حروف القول في ذاته فيلزم منه مناقضة أصلهم في أن ما اتصف به الرب يستحيل عروه عنه فكلام صحيح ولكن تناقضهم لا يستلزم صحة قول منازعيهم إذا كان ثم قول ثالث وهذا اللازم فيه نزاع معروف وقد حكي النزاع عنهم أنفسهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 فمن قال إن ما اتصف به من الأصوات والأفعال ونحو ذلك يجوز عروه، لم يكن مناقضاً. والذين قالوا منهم إنه لا يجوز عروه عما اتصف به عمدتهم أنه لو جاز عروه عنه لم يكن ذلك إلا بحدوث ضد ثم ذلك الضد الحادث لا يزول إلا بضد حادث فيلزم تسلسل الحوادث بذاته وهذا يجيب عنه بعضهم بأنه يجوز عدمه بدون حدوث ضد ويجيب عنه بعضهم بالتزام التسلسل في مثل ذلك في المستقبل. عود إلى كلام الآمدي في الرد على الكرامية: السابع قال الآمدي في تناقض الكرامية أنهم جوزوا اجتماع الإرادة الحادثة مع الإرادة القديمة ومنعوا ذلك في العلم والقدرة ولو سئلوا عن الفرق لكان متعذراً. تعليق ابن تيمية قلت ولقائل أن يقول إن كانوا هم فرقوا فغيرهم لم يفرق بل جوز تجدد علوم وقدر. وحينئذ فهم في الفرق على ما اعتمدت عليه المعتزلة في الفرق بين كونه عالماً قادراً وبين كونه متكلماً مريداً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 حيث قالوا العلم والقدرة عام في كل معلوم ومقدور فإنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، وإلإرادة والكلام ليسا عامين في كل مراد ومقول بل لا يقول إلا الصدق ولا يأمر إلا بالخير، ولا يريد إلا ما وجد، ولا يريد إرادة محبة إلا لما أمر. فهذا مما احتجوا به على حدوث كونه مريداً متكلماً دون كونه عالماً قادراً قالوا لأن الاختصاص يتعلق بالمحدثات، بخلاف العموم فإنه يكون للقديم. فصل ومما يبين الأمر في ذلك، وان الأدلة التي يحتج بها هؤلاء على نفي لوازم علو الله على خلقه، هم يقدحون فيها، ويبينون فسادها في موضع آخر أن عامة هذه الحجج التي احتج بها الآمدي وغيره على نفي كونه جسماً، هم أنفسهم أبطلوها في موضع آخر. تابع كلام الآمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى والمقصود هنا ذكر ما قاله الآمدي وذلك انه لما ذكر مسالك الناس في إثبات حدوث الأجسام أبطل عامتها ن واختار الطريقة المبنية على أن الجسم لا يخلو من الأعراض، وان العرض لا يبقى زمانين فتكون الأعراض حادثة، ويمتنع حدوث ما لا نهاية له، وما لا يخلو عن الحوادث التي لها أول فله أول وذكر أن هذه الطريقة هي المسلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 المشهور للأشعرية وعليه اعتماده. والرازي وامثاله لم يعتمدوا على هذا المسلك لأنه مبني على أن الأعراض ممتنعة البقاء وهذه مقدمة خالف فيها جمهور العقلاء وقالوا إن قائليها للحس ولضرورة العقل فرأي أن الاعتماد عليها في حدوث الأجسام في غاية الضعف. والآمدي قدح في الطرق التي اعتمد عليها الرازي كلها والمقصود هنا ذكر طعن الآمدي في حجج نفسه التي احتج بها على نفي كونه جسماً ونفي قيام الحوادث به وقد تقدم ان حججه المبنية على تماثل الجواهر والأجسام قد قدح فيها، وبين أنه لا دليل لمن أثبت ذلك وحجته المبنية على التركيب قد قدح هو فيها في غير موضع كما ذكر بعضه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 وأما حجته المبنية على نفي المقدار والشكل، وانه لا بد له من مخصص وكل ما له مخصص فهو محدث فإنه قال المقدمة الأولى وغن كانت مسلمة غير أن الثانية وهي أن كل مفتقر إلى المخصص محدث، وما ذكر في تقريرها باطل بما سبق في في المسلك الأول. قال وبتقدير تسليم حدوث ما أشير إليه من الصفات فلا يلزم أن تكون الأجسام حادثة لجواز أن تكون هذه الصفات المتعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق من بيان امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها تنتهي إليه فقد ذكر هنا وغن كان لا بد للمختص من مخصص فلا يلزم أن يكون حادثاً بل جاز ان يكون قديماً في ذاته وصفاته أو قديماً في الذات مع تعاقب الصفات المحدثة من المقادير وغيرها عليه إلا إذا قيل ببطلان حوادث لا تتناهى. وحينئذ فيقال القديم إما واجب بنفسه وإما واجب بغيره فإن كان واجباً بنفسه بطلت حجته وغن كان واجباً بغيره لزم من كون المعلول مختصاً أن تكون علته مختصة أيضاً وإلا فبتقدير أن تكون العلة الموجبة وجوداً مطلقاً لا تختص بشيء من الأشياء كما يقوله من يقول هو وجود مطلق تكون نسبته إلى جميع أجناس الموجودات ومقاديرها وصفاتها نسبة واحدة وحينئذ فلا يخص مقداراً دون مقدار بالاقتضاء والإيجاب إلا أن يقال لا يمكن غير ذلك المقدار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 وإذا قيل ذلك لزم أن يكون من المقادير ما هو واجب لا يمكن غيره فإذا قيل هذا في الممكن ففي الواجب بنفسه أولى فإن تطرق الجواز إلى الممكن بنفسه أولى من تطرقه إلى الواجب بنفسه فإذا قدر في الممكن مقدار لا يمكن وجود ما هو أكبر منه فتقدير ذلك في الواجب بنفسه أولى. ونكته الجواب أن الموجب الذي يسمونه علة إن كان له مقدار بطل أصل قولهم، وإن لم يكن له مقدار فإما أن تكون جميع المقادير ممكنة بالنسبة إليه وإما أن لا يكون كذلك فإن كان الأول لم يخص بعضها دون بعض بلا مخصص لما في ذلك من ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وإن لم يمكن إلا بعضها كما يقوله من يقوله من المتفلسفة فحينئذ لزم أم يكون من المقادير ما هو ممتنع لنفسه ن بل منها ما هو متعين لا يمكن وجود غيره. وإذا جاز أن يمتنع بعضها لنفسه، فوجوب بعضها لنفسه أولى وأحرى وإذا جاز أن يتعين ممكن من المقادير دون غيره لنفسه، فتعين مقدار واجب لنفسه أولى وأحرى. وهذا كلام لا محيص لهم عنه فإن العالم إن كان واجباً بنفسه فقد ثبت أن الواجب بنفسه يختص بمقدار، وإن كان ممكناً فوجد ما هو أكبر منه أو أصغر إما أن يكون في نفسه ممكناً وغما أن لا يكون ,. فإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 لم يكن ممكناً ثبت امتناع بعض المقادير لنفسه دون بعض في الممكنات في الواجب اولى. وحينئذ فبطل قول القائل: إنه ما من مقدار إلا ويمكن ما هو أكبر منه وأصغر، وإن كان غير هذا المقدار ممكنا فتخصيص أحد الممكنين بالوجود يفتقر إلى مخصص. والوجود المطلق لا اختصاص له بممكن دون ممكن، فلا بد أن يكون المخصص أمرا فيه اختصاص، وذلك الاختصاص واجب بنفسه، وإذا كان الواجب لنفسه فيه اختصاص واجب لم يمكن أن يقال: كل اخصاص فلا بد له من مخصص، إذ الاختصاص ينقسم إلى: واجب بنفسه وممكن. يوضح هذا أن المتفلسف إذا قال إن الموجب لتخصيص الفلك بمقدار دون مقدار كون الهيولى لا تقبل إلا ذلك المقدار مثلاً أو امتناع بعد وراء العالم أو ما قيل من الأسباب. قيل له ما ذكرته من الهيولى وامتناع وجود موجود وراء العالم وإن كان باطلاً فيقال ما الموجب لكون الهيولى لا تكون على غير تلك الصفة ولم لا كانت الهيولى غير هذه بحيث تقبل شكلاً أكبر من هذا ثم إذا زعمت ان الممكن له مقدار لا يمكن ان يكون أكبر منه لعدم القابل مع انه لا يعلم وجود مخصص لمقدار دون مقدار ولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 لكون حيز هذا المقدار يقبل الوجود دون الحيز الذي يجاوره فإن الأحياز المجردة المحضة متشابهة أبلغ من تشابه المقادير. فإذا ادعيت التخصيص في هذا ففي الواجب بنفسه اولى وأحرى ثم بتقدير ان تكون المقادير والصفات حادثة فالحجة المبنية على نفي حوادث لا تناهي قد عرف ضعفها وقد أبطل هو جميع أدلة الناس التي ذكرها إلا حجة واحدة اختارها وهي أضعف من غيرها كما قد ذكر غير مرة. وإذا كانت هذه الحجة لا تمنع جواز تعاقب الحوادث على القديم لم يمتنع كون القديم محلاً للحوادث فبطل استدلالهم على نفي ذلك بمثل هذه الحجة0 فهذه الحجج الثلاث قد قدح هو فيها واما الرابعة وهي تعدد الصفات فالقدح فيها تبع للقدح في هذه الثلاث فإنها مبنية عليها إذ عمدة النفاة هي هذه الثلاث وكلامهم كله يدور عليها حجة التركيب وحجة الأعراض بأن مالا يخلو عن الحادث فهو حادث وحجة الاختصاص. وحججه الأولى على نفي الجوهر مبنية على نفي تماثل الجواهر وهو قد بين ان جميع ما ذكروه فإنه يرجع إلى ما قاله وقال إنه لا دليل فيه على نفي تماثلها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 وأما الثانية وهي قوله إما أن يكون مركباً فيكون جسماً أو لا يكون على نفي الجسم وقد عرف كلامه وقدحه في حجج نفي ذلك. واما حجته الثالثة فإنها مبنية على تماثل الجواهر أيضاً وهو قد أبطل أدلة ذلك، ومبنية على امتناع حلول الحوادث به أيضاً وقد أبطل هو أيضاً جميع حجج ذلك واستدل بحجة الكمال والنقصان كما احتج بها الرازي وهو أيضاً قد أبطل هذه الحجة لما استدل بها الفلاسفة على قدم العالم كما ذكر عنه. وأما حجته الرابعة على نفي الجوهر فبناها علي نفي التحيز وبنى نفي التحيز على حجتين على حجة الحركة والسكون وعلى تماثل الجواهر. وهو قد بين انه لا دليل على تماثل الجواهر، وأبطل أيضاً حجة الحركة والسكون لما أحتج بها من احتج على حدوث الأجسام، فإنه قال المسلك السادس لبعض المتأخرين من أصحابنا يعني به الرازي وهذا المسلك آخذ الرازي عن المعتزلة، ذكره أبو الحسين وغيره: أنه لو كانت الأجسام أزلية لكانت في الأزل إما أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 تكون متحركة او ساكنة، والقسمان باطلان، فالقول بأزليتها باطل. ثم اعترض عليه بوجوه متعددة: قال ولقائل أن يقول إما أن تكون الحركة عبارة عن الحصول في الحيز بعد الحصول في حيز آخر، والسكون عبارة عن الحصول في الحيز بعد أن كان في ذلك الحيز، أو لا يكون كذلك، فإن كان الأول فقد بطل الحصر بالجسم في أول زمان حدوثه، فإنه ليس متحركاً لعدم حصوله في الحيز بعد أن كان فيه، وإن كان الثاني فقد بطل ما ذكره في تقرير كون السكون أمراً وجودياً، ولا مخلص عنه. قلت: هذه مسألة نزاع بين أهل النظر: أن الجسم في أوقات حدوثه: هل يوصف بأحدهما أو يخلو عنهما؟ والذي قاله الرازي هو قول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 أبي هاشم وغيره من المعتزلة، ومضمونه: أنه في أوقات حدوثه ليس متحركاً ولا ساكنا. واعترض عليه بتقسيم حاصر فقال: إن كانت الحركة عبارة عن الانتقال من حيز إلى حيز، والسكون البقاء في حيز بعد حيز، فالجسم في أوقات حدوثه: لا متحرك ولا ساكن، وإن لم يكن الأمر كذلك، فقد بطل ما ذكره من كون السكون أمراً وجودياً، فإنه اعتمد في ذلك على أن السكون عبارة عن الحصول في الحيز، بعد ان كان في ذلك الحيز. تابع كلام الآمدي قال الآمدي فإن قيل: الكلام إنما هو في الجسم ف يالزمان الثاني، والجسم في الزمان الثاني لا يخلو عن الحركة والسكون، بالتفسير المذكور، فهذا قول ظاهر الإحالة، فإنه إذا كان الكلام ف يالجسم إنما هو الزمان الثاني، فوجود الجسم بالزمان الثاني ليس هو حالة الأولية، وعند ذلك فلا يلزم أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 يكون الجسم أزلا لا يخلو عن الحركة والسكون. تعليق ابن تيمية قلت: بل بتقدير قدمه لا يخلو عن الحركة والسكون، لأنه حينئذ إما أن يبقى في حيز او ينتقل عنه والأول: السكون والثاني الحركة. وما ذكره الآمدي من جواز خلوه عنهما على أحد التقديرين فإنما هو بتقدير حدوثه ومعلوم انه إذا كان بتقدير قدمه لا يهخلو عنهما، وكلاهما ممتنع كان بتقدير قدمه مستلزما لأمر ممتنع وهو الجمع بين النقيضين فإنه إذا صحت المقدمتان لزم أن يكون حادثاً بتقدير قدمه وهو انه لو كان قديماً لم يخل من حادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. وما ذكره الأمدي إنما يتوجه إذاقيل الجسم مطلقاً لا يخلو عن الحركة والسكون وحينئذ فإما أن يخلو عنهما أو لا يخلو، فإن خلا عنهما لم يكن ذلك إلا حال حدوثه، فيكون حادثاً. وإن لم يخل عنهما لزم ان يكون حادثاً، فيلزم حدوثه على كل تقدير. ونحن نذكر ما يقدح به الآمدي وأمثاله في حججهم التي احتجوا بها في موضع آخر، وإن كان بعض ذلك القدح ليس بحق، ولكن يعطي كل ذي حق حقه قولاً بالحق واتباعاً للعدل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 وقد ذكرنا كلام الآمدي على سائر ما ذكره ف يامتناع كن الحركة أزلية، مثل قوله: لم قلتم بامتناع كون الحركة أزلية؟ وما ذكروه من الوجه الأول فإنما يلزم أن لو قيل بأن الحركة الواحدة بالشخص أزلية وليس كذلك، بل المعنى بكون الحركة أزلية أن أعداد أشخاصها المتعاقبة لا أول لها، وعند ذلك فلا منافاة بين كون كل واحدة من آحاد الحركات الشخصية حادثة ومسبوقة بالغير وبين كون جملة آحادها أزلية، بمعنى انها متعاقبة إلى غير نهاية إلى آخر كلامه. والمقصود هنا التنبيه على أنه نقص في موضع آخر عامة ما احتج به هنا. فصل ومما ينبغي معرفته في هذا الباب أن القائلين بنفي علو الله على خلقه، الذين يستدلون على ذلك أو عليه وعلى غيره بنفي التجسيم فإنهم ينقضون الحجج التي يحتجون بها، فتارة ينقض أحدهم الحجج التي يحتج ... كما ذكرناه عن الرازي والآمدي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 وأمثالهما من حذاق النظار الذين جمعوا خلاصة ما ذكره النفاة من أهل الفلسفة والكلام بل يعارضون ما يجب تصديقه بما يعلم بصريح العقل موافق لها بما يعلم الصريح انه باطل وتارة كل طائفة تبطل الطريقة العقلية التي اعتمدت عليها الأخرى ن بما يظهر به بطلانها بالعقل الصريح وليسوا متفقين على طريقة واحدة. وهذا يبين خطأهم كلهم من وجهين: من جهة العقل الصريح الذي بين به كل قوم فساد ما قاله الآخرون ومن جهة انه ليس معهم معقول اشتركوا فيه فضلاً عن أن يكون من صريح المعقول. بل المقدمة التي تدعى طائفة النظار النظار صحتها، تقول الآخرى هي باطلة، وهذا بخلاف مقدمات أهل الإثبات الموافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنها من العقليات التي اتفقت عليها فطر العقلاء السليمي الفطرة، التي لا ينازع فيها إلا من تلقى النزاع تعليماً من غيره، لا من موجب فطرته فإنما يقدح فيها بمقدمة تقليدية أو نظرية، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 لا ترجع إلى العقل الصريح، وهو يدعى أنها عقلية فطرية. ومن كان له خبرة بحقيقة هذا الباب تبين له أن جميع المقدمات العقلية التي ترجع إليها براهين المعارضين للنصوص النبوية، إنما ترجع إلى تقليد منهم لأسلافهم، لا إلى ما يعلم بضرورة العقل ولا إلى فطرة، فهم يعارضون ما قامت الأدلة العقلية على وجوب تصديقه وسلامته من الخطأ، بما قامت الأدلة العقلية على أنه لا يجب تصديقه بل قد علم جواز الخطأ عليه، وعلم وقوع الخطأ منه فيما هو دون الإلهيات، فضلا عن الإلهيات التي يتيقن خطأ من خالف الرسل فيها بادلألة المجلة والمفصلة. والمقصود هنا التنبيه على جوامع قدح كل طائفة في طريق الطائفة الأخرى من نفاة العلو، أو العلو وغيره من الصفات، بناء على نفي التجسيم، ففحول أهل الكلام كأبي علي وأبي هاشم والقاضي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 عبد الجبار وأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري ومحمد بن الهيثم وأبي المعالي الجويني وأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي وغيرهم يبطلون طرق الفلاسفة التي بنوا عليها النفي منهم من يبطل أصولهم المنطقية وتقسيم الصفات إلى ذاتي وعرضي، وتقسيم العرضي إلى لازم للماهية وعارض لها، ودعواهم ان الصفات اللازمة للموصوف منها ما هو ذاتي داخل في الماهية ومنها ما هو عرضي خارج عن الماهية، وبناءهم توحيد واجب الوجود الذي مضمونه نفي الصفات على هذه الأصول وهم في هذا التقسيم جعلوا الماهيات النوعية زائداً في الخارج على الموجودات العينية، وليس هذا قول من قال: المعدوم شيء، فإن أولئك يثبتون ذواتاً ثابتة في العدم تقبل الوجود المعين، وهؤلاء يثبتون ماهيات كلية لا معينة. وأرسطو وأتباعه غنما يثبتونها مقارنة للموجودات المعينة لا مفارقة لها، وأما شيعة أفلاطون فيثبتونها مفارقة ويدعون أنها أزلية أبدية، وشيعة فيثاغورس تثبت أعداداً مجردة. وما يثبته هؤلاء إنما هو في الأذهان، ظنوا ثبوته في الخارج، وتقسيمهم الحد إلى حقيقي ذاتي، ورسمي أو لفظي، أو تقسيم المعرف إلى حد ورسم، هو بناء على هذا التقسيم. وعامة نظار أهل الإسلام وغيرهم ردوا ذلك عليهم وبينوا فساد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 كلامهم، وأن الحد إنما يراد به التمييز بين المحدود وغيره، وأنه يحصل بالخواص التي هي لازمة ملزومة، لا يحتاج إلى ذكر الصفات العامة، بل منعوا أن يذكر في الحد الصفات المشتركة بينه وبين غيره، بل وأكثرهم منعوا بتركيب الحد، كما هو مبسوط في موضعه، وقد صنف في ذلك متكلمو الطوائف، كأبي هاشم وغيره من المعتزلة، وأبن النوبخت وغيره من الشيعة، والقاضي أبي بكر وغيره من مثبتة الصفات. واما أبو حامد الغزالي فإنه وإن وافقهم على صحة الأصول المنطقية، وخالف بذلك فحول النظار الذين هم أقعد بتحقيق النظر في الإلهيات ونحوها من أهل المنطق، وأتبعه على ذلك من سلك سبيله كالرازي وذويه وأبي محمد بن البغدادي صاحب ابن المثنى وذويه فقد بين في كتابه تهافت الفلاسفة وغيره من كتبه فساد قولهم في الإلهيات، مع وزنه لهم بموازينهم المنطقية، حتى انه بين انه لا حجة لهم على نفي التجسيم بمقتضى أصولهم المنطقية، فضلا عن أن يكون لهم حجة على نفي الصفات مطلقاً، وإن كان أبو حامد قد يوجد كلامه ما يوافقهم عليه تارة أخرى، وبهذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 تسلط عليه طوائف من علماء الإسلام، ومن الفلاسفة أيضاً كابن رشد وغيره، حتى أنشد فيه يوماً يمان إذا ما جئت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يقوم عليه الدليل، وليس ذلك إلا فيما وافق فيع الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يقوم دليل صحيح على مخالفة الرسول البتة. وهذا كما أن ابن عقيل يوجد في كرمه ما يوافق المعتزلة والجهمية تارة، وما يوافق به المثبتة للصفات بل للصفات الخبرية أخرى فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يوافق الدليل وهو الموافق لما جاء به الرسول. والمقصود هنا أن نبين ان فحول النظار بينوا فساد طرق من نفي الصفات أو لاعلو بناء على نفي التجسيم وكذلك فحول الفلاسفة كابن سينا وأبي البركات وابن رشد وغيرهم بينوا فساد أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية التي نفوا بها التجسيم حتى أن ابن رشد في تهافت التهافت بين فساد ما أعتمد هؤلاء كما بين أبو حامد في التهافت فساد ما اعتمد عليه الفلاسفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 ولهذا كان في عامة طوائف النظار من يوافق أهل الإثبات على إثبات الصفات، بل وعلى قيام الأمور الاختيارة في ذاته وعلى العلو، كما يوجد فيهم من يوافقهم على أن الله خالق افعال العباد، فأخذق متأخري المعتزلة هو أبو الحسين البصري، ومن عرف حقيقة كلامه علم انه يوافق على إثبات كونه حياً عالما قادراً، وعلى أن كونه حيا ليس هو كونه عالما، وكونه عالما ليس كونه قادرا لكنه ينازع مثبتة الأحوال الذين يقولون: ليست موجودة ولا معدومة. وهذا الذي اختاره هو قول أكثر مثبتة الصفات، فنزاعه معهم نزاع لفظي، كما انه يوافق على أن الله يخلق الداعي في العبد، وعند وجود الداعي والقدرة يجب وجود المقدور. وهذا قول أئمة أهل الإثبات وحذاقهم الذين يقولون: إن الله خالق أفعال العباد. وهو أيضاً يقول: إنه سبحانه مع علمه بما سيكون فإنه إذا كان يعلمه كائناً فعالميته متجددة. وابن عقيل يوافق على ذلك، وكذلك الرازي وغيره، وهذا موافق لقول من يقول بقيام الحوادث به. وبعض حذاق المعتزلة نصر القول بعلو الله ومباينته لخلقه بالأدلة العقلية، وأظنه من أصحاب أبي الحسين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 وقد حكى ابن رشد ذلك عن أئمة الفلاسفة. أبو البركات وغيره من الفلاسفة يختارون قيام الحوادث به كإرادات وعلوم متعاقبة، وقد ذكروا ذلك وما هو أبلغ منه عن متقدمي الفلاسفة، كما ذكرت أقوالهم في غير هذا الموضع، وتقدم بعضها. والمقصود هنا أن جميع ما احتج به النفاة قدح فيه بعض النفاة قدحاً يبين بطلانه، كما بين غير واحد فساد طرق الفلاسفة. كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم قال أبو حامد مسالة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم فنقول هذا إنما يستقيم لمن يرى أن الجسم حادث، من حيث إنه لا يخلو عن الحوادث، وكل حادث فيفتقر إلى محدث فأما أنتم إذا عقلتم جسماً قديماً لا أول لوجوده، مع أنه لا يخلو عن الحوادث فلم يمتنع أن يكون الأول جسماً إما الشمس وإما الفلك الأقصى وإما غيره فإن قيل لأن الجسم لا يكون إلا مركباً منقسماً إلى جزأين بالكمية وإلى الهيولى والصورة بالقسمة المعنوية وإلى أوصاف يختص بها لا محالة حتى يباين سائر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 الأجسام وإلا فالأجسام متساوية في أنها أجسام، وواجب الوجود واحد لا يقيل القسمة بهذه الوجوه. قلنا وقد أبطلنا هذا عليكم، وبينا أنه لا دليل لكم عليه سوى أن المجتمع إذا افتقر بعض أجزائه إلى البعض كان معلولاً وقد تكلمنا عليه وبينا أنه إذا لم يبعد تقدير موجود لا موجود له لم يبعد تقدير مركب له وتقدير موجودات لا موجد لها إذ نفي العدد والتثنية بنيتموه على نفي التركيب ونفي التركيب على نفي الماهية سوى الوجود وما هو الأساس الأخير فقد استأصلناه وبينا تحكمكم فيه. فإن قيل الجسم إن لم يكن له نفس لا يكون فاعلاً وإن كان له نفس فنفسه علة له فلا يكون الجسم أولاً. قلنا أنفسنا ليست علة لوجود أجسامنا ولا نفس الفلك بمجردها علة لوجود جسمه عندكم بل هما يوجدان بعلة سواهما فإذا جاز وجودهما قديماً جاز أن لا يكون لهما علة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 فإن قيل كيف اتفق اجتماع النفس والجسم؟ قلنا هو كقول القائل كيف اتفق وجود الأول فيقال هذا سؤال عن حادث فأما ما لم يزل موجوداً فلا يقال كيف اتفق فكذلك الجسم ونفسه إذا لم يزل كل واحد منهما موجوداً لم يبعد أن يكون صانعاً. فإن قيل لأن الجسم من حيث إنه جسم لا يخلق غيره والنفس المتعلقة بالجسم لا تفعل إلا بواسطة الجسم ولا يكون الجسم واسطة للنفس في خلق الأجسام ولا في إبداع النفوس والأشياء لا تناسب الأجسام. قلنا ولم لا يجوز أن يكون في النفوس نفس تختص بخاصية تتهيأ بها لن توجد الأجسام وغير الأجسام منها فاستحالة ذلك لا تعرف ضرورة ولا برهان يدل عليه إلا أنه لم يشاهد من هذه الأجسام المشاهدة وعدم المشاهدة لا يدل على الاستحالة فقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 أضافوا إلى الموجود الأول مالا يضاف إلى موجود أصلاً ولم يشاهد من غيره وعدم المشاهدة من غيره لا يدل على استحالته منه فكذا في نفس الجسم والجسم. فإن قيل الفلك الأقصى أو الشمس أو ما قدر من الأجسام فهو متقدر بمقدار يجوز أن يزيد عليه وينقص منه فيفتقر اختصاصه بذلك المقدار الجائز إلى مخصص فلا يكون أولاً. قلنا بم تنكرون على من يقول إن ذلك الجسم يكون على مقدار يجب أن يكون عليه لنظام الكل ولو كان أصغر منه أو اكبر لم يجز، كما أنكم قلتم إن المعلول الأول يفيض الجرم الأقصى منه متقدراً بمقدار وسائر المقادير بالنسبة إلى ذات المعلول الأول متساوية ولكن يعين بعض المقادير ليكون النظام متعلقاً به فيوجب المقدار الذي وقع ولم يجز خلافه فكذلك إذا قدر غير معلول بل لو أثبتوا في المعلول فيوجب المقدار الذي وقع ولم يجز خلافه فكذلك إذا قدر غير معلول بل لو أثبتوا في المعلول الأول الذي هو علة الجرم الأقصى عندهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 مبدأ للتخصيص مثل إرادة مثلاً لم ينقطع السؤال إذ يقال ولم أراد هذا المقدار دون غيره كما ألزموه على المسلمين في إضافتهم الأشياء إلى الإرادة القديمة وقد قلبنا عليهم ذلك في تعين جهة حركة السماء وفي تعيين نقطتي القطبين فإذا ظهر انهم مضطرون إلى تجويز تمييز الشيء عن مثله في الوقوع بعلة فتجويزه بغير علة كتجويزه بعلة إذ لا فرق بين إن يتوجه السؤال في نفس الشيء فيقال لم اختص بهذا القدر وبين أن يتوجه في العلة فيقال ولم خصص هذا القدر عن مثله فإن أمكن دفع السؤال عن العلة بان هذا المقدار ليس مثل غيره إذ النظام مرتبط به دون غيره أمكن دفع السؤال عن نفس الشيء ولم يفتقر إلى علة وهذا لا مخرج عنه فإن هذا المقدار المعين الواقع إن كان مثل الذي لم يقع فالسؤال متوجه أنه كيف ميز الشيء عن مثله خصوصاً على أصلهم وهم ينكرن الإرادة المميزة وإن لم تكن مثلاً له فلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 يثبت الجواز بل يقال وقع كذلك قديماً كما وقعت العلة القديمة بزعمهم. قال وليستمد الناظر في هذا الكتاب مما أوردناه لهم من توجيه السؤال في الإرادة القديمة وقلبنا ذلك عليهم في نقطة القطب وجهة حركة الفلك وتبين بهذا أن من لا يصدق بحدوث الأجسام فلا يقدر على إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم أصلاً. تعليق ابن تيمية فهذا أبو حامد هو وغيره يبينون فساد ما ذكروه من نفي كون الأول جسماً ويقولون لا طريق إلى ذلك إلا الاستدلال على حدوث الجسم وقد سبقهم الأشعري إلى بيان فساد ما احتجت به المعتزلة على حدوث الجسم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 والرازي وأتباعه يبينون حدوث الجسم في كتبه الكلامية كالأربعين ونهاية العقول والمحصل وغير ذلك ثم يبينون فساد كل ما يحتج به على حدوث الأجسام في مواضع أخر مثل المباحث المشرقية وكذلك في المطالب العالية التي هي آخر كتبه بين فساد حجج من يقول بحدوثها وانه فعل بعد ان لم يكن فاعلاً ويذكر حججاً كثيرة على دوام الفاعلية ويورد عليها مع ذلك ما يدل على فسادها ويعترف بالحيرة في هذه المواضع العظيمة مسائل الصفات وحدوث العالم ونحو ذلك. وسبب ذلك أنهم يقولون أقوالاً تستلزم الجمع بين النقيضين تارة ورفع النقيضين تارة بل نستلزم كليهما والأصل العظيم الذي هو من أعظم أصول العلم والدين يذكرون فيه إلا أقوالاً ضعيفة. والقول الصواب الموافق للميزان والكتاب لا يعرفونه كما في مسألة حدوث العالم فإنهم لا يذكرون إلا قولين قول من يقول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 بقدم الأفلاك وإن كانت صادرة عن علة توجبها، فالمعلول مقارن ازلاً وقول من يقول بل تراخى المفعول عن المؤثر التام وأنه يمتنع انه لم يزل متكلماً إذا شاء ويفعل ما يشاء. والقول الصواب الذي هو قول السلف والأئمة لا يعرفونه وهو القول بأن الأثر يتعقب التأثير التام فهو سبحانه إذا كون شيئاً كان عقب تكوينه له كما قال تعالى {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} يس: 82 وهذا هو المعقول كما يكون الطلاق والعتاق عقب التطليق والاعتاق والانكسار والانقطاع عقب الكسر والقطع فهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ويذكرون في كونه موجباً بذاته وفاعلاً بمشيئته وقدرته قولين فاسدين أحدهما قول من يقول المتفلسفة وان معلوله يجب ان يكون مقارناً له في الزمان أزلاً وأبداً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 وهذا القول من أفسد أقوال بني آدم فإنه يستلزم ان لا يحدث في العالم حادث فإنه إذا كانت علة تامة ازلية ومعلولها معها والعالم كله معلوله إما بواسطة وإما بغير واسط لزم ان لا يكون في العالم شيء إلا أزلياً فلا يكون في العالم شيء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة. ثم إنهم لما أثبتوا الواجب بالممكن إنما استدلوا على الممكن بالحادث الذي يفتقر إلى محدث فإن لم يكن في العالم حادث بطل الإمكان الذي به أثبتوا الواجب ولزم إما أن لا يكون في العالم واجب الوجود ولا ممكن الوجود وهو إخلاء للوجود عن النقيضين وإما أن يكون جميعه واجب الوجود فيكون الحادث الذي كان بعد أن لم يكن واجب الوجود. وأيضاً فإذا كان المعلول لا يكون إلا مع علته التامة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث إلا مع تمام علته ولم يحدث حين حدوثه ما يوجب حدوث علة تامة له وغن قدر حدوث ذلك لزم حدوث تمام علل ومعلولات في آن واحد وهو تسلسل في العلل وذلك معلوم الفساد بصريح العقل واتفاق العقلاء بخلاف تسلسل الحوادث المتعاقبة وهو أنه لا يكون حادث إلا بعد حادث فهذا فيه نزاع مشهور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 والناس فيه على أربعة أقوال قيل يمتنع في الماضي والمستقبل كقول جهم وابي الهذيل ولهذا قال الجهم بفناء الجنة والنار وقال أبو الهذيل بفناء حركاتهما. وقيل: يمتنع في الماضي دون المستقبل، وهو قول كثير من طوائف أهل الكلام، كأكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم. وقيل: يجوز فيهما فيما هو مفتقر إلى غيره كالفلك، سواء قيل: إنه محتاج إلى مبدع، كقول أبن سينا وأتباعه، أو قيل: إنه محتاج إلى ما يتشبه به كقول أرسطو وأتباعه. وقيل: يجوز فيهما، لكن لا يجوز ذلك فيما سوى الرب، فإنه مخلوق مفعول، وحوادثه القائمة به لا تحصل إلا من غيره، فهو محتاج في نفسه وحوادثه إلى غيره، والمحتاج لا يكون إلا مربوبا، والمربوب لا يكون إلا مخلوقاً محدثاً، والمحدث لا يقوم به حوادث لا أول لها، فغن ما لم يسبق الحادث المعين والحوادث المحدودة فهو محدث مثلها باتفاق العقلاء، إذ لو كان لم يسبقها فإما أن يكون معها أو بعدها، وعلى التقديرين فهو حادث، بخلاف الرب القديم الأزلي الواجب بنفسه، فإنه إذا كان لم يزل متكلماً إذا شاء فعالاً لما يشاء، كان ذلك من كماله، وكان هذا كما قاله أئمة السنة والحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 والثاني: قول من يقول: انه فاعل مختار، لكنه يفعل بوصف الجواز، فيرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح، إما بمجرد كونه قادراً، أو لمجرد كونه قادراً عالماً، أو لمجرد إرادته القديمة التي ترجج مثلا على مثل بلا مرجح، ويقولون: إن الحوادث تحدث بعد أن لم تكن حادثة من غير سبب يوجب الحدوث، فيقولون بتراخي الأثر عن المؤثر التام. وهذا وإن كان خيراً من الذي قبله ولهذا ذهب إليه طوائف من أهل الكلام ففساده أيضاً بين فإنه إذا قيل: إن المؤثر التام حصل مع تراخي الأثر عنه، وعند حصول الأثر لم يحصل ما يوجب الحصول، كان حاله بعد حصول الأثر وقبله حالا واحدة متشابهة، ثم اختص أحد الحالين بالأثر من غير ترجيح مرجح، وحدوث الحادث بلا سبب حادث وهذا معلوم الفساد بصريح العقل. والقول الثالث: قول أئمة السنة: إنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاء الله وجب بمشيئته وقدرته، وما لم يشأه امتنع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 لعدم مشيئته له، فهو موجب بمشيئته وقدرته، لا بذات خالية عن الصفات، وهو موجب له إذا شاءه، لا موجب له في الأزل، كما قال {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} يس 82: وهذا الإيجاب مستلزم لمشيئته وقدرته، لا مناف لذلك، بل هو سبحانه يخلق ما يشاء ويختار، فهو فاعل لما يشاؤه إذا شاء، وهو موجب له بمشيئته وقدرته. والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 الوجه العشرون متابعة الملاحدة للنفاة في إنكار النصوص وتأويلها أن نقول: ما سلكه هؤلاء نفاة الصفات من معارضة النصوص الإلهية بآرائهم هو بعينه الذي احتج به الملاحدة الدهرية عليهم في إنكار ما أخبر اله به عباده من أمور اليوم الآخر، حتى جعلوا ما أخبرت به الرسل عن الله وعن اليوم الآخر لا يستفاد منه علم، ثم نقلوا ذلك إلى ما أمروا به من الأعمال كالصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج فجعلوها للعامة دون الخاصة فآل الأمر بهم إلى أن ألحدوا في الأصول الثلاثة التي اتفقت عليها الملل كما قال تعالى {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} البقرة 62. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 فأفضى الأمر بمن سلك سبيل هؤلاء إلى الإلحاد في الإيمان بالله واليوم والآخر والعمل الصالح، وسرى ذلك في كثير من الخائضين في الحقائق، من أهل النظر والتأله من أهل الكلام والتصوف، حتى آل الأمر بملاحدة المتصوفة كابن عربي صاحب فصوص الحكم وأمثاله إلى أن جعلوا الوجود واحداً، وجعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق وهذا تعطيل للخالق. وحقيقة قولهم فيه مضاهاة لقول الدهرية الطبيعية الذين لا يقرون بواجب أبدع الممكن، وهو قول فرعون، ولهذا كانوا معظمين لفرعون. ثم إنهم جعلوا أهل النار يتنعمون فيها، كما يتنعم أهل الجنة في الجنة، فكفروا بحقيقة اليوم الآخر، ثم ادعوا أن الولاية أفضل من النبوة، وأن خاتم الأولياء وهو شيء لا حقيقة له زعموا أنه أفضل من خاتم الأنبياء، بل ومن جميع الأنبياء وأنهم كلهم يستفيدون من مشكاته العلم بالله، الذي حقيقته عندهم أن وجود المخلوق هو وجود الخالق. وكان قولهم كما يقال لمن قال: فخر عليهم السقف من تحتهم، لا عقل ولا قرآن، فإن المتأخر يستفيد من المتقدم دون العكس، والأنبياء أفضل من غيرهم، فخالفوا الحس والعقل مع كفرهم بالشرع. وآخر تحقيقهم استحلال المحرمات وترك الواجبات، كما كان يفعل أبرع محققيهم: التلمساني وأمثاله. هذا وشيوخ التصوف المشهورون من أبرأ الناس من هذا المذهب، وأبعدهم عنه، وأعظمهم نكيراً عليه وعلى أهله. وللشيوخ المشهورين بالخير، كالفضل بن عياض وأبي سليمان الداراني والجنيد بن محمد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 وسهل بن عبد الله التستري وعمر بن عثمان المكي وأبي عثمان النيسابوري وأبي عبد الله بن خفيف الشيرازي ويحيى بن معاذ الرازي وأمثالهم من الكلام في إثبات الصفات والذم للجهمية والحلولية مالا يتسع هذا الموضع لعشره. بل قد قيل للشيخ عبد القادر الجيلي قدس الله روحه هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟ فقال: لا كان ولا يكون والاعتقاد إنما أضيف إلى أحمد لأنه أظهره وبينه عند ظهور البدع وإلا فهو كتاب الله وسنة ورسوله حظ أحمد منه كحظ غيره من السلف: معرفته والإيمان به وتبليغه والذب عنه كما قال بعض أكابر الشيوخ الاعتقاد لمالك والشافعي ونحوهما من الأئمة والظهور لأحمد ابن حنبل. وذلك لأنه كان بعد القرون الثلاثة، لما ظهرت بدعة الجهمية ومحنتهم المشهورة، وأرادوا إظهار مذهب النفاة وتعطيل حقائق الأسماء والصفات، ولبسوا على من لبسوا عليه من الخلفاء ثبت الله الإسلام والسنة بأحمد بن حنبل وغيره من أئمة الدين فظهرت بهم السنة وطفئت بهم نار المحنة، فصاروا علماً لأهل الإسلام، وأئمة لمن بعده من علماء المسلمين: أهل السنة والجماعة وصار كل منتسب إلى السنة لا بد أن يواليه وإياهم، ويوافقهم في جمل الاعتقاد، إذ كان ذلك اعتقاد أهل الهدى والرشاد، المعتصمين بالكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين، والتابعين لهم بإحسان. وأئمة السنة ليسوا مثل أئمة البدعة، فإن أئمة السنة تضاف السنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 إليهم لأنهم مظاهر بهم ظهرت، وأئمة البدعة تضاف إليهم لأنهم مصادر عنهم صدرت. ولهذا كان جمل الاعتقاد الذي يذكره أهل المقالات عن أهل السنة والجماعة هو قول أحمد وأمثاله من أئمة السنة كلام الأشعري في الإبانة عن متابعته للإمام أحمد ولهذا قال أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة فإن قال قائل: قد أنكرتم قول الجهمية والقدرية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي بها ندين: التمسك بكتاب ربنا، وسنة نبينا، وبما روي عن الصحابة والتابعين، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد أحمد بن حنبل قائلون، ولما خالف قوله مجانبون، فإنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 الله به الحق، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام معظم، وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين. والمقصود هنا ان صفوة أولياء الله تعالى الذين لهم في الأمة لسان صدق، من سلف الأمة وخلفها، هو على مذهب أهل السنة والجماعة، أهل الإثبات للأسماء والصفات، وهم من أبعد الناس عن مذهب أهل الإلحاد، من أهل الحلول والوحدة والاتحاد، وإن كان كثير من متأخري الصوفية دخلوا في مذهب الإباحة والحلولية، وخلطوا التصرف بالفلسفة اليونانية، كما خلطه بعضهم بشيء من أقوال أهل الكلام الجهمية. ومبدأ هذا من أقوال الذين يعارضون النصوص بآرائهم، كما ذكر الشهرستاني في أول كتابه في الملل والنحل أن مبدأ انواع كل الضلالات هو من تقديم الرأي على النص واختيار الهوى على الشرع، فسرى في المنتسبين إلى لا علم والدين، من أهل الفقه والكلام والتصوف من أقوال الملاحدة بسبب هذا الأصل مالا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 يعلمه إلا الله. وأما ملاحدة الشيعة من القرامطة الباطنية والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم فأولئك أمرهم أظهر من أن يخفى على من عرف حالهم ممن فيه نوع إيمان بالله ورسوله ولهذا كثر الكاشفون لأسرارهم، الهاتكون لأستارهم، من جميع أصناف أهل القبلة، حتى الشيعة والمعتزلة ونحوهم فإنهم متفقون على تكفيرهم، كما اتفق على تكفيرهم أئمة السنة، ومن انتسب إليهم من متكلمة الإثبات وغيرهم. وصنف القاضي أبو بكر كتابه المشهور فيهم، ووصف فضائحهم القاضي عبد الجبار والقاضي أبو يعلي وأبو الوفا بن عقيل، وأبو حامد الغزالي والشهرستاني، والخبوشاني وغير واحد من العلماء وتكلموا في العبيديين الذين كانوا بالمغرب ومصر الذين ادعوا النسب العلوي، وأضمروا مذهبهم تكلموا فيهم بما بينوا فيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 بطلان نسبهم، كما عرفوا بطلان مذهبهم، وأن باطن مذهبهم أعظم كفراً من أقوال كفار أهل الكتاب، ومن أقوال الغالية الذين يدعون نبوة علي أو إلهيته ونحوهم إذ كان مضمون مذهبهم: تعطيل الخالق، وتكذيب رسله والتكذيب باليوم الآخر وإبطال دينه. وقد ذكروا منتهى دعوتهم في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي لهم، وأن أقرب الطوائف إليهم الفلاسفة مع أنهم خالفوا الفلاسفة في إثبات واجب الوجود فإن الفلاسفة الإلهيين يثبتونه وهؤلاء أصحاب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم أنكروه، كما فعلت الدهرية الطبيعية. وقول الاتحادية كصاحب الفصوص وأمثاله يؤول إلى قول هؤلاء وهو القول الذي أزهره فرعون وأما المشاؤون أرسطو وأتباعه ومن اتبعهم من المتأخرين: كالفارابي وابن سينا وأمثالهم فهم يقرون بالعلة الأولى المغايرة لوجود الأفلاك لكن دليلهم الذي احتجوا به على الطبيعيين منهم هو دليل الحركة الذي احتج به أرسطو وقدماؤهم، أو دليل الوجود الذي احتج به أبن سينا ومتأخروهم، وهو منهم دليل ضعيف، إذ مبناه على حجة التركيب وهي حجة ضعيفة كما قد بين في غير هذا الموضع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 وكان أهل بيت ابن سينا من أتباع هؤلاء القرامطة، من المستجيبين للحاكم الذي كان بمصر. قال ابن سينا: وبسبب ذلك دخلت في الفلسفة. كما كان أصحاب رسائل إخوان الصفا من الموافقين لهم، وصنف الرسائل على طريقتهم في الزمان الذي بنيت فيه القاهرة في أثناء المائة الرابعة، وكان أمر المسلمين قد اضطرب ف يتلك المدة اضطراباً عظيماً. كلام ابن سينا في الرسالة الأضحوية والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة يحتجون على النفاة بما وافقوهم عليه من نفي الصفات والإعراض عن دلالة الآيات، كما ذكر ذلك أبن سينا في الرسالة الأضحوية التي صنفها في المعاد لبعض الرؤساء الذين طلب تقربه إليهم ليعطوه مطلوبة منهم من الجاه والمال، وصرح بذلك في أول هذه الرسالة. قال فيها لما ذكر حجة من أثبت معاد البدن، وان الداعي لهم إلى ذلك ما ورد به الشرع من بعث الأموات فقال: وأما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد: وهو أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 الشرع والملة الآتية على نبي من الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافة ثم من المعلوم الواضح أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد: من الإقرار بالصانع: موحداً مقدساً عن الكم، والكيف والأين، ومتى، والوضع، والتغير، حتى يصير الاعتقاد به أنه ذات واحدة، لا يمكن أن يكون لها شريك في النوع ولا داخلة فيه، ولا حيث تصح الإشارة إليه أنه هنا أو هناك: ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور، ولو ألقي هذا على هذه الصورة إلى العرب العاربة أو العبرانيين الأجلاف، لتسارعوا إلى العناد، واتفقوا على أن الإيمان المدعو إليه إيمان بمعدوم أصلاً. ولهذا ورد ما في التوراة تشبيهاً كله، ثم إنه لم يرد في الفرقان من الإشارة إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 هذا الأمر الأهم شيء، ولا إلى صريح ما يحتاج إليه في التوحيد بيان مفصل، بل إلى بعضه على سبيل التشبيه في الظاهر، وبعضه جاء تنزيها مطلقاً عاماً جداً، لا تخصيص ولا تفسير له. وأما الأخبار التشبيهية فأكثر من أن تحصى، ولكن لقوم أن لا يقبلوه، فإذا كان الأمر في التوحيد هذا، فكيف فيما هو بعده من الأمور الاعتقادية؟ ولبعض الناس أن يقولون: إن للعرب توسعاً في الكلام ومجازاً، وان الألفاظ التشبيهية مثل: اليد والوجه والإتيان في ظلل من الغمام والمجيء، والذهاب، والضحك، والحياء، والغضب صحيحة ولكن نحو الاستعمال وجهة العبارة يدل على استعمالها مستعارة مجازاً. قال ويدل على استعمالها غير مجازية ولا مستعارة بل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 محققة أن المواضع التي يوردونها حجة في أن العرب تستعمل هذه المعاني بالاستعارة والمجاز على غير معانيها الظاهرة، مواضع في مثلها يصلح أن تستعمل على غير هذا الوجه ولا يقع فيها تلبيس ولا تدليس وأما قوله {في ظلل من الغمام} البقرة 210 وقوله {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} الأنعام 158 على القسمة المذكورة، وما جرى مجراه، فليس تذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية. فإن كان أريد فيها ذلك إضماراً فقد رضي بوقوع الغلط والشبهة والاعتقاد المعوج بالإيمان بظاهرها تصريحا وأما قوله {يد الله فوق أيديهم} الفتح 10 وقوله {ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 فرطت في جنب الله} الزمر 56 فهو موضع الاستعارة والمجاز والتوسع في الكلام، ولا يشك في ذلك اثنان من فصحاء العرب ولا يلتبس على ذي معرفة في لغتهم كما يلتبس في تلك الأمثلة فإن هذه الأمثلة لا يقع شبهة في أنها مستعارة مجازية كذلك في تلك لا يقع شبهة في أنها ليست استعارية ولا مراداً فيها شيء غير الظاهر. ثم ذهب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة، فأين التوحيد؟ والعبارة المشيرة بالتصريح إلى التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدين القيم المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة؟ وقد قال في ضمن كلامه إن الشريعة الجائية على لسان نبينا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 محمد صلى الله عليه وسلم جاءت أفضل ما يمكن أن تجئ عليه الشرائع وأكمله، ولهذا صلح أن تكون خاتمة الشرائع وآخر الملل. قال: وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المشيرة إلى علم التوحيد: مثل أنه عالم بالذات أو عالم بعلم قادر بالذات أو قادر بقدرة واحد الذات على كثرة الأوصاف أو قابل لكثرة تعالى عنها بوجه من الوجوه، متحيز الذات، أو منزهها عن الجهات؟ فإنه لا يخلو: إما أن تكون هذه المعاني واجباً والروية فيها فإن كان البحث عنها معفوا عنه، وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذ به، فجل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف، وعنه غنية وإن كان فرضاً محكما فواجب أن يكون مما صرح به في الشريعة وليس التصريح المعمى أو الملبس أو المقتصر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 فيه بالإشارة والإيماء. بل التصريح المستقصي فيه، والمنبه عليه: والموفي حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف على معانيه، فإن المبرزين المنفقين أيامهم ولياليهم وساعات عمرهم على تمرين أذهانهم وتذكية أفهامهم، وترشيح نفوسهم، لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة، يحتاجون في تفهم هذه ولعمري لو كلف الله رسولاً من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أوهامهم، ثم سامه أن يتنجز منهم الإيمان والإجابة غير مهمل فيه، ثم سامه أن يتولى رياضة نفوس الناس قاطبة، حتى تستعد للوقوف عليها، لكلفه شططاً وأن يفعل ما ليس في قوة البشر اللهم إلا أن تدركهم خاصة إلهية، وقوة علوية وإلهام سماوي، فتكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 حينئذ وساطة الرسول مستغى عنها، وتبليغه غير محتاد إليه. ثم هبك الكتاب العزيز جائياً على لغة العرب وعادة لسانهم في الاستعارة والمجاز، فما قولهم في الكتاب العبراني، وكله من أوله إلى آخره تشبيه صرف؟ وليس لقائل أن يقول: إن ذلك الكتاب محرف كله وأنى يحرف كلية كتاب منتشر في أمم لا يطاق تعديدهم، وبلادهم متنائية وأوهامهم متباينة منهم يهود ونصارى وهم أمتان متعاديتان؟ فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون مقرباً مالا يفهمون إلى أوهامهم بالتمثيل والتشبيه ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع البتة. قال فكيف يكون ظاهر الشرائع حجة في هذا الباب يعني أمر المعاد واو فرضنا الأمور الأخروية روحانية غير مجسمة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 بعيدة عن إدراك بدائة الأذهان لحقيقتها. لم يكن سبيل الشرائع في الدعوة إليها والتحذير عنها منبهاً بالدلالة عليها. بل بالتعبير عنها بوجوه من التمثيلات المقربة إلى الإفهام. فكيف يكون وجود شيء حجة على وجود شيء آخر. لو لم يكن الشيء الآخر على الحالة المفروضة لكان الشيء الأول على حالته فهذا كله هو الكلام على تعريف من طلب أن يكون خاصا من الناس لا عاماً أن ظاهر الشرائع غير محتج به في مثل هذه الأبواب. قلت فهذا كلام ابن سينا وهو ونحوه كلام أمثاله من القرامطة الباطنية مثل صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثاله من الملاحدة والكلام على هذا من فنين: أحدهما: بيان لزوم ما ألزمه لنفاة الصفاة الذين سموا نفيها توحيداً من الجهمية المعتزلة وغيرهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 والثاني بيان بطلان كلامه وكلامهم الذي وافقوهم عليه. أما الأول فإن هؤلاء وافقوه على نفي الصفات وأن التوحيد الحق هو توحيد الجهمية المتضمن أن الله لا علم له ولا قدرة ولا كلام ولا رحمة ولا يرى في الآخرة ولا هو فوق العالم فليس فوق العرش إله، ولا على السماوات رب ومحمد لم يعرج به إلى ربه. والقرآن أحسن أحواله عندهم أن يكون مخلوقاً خلقه في غيره أن لم يكن فيضاً فاض على نفس الرسول، وأنه سبحانه لا ترفع اليدي إليه بالدعاء، ولم يعرج شيء إليه ولم ينزل شيء منه: لاملك ولا غيره ولا يقرب أحد إليه ولا يدنو منه شيء، ولا يتقرب هو من أحد، ولا يتجلى لشيء، وليس بينه وبين خلقه حجاب وأنه لا يحب ولا يبغض ولا يرض ولا يغضب، وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا مبايناً للعالم ولا حالاً فيه، وإنه لا يختص شيء من المخلوقات بكونه عنده، بل كل الخلق عنده بخلاف قوله تعالى {وله من في السماوات والأرض ومن عنده} الأنبياء 19. وأنه إذا سمي حياً عالماً قادراً سميعاً بصيراً فهو حي بلا حياة عالم بلا علم، قادر بلا قدرة سميع بلا سمع بصير بلا بصر إلى أمثال هذه الأمور التي يسمي نفيها الجهمية توحيداً ويلقبون أنفسهم بأهل التوحيد، كما يلقب الجهمية من المعتزلة وغيرهم أنفسهم بذلك وكما لقب ابن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 التومرت أصحابه بذلك إذ كان قوله في التوحيد قول نفاة الصفات جهم وابن سينا وأمثالهما. ويقال إنه تلقى ذلك عن من يوجد في كلامه موافقة الفلاسفة تارة ومخالفتهم أخرى. ولهذا رأيت لابن التومرت كتاباً ف بالتوحيد صرح فيه بنفي الصفات ولهذا لم يذكر في مرشدته شيئاً من إثبات الصفات، ولا أثبت الرؤية ولا قال إن القرآن كلام الله غير مخلوق ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها في عقائدهم المختصرة، ولهذا كان حقيقة قوله موافقاً لحقيقة قول ابن سبعين وأمثاله من القائلين بالوجود المطلق، موافقة لابن سينا وأمثاله من أهل الإلحاد، كما يقال إن أن التومرت ذكره في فوائده المشرقية إن الوجود مشترك بين الخالق والمخلوق فوجود الخالق يكون مجرداً ووجود المخلوق يكون مقيداً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 والمقصود أن هؤلاء لما سموا هذا النفي توحيداصوهي تسمية ابتدعها الجهمية النفاة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا أحد من السلف والأئمة بل أهل الإثبات قد بينوا أن التوحيد لا يتم إلا بإثبات الصفات وعبادة الله وحده لا شريك له، كما ذكر الله ذلك في سورتي الإخلاص وعامة آيات القرآن فلما وافقه هؤلاء الجهمية من المعتزلة وغيرهم على نفي الصفات وأن هذا هو التوحيد الحق احتج عليهم بهذه المقدمة الدلية على أن الرسل لم يبينوا ما هو الحق في نفسه من معرفة توحيد الله تعالى ومعرفة اليوم الآخر ولم يذكروا ما هو الذي يصلح أو يجب على خاصة بني آدم وأولو الألباب منهم أن يفهموه ويعقلوه ويعلموه من هذا الباب، وأن الكتاب والسنة والإجماع لا يحتج بها في باب الإيمان بالله واليوم الآخر، لا في الخلق ولا البعث لا المبدأ ولا المعاد، وأن الكتب الإلهية غنما أفادت تخييلاً تنفع به العامة، لا تحقيقاً يفيد العلم والمعرفة وأن أعظم العلوم وأجلها وأشرفها وهو العلم بالله لم تبينه الرسل أصلاً ولم تنطق به ولم تهد إليه الخلق بل ما بينت لا معرفة الله ولا معرفة المعاد، لا ما هو الحق في الإيمان بالله، ولا ما هو الحق في الإيمان باليوم الآخر، بل ليس عندهم في كلام الله ورسوله من هذا الباب علم ينتفع به أولو الألباب، وإنما فيه تخييل وإبهام ينتفع به جهال العوام. ولما كان هذا حقيقة قول الملاحدة القرامطة الباطنية صاروا يجعلون أحد رؤوسهم مثل الرسول أو أعظم من الرسول ويسوغون له نسخ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما زعموا أن محمد ابن إسماعيل بن جعفر نسخ شريعته. وصار كل من هؤلاء يدعي النبوة والرسالة أو يريد أن يفصح بذلك لولا السيف كما فعل السهروردي المقتول فإنه كان يقول لا أموت حتى يقال لي: قم فأنذر وكان ابن سبعين يقول: لقد زرب أبن آمنة حيث قال: لا نبي بعدي ويقال إنه كان يتحرى غار حراء لينزل عليه فيه الوحي. وابن عربي ادعى ما هو أعظم من النبوة عنده، وهو ختم الولاية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 وخاتم الأولياء عنده أفضل من خاتم الأنبياء في العلم بالله، وهو يقول إن جميع الأنبياء والرسل يستفيدون من مشكاة هذا الخاتم المدعي بمعرفة الله التي حقيقتها وحدة الوجود، وهي تعطيل الصانع سبحانه التي هي سر قول فرعون. وأما أئمة القرامطة والإسماعلية كابن الصباح الذين تلقوا أركان الدعوة عن المستنصر أطول خلفائهم مدة، وفي زمنه كانت فتنة البساسيري وأمثاله، وأما سنان وأمثاله من الملاحدة فتظاهروا بإظهار الكفر بين أصحابهم وقالوا قد أبحنا لكم كل ما تشتهونه من فرج وشراب عنكم ونسخنا عنكم العبادات، فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 وهذه الحجة التي احتج بها هؤلاء الملاحدة على نفاة الصفات لإثبات إلحادهم هي من حجج أهل الإثبات عليهم لإثبات إيمانهم فإن الله سبحانه أخبر أنه {أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} التوبة: 33 وقال تعالى {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم} إبراهيم: 1. وقال تعالى {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} المائدة: 15 -16، وقال تعالى {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض} الشورى: 52 - 53، وقال تعالى {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} البقرة: 1-2 وقال تعالى {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} النحل: 89 وقال تعالى {ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء} يوسف: 111 وقال تعالى {قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} النساء: 174 وقال تعالى {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 الأعراف: 157، وقال تعالى {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} العنكبوت: 18، وقال تعالى {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} النحل: 44، وقال تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم} المائدة: 3، وقال تعالى {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} التوبة: 115. وأمثال هذه النصوص التي تبين أن الرسول هدى الخلق وبين لهم، وانه أخرجهم من الظلمات إلى النور، لا أنه لبس عليهم وخيل، وكتم الحق فلم يبينه ولم يهد إليه، لا للخاصة ولا للعامة فإنه من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتكلم مع أحد بما يناقض ما أظهره للناس، ولا كان خواص أصحابه يعتقدون فيه نقيض ما أظهره للناس بل كل من كان به أخص وبحاله أعرف كان اعظم موافقة له وتصديقاً له على ما أظهره وبينه فلو كان الحق في الباطن خلاف ما أظهره للزم إما أن يكون جاهلاً به أو كاتماً له عن الخاصة والعامة، ومظهراً خلافه للخاصة والعامة. وكل من كان عارفاً بسنته وسيرته علم أن ما يروى خلاف هذا فهو مختلق كذب مثل ما يذكره بعض الرافضة عن علي انه كان عنده علم خاص باطن يخالف هذا الظاهر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة التي لا يتنازع أهل المعرفة في صحتها عن علي رضي الله عنه أنه لما قيل له هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً كتمه عن غيرنا إلا فهماً يؤتيه الله لعبد في كتابه وما في هذه الصحيفة وفيها عقول الديات وفكاك الأسير أن لا يقتل مسلم بكافر وفي لفظ في الصحيح هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة الحديث. وقد اجمع أهل المعرفة بالمنقول على أن ما يروى عن علي وعن جعفر الصادق من هذه الأمور التي يدعيها الباطنية كذب مختلق ولهذا كانت ملاحدة الشيعة والصوفية يسبون إلحادهم إلى علي وهو بريء من ذلك فأهل البطاقة من أهل الإلحاد ينسبون ذلك إلى علي وكذلك باطنية الشيعة من الإسماعلية والنصيرية وكذلك جعفر الصادق نسبوا إليه من الكلام في المجوم واختلاج الأعضاء والتفاسير المحرفة وأنواع الباطل ما برأه الله منه، حتى رسائل إخوان الصفا زعم بعض رؤوسهم أنها كلامه وهذه إنما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 فيها من حوادث الإسلام التي حدثت بعد المائة الثالثة مثل دخول النصارى بلاد الإسلام ونحو ذلك ما يبين إنها صنفت بعد جعفر بنحو مائتي سنة. ومن هذا الباب ما ينقله آخرون عن عمر رضي الله عنه أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان كالزنجي بينهم، فهذا وأمثاله من الكذب المختلق باتفاق أهل المعرفة. وملاحدة الزهاد والعباد وجهالهم يرون من هذه الأمور فنوناً مثل روايتهم أن أهل الصفة قاتلوا مع الكفار النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يكن النصر معه ليحتجوا بذلك على أن العارف يكون مع من غلب وإن كان كافراً ويروون أن أهل الصفة عرفهم الله تعالى بالسر الذي اوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم صبيحة المعراج الأباطيل لم يكونوا خبيرين بالكذب فإن الصفة إنما كانت بالمدينة والمعراج كان بمكة بالنص والإجماع وقد علم كل عالم يعلم سيرة النبي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 صلى الله عليه وسلم بالاضطرار أن أهل الصفة كانوا كسائر المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم وانه لم يكن لأحد من الصحابة إلى الله طريق إلا متابعة رسوله وان أفضل الصحابة كان أقومهم بالمتابعة كأبي بكر وعمر وأبو بكر أفضل من عمر رضي الله عنهما وهو أفضل الصديقين. وقد ثبت في الصحيحين انه قال إنه قد كان في الأمم قبلك محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر. فعمر وإن كان محدثاً فالصديق الذي يأخذ من مشكاة النبوة أفضل منه واكمل منه لأن ما استقر مجيء الرسول به فهو معصوم لا يتطرق إليه الخطأ وما يلقي إلى المحدث يقع فيه خطأ يحتاج إلى تقويمه بنور النبوة ولهذا كان أبو بكر يقوم عمر يرى أشياء ثم يتبين له الحق بخلافها كما جرى له هذا في عدة مواطن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 وهذا وأمثاله مما يبين حاجة أفضل الخلق بعد الرسول واكملهم إلى الاهتداء بالرسول والتعلم منه ومعرفة الحق مما جاء به فكيف بمن يقول ليس في كلامه في معرفة الله واليوم الآخر علم ولا هدى ولا معرفة ينتفع بها أولو اللباب الذين هم دون عمر وأمثال عمر؟ وقد قال الله تعالى {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} النساء: 59. وكيف يحكم بين الناس في مواطن الخلاف والنزاع كلام وخطاب ليس فيه علم ولا هدى ينتفع به أولو الألباب؟ كما زعم هؤلاء الملاحدة من الفلاسفة المشائين المتأخرين وأتباعهم أن الشرائع لا يحتج بها في مثل هذه الأبواب فما لا يحتج به كيف يحتج به الناس فيما اختلفوا فيه؟ وأي اختلاف أعظم من اختلافهم في اعظم الأمور وهي معرفة الله تعالى واليوم الآخر لا سيما ومن المعلوم أن الخلاف الحقيقي إنما يكون في الأمور العلمية والقضايا الخيرية التي لا تقبل النسخ والتغيير فأما العمليات التي تقبل النسخ والتغيير فأما العمليات التي تقبل النسخ فتلك تتنوع في الشريعة الواحدة فكيف بالشرائع المتنوعة؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 وما جاز تنوعه لم يكن الخلاف فيه له حقيقة فإنه إن كانا مشروعين في وقتين أو رسولين فكلاهما حق وإن كان الخلاف في المشروع منهما أيهما هو فهذا يعلم بالخبر المنقول عن الكتاب المنزل والكتاب المنزل هو نفس الأمر والنهي والخبر وفيه الشرع الذي لا يكون خلافه شرعا. وحينئذ فما ذكره ابن سينا وأمثاله من أنه لم يرد في القرآن من الإشارة إلى توحيدهم شيء فكلام صحيح، وهذا دليل على أنه باطل لا حقيقة له، وأن من وافقهم عليه فهو جاهل ضال. وكذلك ما ذكره من أن من المواضع ما لا يحتمل اللفظ فيها إلا معنى واحداً لا يحتمل ما يدعونه من الاستعارة والمجاز كما ذكر في قوله تعالى {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} البقرة: 21، وقال تعالى {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} الأنعام: 158 على القسمة المذكورة وانه ليس تذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية فإن كان أريد بها ذلك إضماراً فقد رضي بوقوع الغلط والشبهة فهذا حجة على من نفى مضمون ذلك من نفاة الصفات وهو حجة عليه وعليهم جميعاً وموافقتهم له لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 تنفعه فإن ذلك حجة جدلية لا علمية إذ تسليمهم له ذلك لا يوجب على غيرهم أن يسلم ذلك له فإذا بين بالعقل الصريح ما يوافق النقل الصحيح دل ذلك على فساد قوله وقولهم جميعاً. وكذلك قوله ثم هب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين التوحيد والدلالة بالتصريح على التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدين القيم المعترف بجلالته على لسان الحكماء قاطبة؟ كلام صحيح لو كان ما قاله النفاة حقاً فإنه حينئذ على قولهم لا يكون التوحيد الحق قد يبين أصلاً وهذا التوحيد لينقاد لهم الجمهور في صلاح دنياهم. وقد بينا في غير موضع توحيد ابن سينا وأمثاله وبينا أنه من أفسد الأقوال التي بصريح العقل فساده ولنا في ذلك مفرد مكتوب في غير هذا الموضع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 وأما قوله وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المشيرة إلى علم التوحيد مثل انه عالم بالذات أو عالم بعلم أو قادر بالذات أو قادر بقدرة إلى آخره فهو خطاب لمن وافقه على ضلاله وإلحاده حيث ظن أن التعطيل هو التوحيد وان الباري تعالى لا علم له ولا قدرة ولا صفات. فأما من لم يوافقه على خطئه فإنه يعلم أن الكتاب بين دقائق التوحيد الحق الذي جاءت به السل ونزلت به الكتب على احسن وجه. فإن الله تعالى أخبر عن صفاته وأسمائه بما لا يكاد يعد من آياته وذكر علمه في غير موضع. كقوله تعالى {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} البقرة: 255. وقوله تعالى {أنزله بعلمه} النساء: 166. وقوله تعالى {وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} فصلت: 47 وغير ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 وقد قال تعالى {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} الذاريات: 58. وقال تعالى {والسماء بنيناها بأيد} الذاريات: 47، أي بقوة وقال تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} فصلت: 15 وفي الحديث الصحيح حديث الاستخارة اللهم إني استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك، فأي بيان لعلم الله وقدرته أبين من هذا؟ وأما قول القائل هنا هو عالم بالذات أو عالم بعلم فغن كان يظن أن الذات التي تكون إلا عالمة قادرة يمكن وجودها مجردة عن العلم والقدرة كما يقوله النفاة فهو كلام ضال متناقض فغن إثبات عالم بلا علم وقادر بلا قدرة، وحي بلا حياة وسميع بلا سمع وبصير بلا بصر مما يعلم فساده بالضرورة عقلاً وسمعاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 وهذا بمنزلة متكلم بلا كلام ومريد بلا إرادة ومتحرك بلا حركة ومحب بلا محبة ومصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وحاج بلا حج، وأبيض بلا بياض، وأسود بلا سواد، وحلو بلا حلاوة، ومر بلا مرارة، وطويل بلا طول، وقصير بلا قصر، ونحو ذلك من الألفاظ المشتقة: كاسم الفاعل، واسم الفعول، والصفة المعدولة عنهما. فإن لم يكن هذا باطلاً في بدائه العقول عقلاً وسمعاً لم يكن لنا طريق إلى معرفة الحق من الباطل، ولهذا كان هؤلاء النفاة يعودون في آخر الأمر إلى السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات. وغن كان معنى قوله هل هو عالم بالذات أو بعلم ان هنا ذاتاً مجردة موجودة بدون العلم وان العلم زائد عليها ن فهذا تصور فاسد فإن الذات المجردة عن العلم اللازم لها غنما تقدر في الأذهان، لا حقيقة لها في الأعيان. ولفظ الذات يراد به الذات الموصوفة بالعلم وحينئذ فقولنا هل هو عالم بالذات أو بالعلم كلام واحد لأن لفظ الذات متضمن للعلم على هذا التفسير، فلا يكون قولنا أو بالعلم قسماً آخر. ويراد بالذات المجردة عن العلم فهذه لا حقيقة لها إذا كانت الذات لاتكون إلا عالمة، كما أن ما لا يكون إلا حياً لا يمكن وجوده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 منفكاً عن كونه حياً وما لا يكون إلا متحيزاً لا يمكن وجوده منفكاً عن التحيز فما لا يمكن وجوده إلا عالماً وقادراً ويمتنع وجوده غير عالم قادر كيف يكون تقديره غير عالم ولا قادر ممكناً في الخارج؟ ونفس العلم والقدرة هو نفس كونه عالماً قادراً على قول الجمهور، الذين ينفون أن تكون الأحوال زائدة في الخارج على الصفات ومن أثبت الأحوال زائدة على الصفات كالقاضي أبي بكر وأبي يعلى وأبي المعالى في أول قوليه فهؤلاء يقولون ثبوت الصفات يستلزم ثبوت الأحوال وإثبات الملزوم مع أن الصواب أن الأحوال كالكليات، لها وجود في الأذهان في الأعيان. ومما يبين ذلك أن النزاع في كون الرب تعالى عالماً لذاته أو بالعلم أو قادراً لذاته أو بالقدرة كثير منه نزاع لفظي بل عامة المتنازعين فيه إذا حرر عليهم الكلام لم يتلخص بينهم نزاع وإنما يحصل النزاع بين مثبتة الأحوال ونفاتها فإن أهل الإثبات متفقون على أن علمه وقدرته من لوازم ذاته وانه لا يمكن وجوده غير عالم ولا قادر وينكرون وجود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 ذات مجردة عن العلم والقدرة وإذا قالوا هي زائدة على الذات فلا يعنون أنها زائدة على ذات مجردة عن العلم والقدرة إلا من يقول منهم إن له صفة هي العلم أوجبت كونه عالماً فهؤلاء مثبتوا الحال. وأكثر الصفاتية هم من نفاة الأحوال. وأما النفاة فيسلمون ثبوت الأحكام وهي انه عالم قادر وينازعون في ثبوت الصفات، ويتنازعون بينهم في ثبوت الأحوال ثم الأحكام التي يثبتونها لا يجوز أن يراد بها مجرد حكمنا بأنه عالم قادر واعتقادنا لذلك وخبرنا عنه وهو الوصف بالقول فإن هذا الوصف والحكم إن لم يكن مطابقاً لمضمونه كان باطلاً فكونه حياً عالماً قادراً ليس هو مجرد الحكم بذلك والخبر عنه ووصفه بالقول ولا هو نفس الذات التي هي العالمة القادرة فإن كون الذات حية عالمة قادرة ليس هو نفس الذات فتعين أن يكون هو الصفة. وأئمة المعتزلة يعترفون بذلك لكن يشنعون على الصفاتية بكلام لم يحققوا قولهم فيه بل ذكروا عنهم ما يفهم منه معنى فاسد، إما لكونهم لم يفهموا قول أولئك، أو لكونهم ألزموهم ما ظنوه لازماً لهم أو لنوع من الهوى الموجب للافتراق الذي ذمه الله ورسوله. كلام أبي الحسين البصري في عيون الأدلة واعتبر ذلك بما ذكره أبو الحسين البصري، أفضل متأخري المعتزلة، فإنه قال في كتاب عيون الأدلة قال باب القول في أن الله قديم وحده عندنا أنه لا قديم إلا الله وذهب قوم إلى إثبات قديم أكثر من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 قديم واحد فالكلابية والأشعرية أثبتوا ذواتاً قديمة قائمة بذات الباري تعالى منها ذات توجب أن يكون عالماً ولولاها لم يكن عالماً وذات توجب كونه قادراً ولولاها لم يكن قادراً وذات توجب كونه حياً ولولاها لم يكن حياً وكذلك القول في السمع والبصر والإرادة. وأثبتت كلامه قديماً وقالوا هذه المعاني لا هي الله ولا غيره ولا بعضه وكل منها ليس هو الآخر ولا غيره ولا بعضه وقالوا لو لم يكن في ذات الباري تعالى وحده لكان غير قادر ولا عالم ولا حي وعندنا أن الله تعالى قادر عالم حي لذاته ونعني بذلك أن ذاته متميزة عن سائر الذوات تمييزاً يجب معه أن يعلم الأشياء ويقدر على ما لا نهاية له ويحيا ولا يحتاج إلى معنى به يقدر وإلى معنى به يعلم وإلى معنى به يحيا ولو لم يكن في الوجود إلا ذات الله تعالى فقط لكان عندنا عالماً حياً قادراً سميعاً بصيراً. قال فإن قالوا لله علم وقدرة وحياة قيل لهم إن أردتم بذلك أنه قادر عالم حي فنعم لله علم بكل شيء وقدرة على كل شيء مما لا نهاية له بمعنى أنه عالم قادر حي وإن أردتم بالعلم ذاتاً كان بها عالماً ولولاها ما كان عالماً تسمونها علماً وأردتم بالقدرة ذاتاً بالعلم قادراً تسمونها قدرة وأردتم بالحياة ذاتاً بها كان حياً تسمونها حياة فالله تعالى مستغن عن ذلك. قال وذهبت الثنوية إلى إثبات قديمين لا يقوم أحدهما بذات الآخر نور وظلمة ونسبوا الخير كله إلى النور ونسبوا الشر كله إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 الظلمة وقالوا إنهما لم يزالا متباينين ثم امتزجا فحدث من امتزاجهما العالم فكل خير في العالم فمن النور وكل شر فيه فمن الظلمة ولم يقل أحد بإثبات قديمين مثلين حكيمين ونحن نفسد ذلك وغن لم يذهب إليه ذاهب ومن المجوس من يقول بحدوث الشيطان وقدم الله تعالى وأما النصارى فإنها تقول إن الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم وذهبوا بذلك إلى قريب من مذهب الكلابية ونسخة أمانتهم يعني النصارى تدل على انهم أثبتوا ذواتاً فاعلة. قال ونحن نفسد هذه المذاهب كلها ليصح ما ذهب إليه شيوخنا من أنه لا قديم إلا الله. تعليق ابن تيمية فيقال هذا الكلام يقتضي أنه ليس بينه وبين أئمة الكلابية والأشعرية وسائر الصفاتية خلاف معنوي فأما نقله عنهم أنهم أثبتوا أكثر من قديم واحد وانهم أثبتوا ذاتاً قديمة قائمة بذات الله تعالى فيقال له أما الكلابية ومن سلك سبيلهم من أهل الحديث والفقه كأبي الحسن التميمي وأبي سليمان الخطابي وغيرهما من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، فإنهم لا يقولون عن الصفات وحدها إنها قديمة فلا يقولون العلم قديم ولكن يقولون الرب بعلمه قديم ومن أطلق منهم على الصفات أنها قديمة فلا يقول إن الذات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 والصفات قديمان ومن أطلق القدم على الصفات فإنهم لا يطلقون عليها لفظ الذوات فإن الذات إذا أطلقت يفهم منها أنها الذات القائمة بنفسها الموصوفة بالصفات ولهذا يفرق بين الذات والصفات. وأصل الذات تأنيث ذو ومعناه الصاحبة أي صاحبة الصفة فهم لا يسمون الصفات ذوات بهذا الاعتبار، وإنما يسمونها معاني. وإذا قال بعضهم كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما إن العلة ذات من الذوات موجودة لا يصح أن يوجب الحكم إلا لذات موجودة فمرادهم بذلك أنها شيء موجود كما بينوه بقولهم إن العلة لا يجوز أن تكون معدومة ولا حكمها معدوماً مع أن هذا ينازعهم فيه نفاة الحال. لكن المقصود أن مرادهم بهذا اللفظ ليس هو أنها ذات قائمة بنفسها بل معنى من المعاني وأما نقلك عنهم أنهم يثبتون ذاتاً نوجب أن يكون عالماً ولولاها لما كان عالماً فهذا أولاً ليس هو قول أئمتهم ولا جمهورهم بل هذا قول من يثبت الحال منهم وأما جمهورهم فعندهم العلم هو نفس كونه لا يثبتون هناك ذاتاً أوجبت كونه عالماً. وأنت قد اعترفت بأن له علماً وقدرة وحياة بمعنى انه عالم قادر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 حي لا بمعنى أن له ذاتاً بها كان عالماً فقولك موافق لقول جمهورهم ثم مثبتة الحال تقول قام به معنى هو العلم أوجب كونه عالماً وأما نقلك عنهم أنهم يقولون لو لم يكن في الوجود إلا ذات الباري وحده لكان غير قادر ولا عالم ولا حي فلبي الأمر على ما يفهم من هذه الشناعة فإنهم متفقون على انه لو لم يكن موجود إلا الله وحده لكان حياً قادراً عالماً وإنما نقلت فإنهم متفقون على انه لو لم يكن موجود إلا الله وحده لكان حياً قادراً عالماً وإنما نقلت قولهم بلفظ الذات ولفظ الذات مجمل فإن أردت أنهم يقولون لو لم يكن إلا الذات الموصوفة بهذه الصفات فإنه من المعلوم أنه لو لم يكن إلا الذات الموصوفة بالعلم والقدرة لكانت عالمة قادرة وغن أردت انهم يقولون لو لم يكن إلا الذات المجردة عن الصفات فعندهم أن وجود ذات الرب مجردة عن هذه الصفات ممتنع فهو كما تقول أنت لو قدر انه ليس في الوجود إلا هو مع كونه غير عالم ولا قادر ومعلوم انه إذا قدر هذا التقدير الممتنع لذاته لزمه حكم ممتنع. ويقال له أنت قد قلت إن الله عندكم قادر حي لذاته. قلت ويعني بذلك أن ذاته متميزة من سائر الذوات تميزاً يجب معه أن يعلم ويقدر هل نفس أن يعلم ويقدر هو الذات المتميزة أو نفس أن يعلم الذات ويقدر ليس هو نفس الذات؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 فإن قلت إن نفس الذات هو نفس أن يعلم ويقدر فهذه مكابرة للضرورة فإن العلم ليس هو نفس العالم ولا القدرة نفس القادر وهذا أيضاً متفق عليه بين المعتزلة وأهل الإثبات. وأيضاً فيكون حقيقة قولك إن الذات متميزة تميزاً تجب معه الذات وأنت لو قلت الذات أوجبت الذات لم يصح فكيف إذا كان تميزها هو الموجب لها وإن قلت ليس هذا هو هذا فهذا قول الصفاتية والعلم الذي يثبتونه هو قولك أن تعلم فإن أن والفعل هو بتأويل المصدر فقول القائل علم علماً وله علم كقوله هو موصوف بأن يعلم يعلم وإذا قالوا عالم بالعلم لا بذاته لم يرد جمهورهم بذلك أن العلم هو أوجب صفة غير العلم وهو كونه عالماً بل نفس علمه هو كونه عالماً فيقولون عالم بصفة له هي العلم لا بذات مجردة عن العلم ومعلوم أن ذاته هي الموجبة لكونه عالماً فلا ينازعون في انه عالم بالذات بمعنى أن ذاته أوجبت كونه عالماً وأنه نفسه مستغن عما يجعله عالماً وليس هناك شيء غيره جعله عالماً. وأما قولك ولا يحتاج إلى معنى به يقدر وإلى معنى به يعلم فهذا لفظ مجمل فإن هذا إنما يصلح أن يكون حجة على مثبتة الأحوال الذين يقولون هناك معنى هو العلم أوجب كونه عالماً فقولك هذا كقول القائل لا يحتاج إلى كونه عالماً قادراً ولا يحتاج إلى أن يعلم ويقدر وانتم تسلمون لهم انه لا بد أن يعلم ويقدر وهذا هو عندهم العلم والقدرة فقول القائل بعد هذا يحتاج إلى هذا أو لا يحتاج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 سؤال لا يرد عليهم ولا على أحد وذلك أن معنى الحاجة إن أريد به أن اتصافه بصفات الكمال لا يستلزم كونه عالماً قادراً فهذا باطل وإذا قيل إن ذلك يتضمن الحاجة إلى صفة فهو كقول القائل إن ذلك يتضمن الحاجة إلى ذاته وهو غني بنفسه عن كل ما سواه ولا يقال هو غني عن نفسه فغن نفسه المقدسة الموصوفة بصفة الكمال المستلزمة لذلك هي الغنية فإذا قيل هو غني عن ذلك كان مثل قول القائل هو غني عن نفسه أو غني عن غناه أو غني عما لا يكون غنياً إلا به وكقوله الحي الذي تجب الحياة له غني عن حياته أو واجب الوجود غني عن وجوده والقديم عن قدمه ونحو ذلك. فإن قال هم يقولون عالم بعلم ولا يقولون موجود بوجود ولا باق ببقاء ولا قديم بقدم. قيل منهم من يقول ذلك ومنهم من لا يقول به ويفرق بأن نفس الذات القديمة الباقية إذا قدرت غير قديمة ولا باقية لم يرجع الخلاف في ذلك إلى معنى ثبتي قام بها فإن البقاء هو الدوام والشيء الباقي إذا قدر أنه لم يتغير فحاله مع البقاء ودونه سواء بخلاف العلم والقدرة فإن الذات العالمة القادرة إذا قدر أنها غير عالمة ولا قادرة علم ذلك اختلاف حالها في نفسها بتقدير عدمه ليس هو مجرد نسبة وإضافة كالبقاء ونحوه. وأيضاً فجمعك بين هؤلاء الصفاتية وبين المجوس والنصارى فيه من التحامل مالا يخفى على منصف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 وقولك عن النصارى إنهم ربما أومأوا إلى مذهب الكلابية فيقال له لو كان قول النصارى ليس فيه إلا إثبات أن الله حي بحياة عالم بعلم لكان قولهم وقولك وقول الكلابية سواء. والنصارى لم يكفرهم الله بهذا وغنما كفرهم الله بما ذكره عنهم في كتابه مما لا يقول به أحد من الصفاتية المسلمين وقول النصارى فيه من التناقض والاضطراب ما يتبين لكل عاقل ساده حيث يثبتون الابن صفة أقنوماً ويجعلونه مع ذلك إلهاً فاعلاً ويجعلون مع ذلك الإله واحداً ويقولون إن المتحد بالمسيح هو الابن وهو الكلمة دون الأب فهو مذهب متناقض كتناقض الفلاسفة بل والمعتزلة متناقضون ايضاً في نفي الصفات وإثبتها كما تراه وهذا كلام افضل متأخريهم. ثم إنه لم يحتج على الصفاتية إلا بحجتين إحداهما انه لو كان له علم لكان علمه مثل علمنا والمثلان لا يكون أحدهما محدثاً والآخر قديماً. والثانية أن كونه عالماً قادراً واجب والصفة إذا كانت واجبة استغنت بوجوبها عن معنى يوجبها فقد سمى ذلك صفة وهذه الحجة غنما تلزم مثبتة الحال وهم يقولون يعلل الواجب بالواجب وأما الأولى ففسادها ظاهر جداً لا سيما وأبو الحسين لا يسلم لهم أن الواحد منا عالم لمعنى ولهذا عدل عن طريقتي شيوخه المذكورتين في نفي الصفات إلى طريقة ثالثة أضعف منهما فقال إنه لا طريق إلى إثبات هذه المعاني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 ومالا طريق إليه لا يجوز إثباته فكان مضمون كلامه نفي الشيء انتفاؤه في نفس المر بل النافي عليه الدليل لا ينعكس ولا يلزم متى انتفى الدليل على الشيء انتفاؤه في نفس الأمر بل النافي عليه الدليل على نفي ما نفاه كما على المثبت الدليل على ثبوت ما أثبته ومن ليس عنده دليل على النفي والإثبات فعليه أن لا ينفي ولا يثبت فغاية ما عنده التوقف في نفي ذلك وإثباته يبين ذلك أنه ذكر في حجة أهل الإثبات أن الواحد منا عالم لمعنى لا يكون عالماً إلا به فوجب مثل ذلك للباري سبحانه وتعالى. قال والجواب يقال لهم ولم وجب أن يكون حكم الباري سبحانه وتعالى؟ فما أنكرتم أن يكون الواحد منا عالماً لمعنى ويكون الباري عالماً لذاته على أن الواحد منا عالم لا لمعنى وغن لم يكن ذلك مذهب أصحاب أبي هاشم وقد فرق أصحاب أبي هاشم بين الواحد منا وبين الباري تعالى في ذلك فقالوا الواحد منا علم مع جواز أن لا يعلم فلم يجز أن يكون عالماً إلا لمعنى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 يرجح به كونه عالماً على كونه غير عالم والباري تعالى علم الأشياء ويستحيل أن لا يعلمها فلم يحتج إلى معنى يترجح به كونه عالماً على كونه غير عالم. تعليق ابن تيمية فيقال لأبي الحسين إذ كان مذهبك ومذهب نفاة الأحوال أن الواحد منا عالم لا لمعنى والباري عالم لا لمعنى فقد صحت حجة الصفاتية وتبين أن إثبات الصفة لأحد العالمين دون الآخر باطل وأما ما ذكرته من قول أبي هاشم فهو قول مثبتة الحال وحينئذ فيخاطبه مثبتة الحال من الصفاتية كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى ومن تبعهما فيقولون كونه علم مع وجوب أن يعلم لا يمنع استلزام ذلك علماً به صار عالماً بل الحال الواجبة تستلزم علة واجبة والحال الجائزة تستلزم علة جائزة وإنما الفرق بينهما أن الواحد منا علم مع جواز أن لا يكون له علم وان لا يكون عالماً والباري علم مع وجوب أن يكون له علم وأن يكون عالماً فالفرق بينهما من جهة وجوب الصفة والحال وجواز الصفة والحال أما ثبوت الصفة والحال في أحدهما دون الآخر وهذا كله مما تبين لمن علم وانصف أنه لا يمكن أبا الحسين وأمثاله من المعتزلة أن يذكروا فرقاً معقولاً بين قولهم وقول أئمة الصفاتية وإذا قدر أنهم يذكرون فرقاً فحجتهم على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 النفي في غاية الفساد والتناقض فهم يتناقضون لا محالة في نفس المذهب أو في حجته ونقلهم عن منازعيهم فيه من التحريف والمجازفة والشناعة بغير حق ما يتبين لمن تأمله مثل تشنيعهم على أهل الإثبات بأنكم تقولون بتعدد القديم والقديم لفظ مجمل يوهمون به بعض الناس أنهم يقولون بتعدد الآلهية لا سيما مع قول اكثر شيوخهم كالجبائي ومن قبله إن أخص وصف الرب هو القدم وإن الاشتراك فيه يوجب التماثل فلو شاركت الصفة الموصوف في القدم لكانت مثله وهذا وإن كان في غاية الفساد فإن خصائص الرب التي لا يوصف بها غيره كثيرة مثل كونه رب العالمين وانه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه الحي القيوم القائم بنفسه القديم الواجب الوجود المقيم لكل ما سواه ونحو ذلك من الخصائص التي لا تشركه فيها صفة ولا غيرها فيقال القدم هو من خصائصه هو قدم القائم بنفسه وكذلك وجوبه الذي هو وجوب وجود القائم بنفسه ونحو ذلك. وأما الصفات التي لا تقوم إلا به فإن قيل بقدمها أو وجوبها فلا ريب أنها ليست قائمة بنفسها بل لا تقوم إلا بالموصوف وحقيقة الأمر أن القديم الواجب بنفسه هو الذات المستلزمة لصفات الكمال وأما ذات مجردة عن هذه الصفات أو صفات مجردة عنها فلا وجود لها فضلاً عن أن تكون واجبة بنفسها أو قديمة فقولهم مع فساده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 أوجب أن صار كثير من الناس يحترزون عن إطلاق لفظ القديم على الموصوف والصفة جميعاً وإن كانوا يطلقون ذلك على أحدهما عند الانفراد وهذه طريقة ابن كلاب وأكثر أئمة متكلمي الصفاتية وعلى هذا جرى كلام أبي الحسن التميمي والخطابي وغيرهما ممن سلك هذا المسلك. كلام أبي الحسن التميمي في جامع الأصول كما قال أبو الحسن في كتاب الإشارة له في جامع الأصول قال مسألة إن سأل سائل فقال هل يقال إن الصفات قديمة قيل له هذا سؤال ضعيف لا يسأل عنه من عرف حقائق الكلام لآن القديم الأزلي لم يكن قديماً بغير صفة وغنما كان قديماً بصفاته التي هي مضافة إليه في نفسه فإثبات القديم قديماً بصفاته يسقط المسألة عن قدم الصفات لإضافة الصفة إلى الموصوف فكل صفة للقديم في نفسه لم يزل بها ألا ترى أن المحدث جميعه محدث فإذا سألت عنه مفرقاً كانت كل طائفة منه محدثة وكل شيء منه محدث لأنه كله محدث بكماله أو لا ترى أن الإنسان محدث بجميع جوارحه وآلته فيقال هو محدث عند المسألة عنه في الجملة ويقال يده محدثة عند المسألة عنها في التفسير ولا يقال إن الإنسان ورأسه محدثان فكذلك أيضاً يقال القديم بجميع صفاته قديم وكل شيء من القديم فهو قديم غير محدث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 فإن قال قائل يقولون إن الموصوف قديم وصفته القديمة قديمان قيل له هذا خطأ لا يجوز أن يقال كما أنه لما لم يجز حين كان المحدث محدثا بجميع صفاته أن أجبت من سألني عنه منفرداً وعن صفاته مفردة أن أقول إنه وصفته محدثان لنه واحد هو وصفاته فهو كله محدث وهي على حالها محدثة ولا يجوز أن أقول هما جميعاً محدثان لأن في قولنا إنهما جميعاً محدثان فساداً لإثبات الواحد المحدث وإيهام أنه اثنان وليس بواحد فكذلك في قولي في الأول الواحد القديم الذي له صفات إنه قديم وصفاته قديمة فإذا قلت هو وصفاته قديمان ففيه إثبات تعطيل لتوحيده وقدمه وإيجاب أنه اثنان دون واحد ففسد من ذلك أن يقال هو وصفته قديمان كما فسد أن يقال للمحدث هو وصفته محدثان وكان الواجب أن يقال إن القديم الأزلي لم يزل موصوفاً فمن سأل عن صفة صفة مفردة جاز أن يقال له هي قديمة صفة لقديم لم يزل بها ولم تزل به كما لا تكون صفة المحدث إلا محدثة فما جرى على القديم في شرط القدم فهو واقع عليه بصفاته وليس بواقع عليه دون صفاته. فإذا قال القائل الموصوف قديم فقد قال إن صفاته قديمة كما إذا قال الموصوف محدث فقد أوجب أن صفاته محدثة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 تعليق ابن تيمية قلت فهذه الطريقة التي سلكها هؤلاء في انهم يقولون عن الذات إنها قديمة وعن الصفات إنها قديمة ولا يقولون عن الذات والصفات إنهما قديمان من الإشعار بالتغاير وهم لا يطلقون على الصفات إنها غير الذات. ولهم في لفظ المغايرة ثلاث طرق احدها وهي طريق الأئمة كالإمام احمد وغيره وأظنها قول ابن كلاب وغيره وقد ذكرها أبو إسحاق الإسفراييني انهم لا يقولون عن الصفة إنها الموصوف ولا يقولون غنها غيره ولا يقولون ليست هي الموصوف ولا غيره لأن لفظ الغير مجمل فلا ينفونه عند الإطلاق ولا يثبتونه. والطريقة الثانية وهي المحكية عن الأشعري نفسه انه قال أقول مفرقاً إن الصفة ليست هي الموصوف وأقول غنها ليست غير الموصوف لكن لا أجمع بين السلبين فأقول ليست الموصوف ولا غيره. وهكذا أبو الحسن التميمي ومن سلك هذه الطريقة يقولون في العلم ونحوه من الصفات إنه ليس غير الله وان الصفات ليست متغايرة كما يقولون إنها ليست هي الله كما يقولون إن الموصوف قديم والصفة قديمة ولا يقولون عند الجمع قديمان كما لا يقال عند الجمع لا هو الموصوف ولا غيره. والثالثة قول من يجمع بين السلبين كما هي طريقة ابن الباقلاني والقاضي أبي يعلي وغيرهما وهؤلاء قد يطلقون القول بإثبات قديمين: أحدهما الصفة، والآخر الموصوف، كما ذكروا ذلك في كتيهم. وإذا احتج عليهم المعتزلة بانه إذا كانت صفاته قديمة وجب إثبات قديمين، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 ولو كان علمه قديماً لكان إلها. أجابوهم بان كونهما قديمين لا يوجب تماثلهما، كالسواد والبياض اشتركا في كونهما مخالفين للجوهر، ومع هذا لا يجب تماثلهما وأنه ليس معنى القديم معنى الإله، لأن القديم هو ما بولغ له في الوصف بالتقدم، ومنه بناء قديم ودار قديمة إذا بولغ له في الوصف بالتقدم. وليس معنى الإله مأخوذاً من هذا، ولأن النبي محدث وصفاته محدثة، وليس إذا كان الموصوف نبياً وجب أن يكون صفاته أنبياء لكونها محدثة، كذلك لا يجب إذا كانت الصفات قديمة والموصوف بها قديماً، أن تكون إلهة لكونها قديمة وبسط الكلام على ذلك له موضع آخر. كلام ابن سينا في الرسالة الأضحوية في مسألة الصفات وتعليق ابن تيمية عليه وأما قول ابن سينا وهل هو: واحد الذات على كثرة الأوصاف أو قابل لكثرة؟ تعالى عنها بوجه من الوجوه. فيقال له: الكتاب الإلهي مملوء بإثبات الصفات لله تعالى، كالعلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك، ولم يتنازع اثنان من العقلاء أن النصوص ليست دالة على نفي الصفات، بل إنما هي دالة على قول أهل الإثبات، لكن غاية ما تدعيه النفاة أن ظاهرها دال على ذلك وأنه يمكن تأويله للدليل المعارض. ولا ريب أن ما ذكره لازم لنفاة الصفات، إذ لو كان قولهم هو الحق لكان الواجب بيان ذلك، وإن لم يبين فلا أقل من السكوت عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 الحق ونقيضه، فأما ذكر ما يدل ظاهره على نقيض الحق، من غير ذكر للحق، فهذا ممتنع في حق من قصده هدى الخلق، وإن كان هذا جائزاً، فهو حجة لهؤلاء الملاحدة عليهم في المعاد، بل وفي الشرائع أيضاً، فإن أجابوا الملاحدة في المعاد بانا نعلم بالاضطرار معاد الأبدان من أخبار الرسول، فلا يحتاج أن نتلقاه من ألفاظ السمع، لئلا يقدح في دلالة السمع بالتأويل، كان هذا جواباً بعينه لأهل الإثبات، فإنهم يقولون: إنا نعلم بالاضطرار أن إثبات الصفات مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه أخبر الأمة أن ربهم الذي يعبدونه فوق العالم، وأنه عليم قدير رحيم، له العلم والقدرة والرحمة، إلى أمثال ذلك من الصفات. والعلم بإثبات الصفات من قول الله ورسوله، بعد تدبر النصوص الإلهية، علم ضروري لا يرتاب فيه، وهو أبلغ من العلم بثبوت الشفعة، وميراث الجدة، وتحريم المرأة على عمتها وخالتها، وسجود السهو في الصلاة، ونحو ذلك من الأحكام المعلومة عند الخاصة دون العامة، فإن ما في الكتب الإلهية من إثبات علو الله تعالى، وإثبات صفاته وأسمائه، هو من العلم العام الذي علمته الخاصة والعامة، كعلمهم بعدد الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وغير ذلك من الشرائع الظاهرة المتواترة، ولا تجد أحداً من نفاة الصفات يعتمد في ذلك على الشرع، ولا يدعي أن أصل اعتقاده لذلك من جهة الكتاب والسنة، ولا ينقل قوله عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة المسلمين المشهورين بالعلم والدين وإنما ينقل قوله في النفي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 عمن هو معروف بتقليد أو بدعة أو إلحاد وعلى قدر بدعته وإلحاده يكون إيغاله في النفي وبعده عن الإثبات. وقوله: أو قابل لكثرة تعالى عنها لفظ مموه فإنه إن عني كثرة الآلهة، وهو لم يعن ذلك فقد علم أن الله سبحانه قد بين أن الإله إله واحد في غير موضع، والقرآن ملآن من نفي تعدد الآلهة ونفي الشرك بكل طريق، وإن عني كثرة صفاته التي دلت عليها أسماؤه آياته فتعليته الرب عنها كتعلية المشركين له أن يدعى ويعبد بلا واسطة، وتعليتهم له عن أن يرسل رسولاً من البشر فتنزيهه له عن صفاته كتنزيه المشركين له عن أن يكون إلهاً واحداً وأن يكون له رسول من البشر. وقد أنكر الله تعالى على المشركين نفيهم اسم الرحمن، كما قال تعالى {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا} الفرقان 60 وقوله تعالى {كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن} الرعد 30. ومعلوم أن الاسم العلم لا ينكره أحد ولو كانت أسماؤه أعلاماً لم يكن فرق بين الرحمن والجبار، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 الحديث المعروف في السنن: يقول الله: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتتته. فإذا كانت الرحم مشتقة من اسم الرحمن، امتنع أن يكون علماً لا معنى فيه. وفي الصحيح عنه الرحم شجنة من الرحمن. فإذا كان هذا قوله سبحانه فيمن ينكر الرحمن فما الظن بمن ينكر جميع معاني أسمائه وصفاته؟ وحمية هذا الملحد وأمثاله أن يكون له صفات حمية جاهلية شر من حمية الذين قال الله فيهم {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} الفتح 26، فإنه قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اصطلح هو والمشركون عام الحديبية أمر علياً أن يكتب في أول كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو وكان إذ ذاك مشركاً لا نعرف الرحمن ولكن اكتب كما كنت تكتب باسمك اللهم فأمر علياً فكتب باسمك اللهم ثم قال اكتب هذا ما قاضي عليه محمد رسول الله فقالوا لو علمنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 أنك رسول الله ما قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فهؤلاء أخذتهم حمية جاهلية في إثبات أسماء الله ونبوة رسوله والملاحدة شاركوهم في ذلك من وجوه كثيرة فإنهم ينفون حقائق أسماء الله وحقيقة رسالة رسوله صلى الله لعيه وسلم وغايتهم أن يؤمنوا بها من وجه ويكفروا من وجه كالذين قالوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض. ويقال له ذات لا صفة لها لا وجود إلا في الذهن بل لفظ ذات تأنيث ذو ولا تستعمل إلا مضافاً وذات معناه صاحبة كقوله تعالى {عليم بذات الصدور} آل عمران 119 وقوله تعالى {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} الأنفال 1 وقوله خبيب وذلك في ذات الإله أي في سبيل الإله وجهته. ثم استعملها أهل الكلام بالتعريف فقالوا الذات أي الصاحبة والمعنى صاحبة الصفات. فتقدير المستلزم للإضافة بدون الإضافة ممتنع، وهذا كما أثبته ابن سينا وأمثاله من هؤلاء الملحدة، حيث جعلوه وجوداً مطلقاً إما بشرط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 النفي وإما بشرط الإطلاق إنما وجوده في الأذهان لا في الأعيان فكيف بالمطلق المشروط بالنفي فإنه أبعد عن الوجود من المشروط بالإطلاق وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. وقوله أهو متحيز الذات أم منزهها عن الجهات؟ هو أيضاً من حججهم على نفاة الصفات فإن الكتب الإلهية وصفته بالعلو والفوقية ولم تنف أن يكون فوق العالم كما تقوله النفاة. وإذا كانت النصوص الإلهية قد بينت أن لعلي الأعلى الذي يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، الذي تعرج الملائكة والروح إليه، الذي نزل منه القرآن والملائكة تنزل من عنده، الذي خلق السماوات والأرض في ستته أيام ثم أستوى على العرش ونحو ذلك من النصوص المبينة لمباينته لخلقه وعلوه عليهم، فأي بيان للمقصود أعظم من هذا؟ وأما لفظ التحيز والجهة فلفظان مجملان ومراد النفاة منهما غير المراد في اللغة المعروفة فإن المتحيز اسم فاعل من تحيز يتحيز فهو متحيز مثل تعوذ وتكبر، وتجبر ونحو ذلك. والحيز ما يحوز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 الشيء ويحوطه والمفهوم من ذلك في اللغة الظاهرة أن يكون هناك شيء موجود بحوز غيره. ولا ريب أن الخالق مباين للمخلوقات عال عليها، كما دلت النصوص الإلهية واتفق عليه السلف والأئمة وفطر الله تعالى على ذلك خلقه ودلت عليه الدلائل العقلية. وإذا كان كذلك وليس ثم موجود إلا خالق ومخلوق فليس وراء المخلوقات شيء موجود يكون ميزاً لله تعالى، فلا يجوز أن يقال هو متحيز بهذا الاعتبار. وهم قد يريدون بالحيز أمراً عدمياً، حتى يسموا العالم متحيزاً، وإن لم يكن في شيء آخر موجود غير العالم، وإذا كان كذلك فكونه متحيزاً بهذا الاعتبار، معناه انه في حيز عدمي، والعدم ليس بشيء، وما ليس بشيء فليس في كونه فيه أكثر من كونه وحده لا موجود معه، وانه منحاز عن الخلق، متميز عنهم بائن عنهم ليست ذاته مختلطة بذات المخلوق فإذا أريد بالمتحيز المباين لغيره وقد دلت النصوص على أن الله تعالى عال على الخلق بائن عنهم ليس مختلطاً بهم، فقد دلت على هذا المعنى فالقرآن قد دل على جميع المعاني التي تنازع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 الناس فيها دقيقها وجليلها كما قال الشعبي ما ابتدع أحد بدعه إلا وفي كتاب الله بيانها وقال مسروق ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن قصر عنه. ولما كان لفظ المتحيز فيه إجمال وإبهام امتنع طوائف من أهل الإثبات عن إطلاق القول بنفيه أو إثباته ولا ريب أنه لا يوجد عن أحد من السلف والأئمة لا إثباته ولا نفيه كما لا يوجد مثل ذلك في لفظ الجسم والجهر ونحوهما. وذلك لأنها ألفاظ مجملة يراد بها حق وباطل وعامة من أطلقها ف بالنفي أو الإثبات أراد بها ما هو باطل لا سيما النفاة فإن الصفات كلهم ينفون الجسم والجوهر والمتحيز ونحو ذلك ويدخلون في نفي ذلك صفات الله، وحقائق أسمائه ومباينته لمخلوقاته بل إذا حقق الأمر عليهم وجد نفيهم متضمناً لحقيقة نفي ذاته، إذ يعود الأمر إلى وجود مطلق لا حقيقة له إلا في الذهن والخيال، أو ذات مجردة لا توجد إلا في الذهن والخيال أو إلى الجمع بين المتناقضين بإثبات صفات ونفي لوازمها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 فعامة من يطلق ذلك إما متناقض في نفيه وإثباته يثبت الشيء بعبارة وينفيه بأخرى، أو يثبته وينفي نظيره أو ينفيه مفصلاً ويثبته مجملاً أو بالعكس، أو يتكلم في النفي والإثبات بعبارات لا يحصل مضمونها ولا يحقق معناها. وهكذا كثير في الكبار فضلاً عن الصغار، وكثير منهم لا يفهم مراد أكابرهم بهذه العبارات، وهم يعلمون أن عامتهم لا يفهمون مرادهم، وإنما يظنونه تعظيماً وتسبيحاً من حيث الجملة، والواجب على المسلمين أن يتلقوا الأقوال الثابتة عن الرسول بالتصديق والقبول مطلقاً في النفي والإثبات. وأما الألفاظ التي تنازع فيها أهل الكلام، فلا تتلقى بتصديق ولا تكذيب حتى يعرف مراد المتكلم بها، فإن وافق ما قاله الرسول كان من القول المقبول، وإلا كان من المردود ن ولا يكون ما وافق قول الرسول مخالفاً للعقل الصريح أبدا، كما لا يكون ما خالف قوله مؤيداً ببرهان العقل أبداً كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع. وكذلك لفظ الجهة لفظ مجمل فإن الناطقين به من أهل الكلام والفلسفة، وقد يريدون بلفظ الجهة أمراً وجودياً غما جسماً وغما عرضاً في جسم. وقد يريدون بلفظ الجهة ما يكون معدوما كما وراء الموجودات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 فقول القائل إن الحق في جهة إن أراد به ما هو موجود مباين له فلا موجود مباين له إلا مخلوقاته فإذا كان مبايناً لمخلوقاته فكيف تكون محتوية عليه؟ وإن أراد بالجهة ما فوق العالم فلا ريب أن الله فوق العالم وليس هناك إلا هو وحده وليس فوق المخلوقات إلا خالقها هو العلي الأعلى. فصل وقول ابن سينا فإنه لا يخلو إما أن تكون هذه المعاني واجباً تحققها وإتقان المذهب الحق فيها أو يسع الصدوف عنها وإغفال البحث والروية فيها فإن كان البحث عنها معفواً عنه وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذ به فجل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف وعنه غنية وإن كان فرضاً محكماً فواجب أن يكون مما صرح به في الشريعة. فهذا كله حجة على إخوانه نفاة الصفاة وهم المخاطبون بهذه الجملة واما أهل الإثبات فهم يقولون إن ذلك كله مما صرح به في الشريعة. وكذلك قوله وليس التصريح المعمى أو الملبس أو المقتصر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 فيه بالإشارة والإيماء بل بالتصريح المستقصي فيه والموفى حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف. فهذا كله حجة على إخوانه نفاة الصفات الجهمية وأما أهل الإثبات فيقولون إنه قد صرح بالتوحيد الحق التصريح المستقصي فيه الموفى حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف وهذه نصوص القرآن والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم من السلف فيها من البيان للإثبات ما لا يحصيه إلا رب السماوات. وقوله فإن المبرزين المنفقين أيامهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في تفهم هذه المعاني إلى فضل وشرح وعبارة فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب؟ فهذا الكلام حجة له على إخوانه الجهمية من المعتزلة وأتباعهم نفاة الصفات الذين يقولون إن التوحيد الحق هو قول أهل السلب نفاة الصفات ولا ريب أن فهم قولهم فيه غموض ودقة لأنه قول متناقض فاسد أعظم تناقضاً من قول النصارى كما قد بين في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 موضعه فما يفهمه إلا الذكي الذي مرن ذهنه على تسليم المقدمات التي بها يفسدون ذهنه أو على تصور أقوالهم المتناقضة فإن كان من متابعيهم نقلوه من درجة إلى درجة، كما تفعل القرامطة بنقل المستجيبين لهم من درجة إلى درجة، وكذلك هؤلاء الجهمية النفاة لا يمكنهم أن يخاطبوا ذكياً ولا بليداً بحقيقة قولهم، إن لم يتقدم قبل ذلك منه تسليم لمقدمات وضعوها، تتضمن ألفاظاً مجملة، يلبسون بها لعيه الحق بالباطل، فيبقى ما سلمه لهم من المقدمات، مع ما فيه من التلبيس والإبهام، حجة لهم عليه فيما ينازعهم فيه، إلى أن يخرجوه أن تمكنوا من العقل والدين كما تخرج الشعرة من العجين، فإن من درجات دعوتهم الخلع والسلخ وأمثال هذه العبارات. وقد رأيت كتبهم فرأيتهم يحتجون على طوائف المسلمين الذين فيهم بدعة بما وافقوهم عليه من البدعة، كما احتج ابن سينا على المعتزلة، ونحوهم من نفاة الصفات، بما وافقوه عليه من هذه الأقوال المبتدعات، وإلا فالفطر السليمة تنكر أقوال النفاة، إذ قد توافق على إنكارها الفطر والمعقول، والسمع المنقول، وإنما يخالف بنوع من الشبه الدقيقة، التي هي من أبطل الباطل في الحقيقة. ولقد حدثني بعض أصحابنا أن بعض الفضلاء، الذين فيهم نوع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 من التهجم، عاتبه بعض أصحابه على إمساكه عن الانتصار لأقوال النفاة، لما ظهر قول الإثبات في بلدهم، بعد ان كان خفياً واستجاب له الناس بعد أن كان المتكلم به عندهم قد جاء شيئاً فرياً فقال هذا إذا سمعه الناس قبلوه وتلقوه بالقبول، وظهر لهم أنه الحق الذي جاء به الرسول، ونحن إذا أخذنا الشخص فربيناه وغذيناه ثلاثين سنة ثم أردنا أن ننزل قولنا في حلقه لم ينزل في حلقه إلا بكلفة. وهو كما قال: فإن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والنور وبين الباطل والظلام، وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها، ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق، لم يكن النظر والاستدلال ولا الخطاب والكلام، كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب، ولولا ذلك لما أمكن تغذيتها وتربيتها وكما ان في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي، ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك. وهذا كما أن لأرباب السحر والنيرنجيات وعمل الكيمياء وأمثالهم، ممن يدخل في الباطل الخفي الدقيق، يحتاج إلى أعمال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 عظيمة، وأفكار عميقة وأنواع من العبادات والزهادات والرياضات، ومفارقة الشهوات والعادات ثم آخر امرهم الشك بالرحمن، وعبادة الطاغوت والشيطان، وعمل الذهب المغشوش، والفساد في الأرض، والقليل منهم من ينال بعض غرضه، الذي لا يزيده من الله إلا بعداً، وغالبهم محروم مأثوم، يتمنى الكفر والفسوق والعصيان وهو لا يحصل إلا على نقل الأكاذيب وتمنى الطغيان سماعون للكذب أكالون للسحت عليهم ذلة المفترين. كما قال تعالى {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} الأعراف 152. ولهذا تجد أهل هذه الأباطل الصعبة الشديدة في الغالب: إما ملحداً من أهل النفي والتكذيب، وإما جاهلاً قد أضلوه ببعض شبهاتهم. وأما قوله: فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب؟ فيقال له: نحن لا ننكر أن في العبرانيين والعرب من يكون ذهنه مقصراً عن بعض دقيق العلم، لكن إذا وازنت من كان من محمد صلى الله لعيه وسلم من العرب الخاصة والعامة، ومن كان مع موسى عليه الصلاة والسلام أيضاً بمن فرضته من الأمم، وجدتهم أكمل منهم في كل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 سب ينال به دقيق العلم وجليله، فإذا قدرت بعض الناقصين من ذلك القرن، فقابله بإخوانك القرامطة الباطنية، وعوام الفلاسفة الدهرية، وأمثالهم من عوام النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم، فإنك تجد بين أدنى اولئك وخيار هؤلاء في الذهن والعلم من الفرق، أعظم مما بين القدم والفرق، أليس أصحابك هم المستجيبين لدعوة بني عبيد الذين راج عليهم مكرهم وكيدهم في الدنيا والدين، حتى اعتقدوا فيمن هو من أكفر الناس وأكذبهم: انه إمام معصوم، يعلم علم الأولين والآخرين، بل عوام النصارى، مع فرط جهلهم وضلالهم، احذق وأذكى من عوام أصحابك المستجيبين لمثل هؤلاء المنقادين لهم. وهل وجد في العالم أمة أجهل وأضل وأبعد عن العقل والعلم من أمة يكون رؤسها فلاسفة أو لم تكن أئمتكم اليونان كأرسطو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 وأمثاله مشركين يعبدون الأوثان ويشركون بالرحمن ويقربون أنواع القرابين لذرية الشيطان؟ أو ليس من أعظم علومهم السحر، الذي غايته أن يعبد الإنسان شيطاناً من الشياطين، ويصوم ويصلي، ويقرب له القرابين، حتى ينال بذلك عرضاً من الدنيا، فساده أعظم من صلاحه، وأثمه أكبر من نفعه؟ أو ليس أضل الشرك في العالم هو من بعض هؤلاء المتفلسفة؟ أو ليس كل من كان أقرب إلى الشرائع ولو بدقيقة كان أقرب إلى العقل ومعرفة الحقيقة؟ وهل رأيت فيلسوفا أقام مصلحة قرية من القرى فضلاً عن مدينة من المدائن؟ وهل يصلح دينه ودنياه إلا بأن يكون من غمار أهل الشرائع؟ ثم يقال له: أنت وأمثالك أئمة أتباعكم، وهذا قولك وقول أرسطو وأمثالكم من أئمة الفلاسفة في واجب الوجود وصفاته وأفعاله مع دعواكم نهاية التوحيد والتحقيق والعرفان في واجب الوجود وصفاته وأفعاله مع دعواهم نهاية التوحيد والتحقيق والعرفان قول لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم وأشبههم بالبهائم من الحيوان. وكون الواحد منكم حاذقاً في طب أو نجوم أو غرس أو بناء، هو لقلة معرفتكم بالله وأسمائه وصفاته وافعاله وعبادته، وقلة نصيبكم وحظكم من هذا المطلب، الذي هو أجل المطالب، وأرفع المواهب، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 فاعتضتم بالأدنى عن الأعلى: إما عجزاً وغما تفريطاً. ولا ريب أن أئمة اليهود والنصارى، بعد أن بدلوا الكتاب، ودخلوا فيما نهوا عنه احذق وأعرف بالله من أئمتكم، وعوام اليهود والنصارى الذين هم ضالون ومغضوب عليهم أصح عقلاً وإدراكاً وأصوب كلاما في هذا الباب من عوام أصحابكم، وهذا مما لا يشك فيه من له عقل وإنصاف. واعتبر ذلك بعوام النصيرية والإسماعيلية والدرزية والطرقية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 والعرباء وعوام التتر المشركين، الذين كان علماؤهم المشركون السحرة من البخشية والطوينية وأمثالهم، وكان خيار علمائهم رؤوس الملاحدة، فاعتبر عوام هؤلاء مع عوام اليهود والنصارى، تجد عوام اليهود والنصارى أقل فساداً في الدنيا والدين من أولئك، وتجد أولئك أفسد عقلاً وديناً. وأما متوسطوكم كالمنجمين والمعزمين وأمثالهم، ففيهم من الجهل والضلال والكذب والمحال مالا يحصيه إلا ذو الجلال، وهل كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 الطوسي وامثاله ينفقون عند المشركين من التتر إلا بأكاذيب المنجمين، ومكايد المحتالين، المنافية للعقل والدين؟ وأما أئمتكم البارعون كأرسطو وذويه فغايته ان يكون مشركاً سحاراً وزيراً لملك مشرك سحار كالإسكندر بن فيلبس وأمثاله من ملوك اليونان الذين كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان وإنما صار فيهم ما صار من الهدى والفلاح لما دخلت فيهم النصرانية بعد أرسطو بنحو ثلاثمائة سنة وتسع وعشرة سنة او اكثر منها وقد قيل إن ذلك كان على عهد آخر ملوكهم بطليموس صاحب المجسطي، فناهيك ممن تكون النصارى أعقل منهم وأعلم وأهدى إلى الدين الأقوم. ومن الضلال أن من يظن ذا القرنين المذكور في القرآن العزيز هو الإسكندر بن فيلبس الذي يقال إن أرسطو كان وزيره، وهذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 جهل فإن ذا القرنين قديم متقدم على هذا بكثير، وكان مسلماً موحداً حنيفاً وقد قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة أو ما يقارب ذلك. وهذا الكلام وأمثاله إنما قيل لمقابلة لما في كلام هؤلاء من الاستخفاف بأتباع الأنبياء وأما أئمة العرب وغيرهم من أتباع الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، كفضلاء الصحابة، مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء وعبد الله بن عباس، ومن لا يحصى عدده إلا الله تعالى، فهل سمع في الأولين والآخرين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوم كانوا أتم عقولاً وأكمل أذهاناً وأصح معرفة وأحسن علماً من هؤلاء؟ فهم كما قال فيهم عبد الله بن مسعود: من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وما طمع أهل الإلحاد في هؤلاء إلا بجهل أهل البدع، كالرافضة والمتكلمين من المعتزلة ونحوهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 وابن سينا وأمثاله من ملاحدة الفلاسفة لما كانوا إنما يخاطبون من المسلمين من هو ناقص في العلم والدين: إما رافضي وإما معتزلي وإما غيرهما صاروا يتكلمون في خيار القرون بمثل هذا الكلام. وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. ثم يقال لهذا الأحمق: أن كل أمة فيها ذكي وبليد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 بالنسبة إليها، لكن هل رأى في أجناس الأمم امة أذكى من العرب؟ واعتبر ذلك باللسان العام، وما فيه من تفصيل المعاني، والتمييز بين دقيقها وجليلها بالألفاظ الخاصة الناصة على الحقيقة ويليه في الكمال اللسان العبراني، فأين هذا من لسان أصحابك الطماطم، الذين يسردون ألفاظاً طويلة والمعنى خفيف؟ ولولا أن مثلك وأمثالك ممن شملته بعض سعادة المسلمين والعرب، فصار فيكم بعض كمال الإنسان في العقل واللسان، فعربتم تلك الكتب وهذبتموها وقربتموها إلى العقول، وإلا لكان فيها من التطويل والهذيان ما يشح بمثله على الزمان، وهي كما قال فيها ابو حامد الغزالي هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها ونعوذ بالله من علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها، وإن بعض الظن أثم فإن ما يقوم عليه الدليل من الرياضي ونحوه كثير التعب قليل الفائدة، لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى، وما لم يقم عليه الدليل فظنون وأباطيل. ثم يقال له: هب أن ما ذكرته من غتم العرانيين والعرب أهل الوبر لا يمكنهم معرفة الدقيق، فهل يمكنك أن تقول ذلك في أذكياء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 العرب والعبرانيين وكل أحد يعلم أن عقول الصحابة والتابعين وتابعيهم أكمل عقول الناس. واعتبر ذلك بأتباعهم فإن كنت تشك في ذكاء مثل مالك والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد وإبراهيم الحربي وعبد الملك بن حبيب الأندلسي والبخاري ومسلم وأبي داود وعثمان بن سعد الدارمي بل ومثل أبي العباس بن سريج وأبي جعفر الطحاوي وأبي القاسم الخرقي وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهم من امثالهم فإن شككت في ذلك فأنت مفرط في الجهل أو مكابر، فانظر خضوع هؤلاء للصحابة وتعظيمهم لعقلهم وعملهم، حتى انه لا يجترئ الواحد منهم أن يخالف لواحد من الصحابة إلا أن يكون قد خالفه صاحب آخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 وقد قال الشافعي رحمة الله عليه في الرسالة أنهم فوقنا في كل عقل وعلم، وفضل وسب ينال به علم، أو يدرك به صواب، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا أو كما قال رحمة الله عليه. وأما قوله لو كلف الله رسولاً من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أذهانهم إلى آخر كلامه. فيقال: لا ريب أن فيما غاب عن المشاهدة أموراً من الغيب، بعضها يمكن التعريف به مطلقاً، وبعضها لا يمكن التعريف به إلا بعد شروط واستعداد وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا إلا على وجه مجمل، وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا بحال وبعضها لا يمكن مخلوقاً أن يعلمه. ولهذا قال تعالى {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} السجدة 17. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فما لا يخطر بالقلوب إذا عرفت به لم تعرفه إلا إذا كان له نظير، وإلا لم يمكن التعريف على وجهه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 وفي الدعاء المشهور: اللهم إني أسألك اسم هو لم سميت به نفسك، أو انزلته في كتابك، او علمته أحداً من خلقك، أو أستأثرت به في علم الغيب عندك فإذا كان من أسمائه ما استأثر بعلمه لم يعلمه غيره، ذلك وما خص به بعض عباده لم يعلمه غيره. وفي الحديث الصحيح انه صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وفي حديث الشفاعة ينفتح على محامد أحمده بها لا احسنها الآن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 فإذا كان اعلم الخلق بالله لا يحصى ثناء عليه، فكيف غيره؟ وإذا كان يفتح عليه في الآخرة بمحامد لم يعرفها في الدنيا فكيف حال غيره؟ ونذكر في هذا قصة موسى والخضر عليهما السلام ونقر العصفور من البحر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما ذكره البخاري حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون ان يكذب الله ورسوله؟ وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل رجل تفسير أية فقال: ما يؤمنك أني لو أخبرتك بها لكفرت بها وكفرك بها تكذيبك بها فتبين انه ليس كل أحد يليق بمعرفة جميع العلوم. ولهذا قال تعالى {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها} إلى قوله {يضرب الله الأمثال} الرعد 17، فإن هذا مثل ضربة الله فشبه فيه ما ينزله من السماء من العلم والإيمان بالمطر، وشبه القلوب بالأودية، والأودية منها صغار وكبار، فكل واد يسيل بقدره. فهذا ونحوه حق، ولكن حقائق الأمور التي يدعيها هؤلاء الملاحدة، هي في الحقيقة نفي وتعطيل تنكرها القلوب العارفة الذكية، أعظم مما تنكرها قلوب العامة، وكلما قوي عقل الرجل وعلمه زاد معرفة بفسادها، ولهذا لا يستجيب لهم الرجل إلا بقدر نقص عقله ودينه. وقوله: هبك الكتاب العزيز جاء على لغة العرب في الاستعارة والمجاز، فما قولهم في الكتاب العبراني، هو من أوله إلى آخره تشبيه صرف؟ إلى آخر كلامه. فيقال: هذا من أعظم حجج أهل الإثبات على نفاة الصفات، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 ومن أعظم الحجج على صدق الرسولين العظيمين، وصدق الكتابين الكريمين، اللذين لم يأت من عند الله كتاب أهدى منهما. قال تعالى {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} القصص 43، إلى قوله: {قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا} القصص 48، إلى قوله {قل فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} الآيات القصص 49. وقال تعالى حكاية عن الجن {قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم} الأحقاف 30. وقال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون * وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها} الأنعام 91، 92. وقال تعالى: {ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون * وهذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون} الأنعام 154 - 155. فقد قرن الله تعالى بين الكتابين العربي والعبري في غير موضع. ومن المعلوم ان موسى كان قبل محمد صلوات الله عليهما وسلامه. ولم يأخذ عنه شيئاً، وكل من عرف حال محمد صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لم يأخذ عن أهل الكتاب شيئاً، فإذا أخبر هذا بمثل ما أخبر به مرسل واحد من غير تواطؤ ولا تشاعر فيما يمتن في العادة التوافق فيه من غير تواطؤ، كان هذا مما يدل على صدق كل من الرسولين في أصل الرسالة، وعلى صدق خبر كل من الرسولين فيما أخبر به صفات ربه، إذا كان كل منهما أخبر بمثل ما أخبر به الآخر. وهب أن بعض ألفاظ أحد الكتابين قد يحرفها المحرف، فالكتاب الآخر المصدق له يبطل ذلك التحريف، ويبين أن المقصود واحد. وما ذكره من امتناع التحريف على كلية الكتاب العبري حق كما قال، ويبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين من تحريف أهل الكتاب ما شاء الله، وذمهم على ما وصفوا الله تتعالى به من النقائص، كقولهم: إن الله فقير، وإن الله بخيل، وإنه تعب لما خلق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 السماوات والأرض فاستراح فقال تعالى {وما مسنا من لغوب} ق 38. فلو كان ما في التوراة من إثبات الصفات مما بدلوه وافتروه، لكان إنكار هذا من أعظم الواجبات، ولكان الرسول يعيبهم بما ينكره النفاة متن التشبيه والتجسيم، وأمثال هذه العبارات، فلما كان الرسول العربي مقراً لما في التوراة من الصفات ومخبراً بمثل ما في التوراة، كان ذلك من أعظم دليل على أن ما في التوراة من الصفات التي أخبر بها الرسول العربي أيضاً، ليس مما كذبه أهل الكتاب. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن خبراً من اليهود لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يوم القيامة يمسك السماوات على اصبع والأرضين على أصبع، والجبال على اصبع، والشجر والثرى على اصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك أنا الملك ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً لقول الخبر ثم قرأ قوله تعالى {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} الزمر 67. وهذا الحديث رواه من هو من أعلم الصحابة وأعظمهم اختصاصاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 بالنبي صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن مسعود ورواه عنه وعن أصحابه من هو أجل التابعين وأتباع التابعين قدراً، ورواه أيضاً عبد الله بن عباس الذي هو من أعلم الصحابة في زمانه، وأصحاب ابن مسعود وابن عباس من اعظم التباعين علماً وقدراً عند الأمة. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهما أيضاً من حديث ابن عمر في تفسير هذه الآية {وما قدروا الله حق قدره} الزمر 67، ما يناسب هذا الحديث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 ويوافق قول أهل الإثبات، ويبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ينكر على أهل الكتاب ما يخبرون به من الصفات التي تسميها النفاة تجسيماً وتشبيهاً، وإنما أنكر عليهم ما وصفوا الله تعالى به من النقائص والعيوب. ولهذا لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين أنهم ذموا أهل الكتاب بما يذمهم به نفاة الصفات، ولا يذكرون لفظ التجسيم ونحوه من الألفاظ التي أحدثها المحدثون: لا بمدح ولا ذم، ولا يقولون ما تقوله النفاة إن التوراة فيها تشبيه، كما قال ابن سينا الكتاب العبراني كله من أوله إلى آخره تشبيه صرف. فإنه يقال له: ما تعني بقولك: إنه تشبيه، أتعني أنه متضمن للإخبار بأن صفات الرب مثل صفات العباد، أو متضمن لإثبات الصفات التي يوصف الخلق بما هو بالنسبة إليهم كتلك الصفات بالنسبة إلى الله؟ فإن أردت الأول، فهذا كذب على التوراة، فليس فيها الإخبار بأن صفات كصفات عباده، بل فيها نفي التمثيل بالله. وإن أردت الثاني فهذا أمر لا بد منه لك ولكل أحد، فإنك وأمثالك تقولون: إن الله موجود، مع قولكم: إن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وتقولون، وتقولون إنه عقل وعاقل ومعقول. مع قولكم: إن اسم العقل يقع على العقول العشرة، وتقولون: إنه علة للعالم، مع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 قولكم: إن العلة تنقسم إلى واجب وممكن، وقديم ومحدث، وتقولون: إن له عناية، مع أن لفظ العناية يقال على صفات العباد، وتقولون: إنه مبدأ ومبدع ونحو ذلك من العبارات التي تسمون بها غيره، فإنكم تطلقون اسم المبادئ على العقول، وتطلقون الإبداع على العقول، وتقولون: إن كل عقل أبدع ما دونه، والعقل العاشر أبدع ما تحت فلك القمر، وتقولون: إنه موجب بالذات مع أن لفظ الإيجاب يطلق على غيره. ويقولون: إنه عاشق ومعشوق وعشق، مع أن لفظ العشق فيه من التشبيه واحتمال النقص مالا يخفى على عاقل، وليس في الكتب الإلهية تسميته بعقل ولا عاشق ولا معقول ولا معشوق. ويقولون أيضاً: إنه يلتذ ويبتهج، ولفظ اللذة فيها من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل، ويقولون إنه مدرك وأن اللذة أفضل إدراك لأفضل مدرك فيسمونه مدركاً ومدركاً. ثم أعجب من هذا كله انكم تقولون: الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، ومن هنا دخل من وافقكم في إثبات تشبه العبد بالرب، في الذات والصفات والأفعال، كصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها، ومن مشى خلفه من القائلين بالوحدة المطلقة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 والاتحاد، وقالوا: إن الإنسان مثل الله، وأن قوله: {ليس كمثله شيء} الشورى: 11 المراد أنه ليس كالإنسان الذي هو مثل الله شيء ويقولون إن الفلك إنما يتحرك تشبهاً بما فوقه، فيجعلون العبد قادراً على أن يتشبه بالله وأن الفلك يتشبه بالله، أو يتشبه بالعقل المشبه لله. فإذا كان في التوراة: أنا سنخلق بشراً على صورتنا يشبهنا، أو نحو هذا فغايته أن يكون الله خالقاً لمن يشبهه بوجه وأنتم قد جعلتم العبد قادراً على أن يتشبه بالله بوجه، فإن كان التشبه بالله باطلاً من كل وجه، ولا يمكن الموجود أن يشبهه بوجه من الوجوه، فتشبيهكم أنكر من تشبيه أهل الكتاب، لأنكم جعلتم العبد قادراً على ان يتشبه بالرب وأولئك أخبروا عن الرب أنه قادر على أن يخلق ما يشبهه. فكان في قولكم إثبات التشبيه وجعله مقدوراً للعبد، وأولئك مع إثبات التشبيه إنما جعلوه مقدوراً للرب، فأي الفريقين أحق بالذم والملام؟ أنتم أم أهل الكتاب؟ إن كان مثل هذا التشبيه منكراً من القول وزورا، وإن لم يكن منكراً من القول وزورا، فأهل الكتاب أقوم منكم، لأنهم تبعوا ألفاظ النصوص الإلهية، التي أثبتت مقدوراً لرب البرية، وانتم ابتدعتم ما ابتدعتم بغير سلطان من الله. وأيضاً فيقال: إنه ما من موجودين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز، فإنهما لا بد أن يشتركا في أنهما موجودان ثابتان حاصلان، وأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 كلا منهما له حقيقة: هي ذاته ونفسه وماهية، حتى لو كان الموجودان مختلفين اختلافاً ظاهراً كالسواد والبياض فلا بد أن يشتركا في مسمى الوجود والحقيقة ونحو ذلك، بل وفيما هو أخص من ذلك، مثل كون كل منهما لوناً وعرضاً وقائماً بغيره ونحو ذلك، وهما مع هذا مختلفان. وإذا كان بين كل موجودين جامع وفارق، فمعلوم أن الله تعالى ليس كمثله شيء: لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله فلا يجوز ان يثبت له شيء من خصائص المخلوقين ولا يمثل بها، ولا أن يثبت لشيء من الموجودات مثل شيء من صفاته، ولا مشابهة في شيء من خصائصه سبحانه عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وإذا كان المثل هو الموافق لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع فهو، سبحانه لا يشاركه شيء فيما يجب له ويمتنع عليه ويجوز له، وإذا أخذ القدر المطلق الذي يتفق فيه الخالق والمخلوق مثل: مسمى الوجود، والحقيقة، والعالم والقادر، ونحو ذلك فهذا لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان. والمخلوق لا يشارك مخلوقاً في شيء من صفاته، فكيف يكون للخالق شريك في ذلك؟ لكن المخلوق قد يكون له من يماثله في صفاته، والله تعالى لا مثل له أصلاً، والقدر المشترك المطلق كالوجود والعلم والحقيقة ونحو ذلك، لا يلزمه شيء من صفات النقص الممتنعة على الله تعالى، فما وجب للقدر المطلق المشترك، لا نقص فيه ولا عيب، وما نفي عنه فلا كمال فيه، وما جاز له فلا محذور في جوازه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 وأما ما يتقدس الرب تعالى ويتنزه عنه من النقائص والافات فهي ليست من لوازم ما يختص به، ولا من لوازم القدر المشترك الكلي المطلق أصلا، بل هي من خصائص المخلوقات الناقصة، والله تعالى منزه عن كل نقص وعيب، وهذه معاني شريفة بسطت في غير هذا الموضع. وما يذكره هؤلاء من تعظيم علوم الأسرار، والأمر بكتمانها عن الجمهور، وقصور الجمهور عن إدراك حقائق، هو كلام مجمل يقوله الصديق والزنديق. والمخالفون من نفاة الصفات الخبرية، أو نفي الأوامر الشرعية، من المتفلسفة ومن دخل معهم من متصوفة النفاة ونحوهم، يشيرون إلى ذلك، ويحملون ما يروى من الآثار الصحيحة والسقيمة على ذلك، فالأثر المروي: إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله، فإذا ذكروه لم ينكروه إلا أهل الغرة بالله تعالى. وهذا الحديث وإن لم يكن له إسناد صحيح، فقد ذكره شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي وأبو حامد الغزالي وغيرهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 لكن ذكر شيخ الإسلام عن شيخه يحيى بن عمار أن من هذا أحاديث الصفات الموافقة لقول أهل الإثبات. وأبو حامد قد يحمل هذا إذا تفلسف على ما يوافق أقوال الفلاسفة النفاة. وكذلك ما في البخاري عن علي حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقد حمله ابن رشد الحفيد على أقوال الفلاسفة الباطنية النفاة. ومن المعلوم ان أقوال النفاة لا توجد في كلام الله ورسوله، وإنما لا يحملها عقله أفضى إلى تكذيب الله ورسوله. والأمور الباطنة فيها إجمال، فالملاحدة يدعون الباطن المخالف للظاهر، وأما أهل الإيمان فالباطن الحق عندهم موافق للظاهر الحق، فما في بواطنهم من المعارف والأحوال وتحقيق التوحيد ومقامات أهل العرفان، موافق لما جاء به الكتاب والرسول، يزداد صاحبها بأخبار الأنبياء إيماناً بخلاف الملاحدة كلما امعن الواحد منهم فيه بعد عن الله ورسوله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 وقول ابن سينا هو الإقرار بالصانع مقدساً عن الكم، والكيف، والأين، ومتى، والوضع والتغير حتى يصير الاعتقاد أنه ذات واحدة، لا يمكن أن يكون له شريك في النوع، أو يكون له جزء وجودي كمي او معنوي ... إلى آخره. فكلامه هذا يتوهم الجاهل أنه تعظيم لله تعالى ومراده انه ليس لله علم، ولا قدرة ولا إرادة، ولا كلام، ولا محبة، وأنه لا يرى ولا يباين المخلوقات. قلت: وقد تكلمنا على هذا وعلى ثبوت الكليات في الخارج التي ذكرها في إشارته وشرحها شارحو إشاراته، كالرازي والطوسي وابن كمونه اليهودي وأمثالهم فإنه ذكر دليل توحيدهم وقدم قبله مقدمات. كلام ابن سينا عن الصفات الذاتية والعرضية تعليق ابن تيمية عليه قال في الإشارات: كل أشياء تختلف بأعيانها وتتفق في أمر مقوم لها: فإما أن يكون ما تتفق فيه لازماً من لوازم ما تختلف فيه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 فيكون للمختلفات لازم واحد، وهذا غير منكر. وإما أن يكون ما تختلف فيه لازماً لما تتفق فيه، فيكون الذي يلزم الواحد مختلفاً متقابلاً، وهذا منكر وإما أن يكون ما تتفق فيه عارضاً عرض لما تختلف فيه، وهذا غير منكر. وغما أن يكون ما تختلف فيه عارضاً عرض لما تتفق فيه، وهذا أيضاً غير منكر. قال الشارحون لكلامه: كل شيئين فلا بد أن يكونا متخالفين في هويتهما وتشخصهما، لأن تشخص هذا لو كان حاصلاً لذاك، لكان هذا ذاك لا غيره، والأشياء قد تكون متوافقة في شيء من المقومات، كالأجناس العالية، فإنها لا تكون متوافقة في شيء من المقومات، وإن كانت ربما توافقت في شيء من الصفات العرضية. وإذا كان كذلك، فإذا اتفقت في أمر مقوم لها، كان ما به الاختلاف مغايراً لما به الاشتراك لا محالة، فتكون هوية كل واحد منهما مركبة مما به شارك الآخر، ومما به امتاز عن الآخر، وعند ذلك فإما أن يكون ما به الاشتراك لازماً لما به الاختلاف أو بالعكس، أو يكون ما به الاشتراك عارضاً لما به الاختلاف أو بالعكس. فأما الأول فهو غير منكر، كفصول الأنواع الداخلة تحت جنس، فإن طبيعة ذلك الجنس لازمة لطبائع تلك الفصول، وكالوجود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 اللازمين للمقولات، والتماثل والاختلاف والتضاد والتغاير اللوازم للحقائق الكثيرة المختلفة، فإن السواد والبياض وإن كانا مختلفين لكنهما مشتركان في كون كل منهما ضد الآخر. وأما الثاني، وهو كون ما به الاختلاف لازماً لما به الاشتراك فهو محال، كالناطق مع الحيوان لو كان لازماً له لكان كل حيوان ناطقاً. وأما الثالث والرابع فهما جائزان. قلت: وهذا الكلام مبني على أصول سلمها لهم من لم يفهمها، مثل كلامهم في الفرق بين الذاتيات المقومة والعرضية اللازمة، وكلامهم في تركب الأنواع من الأجناس والفصول ونحو ذلك. ونحن نبين ما يعرف الحق به. فنقول: معلوم أن هذا الإنسان يشابه غيره في الإنسانية، ويشابه سائر الحيوانات في الحيوانية، وهذا معنى قولهم: متفقان في مسمى الإنسانية أو الحيوانية، أو يشتركان في ذلك، لكن نفس إنسانيته التي تخصه، وحيوانيته التي تخصه، لم يشركه فيها غيره أصلا، وإن كان قد ماثله فيها وشابهه، فمشابهة الشيء الشيء ومماثلته لا تقتضي أن يكون عين أحدهما يشاركه الآخر فيها، أو في شيء من صفاتها القائمة بها، فزيد المعين ليس فيه شيء من غيره أصلا، ولا في شيء من صفاته القائمة به. فقول القائل: اشتركا في الإنسانية أو اتفقا فيها، ونحو ذلك، فيه إجمال فإن الاشتراك يراد به الاشتراك في الأمور الموجودة في الخارج، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 كاشتراك الشركاء في العقار، بحيث يكون لهذا بعضه ولهذا بعضه، مشاعاً أو مقسوماً، وإذا اقتسما ذلك كان لهذا بعضه ولهذا بعضه، والمقسوم لا يصدق على كل من القسمين ولا يعمهما، فهذا اشتراك في الكل وقسمة للكل إلى أجزائه، كالقسمة التي ذكرها الفقهاء في كتبهم، وقسمة النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم والمواريث. ومنه انقسام الكلام إلى اسم وفعل وحرف. ومعلوم أن اشتراك الأعيان ف بالنوع أو الجنس. وانقسام الأجناس إلى الأنواع والأشخاص ليس من هذا فإن هذا قسمة الكلي إلى جزئياته واشتراك الجزئيات في كلي يتناولها، فالكليات لا توجد في الخارج كليات، فلا بد إلا مشخصة معينة. وإذا قال القائل: الكلي الطبيعي موجود في الخارج، وهو المطلق لا بشرط كالإنسان من حيث هو هو، والحيوان من حيث هو هو، فإن أراد بذلك أنه يوجد ما يصدق عليه المعنى الذي يقال له إذا كان في الذهن كلياً، مثل أن يوجد الشخص الذي يقال له إنسان وحيوان وجسم ونحو ذلك فقد صدق، وإن أراد أنه يوجد الكلي كلياً فقد أخطأ، فإن الكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، والمعين يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، فكيف يكون ذاك جزءاً من هذا، منحصراً في هذا؟ وهو يصلح لأن يدخل فيه من الأعيان أضعاف هذا؟ وكيف يكون الكبير جزءاً من لا قليل، والعظيم جزءاً من الصغير؟ ولا ريب أن الذهن يتصور إنساناً مطلقاً، لا يمنع تصوره من وقوع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 الشركة فيه، فيكون كليا في التصور والذهن، فإذا وجد فلا يوجد إلا معينا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. فمن أراد بقوله: الكلي يوجد في الأعيان، ما يراد بوجود الصور الذهنية في الخارج، مثل قول القائل: ما كان في نفسي فقد حصل ولله الحمد، وما كان في نفسي فقد فعله زيد، ونحو ذلك، فإن أول الفكرة آخر العمل. والإنسانية يتصور في نفسه أشياء ثم يفعل ما تصوره، ولا يريد بذلك أن نفس الصورة الذهنية التي تصورها وقصدها وجدت في الخارج بعينها، ولكن وجد في الخارج ما هو مطابق لها موافق لها. وقد يقال: إن هذا هو هذا، كما يقال للمكتوب أنه الملفوظ، وللملفوظ إنه المعلوم، وللمعلوم إنه الموجود، فإن الأشياء لها وجود في الأعيان ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان ووجود في البيان: وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي، فإذا كتب اسم زيد وقيل إن هذا هو زيد لم يرد بذلك أن الخط هو الصوت، ولا أن الصوت هو العلم، ولا أن العلم هو الشخص المعين، بل الناس يعلمون أن القائل إذا قال: هذا هو زيد، فالمراد هذا المكتوب اسمه زيد، ونظائر هذا كثيرة. فإذا قيل: إن الكلي وجد في الخارج بهذا الاعتبار فهو صحيح، لأن الكلي يتصوره الذهن مطلقاً غير مشروط بشرط، فيوجد في الخارج ما يطابقه، بمعنى انه يصدق عليه المطلق الذي لا يشترط فيه شرط، فيوجد في الخارج ما يطابقه، بمعنى انه يصدق عليه المطلق الذي لا يشترط فيه شرط، إذا قيل: هذا حيوان، هذا إنسان، لكن إذا صدق عليه المطلق لا بشرط لم يلزم أن يكون قد وجد المطلق مطلقاً لا بشرط، فإن صدقه عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 يقتضي أن يكون صفة له ومحمولاً عليه، وهذا عين التقييد والتخصيص. وهذا كما إذا قلنا: هذا حيوان، هذا جسم لم يلزم من ذلك أن يكون قد وجد حيوان مطلق، فضلا عن أن يكون إنسانا أو فرساً أو نحو ذلك من الأنواع، أو جسم معين مجرد عن أن يكون معيناً من الأجسام المعينة. وقول القائل: المطلق لا بشرط ينفي اشتراط الإطلاق، فإن ذلك هو المطلق بشرط الإطلاق، وذاك ليس بموجود في الخارج، بلا نزاع من هؤلاء المنطقيين أتباع أرسطو فإن المنطق اليوناني يضاف إليه ولهذا لا يذكرون فيه نزاعاً وإنما يثبته في الخارج أصحاب أفلاطون، وإذا لم يكن الإطلاق شرطاً فيه، لم يمتنع اقتران القيد به، فيكون وجوده مقيداً، وإذا كان وجوده مقيداً امتنع أن يكون مطلقاً فإن الإطلاق ينافي التقييد. وإن قلت: المقيد يدخل في المطلق بلا شرط. قلت: وإذا دخل فيه هو إياه في الذات، مغايراً له في الصفات. كما إذا قلت: الناطق حيوان، لم يكن هناك جوهران: أحدهما مطلق، والآخر مقيد. وهذا أمر يشهد به الحس، ولا ينازع فيه من تصوره، فليس في الموجودات المعينة إلا صفاتها المعينة القائمة بها، وكل ذلك مشخص الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 معين، وما ثم إلا عين قائمة بنفسها، سواء سميت جوهراً، أو جسماً أو غير ذلك، أو صفة لها: سواء سميت عرضاً أو لم تسم بذلك. والمقصود أن الشيئين إذا اتفقا واشتركا في شيء، كالإنسانية والحيوانية، واختلفا وامتاز كل منهما عن الآخر بشيء كتعينة وتخصصه، فكل ما اتفقا فيه واختلفا فيه يمكن أخذه مطلقا ومعينا، فإذا أخذ معينا لم يكن واحد منهما شارك الآخر ووافقه في ما تعين فيه، وإذا أخذ مطلقا أو كلياً، كان كل منهما قد شارك الآخر ووافقه في الكلي المطلق الذي يصدق عليهما، ولكن الكليات في الأذهان، وليس ف بالأعيان إلا ما هو معين مختص. لكن بين المعينات تشابه واختلاف وتضاد. فإذا قيل: هذا الإنسان يشارك هذا في الإنسانية ويمتاز عنه بالتعين. قيل له: يشاركه في إنسانيته التي تخصه أو في مطلق الإنسانية؟ فالأول باطل ومخالف لقوله: ويمتاز عنه بالتعيين، وإن أراد الثاني. قيل له: وكذلك التعين، فإنه يشاركه في مطلق التعين، فلكل منهما تعين يخصه، ويشتركان في مطلق التعين، كما قلنا في الإنسانية. فقول هؤلاء: كل أشياء تختلف بأعيانها وتتفق في أمر مقوم لها، فإما أن يكون ما تتفق فيه لازماً لما تختلف فيه أو ملزوما له أو عارضا له أو معروضا له. فالأول والثالث والرابع جائز، والثاني يمتنع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 يقال لهم: الأشياء المعينة كالإنسانيين والموجودين سواء قدرا واجبين أو ممكنين أو قدر أحدهما كذلك لم تتفق في أمر هو بعينه في هذا وفي هذا، سواء سمي مقوماً أو لم يسم، فهذا الإنسان لم يوافق هذا في نفس إنسانيته، وإنما وافقه في إنسانية مطلقة، وتلك المطلقة يمتنع أن تقوم بالمعين، فالتي وافقه فيها يمتنع أن تكون بعينها موجودة في الخارج، فضلا عن أن تكون مقومة لشيء من الأشياء والأشياء المعينة لا تقوم بها، ولا يقومها إلا ما هو مختص بها، لا يشركها فيه غيره. فهذا الإنسان المعين لا يقومه ولا يقوم به ولا يلزمه ولا يعرض له قط إلا ما هو مختص به سواء كان جوهراً أو عرضا كما أن يده ورجله ورأسه مختصة به، فما يقوم ببدنه ونفسه من الحياة والنطق والحس والحركة والجسمية وغير ذلك، كل ذلك مختص به، ليس بقائم بغيره. فليتدبر العاقل اللبيب هذا المكان الذي حصل بسبب الضلال فيه من فساد العقول والأديان ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. وباشتباه هذا اشتبه الأمر على هؤلاء المنطقيين، وعلى من قلدهم وأتبعهم، فضلوا في العقليات المنطقيات والإلهيات ضلالاً بعيداً، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 وجعلوا الصور الذهنية الخيالية حقائق موجودة في الخارج، حتى آل بهم الأمر إلى أن جعلوا لواجب الوجود الخالق للسماوات والأرض رب العالمين وجوداً مطلقاً في إذ انهم، وعرضا ثابتاً في نفوسهم، ليس له حقيقة في الخارج، ولا وجود، ولا ثبوت ويقولون: وجوده معقول لا محسوس، وإنما هو معقول في عقولهم، كما يعقلون الكليات الثابتة في العقول، فالوجود المطلق: كالحيوان المطلق، والإنسان والجسم المطلق، والشمس المطلقة، والقمر المطلق، والفالك المطلق ونحو ذلك مما لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان. وهذا هو نهاية التوحيد، الذي زعموا أن الرسل جاءت به ولا ريب أن أقل أتباع الرسل أصح وأكمل عقلاً من أن يجعل هذا ثابتاً ف بالوجود الخارج، فضلاً عن أن يجعله رب العالمين، مالك يوم الدين، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيرا. وقوله إما أن يكون المتفق لازماً أو ملزوماً أو عارضاً أو معروضاً. فيقال: ما سميته متفقا ومشتركاً، هو ما جعلته مختلفاً مميزاً لازماً له الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 وملزوماً، يشتركان في العموم والخصوص والإطلاق والتعيين، فالاشتراك والامتياز والاتفاق والاختلاف إذا أخذته باعتبار الذهن والخارج، فكل شيئين اشتركا في أمر فذلك المشترك هو في الذهن، وكل منهما هو في الخارج متميز، فالحيوانان المشتركان في الحيوانية هما مشتركا في الحيوانية المطلقة، ويمتاز أحدهما عن الآخر بالحيوانية الموجودة التي تخصه، كما يشترك الناطقان في الناطقية، ويمتاز أحدهما عن الآخر بالناطقية التي تخصه. وأما الأمور الموجودة في الخارج فبينها تشابه وتماثل، واختلاف وتضاد، ليس فيها شيء يشارك شيئاً لا في ذاته ولا في صفة من صفاته. فقولهم في القسم الأول هو مثل فصول الأنواع الداخلة تحت جنس واحد، فإن طبيعة ذلك الجنس لازمة لطبائع الفصول، كالوجود والوجود والوحدة، والتماثل والاختلاف، والتضاد والتغاير، اللوازم للحقائق الكثيرة. يقال لهم: فصول الأنواع: كالناطقية والصاهلية ونحوهما، التي هي فصول أنواع الحيوان كالفرس والإنسان وغيرهما مما يدخل تحت جنس الحيوان إذا قيل طبيعة الجنس وهو الحيوان لازمة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 لطبائع هذه الفصول، كما هو لازم لهذه الأنواع، فإذا أخذت عين اللازم والملزوم في الخارج، كان التلازم من الطرفين يلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه فلا يقال إن أحدهما أعم من الآخر ولا أخص. وإذا قيل: إنهما يشتركان في الحيوانية، وكل منهما متميز عن الآخر بالناطقية والصاهلية، فكل من هذه الموجودات متميزعن غيره بحيوانيته، كما هو متميز بناطقيته وصاهليته، ونوع الناطقية لا يميز معينا عن معين، وإنما يميز نوعاً عن نوع، والأنواع إنما هي في الأذهان لا في الأعيان، فإن الحيوان إذا لزم الناطق والصاهل، فنفس الحيوان هو نفس الصاهل ونفس الناطق ليس الحيوان فيه. وهم قد يقولون: إن في الناطق والصاهل حيواناً وهذا غلط، فإن الحيوان هو الموصوف بأنه صاهل وأنه ناطق وليس في الجوهر المعين جوهر آخر: لا مطلقاً ولا معينا بل هو جوهر واحد موصوف بهذا وبهذا بل وهذا الصاهل المعين هو حيوان وليس هو هذا الصاهل المعين الذي هو حيوان، فضلاً عن أن يكون هذا الناطق المعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 ولو قيل: إن هذا الصاهل المعين فيه حيوان، فليس الحيوان الذي فيه هو الحيوان الذي فيه الصاهل المعين، فكيف بما في الناطق وأمثاله؟ وإذا أراد أن الطبيعة العامة أو المطلقة أو الكلية لازمة لهذه الطبائع الخاصة، فالمعنى الصحيح: أن هذا المعنى الذي يوجد في الذهن عاماً مطلقاً كلياً، والذي يوجد أعيانه في الخارج أكثر من أعيان الطبيعة الخاصة هو لازم للطبيعة الخاصة، فحيث كان ناطق أو صاهل كان هناك ما هو حيوان وليس إذا كان حيوان يلزم أن يكون هناك ناطق أو صاهل. وهنا كلام ليس هذا موضعه وهو أن الحيوانية التي للإنسان مثلاً، هي مماثلة للتي للفرس مخالفة لها، فهؤلاء يقولون: هي مماثلة والمختلفات يلزمها امور متماثلة، وغيرهم يقولون: بل لوازم المختلفات مختلفة، وليست الحيوانية التي في هذا النوع مثل الحيوانية التي في النوع الآخر. وهذا نظير اختلافهم في الحكم الواحد بالنوع: هل يجوز تعليله بعلتين مختلفتين؟ فمن قال بالأول جوز ذلك. ومن قال بالثاني منع ذلك، وقال: اختلاف العلل يقتضي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 اختلاف الأحكام ويجيبون عن قول من يقول إن الملك نوع واحد وهو يستفاد بالبيع والإرث والاتهاب ونحو ذلك بأن الملك أنواع مختلفة، وليس هذا مثل هذا، وإن اشتركا في كثير في كثير من الأحكام، وكذلك حل الدم الثابت بالردة والقتل والزنا. وقد عورضوا بنقض الوضوء الثابت بأسباب مختلفة فأجابوا بأنه قد يختلف الحكم بالقوة والضعف. وهذا الآن كلام في تماثل الأحكام والعلل المختلفة وتماثل لوازم الأنواع المختلفة، وأما كون هذا المعين ليس هو هذا المعين فهذا مما لا نزاع فيه. والمقصود هنا أن المتفقات في أنر من الأمور، إذا قيل: إن ما به الاشتراك لازم لما به الامتياز فما اشتركا فيه لا يفارق ما به من الامتياز من جهة كونه مشتركا ولا يوجد معه، فضلا عن أن يلزمه، إذ الاشتراك إنما هو فيه إذا كان في الذهن، وهو من هذه الجهة لا يوجد في الخارج، ولكن الوصف الذي يقال إنهما تشاركا فيه، معناه انه يوجد لهذا معينا، ويوجد لهذا من نوعه آخر معين والمعين لا اشتراك فيه، فلا يظن انه وجد في الخارج ما اشتركا فيه في الخارج، وإن كان مشتركا فيه في الذهن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 واعتبر عموم المعاني والاشتراك فيهما، بعموم الألفاظ والاشتراك فيهما، فإذا قلت: لفظ إنسان يشترك فيه هذا وهذا ويعمها ولفظ حيوان يشترك فيه أكثر مما يشترك في لفظ إنسان لم يكن بين المسميات في الخارج شيء اشتركت فيه، فليس بين هذا الإنسان وهذا الإنسان، ولا بينهما وبين الفرس في الخارج شيء مشترك بينهما لأجل الاشتراك والاتفاق في لفظ إنسان ولفظ حيوان فكذلك اتفاقهما واشتراكهما في المعنى المدلول عليه بهذا اللفظ. وكذلك اتفاقهم واشتراكهم في الخط المرقوم المطابق لهذا اللفظ، فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى والثلاثة تتناول الأفراد الموجودة في الخارج وتعمها، والأعيان متفقة فيها مشتركة، من غير أن يكون بين الأعيان في الخارج شيء اشتركت فيه لكن بينها تشابه بحسب ذلك المعنى الشامل لها، واللفظ المطابق له، والخط المطابق للفظ. وبذلك يتبين الكلام في القسم الثاني وهو أن ما به الاختلاف لازم لما به الاشتراك انه قسم ممتنع فإنه ليس في الخارج إلا ما به الاختلاف الذي هو ضد الاشتراك إذ ليس في الخارج مشترك بل كل شيء فهو نفسه، ليس مشاركا لغيره في شيء فيكون مخالفاً له إذا جعل الاختلاف قسم الاشتراك، وأما الاختلاف الذي هو قسيم التشابه ن فهذا قد يكون في الخارج وقد لا يكون. فالبياضان المتماثلان هما غير مختلفين بهذا الاصطلاح، وهما مختلفان بالاصطلاح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 الأول الذي هو بمعنى الامتياز، فإذا كان كل من البياضين ممتازاً عن الآخر ببياضه الذي يخصه فهو ممتاز عنه أيضاً بلونيته وعرضيته التي تخصه وكذلك الإنسانان فما امتاز به كل منهما عن الآخر لازم للمشترك الكلي الذي في الذهن فذاك ليس بلازم ولا ملزوم إذ يمكن تقدير حيوان ولون مجرداً في الذهن ليس له لازم ولا ملزوم وأما الحيوان الموجود في الخارج فهو حيوان معين يلزمه معين إما إنسان معين وإما فرس معين وإما نحو ذلك وهذا المعين حاصل مع هذا المعين أبداً ولكن ليس لازماً لحيوان آخر فإذا عدم هذا الإنسان المعين عدم هذا الحيوان المعين فإذا وجد آخر لم يكن هو المستلزم لهذا المعين فالحاصل أن كل موجود في الخارج بعينه فجميع صفاته اللازمة متلازمة يلزم من وجود إنسانيته وجود حيوانيته ويلزم من وجود حيوانيته وجود إنسانيته. تابع كلام ابن سينا وتعليق ابن تيمية عليه وأما المقدمة الثانية فإنه قال: قد يجوز أن تكون ماهية الشيء سبباً لصفة من صفاته، وأن تكون صفة له سبباً لصفة أخرى، مثل الفصل للخاصة، ولكن لا يجوز أن تكون الصفة التي هي الوجود للشيء إنما هي بسبب ماهيتة التي ليست هي الوجود، أو بسبب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 صفة أخرى، لأن السبب متقدم في الوجود، ولا متقدم بالوجود قبل الوجود. فيقال له: هذه مبنية على أن ماهية الشيء مباينة لوجوده، فنقول: إما أن تعني بالماهية والوجود: الماهية العلمية الذهنية، والوجود العلمي الذهني، وإما أن تعني بهما الماهية الموجودة في الخارج، والوجود الثابت في الخارج، وإما أن تعني بالماهية ما في الذهن، وبالوجود ما في الخارج، وإما بالعكس. فإن عني الثاني فلا ريب أن الذي في الخارج هو الموجود المعين وهو الحقيقة المعينة والماهية المعينة ليس هناك شيئان ثابتان أحدهما هو الموجود والآخر ماهيته. ومن قال إن المعدوم شيء في الخارج أو أن الماهية مباينة للموجود الخارج كما قال هذا طائفة من المعتزلة وقال هذا طائفة من الفلاسفة فقوله في غاية الفساد كما هو مبسوط في موضعه. وإن عني بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج فلا ريب أن أحدهما مغاير للآخر وكذلك بالعكس وليس هذا مما يتنازع فيه العقلاء لكن لما غلب على مسمى الماهية الوجود الذهني وعلى مسمى الوجود الثبوت في الخارج وأحدهما غير الآخر توهم من توهم أن للموجود ماهية مغايرة للموجود المعين وهو غلط محض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 وإذا كان كذلك فقول القائل يجوز أن تكون ماهية الشيء أو بعض صفاته سبباً لصفة أخرى ولا يجوز أن تكون الماهية سبباً للصفة التي هي الوجود لأن السبب متقدم على الوجود ولا يتقدم بالوجود على الوجود. كلام مبني على أصول فاسدة. أحدها كون الموجود الثابت في الخارج صفة لماهية ثابتة في الخارج وهذا غلط بل نفس ما في الخارج هو الموجود الذي هو ماهيته والوجود إن عني به المصدر فذاك قائم بالواحد وإن عني به الموجود فهو الموجود فليس في الموجود وجود يزيد على حقيقته الموجودة. والثاني قوله إن الماهية أو صفتها تكون سبباً لصفة أخرى مثل الفصل للخاصة. فإن عني بالماهية ما في النفس فليس هناك مسبب ولا سبب بل الذهن هو الذي يصور الجميع وإن عني بها ما في الخارج فالفاعل المعين مبدع لصفاتها اللازمة وصفاتها العارضة قد تكون موقوفة على شرط آخر وليست إحدى الصفتين اللازمتين سبباً لها وإن كان قد يكون شرطاً. الثالث أن لفظ السبب إن عني به الفاعل فالصفة لا تفعل الصفة ولا الماهية تفعل صفاتها اللازمة لا سيما عندهم حيث يقولون الواحد لا يكون فاعلاً وقابلاً وإن عني به ما يقف المسبب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 عليه ولو كان شرطاً فالمحل حينئذ سبب وهم يزعمون أن الماهية قابلة لوجودها فتكون سبباً لوجودها فتناقض قولهم. وأما عند التحقيق فيجوز أن تكون الماهية أو شيء من صفاتها شرطاً في صفة أخرى ولو كنا ممن يقول إن في الخارج ماهية مغايرة لوجوده لجوزنا أن تكون الماهية شرطاً لوجودها لأن الشرط لا يجب أن يتقدم المشروط بخلاف العلة فإنها تتقدم المعلول ولكن لما لم يكن في الخارج إلا الوجود الذي هو ماهية نفسه امتنع أن تكون هناك ماهية تكون شرطاً لوجود نفسها أو لا تكون شرطاً لوجود نفسها. ثم قال ابن سينا في تقرير توحيدهم واجب الوجود المتعين إن كان تعينه ذلك لأنه واجب الوجود فلا واجب وجود غيره وإن لم يكن تعينه لذلك بل لأمر آخر فهو معلول لأنه إن كان وجوب الوجود لازماً لتعينه كان الوجوب لازماً لماهية غيره أو صفة وذلك محال وإن كان عارضاً فهو أولى أن يكون لعلة وإن كان ما تعين به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 لخصوصية ما لذاته يجب وجوده هذا محال وإن كان عروضه بعد تعين أول سابق فكلامنا في ذلك وباقي أقسامه محال. قلت وإيضاح هذا الكلام أنه إذا قدر واجبان كان قد اشتركا في مسمى الوجوب وامتاز كل منها عن الآخر بتعينه فإما أن يكون ما به الاشتراك لازماً لما به الامتياز أو ملزوماً أو عارضاً أو معروضاً فغن كان المشترك لازماً كلزوم الحيوانية للإنسانية مثلاً فهذا لا يجوز في هذا الموضع كما قال لأنه كان واجب الوجود لازماً لتعينه كان الوجود الواجب لازماً لماهية غيره وصفة وذلك محال. وإن كان المشترك وهو الوجوب عارضاً للمختص وهو التعين الذي هو الماهية فهو أولى أن يكون لعلة والوجود الواجب لا يكون لعلة. وإن كان التعين عارضاً للوجوب المشترك فهو لعلة كتعين آحاد النوع. ولهذا قال بعد هذا أعلم أن الأشياء التي لها حد نوعي واحد فإنما تختلف بعلل أخرى وأنه إذا لم يكن مع الواحد منها القوة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 القابلة لتأثير على كثيرين فتعين كل واحد بعلة فلا يكون سوادان ولا بياضان في نفس الأمر إلا إذا كان الاختلاف بينهما في الموضوع وما يجري العلل وهي المادة لم يتعين إلا أن يكون في طبيعة من حق نوعها أن توجد شخصاً واحداً وأما إذا كان يمكن في طبيعة نوعها أن تحمل مجراه. قال فإذا كان ما تعين به عارضاً للوجوب المشترك بالعروض لعلة فإن كانت تلك العلة وما به تعين الماهية واحداً بحيث تكون علة العروض هي علة التعين كانت تلك العلة علة الخصوص ما لذاته يجب وجوده فيكون لذات واجب الوجود علة وهو ممتنع وإن كان عروضه للوجوب المشترك بعد تعين أول سابق فالكلام في ذلك التعين السابق. وبقي من الأقسام قسم رابع وهو أن يكون ما به التعين الذي امتاز به كل منهما عن الآخر لازماً للمشترك بينهما وهذا ممتنع في جميع المواد كما تقدم بتعين امتناع واجبي وجود ووجب أن يكون وجوب الوجود مستلزماً للتعين فيكون تعينه لأنه واجب الوجود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 والمعلول لازماً لعلته فلا يكون وجوب الوجود لغير المعين فهذا مراده بهذه الحجة. وقد ظن أبو عبد الله الرازي أن مراده بقوله إن كان تعينه ذلك لأنه واجب الوجود فلا واجب وجود غيره هو القسم الأول من الأقسام الأربعة التي جعل فيها الوجوب بلزوم التعين على تقدير ثبوت واجبين. قال وأما قوله إن لم يكن تعينه لذلك بل لأمر آخر فهو معلول هو القسم الذي جعل الوجوب فيه معروض ذلك التعين قال وقوله وإن كان ما تعين به عارضاً لذلك فهو لعلة هو هذا القسم وأنه لم يذكر في إبطاله إلا قوله لو كان تعينه لا لكونه واجباً بل لأمر آخر فهو معلول وأنه أعاد هذا الكلام مرة أخرى وزاد في بيان بطلانه ما ذكره آخراً وأنه لو ذكر هذا الكلام حينما تعرض لإبطال القسم الثاني كان أقرب إلى الضبط. قلت وليس الأمر على ما ظنه بل الرجل ذكر أولً التقدير المستلزم لوحدة الواجب ثم ذكر أربعة أقسام على تعدده وأبطلها بقوله واجب الوجود المتعين إن كان تعينه أي ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 التعين الخاص لأنه واجب الوجود فلا واجب وجود غيره لأنه يكون وجوب الوجود يستلزم التعين الخاص فلا يوجد الملزوم بدون لازمة فلا يتحقق الوجوب إلا في ذلك المعين وهو المطلوب وإن لم يكن ذلك التعين لأجل وجوب الوجود فهو معلول وكون واجب الوجود معلولاً ممتنع وهذا يعم الأقسام الأربعة لأنه حينئذ يكون المتعين علة غير وجوب الوجود كما ذكر بعد هذا أن الأشياء التي لها حد نوعي إنما تتعدد لعلل وتتعين بعلل أخرى إلا أن يكون من حق نوعها أن توجد شخصاً واحداً وإذا كان للتعين علة غير وجوب الوجود فهو معلول كما أن تعين الإنسان معلول لغير الإنسانية ثم بين أنه يكون معلولاً على التقديرات الأربعة فقال إن كان وجوب الوجود المشترك لازماً للتعين أي لهذا التعين وهذا التعين الذي في الواجبين كما تلزم الإنسانية لهذا الإنسان وهذا الإنسان وهذا التعين الذي في الواجبين مما تلزم الإنسانية لهذا الإنسان وهذا الإنسان كان الوجود الواجب لازماً أو صفة لماهية غيره وقد قال إن هذا محال في المقدمة الثانية وإن كان الوجود الواجب لازماً أو صفة لماهية غيره وقد قال إن هذا محال في المقدمة الثانية وإن كان عارضاً فهو أولى وإن كان معروضاً فقد بين بطلانه وباقي أقسامه وهو كون التعين المتعدد لازماً للمشترك فهو أولى وإن كان معروضاً فقد بين بطلانه وباقي أقسامه وهو كون التعين المتعدد لازماً للمشترك فهو ممتنع في جميع المواد كما يمتنع أن يكون تعين الإنسان لازماً للإنسانية لا يلزم أنه حيث وجد المشترك وجد المعين وهذا محال. قول الآمدي في الحقائق وإذا عرف أن هذا مقصودة فاعلم أن هذه الحجة يصوغها بعبارات متنوعة والمعنى واحد كما صاغها الآمدي في دقائق الحقائق في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 الفلسفة فقال الفصل الثاني في وحدانية واجب الوجود وأنه لا ضد له ولا ند وأنه قديم أزلي أما أن واجب الوجود واحد لا تعدد فيه ولا اشتراك فذلك لأن مسمى واجب الوجود لو كان مشتركاً بين شيئين فالشيئان إما متفقان من كل وجه أو مختلفان من كل وجه أو متفقان من وجه دون وجه فإن اتفقا من كل وجه فلا تعدد إذ التعدد دون مميز محال وإن اختلفا من كل وجه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 فما به وقع الافتراق إن كان هو مسمى واجب الوجود فلا اشتراك فيه أيضاً وإن كان غيره فمسمى واجب الوجود يكون مشتركاً بينهما وعند ذلك فإما أن يتم تحقق مسمى واجب الوجود في كل واحد من الشيئين بدون ما به التخصص والتمايز أو لا يتم دونه الأول محال وإلا كان الأمر المطلق المشترك متخصصاً في الأعيان بدون ما به التخصص وهو محال والثاني يتوجب أن يكون واجباً لذاته وقد قيل إنه واجب لذاته وهذه المحالات إنما لزمت من القول بالاشتراك في مسمى واجب الوجود فلا اشتراك فيه فإذا واجب الوجود لا تعدد فيه بل نوعه منحصر في شخصه. قال والناظر المتبحر يزداد بإمعان النظر في هذه الحجة المحررة والبحث فيها مع نفسه وضوحاً وجلاء فإن ما طول به من التشكيكات وأنواع التخيلات على غيرها من الحجج المذكورة في هذا الباب فلا اتجاه له ههنا. هذا قوله هنا وهذه الحجة هي التي ذكرها الآمدي عنهم وعن بعض أصحابه في كتاب أبكار الأفكار واعترض عليها باعتراضين سبقه إلى أحدهما الرازي في شرح الإشارات وهو أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 الوجوب أمر سلبي لا ثبوتي فلا يتم الدليل حينئذ والثاني أن هذه الحجة منتقضة بوجود الله سبحانه مع وجود الممكنات فإنهما اتفقا في مسمى الوجود وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه فإما أن يكون المطلق مع المعين لازماً أو ملزوماً أو عارضاً أو معروضاً واعترض الرازي بإعتراض ثالث وهو أنه منع كون التعين وصفاً ثبوتياً كما منع كون الوجوب وصفاً ثبوتياً. تعليق ابن تيمية قلت أما إلزامهم لهم الوجود الممكن مع الواجب فهذا إلزام لازم لا محيد للفلاسفة عنه ولكن ليس فيه حل الشبهة واما منع كون الوجوب أمراً ثبوتياً فهو من نوع السفسطة فإن الوجود إذا كان ثبوتياً فوجوبه الذي هو توكده المانع من إمكان نقيضه كيف يكون عدمياً ومعلوم أن اسم الوجود هو بالواجب أحق منه بالممكن. وأيضاً فإن ما ذكره من التقسيم وارد سواء قيل إن المفهوم ثبوتي أو سلبي فإنه إذا كان سلبياً مشتركاً امتنع أن يكون ملزوماً للمختص فإن المشترك سواء كان وجودياً أو عدمياً لا يستلزم المختص فإنه يقتضي أنه حيث وجد المشترك المطلق العام وجد كل واحد من أفراده الخاصة وامتنع أيضاً أن يكون لازماً للمختص إلا إذا كان الوجوب معلولاً ولازماً لغيره وهو قد ذكر إبطال هذا. وقد اعترض الرازي باعتراض آخر على احد قوليه في أن الوجود زائد على الماهية بان الماهية تكون علة للوجود وذكر أنه لا محذور في أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 تكون الماهية إذا أخذت مطلقة لا بشرط وجود ولا عدم علة لوجود نفسها والماهية من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة. قلت الحجة مدارها على أن المطلق المشترك الكلي موجود في الخارج وهذا هو الموضع الذي ضلت فيه عقول هؤلاء حيث اعتقدوا أن الأمور الموجودة المعينة اشتركت في الخارج في شيء وامتاز كل منها عن الآخر بشيء وهذا عين الغلط. قلت والشخص المعين ليس له تعين غير هذا الشخص المعين لا ثبوتي ولا عدمي فإنه لم يكن مشاركاً لغيره في أمر خارجي حتى يحتاج تعينه وتميزه عنه إلى وصف آخر ثبوتي أو سلبي وقولهم في القاعدة الكلية إن الأشياء التي لها حد نوعي إنما تختلف بعلل أخرى وأنه إذا لم يكن مع الواحد منها القوة القابلة لتأثير العلل وهي المادة لم يتعين إلا أن يكون من حق نوعها أن توجد شخصاً واحداً فأما إذا كان يمكن في طبيعة نوعها أن تحمل على كثيرين فيعين كل واحد بعلة فلا يكون سوادان ولا بياضان في نفس الأمر إلا إذا كان الاختلاف بينهما في الموضوع وما يجري مجراه هو قول باطل وذلك أن الأشياء التي لها حد واحد نوعي لا وجود لها في الخارج مطلقة ولا عامة أصلاً وإنما وجودها كذلك في الذهن فالسبب الفاعل للواحد منها هو الفاعل لذاته ولصفاته وهو الفاعل لذلك الواحد المعين وليس هنا شيئان أحدهما لنوعها والآخر لتشخصها بل ولا وجودان أحدهما لنوعها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 والآخر لتشخصها بل ولا وجودان أحدهما لنوعها والآخر لتشخصها بل ولا قابلان بل الموجود هو الأعيان المشهودة والفاعل إنما فعل تلك الأعيان لم يفعل أنواعاً مطلقة كلية وإن كانت تلك تتصور في العلم فالكلام في الوجود الخارجي. وهذا مما يبين لك أن من قال المتفلسفة إنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء على وجه كلي لا جزئي فحقيقة قوله إنه لم يعلم شيئاً من الموجودات فإنه ليس في الموجودات إلا ما هو معين جزئي والكليات إنما تكون في العلم لا سيما وهم يقولون إنما علم الأشياء لأنه مبدؤها وسببها والعلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب ومن المعلوم أنه مبدع للأمور المعينة المشخصة الجزئية كالأفلاك المعينة والعقول المعينة وأول الصادرات عنه على أصلهم العقل الأول وهو معين فهل يكون من التناقض وفساد العقل في الإلهيات أعظم من هذا؟ وقولهم إنه إذا لم يكن مع الواحد منها القوة القابلة لتأثير العلل وهي المادة لم يتعين كقول القائل إذا لم يكن مع الواحد منها القوة القابلة وهي المادة لم توجد فإن وجودها هو بعينها لم يكن لها تحقق في الخارج غير وجودها المعين. وقولهم فأما إذا كان يمكن في طبيعة نوعها أن تحمل على كثيرين فتعين كل واحد بعلة كقول القائل فموجود كل واحد بعلة ومعلوم أن الممكن وجوده بعلة سواء كان قد انحصر نوعه في شخصه كالشمس أو كان مما لم ينحصر نوعه في شخصه كالإنسان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 فليس للمعين علتان إحداهما لنوعه والأخرى لشخصه بل العلة الموجبة لشخصه كافية في وجوده كوجود ما أنحصر نوعه في شخصه. وقوله فلا يكون سوادان ولا بياضان في نفس الأمر إذا كان الاختلاف بينهما في الموضوع وما يجري مجراه كقول القائل لا يكون سوادان إلا إذا كان كل منهما قائماً في محل وكذلك السواد الواحد لا يوجد إلا في محل يقوم به وإذا قيل السوادان يفتقران إلى محلين وكذلك السواد الواحد فذلك لأجل كون السواد لا بد له من محل ولا يعقل تعدد السوادين بدون تعدد المحل كما لا يعقل وجوده بدون وجود المحل وما لا يفتقر إلى محل فتعدده لا يفتقر إلى محل كما أن واحده لا يفتقر إلى محل والتعين كالوحدة والتكثر كالتعدد وليس للعدد والوحدة في الخارج وجود غير المعدودات والمتوحدات وإنما وجود العدد المطلق والوحدة المطلقة والتعين المطلق في الأذهان لا في الأعيان كسائر المطلقات. وعلى هذا التقدير فواجب المتعين ليس لتعينه علة ولا سبب كما أنه ليس لوجوده علة ولا سبب وليس هناك في الخارج تعين زائد على نفسه المعينة لا ثبوتي ولا سلبي حتى يقال إن ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 له علة وإن علته إما وجوب الوجود فلا يتعدد وإما أمر آخر فيكون وجوب الوجود معلولاً. وإذا قدر واجباً وجود وقال القائل إنهما اشتركا في وجوب الوجود وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه. قيل له اشتركا في وجوب الوجود المطلق أو شارك كل منهما الآخر فيما يخصه من وجوب وجوده فأي شيء قال في ذلك قيل له وكذلك التعين فإنهما اشتركا في التعين المطلق وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه الذي يخصه فإذا قدرت وجوباً مطلقاً فخذ معه تعيناً مطلقاً وإذا قدرت وجوباً معيناً فخذ معه تعيناً معيناً وإذا قلت التعين المطلق لا يكون إلا في الذهن لا في الخارج قيل لك والوجوب المطلق لا يكون إلا في الذهن لا في الخارج. وحينئذ فقولك ما به الاشتراك يكون لازماً لما به الامتياز أو ملزوماً أو عارضاً أو معروضاً. جوابه أن ليس في الخارج ما به الاشتراك وإنما في الخارج ما به الامتياز فقط وما جعلته مشتركاً هو نظير ما جعلته مميزاً يمكن فرض كل منهما مطلقاً ومعيناً. فإذا قلت اشتركا في الوجوب وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه. قيل لك اشتركا في وجوب مطلق كلي لا وجود له في الخارج كما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 اشتركا في تعين مطلق كلي وماهية مطلقة كلية وكل منهما ممتاز عن الآخر بما هو موجود فهو ممتاز عنه بوجوده الذي يخصه وهو حقيقته التي تخصه وهو نفسه وذاته وماهيته التي تخصه فما اشتركا فيه من الأمر الكلي الذهني لا يكون في الخارج فضلاً عن أن يحتاج إلى مميز وما وجد في الخارج هو مميز عن غيره بنفسه المتناولة لذاته وصفاته المختصة به لا يحتاج إلى مميز آخر، وإن شابهه أو ماثله. وإذا قيل: هو هو، فهو، باعتبار النوع، لا باعتبار الشخص، ومعنى ذلك أن الموجود في الخارج من هذا، هو مثل الموجود في الخارج من هذا. فإذا قلت: هذان إنسانان، اشتركا في الإنسانية، وامتاز أحدهما عن الآخر بعينه أو بشخصه، أو ما قلت من العبارات التي تؤدي هذا المعنى، أمكن ان يقال: هذان الإنسانان اشتركا في أن كلا منهما له عين تخصه، وله شخص، ونحو ذلك، فاشتركا في التعين والتشخيص، وامتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه من الإنسانية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 وحقيقة الأمر أن كلاً منهما ماثل الآخر ووافقه في أنه إنسان معين مشخص، وكذلك إذا قدرنا موجودين: واجباً وممكناً، أو موجودين: واجبين أو ممكنين، فهذا الموجود وافق هذا الموجود في الوجود المطلق المشترك، بمعنى انه شابهه في ذلك، فهذا موجود: أي ثابت متحقق في الخارج، وهذا موجود: أي ثابت متحقق في الخارج، وكل منهما يفارق الآخر في نفس وجوده الذي يختص به، وهو ذاته الموجودة في الخارج، وليس بينهما اشتراك إلا في الخارج، سواء كانا متماثلين: كالسوادين وحبتي الحنطة، أو كانا مختلفين: كالسواد مع البياض، والفرس مع الإنسان. فإذا قيل: إن السواد والبياض، أو السوادين اشتركا في الوجود، فهو كقولنا: اشتركا في التحقيق والثبوت، وأن لكل واحد ماهية، ولا يقتضي هذا تماثلهما في شيء من الأشياء، فإن ما وجد في الخارج لكل منهما أمر يخصه، فإذا لم يكن الموجود في الخارج منهما متماثلاً، كالسواد مع البياض، لم يكونا متماثلين. وكذلك إذا قدر واجبان، وقيل: اشتركا في الوجوب، وامتاز أحدهما عن الآخر بالتعين. قيل: ما في الخارج ليس فيه اشتراك، وإنما اشتركا في وجوب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 مطلق كلي، كما اشتركا في تعين مطلق كلي، وهذا الواجب المعين لم يشركه غيره في وجوبه المعين، كما لم يشركه في تعينه المعين، بل كل منهما حقيقته الموجودة في الخارج هي الشيء الموجود في الخارج، كما أن حقيقه الممكن المحدث الموجودة في الخارج هي نفس الموجود في الخارج، وليس في الخارج حقيقة سوى الشيء المعين الموجود، حتى يقال: إن الوجود عارض لها أو لازم، بل إن كان الشيء الموجود في الخارج من المحدثات، كان موجوداً تارة، ومعدوماً أخرى، والموجود هي حقيقته الثابتة في الخارج، والمعدوم تلك الحقيقة وهي مجعولة مفعولة مصنوعة، وأما الحقيقة المتصورة في الذهن، فتلك هي وجوده الذهني العلمي، وتلك تحصل بالأسباب المحصلة للعلم، كما تحصل الخارجة بالأسباب المحصلة للوجود، وما ثم إلا هذا أو هذا، فتقدير حقيقة لا في العلم ولا في الوجود، تقدير مالا حقيقة له، بل هو فرض ممتنع يتصوره الذهن، كما يتصور ما لا يمكن وجوده لا في العلم ولا في الخارج، فإن تصور مالا يمكن وجوده أعظم من تصورنا ما لا يوجد، وهو متصور من هذه الجهة العامة، حتى يحكم عليه بنفي التصور الخاص، ولولا تميزه في الذهن مجملاً، لما أمكن الحكم على أفراده بالامتناع. ويبين هذا بالكلام على النظم الذي ذكره لهم الآمدي وجعله الغاية التي لا يرد عليها شيء، وهو قوله لو كان وجوب الوجود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 مشتركاً بين شيئين فالشيئان إما متفقان من كل وجه، أو مختلفان من كل وجه أو متفقان من وجه دون وجه. إلى قوله وإن اتفقا من وجه دون وجه، ومسمى واجب الوجود هو ما اشتركا فيه، فمسمى واجب الوجود يكون مشتركاً، فإما أن يتم تحقق مسمى واجب الوجود في كل واحد من الشيئين، بدون ما به التخصيص والتايز، أو لا يتم بدونه، والأول محال، وإلا كان الأمر المطلق المشترك مشخصا في العيان بدون ما به التخصيص، وهو محال والثاني يوجب افتقار مسمى واجب الوجود إلى أمر خارج عن المفهوم من اسمه فلا يكون واجبا بذاته. قلت: فيقال لهم: قولكم إما أن يتم تحقيق مسمى واجب الوجود في كل واحد من الشيئين بدون ما به التخصيص، أتعنون بذلك المسمى المطلق الكلي الذي لا يوجد إلا في الذهن؟ أم تعنون به المسمى الثابت في الخارج؟ أما الأول فلا يوجد في الخارج: لا فيهما، ولا في أحدهما، كما لا يوجد الحيوان المطلق الكلي ثابتاً في الخارج: لا في هذا الحيوان ولا هذا الحيوان. بل لا يوجد في الخارج إلا ما هو حيوان معين جزئي، وإنسان معين جزئي، وكذلك الإنسان المطلق الكلي، وكذلك سائر المطلقات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 الكلية، كالحيوان المطلق، وهم يسلمون أنها لا توجد في الخارج كلية مطلقة، وإنما يظنون أنها توجد جزءاً من المعين، وهذا أيضاً غلط، بل لا توجد إلا معينة مشخصة، وليس في المعين المشخص ما هو مطلق، ولا في الجزئي ما هو كلي، فإن كون الكلي ينحصر في الجزئي. والمطلق في المعين ممتنع. والآمدي قد بين فساد هذا في غير موضع من كتبه مثل كلامه على الفرق بين المطلق والمقيد، والكلي والجزئي، وغير ذلك، وزيف ظن من يظن أن الكلي يكون جزءاً من المعين، وبين خطأ من يقول ذلك، كالرازي وغيره، فلو رجع إلى اصله الصحيح الذي ذكره في الكلي والجزئي، والمطلق والمعين لعلم فساد هذه الحجة، ولكن لفرط التباس أقوالهم، وما دخلها من الباطل الذي اشتبه عليهم وعلى غيرهم، تزلق أذهان كثير من الأذكياء في حججهم، ويدخلون في ضلالهم من غير تفطن لبيان فسادها كالرازي والآمدي ونحوهما: تارة يمنعون وجود الصور الذهنية حتى يمنعوا ثبوت الكلي في الذهن وتارة يجعلون ذلك ثابتاً في الخارج. ففي هذا الموضع أثبت الآمدي المسمى المشترك الكلي في الخارج، وفي موضع آخر ينفيه مطلقاً كما قال في إحكامه لما أراد الرد على الرازي في الأمر بالماهية الكلية: هل يكون أمراً بشيء من جزئياتها ام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 لا؟ فإن الرازي ذكر أن الأمر بشيء من المعينات أن لا يكون فاعل المعين ممتثلاً، بل الأمر بجميع الأفعال: كالأمر بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والعتق وإعطاء الفقراء، فإنه أمر يشيء مطلق، ومع هذا فإذا اعتق رقبة مما أمر به أجزأه، ولو صام شهرين متتابعين في أول العام أو اوسطه أجزأه بخلاف آخره، فإن فيه نزاعاً لتخلل الفطر الواجب، ومثل هذا كثير. وزعم الآمدي أن الأمر لا يكون بالماهية الكلية، بل لا يكون إلا أمراً بالجزئيات، وهذا صحيح باعتبار دون اعتبار، فإذا أريد به أن لا يمكنه فعل المطلق إلا معيناً فيكون مأموراً بأحد الجزئيات لا يعينه بطريق اللزوم، كان صحيحاً وأما إن أريد انه لم يؤمر إلا بمعين لا بمطلق، فليس بصحيح. قول الآمدي في الإحكام قال الآمدي إذا أمر بفعل من الأفعال مطلقاً غير مقيد في اللفظ بقيد خاص، قال بعض أصحابنا: الأمر إنما تعلق بالماهية الكلية المشتركة، ولا تعلق له بشيء من جزئياتها، وذلك كالأمر بالبيع، فإنه لا يكون أمراً بالبيع بالغبن الفاحش، ولا ثمن المثل، إذ هما متفقان في مسمى البيع، ومختلفان بصفتهما، والأمر إنما تعلق بالقدر المشترك، وهو غير مستلزم لما يخصص به كل واحد من الأمرين، فلا يكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 الأمر المتعلق بالأعم متعلقاً بالأخص إلا أن تدل القرينة على إرادة أحد الأمرين. قال ولذلك قلنا: إن الوكيل في البيع المطلق، لا يملك البيع بالغبن الفاحش. قال الآمدي وهذا غير صحيح وذلك لأن ما به الاشتراك في الجزئيات معنى كلي لا تصور لوجوده في الأعيان وإلا كان موجوداً في جزئياته فيلزم من ذلك انحصار ما يصلح لاشتراك كثيرين فيه مما لا يصلح لذلك وهو محال. قال وعلى هذا فليس معنى اشتراك الجزئيات في المعنى الكلي سوى أن الحد المطابق للطبيعة الموصوفة بالكلية، مطابق للطبيعة الجزئية، بل إن تصور وجوده فليس في غير الأذهان، وإذا كان كذلك فالأمر طلب إيقاع الفعل على ما تقدم، وطلب الشيء يستدعي كونه متصوراً في نفس الطالب، وإيقاع المعنى الكلي في الأعيان غير متصور في نفسه فلا يكون متصوراً في نفس الطالب، فإذا الأمر لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 يكون بغير الجزئيات الواقعة في الأعيان لا بالأمر الكلي. قال وإن سلم أن الأمر يتعلق بالمعنى الكي المشترك، وهو المسمى بالبيع، فإذا أتى المأمور ببعض الجزئيات فقد أتى بما هو مسمى البيع المأمور به. تعليق ابن تيمية قلت: هذا الثاني صحيح، فإن الآتي ببعض المعينات قد أتى بما امر به، لكن الجمهور الذي يقولون: لا يصح بيعه بالغبن الفاحش، يقولون لم يدخل هذا البيع المعين في المسمى المطلق في عرف الناس، كما لم يدخل البيع بثمن مؤجل، وثمن محرم، ونحو ذلك. وأما قوله إنه لم يؤمر بكلي وإنه لا معنى لا اشتراك الجزئيات في المعنى الكلي، وإلا مطابقة حد الكلي لحد جزئياته، فهذا إسراف في النفي، فإن الجزئيات تطابق حد بعضها بعضا وليس بعضها عاما مشتركا لسائرها. وقوله، إيقاع المعنى الكلي في الأعيان غير متصور في نفسه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 صحيح إذا أريد به أن يجعل ذلك المعنى الذي في نفسه كلياً هو نفسه موجوداً في الخارج، وهذا غير مراد، فإن ما في النفس صفة قائمة بها لا يكون في الخارج، وإنما المراد أن يوجد في الخارج ما يطابقه، بحيث يكون ذلك المعنى الكلي الذهني متناولاً له، كما يقال: فعلت ما في نفسي، كما قال تعالى {إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها} يوسف 68 فالحاجة التي في نفسه إنما في نفسه تصورها وقصدها، وقضاؤها له فعل ذلك المراد المتصور، وهو امره لهم بما امرهم به من الدخول من أبواب متفرقة، ومثل هذا كثير في كلام سائر الناس. ومنه قول عمر بن الخطاب: زورت في نفسي مقالة أردت أن أقولها. ويقال: كان في نفسي أن أحج وقد فعلت ما كان في نفسي. والمقصود هنا أن الآمدي هنا متعرف بأن المعنى الكي لا تصور لوجوده في الأعيان وإلا كان موجوداً في جزئياته. قال: يلزم من ذلك انحصار ما يصلح لا اشتراك كثيرين فيه مما لا يصلح له، وهو محال وهو كما قال فإنه إذا قال: إن المطلق جزء من المعين، والكلي موجود في الجزئي، فقد جعل الكي بعض الجزئي، وبعض الشيء ينحصر فيه. ثم أنهم يقولون: هو جزء من هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 المعين، وهذا المعين، وسائر الجزئيات، فيلزم انحصاره في كل جزئي من جزئياته، وانحصاره في واحد يمنع وجوده في غيره، كما يمتنع وجود الجزئي في جزئي آخر، فكيف يكون منحصراً في جزئي مع انحصاره في جزئي آخر، فإن هذا جمع بين النقيضين مرات متعددة، بل لا ينحصر كثرة. فلو كان الآمدي ذكر هذا في هذا الموضع، لعلم بطلان هذه الحجة التي حررها لأتباع ابن سينا في كتابيه الكبيرين، ولم يبن علتها، ولعرف حلها ولم يقتصر على معارضتها. وكذلك الرازي يحتج بمثل هذه كثيراً مع أنه ينقضها كثيراً، كما قال في ملخصه حكاية عن المتفلسفة: أما الكلي العقلي، فالمشهور أن الصورة الذهنية أي وجوده بما هو هو في الذهن فقط لا في الخارج قالوا في بيان ذلك إن الأمر الموصوف بالكلية موجود: إما في الذهن، وإما في الخارج، وإلا لكان عدماً صرفاً، ولو كان كذلك لاستحال أن يكون مشتركا فيه بين كثيرين، ومحال أن يكون موجوداً في الخارج، لأن كل موجود في الخارج فهو مشخص معين، ولا شيء من المشخص المعين بمشترك فيه بين كثيرين، ينتج لا شيء من الموجود في الخارج بمشترك فيه بين كثيرين، وكل كلي مشترك فيه بين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 كثيرين، فلا شيء من الموجود في الخارج بكلي، ولما بطل كون الكي موجوداً في الخارج، تعين كونه موجوداً في الذهن فهذا الكلام الذي ذكره الرازي وحكاه عن الحكماء هنا، كلام صحيح. ولو التزموا موجبه لم يقولوا: إن في الخارج شيئاً مشتركاً كلياً، ولا أن الإنسانية الكلية موجودة في الخارج، ولا أن الواجبين أو الموجودين إذا اشتركا في مسمى الوجود والوجوب، كان ذلك المشترك الكلي متحققا في الخارج، واحتاج حينئذ إلى ما به الامتياز. وتناقض القوم أكثر من أن يمكن ذكره هنا، ومن تصور هذا المعنى علم بالاضطرار أن هذا الإنسان المعين، هو حيوان معين وجسم معين وناطق معين وأنه ليس فيه شيء كلي مطلق، مشترك بينه وبين غيره، ولا الكلي المطلق المشترك بين الأعيان جزء منه، ثابت في الخارج، ومن جعل المطلقات الكلية ثابتة في الخارج وجزءاً من العينات، وأثبت في المعينات أموراً مطلقة، فلا ريب أنه لم يتصور ما قال، أو هو فاسد العقل بأي عبارة عبر عن ذلك، مثل أن يقول: الماهية الكلية يعرض لها التعين، او هي معروضة التعين، أو هي غير مانعة من التعين، أو جعلوا الكلية عارضة للتعين، كقولهم: معروض الكلي في الخارج، فإنهم لما ظنوا أن في الخارج كلياً ومعيناً، صاروا تارة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 يجعلون هذا عارضاً لذاك، وتارة يجعلون ذاك عارضا لهذا، ويقولون: الماهية يعرض لها أن تكون كلية وجزئية. وحقيقة الأمر أن الماهية الكلية إنما تكون كذلك في الذهن وما في الذهن لا يوجد في الخارج إلا معيناً، ومعنى وجوده وجود ما يطابقه: مطابقة العلم للمعلوم، والاسم للمسمى، والإرادة للمراد، وإلا فعاقل يتصور ما يقول لا يقول: إن الكليات توجد في الخارج إلا إذا أراد به أن ما هو كلي في الأذهان يكون ثابتاً في الأعيان، لكن معيناً وهؤلاء ينكرون على من يقول: المعدوم شيء ثابت في الخارج. وقوله وإن كان باطلاً فقولهم أفسد منه وإن كانا يشربان من عين واحدة، وهو اشتباه ما في الأذهان بما في الأعيان. وكذلك الذين أثبتوا الأحوال في الخارج، وقالوا: هي لا موجودة ولا معدومة، شربوا أيضاً من هذه العين، وكذلك من ظن اتحاد العالم بالمعلوم، والمحب بالمحبوب، والعابد بالمعبود، كما وقع لأهل الاتحاد المعين قد شرب من هذه العين المرة المالحة أيضاً وكذلك من قال بالاتحاد المطلق تصور وجوداً مطلقاً في نفسه، فظن أنه في الخارج، فهؤلاء كلهم شربوا من عين الوهم والخيال، فظنوا أن ما يكون في وهمهم وخيالهم هو ثابت في الخارج. هذا وهم ينكرون على أهل العقول السليمة والفطر المستقيمة إذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 أنكروا وجود قائم بنفسه موجود لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه، ويزعمون أن نفي هذا من حكم الوهم والخيال التابع للحس، فإذا طولبوا بدليل يدل على إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، كان ملجؤهم وغياثهم هي هذه الكليات، كما فزع إليها ابن سينا ومن أخذ ذلك عنه الرازي وأتباعه مثل الأصبهاني وغيره. قول ابن سينا في الإشارات عن الكليات قال ابن سينا في أول النمط الرابع الذي هو في الوجود وعلله اعلم أنه قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وأن ما لا يناله الحس بجوهره ففرض وجوده محال وأن ما لا يتخصص بمكان أو بوضع بذاته كالجسم أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم فلا حظ له في الوجود وأنت يتاتى لك أن تتأمل نفس المحسوس فتعلم منه بطلان قول هؤلاء إنك ومن يستحق أن يخاطب تعلمان أن هذه المحسوسات قد يقع عليها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 اسم واحد لا على سبيل الاشتراك الصرف بل بحسب معنى واحد مثل اسم الانسان فإنكما لا تشكان في أن وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود فذلك المعنى الموجود لا يخلو إما أن يكون بحيث يناله الحس أولاً يكون فإن كان بعيداً من أن يناله الحس فقد أخرج التفتيش من المحسوسات ما ليس بمحسوس وهذا أعجب. وإن كان محسوساً فله لا محالة وضع وأين ومقدار معين وكيف معين لا يتأتي أن يحس بل ولا أن يتخيل إلا كذلك فإن كل محسوس وكل وكل متخيل فإنه يتخصص لا محالة بشيء من هذه الأحوال وإذا كان كذلك لم يكن ملائماً لما ليس بتلك الحال فلم يكن مقولاً على كثيرين يختلفون في تلك الحال فإذا الإنسان من حيث هو واحد بالحقيقة بل هو من حيث حقيقته الأصلية التي لا تختلف فيها الكثرة غير محسوس بل معقول صرف وكذلك الحال في كل كلي. قال ولعل قائلاً منهم إن الإنسان إنما هو إنسان من حيث له اعضاء من يد ورجل وعين وحاجب ومن حيث هو كذلك فهو محسوس فننبهه ونقول إن الحال في كل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 عضو مما ذكرته أو تركته كالحال في الإنسان نفسه. تعليق ابن تيمية قلت يقال له قولك قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس إما أن تريد أن الوجود هو ما أحس الشخص المعين أو ما يمكن إحساسه في الدنيا أو ما يمكن الإحساس به ولو بعد الموت فأما الأول فلا يقوله عاقل فإنه ما من عاقل إلا ويعلم إما بخبر غيره وإما بنظره وقياسه ما لم يعلمه بحسه ومن حكى عن الراهمة أو غيرهم من الأمم انهم حصروا الموجودات في المحسوسات بمعنى انه ما لم يحسه الشخص المعين لا يصدق به وانه لا يصدق بالأخبار المتواترة وغيرها فلم يفهم مرادهم فإن أمة من الأمم لها بلاد يعيشون فيها لا بد أن يميز الرجل بين أمة وأبيه وأن يعرف من حوادث بلده وسير ملوكهم وعاداتهم ما لا يعرفه إلا بالخبر وهذا نظير إلا بالخبر وهذا نظير حكاية من حكى أن أمة من الأمم يقال لهم السوفسطائية ينسبون إلى رجل يقال له سوفسطا يجحدون الحقائق أو علمهم بجميع الحقائق أو يقفون أو يجعلون الحقائق مطلقاً تابعة للعقائد فإن هذا لا يتصور أن تكون عليه أمة من الأمم لهم بقاء في الدنيا وإنما السفسطة كلمة معربة أصلها سوفسقيا وهي كلمة يونانية أي حكمة مموهة بالسفسطة أي الكلام الباطل المشبه للحق وهذا يعرض لكثير من الناس أو لأكثرهم في كثير من الأمور لا في جميعها فإنه كما تعرض الأمراض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 للأبدان كذلك تعرض الأمراض للنفوس مرض الشبهات والشهوات. وفي الحديث المأثور: إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات، رواه البيهيقي مرسلاً، وزاد فيه بعضهم: ويحب السماحة، ولو بكف من تمرات، ويحب الشجاعة ولو على قتل الحيات. ولكن البراهمة أنكرت ما سوى هذا الموجود المحسوس، كما هو قول الطبيعية من الفلاسفة، وقول الفرعونية ونحوهم، وهذا هو المردود عليهم، وسيأتي بيان ذلك في حكاية الإمام أحمد مناظرتهم لجهم، ويمكن أن الراهمة أو بعضهم قال مالا يمكن معرفته بالحس ألبته فهو ممتنع وهذا قول أكثر أهل الأرض من أهل الملل وغيرهم، وهو القول الذي أنكره ابن سينا وأراد إبطاله. لكن هؤلاء نوعان: منهم من أنكر مالا يحسه عموم الناس في الدنيا، حتى أنكر الملائكة والجن، بل وجحد رب العالمين سبحانه، فهؤلاء هم الكفار الدهرية المعطلة المحضة. وابن سينا وأمثاله يردون على هؤلاء لكن يردون عليهم أحيانا بحجج فاسدة. وهذا هو القسم الثاني، وهو إنكار الإنسان مالا يحس في الدنيا. وأما القسم الثالث، وهو أن الموجود هو ما يمكن الإحساس به، ولو في الآخرة، وأن ما أخبرت به الرسل من الغيب، كما أخبرت به عن الجنة والنار وعن الملائكة، بل وإخبارهم عن الله تعالى، هو مما يمكن معرفته بالحس، كالرؤية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 فهذا قول جماهير أهل الإيمان بالرسل، وسلف الأمة وأئمتها، فإنهم متفقون على أن الله يرى في الآخرة عيانا، كما يرى الشمس والقمر، وأنه لا يلزم من تعذر رؤية الشيء في حال تعذر رؤيته في حال أخرى، بل قد يرى الشيء في حال دون حال، كما أن الأنبياء يرون مالا يراه غيرهم من الملائكة وغيرها، بل والجن يراهم كثير من الناس. وإن ادعى أن من الموجودات القائمة بأنفسها مالا يمكن أن يعرف بالإحساس في حال من الأحوال، فهذا قول باطل، ولا دليل له لعيه، وهذا قول الجهمية الذين ينكرون رؤية الله تعالى. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على بطلان قولهم، وفساد قولهم يعلم بالعقل الصريح، كما يعلم بالنقل الصحيح، وهؤلاء في نفس الأمر من أجهل الناس وأضلهم، وإن كانوا عند أنفسهم من أعقل الناس وأعرفهم، فهم كما قال تعالى: {الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} غافر 56. وكما قال تعالى {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} البقرة 13. وقوله: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} غافر 83. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 وأما حجته على إثبات وجود ما ليس بمحسوس، فقد احتج بالكليات. فيقال له: قولك: إن هذه المحسوسات يقع عليها اسم واحد بحسب معنى واحد، مثل اسم الإنسان، فإن وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود. فيقال له: لأتعني أن هذا المعنى الواحد الذي يشترك فيه زيد وعمرو، هو معنى واحد قائم بالعالم كالإنسان؟ كما أن لفظ إنسان قائم بالناطق، وكما أن خط زيد قائم باللوح الذي فيه الخط؟ أم تعني أن ذلك المعنى الواحد هو موجود في الخارج، في زيد وعمرو أو في غيرهما؟ أما الأول فصحيح ولاحجة لك فيه. وأما الثاني فقولك في المعنى كقول من يطرد قولك، ويجعل لفظ الإنسان الواقع على زيد وعمرو موجوداً في الخارج قائماً بزيد وعمرو ويجعل الخط المطابق للفظ ثابتاً في الخارج عن اللوح، قائما بزيد وعمرو، إذا كل عاقل يعلم أن الخط مطابق للفظ، وأن اللفظ مطابق للمعنى، وأن عموم المعنى الواحد كعموم اللفظ الواحد المطابق له. فإذا قال القائل إنسان كان للفظه وجود في لسانه وللمعنى وجود في ذهنه ووقوعه هذا على زيد وعمرو كوقوع هذا على زيد وعمرو وهذا هو المعنى الذي سميته معقولاً، وجعلته معقولاً صرفاً، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 وهل يكون المعقول الصرف إلا في الحي العاقل؟ فإن المعقول الصرف الذي لا يتصور وجوده في الحس هو مالا يوجد إلا في العقل، وما لا يوجد إلا في لاعقل لم يكن موجوداً في الخارج عن العقل، فالتفتيش الذي أخرج من المحسوس ما ليس بمحسوس، أخرج منه المعقولات المحضه التي يختص بها العقلاء، وهي الكليات الثابتة في عقول العقلاء، فإن الإنسان إذا تصور زيداً أو عمراً ورأى ما بينهما من التشابه انتزع عقله من ذلك معنى عاماً كلياً معقولاً، لا يتصور أن يكون موجوداً في الخارج عن العقل. فهذا هو وجود الكليات، وهذه الكليات المعقولة أعراض قائمة بالذات العاقلة، بل يمكن وجود أعيان في الخارج من غير أن يعقل الإنسان كلياتها، ويمكن وجود كليات معقولة في الأذهان لا حقيقة لها في الخارج، كما يعقل الأنواع الممتنعة لذاتها وغير ذلك، فمن استدل على إمكان الشيء ووجوده في الأعيان، بإمكان تصوره في الأذهان، كان في هذا المقام أضل من بهيم الحيوان. قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل} الأعراف: 179، وقال تعالى: {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات} الأنعام 39. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 وقال تعالى {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} الحج 46. وقال تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} الفرقان 44. وقال تعالى: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} الأحقاف 26. وقولهم: فالإنسان من حيث هو واحد بالحقيقة بل من حيث الحقيقة الأصلية التي لا يختلف فيها الكثرة غير محسوس، بل معقول صرف. وكذلك الحال في كل كلي هو من الأقوال الملبسة، فإن هذه الحقيقة إما أن تعني بها ما يتصوره المعقول من الإنسان، أو ما يوجد منه، أو شيء ثالث. فأما شيء ثالث فلا حقيقة له، فإن كان له حقيقة فبينوها. فإنا نعلم بالاضطرار أنه ما في الوجود إلا ما هو موجود في نفسه، أو ما هو متصور في الذهن إذ العقل أو العلم ونحو هذه الأمور مما ليس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 بحاصل في العلوم والأذهان، ليس بموجود في الأعيان فلا حقيقة له البتة ولكن الناطق بهذه العبارة يتصور في نفسه مالا حقيقة له، كتصور إنسان ليس بموجود في الخارج. فإذا قلت: الإنسان من حيث هو هو، مع قطع النظر عن ثبوته في العلم أوالعين. قلت لك: تقديره مطلقاً لا بشرط من حيث هو هو - هو أيضاً من تقديرات الأذهان فإذا كان مالا يوجد إلا مقدراً في الأذهان وفرضته غير مقدر في الأذهان جمعت بين النقيضين. فإن قلت: أنا يمكنني أن أتصور إنساناً مطلقاً، مع قطع النظر عن وجوده في الذهن والخارج. قلت: تصوره مطلقا غير مقيد بالذهن ولا بالخارج شيء، وتصوره مقيدا بسلب الذهن والخارج شيء آخر. فأما الأول فأنت لم تتصور معه سائر لوازمه، وتصور الملزوم دون لوازمه ممكن، كما تتصور إنساناً مع قطع النظر عن وجوده وعدمه، وإن كان لا يخلو عن واحد منهما، فهذا تصور للشيء دون لوازمه. وأما تصوره مقيداً بسلب الوجود الذهني والخارجي، فهو من باب تصور الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين وهو كتصور إنسانا مقيد بكونه لا موجوداً ولا معدوماً ومجرد فرض هذا ف بالذهن يوجب العلم بامتناعه. وأما الأول فلا يوجب تصور الملزوم بدون لازمة، إمكان وجوده في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 الخارج بدون لازمة، فكونه إما في الذهن وإما في الخارج هو من لوازمه، ويمكن تصور الملزوم فإن عدم العلم بالشيء ليس علماً بعدمه وهذا كما يمكنك تصور إنسان مع قطع النظر عن وجوده وعدمه، وإن كان لا بد له إما أن يكون موجوداً أو معدوماً لامتناع الخلو عن النقيضين. وهؤلاء يجعلون تقدير الذهن للممتنعات حجة على ثبوتها، ويشبهون الوجود الواجب بالوجود الممتنع. وهذا كما أن الإنسان يتصور علماً مطلقاً وقدرة مطلقة، مع علمه بان ذلك لا يكون إلا بذات حية عالمة قادرة. وكذلك يتصور الإنسان حيواناً مطلقاً، ولا يتصور مع ذلك انه ناطق أو بهيم، ولا يخلد ولا يموت، ولا يعلم ولا يجهل، ولا يعجز ولا يقدر، ولا يسكن ولا يتحرك، فهل يستدل بتصوره ذلك في عقلة على أنه يوجد؟ أو يمكن أن يوجد في الخارج حيوان مطلق يخلو عن هذه المتقابلات كلها، فلا يموت ولا يخلد، ولا يقدر ولا يعجز؟ ومن المعلوم أن مقدرات الأذهان ومتصورات العقول يحصل فيها مالا وجود له في الخارج، تارة بأن لا يوجد ما يطابقه وهو الوهم، وتارة مع وجود ما يطابقه، كمطابقة الاسم للمسمى، والعلم للمعلوم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 وهو مطابقة ما في الذهن لما في الخارج، ومطابقة الصورة العلمية لمعلوماتها الخارجية. وإذا قيل في هذه الصورة إنها كلية فهو كقولنا في الاسم إنه عام. والمراد بذلك أنها مطابقة لأفرادها، مطابقة اللفظ العام والمعنى العام لأفراده ن وهي مطابقة معلومة متصورة لكل عاقل، لا تحتاج إلى نظير، وإذا شبهت بمطابقة الصورة التي في المرآة، أو مطابقة نقش الخاتم للشمع ونحو ذلك، كان ذلك تقريباً وتمثيلاً، وإلا فالحقيقة معلومة، وكل عاقل يعلم مثل هذا من نفسه. واعلم أنه بالكلام على هذه الحجة التي لهؤلاء المتفلسفة في التوحيد يتبين الكلام على حجتهم الثانية، وهي قولهم: لو كان واجبان لا يشتركان في مسمى الوجوب، وامتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه فكان كل منهما مركباً مما به الاشتراك ومما به الامتياز والمركب مفتقر إلى جزئه فلا يكون واجباً. فإنه يقال لهم: إنما اشتركا في المطلق الذهني، لم يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود في الخارج، حتى يكون في ذلك الموجود تركيب، وكل منهما يمتاز عن الآخر بالوجوب الذي يخصه، كما امتاز عنه بحقيقته التي تخصه والوجود الذي يخصه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 ويقال لهم: هذا كاشتراك الموجود الواجب والموجود الممكن في مسمى الوجود مع امتياز هذا بما يخصه وهذا بما يخصه، فإن الوجوب المشترك الكلي ليس هو ثابتاً في الخارج، بل للواجب وجود يخصه، وللممكن وجود يخصه، كما أن لهذا حقيقة تخصه، ولهذا حقيقة تخصه. وكذلك إذا قيل لهذا ماهية تخصه ولهذا ماهية تخصه، فإنهما يشتركان في مسمى الماهية، ويمتاز أحدهما عن الآخر بما يختص به وإنما اشتركا في المسمى المطلق الكلي، وامتاز كل منهما عن الآخر بالوجود الذي في الخارج، وذلك لا يكون إلا في الذهن، وما امتازا به هو موجود في الخارج وقد يتصور في الذهن، فإن ما في الخارج يتصور في الذهن، وليس كل ما يتصور في الذهن يكون في الخارج، فلم يكن ما به الاشتراك مفتقراً إلى ما به الامتياز، ولا ما به الامتياز مفتقراً إلى ما به الاشتراك، بل لاشركة في الأعيان الموجودة الجزئيات، ولا امتياز في الكليات المطلقة بالمعقولات، أعني من حيث تناولها وشمولها لأفرادها بل تناولها لأفرادها تناول واحد وشمولها شمول واحد. وهذا المعنى الواحد الشامل هو كاللفظ الواحد الشامل العام، واشتراك الموجودين في الوجود أو الواجبين في الوجوب، مع ما بينهما ف بالخارج من الامتياز والاختصاص، كاشتراك اللونين في اللونية، مع أن هذا في الخارج سواد، وهذا بياض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 فإذا قلت: السواد مركب من اللونية والسوادية، كما تقول: الموجود مركب من الحيوانية والناطقية. قيل لك أتعني أنه مركب من لونية مطلقة لا تخصه، ومن السوادية التي تخصه، ومن الوجود المطلق الذي لا يخصه والوجوب الذي يخصه ومن الحيوانية المطلقة التي لا تخصه والناطقية التي تخصه؟ أم مركب من نفس لونيته الخاصة وسواديته ومن نفس وجوده الخاص ووجوبه ومن الحيوانية التي تخصه وناطقيته؟ فأما الأول فباطل، فإنه ليس فيه شيء مطلق: لا لونية مطلقة ولا حيوانية مطلقة، ولا وجودية مطلقة. وإن عنيت الثاني فلونيته الخاصة وسودايته متلازمان، وكذلك حيوانيته الخاصة وناطقيته وكذلك وجوده الخاص ووجوبه فكما لا يمكن تقدير هذا اللون المعين الذي هو سواد بدون السواد فلا يمكن تقدير هذا الحيوان المعين الذي هو ناطق بدون النطق ولا يمكن تقدير هذا الموجود المعين الذي هو واجب بدون الوجود، فإن هذا الحيوان هو الحيوان المعين والواجب هو الموجود المعين، ولا يتميز في الخارج سواد من لون، كما لا يتميز ناطق عن حيوان، ولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 وجود عن وجوب، بل الذهن يعقل ما بين هذا السواد وسائر الألوان من المشابهة في اللونية، ويميز بين ذلك ما يعقله ما بين هذا السواد وسائر الألوان من المشابهة في اللونية، ويميز بين ذلك ما يعقله بينه وبين سائر السوادات من المشابهة، ويضم هذا إلى هذا، وهو تركيب عقلي اعتباري، وكذلك يعقل ما بين هذا الإنسان وغيره من الحيوان من المشابهة في الحيوانية وما بينه وما بين سائر الإناسي من المشابهة في الإنسانية، ويضم هذا إلى هذا، وهو تركيب عقلي اعتباري. ومن قال: إن الإنسان مركب من الحيوان والناطق، وهو يعقل ما يقول، فإنما يعني هذا التركيب ونحوه، وليس ذلك تركيباً في الوجود الخارجي، ولا في الوجود الخارجي جزء لهذا المركب متميز عن كله، ولا جزء سابق لكل، بل هذه الأمور إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان، فهذه التركيبات مركبة من تلك الكليات. والكليات الخمسة: الجنس والنوع والفصل، والخاصة والعرض العام، إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان. كذلك التركيب الذي يوجد في بعض هذه مع بعض، فإن أجزاء المركب، التي هي الكليات، لا تكون إلا في الذهن فالمركب من الكليات الذهنية أولى أن لا يكون إلا ذهنياً. وهؤلاء المتفلسفة المنطقيون نفوا حقيقة واجب الوجود وصفاته معتقدين أنهم موحدون لذاته وقالوا هو منزه عن التركيب لافتقار المركب إلى جزئية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 والتركيب يقع عندهم كما ذكره ابن سينا وغيره، وذكره الغزالي عنهم في تهافت الفلاسفة وغيره على خمسة أنواع أحدها: تركيب الموجود من الوجود والماهية. والثاني: تركب الحقيقة من الأمور العامة والخاصة: كالوجود العم، والوجوب الخاص. والثالث: تركب الذات الموصوفة من الذات والصفات. والرابع: تركب الذات القائة بنفسها، المباينة لغيرها المشار إليها: من الجواهر المنفردة التي يقال إنها مركبة منها. والخامس: تركبها من المادة والصورة التي يقال أنها مركبة منها. وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبينا أنه يمتنع وجود موجود قائم بنفسه: سواء كان واجباً أو ممكناً بدون ثبوت هذه المعاني التي سموها تركيبا وإن تسميتهم لذلك تركيباً غلط منهم. وإن قالوا: هو أصطلاح اصطلحنا عليه فلا ترتفع بسب غلط الغالطين وأوضاعهم اللفظية الحقائق الموجودة والمعاني العقلية. وأنه ليس في العقل ما يمنع ذلك بل العقل يصدق السمع الدال على إثبات صفات الله تعالى ومباينته لمخلوقاته، وأن العقل أثبت موجوداً واجباً بنفسه غنياً عما سواه وأما كون ذلك الموجود لا يكون إلا حياً عالماً قادراً، أو لا يكون إلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 موصوفاً بصفات لازمة لذاته، ولا يكون إلا مبايناً لمخلوقاته فالعقل يوجب ذلك الوجود، لا نحيله عليه، وأن ما ذكروه من إثبات وجود مطلق بشرط الإطلاق، أو بسلب الأمور الثبوتية عنه، ليس له حقيقة ولا ماهية، سواء مطلق الوجود، أو الوجود المسلوب عنه الأمور الثبوتية، وهو أمر يمتنع تحققه في الخارج. وإنما يكون في الأذهان لا في الأعيان. وهذا هو الواحد الذي قالوا: لا يصدر عنه إلا واحد. فإنه يمتنع تحققه في الخارج. وكذلك الواحد البسيط الذي يتركب منه الأنواع هو أيضاً مما لا يتحقق إلا في الأذهان. ومتكلموا أهل الإثبات إذا قالوا: وجوده عين حقيقته أو ماهيته أو ليس وجوده زائداً على ماهيته، فليس مرادهم بذلك مراد المتفلسف الجهمي، الذي يقول إنه وجود مطلق، فإن الوجود المطلق لا حقيقة له في الخارج. ولكن مرادهم بذلك ما يريدونه بقولهم: إن حقيقة الإنسان هي وجوده الموجود في الخارج وحقيقة السواد هو السواد الوجود في الخارج ونحو ذلك ومرادهم بذلك أن الشيء الموجود في الخارج الذي له حقيقة تخصه وجوده الثابت في الخارج هو تلك الحقيقة الخاصة فوجوده المختص به هو حقيقته المختصة كما أن الوجود المطلق كلي عام، والحقيقة المطلقة كلية عامة، ونفس حقيقة الإنسان والجسم وغيرهما، ليست الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 هي وجوداً مطلقاً وإن كانت حقيقته نفس وجوده فكيف يكون رب العالمين حقيقته وجود مطلق لا يتصور إلا في الذهن؟ بل هو سبحانه وتعالى مختص بحقيقته التي لا يشركه فيها غيره ولا يعلم كنهها إلا هو وتلك هي وجوده الذي لا يشركه فيه غيره ولا يعلم كنهه إلا هو. والناس إذا علموا وجوداً مطلقاً أو حقيقة مطلقة، فذلك هو الكلي العام الشامل، ليس هو نفس الحقيقة الموجودة في الخارج. وكذلك تركب الحقيقة من الصفات العامة والخاصة، إنما هو تركيب في الذهن تركيب ذهني عقلي اعتباري. وكذلك تركب الموصوف من الذات ولاصفات إنما يكون تركيباً لو كان هناك ذات مجردة عن تلك الصفات، أو لو أمكن وجود ذلك فأما الذات التي لا تكون إلا حية عالمة فلا يتصور أنفكاكها عن الحياة والعلم، حتى نقول إن الذات تركيب مع الصفات. وكذلك أيضاً الماهية المشار إليها القائمة بنفسها المباينة لغيرها، إنما يقال هي مركبة من الأجزاء المنفردة، أو من المادة والصورة، ولو كان لهذا التركيب حقيقة، فأما إذا كان الجوهر الفرد باطلاً، وتركب الجسم من الجوهرين: المادة والصورة باطلاً، والأمور المشار إليها المباينة لغيرها من المخلوقات: كالشمس والقمر ليس هو مركباً من أجزاء منفردة، ولا من جوهرين: مادة وصورة فكيف يظن برب العالمين أنه مركب من ذلك؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن الأعيان القائمة بأنفسها خلقها الله تعالى كذلك ليس فيها أجزاء تركبت منها لكن يمكن أن يفرقها الله ويجزئها إلى أن يتصاغر جداً ثم يستحيل إلى نوع آخر من أن ذلك الجزء الصغير يتميز منه شيء عن شيء وليس في الوجود عين قائمة لا يتميز منها شيء عن شيء. والصورة إما صورة عرضية كشكل فالمادة هنا هو الجسم نفسه وغما الصورة التي هي المصور كالإنسان نفسه والمادة فيها ليس لها جوهر يحملها بل مادتها ما منه خلقت وتلك استحالت إلى صورة أخرى وفني الأول وعدم كما يفنى المني إذا صار إنساناً وليس بين ما استحال منه واستحال إليه شيء باق بعينه وإنما يشتركان في أمور نوعيه كالمقدار ونحوه. والمركب المعقول هو ما كان مفترقاً فركبه غيره كما تركب المصنوعات من الأطعمة والثياب والأبنية ونحو من أجزائها المفترقة. والله تعالى أجل وأعظم من أن يوصف بذلك بل من مخلوقاته ما لا يوصف بذلك ومن قال ذلك فكفره وبطلان قوله واضح. وقد يقال المركب على ما له أبعاض مختلفة كأعضاء الإنسان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 وأخلاطه وإن كان خلق كذلك مجتمعاً لكنه يقبل التفريق والانفصال والانقسام والله مقدس عن ذلك. وقد يقال المركب على ما يقبل التفريق والانفصال وإن كان شيئاً بسيطاً كالماء والله مقدس عن ذلك. فهذا هو التركيب المعقول في اللغة والاصطلاح فأما المركب في اللغة فهو الأول خاصة ولكن هذا المعنى لم يريدوه لفظ المركب. والثاني والثالث قد يسميه طائفة من أهل العلم مركباً فأما الذات المتصفة بصفات لازمة لها التي لها حقيقة تمتاز بها عن سائر الحقائق وتباين غيرها من الموجودات من غير أن يجوز عليها تفريق وتبعيض وتجزئة وتقسيم فهذه لو قدر أنها مخلوقة لم تكن مما يسمى مركباً في اللغة المعروفة والاصطلاح. وإذا سمى مسم هذه مركباً كان إما غالطاً في عقله لاعتقاده اشتمالها على حقيقتين وجودها وحقيقتها المغايرة لوجودها أو على حقيقتين ذات قائمة بنفسها معقولة مستغنية عن صفاتها وصفات زائدة عليها قائمة بها أو على جواهر منفردة أو معقولة أو نحو ذلك من الأمور التي يثبتها طائفة من الناس ويسمونها تركيباً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 وجمهور العقلاء يخالفونهم في إثبات ذلك فضلاً عن تسميته تركيباً ولو سلم لهم ثبوت ما يدعونه لم تكن تسميته مركباً من اللغة المعروفة بل هو واضح اصطلحوا عليه فإن الجسم الذي له صفات كالتفاحة التي لها لون وطعم وريح لا يعرف في اللغة المعروفة إطلاق كونها مركبة من لونها وطعمها وريحها ولا تسمية ذلك أجزاء لها ولا يعرف في اللغة أن يقال إن الإنسان مركب من الطول والعرض والعمق بل ولا أنه مركب من حياته ونطقه إلى أمثال ذلك من الأمور التي يسميها من يسميها من أهل الفلسفة والكلام تركيباً إما غلطاً في المعقولات وإما اصطلاحاً انفردوا به عن أهل اللغات. فليس لهؤلاء أن ينفوا ما علم ثبوته بالشرع والدعاء ومضاهاة للمشركين والنصارى والصابئين الذين {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} التوبة: 31. وهذه الشفاعة التي أثبتها المشركون وأبطلها القرآن رأيت من هؤلاء المتفلسفة نفاة الصفات كابن سينا ومن ضاهاهم في بعض الأمور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 التي يجعلونها علوماً مضنوناً بها على غير أهلها قد أثبتوا هذه الشفاعة الشركية وهذه الوسائط الإفكية مع أن القرآن العزيز مملوء من ذم أهلها قال تعالى {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون} الزمر: 43- 44. وقال تعالى {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون} يونس: 18. وقال تعالى {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون} الأنعام: 94. وقال تعالى {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} آل عمران: 80. وقال تعالى {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} الإسراء: 56 و57. وقال تعالى {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} سبأ: 22، 23. فنفي أن يكون لغيره معه ملك أو شريك في الملك أو مظاهرة له ولم يثبت من الشفاعة النافعة إلا ما كان بإذنه وهذه الشفاعة التي يؤمن بها المؤمنين كشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فإنه بإتفاق أهل السنة والجماعة له شفاعات في القيامة حتى يشفع في أهل الكبائر من أمته كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة كما كان يدعو ويشفع لهم في حياته. وكذلك يشفع غيره ممن يأذن الله له في الشفاعة لكن ليست هي الشفاعة التي يثبتها أصناف المشركين من غير أهل الكتاب والصابئين ومن ضاهاهم من أهل الكتاب كالنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة كالمتفلسفة والملاحدة والإسماعلية وكأهال المضنون به وغيرهم فإنهم جعلوا الشفاعة تنفع بدون دعاء الشافع لله وبدون إذن الرب له في الشفاعة كما تقدم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 والله تعالى يقول {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} البقرة: 255. وقال تعالى {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} الأنبياء: 28، وأمثال ذلك في كتاب الله عز وجل. وهنا جواب آخر عن أصل الحجة وهو أن يقال هب أن الشيئين يشركان في شيء موجود في الخارج ويمتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وأن الكلي المشترك بينهما ثابت في الخارج، وأن أحدهما إما أن يكون لازماً للآخر أو ملزوماً، أو عارضاً، أو معروضاً، فلم لا يجوز أن يكون المشترك لازماً للمعين بل وملزوماً له بحيث يكون كل من المشترك والمختص مشروطاً بالآخر والشرط لا يجب تقدمه على المشروط؟ وهذا كما أن الحيوانية مع الناطقية والصاهلية كل منهما مشروط بالآخر فلا يوجد المختص الذي هو الناطقية والصاهلية إلا مع الحيوانية ولا توجد حيوانية إلا مع بعض ذلك. وليس المراد بكون المشترك مشروطاً بالمختص أنه بهذا المعين بل مشروط إما بهذا وإما بهذا فالمشترك من حيث مشروط بأحدهما لا بعينه ومن حيث تشخصه وتعينه مشروط بما لقترن به من التعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 وهذا ثابت في كل شيئين اتفقا في شيء وافترقا في شيء ولا حيلة لهم فيه وذلك أن كون الشيء لازماً للآخرين أعم من كونه علة أو معلولاً أو لا علة ولا معلولاً فليس كل لازم معلولاً فإذا كان كل من الوجوبين لازماً لمعينه لم يجب أن يكون الواجب معلولاً ولا يكون الملزوم علة. وبهذا يتبين فساد مقدمته الثانية التي قال فيها يجوز أن تكون ماهية الشيء سبباً لصفة من صفاته وأن تكون الصفة سبباً لصفة أخرى ولكن لا يجوز أن يكون الوجود بسبب ماهيته التي ليست من الوجود أو بسبب صفة أخرى لأن السبب يتقدم في الوجود ولا يتقدم بالوجود قبل الوجود. فإنه يقال له لفظ السبب قد تعني به العلة الموجبة وقد تعني به الشرط فإن عنيت به الأول لم يجعل مسبباً عن غيره لئلا يلزم تقدم غير الوجود الواجب عليه. وإن عنيت بالسبب الشرط فالشرط لا يجب تقدمه على مشروط بل يجوز مقارنته للمشروط فالأمور المتلازمة كالمتضايقات كل منها لا يوجد إلا مع الآخر فوجوده مشروط به من غير تقدم أحدهما على الآخر. وكذلك أنتم تقولون إن المادة مع الصورة كل منهما شرط في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 الآخر من غير تقدمه عليه والمسلمون يقولون إن العلم والقدرة مشروط بالحياة وكلاهما صفة لازمة لله تعالى لا يجوز تقدمها على الأخرى بالوجود. وإذا كان كذلك وقدر أن للواجب حقيقة مغايرة للوجوب فلم لا يجوز أن يكون وجوده الواجب مشروطاً بتلك الحقيقة التي هي أيضاً مشروطة به من غبر أن يكون الوجود الواجب مسبوقاً بوجود غيره، كما يقولون في وجود الممكن إذا قلتم إنه زائد على ماهيته إن ماهيته لا تنفك عن وجوده كما لا ينفك وجوده عن ماهيته. وهذا جواب لا حيلة لهم فيه وهو جواب عن تلازم الذات مع الصفات إذا قدر أحدهما مغايراً للآخر. عدم فصل الرازي العلة من الشرط وأبو عبد الله الرازي اجاب بجواب لم يفصل فيه العلة من الشرط فقال قولكم لو كانت الماهية علة لوجود نفسها لكانت متقدمة بالوجود على نفسها فإن العلة متقدمة بالوجود على المعلول ممنوع فإنا لا نسلم وجوب تقدم العلة على المعلول بالوجود وقول القائل هي متقدمة عليه بالذات إن أريد به كونها مؤثرة فمسلم وإن أريد به أنها لا تؤثر فيه إلا بعد وجودها فهذا ممنوع ونحن أن المؤثر في وجود الله تعالى هو نفس ماهيته لا باعتبار وجود سابق وإن أريد بالتقدم أمر وراء التأثير فذلك غير متصور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 ثم منع عموم الدعوى فقال نزلنا عن هذا المقام فلم قلتم إن كل علة فهي متقدمة بالوجود على المعلول ألا ترى أن ماهيات الممكنات قابلة لوجود ذاتها فماهياتها علل قابلية لوجود ذاتها ففي هذا الموضع العلل القابلية لا يجب تقدمها على المعلول بالوجود وإذا كان كذلك فلم لا يجوز مثله في العلة الفاعلية. وقال لا نقول المؤثر هو الماهية المعدومة بل الماهية من حيث هي هي مغايرة لوجودها وعدمها ونحن إنما نجعل المؤثر في الوجود تلك الماهية فقط. قال فإن قيل كما جوزتم أن تؤثر ماهيته قبل الوجود في وجود نفسها فلم لا يجوز ان تؤثر تلك الماهية قبل وجودها في وجود العالم وحينئذ لا يمكن الاستدلال بوجود الأفعال على وجود الفاعل قلنا البديهية فرقت بين الموضعين فإنا بالبديهية نعلم أن الشيء ما لم يوجد لا يكون شيئاً لوجود غيره ونعلم أن لا استبعاد في أن يكون الشيء موجوداً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 من ذاته والمعلوم من قولنا إنه موجود لذاته أن تقتضي وجود نفسه وإذا جزمت بالبديهية بالفرق صح كلامنا في هذه المسألة. وقد مانعه بعض أصحابه في هذا الموضع وقال العلم بأن العلة لو كانت موجبة للوجود لكانت موجودة علم ضروري لأن المفيد للوجود لا بد أن يكون له وجود بخلاف القابل فإنه مستفيد للوجود يمتنع أن يكون موجودا تعليق ابن تيمية قلت هذا الاضطراب إما نشأ من قولهم كون ذات فاعلة لوجوده أو علة مقتضية لوجوده إذا قدر أن وجوده مغاير لذاته وهذا لا يحتاج إليه بل إذا قيل ذاته مشروطة بوجوده كما أن وجوده مشروط بذاته وقيل إنهما متلازمان من غير أن يكون أحدهما هو الموجب للآخر كما قالوا مثل ذلك في ذات الممكن ووجوده زالت هذه الشبهة. وهؤلاء كثيراً ما تشتبه عليهم العلل بالشروط في مسائل الدور والتسلسل وغير ذلك ويجعلون الملزوم علة كما يقولون إن ماهية الثلاثة والأربعة علة للفردية والزوجية، فيجعلون ذات الشيء علة لصفته اللازمة له، وأن فاعل الذات فاعل صفتها، فإن الدور في الشروط بمعنى توقف كل من الأمرين على وجود الآخر معه ممكن واقع وهو الدور المعي الاقتراني. وأما الدور في العلل، وهو أن يكون كل من الأمرين علة للآخر ومبدعاً له. فهذا ممتنع باتفاق العقلاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 وكذلك التقدم، فإن تقدم الشرط على المشروط غير واجب، وأما تقدم الموجب على الموجب، والفاعل على المفعول، والعلة على المعلول، فلا ريب فيه عند جماهير العقلاء. ومعارضة الرازي لهم بالماهية الممكنة القابلة لوجودها، إذا قيل بتعددهما معارضة صحيحة وأما فرق المعارض له بأن الماهية في الواجب فاعلة للوجود فغلط فإن ماهية الواجب إذا قيل بمغايرتها لوجوده، ليست فاعلة لوجوده بل هي أيضاً قابلة لوجوده كالممكن لكن وجوده واجب مع هذا القبول. والقابل والمقبول كلاهما واجب بنفسه يمتنع عدمه، بخلاف الممكن، كما تقوله الصفاتية في الذات والصفات، وكما تقوله الفلاسفة فيما يدعون قدم ذاته ووجوده من الممكنات كالفلك، فإن ابن سينا وأتباعه يقولون: إن ماهيته محل لوجوده، وكلاهما قديم يمتنع عدمه، لكن وجوده بغيره، فإذا عقل هذا في الواجب بغيره، ففي الواجب بنفسه أولى إذا قيل إن نفسه محل لوجوده، وكلاهما واجب بماهيته ووجوده، يمتنع نفي واحد منهما. وبهذا يظهر الجواب عن النظم الذي حرره الآمدي فإن قوله إذا لم يتم تحقق مسمى واجب الوجود في كل من الشيئين إلا بما به التخصيص والامتياز وجب افتقار مسمى واجب الوجود إلى أمر خارج عن المفهوم من اسمه، فلا يكون واجباً بذاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 جوابه على تقدير كون الوجود مغايراً للذات أن يقال لفظ الافتقار يراد به افتقار المعلول إلى العلة، ويراد به: افتقار المشروط إلى الشرط وإن قيل: يراد به معنى ثالث له، فإن قلت: يجب افتقار مسماه إلى علة فاعلة، لم يسلم لك ذلك، فإن تحقق المشترك في المميز لا يستلزم كون المميز هو الفاعل المبدع المشترك، وإن أردت بانه لا يوجد إلا بما هو شرط في وجوده فلم قلت إن هذا محال؟ وقوله لا يكون واجباً بذاته باطل حينئذ لأنه إذا قدر أن الذات غير الوجود فلا يد في قوله واجب بذاته من تحقق الوجود والذات معاً فلا يتقدم أحدهما على الآخر، ولا يستغني أحدهما عن الآخر فصار معنى وجوب الوجود بالذات، إذا قدر أن الذات عين الوجود أمراً متضمناً لتلازم الوجود الواجب والذات الموصوفة بذلك، فلا يكون موجود بذاته إلا كذلك وهذا كله بتقدير ثبوت شيئين. ثم على هذا التقدير فيها قولان إما أن يقال الوجود الملازم للماهية هو أيضاً مختص كما أن الماهية مختصة به وهذا هو القول المأثور عن أبي هاشم ونحوه. وقد تقوله طائفة من أهل الإثبات، كما يوجد في كلام أبي حامد ووابن الزاغوني. وإما إن يقال الوجود مشترك في الخارج، ولكن الماهية هي المختصة التي تميز وجوداً عن غيره. وهذا هو الذي يحكيه الرازي عن أبي هاشم وغيره، وهو غلط عليهم، كما غلط على الأشعري وأبي الحسين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 حيث حكى عنهم ان لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي وهذا لغلط منه حيث ظن أن الكلي الذي هو مورد التقسيم يكون ثابتاً مشتركا في الخارج وهذا أصل للمنطقيين يخالفهم فيه أئمة الكلام بحسب ما فهمه من كلام أهل المنطق فغلط. والمقصود هنا أن قول أبي هاشم وأتباعه خير من قول ابن سينا وأما إذا كان الوجود هو الماهية ولا مشترك في الخارج، كما هو قول الأشعري وعامة المثبتة للصفات، وهو الصواب، فلا يحتاج إلى هذا الجواب. وليس المراد أن ماهيته وجود مطلق مجرد كما يقوله ابن سينا وابن التومرت وغيرهما من الجهمية ولكن المراد أن حقيقته المختصة به، هي وجوده المختص به وليس ذلك وجوداً مطلقاً ولا مجرداً وكذلك يقول في كل موجود إن حقيقته المختصة به هي وجوده المختص به وقد ذكرنا هذا الجواب على تقدير مغايرة وجوده لماهيته لنه نافع في عامة ما يوردونه لنفي الصفات. كلام الإمام أحمد عن تعلق الصفات بذت الله تعالى قال الإمام أحمد باب بيان ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى فقلنا لم أنكرتم ذلك؟ قالوا إن الله لم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 يتكلم ولا يتكلم إنما كون شيئاً يعبر عن الله وخلق صوتا فأسمع وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف وشفتين ولسان. فقلنا: هل يجوز لمكون أو غير الله أن يقول {يا موسى * إني أنا ربك} طه 11- 12 أو يقول {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} طه 14 فمن قال ذلك زعم ان غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم الجهمي أن الله كون شيئاً كان يقول ذلك المكون يا موسى إن الله رب العالمين. إلى أن قال فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من احد إلا سيكلمه ربه.. الحديث وأما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 قوله إن الكلام لا يكون إلا من جوف وشفتين ولسان أليس الله قد قال للسماوات والأرض {ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} فصلت 11 اتراها قالت بجوف وفم وشفتين وأدوات؟ وقال تعالى {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن} الأنبياء 79 أتراها أنها تسبحن بجوف وفم وشفتين ولسان؟ والجوارح إذا شهدت على الكفار فقالوا: {لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} فصلت 21، أتراها نطقت بجوف وفم وشفتين؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء. إلى أن قال فلما خنقته الحجج قال: ان الله كلم موسى، إلا أن كلامه غيره فقلنا وغيره مخلوق؟ نعم فقلنا هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون عن أنفسكم الشنعة وحديث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 الزهري قال لما سمع موسى كلام ربه قال يا رب هذا الذي سمعته هو كلامك قال نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشر آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت. قال فلما رجع موسى إلى قومه، قالوا له صف لنا كلام ربك. فقال سبحان الله وهل أسطتيع أن أصفه لكم قالوا فشبهه قال هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله. وقلنا للجهمية من القائل للناس يوم القيامة {يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين} المائدة 116، أليس الله هو القائل؟ قالوا: يكون الله شيئاً فيعبر عن الله كما كون شيئاً فعبر لموسى قلنا فمن القائل {فلنسألن الذين أرسل إليهم} الآية الأعراف 6. أليس هو الله تعالى؟ قالوا هذا كله إنما يكون شيء فيعبر عن الله فقلنا قد أعظمتم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 على الله الفرية حين زعمتم انه لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان. فلما ظهرت عليه الحجة قال إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق قلنا وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تعالى بخلقه، حين زعمتم ان كلامه مخلوق ففي مذهبكم كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام. وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاماً فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله عن هذه الصفة بل نقول إن اله لم يزل متكلماً إذا شاء ولا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق الكلام ولا نقول إنه كان لا يعلم حتى خلق علماً فعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 قال الإمام احمد قالت الجهمية إن زعمتم ان الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم ان الله لم يزل ونوره، ولم يزل وقدرته قلنا لا نقول إن اله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره بل نقول لم يزل بقدرته ونوره، لا متى قدر ولا كيف قدر فقالوا لا تكونون موحدين أبداً حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها، أليس إنما نصف إلاهاً واحداً بجميع صفاته وضربنا لهم في ذلك مثلا فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوض وجمار واسمها اسم شيء واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد. إلى أن قال وقد سمى الله رجلاً كافراً اسمه الوليد فقال {ذرني ومن خلقت وحيداً} المدثر 11 وكان له الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 عينان وأذنان ولسان وجوارح فسماه وحيداً بجميع صفاته. تعليق ابن تيمية قلت: فلا يوجد في كلام الله ورسوله واللغة اسم الواحد على ما لا صفة له، فإن لا صفة له لا وجود له في الوجود. وما ذكره أحمد عن الجهمية أنهم يتأولون كلام الله لموسى بأنه خلق من عبر عنه تأوله جماعة من أتباعه في هذا أو في قوله تعالى كل ليلة من يدعوني فأستجيب له ولو كان كذلك لكان الملك يقول إن الله رب العالمين كما في الصحيحين إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل إني أحب فلاناً فأحبه فيحيه جبريل ثم ينادي في السماء إن الله يحب فلانا فاحبوه فيحبه فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء الحديث. وقد مثلوا ذلك بأن السلطان يأمر منادياً فيقول نادى السلطان وهذا حجة عليهم فإن المنادي يقول امر السلطان أو ان المرسوم ونحو ذلك من الألفاظ التي تبين أن القائل غيره لا هو ولو قال المنادي قد أمرتكم فغن لم تقبلوا وإلا عاقبتكم ونحو ذلك لم يكن منادياً عن السلطان ولو قال ذلك عاقبه السلطان. فصل أخبر الله تعالى في كتابه بإثبات مفصل ونفي مجمل والمعطلة الجهمية متكلمهم ومتفلسفهم أخبروا بإثبات مجمل ونفي مفصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 فأخبر في كتابه بأنه حي قيوم عليم قدير سميع بصير عزيز حكيم ونحو ذلك يرضى ويغضب ويحب ويسخط وخلق واستوى على العرش ونحو ذلك وقال ف يالنفي {ليس كمثله شيء} سورة الشورى 11، {ولم يكن له كفوا أحد} الإخلاص 3، {هل تعلم له سميا} مريم 65، فلهذا مذهب السلف والأئمة إثبات صفاته بلا تمثيل لا ينفون عنه الصفات ولا يمثلونها بصفات المخلوقات. تابع كلام الإمام أحمد قال الإمام أحمد الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكلم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم من ضال تائه قد هدوه؟ فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتنة المضلين. فالمتشابه من الكلام يتكلمون به ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم هو كقولهم: مقدس عن الكم والكيف والأين والوضع ومن مقصودهم بذلك أنه لا علم له ولا قدرة ولا رحمة ولا غير ذلك من الصفات وأنه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله ولا هو مباين لمخلوقاته ولا منفصل عنهم. وكذلك قولهم: ليس بداخل العالم ولاخارجه وأمثال هذه العبارات السالبة. وكذلك وصف الإمام احمد وأمثاله قول الجهمية النفاة قال أحمد وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث وأضلوا بكلامهم بشراً كثيراً فكان مما بلغنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 من أمر الجهم عدو الله انه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله فلقي أناسا من المشركين يقال لهم السمنية، فعرفوا الجهم فقالوا نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا إن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا ألست تزعم أن لك إلهاً قال الجهم نعم فقالوا له فهل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حساً قال لا قالوا فوجدت له مجساً قال لا قالوا فما يدريك أنه إلاه قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوماً ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمراً دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهي عما شاء وهو روح غائبة عن الأبصار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني ألست تزعم أن فيك روحاً قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال فسمعت كلامه قال لا قال فشممت له ريحاً قال لا قال فوجدت له حساً أو مجساً قال لا قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا تشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان. ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله {ليس كمثله شيء} الشورى: 11، {وهو الله في السموات وفي الأرض} الأنعام: 3، {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} ، الأنعام ك 103، فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف من الله شيئاً مما يصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافراً وكان من المشبهة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 فأضل بكلامه بشراً كثيراً وأتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية. تعليق ابن تيمية قلت: فهذا الذي ذكره الإمام أحمد من مناظرة جهم لأولئك السمينة، هم الذين يحكى أهل المقالات عنهم أنهم أنكروا من العلم ما سوى الحسيات، ولهذا سألوا جهماً: هل عرفه بشيء من الحواس الخمس؟ فقال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إلاه؟ فإنهم لا يعرفون إلا المحسوس، وليس مرادهم أن الرجل لا يعلم إلا ما أحسه، بل لا يثبتون إلا ما هو محسوس للناس في الدنيا. وهؤلاء كالمعطلة الدهرية الطبائعية من فلاسفة اليونان ونحوهم، الذين ينكرون سوى هذا الوجود الذي يشاهده الناس ويحسونه، وهو وجود الأفلاك وما فيها. هؤلاء الذين ذكر ابن سينا قولهم في إشاراته حيث قال قال: إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكنك إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجباً. وهذا هو القول الذي أظهره فرعون، وإليه يعود عند التحقيق قول أهل الوحدة. لكن هؤلاء يعتقدون أنهم يثبتون الخالق، وأن وجوده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 وجود المخلوق، فهم متناقضون. ثم إن جهم بن صفوان رد عليهم كرد أرسطو وابن سينا وأمثالهم من المشائين على الطبيعيين منهم، وهؤلاء يثبتون وجوداً عقلياً غير الوجود المحسوس، ويعتقدون أنهم بهذا الرد أبطلوا قول أولئك، كما تقدم حكاية قول ابن سينا لما تكلم على الوجود وعلله، وقال: قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وأبطل هذا القول بإثبات الكليات وقد تقدم التنبيه على فساد هذه الحجة، وأن الكليات تكون في الأذهان لا في الأعيان. ومن لم يقر إلا بالمحسوس إنما نازع في الموجودات الخارجية، لم ينازع في المعقولات الذهنية، وإن نازع في ذلك حصلت الحجة عليه بإثبات المعقولات الذهنية فتبقى الوجودات الخارجية وهي الأصل. والحجة التي ذكرها أحمد عن الجهم انه احتج بها على السمنية، هي من أعظم حجج هؤلاء الثقاة الحلولية منهم ونفاة الحلول والمباينة جميعاً فإن النفاة تارة يقولون بالحلول والاتحاد أو نحو ذلك وتارة يقولون لا مباين للعالم ولا داخل فيه. والشخص الواحد منهم يقول هذا تارة، وهذا تارة فإنهم في حيرة، والغالب على متكلميهم نفي الأمرين، والغالب على عبادهم وفقهائهم وصوفيتهم وعامتهم الحلول، فمتكلموهم لا يعبدون شيئاً ومتصوفتهم يعبدون كل شيء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 والحلول نوعان: حلول مقيد وحلول مطلق. فالحلول المقيد هو قول النصارى ونحوهم من غلاة الرافضة وغلاء العبادة، وغيرهم يقولون إنه حل في المسيح أو اتحد به وحل بعلي أو أتحد به وأنه يتحد بالعارفين حتى يصير الموحد هو الموحد، ويقولون: ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وجده جاحد توحيد من يخبر عن نعته ... عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيد ... ونعت من ينفعه لاحد وهؤلاء الذين حكى أحمد قولهم أنهم: إذا أراد الله أن يحدث أمر دخل فيه بعض خلقه، فتكلم على لسانه وقد رأيت من هؤلاء غير واحد ممن خاطبني وتكلم معي في هذا المذهب وبينت له فساده. وأما أهل الحلول المطلق الذين يقولون إنه حال في كل شيء أو متحد بكل شيء أو الوجود واحد، كأصحاب فصوص الحكم وأمثالهم فهؤلاء يقولون: أخطأ النصارى من جهة أنهم خصصوا وكذلك يقولون في عباد الأصنام خطؤهم من جهة انهم خصصوا بعض الأشياء فعبدوها. وقد رأيت من هؤلاء أيضاً غير واحد وجرت بيننا وبينهم محنة معروفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 وجعل الإمام أحمد حجة جهم من جنس حجة أولئك الذين يقولون بالحلول المقيد لأن هؤلاء يقولون إنه حل في بعض خلقه. وهؤلاء الجهمية فيهم من يقول: إن اللاهوت في الناسوت من غير حلول فيه. وهكذا الجهم وأتباعه جعلوا وجود الخالق في المخلوقات، من جنس اللاهوت في الناسوت، ويجمعون بين القولين المتناقضين كما جمعت النصارى. واحتجاج الجهم بهذا على السمنية، كاحتجاج نفاة الصفات بذلك على أهل الإثبات، فإن الرازي وأمثاله احتجوا على إمكان وجود موجود لا مباين للعالم ولا داخل فيه بالنفس الناطقة، على قول هؤلاء المتفلسفة، الذين يقولون: إنها لا داخلة في هذا العالم ولا خارجة من هذا العالم إنها تشبه الإله وإن الفلسفة التشبه بالإله على قدر الطاقة. ومقصود الجهم بهذه الحجة بيان إمكان وجود موجود لا سبيل إلى إحساسه، فاحتج عليهم بالنفس الناطقة، إذ لا سبيل إلى إحساسها وهذه حجة المشائين من المتفلسفة على الطبيعيين منهم. وهؤلاء يجعلون ما يثبتونه من الأمور المعقولة، حجة على إثبات موجود ليس بمحسوس، ثم يزعمون أن ما أخبرت به الرسل من الغيب، هو الوجود العقلي الذي يثبتونه. وهذا الموضع حارت فيه أحلام وضلت فيه أفهام، وهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 مخطئون شرعاً وعقلاً. أما الشرع فإن الرسل أخبرت عما لم نشهده ولم نحسه في الدنيا وسمت ذلك غيباً لمغيبه عن الشهادة، كقوله {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة} البقرة 3، ومنه قوله تعالى {عالم الغيب والشهادة} الرعد 9، فالغيب ما غاب من شهود العباد والشهادة ما شهدوها. وهذا الفرق لا يوجب أن الغيب ليس مما يمكن إحساسه بل من المعلوم بالاضطرار أن ما أخبرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من الثواب والعقاب كله مما يمكن إحساسه، بل وكذلك ما أخبرت به الملائكة، والعرش والكرسي، والجنة والنار، وغير ذلك، لكنا نشهده الآن. ولهذا أعظم ما أخبرت به من الغيب هو الله سبحانه وتعالى، مع إخبار الرسول لنا انا نراه كما نرى الشمس والقمر، فأي الإحساس أعظم من إحساسنا بالشمس والقمر؟ وما أخبرت به من الغيب كالجنة والنار والملائكة والعرش والكرسي وغير ذلك مما يمكن إحساسه فليس الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس والمعقول. فهذا أصل ينبغي معرفته، فإنه بسبب هذا وقع من الخلل في كلام طوائف مالا يحصيه إلا الله تعالى، كصاحب الكتب المضنون بها وصاحب الملل والنحل وطوائف غيرهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 ولهذا وقع في كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها وصاحب نهاية الإقدام ونحوهما من كلام هؤلاء الذين يجعلون الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس وبين المعقول أنواع من جنس كلام الملاحدة الباطنية إما ملاحدة الشيعة، كما يوجد في كلام صاحب الملل والنحل ونهاية الإقدام وقد قيل إنه صنف تفسيره سورة يوسف على مذهب الإسماعيلية: ملاحدة الشيعة وإما ملاحدة الباطنية المنسوبين إلى الصوفية. ومن هنا دخل أهل وحدة الوجود وأمثالهم من ملاحدة النساك المنتسبين إلى التصوف وكل من هؤلاء هؤلاء يؤول به الأمر إلى مخالفة صريح العقل والنقل. لكن هذا يحيل على علم الإمام المعصوم، وهذا يحيل على معرفة الشيخ المحفوظ، حتى يدعي كل منهما فيمن يحيل عليه ما هو أعظم من مقام الأنبياء، مع أن الذي يحيل عليه لا بد أن يكون فيه من الكذب والجهل والظلم مالا يعلمه إلا الله وأحسن أحواله أن يكون كثير من كذبه جهلاً منه وضلالاً، لم يعتمد فيه خلاف ما يعلمه من الحق كضلال كثير من النصارى أهل الأهواء. والمقصود انه بهذا يتبين أن خطأهم في العقل، وما يسمونه معقولات، ودعواهم وجود أمور معقولات خارجة عن العاقل، لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 يمكن الإشارة إليها ولا الإحساس بها بوجه من الوجوه، وليست داخل شيء من العالم ولا خارجة ولا مباينة له ولا حالة فيه فإنه من المعلوم أن المعقولات ما عقلها الإنسان، فهي معقولة العقل، وأظهر ذلك الكليات المجردة: كالإنسانية المطلقة، والحيوانية المطلقة، والجسم المطلق، والوجود المطلق، ونحو ذلك، فإن هذه من وجوده في العقل، وليس في الخارج شيء مطلق غير معين، بل لا يوجد إلا وهو معين مشخص، وهو المحسوس، وإنما يثبت العقليات المجردة في الخارج الغالطون من المتفلسفة كالفيثاغورية الذين يثبتون العدد المجرد، والأفلاطونية الذين يثبتون المثل الأفلاطونية، وهي الماهيات المجردة، والهيولى المجردة، والمدة المجردة، والخلاء المجرد. وأما أرسطو وأصحابه كالفارابي وابن سينا فأبطلوا قول سلفهم في إثبات مجردة عن الأعيان ولكن أثبتوها مقارنة للأعيان فجعلوا مع الأجسام المحسوسة جواهر معقولة كالمادة والصورة، وإذا حقق الأمر عليهم، لم يوجد في الخارج إلا الجسم وأعراضه، وأثبتوا في الخارج أيضاً الكليات مقارنة للأعيان، وإذا حقق الأمر عليهم لم يوجد في الخارج إلا الأعيان بصفاتها القائمة بها. وكذلك ما أثبتوه من العقول العشرة المفارقات، إذا الأمر عليهم لم يوجد لها وجود إلا في العقل لا في الخارج، كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع. فهذا الذي ذكره الإمام أحمد من احتجاج جهم على السمنية الطبيعية بإثبات موجود عقلي، هو كحجة المشائين على الطبيعية، وما في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 قوله من الحلول الذي ضاهى به النصارى من جنس كلام الحلولية. والمقصود هنا أن نشير إلى جنس كلام السلف والأمة، مع جنس هؤلاء النفاة، وأن الجميع يشربون من عين واحدة، وأن كلام هؤلاء النفاة للصفات مع معطلة الصانع كلام قاصر، من جنس كلام جهم مع السمنية المشركين، وكلام المشائين الإلهيين من المتفلسفة مع الطبيعيين منهم. وذكر أحمد أن الجهم اعتمد من القرآن على ثلاث آيات تشتبه معانيها على من لا يفهمها: آية نفي الإدراك لينفي بها الرؤية والمباينة، وآية نفي المثل لينفي بها الصفات ويجعل من أثبتها مشبها، وقوله {وهو الله في السماوات وفي الأرض} الأنعام 3، لينفي بها علوه على العرش، أو ليثبت بها مع ذلك الحلول والاتحاد وعدم مباينته للمخلوقات. وهذه أصول الجهمية من المعتزلة أصحاب عمرو بن عبيد ومن دخل ف بالتجهم، أو الاعتزال أو بعض فروع ذلك، من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي واحمد مع أن هؤلاء الأئمة من أبعد الناس عن أصول الجهمية والمعتزلة. تابع كلام الإمام أحمد قال الإمام أحمد عن الجهمية فإن سألهم الناس عن قوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 تعالى {ليس كمثله شيء} الشورى: 11، يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السابعة كما هو فوق العرش لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولم يتكلم ولا يتكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا يعقل ولا غاية ولا له غاية ولا منتهى ولا يدرك بعقل هو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله ولا يكون شيئين مختلفين وفي نسخة ولا يوصف بوصفين مختلفين وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحي ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو ثقيل ولا خفيف ولا له لون ولا له جسم وليس هو معقولاً وكل ما خطر على قلبك أنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 شيء تعرفه فهو خلافه فقلنا هو شيء فقالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يأتون بشيء وفي نسخة لا يثبتون شيئاً ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فقلنا لهم هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى فقالوا لم يتكلم ولا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح على الله منتفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيماً لله ولا يشعر أنهم إنما يقودون قولهم إلى فرية في الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 فهذا الذي وصفه الإمام أحمد وغيره من علماء السلف من كلام الجهمية هو كلام من وافقهم من القرامطة الباطنية والمتفلسفة المتبعين لأرسطو كابن سينا وأمثاله ممن يقول إنه الوجود المطلق أو المقيد بالقيود السلبية ونحو ذلك وهو حقيقة كلام القائلين بوحدة الوجود. ولهذا ذكر عنهم أنهم سلبوه كل ما يتميز به موجود عن موجود فسلبوه الصفات والأفعال وسائر ما يختص بموجود. ولما قالوا هو شيء لا كالأشياء علم الأئمة مقصودهم فإن الموجودين لا بد أن يتفقا في مسمى الشيء فإذا لم يكن هناك قدر اتفقا فيه اصلاً لزم أن لا يكونا جميعاً موجودين وهذا مما يعرف بالعقل. ولهذا قال الإمام أحمد فقلنا إن الشيء الذي كالأشياء قد عرف أهل العقل إنه لا شيء فبين أن هذا مما يعرف بالعقل وهذا مما يعلم بصريح المعقولات. ولهذا كان قول جهم المشهور عنه الذي نقله عنه عامة الناس أنه لا يسمى الله شيئاً لأن ذلك بزعمه يقتضي التشبيه لأن اسم الشيء إذا قيل على الخالق والمخلوق لزم اشتراكهما في مسمى الشيء وهذا تشبيه بزعمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 وقوله باطل فإنه سبحانه وإن كان لا يماثله شيء من الأشياء في شيء من الأشياء فمن المعلوم بالعقل أن كل شيئين فهما متفقان في مسمى الشيء وكل موجودين فيها متفقان في مسمى الوجود وكل ذاتين فهما متفقان في مسمى الذات فإنك تقول الشيء والموجود والذات ينقسم إلى قديم ومحدث وواجب وممكن وخالق ومخلوق ومورد التقسيم بين الأقسام. وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع وبينا غلط من جعل اللفظ مشتركا اشتراكاً لفظياً. وهذا الذي نبه عليه الإمام أحمد من أن مسمى الشيء والوجود ونحو ذلك معنى عام كلي تشترك فيه الأشياء كلها والموجودات كلها هو المعلوم بصريح العقل الذي عليه عامة العقلاء. ومن نازع فيه فلا بد أن يقول به أيضاً فيتناقض كلامه في ذلك كما تناقض فيه كلام الشهر ستاني والرازي والآمدي وغيرهم إذ يجعلونه تارة عاماً مقسوماً مشتركاً اشتراكاً لفظيا ومعنوياً بين الأشياء الموجودات ويجعلونه تارة مشتركاً اشتراكاً لفظياً فقط كلفظ المشتري المشترك بين المبتاع والكوكب ولفظ سهيل المشترك بين الكوكب وبين الرجل المسمى بسهيل ولفظ الثريا المشترك بين الكوكب وبين المرأة المسماة ثريا. كما قيل: أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 ولما كان هذا مما يعرف بالعقل قال أحمد فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يأتمون بشيء أي لا يقصدون شيئاً فإن المؤتم بالشيء يؤمه ويقصده والإمام الطريق لأن السالك يأتم به وهو أيضاً الكتاب الذي يأتم به القارىء وهو الإمام الذي يأتم به المصلي. والأمة القدوة الذي يؤتم به أي يقتدى والأمة أيضاً الدين يقال فلان لا أمة له أي لا دين له ولا نحلة له. قال الشاعر: وهل يستوي ذو أمة وكفور وقول النابغة: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع فقول أحمد لا يأتمون بشيء أي لا يدينون بدين ومن روي أنه قال إنكم لا تثبتون شيئاً فقوله ظاهر فإن قول الجهمية يتضمن أنهم لا يثبتون في الخارج رباً خالقاً للعالم. ثم قال فإذا قيل للجهمية من تعبدون قالوا نعبد من يدبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء. فقال أحمد في هذا الموضع قد عرف المسلمون وقال هناك قد عرف الناس لأنه هنا تكلم في كونه معبوداً وأنهم يعبدون وهناك تكلم في كونه موجوداً، فلما وصفوه بالسلب المحض، أخبر أن أهل العقل يعلمون أن الموصوف بالسلب المحض هو العدم، فعرف الناس أنهم لا يثبتون شيئاً. وهنا لما سألهم: من يعبدون؟ فأخبروا انهم يعبدون مدبر الخلق، وقالوا: إنه مجهول لا يعرف بصفة عرف المسلمون أنهم لا يعبدون شيئاً، لأن العبادة أصلها قصد المعبود وإرادته والقصد والإرادة مستلزمة للعلم بالمراد المقصود. فما يكون مجهولا لا يعرف بصفة يمتنع ان يكون مقصوداً فيمتنع أن يكون معبوداً والعبادة هي أمر ديني أمر الله بها ورسوله، وهي أصل دين المسلمين. فلهذا قال هنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء، وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فبين أن الناس يعلمون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 بعقلهم أنهم لا يثبتون شيئاً، وأن المسلمين يعرفون أنهم لا يعبدون شيئاً، وبين أن الجاهل إذا سمع قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيماً لله، ولا يشعر أنهم إنما يقودون قولهم إلى فرية في الله. وهذا الذي ذكره الإمام أحمد أصل قول هؤلاء النفاة الجهمية، وسر مذهبهم، وكلما كان الرجل أعقل وأعرف، وأعلم وأفضل، وأخبر بحقيقة الأمر في نفسه، وبقول هؤلاء النفاة أزداد في ذلك بصيرة وإيماناً ويقيناً وعرفانا. وقد ذكر ابن جرير في تاريخه نسخة الكتاب الذي أرسل في المحنة المشهورة لما كان المأمور قد ذهب إلى ناحية طرسوس، وأرسل كتاباً إلى الناس ببغداد، وأمر نائبه إسحاق بن إبراهيم أن يقرأه على الناس، ويدعوهم إلى موافقته، فامتنع العلماء عن الإجابة، حتى أرسل كتاباً يهدد بن الناس، وأمر بقتل القاضيين إذا لم يجيبا: قاضي الشرقية والغربية، وهما: بشر بن الوليد وعبد الرحمن بن إسحاق فأجاب الناس كرها، واعترفوا بذلك، وامتنع عن الإجابة سبعة فقيدوهم فأجاب منهم خمسة، وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح النيسابوري، فأرسلوهما مقيدين، فمات محمد بن نوح في الطريق، فبقي أحمد بن حنبل، ومات المأمون قبل أن يصير إليه أحمد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 والمقصود أنه ذكر في كتابه لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه فوافقه من لم يعرف حقيقة هذه الكلمة وذكر عن أحمد أنه قال: لا يشبه الأشياء وليس كمثله شيء ونحو ذلك أو كما قال. وأما قوله: بوجه من الوجوه فامتنع منها وذلك لأنه عرف أن مضمون ذلك التعطيل المحض، فإنه يقتضي أنه ليس بموجود، ولا شيء ولا حي ولا عليم ولا قدير، ويقتضي إبطال جميع أسمائه الحسنى. وهذا النفي حقيقة قول القرامطة، والله تعالى: ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه، بل هو سبحانه في كل ما هو موصوف به مختص بما لا يماثله فيه غيره، وله المثل الأعلى. ولكن لفظ الشبه فيه إجمال وإبهام، فما من شيئين إلا وهما متفقان في أمر من الأمور، ولو كونهما موجودين، وذلك الذي اتفقا فيه لا يمكن نفيه إلا بنفي كل منهما. فإذا قيل: هذا لا يوافق هذا بوجه من الوجوه ولا يواطئه بوجه من الوجوه كان هذا ممتنعاً. وكذلك إذا أريد بقول القائل لا يشبهه بوجه من الوجوه هذا المعنى بخلاف ما إذا أراد بذلك المماثلة والمساواة والمكافاة أو أراد ذلك بلفظ المشاركة والموافقة والمواطأة، فإنه سبحانه لا يماثل شيء بوجه من الوجوه ولا شريك له بوجه من الوجوه لا سيما والكليات التي يتفق فيها الشيئان إنما هي في الأذهان لا في الأعيان، فليس في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 الموجودات الخارجية اثنان اشتركا في شيء، فضلا عن أن يكون الخالق تعالى مشاركا لغيره في شيء من الأشياء سبحانه وتعالى. والقرامطة الباطنية كالجهمية الذين ينفون أن يسمى الله بشيء من الأسماء التي يسمى بها مخلوق، لبسوا على الناس بلفظ التشبيه والتركيب ولهذا أنكر جماهير الطوائف عليهم من المعتزلة والنجارية والضرارية ومتكلمة الصفاتية، وغيرهم بل أنكر عليهم من أنكر من الفلاسفة مع تناقض كثير من الناس معهم. ولهذا زعم أبو العباس الناشيء أن الأسماء التي يسمى بها الله، ويسمى بعض عباده بها هي حقيقة في الله مجاز في عباده نقيض قول القرامطة الباطنية والجهمية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 ولهذا كان السلف يجعلون الجهمية زنادقة ولم يكن إذا ذاك ظهرت ملاحدة الشيعة، بل في عصر محنة الجهمية، في خلافة المأمون والمعتصم ونحوهما، شرعت طوائف الملاحدة الباطنية تظهر مع ظهور الجهمية كما ظهرت الخرمية أصحاب بابك الخرمي وهذا احد ألقاب الباطنية. ويقال إنه سنة عشرين، وهي السنة التي ضرب فهذا فيها أحمد، ظهرت أوائل القرامطة الذين ظهروا بالعراق، ثم صارت لهم شوكة بهجر مع الجناني وأتباعه، ثم ظهرت دعوتهم الكبرى بأرض المغرب ثم مصر، إلى أن فتحها أهل السنة بعد ذلك وبقاياهم في الأرض متفرقون. وهؤلاء لهم أنواع من الإلحاد في غير الأسماء والصفات وإنما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 المقصود هنا بيان إلحاد الجهمية: نفاة الأسماء والصفات، فهؤلاء الذين ينفون حقائق أسماء الله الحسنى، ويقولون: إنما يسمى بها مجازاً، أو المقصود بها غيره، أو لا يعرف معناها أصل تلبيسهم هو ما في إطلاق هذه الأسماء مما يظنونه من التشبيه الذي يجب نفيه ولهذا عظم كلام المسلمين في هذا الباب، وقد بسط في غير هذا الموضع. كلام الجويني عن صفات الله تعالى وتحقيق هذا الموضع من أعظم أصول الدين كما قال أبو المعالي الجويني في الإرشاد من صفات القديم مخالفته للحوادث فالرب لا يشبه شيئاً من الحوادث ولا يشبهه شيء منها. قال: والكلام في هذا الباب من أعظم أركان الدين، فقد غلت طائفة في النفي فعطلت وغلت طائفة في الإثبات، فاما الغلاة في النفي فقالوا: الاشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه وقالوا على هذا القديم سبحانه لا يوصف بالوجود بل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 يقال: ليس بمعدوم وكذلك لا يوصف بانه قادر عالم حي بل يقال: ليس بعاجز ولا جاهل ولا ميت. قال وهذا مذهب الفلاسفة والباطنية وأما الغلاة في الإثبات فاعتقدوا ما يلزمهم القول بمماثلة القديم الحوادث. تعليق ابن تيمية قلت: وهذا الذي قاله أبو المعالي من الاعتناء بهذا الأصل متفق عليه بين الطوائف، والذي ذكره عن النفاة هو قول الجهمية الذي ذكره الإمام أحمد ولهذا نقلوا عن جهم أنه لا يسمى الله بشيء ونقلوا عنه أنه لا يسميه باسم من الأسماء التي يسمي بها الخلق: كالحي والعالم والسميع والبصير بل يسميه قادراً خالقاً لأن العبد عنده ليس بقادر إذ كان هو رأس الجهمية الجبرية. ولما كان كل موجودين لا بد أن يكون بينهما اتفاق من بعض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 الوجوه واختلاف من بعض الوجوه، وقد أنكر طائفة من الناس ذلك وقالوا المتماثلان لا يختلفان بحال، والمختلفان لا يشتبهان في شيء البتة. واضطرب من خالف شيئاً من السنة في الأصل الذي يضبطه في نفي التشبيه إذ جعل مسمى التشبيه والتمثيل واحداً فقالت الباطنية وبعض الفلاسفة إن الاشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه والتماثل. وقال النجار والقلانسي: المثلان هما المجتمعان في صفة من صفات الإثبات إذا لم يكن أحدهما بالثاني لحترز بهذا القيد عن القديم والحادث. تابع كلام الجويني قال أبو المعالي فأما الرد على الفلاسفة فمن أوجه أحدها: الاتفاق على أن السواد يشارك البياض في بعض صفات الإثبات: من الوجود، والعرضية، واللونية. ثم هما مختلفان. وكذلك الجوهر والعرض، والقديم والحادث، لا يمتنع اشتراكهما في صفة واحدة، مع اختلافهما في سائر الصفات. ويقال لهم: أثبتوا الصانع المدبر، أم لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 تثبتونه؟ فإن أثبتوه لزمهم من الحكم بإثباته ما حاذروه، فإن الحادث ثابت، فاستويا في الثبوت، ولا واسطة بين الإثبات والنفي فإن قالوا: ليس بمنفي قيل لهم: نفي النفي إثبات، كما أن نفي الإثبات نفي وإذا لزم الثبوت من نفي النفي، حصلت المماثلة. فإن قالوا: نحن لا نطلق الإثبات على صفاته، ولا ننطق به قلنا: قد نطقتم في صفات الرب بالإثبات أو بصيغة تتضمنه والمقصود من العبارات معناها، ثم نقول أتعتقدون ثبوت الإله سبحانه؟ فإن قالوا: لا نعتقده قطع الكلام عنهم فيما هو فرع له، على أنهم راغموا البديهة لعلمنا بأن نفي النفي إثبات وإن قالوا: نعتقد الثبوت ولا ننطق به. قلنا كلامنا في الحقائق لا في الإطلاقات فإن قالوا فصفوا الإله بالثبوت والوجود ولا تنطقوا به، واعتقدوا وجود الحادث ولا تنطقوا به، لتنفي المماثلة لفظاً، فغن المماثلة لفظاً مما يتوقى في العقائد. قلنا: يتوقى اللفظ لأدائه إلى الحدوث أو إلى النقص فكل مالا يؤدي إلى الحدوث وإلى النقص لا نكثرت به، ثم محاذرة التعطيل أولى من محاذرة التشبيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 قال: ومما يتمسك به أن نقول هلا قلتم: الاشتراك في صفة النفي يوجب الاشتباه؟ وما الفرق بين صفة الإثبات والنفي في هذا الباب؟ ثم نقول: الرب سبحانه معقول ومذكور كالحادث وهو سبحانه مخالف للحادث ولا مخالفة إلا بين اثنين. قال فأما ما قيد النجار به كلامه فليس بعاصم، فإن التماثل يتلقى من الاجتماع في الصفة فأما كون أحدهما بالثاني أو المصير إلى أنه ليس به فلا أثر له في التشابه والتماثل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 واختار أبو المعالي ما اختاره القاضي أبو بكر وأمثاله ويشاركهم في ذلك طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلي وقالوا: إن المثلين كل موجودين ثبت لكل واحد منهما من صفات النفس ما ثبت للآخر ولا يجوز أن ينفرد أحد المثلين عن الآخر بصفة نفس، ويجوز أن ينفرد بصفة معنى وقوعاً يجوز مثلها على مماثلة وبيان ذلك أن الجواهر متماثلة لتساويها في صفات الأنفس. إذ لا يستبد جوهر عن جوهر بالتحيز وقبول العرض والقيام بالنفس، وقد يختص بعض الجواهر بضروب من الأعراض، يجوز أمثالها في سائر الجواهر، ويجوز أن يشارك الشيء ما يخالفه في الوجود، مثل كونهما عرضين لونين خلافا للباطنية قالوا: ولا يجوز ان يتماثل الشيئان من وجه، ويختلفا من وجه لأنه إذا قلنا: المثلان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 هما المتساويان في جميع صفات النفس، فإذا اختلف الشيئان من وجه فليسا متماثلين من كل وجه إذ يستحيل التماثل في جميع الوجوه مع الاختلاف في وجه من الوجوه. تعليق ابن تيمية قلت: هذا بناء على أصل تلقوه من المعتزلة، وهو أن الجواهر والأجسام متماثلة، بخلاف الأعراض، فإنها قد تختلف وقد تتماثل. وحقيقة هذا القول أن الأجسام متماثلة من كل وجه، لا تختلف من وجه دون وجه، بل الثلج مماثل للنار من كل وجه، والتراب مماثل للذهب من كل وجه، والخبز مماثل للحديد من كل وجه، إذ كانا متماثلين في صفات النفس عندهم. وهذا القول فيه من مخالفة الحس والعقل ما يستغنى به عن بسط الرد على صاحبه، بل أصل دعوى تماثل الأجسام من أفسد الأقوال، بل القول في تماثلها واختلافها كالقول في تماثل الأعراض واختلافها، فإنها تتماثل تارة وتختلف أخرى. وتفريقهم بين الصفات النفسية والمعنوية اللازمة للمعين، يشبه تفريق أهل المنطق بين الصفات الذاتية واللازمة للماهية، وكلاهما قول فاسد لا حقيقة له، بل قول هؤلاء أفسد من قول أهل المنطق. وإذا وقع الكلام في جسم مطلق، وجوهر مطلق، فهذا لا وجود له في الخارج، وإن وقع في الوجود من الأجسام: كالنار والماء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 والتراب والإنسان والفرس والذهب، والبر والتمر، فكل جسم من هذه الأجسام له صفات نفسية لازمة له، لا تزول إلا باستحالة نفسه. فدعوى المدعي أنه ليس له من الصفات النفسية إلا التحيز، وقبول العرض، والقيام بالنفس، أفسد من قول أهل المنطق فإن أولئك جعلوا مثلا كون الحيوان حساساً متحركا بالإرادة من الصفات الذاتية، وهؤلاء لم يجعلوا له صفة نفسية إلا كونه جسماً. والتحيز وقبول العرض والقيام بالنفس أمر تشترك فيه الأجسام كلها، والأمور المختلفة تشترك في لوازم كثيرة، كاشتراك الألوان المختلفة في اللونية والعرضية، ليس حقيقة النار مجرد كونها متحيزة، قابلة للعرض، قائمة بالنفس بل هذا من لوازمها. وأيضاً فقد يسلم هؤلاء القائلون بامتناع التشابه من وجه دون وجه، كأبي المعالي وغيره، أن الأعراض المختلفة تشترك في أمور وقد صرحوا بأن القديم والحادث يستويان في الثبوت، وأنه يشارك المحدث في أمور. والاشتراك في بعض صفات الإثبات لا يكون تماثلاً، وهذا تصريح بأن المختلفين يستويان ويشتركان في بعض الصفات، فكيف يمكن أن يقال مع هذا إن المختلفين لا يشتبهان من بعض الوجوه، وقد صرح بتساويهما في بعض الأشياء؟ وغاية هذا أن يقال إنهما لا يختلفان بوجه من الوجوه في الصفات النفسية وإن اشتبها في الصفات المعنوية. وهذا مع أن اللفظ لا يدل، فيعود إلى ما ذكر. وقد أخبر الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 تعالى في كتابه بنفي تساوي بعض الأجسام وتماثلها، كما أخبر بنفي ذلك عن بعض الأعراض فقال الله تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات} فاطر 19 - 22. وقال تعالى {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} الزمر 9. وقال تعالى {ليسوا سواء} آل عمران 113. وقال تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} الحشر 20 وقال تعالى {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} محمد 38، فنفى أن يكون بعض الأجسام مثلا أو مساوياً لغيره. وإذا قيل: إن الأجسام اختلفت بما عرض لها من الأعراض. قيل: من الأعراض ما يكون لازماً لنوع الجسم، أو للجسم المعين، كما يلزم الحيوان أنه حساس متحرك بالإرادة، ويلزم الإنسان انه ناطق، وكما يلزم الإنسان المعين ما يخصه من إحساسه وقوة تحركه بالإرادة ونطقه، وغير ذلك من الأمور المعينة التي لا يشركه في عينها غيره، فهذا لا يجوز أن يكون عارضاً له، إذ هو لازم له. وما يعقل جسم مجرد عن جميع هذه الصفات عرضت له بعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 ذلك، فإذا كانت الأجسام تختلف بالأعراض وهي لازمة لها، كان من لوازمها أن تكون مختلفة. وتمام هذا أن الأشياء تتماثل وتختلف بذواتها، لا نحتاج أن نقول: تتماثل في ذواتها، والذات تختلف بصفاتها. ولهذا كان الصواب أن الرب سبحانه غير مماثل لخلقه، بل هو مخالف لهم بذاته، لا نقول: إنه مساو لهم بذاته، وإنما خالفهم بصفاته. ودعوى من ادعى: أن الأجسام مركبة من جواهر لا تنقسم، قائمة بأنفسها، ليس لها شيء من هذه الأعراض ولكن لما تركبت صارت متصفة بهذه الصفات، كاتصاف النار بالحرارة، والماء بالرطوبة دعوى باطلة بالعقل والحس، فإن الجسم المعين كهذه النار، لم تكن أجزاؤه قط عارية عن كونها ناراً بل النار لازمة لها. وإذا قيل: قد كان هواء فصار ناراً. قيل: نعم وتلك الأجزاء الهوائية لم تكن قط إلا هواء. واستحالة الجسم إلى جسم آخر مشهود معروف عند العامة والخاصة، كما يقول الفقهاء: إذا استحال الخمر خلا، أو العذرة رماداً، والخنزير ملحاً، ونحو ذلك وكما يكون الإنسان منياً ثم يصير علقة، ثم مضغة. فإما أن يقال: إن أجزاء العذرة تفرقت، وهي بعينها باقية حين صارت رماداً، وإنما تغيرت صفاتها، كما يتغير اللون والشكل، بمنزلة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 الثوب المصبوغ، وبمنزلة الخاتم إذا عمل درهماً فهذا مكابرة للحس، لأن الفضة التي كانت خاتماً هي بعينها التي جعلت درهماً أو سواراً، وإنما تغير شكلها كالشمعة إذا غير شكلها. وكذلك إذا صبغ الجسم أو تحرك، فهنا اختلفت صفاته التي هي أعراضه. وأما المني إذا صار آدميا، والهواء إذا صار ناراً، والنار إذا طفئت صارت هواء، فهنا نفس حقيقة الشيء استحالت. فخلق من الأولى ما هو مخالف لها، وفنيت الأولى ولم يبق من نفس حقيقتها شيء، ولكن بقي ما خلق منها، كما يبقى الإنسان الذي خلق من أبيه بعد موت أبيه ولا يقول عاقل: إنه عبارة عن أجزاء كانت في أبيه فتفرقت فيه. وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع، وبينا فساد قول من يقول: الأجسام مركبة من الجواهر التي لا تنقسم أو مركبة من جوهرين قائمين بأنفسهما مادة وصورة. ومن عرف هذا زاحت عنه شبهات كثيرة في الإيمان بالله تعالى. وباليوم الآخر في الخلق، وفي البعث، وفي إحياء الأموات، وإعادة الأبدان، وغير ذلك مما هو مذكور في غير هذا الموضع. فهذا الموضع يحتاج إلى تحقيقه كل من نظر في هذه الأمور، فإنه بمعرفته تزول كثير من الشبهات المتعلقة بالله واليوم الآخر، ويعرف من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 الكلام الذي ذمه السلف، والمعقول الذي يقال إنه معارض للرسول، وما يتبين به أن هؤلاء خالفوا الحس والعقل. وذلك أنا نشهد هذه الأعيان المرئية تتحول من حال إلى حال، كما نشهد أن الشمس والقمر والكواكب تتحرك وتبزغ تارة وتأفل أخرى، ونشهد أيضاً أن السحاب والرياح تتحرك، لكن السحاب نشهد اجتماعه وتفرقه وخروج الودق من خلاله، ونشهد الماء يتحرك ويجتمع ويفترق، ونشهد النبات والحيوان ينمي ويعتدي ومثل هذا منتف في الماء والهواء والأفلاك، وحركته بالنمو والاغتذاء ليست من جنس حركة الماء والهواء والنجوم، فإن هذه توجب من تغير النامي المغتذي واستحالته مالا توجبه تلك، فإن الكواكب هي في نفسها لم تستحل وتغير بالحركة، بخلاف الطفل إذا كبر بعد صغره والزرع إذا استغلظ واستوى على سوقه. ونشهد مع ذلك أن الحطب يصير رماداً ودخاناً، وكذلك الدهن يصير دخاناً، والماء يصير بخاراً، وليس هذا مثل كبر الصغير، بل هذا فيه من الاستحالة والانقلاب من حقيقة إلى حقيقة، ما ليس في نبات الزرع والحيوان. ونشهد إخراج الله من الأرض والشجر: الزرع والثمر، وإخراج الحيوان من الحيوان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 كما قال تعالى {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء} فاطر 27-28، وقال تعالى {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} الروم 19. وقال تعالى {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا} الآية الأنعام 99. وقال {وجعلنا من الماء كل شيء حي} الأنبياء 30، وقال {الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر} إبراهيم 32- 33، فنحن نشهد الثمر يخرج من الخشب، ليست حقيقة الخشب حقيقة الرطب والعنب والرمان، ثم إذا أخرج الثمرة تكون خضراء ثم تصير صفراء ثم تصير حمراء فتختلف ألوانها وتكبر بعد صغرها. ونرى الألوان المختلفة التي يخلقها الله للحيوان والنبات وغير ذلك من أسود وأحمر وأصفر وأبيض، ونفرق بين اختلافها ألوانها وحركاتها وطعومها بالحلاوة والحموضة وغير ذلك، وبين اختلافها بالنمو والاغتذاء، وكبرها بعد الصغر، وبين خروج السنبلة من الحبة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 والشجرة من النواة، وخروج الثمرة من الشجرة، فاختلافها بالحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، كتفريق الماء وجمعه، وتفريق التراب وجمعه، ليس يوجب اختلاف شيء من حقيقة الجسم، وبعد ذلك اختلاف ألوانه وطعومه فإن كونه أحمر وأخضر وأصفر وحلواً وحامضاً، هو اختلاف يزيد على مجرد الحركة كحركة الكواكب والرياح. ثم اختلافه بالنمو والاعتداء مثل كبر الصغير من الحيوان والنبات اختلاف آخر فيه من التغير والزيادة وغير ذلك ما ليس في مجرد تغير اللون والحركة. ثم يصير الماء بخاراً والحطب دخاناً أو رماداً نوع آخر فيه انقلاب الحقيقة واستحالتها ما ليس في ذلك. ثم إخراج الثمرات من الشجر والإنسان من المني والزرع من النبات أمر آخر غير هذا كله فإن الشجرة لم تنقص بخروج الثمرة منها ولا استحالت حقيقتها وكذلك الأرض لم تنقص بخروج الزرع منها ولا استحالت حقيقتها. وكذلك خروج الإنسان من أمه وخروج البيضة من الدجاجة ولكن خلق الفروج من البيضة من جنس خلق الإنسان من المني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 والذي يعقل من اجتماع الأجزاء وافتراقها أن تفترق مع بقاء حقيقتها مثل الماء تفرق حتى تصير أجزاؤه في غاية الصغر وهو ماء وكذلك الزئبق ونحوه فإذا استحالت بعد هواء لم يبق ماء ولا زئبق ومن قال إنه بعد انقلابه بقيت الأجزاء كما تبقى إذا تصغرت أجزاؤه فقد خالف الحس والعقل ولا يعقل الماء ونحوه جزءاً إلا وهو ماء فإذا صار هواء لم يكن في الهواء جزء هو ماء بل جزء الهواء هواء. وكذلك الحطب تكسر أجزاؤه إلى أن تتصاغر فإذا صار رماداً فأجزاء الرماد مخالفة لأجزاء الحطب ليست هذه الأجزاء تلك فبقاء الشيء مع تغير أعراضه شيء وانقلاب حقيقته شيء آخر. ولهذا تفرق اللغة والشرع بين هذا وهذا وتجعل هذا جنساً مخالفاً لهذا في جميع الأحكام بخلاف ما إذا كانت حقيقته باقية وقد تبدلت أعراضها فالحكم المعلق بالذهب والفضة إذا تعلق بعينه كالربا مثلاً هو ثابت فيه وإن تغيرت صورة وأشكاله فسواء كان مجتمعاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 مضروباً أو مصوغاً على أي صورة كان أو مفترقاً بالإنكسار بخلاف حكمه لما كان تراباً في المعدن قبل أن يصير ذهباً وفضة. وكذلك النوى حكمه وحقيقته غير حكم النخلة وحقيقتها وأما الشجر والثمر فأبعد من هذا كله لأنه لا نشهد هناك من انقلاب أجزاء الشجرة واستحالتها ما نشهد من هذه المنقلبات وإنما نشهد خروج ثمرة لها طعم ولون وريح من خشبة مخالفة لها غاية المخالفة مع أن تلك الخشبة قد تزيد وتنمي مع خروج الثمرة منها وإن كان في ذلك استحالة لطينتها من الماء والهواء والتراب لكن خلق الحيوان والنبات والمعدن من العناصر ليس هو من جنس استحالة هذه المولدات بعضها إلى بعض لا سيما إذا كان بأفعالنا بل كلما بعد التسبب بأفعالنا يكون خلقه أعجب والإبداع للأعيان فيه أعظم. وما كان أقرب إلى مفعولاتنا يكون أبعد من إبداع الأعيان بل وعن انقلاب الحقائق إلى تغير الصفات إلى أن تنتهي إلى مطلق الحركة التي ليس فيها من تغير الذات شيء كحركة أحدنا بالمشي والقيام والقعود وحركة الكواكب فإن جنس الحركة هو المقدور للآدميين ابتداء وهو أبعد الأعراض والأحوال عن تغير الأعيان والحقائق ولهذا لا يسمى هذا في اللغة المعروفة تغيراً أصلاً ولا يقول أحد عند الإطلاق للكواكب إذا كانت سائرة وللإنسان إذا كان ماشياً متغيراً اللهم إلا مع قرينة تبين المراد بخلاف ما إذا تغير لونه بحمرة أو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 صفرة فإنهم قد يقولون قد تغير ويقولون تغير الهواء إذا برد بعد السخونة ولا يكادون يسمون مجرد هبوبه تغيراً وإن سمي بذلك فهم يفرقون بين هذا وهذا. والمقصود أن قول من يقول إن هذه المخلوقات التي يخلقها الله بعضها من بعض، ليس خلقه لها إلا تغيير صفاتها وأن حقيقة كل شيء جواهر أصلية متماثلة باقية لا تتغير حقيقتها أصلاً ولكن تكثر تلك الأجزاء وتقل كلام لا حقيقة له وهو متضمن أموراً باطلة إثبات جواهر قائمة بأنفسها مخلوقة وراء هذه الأعيان المشهودة وذاك باطل لا حقيقة له. وإثبات هؤلاء لهذه الجواهر الحسية من جنس إثبات آخرين لجواهر عقلية قائمة بأنفسها وراء هذه الأعيان المشهودة يسمونها المادة والصورة وإثبات أن هذه الجواهر متماثلة والأعيان المشهودة متماثلة وهو أمر لا حقيقة له. فدعوى أن خلق الله لمخلوقاته من الحيوان والنبات والمعدن ليس إلا إحداث أعراض وصفات ليس فيه خلق قائمة بنفسها ولا إحداث لأجسام وجواهر قائمة بنفسها كما تحرك الرياح والمياه وتفرق الماء في مجاريه وهو أيضاً من أبطل الباطل. وهذا من أعظم ضلال هؤلاء حيث عمدوا إلى ما هو من أعظم آيات الرب الدالة الشاهدة بوجوده وقدرته ومشيئته وعلمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 وحكمته ورحمته أنكروا وجودها بالكلية وادعوا أنه ليس في ذلك إبداع عين ولا خلق شيء قائم بنفسه وإنما هو إحداث أعراض والواحد منا يقدر على إحداث بعض الأعراض ثم اقتصروا في ذلك على مجرد إحداث أعراض وصفات. ثم أرادوا أن يثبتوا إبداعه لجميع الأعيان بان ادعوا وجود جواهر منفردة لا حقيقة لها وادعوا في الأعيان المختلفات تماثلا لا حقيقة له. ثم أرادوا أن يثبتوا حدوث هذه الجواهر بمجرد قيام الأعراض أو الحركات بها وذلك من أبعد الأشياء عن الدلالة على المطلوب فاحتاجوا إلى تلك المقدمات الباطلة التي ناقضوا بها عقول العقلاء وكذبوا بها ما جاءت به الرسل من الأنباء واحتاجوا أن ينفوا حقيقة الرب بعد أن نفوا حقيقة مخلوقاته وآل الأمر بهم إما إلى نفي صفاته أيضاً وإما إلى إثبات صفات لا موصوف لها كما لم يثبتوا من آياته إلا ما يحدث من صفات الأشياء. ومن تدبر هذا كله وتأمله وتبين له أن ما جاء به القرآن من بيان آيات الرب ودلائل توحيده وصفاته هو الحق المعلوم بصريح المعقول وأن هؤلاء خالفوا القرآن في أصول الدين في دلائل المسائل وفي نفس المسائل خلافاً خالفوا به القرآن والإيمان وخالفوا به صريح عقل الإنسان وكانوا في قضاياهم التي يذكرونها في خلاف ذلك أهل كذب وبهتان وإن لم يكونوا متعمدين الكذب بل التبس عليهم ما ابتدعوه من الهذيان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 الوجه الحادي والعشرون أن يقال: معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك عليها، هو من فعل المكذبين للرسل، بل هو جماع كل كفر، كما قال الشهرستاني في أول كتابه المعروف بالملل والنحل ما معناه: أصل كل شر هو من معرضة النص بالرأي، وتقديم الهوى على الشرع. وهو كما قال، فإن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه، وبين أن المتبعين لما أنزل هم أهل الهدى والفلاح، والمعرضين عن ذلك هم أهل الشقاء والضلال. كما قال تعالى: {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 123-126] . وقال تعالى: {يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [الأعراف 35-36] . وقد أخبر عن أهل النار أنهم إنما دخلوها لمخالفة الرسل، قال تعالى: {ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس} [الأنعام: 128] ، إلى قوله: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} [الأنعام: 130] . وقال تعالى: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} [الزمر: 71] . وقال تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} [الملك: 8، 9] . ومعلوم أن الكلام الذي جاءت به الرسل عن الله نوعان: إما إنشاء وإما خبر. والإنشاء يتضمن الأمر والنهي والإباحة، فأصل السعادة تصديق خبره، وطاعة أمره وأصل الشقاوة معارضة خبره وأمره بالرأي والهوى، وهذا هو معرضة النص بالرأي، وتقديم الهوى على الشرع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 ولهذا كان ضلال من ضل من أهل الكلام والنظر في النوع الخبري، بمعارضة خبر الله عن نفسه وعن خلقه بعقلهم ورأيهم، وضلال من ضل من أهل العبادة والفقه في النوع الطلبي، بمعارضة أمر الله الذي هو شرعه بأهوائهم وآرائهم. والمقصود هنا أن معارضة أقوال الرسل بأقوال غيرهم من فعل الكفار، كما قال تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد} [غافر: 4] ، إلى قوله: {وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب} [غافر: 5] . وقوله تعالى: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق} [الكهف: 56] . وقوله تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} [غافر 4] ، مصدق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مراء في القرآن كفر» . ومن المعلوم أن كل من عارض القرآن، وجادل في ذلك بعقله ورأيه، فهو داخل في ذلك، وإن لم يزعم تقديم كلامه على كلام الله ورسوله، بل إذا قال ما يوجب المرية والشك في كلام الله، فقد دخل في ذلك، فكيف بمن يزعم أن ما يقوله بعقله ورأيه مقدم على نصوص الكتاب والسنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 وقال تعالى: {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} الآية [غافر: 56] . وقال: {الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} [غافر: 35] . والسلطان هو الكتاب المنزل من السماء، كما ذكر ذلك غير واحد من المفسرين. وشواهده كثيرة كقوله تعالى: {أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} [الروم: 35] . وقوله: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم: 23] في سورة الأعراف ويوسف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 والنجم، فمن عارض آيات الله المنزلة برأيه وعقله من غير سلطان أتاه، دخل في معنى هذه الآية. وهذا مما يبين أنه لا يجوز معارضة كتاب الله إلا بكتاب الله، ولا يجوز معارضته بغير ذلك. وكتاب الله نوعان: خبر وأمر، كما تقدم. أما الخبر فلا يجوز أن يتناقض، ولكن قد يفسر أحد الخبرين الآخر ويبين معناه. وأما الأمر فيدخله النسخ، ولا ينسخ ما أنزل الله إلا بما أنزل الله فمن أراد أن ينسخ شرع الله، الذي أنزله برأيه وهواه كان ملحداً، وكذلك من دفع خبر الله برأيه ونظره كان ملحداً. والقرامطة جمعوا هذا وهذا، وزعموا أن محمد بن إسماعيل هو السابع الذي نسخ دين محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك تعرض لدعوى النبوة غير واحد من الملاحدة. وآخرون يدعون ما هو عندهم أعلى من النبوة: إما ختم الولاية عند من يزعم أن الولاية أفضل من النبوة، كمذهب صاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله، وإما دعوى الفلسفة والحكمة التي هي في زعم كثير منهم أعلى من النبوة. وهؤلاء الملاحدة نوعان: نوع يزعم أنه نزل عليه، كما يدعي ذلك من يدعيه من ملاحدة أهل النسك والتصوف. ثم من هؤلاء من يقول: إن الله أنزل عليه ذلك. ومنهم من يقول: ألقي إلي، أوحي إلي، ولا يسمي الموحي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 وقوم يزعمون أنهم يقولون ذلك بعقلهم ورأيهم. وقد جمع الله هؤلاء بقوله: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} [الأنعام: 93] . فذكر سبحانه من يفترى الكذب على الله، ومن يقول أنه يوحى إليه، ومن زعم أنه يقول كلاماً مثل الكلام الذي أنزله الله. وهذا الأصل هو مما يعلم بالضرورة من دين الرسل من حيث الجملة: يعلم أن الله إذا أرسل رسولاً، فإنما يقول من يناقض كلامه ويعارضه من هو كافر، فكيف بمن يقدم كلامه على كلام الرسول؟ ‍‍‍‍ وأما المؤمنون بما جاء به فلا يتصور أن يقدموا أقوالهم على قوله، بل قد أدبهم الله بقوله: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} [الحجرات: 1] . ولكن البدع مشتقة من الكفر، فلهذا كانت معارضة النصوص الثابتة عن الأنبياء بآراء الرجال هي من شعب الكفر، وإن كان المعارض لهذا بهذا يكون مؤمناً بما جاء به الرسول في غير محل التعارض. وإذا كان أصل معارضة الكتب الإلهية بقول فلان وفلان من أصول الكفر، علم أن ذلك كله باطل. وهذا مما ينبغي للمؤمن تدبره، فإنه إذا حاسب نفسه على ذلك، علم تصديق ذلك. ومما بين هذا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 الوجه الثاني والعشرون وهو أن يقال: إن الله سبحانه ذم من ذمه من أهل الكفر على أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا. كما قال تعالى: {قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون * قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون} [آل عمران: 98-99] . وقال تعالى: {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم} [الأعراف: 86] . وقال: {ألا لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا} [هود: 18-19] . وقال: {وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله} [إبراهيم: 2] . ومعلوم أن سبيل الله هو ما بعث الله به رسله مما أمر به وأخبر عنه، فمن نهى الناس نهياً مجرداً عن تصديق رسل الله وطاعتهم، فقد صدهم عن سبيل الله، فكيف إذا نهاهم عن التصديق بما أخبرت به الرسل، وبين أن العقل يناقض ذلك، وأنه يجب تقديمه على ما أخبرت به الرسل؟ . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 ومعلوم أن من زعم أن العقل الصريح الذي يجب اتباعه، يناقض ما جاء به الرسل، وذلك هو سبيل الله، فقد بغى سبيل الله عوجاً، أي طلب له العوج، فإنه طلب أن يبين اعوجاج ذلك وميله عن الحق، وأن تلك السبيل الشرعية السمعية المروية عن الأنبياء عوجاً لا مستقيمة، وأن المستقيم هو السبيل التي ابتدعها من خالف سبيل الأنبياء. ويوضح هذا. الوجه الثالث والعشرون وهو أن يقال: من المعلوم أن الله أخبر أنه أرسل رسله بالهدى والبيان، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، فقال تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} [التوبة: 33] ، وقال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} [الشورى: 52-53] . وقال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} [إبراهيم: 1-2] . إلى قوله: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} [إبراهيم: 4] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 وقد قال تعالى: {فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} [النحل: 35] . وقال: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} [العنكبوت: 18] . وقال: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} [الأعراف: 157] . قال تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} [المائدة: 15-16] . وقال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 144] . وقال تعالى: {ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} [يوسف: 111] . وقال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} [النحل: 89] . وقال تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} [البقرة 2-5] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 ونظائر هذا في القرآن كثيرة. وإذا كان كذلك فيقال: أمر الإيمان بالله واليوم الآخر: إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على الحق، أو بما يدل على الباطل، أو لم يتكلم: لا بما يدل على حق، ولا بما يدل على باطل. ومعلوم أنه إذا قدر في شخص من الأشخاص أنه لم يتكلم في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر: لا بحق ولا بباطل، ولا هدى ولا ضلال، بل سكت عن ذلك، لم يكن قد هدى الناس، ولا أخرجهم من الظلمات إلى النور، ولا بين لهم، ولا كان معه ما يستضيء به السالك المستدل. فإن قدر أن هذا الشخص تكلم بما يفهم منه نقيض الحق، وبما يدل على ضد الصواب، وكان مدلول كلامه في ذلك معلوم الفساد بصريح العقل- لكان هذا الشخص قد أضل بكلامه وما هدى، وكان مخرجا لمن اتبعه بكلامه من النور إلى الظلمات، كحال الطاغوت الذين قال الله فيهم: {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} [البقرة: 257] . ومن زعم أن ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة، قد عارضه صريح المعقول الذي يجب تقدمه عليه، فقد جعل الرسول شبيهاً بالشخص الثاني الذي أضل بكلامه من وجه، ويجعله بمنزلة من جعله كالساكت الذي لم يضل ولم يهد من وجه آخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 فإنه إذا زعم أن الحق والهدى هو قول نفاة الصفات الذي يعلم بالعقل عنده، فمعلوم أن كلام الله ورسوله لم يدل على قول النفاة. دلالة يحصل بها الهدى والبيان للمخاطبين بالقرآن، إن كان قول النفاة هو الحق. ومعلوم أن كلام الله ورسوله دل على إثبات الصفات المناقض لقول النفاة، دلالة بينة بقول جمهور الناس: إنها دلالة قطعية على ذلك. والمعتزلة ونحوهم من النفاة معترفون بأنها دلالة ظاهرة، فإذا كان الرسول لم يظهر للناس إلا إثبات الصفات دون نفيها، وكان الحق في نفس الأمر نفيها، لكان بمنزلة الشخص الذي كتم الحق وذكر نقيضه. وهذا خلاف ما نعته الله في كتابه، فدل على أن هذا الطريق التي يسوغ فيها تقديم عقول الرجال- في أصول التوحيد والإيمان على كلام الله ورسوله، تناقض دين الرسول مناقضة بينة، بل مناقضة معلومة بالاضطرار من دين الإسلام، لمن تدبر حقيقة هذا القول وعرف غائلته ووباله. وحينئذ فنقول: الوجه الرابع والعشرون إنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول: هذا القرآن أو الحكمة الذي بلغته إلينا قد تضمن أشياء كثيرة تناقض ما علمنا بعقولنا، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا، فلو قبلنا جميع ما تقوله، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 مع أن عقولنا تناقض ذلك، لكان ذلك قدحاً فيما علمنا به صدقك فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك، وكلامك نعرض عنه، لا نتلقى منه هدى ولا علم - لم يكن مثل هذا الرجل مؤمناً بما جاء به الرسول، ولم يرض الرسول منه بهذا، بل يعلم أن هذا لو ساغ، لأمكن كل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جاء به الرسول، إذ العقول متفاوتة، والشبهات كثيرة والشيطان لا يزال يلقي الوساوس في النفوس، فيمكن حينئذ أن يلقي في قلب غير واحد من الأشخاص، ما يناقض عامة ما أخبر به الرسول وما أمر به. وقد ظهر ذلك في القرامطة الباطنية، الذين ردوا عامة الظاهر الذي جاء به من الأمر والخبر، وزعموا أن العقل ينافي هذا الظاهر الذي بينه الرسول. ثم قد يقولون: الظاهر خطاب للجمهور والعامة، حتى يصل الشخص إلى معرفة الحقيقة التي يزعمون أنها تناقض ما بينه الرسول، وحينئذ تسقط عنه طاعة أمره، ويسوغ له تكذيب خبره. ومن المعلوم لعامة المسلمين أن قول الباطنية، الذي يتضمن مخالفة الرسول، معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام. وكذلك ما أخبر به في المعاد، قد قال متكلمة المسلمين: إن قول الفلاسفة المناقض لذلك معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام. وهكذا ما اخبر به الرسول من أسماء الله وصفاته، يعلم أهل الإثبات أن قول النفاة فيه معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 وأصل هذا الإلحاد معارضة ما جاءت به الأنبياء بالعقول والآراء. الوجه الخامس والعشرون وهو أن الله سبحانه وتعالى قد بين في كتابه أن معارضة مثل هذا فعل الشياطين المعادين للأنبياء. قال تعالى: {اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين * ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل * ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون * وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} [الأنعام: 106-110] أي وما يشعركم أن الآيات إذا جاءت لا يؤمنون، وأنا نقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة. فقوله: {نقلب أفئدتهم} معطوف على قوله {لا يؤمنون} ، وكلاهما داخل في معنى قوله: {وما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 يشعركم} وبهذا تزول شبهة من لم يفهم الآية فظن أن (أن) بمعنى (لعل) لتوهمه أن قوله: {ونقلب} فعل مبتدأ، إلى قوله: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون * أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين * وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام: 112-115] . ومن تدبر هؤلاء الآيات علم أنها منطبقة على من يعارض كلام الأنبياء بكلام غيرهم بحسب حاله فإن هؤلاء هم أعداء ما جاءت به الأنبياء. وأصل العداوة والبغض، كما أن الولاية والحب. ومن المعلون أنك لا تجد أحداً ممن يرد نصوص الكتاب والسنة بقوله إلا وهو يبغض ما خالف قوله، ويود أن تلك الآية لم تكن نزلت، وأن ذلك الحديث لم يرد، ولو أمكنه كشط ذلك في المصحف لفعله. قال بعض السلف: لا ابتدع أحد بدعة إلا خرجت حلاوة الحديث من قلبه. وقيل عن بعض رؤوس الجهمية - إما بشر المريسي، أو غيره: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 أنه قال: ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن، فأقروا به في الظاهر، ثم صرفوه بالتأويل. ويقال أنه قال: إذا احتجوا عليكم بالحديث فغالطوهم بالتكذيب، وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم بالتأويل. ولهذا تجد الواحد من هؤلاء لا يحب تبليغ النصوص النبوية، بل قد يختار كتمان ذلك والنهي عن إشاعته وتبليغه خلافاً لما أمر الله به ورسوله من التبليغ عنه. كما قال: «ليبلغ الشاهد الغائب» . وقال: «بلغوا عني ولوا آية» . وقال: «نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فبلغه إلى من لم يسمعه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» . وقد ذم الله في كتابه الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى، وهؤلاء يختارون كتمان ما أنزله الله، لأنه معارض لما يقولونه، وفيهم جاء الأثر المعروف عن عمر: قال: إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم السنن أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، وسئلوا فقالوا في الدين برأيهم. فذكر أنهم أعداء السنن. وبالجملة، فكل من أبغض شيئاً من الكتاب والسنة ففيه من عداوة النبي بحسب ذلك، وكذلك من أحب ذلك ففيه من الولاية بحسب ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 قال عبد الله بن مسعود: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله. وعدو الأنبياء هم شياطين الإنس والجن. كما «قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن. فقال: أو للإنس شياطين؟ فقال: نعم شر من شياطين الجن، وهؤلاء يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً» . والزخرف هو الكلام المزين، كما يزين الشيء بالزخرف، وهو المذهب، وذلك غرور لأنه يغر المستمع، والشبهات المعارضة لما جاءت به الرسل هي كلام مزخرف يغر المستمع. ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، فهؤلاء المعارضون لما جاءت به الرسل تصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، كما رأيناه وجربناه. ثم قال: {أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا} [الأنعام: 114] وهذا يبين أن الحكم بين الناس هو الله تعالى بما أنزله من الكتاب المفصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10] . وقال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213] . وقال تعالى: {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا} [الأنعام: 114] جملة في موضع الحال. وقوله: {أفغير الله أبتغي حكما} [الأنعام: 114] . استفهام استنكار، يقول كيف أطلب حكما غير الله، وقد أنزل الكتاب مفصلا يحكم بيننا. وقوله (مفصلا) يبين أن الكتاب الحاكم مفصل مبين، بخلاف ما يزعمه من يعارضه بآراء الرجال، ويقول إنه لا يفهم معناه، ولا يدل على مورد النزاع، فيجعله إما مجملاً لا ظاهر له، أو مؤولاً لا يعلم عين معناه، ولا يدل على عين المعنى المراد به. ولهذا كان المعرضون عن النصوص، المعارضون لها، كالمتفقين على أنه لا يعلم عين المراد به، وإنما غايتهم أن يذكروا احتمالات كثيرة، ويقولون: يجوز أن يكون المراد واحداً منها. ولهذا أمسك من امسك منهم عن التأويل، لعدم العلم بعين المراد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 فعلى التقديرين لا يكون عندهم الكتاب الحاكم مفصلا، بل مجملا ملتبساً أو مؤولا بتأويل لا دليل على إرادته. ثم قال: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} [الأنعام: 114] ، وذلك أن الكتاب الأول مصدق للقرآن، فمن نظر فيما بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل، علم علماً يقيناً لا يحتمل النقيض أن هذا وهذا جاءا من مشكاة واحدة، لا سيما في باب التوحيد والأسماء والصفات، فإن التوراة مطابقة للقرآن موافقة له موافقة لا ريب فيها. وهذا مما يبين أن ما في التوراة من ذلك، ليس هو من المبدل الذي أنكره عليهم القرآن، بل هو من الحق الذي صدقهم عليه. ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينكرون ما في التوراة من الصفات، ولا يجعلون ذلك مما يدله اليهود، ولا يعيبونهم بذلك ويقولون هذا تشبيه وتجسيم، كما يعيبهم بذلك كثير من النفاة، ويقولون: إن هذا مما حرفوه، بل كان الرسول إذا ذكروا شيئاً من ذلك صدقهم عليه، كما صدقهم في خبر الحبر، كما هو في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، وفي غير ذلك. ثم قال: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام: 115] ، فقرر أن ما أخبر الله به فهو صدق، وما أمر به فهو عدل. وهذا يقرر أن ما في النصوص من الخبر فهو صدق علينا أن نصدق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 به، ولا نعرض عنه ولا نعارضه، ومن دفعه فإنه لم يصدق به، وإن قال: أنا أصدق الرسول تصديقاً مجملاً، فإن نفس الخبر الذي أخبر به الرسول، وعارضه هو بعقله ودفعه، لم يصدق به تصديقاً مفصلاً، ولو صدق الرجل الرسول تصديقاً مجملاً، ولم يصدقه تصديقاً مفصلاً، فيما علم أنه أخبر به، لم يكن مؤمناً له، ولو أقر بلفظه مع إعراضه عن معناه الذي بينه الرسول، أو صرفه إلى معان لا يدل عليها مجري الخطاب بفنون التحريف، بل لم يردها الرسول، فهذا ليس بتصديق في الحقيقة، بل هو إلى التكذيب أقرب. الوجه السادس والعشرون وهو أن يقال: إن الله ذم أهل الكتاب على كتمان ما أنزل الله، وعلى الكذب فيه، وعلى تحريفه، وعلى عدم فهمه. قال تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون * أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون * ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 أماني وإن هم إلا يظنون * فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} . فذم المحرفين له، والأميين الذين لا يعلمونه إلا أماني، والذين يكذبون فيقولون لما يكتبونه هو من عند الله، وما هو من عند الله، كما ذم الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، وقد ذم الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب في غير هذا الموضع. وهذه الأنواع الأربعة موجودة في الذين يعرضون عن كتاب الله ويعارضونه بآرائهم وأهوائهم، فإنهم تارة يكتمون الأحاديث المخالفة لأقوالهم، ومنهم طوائف يضعون أحاديث نبوية توافق بدعهم، كالحديث التي تحتج به الفلاسفة: أول ما خلق الله العقل. والحديث الذي يحتج به الجهمية: كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 والحديث الذي يحتجون به في نفي الرؤية: لا ينبغي لأحد أن يرى الله في الدنيا ولا في الآخرة. والحديث الذي يحتجون به في نفي العلو، كالحديث الذي رواه ابن عساكر فيما أملاه في نفي الجهة عن شيخه ابن عبد الله العوسجي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الذي أين الأين فلا يقال له: أين، وعرض به حديث ابن اسحق الذي رواه أبو داود وغيره، الذي قال فيه: يستشفع بك على الله ويستشفع بالله عليك وأكثر فيه في القدح في ابن اسحق مع احتجاجه بحديث أجمع العلماء على أنه من أكذب الحديث، وغاية ما قالوا فيه: إنه غريب. والأحاديث التي تحتج بها الاتحادية من هؤلاء وغيرهم، مثل قولهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: رب زدني فيك تحيراً. ومثل الأحاديث التي يحتج بها الواصفون بالنقائص، كحديث الجمل الأورق ونزوله عشية عرفه إلى الأرض يصافح الركبان ويعانق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 المشاة، ونزوله إلى بطحاء مكة، وقعوده على كرسي بين السماء والأرض، ونزوله على صخرة بيت المقدس، وأمثال ذلك. وكذلك ما يضعونه من الكتب بآرائهم وأذواقهم ويدعون أن هذا هو دين الله الذي يجب اتباعه. وأما تحريفهم للنصوص بأنواع التأويلات الفاسدة التي يحرفون بها الكلم عن مواضعه، فأكثر من أن يذكر، كتأويلات القرامطة الباطنية، والجهمية والقدرية، وغيرهم. وأما عدم الفهم فإن النصوص التي يخالفونها، تارة يحرفونها بالتأويل، وتارة يعرضون عن تدبرها وفهم معانيها، فيصيرون كالأميين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ولهذا تجد هؤلاء معرضين عن القرآن والحديث، فمنهم طوائف لا يقرون القرآن، مثل كثير من الرافضة والجهمية، لا تحفظ أئمتهم القرآن، وسواء حفظوه أم لم يحفظوه لا يطلبون الهدى منه، بل إما أن يعرضوا عن فهمه وتدبره، كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وإما أن يحرفوه بالتأويلات الفاسدة. وأما الحديث: فمنهم من لا يعرفه ولم يسمعه، وكثير منهم لا يصدق به، ثم إذا صدقوا به كان تحريفهم له وإعراضهم عنه، أعظم من تحريف القرآن والإعراض عنه، حتى أن منهم طوائف يقرون بما أخبر به القرآن من الصفات، وأما الحديث إذا صدقوا به فهم لا يقرون بما أخبر به. وإذا تبين أن من أعرض عن الكتاب وعارضه بالمعقولات، لا بد له من كتمان أو كذب أو تحريف أو أمية، مع عدم علم، وهذه الأمور كلها مذمومة - دل ذلك على أن هؤلاء مذمومون في كتاب الله، كما ذم الله أشباههم من أهل الكتاب، وأن هؤلاء وأمثالهم دخلوا في قوله صلى الله عليه وسلم الذي ثبت عنه في الصحيح، الذي قال فيه: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 فإن قيل: فما ذكرتموه قد يشعر بأنه ليس لأحد أن يعارض حديثا، ولا يستشكل معناه، وقد كان الصحابة يفعلون ذلك. حتى قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «من نوقش الحساب عذب. قالت عائشة: يا رسول الله أليس الله يقول: {فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا} [الانشقاق: 7، 8] ؟ فقال: ذلك العرض، ومن نوقش الحساب عذب» . ولما قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة. قالت له حفصة: أليس الله يقول: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71] ؟ فقال: ألم تسمعي قوله: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} [مريم: 72] » . «وقال له عمر عام الحديبية: ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 به؟ فقال: هل قلت لك: إنك تدخله هذا العام؟ قال لا: قال فإنك آتيه ومطوف به» . قيل: لم يكن في الصحابة من يقول: إن عقله مقدم على نص الرسول، وإنما كان يشكل على أحدهم قوله فيسأل عما يزيل شبهته، فيتبين له أن النص لا شبهة فيه. فلما نفى النبي صلى الله عليه وسلم مناقشة الحساب عن الناجين، لم ينف كل ما يسمى حساباً، والحساب يراد به الموازنة بين الحسنات والسيئات، وهذا يتضمن المناقشة، ويراد به عرض الأعمال على العامل وتعريفه بها. ولهذا لما تنازع أهل السنة في الكفار: هل يحاسبون أم لا؟ كان فصل الخطاب إثبات الحساب، بمعنى عد الأعمال وإحصائها وعرضها عليهم، لا بمعنى إثبات حسنات نافعة لهم في ثواب يوم القيامة تقابل سيئاتهم. وكذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» لم يرد به المرور على الصراط، فإن ذاك لا يسمى دخولاً، ولكن سماه الله ورودا بقوله: {وإن منكم إلا واردها} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 ولفظ (الورود) يحتمل العبور والدخول. وأيضا، فالورود والدخول قد يراد: ورود أعلاها. وقد ثبت في الصحيح: «أنهم إذا عبروا على الصراط: منهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل» . وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الورود بهذا، وهذا عام لجميع الخلق، فلما قالت حفصة: أليس الله يقول: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71] لم تكن هذه معارضة صحيحة لما أخبر به، فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم -بعد أن زبرها - أن الله قال: {ثم ننجي الذين اتقوا} [مريم: 72] فتلك النجاة هي المعنى الذي أراده بقوله: لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة. فإن قيل: فعائشة قد عارضت ما رواه عمر وغيره عن النبي صلى الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 عليه وسلم: «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» . بقول الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] ، وعارضت ما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم «من مخاطبة أهل القليب يوم بدر بقوله: {إنك لا تسمع الموتى} [النمل: 80] » . قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: أنا لم ننكر انهم كانوا يعارضون نصاً بنص آخر، وإنما أنكرنا معارضة النصوص بمجرد عقلهم، والنصوص لا تتعارض في نفس الأمر، إلا في الأمر والنهي، إذا كان أحدهما ناسخاً والآخر منسوخاً، وأما الأخبار فلا يجوز تعارضها. وأما إذا قدر أن الإنسان تعارض عنده خبران أو أمران: عام وخاص، وقدم الخاص على العام، فإنه يعلم أن ذلك ليس يتعارض في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 نفس الأمر، وأن المعنى الخاص لم يدخل في إرادة المتكلم باللفظ العام، فالدليل الخاص يبين ما لم يرد باللفظ العام، كما في قوله: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] ، فالسنة بينت أن الكافر والعبد والقاتل لم يدخل في ذلك. هذا عند من يجعل اللفظ عاما لهؤلاء، وأما من قال: العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، فإنه يقول: إن الآية تعم كل ولد، ولكن لم يبين فيها الحال الذي يرث فيها الولد، والحال التي لم يرث فيها، ولكن هذا مبين في نصوص أخرى. وهؤلاء يقولون: لفظ القرآن باق على عمومه، ولكن ما سكت عنه لفظ القرآن من الشروط والموانع بين في نصوص أخرى. وهكذا يقولون في قوله: {والسارق والسارقة} [المائدة: 38] وأمثال ذلك من عمومات القرآن وظواهره، لا يقولون: إن اللفظ متروك، ولكن يقولون: ما سكت عنه اللفظ بين في نصوص أخرى. ويقولون فرق بين ما يعمه اللفظ، وبين ما سكت عنه من أحوال: ما عمه فإن اللفظ مطلق في ذاك لا عام فيه. وإذا كان في كلام الله ورسوله كلام مجمل أو ظاهر قد فسر معناه وبينه كلام آخر متصل به أو منفصل عنه، لم يكن في هذا خروج عن كلام الله ورسوله، ولا عيب في ذلك ولا نقص، كما في الحديث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 الصحيح: «يقول الله: عبدي، جعت فلم تطعمني. فيقول: رب كيف أطعمك، وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي. عبدي، عطشت فلم تسقني. فيقول: كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا عطش، فلو أسقيته لوجدت ذلك عندي. عبدي، مرضت فلم تعدني. فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض، فلو عدته لوجدتني عنده» . فهذا الحديث قد قرن به الرسول بيانه، وفسر معناه، فلم يبقى في ظاهره ما يدل على باطل، ولا يحتاج إلى معارضة بعقل ولا تأويل يصرف فيه ظاهره إلى باطنه بغير دليل شرعي. فأما أن يقال: إن في كلام الله ورسوله ما ظاهره كفر وإلحاد، من غير بيان من الله ورسوله لما يزيل الفساد ويبين المراد، فهذا هو الذي تقول أعداء الرسل، الذين كفروا من المشركين وأهل الكتاب، وهو الذي لا يوجد في كلام الله أبداً. وإيضاح ذلك في: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 الوجه السابع والعشرون وهو أن نقول: الذين يعارضون كلام الله وكلام رسوله بعقولهم: إن كانوا من ملاحدة الفلاسفة والقرامطة. قالوا إن الرسل أبطنت خلاف ما أظهرت لأجل مصلحة الجمهور، حتى يؤول الأمر بهم إلى إسقاط الواجبات واستحلال المحرمات: إما للعامة. وإما للخاصة دون العامة، ونحو ذلك مما يعلم كل مؤمن أنه فاسد مخالف لما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وإن كانوا من أهل الفقه والكلام والتصوف الذين لا يقولون ذلك، فلا بد لهم من التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح. ولفظ (التأويل) يراد به التفسير، كما يوجد في كلام المفسرين: ابن جرير وغيره. ويراد به حقيقة ما يؤول إليه الكلام، وهو المراد بلفظ التأويل في القرآن. وأما بالمعنى الثاني، فمنه ما لا يعلمه إلا الله. ولهذا كانوا يثبتون العلم بمعاني القرآن، وينفون العلم بالكيفية، كقول مالك وغيره: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 فالعلم بالاستواء من باب التفسير، وهو التأويل الذي نعلمه. وأما الكيف فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، وهو المجهول لنا. ويراد بالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، وهذا هو الذي تدعيه نفاة الصفاة والقدر ونحو ذلك من نصوص الكتاب والسنة. وهؤلاء قولهم متناقض، فإنهم بنوه على أصلين فاسدين: فإنهم يقولون لا بد من تأويل بعض الظواهر كما في قوله: «جعت فلم تطعمني» . وقوله: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، ونحو ذلك. ثم أي نص خالف رأيهم جعلوه من هذا الباب، فيجعلون تارة المعنى الفاسد هو الظاهر، ليجعلوا في موضع آخر المعنى الظاهر فاسدا، وهم مخطئون في هذا وهذا. ومضمون كلامهم أن كلام الله ورسوله في ظاهره كفر وإلحاد، من غير بيان من الله ورسوله للمراد. وهذا قول ظاهر الفساد، وهو أصل قول أهل الكفر والإلحاد. أما النصوص التي يزعمون أن ظاهرها كفر، فإذا تدبرت النصوص وجدتها قد بينت المراد، وأزالت الشبهة، فإن الحديث الصحيح لفظه: «عبدي، مرضت فلم تعدني. فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض، فلو عدته لوجدتني عنده» . فنفس ألفاظ الحديث نصوص في أن الله نفسه لا يمرض، وإنما الذي مرض عبده المؤمن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 ومثل هذا لا يقال: ظاهره أن الله يمرض، فيحتاج إلى تأويل لأن اللفظ إذا قرن به ما يبين معناه، كان ذلك هو ظاهره كاللفظ العام، إذا قرن به استثناء أو غاية أو صفة، كقوله: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} [العنكبوت: 14] وقوله: {فصيام شهرين متتابعين} [النساء: 92] ، ونحو ذلك، فإن الناس متفقون على أنه حينئذ ليس ظاهره ألفاً كاملة ولا شهرين، سواء كانا متفرقين أو متتابعين. وأما قوله: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فهو أولا: ليس من الحديث الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نحتاج أن ندخل في هذا الباب. ولكن هؤلاء يقرنون بالأحاديث الصحيحة أحاديث كثيرة موضوعة، ويقولون بتأول الجميع، كما فعل بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وأبو بكر بن فورك في كتاب مشكل الحديث حتى أنهم يتأولون حديث عرق الخيل وأمثاله من الموضوعات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 هذا مع أن عامة ما فيه من تأويل الأحاديث الصحيحة هي تأويلات المريسي وأمثاله من الجهمية. وقد يكون الحديث مناماً كحديث رؤية ربه في أحسن صورة، فيجعلونه يقظة، ويجعلونه ليلة المعراج، ثم يتأولونه. وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابه في إبطال التأويل رداً لكتاب ابن فورك، وهو وإن كان أسند الأحاديث التي ذكرها وذكر من رواها، ففيها عدة أحاديث موضوعة كحديث الرؤية عياناً ليلة المعراج ونحوه. وفيها أشياء عن بعض السلف رواها بعض الناس مرفوعة، كحديث قعود الرسول صلى الله عليه وسلم على العرش، رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة، وهي كلها موضوعة، وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف، وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه، ويتلقونه بالقبول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال إلا توفيقاً، لكن لا بد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول، وما ثبت من كلام غيره، سواء كان من المقبول أو المردود. ولهذا وغيره تكلم رزق الله التميمي وغيره مكن أصحاب أحمد في تصنيف القاضي أبي يعلى لها الكتاب بكلام غليظ وشنع عليه أعداؤه بأشياء هو منها بريء، كما ذكر هو ذلك في آخر الكتاب. وما نقله عنه أبو بكر بن العربي في العواصم كذب عليه عن مجهول لم يذكره أبو بكر، وهو من الكذب عليه، مع أن هؤلاء - وإن كانوا نقلوا عنه ما هو كذب عليه، ففي كلامه ما هو مردود نقلاً وتوجيهاً، وفي كلامه من التناقض من جنس ما يوجد في كلام الأشعري، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي المعالي، وأمثالهم ممن يوافق النفاة على نفيهم، ويشارك أهل الإثبات على وجه، يقول الجمهور: إنه جمع بين النقيضين. ويقال: إن أبا جعفر السمناني، شيخ أبي الوليد الباجي قاضي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 الموصل، كان يقول عليه ما لم يقله: ويقال عن السمناني إنه كان مسمحا في حكمه وقوله. والمقصود هنا أن ما لم يكن ثابتاً عن الرسول، لا نحتاج أن ندخله في هذا الباب، سواء احتيج إلى تأويل أو لم يحتج. وحديث الحجر الأسود يمين الله في الأرض هو معروف من كلام ابن عباس، وروي مرفوعاً، وفي رفعه نظر. ولفظ الحديث: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه أو قبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه. ففي لفظ هذا الحديث أنه يمين الله في الأرض، وأن المصافح له كأنما صافح الله وقبل يمينه. ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به، فهذا صريح في أنه ليس هو نفس صفة الله، فلا يمكن أحد أن يأتي بنص صحيح صريح يدل على معنى فاسد، من غير بيان للنص أصلا، فالحمد لله الذي سلم كلامه وكلام رسوله من كل نقص وعيب، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، والحمد لله رب العالمين. وأما الخطأ الثاني فيأتون إلى نصوص صحيحة دالة على معان دلالة بينة، بل صريحة قطعية، كأحاديث الرؤية ونحوها، مما فيه إثبات الصفات، فيقولون هذه تحتاج إلى التأويل كتلك، وقد تبين استغناء كل من الصنفين عن التحريف، وأن التفسير الذي به يعرف الصواب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 قد ذكر ما يدل عليه في نفس الخطاب: إما مقرونا به، وإما في نص آخر. ولهذا لما لم يكن لهم قانون قويم، وصراط مستقيم، في النصوص لم يوجد أحد منهم يمكنه التفريق بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل والتي لا تحتاج إليه، إلا بما يرجع إلى نفس المتأول المستمع للخطاب، لا بما يرجع إلى نفس المتكلم بالخطاب، فنجد من ظهر له تتناقض أقوال أهل الكلام والفلاسفة، كأبي حامد وأمثاله، ممن يظنون أن في طريقة التصفية نيل مطلوبهم، يعولون في هذا الباب على ذوقهم وكشفهم، فيقولون: إن ما عرفته بنور بصيرتك فقرره، وما لم تعرفه فأوله. ومن ظن أن في كلام المتكلمين ما يهدي إلى الحق، يقول: ما ناقض دلالة العقل وجب تأويله، وإلا فلا. ثم المعتزلي - والمتفلسف الذي يوافقه - يقول: إن العقل يمنع إثبات الصفات وإمكان الرؤية. ويقول المتفلسف الدهري: إنه يمنع إثبات معاد الأبدان وإثبات أكل وشرب في الآخرة، ونحو ذلك. فهؤلاء مع تناقضهم لا يجعلون الرسول نفسه نصب في خطابه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 دليلاً يفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، بل يجعلون الفارق هو ما يختلف باختلاف الناس من أذواقهم وعقولهم. ومعلوم أن هذا نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان، بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق، بل إلى التكلم بكلام لا يعرف حقه من باطله، ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول، فلا يستفيدون من كتاب الله وسنة رسوله شيئاً من معرفة صفات الله تعالى، بل الرسول معزول عندهم عن الإخبار بصفات الله تعالى نفياً وإثباتاً، وإنما ولايته عندهم في العمليات - أو بعضها - مع أنهم متفقون على أن مقصوده العدل بين الناس وإصلاح دنياهم. ثم يقولون مع ذلك: إنه أخبرهم بكلام عن الله وعن اليوم الآخر: صار ذلك الكلام سبباً للشر بينهم والفتن والعداوة والبغضاء، مع ما فيه عندهم من فساد العقل والدين، فحقيقة أمرهم أنه أفسد دينهم ودنياهم. وهذا مناقض لقولهم: إنه أعقل الخلق وأكملهم، أو من أعقلهم وأكملهم، وأنه قصد العدل ومصلحة دنياهم. فهم مع قولهم المتضمن للكفر والإلحاد، يقولون قولاً مختلفا، يؤفك عنه من أفك، متناقض غاية التناقض، فاسد غاية الفساد. وهذا ينكشف: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 الوجه الثامن والعشرون وهو أن يقال: حقيقة قول هؤلاء الذين يجوزون أن تعارض النصوص الإلهية النبوية بما يناقضها من آراء الرجال، وأن لا يحتج بالقرآن والحديث على شيء من المسائل العلمية، بل ولا يستفاد التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله، فإنه إذا جاز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله في الكتاب والسنة أخبار يعارضها صريح العقل، ويجب تقديمه عليها من غير بيان من الله ورسوله للحق الذي يطابق مدلول العقل، ولا لمعاني تلك الأخبار المناقضة لصريح العقل، فالإنسان لا يخلو من حالين، وذلك لأن الإنسان إذا سمع خطاب الله ورسوله الذي يخبر فيه عن الغيب: فإما أن يقدر أن له رأياً مخالفاً للنص، أو ليس له رأي يخالفه، فإن كان عنده مما يسميه معقولاً ما يناقض خبر الله ورسوله، وكان معقوله هو المقدم، قدم معقوله وألغى خبر الله ورسوله، وكان حينئذ كل من اقتضى عقله مناقضة خير من أخبار الله ورسوله قدم عقله على خبر الله ورسوله، ولم يكن مستدلا بما أخبر الله به ورسوله على ثبوت مخبره، بل ولم يستفد من خبر الله ورسوله فائدة علمية، بل غايته أن يستفيد إتعاب قلبه فيما يحتمله ذلك اللفظ من المعاني التي لا يدل عليها الخطاب إلا دلالة بعيدة ليصرف إليها اللفظ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 ومعلوم أن المقصود بالخطاب والإفهام، وهذا لم يستفد من الخطاب والإفهام، فإن الحق لم يستفده من الخطاب بل من عقله، والمعنى الذي دل عليه الخطاب الدلالة المعروفة لم يكن المقصود بالخطاب إفهامه، وذلك المعنى البعيد الذي صرف الخطاب إليه، قد كان عالما بثبوته بدون الخطاب، ولم يدل عليه الخطاب الدلالة المعروفة، بل تعب تعباً عظيما حتى أمكنه احتمال الخطاب له، مع أنه لا يعلم أن المخاطب أفاده بالخطاب، فلم يكن له خطاب الله ورسوله على قول هؤلاء، لا إفهام ولا بيان، بل قولهم يقتضي أن خطاب الله ورسوله إنما أفاد تضليل الإنسان، وإتعاب الأذهان، والتفريق بين أهل الإيمان، وحصول العداوة بينهم والشنآن، وتمكين أهل الإلحاد والطغيان، من الطعن في القرآن والإيمان. وأما إن لم يكن عنده ما يعارض النص، مما يسمى رأياً ومعقولا وبرهاناً ونحو ذلك، فإنه لا يجزم بأنه ليس في عقول جميع الناس ما يناقض ذلك الخبر الذي أخبر الله به رسوله، ومن المعلوم أن الدلالات التي تسمى عقليات، ليس لها ضابط، ولا هي منحصرة في نوع معين، بل ما من أمة إلا ولهم ما يسمونه معقولات. واعتبر ذلك بأمتنا، فإنه ما من مده إلا وقد يبتدع بعض الناس بدعاً، يزعم أنها معقولات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات، فإن الخوارج والشيعة حدثوا في آخر خلافة علي المرجئة والقدرية حدثوا في أواخر عصر الصحابة، وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص ويستدلون بها على قولهم، لا يدعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص. ولكن لما حدثت الجهمية في أواخر عصر التابعين، كانوا هم المعارضين للنصوص برأيهم ومع هذا فكانوا قليلين مقموعين في الأمة. وأولهم الجعد بن درهم، ضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط، وقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، انه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً ثم نزل فذبحه. وإنما صار لهم ظهور شوكة في أوائل المائة الثالثة، لما قواهم من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 قواهم من الخلفاء، فامتحن الناس ودعاهم إلى قولهم، ونصر الله الإيمان والسنة بمن أقامه من أئمة الهدى، الذي جعلهم الله أئمة في الدين بما آتاهم الله من الصبر واليقين كما قال الله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة: 24] . والمقصود هنا أن ما تذكره الجهمية نفاة الصفات العقلية المناقضة للنصوص لم يكن معروفا فيها عند الأمة إذ ذاك، ولما ابتدعوه لم يسمعه أكثر الأمة. ثم قد وضعت الجهمية من المعتزلة وغيرهم من ذلك في الكتب ما شاء الله وأكثر المؤمنين لا يعلمون ذلك، وما من أحد من النفاة إلا وقد يذكر على النفي من حججه العقلية ما لا يذكره الآخر، ولا تجد طائفتين يتفقان على طريقة واحدة عقلية، بل المعتزلة عمدتهم في النفي، أما الصفات أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، وعمدتهم في نفي الجسم كونه لا ينفك من الحوادث، أو كونه مركباً من الأجزاء المفردة، فهم يستدلون بالأكوان الأربعة التي للجسم - وهي الاجتماع، والافتراق، والحركة والسكون - على حدوثه. وأما ابن كلاب وأتباعه فينازعونهم في أن الصفات لا تقوم إلا بمحدث، ويسلمون لهم أن الأفعال ونحوها من الأمور الاختيارية لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 تقوم إلا بمحدث. وكذلك الأشعري وأتباعه ينازعونهم في أن الصفات لا تقوم إلا بجسم، وتوافقهم على أن الأفعال لا تقوم إلا بجسم. ومن أتباعهم المتفلسفة من نازعهم في أن الأفعال لا تقوم إلا بجسم. وطوائف غير هؤلاء من الهاشمية والكرامية وغيرهم يسلمون لهم أن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم، وينازعونهم في كون الجسم لا يخلو من الحوادث، ويجوزون وجود جسم ينفك من قيام الحوادث به، ثم يحدث فتقوم به بعد ذلك. وقد ينازعونهم في كون كل جسم مركباً من الأجزاء المنفردة. وهذه الطوائف وأمثالها من طوائف أهل الكلام، من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم، كلهم متفقون على أن الممكن لا يكون إلا جسماً، أو قائماً بجسم، ومتنازعون في الواجب. والمتفلسفة المشاءون الذين يثبتون ممكناً ليس بجسم ولا قائم بجسم، يقولون: إن الجسم الممكن قد يكون قديماً أزلياً أبدياً تحله الحوادث والأعراض وأن الجسم الممكن لا ينفك من الحوادث، وليس هو عندهم بمحدث، وهو مركب كتركيب الأجسام، وهو عندهم قديم أزلي، فهذا عندهم لا ينافي القدم والأزلية، وإنما ينفون ذلك عن واجب الوجود بناءً على أن إثبات الصفات تركيب، وواجب الوجود ليس بمركب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 والتركيب الذي يعنيه هؤلاء أعم من التركيب الذي يعنيه أولئك، فإن هؤلاء يزعمون أن هنا خمسة أنواع من التركيب يجب نفيها عن الواجب، فيقولون ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق، إذ لو كان له حقيقة سوى ذلك لكان مركباً من تلك الحقيقة. والوجود يثبتونه وجوداً مطلق بشرط الإطلاق، أو بشرط النفي، أو لا بشرط، مع علم كل عاقل أن هذا لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان، ويقولون: ليس له صفة ثبوتية: لا علم، ولا قدرة، إذ لو كان كذلك لكان مركباً من ذات الصفات. ثم يقولون: هو عاقل ومعقول وعقل، وعاشق ومعشوق وعشق، وهو ملتذ ومبتهج، وملتذ به مبتهج به، وذلك كله شيء واحد، فيجعلون الصفة هي الموصوف، وهذه الصفة هي الأخرى. ومعلوم أن هذا أكثر تناقضاً من قول النصارى، ويقولون لا يدخل هو وغيره تحت عموم، لئلا يكون مركباً من صفة عامة وخاصة، كتركيب النوع من الجنس والفصل، أو من الخاصة والعرض العام، مع أنهم يقولون: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، والواجب يتميز عن الممكن بما يختص به، ويقولون ليس فوق العالم، لنه لو كان كذلك لكان له جانبان، فيكون جسماً مركباً من الأجزاء المفردة، أو المادة والصورة. ثم أتباع هذه الطوائف يحدثون من الحجج العقلية على قول متبوعهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 ما لم تكن عند متبوعهم، فيكونون - بزعمهم - قد تبين لهم من العقليات النافية ما لم يتبين لمتبوعهم. واعتبر ذلك بما تجده من الحجج لأبي الحسين البصري وأمثاله مما لم يسبقه إليها شيوخه، وما تجده لأبي هاشم، ولأبي على الجبائي، وعبد الجبار بن أحمد مما لم يسبقهم إليها شيوخهم. بل أبو المعالي الجويني، ونحوه ممن انتسب إلى الأشعري، ذكروا في كتبهم من الحجج العقليات النافية للصفات الخبرية ما لم يذكره ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابهما، كالقاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله، فإن هؤلاء متفقون على إثبات الصفات الخبرية، كالوجه واليد والاستواء. وليس للأشعري في ذلك قولان، بل لم يتنازع الناقلون لنذهبه نفسه في أنه يثبت الصفات الخبرية التي في القرآن، وليس في كتبه المعروفة إلا إثبات هذه الصفات، وإبطال قول من نفاها وتأول النصوص. وقد رد في كتبه على المعتزلة - الذين ينفون صفة اليد والوجه والاستواء، ويتأولون ذلك بالاستيلاء - ما هو معروف في كتبه لمن يتبعه، ولم ينقل عنه أحد نقيض ذلك، ولا نقل أحد عنه في تأويل هذه الصفات قولين. ولكن لأتباعه فيها قولان: فأما هو وأئمة أصحابه فمذهبهم إثبات هذه الصفات الخبرية، وإبطال ما ينفيها من الحجج العقلية، وإبطال تأويل نصوصها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 وأبو المعالي وأتباعه نفوا هذه الصفات موافقة للمعتزلة والجهمية. ثم لهم قولان: أحدهما تأويل نصوصها، وهو أول قولي أبي المعالي، كما ذكره في الإرشاد. والثاني تفويض معانيها إلى الرب، وهو آخر قولي أبي المعالي كما ذكره في الرسالة النظامية وذكر ما يدل على أن السلف كانوا مجمعين على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب. ثم هؤلاء منهم من ينفيها ويقول: إن العقل الصريح نفى هذه الصفات، ومنهم من يقف ويقول: ليس لنا دليل سمعي ولا عقلي لا على إثباتها ولا على نفيها، وهي طريقة الرازي والآمدي. وأبو حامد تارة يثبت الصفات العقلية، متابعة للأشعري وأصحابه، وتارة ينفيها أو يردها إلى العلم موافقة للمتفلسفة، وتارة يقف وهو آخر أحواله، ثم يعتصم بالسنة ويشتغل بالحديث، وعلى ذلك مات. وكذلك أبو محمد بن حزم، مع معرفته بالحديث، وانتصاره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 لطريقة داود وأمثاله من نفاة القياس أصحاب الظاهر، قد بالغ في نفي الصفات وردها إلى العلم، مع أنه لا يثبت علماً هو صفة، ويزعم أن أسماء الله، كالعليم والقدير ونحوهما، لا تدل على العلم والقدرة، وينتسب إلى الأمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة، ويدعي أن قوله هو قول أهل السنة والحديث، ويذم الأشعري وأصحابه ذماً عظيما، ويدعي أنهم خرجوا عن مذهب السنة والحديث في الصفات. ومن المعلوم الذي لا يمكن مدافعته أن مذهب الأشعري وأصحابه في مسائل الصفات أقرب إلى مذهب أهل السنة والحديث من مذهب ابن حزم وأمثاله في ذلك. ثم المتفلسفة الدهرية، كالفارابي وابن سينا يزعمون أن العقل يحيل معاد الأبدان، فيجب تقديم العقليات على دلالة السمع، ويخاطبون من أقر بالمعاد من المعتزلة وموافقيهم في نفي ذلك، بما تخاطب به المعتزلة المثبتة الصفات، ويقولون لهم: قولنا في نصوص المعاد كقولكم في نصوص الصفات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 وهكذا خاطبت القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهما لمتكلمة الإثبات في مسألة القدر، وقالت: القول في النصوص المثبتة للقدر، وأن الله خالق أفعال العباد، كالقول في نصوص الصفات. وبهذا أجاب من أجاب من المعتزلة والشيعة لهؤلاء فقالوا في الجواب عما يحتج به هؤلاء من الحجج السمعية، على أن الله خالق أفعال العباد، من جهة الجملة ومن جهة التفصيل. أما من جهة الجملة فمن وجوه: أحدها: أنه إذا ثبت كونه تعالى عادلاً، لا يفعل قبيحا، ولا يخل بواجب في حكمته، وجب أن يكون للآيات التي يتعلقون بها وجوه لا تنافي ما ثبت من الدلالة، وإن لم تعلم الوجوه على سبيل التفصيل. وقالوا: هذا كما نقول نحن وهم في الآيات التي تتعلق بها المشبهة في كون الله تعالى جسما، نحو قوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان} [المائدة: 64] ، وما يجري مجرى ذلك من الآيات التي تفيد ظاهرها التشبيه، من أنه إذا ثبت أنه تعالى لا يشبه الأشياء وجب أن يكون لهذه الآيات وجوه تطابق أدلة العقول، وإن لم نعلمها على سبيل التفصيل. فهذه الطريق التي سلكها هؤلاء القدرية، هي الطريق التي سلكها من وافقهم على نفي الصفات أو بعضها، من الجهمية، كجهم بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 صفوان، وحسين النجار، وضرار بن عمرو، وغيرهم، فإن هؤلاء يثبتون القدر، ويوافقون المعتزلة على نفي الصفات. ومن المعلوم أن الحجج العقلية التي يحتج بها المعتزلة والشيعة ليس لها ضابط بل، قد سلك أبو الحسين البصري مسلكاً خالف فيه شيوخه، وادعى أن العلم بإحداثها ضروري. فهذه وأضعافه مما يبين أنه ليس لما يدعى من العقليات التي يقال إنها تناقض النصوص ضابط، بل ذلك من باب الوساوس والخطرات التي لا تزال تحدث في النفوس. فإذا جوز المجوز أن يكون لبعض ما أخبر الله به ورسوله معقول صريح يناقضه ويقدم عليه، لم يأمن أن يكون كل ما يسمعه من أخبار الله ورسوله من هذا الباب غايته أن يقول: ليس عندي من العقليات ما يناقض ذلك، أو لم أسمع، أو لم أجد، ونحو ذلك. وهذا القدر لا ينفي أن يكون في نفس الأمر قضايا عقلية لم تصل إليه بعد، وإذا قال: العقل لا ينفي ما أقر به. قيل له: أتريد بذلك أنك لم تعلم معقولاً ينافي ذلك، أو تعلم أنه ليس يمكن أن يكون في المعقول ما ينافي ذلك، إذا جوزت أن يقول في المعقول ما يناقض أخبار الرسول؟ فإن قلت بالأول، لم ينفعك ذلك. وإن قلت بالثاني لم يكن كلامك صحيحا، لأنك جوزت أن يكون في المعقول ما يناقض أخبار الرسول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 ومع هذا فالجزم ينفي كل معقول جزم بلا علم، بخلاف المؤمن بجميع ما أخبر الله به، الذي يجزم بأنه ليس في المعقول ما يناقض منصوص الرسول، فإن هذا قد علم ذلك علماً يقيناً عاماً مطلقاً. وإذا قال الذي يقر ببعض النصوص دون البعض، المضاهي لمن آمن ببعض الكتاب دون بعض: الذي نفيته يحيله العقل، والذي أقررته لا يحيله العقل، بل هو ممكن في العقل. قيل له: أتعني بقولك: لا يحيله العقل، وهو ممكن في العقل: الإمكان الذهني أو الخارجي؟ فإن عنيت الإمكان الذهني: بمعنى أنه لم يقم دليل عقلي يحيله، فهذا لا ينفي أن يكون في نفس الأمر ما يحيله ولم تعلمه. وإن عنيت به الإمكان الخارجي، وهو أنك علمت بعقلك أنه يمكن ذلك في الخارج، فهذا لا يتأتى لك في كثير من الأخبار. وهؤلاء الذين يدعون أنهم يقررون إمكان ذلك بالعقل، يقول أحدهم: هذا لو فرضناه لم يلزم منه محال، كما يقول ذلك الآمدي ونحوه، أو يقول: هذا لا يفضي إلى قلب الأجناس، ولا تجوير الرب، ولا كذا ولا كذا، فيعددون أنواعاً محصورة من الممتنعات. ومعلوم أن نفي محالات معدودة لا يستلزم نفي كل محال. وقول القائل: لو فرضناه لم يلزم منه محال: إن أراد به: لا أعلم انه يلزم منه محال، لم ينفعه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 وإن قال: أعلم أنه لا يلزم منه محال، فهو لم يذكر دليلا على هذا العلم، فما الدليل على انه علم أنه لا يلزم منه محال؟ فتبين أن من جوز على خبر الله، أو خبر رسوله، أن يناقضه شيء من المعقول الصريح، لم يمكنه أن يصدق بعامة ما أخبر الله به ورسوله من الغيب، لا سيما والأمور الغائبة ليس للمخبرين بها خبرة يمكنهم أن يعلموا بعقولهم ثبوت ما أخبر به، أو انتفاء جميع ما تتخيله النفوس من المعارضات له. بل إذا كانت الأمور المشاهدة الحسية، وما يبنى عليها من المعلوم العقلية، قد وقع فيها شبهات كثيرة عقلية تعارض ما علم بالحس أو العقل، وكثير من هذه الشبه السوفسطائية يعسر على كثير من الناس - أو أكثرهم - حلها، وبيان وجه فسادها، وإنما يعتصمون في ردها بأن هذا قدح فيما فيما علم بالحس أو الضرورة فلا يستحق الجواب، فيكون جوابهم عنها أنها معارضة للأمر المعلوم الذي لا ريب فيه، فيعلم أنها باطلة من حيث الجملة، وإن لم يذكر بطلانها على وجه التفصيل. ولو قال قائل: هذه الأمور المعلومة لا تثبت إلا بالجواب عما يعارضها من الحجج السوفسطائية، لم يثبت لأحد علم بشيء من الأشياء، إذ لا نهاية لما يقوم بنفوس بعض الناس من الحجج السوفسطائية. فهكذا تصديق خبر الله ورسوله، قد علم علماً يقينياً أنه صدق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 مطابق لمخبره، وعلمنا بثبوت جميع ما أخبر به أعظم من علمنا بكل فرد من علومنا الحسية والعقلية، وإن كنا جازمين بجنس ذلك، فإن حسنا وعقلنا قد يعرض له من الغلط ما يقدح في بعض إدراكاته كالشبه السوفسطائية. وأما خبر الله ورسوله فهو صدق، موافق لما الأمر عليه في نفسه، لا يجوز أن يكون شيء من أخبار باطلاً، ولا مخالفاً لما هو الأمر عليه في نفسه، ويعلم من حيث الجملة أن كل ما عارض شيئاً من أخباره وناقضه، فإنه باطل من جنس حجج السوفسطائية، وإن كان العالم بذلك قد لا يعلم وجه بطلان تلك الحجج المعارضة لأخباره. وهذه حال المؤمنين للرسول، الذين علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به، يعلمون من حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل، وأنه لا يجوز أن يعارض خبره دليل صحيح: لا عقلي ولا سمعي، وأن ما عارض أخباره من الأمور التي يحتج بها المعارضون ويسمونها عقليات، أو برهانيات، أو وجديات، أو ذوقيات، أو مخاطبات، أو مكاشفات، أو مشاهدات، أو نحو ذلك من الأمور الدهاشات، أو يسمون ذلك تحقيقاً، أو توحيداً، أو عرفاناً، أو حكمة حقيقية، أو فلسفة أو معارف يقينية، ونحو ذلك من الأسماء التي يسميها بها أصحابها، فنحن نعلم علماً يقينيا لا يحتمل النقيض أن تلك جهليات، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 وضلالات، وخيالات وشبهات مكذوبات، وحجج سوفسطائية، وأوهام فاسدة، وأن تلك الأسماء ليست مطابقة لمسماها، بل هي من جنس تسمية الأوثان آلهة وأرباباً، وتسمية مسيلمة الكذاب وأمثاله أنبياء: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم: 23] . والمقصود أنه من جوز أن يكون فيما علمه بحسه وعقله حجج صحيحة تعارض ذلك، لم يثق بشيء من علمه، ولم يبقى له طريق إلى التصديق بشيء من ذلك. فهكذا من جوز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله حجج صحيحة تعارض ذلك لم يثق بشيء من خبر الله ورسوله ولم يبق له طريق إلى التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله. ولهذا كان هؤلاء المعرضين عن الكتاب، المعارضين له، سوفسطائية منتهاهم السفسطة في العقليات، والقرمطة في السمعيات، يتأولون كلام الله وكلام رسوله بتأويلات يعلم بالاضطرار أن كلام الله ورسوله لم يردها بكلام، وينتهون في أدلتهم العقلية إلى ما يعلم فساده بالحس والضرورة العقلية. ثم إن فضلاءهم يتفطنون لما بهم من ذلك فيصيرون في الشك والحيرة والارتياب، وهذا منتهى كل من عارض نصوص الكتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 وإذا كان قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن التصديق الجازم بما أخبر به الرسول حق واجب، وطريق هؤلاء تناقضه علم بالضرورة من دين الإسلام إن طريق هؤلاء فاسدة في دين الإسلام، وهذه هي طريقة أهل الإلحاد في أسماء الله وآياته. وإذا كان ما أوجب الشك والريب ليس بدليل صحيح، وإنما الدليل ما أفاد العلم واليقين، وطريق هؤلاء لا يفيد العلم واليقين، بل يفيد الشك والحيرة، علم أنها فاسدة في العقل، كما أنها إلحاد ونفاق في الشرع. وهذا كله بين لمن تدبره، والأمر فوق ما أصفه وأبينه، وهذا الموضع لا يحتمل البسط والإطناب، ولا ريب أن موجب الشرع أن من سلك هذه السبيل فإنه بعد قيام الحجة عليه كافر بما جاء به الرسول. ولهذا كان السلف والأئمة يتكلمون في تكفير الجهمية النفاة بما لا يتكلمون به في تكفير غيرهم من أهل الأهواء والبدع، وذلك لأن الإيمان إيمان بالله وإيمان للرسول، فإن الرسول أخبر عن الله بما أخبر به عن أسماء الله وصفاته، ففي الإيمان خبر ومخبر به فالإيمان للرسول تصديق خبره، والإيمان بما أخبر به والإقرار بذلك والتصديق به. ولهذا كان من الناس من يجعل الكفر بإزاء المخبر به كجحد الخالق وصفاته، ومنهم من يجعله بإزاء الخبر، وهو تكذيب الرسول. وكلا الأمرين حق، فإن الإيمان والكفر يتعلق بهذا وبهذا، وكلام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 الجهمية نفاة الصفات مناقض لخبر الرسول الصادق، ونفي لما هو ثابت لله من صفات كماله. ومما يوضح الأمر في ذلك أنك لا تجد من سلك هذه السبيل وجوز على الأدلة السمعية أن يعارضها معقول صريح ينافيها إلا وعنده ريب في جنس خبر الله ورسوله، وليس لكلام الله ورسوله في قلبه من الحرمة ما يوجب تحقيق مضمون ذلك، فعلم أن هذا طريق إلحاد ونفاق، لا طريق علم وإيمان. ونحن نبين فساد طريق هؤلاء بالطرق الإيمانية والقرآنية تارة، وبالأدلة التي يمكن أن يعقلها من لا يستدل بالقرآن والإيمان. وذلك لأنا في مقام الخاطبة لمن يقر بأن ما أخبر به الرسول حق، ولكن قد يعارض ما جاء عنه عقليات يجب تقديمها عليه، وإذا كنا في مقام بيان فساد ما يعارضون به من العقليات على وجه التفصيل، فذلك- ولله الحمد- هو علينا من أيسر الأمور. ونحن-ولله الحمد- قد تبين لنا بياناً لا يحتمل النقيض، فساد الحجج المعروفة للفلاسفة والجهمية والقدرية ونحوهم، التي يعارضون بها كتاب الله، وعلمنا بالعقل الصريح فساد أعظم ما يعتمدون عليه من ذلك، وهذا- ولله الحمد - مما زادنا الله به هدى وإيمانا، فإن فساد المعارض مما يؤيد معرفة الحق ويقويه، وكل من كان أعرف بفساد الباطل كان أعرف بصحة الحق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 ويروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية. وهذا حال كثير ممن نشأ في عافية الإسلام وما عرف ما يعارضه ليتبين له فساده، فإن لا يكون في قلبه من تعظيم الإسلام مثل ما في قلب من عرف الضدين. ومن الكلام السائر: (الضد يظهر حسنه الضد) ، (وبضدها تتبين الأشياء) . والاعتبار والقياس نوعان: قياس الطرد وقياس العكس. فقياس الطرد اعتبار الشيء بنظيره، حتى يجعل حكمه مثل حكمه. وقياس العكس اعتبار الشيء بنقيضه، حتى يعلم أن حكمه نقيض حكمه. وقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر: 2] ، يتناول الأمرين، فيعتبر العاقل بتعذيب الله لمن كذب رسله، كما فعل ببني النضير، حتى يرغب في نقيض ذلك، ويرهب من نظير ذلك، فيستعمل قياس الطرد في الرهبة، وقياس العكس في الرغبة. ومن أمثلة قياس العكس: قياس من يحتج على أن الوتر ليس بواجب، «فإنه يفعل على الراحلة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 والواجبات لا تفعل على الراحلة، والنوافل تفعل على الراحلة، فلما كان مفعولاً على الراحلة، كان حكمه عكس حكم الفرائض، ونقيض حكم الفرائض، ومثل حكم النوافل، فيقاس بالواجبات قياس العكس، وبالنوافل قياس الطرد. وكذلك إذا قيل: دم السمك طاهر، لأنه لو كان نجساً لوجب سفحه بالتذكية، لأن الدماء النجسة يجب سفحها بالتذكية، فلما لم يجب سفحه، كان حكمه نقيض حكمها، وكان ملحقاً بالرطوبات الطاهرة التي لا تسفح. وفي الحقيقة فكل قياس يجتمع في قياس الطرد والعكس، فقياس الطرد هو الجمع والتسوية بينه وبين نظيره، وقياس العكس هو الفرق والمخالفة بينه وبين مخالفه. فالقايس المعتبر ينظر في الشيء فيلحقه بما يماثله لا بما يخالفه، ويبين له حكمه في اعتباره بهذا وهذا. والمقصود هنا أن معرفة ما يعارض الكتاب والمرسلين، كنبوة مسيلمة ونحوه من الكذابين، وأقاويل أهل الإلحاد الذين يعارضون بعقولهم وذوقهم ما جاء به الرسول، كلما ازداد العارف معرفة بها وبما جاء به الرسول، تبين له صدق ما جاء به الرسول وبيانه وبرهانه، وبطلان هذه وفسادها وكذبها، كما إذا قدر مفتيان أو قاضيان أو محدثان أحدهما يتكلم بعلم وعدل، والآخر بجهل وظلم، فإنه كلما اعتبرت أحدهما بالآخر ظهرت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 الحقيقة الفارقة بينهما، وكذلك الصانعان اللذان أحدهما قادر ناصح، والآخر عاجز غاش، وكذلك التاجران اللذان أحدهما صادق أمين، والآخر كاذب خؤون، وكذلك المتوليان اللذان أحدهما قوى أمين، والآخر عاجز خائن، وأمثاله ذلك. فنحن - ولله الحمد - قد تبين لنا من فساد الأقاويل المعارضة لقول الرسول ما ليس هذا المقام مقام تفصيله، فإنه يحتاج أن نتكلم في كل مسألة من مسائل الدين، ونستوفي حجج المبطلين فيها، ونتبين فسادها، وليس هذا الموضع استيفاء ذلك. وإنما المقصود بيان فساد القانون الزائغ الذي يقدمون به مذاهبهم المبتدعة على النصوص من كلام الله ورسوله، وهم قد وضعوا عبارات مجملة مشتبهة، لبسوا بها على كثير ممن عنده إيمان بالله ورسوله، من كبار أهل العلم والدين، وأولئك لم يعرفوا حقيقة ما في تلك الأقوال من الإلحاد، فقبلوها ممن ابتدعها من أهل النفاق. كما قاتل الله تعالى عن المنافقين: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} [التوبة: 47] بين سبحانه أن المنافقين لو خرجوا في غزوة ما زادوا المؤمنين إلا خبالا، ولأوضعوا - أي أسرعوا- خلالهم، أي بينهم، يطلبون لهم الفتنة، وفي المؤمنين من يقبل منهم- وهم السماعون لهم - أي يستجيبون لهم، ليس المراد من ينقل الأخبار إليهم، كما يظنه بعض الناس. بل هذا نظير قوله: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 يأتوك} [المائدة: 41] ، أي يسمعون الكذب فيقبلونه ويصدقونه، ويسمعون لقوم آخرين لم يأتوك فيستجيبون لهم، فبين أنهم يصدقون الكذب، ويستجيبون لمن يخالف الرسول. وأما من ظن أن المراد بقوله: {سماعون لهم} أنهم جواسيس لمن غاب وأخذ حكم الجاسوس من هذه الآية، فقد غلط، فإن ما كان يظهره النبي صلى الله عليه وسلم حتى يسمعه المنافقون واليهود لم يكن مما يكتمه حتى يكون نقله جساً عليه، وإنما المراد انهم سماعون الكذب، أي يصدقون به، سماعون: أي مستجيبون لقوم آخرين مخالفين للرسول، وهذه حال كل من خرج عن الكتاب والسنة، فإن لا بد أن يصدق الكذب، فيكون من السماعين للكذب، ولا بد أي يستجيب لغير الله والرسول، فيكون سماعاً لقوم آخرين لم يتبعوا الرسول. وهؤلاء لهم نصيب من قوله تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} [الفرقان: 27-29] ، وقوله: {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا} [الأحزاب: 66-68] . فتبين أن أصل طريق من يعارض النصوص النبوية برأيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 وعقله، هي طريق أهل النفاق والإلحاد وطريق أهل الجهل والارتياب، لا طريق ذي عقل ولا ذي دين. كما قال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} [الحج: 8] . وقال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} [الحج: 3-4] . فإنه قد يقال: هذه حال كل من عارض آيات الله بمعقوله، فإنه لا علم عنده، إذ ذلك المعارض، وإن سماه معقولا، فإنه جهل وضلال، فليس بعلم ولا عقل ولا هدى، إذ لا إيمان عنده ليكون مهتدياً، فإن المهتدين الذين على هدى من ربهم هم مؤمنون بما جاء به الرسول، ولا كتاب منير، فإن الكتاب المنير لا يناقض كتاب الله. وهؤلاء المعارضون ليس عندهم لا علم ولا إيمان ولا قرآن فهم يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. واسم (العلم) يتناول هذا وهذا، ولكن هو من باب عطف الخاص على العام، ولهذا ذكر تارة وحذف أخرى. وذلك أنه قد يقال: إنه سبحانه ذكر ثلاثة أصناف: صنف يجادل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد، مكتوب عليه إضلال من تولاه. وهذه حال المتبع لمن يضله. وصنف يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله، وهذه حال المتبوع المستكبر الضال عن سبيل الله. ثم ذكر حال من يعبد الله على حرف، وهذه حال المتبع لهواه، الذي إن حصل له ما يهواه من الدنيا عبد الله، وإن أصابه ما يمتحن به في دنياه ارتد عن دينه، فهذه حال من كان مريضاً في إرادته وقصده، وهي حال أهل الشهوات والأهواء. ولهذه ذكر الله ذلك في العبادة التي أصلها القصد والإرادة، وأما الأولان: فحال الضال والمضل، وذلك مرض في العلم والمعرفة، وهي حال أهل الشبهات والنظر الفاسد والجدال بالباطل. فإنه تعالى يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات، ولا بد للعبد من معرفة الحق وقصده. كما قال: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 6-7] فمن لم يعرفه كان ضالاً، ومن علم ولم يتبعه كان مغضوباً عليه. كما أن أول الخير الهدى، ومنتهاه الرحمة والرضوان، فذكر سبحانه ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 يعرض في العلم من الضلال والإضلال، وما يعرض في الإرادة من اتباع الشهوات، كما جمع بينهما في قوله: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم: 23] . فقال أولا: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} [الحج: 3] ، وكل من جادل في الله بغير هدى ولا كتاب منير، فقد جادل بغير علم أيضا، فنفي العلم يقتضي نفي كل ما يكون علماً بأي طريق حصل، وذلك ينفي أن يكون مجادلاً بهدىً أو كتاب منير، ولكن هذه حال الضال المتبع لمن يضله، فلم يحتج إلى تفصيل، فبين أنه يجادل بغير علم ويتبع كل شيطان مريد، كتب على ذلك الشيطان أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير. وهذه حال مقلد أئمة الضلال بين أهل الكتاب وأهل البدع، فإنهم يجادلون في الله بغير علم، ويتبعون من شياطين الجن والإنس من يضلهم. ثم ذكر حال المتبوع الذي يثنى عطفيه تكبراً كما قال: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها} [لقمان: 7] . وقال: {فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى * ثم ذهب إلى أهله يتمطى} [القيامة: 31 -33] . وهذا النوع يجادل ليضل عن سبيل الله، وجداله بغير علم أيضا، ولكن فصل حاله، فبين أنه لا يجادل بهدىً كأيمان المؤمن، ولا بكتاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 منير كالجدال بكتاب منزل من السماء، فليس معه علم من هذا الطريق ولا من غيرها. كما قال تعالى: {فلا صدق ولا صلى} [القيامة: 31] وكل من لم يصدق لم يصل. وقال تعالى: {لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين} [المدثر: 43-46] . وقال تعالى: {إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين} [الحاقة: 33-34] . ومثل هذا كثير، قد ينفي الشيء الذي نفيه يستلزم نفي غيره، لكن تذكر تلك اللوازم على سبيل التصريح للفرق بين دلالة اللوازم ودلالة المطابقة، كما قد ذكرنا نحو ذلك في قوله تعالى: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق} [البقرة: 42] ، وأن كل من لبس بالباطل فلا بد أن يكتم بعض الحق، وبينا أن هذا ليس من باب النهي عن المجموع المقتضي لجواز أحدهما، ولا من باب النهي عن فعلين متباينين، حتى لا يعاد فيه حرف النفي، بل هو من باب النهي عن المتلازمات. كما يقال لا تكفر وتكذب بالرسول، ولا تجادل في الله بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير. والمقصود أن كل من عارض كتاب الله بمعقوله أو وجده، أو ذوقه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 وناظر على ذلك، فقد جادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ليضل عن سبيل الله، فإن كتاب الله هو سبيل الله. ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الصراط المستقيم بكتاب الله، وفسره بالإسلام، كلاهما مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث النواس بن سمعان، النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ضرب الله مثلاً صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع من فوق الصراط، وداع على رأس الصراط. فالصراط المستقيم هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، والداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم، فإذا أراد العبد أن يفتح باباً من تلك الأبواب دعاه الداعي،: يا عبد الله لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه» رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه. ومن المعلوم أن من أعظم المحارم معارضة كتاب الله بما يناقضه ويقدم ذلك عليه. وفي حديث علي رضي الله عنه الذي رواه الترمذي، وأبو نعيم من عدة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 طرق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها ستكون فتن. قلت فما المخرج منها يا رسول الله؟ فقال: كتاب الله: فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تختلف به الآراء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» . وبسط الكلام على مثل هذا يطول جدا، وإنما نبهنا هنا على أصله. الوجه التاسع والعشرون أن يقال: العقل ملزوم لعلمنا بالشرع ولازم له. ومعلوم أنه إذا كان اللزوم من أحد الطرفين، لزم من وجود الملزوم وجود اللازم، ومن نفي اللازم نفي الملزوم، فكيف إذا كان التلازم من الجانبين؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 فإن هذا التلازم يستلزم أربع نتائج: فيلزم من ثبوت هذا اللازم ثبوت هذا، ومن نفيه نفيه، ومن ثبوت الملازم الآخر ثبوت ذلك، ومن نفيه نفيه. وهذا هو الذي يسميه المنطقيون: الشرطي المتصل، ويقولون: استثناء عين المقدم ينتج عين التالي، واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم، فإذا كان التلازم من الجانبين كان استثناء عين كل من المتلازمين ينتج عين الآخر، واستثناء نقيض كل منهما ينتج نقيض الآخر. وبيان ذلك ها هنا: أنه إذا كان العقل هو الأصل الذي به عرف صحة الشرع، كما قد ذكروا هم ذلك، وقد تقدم أنه ليس المراد بكونه أصلاً له أنه أصل في ثبوته في نفسه، وصدقه في ذاته، بل هو أصل في علمنا به، أي دليل لنا على صحته. فإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الدليل يجب طرده، وهو ملزوم للمدلول عليه، فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه، ولا يجب عكسه، فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه. وهذا كالمخلوقات فإنها آيه للخالق، فيلزم من ثبوتها ثبوت الخالق، ولا يلزم من وجود الخالق وجودها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 وكذلك الآيات الدالات على نبوة النبي، وكذلك كثير من الأخبار والأقيسة الدالة على بعض الأحكام: يلزم من ثبوتها ثبوت الحكم، ولا يلزم من عدمها عدمه، إذ قد يكون الحكم معلوماً بدليل آخر، اللهم إلا أن يكون الدليل لازماً للمدلول عليه، فيلزم من عدم اللازم عدم الملزوم، وإذا كان لازماً له أمكن أن يكون مدلولاً له، إذ المتلازمان يمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر، مثل الحكم الشرعي الذي لا يثبت إلا بدليل شرعي، فإنه يلزم من عدم دليله عدمه. وكذلك ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، إذا لم ينقل لزم من عدم نقله عدمه، ونقله دليل عليه، وإذا كان من المعقول ما هو دليل على صحة الشرع، لزم من ثبوت ذلك المعقول ثبوت الشرع، ولم يلزم من ثبوت الشرع ثبوته في نفس الأمر. لكن نحن إذا لم يكن لنا طريق إلى العلم بصحة الشرع علمنا بدليله العقلي الدال عليه، ولزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا به، فإن العلم بالدليل يستلزم العلم بالمدلول عليه. وهذا هو معنى كون النظر يفيد العلم. وهذا التلازم فيه قولان: قيل: إنه بطريق العادة التي يمكن خرقها. وقيل: بطريق اللزوم الذاتي الذي لا يمكن انفصاله، كاستلزام العلم للحياة، والصفة لموصوف ما، وكاستلزام جنس العرض لجنس الجوهر، لامتناع ثبوت صفة وعرض، بدون موصوف وجوهر. والمقصود هنا أنه إذا كان صحة الشرع لا تعلم إلا بدليل عقلي، فإنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 يلزم من علمنا بصحة الشرع، علمنا بالدليل العقلي الدال عليه، ويلزم من علمنا بذلك الدليل العقلي، علمنا بصحة الشرع. وهكذا الأمر في كل ما لا يعلم إلا بالدليل، ويلزم أيضا من ثبوت ذلك الدليل المعقول في نفس الأمر ثبوت الشرع، ولا يلزم من ثبوت الشرع ثبوت ذلك الدليل. وإذا كان العلم بصحة الشرع لازماً للعلم بالمعقول الدال عليه، وملزوماً له، ولازما لثبوت ذلك المعقول في نفس الأمر، كما أن ثبوت ذلك المعقول في نفس الأمر، مستلزم لثبوت الشرع في نفس الأمر، فمن الممتنع تناقض اللازم والملزوم، فضلاً عن تعارض المتلازمين. فإن المتعارضين هما المتنافيان اللذان يلزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر، كالضدين والنقيضين. والمتلازمان يلزم من ثبوت كل منهما ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه، فكيف يمكن أن يكون المتلازمان متعارضين متنافيين متناقضين، أو متضادين؟ ولفظ التنافي والتضاد والتناقض والتعارض ألفاظ (متقاربة) في أصل اللغة، وإن كانت تختلف فيها الاصطلاحات، فكل مضاد فهو مستلزم للتناقض اللغوي. ولهذا يسمي أهل اللغة أحد الضدين نقيض الآخر، وكل تعارض فهو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 مستلزم للتناقض اللغوي، لأن أحد الضدين ينقض الآخر، أي يلزم من ثبوته عدم الآخر، كما يلزم من ثبوت السواد انتفاء البياض. والنقيضان في اصطلاح كثير من أهل النظر هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان والضدان لا يجتمعان لكن قد يرتفعان. وفي اصطلاح آخرين منهم هما: النفي والإثبات فقط، كقولك، إما أن يكون، وإما أن لا يكون. ولهذا يقولون: التناقض اختلاف قضيتين بالسلب والإيجاب، على وجه يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى، فالتناقض في عرف أولئك أعم منه في عرف هؤلاء، فإن ما لا يجتمعان ولا يرتفعان قد يكونان ثبوتيين، وقد يكونان عدميين، وقد يكونان ثبوتاً وانتفاءً، ولو كان أحدهما وجوداً والآخر عدماً، فقد يعبر عنهما بصيغة الإثبات التي لا تدل بنفسها على التناقض الخاص، كما إذا قيل للموجود: إما أن يكون قائماً بنفسه، وإما أن يكون قائماً بغيره، وإما أن يكون واجباً بنفسه، وإما أن يكون ممكناً بنفسه، وإما أن يكون قديماً، وإما أن يكون محدثاً، ونحو ذلك. فمن المعلوم أن تقسم الموجود إلى قائم بنفسه وغيره، وواجب وممكن، وقديم ومحدث، تقسيم حاصر كتقسيم المعلوم إلى الثابت والمنفي. وهذان القسمان لا يجتمعان ولا يرتفعان كما أن الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 وأما أهل اللغة فالنقيضان عندهم أعم من هذا كله، كالمتنافيين، فكل ما نفى أحدهما الآخر فقد نقضه وأزاله وأبطله، فيسمونه نقيضه. وللمتفلسفة المشائين اصطلاح آخر في المتقابلين بالسلب والإيجاب، يسمونه تقابل العدم والملكة، وهو نفي الشيء عما من شأنه أن يكون قابلاً له، كنفي السمع والبصر والكلام عن الحيوان، فإنه يسمى عمىً وصمماً وبكماً، لأن الحيوان يقبل هذا وهذا، بخلاف نفي ذلك عن الجماد كالجدار، فإنه لا يسمى في اصطلاحهم عمىً ولا صمماً ولا بكماً، لأن الجدار لا يقبل ذلك. ثم إنهم تذرعوا بذلك إلى سلب النقيضين عن الخالق تعالى، فاحتج السلف والأئمة وأهل الإثبات بأن الخالق سبحانه لو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام، ونحو ذلك من صفات الكمال، لوجب أن يوصف بما يقابل ذلك من الصمم والعمى والبكم ونحو ذلك من صفات النقص. فقال لهم هؤلاء: العمى والبصر والبكم والكلام متقابلان تقابل العدم والملكه، وهو سلب الشيء عما من شأنه أن يكون قابلاً له كالحيوان، فأما ما لا يقبل ذلك كالجماد، فلا يوصف بعمى ولا بصر ولا كلام ولا بكم ولا سمع ولا صمم، ولا حياة ولا موت. والجواب عن هذا من وجوه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 أحدها: أن يقال: هذا اصطلاح لكم، وإلا فما ليس بحي يسمى ميتا، كما قال تعالى: {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء} [النحل: 20-21] ، وقال تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها} [يس: 33] ، وقال: {اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها} [الحديد: 17] . والثاني: أن ما لا يقبل صفات الكمال أنقص مما يقبلها ولم يتصف بها، فإن الجماد أنقص من الحيوان الأعمى والأصم والأبكم، فإذا كان اتصافه بصفات النقص، مع إمكان اتصافه بصفات الكمال، نقصاً وعيباً يجب تنزيهه عنه، فعدم قبوله لصفات الكمال أعظم نقصاً وعيباً. ولهذا كان منتهى أمر هؤلاء تشبيهه بالجمادات ثم بالمعدومات، ثم بالممتنعات. الثالث: أن نفس عدم الحياة والعلم والقدرة نقص لكل ما عدم عنه ذلك، سواء فرض قابلاً أو غير قابل، بل ما لا يقبل ذلك أنقص مما يقبله، كما أن نفس الحياة والعلم والقدرة صفات كمال. فنفس وجود هذه الصفات كمال، ونفس عدمها نقص، سواء سمي موتاً وجهلاً وعجزاً أو لم يسم، وكذلك السمع والبصر والكلام كمال، وعدم ذلك نقص. وقد بسط الكلام على ذلك في مواضع بسيطاً لا يليق بهذا الموضوع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 وإذا تبين أن الدليل العقلي الذي به يعلم صحة الشرع مستلزم للعلم بصحة الشرع، ومستلزم لثبوت الشرع في نفس الأمر، وعلمنا بالشرع يستلزم العلم بالدليل العقلي الذي قيل: أنه أصل للشرع، وإن العلم بصحة الشرع موقوف عليه، وليس ثبوت الشرع في نفسه مستلزماً لثبوت ذلك الدليل العقلي في نفس الأمر - علم أن ثبوت الشرع في نفس الأمر أقوى من ثبوت دليله العقلي في نفس الأمر، وأن ثبوت الشرع علمنا أقوى من ثبوت دليله العقلي، إن قيل: إنه ممكن أن تعلم صحته بغير ذلك الدليل، إلا كان العلم بهذا والعلم بهذا متلازمين. وإذا كان كذلك، كان القدح في الشرع قدحاً في دليله العقلي الدال على صحته بخلاف العكس، فكان القدح في الشرع قدحاً في هذا العقل، وليس القدح في هذا العقل مستلزماً للقدح في الشرع مطلقاً. وأما ما سوى المعقول الدال على صحة الشرع، فكذلك لا يلزم من بطلانه بطلان الشرع، كما لا يلزم من صحته صحة الشرع. فتبين أنه ليس في المعقولات ما يجب تقديمه على الشرع لكونه أصلاً للشرع، لأن المقدم عليه إن لم يكن هو المعقول الدال عليه، فليس هو أصلاً له، فلا يجب تقديمه عليه بهذا الاعتبار، وغن كان هو المعقول الدال عليه، امتنع أن يكون صحيحاً مع بطلان الشرع، لأن صحته مستلزمة لصحة الشرع، وإلا لم يكن دليلاً عليه. وثبوت الملزوم بدون الإلزام محال، فمن قدم العقل على الشرع، فقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 قدح في العقل والشرع جميعاً، وهو حال الذين قالوا: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10] . وإذا قال القائل: نحن إنما قدحنا في القدر الذي خالف العقل من الشرع، لم نقدح في كل الشرع. قيل: ومن قدم الشرع إنما قدح في ذلك القدر مما يقال إنه عقل، لم يقدح في كل عقل، ولا في العقل الذي هو أصل يعلم به صحة الشرع. وإنما قلنا (مما يقال إنه عقل) لأنه ليس بمعقول صحيح، وإن سماه أصحابه معقولاً. فإن من خالف الرسل عليهم الصلاة والسلام، ليس معه لا عقل صريح ولا نقل صحيح، وإنما غايته أن يتمسك بشبهات عقلية أو نقليه، كما يتمسك المشركون والصابئون من الفلاسفة وغيرهم بشبهات عقلية فاسدة، وكما يتمسك أهل الكتاب المبدل المنسوخ بشبهات نقليه فاسدة. قال الله تعالى: {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات} [الأنعام: 39] ، وقال تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} [الفرقان: 44] . ولهذا كان من قدم العقل على الشرع لزمه بطلان العقل والشرع، ومن قدم الشرع لم يلزمه بطلان الشرع بل سلم له الشرع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 ومعلوم أن سلامة الشرع للإنسان، خير له من أن يبطل عليه العقل والشرع جميعا. وذلك لأن القائل الذي قال: العقل أصل الشرع، بل علمت صحته، فلولا قدمنا عليه الشرع للزم القدم في أصل الشرع. يقال له: ليس المراد بكونه أصلاً له: إنه أصل في ثبوته في نفس الأمر، بل هو أصل في علمنا به، لكونه دليلاً لنا على صحة الشرع. ومعلوم أن الدليل مستلزم لصحة المدلول عليه، فإذا قدر بطلان المدلول عليه لزم بطلان الدليل، فإذا قدر عند التعارض أن يكون العقل راجحاً والشرع مرجوحاً، بحيث لا يكون خبره مطابقاً لمخبره، لزم أن يكون الشرع باطلاً، فيكون العقل الذي دل عليه باطلاً، لأن الدليل مستلزم للمدلول عليه، فإذا انتفى المدلول اللازم وجب انتفاء الدليل الملزوم قطعاً. ولهذا يمتنع أن يقوم دليل صحيح على باطل، بل حيث كان المدلول باطلاً لم يكن الدليل عليه إلا باطلا. أما إذا قدم الشرع، كان المقدم له قد ظفر بالشرع، ولو قدر مع ذلك بطلان الدليل العقلي، لكان غايته أن يكون الإنسان قد صدق بالشرع بلا دليل عقلي، وهذا مما ينتفع به الإنسان، بخلاف من لم يبق عنده لا عقل ولا شرع، فإن هذا قد خسر الدنيا والآخرة. فكيف والشرع يمتنع أن يناقض العقل المستلزم لصحته؟ وإنما يناقض شيئاً آخر ليس هو دليل صحته بل، ولا يكون صحيحا في نفس الأمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 وأيضاً فلو قدر أنه ناقض دليلاً خاصاً عقلياً يدل على صحته، فالأدلة العقلية الدالة على صحة الشرع متنوعة متعددة، فلا يلزم من بطلان واحد منها بطلان غيره، بخلاف الشرع المدلول عليه، فإن قد قدر بطلانه لزم بطلان جميع ما يدل عليه من المعقولات. وأيضاً فإن هؤلاء المعارضين للشرع بالعقل، يدعون في معقولات معينة أنه عرفوا بهذا الشرع كدعوى الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم أن الشرع إنما تعلم صحته بالدليل الدال على حدوث الأجسام، المبني على أن الأجسام مستلزمة للأعراض، والأعراض حادثة لامتناع حوادث لا أول لها. وهذا الدليل يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العلم بصدق الرسول ليس موقوفاً عليه، لأن الذين أمنوا بالله ورسوله، وشهد لهم القرآن بالإيمان من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، لم يستدلوا على صدق الرسول بهذا الدليل. وحينئذ فلو قدر أن هذا الدليل صحيح، لم يلزم من عدم الاستدلال به بطلان الإيمان بالرسول، بل يمكن الاستدلال على صدق الرسول بالأدلة الأخرى، كالأدلة التي استدل بها السلف وجماهير الأمة. وحينئذ فإذا قدر أن هذا المعقول المعين مناقض لخبر الرسول، لم يلزم من تقديم خبر الرسول عليه، القدح في أصل السمع الذي لا يعلم إلا به، فكيف إذا كان هذا الدليل باطلا؟ . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 فإنه حينئذ لا يجوز أن يعتمد عليه في إثبات شيء ولا نفيه، فثبت أنه على كل تقدير لا يجب تقديمه على الشرع. ومن زعم من أهل الكلام أنه لا طريف إلى معرفة الصانع وصدق رسوله إلا هذا، فإن من اجهل الناس شرعاً وعقلاً. أما الشرع فقد علم أن السابقين الأولين لم يستدلوا به. وأما العقل، فإن قول القائل: إنه لا دليل إلا هذا، قضية كلية سالبة، وشهادة على النفي العام، وإنه ليس لأحد من بني آدم علم يعلم به صدق الرسول إلا هذا، وهذا مما لم يقيموا عليه دليلاً، بل لا يمكن أحد العلم بهذا النفي لو كان حقاً، فكيف إذا كان باطلاً. وكذلك جميع ما يعارضون به الشرع من العقليات، فإنه لا تخلو من أمرين: إن كانت صحيحة فلم تصح الدلالة في ذلك المسلك العقلي، ولا يلزم من بطلانه بطلان دليل الشرع، إذ كان للشرع أدلة عقلية تدل عليه غير ذلك المعين العقلي، وإن كانت باطلة فهي من العقليات الباطلة، وليست أصلاً للشرع، فيجب أن يعرف معنى كون العقل أصلاً للشرع: أن المراد به أنه دليل. ونحن قد بينا أن كل ما عارض الشرع من العقليات فليس هو دليلاً صحيحا، فضلا عن أن يكون هو الدليل على صحة الشرع، ولكن قبل أن نبين ذلك نقول: معلوم انه لا ينحصر الدال على صحة الشرع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 وفي دليل عقلي خاص، بل غيره من الأدلة العقلية يدل على الشرع، وحينئذ فلا يلزم من بطلان ذلك الدليل العقلي بطلان أصل الشرع، فكيف إذا كان ذلك الدليل باطلا؟ . فإن قيل: نحن إذا قدمنا العقل لم يبطل الشرع، بل نفوضه أو نتأوله. قيل: إن لم يكن الشرع دال على نقيض ما سميتموه معقولاً، فليس هو محال النزاع، وإن كان الشرع دالاً فتفويضه تعطيل لدلالة الشرع، وذلك إبطال له، وإذا دل الشرع على شيء، فالأعراض عن دلالته كالأعراض عن دلالة العقل. فلو قال القائل: أنا قد علمت مراد الشارع، وأما المعقول فأفوضه لأني لم أفهم صحته ولا بطلاته، فما أنا جازم بمخالفته لما دل عليه الشرع، وقد رأيت المدعين للمعقولات مختلفين، فما أنا واثق بهذا المعقول المناقض للشرع - كان هذا أقرب من قول من يقول: إن الله ورسوله لم يبين الحق، بل تكلم بباطل يدل على الكفر، ولم يبين مراده فإن المقدم للمعقول عند التعارض لا بد أن يقول: إن الشرع يدل على خلاف العقل: إما نصاً وإما ظاهرا. وإلا فإذا لم يكن له دلالة بحال تخالف العقل امتنعت المعارضة وحينئذ فحقيقة قوله: إن الله - ورسوله- أظهر ما هو باطل وضلال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 وكفر ومحال، ولم يبين الحق ولا هدى الخلق، وإنما الخلق عرفوا الحق بعقولهم. والمقدم للشرع يقول: إن الله - ورسوله- بين المراد، وهدى العباد، وأظهر سبيل الرشاد، ولكن هؤلاء المخالفون له ضلوا وأضلوا، وهم الذين قال الله فيهم: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة: 176] ، فأنا أطعن فيما خالفوا به الرسول، ونبذوا به كتاب الله وراء ظهورهم، وخالفوا به الكتاب والسنة والإجماع، لا اطعن في العقليات الصحيحة الصريحة، الدالة على أن الرسول صادق بلغ البلاغ المبين، فإن هذه المعقولات يمتنع معها أن يكون الرسول هو الرسول الذي وصفوه. فهذا القائل قد صدق بالمعقول الصريح والمنقول الصحيح وصدق بموجب الأدلة العقلية والنقلية. وأما ذاك القائل فإنه لم يتقبل بموجب الدليل العقلي الدال على صدق الرسول وتبليغه وبيانه وهداه للخلق، ولا قام بموجب الدليل الشرعي الذي دل عليه ما دل عليه نصاً أو ظاهراً، بل طعن في دلالة الشرع وفي دلالة العقل، الذي يدل على صحة الشرع. فتبين أن ذلك المقدم للشرع هو المتبع للشرع وللعقل الصحيح دون هذا الذي ليس معه لا سمع ولا عقل. ومما يوضح هذا: أن ما به عرف صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى، وأنه لا يكون فيه كذب ولا خطأ يدل على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 ثبوت ذلك كله، لا يميز بين خبر وخبر، بل الدليل الدال على صدقه يقتضي ثبوت جميع ما أخبر به. وإذا كان ذلك الدليل عقلياً، فهذا الدليل العقلي يمنع ثبوت بعض أخباره دون بعض، فمن أقر ببعض ما أخبر به الرسول دون بعض، فقد أبطل الدليل العقلي الدال على صدق الرسول وقد أبطل الشرع، فلم يبق معه لا عقل ولا شرع. وهذا الحال من آمن ببعض الكتاب دون بعض. قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا} [النساء: 150-151] . ولا ريب من أن قدم على كلام الله ورسوله وما يعارضه من معقول أو غيره، وترك ما يلزمه من الإيمان به، كما آمن بما يناقضه، فقد آمن ببعض وكفر ببعض. وهذا حقيقة حال أهل البدع، كما في كتاب الرد على الزنادقة والجهمية، لأحمد بن حنبل وغيره من وصفهم بأنهم: (مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب) . وقوله: (مختلفون في الكتاب) يتضمن الاختلاف المذموم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 المذكور في قوله تعالى: {إن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة 176] . وأما الاختلاف في قوله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} [البقرة: 253] ، فهذا الاختلاف يحمد فيه المؤمنون ويذم فيه الكافرون. وأما الاختلاف في الكتاب الذي يذم فيه المختلفون كلهم، فمثل أن يؤمن هؤلاء ببعض دون بعض، وهؤلاء ببعض دون بعض، كاختلاف اليهود والنصارى، كاختلاف الثنتين وسبعين فرقة. وهذا هو الاختلاف المذكور في قوله تعالى: {ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك} [هود: 118-119] ، وفي قوله تعالى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء} [المائدة: 14] ، فأغرى بينهم العداوة والبغض، بسبب ما تركوه من الإيمان بما أنزل عليهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 وهذا هو الوصف الثاني فيما تقدم من قول أحمد: (مخالفون للكتاب) فإن كلاً منهم يخالف الكتاب. وأما قوله بأنهم (متفقون على مخالفة الكتاب) فهذا إشارة إلى تقديم غير الكتاب على الكتاب، كتقديم معقولهم وأذواقهم وآرائهم ونحو ذلك على الكتاب، فإن هذا اتفاق منهم على مخالفة الكتاب. ومتى تركوا الإعتصام بالكتاب والسنة فلا بد أن يختلفوا، فإن الناس لا يفصل بينهم إلا كتاب منزل من السماء، كما قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 213] . وكما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59] . وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} [آل عمران: 102، 103] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 ومن العجائب أنك تجد أكثر الغلاة في عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم أبعد الطوائف عن تصديق خبره وطاعة أمره، ذلك مثل الرافضة والجهمية ونحوهم، ممن يغلون في عصمتهم، وهم مع ذلك يردون أخباره، وقد اجتمع كل من آمن بالرسول على أنه معصوم فيما يبلغه عن الله، فلا يستقر في خبره خطأ، كما لا يكون فيه كذب، فإن وجود هذا وهذا في خبره يناقض مقصود الرسالة، ويناقض الدليل الدال على أنه رسول. وأما ما لا يتعلق بالتبليغ عن الله من أفعاله، فللناس في العصمة منه نزاع وتفصيل، ليس هذا موضعه، ومتنازعون في أن العصمة من ذلك: هل تعلم بالعقل أو السمع؟ بخلاف العصمة في التبليغ، فإنه متفق عليه، معلوم بالسمع والعقل، ومقصود التبليغ تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، فمن كان من أصله أن الدلالة السمعية لا تفيد اليقين، أو أنه يقدم رأيه وذوقه على خبر الرسول، لم ينتفع بإثبات عصمته المتفق عليها، فضلا عن موارد النزاع من العصمة، بل هم، معظمون للرسول في غير مقصود الرسالة، وأما مقصود الرسالة فلم يأخذوه عنه، وصاروا في ذلك كالنصارى مع المسيح عليه السلام الذي أرسل إليهم، فلم يتلقوا عنه الدين الذي بعث به، بل غلوا فيه غلواً صاروا مشركين به لا مؤمنين به. وكذلك الغالية في الأنبياء وأهل البيت والمشايخ، تجدهم مشركين بهم، لا متبعين لهم في خبرهم وأمرهم، فخرجوا عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 وهؤلاء يعزلون الأنبياء والرسل في أنفسهم عن الولاية التي ولاهم الله إياها باتفاق المسلمين، ويعتقدون أنه ولاهم ولاية لو كانت حقاً لم ينفعهم ذلك، فكيف إذا كانوا كاذبين مشركين؟ ولهذا تجد فيهم من تحريف نصوص الأنبياء التي أخبروا بها عن الله وملائكته وكتبه ورسله ما يناقض مقصود أخبارهم. الوجه الثلاثون أن هذا الذي ذكرناه يفيد أن الشرع لا يمكن أن يخالفه العقل الدال على صحته، بل هما متلازمان في الصحة، وهذا القدر لا يمكن مؤمن بالله ورسوله أن ينازع فيه، بل لا ينازع مؤمن بالله ورسوله أن العقل لا يناقض في نفس الأمر، لكن الذي تقوله الجهمية والقدرية وغيرهم من أهل البدع أن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم مبنى على الأدلة النافية للصفات والقدر، كما يقولونه من أن صدق الرسول موقوف على قيام المعجزة الدالة على صدقه، وقيام المعجزة موقوف على أن الله لا يؤيد الكذاب بالمعجزة، وذلك موقوف على أن فعل الله قبيح، والله لا يفعل القبيح، وتنزيهه من فعل القبيح موقوف على أنه غني عنه العالم بقبحه، والغني عن القبيح العالم بقبحه لا يفعله، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 وغناه عنه موقوف على أنه ليس بجسم، وكونه ليس بجسم موقوف على نفي صفاته وأفعاله، لأن الموصوف بالصفات والأفعال جسم، ونفي ذلك موقوف على ما دل عليه حدوث الجسم، فلو بطل الدال على حدوث الجسم بطل ما دل على صدق الرسول. وأيضا فالدال على حدوث الجسم هو الدال على حدوث العالم وإثبات الصانع تعالى، فإذا بطل ذلك بطل الدليل الدال على إثبات الصانع، فصار العلم بإثبات الصانع وتصديق الرسول موقوفاً على نفي الصفات والأفعال، فإذا جاء في الشرع ما يدل على إثبات الصفات والأفعال، لم يمكن القول بموجبه، لأن ذلك ينافي دليل الصدق، بل يعلم من حيث الجملة أن الرسول لم يرد به إثبات الصفات والأفعال، إما لكذب الناقل عنه أو لعدم دلالة اللفظ عن الإثبات، أو لعدم قصده الإثبات. ثم إما أن نقدر احتمالات يمكن حمل اللفظ عليها وإن لم يعين المراد، وإما أن نعرض عن هذا ونقول: لا نعلم المراد. فهذا أصل قولهم، ومن وافقهم في نفي بعض الصفات أو الأفعال قال بما يناسب مطلوبه من هذا الكلام فحقيقة قولهم إنه لا يمكن التصديق بكل ما في الشرع، بل لا يمكن تصديق البعض إلا بعدم تصديق البعض الآخر. وحينئذ فدليلهم العقلي ليس دالاً على صدق الرسول إلا على هذا الوجه، فلا يمكنهم قبول ما يناقضه من نصوص الكتاب والسنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 وحينئذ فيقال لهم: لا نسلم أن مثل هذا هو الأصل الذي به علم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هذا معارضة لقول الرسول بما لا يدل على صدقه، فبطل قول من يقول: إنا إذا قدمنا الشرع كان ذلك طعنا في أصله. وهذه المقدمات التي ذكروها عامتها ممنوعه ويتبين فسادها بما هو مبسوط في موضع أخر. وإذا قال أحدهم: نحن لا نعلم صدق الرسول إلا بهذا، أو لا نعلم دليلا يدل على صدق الرسول إلا هذا. قيل: لا نسلم صحة هذا النفي، وعدم العلم ليس علماً بالمعدوم، وأنتم مكذبون لبعض ما جاء به الشرع، وتدعون أنه لا دليل على صدق الرسول سوى طريقكم، فقد جمعتم بين تكذيب ببعض الشرع، وبين نفي لا دليل عليه، فخالفتم الشرع بغير حجة عقلية أصلا. وإذا قال أحدهم: فما الدليل على صدق الرسول غير هذا؟ . قيل: في هذا المقام لا يجب بيانه، وإن كنا نبينه في موضع آخر، بل يكفينا رد المنع، ونحن نعلن بالاضطرار أن سلف الأمة وأئمتها كانوا مصدقين للرسول بدون هذا الطريق. يوضح هذا أن المعارضين الذين يقولون بتقديم العقل على الشرع، قد اعترف حذاقهم بما يبين أن الشرع ليس مبنياً على معقول يعارض شيئاً منه، وبيان ذلك في: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 الوجه الواحد والثلاثون وهو أن نقول: قد ذكر أبو عبد الله الرازي في أجل كتبه نهاية المعقول ما ذكره غيره من أهل الكلام، فقال الرازي: (المطالب على ثلاثة أقسام: منها ما يستحيل العلم بها بواسطة السمع، ومنها ما يستحيل العلم بها إلا من السمع، ومنها ما يصح حصول العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى. أما القسم الأول: فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته استحال تصحيحه بالسمع، مثل العلم بوجود الصانع، وكونه مختاراً وعالماً بكل المعلومات وصدق الرسول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 أما العلم بحدوث العالم فذلك ما لا يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته، لأنه يمكننا أن نثبت الصانع المختار بواسطة حدوث الأعراض، أو بواسطة إمكان الأعراض، على ما سيأتي تفصيل القول فيه، ثم نثبت كونه عاما بكل المعلومات ومرسلاً للرسل، ثم نثبت بأخبار الرسول حدوث العالم) . قال: (وبهذا يتبين خطأ قول من زعم أن أول الواجبات القصد إلى النظر الصحيح المفضى إلى العلم بحدوث العالم) . قلت: هذا القول الذي خطأه الرازي هو الذي ذكره أبو المعالي في أول الإرشاد كما ذكره طوائف من أهل الكلام: المعتزلة وغيرهم، وهو قول من وافقه على هذا من المنتسبين إلى الأشعري، وقالوا: إن العلم بحدوث العالم لا يمكن إلا بالعلم بحدوث الأجسام، ولا يمكن ذلك إلا بحدوث الأعراض، وليس هذا قول الأشعري وأئمة أصحابه، فإن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 إثبات الصانع عندهم لا يتوقف على هذه الطريق، بل قد صرح الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر هو وغيره، بأن هذا الطريق ليس هو طريق الأنبياء وأتباع الأنبياء، بل هي محرمة في دينهم، ولكن الأشعري لا يبطل هذه الطريق، بل يقول: هي مذمومة في الشرع، وإن كانت صحيحة في العقل، وسلك هو طريق مختصرة من هذا، وهو إثبات حدوث الإنسان بأنه مستلزم للحوادث، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، ووافقهم على أن المعلوم حدوثه هو الأعراض: كالاجتماع والافتراق، وأن ما يخلق من الحيوان والنبات والمعادن إنما تحدث أعراضه لا جواهره. وكذلك الخطابي وطائفة معه، ممن يذم هذه الطريقة الكلامية التي ذمها الأشعري، يوافقون على صحتها مع ذمهم لها. وأما جمهور الأئمة والعقلاء، فهي عندهم باطلة، وهذا مما يعلم معناه كل من له نظر واستدلال، إذا تأمل حال سلف الأمة وأئمتها وجمهورها، فإنهم كلهم مؤمنون بالله ورسوله، ولم يكونوا يبنون الإيمان على إثبات حدوث الأجسام، بل كل من له أدنى علم بأحوال الرسول وأصحابه، يعلم انهم له يجعلوا العلم بتصديقه مبنيا على القول بحدوث الأجسام، بل ليس في الكتاب ولا السنة، ولا قول أحد من السلف والأئمة، ذكر القول بحدوث الأجسام ولا إمكانها، فضلاً عن أن يكون فيها أن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بذلك، وقد بسط الكلام على هذا في مواضع. والمقصود هنا أن القول بأن أول الواجبات هو سلوك النظر في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 هذه الطريقة- هو في الأصل قول الجهمية والمعتزلة، وإن وافقهم عليه طائفة غيرهم. وهذه طريقة المعتزلة: كأبي علي، وأبي هاشم، وأبي الحسين البصيري، وأمثالهم. وهم متنازعون في أن أول الواجبات النظر المفضى إلى العلم بحدوث العالم، أو القصد إلى النظر، أو الشك السابق على القصد، على ثلاثة أقوال لهم معروفة. وقد اعترف الجمهور الذين خالفوا هؤلاء بأن إثبات الصانع لا يتوقف على هذه الطريق، بل ولا حدوث العالم. وقد ذكر الرازي أن الطرق التي بها يثبت العلم بالصانع خمس طرق: الأول: الاستدلال بحدوث الذوات، كالاستدلال بحدوث الأجسام، المبني على حدوث الأعراض، كالحركة والسكون وامتناع ما لا نهاية له. وهذا طريق أكثر المعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية كأبي المعالي وأمثاله. الثاني: الاستدلال بإمكان الأجسام، وهذه عمدة الفلاسفة، وهو مبني على أن الأجسام ممكنة لكونها مركبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 قلت: وهذا مبني على توحيد ابن سينا ومن وافقه من الفلاسفة، المتضمن نفي الصفات. وجماهير العقلاء من المسلمين واليهود والنصارى، والفلاسفة القدماء والمتأخرين، يقدحون في موجب هذا الدليل. وليس هو طريق أرسطو وقدماء الفلاسفة، ولا طريقة ابن رشد وأمثاله من المتأخرين. بل هذا المسلك عند جمهور العالم من أعظم الأقوال فساداً في الشرع والعقل. وأما المسلك الأول فهو أيضاً عند جمهور أهل الملل وجمهور الفلاسفة باطل مخالف للشرع والعقل. والمسلك الثالث: الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الصانع سواء كانت الأجسام واجبة أو قديمة أو ممكنة وحادثه، وهو مبني على تماثل الأجسام، وهو باطل عند أكثر العقلاء، وهو مبني على مقدمتين: إحداهما: أن اختصاص كل جسم بما له من الصفات لا يكون إلا لسبب منفصل. والثانية: أن ذلك السبب لا يكون إلا مخصصا ليس بجسم. قلت: وهاتان المقدمتان قد عرف نزاع العقلاء فيها، وما يرد عليهما من النقض والفساد، ومخالفة أكثر الناس لموجبهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 قال: (المسلك الرابع: الاستدلال بحدوث الصفات، والأعراض عن وجود الصانع، كصيرورة النطفة إنسانا، فهذا حادث، والعبد غير قادر عليه، فلا بد له من فاعل آخر لافتقار المحدث إلى المحدث: إما لأن ذلك معلوم بالضرورة، كما يقول جمهور لعقلاء، وإما لإثبات ذلك بالإمكان، وما لإثباته بالقياس على ما يحدثه العباد) . قال: (والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال بحدوثها أن الأول يقتضي أن لا يكون الفاعل جسماً، والثاني لا يقتضي ذلك) . قال: (والطريق الخامسة: وهي عائدة إلى الأربعة: الاستدلال بما في العالم من الإحكام والإتقان على علم الفاعل، والذي يدل على علمه هو بالدلالة على ذاته أولى) . قلت: طريقة الاستدلال بما يشاهد حدوثه جاء بها القرآن، واتفق عليه السلف والأئمة، وقد اعترفوا بأن هذه الطريق تفضي إلى العلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 بإثبات الفاعل، ولا تقتضي كون الفاعل ليس بجسم، وكذلك طريقة العلم لا تقتضي ذلك، بخلاف الطرق الثلاثة المتقدمة. وإذا تبين ذلك فيقول القائل: إذا علمنا بإثبات الصانع بهذه الطريق التي اعترفتم بأنه يمكن العلم بإثبات الصانع وصدق رسله بها، وليس فيها ما يقتضي أن الفاعل ليس بجسم، لم يكن في الأدلة الشرعية المثبتة لصفات الله تعالى وأفعاله ما يناقض هذه الطريق، لأن غاية ما يقوله النفاة أن إثبات الأفعال والصفات، أو بعض ذلك، يقتضي كون الموصوف الفاعل جسماً، وإثبات الصانع مبني على الدليل النافي لكونه جسماً، فلو قلنا بموجب النصوص تقديماً لها على الدليل العقلي النافي للجسم، لكنا قد قدمنا الشرع على أصله العقلي. فإذا كان قد تبين أن إثبات الشرع المبني على إثبات الصانع وصدق الرسول لا يتوقف على نفي الجسم، علم بالضرورة أن الشرع المثبت للصفات والأفعال لا ينافي الدليل العقلي الذي به عرف إثبات ذلك، فبطل قول من يدعي أنه قد يتعارض الدليل الشرعي المثبت لذلك وأصله العقلي النافي لذلك، وهذا بين واضح ولله الحمد. اعتراض: إن عارضت الدليل العقلي الذي يعرف صحة الشرع فإن قالوا: هب أن هذا الدليل العقلي الذي به يعرف صحة الشرع لا يعارضه الدليل الشرعي المثبت للصفات والأفعال، لكن غيره من الأدلة العقلية ينافي ذلك- كان الجواب عنه من وجوه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 الجواب عنه من وجوه: الوجه الأول أن المقصود بيان أن الشرع يمكن معرفة صدقه بدليل عقلي لا يعارض موجب الشرع، وأما ما سوى ذلك من الأدلة فليس على الرجل أن يستدل بها، والشيء إذا علمت صحته بدليل عقلي لم يجب أن تعلم صحته بكل دليل، فقد تبين أنه يمكن الرجل أن يصدق بما أخبر به الشارع من أسماء الله وصفاته وأفعاله، كإثبات العلو لله، والصفات الخبرية، من غير أن يعارض ذلك ما يكون أصلاً للعلم بصحة السمع من الأدلة العقلية، فتكون المعارضة بتلك الطريق التي يقال إنها عقلية معارضة بطرق لا يتوقف العلم بصحة السمع عليها، فلا يلزم من تقديم الشرع عليها القدح في الأصل الذي به عرفت صحة الشرع، وهذا هو المطلوب. الوجه الثاني أن يقال: تلك الطرق التي لم تدل على صحة الشرع مطلقاً، وإنما دلت على صدق الشارع فيما يخبر عنه من غير الصفات والأفعال التي تنفيها تلك الطرق، وحينئذ فلا تكون دالةً على صدق الرسول مطلقا. ومعلوم أن دليل الإيمان لا بد أن يدل على أن الرسول صادق في كل ما يخبر به مطلقاً من غير تقييد بقيد، فمتى كان الدليل إنما دل على صدقه بشرط أن لا يعارضه موجب ذلك الدليل، صار مضمونه أن الرسول مصدق فيما لا يخالفني فيه، وليس مصدقاً فيما يخالفني فيه. ومعلوم أن هذا ليس إقراراً بصحة الرسالة، فإن الرسول لا يجوز عليه أن يخالف شيئا من الحق ولا يخبر بما تخيله العقول وتنفيه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 ولكن يخبر بما تعجز العقول عن معرفته فيخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول. ولهذا قال الإمام أحمد في رسالته في السنة التي رواها عبدوس ابن مالك العطار قال: ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول. هذا قوله وقول سائر أئمة المسلمين، فإنهم متفقون على أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا تدركه كل الناس بعقولهم، ولو أدركوه بعقولهم لاستغنوا عن الرسول، ولا يجوز أن يعارض بالأمثال المضروبة له، فلا يجوز أن يعارضه الناس بعقولهم، ولا يدركونه بعقولهم، فمن قال للرسول: أنا أصدقك إذا لم تخالف عقلي، أو أنت صادق فيما لم تخالف فيه الدليل العقلي، فإن كان يجوز على الرسول أن يخالف دليلاً عقلياً صحيحاً لم يكن مؤمناً به وإن قدم على كلامه دليلاً عقلياً ليس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 بصحيح لم يكن مؤمناً به، فامتنع أن يصح الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم مع هذا الشرط. الوجه الثالث أن تلك الطرق إذا أمكن العلم بصدق الرسول بدونها، لم يكن العلم بالشرع محتاجاً إليها، وحينئذ فإذا عارضت الشرع كان المعارض له دليلاً أجنبياً، كما لو عارضه من كذبه واحتج على أنه كاذب. ولا ريب أن هذا من باب المعارضة للرسول فيما جاء به. كمعارضة المكذبين للرسل، وحينئذ فيكون جوابه بما يجاب به أمثاله من الكفار الملحدين الطاعنين فيما جاء به الرسول أو في بعضه، لا يكون جوابه ما يجاب به المؤمنون بالرسول الذي يقرون أنه لا يقول على الله إلا الحق. الوجه الرابع أنا لا نسلم صحة شيء من تلك الطرق، حتى تكون دليلا يصلح أن يعارض به شيء من الأدلة: لا العلمية ولا الظنية ولا العقلية ولا غيرها، فضلا عن أن يعارض بها كلام المعصوم الذي لا يقول إلا حقاً، وبيان فساد تلك الوجوه العقلية النافية للصفات والأفعال، أو بعض ذلك، مذكور بتفصيله في غير هذا الموضع. الوجه الخامس أن يقال: لا ريب أن النصوص دلت على إثبات الصفات والأفعال لله تعالى، ولم تتعرض للجسم بنفي ولا إثبات، والنفاة إنما ينفون ما ينفونه بناءً على أن الإثبات يستلزم كون الموصوف جسماً، والعقل ينفي أن يكون جسما، وأدلتهم على نفي الجسم إما دليل الإمكان، وإما دليل الحدوث، فليس لهم ما يخرج عن هذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 وحينئذ فيقال: إما أن يقال: وهذا إثبات ما أثبته الدليل الشرعي من الصفات والأفعال، موجب لكون الموصوف بذلك ممكناً وحادثاً، وأن استلزم ذلك للحدوث أو الإمكان معلوم بالأدلة العقلية كما يقول النفاة - وإما أن لا يقال ذلك. فإن لم يقل ذاك، أو قيل: ليس في الأدلة العقلية ما يدل على ذلك، لم يكن معارضاً. وإن قيل: بل ذلك يدل في العقل على أن الموصوف ممكن أو حادث، فحينئذ إما أن نفسد ذلك الدليل المعارض على وجه التفصيل، وإما أن يقال: قد علم بالعقل صدق الرسول، وعلم أنه أثبت هذه الصفات والأفعال، فالنافي لها لا يجوز أن يكون دليلاً صحيحا، لأن تعارض الأدلة الصحيحة ممتنع، وحينئذ فكل من كان أعلم بدلالة الشرع على الإثبات وبضعف أدلة النفاة كان أعلم بهذا الكلام، فيكون العلم بفساد هذه المعارضات، تارة بطريق إجمالي، وتارة بطريق تفصيلي، كما يعلم فساد الحجج السوفسطائية، فإن من علم الشيء علماً يقينياً علم قطعاً فساد ما يناقضه، وإن لم يعلم تفصيل فساد تلك الحجج، فمن علم صدق الرسول وأنه أخبر بأمر، علم قطعاً أنه لا يقوم دليل قطعي على نفيه. الوجه السادس أن هؤلاء الذين يرون تقديم عقولهم على كلام الله ورسوله، عادتهم يذكرون ذلك في مسائل العلو والصفات الخبرية ونحو ذلك مما جاء به الكتاب والسنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 وهؤلاء يقولون: علمنا بأن الرسول أخبر بالعلو وبهذه الصفات علم ضروري من دينه، أبلغ من علمنا بثبوت اللعان والشفعة وحد القذف وسجود التلاوة والسهو ونحو ذلك. وإذا كان ذلك معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام، لم يكن أن يقال: إن الرسول لم يخبر به، بل لا يمكن إلا أحد أمرين: إما تكذيب الرسول، وإما رد هذه المعارضات المبتدعة. قالوا وعلمنا بصدق الرسول علم يقيني لا ريب يتخلله، فالشبه القادحة في ذلك كالشبه القادحة في العلوم العقلية اليقينية، وهذه من جنس شبه السوفسطائية، فنحن نعلم فسادها من حيث الجملة من غير خوض في التفصيل. ولا ريب أن هذا الأصل مستقر في قلب كل مؤمن بالله ورسوله، فإن أهل الإلحاد قد يذكرون له شبهات ويقدحون بها فيما جاء به الرسول في مواضع كثيرة، وقد لا يكون للمؤمن خبرة بالمناظرة في ذلك، لعدم العلم بعباراتهم ومقاصدهم في كلامهم، كمن يتكلم بلفظ (الجسم) ، (والجوهر) ، (والحيز) ، (الهيولى) ، (المادة) ، (والصورة) ، (الكلي) ، (والجزئي) ، (الماهية) ، ونحو ذلك عند من ليس له خبره بهذه الأوضاع والاصطلاحات، ويؤلفها تأليفا يتضمن القدح فيما أخبر الله به ورسوله، فإن المؤمن يعلم فساد ذلك مجملاً، وإن لم يعرف وجه فسادها، لا سيما إذا لم يكن خبيراً بطرق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 المناظرة وترتيب الأدلة، وكيف يفسد المتعارض بالممانعة في موضعها، ولمعارضة في موضعها، ونحو ذلك ما يبين به فساد الأقوال الباطلة المعارضة للحق. وقول هؤلاء لنفاة الصفات نظير قول كل من آمن باليوم الآخر للملاحدة النفاة، إذا قالوا: قد قام الدليل العقلي على نفي المعاد مطلقا، أو نفي الأكل والشرب والنكاح ونحو ذلك في الجنة، أو على نفي معاد البدن، والنصوص المعارضة لذلك إما أن تأول وأما أن تفوض، فإن المؤمنين بالآخرة من أهل الكلام وغيرهم قالوا لهم: نحن نعلم ثبوت المعاد بالاضطرار من دين الإسلام، فلا يمكن دفع العلوم الضرورية، فلو لم يكن المعاد حقاً لزم: إما جحد كون الرسول أخبر به، وإما جحد صدقه فيما أخبر، وكلاهما ممتنع، وإلا فمن علم أن الرسول أخبر به، وعلم أنه لا يخبر إلا بحق- علم بالضرورة أن المعاد حق. وهنا بعينه يقوله مثبتو الصفات والأفعال للنفاة حذو القذة بالقذة، فإن هؤلاء النفاة للصفات المثبتين للمعاد هم بين المؤمنين بالجميع كالسلف والأئمة، وبين الملاحدة المنكرين للصفات والمعاد، فالملاحدة تقول لهم: قولنا في نفي المعاد كقولكم في نفي الصفات، فلا يستل بالشرع على هذا ولا على هذا لمعارضة العقل له، والمؤمنون بالله ورسوله يقولون لهم: قولنا لكم في الصفات كقولكم للملاحدة في المعاد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 فإذا قلتم للملاحدة: إثبات المعاد معلوم بالاضطرار من دين الرسول. قلنا لكم: وإثبات الصفات والعلو والأفعال معلوم بالاضطرار من دين الرسول. وقد تقدم من كلام الملاحدة، كابن سينا ونحوه، ما يبين ذلك، وكل من تدبر كلام السلف والأئمة في هذا الباب، علم أن الجهمية النفاة للصفات كانوا عند السلف والأئمة من جملة الملاحدة الزنادقة. ولهذا لما صنف الإمام أحمد ما صنفه في ذلك سماه الرد على الزنادقة والجهمية وكذلك ترجم البخاري آخر كتاب الصحيح بكتاب التوحيد والرد على الزنادقة والجهمية. وقال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وقال يوسف بن أسباط، وابن المبارك: أصول البدع أربعة: الشيعة والخوارج والمرجئة والقدرية. قيل: والجهمية فقالا: ليست الجهمية من أمة محمد. ونقل مثل ذلك عن الزهري أنه قال: ليس الجعدي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. كلام الدارمي في كتاب الرد على الجهمية وقال عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على الجهمية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 (ما الجهمية عندنا من أهل القبلة، بل هؤلاء الجهمية أفحش زندقة، وأظهر كفراً، وأقبح تأويلاً لكتاب الله ورد صفاته، من الزنادقة الذين قتلهم علي وحرقهم بالنار) . قال: (والزنادقة والجهمية أمرهما واحد، ويرجعان إلى معنى واحد، ومراد واحد، وليس قوم أشبه بقوم منهم بعضهم ببعض) . قال: (ولو كان جهم وأصحابه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وكبار التابعين لقتلوهم، كما قتل علي الزنادقة التي ظهرت في عصره، ولقتلوا كما قتل أهل الردة. ألا ترى أن الجعد بن درهم أظهر بعض رأيه في زمن خالد بن عبد الله القسري، فزعم أن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا فذبحه خالد بواسط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 يوم عيد الأضحى على رؤوس من حضره من المسلمين لم يعبه به عائب، ولم يطعن عليه طاعن، بل استحسنوا ذلك من فعله وصوبوه. وكذلك لو ظهر هؤلاء في زمن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان سبيلهم عند القوم إلا القتل كسبيل أهل الردة، وكما قتل علي من ظهر منهم في عصره وأحرقه، وظهر بعضهم بالمدينة في عهد سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، فأشار على وإلى المدينة يومئذ بقتله) . قال: (ويكفي العاقل من الحجج في إكفارهم ما تأولنا فيه من كتاب الله، وروينا فيه عن علي وابن عباس، وما فسرنا من واضح كفرهم، وفاحش مذهبهم، وسنروي عن بعض من ظهر ذلك بين أظهرهم من العلماء. ثنا محمد بن المعتمر السجستاني، كان من أوثق أهل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 سجستان وأصدقهم، عن زهير بن نعيم البابي، أنه سمع سلام بن أبي مطيع يقول: الجهمية كفار. وسمعت محمد بن المعتمر يقول: سمعت زهير بن نعيم يقول: سئل حماد بن زيد - وأنا معه في سوق البصرة - عن بشر المريسي فقال: ذلك كافر. قال عثمان بن سعيد: وبلغني عن يزيد بن هارون أنه قال: الجهمية كفار، وقال: حرضت أهل بغداد غير مرة على قتل المريسي. ثنا يحيى الحماني: ثنا الحسن بن الربيع: سمعت ابن المبارك يقول: من زعم أن قوله: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا} [طه: 14] مخلوق فهو كافر. سمعت محبوب بن موسى الأنطاكي، يذكر أنه سمع وكيعا يكفر الجهمية. قال: وحدث عن سفيان الثوري، عن حماد بن أبي سليمان أنه أكفر من زعم أن القرآن مخلوق، وسمعت الربيع بن نافع أبا توبة يكفر الجهمية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 وحدثنا الزهراني أبو الربيع قال: كان من هؤلاء الجهمية رجل، وكان الذي يظهر من حاله الترفض وانتحال حب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال رجل ممن خالطه ويعرف مذهبه: قد علمت أنكم لا ترجعون إلى دين الإسلام ولا تعتقدونه فما الذي حملكم على الترفض وانتحال حب علي؟ قال: إذاً أصدقك. إنا إن ظهرنا رأينا الذي نعتقده رميناه بالكفر والزندقة، وقد وجدنا أقواماً ينتحلون حب علي ويظهرونه، ثم يقعون بمن شاءوا ويعتقدون ما شاءوا فيقولون ما شاءوا، فنسبوا بذاك إلى الترفض والتشيع، فلم نر لمذهبنا أمراً ألطف من انتحال حب هذا الرجل، ثم نقول ما شئنا، ونعتقد ما شئنا، ونقع بمن شئنا، فلأن يقال: إنا رافضه وشيعة أحب إلينا من أن يقال: زنادقة وكفار، وما علي عندنا بأحسن حالاً من غيره ممن نقع بهم. قال أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي: وصدق هذا الرجل فيما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 عبر عن نفسه ولم يراوغ، وقد استبان لي ذلك في بعض كبرائهم ونظرائهم أنهم يستترون بالتشيع: يجعلونه تسبيبا لكلامهم وخطائهم، وسلما وذريعة لاصطياد الضعفاء وأهل الغفلة، ثم يبذرون بين ظهراني خطئهم بذر كفرهم وزندقتهم، ليكون أنجع في قلوب الجهال وأبلغ فيهم، ولئن كان أهل الجهل في شك من أمرهم، إن أهل العلم منهم على يقين) . تعليق ابن تيمية قلت: قد قال عبد الرحمن بن مهدي وغيره من أئمة السنة: هما صنفان فاحذروهما: الجهمية والرافضة. وهذا الذي حكاه عثمان بن سعيد عن هذا الرجل هو لسان حال أئمة الجهمية المتشيعة، كالقرامطة الباطنية، من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم، وهم رؤوس الملاحدة وأئمتهم، وقد دخل كثير من إلحادهم على كثير من الشيعة والمتكلمين، من المعتزلة، والنجارية، والضرارية، والأشعرية، والكرامية، ومن أهل التصوف والفقه والحديث والتفسير والعامة. لكن عامة هؤلاء لا يعتقدون الزندقة، بل يقرون بنبوة الرسول صلى الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 عليه وسلم، لكن دخل فيهم نوع من الإلحاد، وشعبة من شعب النفاق والزندقة أضعف إيمانهم، وحصل في قلوبهم نوع شك وشبهة في كثير مما جاء به الرسول، مع تصديقهم للرسول. وتجدهم في هذا الباب في حيرة واضطراب، وشك وارتياب، لم يحققوا ما ذكره الله تعالى في قوله: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} [الحجرات: 15] ، ولكن ليس كل من دخل عليه شعبة من شعب النفاق والزندقة، فقبلها جهلاً أو ظلماً، يكون كافر منافق في الباطن، بل قد يكون معه من الإيمان بالله ورسوله ما يجزيه الله عليه، ولا يظلم ربك أحداً. تابع كلام الدارمي قال: أبو سعيد عثمان بن سعيد: (والزندقة أكبر في نفوس أهل العلم من الارتداد، ومن كفر اليهود والنصارى ولذلك قال ابن المبارك: لأن أحكي كلام اليهود والنصارى أحب ألي من أن أحكي كلام الجهمية. حدثناه الحسن بن الصباح البغدادي، عن علي بن شقيق، عن ابن المبارك قال أبو سعيد: وصدق ابن المبارك إن في كلامهم ما هو أوحش من كلام اليهود والنصارى) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 (وقال أبو سعيد: وذهبت يوما أحكي ليحيى بن يحيى كلام الجهمية، لأستخرج منه نقضاً عليهم، وفي مجلسه يومئذ الحسين بن عيسى البسطامي، وأحمد بن حريش القاضي، ومحمد بن رافع، وأبو قدامه السرخسي- فيما أحسب - وغيرهم من المشايخ، فزبرني بغضب وقال، اسكت، وأنكر علي المشايخ الذين في مجلسه، استعظاماً أن أحكي كلام الجهمية، وتشنيعاً عليهم، فكيف بمن يحكى كلامهم ديانة! ثم قال يحيى: القرآن كلام الله، فمن شك فيه أو زعم انه مخلوق فهو كافر) . تعليق ابن تيمية قلت: وكلام السلف والأئمة في تكفير الجهمية، وبيان أن قولهم يتضمن التعطيل والإلحاد كثير ليس هذا موضع بسطه. وقد سئل عبد الله ابن المبارك ويوسف بن أسباط فأجابا بما تقدم. وقد تبين أن الجهمية عندهم من نوع الملاحدة الذين يعلم بالاضطرار أن قولهم مخالف لما جاءت به الرسل، بل إنكار صفات الله أعظم إلحاداً في دين الرسل من إنكار معاد الأبدان، فإن إثبات الصفات لله أخبرت به الرسل أعظم مما أخبرت بمعاد الأبدان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 ولهذا كانت التوراة مملوءة من إثبات صفات الله، وأما ذكر المعاد فليس هو فيها كذلك، حتى قد قيل: إنه ليس فيها ذكر المعاد. والقرآن فيه من ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذكر الأكل والشرب والنكاح في الجنة، والآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته، أعظم قدراً من آيات المعاد، فأعظم آية في القرآن آية الكرسي المتضمنة لذلك. كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لأبي بن كعب: أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255] ، فضرب بيده في صدره، وقال ليهنك العلم أبا المنذر» . وأفضل سورة سورة أم القرآن، كما ثبت ذلك في «حديث أبي سعيد بن المعلى في الصحيح، قال له النبي صلى الله عليه وسلم إنه لم ينزل في التوراة ولا الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وفيها من ذكر أسماء الله وصفاته أعظم مما فيها من ذكر المعاد. وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن «: {قل هو الله أحد} تعدل ثلثي القرآن» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 وثبت في الصحيح «أنه بشر الذي كان يقرأها ويقول: إني لأحبها لأنها صفة الرحمن: بأن الله يحبه» فبين أن الله يحب من يحب ذكر صفاته سبحانه وتعالى، وهذا باب واسع. الوجه السابع أن يبين أن الفطرة التي فطر الله عليها عباده، والعلوم الضرورية التي جعلها في قلوبهم، توافق ما أخبر به الرسول من علو الله على خلقه ونحو ذلك، فالمعقول الضروري الذي هو أصل العلوم النظرية، موافق للأدلة الشرعية مصدق لها، لا مناقض معارض لها. الوجه الثامن أن يقال: الإرادات والقصود الضرورية التي تضطر العباد عندما يضطرون إلى أن يطلبوا من الله قضاء الحاجات وتفريج الكربات، موافقة لما أخبر به الرسول، لا معارضة لذلك. الوجه التاسع أن يقال: الأدلة العقلية البرهانية المؤلفة من المقدمات اليقينية، هي موافقة لخبر الرسول لا معارضة له، ومن كان له خبرة بالأدلة العقلية وتأليفها، وتأمل أدلة المثبتة والنفاة، رأى بينهما من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق، فإن أدلة الإثبات أدلة صحيحة، مبنية على مقدمات يقينية خالصة من الشبهة، وأما حجج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 النفاة فجميعها مبناها على ألفاظ مجملة متشابهة، ومعان متشابهة. ولهذا متى وقع الاستفسار والتفصيل لمجمل كلامهم، ووقع البيان والتفصيل لمشتبه معانيهم، تبين لكل عاقل فاهم أن النفاة جمعوا بين المختلفات، وفرقوا بين المتماثلات، وسووا بين الشيئين اللذين هما في غاية التباين، لاشتراكهما في بعض الصفات. ولهذا كان مآل أمرهم إلى أن جعلوا الوجود واحداً، فجعلوا وجود الخالق رب العالمين- الذي لا يماثله شيء من الموجودات بوجه من الوجوه، ومباينته لكل موجود أعظم من مباينة كل موجود لكل موجود - هو وجود أحقر المخلوقات وأصغر المخلوقات، أو مماثلا له لاتفاقهما في مسمى الوجود أو مسمى الذات أو الحقيقة، وصار أئمتهم النظار في هذه المسألة التي هي أول ما ينبغي لذي النظر أن يعرفه في حيرة عظيمة، فهذا يقول: الوجود واحد لاشتراك الموجودات في مسمى الوجود، ولا يميز بين الواحد بالعين، والواحد بالنوع أو الجنس اللغوي. وهذا يقول: وجوده وجود مطلق: إما بشرط الاطلاق، وإما مطلقاً لا بشرط، وإما بشرط سلب جميع الأمور الثبوتية عنه، وهذا يمتنع ثبوته عنه، وهذا يمتنع ثبوته في الموجودات، وإنما يكون مثل هذا فيما تقدره الأذهان، لا فيما يوجد في الأعيان. وغاية من يجعل ذلك ثابتاً في الخارج، أن يجعل وجود الخالق هو وجود المخلوقات، أو جزءاً منها، فيجعل افتقاره إلى المخلوقات كافتقار المخلوقات إليه، كما يقول من يفرق بين الوجود والثبوت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 وهذا يقول لفظ (الوجود) و (الذات) وغيرهما، مقول عليه وعلى الموجودات بالاشتراك اللفظي المجرد كاشتراك (المشتري) و (سهيل) فتخرج الأسماء العامة الكلية كاسم (الوجود) و (الذات) و (النفس) و (الحقيقة) و (الحي) و (العالم) و (القادر) ونحو ذلك من مسمياتها، وتسلبه العقول ما جعله الله فيها من المعاني والقضايا العامة الكلية، وهذه خاصة العقل التي تميز بها عن الحس، إلى أمثال هذه المقولات التي هي عند من فهمها وعرف حقيقة قول أصحابها، ضحكة للعاقل من وجه، وأعجوبة له من وجه، ومسخطة له من وجه. ومثل هذه المعقولات لو تصرف بها في تجارة أو صناعة من الصناعات لأفسدت التجارة والصناعة، فكيف يتصرف بها في الأمور الإلهية وفي صفات رب البرية، ثم يعارض بها كلام الله الذي بعث به رسله وأنزل بها كتبه؟ . فمن تبحر في المعقولات، وميز بين البينات والشبهات، تبين له أن العقل الصريح أعظم الأشياء موافقة لما جاء به الرسول، وكلما عظمت بمعرفة الرجل بذلك، عظمت موافقة الرسول. ولكن دخلت الشبهة في ذلك بأن قوماً كان لهم ذكاء تميزوا به في أنواع العلوم: إما طبيعية كالحساب والطب، وإما شرعية كالفقه مثلا. وأما الأمور الإلهية فلم يكن لهم بها خبرة كخبرتهم بذلك، وهي أعظم المطالب، وأجل المقاصد، فخاضوا فيها بحسب أحوالهم، وقالوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 فيها مقالات بعبارات طويلة مشتبهة، لعل كثيراً من أئمة المتكلمين بها لا يحصلون حقائق تلك الكلمات، ولو طالبتهم بتحقيقها لم يكن عندهم إلا الرجوع إلى تقليد أسلافهم. وهذا موجود في منطق اليونان وإلهياتهم، وكلام أهل الكلام من هذه الأمة وغيرهم، يتكلم رأس الطائفة كأرسطو مثلا بكلام، وأمثاله من اليونان بكلام، وأبي الهذيل والنظام وأمثالهما من متكلمة أهل الإسلام بكلام، ويبقى ذلك الكلام دائراً في الأتباع، يدرسونه كما يدرس المؤمنون كلام الله، وأكثر من يتكلم به لا يفهمه. وكلما كانت العبارة أبعد عن الفهم كانوا لها أشد تعظيماً، وهذا حال الأمم الضالة، كلما كان الشيء مجهولاً كانوا أشد له تعظيما، كما يعظم الرافضة المنتظر، الذي ليس لهم منه حس ولا خبر ولا وقعوا له على عين ولا أثر. وكذلك تعظيم الجهال من المتصوفة ونحوهم للغوث وخاتم الأولياء، ونحو ذلك مما لا يعرفون له حقيقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 وكذلك النصارى تعظم ما هو من هذا الباب وهكذا الفلاسفة تجد أحدهم إذا سمع أئمته يقولون: الصفات الذاتية والعرضية والمقوم والمقسم والمادة والهيولى، والتركيب من الكم والكيف، وأنواع ذلك من العبارات، عظمها قبل أن يتصور معانيها، ثم إذا طلب معرفتها لم يكن عنه في كثير منها إلا التقليد لهم. ولهذا كان فيها من الكلام الباطل المقرون بالحق ما شاء الله، ويسمونها عقليات، وإنما هي عندهم تقليديات، قلدوا فيها ناساً يعلمون أنهم ليسوا معصومين، إذا بين لأحدهم فسادها لم يكن عنده ما يدفع ذلك، بل ينفي تعظيمه المطلق لرؤوس تلك المقالة، ثم يعارض ما تبين لعقله فيقول: كيف يظن بأرسطو وابن سينا وأبي الهذيل، أو أبي علي الجبائي ونحو هؤلاء أن يخفي عليه مثل هذا؟ أو أن يقول مثل هذا؟ . وهو مع هذا يرى أن الذين قلدوا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى: {إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 4] ، قد بخسوا أنفسهم حظها من العقل والمعرفة والتمييز، ورضوا بقبول قول لا يعلمون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 حقيقته، وهو مع هذا يقبل أقوالاً لا يعلم حقيقتها، وقائلين يعلم أنهم يخطئون ويصيبون. وهذا القدر قد تبينته من الطوائف المخالفين للكتاب والسنة-ولو في أدنى شيء ممن رأيت كتبهم، وممن خاطبتهم، وممن بلغني أخبارهم -إذا أقيمت على أحدهم الحجة العقلية التي يجب على طريقته قبولها، ولم يجد له ما يدفعها به، فر إلى التقليد، ولجأ إلى قول شيوخه، وقد كان في أول الأمر يدعوا إلى النظر والمناظرة والاعتصام بالعقليات، والإعراض عن الشرعيات. ثم إنه في آخر الأمر لا حصل له علم من الشرعيات ولا من العقليات، بل هو كما قال الله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} [الحج: 3] . وكما قال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} [الحج: 8] . وكما قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} [الأنعام: 110] . وكما قال: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} [الفرقان: 44] . وكما قال تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} [الفرقان: 27-29] . وكما قال: {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا} [الأحزاب: 66-68] . وهذه النصوص فيها نصيب لكل من اتبع أحداً من الرؤوس فيما يخالف الكتاب والسنة، سواء كانوا من رؤوس أهل النظر والكلام والمعقول والفلسفة، أو رؤوس أهل الفقه والكلام في الأحكام الشرعية، أو من رؤوس أهل العبادة والزهادة والتأله والتصوف، أو من رؤوس أهل الملك والإمارة والحكم والولاية والقضاء. ولست تجد أحداً من هؤلاء إلا متناقضاً، وهو نفسه يخالف قول ذلك المتبوع الذي عظمه في موضع آخر، إذ لا يصلح أمر دنياه ودينه، بموافقة ذلك المتبوع، لتناقض أوامره. بخلاف ما جاء من عند الله، فإنه متفق مؤتلف، فيه صلاح أحوال العباد، في المعاش والمعاد. قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82] ، وهذه الجمل مبسوطة في مواضع غير هذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 والمقصود هنا أن ننبه المسلم على أن العقل الصريح كلما أمعن في تحقيقه لا يكون إلا موافقاً للشرع الذي جاءت به الرسل، حتى تتبين لك صحة ما جاء به بالأدلة العقلية، التي لا يحتاج فيها إلى خبر مخبر ولو كان معصوماً، لكن تتعاضد الأدلة السمعية والعقلية، الخبرية والنظرية. كما قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} [فصلت: 53] . ولكن الناس متفاوتون في هذا بحسب ما يؤتيهم الله من العقل والمعرفة، والنظر والاستدلال والتمييز، فكل من كان أكمل في معرفة الصواب من هذا، كان أكمل في معرفة الموافقة والمطابقة. وهذا أمر يخبر به من خبره، فقد يكون الرجل قبل أن يستيقن ما جاءت به السنة عنده شبهة ووهم، لظنه أنه قد عارضها ما يعارضها به المعارض: إما من عقلياته، وإما من ذوقياته، وإما من سياساته، فإذا هداه الله وأرشده تبين له في آخر الأمر أن ما وافق الشرع هو المعقول الصريح، وهو الذوق الصحيح، وهو السياسة الكاملة، وأن ما خالف ذلك هو من أمور أهل الجهل والظلم. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل: {ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [يونس: 25] . الوجه العاشر أنه ما من قول موافق للسنة إلا وتجد العقلاء الذين يقرون به أكثر وأعظم من العقلاء الذين ينكرونه، بل تجد الموافقين له الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 من العقلاء قد اتفقوا على ذلك بغير مواطأة من بعضهم البعض، وذلك يبين أنه موجب العقل الصريح، بخلاف الأقوال المخالفة، فإنك لا تجد من يقولها من طوائف العقلاء، إلا من تواطأ على تلك المقالة التي تلقاها بعضهم عن بعض، وما تواطأ عليه الناس يجوز فيه الغلط والكذب ما لا يجوز فيما اتفق عليه العقلاء، من غير مواطأة ولا تشاعر، والله أعلم. الوجه الثاني والثلاثون أن يقال القول بتقديم غير النصوص النبوية عليها، من عقل أو كشف أو غير ذلك، يوجب أن لا يستدل بكلام الله ورسوله على شيء من المسائل العلمية، ولا يصدق بشيء من أخبار الرسول لكون الرسول أخبر به، ولا يستفاد من أخبار الله. ورسوله هدىً ولا معرفة بشيء من الحقائق، بل ذلك مستلزم لعدم الإيمان بالله ورسوله، وذلك متضمن للكفر والنفاق والزندقة والإلحاد، وهو معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام، كما أنه في نفسه قول فاسد متناقض في صريح العقل. وهذا لازم لكل من سلك هذه الطريق، كما يجد ذلك أو اعتبره، وذلك لأنه إذا جوز أن يكون ما أخبر الله به ورسوله، وبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أمته من القرآن والحديث، وما فيه من ذكر صفات الله تعالى، وصفات ملائكته وعرشه، والجنة والنار والأنبياء وأممهم، وغير ذلك مما قصه الله في كتابه، أو أمر به من التوحيد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 والعبادات والأخلاق، ونهى عنه من الشرك والظلم والفواحش وغير ذلك، إذا جوز المجوز أن يكون في الأدلة العقلية القطعية، التي يجب اتباعها وتقديمها عليه عند التعارض، ما يناقض مدلول ذلك ومفهومه ومقتضاه، لم يمكنه أن يعرف ثبوت شيء مما أخبر به الرسول، إن لم يعلم انتفاء المعارض المذكور، وهو لا يمكنه العلم بانتفاء هذا المعارض إن لم يعلم بدليل آخر عقلي ثبوت ما أخبر به الرسول، وإلا فإذا لم يعلم بدليل عقلي ثبوته، وليس معه ما يدل على ثبوته إلا أخبار الله ورسوله- وهذا عنده مما يجوز أن يعارضه عقلي تقدم عليه- فلا طريق له إلى العلم بانتفاء المعارضات العقلية، إلا أن يحيط علماً بكل ما يخطر ببال بني آدم، مما يظن انه دليل عقلي. وهذا أمر لا ينضبط، وليس له حد، فإنه لا يزال يخطر لبني آدم من الخواطر، ويقع لهم من الآراء والاعتقادات، ما يظنونه دلائل عقلية، وهذه تتولد مع بني آدم كما يتولد الوسواس وحديث النفس، فإذا جوز أن يكون فيها ما هو قاطع عقلي معارض للنصوص مستحق للتقديم عليها، لم يمكنه الجزم بانتفاء هذا المعارض أبداً، فلا يمكنه الجزم بشيء مما أخبر به الرسول - بمجرد إخباره- أبداً، فلا يؤمن بشيء مما أخبر به الرسول، لكون الرسول أخبر به أبداً، ولا يستفيد من خبر الله ورسوله علماً ولا هدىً، بل ولا يؤمن بشيء من الغيب الذي أخبر به الرسول إذا لم يعلم ثبوته بعقله أبداً. وحقيقة هذا سلب الإيمان برسالة الرسول وعدم تصديقه. ثم إن لم يقم عنده المعارض المقدم بقي لا مصدقاً بما جاء به الرسول ولا مكذباً به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 وهذا كفر باتفاق أهل الملل، وبالاضطرار من دين الإسلام. وإن قام عنده المعارض المقدم كان مكذباً للرسول، فهذا في الكفر الذي هو جهل مركب، وذلك في الكفر الذي هو جهل بسيط. ويتناول كلاً منهما قوله تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا * وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا * وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا} [الفرقان: 27 31] . وقال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} [الأنعام: 112-113] وأمثال ذلك. ولهذا كان الأصل الفاسد مستلزماً للزندقة والإلحاد في آيات الله وأسمائه، فمن طرده أداه إلى الكفر والنفاق والإلحاد، ومن لم يطرده تناقض وفارق المعقول الصريح، وظهر ما في قوله من التناقض والفساد. ومن هذا الباب دخلت الملاحدة والقرامطة الباطنية على كل فرقة من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 الطوائف الذين وافقوهم على بعض هذا الأصل، حتى صار من استجاب لهم إلى بعضه دعوه إلى الباقي إن أمكنت الدعوة، وإلا رضوا منه بما أدخلوه فيه من الإلحاد، فإن هذا الأصل متناقض معارض لدين جميع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه. وقد رأيت كتاباً لبعض أئمة الباطنية سماه الأقاليد الملكوتية سلك فيه هذا السبيل، وصار يناظر كل فريق بنحو من هذا الدليل، فإنهم وافقوه على تأويل السمعيات، ووافقوه على نفي ما يسمى تشبيهاً بوجه من الوجوه فصار من أثبت شيئاً من الأسماء والصفات، كاسم (الموجود) و (الحي) و (العليم) و (القدير) ونحو ذلك يقول له: هذا فيه تشبيه، لأن الحي ينقسم إلى: قديم ومحدث، والموجود ينقسم: إلى قديم ومحدث، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، فيلزم التركيب وهو التجسيم ويلزم التشبيه، فإنه إذا كان هذا موجوداً وهذا موجوداً اشتبها واشتركا في مسمى الوجود، وهذا تشبيه، وإذا كان أحد الموجودين واجباً بنفسه، صار مشاركاً لغيره في مسمى الوجود ومتميزاً عنه بالوجوب، وما به الامتياز غير ما به الاشترك، فيكون الواجب بنفسه مركباً مما به الاشتراك وما به الامتياز، والمركب محدث أو ممكن لأنه مفتقر إلى جزئه، وجزؤه غيره، والمفتقر إلا غيره لا يكون واجباً بنفسه، فساق من سلم له الأصول الفاسدة إلى نفي الوجود الواجب الذي يعلم ثبوته بضرورة عقل كل عاقل، فأورد على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 نفسه أنك إذا قلت: ليس بموجود ولا حي ولا ميت كان هذا تشبيهاً بالمعدوم أيضاً، فقال: لا أقول لا هذا ولا هذا، فأورد على نفسه أنك قد قررت في المنطق أنه إذا اختلفت قضيتان بالسلب والإيجاب، لزم من صدق إحداهما كذب الأخرى، فإن صدق أنه موجود، كذب أنه ليس بموجود، وإن صدق أنه ليس بموجود، كذب أنه موجود، ولا بد لك بذلك من إحداهما، فأجاب بأني لا أقول لا هذا ولا هذا، فلا أقول: موجود ولا ليس بموجود، ولا معدوم ولا ليس بمعدوم. فهذا منتهى كلام الملاحدة، وقد حكوا مثل هذا عن الحلاج، وأشباهه من أهل الحلول والاتحاد، وأنهم لا يثبتونه ولا ينفونه، ولا يحبونه ولا يبغضونه. فيقال لهذا الضال: كما أن الجمع بين النقيضين ممتنع، فرفع النقيضين أيضاً ممتنع، فإذا امتنع أن يكون موجوداً ليس بموجود، امتنع أن لا يكون موجوداً ولا غير موجود فقد وقعت في شر مما فررت منه. وأما التشبيه فإنك فررت من تشبيه بموجود أو معدوم، فشبهته بالممتنع الذي لا حقيقة له، فإن ما ليس بموجود ولا معدوم لا حقيقة له أصلاً، وهذا شر مما يقال فيه: إنه موجود أو معدوم. وقد رام طائفة من المتأخرين، كالشهرستاني، والآمدي، والرازي- في بعض كلامه - ونحوهم، أن يجيبوا هؤلاء عن هذا بأن لفظ (الموجود) و (الحي) و (العليم) و (القدير) ونحوها من الأسماء تقال على الواجب والممكن بطريق الاشتراك اللفظي، كما يقال لفظ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 (المشتري) على الكوكب والمبتاع، وكما يقال لفظ (سهيل) على الكوكب والرجل المسى بسهيل، وكذلك لفظ (الثريا) على النجم والمرأة المسمات بالثريا، ومن هنا قال الشاعر: أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان وهؤلاء متناقضون في هذا الجواب، فإنهم وسائر العقلاء يقسمون الوجود إلى واجب وممكن، وقديم ومحدث، وأمثال ذلك، مع علمهم بأن التقسيم لا يكون في الألفاظ المشتركة، إن لم يكن المعنى مشتركاً، سواء كان متماثلاً أو متفاضلاً، ومنهم من يخص المتفاضل بتسميته مشككاً فالتقسيم لا يكون إلا في الألفاظ المتواطئة التواطؤ العام الذي يدخل فيه المشككة أو في المتواطئة التواطؤ الخاص، وفي المشككة أيضاً. فأما مثل (سهيل) فلا يقال سهيل ينقسم إلى الكوكب والرجل، إلا أن يراد أن لفظ (سهيل) يطلق على هذا وهذا. ومعلوم أن مثل هذا التقسيم لا يراد به الإخبار عن الإطلاق في اللغة، وإنما يراد به تقسيم المعنى المدلول عليه باللفظ. ولهذا كان تقسيم المعاني العامة صحيحاً، ولو عبر عن تلك المعاني بعبارات متنوعة في اللغات، فإن المقسم هو المعنى الذي لا يختلف باختلاف اللغات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 وأيضاً فلو لم تكن هذه الأسماء متواطئة، لكان لا يفهم منها عند الإطلاق الثاني معنى، حتى يعرف معناها في ذلك الإطلاق الثاني، كما في الألفاظ المشتركة، فإنه إذا أطلقه في موضع ما يدل على معناه، ثم أطلقه مرة ثانية وأراد به المعنى الآخر، فإنه لا يفهم ذلك المعنى إلا بدليل يدل عليه. ثم هم مع هذا التناقض موافقون في المعنى للملاحدة، فإنهم إذا جعلوا أسماء الله تعالى كالحي والعليم والقدير والموجود ونحو ذلك مشتركة اشتراكاً لفظياً، لم يفهم منها شيء إذا سمي بها الله، إلا أن يعرف ما هو ذلك المعنى الذي يدل عليه إذا سمي بها الله، لا سيما إذا كان المعنى المفهوم منها عند الإطلاق ليس هو المراد إذا سمي بها الله. ومعلوم أن اللفظ المفرد إذا سمي به مسمىً لم يعرف معناه حتى يتصور المعنى أولاً، ثم يعلم أن اللفظ دال عليه، فإذا كان اللفظ مشتركاً، فالمعنى الذي وضع له في حق الله لم نعرفه بوجه من الوجوه، فلا يفهم من أسماء الله الحسنى معنى أصلاً، ولا يكون فرق بين قولنا: حي وبين قولنا ميت ولا بين قولنا موجود وبين قولنا معدوم، ولا بين قولنا عليم وبين قولنا جهول، أو (ديز) أو (كجز) بل يكون بمنزلة ألفاظ أعجمية سمعناها ولا نعلم مسماها، أو ألفاظ مهملة لا تدل على معنى، كديز وكجز ونحو ذلك. ومعلوم أن الملاحدة يكفيهم هذا، فإنهم لا يمنعون إطلاق اللفظ إذا تظاهروا بالشرع، وإنما يمنعون منه أن نفهم معنى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 وسبب هذا الضلال أن لفظ (التشبيه) و (التركيب) لفظ فيه إجمال. وهؤلاء أنفسهم - هم وجماهير العقلاء - يعلمون أن ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، ونفي ذلك القدر المشترك ليس هو نفس التمثيل والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه، وإنما التشبيه الذي قام الدليل على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى، إذ هو سبحانه: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] ، ولا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. ولهذا اتفق جميع طوائف المسلمين وغيرهم على الرد على هؤلاء الملاحدة، وبيان أنه ليس كل ما اتفق شيئان في شيء من الأشياء، يجب أن يكون أحدهما مثلاً للآخر، ولا يجوز أن ينفي عن الخالق سبحانه كل ما يكون فيه موافقة لغيره في معنىً ما، فإنه يلزمه عدمه بالكلية، كما فعله هؤلاء الملاحدة، بل يلزم نفي وجوده ونفي عدمه، وهو غاية التناقض والإلحاد والكفر والجهل. وكذلك لفظ (التركيب) فإن ثبوت معاني لله تعالى ليس هو مما ينفيه الدليل، وكون تلك المعاني من لوازم ذاته، وأنه لا يكون إلا متصفاً بها، ليس هو تركيباً ينفيه عقل ولا شرع، بل مثل هذا لا بد منه، كما قد بسط ذلك في مواضع كثيرة. فهذا وأمثاله هي العقليات الفاسدة التي تطرق بها أهل الإلحاد، وكذلك ردهم للدلالة السمعية إذا عارضها عندهم ما هو عندهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 عقلي، يوجب أن لا يستدل بشيء من كلام الله ورسوله كما تقدم فلا يبقى عندهم لا عقل ولا سمع. وهذا الذي ذكرناه من أن هذا الأصل يوجب عدم الاستدلال بكلام الله ورسوله على المسائل العلمية، قد اعترف حذاقهم به، بل التزمه من التزمه من متأخري أهل الكلام كالرازي، كما التزمته الملاحدة الفلاسفة. وأما المعتزلة فلا يقولون: الأدلة السمعية لا تفيد اليقين، بل يقولون، لا يحتج بالسمع على مسائل التوحيد والعدل، لأن ذلك -بزعمهم- يتوقف العلم بصدق الرسول عليه. وكذلك متأخرو الأشعرية يجعلون القول في الصفات من الأصول العقلية. وأما الأشعري وأئمة أصحابه فيحتج عليهم عندهم بالسمع كما يحتج بالعقل. كلام الرازي في نهاية المعقول عن الأدلة السمعية ولهذا لما ذكر أبو عبد الله الرازي أصول الأدلة التي يحتج بها في أصول الدين أصحابه وغيرهم، ذكر هذا الأصل واعترض عليه، فقال في نهاية المعقول: (الفصل السابع في تزييف الطرق الضعيفة وهي أربع) فذكر نفي الشيء لانتفاء دليله، وذكر القياس، وذكر الإلزامات. ثم قال: (والرابع هو التمسك بالسمعيات، فنقول: المطالب على أقسام ثلاثة: منها ما يستحيل حصول العلم بها بواسطة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 السمع، ومنها ما يستحيل العلم بها إلا من السمع، ومنها ما يصح حصول العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى) . قال: (أما القسم الأول فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته استحال تصحيحه بالسمع، مثل العلم بوجود الصانع، وكونه مختاراً وعالماً بكل المعلومات، وصدق الرسل) . قال: (وأما القسم الثاني، وهو ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر، إذا لم يجده الإنسان من نفسه، ولا يدركه بشيء من حواسه، فإن حصول غراب على قلة جبل قاف إذا كان جائز الوجود والعدم مطلقاً، وليس هناك ما يقتضي وجوب أحد طرفيه أصلاً، وهو غائب عن النفس والحس، استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق. وأما القسم الثالث. وهو معرفة وجوب الواجبات، وإمكان الممكنات، واستحالة المستحيلات، التي لا يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بوجوبها وإمكانها واستحالتها، مثل مسألة الرؤية والصفات والوحدانية وغيرها) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 تعليق ابن تيمية قلت: ليس المقصود هنا استيفاء الكلام فيما ذكره من الأمثال، فإن فيما ذكر أنه لا يعلم إلا بالسمع ما يمكن علمه بدون السمع، إذ علم الإنسان بوجود بعض الممكنات له طرق متعددة غير إخبار الرسول، وكذلك ما ذكر أنه لا يعلم بالسمع، فيه كلام ليس هذا موضعه. ولكن المقصود ذكر قوله بعد ذلك، فإنه قال: (إذا عرفت ذلك فنقول: أما أن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول فهو ظاهر، وإلا لو وقع الدور، وأما أنه يجب استعمالها في القسم الثاني فهو ظاهر كما سلف، وأما القسم الثالث ففي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال. وذلك لأنا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي، فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي، لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 النقل وبين مقتضى الدليل العقلي، فإما أن نكذب بالعقل وإما نأول النقل، فإن كذبنا العقل، مع أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل، فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلا العقل، فحينئذ تكون صحة النقل متفرعة على ما يجوز فساده وبطلانه، فإذن لا يكون النقل مقطوع الصحة، فإذن تصحيح النقل برد العقل يتضمن القدح في النقل، وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلاً، فتعين تأويل النقل. فإذن الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوجود مدلوله، إلا بشرط أن لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره، فحينئذ لا يكون الدليل النقلي مفيداً للمطلوب، إلا إذا بينا أنه ليس في العقل ما يقتضي خلاف ظاهره، ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك الأمر إلا من وجهين: إما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي، وحينئذ يصير الاستدلال بالنقل فضلاً غير محتاج إليه، وإما بأن نزيف أدلة المنكرين لما دل عليه ظاهر النقل، وذلك ضعيف لما بينا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه أن لا يكون هناك معارض أصلاً، اللهم إلا أن نقول: إنه لا دليل على هذه المعارضات فوجب نفيه، ولكنا زيفنا هذه الطريقة، أو نقيم دلالة قاطعة على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النص، ولا المقدمة الفلانية الأخرى، وحينئذ يحتاج إلى إقامة الدلالة على أن كل واحدة من هذه المقدمات التي لا نهاية لها غير معارضة لهذا الظاهر، فثبت أنه لا يمكن حصول اليقين، بعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي، وثبت أن الدليل النقلي يتوقف إفادته اليقين على ذلك، فإذاً الدليل النقلي تتوقف إفادته على مقدمة غير يقينية، وهي عدم دليل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 عقلي، فوجب تأول ذلك النقل، وكل ما تبنى صحته على ما لا يكون يقينياً، لا يكون هو أيضاً يقينياً، فثبت أن ذلك الدليل النقلي من هذا القسم لا يكون مفيداً لليقين) . قال: (وهذا بخلاف الأدلة العقلية، فإنها مركبة من مقدمات لا يكتفى منها بأن لا يعلم فسادها، بل لا بد وأن يعلم بالبديهية صحتها، ويعلم بالبديهية لزومها مما علم صحته بالبديهية ومتى كان كذلك استحال أن يوجد ما يعارضه لاستحال التعارض في العلوم البديهية) . قال: (فإن قيل: إن الله لما أسمع المكلف الكلام الذي يشعر ظاهره بشيء فلو كان في العقل ما يدل على بطلان ذلك الشيء، وجب عليه تعالى أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل، وإلا كان ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 تلبيساً من الله تعالى، وأنه غير جائز. قلنا: هذا بناءً على قاعدة الحسن والقبح، وأنه يجب على الله شيء، ونحن لا نقول بذلك. سلمنا ذلك، فلم قلتم: إنه يجب على الله أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل العقلي، وبيانه أن الله تعالى إنما يكون ملبساً على المكلف، لو أسمعه كلاماً يمتنع عقلاً أن يريد به إلا ما أشعر به ظاهره، وليس الأمر كذلك، لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر، ثم إنه يجوز أن يكون هناك دليل على خلاف ذلك الظاهر، فبتقدير أن يكون الأمر كذلك، لم يكن مراد الله من ذلك الكلام ما أشعر به الظاهر، فعلى هذا إذا أسمع الله المكلف ذلك الكلام، فلو قطع المكلف بحمله على ظاهره، مع قيام الاحتمال الذي ذكرنا، كان ذلك التقصير واقعاً من المكلف لا من قبل الله تعالى، حيث قطع لا في موضع القطع، فثبت إنه لا يلزم من عدم إخطار الله تعالى ببال المكلف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 ذلك الدليل العقلي المعارض للدليل السمعي أن يكون ملبساً) . قال: (فخرج مما ذكرناه أن الأدلة النقلية لا يجوز التمسك بها في المسائل العلمية، ولعله يمكن أن يجاب عن هذا السؤال بما به يجاب عن تجويز ظهور المعجزات على الكاذبين، نعم يجوز التمسك بها في المسائل النقلية تارة لإفادة اليقين، كما في مسألة الإجماع وخبر الواحد، وتارة لإفادة الظن، كما في الأحكام الشرعية) . قلت فليتدبر المؤمن العاقل على هذا الكلام، مع أنه قد ينزل فيه درجة، ولم يجعل عدم إفادته اليقين إلا لتجويز المعارض العقلي، لكونه موقوفاً على مقدمات ظنية، كنقل اللغة والنحو، والتصريف وعدم المجاز، والاشتراك والنقل والإضمار، والتخصيص وعدم المعارض السمعي أيضاً مع العقلي. وبهذا دفع الآمدي وغيره الاستدلال بالأدلة السمعية في هذا الباب، ونحن قد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبينا إمكان دلالة الأدلة السمعية على اليقين، وبينا فساد ما ذكره هؤلاء الذين أسسوا قواعد الإلحاد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 والمقصود هنا أن نبين اعترافهم بما ألزمناهم به. وإذا كان كذلك فيقال: نحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اخبر أمته بما أخبرهم به من الغيب من أسماء الله وصفاته وغير ذلك، فإنه لم يرد منهم إلا يقروا بثبوت شيء مما أخبر به إلا بدليل منفصل غير خبره، فإذا كان القول مستلزماً لكون الرسول أراد أن لا يثبت شيء بمجرد خبره، وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه كذب على الرسول، علم أن هذا القول معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام. وهؤلاء الذين سماهم أهل التحقيق هم أهل التحقيق عنده، سماهم كذلك بناءً على ظنه، كما يسمي الاتحادية والحلولية أنفسهم أهل التحقيق، ويسمي كل شخص طائفته أهل الحق بناء على ظنه واعتقاده. ومثل هذا لا يكون مدحهم زيناً، ولا ذمهم شيئاً، إلا إذا كان قولاً بحق. والذي مدحه زين وذمه شين هو الله ورسوله، والذين جعلهم أهل الحق هم المذكورون في قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا} [الأنفال: 2-4] ، فوصف المؤمنين حقاً بأنهم إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا. وهؤلاء المعارضون لآياته إذا تليت عليهم آياته لم تزدهم إيماناً، بل ريباً ونفاقاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 وقال تعالى: {ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم} [محمد: 3] ، فوصف المؤمنين بأنهم اتبعوا الحق من ربهم، ومن اتبع الحق كان محقاً. والمؤمنون اتبعوا الحق من ربهم، فهم أحق الناس بالتحقيق، وإذا كان المؤمنون هم المحققين، ومن نعتهم أنهم إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، كان الموصوفون بنقيض ذلك ليسوا من المحققين عند الله وعند رسوله، بل من المحققين عند إخوانهم، كما أن اليهود والنصارى والمشركين، وكل طائفة من المحققين عند من وافقهم على أن ما يقولونه بحق. وقد وصف المؤمنين بما ذكره في قوله تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} [التوبة: 124-125] . ومن المعلوم أن من ناقض الآيات المنزلة باعتقاده وهواه لم تزده إيماناً، ولم يستبشر بنزولها، بل تزيده رجساً إلى رجسه. وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} [الحجرات: 15] فالصادق في قوله: آمنوا هو الذي لم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 يحصل له ريب فيما جاء به الرسول، ومن جوز أن يكون فيما أخبر به ما يعارضه صريح المعقول لم يزل في ريب من ثبوت ما أخبر به، ولكن غايته أن يعلم أن الرسول صادق فيما أخبر به على طريق الجملة، فإذا نظر فيما أخبر به لم يعلم ثبوت شيء مما أخبر به. ومن المعلوم أن العلم بأنه صادق، مقصوده تصديق أخباره، والمقصود بتصديق الأخبار التصديق بمضمونها، فإذا كان لم يصدق بمضمون أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، كان بمنزلة من آمن بالوسيلة، ولم يحصل له المقصود. ولو قال الحاكم: إن هؤلاء الشهود صادقون في كل ما يشهدون به، وهو لا يثبت بشهادة أحد منهم حقاً، لم يكن في تعديلهم فائدة، ومن تدبر هذا الباب علم حقيقته، والله أعلم. الوجه الثالث والثلاثون أن يقال: نحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه أوجب على الخلق تصديقه فيما أخبر به، وقطعهم بثبوت ما أخبرهم به، وأنه من لم يكن كذلك لم يكن مؤمناً به، بل إذا أقر أنه رسول الله، وأنه صادق فيما أخبر، ولم يقر بما أخبر به من أنباء الغيب-لجواز أن يكون ذلك متيقناً في نفس الأمر بدليل لم يعلمه المستمع، ولا يمكن إثبات ما أثبته الرسول بخبره إلا بعد العلم بذلك-فإن هذا ليس مؤمناً بالرسول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 وإذا كان هذا معلوم بالاضطرار، كان قول هؤلاء المعارضين لخبره بآرائهم معلوم الفساد بالضرورة من دينه. وحينئذ فإما أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله فيصدقه في كل ما أخبر به، ويعلم أنه يمتنع أن يكون ذلك منتفياً في نفس الأمر، وأنه لا دليل يدل على انتفائه، وإما أن يكون الرجل غير مصدق للرسول في شيء مما أخبر به، إلا أن يعلم ذلك بدليل منفصل غير خبر الرسول، ومن لم يقر بما أخبر به الرسول إلا بدليل منفصل لم يكن مؤمناً به، بل كان مع الرسول كالفقهاء بعضهم مع بعض: إن قام دليل على قوله وافقه، وإلا لم يوافقه. ومعلوم أن هذا حال الكفار بالرسل، لا المؤمنين بهم، ورؤوس هؤلاء الذين قال الله فيهم: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] . وهذا الذي ذكره هذا في العقل ذكره طائفة أخرى في الكشف، كما ذكره أبو حامد في كتابه الإحياء في الفرق بين ما يتأول وما لا يتأول، وذكر أنه لا يستدل بالسمع على شيء من العلم الخبري، وإنما الإنسان يعرف الحق بنور إلهي يقذف في قلبه، ثم يعرض الوارد في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 السمع عليه، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أولوه) . ومن هنا زادت طائفة أخرى على ذلك، فادعوا أنهم يعلمون -إما بالكشف وإما بالعقل - الحقائق التي أخبر بها الرسول أكمل من علمه بها، بل ادعى بعضهم أن الأنبياء والرسل يستفيدون معرفة تلك الحقائق من مشكاة أحدهم، كما ادعاه صاحب الفصوص أن الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة المسمى عنده بخاتم الأولياء، وادعى انه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الموحي به إلى الرسول. ومعلوم أن هذه الأقوال من شر أقوال الكافرين بالرسول، لا المؤمنين به. الوجه الرابع والثلاثون أن الذين يعارضون الشرع بالعقل، ويقدمون رأيهم على ما أخبر به الرسول، ويقولون: إن العقل أصل للشرع، فلو قدمناه عليه للزم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 القدح في أصل الشرع - إنما يصح منهم هذا الكلام إذا أقروا بصحة الشرع بدون المعارض، وذلك بأن يقروا بنبوة الرسول، وبأنه قال هذا الكلام، وبأنه أراد به كذا، وإلا فمع الشك في واحدة من هذه المقدمات، لا يكون معهم عن الرسول من الخبر ما يعلمون به تلك القضية المتنازع فيها بدون معارضة العقل، فكيف مع معارضة العقل، أما النبوة: فمن لم يعلم أن الرسول عالم بهذه القضية التي أخبر بها، وأنه معصوم أن يقول فيها غير الحق، لم يمكن أن يعلم حكمها بخبره، فمتى جوز أن يكون غير عالم مع خبره بها، يجوز عليه أن يخطئ فيما يخبر به عن الله واليوم الآخر أو أن يكذب، لم يستفد بخبره علماً، ومن كانت النبوة عنده مكتسبة، من جني نبي الفلاسفة، وأن خاصة النبي قوة ينال بها العلم، وقوة بتصرف بها في العلم، وقوة تجعل من المعقولات في نفسه خيالات ترى وتسمع، فتكون تلك الخيالات ملائكة الله وكلامه، كما يقول ابن سينا وأتباعه من المتفلسفة - لم يمكنه أن يجزم بأن الرسول عالم بما يقوله، معصوم أن يقول غير الحق، فكيف إذا كان يقول: إن الرسول قد يقول ما يعلم خلاف. فهؤلاء يمتنع أن يستفيدوا بخبر الرسول علماً، فكيف يتكلمون في المعارضة؟ وكذلك من لم يعلم ثبوت الأخبار لم يتكلم في حصول العلم بموجبها، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 وكذلك من قال: إن الدليل السمعي لا يعلم به مراد المتكلم، كما يقول الرازي ومتبعوه الذين يزعمون أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين بمراد المتكلم، فهؤلاء ليس عندهم دليل شرعي يفيد العلم بما أخبر به الرسول، فكيف يعارضون ذلك المعقول. وكذلك أيضا من عرف أن معقولاتهم التي يعارضون بها الشرع باطلة، امتنع أن يعارض بها دليلاً ظنياً عنده، فضلاً عن أن يعارض بها دليلا يقينياً عنده، ولهذا كان الذين صرحوا بتقديم الأدلة العقلية على الشرعية مطلقاً، كأبي حامد والرازي ومن تبعهم، ليس فيهم من يستفيد من الأنبياء علماً بما أخبروا به، إذا لم يكونوا مقرين بأن الرسول بلغ البلاغ المبين المعصوم، بل إيمانهم بالنبوة فيه ريب: إما لتجويز أن يقول خلاف ما يعلم، كما يقول ابن سينا وأمثاله، وإما لتجويز أن يكون لا عالماً بذلك، كما تقوله طائفة أخرى، وإما لأنه جائز في النبوة - لم يجزم بعد بأن النبي معصوم فيما يقوله، وأنه بلغ البلاغ المبين، فلا تجد أحداً ممن يقدم المعقول مطلقاً على خبر الرسول إلا وفي قلبه مرض في إيمانه بالرسول، فهذا محتاج أولاً إلى أن يعلم أن محمداً رسول الله الصادق المصدوق، الذي لا يقول على الله إلا الحق، وأنه بلغ البلاغ المبين، وأنه معصوم عن أن يقره الله على خطأ فيما بلغه وأخبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 به عنه، ومن ثبت هذا الإيمان في قلبه امتنع مع هذا أن يجعل ما يناقض خبر الرسول مقدماً عليه. الوجه الخامس والثلاثون أن يقال: قول هؤلاء متناقض، والقول المتناقض فاسد. وذلك أن هؤلاء يوجبون التأويل في بعض السمعيات دون البعض، وليس في المنتسبين إلى القبلة، بل ولا في غيرهم، من يمكنه تأويل جميع السمعيات. وإذا كان كذلك قيل لهم: ما الفرق بين ما جوزتم تأويله، فصرفتموه عن مفهومه الظاهر ومعناه البين وبين ما أقررتموه؟ . فهم بين أمرين: إما أن يقولوا ما يقوله جمهورهم: إن ما عارضه عقلي قاطع تأولناه، وما لم يعارضه عقلي قاطع أقررناه. فيقال لهم: فحينئذ لا يمكنكم نفي التأويل عن شيء، فإن لا يمكنكم نفي جميع المعارضات العقلية، كما تقدم بيانه. وأيضا فعدم المعارض العقلي القاطع لا يوجب الجزم بمدلول الدليل السمعي، فإنه -على قولكم-: إذا جوزتم على الشارع أن يقول قولاً لا معنى مفهوم، وهو لا يريد ذلك، لأن في العقليات الدقيقة التي لا تخطر ببال أكثر الناس، أو لا تخطر للخلق في قرون كثيرة ما يخالف ذلك- جاز أن يريد بكلامه ما يخالف مقتضاه بدون ذلك، لجواز أن يظهر في الآخرة ما يخلف ذلك، أو لكون ذلك ليس معلوماً بدليل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 عقلي ونحو ذلك، فإنه إذا جاز أن يكون تصديق الناس له فيما أخبر به موقوفاً على مثل ذلك الشرط، جاز أن يكون موقوفاً على أمثاله من الشروط، إذ الجميع يشترك في أن الوقف على مثل هذا الشرط، يوجب أن لا يستدل بشيء من أخباره على العلم بما أخبر به. وإن قالوا بتأول كل شيء إلا ما علم بالاضطرار أنه أراده، كان ذلك أبلغ فإنه ما من نص وارد إلا ويمكن الدافع له أن يقول: ما يعلم بالاضطرار أنه أراد هذا. فإن كان للمثبت أن يقول: أنا أعلم بالاضطرار أنه أراده. كان لمن أثبت ما ينازعه فيه هذا المثبت إن يقول أيضا مثل ذلك. ولا ريب أن المثبتين للعلو والصفات عندهم أن هذا معلوم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم لا يتناقضون، ومن نازعهم يتناقض، فإنه لا يمكنه أن يقول لغيره من النفاة شيئاً، إلا أمكن أهل الإثبات للعلو أن يقولوا له: فإما أن تقبل مثل هذا، وإلا كان متناقضاً لا يستقيم له قول عند واحد من الطوائف، وهذا يبين فساد قوله وهو المطلوب. وهذا الذي ذكرناه بين في كلام كل طائفة، حتى في كلام المثبتين لبعض الصفات دون البعض، فإنك إذا تأملت كلامهم لم تجد لهم قانوناً فيما يتأول وما لا يتأول، بل لازم قولهم إمكان تأويل الجميع، فلا يقرون إلا بما يعلم ثبوته بدليل منفصل عن السمع، وهم لا يجوزون مثل ذلك، ولا يمكنهم أن يقولوا مثل ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 فعلم أن قولهم باطل، وأن قولهم: لا نتأول إلا ما عارضه القطعي - قول باطل، ومع بطلان قولهم قد يصرحون بلازمه، وأنه لا يستفاد من السمعيات علم، كما ذكره الرازي وغيره، مع انهم يستفيدون منها علماً، فيتناقضون، ومن لم يتناقض منهم فعليه أن يقول: أخبار الرسول ثلاثة أقسام: ما علم ثبوته بدليل منفصل صدق به، وما علم أنه عارضه العقل القاطع كان مأولا، وما لا يعلم بدليل منفصل لا يمكن ثبوته ولا انتفاؤه، وكان مشكوكاً فيه موقوفاً. وهذه حقيقة قولهم الذي ذكرناه أولا، وهو ما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مناقض لما أوجبه الرسول من الإيمان بأخباره، وانه في الحقيقة عزل للرسول عن موجب رسالته، وجعل له كأبي حنيفة مع الشافعي، وأحمد بن حنبل مع مالك، ونحو ذلك. الوجه السادس والثلاثون أن يقال: هم إذا أعرضوا عن الأدلة الشرعية لم يبقى معهم إلا طريقان: إما طريق النظار: وهي الأدلة القياسية العقلية، وإما طريق الصوفية: وهي الطريقة العبادية الكشفية، وكل من جرب هاتين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 الطريقتين علم أن مالا يوافق الكتاب والسنة منهما فيه من التناقض والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولهذا كان من سلك إحداهما إنما يؤول به الأمر إلى الحيرة والشك، إن كان له نوع عقل وتمييز، وإن كان جاهلاً دخل في الشطح والطامات التي لا يصدق بها إلا أجهل الخلق. فغاية هؤلاء الشك، وهو عدم التصديق بالحق، وغاية هؤلاء الشطح وهو التصديق بالباطل، والأول يشبه حال اليهود، والثاني يشبه حال النصارى، فحذاق أهل الكلام والنظر يعترفون بالحيرة والشك كما هو معروف عن غير واحد منهم، كالذي كان يتكلم على المنبر فأخذ ينكر العلو على العرش، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو لم يتحول عما كان عليه: فقام إليه الشيخ أبو الفضل جعفر الهمذاني وقال: دعنا يا أستاذ من ذكر العرش واستواء الله عليه، يعني أن هذا يعلم بالسمع، وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، ما قال: عارف قط: يا الله، إلا ويجد قبل أن يتحرك لسانه في نفسه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فهل عندك من جواب على هذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 فصل: كلام الغزالي عن التأويل وتعليق ابن تيمية عليه ذكر أبو حامد في كتاب الإحياء كلاماً طويلا في علم الظاهر والباطن، قال: (وذهبت طائفة إلى التأويل فيما يتعلق بصفات الله تعالى، وتركوا ما يتعلق بالآخرة على ظواهره، ومنعوا التأويل وهم الأشعرية) - أي متأخروهم الموافقون لصاحب الإرشاد، قال: (وزاد المعتزلة عليهم حتى أولوا كونه سميعاً بصيراً، والرؤية والمعراج وإن لم يكن بالجسد، وأولوا عذاب القبر والميزان، والسراط، وجملة من أحكام الآخرة، ولكن أقروا بحشر الأجساد وبالجنة واشتمالها على المأكولات) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 قلت: تأويل الميزان، والصراط وعذاب القبر، والسمع والبصر، إنما هو قول البغداديين من المعتزلة دون البصرية. قال أبو حامد: (وبترقيهم إلى هذا الحد زاد الفلاسفة فأولوا كل ما ورد في الآخرة إلى أمور عقلية روحانية ولذات عقلية) . إلى أن قال: (وهؤلاء هم المسرفون في التأويل. وحد الاقتصاد بين هذا وهذا دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي، لا بالسماع. ثم إن انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هم عليه، ونظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فيه، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أولوه. فأما من يأخذ هذه الأمور كلها من السمع فلا يستقر له قدم) . قلت: هذا الكلام مضمونه أنه لا يستفاد من خبر الرسول صلى الله عليه وسلم شيء من الأمور العلمية، بل إنما يدرك ذلك كل إنسان بما حصل له من المشاهدة والنور والمكاشفة. وهذان أصلان للإلحاد، فإن كل ذي مكاشفة إن لم يزنها بالكتاب والسنة، وإلا دخل في الضلالات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 وأفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأفضل من كان محدثاً من هذه الأمة عمر، للحديث وللحديث الآخر: «إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه» ، ومع هذا فالصديق أفضل منه، لأن الصديق إنما يأخذ من مشكاة الرسالة لا من مكاشفته ومخاطبته، وما جاء به الرسول معصوم لا يستقر فيه الخطأ، وأما ما يقع لأهل القلوب من جنس المخاطبة والمشاهدة ففيه صواب وخطأ، وإنما يفرق بين صوابه وخطائه بنور النبوة، كما كان عمر يزن ما يرد عليه بالرسالة، فما وافق ذلك قبله، وما خالفه رده. قال بعض الشيوخ ما معناه: قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة، ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف. وقال أبو سليمان الداراني: إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين: الكتاب والسنة. وقال أبو عمرو إسماعيل بن نجيد: كل ذواق أوكل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل. وقال الجنيد بن محمد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن وبكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا. وقال سهل أيضاً: يا معشر المريدين لا تفارقوا السواد على البياض، فما فارق أحد السواد على البياض إلا تزندق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 وهذا وأمثاله كثير في كلام الشيوخ العارفين، يعلمون أنه لا تحصل لهم حقيقة التوحيد والمعرفة واليقين، إلا بمتابعة المرسلين، وقد يحصل لهم من الدلائل العقلية القياسية البرهانية، ومن المخاطبات والمكاشفات العيانية، ما يصدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم. كما قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} [فصلت: 53] . وقال تعالى: {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط} [سبأ: 6] . وقال تعالى: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} [الرعد: 19] . وتجد كثيراً من السالكين طريق العلم والنظر والاستدلال، الذين اشتبهت عليهم الأمور، وتعارضت عندهم الأدلة والأقيسة، يحسنون الظن بطريق أهل الإرادة والعبادة والمجاهدة، ظانين أنه ينكشف بها الحقائق. وكثير من السالكين طريق العبادة والإرادة والزهد والرياضة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 الذين اشتبهت عليهم الأمور، وتعارضت عندهم الأذواق والمواجيد، يحسنون الظن بطريق أهل العلم والنظر والاستدلال، ظانين أنه ينكشف به لهم الحقائق. وحقيقة الأمر أنه لا بد من الأمرين، فلا بد من العلم والقصد، ولا بد من العلم والعمل به، ومن علم بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم. والعبد عليه واجبات في هذا وهذا، فلا بد من أداء الواجبات، ولا بد أن يكون كل منهما موافقاً لما جاء به الرسول، فمن أقبل على طريقة النظر والعلم، من غير متابعة للسنة، ولا عمل بالعلم، كان ضالاً غاوياً في عمله، ومن سلك طريق الإرادة والعبادة، والزهد والرياضة من غير متابعة للسنة، ولا علم ينبني العمل عليه، كان ضالاً غاوياً، ومن كان معه علم صحيح مطابق لما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بلا عمل به كان غاوياً، ومن كان معه عمل موافق للسنة بدون العلم المأمور به كان ضالاً، فمن خرج عن موجب الكتاب والسنة من هؤلاء وهؤلاء كان ضالاً، وإذا لم يعلم بعلمه، أو عمل بغير علم، كان ذلك فساداً ثانياً، والذين لم يعتصموا بالكتاب والسنة من أهل الأحوال والعبادات والرياضات، والمجاهدات، ضلالهم أعظم من ضلال من لم يعتصم بالكتاب والسنة من أهل الأقوال والعلم، وإن كان قد يكون في هؤلاء من الغي ما ليس فيهم، فإنهم يدخلون في أنواع من الخيالات الفاسدة، والأحوال الشيطانية المناسبة لطريقهم. كما قال تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم} [الشعراء: 221-222] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 والإنسان همام حارث، فمن لم يكن همه وعمله ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كان همه وعمله مما لا يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والأحوال نتائج الأعمال، فيكون ما يحصل لهم بحسب ذلك العمل، وكثيراً ما تتخيل له أمور يظنها موجودة في الخارج ولا تكون إلا وفي نفسه، فيسمع خطاباً يكون من الشيطان أو من نفسه، يظنه من الله تعالى، حتى أن أحدهم يظن أنه يرى الله بعينه، وأنه يسمع كلامه بأذنه من خارج، كما سمعه موسى بن عمران، ومنهم من يكون ما يراه شياطين وما يسمعه كلامهم وهو يظنه من كرامات الأولياء، وهذا باب واسع بسطه موضع آخر. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 وكثيراً ما يرى الإنسان صورة اعتقاده، فيكون ما يحصل له بمكاشفته ومشاهدته هو ما اعتقده من الضلال، حتى أن النصراني يرى في كشفه التثليث الذي اعتقده، وليس أحد من الخلق معصوماً أن يقر على خطأ إلا الأنبياء، فمن أين يحصل لغير الأنبياء نور إلهي تدرك به حقائق الغيب وينكشف له أسرار هذه الأمور على ما هي عليه، بحيث يصير بنفسه مدركاً لصفات الرب وملائكته، وما أعده الله في الجنة والنار لأوليائه وأعدائه؟ . وهذا الكلام أصله من مادة المتفلسفة والقرامطة الباطنية، الذين يجعلون النبوة فيضاً من العقل الفعال على نفس النبي، ويجعلون ما يقع في نفسه من الصور هي ملائكة الله، وما يسمعه في نفسه من الأصوات هو كلام الله، ولهذا يجعلون النبوة مكتسبة، فإذا استعد الإنسان بالرياضة والتصفية فاض عليه ما فاض على نفوس الأنبياء، وعندهم هذا الكلام باطل باتفاق المسلمين واليهود والنصارى. ومع هذا فإن هؤلاء لا يقولون: إن كل أحد يمكنه أن يدرك بالرياضة ما أدركه من هو أكمل منه، فلا يتصور على هذا الأصل أن يدرك عامة الخلق ما أدركه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو فعلوا ما فعلوا، فإن كان العلم بما أخبر به لا يعلم إلا بهذا الطريق، لم يمكنه معرفته بحال. ثم من المعلوم أن هذا لو كان ممكناً، لكان السابقون الأولون أحق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 الناس بهذا، ومع هذا فما منهم من ادعى أنه أدرك بنفسه ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أن الله فضل بعض الرسل على بعض، وفضل بعض النبيين على بعض. كما قال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253] . وقال: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} [الإسراء: 55] . كما خص موسى بالتكليم، فلا يمكن عامة الأنبياء والرسل أن يسمع كلام الله كما سمعه موسى، ولا يمكن غير محمد أن يدرك بنفسه ما أراه الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج وغير ليلة المعراج. فإذا كان إدراك مثل ذلك لا يحصل للرسل والأنبياء، فكيف يحصل لغيرهم. ولكن الذي قال هذا يظن أن تكلم الله لموسى من جنس الإلهامات التي تقع لآحاد الناس، ولهذا ادعوا أن الواحد من هؤلاء قد يسمع كلام الله كما سمعه موسى بن عمران، وله في كتاب مشكاة الأنوار من الكلام المبني على أصول هؤلاء المتفلسفة ما لا يرضاه لا اليهود ولا النصارى، ومن هناك مرق صاحب (خلع النعلين) وأمثاله من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 أهل الإلحاد، كصاحب الفصوص ابن عربي الذي ادعى أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، وأن الأنبياء جميعهم إنما يستفيدون معرفة الله من مشكاة خاتم الأولياء. وتلك المعرفة عندهم هي كون الوجود واحداً، لا يتميز فيه وجود الخالق عن وجود المخلوق، وادعى أن خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، وخاتم الأولياء، وإن كان قد تكلم به أبو عبد الله الترمذي وغيره، وتكلموا فيه بكلام باطل ا، كره عليهم العلم والإسمان، فلم يصلوا به إلى هذا الحد. ولكن هذا بناه ابن العربي وأمثاله من الملاحدة على أصول الفلاسفة الصائبة، وهؤلاء أخذوا كلام الفلاسفة: أخرجوه في قالب المكاشفة والمشاهدة. والملك عند هؤلاء ما يتخيل في نفس النبي من الصورة الخيالية، وهم يقولون إن للنبي ثلاثة خصاص: إحداها أن يكون له قوة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 قدسية ينال بها العلم بلا تعلم. والثانية: أن تكون له قوة نفسانية يؤثر بها في هيولى العالم. الثالثة: أن يرى ويسمع في نفسه بطريق التخيل ما يتمثل له من الحقائق، فيجعلون ما يراه الأنبياء من الملائكة ويسمعونه منهم إنما وجوده في أنفسهم لا في الخارج. وخاتم الأولياء عندهم يأخذ المعقولات الصريحة التي لا تفتقر إلى تخيل، ومن كان هذا قوله قال: إنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي إلى خاتم الأنبياء، فإن الملك عنده الخيال الذي في نفس النبي، وهو يأخذ من المعدن، الذي يأخذ منه الخيال. هذا وأمثاله هو المكاشفة التي يرجع إليها من استغنى عن تلقي الأمور من جهة السمع، وهؤلاء هم الذين سلكوا ما أشار إليه صاحب الإحياء وأمثاله، ممن جرى في بعض الأمور على قانون الفلاسفة. وطريق هؤلاء المتفلسفة شر من طريق اليهود والنصارى، وقد بسط الكلام على طريقهم في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن هؤلاء مع إلحادهم، وإعراضهم عن الرسول وتلقي الهدى من طريقه، وعزله في المعنى، هم متناقضون، في قول مختلف، أؤفك عنه من أفك، فكل من أعرض عن الطريقة السلفية الشرعية الإلهية، فإنه لا بد أن يضل ويتناقض، ويبقى في الجهل المركب أو البسيط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 وكان المقصود أولاً بيان تناقض من أعرض عن الأدلة السمعية الشرعية في الأصول الخبرية، كالصفات والنبوات والمعاد، وأنه من سلك طريقاً يتناول به علم هذه الأمور، غير الطريقة الشرعية النبوية، فإن قوله متناقض فاسد، وليس له قانون مستقيم يعتمد عليه، فكيف بمن عارضها بطريق تناقضها، يعتمد فيه على آراء متناقضة، يحسبها براهين عقلية ومشاهدات ومخاطبات ربانية؟ وهي خيالات فاسدة، وأوهام باطلة كما قال السهيلي: أعوذ بالله من قياس فلسفي، وخيال صوفي. وأما بيان فساد ذلك من جهة الرسل والإيمان بهم فنقول: الوجه السابع والثلاثون أنا نعلم بالاضطرار من دين النبي صلى الله عليه وسلم، ودين أمته المؤمنين به، بطلان لوازم هذا القول، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، بل نعلم الاضطرار أن من دينه أن لوازم هذا القول من أعظم الكفر والإلحاد، وذلك لأن لازم هذه المقالة وحقيقتها ومضمونها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون فيما أخبر به عن الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر: لا علم ولا هدى ولا كتاب منير، فلا يستفاد منه علم بذلك، ولا هدى يعرف به الحق من الباطل، ولا يكون الرسول قد هدى الناس ولا بلغهم بلاغاً بيناً ولا أخرجهم من الظلمات إلى النور، ولا هداهم إلى صراط العزيز الحميد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 ومعلوم أن كثيراً من خطاب القرآن، بل أكثره متعلق بهذه الباب، فإن الخطاب العلمي في القرآن أشرف من الخطاب العملي قدراً وصفة. فإذا كان هذا الخطاب لا يستفيدون منه معرفةً، ولم يبين لهم الرسول مراده ومقصوده بهذا الخطاب، بل إنما يرجع أحدهم في معرفة الأمور التي ذكرها ووصفها وأخبرهم عنها إلى مجرد رأيه وذوقه، فإن وافق خبر الرسول ما عنده صدق بمفهوم ذلك ومقتضاه، وإلا أعرض عنه، كما يعرض المسلم عن الإسرائيليات المنقولة عن أهل الكتاب - كان هذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسول. وهذا يعلمه كل من علم ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كان مؤمناً أو كافراً، فإن كل من بلغته دعوة الرسول، وعرف ما كان يدعوا إليه، علم أنه لم يكن يدعو الناس إلى أن يعتقدوا فيه هذه العقيدة. فالمقصود أنه يعلم بالاضطرار أن هؤلاء مناقضون لدعوة الرسول، وأن هذا يعرفه كل من عرف حال الرسول من مؤمن وكافر، ولوازم هذا القول أنواع كثيرة من الكفر والإلحاد، كما سننبه عليه إن شاء الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 الوجه الثامن والثلاثون قال: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ما بين للناس أصول إيمانهم، ولا عرفهم علماً يهتدون به، في أعظم أمور الدين، وأجل مقاصد الدعوة النبوية، وأجل ما خلق الخلق له، وأفضل ما أدركه الخلق وحصلوه وانتهوا إليه، بل إنما بين لهم الأمور العملية، فإذا كان كذلك فمن المعلوم أن من علمهم وبين لهم أشرف القسمين، وأعظم النوعين، كان ما أتاهم به أفضل مما أتاهم به من لم يبين إلا القسم المفضول والنوع المرجوح. وحينئذ فمذهب النفاة للصفات ليس من أئمته أحد من خيار هذه الأمة وسابقيها، وإنما أئمتهم الكبار: القرامطة الباطنية من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم، ومن يوافق هؤلاء من ملاحدة الفلاسفة، وملاحدة المتصوفة القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد، كابن سينا، والفارابي، وابن عربي، وابن سبعين، وأمثال هؤلاء. ثم من امثل هؤلاء كأئمة الجهمية: مثل الجهم بن صفوان، والجعد بن درهم، وأبي الهذيل العلاف، وأبي إسحاق النظام، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 وبشر المريسي، وثمامة بن أشرس، وأمثال هؤلاء، فيكون ما أتى به هؤلاء من العلم والهدى والمعرفة، أفضل وأشرف مما أتى به موسى ابن عمران، ومحمد بن عبد الله سيد ولد آدم، وأمثالهما من الرسل صلوات الله عليهم وسلامه، لأن هؤلاء عند النفاة الجهمية لم يبينوا أفضل العلم وأشرف المعرفة، وإنما بينها أولئك على قول النفاة. ولازم هذا القول أن يكون عند النفاة الجهمية أولئك أفضل من الأنبياء والرسل في العلم بالله وبيان العلم بالله، وقد صرح أئمة هؤلاء بهذا، فابن عربي وأمثاله يقولون: إن الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، وأن هذا الخاتم يأخذ العلم من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحي به إلى الرسول. وابن سبعين يقول: إنه بين العلم الذي رمز إليه هرامس الدهور الأولية، ورامت إفادته الهداية النبوية. فعلى قوله: إن الأنبياء راموا إفادته وما أفادوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 وطائفة من المتفلسفة يقولون: إن الفيلسوف أفضل من النبي وأكمل منه، وهكذا ملاحدة الشيعة من الإسماعيلية ونحوهم، يقولون: إن أئمتهم كمحمد بن إسماعيل بن جعفر ونحوه، أفضل من موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين. ثم إن هذا كثر في طوائف من جهال البربر والأكراد، والفرس والعرب، يعتقدون في شيخهم أنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن شيوخه هؤلاء من يكون منافقاً زنديقاً. ومن قال في أئمة الإسماعيلية وأمثالهم من الشيوخ المنافقين والفاسقين: إنه أفضل من الرسل، فإن هؤلاء شر من النصارى، فإن النصارى يزعمون أن الحواريين وأمثالهم أفضل من إبراهيم الخليل وموسى وداود، وغيرهم من الأنبياء والحواريون كانوا مؤمنين، فإذا كان من قال هذا من النصارى من أجهل الناس وأكفرهم، فمن فضل ملحداً من الملاحدة على أنبياء الله ورسله، كان كفره أعظم من كفر النصارى من هذا الوجه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 بل هؤلاء قد يكونون شراً ممن يفضل من النصارى على إبراهيم وموسى وداود وسليمان وغيرهم، كبولص وأمثاله، الذين يقال: إنهم ابتدعوا للنصارى ما ابتدعوه من الضلالات وأضلوهم، وأدخلوا في دين المسيح من دين المشركين والصائبين، ومن الروم وأمثالهم، ما أفسدوا به دين المسيح صلى الله عليه وسلم، وجعلوا النصارى على الضلالات التي فارقوا بها دين المسيح، حتى قال من قال من العلماء: إن النصارى صاروا على مذهب الروم المشركين، لا أن الروم صاروا على دين النصارى، فإن أولئك غيروا شريعة دين المسيح، مستبدلين بها ما استبدلوه من شرائع المشركين، وغايتهم أنهم ركبوا ديناً من دين الفلاسفة والصائبين والمشركين ودين النصارى، كما صانع ماني لما ركب ديناً من دين المجوس ودين النصارى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 فإذا كان هؤلاء من أجهل الناس وأكفرهم، فمن جعل أئمة الملاحدة الباطنية أفضل من محمد وإبراهيم وموسى وعيسى، كان أكثر من هؤلاء. وهؤلاء الملاحدة ركبوا مذهباً من دين المجوس ودين الصابئين ودين رافضة هذه الأمة، فطافوا على أبواب المذاهب، وفازوا بأخس المطالب، فإنهم يبطنون من مناقضة الرسل وإبطال ما جاءوا به، ما لم يبطنه أتباع بولص وأمثاله من النصارى. ومن لم يصل إلى هذا الحد من ملاحدة المتكلمين والمتعبدين ونحوهم، فقد شاركهم في الأصل وهو تفضيل أئمته وشيوخه على الأنبياء، ومن لم يقر منهم بتفضيل أئمته وشيوخه على الأنبياء لزمه ذلك لزماً لا محيد عنه، كما تقدم إذا جعل العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله والمعاد لا يستفاد من خطاب الأنبياء وكلامهم، وبيانهم وطريقهم التي بينوها. وإنما يستفاد من كلام شيوخه وأئمته. الوجه التاسع والثلاثون أن يقال: إن الرسل لم يسكتوا عن الكلام في هذا الباب، ولو سكتوا عنه للزم تفضيل شيوخ النفاة وأئمتهم على الأنبياء كما تقدم، فكيف إذا تكلموا فيه بما يفهم منه الخلق نقيض الحق على قول النفاة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 فإذا كان الحق هو قول النفاة، ولم يتكلموا إلا بما يدل على نقيضه، كانوا - مع أنهم لم يهدوا الخلق ويعلموهم الحق عند النفاة، - قد لبسوا عليهم ودلسوا، بل أضلوهم وجهلوهم وأخرجوهم إلى الجهل المركب، وظلمات بعضها فوق بعض: إما من علم كانوا عليه وإما من جهل بسيط، أو حيروهم وشككوهم وجعلوهم مذبذين لا يعرفون الحق من الباطل، ولا الهدى من الضلال، إذ كانوا ما تكلموا به عارضوا به طرق العلم العقلية والكشفية. فعند هؤلاء كلام الأنبياء وخطابهم في أشرف المعارف وأعظم العلوم يمرض ولا يشفي، ويضل ولا يهدي، ويضر ولا ينفع، ويفسد ولا يصلح، ولا يزكي النفوس ويعلمها الكتاب والحكمة، بل يدسي النفوس ويوقعها في الضلال والشبهة، بل يكون كلام من يسفسط تارة ويبين أخرى، كما يوجد ف كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة، كابن الخطيب، وابن سينا، وابن عربي، وأمثالهم خيراً من كلام الله وكلام رسله، فلا يكون خير الكلام كلام الله، ولا أصدق الحديث حديثه، بل يكون بعض قرآن مسيلمة الكذاب، الذي ليس فيه كذب في نفسه، وإن كانت نسبته إلى الله كذب، ولكنه مما لا يفيد كقوله: الفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، إن ذلك من خلق ربنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 لجليل - عند هؤلاء الملاحدة خيراً من كلام الله، الذي وصف به نفسه، ووصف به ملائكته، واليوم الآخر، وخيراً من كلام رسوله، لأن قرآن مسيلمة، وإن لم تكن فيه فائدة ولا منفعة، فلا مضرة فيه، ولا فساد، بل يضحك المستمع-كما يضحك الناس- من أمثاله. وكلام الله ورسوله عند هؤلاء أضل الخلق وأفسد عقولهم، وأديانهم، وأوجب أن يعتقدوا نقيض الحق في الإيمان بالله ورسله، أو يشكوا ويرتابوا في الحق، أو يكونوا- إذا عرفوا بعقلهم- تعبوا تعباً عظيماً في صرف الكلام عن مدلوله ومقتضاه، وصرف الخلق عن اعتقاد مضمونه وفحواه، ومعاداة من يقر بذلك، وهم السواد الأعظم من أتباع الرسل. وإنما ذكرنا هذا لأن كثيراً من الجهمية النفاة يقولون: فائدة إنزال هذه النصوص المثبتة للصفات، وأمثالها من الأمور الخيرية التي يسمونها هم المشكل والمتشابه، فائدتها عندهم اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها بالأدلة المعارضة لها حتى تنال النفوس كد الاجتهاد، وحتى تنهض إلى التفكر والاستدلال بالأدلة العقلية المعارضة لها الموصلة إلى الحق، فحقيقة الأمر عندهم أن الرسل خاطبوا الخلق بما لا يبين الحق، ولا يدل على العلم، ولا يفهم منه الهدى، بل يدل على الباطل، ويفهم منه الضلال، ليكون انتفاع الخلق بخطاب الرسول اجتهادهم في رد ما أظهرته الرسل وأفهمته الخلق، وأنهم بسبب ذلك ينظرون نظراً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 يؤديهم إلى معرفة الحق، من غير أن ينصب الرسول لهم على الحق دلالة، ولا يبينه لهم بخطابه أصلاً، فمثال ذلك عندهم مثل من أرسل مع الحجاج أدلة يدلونها على طريق مكة، وأوصى الأدلاء بأن يخاطبوهم بخطاب يدلهم على غير طريق مكة، ليكون ذلك الخطاب سبباً لنظرهم واستدلالهم حتى يعرفوا طريق مكة بنظرهم، لا بأولئك الأدلاء، وحينئذ يردون ما فهم من كلام الأدلاء، ويجتهدون في نفي دلالته، وإبطال مفهومه ومقتضاه. وإذا كان لأمر كذلك، فمن المعلوم أن خلقاً كثيراً لا يتبعون إلا الأدلاء الذين يدعون انهم أعلم بالطريق منهم، وأن ولاة الأمور قد قلدوهم دلالة الحاج، أو تعريفهم الطريق، وإن درك ذلك عليهم فيتبعون الأدلاء. والطائفة التي ظنت أن الأدلاء لم يقصدوا بكلامهم الدلالة والإفهام والإرشاد إلى سبيل الرشاد، صار كل منهم يستدل بنظره واجتهاده، فاختلفوا في الطرق وتشتتوا فمنهم من سلك طرقاً أخرى غير طريق مكة، فأفضت بهم إلى أودية مهلكة، ومفاوز متلفة، وأرض متشعبة -فأهلكتهم. وطائفة أخرى شكوا وحاروا، فلا مع الأدلاء سلكوا فأدركوا المقصود، ولا لطرق المخالفين للأدلاء ركبوا وسلكوا، بل وقفوا مواقف التائهين الحائرين، حتى هلكوا أيضاً في أمكنتهم جوعاً وعطشاً، كما هلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 أرباب الطرق المتشعبة فلم يظفروا بالمطلوب، ولا نالوا المحبوب، بل هلكوا هلاك الخاسر الحائر. وآخرون اختصموا فيما بينهم فصار هؤلاء يقولون: الصواب فيما ذكره الأدلاء، ونطق به هؤلاء الخبراء، وآخرون يقولون: بل الصواب مع هؤلاء الذين يقولون: إنهم أخبر وأحذق، وكلامهم في الدلالة أبين وأصدق، وآخرون حاروا مع من الصواب، ووقفوا موقف الارتياب، فاقتتل هؤلاء وهؤلاء، وخذل الواقفون الحائرون لهؤلاء وهؤلاء، ولكن فاتت باختلاف أولئك مصالح دينهم ودنياهم، فهلك الحجيج وكثر الضجيج، وعظم النشيج، واضطربت السيوف، وعظمت الحتوف، وتزاحف الصفوف، وحصل من الفتنة والشر والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد. فهل من فعل هذا بالحجيج يكون قد هداهم السبيل، وأرشدهم إلى اتباع الدليل؟ أم يكون مفسداً عليهم دينهم ودنياهم، فاعلاً بهم ما لا يفعله إلا أشد عداهم؟ وإذا قال: إنما قصدت بذلك أن يجتهد الحجاج في أن يعرفوا الطريق بعقولهم وكشوفهم، ولا يستدلوا بكلام الأدلاء الذين أرسلتهم لتعريفهم، لينالوا بذلك أجر المجالدين، وتنبعث هممهم إلى طريق المجالدين-هل يصدقه في ذلك عاقل؟ أو يقبل عذره من عنده حاصل؟ . فهذا مثال ما يقوله النفاة في رسل الله، الذين أرسلهم الله تعالى إلى الخلق ليعلموهم ويهدوهم سبيل الله، ويدعوهم إليه كما قال تعالى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} [إبراهيم: 1] . وقال تعالى: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} [الأحزاب: 45-46] . وقال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} [الشورى: 52-53] . فجعل هؤلاء الجهاد في إفساد سبيل الله جهاداً في سبيل الله، والاجتهاد في تكذيب رسل الله اجتهاداً في تصديق رسل الله، والسعي في إطفاء نور الله سعياً في إظهار نور الله، والحرص على أن لا تصدق كلمته، ولا تقبل شهادته، أو لا تفيد دلالته، سعياً في أن تكون كلمة الله هي العليا، والمبالغة في طريق أهل الإشراك بالله والتعطيل مبالغة في طريق أهل التوحيد، السالكين سواء السبيل، فقلبوا الحقائق، وأفسدوا الطرائق، وأضلوا الخلائق. وهذه المعاني وأمثالها - وأعظم منها - يعرفها كل من فهم لوازم أقوال هؤلاء المبدلين المعطلين، وإن كان قد التبس كثير من كلامهم على من لا يعرف لا الحق ولا نقيضه، بل صار حائرا، حتى أنك تجد كثيراً ممن عنده علم وفقه، وعبادة وزهد، وحسن قصد، وقد ضرب في العلم والدين بسهم وافر، وهو لا يختار أن ينحاز عن المؤمنين بالله واليوم الآخر، فيسمع كلام الله وكلام رسوله، وأهل العلم والإيمان، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 وكلام أهل الزندقة والإلحاد، الذين سعوا في الأرض بالفساد، فيؤمن بهذا وهذا إيماناً مجملا، ويصدق الطائفتين، أو يعرض عنهما، فلا يدخل في تحقيق طريق هؤلاء ولا هؤلاء بمنزلة من سمع كلام محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وكلام مسيلمة الكاذب الكافر، ولم يفهم ما بينهما من التناقض والاختلاف، فصار يصدق هذا وهذا، ويقر كلا منهما، على ما قاله، ويسلم إليه حاله، ويقول: هذا رسول الله، وهذا رسوله. لكن هؤلاء لا يمكنهم التظاهر بين المسلمين بإظهار رسالة غير محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن يقولون ما هو بمعنى الرسالة أو أبلغ منها، فيقولون: هذا كلام رسول الله، وهذا كلام أولياء الله، بل كلام خاتم الأولياء، وهذا كلام العارفين المحققين، وكلام العقلاء وأهل البراهين، وكلام النظار المحققين، ونحن نسلم هذا وهذا، ففضلاؤهم الذين يفهمون التناقض، هم في الباطن مع أعداء الرسول، وإليهم أميل. وهم عندهم أهل التحقيق والتبيين بحقيقة الطريق. وأما من لم يفهم التناقض، فقد يكون الطائفتان عنده على السواء، وقد يكون إلى أهل مسيلمة أميل لمعنى من المعاني، وإلى أبي بكر الصديق وأمثاله أميل من وجه ثان. وربما رجح هؤلاء من وجه، وهؤلاء من وجه آخر. فهذا وأمثاله من الأمور الواقعة، بسبب هذه الواقعة، التي أصلها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 ترك الاستدلال بكلام الله ورسوله على الأمور العلمية، والمطالب الخيرية، والمعارف الإلهية. الوجه الأربعون أن يقال: كل عاقل يعلم بالضرورة أن من خاطب الناس في الطب أو الحساب أو النحو أو السياسة والأخلاق أو الهيئة أو غير ذلك من الأمور، بكلام عظم قدره وكبر أمره، وذكر انه بين لهم به وعلم، وهدى به وأفهم، ولم يكن في ذلك الكلام بيان تلك المعلومات، ولا معرفة لتلك المطلوبات، بل كانت دلالة الكلام على نقيض الحق أكمل، وهي على غير العلم أدل- كان هذا: إما مفرطا في الجهل والضلالة أو الكذب والشيطنة والنذالة، فكيف إذا كان قد تكلم في الأمر الإلهية، والحقائق الربانية، التي هي أجل المطالب العالية، وأعظم المقاصد السامية، بكلام فضله على كل كلام، ونسبه إلى خالق الأنام، وجعل من خالفه شبيهاً بالأنعام، وجعلهم من شر الجهلة الضلال الكفار الطغام، وذلك الكلام لم يدل على الحق في الأمور الإلهية، ولا أفاد علماً في مثل هذه القضية، بل دلالته ظاهرة في نقيض الحق والعلم والعرفان، مفهمة لضد التوحيد والتحقيق الذي يرجح إليه ذوو الإيقان، فهل يكون مثل هذا المتكلم إلا في غاية الجهل والضلال، أو في غاية الإفك والبهتان والإضلال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 فهذا حقيقة قول هؤلاء الملاحدة في رسل الله، الذين هم أفضل الخلق وأعلمهم بالله، وأعظمهم هدى لخلق الله، لا سيما خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم، الذي هو اعلم الخلق بالله، وأنصح الخلق لعباد الله، وأفصح الخلق في بيان هدى الله، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. ومن المعلوم أن من وصف الأمر على خلاف ما هو عليه، فإما أن يكون قد أتي من علمه أو قصده أو عجزه، فإنه قد يكون جاهلاً، بالحق، وقد لا يكون جاهلاً به، بل ليس مراده تعليم المخاطبين وهداهم وبيان الأمر لهم، كما يقصده أهل الكيد والخداع والنفاق وأمثالهم، وإما أن يكون علمه تاماً وقصده البيان، لكنه عجز عن البيان والإفصاح، لقصور عبادته، وعجزه عن كمال البيان والإيضاح. فإن الفعل يتعذر لعدم العلم، أو لعدم القدرة، أو لعدم الإرادة، فأما إذا كان الفاعل له مريداً له، وهو قادر عليه وعالم بما يريده، لزم حصول مطلوبه. ومن المعلوم أن محمداً صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته وملائكته ومعاده، وأمثال ذلك من الغيب،، وهو أحرص الخلق على تعليم الناس وهدايتهم. كما قال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 128] . ولهذا كان من شدة حرصه على هداهم يحصل له ألم عظيم إذا لم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 يهتدوا، حتى يسليه ربه ويعزيه، كقوله تعالى: {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل} [النحل: 37] . وقال تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56] . وقال تعالى: {لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3] . وقال تعالى: {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين} [الأنعام: 35] . ثم إنه سبحانه وتعالى أمره بالبلاغ المبين، فقال تعالى: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين} [النور: 54] . وقال تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} [المائدة: 92] . وقال تعالى: {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} [النحل: 35] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 ومعلوم انه كان من افصح الناس وأحسنهم بياناً، واللغة التي خاطب بها أتم اللغات وأكملها بيانا، وقد امتن الله عليهم بذلك، كما في قوله تعالى: {الر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [يوسف: 1-2] . وقال تعالى: {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [الزخرف: 3] . وقال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} [إبراهيم: 4] . وقال تعالى: {نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين} [الشعراء: 193 - 195] . وقال تعالى: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} [النحل: 103] ، وأمثال ذلك. فإذا كان المخاطب أعلم الخلق بما يخبر به عنه، ويصفه ويخبر به، وأحرص الخلق على تفهيم المخاطبين وتعريفهم، وتعليمهم وهداهم، وأقدر الخلق على البيان والتعريف لما يقصده ويريده، كان من الممتنع بالضرورة أن لا يكون كلامه مبنياً للعلم والهدى والحق، فيما خاطب به، وأخبر عنه، وبينه ووصفه، بل وجب أن يكون كلامه أحق الكلام بأن يكون دالاً على العلم والحق والهدى، وأن يكون ما ناقض كلامه من الكلام، أحق الكلام بأن يكون جهلاً وكذباً وباطلاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 وهذا قول جميع من آمن بالله ورسوله، فتبين أن قول الذين يعرضون عن طلب الهدى والعلم في كلام الله ورسوله، ويطلبونه في كلام غيره، من أصناف أهل الكلام والفلسفة والتصوف وغيرهم، هم من أجهل الناس وأضلهم بطريق العلم، فكيف بمن يعارض كلامه بكلام الذين عارضوه، وناقضوه، ويقول أن الحق الصريح والعلم والهدى إنما هو في كلام هؤلاء المناقضين، المعارضين لكلام رسول رب العالمين، دون ما أنزله الله من الكتاب والحكمة، وبعث هـ رسوله من العلم والرحمة. الوجه الحادي والأربعون أن يقال: كل من سمع القرآن من مسلم وكافر، علم بالضرورة أنه قد ضمن الهدى والفلاح لمن اتبعه، دون من خالفه، كما قال تعالى: {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} [البقرة: 1-2] . وقال تعالى: {المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين * اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 1-2] . وقال: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى * وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} [طه: 123-127] . وقال تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون} [الأنعام: 155] . وقال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} [الشورى: 52] . وقال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} [إبراهيم: [1-2] . وكذلك نعلم انه ذم من عارضه وخالفه، وجادل بما يناقضه، كقوله تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} [غافر: 4] . وقال تعالى: {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} [غافر: 56] ، وأمثال ذلك. وإذا كان كذلك، فقد علم بالاضطرار أن من جاء بالقرآن، أخبر أن من صدق بمضمون أخباره فقد علم الحق واهتدى، ومن أعرض عن ذلك كان جاهلاً ضالاً، فكيف بمن عارض ذلك وناقضه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 وحينئذ فكل من لم يقل بما أخبر به القرآن عن صفات الله واليوم الآخر، كان عند من جاء بالقرآن جاهلاً، ضالاً، فكيف بمن قال بنقيض ذلك؟. فلأول عند من جاء بالقرآن في الجهل البسيط، وهؤلاء في الجهل المركب. ولهذا ضرب الله تعالى مثلاً لهؤلاء، ومثلا لهؤلاء، فقال: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} [النور: 39] ، فهذا مثل أهل الجهل المركب. وقال تعالى: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور: 40] ، فهذا مثل أهل الجهل البسيط. ومن تمام ذلك أن يعرف أن للضلال تشابهاً في شيئين،: أحدهما الإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والثاني معارضته بما يناقضه، فمن الثاني الاعتقادات المخالفة للكتاب والسنة. فكل من أخبر بخلاف ما أخبر به الرسول عن شيء من أمر الإيمان بالله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 واليوم الآخر أن غير ذلك فقد ناقضه وعارضه، سواء اعتقد ذلك بقلبه، أو قال بلسانه. وهذا حال كل بدعة تخالف الكتاب والسنة، وهؤلاء من أهل الجهل المركب، الذين أعمالهم كسراب بقيعة. ومن لم يفهم خبر الرسول ويعرفه بقلبه، فهو من أهل الجهل البسيط، وهؤلاء من أهل الظلمات. وأصل الجهل المركب هو الجهل البسيط، فإن القلب إذا كان خالياً من معرفة الحق، واعتقاده والتصديق به، كان معرضاً لأن يعتقد نقيضه ويصدق به، لا سيما في الأمور الإلهية، التي هي غاية مطالب البرية، وهي أفضل العلوم وأعلاها، وأشرفها وأسماها، والناس الأكابر لهم إليه غاية التشوف والاشتياق، وإلى جهته تمتد الأعناق، فالمهتدون فيه أئمة الهدى، كإبراهيم الخليل وأهل بيته، وأهل الكذب فيه أئمة الضلال، كفرعون وقومه. وقال تعالى في أولئك: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين} [الأنبياء: 73] . وقال تعالى في الآخرين: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون} [القصص: 41] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 فمن لم يكن فيه على طريق أئمة الهدى، كان ثغر قلبه مفتوحاً لأئمة الضلال. ومصداق هذا أن ما وقع في هذه الأمة من البدع والضلال، كان من أسبابه تقصير من قصر في إظهار السنة والهدى، مثل ما وقع في هذا الباب، فإن الجهل المركب الذي وقع فيه أهل التكذيب والجحود في توحيد الله تعالى وصفاته، كان من أسبابه التقصير في إثبات ما جاء به الرسول عن الله، وفي معرفة معاني أسمائه وآياته، حتى أن كثيراً من المنتسبين إلى الكتاب والسنة يريدون أن طريقة السلف والأئمة إنما هو الإيمان بألفاظ النصوص، والإعراض عن تدبر معانيها وفقهها وعقلها. ومن هنا قال من قال من النفاة: (إن طريقة الخلف أعلم وأحكم، وطريقة السلف أسلم) لأنه ظن أن طريقة الخلف فيها معرفة النفي، الذي هو عنده الحق، وفيها طلب التأويل لمعاني نصوص الإثبات، فكان في هذه عندهم علم بمعقول، وتأويل لمنقول، ليس في الطريقة التي ظنها طريقة السلف، وكان فيه أيضاً رد على من يتمسك بمدلول النصوص، وهذا عنده من إحكام تلك الطريق. ومذهب السلف عنده عدم النظر في فهم النصوص، لتعارض الاحتمالات، وهذا عنده أسلم، لأنه إذا كان اللفظ يحتمل عدة معان، فتفسيره ببعضها دون بعض فيه مخاطرة، وفي الإعراض عن ذلك سلامة من هذه المخاطرة. فلو كان قد بين وتبين لهذا وأمثاله أن طريقة السلف إنما هي إثبات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 ما دلت عليه النصوص من الصفات، وفهم ما دلت عليه، وتدبره وعقله، وإبطال طريقة النفاة، وبيان مخالفتها لصريح المعقول وصحيح المنقول- علم أن طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم، وأهدى إلى الطريق الأقوام، وأنها تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر به، وفهم ذلك ومعرفته، وأن ذلك هو الذي يدل عليه صريح المعقول، ولا يناقض ذلك إلا ما هو باطل وكذب، وأن طريقة النفاة المنافية لما أخبر به الرسول طريقة باطلة شرعاً وعقلاً، وأن من جعل طريقة السلف عدم العلم بمعاني الآيات، وعدم إثبات ما تضمنته من الصفات، فقد قال غير الحق: إما عمداً وإما خطأً، كما أن من قال على الرسول: إنه لم يبعث بإثبات الصفات، بل بعث بقول النفاة، كان مفترياً عليه. وهؤلاء النفاة هم كذابون: إما عمداً وإما خطأً: على الله وعلى رسوله، وعلى سلف الأمة وأئمتها، كما أنهم كذابون: إما عمداً وإما خطأً: على عقول الناس، وعلى ما نصبه الله تعالى من الأدلة العقلية، والبراهين اليقينية. والكذب قرين الشرك، كما قرن بينهما في غير موضع، كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين} [الحج: 30-31] . وقال تعالى: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} [الأعراف: 152] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 وقال تعالى: {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون * ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون} [القصص: 74-75] . وتجد هؤلاء حائرين في مثل قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب} [آل عمران: 7] ، حيث ظنوا أن المراد بالتأويل: صرف النصوص عن مقتضاها. وطائفة تقول إن الراسخين في العلم يعلمون هذا التأويل، وهؤلاء يجوزون مثل هذه التأويلات، التي هي تأويلات الجهمية النفاة. ومنهم من يوجبها تارة، ويجوزها تارة، وقد يحرمونها على بعض الناس، أو في بعض الأحوال لعارض، حتى أن الملاحدة من المتفلسفة والمتصوفة وأمثالهم قد يحرمون التأويلات، لا لأجل الإيمان والتصديق بمضمونها، بل لعلمهم بأنه ليس لها قانون مستقيم، وفي إظهارها إفساد الخلق، فيرون الإمساك عن ذلك لمصلحة، وإن كان حقاً في نفسه. وهؤلاء قد يقولون: الرسل خاطبوا الخلق بما لا يدل على الحق، لأن مصلحة الخلق لا تتم إلا بذلك، بل لا تتم إلا بأن تخيلوا لهم في أنفسهم ما ليس موجوداً في الخارج لنوع من المصلحة، كما يخيل للنائم والصبي والقليل العقل ما لا وجود له، لنوع من المناسبة، لما له في ذلك من المصلحة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 وطائفة يقولون: هذا التأويل لا يعلمه إلا الله. ثم من هؤلاء من يقول: تجرى على ظواهرها، ويتكلم في إبطال التأويلات بكل طريق. ومن المعلوم أنه إذا كان لها تأويل يخالف ظاهرها، لم يحمل على ظاهره، وما حمل على ظاهره لم يكن له تأويل يخالف ذلك، فضلاً عن أن يقال: يعلمه الله أو غيره. بل مثل هذا التأويل يقال فيه: كما قال تعال: {قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} [يونس: 18] ، فإن كان منتفيا لا وجود له، لا يعلمه الله إلا منتفياً لا وجود له، لا يعلمه ثابتاً موجوداً. وسبب هذا الاضطراب أن لفظ (التأويل) في عرف هؤلاء المتنازعين، ليس معناه معنى التأويل في التنزيل، بل ولا في عرف المتقدمين من مفسري القرآن فإن أولئك كان لفظ (التأويل) عندهم بمعنى التفسير، ومثل هذا التأويل يعلمه من يعلم تفسير القرآن. ولهذا لما كان مجاهد إمام أهل التفسير، وكان قد سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفسير القرآن كله، وفسره له، كان يقول: إن الراسخين في العلم يعلمون التأويل، أي التفسير المذكور. وهذا هو الذي قصده ابن قتيبة وأمثاله، ممن يقولون: إن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 الراسخين في العلم يعلمون التأويل، ومرادهم به التفسير، وهم يثبتون الصفات، لا يقولون بتأويل الجهمية النفاة، التي هي صرف النصوص عن مقتضاها ومدلولها ومعناها. وأما لفظ (التأويل) في التنزيل فمعناه: الحقيقة التي يؤول إليها الخطاب، وهي نفس الحقائق التي أخبر الله عنها، فتأويل ما أخبر به عن اليوم الآخر هو نفس ما يكون في اليوم الآخر، وتأويل ما أخبر به عن نفسه هو نفسه المقدسة الموصوفة بصفاته العلية. وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله، ولهذا كان السلف يقولون: الاستواء معلوم والكيف مجهول، فيثبتون العلم بالاستواء وهو التأويل الذي بمعنى التفسير، وهو معرفة المراد بالكلام حتى يتدبر ويعقل ويفقه، ويقولون: الكيف مجهول، وهو التأويل الذي انفرد الله بعلمه، وهو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو. وأما التأويل بمعنى: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، كتأويل من تأول: استوى، بمعنى استولى، ونحوه، فهذا عند السلف والأئمة- باطل لا حقيقة له، بل هو من باب تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 فلا يقال في مثل هذا التأويل: لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم، بل يقال فيه: {قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} [يونس: 18] ، كتأويلات الجهمية والقرامطة الباطنية، كتأويل من تأول الصلوات الخمس: بمعرفة أسرارهم، والصيام، بكتمان أسرارهم، والحج: بزيارة شيوخهم، والإمام المبين: بعلي بن أبي طالب، وأئمة الكفر: بطلحة والزبير، والشجرة الملعونة في القرآن: ببني أمية، واللؤلؤ والمرجان: بالحسن والحسين، والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين: بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، والبقرة: بعائشة، وفرعون: بالقلب، والنجم والقمر والشمس: بالنفس والعقل، ونحو ذلك. فهذه التأويلات من باب التحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في آيات الله، وهي من باب الكذب على الله وعلى رسوله وكتابه، ومثل هذه لا تجعل حقاً حتى يقال إن الله استأثر بعلمها، بل هي باطل، مثل شهادة الزور، وكفر الكفار يعلم الله أنها باطل، والله يعلم عباده بطلانها بالأسباب التي بها يعرف عباده: من نصب الأدلة وغيرها. وأصل وقوع أهل الضلال في مثل هذا التحريف، الإعراض عن فهم كتاب الله تعالى، كما فهمه الصحابة والتابعون، ومعارضة ما دل عليه بما يناقضه، وهذا هو من أعظم المحادة لله ولرسول، لكن على وجه النفاق والخداع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 وهو حال الباطنية وأشباههم، ممن يتظاهر بالإسلام واتباع القرآن والرسالة، بل بموالاة أولياء الله تعالى من أهل بيت النبوة وغيرهم من الصالحين، وهو في الباطن من أعظم الناس مناقضة للرسول فيما أخبر به وما أمر به، لكنه يتكلم بألفاظ القرآن والحديث، ويضم إلى ذلك من المكذوبات ما لا يحصيه إلا الله، ثم يتأول ذلك من التأويلات بما يناسب ما أبطنه من الأمور المناقضة لخبر الله ورسوله، وأمر الله ورسوله، ويظهر تلك التأويلات لمستجيبيه بحسب ما يراه من قبولهم وموافقتهم له. مثل أن يروا أن العالم كله مفعول ومصنوع لشيء يسميه العقل الأول، فجعله هو رب الكائنات، ومبدع الأرض والسموات، ولكنه لازم للواجب بنفسه، ومعلول له، وأنه يلزمه عقل ونفس وفلك، ثم يلزم ذلك العقل عقل ونفس وفلك، حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر، الذي أبدع بزعمه جميع ما تحت السماء من العناصر والحيوان والمعادن وغير ذلك، وهو الذي يفيض عنه العلم والنبوة والرسالة وغير ذلك في أنفس العباد، وعنه صدر القرآن والتوراة وغير ذلك. ثم يريد أن يوفق بين هذا وبين ما أخبرت به الرسل فيقول: هذه العقول هي الملائكة التي أخبرت بها الأنبياء، وقد يقول عن هذا العقل الفعال: إنه جبريل، الذي ما هو على الغيب بضنين أي ببخيل، لأنه دائم الفيض بزعمه، لكن يحصل الفيض بحسب استعداد القوابل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 ومن المعلوم بالاضطرار لكل من تدبر ما أخبرت به الرسل من صفات الملائكة أن هذه العقول التي وصفها هؤلاء الفلاسفة الصابئة المشركون، ليست هي الملائكة فإنا نعلم بالاضطرار أنهم لم يجعلوا ملكاً واحداً أبدع جميع ما سوى الله تعالى، ولا ملكا أبدع جميع ما تحت السماء، ولا جعلوا الملائكة أرباباً ولا آلهة. بل قد قال تعالى: {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} [آل عمران: 80] . وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} [الأنبياء: 26] ، إلى: {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم} [الأنبياء: 29] ، ونحو ذلك من الآيات. فغاية الملك أن يكون شافعاً عند الله، ولا يشفع إلا من بعد إذنه. ومن المعلوم أن كفر هؤلاء أعظم من كفر النصارى، فإن النصارى يقرون بإله خلق جميع المخلوقات، لا يجعلون له معلولا خلق المخلوقات، لكن يقولون: إنه اتحد بالمسيح. وأما هؤلاء فيثبتون عقولاً لا حقيقة لها، ثم يقولون إن كلاً منها أبدع الآخر وسائر العالم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 وتسميتهم للعقول بالملائكة باطل، ثم يستدل من يجمع بين كلامهم، وكلام الأنبياء، بحديث موضوع، نبه على وضعه أبو حاتم البستي، والعقيلي، والدارقطني، والخطيب، وابن الجوزي. وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: «أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أكرم علي منك، فبك آخذ وبك أعطي، وبك الثواب وعليك العقاب» . ومع هذا فهو لفظه: لما خلق الله العقل، فهذا اللفظ يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه، لا يقتضي أنه أول المخلوقات، بل هذا اللفظ يقتضي أنه خلق قبله غيره، فإنه قال له: «ما خلقت خلقاً أكرم علي منك» . وإيضا فإنه وصف بالإقبال والإدبار، والعقل عندهم لا يقبل ولا يدبر. وإيضا فإنه قال: بك آخذ وبك أعطي، وبك الثواب وعليك العقاب، وهؤلاء عندهم جميع الموجودات صادرة عنه: من العقول، والأفلاك، والأرض، والحيوان، والنبات، ونحو ذلك. والأعراض من العلوم والإرادات، فقول القائل: بك آخذ وبك أعطي ... إلى آخره، يقتضي أن به هذه الأعراض الأربعة، وعندهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 جميع الكائنات هو مبدعها، وهو ربهم الأعلى، فمرتبته عندهم أجل مما وصف في هذا الحديث. فهؤلاء يتمسكون من السمعيات بمثل هذا الحديث المكذوب، وهو لا يدل إلا على نقيض المطلوب: لا إسناد ولا متن، ثم يفسرون هذه الأحاديث مقلوباً، ويعبرون بتلك الألفاظ عن معان غير ما عناه الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعبرون بلفظ (الملك) و (الملكوت) و (الجبروت) عن: الجسم والنفس والعقل. ولفظ الملك والملكوت والجبروت في كلام الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الاله عليه وسلم لا يراد به ذلك. وكذلك يعبرون بلفظ (الملائكة، والشياطين) عن: قوى النفس المحمودة والمذمومة. وبالضرورة من الدين أن الرسل أرادوا بالملائكة والشياطين أعياناً قائمة بأنفسها متميزين لا مجرد أعراض قائمة بنفس الإنسان، كالقوة الجاذبة والماسكة والدافعة والهاضمة، وقوة الشهوة والغضب، وإن كان قد يسمى بعض الإعراض باسم صاحبه. الوجه الثاني والأربعون أن يقال إن هؤلاء متناقضون تناقضاً بيناً، فإنهم جعلوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 المعلومات ثلاثة أقسام: ما لا يعلم إلا بالعقل، وما لا يعلم إلا بالسمع، وما يعلم بكل منهما. وجعلوا من المعلومات التي لا تعلم إلا بالسمع الإخبار عما يمكن وجوده وعدمه. ومعلوم أن ما ذكروه ينفي أن يكون الدليل السمعي حجة في هذا القسم أيضا، وذلك لأن الشيء الذي يمكن وجوده وعدمه، إذ دل الدليل السمعي على أحد طرفيه، وجوزنا أن لا يكون مدلول الدليل السمعي ثابتاً، أمكن هنا أيضا أن لا يكون ذلك المدلول المخبر به ثابتاً في نفس الأمر، وأن يكون الشارع لم يرد ما دل عليه قوله، ولا يحتاج ذلك إلى تجويز قيام دليل عقلي يعارض ذلك، فإن المعارض الدال على أن مدلول الدليل السمعي غير ثابت، أو أن الشارع لم يرد بكلامه ما دل عليه إذا قدر عدمه، لم يلزم انتفاء مدلوله، فإن الدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدم الدليل العقلي النافي لموجب الدليل السمعي عدم مدلوله، إذا جوزنا أن يكون مدلوله ثابتاً في نفس الأمر فإن كما لا يلزم من عدم علمنا عدم الدليل، لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه. وحينئذ فلا يستدل بالسمع على ما لا مجال للعقل فيه من الأمور الأخروية، وهذا نهاية الإلحاد. فإن اعتذروا من ذلك بأن الشارع لا يجوز أن يريد بكلامه ما يخالف ظاهره، إلا أن يكون في العقل ما يدل على ذلك. قيل: جوابكم عن هذا كجوابكم للمعتزلة لما قالوا: لا يجوز أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 يسمعه الخطاب الذي أراد به خلاف ظاهره، إلا إذا أخطر بباله العقلي المعارض. فلما قلتم له: هذا مبني على قاعدة الحسن والقبح، وأيضاً فالتفريط من المكلف، كما تقدم إيراده. فيقال لكم هنا كذلك: هذا مبني على قاعدة الحسن والقبح، وأيضا فالتفريط من المكلف، لأنه لما اعتقد في الأدلة السمعية أنها تفيد اليقين، وهي لا تفيد اليقين، كان مفرطا، فكان جزمه بمدلول خبر الشارع مطلقاً تفريط منه، مع تجويزه أن يريد بخطابه خلاف ظاهره. فإن سلكوا طريقة أخرى: وهو أنه لا يحتج بالسمع على شيء من المسائل العلمية، وقالوا: المعاد ونحوه معلوم بالضرورة من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، كما علم وجوب الصلاة، وأجابوا به ابن سينا، وكان هذا أيضاً جواباً لأهل الإثبات، فإن إثبات الأسماء والصفات، والأفعال معلوم بالضرورة، بل وإثبات لعلو أيضاً. ومنشأ الضلال قوله: (لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما دل عليه الدليل السمعي) وإثبات هذا التقدير هو الذي أوقعكم في هذه المحاذير، فكان ينبغي لكم أن تعلموا أن هذا التقدير يجب نفيه قطعاً، وأنه يمتنع أن يقوم دليل قاطع عقلي مخالف للدليل السمعي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 ثم هؤلاء يحكمون إجماعات يجعلونها من أصول علمهم، ولا يمكنهم نقلها عن واحد من أئمة الإسلام، وإنما ذلك بحسب ما يقوم في أنفسهم من الظن، فيحكون ذلك عن الأئمة: كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في المحافل. فإذا قيل لأحدهم في الخلوة: أنت حكيت أن هذا قول هؤلاء الأئمة: فمن نقل ذلك عنهم؟ قال هذا: العقلاء. والأئمة لا يخالفون العقلاء، فيحكون أقوال السلف والأئمة، لاعتقادهم أن العقل دل على ذلك. ومن المعلوم أنه لو كان العقل يدل على ذلك باتفاق العقلاء، لم يجز أن يحكى عن الإنسان قول لم ينقله عنه أحد، ولهذا كان أهل الحديث يتحرون الصدق، حتى أن كثيراً من الكلام، الذي هو في نفسه صدق وحق موافق للكتاب والسنة، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيضعفونه أو يقولون: هو كذب عليه، لكونه لم يقله، أو لم يثبت عنه، وإن كان معناه حقاً. ولكن أهل البدع أصل كلامهم الكذب: إما عمداً وإما بطريق الابتداع، ولهذا يقرن الله بين الكذب والشرك في غير موضع من كتابه، كقوله تعالى: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} [الأعراف: 152] ، وقوله تعالى: {واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به} [الحج: 30-31] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عدلت شهادة الزور والإشراك، مرتين أو ثلاثاً» . وقال تعالى: {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون * ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون} [القصص: 74-75] . وهذا كحكاية الرازي. وإجماع المعتبرين على إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يمكن أحد أن ينقل عن نبي من أنبياء الله تعالى، ولا من الصحابة، ولا التابعين، ولا سلف الأمة، ولا أعيان أئمتها وشيوخها، إلا ما يناقض هذا القول، ولا يمكنه أن يحكي هذا عمن له في الأمة لسان صدق أصلاً. وكما تقول طائفة - كأبي المعالي وغيره: اتفق المسلمون على أن الاجسام تتناهى في تجزئها وانقسامها حتى تصير أفراداً، فكل جزء لا يتجزأ، وليس له طرف واحد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 ومعلوم أن هذا القول لم يقله إلا طائفة من أهل الكلام، لم يقله أحد من السلف والأئمة، وأكثر طوائف أهل الكلام من الهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية على خلاف ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 الوجه الثالث والأربعون أن يقال: المعارضون للكتاب والسنة بآرائهم لا يمكنهم أن يقولوا: إن كل واحد من الدليلين المتعارضين هو يقيني، وقد تناقضا على وجه لا يمكن الجمع بينهما، فإن هذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقوله، ولكن نهاية ما يقولونه: إن الأدلة الشرعية لا تفيد اليقين، وإن ما ناقضها من الأدلة السمعية الشرعية ويثبتونه لما ناقضها من أدلتهم المبتدعة، التي يدعون أنها براهين قطعية. ولهذا كان لازم قولهم والإلحاد والنفاق، والإعراض عما جاء به الرسول، والإقبال على ما يناقض ذلك، كالذين ذكرهم الله تعالى في كتابه من مجادلي الرسل كما قال: {وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب} [غافر: 5] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 وقوله تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد} [غافر: 4] . وقوله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} [الأنعام: 112-113] . ، وأمثال ذلك، وهذا باب واسع في كتاب الله. ومقصودنا تنبيه المؤمنين على حال مثل هؤلاء الكفار في كتاب الله، وإلا فالمقصود هنا دفعهم عن الرسل. ومن جاهد الكفار والمنافقين لم يحتج عليهم بأقوال من كذبوه من المرسلين، ولكن المؤمن بالرسل يستفيد بهذا: أن جنس هؤلاء هم المكذبون للرسل. وأما طريق الرد عليهم فلنا فيه مسالك: الأول: أن نبين فساد ما ادعوه معارضاً للرسول صلى الله عليه وسلم من عقلياتهم. الثاني: أن نبين أن ما جاء به الرسول معلوم بالضرورة من دينه، أو معلوم بالأدلة اليقينية وحينئذ فلا يمكن مع تصديق الرسول أن نخالف ذلك، وهذا ينتفع به كل من آمن بالرسول. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 الثالث: أن نبين أن المعقول الصريح يوافق ما جاءت به الرسل لا يناقضه، إما بأن ذلك معلوم بضرورة العقل، وإما بأنه معلوم بنظره، وهذا أقطع لحجة المنازع مطلقاً، سواء كان في ريب من الإيمان بالرسول، وبأنه أخبر بذلك، أو لم يكن كذلك، فإن هؤلاء المعارضين منهم خلق كثير في قلوبهم ريب في نفس الإيمان بالرسالة، وفيهم من في قلبه ريب في كون الرسول أخبر بهذا. وهؤلاء الذين تكلمنا على قانونهم والذين قدموا فيه عقلياتهم على كلام الله ورسوله، عادتهم يذكرون ذلك في مسائل العلو لله ونحوها، فإن النصوص التي في الكتاب والسنة بإثبات علو الله على خلقه كثيرة منتشرة، قد بهرتهم بكثرتها وقوتها، ولي سمعهم في نفي ذلك لا آية من كتاب الله، ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قول أحد من سلف الأمة، إلا أن يرووا في ذلك ما يعلم أنه كذب، كحديث عوسجة وأمثاله، وإما أن يحتجوا بما يعلم أنه لا دلالة له على مطلوبهم، كاستدلالهم بأنه أحد، والأحد لا يكون فوق العرش، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 لأنه لو كان فوق العرش. لم يكن أحداً بناءً على أن ما فوق العرش يكون جسماً، والجسم منقسم فلا يكون أحداً والأجسام متماثلة، فيكون له كفو ونظير. وقد بين فساد مثل هذه الأدلة السمعية بوجوه كثيرة في غير هذا الموضع، وبينا أن اسم الواحد والأحد لا يقع في لغة العرب إلا على نقيض مطلوبهم، كقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] . وقوله: {ذرني ومن خلقت وحيدا} [المدثر: 11] ، وقوله: {وإن كانت واحدة فلها النصف} [النساء: 11] ، وقوله: {يود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب} [البقرة: 266] ، وقوله: {فابعثوا أحدكم بورقكم} [الكهف: 19] ، وقوله: {ولا يشعرن بكم أحدا} [الكهف: 19] ، وقوله: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت} [البقرة: 185] ، وقوله: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} [المائدة: 106] ، وقوله: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} [البقرة: 96] ، وقوله: {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4] ، وقوله: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 {قل إني لن يجيرني من الله أحد} [الجن: 22] ، وقوله: {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: 110] ، وأمثال ذلك كثير وأن لفظ المثل والمساوي منتفيان في لغة العرب عما ادعوا هم تماثلهما وتساويهما. كقوله تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد: 38] ، فقد نفى التماثل عن صنفين من بنى آدم، فنفي التماثل عن الحيوان والإنسان والفلك، والتراب أولى. فعلم أنه ليست في لغة العرب أن يكون كل ما كان متحيزاً مماثلاً لكل ما هو متحيز، وإن ادعى بعض المتكلمين تماثل ذلك عقلاً، فالمقصود أن هذا ليس مثلاً في اللغة. والقرآن نزل بلغة العرب، فلا يجوز حمله على اصطلاح حادث ليس من لغتهم، لو كان معناه صحيحاً، فكيف إذا كان باطلاً في العقل. وقوله تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير} [فاطر: 19] ، {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} [فاطر: 22] ، وقوله: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} [الحشر: 20] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 وعقلاؤهم يعلمون فساد ما يستدلون به من الأدلة الشرعية. وكلهم يعترف بأن مثل هذه الأدلة لا تعارض ما في القرآن من إثبات العلو والفوقية ونحو ذلك. ولهذا لم يكن معهم على نفي ذلك أصل يعتصمون منه من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما يتمسكون بما يظنونه من العقليات، فيحتاجون إلى بيان تقديم ذلك على الأدلة الشرعية. وإذا كان كذلك، فنحن نبين أن الأدلة العقلية موافقة للأدلة النقلية، لا معارضة لها، ونذكر ما ذكروه هم في ذلك ليكون أبلغ في الحجة. كلام الرازي عن الجهة والمكان قالوا: وهذا لباب ما ذكره الرازي في (الأربعين) قال: (إنه تعالى ليس من جهة ولا مكان) قال: (وادعى كثير من المخالفين العلم البديهي بأن موجودين لا بد من كون أحدهما سارياً في الآخر كالعرض والجوهر. أو مبايناً عنه في الجهة كالجوهرين) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 قال: وهذا باطل لوجوه. أحدهما: لو كان بديهياً لامتنع إطباق الجمع العظيم على إنكاره، وهم ما سوى الحنابلة والكرامية. الثاني: أن مسمى الإنسان مشترك بين الأشخاص ذوات الأحياز المختلفة والمقادير المختلفة، فهو من حيث هو ممتنع أن يكون له قدر معين وحيز معين، وإلا لم يكن مشتركاً فيه بين كل الأشخاص. فإن قلت: فالإنسان من حيث هو إنسان لا وجود له إلا في العقل، والكلام في الموجودات الخارجية. قلت: الغرض: منه أنه لا يمتنع تعقل أمر لا يثبت العقل له جهة ولا قدراً، وهذا يمنع كون تلك المقدمة بديهية. الثالث: أن الخيال والوهم لا يمكننا أن نستحضر لنفسيهما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 صورة ولا شكلاً، ولا للقوة الباصرة وغيرها من القوى. الرابع: أن العقل يتصور النفي والإثبات، ثم يحكم بتناقضهما، مع أنه لا يحكم بكون أحدهما سارياً على الآخر، أو مبايناً عنه في الجهة أو لا سارياً ولا مبايناً. ثم أنا نجد العقل يتوقف عن القسم الثالث إلا لبرهان يثبته أو ينفيه، وأن العقل يدرك ماهيات مراتب الأعداد مع أنه لا يمكنه أن يحكم على أحد منها بأن موضوعها كذا ومقدارها كذا. إذا عرفت ذلك فنقول: المعني من اختصاص الشيء بالجهة والمكان: أنه يمكن الإشارة الحسية إليه بأنه هنا أو هناك. والعالم مختص بالجهة والمكان بهذا المعنى، فإن الباري كذلك كان مماساً للعالم أو محاذياً له قطعاً. ثم قالت الكرامية: إنه تعالى مختص بجهة فوق، مماساً للعرش، أو مبايناً عنه ببعد متناه، وهو قول اكثر طوائفهم، وإما مبايناً عنه ببعد غير متناه، وهو قول الهيصمية، وهذا لا يعقل مع إثبات الجهة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 لأنه إذا كان في جانب والعالم في جانب، كان البعد بينهما محصوراً. فهذا ما ذكروه. تعليق ابن تيمية فيقال: قد ذكرتم عمن ذكرتموه من منازعيكم أنهم ادعوا العلم البديهي ببطلان قولكم وصحة نقيضه، حيث جوزتم وجود موجود لا يشار إليه بأنه هنا أو هناك، وأنه يجوز وجود موجودين ليس أحدهما سارياً في الآخر ولا مبايناً عنه بالجهة. فقال هؤلاء المنازعون: نحن نعلم بالبديهة بطلان هذا، فاحتجتم إلى مقامين. أحدهما: أن تبينوا أن بطلان هذا ليس معلوماً بالبديهة، وإلا فإذا كان بطلان القول معلوماً بالبديهة، لم يمكن إقامة الدليل على صحته، لأن النظريات لا تعارض الضروريات، بل ما عارضها كان من باب السفسطة. والمقام الثاني: بيان ثبوت ذلك، فإنه لا يلزم من عدم العلم بامتناعه أو العلم بإمكانه ثبوت ذلك في الخارج. وإذا ثبت هذان المقامان لكم، فإما أن يمكن مع ذلك القول بمقتضى النصوص من أن الله فوق العرش أو لا يمكن، فإن أمكن ذلك لم يكن بين ما ذكرتموه من المعقولات وبين النصوص الإلهية تعارض، وإن لم يمكن ذلك ثبت التعارض بينهما، فقد تبين أن ثبوت التعارض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 مبني على هذه المقدمات الثلاث، فإن لم تثبت الثلاث بطل كلامكم، فكيف إذا تبين بطلان واحدة منها، فكيف إذا تبين بطلانها كلها. وبيان ذلك في كل مقام. المقام الأول أما المقام الأول: فإن المثبتين قالوا: إنهم يعلمون بالبديهة امتناع وجود موجودين لا يكون أحدهما سارياً في الآخر ولا مبايناً له بالجهة، وانه لا يمكن وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن الإشارة إليه، بل قد يقولون: إن علمتم بأن الله فوق العالم علم ضروري فطري، وأن الخلق كلهم إذا حزبهم شدة أو حاجة في أمر وجهوا قلوبهم إلى الله يدعونه ويسألونه، وأن هذا أمر متفق عليه بين الأمم التي لم تغير فطرتها، لم يحصل بينهم بتواطئ واتفاق. ولهذا يوجد هذا في فطرة الأعراب والعجائز والصبيان، من المسلمين واليهود والنصارى والمشركين، ومن لم يقرأ كتاباً ولم يتلق مثل هذا عن معلم ولا أستاذ. وهذا القدر ما زال يذكره المصنفون في هذا الباب، من أهل الكلام والحديث وغيرهم. قالوا: وإذا كان مما يجيز هؤلاء الذين لم يتواطئوا بثبوته عندهم كانوا صادقين، فإنه يمتنع على الجمع الكثير الكذب من غير تواطئ وبمثل هذا علم ثبوت ما يخبر به أهل التواتر مما يعلم بالحس والضرورة، فإن المخبر إذا لم يكن خبره مطابقاً فإما أن يكون متعمداً للكذب، وإما أن يكون مخطئاً، وتعمد الكذب يمتنع في العادة على الجمع الكثير من غير تواطئ والخطأ على الجمع الكثير ممتنع في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 الأمور الحسية والضرورية. قالوا: وهذا بخلاف إثبات موجودين ليس أحدهما داخلاً في الآخر، ولا خارجاً عنه، فإن هذا لا تقوله إلا طائفة يذكرون أنهم علموا ذلك بالنظر لا بالضرورة، وقد تلقاه بعضهم عن بعض، فهو قول تواطئوا عليه، ولهذا لا يقول ذلك من لم ينظر في كلام النفاة. وإما الإقرار بعلو الله تعالى: ورفع الأيدي إليه، فهو مما اتفقت عليه الأمم، الذين يقولون ذلك ويفعلونه، من غير اتفاق ولا مواطأة. وحينئذ فالجمع الكثير: إما أن يجوز عليهم الاتفاق على مخالفة البديهيات، وإما أن لا يجوز، فإن لم يجز ذلك عليهم، ثبت أن هذه المقدمة بديهة، لأنه اتفق عليها أمم كثيرة بدون التواطؤ، وإن جاز ذلك عليهم بطل احتجاجهم على أن هذه المقدمة ليست بديهية، فإن الجمع الكثير أنكروها، وإذا بطلت حجتهم على أنها ليست بديهية، بقي أحد المتناظرين يقول: إن مقدمته معلومه له بالبديهة، والآخر لا يمكنه إبطال قوله، فلا تكون له حجة عقلية على بطلان قوله، وهو المطلوب. فكيف والنفاة لا يدعون بديهيات فطرية ولا سمعيات شرعية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 وإنما يدعون نظريات عقلية. والمثبتون يقولون: معنا نظريات عقلية مع البديهيات الفطرية ومع السمعيات اليقينية الشرعية النبوية. وأيضاً فيقال: إذا قال المنازعون المثبتون: إن قولنا معلوم بالبديهة، لم يمكن أن يناظر بقضية نظرية، لأنه لا يمكن القدح بالنظريات في الضروريات، كما لا يقبل قدح السوفسطائي بنظره فيما يقول الناس إنه معلوم بالبديهة، ولا يقبل مجرد قوله على منازعه، بل المرجع في القضايا الفطرية الضرورية إلى أهل الفطر السليمة، التي لم تتغير فطرتهم بالاعتقادات الموروثة والأهواء. ومن المعلوم أن هذه المقدمة مستقرة في فطر جميع الناس، الذين لم يحصل لهم ما يغير فطرتهم من ظن أو هوى. والنفاة لا ينازعون في أن هذا ثابت الفطرة، لكن يزعمون أن هذا من حكم الوهم والخيال، وأن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات لا في العقليات. قالوا: ويتبين خطأ الوهم والخيال في ذلك بأن يسلم للعقل مقدمات تستلزم نقيض حكمه، مثل أن يسلم للعقل مقدمات تستلزم ثبوت موجود ليس بجسم ولا في جهة فيعلم حينئذ أن حكمه الأول باطل. والمثبتون يقولون: هذا كلام باطل لوجوه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 أحدها: أنه إذا جاز أن يكون في الفطرة حكمان بديهيان، أحدهما مقبول والآخر مردود، كان هذا قدحاً في مبادئ العلوم كلها، وحينئذ لا يوثق بحكم البديهية. الثاني: أنه إذا جوز ذلك، فالتمييز بين النوعين: إما أن يكون بقضايا بديهية، أو نظرية مبنية على البديهية، وكلاهما باطل، فإنا إذا جوزنا أن يكون في البديهيات ما هو باطل، لم يمكن العلم بأن تلك البديهية المميزة بين ما هو صحيح من البديهيات الأولى، وما هو كاذب مقبول التمييز، حتى يعلم أنها من القسم الصحيح، وذلك لا يعلم إلا ببديهية أخرى مبينة مميزة، وتلك لا يعلم أنها من البديهيات الصحيحة إلا بأخرى فيفضي إلى التسلسل الباطل، أو ينتهي الأمر إلى بديهية مشتبهة لا يحصل بها التمييز، فلا يبقى طريق يعلم به الحق من الباطل، وذلك يقدح في التمييز، والنظريات موقوفة على البديهيات، فإذا جاز أن تكون البديهيات مشتبهة: فيها حق وباطل، كانت النظريات المبنية عليها أولى بذلك، وحينئذ فلا يبقى علم يعرف به حق وباطل، وهذا جامع كل سفسطة. وبتقدير ثبوت السفسطة، لا تكون لنا عقليات يثبت بها شيء فضلاً عن أن تعارض الشرعيات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 الثالث: أن قول القائل: إن الوهم يسلم للعقل قضايا بديهية تستلزم إثبات وجود موجود، تمتنع الإشارة الحسية إليه، ممنوع. الرابع: أنه بتقدير التسليم بكون المقدمة جدلية، فإن الوهم إذا سلم للعقل مقدمة، لم ينتفع العقل بتلك القضية، إلا أن تكون معلومة له بالبديهة الصحيحة، فإذا لم يكن له سبيل إلى هذا انسدت المعارف على العقل، وكان تسليم الوهم إنما يجعل القضية جدلية، لا برهانية، وهذا وحده لا ينفع في العلوم البرهانية العقلية. الخامس: أن قول القائل: إن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات دون العقليات إنما يصح إذا ثبت أن في الخارج موجودات لا يمكن أن تعرف بالحس بوجه من الوجوه، وهذا إنما يثبت إذا ثبت أن في الوجود الخارجي ما لا يمكن الإشارة الحسية إليه، وهذا أول المسألة، فإن المثبتين يقولون: ليس في الوجود الخارجي إلا ما يمكن الإشارة الحسية إليه، أو لا يعقل موجود في الخارج إلا كذلك. فإذا قيل لهم: حكم الوهم والخيال مقبول في الحسيات دون العقليات. والمراد بالعقليات موجودات خارجة قائمة بأنفسها لا يمكن الإشارة الحسية إليها. قالوا: إبطال لحكم الفطرة الذي سميتموه الوهم والخيال، موقوف على ثبوت هذه العقليات، وثبوتها موقوف على إبطال هذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 الحكم، وإذا لم يثبت هذا إلا بعد هذا، ولا هذا بعد هذا، كان هذا من الدور الممتنع. السادس: أن يقال: إن أردتم بالعقليات ما يقوم القلب من العلوم العقلية الكلية ونحوها، فليس الكلام هنا في هذه، ونحن لا نقبل مجرد حكم الحس ولا الخيال في مثل هذه العلوم الكلية العقلية، موجودات خارجة لا يمكن الإشارة الحسية إليها، فلم قلتم: إن هذا موجود، فالنزاع في هذا، ونحن نقول: إن بطلان هذا معلوم بالبديهية. السابع: أن يقال: الوهم والخيال يراد به ما كان مطابقاً وما كان مخالفاً، فأما المطابق، مثل توهم الإنسان لمن هو عدوه أنه عدوه، وتوهم الشاة أن الذئب يريد أكلها، وتخيل الإنسان لصورة ما رآه في نفسه بعد مغيبه، ونحو ذلك، فهذا الوهم والخيال حق، وقضاياه صادقة، وأما غير المطابق: فمثل أن يتخيل الإنسان أن في الخارج ما لا وجود له في الخارج، وتوهمه ذلك مثل من يتوهم فيمن يحبه أنه يبغضه، ومثل ما يتوهم الإنسان أن الناس يحبونه ويعظمونه، والأمر بالعكس، والله لا يحب كل مختال فخور، فالمختال الذي يتخيل في نفسه أنه عظيم، فيعتقد في نفسه أكثر مما يستحقه، وأمثال ذلك. قالوا: وإذا كان الأمر كذلك، فلم قلتم: إن حكم الفطرة بأن الموجودين إما متباينان وإما متحايثان من حكم الوهم والخيال الباطل، ونحن نقول: إنه من حكم الوهم والخيال المطابق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 فإذا قلتم: إن العقل دل على أنه باطل، كان الشأن في المقدمات التي ينبني عليها ذلك، وتلك المقدمات أضعف في الفطرة من هذه المقدمات، فكيف يدفع الأقوى بالأضعف. الثامن: أن المثبتين قالوا: بل المقدمات المعارضة لهذا الحكم هي من الوهم والخيال الباطل، مثل إثبات الكليات في الخارج، وتصور النفي والإثبات المطلقين ثابتين في الخارج، وتصور الأعداد المجردة ثابتة في الخارج، فإن هذه المتصورات كلها لا تكون إلا في الذهن، ومن اعتقد أنها ثابتة في الخارج فقد توهم وتخيل ما لا حقيقة له، وجعل هذا التوهم والخيال الباطل مقدمة في دفع القضايا البديهية. التاسع: أن يقال: لا نسلم أن في الفطرة قضايا تستلزم نتائج تناقض ما حكمت به أو لا كما يدعونه، فإن هذا مبني على أن المقدمات المستلزمة ما يناقض الحكم الأول مقدمات صحيحة، وليس الأمر كذلك، كما سنبينه إن شاء الله تعالى، فإن هذه المقدمات هي النافية لعلو الله على خلقه ومباينته لعباده، والمقدمات المستلزمة لهذا ليست مسلمة، فضلاً عن أن تكون بديهية. الوجه العاشر: أن الذين جعلوا هذه القضايا من حكم الوهم الباطل هم طائفة من نفاة الصفات الجهمية، من المتكلمين والمتفلسفة، ومن تلقى ذلك عنهم، وهذا معروف في كتب ابن سينا ومن اتبعه من أهل المنطق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 وكثير من أهل المنطق، كابن رشد الحفيد وغيره، يخاف ابن سينا فيما ذكره في هذا الباب من الإلهيات والمنطقيات، ويذكر أن مذهب الفلاسفة المتقدمين بخلاف ما ذكروه، وأما الأساطين قبله فالنقل عنهم مشهور بخلافهم في هذا الباب. كلام ابن سينا في الإشارات عن الخيال والوهميات والمقصود أن هذا الكلام عامة من تكلم به من المتأخرين أخذوا من ابن سينا. ومن تدبر كلامه وكلام أتباعه فيه وجده في غاية التناقض والفساد، فإنه قال في (إشارته) التي هي كالمصحف لهؤلاء المتفلسفة الملحدة - لما ذكر مواد القياس، وتكلم عن القضايا من جهة ما يصدق بها وذكر أن: أصناف القضايا المستعملة فيما بين القائسين ومن يجري مجراهم أربعة: مسلمات، ومظنونات وما معها. ومشتبهات بغيرها، ومتخيلات. قلت: المتخيلات هي مواد القياس الشعري، والمشتبهات هي مواد السوفسطائي، وما قبل ذلك هو مواد البرهان والخطابي والجدلي. قال: والمسلمات: إما معتقدات، وإما مأخوذات. والمعتقدات أصنافها ثلاثة: الواجب قبولها، والمشهورات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 والوهميات. والواجب قبولها: أوليات، ومشاهدات، ومجربات وما معها من الحدسيات والمتواترات وقضايا أقيستها معها. وتكلم عن القضايا الواجب قبولها بما ليس هذه موضعه، وقد بسط الكلام فيما في منطقهم اليوناني من الفساد - مثل كلامهم في الفرق بين الذاتيات اللازمة للماهية، ودعواهم أن الحد الحقيقي يفيد تعريف الماهية، وأن الحقائق مركبة من الأجناس والفصول، وكلامهم في الكليات الخمسة، وما ذكروه في مواد البرهان، ودعواهم أن التصورات المكتسبة لا تنال إلا بحدهم، والتصديقات المكتسبة لا تحصل إلا بمثل قياسهم، وغير ذلك مما ليس هذا موضعه. والمقصود هنا أنه قال: (وأما القضايا الوهمية الصرفة فهي قضايا كاذبة، إلا أن الوهم الإنساني يقضي بها قضاء شديد القوة، لأنه ليس يقبل ضدها ومقابلها، بسبب أن الوهم تابع للحس، فما لا يوافق المحسوس لا يقبله الوهم، ومن المعلوم أن المحسوسات إذا كان لها مبادئ وأصول كانت تلك قبل المحسوسات، ولم تكن محسوسة، ولم يكن وجودها على نحو وجود المحسوسات، فلم يمكن أن يتمثل ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 الوجود في الوهم، ولهذا كان الوهم مساعداً للعقل في الأصول التي تنتج وجود تلك المبادئ، فإذا تعديا معاً إلى النتيجة نكص الوهم، وامتنع عن قبول ما سلم موجبه. وهذا الصنف من القضايا أقوى في النفس من المشهورات التي ليست بأولية، وتكاد تشاكل الأوليات وتدخل في المشبهات بها، وهي إحكام للنفس في أمور متقدمة على المحسوسات، أو أعم منها على نحو ما يجب أن لا يكون لها، وعلى نحو ما يجب أن يكون أو يظن في المحسوسات، مثل اعتقاد المعتمد أنه لا بد من خلاء ينتهي إليه الملاء إذا تناهى، وانه لا بد في كل موجود أن يكون مشاراً إلى جهة وجوده. وهذه الوهميات لولا مخالفة السنن الشرعية لها، لكانت تكون مشهورة، وإنما يثلم في شهرتها الديانات الحقيقية والعلوم الحكمية، ولا يكاد المدفوع عن ذلك يقاوم نفسه في دفع ذلك، لشدة استيلاء الوهم على أن ما يدفعه الوهم ولا يقبله إذا كان في المحسوسات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 فهو مدفوع منكر، بل إنه باطل شنع، بل تكاد أن تكون الأوليات والوهميات التي لا تزاحم من غيرها مشهورة ولا تنعكس) . قلت: وقد ذكر في غير هذا الموضع شرح أقوى الدراكة، وذكر القوى التي تتخيل بها المحسوسات والتي تحفظ بها، وسمى الأولى على اصطلاحهم (الحس المشترك) والثانية (الخيال) . قال: وأيضاً فالحيوانات - ناطقها وغير ناطقها - تدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة، ولا متأدية من طريق الحواس، مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس، وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس: إدراكاً جزئياً يحكم به كما يحكم الحس بما يشاهده، فعندك قوة هذا شأنها، وأيضاً فعندك وعند كثير من الحيوانات العجم قوة تحفظ هذه المعاني بعد حكم الحاكم بها، غير الحافظ للصور) وهذه هي الذاكرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 قال: (وتجد قوة أخرى لها أن تركب وتفصل ما يليها من الصور المأخوذة عن الحس والمعاني المدركة بالوهم، وتركب أيضاً الصور بالمعاني وتفصلها عنها، وتسمى عند استعمال العقل مفكرة، وعند استعمال الوهم متخيلة، وكأنها قوة ما للوهم، وبتوسط الوهم للعقل) . قلت: والمقصود أن يعرف اصطلاحهم ومرادهم بلفظ الخيال والوهم ونحو ذلك، وأن الخيال هو تصور الأعيان المحسوسة في الباطن، والوهم تصور المعاني التي ليست محسوسة في تلك الأعيان، كلاهما تصور معين جزئي، والعقل هو الحكم العام الكلي، الذي لا يختص بعين معينة ولا معنى معين. وإذا عرف ذلك فيقال: هذه القوة في الباطن بمنزلة القوة الحسية في الظاهر، والقدح فيها كالقدح في الحسيات، وهذه القوة لا يجوز أن يناقض تصورها للمعقول، كما لا يناقض سائر القوى الحسية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 للمعقول، لأن المعقولات أمور كلية تتناول هذا المعين وهذا المعين، سواء كان جوهراً قائماً بنفسه، أو معنى في الجوهر والحس الباطن والظاهر، لا يتصور إلا أموراً معينة فلا منافاة بينهما، فالحس الظاهر يدرك الأعيان المشاهدة وما قام بها من المعاني الظاهرة كالألوان والحركات، والذي سموه الوهم جعلوه يدرك ما في المحسوسات من المعاني التي لا تدرك بالحس الظاهر، كالصداقة والعداوة ونحو ذلك، والتخيل هو بمثل تلك المحسوسات في الباطن، ولهذا جعلوا الإدراكات ثلاثة: الحس والتخيل والعقل. قال ابن سينا: (والشيء يكون محسوساً عندما يشاهد، ثم يكون متخيلاً عند غيبته بتمثل صورته في الباطن، كزيد الذي أبصرته مثلاً، إذا غاب عنك فتخيلته، وقد يكون معقولاً عندما يتصور من زيد مثلاً معنى الإنسان الموجود أيضاً لغيره. وهو عندما يكون محسوساً تكون غشيته غواش غريبة عن ماهيته، لو أزيلت عنه لم تؤثر في كنه ماهيته، مثل: أين، ووضع وكيف، ومقدار بعينه، لو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 توهمت بدله غيره لم يؤثر في حقيقة ماهية إنسانيته. والحس ينال من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة التي خلق منها، لا يجردها عنه، ولا يناله إلا بعلاقة وضعية بين حسه ومادته، ولذلك لا يتمثل في الحس إلا ظاهر صورته إذا زال. وأما الخيال الباطن فيتخيله مع تلك العوارض، لا يقتدر على تجريده المطلق عنها، لكنه يجرده عن تلك العلاقة المذكورة التي يتعلق بها الحس، فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها. وأما العقل فيقتدر على تجريد الماهية المكنوفة باللواحق الغريبة المشخصة مستثبتاً إياها حتى كأنه عمل بالمحسوس عملاً جعله معقولاً. وأما ما هو في ذاته بريء عن الشوائب المادية، ومن اللواحق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 الغريبة، التي لا تلزم ماهيته عن ماهيته، فهو معقول لذاته، ليس يحتاج إلى عمل يعمل به، يعده لأن العقل ما من شانه أن يعقله، بل لعله في جانب ما من شانه أن يعقله) . قلت: هذا الكلام هو من أصول أقوالهم، ومنه وقعوا في الاشتباه والالتباس، حتى صاروا في ضلال عظيم. الرد المفصل على كلام ابن سينا فإنه يقال: قوله: (وقد يكون معقولاً عندما يتصور من زيد مثلاً معنى الإنسان الموجود أيضاً لغيره) . أتعني به أن ذلك الإنسان المعقول الذي يكون لهذا وهذا، وهو شيء ثابت في الخارج، هو بعينه لهذا المعين، ولهذا المعين، مغاير للإنسان المعين، ولصفاته القائمة به؟ أم تعني به الإنسان المعقول الكلي الثابت في العقل، الذي يتناول المعينات تناول اللفظ العام لمفرداته؟ فإن أردت الأول فهذا باطل لا حقيقة له، ونحن نعلم بالضرورة أن هذا الإنسان المعين ليس فيه شيء من الإنسان المعين الآخر، بل كل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 منهما مختص بذاته وصفاته، ولم يشتركا في شيء ثابت في الخارج أصلاً، ولهذا يكون أحدهما موجوداً مع عدم الآخر وبالعكس، ويموت أحدهما مع حياة الآخر وبالعكس، ويتألم أحدهما مع لذة الآخر وبالعكس. كلام الرازي في شرح الإشارات ولهذا قال الشارحون لكلامه كالرازي: (إن الشخص المعين إما أن يدرك بحيث يمنع نفس إدراكه من الشركة، وإما أن لا يكون كذلك. والأول لا يخلو: إما أن يتوقف حصول ذلك الإدراك على وجود ذلك المدرك في الخارج أو لا يتوقف. فهذه أقسام ثلاثة: أولها الإدراك الذي يجتمع فيه الأمران، وهو أن يكون مانعاً من الشركة، ويكون متوقفاً على وجود المدرك في الخارج، وهذا هو إدراك الحس، فإني إذا أبصرت زيداً، فالمبصر يمنع لذاته من أن يكون مشتركاً فيه بين كثيرين، وهذا الإبصار لا يحصل إلا عند حصول المدرك في الخارج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 وثانيها: أن يحصل فيه أحد الموضعين دون الآخر، فيكون مانعاً من الشركة، ولكنه لا يتوقف على الوجود الخارجي، وهو التخيل. فإني إذا شاهدت زيداً ثم غاب، فإني أتخيله على ما هو عليه من الشخصية، فنفس ما تخيلته يمنع من الشركة، وأما هذا الإدراك فإنه لا يتوقف على وجود المدرك في الخارج، فإني يمكنني أن أتخيله بعد عدمه. وثالثهما: أن يخلو عن الموضعين جميعاً، فلا يكون مانعاً من الشركة، ولا موقوفاً على وجود المدرك في الخارج، وهو المسمى بالإدراك العقلي) . تعليق ابن تيمية عود لمناقشة ابن سينا قلت: فقد بينوا أن الإدراك العقلي هو ما لا يمنع الشركة، ولا يشترط فيه وجود المدرك من خارج. ومعلوم أن هذا هو إدراك الكليات الثابتة في العقل. وإذا كان كذلك، فقوله: (وهو عندما يكون محسوساً تكون غشيته غواش غريبة عن ماهيته، لو أزيلت عنه لم تؤثر في كنه ماهيته) كلام يستلزم أن يكون في الخارج شيئان: أحدهما: ماهية مجردة عن المحسوسات، والثاني: محسوسات غشيت تلك الماهية المجردة المعقولة الثابتة في الخارج، وهذا باطل يعلم بطلانه بالضرورة من تصور ما يقول. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 فإنه إن كان المعقول المجرد لا يكون إلا في النفس، فكيف يكون في الخارج معقول مجرد تقارنه المعينات المحسوسة واحداً بعد واحد، أو تقارنه تارة وتفارقه تارة أخرى؟ وقوله: (مثل، أين، ووضع، وكيف ومقدار بعينه، لو توهمت بدله غيره، لم يؤثر في حقيقة ماهية إنسانيته) . يقال له: نعم إذا تصورنا بدل المعنى غيره، لم يؤثر فيما في النفس من الإنسان المعقول الكلي المجرد، فإن مطابقته لهذا المعين كمطابقته لهذا المعين، كما لا يؤثر ذلك في لفظ الإنسان المطلق، فإن مطابقته لهذا المعين كمطابقته لهذا المعين، فشمول اللفظ ومعناه الذي هو في الذهن سواء، لكن ذلك المعين إذا توهمنا بدله غيره، لم يكن في ذلك البدل من هذا المعين أصلاً، بل كان البدل نظيره وشبيهه ومثله، فإما أن يكون هو إياه، أو يكون في الخارج حقيقة معينة في هذا المعين، هي نفسها حقيقة ثابتة في هذا المعين، فهذا هو محل الغلط. ويقال لمن ظن هذا: لما خلق الله هذا المعين، كانت تلك الحقيقة موجودة قبله أو حدثت معه. فإن حدثت معه، فهي معينة لا مطلقة كلية، لأن الكلي لا يتوقف على وجود هذا المعين، وإن كانت موجودة قبله، فإن كانت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 مجردة من الأعيان لم يحتج فيها إلى شيء من المعينات، وإلا فالقول في مقارنتها لذلك المعين كالقول في هذا. وأيضاً فإنه يقال: هل انتقلت من غيره وقارنته؟ أو قامت به وغيره؟ فإن انتقلت من غيره فارقت ذلك المعين، فثبت أن المعين لا يحتاج إلى مطلق يقارنه، وإن قامت به وبغيره، فإما أن يكون جوهراً أو عرضاً، فإن كانت عرضاً فالعرض الواحد لا يكون في محلين. وإن كانت جوهراً فالجوهر الواحد لا يكون في محلين. فإن قال: هذا في الجواهر المحسوسة، وأما الجواهر المعقولة فقد تقدم بمحلين. قيل: إن أردت بالجواهر المعقولة ما في القلوب، فتلك أعراض لا جواهر. وإن أردت هذه الكليات التي تدعي وجودها في الخارج، فتلك لا محل لها عندك، فضلاً عن أن تقوم بمحلين. وهذا أيضاً مما يناقض قولهم: إن المطلق جزء من المعين، فكيف يكون ما لا يتخصص بحيز ولا مكان ولا جزءاً مما يتخصص بحيز ومكان. وإذا قال القائل: المعقول الذي لا حيز له ولا مكان ولا جهة ولا يشار إليه، جزء وبعض وداخل في هذا الجسم المتحيز، الذي له مكان وجهة وحيز - لعلم كل عاقل فساد ما يقول. وهذا حقيقة قول هؤلاء. وأيضاً فتلك الحقيقة المجردة المطلقة إذا كانت كلية، والكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وكانت جزءاً من المعين - كان في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 كل معين كليات كثيرة، لا يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها، فيكون في كل إنسان معين حيوان كلي، وناطق كلي، وإنسان كلي، وجسم كلي، وحساس كلي، وقائم بنفسه كلي، وجوهر كلي وموجود كلي، ومخلوق كلي، وآكل كلي وشارب كلي، ومتنفس كلي، وأمثال ذلك مما يمكن أن يوصف به الإنسان. ومن المعلوم بصريح العقل أن الكلي الذي قد يعم جزئيات كثيرة لا يكون بعض جزئي واحد، فإن الكثير لا يكون بعض القليل وجزءه، ولا يكون ما يتناول أموراً كثيرة ويشملها ويعمها، أو يصلح لذلك، بعض واحد لا يقبل العموم والشركة. وقوله: (والحس ينال من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة التي خلق منها، لا يجردها عنه، ولا يناله إلا بعلاقة وضعية) . فيقال: هذا مبني على أن في الخارج شيئاً موجوداً في هذا الإنسان المعين، عرض له هذا الإنسان المعين، وهذا مكابرة للحس والعقل. والمادة التي خلق منها بدنه ليست موجودة الآن، بل استحالت وعدمت، وليس فيه الساعة مني أصلاً. وقوله: (لا يجردها عنه) إنما يصح لو كان هنا مادة موجودة مغايرة لهذا البدن المشهود، حتى يمكن تجريد أحدهما على الآخر. نعم إن أريد بالمادة البدن، وأن الروح مقارنة للبدن فهذا كلام صحيح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 لكن الروح معينة، والبدن معين ومقارنة أحدهما الآخر ممكن، وهؤلاء يشتبه عليهم مقارنة الروح للبدن وتجريدها عنه، بمقارنة الكليات المعقولة لجزئياتها وتجريدها عنها، والفرق بين هذا وهذا أبين من أن يحتاج إلى بسط. وهم يلتبس عليهم أحدهما بالآخر، فيأخذون لفظ (التجريد) و (المقارنة) بالاشتراك، ويقولون: العقول المفارقة للمادة، ولا يميزون بين كون الروح قد تكون مقارنة للبدن، وبين المعقولات الكلية التي لا تتوقف على وجود معين، فإن الروح - التي هي النفس الناطقة - موجودة في الخارج، قائم بنفسه، إذا فارقت البدن. وأما العقليات الكلية المنتزعة من المعينات فإنما هي في الأذهان لا في الأعيان، فيجب الفرق بين تجريد الروح عن البدن، وتجريد الكليات عن المعينات. وأما قوله: (وكذلك لا يتمثل في الحس إلا ظاهر صورته) . فسبب هذا أن الحس لا يدركه كله، وإن كان كله محسوساً، بمعنى أنه يمكن إحساسه ورؤيته في الجملة، ولكن باطنه ليس بمحسوس لنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 عند رؤية ظاهره، لا لعدم إمكان إحساسه، لكن لاحتجاب باطنه، أو لمعنى آخر. وهذا أيضاً من مثارات غلطهم، فإنهم قد لا يفرقون في المحسوس بين ما هو محسوس بالفعل لنا، وبين ما يمكنه إحساسه، وإن كنا الآن لا نستطيع أن نحسه. فإن عنى بالمحسوس الأول، فلا ريب أن الأعيان منها ما هو محسوس، ومنها ما ليس بمحسوس، وما أخبرتنا به الأنبياء من الغيب ليس محسوساً لنا، فلا نشهده الآن، بل هو غيب عنا، ولكن هو مما يمكن إحساسه، ومما يحسه الناس بعد الموت. ولهذا كانت عبارة الأنبياء عليهم السلام تقسم الأمور إلى غيب وشهادة، قال تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3] ، وقال: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك} [هود: 49] ، وقال: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} [الحشر: 22] . وأما هؤلاء فيقسمونها إلى محسوس ومعقول. والمعقول في الحقيقة: ما كان في العقل، وأما الموجودات الخارجية فيمكن أن ينالها الحس، وأن يوقف الإحساس بها على شروط متيقنة الآن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 وأما قوله: (وأما الخيال الباطن فيتخيله مع تلك العوارض لا يقتدر على تجريده المطلق عنها، لكنه يجرده عن تلك العلاقة المذكورة التي تعلق بها الحس، فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها) . فيقال له: هذه حجة عليكم، فإن ما يتخيله الإنسان في نفسه إنما هو موجود في نفسه، فالصورة الخيالية ليست موجودة في الخارج، ولا يشترط في التخيل ثبوت المتخيل في الخارج. وقولكم: (يتخيله مع تلك العوارض) إثبات لشيئين ولا حقيقة لذلك، بل لم يتخيل إلا الصورة التي هي عرض قائم بنفسه. وقولكم: (فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها) كلام ملتبس، فإن الصورة التي تخيلها في نفسه ليس لها حامل في الخارج، وحامل الصورة التي في الخارج هو موجود معها، فالصورة المحمولة في الخارج ليست عين ما في نفسه، وما في نفسه ليست الصورة المحمولة. والتحقيق أنه يتخيل الصورة مع غيبوبتها بالكلية عن حسه الظاهر، وليس مع غيبوبة حاملها قط، سواء عني بالصورة نفس الشخص المتصور. أو نفس الشكل القائم به. وقوله: إن الخيال يتخيله مع تلك العوارض لا يقدر على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 تجريده المطلق عنها، لكنه يجردها عن تلك العلاقة المذكورة التي تعلق بها الحس، وأما العقل فيقدر على تجريد الماهية المكنوفة باللواحق الغريبة المشخصة مستثبتاً إياها، حتى كأنه عمل بالمحسوس عملاً جعله معقولاً) . فقد يعترض على بذلك بأن يقال: إنه يقتضي أن تجريد الخيال الكلي من جنس تجريد العقل، فإن ما يتخيله المختال هو مثال المحسوس المعين، فلم يجرد منه معنى كلي أصلاً، لكن إن ارتسم فيه صورة تشاكله، كما ترتسم في الحائط صورة تشاكل الصورة المعينة، ثم قد يتخيل المعين بجميع صفاته، وقد يتخيل بعضها دون بعض، وقد يتصور عينه مع مغيب صورة بدنه - كان المتصور حقيقة المعينة، كالروح دون الإنسانية المطلقة. وأما العقل فقد يراد به عقل الصورة المعينة، فهو من جهة كونه تصوراً معيناً من جنس التخيل، ومن جهة كونه لا يختص بشكل معين من جنس تصور العقل. وقد يراد بالعقل تصور الكلي المطلق، كتصور الإنسان المطلق، وجوابه أن الإنسان المطلق قد يتخيل مطلقاً، والبهائم لها تخيل كلي، ولهذا إذا رأت الشعير حنت إليه، ولولا أن في خيالها صورة مطلقة مطابقة لهذا الشعير وهذا الشعير، لم تطلب هذا المعين حتى تذوقه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 فطلبها له إذا رأته يقتضي أنها أدركت أن مثل الأول، وإنما تدرك التماثل إذا كان في النفس صورة تطابق المتماثلين يعتبر بها تماثلهما. لكن يقال: فحينئذ لا فرق بين التخيل والتعقل من جهة كون كل منهما يكون معيناً ويكون مطلقاً، وكل منهما ليس عين ما فيه هو عين الموجود في العقل بل مثاله. فقوله: (حتى كأنه عمل بالمحسوس عملاً جعله معقولاً) . تحقيقة أن المحسوس لم يعمل به شيء أصلاً، ولا فيه معقول أصلاً، بل العقل تمثل معقولاً يطابق المحسوس وأمثاله. وقوله: (وأما ما هو في ذاته بريء عن الشوائب المادية وعن اللواحق الغريبة التي لا تلزم ماهيته عن ماهيته، فهو معقول لذاته) . ففيه كلامان: أحدهما: أن يقال: ثبوت مثل هذا المعقول تبع لثبوت المعقول المنتزع من المحسوس، وذلك ليس إلا في العقل، لا وجود له في الخارج فيكون المعقول المجرد كذلك، وحينئذ فليس في ذلك ما يقتضي أن يكون في الخارج معقول مجرد. الثاني: أن يقال: ثبوت هذه المعقولات المجردة في الخارج فرع إمكان وجودها، وإمكان وجودها مبني على إمكان وجود ما لا يمكن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 الإحساس به، فلا يجوز إثبات إمكان وجود ذلك بناء على وجود هذه المجردات، لأن ذلك دور قبلي، وهو ممتنع. والمقصود أن في كلامهم ما يقتضي أنه ليس في المعقولات إلا ما يعقله العاقل في نفسه، مثل العلم الكلي، وقد يدعون ثبوت هذه المعقولات في الخارج فيتناقضون، وهذا موجود في كلام أكثرهم، يقولون كلهم: الكليات وجودها في الأذهان لا في العيان، ثم يقول بعضهم: إن الكليات تكون موجودة في الخارج، ولهذا كثيراً ما يرد بعضهم على بعض في هذا الموضع، وهو من أصول ضلالتهم ومجازاتهم. وكلامهم في المعقولات المجردة من هذا النمط، وليس لهم دليل على إثباتها، وإذا حرر ما يجعلونه دليلاً لم تثبت إلا أمور معقولة في الذهن. واسم (الجوهر) عندهم يقال على خمسة أنواع على: العقل، والنفس، والمادة والصورة، والجسم، وهم متنازعون في واجب الوجود: هل هو داخل في مسمى (الجوهر) على قولين، فأرسطو وأتباعه يجعلونه من مقولة الجوهر، وابن سينا وأتباعه لا يجعلونه من مقولة الجوهر، وإذا حرر ما يثبتونه من العقل والنفس والمادة والصورة، لم يوجد عندهم إلا ما هو معقول في النفس أو ما هو جسم، أو عرض قائم بجسم، كما قد بسط في موضعه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 والمراد هنا أن يعرف أن المعقولات التي هي العلوم الكلية الثابتة في النفس لا ينازع فيها عاقل. وكذلك تصور المعينات الموجودة في الخارج، سواء كان المتصور عيناً قائمة بنفسها، أو معنى قائماً بالعين، وسواء سمي ذلك التصور تعقلاً أو تخيلاً أو توهماً، فليس المقصود النزاع في الألفاظ، بل المقصود المعاني. وإذا عرف أن الإنسان يقوم به تصور لأمور معينة موجودة في الخارج، وتصور كلي مطابق للمعينات، تبين ما وقع من الاشتباه في هذا الباب. فقول القائل: إن حكم الوهم أو الخيال قد يناقض حكم العقل: إذا أراد به أن التصور المعين الذي في النفس لما هو محسوس، أو لما يحسه، كالعداوة والصداقة، قد يناقض العقل الذي حكمه كلي عام - كان هذا باطلاً. وإن أراد به أن العقل يثبت أموراً قائمة بنفسها، تقوم بها معاني، وتصوره للمحسوسات ولما قام بها يناقض ذلك - كان هذا أيضاً باطلاً، فإنه لا منافاة بين هذا وهذا، وذلك لأن الكلام ليس في مناقضة تصور الجزئيات للكليات، بل في تناقض القضايا الكلية بالسلب والإيجاب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 وإذا أراد به أن ما سماه الوهم والخيال يحكم حكماً كلياً يناقض حكماً كلياً للعقل، وهذا هو مرادهم - كان هذا تناقضاً منهم وذلك أنهم قد فسروا حكم الوهم، المناقض للعقل عندهم، بأنه يقضي قضاء كلياً يناقض القضاء الكلي المعلوم بالعقل، مثل أنه يقضي أنه ما من موجود إلا ويمن الإشارة إليه، وما من موجودين إلا وأحدهما محايث للآخر أو مباين له، ويمنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، وأمثال ذلك. فيقال لهم: هذه قضايا كلية وأحكام عامة، وأنتم قلتم: إن الوهم هو الذي يدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحس، كإدراك الصداقة والعداوة إدراكاً جزئياً يحكم به كما يحكم الحس بما نشاهده. وكذلك الخيال عندكم يحفظ ما يتصوره من المحسوسات الجزئية، فإذا كان الوهم والخيال إنما يدرك أموراً جزئية، بمنزلة الحس، وهذه القضايا التي تزعمون أنها تعارض حكم العقل قضايا كلية، علم بذلك أن هذه ليست من إدراك الوهم والخيال، كما أنها ليست من إدراك الحس، وإنما هي قضايا كلية عقلية، بمنزلة أمثالها من القضايا الكلية العقلية، وهذا لا محيد لهم عنه، وهذا بمنزلة الحكم بأن كل وهم وخيال فإنما يدرك أموراً جزئية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 فهذه القضية الكلية عقلية، وإن كانت حكماً على الأمور الوهمية الخيالية. وكذلك إذا قلت: كل صداقة فإنها ضد العداوة فهذا حكم بما في عقل كل الأفراد التي هي وهمية. وكذلك إذا قلنا: كل محسوس فإنه جزئي، فهذه قضية كلية عقلية تتناول كل حسي. ومعلون أنه كل ما كان الحكم أعم كان أقرب إلي العقل. فقولنا: كل موجود قائم بنفسه فإنه يشار إليه، وكل موجودين فإما أن يكونا متباينين وإما أن يكونا متحايثين، من أعم القضايا وأشملها، فكيف تكون من الوهميات التي لا تكون إلا جزئية. وحينئذ فقولهم: إن حكم الوهم والخيال قد يناقض حكم العقل، بمنزلة قولهم: إن حكم الحس قد يناقض حكم العقل، وبمنزلة قولهم: إن حكم العقل يناقض حكم العقل، وليس الكلام في الحس والوهم والخيال والعقل إذا كان فاسداً عرضت له آفة، فإن هذا لا ريب في إمكان تناقض أحكامه، وإنما الكلام في الحس المطلق وتوابعه مما سموه توهماً وتخيلاً. كلام آخر لابن سينا في الإشارات وأيضاً فقد قال ابن سينا في مقامات العارفين: أول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة، وهو ما يعتري المستبصر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 باليقين البرهاني أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى، فيتحرك سره إلى القدس لينال من روح الاتصال، فما دامت درجته هذه فهو مريد، ثم إنه يحتاج إلى الرياضة والرياضة موجهة إلى ثلاثة أغراض: الأول تنحية ما سوى الحق عن مستن الآثار، والثاني تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة لتنجذب قوى التخيل والتوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي، منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي. والثالث: تلطيف السر للتنبيه. والأول: يعين عليه الزهد، والاني يعين عليه العبادة المشفوعة بالفكر، ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما يلحن بها من الكلام موقع القبول في الأوهام. والثالث: يعين عليه الفكر اللطيف والعشق العفيف) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 تعليق ابن تيمية قلت: وقد تكلمنا على ما في هذا الكلام من حق وباطل في غير هذا الموضوع، والمقصود هنا انه جعل من الأمور التي يحتاج إليها العارف ما يجذب فوى التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي من العبادة وسماع الألحان وسماع الوعظ، فإن كان الأمر القدسي أمراً معقولاً مجرداً، لا داخل العالم ولا خارجه، وقوى الوهم والتخيل لا تناسب إلا الأمور الحسية دون العقلية المجردة، كان هذا من الكلام الذي يناقض بعضه بعضاً. بل كان الواجب على العارف أن يعرض عما يحكم به الوهم والخيال، لينال معرفة الأمر القدسي المعقول المجرد، الذي يناقض حكم الوهم، والخيال لا يناسبه. ولكن ما ذكره في مقدمات العارفين هو الأمر الفطري، فإن القلوب الطالبة لله إذا تحركت بما يصرف إرادتها إلى العلو، ويصرف إرادتها عن السفل، كان هذا مناسباً لمطلوبها ومرادها ومحبوبها ومعبودها، فإن الله الذي هو العلي الأعلى، هو المعبود المحبوب المراد المطلوب، فإذا حركت النفس بما يصرف قواها إلى أرادته، انصرفت قواها إلى العلو، وأعرضت عن السفل. والذي يبين هذا أن هذه القوة الوهمية، وفعلها الذي هو الوهم، لا يريدون به أن يتوهم في الشيء ما ليس فيه، وهو الوهم الكاذب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 وكذلك لفظ (التخيل) لا يريدون تخيل ما لا وجود له في الخارج، بل هذا وهذا يتناول عندهم توهم ما لا وجود في الخارج، وتخيل ما له وجود في الخارج، وهو إدراك صحيح صادق مطابق. وذلك لأن لفظ (الوهم) و (الخيال) كثيراً ما يطلق على تصور ما لا حقيقة لا له في الخارج، بل هذا المعنى هو المعروف من لغة العرب. قال الجوهري: (وهمت في الحساب أوهم وهماً، إذا غلطت فيه وسهوت، ووهمت في الشيء بالفتح أوهم وهماً، إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره، وتوهمت: أي ظننت، وأوهمت غيري إيهاماً، والتوهم مثله، واتهمت فلاناً بكذا، والاسم التهمة بالتحريك. ويقال: أوهم في الحساب مائة أي أسقط، وأوهم في صلاته ركعة، ويقال: قد أيهم إذا صار به الريبة) . قلت: فهذا أبو نصر الجوهري قد نقل في صحاحه المشهور في لغة العرب، أن مادة هذه اللفظ تستعمل في جهة الغلط بمعنى الخطأ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 تارة، وتستعمل بمعنى الظن تارة، ولم ينقل أنها تستعمل بمعنى اليقين، وهم يستعملونها في تصور يقيني، وهو تصور المعاني التي ليست بمحسوسة ولا ريب في ثبوتها، كعداوة الذئب للنعجة، وصداقة الكبش لها، وهو في لغة العرب يقال في هذه المعاني: تصورتها وعملتها وتحققتها وتيقنتها وتبينتها، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على العلم، ولا يقال: توهمتها، وإلا إذا لم تكن معلمه، فاصطلاحهم مضاد معروف في لغة العرب، بل وفي سائر اللغات. وإذا كان كذلك، فلإدراك الصحيح، الذي يسمونه هم توهماً وتخيلاً، هو نوع من التصور والشعور والمعرفة. كلام ابن سينا في إثبات القوة الوهمية وتعليق ابن تيمية عليه يوضح ذلك أنهم قالوا في إثبات القوة الوهمية: كما قال ابن سينا: (الحيوانات ناطقها وغير ناطقها - تدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس، مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس، وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس: إدراكاً جزئياً: يحكم به كما يحكم الحس بما يشاهده، فعندك قوة هذا شأنها، وعند كثير من الحيوانات العجم قوة تحفظ هذه المعاني بعد حكم الحاكم بها غير الحافظ للصورة) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 فقد تبين أن هذه القوة تدرك معاني غير محسوسة وغير متأدية في الحس، ففرق بينها وبين الحسية والخيالية بأن الخيالية إدراك ما تأدى من الحس. وقد فسر الشارحون ما دل عليه كلامه فقالوا هذا بيان إثبات الوهم والحافظة: أما الوهم فقوة يدرك الحيوان بها معاني جزئية لم تتأد من الحواس إليها، كإدراك العداوة والصداقة والموافقة والمخالفة في أشخاص جزئية، فإدراك تلك المعاني دليل على وجود قوة تدركها، وكونها مما لا يتأدى من الحواس، دليل على مغايرتها للحس المشترك، ووجودها في الحيوانات العجم دليل على مغايرتها للنفس الناطقة. قالوا: وقد يستدل على ذلك أيضاً بأن الإنسان ربما يخاف شيئاً يقتضي عقله الأمن منه كالموتى، وما يخالف عقله فهو غير عقله. وقال ابن سينا في إشاراته: (كل ملتذ به فهو سبب كمال يحصل للمدرك هو بالقياس إليه خير، ثم لا يشك أن الكمالات وإدراكاتها متفاوتة، فكمال الشهوة مثلاً أن يتكيف العضو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 الذاتي بكيفية الحلاوة مأخوذة عن مادتها، ولو وقع مثل ذلك، لا عن سبب خارج، كانت اللذة قائمة. وكذلك الملموس والمشموم ونحوهما. وكمال القوة الغضبية: أن تتكيف النفس بكيفية غضب، أو بكيفية شعور بأذى يحصل من المغضوب عليه. والوهم والتكيف بهيئة ما يرجوه أو يذكره، وعلى هذا حال سائر القوى) . والمقصود أنه جعل كمال الوهم اتصافه بصفة ما يرجوه أو يذكره، والمرجو في المستقبل، والمذكور في الماضي: كلاهما لا بد أن يكون هنا مما يوافقه ويحبه، فإن الكمال- كما قد ذكروه- إنما يكون بإدراك الملائم لا المنافي. والقوة الوهمية هي التي تدرك بها الصداقة والعداوة والموافقة والمخالفة. والصداقة هي الولاية التي أصلها المحبة، والعداوة أصلها البغض. فالقوة الوهمية عندهم هي التي يدرك بها الحيوان ما يحبه وما يبغضه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 من المعاني التي لا تدرك بالحس والخيال، ثم يكون حبه وبغضه، لمحل ذلك المعنى تبعاً لحبه وبغضه ذلك المعنى، فالشاة إذا توهمت أن في الذئب قوة تنافرها أبغضته، والتيس إذا توهم أن في الشاة قوة تلائمه أحبها، فهذه القوة هي التي تدرك المحبوبات والمكروهات، من المعاني القائمة بالمحسوسات، وهي التي يحصل بها الرجاء والخوف، فيرجو حصول المحبوب، ويخاف حصول المكروه، ولهذا علقوا الرجاء والخوف بها، كما تقدم من كلامهم، وجعلوا كمالها في التكييف بهيئة ما ترجوه أو تذكره، وقالوا: إن خوف الإنسان من الموتى ونحوهم هو بهذه القوة. وعلى هذا فكل حب وبغض ورجاء وخوف لما لم يحسه الحيوان بحسه الظاهر فهو بهذه القوة. كلام ابن سينا في الشفاء عن قوة الوهم ولهذا عظموا شأنها، فقال ابن سينا في شفائه في القوة المسماة بالوهم: (هي الرئيسة الحاكمة في الحيوان حكماً ليس فصلاً كالحكم العقلي، ولكن حكماً تخييلياً مقروناً بالجزئية وبالصورة الحسية، وعنه تصدر أكثر الأفعال الحيوانية) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 وقال أيضاً في شفائه: (ويشبه أن تكون القوة الوهمية هي بعينها المفكرة المتخيلة والمتذكرة، وهي بعينها الحاكمة، فتكون بعينها حاكمة، وبأفعالها وحركاتها متخيلة بما تعمل من الصور والمعاني، والمتذكرة بما ينتهي إليه عملها، وأما الحافظة فهي قوة خزانتها) . تعليق ابن تيمية فهذه ألفاظه، ومن الناس من قال: هذا يدل على اضطرابه في أمر هذه القوى، وليس المقصود هنا الكلام فيما يتنازعون فيه، وهو أن هذه الإدراكات الجزئية والأفعال الجزئية: هل هي للنفس، وإن كان بواسطة الجسم، أو هي للجسم، وهل محل هذه شيء واحد أو أشياء متعددة؟ وهل هو بقوة واحدة أو بقوى متعددة؟ فإن الكلام في هذا مما لم يتعلق بالمقصود في هذا المكان، فإنه لا خلاف بين العقلاء أن الإنسان - بل وغيره من الحيوان - يتصور في غيره ما يحبه ويواليه عليه ويرجو وجوده، ويتصور ما يبغضه ويعاديه عليه ويخاف وجوده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 فهذا التصور أمر معلوم في الإنسان وفي الحيوان، وهم سموا التصور وهماً، وقالوا إنه يحصل بقوة تسمى الوهمية. والناس متنازعون في إدراك الحيوان وأفعاله: كالسمع، والبصر، والتفكير، والعقل، وغير ذلك من أنواع التصورات والأفعال، سواء كان تصور ولاية أو عداوة أو غير ذلك،: هل هو بقوى في الحيوان أم لا؟ . فالأول: قول الجمهور، والثاني: قول من يقول: إنه ليس للعبد قدرة مؤثرة في مقدوره. والأولون على قولين: منهم من يخص القوى بالأفعال الاختيارية، ومنهم من يجعله في جميع الحوادث. وهؤلاء نوعان: منهم من يقول بقول المتفلسفة الذين يقولون: إن الله موجب بذاته بدون مشيئة وعلمه بالجزئيات، وهذا باطل شرعاً وعقلاً. ومنهم من يقول: إن الله خالق ذلك كله بمشيئته وعلمه وقدرته. وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها، وجمهور علمائها: يثبتون ما في الأعيان من القوى والطبائع، ويثبتون للعبد قدرة حقيقة وإرادة، ويقولون: عن هذه الأمور جعلها الله أسباباً لأحكامها، وهو يفعل بها، كما قال تعالى: {حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات} [الأعراف: 57] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 وقال تعالى: {وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها} [البقرة: 164] . إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة. وكلام السلف والأئمة المذكور في غير هذا الموضع، ولهذا نص أحمد بن حنبل والحارثي والمحاسبي وغيرهما أن العقل غريزة في الإنسان. ولكن من قال بالقول الأول من نفاة الأسباب والقوى الذين سلكوا مسلك الأشعري في نفي ذلك قالوا: إنما العقل هو نوع من العلوم الضرورية، كما قال ذلك القاضي أبو بكر بن طيب، والقاضي أبو يعلى، والقاضي أبو بكر بن العربي وغيرهم. والمقصود أن هذا التصور لمعان في الأعيان المشهودة: كتصور أن هذا يوافقني ويواليني وينفعني وفيه ما أحبه، وهذا يخالفني ويعاديني ويضرني وفيه ما أبغضه، أمر متفق عليه بين العقلاء، سواء قيل بتعدد القوى، أو اتحادها أو عدمها، وسواء قيل: المدرك هو النفس أو البدن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 إذا كان كذلك، فيقال إذا كان (الوهم) مفسراً عندهم بما ذكروه من تصور معنى (غير محسوس في الأعيان المحسوسة وألا يتأدى من الحس، فمعلوم أن هذا تدخل فيه كل صفة تقوم بالحي من الصفات الباطنة: كالقدرة والإرادة والحب والبغض والشهوة والغضب، وأمثال ذلك. فإن القدرة في القادر، كالعداوة في العدو، والصداقة في الصديق، بل قد يكون ظهور الولاية والعداوة والحب والبغض، إلى الحس الظاهر أقرب من ظهور القدرة. وعلى هذا فيكون تصور الملك، والملك هو أيضاً من الوهم، فإن كون الشخص المعين ملكاً لغيره أو مالكاً لغيره: هو تصور معنى في الشخص المحسوس، وذلك المعنى غير محسوس، ولا يتخيل تخيل المحسوسات. وكذلك تصور الشهوة والنفرة: يكون أيضاً من باب التصور الوهمي في اصطلاحهم، وكذلك تصور الألم في الغير واللذة فيه، هو من الباب، فإن ما يجده الحيوان في نفسه من اللذة والألم غير محسوس. فإن قيل: هذه الأمر تدرك بآثار تظهر يدرك الحس تلك الظواهر، فلا يقال: هي موهومة. قيل: إن كان هذا كافياً، فمعلوم أن تصور الشاة صورة الذئب المحسوسة إدراك لتلك الصورة، فتلك الصورة مستلزمة للعداوة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 وكذلك إدراك التيس صورة الشاة، وكذلك إدراك الإنسان شعار صديقه وعدوه، مثل إدراك كل من الطائفتين المقتتلتين شعار الأخرى المسموعة بالأذن، كالشعائر المتداعي بها، والمرئية، كالرايات المرئية هي أيضاً مما يدرك بالحس، ويستدل بها على الولاية والعداوة التي ليست بمحسوسة، بل هي في الأشخاص المحسوسة. ففي الجملة ليس من شرط الصورة الوهمية عندهم أن يدركها الوهم بلا توسط شيء محسوس، بل لا تدرك تلك المعاني إلا في الأشياء المحسوسة، ولا بد أن تدرك تلك الأشياء المحسوسة فيكون الوهم مقارناً للحس، لا بد من ذلك وإلا فلو أدرك الوهم ما يدركه مجرداً عن الحس لكان يدرك ما يدركه لا في أعيان محسوسة، فلا بد أن يدرك بباطنه، وهو القوة المسماة بالوهم عندهم، وبظاهره، وهو الحس: ما في المدرك من الأمر الباطن، وهو المعنى كالصداقة والعداوة، والظاهر، وهو الشخص الذي هو محل ذلك. وعلى هذا فميل كل جنس إلى ما يناسبه في الباطن هو بسبب إدراك هذه القوة، كما يتفق في المتحابين والمتباغضين والمتحابون قد يكون تحابهم لاشتراكهم في التعاون على ما ينفعهم ودفع ما يضرهم، كما يوجد في أجناد العساكر، وأهل المدينة الواحدة، وأهل الدين الواحد، والنسب الواحد ونحو ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 وفي الجملة فميل الحيوان إلى ما يظن أنه ينفعه، ونفوره عما يظن أنه يضره: بسبب هذه القوة، فإن إدراكه كون هذا نافعاً له موافقاً له ملائماً له، وكون هذا ضاراً له مخالفاً له منافراً له: هو بهذه القوة. وعلى هذه فينبغي إن يكون إدراك ما في الأغذية والأدوية من الملائمة هو بهذه القوة، فإن الإنسان يتوهم في الخبز أنه يلائمه إذا أكله، كما يتوهم الفرس ذلك في الشعير، ويتوهم في السيف أنه يضره إذا ضرب به، كما يتوهم الحمار ذلك في العصا. وفي الجملة فتصور الإنسان - بل والحيوان- لما ينفعه ويضره هو بهذه القوة على موجب اصطلاحهم، فإن الإنسان إذا رأى بئراً محفورة يتصور أنه إن وقع فيها عطب- كان هذا بهذه القوة، لأن الحس إنما شهد مكاناً عميقاً، أما كونه يضر الإنسان إذا سقط فيه فهذا لا يعلم بالحس، ولهذا كان من لا تمييز له يسقط في مثل هذا المكان، كالصبي والمجنون والبهيمة، وإن كان له حس، فالذي يسميه الناس عقلاً سماه هؤلاء وهماً، وتصور الإنسان أن هذا ماله وهذا مال غيره، وهذه الدار داره وهذه دار غيره، هو بهذه القوة لأن الحس الظاهر لا يميز بين هذا وهذا، وإنما يعرف هذا من هذا بقوة باطنة تتصور في المحسوس ما ليس بمحسوس، وهو أن هذه الدار أو المال له أو لأقاربه أو لأصدقائه، وتلك الدار أو المال للأجانب أو الأعداء، فإن هذه المعاني هي في المحسوس وليست محسوسة، وإدراك كون هذا الإنسان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 عادلاً جواداً رحيماً شجاعاً، وهذا ظالماً بخيلاً قاسياً جباناً، هو على موجب اصطلاحهم وهم، فإن هذا إدراك أمور غير محسوسة في المحسوسات. وكذلك سائر الأخلاق التي بها مدح وقدح، مثل البر والفجور والعفة، والصدق والكذب والكرم واللؤم، وأمثال ذلك، فإن هذه معان تقوم بالشخص المحسوس، ونفس الأخلاق القائمة فيه ليست بمحسوسة، وإنما يحس بالأفعال الظاهرة الصادرة عنها، كما يحس بالأفعال الظاهرة الصادرة عن الصداقة والعداوة. ومعلوم أن إدراك هذه الأمور هي مما يدخل في مسمى العقل والعلم والمعرفة عند عامة العقلاء، بل إدراك كون المعروف معروفاً، وكون المنكر منكراً، هو أيضاً مما يدخل في (الوهم) على اصطلاحهم، فإن المعروف هو المحبوب الموافق الملائم، والمنكر هو المكروه المخالف المنافي، وما يدرك به هذه المعاني من الأمور الحسية وهم، بل على قولهم كل معنى يدرك في الأعيان المحسوسة فإدراكه بالوهم، ولا يبقى فرق بين الوهميات والعقليات في مثل هذا، إلا كون الوهميات جزئية والعقليات كلية. ومعلوم أن إدراك كثير من هذه المعاني من خواص العقل، ومما يبين هذا أن الرجل إذا رأى امرأته مع من يظن به السوء كان هذا إدراكاً لأمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 غير محسوس في المحسوس، وهو إدراك ما ينافيه، وهو ميل الأجنبي إلى امرأته، وميل امرأته إليه. وكذلك المرأة إذا وجدت مع زوجها امرأة أخرى فظنت أن بينهما اتصالاً وحصلت لها الغيرة، فالغيرة إنما تحصل بهذه القوة، فإن الغيرة من باب كراهة المؤذي وبغضه، وهو من جنس إدراك العداوة فيما يغار منه، كما أن الرجل يميل إلى أبيه وأمه وزوجته لما يستشعره من محبتهم ومودتهم، وإدراك ما منهم من المحبة والمودة هو أيضاً عندهم وهم، لأنه إدراك في المحسوس بما ليس بمحسوس، وهو الولاية التي بينهما، كما قالوا في إدراك التيس معنى الشاة، وإذا رأى إنسان امرأة أجنبية فقد يدرك منها أنها تميل إليه، فيكون كإدراك التيس معنى في الشاة، وقد يدرك منها أنها تنفر عنه، فيكون كإدراك الشاة معنى في الذئب، وهذا باب واسع. والمقصود أن يجمع بين هذا وببن ما قاله ابن سينا في مقامات العارفين وهو خاتمة مصحفهم، وقد قال الرازي: (هذا الباب أجل ما في هذا الكتاب، فإنه رتب علم الصوفية ترتيباً ما سبقه إليه من قبله، ولا يلحقه من بعده) . وأقره الطوسي على هذا الكلام وقال: (قد ذكر الفاضل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 الشارح أن هذا الباب أجل ما في هذا الكتاب، فإنه رتب فيه علوم الصوفية ترتيباً ما سبقه إليه من قبله ولا لحقه من بعده) . وهذا الذي هو غاية ما عند هؤلاء من معارف الصوفية إذا تدبره من يعرف ما بعث الله به رسوله، وما عليه شيوخ القوم -المؤمنون بالله ورسوله- المتبعون لكتاب والسنة، تبين له أن ما ذكره في الكتاب بعد كمال تحقيقه لا يصير به الرجل مسلماً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله، وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، فإنه غايته هو الفناء في التوحيد الذي وصفه، وهو توحيد غلاة الجهمية المتضمن نفي الصفات، مع القول بقدم أفلاك، وأن الرب موجب بالذات لا فاعل بمشيئتة ولا يعلم بالجزئيات، ولو قدر أنه فناء في توحيد الربوبية المتضمن للإقرار بما بعث الله به رسوله من الأسماء والصفات، لم يكن هذا التوحيد وحده موجباً لكون الرجل مسلماً، فضلاً عن أن يكون عارفاً ولياً لله، إذ كان هذا التوحيد يقر به المشركون عباد الأصنام، فيقرون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وإنما يجعل الفناء في هذا التوحيد هو غاية العارفين صوفية هؤلاء الملاحدة كابن طفيل صاحب رسالة حي بن يقظان وأمثاله، ولهذا يستأنسون بما يجدونه من كلام أبي حامد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 موافقاً لقولهم، إذ كان في كثير من كلامه ما يوافق الباطل من قول هؤلاء، كما في كثير من كلامه رد لكثير من باطلهم. ولهذا صار كالبرزخ بينهم وبين المسلمين، فالمسلمون ينكرون ما وافقهم فيه من الباطل عند المسلمين، وهم ينكرون عليه ما خالفهم فيه من الباطل عند المسلمين. ومن أسباب ذلك أن هؤلاء جعلوا غاية الإنسان وكماله في مجرد أن يعلم الوجود أو يعلم الحق، فيكون عالماً معقولاً مطابقاً للعالم الموجود، وهو التشبه بالإله على قدر الطاقة، وجعلوا ما يأتي به من العبادات والأخلاق إنما هي شروط وأعوان على مثل ذلك فلم يثبتوا كون الرب تعالى معبوداً مألوهاً يحب لذاته، ويكون كمال النفس أنها تحبه، فيكون كمالها في معرفته ومحبته، بل جعلوا الكمال في مجرد معرفة الوجود عند أئمتهم، أو مجرد معرفته، عند من يقرب إلى الإسلام منهم. فهذا أحد نوعي ضلالهم. والنوع الآخر أنه لو قدر كمالها في مجرد العلم، فما عندهم ليس بعلم، بل كثير منه جهل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 والقدر الذي حصل لهم من العلم لا تحصل به النجاة، فضلاً عن حصول السعادة الكبرى، فهم أبعد من الكمال البشري، وعن النجاة في الآخرة والسعادة، من اليهود والنصارى من حيث هم كذلك، وإن كان من اليهود والنصارى من هو أبعد عن ذلك ممن كان أقرب إلى الإسلام من اليهود والنصارى، إذ النجاة والسعادة باتباع الرسل علماً وعملاً. وكتبهم ليس فيها إيمان بنبي معين ولا كتاب معين: لا توراة ولا إنجيل، ولا قرآن، ولا إبراهيم، ولا موسى، ولا عيسى، بل ولا فيها إثبات رب معين، وإنما فيها إثبات موجود كلي وأمور كلية، ولا فيها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة ما سواه، ومعلوم أن النجاة والسعادة لا تحصل إلا بذلك، بل ليس عندهم الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، ولا الإيمان بأن الله قدر مقادير العباد، فإنه عندهم لا يعلم الجزئيات، فكيف يقدرها؟ ومعلوم أن السعادة لا تحصل إلا بذلك. وهؤلاء لما كان قولهم مخالفاً للفطرة التي فطر الله عليها عباده: من الإقرار به ومن محبته. كان ما ذكروه من كمال النفس منافياً لهذا ولهذا. ولهذا اضطرب كلامهم في هذا الباب، فتارة يحتاجون أن يثروا بما يوجب محبته وموالاته، مع الإقرار به سبحانه وبعلوه على خلقه، وتارة يدعون ما يوجب انتفاء هذا وهذا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 وقد تقدم أقوالهم في الوهم ومعناه عندهم والقضايا الوهمية، والمقصود أن يجمع بين النظر في ذلك، وبين ما ذكروه في مقامات العارفين الذي هو أجل ما عندهم، وكثير منه أو أكثره، كلام جيد، ولكن الاقتصار عليه وحده مع ما عندهم، لا يوجب نجاة النفوس من العذاب، فضلاً عن حصول السعادة لها، ولكن كل ما قالوه-هم وغيرهم- من حق مقبول، ويتبين من ذلك الحق وغيره بطلان ما يناقضه من الباطل الذي قالوه أيضاً. عود إلى كلام ابن سينا في مقامات العارفين في الإشارات قال ابن سينا: (العارف يريد الحق الأول لا لشيء غيره، ولا يؤثر سيئاً على عرفانه. وتعبده له فقط، ولأنه مستحق للعبادة، ولأنها نسبة شريفة إليه، لا رغبة لرغبة ولا لرهبة، وإن كانتا، فيكون المرغوب فيه، أو المهروب عنه هو الداعي، وفيه المطلوب، ويكون الحق ليس الغاية، بل الواسطة إلى شيء غيره، وهو الغاية، وهو المطلوب دونه) . تعليق ابن تيمية فيقال: هذا الذي قاله من كون الحق تعالى عند العارف هو المراد المعبود لنفسه، لا يراد لغيره، فيكون هو الواسطة إلى ذلك الغير، ويكون ذلك الغير هو الغاية - كلام صحيح، وهو مبادئ ما يتكلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 فيه أهل الإيمان والإرادة، بل هو من شعائرهم ومن أشهر الأمور عندهم. وقد قال تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} [الأنعام: 52] . وقال تعالى: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى} [الليل: 19-21] . وقال تعالى: {وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما} [الأحزاب: 29] . وقال تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54] . وقال: {والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة: 165] . وقال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا} [التوبة: 24] . وقد قال تعالى: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا} [النساء: 125] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» . وفي الصحيحين أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذا أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار» . وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم «ويعلم أنه قال: والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» . وفي الصحيح أن عمر رضي الله عنه قال: «والله يا رسول الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال: الآن يا عمر» . فإذا كان هذا حب الرسول، التابع لحب الله فكيف في حب الله الذي إنما وجب حب الرسول لحبه، والذي لا يجوز أن نحب شيئاً من المخلوقات مثل حبه؟ بل ذلك من الشرك. قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة: 165] ، وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له. والعبادة تجمع كمال الحب مع كمال الذل، فلا يكون أحد مؤمناً حتى يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، وأن يعبد الله مخلصاً له الدين. فهذا الذي ذكره في مقامات العارفين هو أول قدم يضعه المؤمن في الإيمان، ولا يكون مؤمناً من لم يتصف بهذا. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وعلماؤها على أن الله يحب لذاته، لم ينازع في ذلك إلا طائفة من أهل الكلام والرأي، الذين سلكوا مسلك الجهمية في بعض أمورهم فقالوا: إنه لا يحب ولا يحب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 وابن سينا والفلاسفة، وإن كانوا يردون على هؤلاء كما يرد عليه أئمة الدين، فهم أقرب إلى الحق من ابن سينا وأتباعه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى. وقال طائفة من النظار: إن الإرادة لا تتعلق إلا بمعدوم محدث، وهو ما يراد أن يفعل، فأما القديم الواجب بنفسه فلا تتعلق به الإرادة. وقالوا: قول القائل: (أريد الله) أي: أريد عبادته، ونحو ذلك. وقال آخرون: بل الإرادة تتعلق بنفس القديم الواجب بنفسه، كما نطقت به النصوص. والتحقيق أنه لا منافاة بين القولين، فإن كون الشيء محبوباً لذاته مراداً لذاته: هو أن المحب المريد لم يطلب إرادته لما سواه، بل كان هو أقصى مراده، وإنما يكون الشيء مراداً محبوباً لما للمحب المريد في الاتصال بذلك من السرور واللذة، إذ المحبة لا تكون إلا لما يلائم المحب، فما يحصل عند ذكره ومعرفته والنظر إليه من اللذة هو مطلوب المحب المريد المحب لذاته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 كما ثبت في صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهو الزيادة» . وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك» . فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله لم يعط أهل الجنة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهذا غاية مراد العارفين، وهذا موجب حبهم إياه لذاته لا لشيء آخر؟. فمن قال: إنه لا يحب لذاته، ولا يتلذذ بالنظر إليه، كما تزعمه طائفة من أهل الكلام والرأي فقط أخطأ، ومن قال: إن محبة ذاته وإرادة ذاته لا تتضمن حصول لذة العبد بحبه، ولا يطلبه العبد ولا يريده، بل يكون العبد محباً مريداً لما لا يحصل له لذة به، فقط أبطل. ومن قال: إن العبد يفنى عن حظوظه وإرادته، وأراد بذلك أنه يفنى عن حظوظه وإرادته المتعلقة بالمخلوقات فقد أصاب، وأما إن أراد أن يفنى عن كل إرادة وحب، وتبقى جميع الأمور عنده سواء، فهذا مكابر لحسه ونفسه. وكل مراد محبوب لذاته فلا معنى لكونه مراداً محبوباً لذاته إلا أن ذاته هو غاية مطلب الطالبين، بمعنى أن ما يحصل لهم من النعيم واللذة هو غاية مطلوبهم، لا يطلبونها لأجل غيرها. فأما بتقدير أن تنتفي كل لذة، فلا يتصور حب، فإن حب ما لا لذة في الشعور به ممتنع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 وعلى هذا فقول القائل: (العارف يريد الحق الأول لا لشيء غيره، ولا يؤثر شيئاً على عرفانه) لا منافاة بينهما. وكذلك قوله: (وتعبده له فقط) لا ينافي قوله (ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه) بل كونه تعبده له فقط إنما كان محموداً لأنه مستحق للعبادة، وإنما انبغى للعبد أن يفعلها لأنها نسبة شريفة، وإلا فلو فعل العبد ما لا خير فيه كان مذموماً، لكن يفرق بين من يكون قد عرف الله معرفة أحبه لأجلها، وبين من سمع مدح أهل المعرفة، فاشتاق إلى كونه منهم، لما في ذلك من الشرف، فإن هذا في الحقيقة إنما مراده تعظيم نفسه وجعل المعرفة طريقاً إليها. وكذلك كل من أراد الله لأمر من الأمور، كما حكي أن أبا حامد بلغه أن من أخلص لله أربعين يوماً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه. قال: (فأخلصت أربعين يوماً فلم يتفجر شيء فذكرت ذلك لبعض العارفين، فقال: لي: إنك إنما أخلصت للحكمة، لم تخلص لله) . وذلك لأن الإنسان قد يكون مقصوده نيل العلم والحكمة، أو نيل المكاشفات والتأثيرات، أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم إياه، أو غير ذلك من المطالب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 وقد عرف أن ذلك يحصل بالإخلاص لله وإرادة وجهه، فإذا قصد أن يطلب ذلك بالإخلاص لله وإرادة وجهه كان متناقضاً، لن من أراد شيئاً لغيره فالثاني هو المراد المقصود بذاته، والأول يراد لكونه وسيله إليه، فإذا قصد أن يخلص لله ليصير عالماً أو عارفاً أو ذا حكمة أو متشرفاً بالنسبة إليه، أو صاحب مكاشفات وتصرفات ونحو ذلك، فهو هنا لم يرد الله، بل جعل الله وسيله له إلى ذلك المطلوب الأدنى، وإنما يريد الله ابتداء من ذاق حلاوة محبته وذكره. وفطر العباد مجبولة على محبته، لكن منهم من فسدت فطرته. قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [الروم: 30] . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [الروم: 30] » . وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم «فيما يرويه عن ربه قال: إني خلقت عبادي حنفاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً» . وأما قول القائل: (لا للرغبة والرهبة) . فهذا له ثلاث معان: أحدهما: أن يراد به: لا لرغبة في حصول مطلوب المحب من المحبوب لذاته، ولا لرهبة من ذلك. وهذا ممتنع، فإنه ما من عبد مريد محب إلا وهو يطلب حصول شيء، ويخاف فواته. والثاني: أنه لا يرغب في التمتع بمخلوق، ولا يخاف من التضرر بمخلوق، فيمكن أن يعبد الله من يعبده بدون هذه الرغبة والرهبة. كما قال عمر رضي الله عنه: نعم العبد صهيب، لو لم يخاف الله لم يعصه. وفي الأثر: «لو لم أخلق جنةً ولا ناراً، أما كنت أهلاً أن أعبد» وقد ثبن في الصحيح «أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 وكذلك الملائكة فلولا تمتع أهل الجنة بذلك التسبيح، الذي هو لهم كالنفس، لم يكن الأمر كذلك. وقد ثبت في الحديث الصحيح المتقدم قوله: «فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه» . والثالث: أن يراد: أن العبد لا يرهب مما يضره كألم العذاب، ولا يرغب فيما يحتاج إليه كالطعام والشراب، فهذا ممتنع، فإن ما جعل الله العبد محتاجاً إليه متألماً إذا لم يحصل له، لا بد أن يرغب في حصوله، ويرهب من فواته، وما كان ملتذاً به غير متألم بفواته، كأكل أهل الجنة وشربهم، فهذا يرغب فيه ولا يرهب من فواته، فوجود تلك اللذة العليا الحاصلة بمعرفة الله ورؤيته لا ينافي وجود لذات أخر حاصلة بإدراك بعض المخلوقات، ومن نفى الأولى من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم فقط أخطأ، ومن نفى الثانية من المتفلسفة والمتصوفة على طريقهم فقد أخطأ، ومع أن هؤلاء المتفلسفة لا يثبتون حقيقة الأولى، فإنهم لا يثبتون أن الرب تحبه الملائكة والمؤمنون، وإنما يجعلون الغاية تشبههم به، لا حبهم إياه، وفرق بين أن تكون الغاية كون هذا مثل هذا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 وبين أن تكون الغاية كون هذا يحب هذا محبة عبودية وذل. ولهذا قالوا: (الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة) ، ولهذا كان مطلوب هؤلاء إنما هو نوع من العلم والقدرة الذي يحصل لهم به شرف، فمطلوبهم من جنس مطلوب فرعون، بخلاف الحنفاء الذين يعبدون الله محبة له وذلاً له. وهم أيضاً لا يثبتون معرفة تحصيل بها النجاة والسعادة بعد الموت، بل المعروف عندهم وجود مطلق أو مقيد بالسلوب، ولا يثبتون بعد الموت تجدد نظر إليه، إذ المفارقات عندهم ليس فيها حركة أصلاً، لا من الناظر ولا من المنظور إليه، وهو خلاف ما دلت عليه الدلالة الشرعية والعقلية. فصل تابع كلام ابن سينا في الإشارات عن مقامات العارفين ثم قال: (إشارة: المستحيل بوسيط الحق مرحوم من وجه، فإن لم يطعم لذة البهجة به، فيستطعمها إنما معارفته مع اللذات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 المخدجة، فهو حنون إليها غافل عما وراءها، وما مثله بالقياس إلى العارفين إلا مثل الصبيان بالقياس إلى المحتنكين، فإنهم لما غفلوا عن طيبات يحرص عليها البالغون، واقتصرت بهم المباشرة على طيبات اللعب، صاروا يتعجبون من أهل الجد إذا ازوروا عنها عائقين لها، عاكفين على غيرها، كذلك من غض النقص بصره عن مطالعة بهجة الحق أعلى كفيه بما يليه من اللذات: لذات الزور فتركها في دنياه من كره، وما تركها إلا ليستأجل أضعافها، وإنما يعبد الله ويطيعه ليخوله في الآخرة ويشبعه منها، فيبعث إلى مطعم شهي، ومشرب هني ومنكح بهي، إذا بعثر عنه فلا مطمح لبصره في أولاه وآخرته، إلا إلى لذات قبقبه وذبذبه، والمستبصر بهداية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 القدس في شجون واجب الإيثار، قد عرف اللذة الحق، وولى وجهه سمتها، مترحماً على هذا المأخوذ عن رشده إلى ضده، وإن كان ما يتوخاه بكده مبذولاً له حسب وعده) . تعليق ابن تيمية فيقال: ينبغي أن يفرق بين كون الإنسان محباً مريداً، وبين كونه يعرف أنه محب مريد، وكذلك يفرق بين كونه سامعاً رائياً عالماً، وبين كونه عالماً بكونه كذلك ذاكراً له. مثال ذلك: أن الإنسان لا يفعل فعلاً اختيارياً وهو يعلم أنه يفعله إلا بإرادة، فكل من شهد المسجد ليصلي فيه الصلاة الحاضرة وهو يعلم أنها الجمعة أو الفجر، امتنع أن يصلي إلا وهو ناو لهذه الصلاة، ومع هذا فقد يظن كثير من الناس أنه لا ينوي أو لا تحصل له نية حتى يتكلم بذلك، وربما كرر ذلك، ورفع صوته به، وآذى من حوله، وأصابه من جنس ما يصيب الجنون. وكذلك المعرفة بالله فطرية ضرورية، كما قد بسط في موضعه، وكذلك حب الله ورسوله حاصل لكل مؤمن، ويظهر ذلك بما إذا خير المؤمن بين أهله وماله وبين الله ورسوله، فإنه يختار الله ورسوله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 والمؤمنون متفاضلون في هذه المحبة، ولكن المنافقون - الذين أظهروا الإسلام ولما يدخل الإيمان في قلوبهم - ليسوا من هؤلاء وما من مؤمن إلا وهو إذا ذكر له رؤية الله اشتاق إلى ذلك شوقاً لا يكاد يشتاقه إلى شيء. وقد قال الحسن البصري: لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت أنفسهم في الدنيا. والحب لله يقوى بسبب قوة المعرفة وسلامة الفطرة، ونقصها من نقص المعرفة ومن خبث الفطرة بالأهواء الفاسدة. ولا ريب أن النفوس تحب اللذة بالأكل والشرب والنكاح، وقد تشغل النفوس بأدنى المحبوبين عن أعلاهما، لقوة حاجته العاجلة إليه، كالجائع الشديد الجوع، فإن ألمه بالجوع قد يشغله عن لذة مناجاته لله في الصلاة. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لا يصلين أحدكم بحضرة طعام، ولا وهو يدافع الأخبثين» . وإن كانت الصلاة قرة عين العارفين، والإنسان إنما يشتاق إلى من يشعر به من المحبوبات، فأما ما لم يشعر به فهو لا يشتاق إليه، وإن كان لو شعر به لكان شوقه إليه أشد من شوقه إلى غيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 ولما كانت الجنة فيها كل نعيم يتنعم به من غير تنغيص مما يعرفونه وما لا يعرفونه. كما قال تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17] . وقال: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} [الزخرف: 71] . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: إني أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. بله ما أطلعتم عليه، ثم قرأ {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17] الآية» . وكان النعيم الذي فيها منه ما له نظير عند المخاطبين، إذا ذكر اشتاقوا إليه، ومنه ما لا نظير له عندهم - أخبرهم الله تعالى منه بما له نظير، فإنه بذلك يحصل شوقهم ورغبتهم فيما أمروا به، ثم إذا فعلوا ما أمروا به نالوا بذلك ما لم يخطر بقلوبهم، كما أخبر بذلك الكتاب والسنة. ولذة النظر، وإن كانت أفضل اللذات، وسببها- وهو حب الله ورسوله - موجود في قلب كل مؤمن، لكن الظاهر من الحب والشهوات، ومعرفة الناس لكون ذلك مشتهاة ومرغوباً فيها، وان محبتها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 غالبة، وذكرهم لذلك أظهر من معرفتهم بما في حب الله ورسوله. والنظر إليه من ذلك، ومن ذكرهم لذلك، وإن كان ذلك موجوداً فيهم، فوجود الشيء غير معرفته وذكره وظهوره، فذكر الله في كتابه من اللذات الظاهرة، كالأكل والشرب والنكاح، ما يعرف كل أحد أنه لذة، وما تشتاق إليه كل نفس، ويعرفون أنه مما يرغب فيه، وذلك لا ينال إلا بعبادة الله وطاعته. وهم إذا عبدوا الله فقد يحصل لهم من حلاوة المعرفة والعبادة ما هو اعظم من ذلك، وإذا كشف الحجاب في الآخرة فنظروا إليه كان ذلك أحب إليهم من جميع ما أعطاهم، فكان ترغيبهم في العبادة بذلك شائقاً لهم إلى هذا، وكان كمن أسلم رغبة في الدنيا، فلم تغرب الشمس إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس، وكمن دخل في العلم والدين لرغبه في مال أو جاه، أو رهبة من عزل أو عقوبة أو أخذ مال، فلما ذاق حلاوة العلم والإيمان كان ذلك أحب إليه مما طلعت عليه الشمس. وإذا كان هذا في الدنيا، فما الظن بما في الآخرة؟ وإذا عرفت هذا عرفت شيئين: أحدهما: أن كل مؤمن تحقق إيمانه فإنما يعبد الله، والله أحب إليه من كل ما سواه، وإن كان لا يستشعر هذا في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 نفسه، بل يكون ما يرجوه من الأكل والشرب النكاح، وما يخافه من العقاب باعثاً له على العبادة، لكن إذا ذاق حلاوة الإيمان وطعم العبادة، كان الله أحب إليه من كل شيء، وإن كان يغيب عن علمه بحاله، حتى لا يرغب ولا يرهب إلا من غير ذلك، فما كل محبوب واجب يستحضر في كل وقت، ولا تحصل به الرغبة، ولا من فواته الرهبة، بل تحصل الرغبة والرهبة بالمحبوب الأدنى والمرهوب الأدنى، ويقوده ذلك إلى المحبوب الأعلى، وهذا موجود فيمن ذاق طعم المحبوب الأعلى، فإنه قد يعترض له هوى في محبوب أدنى، فيكون حضوره ودواعي الشهوة إليه يوجب تقديمه، مع علمه بأنه يفوته بذل ما هو أحب إليه منه، وكمن يشتهي شيئاً فيتناوله، وهو بعلم أنه يضره وأنه يفوته به ما هو أحب إليه، بل يعلم أنه يوجب له ما يضره فإذا حصل له ترهيب يصده عن ذلك، أو رغبة فيما ترغب فيه نفسه حتى يترك ذاك، كان هذا دواء نافعاً له يشتاق به إلى المحبوب الأعلى. والله قد أنزل كتابه شفاءً لما في الصدور، وهدىً للخلق، ورحمةً لهم، وبعث رسوله بالحكمة. وأما ما ذكره هذا الرجل من الكلام المزخرف الذي قال الله فيه: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} [الأنعام: 112-113] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 وذلك أنه عظم من يعبد الحق لذاته، وعبادة الحق تعالى لذاته أصل عظيم، وهو أصل الملة الحنيفية، وأساس دعوة الأنبياء، لكن هذا حاصل فيما جاءت به الرسل، لا في طريق الصحابة، فإن أصحابه لا يعبدون الله، بل ولا يحبونه أصلاً، بل ولا يطيعونه، وإنما العبادات عندهم رياضة للنفوس لتصل إلى علمهم الذي يدعون أنه كمال النفس، والكمال عندهم في التشبه به لا في أن يكون محبوباً مراداً. ولهذا لم يتكلم أحد منهم في مقامات العارفين بمثل هذا الكلام الذي تكلم به ابن سينا، وهو أراد أن يجمع بين طريقهم وطريق العارفين أهل التصوف، فأخذ ألفاظاً مجملة، إذا فسر مراد كل واحد منها، تبين أن القوم من أبعد الناس عنه محبة الله وعبادته، وأنهم أبعد عن ذلك من اليهود والنصارى بكثير كثير. ولهذا يظهر فيهم من إهمال العبادات والأوراد والأذكار والدعوات، ما لا يظهر في اليهود والنصارى، ومن سلك منهم مسلك العبادات فإن لم يهده الله إلى حقيقة دين الإسلام، وإلا صار آخر أمره ملحداً من الملاحدة، من جنس ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما. وأيضاً فإنه استحقر ما وعد الناس به في الآخرة من أنواع النعيم، وطلب تزهيد الناس فيما رغبهم الله فيه، وهو مضادة للأنبياء، وهو في الحقيقة منكر لوجود ذلك، كما هو في الحقيقة منكر لوجود محبة الله ومعرفته والنظر إليه، وإنما الذي أثبته من ذلك خيال، كما أن الذي أثبته من لذة المعرفة إنما هو مجرد كونه عالماً معقولاً موازياً للعالم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 الموجود، وظن أنه بهذا تحصل اللذة التي يسعد بها في الآخرة، وينجو بها من العذاب، وهذا ضلال عظيم. وقد أعرض الرازي عن الكلام على هذا فلم يمدحه ولم يذمه، وأما الطوسي فمدحه عليه، لأنه ملحد من جنسه والكلام على هؤلاء مبسوط في موضعه. فصل: تابع كلام ابن سينا في مقامات العارفين وتعليق ابن تيمية عليه ثم قال (إشارة: أول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة، وهو ما يعتري المستبصر باليقين البرهاني، أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى، فيتحرك سره إلى القدس لينال من روح الاتصال، فما دامت درجته هذه فهو مريد. إشارة: ثم إنه يحتاج إلى الرياضة، والرياضة متوجهة إلى ثلاثة أغراض: الأول: تنحية ما دون الحق من مستن الإيثار. الثاني: تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة لتنجذب قوى التوهم والتخيل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي، منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي. الثالث: تلطيف السر للتنبيه. والأول يعين عليه الزهد الحقيقي، والثاني: تعين عليه أشياء: العبادة المشفوعة بالفكرة، ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما يلحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام. والثالث: نفس الكلام الواعظ من قائل زكي بعبارة بليغة ونغمة رخيمة وسمت رشيد. وأما الغرض الثالث فيعين عليه الفكر اللطيف والعشق العفيف الذي تأمر فيه شمائل المعشوق، ليس سلطان الشهوة) . فيقال قد ذكر أن المريد يحتاج في الرياضة - التي تسمى السلوك، إلى ثلاثة أشياء متعلقة بالقصد، والعمل، والعلم. أما القصد، فأن لا يقصد إلا الحق، فينحي ما سواه عن طريق القصد، فلا يقصد إلا إياه. وهذا حق لكن لا يكون إلا على دين المرسلين. وأما إرادة الله ومحبته دون ما سواه فليس هو طريق هؤلاء المتفلسفة، بل هو ممتنع على أصولهم الفاسدة، وليس زهدهم زهد الأنبياء، ولكن زهدهم للتوفر على مطلوبهم الذي يرونه كمالاً، لا على عبادة الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 وأما العمل فهو تطويع قوة النفس الأمارة بالسوء لقوتها المطمئنة، وهذا متفق عليه، لكن عند أهل الملل أن هذا تكميل لعبادة الله وطاعته، وعند الملاحدة إنما هو تهذيب للنفس لتستعد لما جعلوه هم كمالاً. وليس المقصود هنا ذكر ما في هذا الكلام من حق وباطل، فإن هذا له موضع آخر. وإنما المقصود ذكر ما يتعلق بكلامهم في قوى التوهم والتخيل، فإنه قال: (لتنجذب قوى التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي، منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي) . فذكر أن المقصود انجذاب قوى التخيل الوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي، ولم يقل: إلى التوهمات والتخيلات، كما قال انجذاب قوى التخيل والوهم، لأنه يريد أن يجذب قوى التخيل والوهم. فالتخيل لصور المحسوسات، والوهم لما فيها من المعاني، والجذب يكون إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي، لا إلى التخيل، فإنه ليس المقصود جذبها إلى صورة متخيلة بل إلى أمر متوهم، وهو المعاني التي تحبها النفس، لأن الوهم كما تقدم تصور المعاني المحبوبة في الأعيان، وهي التي تكون لأجلها الولاية والعداوة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 والمقصود حصول التوهمات المناسبة للأمر القدسي، والانصراف عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي. والتوهمات هي تصور ما يحب ويبغض ويوالى ويعادى، ويوافق ويخالف، ويرجى ويخاف، من المعاني التي في الأعيان، فيريد أن يتصور ما يحب ويرجى لينجذب إليه، وما يكره ويخاف لينجذب عنه، ويكون ما يجب ويرجى في الأمر القدسي، والمكروه والمخوف في الأمر السفلي. وقد ذكر أن المراد المعبود لذاته هو الله تعالى، فلا بد أن يتصور ما يوجب حبه لله، وبغضه لما يصرفه عن ذلك، وأن يتصور من رجائه وخوفه ما يصرفه إليه كما يتصور في الدنيا ما يجذبه عنها. وإذا كان قد قال هذا مع قوله: (إن الوهم أن يتصور في المحسوسات أمراً غير محسوس، لم يمكن حتى هذا يتصور في حق الله تعالى ما يوجب انجذاب القلب إليه، وقد سمى ذلك توهماً. وقوله: (ولتنجذب قوة التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي) . إن أريد التوهمات المناسبة لقدس الرب تعالى، مثل كونه هو الذي يستحق أن يعبد ويحمد، وأمثال ذلك من المعاني المناسبة لعبادته، فقد جعل الشعور بهذه من باب التوهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 وإن أريد به توهم معان في غير الرب، فتلك لا يحتاج إليها في عبادته تعالى، ولا يحتاج العابد لله إلى أن يتصور ما يناسب محبته لله وعبادته، بشعوره بما يوجب محبة الله وعبادته إياه دون ما سواه، فإن عبادة الله وحده تحصل إذا عرف من الله ما تحصل به محبته لله، فلا يحتاج أن يعرف من غيره ما يوجب محبته لله، ولو قدر أن تصور لغيره يوجب محبته، فقد جعل طلب ما يوجب انجذاب قوة التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي. فهذه الأمور، سواء كانت صفات لله أو أموراً تقتضي محبة الله، فإنه جعلها من باب التوهم. وهذا يوجب كون الله عالياً على خلقه من وجوه: أحدهما: أنه قد ذكر أن الحيوانات - ناطقها وغير ناطقها - تدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس، وهذا قوة الوهم كما تقدم. فإذا كان قد قال مع ذلك: أنه لا بد من تطويع القوة الأمارة للقوة المطمئنة، لتنجذب قوى التخيل والتوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي، منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي، والتوهمات المناسبة لإرادة الله وحده إنما تكون بتصور معنى فيه يوجب انجذاب القلب إليه. وهو سبحانه يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، فإنه واحد لا شريك له، وهم يقولون: انحصر نوعه في شخصه، فلا يجوز أن يكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 التصور الجاذب للقلب إليه وحده إلا تصور معين، في معين وهذا هو التوهم عندهم. فهذا تصريح منهم بأن التوهم تصور صفاته، فقولهم مع ذلك بنفي إدراك هذه القوة له تناقض. الثاني: أن القوة المتوهمة إذا كانت لا تتصور إلا في معين، والمعين لا يكون كلياً، امتنع أن يكون هذا معقولاً، إذا كانت المعقولات هي الكليات، كما قد يقولونه، ولأنه لا حجة لهم على إثبات معقول غير الكليات. الثالث: أن هذا يوجب أن كون محسوساً، أي يمكن الإحساس به وهو رؤيته، كما ثبت أنه يرى في الآخرة، لأن التوهم عندهم أن يتصور في المحسوس ما ليس بمحسوس. فإذا كان هو سبحانه يجب أن يوالى ويحب دون ما سواه، وكان ذلك بتوهم الأمور المناسبة لذلك التوهم، وهو تصور أمر غير محسوس في معين محسوس لزم أن يكون هو معيناً محسوساً. الوجه الرابع: أنه جعل الذي يعين على تطويع النفس ثلاثة أشياء: العبادة المشفوعة بالفكرة، ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام، والثالث: نفس الكلام الواعظ. ومعلوم أن العبادة لا تكون إلا بقصد وإرادة، والقصد والإرادة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 الذي تنجذب معه قوى التخيل والتوهم إلى التوهمات المناسبة لعبادة الله، منصرفة عن المناسبة للأمر السفلي، لا يكون إلا إذا تصور في المراد الذي انجذبت إليه قوة التوهم ما يوجب إرادته ومحبته، فتكون إرادته توجب موالاته ومحبته، بل وخوفه ورجائه. وهذا كله عندهم من عمل القوة المتوهمة، فدل على أنه لا بد عندهم أن يكون الحق تعالى مما يتعلق الوهم بمعان فيه، وهذا لازم لكلامهم لا محيد عنه. الوجه الخامس: أنه قال: (الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام) . فتبين أنه يطلب كون الوهم يقبل الكلام الملحن، والقوة الوهمية هي التي تدرك المعنى المحبوب والمكروه في المعين المحسوس الجزئي كما تقدم. فدل بها على أن الكلام الملحن يكون فيه ما يوجب قبول الوهم للكلام الذي يدعو إلى عبادة الله ومحبته، وذلك بما تقدم من كون الوهم هو الذي يشعر بالمعاني التي تحب وتبغض، وتوالي وتعادي، فكان حب العبد لربه وعبادته إياه مشروطاً بتوهمه في ربهما يحبه العبد، فوجب كون الرب عندهم محسوساً وكون الوهم يتصور فيه ما يحب لأجله. السادس: أنه قال: (لينجذب التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي، منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمكر السفلي) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 والسفلي ضد العلوي، فدل ذلك على أن القدسي علوي. فإن قيل: يراد بذلك علو القدر أو الصفات. قيل: هذا لا يصح هنا، لأن قوى الوهم إنما تنجذب إلى معان غير محسوسة في أمر محسوس، وما كان محسوساً أمكن أن يكون فوق العالم. السابع: أن يقال: ما أشار إليه من هذه المعاني، وغن كان التعبير عنه بعبارات غير معروف، فهذا هو الذي فطر الله عليه عباده، فإنهم إذا حزبهم أمر احتاجوا فيه إلى توجيه قلوبهم إلى الله توجهوا إلى العلو، وتصوروا أن الله جواد كريم يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، ويرزقهم وينصرهم، فعرفوا منه ما يوافق مطلوبهم ومرادهم ومحبوبهم. وهذا هو الذي يسميه هؤلاء التوهم. وأيضاً فمن كان محباً له، محباً لذكره، متلذذاً بمناجاته، فإنه يجد في فطرته معنى يطلب بالعلو، ويتصور أن ربه متصف بما يستحق لأجله أن يعبد ويحب ويطاع، وهذا هو الذي يسمونه التوهم، ويجد قلبه منصرفاً إلى العلو، منصرفاً عن السفل، إلا إذا كان قد غيرت فطرته. فإن قيل له: ربك ليس فوق، أو غير ذلك بأن يقال: ليس في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 جهة، أو لا يختص، أو لا تحصره، أو نحو ذلك من العبارات المجملة التي يراد بها: أنه ليس فوق، فيحتاج حينئذ أن يصرف فطرته علما وإرادة عما فطر عليه. فما ذكره في مقامات العارفين موافق لما فطر الله عليه عباده أجمعين، بخلاف ما ذكره هناك، فإنه مخالف للفطرة كما تقدم. الثامن: أن الشرائع الإلهية جاءت بما يوافق الفطرة. التاسع: أنه قد اتفق على ذلك سلف الأمة. العاشر: أنه دلت على ذلك الدلائل العقلية اليقينية. الحادي عشر: أن موجب ما ذكروه أن لا يكون الرب معبوداً إلا بتعلق المعنى الذي سموه الوهم به، وأن من نفى تعلق الوهم بمعنى في الرب، فقد أبطل كون الرب محبوباً معبوداً، فمن قال بعد ذلك: إنه لا يقبل في الإلهيات هذه القضايا الوهمية، فقد نفى كون الرب مستحقاً لأن العبد وأن يحب، وهذا حقيقة قولهم، ولهذا كان حقيقة قولهم تعطيل الرب عن أن يكون موجوداً، وأن يكون مقصوداً وأن يكون معبوداً. وعلى هذا كانت أئمتهم، كالقرامطة الباطنية الذين قادوا حقيقة قولهم، وكذلك باطنية الصوفية الذين وافقوهم، كأصحاب ابن عربي وابن سبعين، فإن الذين عرفوا حقيقة قولهم كالتلمساني كانوا من أبعد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 الناس عن عبادة الله وطاعته وطاعة رسله، وأشدهم فجوراً وتعدياً لحدود الله، وانتهاكاً لمحارمه، ومخالفة لكتابة ولرسوله، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. عود إلى مناقشة كلام ابن سينا عن الوهم وحينئذ فنقول قوله: (إن القضايا الوهمية كاذبة) . إن أراد به القضايا الكلية التي تناقض معقولاً، فتلك عندهم ليست من قضايا الوهم. وإن أراد به ما يدركه الوهم من الأمور المعينة في المحسوسات، فتلك صادقة عنده لا كاذبة، وهي لا تعارض الكليات. وقوله: (إن الوهم الإنساني يقضي بها قضاءً شديد القوة لأنه ليس يقبل ضدها ويقابلها) . فيقال له: هذا يقتضي تمكنها من الفطرة، وثبوتها في النفس، وأن الفطرة لا تقبل نقيضها، وهذا يقتضي صحتها وثبوتها، لا ضعفها وفسادها. وأما قوله: (لأن الوهم تابع للحس، فما لا يوافق المحسوس لا يقبله الوهم) . فيقال له: إن أردت بالوهم التابع للحس ما سميته وهماً، وهو توهم معاني جزئية غير محسوسة في المحسوسات الجزئية، فلا ريب أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 الوهم تابع للحس، وهذا الوهم قد ذكرت أنه صحيح مطابق كالحس، فإن قدحت في هذا قدحت في الحس، وإن جعلت هذا معارضاً للعقل، كان بمنزلة جعل الحس معارضاً للعقل. وإن أردت بالوهم ما يقضي قضاءً كلياً أن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه محال، ونحو ذلك من القضايا الكلية التي تزعم أنها معارضة للعقل، كان هذا الكلام باطلاً من وجهين: أحدهما: أن هذه قضايا كلية مطلقة، والوهم قد ذكرت أن تصوراته جزئية، فلا يكون هذا من الوهميات. الثاني: أن يقال: هذه القضايا الكلية كسائر القضايا الكلية التي مبادئها من الحس، كالقضاء بأن السواد والبياض يتضادان، والحركة والسكون يتناقضان، والجسم الواحد لا يكون في مكانين، وأمثال ذلك. بل هذه بمنزلة الحكم بأن الموجود إما أن يكون قائماً بنفسه، وإما أن يكون قائماً بغيره، وإما أن يكون قديماً وإما أن يكون محدثاً، وإما أن يكون واجباً بنفسه، وإما أن يكون ممكناً بنفسه، وأمثال ذلك. فالقدح في هذه القضايا الكلية كالقدح في تلك، فإن الجاز القدح في هذه لأن مبادئها الحس جاز القدح في تلك وإلا فلا، إذ الحس وما يتبعه - مما يسمونه توهماً وتخيلاً - لا يدرك إلا أموراً معينة جزئية، ثم يقضي الذهن قضاءً كلياً، فإن جاز أن تكون تلك القضايا الكلية باطلة بسبب كونها مبدئها من هذا الوهم، الذي هو في الأصل الصحيح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 عندهم، جاز أن تكون القضايا الكلية باطلة إذا كان مبدئها من الحس عندهم. فلو قال قائل يمكن في الموجود غير المحسوس أن يكون لا وجباً ولا ممكناً، ولا قديماً ولا محدثاً، ولا قائماً بنفسه ولا قائماً بغيره - كان بمنزلة قول القائل: يمكن فيه أن يكون لا مبايناً لغيره ولا محايثاً له، ولا مداخلاً له ولا خارجاً عنه. وإن جاز أن يقال لهذا: هذه قضايا وهمية، والوهم تابع للحس، جاز أن يقال للأول: وهذه قضايا وهمية، أو يقال: قضايا حسية وحكم الحس والوهم لا يقبل إلا في الحسيات، فلا يحكم في الوجود المطلق وتوابعه، لأن ذلك معقول غير محسوس، فما به ترد تلك القضايا الكلية يمكن أن يقال في أمثالها من القضايا الكلية المتناولة لجميع الموجودات والمعلومات. وأما قوله في بيان أنها كاذبة: (من المعلوم أن المحسوسات إذا كان لها مبادئ وأصول، كانت تلك قبل المحسوسات ولم تكن محسوسة، ولم يكن وجودها على نحو وجود المحسوسات، فلم يمكن أن يتمثل ذلك الوجود في الوهم) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 فيقال له: هذا كلام على تقدير أن يكون للمحسوسات مباد لا يمكن تعلق الحس بها، وهذا هو رأس المسألة وأول النزاع فإذا جعلت هذا حجة في إثبات مطلوبك فقد صادرت على المطلوب. ثم يقال لك: الوهم إنما يتصور عندك في الأمور الجزئية، وهذه القضايا كلية لا جزئية. ويقال لك أيضاً: هذا بعينه يرد عليك في تقسيم الوجود إلى: قائم بنفسه وبغيره، وقديم ومحدث، وجوهر وعرض، وعلة ومعلول، ونحو ذلك فإن ما ذكرته من هذه القضايا يتناول هذه. ويقال لك ما تعني بقولك: (إن المحسوسات إذا كان لها مباد وأصول كانت قبل المحسوسات) . أتعني به أن ما أحسسناه له مباد وأصول لم نحسها؟ أم تعني به أن ما يمكن أن يحس به يجب أن يكون له مبدأ لا يمكن الإحساس به؟ . فإن عنيت الأول فهو مسلم، لكن لا يلزم من عدم إحساسنا بها أن لا يكون الإحساس بها ممكناً، ولا يقول عاقل: إن كل ما لم نشهده الآن لا يمكن أن نشهده بعد الموت، أو في وقت آخر، فإنه ما من عاقل إلا ويجوز أن يكون فوق الأفلاك ما لا نشهده الآن، بل يجوز أن تكون هناك أفلاك ونجوم لا ندركها فضلاً عن غيرها. وإن قال: إنه لا بد أن يكون لكل ما يمكن أن يحس به مبدأ لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 يمكن أن نحس به، فهذا ممنوع، وهو رأس المسألة ولم يذكر عليه دليلاً. وهو في إشاراته لم يذكر على ذلك من الأدلة إلا ما ذكره الرازي وأمثاله، فإنه قال: (في الوجود وعلله: إنه قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس، وأن ما لا يناله الحس بجوهره، ففرض وجوده محال، وأن ما لا يتخصص بمكان أو يوضع بذاته كالجسم، أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم، فلا حظ له ولا وجود) . قال: (وأنت يتأتى لك أن تتأمل نفس المحسوس، فتعلم منه بطلان قول هؤلاء، فإنك، ومن يستحق أن يخاطب، تعلمان أن هذه المحسوسات قد يقع عليها اسم واحد، لا على الاشتراك الصرف، بل بحسب معنى واحد، مثل اسم الإنسان، فإنكما لا تشكان في أن وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود، فذلك المعنى الموجود لا يخلو: إما أن يكون بحيث يناله الحس، أو لا يكون. فإن كان بعيداً من أن يناله الحس فقد أخرج التفتش من المحسوسات ما ليس بمحسوس، وهذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 أعجب. وإن كان محسوساً فله لا محالة: وضع، وأين، ومقدار معين، وكيف معين، لا يتأتى أن يحس، بل ولا أن يتخيل إلا كذلك، فإن كل محسوس وكل متخيل فإنه يتخصص لا محالة بشيء من هذه الأحوال، وإذا كان كذلك لم يكن ملائماً لما ليس بتلك الحال، فلم يكن مقولاً على كثيرين يختلفون في تلك الحال. فإذن الإنسان من حيث هو واحد بالحقيقة، بل من حيث الحقيقة الأصلية التي لا تختلف فيها الكثرة غير المحسوس، بل معقول صرف، وكذلك الحال في كل الكلي) . فهذا لفظه، وأتباعه مشوا خلفه فأثبتوا ما ليس بمحسوس بإثبات الكليات المعقولة، وقد عرف بالاضطرار أن الكليات لا تكون كلية إلا في العقل لا في الخارج، بل ليس في الخارج كلي البتة، والذي يقال إنه كلي طبيعي لا يوجد إلا معيناً جزئياً، فما كان كلياً في العقل يوجد في الخارج معيناً لا كلياً، كما قد بسط في موضعه. فهذا الكلام وأمثاله هو الذي يثبت به أن للموجود مبادئ لا يمكن أن يحس بها. وأما قوله: (إذا كانت للمحسوسات مبادئ كانت غير محسوسة) ، فتلبيس لأن لفظ (المحسوس) يراد به ما هو محسوس لنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 بالفعل وما يمكن إحساسه، ولا ريب أن المحسوسات بالفعل لها مبادئ غير محسوسة. لكن لم قلت: إن كل ما يمكن إحساسه له مبدأ لا يمكن إحساسه، هذه حكاية المذهب. وأما قوله: (ولهذا كان الوهم مساعداً للعقل في الأصول التي تنتج وجود تلك المبادئ، فإذا تعديا معاً إلى النتيجة نكص الوهم وامتنع عن قبول ما سلم موجبه) ، فهذا ممنوع. وقد عرف أن أدلته على إثبات ذلك من جنس هذه الأدلة التي أثبت بها الموجودات العقلية الثابتة في الخارج بإثبات كليات، وهو مثل إثباته لما كان خارج الذهن. ثم يقال له: الوهم المساعد للعقل: إن أردت به ما سميته وهماً، وهو ما يتصور في المحسوسات الجزئية معاني غير محسوسة، كالصداقة والعداوة، فليس في هذه التصورات مقدمة تساعد على إثبات موجود لا يمكن الإحساس به، بل تلك المقدمات مثل إثبات الكليات وأمثالها ليس فيها مقدمة يتصورها هذا الوهم. وإن أردت بالوهم المساعد ما يقضي قضايا كلية، مثل قضاء الذهن بأن بين هذا الإنسان وهذا الإنسان إنسانية مشتركة، ونحو ذلك فهذه قضايا عقلية لا وهمية. وأيضاً فالقاضي بإثبات إنسانية مطلقة هو القاضي بأن كل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 موجودين لا بد أن يكون أحدهما مبايناً للآخر أو محايثاً له، كما أنه هو القاضي بأن كل موجودين لا بد أن يقارن وجود أحدهما الآخر أو يتقدم عليه، وأن كل موجود فلا بد أن يكون قائماً بنفسه أو بغيره. فهذه القضايا الكلية إن سميتها وهمية كانت العقليات هي الوهميات، وإن سميتها عقليات وقدرت تناقضها لزم تناقض العقليات. واعلم أن هؤلاء قد يجيبون بجواب يمكن أن يجاب به كل من قدح في العقليات الكلية. وقولك: (فإذا تعديا معاً إلى النتيجة نكص الوهم) . يقال لك: ما الوهم الناكص: أهو الذي سميته وهماً؟ فذاك إنما يتصور معاني جزئية، فليس له في الكليات حكم: لا بقبول ولا رد فلا يقال فيه: لا يقبل ولا ينكص، كما لا يقال في القضايا الكلية: إن الحس يقبلها ولا يردها، كما لا يقال: إن البصر يميز بين الأصوات، والسمع يميز بين الألوان. وإن قلت: إن العقل يثبت موجوداً معيناً لا يمكن الإشارة إليه، والوهم لا يتصور معيناً لا يشار إليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 فيقال لك: العقل إنما يثبت أموراً كلية مطلقة، لا يثبت شيئاً معيناً إلا بواسطة غيره، كالحس وتوابع الحس، ولهذا كان القياس العقلي المنطقي لا ينتج إن لم يكن فيه قضية كلية، وإذا أردنا أن ندخل شيئاً من المعينات تحت القضايا الكلية، فلا بد من تصور للمعينات غير التصور للقضايا الكلية. فإذا علمنا أن كل شيء: فإما قائم بنفسه أو بغيره، وان كل موجود: فإما واجب بنفسه وإما ممكن بنفسه، وأن كل موجود: فإما قديم وإما محدث، وأن كل موجود أو كل ممكن فهو: إما جوهر وإما عرض، وأردنا أن نحكم على معين بأنه قديم أو محدث، أو جوهر أو عرض، أو واجب أو ممكن، أو نحو ذلك، فلا بد من أن نعينه بغير ما به علمنا تلك القضية الكلية، فتصور المعين الداخل في القضية الكلية شيء وتصور القضية الكلية شيء آخر. فليتدبر الفاضل هذا، ليتبين له أن من لم يثبت موجوداً يمكن الإحساس به لم يثبت إلا قضايا كلية في الأذهان، كما يثبتون العدد المطلق، والمقدار المطلق، والحقائق المطلقة، والوجود المطلق، وكل هذه أمور ثابتة في الأذهان، لا موجودة في الأعيان. ولهذا من أثبت أن في الوجود موجوداً واجباً قديماً، وقال: إنه يمتنع الإشارة إليه، امتنع أن يكون عنده معيناً مختصاً، ولزم أن يكون مطلقاً مجرداً في الذهن، فلا حقيقة له في الخارج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 وهذا مذهب أئمة الجهمية، فإنهم يثبتون موجوداً مطلقاً يمتنع وجوده في الخارج، فابن سينا وأتباعه يقولون: هو وجود مطلق بشرط نفي جميع الأمور الثبوتية، وهو أبلغ الأقوال في كونه معدوماً، وآخرون يقولون: هو مطلق بشرط نفي الأمور الثبوتية والسلبية، لا بشرط شيء من الأمور الثبوتية والسلبية كما يقول هذا وهذا طائفة من ملحدة الباطنية ومن وافقهم من الصوفية. ومن المعلوم أن الوجود المشروط فيه نفي هذا وهذا ممتنع، فكيف بالمشروط فيه النفي؟ فإن ما اشترط فيه العدم كان أولى بالعدم مما لم يشترط فيه وجود ولا عدم، ومما اشترط فيه نفي الوجود والعدم جميعاً؟ وهذا هو المطلق بشرط الإطلاق. وهم يقرون في منطقهم ما هو متفق عليه بين العقلاء من أن المطلق بشر الإطلاق لا وجود له في الخارج، ويقررون أن الفصول المميزة بين موجودين لا بد أن تكون أموراً وجودية لا تكون عدمية، وهم لا يميزون الوجود الواجب عن الوجود الممكن إلا بأمور عدمية، ومن ظن أن مذهب ابن سينا إثبات وجود خاص بمنزلة الوجود المشروط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 بسلب جميع الحقائق، فجعل فيه وجوداً مشتركاً ووجوداً مختصاً، لم يفهم مذهبه، كما فعل ذلك الطوسي منتصراً له فلم يفهم مذهبه. والقونوي وأمثاله يقولون: هو المطلق لا بشرط، وهذا إما أن يكون ممتنعاً في الخارج، وإما أن يكون جزءاً من الممكنات، فيكون الواجب جزءاً من الممكنات. وقد بسط بيان تناقض أقوالهم في غير هذا الموضع، واعتبر ما ذكرناه من أن كل ما يثبتونه بالبرهان القياسي فإنه قضايا كلية مطلقة، بأنهم إذا أرادوا أن يعينوا شيئاً موجوداً في الخارج داخلاً في تلك القضية الكلية، عينوه إما بالحس الباطن أو الظاهر، إذ العقل يدرك الكليات والحس هو الذي يدرك الجزئيات، فإذا أثبتوا أن الحركة الإرادية مسبوقة بالتصور، وأرادوا تعيين ذلك، عينوا: إما نفس الإنسان فيشيرون إليها، وإما النفس الفلكية فيشيرون إلى الفلك. وإن أثبتوا وجود موجود معين في الخارج يدخل تحت هذه القضية من غير إشارة إليه تعذر ذلك عليهم. وكذلك إذا ثبت بالعقل أن الكل أعظم من الجزء، وأن الأمر المساوية لشيء واحد متساوية، وأن الشيء الواحد لا يكون موجوداً معدوماً ونحو ذلك، فمنى أراد الإنسان إدخال معين في هذه القضية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 الكلية أشار إليه. والقضايا الكلية تارة يكون لجزيئاتها وجود في الخارج، وتارة تكون مقدورة في الأذهان، لا وجود لها في الأعيان، وهذا كثيراً ما يقع فيها الغلط والالتباس. وليس المقصود الأول بالعلم إلا علم ما هو ثابت في الخارج، وأما المقدورات الذهنية فتلك بحسب ما يخطر للنفوس من التصورات، سواء كانت حقاً أو باطلاً، وما يثبته هؤلاء النفاة من إثبات موجود لا يمكن الإشارة إليه، ولا هو داخل العالم ولا خارجه عند التأمل والتدبر نبين أنه من المقدرات الذهنية، لا من الموجودات العينية. وغير أن ابن سينا وأتباعه م المنطقيين، مثل أبي البركات صاحب المعتبر وغيره، لم يخرجوا هذه القضايا التي سماها ابن سينا (وهميات) من الأوليات البديهيات، كما أخرجها ابن سينا، وما أظن صاحب المنطق أرسطو أخرجها أيضاً. وأما قوله: (وهذا الضرب من القضايا أقوى في النفس من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 المشهورات التي ليست بأولية، وتكاد تشاكل الأوليات وتدخل في المشبهات بها) إلى آخره. يقال له: هذا أيضاً مما يبين قوتها وصدقها، فإنهم اعترفوا بأنها أقوى من المشهورات التي ليست بأولية، وهذه المشهورات عند أكثر العقلاء من العقليات الضروريات، فإذا كانت هذه أقوى منها لزم أن تكون أقوى من بعض العقليات الضروريات، وذلك يوجب صدقها. وذلك أنه قال: (فأما المشهورات فمنها هذه الأوليات ونحوها مما يجب قبوله، لا من حيث هي واجب قبولها، بل من حيث عموم الاعتراف بها، ومنها الآراء المسماة بالمحمودة، وربما خصصناها باسم المشهورة، إذ لا عمدة لها إلا الشهرة، وهي أن لو خلي الإنسان وعقله المجرد، ووهمه وحسه، لم يؤدب بقبوله قضايا ما والاعتراف بها، ولم يمكنه الاستقراء بظنه القوي إلى حكم لكثرة الجزئيات، ولم يستدع إليها ما في طبعه الإنساني من الرحمة والخجل، والأنفة والحمية، وغير ذلك- لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 وحسه، مثل حكمنا أن سلب مال الإنسان للإنسان قبيح، وأن الكذب قبيح، ومن هذا الجنس ما يسبق إلى وهم كثير من الناس، وليس شيء من هذا يوجبه العقل الساذج، ولو توهم الإنسان نفسه، وأنه خلق دفعة، تام العقل، ولم يسمع أدباً، ولم يطع أنفعالاً نفسياً أو خلقاً، لم يقض في أمثال هذه القضايا بشيء بل أمكنه أن يجهله ويتوقف فيه، ولي كذلك حال قضائه، لأن الكل أعظم من الجزء. وهذه المشهورات قد تكون صادقة، وقد تكون كاذبة، وإن كانت صادقة فليست تنسب إلى الأوليات ونحوها، إذا لم يكن بينة الصدق عند العقل الأول إلا بنظر، وإن كانت محمودة عنده، والصادق غير المحمود، وكذلك الكاذب غير الشنيع، ورب شنيع حق، ورب محمود كاذب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 والمشهورات: إما من الواجبات، وإما من التأديبات الصلاحية، وما تتطابق عليها الشرائع الإلهية، وإما خلقيات وانفعالات، وإما استقرائيات، وهي: إما بحسب الإطلاق، وإما بحسب صناعة. قلت: ليس هذا موضع بسط القول ..... قال ابن سينا: (وأما القضايا الوهمية فهي قضايا كاذبة، إلا أن الوهم الإنساني يقضي بها قضاء شديد القوة، لأنه ليس يقبل ضدها ومقابلها، بسبب أن الوهم تابع للحس، فما لا يوافق الحس لا يقبله الوهم، ومن المعلوم أن المحسوسات إذا كان لها مبادئ وأصول كانت تلك قبل المحسوسات، ولم تكن محسوسة، ولم يكن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 وجودها على نحو وجود المحسوسات، فلم يمكن أن يتمثل ذلك الوجود في الوهم، ولهذا كان الوهم مساعداً للعقل في الأصول التي تنتج وجود تلك المبادئ، فإذا تعديا معاً إلى النتيجة نكص الوهم، وامتنع عن قبول ما سلم موجبه. وهذا الضرب من القضايا أقوى في النفس من المشهورات التي ليست بأولية، وتكاد تشاكل الأوليات، وتدخل في المشبهات بها، وهي أحكام للنفس في أمور متقدمة على المحسوسات، أو أعم منها، على نحو ما يجب أن لا يكون لها، وعلى نحو ما يجب أن يكون أو يظن. في المحسوسات، مثل اعتقاد المعتقد أنه لا بد من خلاء ينتهي إليه الملاء إذا تناهى، وانه لا بد في كل موجود من أن يكون مشاراً إلى جهة وجوده) . فيقال له: هذا الكلام إنما يصح أن لو ثبت وجود أمور لا يمكن الإحساس بها، حتى يكون حكم هذه في ما هو مقدم على تلك، أو ما هو أعم منها، وثبوت وجود هذه الأمور إنما يصح إذا ثبت إمكان ذلك، وإمكان ذلك إنما يصح إذا ثبت بطلان هذه القضايا التي يسميها الوهميات، فلو أبطلت هذه الوهميات بإثبات ذلك لزم الدور، فإن هذه القضايا تحكم بامتناع وجود ما لا يمكن الإشارة إليه، والمقدمات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 التي تثبت ذلك ليست مسلمة عندها، بل لا يمكن عندها تسليم ما يستلزم نقيض ذلك، فإنه قدح في الضروريات بالنظريات. وأيضاً فالوهم عندهم إنما يتصور معاني جزئية، وهذه القضايا كلية، فامتنع أن يكون وهمية. وأيضاً فما يثبت به وجود هذه الموجودات قضايا سوفسطائية، كما بين في موضعه. وأما قوله: (وهذه الوهميات، لولا مخالفة السنن الشرعية لها، لكانت تكون مشهورة وإنما تثلم في شهرتها الديانات الحقيقية والعلوم الحكمية) . فيقال له: هذا من أصدق الدليل على صحتها، وذلك أن هذه مشهورة عند جميع الأمم الذين لم تغير فطرتهم، وعند جميع الأمم المتبعين لسنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من المسلمين واليهود والنصارى، وإنما يقدح فيها المبتدعة من أهل الديانات، كالمعتزلة ونحوهم. وابن سينا لما كان من أتباع القرامطة الباطنية، وهو يعاشر أهل الديانات المبتدعين من الرافضة والمعتزلة، أو من فيه شعبة من ذلك، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 وهؤلاء يقولون: إن الله ليس فوق العرش، لم تكن هذه مشهورة عند هؤلاء. ومن المعلوم باتفاق هؤلاء وغيرهم، أن الأنبياء لم يقدحوا في هذه القضايا، ولا أخبروا بما يناقضها، بل أخبار الأنبياء كلها توافق هذه القضايا. والقرآن والتوراة والإنجيل فيها من الموافق لهذه القضايا ما لا يحصيه إلا الله. وكذلك في الأخبار النبوية والآثار السلفية، بل لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم قول يناقض إثبات هذه القضايا. وابن سينا وأمثاله مقرون بان الكتب الإلهية إنما جاءت بما يوافق مذهب المثبتة للصفات والعلو، بما لا يناقض ذلك، وهم يسمون ذلك تشبيهاً، ويقولون: الكتب الإلهية إنما جاءت بالتشبيه، ويجعلون هذا مما احتجوا به، كما قد حكينا كلامه في ذلك، وأنه احتج بذلك على هؤلاء الذين وافقوه على نفي الصفات والعلو. وقال: إذا كان هذا التوحيد حق، والأنبياء لم تخبر به بل بنقيضه، فكذلك في أمر المعاد، فكيف يزعم من هذا أن السنن الشرعية والديانات الحقيقة منعت هذه أن تكون مشهورة. فعلم أن المانع لشهرتها هو قول لم يوجد عن الأنبياء وأتباع الأنبياء، وأن شهرتها إنما امتنعت بين هؤلاء الذين ابتدعوا قولاً ليس مشروطاً، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 وحينئذ فيكون المانع من شهرتها عند من لم تشتهر عنده سنة بدعية لا شرعية، وديانة وضعها بعض الناس، ليست منقولة عن نبي من الأنبياء. ولا ريب أن المشركين والمبدلين من أهل الكتاب لهم شرائع وديانات ابتدعوها ووضعوها، وتلك لا يجب قبولها عند العقلاء، وإنما يجب أن يتبع ما يثبت نقله عن الأنبياء المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم. وكذلك قوله إنه: (يثلم في شهرتها العلوم الحكمية) . فيقال له: قد نقل غيرك من الفلاسفة القدماء أنهم كانوا يقولون بموجب هذه القضايا، كما بين ذلك ابن رشد الحفيد وغيره، بل المنقول عن متقدمي الفلاسفة وأساطينهم بل أرسطو، وعن كثير من متأخريهم، القول بما هو أبلغ من هذه القضايا، من قيام الحوادث بالواجب، وما يتبع ذلك، كما تقدم نقل بعض ذلك عنهم. وقوله: (ولا يكاد المدفوع عن ذلك يقاوم نفسه في دفع ذلك، لشدة استيلاء الوهم) . فيقال له: هذا يدل على تمكنها في الفطرة، وثبوتها في الجبلة. وأنها مغروزة في النفوس، فمن دفع ذلك عن نفسه لم يقاوم نفسه، ولم يمكنه دفعها عن نفسه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 وهذا حد العلم الضروري، وهو الذي يلزم نفس العبد لزوماً لا يمكنه معه دفعه عن نفسه، فإذا لم يمكن الإنسان أن يدفع هذه القضايا عن نفسه، ولا يقاوم نفسه في دفعها، تبين أنها ضرورية، وأن هؤلاء الدافعين لها يريدون تغيير فطرة الله التي فطر الناس عليها، وتغيير خلقه، كأمثالهم من الجاحدين المكذبين بالحق، الذين يكذبون بالحق المعلوم بالبهتان والسفسطة، وأن قدحهم في هذا كقدح أمثالهم من السوفسطائية في أمثال هذه. وأما قوله: (لشدة استيلاء الوهم) . فقد قلنا غير مرة: إن الوهم قد فسروه بالقوة التي تتصور معاني جزئية في محسوسات جزئية، وهذا الوهم إنما تصرفه في الجزئيات من المعاني، وأما هذه القضايا فهي قضايا كلية، فهي من حكم العقل الصريح، فالمخالف لها مخالف لصريح العقل، وهو المتبع لقضايا الوهم الفاسد، فإنه يثبت موجوداً مطلقاً بشرط الإطلاق، أو موجوداً لا داخل العالم ولا خارجه، وهذا الموجود لا يثبته في الخارج إلا الوهم والخيال الفاسد، لا يثبته لا عقل صريح ولا نقل صحيح، بل ولا وهم مطابق، ولا خيال مستقيم، كما لا يثبته حس سليم، فنفاة ذلك ينفون موجب العقل والشرع والحس السليم، والوهم المستقيم، والخيال القويم، ويثبتون ما لا يدرك إلا بوهم فاسد، وخيال فاسد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 وقوله: (على أن ما يدفعه الوهم ولا يقبله إذا كان في المحسوسات فهو مدفوع منكر) . فيقال له: هذا أيضاً حجة عليكم، فإن المنازع يقول: أنه لم يقم دليل شرعي ولا عقلي على إثبات موجود لا يمكن أن يعرف بالحس بوجه من الوجوه، وإن كان لا يمكن أن يعرف كثير من الناس بحسه، ولا يمكن أن يعر ف بالحس في كثير من الأحوال. وقد عرف من مذهب السلف وأهل السنة والجماعة أن الله يمكن أن يرى في الآخرة، وكذلك الملائكة والجن يمكن أن ترى، وما يقوم بالمرئيات من الصفات يمكن أن يعرف بطريقها، كما تعرف المسموعات بالسمع، والملموسات باللمس، ويقول: إن الرسل صلوات الله عليهم قسموا الموجودات إلى غيب وشهادة، وأمروا الإنسان بالإيمان بما أخبروا به من الغيب. وكون الشيء شاهداً وغائباً أمر يعود إلى كونه الآن مشهوداً أو ليس الآن بمشهود، فما لم يكن الآن مشهوداً يمكن أن يشهد بعد ذلك، بخلاف هؤلاء النفاة، فإنهم قسموا الموجودات في الخارج إلى محسوس، وإلى معقول لا يمكن الإحساس به بحال. وهذا مما ينفيه صريح العقل لا مما يثبته، وإنما المعقول الصرف ما كان ثابتاً في العقل كالعلوم الكلية، وليس للكليات وجود في الخارج، مع انه قد يقال: إنه يمكن الإحساس بها أيضاً، إذا أمكن الإحساس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 بمحلها، كما يمكن الإحساس بأمثالها من الأعراض، كالعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك. لكن نحن لا نحس الآن بهذه الأمور بالحس الظاهر، وعدم إحساسنا الآن بذلك، لا يمنع أن الملائكة يمكنها الإحساس بذلك، وأنه يمكننا الإحساس بذلك في حال أخرى، وأنه يمكن كل واحد أن يحس بما في باطن غيره، كما يمكنه الإحساس الآن بوجهه وعينه، وإن كان الإنسان لا يرى وجهه وعينه، فقد يشهد الإنسان من غيره ما لا يشهده من نفسه، وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع. وأيضاً فالحس نوعان: حس ظاهر يحسه الإنسان بمشاعره الظاهرة فيراه ويسمعه ويباشره بجلده، وحسن باطن كما أن الإنسان يحس بما في باطنه من اللذة والألم، والحب والبغض، والفرح والحزن، والقوة والضعف وغير ذلك. والروح تحس بأشياء لا يحس بها البدن، كما يحس من يحصل له نوع تجريد، بالنوم وغيره، بأمور لا يحس بها غيره. ثم الروح بعد الموت تكون أقوى تجرداً، فترى بعد الموت وتحس بأمور لا تراها الآن ولا تحس بها. وفي الأنفس من يحصل له ما يوجب أن يرى بعينه ويسمع بأذنه ما لا يراه الحاضرون ولا يسمعونه، كما يرى الأنبياء الملائكة ويسمعون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 كلامهم، وكما يرى كثير من الناس الجن ويسمعون كلامهم. وأما من يقول بعض الفلاسفة: إن هذه المرئيات والمسموعات إنما هي في نفس الرائي لا في الخارج، فهذا مما قد علم بطلانه بأدلة كثيرة، وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع. ومن كان له نوع خبرة بالجن: إما بمباشرته لهم في نفسه وفي الناس، أو بالأخبار المتواترة له عن الناس، علم من ذلك ما يوجب له اليقين التام بوجودهم في الخارج، دع ما تواتر من ذلك عن الأنبياء. وكذلك ما تواتر عن الأنبياء من وصف الملائكة هو مما يوجب العلم اليقيني بوجودهم في الخارج، كقصة ضيف إبراهيم المكرمين، ومجيئهم إلى إبراهيم، وإتيانه لهم بالعجل السمين ليأكلوه، وبشارتهم لسارة بإسحاق ويعقوب ثم ذهابهم إلى لوط، ومخاطبتهم له، وإهلاك قرى قوم لوط، وقد قص الله هذه القصة في غير هذه الموضع. وكذلك قصة مريم وإرسال الله إليها جبريل في صورة بشر حتى نفخ فيها الروح، وكذلك قصة إتيان جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «تارة في صورة أعرابي» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 «وتارات في صورة دحية الكلبي» . فمن علم أن الروح قد تحس بما لا يحس به البدن، وأن من الناس من يحس بروحه وبدنه ما لا يحسه غيره من الناس، توسع له طرق الحس، ولم يرى الحس مقصوراً على ما يحبه جمهور الناس في الدنيا بهذا البدن، فإن هذا الحس غنما يدرك بعض الموجودات. وحينئذ فإذا قيل: إن كل قائم بنفسه أو كل موجود يمكن الإحساس به، فإنه يراد بذلك ما هو أعم من هذا الحس، بحيث يدخل في ذلك هذا وهذا، وليس للنفاة دليل على إثبات ما ليس بمحسوس بهذا الحس، والعقليات التي يثبتونها إنما هي الكليات الثابتة في الذهن، وتلك في الحقيقة وجودها في الأذهان لا في الأعيان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 وهذا منتهى ما عند ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة، ولهذا كان كمال الإنسان عندهم أن يصير عالماً معقولاً موازياً للعالم الموجود، ويجعلون النعيم والعذاب أمرين قائمين بالنفس، من جملة أعراضها لا ينفصل شيء من ذلك عنها، وقد بينا بعض ما في هذا القول من الضلال في غير هذا الموضع. ولهذا جعل في منطقه العلوم اليقينية العقلية هي هذه العقليات، ونفى أن تكون المشهورات العملية من اليقينيات، ونفى أن يكون ما يثبت الموجودات الحسية الغائبة من اليقينيات، وسمى هذه وهميات، فبإنكاره هذا أنكر الموجودات الغائبة عن إحساس أكثر الناس في هذه الدنيا، فلم يصدق بالموجودات الغائبة، ولا بكثير مما يشاهد في هذا العالم من الملائكة والجن وغير ذلك، وبإنكاره المشهورات أن تكون يقينية أنكر موجب القوة العملية في النفس التي بها تستحسن ما ينفعها من الأعمال، وتستقبح ما يضرها، فأخرج الأعمال التي لا تكمل النفس إلا بها من أن تكون يقينية، كما أخرجها من أن تكون من الكمال، ولم يجعل كمال النفس إلا مجرد علم مجرد، لا حب معه لله تعالى في الحقيقة، وإنما الأعمال عندهم لأجل إعداد النفس لنيل ما يظنونه كمالاً من العلم. وهذا العلم الذي يدعونه غالبه جهل، وما فيه من العلم فليس علماً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 بموجودات معينة، وإنما هو علم أمور مطلقة في الذهن لا وجود لها في الخارج، فلم يحصل له من الكمالات العلمية والعملية ما يوجب سعادتهم في الآخرة، ولا نجاتهم من النار، وكان كثير من اليهود والنصارى أقرب إلى السعادة والنجاة منهم، كما قد بسط في موضعه. والمقصود هنا أن الناس متفقون على أن حكم الذهن بأنه ما من موجود قائم بنفسه وإلا يمكن الإشارة إليه، وأنه يمتنع وجود موجودين ليس أحدهما مبايناً للآخر ولا محايثاً له، بل إن صانع العالم فوق العالم - ليس مما تواطأ عليه الناس وقبله بعضهم عن بعض، كقول النفاة: إنه يمكن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، بل ذلك مما أقر به الناس بفطرتهم، وعرفوا ببدائه عقولهم، وضروات قلوبهم. والقادحون فيما يسلمون ذلك، ويدعون أن فطر الناس أخطأت في هذا الحكم، وأنه من حكم الوهم والخيال الباطل. فإذا كانوا معترفين بأن هذا مما أقروا به بلا مواطأة، لم يمكن أن يقال: إنهم كذبوا على فطرتهم، لأن هؤلاء القائلين بذلك أضعاف أضعاف أضعاف أهل التواتر، بل هم جماهير بني آدم، فإذا قالوا: إن هذا أمر نجده في قلوبنا وفطرتنا، وجب تصديقهم في ذلك. وحينئذ فلا يجوز إبطال هذه القضايا البديهية بقضايا نظرية، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 لأن البديهيات أصل للنظريات، فلو جاز القدح بالنظريات في البديهيات، والنظريات لا تصح إلا بصحة البديهيات، كان ذلك قدحاً في أصل النظريات، فلزم من القدح في البديهيات بالنظريات فساد النظريات، وإذا فسدت لم يصح القدح بها، وهو المطلوب. فهذا ونحوه يبين أنه لا تسمع من النفاة حجة على إبطال مثل هذه القضية البديهية، ثم يبين فساد ما استدل به على بطلان ذلك. الرد على قول الرازي: الوجه الأول أن يقال: من المعلوم أن هذا لا ينكره إلا من يقول بأن الله ليس داخل العالم ولا خارجه، وينكرون أن يكون الله نفسه فوق العالم، فإنهم يقولون: لو كان فوق العرش لكان مبايناً له بالجهة مشاراً إليه، وذلك ممتنع عندهم، فيجوزون وجود موجودين ليس أحدهما مبايناً للآخر ولا مدخلاً له، ووجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه، ويقولون: الباري ليس مبايناً للعالم ولا مداخلاً له. وطائفة من الفلاسفة تقول مثل ذلك فيما تثبته من العقول والنفس الناطقة، ولهم في النفس الفلكية قولان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 وإذا كان كذلك، فجماهير الخلائق يخالفون هؤلاء، ويقولون بأن الله نفسه فوق العالم، وإذا كان الله نفسه فوق العالم، فإن كان ذلك مستلزماً لجواز الإشارة إليه، وأن يكون مبايناً للعالم بالجهة، فلازم الحق حق، وامتنع حينئذ وجود موجود لا مباين للعالم ولا محايث له ولا يشار إليه، وإن أمكن أن يكون هو نفسه فوق العالم، ويكون مع ذلك غير مشار إليه ولا مباين للعالم بالجهة- بطل قول هؤلاء النفاة، فإنهم إنما نفوا أن تكون نفسه فوق العالم، لأن ذلك عندهم مستلزم لكونه مشاراً إليه، ومبايناً للعالم بالجهة، وإذا بطل قولهم حصل المقصود، ولم يكن إلى هذه المقدمات الضرورية حاجة. فالمقصود أنه لا يوافقهم على أنه ليس فوق العالم إلا أقل الناس، ومن لم يوافقهم على ذلك، فإما أن ينكر وجود موجودين: ليس أحدهما مبايناً للآخر ولا محايثاً له، وإما أن لا ينكر ذلك، فإن لم ينكر ذلك، مع إنكار قولهم بأنه ليس فوق العالم، كان إنكاره لقولهم أعظم من ترك إنكاره لما يبطل قولهم. فإن المقصود ما يبطل قولهم، فإذا كان الناس: إما منكر له، وإما منكر لما يستلزم إبطاله، ثبت اتفاق جمهور الناس على إنكاره، وهو المطلوب. ثم يقال: هذه القضية قد صرح أئمة الطوائف الذين كانوا قبل أن يخلق الله الكرامية والحنبلية بأنها قضية بديهية ضرورية، فمن ذلك ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 ذكره عبد العزيز بن يحيى المكي المشهور صاحب الحيدة وهو من القدماء الذين لقوا الشافعي ومن هو أقدم من الشافعي، وهو مشاهير متكلمي أهل السنة الذين اتفقت الأشعرية مع سائر الطوائف المثبتة على تعظيمه واتباعه. كلام عبد العزيز الكناني في مسألة الاستواء والعلو قال في (الرد على الزنادقة والجهمية) : (زعمت الجهمية في قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، إنما المعنى، استولى، كقول العرب: استوى فلان على مصر، استوى فلان على الشام، يريد استولى عليها) . قال: (فيقال له: هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه. فإذا قال: لا. قيل له: فمن زعم ذلك؟ فمن قوله: من زعم ذلك فهو كافر، يقال له: يلزمك أن تقول: إن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، وذلك أن الله تبارك وتعالى أخبر أنه خلق العرش قبل خلق السماوات والأرض، ثم استوى عليه بعد خلق السماوات والأرض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 قال الله عز وجل: {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} [هود: 7] فأخبر أن العرش كان على الماء قبل السماوات والأرض. ثم قال: {خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا} [الفرقان: 59] . وقوله: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم} [غافر: 7] ، وقوله: {استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات} [البقرة: 29] . وقوله: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11] . فأخبر أنه استوى على العرش، فيلزمك أن تقول: المدة التي كان على العرش فيها قبل خلق السماوات والأرض ليس الله بمستول عليه، إذ كان استوى على العرش معناه عندك: استولى، فإنما استولى بزعمك في ذلك الوقت لا قبله. وقد روى عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقبلوا لبشرى يا بني تميم. قد بشرتنا فأعطنا. قال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا: قد قبلنا، فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 قال: كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح ذكر كل شيء» . وروي «عن أبي رزين - وكان يجب النبي صلى الله عليه وسلم مسألته أنه قال: يا رسول الله كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: كان في عماء. ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق العرش على الماء» . قال: (فقال الجهمي: أخبرني كيف استوى على العرش؟ أهو كما يقال: استوى. فلان على السرير، فيكون السرير قد حوى فلاناً وحده إذا كان عليه، فيلزمك أن تقول: إن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه، لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا. قال: فيقال له: أما قولك: كيف استوى؟ فإن الله لا يجري عليه: كيف، وقد أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يخبرنا كيف استوى، فوجب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش، وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى، لأنهم لم يخبرهم كيف ذلك، ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت، وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون، فآمنوا بخبره عن الاستواء، ثم ردوا علم كيف استوى إلى الله، ولكن يلزمك أيها الجهمي أن تقول: إن الله محدود، وقد حوته الأماكن، إذ زعمت في دعواك أنه في الأماكن، لأنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد حواه، كما تقول العرب: فلان في البيت، والماء في الجب، فالبيت قد حوى فلاناً والجب قد حوى الماء، ويلزمك أشنع من ذلك، لأنك قلت أفظع مما قالت به النصارى، وذلك أنهم قالوا: إن الله عز وجل في عيسى، وعيسى بدن إنسان واحد، فكفروا بذلك، وقيل لهم: ما أعظم الله إذ جعلتموه في بطن مريم! وأنتم تقولون: إنه في كل مكان، وفي بطون النساء كلهن، وبدن عيسى وأبدان الناس كلهم، ويلزمك أيضاً أن تقول: إنه في أجواف الكلاب والخنازير لأنها أماكن، وعندك أن الله في كل مكان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! فلما شنعت مقالته، قال: أقول: إن الله في كل مكان، لا كالشيء في الشيء، ولا كالشيء على الشيء، ولا كالشيء خارجاً عن الشيء، ولا مبايناً للشيء، قال: فيقال له: أصل قولك: القياس والمعقول، فقد دللت بالقياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئاً، لأنه لو كان شيئاً داخلاً، فمن القياس والمعقول أن يكون داخلاً في الشيء أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 خارجاً منه، فلما لم يكن في قولك شيئاً استحال أن يكون كالشيء في الشيء أو خارجاً من الشيء، فوصفت لعمري ملتبساً لا وجود له وهو دينك، وأصل مقالتك: التعطيل) . فهذا كلام عبد العزيز يبين أن القياس المعقول يوجب أن ما لا يكون في الشيء ولا خارجاً منه، فإنه لا يكون شيئاً، وأن ذلك صفة توجب أن ما لا يكون في الشيء ولا خارجاً منه فإنه لا يكون شيئاً وأن ذلك صفة المعدوم الذي لا وجود له. والقياس هو الأقيسة العقلية، والمعقول هو العلوم الضرورية، وعبد العزيز هذا قبل وجود الحنبلية والكرامية كما تقدم. وقال أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، إمام الحارث المحاسبي، وأبو العباس القلانسي، والأشعري، وأمثالهم، وممن ذكر ذلك عنه أبو بكر بن فورك فيما جمعه من كلامه، فإن جمع من كلامه، وجمع كلام الأشعري أيضاً، وبين اتفاقهما في عامة أصولهما. كلام ابن كلاب في مسألة العلو قال ابن كلاب: (وأخرج من النظر والخبر قول من قال: لا في العالم ولا لخارج منه، فنفاه نفياً مستوياً، لأنه لو قيل له: صفة بالعدم، ما قدر أن يقول فيه أكثر منه، ورد أخبار الله نصاً، وقال في ذلك ما لا يجوز في خبر ولا معقول، وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص، والنفي الخالص عندهم هو الإثبات الخالص، وهم عند أنفسهم قياسون) . قال: (فإن قالوا: هذا إفصاح منكم بخلو الأماكن منه، وانفراد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 العرش به. قيل: إن كنتم تعنون خلو الأماكن من تدبيره، وأنه عالم بها، فلا. وإن كنتم تذهبون إلى خلوها من استوائه عليها كما استوت على العرش، فنحن لا نحتشم أن نقول: استوى الله وعلى العرش، ونحتشم أن نقول: استوى على الأرض، واستوى على الجدار، وفي صدر البيت) . وقال أيضاً أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب: (يقال لهم: أهو فوق ما خلق؟ فإن قالوا نعم. قيل ما تعنون بقولكم: إنه فوق ما خلق؟ فإن قالوا: بالقدرة والعزة، قيل لهم: ليس عن هذا سألتكم وإن قالوا: المسألة خطأ. قيل: فليس هو فوق. فإن قالوا: نعم، ليس هو فوق. قيل لهم: وليس هو تحت. فإن قالوا: ولا تحت، أعدموه لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم، وإن قالوا: هو فوق وهو تحت. قيل لهم: فوق تحت، وتحت فوق) . وقال أيضاً: (يقال لهم: إذا قلنا: الإنسان لا مماس ولا مباين للمكان، فهذا محال، فلا بد من نعم. قيل لهم فهو لا مماس ولا مباين؟ فإذا قالوا نعم: قيل لهم فهو بصفة المحال من المخلوقين الذي لا يكون ولا يثبت في الوهم؟ فإذا قالوا: نعم، قيل: فينبغي أن يكون بصفة المحال من هذه الجهة. وقيل لهم أليس لا يقال لما ليس بثابت في الإنسان مماس ولا مباين؟ فإذا قالوا: نعم. قيل: فأخبرونا عن معبودكم: مماس هو أو مباين؟ فإذا قالوا: لا يوصف بهما، قيل لهم: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 فصفة إثبات الخالق كصفة عدم المخلوق، فلم لا تقولون: عدم، كما تقولون للإنسان: عدم، إذا وصفتموه بصفة العدم؟ وقيل لهم: إذا كان عدم المخلوق وجوداً له، فإذا كان العدم وجوداً كان الجهل علماً، والعجز قوة) . وقد ذكر هذا الكلام وأشباهه، ذكره عنه أبو بكر بن فورك في الكتاب الذي أفرده في لمقالاته، وقال فيه: إنه أحب من سماه من أعيان أهل عصره: (أن أجمع له متفرق مقالات أبي محمد بن كلاب، شيخ أهل الدين، وإمام المحققين، المنتصر للحق وأهله، المبين بحجج الله، الذاب عن دين الله، لما من به الله تعالى من معالم طرق دينه للحق، وصراطه المستقيم، السيف المسلول على أهل الأهواء والبدع، الموفق لاتباع الحق، والمؤيد بنصرة الهدى والرشد) وأثنى عليه ثناءً عظيماً. قال: (وكان ذلك على أثر ما جمعت من متفرق مقالات شيخنا الأشعري) . قال: (ولما كان الشيخ الأول، والإمام السابق، أبو محمد عبد الله بن سعيد، الممهد لهذه القواعد، المؤسس لهذه الأصول، والفاصل بحسن ثنائه بين حجج الحق وشبه الباطل، بالتنبيه على طرق الكلام فيه، والدال على موضع الوصل والفصل، والجمع والفرق، الفاتق لرتق الأباطيل، والكاشف عن لبس ما زخرفوا وموهوا) وذكر كلاماً طويلاً في الثناء عليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 والمقصود أن ابن كلاب إمام الأشعري وأصحابه، ومن قبلهم كالحارث المحاسبي وأمثاله، يبين أن من قال: لا هو في العالم ولا خارج منه، فقوله فاسد، خارج عن طريق النظر والخبر، وأنه قد ورد خبر الله نصاً، ولو قيل له: صفة بالعدم، ما قدر أن يقول أكثر منه، وأنه قال ما لا يجوز في خبر ولا معقول، وأنهم قالوا: هذا هو التوحيد الخالص، وهو النفي الخالص، فجعلوا النفي الخالص هو التوحيد الخالص. وهذا الذي قاله هو الذي يقوله جميع العقلاء، الذين يتكلمون بصريح العقل، بخلاف من تكلم في المعقول بما هو وهم وخيال فاسد. ولذلك قال: (إذا قالوا: ليس هو فوق وليس هو تحت فقد أعدموه لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم) . وهذا كله يناقض قول هؤلاء الموافقين للمعتزلة والفلاسفة، من متأخري الشيعة، ومن وافقهم من الحنبلية والمالكية والحنفية والشافعية، وغيرهم من طوائف الفقهاء، الذين بقولون: ليس هو تحت وليس هو فوق. وذكر حجة ثالثة فقال: (أنتم تصفونه بالصفات الممتنعة، التي مضمونها الجمع بين المتقابلين في الموجودات، فيلزمكم أن تصفوه بسائر المتقابلات) . قال: (فيقال لهم: إذا قلنا الإنسان - يعني: وغيره من الأعيان القائمة بأنفسها - لا مماس ولا مباين للمكان، فهذا محال باعترافهم) . تعليق ابن تيمية وهم يقولون: إنه لا مماس ولا مباين للمكان، فيصفونه بالصفة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 المستحيلة الممتنعة في المخلوق، التي لا تثبت في التوهم، ويقولون: يجوز أن نصفه بما يمتنع تصوره وتوهمه في غيره من هذا السلوب، فإذا جوزوا أن يوصف بما يمتنع تصوره في سائر الموجودات، فليصفوه بسائر الممتنعات من الموجودات، فيقولوا: لا هو قديم ولا محدث، ولا قائم بنفسه ولا بغيره، ولا متقدم على غيره ولا مقارن له، ونحو ذلك، ويقولوا: هذا إنما يمتنع في غيره من الموجودات لا فيه. وحينئذ فيقولون: لا هو حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، ولا موجود ولا معدوم، وهذا منتهى قول القرامطة، وهو جمع النقيضين، أو رفع النقيضين. ومن المعلوم أن العقل إذا جزم بامتناع اجتماع الأمرين، أو امتناع ارتفاعهما، سواء كان أحدهما وجوداً والآخر عدماً، وهو التناقض الخاص، أو كانا وجودين،، فإنا نعلم ذلك ابتداءً بما نشهده في الموجودات التي نشهدها، كما أن ما يثبت من الصفات كالحياة والعلم والقدرة والكلام وأمثال ذلك، إنما نعلمه ابتداء بما نعلمه في الموجودات التي نعرفها، ثم إذا اخبرنا الصادق المصدوق عن الغيب الذي لا نشهده، فإنما نفهم مراده الذي أراد أن يفهمنا إياه لما بين ما أخبر به من الغيب، وبين ما علمناه في الشاهد من القدر الجامع الذي فيه نوع تناسب وتشابه، فإذا أخبرنا عما الجنة من الماء واللبن والعسل والخمر والحرير والذهب، لم نفهم ما أراد إفهامنا إن لم نعلم هذه الموجودات في الدنيا، ونعلم أن بينها وبين ما في الجنة قدرا مشتركاً وتناسباً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 وتشابهاً يقتضي أن نعلم ما أراد بخطابه، وإن كانت تلك الموجودات مخالفة لهذه من وجه آخر. كما قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. رواه الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس، وقد رواه غيره واحد منهم محمد بن جرير الطبري في التفسير في قوله: {وأتوا به متشابها} [البقرة: 25] . وإذا كان بين المخلوق والمخلوق قدر فارق مع نوع من إثبات القدر المشترك، الذي يقتضي التناسب والتشابه من بعض الوجوه، فمعلوم أن ما بين الخالق والمخلوق من المفارقة والمباينة أعظم مما بين المخلوق والمخلوق، فهذا مما يوجب نفي مماثلة صفاته لصفات خلقه، ويوجب أن ما بينهما من المباينة والمفارقة أعظم مما بين مخلوق ولمخلوق، مع أنه لولا أن بين مسمى الموجود الموجود، والحي والحي، والعليم والعليم، والقدير والقدير، وأمثال ذلك من المعنى المتفق المتواطئ المناسب والمتشابه، ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 يوجب فهم المعنى لم يفهمه، ولا أمكن أن يفهم أحد ما أخبر به عن الأمور الغائبة. وإذا كان هذا في الخطاب السمعي الخبري، فكذلك في النظر القياسي العقلي، فإنما نعرف ما غاب عنا باعتباره بما شهدناه، فيعتبر الغائب بالشاهد، ويحصل في قلوبنا بسبب ما نشهده من الأعيان والجزئيات الموجودة قضايا كلية عقلية، فيكون إدراج المعينات فيها هو قياس الشمول، كالذي يسميه المنطقيون المقدمتان والنتيجة، ويكون اعتبار المعين بالمعنى هو قياس التمثيل الجامع المشترك، سواء كان هو دليل الحكم أو علة دليل الحكم. والناس في هذا المقام: منهم من يزعم أن القياس البرهاني هو قياس الشمول، وأن قياس التمثيل لا يفيد اليقين، بل لا يسمى قياساً إلا بطريق المجاز، كما يقول ذلك من يقوله من أهل المنطق، ومن وافقهم من نفاة قياس التمثيل في العقليات والشرعيات كابن حزم وأمثاله، ومنهم من ينفي قياس التمثيل في العقليات دون الشرعيات، كأبي المعالي ومتبعيه، مثل الغزالي والرازي والآمدي وأبي محمد المقدسي وأمثالهم. ومنهم من يعكس ذلك فيثبت قياس التمثيل في العقليات دون الشرعيات، كما هو قول أئمة أهل الظاهر، مثل داود بن علي وأمثاله، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 وقول كثير من المعتزلة البغداديين، كالنظام وأمثاله، ومن الشيعة الإمامية، كالمفيد والمرتضى والطوسي وأمثالهم. وكثير من هؤلاء يقول: إن قياس التمثيل هو الذي يستحق أن يسمى قياساً على سبيل الحقيقة، وأما تسمية قياس الشمول قياساً فهو مجاز، كما ذكر ذلك الغزالي وأبو محمد المقدسي وغيرهما. والذي عليه جمهور الناس، وهو الصواب، أن كليهما قياس حقيقة، وأن كليهما يفيد اليقين تارة والظن أخرى، بل هما متلازمان، فإن قياس التمثيل مضمونه تعلق الحكم بالوصف المشترك، الذي هو علة الحكم، أو دليل العلة، أو هو ملزوم للحكم، وهذا المشترك هو الحد الأوسط في قياس الشمول، فإذا قال القايس: نبيذ الحنطة المسكر حرام، قياساً على نبيذ العنب، لأنه شراب مسكر، فكان حراما قياساً عليه، وبين أن المسكر هو مناط التحريم، فيجب تعلق التحريم بكل مسكر - كان هذا قياس تمثيل. وهو منزلة أن يقول: هذا شراب مسكر، وكل مسكر حرام، فالمسكر الذي جعله في هذا القياس حداً أوسط، هو الذي جعله في ذلك القياس الجامع المشترك الذي هو مناط الحكم، فلا فرق بينهما عند التحقيق في المعنى، بل هما متلازمان، وإنما يتفاوتان في ترتيب المعاني والتعبير عنها، ففي الأول يؤخر الكلام في المشترك الذي هو الحد الأوسط، وبيان أنه مستلزم للحكم متضمن له، ويذكر الأصل الذي هو نظير الفرع ابتداءً. وفي الثاني يقدم الكلام في الحد الوسط ويبين شموله وعموه، وانه مستلزم للحكم ابتداء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 والمقصود هنا أنا إذا حكمنا بعقولنا حكماً كلياً يعم الموجودات، أو يعم المعلومات، مثل قولنا: إن الموجود: إما واجب وإما ممكن، وإما قديم وإما محدث، وإما قائم بنفسه، وإما قائم بغيره، وإما مشار إليه، وإما قائم بالمشار إليه، وكل موجودين: فأحدهما إما متقدم على الآخر وإما مقارن له، وإما مباين له وإما محايث له، وقلنا: إن الصانع: إما أن يكون متقدماً على العالم أو مقارناً له، وإما أن يكون خارجاً عنه أو داخلاً فيه - كان علمنا بهذه القضايا الكلية العامة بتوسط ما علمناه من الموجودات. فإذا كنا نعلم أن المعلوم: أما أن يكون موجوداً، وإما أن يكون معدوماً، فادعى مدع أن الواجب لا يقال: إنه موجود لا معدوم، أو ليس بموجود ولا معدوم - كما يقول ذلك من يقوله من القرامطة الباطنية - كنا، وإن لم نشهد الغائب، نعلم أن هذا الخير العام والقضية الكلية تتناول غيره. وإذا قلنا لهذا: هل يمكنك إثبات شيء في الشاهد ليس بموجود ولا معدوم؟ قلنا: لا. قلنا له: فكيف تثبت في الغائب ما ليس بموجود ولا معدوم؟ - كنا قد أبطلنا قوله. قول القائل: أنا لا أصفه بالوصفين المتقابلين لأن القابل لذلك لا يكون إلا جسما ً فإذا قال: أنا أصفه لا بهذا ولا بهذا، بل أنفي عنه هذين الوصفين المتقابلين، لأن اتصافه بأحدهما إنما يكون لو كان قابلاً لأحدهما، وهو لا يقبل واحداً منهما، لأنه لو قبل ذلك لكان جسماً، إذ هذه من صفات الأجسام، فإذا قدرنا موجوداً ليس بجسم، لم يقبل لا هذا ولا هذا - قيل له: فهكذا سائر الملاحدة، إذا قالوا: لا نصفه لا بالحياة ولا بالموت، ولا العلم ولا الجهل ولا القدرة ولا العجز، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 ولا الكلام ولا الخرس، ولا البصر ولا العمى، ولا السمع ولا الصمم، لأن اتصافه بأحدهما فرع لقبوله لأحدهما، وهو لا يقبل واحداً منهما، لأن القابل للاتصاف بذلك لا يكون إلا جسماً، فإن هذه من صفات الأجسام، فإذا قدرنا موجوداً ليس بجسم لم يقبل هذا ولا هذا، فما كان جواباً لهؤلاء الملاحدة فهو جواب لك، فما تخاطب به أنت النفاة الذين ينفون ما تثبته أنت، يخاطبك به المثبتون لما تنفيه أنت حذو القذة بالقذة. ونحن نجيبك بما يصلح أن تجيب أنت ونحن به لسائر الملاحدة، فإن حجتك عليهم قاصرة، وبحوثك معهم ضعيفة، كما بينا ضعف مناظرة هؤلاء الملاحدة في غير موضع. الرد عليه من وجوه: الوجه الأول أن يقال: إن ما يقدر عدم قبوله ولهذا أشد نقصاً واستحال وامتناعاً، من وصفه بأحد النقيضين مع قبوله لأحدهما، وإذا قدرنا جسماً حياً عالماً قادراً سميعاً بصيراً متكلماً كالإنسان والملك وغيرهما، كان ذلك خيراً من الجسم الأعمى الأصم الأبكم، وإن أمكن أن يتصف بضد الكمال. وهذا الجسم الأعمى الأصم الذي يمكن اتصافه بتلك الكمالات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 أكمل من الجماد الذي لا يمكن اتصافه لا بهذا ولا بهذا، والجسم الجماد خير من العدم الذي يكون لا مبايناً لغيره ولا مداخلاً له، ولا قديماً ولا محدثاً، ولا واجباً ولا ممكناً، فأنت وصفته بما لا يوصف به إلا ما هو أنقص من كل ناقص. الوجه الثاني أن يقال: قولك: (فهذه من صفات الأجسام) لفظ مجمل. فإن عنيت أن يكون هذه الصفات لا يوصف بها إلا من هو من جنس المخلوقات، وإذا وصفنا الرب بها لزم أن يكون من جنس الموجودات مماثلاً لها - كان هذا باطلاً، فإنك لا تعلم أن هذه لا يوصف إلا مخلوق، فإن هذا أو المسألة، فلو قدرت أن تبين أن هذه لا يوصف بها إلا مخلوق لم تحتج إلى هذا الكلام. يقال لك: لا سبيل لك إلى هذا النفي، ولا دليل عليه. وإن قلت: إن هذه الصفات توصف بها المخلوقات، وتوصف بها الأجسام. قيل لك: نعم وليس في كون الأجسام المخلوقة توصف بها ما يمنع اتصاف الرب بما هو اللائق به من هذا النوع، كاسم الموجود والثابت والحق والقائم بنفسه ونحو ذلك، فإن هذه الأمور كلها توصف بها الأجسام المخلوقة، فإن طرد قياسه لزم الإلحاد المحض والقرمطة، وأن يرفع النقيضين جميعاً فيقول: لا موجود ولا معدوم، ولا ثابت ولا منتف، ولا حق ولا باطل، ولا قائم بنفسه ولا بغيره، وهذا لازم قول من نفى الصفات، وحينئذ فيلزمه الجمع بين النقيضين، أو رفع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 النقيضين، ويلزمه أن يمثله بالممتنعات والمعدومات، فلا يفر من محذور إلا وقع فيما هو شر منه. الوجه الثالث أن يقال لهذا النافي للمباينة والمداخلة: أنت تصفه بأنه موجود قائم بنفسه، قديم حي عليم قدير، وأنت لا تعرف موجوداً هو كذلك إلا جسماً. فلا بد من أحد الأمرين: إما أن تقول: هو موجود حي عليم قديم وليس بجسم، فيقال لك: وهو أيضاً له حياة وعلم وقدرة وليس بجسم، ويقال لك: هو مباين للعالم، عال عليه، وليس بجسم. وإن قلت: يلزم من كونه مبايناً للعالم عالياً عليه، أن يكون جسماً لأني لا أعقل المباينة والمحايثة إلا من صفات الأجسام. قيل لك: ويلزم من كونه حياً عليماً قديراً أن يكون جسماً، لأنك لا تعقل موجوداً حياً عليماً قديراً إلا جسماً، فهذا نظير هذا، فما تقوله في أحدهما يلزمك نظيره في الآخر، وإلا كنت متناقضاً مفرقاً بين المتماثلين. وإما أن تقول: أنا أقول: إنه موجود قائم بنفسه حي عليم قدير، لأن ذلك قد علم بالشرع والعقل، وإن لزم أن يكون جسماً التزمته، لأن لازم الحق حق. قيل لك: وهكذا يقول من يقول: إنه فوق العالم مباين له: أنا أصفه بذلك، لأنه قد ثبت ذلك بالشرع والعقل، وإذا لزم من ذلك أن يكون جسماً التزمته، لأن لازم الحق حق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 وإما أن تقول: أنا لا أعرف لفظ الجسم، أو تقول: لفظ الجسم فيه إجمال وإبهام، فإذا عنيت به الجسم المعروف في اللغة، وهو بدن الإنسان، لم أسلم لأني لا أعلم موجوداً حياً عالماً قادراً، إلا ما كان مثل بدن الإنسان، فإن الروح هي أيضاً حية عالمة قادرة، وليست من جنس البدن، وكذلك الملك وغيره. وإن عنيت بالجسم أنه يقبل التفريق والتجزئة والتبعيض، بحيث ينفصل بعضه عن بعض الفعل. قيل: أنا أتصور موجوداً عالماً قادراً قبل أن أعلم أنه يمكن تفريقه وتبعيضه، فلا يلزم من تصوري للموجود الحي العالم القادر أن يكون قابلاً لهذا التفريق والتبعيض. وإن عنيت بالجسم أنه يمكن أن يشار إليه إشارة حسية، لم يكن هذا ممتنعاً عندي، بل هذا هو الواجب، فإن كان ما لا يمكن أن يشار إليه، لا يكون موجوداً. وإن عنيت بالجسم انه يمكن مركب من الجواهر المنفردة الحسية، أو من المادة والصورة اللذان يجعلان جوهران عقليان، فأنا ليس عندي شيء من الأجسام كذلك، فضلاً عن أن يقدر مثل ذلك، فإذا كنت نافياً لذلك في المخلوقات البسيطة فتنزيه رب العالمين عن ذلك أولى. وإن عنيت بالتبعيض أنه يمكن أن يرى منه شيء دون شيء، كما قال ابن عباس وعكرمة وغيرهما من السلف ما يوافق ذلك، لم أسلم لك أن أن هذا ممتنع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 وإن عنيت بالجسم أنه يماثل شيئاً، من المخلوقات لم نسلم الملازمة. فأي شيء أجبت به الملحدة من هذه الأجوبة، قال لك المثبت لمباينته للعالم وعلوه عليه مثل ما قلت أنت لهؤلاء الملاحدة. قال ما تعني بقولك: لو كان عالياً على العالم مبايناً له كان جسماً؟ إن عنيت أنه بدن، لم نسلم لك الملازمة. وإن عنيت انه يبل التفريق والتبعيض فكذلك. وإن عنيت أنه مركب من الجواهر المفردة، أو من المادة والصورة لم نسلم الملازمة أيضاً. وإن عنيت شيئاً أنه يكون مماثلاً لشيء من المخلوقات لم نسلم الملازمة. وإن عنيت أنه يشار إليه أو أنه يرى منه شيء دون شيء منع انتفاء اللازم. الوجه الرابع أن يقال: الحكم بأن المعلوم: إما موجود وإما معدوم، وأن الموجود: إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره، وإما واجب وإما ممكن، وإما قديم وإما محدث، وإما متقدم على غيره وإما مقارن له، وإما مباين لغيره وإما محايث له، وأن القائم بنفسه أو القائم القابل لصفات الكمال: إما حي وإما ميت، وإما عالم وإما جاهل، وإما قادر وإما عاجز، وإن ما لا يقبل ذلك أنقص مما يقبله، وأن المتصف بصفات الكمال أكمل من المتصف بصفات النقص، وممن لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا. وهذه العلوم وأمثالها مستقرة في العقول، وهي إما علوم ضرورية، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 أو قريبة من الضرورية، والقطع بها أعظم من القطع بوجود موجود لا يمكن الإشارة الحسية إليه، وأن الواجب الوجود لا يشار إليه، فإن ما يشار إليه فهو جسم، فلو أشير إليه لكان جسماً وليس بجسم فإن هذه الأمور إما أن تكون معلومة الفساد بالضرورة أو بالنظر، وإما أن تكون إذا علمت لا تعلم إلا بطرق نظرية، فلا يمكن القدح بها في تلك المقدمات الضرورية، فالاعتبار والقياس تارة يكون بلفظ الشمول والعموم، وتارة بلفظ التشبيه والتمثيل. وكذلك إذا قلنا: إما أن يكون قائماً بنفسه أو بغيره أو قديماً أو محدثاً، أو واجباً أو ممكناً، فكذلك إذا قلنا: إما أن يكون مبايناً أو محايثاً أو داخلاً أو خارجاً. فبين ابن كلاب - وغره من أئمة النظار - لهؤلاء النفاة: أنكم إذا جوزتم خلو الرب عن الوصفين المتقابلين - الذين يعلمون أنه يمتنع خلو الوجود عنهما - لزمكم مثل ذلك، وأن تصفوه بسائر الممتنعات، فقال: إذا وصفتموه بأنه لا مماس ولا مباين، وأنتم تعلمون أن الموجود الذي تعرفونه لا يكون إلا مماساً أو مبايناً، فوصفتموه بما هو عندكم محال فيما تعرفونه من الموجودات، لزمكم أن تصفوه بأمثال ذلك من المحالات، فتقولون: لا قديم ولا محدث ولا قائم بنفسه ولا غيره، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل وأمثال ذلك. وذكر أيضاً حجة أخرى رابعة فقال: أليس يقال لما ليس بثابت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 في الإنسان: لا مماس ولا مباين؟ فإذا قالوا: نعم، قيل: فأخبرونا عن معبودكم: مماس هو أم مباين؟ فإذا قالوا لا يوصف بهما. قيل لهم: فصفة إثبات الخالق كصفة عدم المخلوق، فلم لا تقولون عدم، كما تقولون للإنسان: عدم إذا وصفتموه بصفة العدم. يقول: أنتم تعرفون أن سلب هذين المتقابلين جميعاً هو من صفات المعدومات، فالموجود الذي تعرفونه، القائم بنفسه، لا يقال: إنه ليس مبايناً لغيره من الأمور القائمة بأنفسها ولا مماساً لها، بخلاف المعدوم، فإنه يقال: لا هو مماس لغيره ولا مباين له، فإذا وصفتموه بصفة المعدوم، فجعلتم ما هو صفة لما هو عدم في الموجودات صفة للخالق الموجود الثابت، وحينئذ فيمكن أن يوصف بأمثال ذلك، فيقال: هو عدم كما يوصف ما عدم من الأناسي بأنه عدم، فقال لهم: إذا كان عدم الموجود وجوداً له، فإذا كان العدم وجوداً، كان الجهل علماً، والعجز قوة، أي إذا جعلتم المعدوم - الذي لا يعقل إلا معدوماً - جعلتموه موجوداً، أمكن حينئذ أن يجهل علماً، والعجز قوة، والموت حياة والخرس كلاماً والصمم سمعاً، والعمى بصراً وأمثال ذلك. وهذا حقيقة قول النفاة، فإنهم يصفون الرب بما لا يوصف به إلا المعدوم، بل يصفون الموجود الواجب بنفسه، الذي لا يقبل العدم بصفات الممتنع الذي لا يقبل الوجود، فإن كان هذا ممكناً أمكن أن يجعل أحد المتناقضين صفة لنقيضه، كما ذكر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 ولا ريب أن النفاة لا تقر بوصفه بالامتناع والعدم والنقائص، لكن نقول: لا نصفه لا بهذا ولا بهذا، لا نصفه بالعلم ولا الجهل ولا الحياة ولا الموت، ولا القدرة ولا العجز ولا الكلام ولا الخرس. فإذا قيل لهم: عن لم يوصف بصفة الكمال، لزم اتصافه بهذه النقائص. قالوا: هذا إنما يكون فيما يقبل الاتصاف بهذا وهذا. ويقول المنطقيون: هذان متقابلان تقابل العدم والملكة، لا تقابل السلب والإيجاب، والمتقابلان تقابل السلب والإيجاب لا يرتفعان جميعاً، بخلاف المتقابلين تقابل العدم والملكة، كالحياة والموت، والعمى والبصر، فإنهما قد يرتفعان جميعاً إذا كان المحل لا يقبلهما كالجمادات، فإنها لما لم تقبل الحياة والبصر والعلم لم يقل فيها إنها حية ولا ميتة، ولا عالمة ولا جاهلة، وقد أشكل كلامهم هذا على كثير من النظار، وأضلوا به خلقاً كثيراً، حتى الآمدي وأمثاله من أذكياء النظار، اعتقدوا أن هذا كلام صحيح، وأنه يقدح في الدليل الذي استدل به السلف والأئمة، ومتكلمو أهل الإثبات في إثبات السمع والبصر وغير ذلك من الصفات. وهذا من جملة تلبيسات أهل المنطق والفلسفة، التي راجت على هؤلاء فأضلتهم عن كثير من الحق الصحيح، المعلوم بالعقل الصريح. وجواب هذا من وجوه بسطناها في غير هذا الموضع. منها أن يقال: فما يقبل الاتصاف بهذه الصفات، مع إمكان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 انتفائه عنه، أكمل ممن لا يقبل الاتصاف بها بحال. فالحيوان الذي يقبل أن يتعاقب عليه العدم والملكة، فيكون إما سميعاً وإما أصم، وإما بصيراً وإما أعمى، وإما حياً وإما ميتاً - أكمل من الجماد الذي لا يقبل لا هذا ولا هذا، بل الحيوان الموصوف بهذه النقائص، مع إمكان اتصافه بهذا الكمال، أكمل من الجماد الذي لا يقبل ذلك. فإذا قلتم: إن الموجود الواجب لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال - مع أن المتصف بالنقائص يمكنه الاتصاف بها - جعلتموه أنقص من الحيوانات، وجعلتموه بمنزلة الجمادات، وكان من وصفه بهذه النقائص، مع إمكان اتصافه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 بالكمالات، خيراً منكم، فمن وصفه بالعمى والصمم والعور، مع إمكان زول هذه النقائص عنه - كان خيراً منكم. وهم يشنعون بما يحكى عن بعض ضلال اليهود والنصارى من أن الله ندم على الطوفان حتى عض على إصبعه وجرى الدم، وبكى على الطوفان حتى رمد، وعادته الملائكة، وآلى على نفسه أنه لا يغرق بنيه، وأن بعض بني إسرائيل وجده ينوح على خراب بيت المقدس، وفي بعض كتب النصارى أنه ينام. ومن قال إن بشراً - كمسيح الهدى ومسيح الضلالة - أنه الله، مع كونه يأكل ويشرب وأنه أعور. وأمثال هؤلاء الذين يصفونه بهذه النقائص - مع إمكان اتصافه بالكمال - هم خير ممن يقول: لا يمكن اتصافه بصفات الكمال بحال. بل من جعل يأكل ويشرب فهو خير ممن يقول: لا يمكن أن يكون حياً ولا عالماً ولا قادراً، فإن الحي الذي يأكل ويشرب، خير من الجماد الذي لا يعلم ولا يتكلم، ولا يسمع ولا يبصر. علم أن من نفى عنه صفات الكمال كان شراً من جميع هذه الطوائف، فإنهم جعلوه كالمعدوم أو الجماد، وهؤلاء شبهوه بالحيوان الذي فيه صفة كمال مع نوع من النقص، فكان تعطيل الأول له من صفات الكمال، وتمثيله له بالمعدومات والجمادات، شراً من تعطيل هذا له عن بعض صفات الكمال مع إثباته لكثير من صفات الكمال، وكان تشبيهه له بالحيوان أمثل من تشبيه ذاك له بالجماد والمعدوم. وهكذا من قيل له: هو واجب، فإنه إن لم يكن واجباً كان ممكناً، وهو قديم فإنه إن لم يكن قديماً كان محدثاً، وهو خالق فإن القائم بنفسه إن لم يكن خالقاً كان مخلوقاً، وهو مباين للعالم خارج عنه، فإنه إن لم يكن مبايناً له خارجاً عنه، كان داخلاً فيه محصوراً محوزاً. كلام الإمام أحمد في الرد على الجهمية والزنادقة في إثبات علو الله واستوائه وممن ذكر ذلك الإمام أحمد فيما خرجه في (الرد على الزنادقة والجهمية) قال: (بيان ما أنكرت الجهمية الضلال أن يكون الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 على العرش. قلنا لم أنكرتم أن الله على العرش؟ وقد قال الله عز وجل: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، فقالوا هو تحت الأرضين السبعة كما هو على العرش، فهو على العرش، وفي السماوات وفي الأرض وفي كل مكان لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، وتلو آيات من القرآن: {وهو الله في السماوات وفي الأرض} [الأنعام: 3] ، فقلنا قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظم الرب شيء. فقالوا: أي شيء؟ قلنا أحشاؤكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة، ليس فيها من عظم الرب شيء. وقد أخبرنا أنه في السماء فقال: {أأمنتم من في السماء أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 يخسف بكم الأرض} [الملك: 16] ، {أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا} [الملك: 17] ، وقال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10] ، وقال: {إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55] ، وقال: {بل رفعه الله إليه} [النساء: 158] ، وقال: {وله من في السماوات والأرض ومن عنده} [الأنبياء: 19] ، وقال: {يخافون ربهم من فوقهم} [النحل: 50] ، وقال: {ذي المعارج} [المعارج: 3] ، وقال: {وهو القاهر فوق عباده} [الأنعام: 18] ، وقال: {وهو العلي العظيم} [البقرة: 255] . فهذا خبر الله أنه في السماء، ووجدنا كل شيء أسفل مذموماً بقول الله عز وجل: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] ، وقال: {وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين} [فصلت: 29] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس مكانه مكان، فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس في مكان واحد؟ . ولكن معنى قول الله عز وجل: {وهو الله في السماوات وفي الأرض} [آل عمران: 129] ، يقول: هو إله من في السماوات وإله من في الأرض، وهو الله على العرش، وقد أحاط الله بعلمه ما دون العرش، لا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان. وذلك قوله تعالى: {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما} [الطلاق: 12] . ومن الاعتبار في ذلك لو أن رجلاً كان في يديه قدح من قوارير صاف، وفيه شيء صاف، لكان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 من غير أن يكون ابن آدم في القدح، والله وله المثل الأعلى - قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه. وخصلة أخرى لو أن رجلاً بنى داراً بجميع مرافقها ثم أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيت في داره، وكم سعة كل بيت، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار. فالله عز وجل - وله المثل الأعلى - قد أحاط بجميع ما خلق، وعلم كيف هو، وما هو، من غير أن يكون في شيء مما خلق. وما تأوله الجهمية من قول الله عز وجل: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7] ، فقالوا: إن الله عز وجل معنا وفينا. قال: فقلنا: فلم قطعتم الخبر من أوله بأن الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 يقول: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} يعني: إلا الله - بعلمه - رابعهم، {ولا خمسة إلا هو} بعلمه {سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم} يعني بعلمه فيهم {أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} [المجادلة: 7] ، يفتح الخبر بعلمه فيهم ويختمه بعلمه. ويقال للجهمي: إذا قال: إن الله معنا بعظمة نفسه. قيل له: هل يغفر الله لكم فيما بينه وبين خلقه؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن الله يباين خلقه، وأن خلقه دونه، وإن قال لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 كفر. وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان. فقل له: أليس الله كان ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: حين خلق الشيء خلقه من نفسه أو خارجاً من نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل: واحد منها: إن زعم أن الله خلق في نفسه فقد كفر، حين زعم أنه خلق الجن والشياطين في نفسه، وإن قال: خلقهم خارجاً من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضاً كفراً حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر رديء. وإن قال: خلقهم خارجاً عن نفسه، ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله كله أجمع، وهو قول أهل السنة) . تعليق ابن تيمية فقد بين الإمام أحمد ما هو معلوم بصريح العقل وبديهته، من أنه لا بد إذا خلق الخلق من أن يخلقه مبايناً له أو محايثاً له، ومع المحايثة: إما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 أن يكون هو العالم، وإما أن يكون العالم فيه، لأنه سبحانه قائم بنفسه، والقائم بنفسه إذا كان محايثاً لغيره، فلا بد أن يكون أحدهما حالاً في الآخر، بخلاف ما لا يقوم بنفسه كالصفات، فإنها قد تكون جميعاً قائمة بغيرها. فهذا القسم لم يحتج أن يذكره لظهور فساده، وأن أحداً لا يقول به، إذ من المعلوم لكل أحد أن الله تعالى قائم بنفسه، لا يجوز أن كون من جنس الأعراض التي تفتقر إلى محل يقوم به. وكذلك من هذا الجنس قول من يقول: لا هو مباين ولا محايث، لما كان معلوماً بصريح العقل بطلانه، لم يدخله في التقسيم، إذ من المستقر في صريح العقل أن الموجود: إما مباين لغيره، وإما مداخل له، فانتفاء هذين القسمين يبطل قول من يجعله لا مبايناً ولا مداخلاً كالمعدوم، وقول من يجعله حالاً في العالم مفتقراً إلى المحل كالأعراض، إذ المفتقر إلى المحل لا يقوم بنفسه، ولا يكون غنياً عما سواه، فيمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه. ولهذا لم يقل مثل هذا أحد من العقلاء، وإن قال بعضهم ما يستلزم ذاك، فما كل من قال مذهباً التزم لوازمه. وقد نفى أيضاً قول من يقول: هو في كل مكان بتقسيم آخر من هذا الجنس، إذ القائل بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، لا يمكنه أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 ينفي قول من يقول: إنه في كل مكان، لأنه إن جوز وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يقبل الإشارة إليه، لم يمكنه مع هذا السلب أن ينفي قول من يقول: هو في كل مكان لا الجسم مع الجسم، ولا كالعرض مع العرض أو الجسم، فإنه إذا احتج على نفي ذلك بأنه لو كان في كل مكان للزم احتياجه إلى محل، أو نحو ذلك، قال له المنازع: هو في كل مكان، وهو مع ذلك لا يحتاج إلى محل، فإن المحتاج إلى المحل إنما هو العرض أو الجسم، وهو ليس بجسم ولا عرض، بل هو لا مماس للأشياء ولا مباين لها، إذ المماسة والمباينة من صفات الجسم، وهو ليس بجسم. كما قد يقول: إنه في كل مكان، وليس بحال ولا مماس ولا مباين، فإذا قال النافي: هذا لا يعقل، قال له نظيره الذي يقول: لا داخل العالم ولا خارجه: وقولك أيضاً لا يعقل، فكلا القولين مخالف للمعروف في العقول، فليس إبطال أحدهما دون الآخر بأولى من العكس. وإنما يمكن أن يرد على الطائفتين أهل الفطر السليمة الذين لم يقولوا ما يناقض صريح العقل. ومن المعلوم أن من قال: إنه في العالم، مثل كون القائم بنفسه في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 القائم بنفسه - كان قوله أقل فساداً من قول من قال: إنه في العالم كالقائم بغيره مع القائم بنفسه، فإن هذا لا يقوله عاقل، فإذا بطل الأول بطل الثاني. فأبطل الإمام أحمد هذا القول أيضاً فقال: (بيان ما ذكره الله في القرآن من قوله تعالى: {وهو معكم} [الحديد: 4] . كلام آخر للإمام أحمد عن المعية وهذا على وجوه: قول الله لموسى: {إنني معكما} [طه: 46] ، يقول في الدفع عنكما. وقال: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] ، يقول: في الدفع عنا. وقال: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [البقرة: 249] ، يقول: في النصر لهم على عدوهم. وقال: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم} [محمد: 35] ، في النصر لكم على عدوكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 وقال: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم} [النساء: 108] ، يقول: بعلمه فيهم. وقال: {فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين} [الشعراء: 61، 62] ، يقول: في العون على فرعون. قال: (فلما ظهرت الحجة على الجهمي لما ادعى على الله أنه مع خلقه في كل شيء غير مماس للشيء ولا مباين منه فقلنا: إذا كان غير مباين أليس هو مماساً؟ قال: لا. قلنا فكيف يكون في كل شيء غير مماس له ولا مباين له؟ فلم يحسن الجواب، فقال: بلا كيف، فخدع الجهال بهذه الكلمة وموه عليهم، فقلنا له: إذا كان يوم القيامة أليس إنما هو الجنة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 والنار، والعرش والهواء؟ قال: بلى. قلنا: فأين يكون ربنا: قال: يكون في الآخرة في كل شيء كما كان، حيث كانت الدنيا في كل شيء. قلنا فإن مذهبكم أن ما كان من الله على العرش فهو على العرش، وما كان من الله في الجنة فهو في الجنة، وما كان من الله في النار فهو في النار وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء، فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله تعالى) . تعليق ابن تيمية فكان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يبينون فساد قول الجهمية، سواء قالوا: إنه في كل مكان، أو قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه، أو قالوا: إنه في العالم أو خارج العالم، إذ جماع قولهم أنه ليس مبايناً للعالم، مختصاً بما فوق العالم. ثم هم مع هذا مضطربون: يقولون هذه تارة، وهذا تارة، ولا يمكن بعض طوائفهم أن يفسد مقالة الأخرى لاشتراكهم في الأصل الفاسد. ولهذا كان الحلولية والاتحادية منهم الذين يقولون: إنه في كل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 مكان يحتجون على النفاة منهم، الذين يقولون: ليس مبايناً للعالم ولا مداخلاً له، بأن قد اتفقنا على أنه ليس فوق العالم، وإذا ثبت ذلك تعين مداخلته للعالم، إما أن يكون وجوده وجود العالم، أو يحل في العالم، أو يتحد به، كما قد عرف من مقالاتهم. والذين أنكروا الحلول والاتحاد من الجهمية، ليست لهم على هؤلاء حجة إلا من جنس حجة المثبتة عليهم، وهو قول المثبتة: إن ما لا يكون داخلاً ولا مبايناً غير موجود، فإن أقروا بصحة هذه الحجة بطل قولهم، وإن لم يقروا بصحتها أمكن إخوانهم الجهمية الحلولية أن لا يقروا بصحة حجتهم، إذ هما من جنس واحد. كلام الرازي في الرد على الحلولية واعتبر ذلك بما ذكره الرازي في الرد على الحلولية فإنه لما ذكر الكلام: (في أنه يمتنع حلول ذاته أو صفة من صفاته في شيء) ذكر: أن النصارى تقول بالحلول تارة والتحاد تارة أخرى) . قال: (والحلول باطل، لأن الحلول إنما يعقل إذا كان الحال مفتقراً إلى المحل، فحلوله بصفة الجواز ينفي افتقار الحال إلى المحل، وبصفة الوجوب، يقتضي افتقار الواجب إلى غيره وحدوثه أو قدم المحل) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 قال: (فإن قلت: أنه قد يقتضي الحلول بشرط وجود المحل، أو المحل يقتضي حلوله فيه، فلم يلزم قدم المحل ولا حلول الواجب. قلت: كلاهما يمنع وجوب الحلول، والاتحاد باطل، لأن المتحدين إن بقيا عند الاتحاد أو عدما وحصل ثالث فلا اتحاد، فإن بقي أحدهما دون الآخر فلا اتحاد، لامتناع كون المعدوم عين الموجود) . قال الرازي: (ناظرت بعض النصارى، فقلت: تسلم أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول؟ قال: نعم. فقلت: فما الدليل على أنه تعالى لم يحل في بدن زيد ولا عمرو، والذبابة والنملة؟ فقال: لأنه ثبت في حق عيسى أنه أحيى الأموات، وأبرأ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 الأكمه والأبرص، ولم يوجد في حق غيره. فقلت له: فقد سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، ولأنه ظهر على يد موسى قلب العصا ثعباناً، وانقلاب الخشبة ثعباناً أعجب من انقلاب الميت حياً، فهو أولى بالدلالة على الحلول في الجملة) . قال: (وبالجملة مذهب النصارى والحلولية أخس من أن يلتفت إليه) . تعليق ابن تيمية قلت: ما ذكره من إبطال الحلول بإلزام النصارى كلام صحيح، ولكن هذا إنما يستقيم على قول أهل الإثبات المثبتين لمباينته للعالم، فأما على قول الجهمية النفاة فلا تستقيم هذه الحجة. وذلك أن الحلول على وجهين: أحدهما: أهل الحلول الخاص، كالنصارى والغالية من هذه الأمة، الذين يقولون بالحلول، إما في علي، وإما في غيره. الثاني: القائلون بالحلول العام، الذين يقولون في جميع المخلوقات نحواً مما قالته النصارى في المسيح عليه السلام، أو ما هو شر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 منه، ويقولون: النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا كما يقول ذلك الاتحادية أصحاب صاحب (الفصوص) وأمثاله، وهم كثيرون في الجهمية. بل عامة عباد الجهمية وفقهائهم، وعامة الذين ينتسبون إلى التحقيق من الجهمية، هم من هؤلاء كابن الفارض، وابن سبعين، والقونوي، والتلمساني، وأمثالهم. فإذا قال الجهمي الذي يقول: إنه في كل مكان، ويقول مع ذلك بأن وجوده غير وجود المخلوقات، أو يقول بالاتحاد من وجه والمباينة من وجه، كما هو قول ابن عربي وأمثاله، كما حكى الإمام أحمد عنهم، يقول: إنه في كل مكان لا مماس للأمكنة ولا مباين لها، وأنه حال في العالم أو متحد به لا كحلول الأعراض والأجسام في الأجسام وأشباه ذلك. فاحتج موافقوهم على نفي المباينة كالرازي وأمثاله بما ذكروه من قولهم: الحلول إنما يعقل إذا كان الحال مفتقراً إلى المحل، فإما أن يكون الحلول جائزاً أو واجباً، فإن كان جائزاً انتفى افتقاره إلى المحل، فلزم الجمع بين النقيضين: أن يكون مفتقراً إلى المحل غير مفتقراً إليه لكون حلوله جائزاً لا واجباً، وإن كان الحلول واجباً لم يكن الحال واجباً بنفسه بل بغيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 قال لهم الحلولية: قولكم الحلول المعقول يقتضي افتقار الحال إلى المحل إنما يكون إذا كان الحال عرضاً، فضلاً عن أن يكون جسماً، فضلاً عن أن يكون لا جسماً ولا عرضاً، فأما إذا قدر حال ليس بجسم ولا عرض، فلم قلتم: إن حلوله يقتضي افتقاره إلى المحل؟ وقالوا لهم: إذا جوزتم وجود موجود لا مباين لغيره ولا حال فيه، فلم لا يجوز وجود موجود حال في غيره ليس مفتقراً إليه؟ فإذا قلتم: لا نعقل حالاً في شيء إلا مفتقراً إليه. قيل لكم: هذا كما قلتموه للمثبتة: هذا من حكم الهم والخيال، لما قال المثبتة: لا نعقل موجوداً إلا مبايناً لغيره أو محايثاً له. وهذا هو السؤال الذي أورده أحمد من جهة الجهمية حيث قالوا: (هو في كل مكان: لا مماس ولا مباين، فضلاً عن أن يقولوا: مفتقراً، فإن الافتقار إنما يعقل في حلول الأعراض، فأما حلول الأعيان القائمة بأنفسها في الأعيان القائمة بأنفسها، فلا يجب فيه الافتقار. والقائلون بالحلول إنما يقولون: هو حلول عين في عين، لا حلول صفة في محل. فلهذا قال لهم الإمام أحمد وأمثاله: أهو مماس أو مباين؟ فإذا سلبوا هذين المتقابلين تبين مخالفتهم لصريح العقل، وكانت هذه الحجة عليهم خيراً من حجة الرازي، حيث أنه نفى حلول العرض في محله، فإن هذا لم يقله أحد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 وكذلك ما نفاه من الاتحاد، ليس فيه حجة على ما ادعوه من الاتحاد، فإنهم لا يقولون ببقائهما بحالهما، ولا ببقاء أحدهما، وإنما يشبهون الاتحاد باتحاد الماء واللبن، والماء والخمر واتحاد النار والحديد. فقوله: (هذا ليس باتحاد) نزاع لفظي، فهم يسمون هذا اتحاداً، فلا بد من بيان بطلان ما أثبتوه من الحلول والاتحاد، وإلا كان الدليل منصوباً في غير محل النزاع. أما الأئمة الذين ردوا على الحلولية، فأبطلوا نفس ما ادعوه، وإن كان هؤلاء لا يقرون بأنا نقول بالحلول، كما لا يقر القائلون بأنه لا داخل العالم ولا خارجه بالتعطيل، فلزوم الحلول لهؤلاء كلزوم التعطيل لهؤلاء، والتعطيل شر من الحلول. ولهذا كان العامة من الجهمية إنما يعتقدون أنه في كل مكان، وخاصتهم لا تظهر لعامتهم إلا هذا، لأن العقول تنفر عن التعطل أعظم من نفرتها عن الحلول، وتنكر قول من يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه أعظم مما تنكر أنه في كل مكان، فكان السلف يردون خير قوليهم وأقربهما إلى المعقول، وذلك مستلزم فساد القول الآخر بطرق الأولى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 ومن العجب أن الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينسبون المثبتين للصفات إلى قول النصارى، كما قد ذكر ذلك عنهم أحمد وغيره من العلماء. وبهذا السبب وضعوا على ابن كلاب حكاية راجت على بعض المنتسبين إلى السنة، فذكروها في مثالبه، وهو أنه كان له أخت نصرانية، وأنها هجرته لما أسلم، وأنه قال لها: أنا أظهرت الإسلام لأفسد على المسلمين دينهم، فرضيت عنه لأجل ذلك. وهذه الحكاية إنما افتراها بعض الجهمية من المعتزلة ونحوهم، لأن ابن كلاب خالف هؤلاء في إثبات الصفات، وهم ينسبون مثبتة الصفات إلى مشابهة النصارى، وهو أشبه بالنصارى، لأنه يلزمهم أن يقولوا: إنه في كل مكان، وهذا أعظم من قول النصارى، أو أن يقولوا ما هو شر من هذا، وهو أنه لا داخل العالم ولا خارجه. ولهذا كان غير واحد من العلماء كعبد العزيز المكي وغيره، يردون عليهم بمثل هذا، ويقولون: إذا كان المسلمون كفروا من يقول: إنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 حل في المسيح وحده، فمن قال بالحلول في جميع الموجودات أعظم كفراً من النصارى بكثير. وهم لا يمكنهم أن يردوا على من قال بالحلول، إن لم يقولوا بقول أهل الإثبات، القائلين بمباينته للعالم فيلزمهم أحد الأمرين: إما الحلول، وإما التعطيل، والتعطيل شر من الحلول. ولا يمكنهم إبطال قول أهل الحلول مع قولهم بالنفي الذي هو شر منه وإنما يمكن ذلك لأهل الإثبات. وهم وإن قالوا: إن مذهب النصارى والحلولية أخس من أن يلتفت إليه، فلا يقدرون على إبطاله مع قولهم بالتجهم، ولهذا لم يكن فيما ذكروه حجة على إبطاله، فيلزمهم: إما إمكان تصحيح قول النصارى والحلولية، وإما إبطال قولهم، وهذا لا حيلة فيه لمن تدبر ذلك. وهب أنهم يمكنهم إبطال قول النصارى في تخصيصهم المسيح بالحلول والاتحاد، حيث يقال: إذا جوز الحلول والاتحاد بالمسيح جاز بغيره، فإن القائلين بعموم الحلول والاتحاد يلتزمون هذا، ويقولون: النصارى كفرهم لأجل التخصيص، وكذلك عباد الأصنام إنما أخطأوا من حيث عبدوا بعض المظاهر دون بعض، والعارف المحقق عندهم من لا يقتصر على بعض المظاهر والمجالي، بل يعبد كل شيء كما قد صرح بذلك ابن عربي صاحب الفتوحات المكية وفصوص الحكم، وأمثاله من أئمة هؤلاء الجهمية القائلين بوحدة الوجود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 الذين هم محققو أهل الحلول والاتحاد، ولهذا كان هؤلاء لهم الظهور والاستطالة على نفاة الحلول والمباينة جميعاً، بل هؤلاء يخضعون لأولئك ويعتقدون فيهم ولاية الله، وينصرونهم على أهل الإيمان القائلين بمباينة الخالق للمخلوق، كما قد رأيناه وجربناه. وسبب ذلك أن قول هؤلاء الحلولية والاتحادية مسقف بالتأله والتعبد، والتصوف والأخلاق، ودعوى المكاشفات والمخاطبات، ونحو ذلك مما لا يكاد يفهمه أكثر النفاة، فإذا كانوا لا يفهمون حقيقة قولهم سلموا إليهم ما يقولونه، وظنوا أن هذا من جنس كلام أكابر أولياء الله، الذين أطلعهم الله من الحقائق على ما يقصر عنه عقول أكثر الخلائق، وسلموا لهم ما لا يفهمونه من أقوالهم، كما يسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم ما لا يفهمونه من أقواله، فيعظمون هؤلاء كما يعظمون الرسول، بمثابة من صدق محمداً رسول الله ومسيلمة الكذاب: صدق كلا منهما في أنه رسول، كحال أهل الردة الذين آمنوا بمسيلمة المتنبي، مع دعواهم أنهم مؤمنون بمحمد رسول الله، ولا يعرفون ما بين قول هذا وقول هذا من المناقضة والمنافاة، لعدم تحققهم في الإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهكذا نفاة العلو والصفات من الجهمية، أو نفاة العلو وحده، إذا سمعوا النصوص الإلهية المثبتة للعلو والصفات، أعرضوا عن فهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 معناها، وإثبات موجبها ومقتضاها، وآمنوا بألفاظ لا يعرفون مغزاها، وآمنوا للرسول إيماناً مجملاً بأنه لا يقول إلا حقاً، ولم يكن في قلوبهم من العلم بمباينة الله لخلقه وعلوه عليهم ما ينفون به بدعة الحلولية والاتحادية وأمثالهم، لأن أحد المتقابلين إنما يرتفع عن القلب بإثبات مقابله، وأحد النقيضين لا يزول عن القلب زوالاً مستقراً إلا بإثبات نقيضه. فإذا كان حقيقة الأمر أن الرب تعالى، إما مباين للعالم، وإما مداخل له، كان من لم يثبت المباينة لم يكن عنده ما ينافي المداخلة، بل إما أن يقر بالمداخلة، وإما أن يبقى خالياً من اعتقاد المتقابلين المتناقضين، ولا يمكنه مع عدم اعتقاد نقيض قول أن يعتقد فساده، ولا ينكره ولا يرده، بل يبقى بمنزلة من سمع أن محمداً قال: إنه رسول الله، وأن مسيلمة قال: إنه رسول الله، وهو لم يصدق واحداً منهما، ولم يكذب واحداً منهما، فمثل هذا يمتنع أن يرد على مسيلمة أو يكذبه. فهكذا من كان لم يقر بأن الخالق تعالى مباين للمخلوق، لم يمكنه أن يناقض قول من يقول بالحلول والاتحاد، بل غايته أن لا يوافقه كما لم يوافق قول أهل الإثبات، فهو لم يؤمن بما قاله محمد رسول الله والمؤمنون به، ولا بما قاله مخالفوه الدجالون الكذابون، من أهل الحلول والاتحاد وغيرهم من نفاة العلو. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 وقول النفاة للمباينة والمداخلة جميعاً، لما كان في حقيقة الأمر نفياً للمتقابلين المتناقضين، بمنزلة قول القرامطة الذين يقولون: لا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز - كان قولهم في العقل أفسد من قول من لا يؤمن بمحمد ولا بمسيلمة، فإن كلاهما مبطل، لكن بطلان سلب النقيضين وما هو في معنى النقيضين، أبين في العقل من الإقرار بنبوة رسول من رسل الله صلى الله عليهم أجمعين، فلهذا لا تكاد تجد أحداً من نفاة المباينة والمداخلة جميعاً، أو من الواقفة في المباينة، يمكنه مناقضة الحلولية والاتحادية مناقضة يبطل بها قولهم، بل أي حجة احتج بها عليهم عارضوه بمثلها، وكانت حجتهم أقوى من حجته. فإذا قال لهم: لا يعقل الحلول إلا حلول العرض، فيكون الحال مفتقراً إلى المحل، أو قال ما هو أبلغ من هذا مما احتج به الأئمة عليهم: لو كان حالاً لم يخل من المباينة والمماسة، فإن القائم بنفسه إذ حل في القائم بنفسه لم يخل من هذا وهذا - قالوا للنفاة: هذا إنما يكون إذا كان الحال متخيراً أو قائماً بمتحيز، أو قالوا: هذا هو المعقول من حلول الأجسام وأعراضها، فأما إذا قدرنا موجوداً قائماً بنفسه ليس بجسم ولا متحيز، لم يمتنع أن يكون حالاً بلا افتقار إلى المحل، ولا مماسة ولا مباينة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 فإن قال إخوانهم من النفاة للعلو والمباينة: هذا لا يعقل. قالوا لهم: إذا عرضنا على العقل وجود موجود قائم بنفسه، ولا مباين للعالم ولا محايث له ولا داخل فيه ولا خارج عنه، وعرضنا على العقل وجود موجود في العالم: قائم بنفسه، لا مماس له ولا مباين له، وليس بجسم ولا متحيز، أو وجود موجود مباين له، وليس بجسم ولا متحيز - كان هذا أقرب إلى العقل. وذلك أن وجود موجود لا يشار إليه، ولا يكون محيزاً: لا جسماً ولا جوهراً: إما أن يكون ممكناً، وإما أن لا يكون، فإن لم يكن ممكناً بطل قول من يثبت موجوداً، لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه، وكان حينئذ قول من أثبت موجوداً خارج العالم أو داخله، وقال: إنه لا يشار إليه - أقل فساداً في العقل من هذا، وإن كان وجود موجود لا يشار إليه، وولا يكون جسماً ولا متحيزاً، ممكناً في العقل، فمن المعلوم إذا قيل مع ذلك: إنه خارج العالم، لم يجب أن يشار إليه، ولا يكون جسماً منقسماً ولا مطابقاً موازياً محاذياً للعرش، لا أكبر ولا أصغر ولا مساوياً. وإن قيل مع ذلك: إنه حال في العالم، لم يجز أن يقال: إنه مماس أو مباين، لأن المماسة والمباينة عندهم من عوارض الجسم المشار إليه، فما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 لا يكون جسماً لا يشار إليه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا، وإذا كان قائماً بنفسه لا يشار إليه امتنع أن يقال: هو عرض أو كالعرض المفتقر إلى المحل، بل إثبات ما لا يشار إليه، وهو داخل العالم أو خارجه أقرب إلى ما تثبته العقول من إثبات ما لا يشار إليه، ولا هو داخل العالم ولا خارجه. ومما يقرر هذه الحجج: أن هؤلاء النفاة لما أرادوا بيان إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، وأن نفي ذلك ليس معلوماً بضرورة العقل - احتجوا على ذلك بإثبات الكليات، واحتجوا بأن الفلاسفة وطائفة من متكلمي المسلمين من المعتزلة والشيعة والأشعرية أثبتوا النفس، وقالوا: إنها لا داخل البدن ولا خارجه، ولا توصف بحركة ولا سكون، ولا مباينة لغيرها، ولا حلول فيه. قالوا: وقول هؤلاء ليس معلوم الفساد بالضرورة، والمثبتون لما طلبوا بيان فساد قولهم، بينوا أن الكليات وجودها في الأذهان لا في الأعيان، وأن قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة حتى عند جماهير المتكلمين من المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم. والمقصود هنا أن يقال لهؤلاء: إذا جوزتم إثبات الكليات لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 داخل العالم ولا خارجه، مع أنها متعلقة بمعينات، بل جعلتموها جزءاً من المعينات، حيث قلتم: المطلق جزء من المعين، وجوزتم وجود نفوس مجردات عقلية، لا داخل العالم ولا خارجه، مع أنها متعلقة بأبدان بني آدم تعلق التدبير والتصريف، وجوزتم أيضاً وجود نفس فلكية كذلك على أحد قوليكم، فما المانع أن يكون واجب الوجود، مع تدبيره وتصريفه للعالم، متعلقاً به تعلق النفوس بالأبدان، وتعلق الكليات بالأعيان. والنصارى لا يصلون إلى أن يقولوا: إن اللاهوت في الناسوت كالنفس في البدن، بل مباينة اللاهوت للناسوت عندهم أعظم من مباينة النفس للبدن، فإذا جوزتم ما يكون لا داخل العالم ولا خارجه، مع تعلقه بالأبدان أعظم من تعلق اللاهوت بالناسوت عند النصارى، أمكن أن يكون واجب الوجود متعلقاً بالأبدان، بل الموجودات كلها كذلك، وكان قول الجهمية الذين يقولون: إن اللاهوت في كل مكان أقرب إلى المعقول من قول من يقول: إن المجردات في الأبدان والأعيان. ومما يزيد الأمر وضوحاً أن هؤلاء الفلاسفة المشائين، ومن وافقهم من المتكلمة والمتصوفة يثبتون خمس أنواع من الجواهر: واحد منها هو الجوهر الذي يمكن إحساسه، وهو الجسم في اصطلاحهم، وأربعة: هي جواهر عقلية لا يمكن الإحساس بها، وهي: العقل، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 والنفس، والمادة والصورة، مع اتفاقهم على أن الأجسام المحسوسة مركبة من المادة والصورة، وهما جوهران عقليان، كما يقولون: إن الأعيان المعينة المحسوسة فيها كليات طبيعية عقلية هي أجزاء منها. فإذا كان هؤلاء يثبتون في الجواهر المحسوسة، معها جواهر عقلية لا ينالها الحس بحال، ويجعلون هذا حالاً وهذا محلاً - لم يمكنهم مع ذلك أن ينكروا كون الوجود الواجب هو حالاً أو محلاً لهذه المحسوسات. وهذا هو الذي انتهى إليه محققوهم، كابن سبعين وأمثاله، فإنهم جعلوا الوجود الواجب مع الممكن - كالمادة مع الصورة، وكالصورة مع المادة، أو ما يشبه ذلك - يجعلون الوجود الواجب جزءاً من الممكن، كما أن المطلق جزء من المعين، حتى أن ابن رشد الحفيد وأمثاله يجعلون الوجود الواجب كالشرط في وجود الممكنات، الذي لا يتم وجود الممكنات إلا به، مع أن الشرط قد يكون وجوده مشروطاً بوجود المشروط، فيكون كل منهما شرطاً في وجود الآخر. كلام ابن عربي في فصوص الحكم عن علاقة الواجب بالممكن وهذه حقيقة قولهم: يجعلون الواجب مع الممكن، كل منهما مفتقر إلى الآخر ومشروط به، كالمادة والصورة. فابن عربي يجعل أعيان الممكنات ثابتة في العدم، والوجود الواجب فاض عليها فلا يتحقق وجوده إلا بها، ولا تتحقق ماهيتها إلا به، وبنى قوله على أصلين فاسدين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 أحدهما: أن الوجود واحد، ليس هنا وجودان أحدهما واجب بنفسه، والآخر بغيره. والثاني: أن وجود كل شيء زائد عن حقيقته وماهيته، وأن المعدوم شيء، موافقة لمن هذا وهذا: من المعتزلة والفلاسفة، ومن وافقهم من متأخري الأشعرية، فالحقائق والذوات عنده ثابتة في العدم، ووجود الحق فاض عليها، فكان كل منهما مفتقراً إلى الآخر، ولهذا يقول: إن الحق يتصف بجميع صفات المخلوقات من النقائص والعيوب، وأن المخلوق يتصف بجميع صفات الله تعالى من صفات الكمال، كما قال: (ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وصفات الذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق، فهي من أولها إلى آخرها صفات له، كما أن صفات المحدثات حق للحق) . ولهذا قال: (فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق، كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة، وهو العيون الكثيرة: {فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر} [الصافات: 102] ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 فالولد عين أبيه، فما رأى يذبح غير نفسه {وفديناه بذبح عظيم} [الصافات 107] ، فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان، بل بحكم ولد من هو عين الوالد {وخلق منها زوجها} [النساء: 1] ، فما نكح سوى نفسه) . وقال: (فيعبدني وأعبده ويحمدني وأحمده) . وقال: (ولما كان فرعون في مرتبة الحكم، قال: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] أي، وإن كان الكل أرباباً بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم بما أعطيته من الحكم فيكم، ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه، وأقروا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 بذلك، وقالوا: {إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} ، {فاقض ما أنت قاض} [طه: 72] فالدولة لك، فصح قوله: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] ، وإن كان عين الحق) . وقال: (فكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه، وما حكم الله بشيء إلا وقع، فكان عتاب موسى على أخيه هارون لما وقع الأمر في إنكاره، وعدم اتساعه، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء) . وقال في قصة قوم نوح: {ومكروا مكرا كبارا} [نوح: 22] ، لأن الدعوة إلى مكر بالمدعو، فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 وقوله: (ادعوا إلى الله عين المكر، فأجابوه مكراً، كما دعاهم مكراً) ، فقالوا في مكرهم: {لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} [نوح: 23] ، فإنهم إذا تركوا هؤلاء جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء، فإن الحق في كل معبود وجهاً يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله، كما قال في المحمديين: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23] : أي حكم الله. وفسر قوله: قضى، بمعنى قدر لا بمعنى أمر. قال: (وما حكم الله بشيء إلا وقع) . (والعارف يعرف من عبد. وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 وأمثال هذا الكلام كثير في كلام هذا وأمثاله، كابن سبعين الذي حقق قول هؤلاء الفلاسفة تحقيقاً لم يسبق إليه، وكان آخر قوله: (وأن الله في النار نار، وفي الماء ماء، وفي الحلو حلو، وفي المر مر، وأنه في كل شيء تصوره ذلك الشيء) . كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع. وكذلك ابن حموية الذي يتكلم بنحو هذا في مواضع من كلامه. وكذلك ابن الفارض في قصيدته المشهورة التي يقول فيها: لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة إلى أن قال: وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت إلي رسولاً كنت مني مرسلاً ... وذاتي بآياتي علي استدلال فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادي أجابت من دعاني ولبت وقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي وفارق ضلال الفرق فالجمع منتج ... هدى فرقة بالاتحاد تحدث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 فإن العارف المحقق من هؤلاء يقول: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولاً بنفسه، فهو المرسل والمرسل إليه والرسول،. ويقول من هو من أكبر من أضلوه من أهل الزهادة والعبادة مع الصدق في تسبيحاته وأذكاره: (الوجود واحد، وهو الله، ولا أرى الواحد، ولا أرى الله) . ويقول أيضاً (نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود، والوجود واحد لا ثنوية فيه) . ويكرر ذلك كما يكرر المسلمون: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وعنده أن غاية هذا التحقيق والعرفان. ويجيء من هو من أفضل المتكلمين من النفاة للعلو: يعتقد في مثل هذا أنه كان من أفضل أهل الأرض، أو أفضلهم، ويأخذ ورقة فيها سر مذهبه، ويرقي بها المرضي، كما يرقي المسلمون بفاتحة الكتاب، كما أخبرنا بذلك الثقاة، وهم يقدمون تلك الرقية على فاتحة الكتاب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 ويقول من هو من شعرائهم العارفين: وما أنت غير الكون بل أنت عينه ... ويشهد هذا السر من هو ذائق ويقول: وتلتذ إن مرت على جسدي يدي ... لأني في التحقيق لست سواكم وأمثال هذا كثير. والمتكلمة النفاة منهم من يوافق هؤلاء ومنهم من لا يوافقهم، ومن وافقهم يقال له: أين ذاك النفي - لا داخل ولا خارج - من هذا الإثبات؟ وهو أنه وجود كل موجود. فيقول: هذا حكم عقلي، وهذا حكم ذوقي. أو يرجع عن ذلك النفي، ويقول: المطلق جزء من المعينات، والوجود الواجب للموجودات،: مثل الكلي الطبيعي للأعيان، كالجنس لأنواعه، والنوع لأشخاصه، كالحيوانية في الحيوانات، والإنسانية في الأناسي، وهذا غايته أن يجعله شرطاً في وجود الممكنات، لا مبدعاً فاعلاً لها، فإن الكليات لا تبدع أعيانها، بل غايتها إذا كانت موجودة في الخارج أن تكون شرطاً في وجودها، بل جزءاً منها. ومن لا يوافقهم أكثرهم يسلمون لهم أقوالهم، أو يقولون: نحن لا نفهم هذا، أو يقولون: هذا ظاهره كفر، لكن قد تكون له أسرار وحقائق يعرفها أصحابها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 ومن هؤلاء من يعاونهم وينصرهم على أهل الإيمان، المنكرين للحلول والاتحاد، وهو شر ممن ينصر النصارى على المسلمين، فإن قول هؤلاء شر من قول النصارى، بل هو شر ممن ينصر المشركين على المسلمين. فإن قول المشركين الذين يقولون: إنما نعبدهم: {ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] ، خير من قول هؤلاء، فإن هؤلاء أثبتوا خالقاً ومخلوقاً غيره يتقربون به إليه، وهؤلاء يجعلون وجود الخالق وجود المخلوق. وغاية من تجده يتحرى الحق منهم أن يقول: العالم لا هو الله ولا غير الله. ولما وقعت محنة هؤلاء الملاحدة المشهورة، وجرى فيها ما جرى من الأحوال، ونصر الله الإسلام عليهم، طلبنا شيوخهم لنتوبهم، فجاء من كان من شيوخهم، وقد استعد لأن يظهر عندنا غاية ما يمكنه أن يقول لنا ليسلم من العقاب، فقلنا له: العالم هو الله أو غيره؟ فقال: لا هو الله ولا غيره. وهذا كان عنده هو القول الذي لا يمكن أحد أن يخالف فيه، ولو علم أنا ننكره لما قاله لنا، كان من أعيان شيوخهم ومحققيهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 وممن لا أتباع ومريدون، وله ولأصحابه سلطان ودولة، ومعرفة ولسان وبيان، حتى أدخلوا معهم من ذوي السلطان والقضاة والشيوخ والعامة، ما كان دخولهم في ذلك سبباً لانتقاص الإسلام، ومصيره أسوأ من دين النصارى والمشركين، لولا ما من الله به من نصر الإسلام عليهم، وبيان فساد أقاويلهم، وإقامة الحجة عليهم، وكشف حقائق ما في أقوالهم من التلبيس، الذي باطنه كفر وإلحاد، لا يفهمه إلا خواص العباد. والمقصود هنا أن الحلولية إذا أراد النفاة للمباينة والحلول جميعاً - من متكلمة الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية، كابن سينا والرازي وأبي حامد وأمثالهم - أن يردوا عليهم حجة عقلية تبطل قولهم لم يمكنهم ذلك كما تقدم، بل يلزم من تجويزهم إثبات وجود لا داخل العالم ولا خارجه تجويز قول الحلولية، ولهذا لا تجد في النفاة من يرد على الحلولية رداً مستقيماً، بل إن لم يكن موافقاً لهم كان معهم بمنزلة المخنث، كالرافضي مع الناصبي، فإن الرافضي لا يمكنه أن يقيم حجة على الناصبي الذي يكفره علناً أو يفسقه، فإنه إذا قال للرافضي: بماذا علمت أن علياً مؤمن ولي الله من أهل الجنة قبل ثبوت إمامته، وهذا إنما يعلم بالنقل، والنقل إما متواتر وإما آحاد. فإن قال له الرافضي: بما تواتر من إسلامه ودينه وجهاده وصلاته وغير ذلك من عباداته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 قال له: وهذا أيضاً متواتر عن أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم من الصحابة، وأنت تعتقد كفرهم أو فسقهم. وقال له أيضاً: أنت تقول: إن علياً كان يستجيز التقية، وأن يظهر خلاف ما يبطن، ومن كان هذا قوله أمكن أن يظهر الإسلام مع نفاقه في الباطن. فإن قال الرافضي للناصبي: علمت ذلك بثناء النبي صلى الله عليه وسلم وشهادته له بالإيمان والجنة، كقوله: «لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» ، وقوله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» ، ونحو ذلك. قال له الناصبي: قد نقل أضعاف ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان، وأنت تطعن في تلك المنقولات أو تقول: إنهم ارتدوا بعد موته، فما يؤمنك إن كان قولك في هؤلاء صحيحاً أن يكون علي ذلك؟ . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 وأيضاً فهذه الأحاديث إنما نقلها الصحابة الذين تذكر أنت كفرهم وفسقهم، والكافر والفاسق لا تقبل روايته. فإن قال: هذه نقلها الشيعة. قال له الناصبي: الشيعة لم يكونوا موجودين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: إن الصحابة ارتدوا إلا نفراً قليلاً: إما عشرة أو أقل، أو أكثر. ومثل هؤلاء يجوز عليهم المواطأة على الكذب. فإن قال: أنا أثبت إيمانه بالقرآن، كقوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} [التوبة: 100] وقال: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29] . وقال: {وكلا وعد الله الحسنى} [النساء: 95] . وقوله: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} [الفتح: 18] . قال له الناصبي: هذه الآيات تتناول أبي بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين والأنصار كما تتناول علياً، ليس في ظاهرها ما يخص علياً. فإن جاز أن يدعي خروج هؤلاء منها، أو أنهم دخلوا فيها ثم خرجوا بالردة، أمكن الخوارج الذين يكفرون علياً أن يقولوا مثل ذلك. والمقصود هنا أن الرافضة لا يمكنهم إقامة حجة صحيحة على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 الخوارج، وإنما يتمكن من ذلك أهل السنة والجماعة، الذين يقرون بعموم هذه الآيات، وتناولها لأهل بيعة الرضوان كلهم، ويقرون بالأحاديث الصحيحة المروية في فضائل الصحابة، وأنهم كانوا صادقين في روايتهم، فهم الذين يمكنهم الرد على الخوارج والروافض بالطرق الصحيحة السليمة على التناقض. وهكذا الرد على الحلولية وبيان إبطال قولهم بالحق إنما يتمكن منه أهل السنة المثبتة لعلو الله على خلقه ومباينته لهم، فإن قول هؤلاء نقيض قول الحلولية، ومن علم ثبوت أحد النقيضين أمكنه إبطال ما يقابله، بخلاف قول النفاة فإنه متضمن رفع النقيضين، أو ما هما في معنى النقيضين، ورفع النقيضين أشد بطلاناً من المناقض الباطل، فإن رفعهما يعلم امتناعه بصريح العقل، وأما انتفاء أحدهما فهو أخفى في العقل من رفعهما، فمن رفع النقيضين، أو ما في معناهما، لم يمكنه إبطال قول من أثبت أحدهما، وما من حجة يحتج بها من رفع المتقابلين، إلا ويمكن ممن أثبت أحدهما أن يحتج عليه بما هو أقوى منها من جنسها. ولهذا كان إطباق العقول السليمة على إنكار قول النفاة المتقابلين أعظم من إطباقها على إنكار قول الحلولية، لأن الموجود الواجب الوجود كلما وصف بصفات المعدومات الممتنعات، كان اعظم بطلاناً وفساداً من وصفه بما هو أقرب إلى الموجود. ومما يبين هذا أن الصفات السلبية ليس فيها بنفسها مدح ولا توجب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 كمالاً للموصوف، إلا أن تتضمن أمراً وجودياً، كوصفه سبحانه بأنه لا تأخذه ولا نوم، فإنه يتضمن كمال حياته وقيوميته. وكذلك قال تعالى: {وما مسنا من لغوب} [ق: 38] ، متضمن كمال قدرته. وقوله: {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض} [سبأ: 3] يقتضي كمال علمه. وكذلك قوله: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] يقتضي عظمته، بحيث لا تحيط به الأبصار. وكذلك نفي المثل والكفو عنه يقتضي أن كل ما سواه فإنه عبد مملوك له، ولك يقتضي من كماله ما لا يحصل إذا كان له نظير مستغن عنه، مشارك له في الصنع، فإن ذلك نقص في الصانع، فأما العدم المحض والنفي الصرف، مثل كونه لا يمكن رؤيته بحال، وكونه لا مبايناً للعالم ولا مداخلاً له، فإن هذا أمر يوصف به المعدوم لا يمكن رؤيته بحال، وليس هو مبايناً للعالم ولا مداخلاً له، والمعدوم المحض لا يتصف بصفة كمال ولا مدح، ولهذا كان تنزيهه الله تعالى بقوله: (سبحان الله) يتضمن مع نفي صفات النقص عنه، إثبات ما يلزم ذلك من عظمته، فكان التسبيح تعظيم، له مع تبرئته من السوء. ولهذا جاء التسبيح عند العجائب الدالة على عظمته، كقوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} [الإسراء: 1] ، وأمثال ذلك. ولما قال: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} [الصافات: 180] ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 كان تنزيهه عما وصفوه به متضمناً لعظمته اللازمة لذلك النفي. وإذا كان كذلك، فنفاة النقيضين، وما هو في معنى النقيضين، لم يتضمن وصفهم له بذلك شيئاً من الإثبات ولا التعظيم، بخلاف القائلين بالحلول في جميع الأمكنة، فإنهم يصفونه بما فيه تعظيم له. ولهذا من يقول من يعذر الطائفتين: إن هؤلاء قصدوا تنزيهه، وهؤلاء قصدوا تعظيمه، فإذا كان التنزيه، إن لم يتضمن تعظيماً لم يكن مدحاً، كان من وصفه بما فيه تعظيم أقرب إلى المعقول ممن وصفه بما يشركه فيه المعدوم، من غير أن يكون فيه تعظيم، فلم يكن أولئك النفاة أن يبطلوا حج هؤلاء المعظمين له، وإذا ردوا عليهم ببيان ما في قولهم من إثبات ما لا يعقل أو التناقض، قالوا لهم: إن في قولهم من إثبات ما لا يعقل ومن التناقض ما هو أعظم من ذلك. فإن قال النفاة: هؤلاء الحلولية قد أثبتوا حلولاً يقتضي افتقاره إلى المحل، كالصورة مع المادة، وكالوجود مع الثبوت، ونحو ذلك مما يقتضي أن أحدهما محتاج إلى الآخر، نحن قد بينا: إنما يعقل الحلول إذا كان الحال محتاجاً إلى المحل، وذلك باطل، لأن ذلك يناقض وجوبه كما تقدم، فقد أبطلنا قول هؤلاء. قيل عن هذا جوابان: أحدهما: أنه ليس كل من قال بالحلول يقول افتقاره إلى المحل، بل كثير من القائلين بالحلول يقولون: إنه في كل مكان مع استغنائه عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 المحل، وهو قول النجارية وكثير من الجهمية، وقول من يقول بالحلول الخاص كالنصارى وغيرهم. الثاني: أنه بتقدير أن يكون الحلول مستلزماً للافتقار، فأنتم لم تثبتوا غناه عما سواه، فإن طريقة الرازي والآمدي وأمثالهما في إثبات الصانع، هي طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود، وهذه الطريقة لا تدل على إثبات موجود قائم بنفسه واجب الوجود. وإن قيل: إنها تدل على ذلك، فلم تدل على أنه مغاير للعالم، بل يجوز أن يكون هو العالم. ومن طريقهم قال هؤلاء بوحدة الوجود، فإن طريقتهم المشهورة: أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن، الممكن لا بد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين. وهذا القدر يدل على أنه لا بد من وجود واجب، ومن قال: كل موجود واجب فقد وفى بموجب هذه الحجة، ومن قال: إن الوجود الواجب مع الممكن كالصورة مع المادة أو كالوجود مع الثبوت، فقد وفى بموجب هذه الحجة، بل لا يمكنهم إثبات لوجود واجب مغاير للممكن إن لم يثبتوا أن في الوجود ما هو ممكن يقبل الوجود والعدم. وهم يدعون أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم قد يكون قديماً أزلياً، ولا يمكنهم إقامة دليل على ثبوت الإمكان بهذا الاعتبار. ولهذا لما احتاجوا إلى إثبات الإمكان استدلوا بأن الحادث لا بد له محدث، وأن الحوادث مشهودة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 وهذا حق، لكنه يدل على أن المحدث لا بد له من قديم، فيلزم ثبوت قديم، لكن لا يلزم من ذلك عندهم أن يكون واجب الوجود ثابتاً إلا بذلك التقسيم، إذ كانوا يجوزون على القديم، أن يكون ممكن الوجود، فإذا قالوا: القديم إن كان ممكناً فلا بد له من واجب، لم يمكنهم إثبات واجب إلا بإثبات هذا الممكن، وهذا ممتنع، وهو أيضاً مستلزم للدور، فإنه لا يمكنهم إثبات واجب الوجود إلا بإثبات ممكن الوجود، ولا يمكن إثبات ممكن الوجود إلا بإثبات أن المحدث ممكن وله فاعل، وذلك لا يستلزم إلا إثبات قديم، والقديم عندهم لا يجب أن يكون واجب الوجود، فلا يمكنهم أن يثبتوا واجب الوجود حتى يثبتوا ممكن الوجود، والذي قد يكون قديماً، وهذا لا يمكن إثباته إلا بإثبات الممكن الذي هو حادث، وهذا لا يدل إلا على إثبات قديم، والقديم عندهم لا يستلزم أن يكون واجب الوجود. وأيضاً فإذا أثبتوا واجب الوجود فإنهم لم يثبتوا أنه مغاير لهذه المشهودات إلا بطريقة التركيب، وهي باطلة. وحينئذ فيمكن أن يقول لهم أهل الحلول: الواجب هو حال. وإيضاح ذلك أنهم قسموا الوجود إلى واجب وممكن، لكن جعلوا الممكن منه ما هو قديم ومنه ما هو محدث، وحينئذ فلا يمكن إثبات الواجب إلا بإثبات هذا الممكن، وهذا الممكن لا يمكن إثباته. وأيضاً فهم لا يثبتون الممكن إلا بإثبات الحادث، والحادث لا بد له من القديم، والقديم لا يستلزم أن يكون واجباً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 وإذا قالوا: القديم إن كان واجباً ثبت الواجب، وإن كان ممكناً ثبت الواجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين. قيل: هذا إذا صح لزم أنه لا بد من واجب، كما أن الموجود مستلزم أنه لا بد من واجب، وهذا مما لا نزاع فيه، لكنه لا يدل على إثبات صانع، لا على أنه مغاير للأفلاك، ولا على أنه ليس بحال، بل يستلزم أنه لا بد من موجود يمتنع عدمه، وهذا مما يوافق عليه منكرو الصانع، والقائلون بقدم العالم، وأهل الحلول، وغيرهم، فتبين أنه ليس في كلامهم إبطال مذهب الحلول. والمقصود هنا أن السلف والأئمة كانوا يردون على من أقوال النفاة ما هو أقرب إلى الإثبات، فيكون ردهم لما هو أقرب إلى النفي بطريق الأولى، وقول النفاة لمباينته للعالم ومداخلته له، أبعد عن العقل من قول المثبتين، لأنه قائم بنفسه في كل مكان، مع نفي مماسته ومباينته. والسلف ردوا هذا وهذا، وكان ذلك تنبيهاً على إبطال الحلول، بمعنى حلول العرض في المحل. لكن هذا لم يقل به أحد، وإن كان النفاة لم يمكنهم إلا إبطاله خاصة دون أقوال أهل الحلول المعروفة عنهم. ومما يبين هذا أن الطوائف كلها اتفقت على إثبات موجود واجب بنفسه، قديم أزلي لا يجوز عليه العدم، ثم تنازعوا فيما يجب له ويمتنع عليه. فالنفاة تصفه بهذه الصفات السلبية: أنه لا مباين للعالم ولا مداخل، ولا فوق ولا تحت، ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 ولا يقرب إليه شيء ولا يقرب هو من شيء وأمثال ذلك، بل ويقولون أيضاً: إنه لا تمكن رؤيته ولا غير ذلك من الإحساس به، ولا يمكن الإشارة إليه. وآخرون منهم يقولون: ليس له علم ولا قدرة ولا حياة، ولا غير ذلك من الصفات. وآخرون يقولون: لا يسمى موجوداً حياً عالماً قادراً إلا مجازاً، أو بالاشتراك اللفظي، وأن هذه الأسماء لا تدل على معنى معقول، ويقولون: إذا أثبتنا هذه الصفات لزم أن يكون متحيزاً، والمتحيز مركب، أو كالجوهر الفرد في الصغر، ونحو ذلك، فيفرون من هذه الصفات، لاعتقادهم أن ذلك يقتضي التجسيم، والأجسام عندهم موجودة، لكنها عند بعضهم محدثة، وعند بعضهم ممكنة، فإذا وصفوا الواجب القديم بذلك، لزم أن يكون عندهم ممكناً أو محدثاً، وذلك ينافي وجوبه وقدمه، ويقولون: إن هذه المقدمات معلومة بالنظر. وأما المثبتون فيقولون: الموصوف بهذه الصفات السلبية لا يكون إلا ممتنعاً، والامتناع ينافي الوجود، فضلاً عن وجوب الوجود، فيقولون: إن الواصفين له بهذه الصفات وصفوه بما لا يتصف به إلا ما يمتنع وجوده، ومن وصف ما يجب وجوده بما يمتنع وجوده، فقد جعله دون المعدوم الممكن الوجود. ويقولون: إن هذه المقدمات معلومة بالضرورة، فهم يقولون لأولئك: أنتم فررتم من وصفه بالإمكان فوصفتموه بالامتناع، ومن وصفه بالحدوث فوصفتموه بالعدم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 ويقولون: إن الأجسام الجامدة خير من الموصوف بهذه الصفات، فضلاً عن الأجسام الحية الناقصة، فضلاً عن الأجسام الحية الكاملة. ومن المعلوم أنه إذا دار الأمر بين جسم حي كامل، وبين معدوم أو ممتنع، كان ذلك خيراً من هذا، وإن كانت هذه النتيجة لازمة لمقدمات يقول أهلها: إنها معلومة بالاضطرار، كانت أثبت من مقدمات يقول أهلها: أنتم لا تعلمونها إلا بالنظر، مع اختلافهم في كل مقدمة منها. فعلم بذلك أن المثبتة هم أقطع بما يقولونه وأشد تعظيماً لما يثبتونه، وأن النفاة أقرب إلى الظن، وأبعد عن التعظيم والإثبات. يبين ذلك أن عمدة النفاة على أنه لو ثبت هذه الصفات: من العلو والمباينة ونحو ذلك، للزم أن يكون جسماً، وكون الواجب القديم جسماً ممتنع. وهذه المقدمة هي نظرية باتفاقهم، وكل طائفة منهم تطعن في طريق الآخرين. والعمدة فيها طريقان: طريق الجهمية والمعتزلة، وطريق الفلاسفة. ومن وافق على هذه المقدمة من الفقهاء وأهل الكلام، من الأشعرية وغيرهم فهو تبع فيها: إما للمعتزلة والجهمية، وإما للفلاسفة. فأما المعتزلة والجهمية فطريقهم هي طريق الأعراض والحركات، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 وأنه لو ثبت للقديم الصفات والأفعال لكان محلاً للأعراض والحركات، وذلك يقتضي تعاقبها عليه. وذلك يوجب حدوثه. وقد عرف أن الفلاسفة - مع طوائف من أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام - يطعنون في هذه الطريقة. وقد صنف الأشعري نفسه كتاباً بين فيه عجز المعتزلة عن إثبات هذه الطريق، كما سيأتي بيان ذلك. وأما طريق الفلاسفة فهي مبنية على أن واجب الوجود لا يكون متصفاً بالصفات، لأن ذلك يستلزم التركيب. وقد علم ما بينه نظار المسلمين من فساد هذه الطريقة. فإذا ليس بين النفاة مقدمة اتفقوا عليها يبنون عليها النفي، بل هم يشتركون فيه كاشتراك المشركين وأهل الكتاب في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، واشتراك أهل البدع في مخالفة الحديث والسنة، مآخذ كل فريق غير مآخذ الآخر. وإذا كانت مقدماتهم ليست مما اتفقوا عليه، بل ولا اتفق عليه أكثرهم، بل أكثرهم ينكر صدق جميعها، علم أنها ليست مقدمات فطرية ضرورية، لأن الضروريات لا ينكرها جمهور العقلاء، الذين لم يتواطأوا عليها، ولا يكفي أن تكون بعض المقدمات معلومة، بل لا بد أن تكون الجميع معلومة، وما لم تكن معلومة بالضرورة، فلا بد أن تستلزمها مقدمات ضرورية، وليس معهم شيء من ذلك، بل غاية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 هؤلاء لفظ (التركيب) وأنه لا يكون واجباً، وقد علم ما في ذلك من الإجمال والاشتراك. وغاية هؤلاء أن الأعراض لا تبقى، وجمهور العقلاء يخالفون في ذلك، وأن الأفعال يجب تناهيها، وقد علم نزاع العقلاء فيها، وجمهورهم يمنعون امتناع تناهيها من الطرفين. وقد ذكرنا اعتراض الأرموي وغيره من شيوخه في هذه المقدمات، وقد سبقه إلى ذلك الرازي وغيره، وقدحوا فيها قدحاً بينوا به فسادها، على وجه لم يعترضوا عليه. وإن كلام الرازي يعتمدها في مواضع أخر، فنظره استقر على القدح فيها. وكذلك الأثير الأبهري في كتابه المعروف بتحرير الدلائل في تقرير المسائل هو وغيره - قدحوا في تلك الطرق وبينوا فساد عمدة الدليل، وهو بطلان حوادث لا أول لها. وذكر الأبهري الدليل المتقدم: دليل الحركة والسكون، وقولهم: لو كان الجسم أزلياً لكان: إما متحركاً أو ساكناً، والقسمان باطلان. أما الأول فلأنها لو كانت متحركة للزم الجمع بين المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير، لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير، والأزل يقتضي عدم المسبوقية، فيلزم الجمع بينهما، ولأنها لو كانت متحركة لكانت بحال لا يخلو من الحوادث، وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وإلا لكان الحادث أزلياً. وهو محال. ولأنها لو كانت متحركة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 لكانت الحركة اليومية موقوفة على انقضاء ما لا نهاية له، وانقضاء ما لا نهاية له المحال، والموقوف على المحال محال. ولأنها لو كانت متحركة، لكان قبل كل حركة حركة أخرى لا إلى أول، وهو محال. ولأن الحاصل من الحركة اليومية إلى الأزل جملة، ومن الحركة التي قبل الحركة اليومية إلى الأزل جملة أخرى، فتطبق إحداهما على الأخرى بأن يقابل الجزء الأول من الجملة الثانية، وبالجزء الأول من الجملة الأولى، والثاني بالثاني، فإما يتطابق إلى غير النهاية أو لم يتطابقا، فإن تطابقا كان الزائد مثل الناقص، وإن لم يتطابقا لزم انقطاع الجملة الثانية، وإذا لزم انقطاع الجملة الثانية لزم انقطاع الجملة الأولى أيضاً، لأن الأولى لا تزيد على الثانية إلا بمرتبة واحدة. ثم تكلم على تقدير السكون، وهذا هو الذي تقدم ذكر الرازي له. ومن تدبر كتب أهل الكلام، من المعتزلة وغيرهم، يف حدوث الأجسام، علم أن هذا عمدة القوم. كلام الأبهري وتعليق ابن تيمية عليه قال الأبهري: (والإعراض على قوله: يلزم المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير. قلنا: لا نسلم، وإنما يلزم الجمع بينهما، أن لو كان الواحد مسبوقاً بالغير وغير مسبوق بالغير، وليس كذلك، فإن المسبوق بالغير لا يكون إلا الحركة، وغير المسبوق بالغير هو الجسم، فلا يلزم الجمع بين المسبوقية وعدم المسبوقية في شيء واحد) . قلت: وهذا الاعتراض فيه نظر، ولكن الاعتراض المتقدم: وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 أن المسبوق لغير آحاد الحركة لا جنسها، فكل من أجزائها مسبوقة بالغير، وأما الجنس ففيه النزاع - اعتراض جيد، وإلا فإذا كانت الحركة من لوازم الجسم لم يكن سابقاً لها، فكيف يقال: إن الحركة مسبوقة بالجسم؟ . وكان الأبهري لم يفهم مقصود القائل: إن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير فظن أنه أراد أنها مسبوقة بالجسم، وإنما أراد أن الحركة تقتضي أن يكون بعض أجزائها سابقاً على بعض. قال الأبهري: (وأما قوله: لو كانت متحركة لكانت بحالة لا تخلو عن الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. قلنا: لا نسلم. قوله: لو لم يكن كذلك لكان الحادث أزلياً. قلنا: لا نسلم، وإنما يلزم ذلك لو كانت الحادث الواحد يصير بعينه أزلياً، وليس كذلك، بل يكون قبل كل حادث آخر لا إلى أول، فلا يلزم قدم الحادث. وأما قوله فإنها لو كانت متحركة لكان الحادث اليومي موقوفاً على انقضاء ما لا نهاية له. قلنا: لا نسلم، بل يكون الحادث اليومي مسبوقاً بحوادث لا أول لها. ولم قلتم بأن ذلك غير جائز، والنزاع ما وقع إلا فيه؟ وأما قوله بأن الحاصل من الحركة اليومية إلى الأزل جملة. قلنا: لا نسلم، وإنما يلزم ذلك أن لو كانت الحركة مجتمعة في الوجود ليحصل منها جملة ومجموع، واستدل هو على حدوث العالم بأن صانع العالم إن كان موجباً بالذات لزم دوام آثاره، فلا يكون في الوجود حادث. وإن كان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 فاعلاً بالاختيار امتنع أن يكون مفعوله أزلياً، لأنه يكون قاصداً إلى إيجاد الموجود، وتحصيل الحاصل محال. وقد اعترض بعضهم على دليله بأنه يجوز أن يكون بعضه حادثاً له فاعل بالاختيار، وبعضه قديم له موجب بالذات، وجوزه بعضهم بأنه يجوز أن يكون موجباً بالذات، ومعلوله فاعل بالاختيار أحدث غيره) . قلت: وهذا الاعتراض ساقط، لأن ما كان فاعلاً بالاختيار، فحدوث فعله بعد أن لم يكن حادث من الحوادث، فإذا كان مفعولاً لعلة تامة موجبة، امتنع أن يتخلف عنها معلولة، ولا يجوز أن يحدث عنها شيء، ولا عن لازمها، ولا لازم لازمها، وهلم جرا. وإن قدر أن البعض الحادث له فاعل واجب بنفسه غير فاعل للآخر، فهذا مع أنه لم يقله أحد، وأدلة التوحيد للصانع تبطله، فهو يبطل حجة القائلين بالقدم، لأن عمدتهم أن الواجب بنفسه لا يتأخر عنه فعله، فإذا جوزوا تأخر فعله عنه بطل أصل حجتهم. وهذا الدليل الذي احتج به، قد ذكرنا في غير موضع أنه يبطل قول الفلاسفة بأنه صدر عن علة موجبة، وأن قولهم هذا يتضمن حدوث الحوادث بلا سبب. وأما كون الفاعل باختياره يمتنع أن يقارنه فعله، فقد تكلمنا على هذا في غير هذا الموضع، ولكن نبين فساد قول الفلاسفة بأن يقال: الفاعل بالاختيار: إما أن يجوز أن يقارنه فعله، وإما أن يجب تأخره، فإن وجب تأخره بطل قولهم بقدم العالم، فإن الفعل إذا لزم تأخره كان تأخر المفعول، أولى إن جعل المفعول غير الفعل، وإن جعل المفعول هو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 الفعل فقد لزم تأخره، فتأخره لازم على التقديرين، وإن جاز مقارنة فعله له فإما أن يكون التسلسل ممكناً، وإما أن يكون ممتنعاً، فإن كان ممتنعاً لزم أن يكون للحوادث أول، وحينئذ فإذا كان الفعل المقارن قديماً، لم يقدح هذا في وجوب حدوث المفعولات. وهذا يقوله من يقول: إنه أحدث من الحوادث بتخليق قديم أزلي قائم بذاته، كما تقول ذلك طوائف من المسلمين، وإن كان التسلسل ممكناً أمكن أن يكون بعد ذلك الفعل فعل آخر، وبعده فعل آخر، وهلم جرا، وأن تكون هذه الأفلاك حادثة بعد ذلك، كما أخبرت به النصوص، وهو المطلوب. والأبهري وغيره اعترضوا على هذه المقدمة لما ذكروها في حجة من احتج على حدوث العالم بأنه ممكن، وكل ممكن فهو محدث، لأن المؤثر فيه إما أن تؤثر فيه حالة وجوده، وهو باطل، لأن التأثير حالة الوجود يكون إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل، وهو محال، وإما حال العدم وهو محال، لأن يستلزم الجمع بين الوجود والعدم، فتعين أن يكون لا حال الوجود ولا حال العدم، وهو حال الحدوث. فاعترض الأبهري وغيره على ذلك بأنه لم لا يجوز أن يكون التأثير حال الوجود؟ (قوله: يكون تحصيلاً للحاصل. قلنا: لا نسلم لأن التأثير عبارة عن كون المرجح مترجح الوجود على العدم بالمؤثر، وجاز أن يكون الممكن مترجح الوجود على العدم حال الوجود. فيقول له من يعارضه في دليله مثل ذلك، فإذا قال: لو كان الفعل الذي فعله الفاعل المختار أزلياً، لكان الفاعل قاصداً إلى إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 قالوا: بل وجود الموجود وحصول الحاصل مقصده واختياره. فقولك لو كان قاصداً إلى إيجاد الموجود، إن أردت إلى إيجاد ما هو موجود بدون قصده فهذا ممنوع، وإنما يستقيم هذا إذا ثبت أن الأزلي لا يمكن أن يكون مراداً مقصوداً، وهو أول المسألة، وإن أردت إلى إيجاد ما هو موجود بقصده، فهذا هو المدعي، فكأنك قلت: لو كان مقصوداً لأزلي موجوداً بقصده لكان موجوداً بقصده، وإذا كان هذا هو المدعي، فلم قلت: إنه محال: ولكن يلزم هؤلاء على هذا التقدير أن لا يكون فرق بين الموجب بالذات والفاعل بالاختيار، وهم يقولون: إن أريد بالموجب الذات أنه لم يزل فاعلاً، فهذا لا يمنع كونه مختارات على هذا التقدير، وإن أريد به ما يلزمه موجبه ومعلوله، فهذا أيضاً لا يمنع كونه مختاراً أيضاً على هذا التقدير. وهذا القسم باطل بلا شك، سواء سمي موجباً أو مختاراً، لأن ذلك يستلزم أن لا يحدث شيء من الحوادث، فإن موجبه إذا كان لازماً له - ولازم اللازم لازم - كانت جميع الموجبات لوازم قديمة، فلا يكون شيء من المحدثات صادراً عنه ولا عن غيره، إذ القول في كل ما يقدر واجباً كالقول فيه، فيلزم أن لا يكون للحوادث فاعل. ولا ريب أن هذا لازم للفلاسفة الدهرية الإلهيين وغيرهم، كأرسطو والفارابي وابن سينا، لزوماً لا محيد عنه، وأن قولهم يستلزم أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 لا يكون للحوادث فاعل، وأن هذه الحوادث الممكنة حصلت بعد عدمها من غير واجب ولا فاعل. وأما القسم الأول، وهو كونه لم يزل فاعلاً، سواء سمي موجباً أو مختاراً، فهذا لا يوجب قدم هذا العالم، لإمكان توقفه على أفعال قبل ذلك، كما تحدث سائر الحوادث الجزئية. فصل والمقصود في هذا المقام أن هؤلاء النفاة للعلو والمباينة لم يتفقوا على مقدمة واحدة يبينون عليها مطلوبهم، بل كل منهم يقدح في مقدمة الآخر، وإذا كان اتفاقهم على النفي مبنياً على المقدمات التي بها اعتقدوا النفي - وتلك المقدمات متنازع فيها بينهم، ليس فيها مقدمات متفق عليها تبنى عليها النتيجة المذكورة - علم أن ما اشتركوا فيه من النتيجة كان من لوازم مع ما اعتقدوه من القضايا المختلف فيها، لا القضايا الضرورية. وحينئذ فاتفاقهم على النفي لا يمنع أن يكون اتفاقاً على خلاف المعلوم بالضرورة، كما لو كان لرجل مال كثير، وله غرماء كثيرون، فأقام كل منهم شاهدين بقدر من المال واستوفاه حتى استوفى المال كله، وكل من الغرماء يقدح في شهود الآخر، كان اللازم من الحكم بشهادة الشهود كلهم أخذ مال ذاك الرجل كله، ولا يقال أن هؤلاء عدد كثير لا يتفقون على الكذب، فإنهم لم يتفقوا على خبر واحد، بل كل طائفة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 أخبرت بخبر تكذبها فيه الأخرى، ولزم من مجوع الأخبار أخذ المال، فهم لم يخبروا بقضية واحدة توجب أخذ المال، بل الكذب ممكن عليهم كلهم. كذلك المتفقون على رد بعض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم بضرورات العقول، ويمكن أن يقع منهم على هذا الوجه، وهذا كاشتراك الكفار في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقول هؤلاء: هو ساحر، وهؤلاء: هو كاذب، وهؤلاء: هو مجنون، فهم في الحقيقة مختلفون لا متفقون. وأيضاً فاتفاق العدد الكثير على تعمد الكذب، الذين يعلمون أنه كذب، يجوز إذا كان ذلك عن تواطئ منهم، وأما اتفاق الخلق الكثير على الكذب خطأ، فهو ممكن بالنظر والأمور الضرورية، فقد يعتبر عنها بعبارات غيها إجمال واشتباه، يظن كثير من الناس أن مفهومها لا يخالف الضرورة، وإنما يعلم أنها مخالفة للضرورة من ميز بين معانيها، وفصل المعنى المخالف للضرورة من غيره، فإذا كان قد سبق قليل من الناس إلى اعتقاد خطأ يتضمن مخالفة الضرورة، كان هذا جائزاً باتفاق العقلاء، فإن السفسطة تجوز على الطائفة القليلة تعمداً، فكيف خطأ؟ . فإذا تلقى تلك الأقوال، عن أولئك السابقين إليها، عدد آخرون واشتهرت بين من اتبعهم فيها، صاروا متواطئين على قبولها، لما فيها الاشتباه والإجمال، مع تضمنها مخالفة الضرورة، وإن كان كثير من القائلين بها - أو أكثرهم - لا يعلمون ذلك، وهذا هو السبب في اتفاق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 طوائف كثيرة على مقالات يعلم أنها باطلة بضرورة العقل، كمقالات النصارى والرافضة والجهمية. كلام ابن كلاب في كتاب الصفات عن العلو وتعليق ابن تيمية عليه ثم إن المتقدمين من النظار يحكون إجماع الخلائق على نقيض قول النفاة، كما ذكره أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، إمام الأشعري وأصحابه، ذكره في كتاب الصفات مما نقله عنه أبو بكر بن فورك فقال في كتاب الصفات في باب القول في الاستواء: (فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، وأعلمهم جميعاً به، يجيز السؤال بأين، ويقوله، ويستصوب قول القائل: إنه في السماء، ويشهد له بالإيمان عند ذلك، وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين زعموا، ويحيلون القول به، ولو كان خطأ كان رسول صلى الله عليه وسلم أحق بالإنكار له، وكان ينبغي أن يقول لها: لا تقولي ذلك، فتوهمين أن الله عز وجل محدود، وأنه في مكان دون مكان، ولكن قولي: إنه في كل مكان لأنه الصواب دون ما قلت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 كلا لقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بما فيه، وأنه أصوب الأقاويل، والأمر الذي يجب الإيمان به لقائله، ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته، فكيف يكون الحق في خلاف ذلك، والكتاب ناطق به وشاهد له) . قال: (ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة إلا ما ذكرنا من هذه الأمور، لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غرس في بنية الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه ولا أوكد؟ لأنك لا تسأل أحداً من الناس عنه، عربياً ولا عجمياً، ولا مؤمناً، ولا كافراً، فتقول: أين ربك؟ إلا قال: (في السماء) إن أفصح، أو أومأ بيده، أو أشار بطرفه، إذا كان لا يفصح لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل، ولا رأينا أحداً داعياً له إلا رافعاً يديه إلى السماء، ولا وجدنا أحداً غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول: في كل مكان، كما يقولون: وهم يدعون أنهم أفضل الناس كلهم، فتاهت العقول، وسقطت الأخبار، واهتدى جهم وحده وخمسون رجلاً معه، نعوذ بالله من مضلات الفتن) . فقد ذكر ابن كلاب في هذا الكلام أن العلم بأن الله فوق، فطري، مغروز في فطر العباد، اتفق عليه عامتهم وخاصتهم، وأنه لم يخالف الجماعة في ذلك إلا نفر قليل يدعون أنهم أفضل الناس، جهم ونفر قليل معه، وبين أيضاً ابن كلاب أن قول الجهمية هو نظير قول الدهرية، وهو كما قال فإن منتهى كلام الجهمية إلى أنه لا موجود إلا العالم. قال: (يقال للجهمية: أليست الدهرية كفاراً ملحدين في قولهم: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 إن الدهر هو واحد، إلا أنه لا ينفك عن العالم ولا ينفك العالم منه، ولا يباين العالم ولا يباينه، ولا يماس العالم ولا يماسه، ولا يداخل شيئاً من العالم ولا يداخله، لأنه واحد والعالم غير مفارق له؟ فإذا قالوا نعم: قيل لهم: صدقتم، فلم أثبتم المعبود بمعنى الدهر، وأكفرتم من قال بمثل مقالتكم؟ وهل تجدون بينكم وبينهم فرقاً أكثر من أن سميتموه بغير ما سموه به؟ وقد قلتم: إنه غير مفارق للعالم ولا العالم مفارق له، ولا هو داخل العالم ولا العالم داخل فيه، ولا مماس للعالم، ولا العالم مماس له. فأين تذهبون يا أولي الألباب إن كنتم تعقلون؟ من أولى أن يكون قد شبه الله بخلقه: نحن أو أنتم؟ ولم رجعتم على من خالفكم بالتكفير، وزعمتم أنهم قد كفروا لأنهم قالوا: واحد منفرد بائن؟ فلم لا كنتم أولى بالكفر والتشبيه منهم إذ زعمتم مثل زعم الملحدين، وقلتم مثل مقالة المخالفين الضالين، وخرجتم من توحيد رب العالمين) . قال: (وكذلك مشاركتكم الثنوية في إلحادهم لما قالوا: إن الأشياء من شيئين لا تنفك منهما ولا ينفكان منها، وإن الأشياء تولدت عنهما ومنهما، وأن النور والظلمة لا نهاية لهما في أنفسهما، وأن أحدهما مازج الآخر فتولدت الأشياء منهما؟ وقلتم لهم: كيف يكون ما لا نهاية له يفعل شيئاً لا في نفسه؟ وكيف يجيء ما لا نهاية له فيكون في غيره؟ فقيل لكم مثل ذلك: كيف يكون ما لا نهاية له يفعل شيئاً لا في نفسه ولا بائناً من نفسه؟ ويلزمكم إذا زعمتم أنه لاتفاق النور والظلمة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 أصل الأشياء، وأن الأشياء تحدث منهما، وأنهما لا ينفكان مما كان بعدهما، ولا ينفك عنهما. كذلك زعمتم أن الواحد الذي {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]- تعالى عما قلتم - كان لا نهاية له، ثم خلق الأشياء غير منفكة منه، ولا هو منفك منها، ولا يفارقها ولا تفارقه، فأعظمتم معناهم ومنعتم القول والعبارة) . فيقال: هذا الذي ذكره ابن كلاب من موافقة الجهمية في الحقيقة للدهرية والثنوية يحققه ما فعلته غالية الجهمية من القرامطة الباطنية، فأنهم ركبوا لهم قولاً من قول الفلاسفة الدهرية وقول المجوس الثنوية، وقولهم هو منتهى قول الجهمية. وكان ذلك مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع. قالوا: فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا هؤلاء» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 وفي الحديث الآخر الصحيح: «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا اليهود والنصارى؟ قال: فمن» . ومشابهة اليهود والنصارى أيسر من مشابهة فارس والروم، فإن الفرس كانوا مجوساً، والروم إن لم يكونوا نصارى كانوا مشركين صابئة وغير صابئة، فلاسفة وغير فلاسفة، والباطنية ركبوا مذهبهم من قول المجوس ومن دخل فيهم ومن قول المشركين من الروم ومن دخل فيها، كاليونان ونحوهم. وأما الأشعري وأئمة أصحابه فهم مصرحون بأن الله نفسه فوق العرش، كما ذكر ذلك في كتبه كلها الموجز والإنابة والمقالات وغير ذلك. كلام الأشعري في الإنابة عن الاستواء وتعليق ابن تيمية قال: (إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل: نقول: إن الله عز وجل مستو على عرشه كما قال: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، وقد قال: {إليه يصعد الكلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10] ، وقال: {بل رفعه الله إليه} [النساء: 158] ، وقال: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} [السجدة: 5] . وقال تعالى حكاية عن فرعون: {يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا} [غافر: 36-37] كذب موسى في قوله: إن الله عز وجل فوق السماوات. وقال عز وجل: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} [الملك: 16] ، فالسماوات فوقها العرش. فلما كان العرش فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال: {أأمنتم من في السماء} يعني: جميع السماء، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 السماوات. ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السماوات فقال: {وجعل القمر فيهن نورا} [نوح: 16] ، ولم يرد أن القمر يملؤهن جميعاً، وأنه فيهن جميعاً. ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض) . قال: (وقال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية أن معنى قول الله عز وجل: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، أنه استولى وملك وقهر، وأن الله عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، ولو كان هذا كما ذكروه، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء والأرض، فالله قادر عليها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستو على العرش بمعنى الاستيلاء، وهو سبحانه مستول على الأشياء كلها، لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار، لأنه قادر على الأشياء مستول عليها، وإذا كان قادراً على الأشياء كلها، ولم يجز عنه أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الحشوش والأخلية، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش، الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها) . قال: (وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله في كل مكان، فلزمهم أنه في بطن مريم والحشوش والأخلية، وهذا خلاف الدين، تعالى الله عن قولهم) . وقال: (دليل آخر. وقال الله عز وجل: {ما كان لبشر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] ، فقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر، ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم، كان أبعد من الشبهة وإدخال الشك على من يسمع الآية أن يقول: ما كان لأحد أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً، فيرتفع الشك والحيرة، من أن يقول: ما كان لجنس من الأجناس أن أكلمه إلا وحياً أو من وراء حجاب أو أرسل رسولاً، ويترك أجناساً لم يعمهم بالآية، فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون غيرهم) . قلت: ومقصود الأشعري من هذا أنه على قول النفاة لا فرق بين البشر وغيرهم، فإنه عندهم لا يحجب الله تعالى أحداً بحجاب منفصل عنه، بل هو محتجب عن جميع الخلق، بمعنى أنه لا يمكن أحد أن يراه، فاحتجابه عن بعضهم دون البعض دل على نقيض قولهم: وذلك أن نفاة المباينة يفسرون بالاحتجاب بمعنى عدم الرؤية لمانع من الرؤية في العين، ونحو ذلك من الأمور التي لا تنفصل عن المحجوب، بل نسبتها إلى جميع الأشياء واحدة. قال الأشعري: (دليل آخر. قال تعالى: {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق} [الأنعام: 62] ، وقال تعالى: {ولو ترى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 إذ وقفوا على ربهم} [الأنعام: 30] ، وقال: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم} [السجدة: 12] ، وقال تعالى: {وعرضوا على ربك صفا} [الكهف: 48] ، وكل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه، ولا خلقه فيه، وأنه مستو على عرشه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية، إذ كل كلامهم يؤول إلى التعطيل، وجميع أوصافهم تدل على النفي، يريدون بذلك - زعموا - التنزيه ونفي التشبيه، فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل) . قلت: فقد احتج على عدم مداخلته بقوله تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} [الأنعام: 30] ، وقوله: {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق} الأنعام: [62] ، وقوله تعالى: {ناكسوا رؤوسهم عند ربهم} [السجدة: 12] ، وقوله: {وعرضوا على ربك صفا} [الكهف: 48] ، فإنه لو كانت نسبته إلى جميع الأمكنة واحدة لا يختص بالعلو، لكان في المردود كما هو في المردود إليه، وفي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 الواقف كما هو الموقوف عليه، وفي الناكس كما هو فيمن نكس رأسه عنده، وفي المعروض كما هو في المعروض عليه. فهذه النصوص تنفي مداخلته للخلق، وتوجب مباينته لهم، فلو أمكن وجود موجود لا مباين ولا محايث، لكان نسبة ذاته إلى جميع المخلوقات نسبة واحدة، وهو مناقض لما ذكر. وقوله: (مع نفي المداخلة أنه على العرش) ، يبين أنه يثبت المباينة لا ينفيها كما ينفي المداخلة. قال الأشعري أيضاً: (وروت العلماء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله، فإنه بين كرسيه إلى السماء ألف عام، والله عز وجل فوق ذلك. قلت: وهذا الحديث رواه الحاكم أبو محمد العسال في كتاب المعرفة له من حديث عبد الوهاب الوراق الرجل الصالح: ثنا علي بن عاصم، عن عطاء بن السايب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: قال تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله، فإن ما بين كرسيه إلى السماء السابعة سبعة آلاف نور، وهو فوق ذلك. قال عبد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 الوهاب الوراق: من زعم أن الله ههنا فهو جهمي خبيث، إن الله فوق العرش، وعلمه محيط بالدنيا والآخرة. قال الأشعري: (ومما يؤكد أن الله مستو على عرشه دون الأشياء كلها، ما نقله أهل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث النزول، كقوله: «ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأستجيب له؟ حتى يطلع الفجر) » . قال الأشعري: دليل آخر قال الله تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم} [النحل: 50] ، وقال تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4] ، وقال: {استوى إلى السماء وهي دخان} [فصلت: 11] ، وقال: {ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا} [الفرقان: 59] ، وقال: {ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع} [السجدة: 4] ، فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء، مستو على عرشه. والسماء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 بإجماع الناس ليست الأرض، فدل على أن الله منفرد بوحدانيته مستو على عرشه. وقال الأشعري: (دليل آخر. قال عز وجل: {وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر: 22] ، وقال تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} [البقرة: 210] ، وقال تعالى: {ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى} إلى قوله: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم: 7-18] . وقال عز وجل لعيسى ابن مريم: {إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55] . وقال: {وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه} [النساء: 157-158] وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء) . قال الأشعري: (ومن دعاء أهل الإسلام جميعاً، إذا هم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم، يقولون جميعاً: يا ساكن العرش، ومن حلفهم جميعاً: لا والذي احتجب بسبع سماوات) . فقد حكى الأشعري إجماع المسلمين على أن الله فوق العرش، وأن خلقه محجوبون عنه بالسماوات، وهذا مناقض لقول من يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، فإن هؤلاء يقولون: ليس للعرش به اختصاص، وليس شيء من المخلوقات يحجب عنه شيئاً. ومن أثبت الرؤية منهم إنما يفسر رفع الحجاب بخلق إدراك العين، لا أن يكون هناك حجاب منفصل يحجب العبد عن الرؤية. كلام الباقلاني في التمهيد إثبات العلو والاستواء وقال: القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابي: الإبانة والتمهيد وغيرهما: (فإن قال قائل: أتقولون: إنه في كل مكان؟ قيل له: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه، كما أخبر في كتابه، فقال: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، وقال: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر: 10] ، وقال: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور} [الملك: 16] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 ولو كان في كل مكان، لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي نرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا، وإلى يميننا وشمائلنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله) . فقد وافق القاضي أبو بكر لأبي الحسن الأشعري، وأنكر أن يكون في كل مكان، وجعل مقابل ذلك أنه على العرش، لم يجعل مقابل ذلك أنه لا داخل العالم ولا خارجه، فإن الأقسام أربعة ليس لها خامس: إما أن يكون نفسه مبايناً للعالم، وإما أن يكون مداخلاً له، وإما أن يكون مبايناً ومداخلاً، وإما أن يكون لا مبايناً ولا مداخلاً. فهؤلاء جعلوا مقابلة المداخلة المباينة، ولم يقولوا: لا داخل العالم ولا خارجه، وهؤلاء أئمة طوائفهم. كلام القاضي أبو يعلى في إبطال التأويل في إثبات العلو والاستواء وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل: (فإذا ثبت أنه على العرش، فالعرش في جهة، وهو على عرشه) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 قال: (وقد منعنا في كتابنا هذا، في غير موضع إطلاق الجهة عليه) . قال: (والصواب جواز القول بذلك، لأن أحمد أثبت هذه الصفة، التي هي الاستواء على العرش، وأثبت أنه في السماء، وكل من أثبت هذا أثبت الجهة) . قال: (والدليل عليه: أن العرش في جهة بلا خلاف، وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه، فاقتضى أنه في جهة، ولأن كل عاقل من مسلم وكافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية) . قال: (ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول: ليس في جهة ولا خارجاً منها، وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره، ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده، ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل: طلبته فلم أجده في موضع ما، وبين قوله: طلبته فإذا هو معدوم) . تعليق ابن تيمية قلت: وهذا الذي اختلف فيه قول القاضي، اختلف فيه أصحاب أحمد وغيرهم، فكان طائفة يقولون: العلو من الصفات السمعية الخبرية، كالوجه واليد ونحو ذلك، وهذا قول طوائف من الصفاتية ولهذا نفاه من متأخري الصفاتية من نفى الصفات السمعية الخبرية كأتباع صاحب الإرشاد) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 وأما الأشعري وأئمة أصحابه، فإنهم متفقون على إثبات الصفات السمعية، مع تنازعهم في العلو: هل هو من الصفات العقلية أو السمعية. وأما أئمة الصفاتية كابن كلاب وسائر السلف، فعندهم أن العلو من الصفات المعلومة بالعقل، وهذا قول الجمهور من أصحاب أحمد وغيرهم، وإليه رجع القاضي أبو يعلى آخراً، وهو قول جمهور أهل الحديث والفقه والتصوف، وهو قول الكرامية وغيرهم. وأما الاستواء فهو من الصفات السمعية عند من يجعله من الصفات الفعلية بلا نزاع، فإن ذلك لم يعلم إلا بالسمع. وهذا الذي ذكره ابن كلاب وغيره من أن المنازع من المسلمين في أن الله فوق العرش كانوا قليلين جداً، يبين خطأ من قال: إن النزاع إنما هو مع الكرامية والحنبلية، بل جماهير الخلق من جميع الطوائف على الإثبات: جمهور أئمة الفقهاء من: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والداوودية، وجمهور أهل التصوف والزهد والعبادة، وجمهور أهل التفسير، وجمهور أهل الحديث، وجمهور أهل الكلام من الكرامية والكلابية والأشعرية والهشامية، وجمهور المرجئة، وجمهور قدماء الشيعة. وإنما الخلاف في ذلك معروف عن جهم وأتباعه، والمعتزلة ومن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 وافقهم من الخوارج، ومتأخري الشيعة، وتأخري الأشعرية. وللمعتزلة والفلاسفة فيها قولان. بل وهذا هو المنقول عن أكثر الفلاسفة أيضاً، كما ذكر أبو الوليد بن رشد الحفيد، وهو من أتبع الناس لمقالات المشائين: أرسطو وأتباعه، ومن أكثر الناس عناية بها، وموافقة لها، وبياناً لما خالف فيه ابن سينا وأمثاله لها، حتى صنف كتاب تهافت التهافت وانتصر فيه لإخوانه الفلاسفة، ورد فيه على أبي حامد في كتابه الذي صنفه في تهافت الفلاسفة، مع أن في كلام أبي حامد من الموافقة للفلاسفة في مواضع كثيرة ما هو معروف، وإن كان يقال: إنه رجع عن ذلك واستقر أمره على التلقي من طريقة أهل الحديث، بعد أن أيس من نيل مطلوبه من طريقة المتكلمين والمتفلسفة والمتصوفة أيضاً. فالمقصود أن ابن رشد ينتصر للفلاسفة المشائين - أرسطو وأتباعه - بحسب الإمكان، وقد تكلمنا على كلامه وكلام أبي حامد في غير هذا الموضع، وبينا صواب ما رده أبو حامد من ضلال المتفلسفة، وبينا ما تقوى به المواضع التي استضعفوها من رده بطرق أخرى، لأن الرد على أهل الباطل لا يكون مستوعباً إلا إذا اتبعت السنة من كل الوجوه، وإلا فمن وافق السنة من وجه وخالفها من وجه، طمع فيه خصومه من الوجه الذي خالف فيه السنة، واحتجوا عليه بما وافقهم عليه من تلك المقدمات المخالفة للسنة. وقد تدبرت عامة ما يحتج به أهل الباطل على من هو أقرب إلى الحق منهم، فوجدته إنما تكون حجة الباطل قوية لما تركوه من الحق الذي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، فيكون ما تركوه من ذلك الحق من أعظم حجة المبطل عليهم، ووجدت كثيراً من أهل الكلام الذين هم أقرب إلى الحق ممن يردون عليه، يوافقون خصومهم تارة على الباطل، ويخالفونهم في الحق تارة أخرى، ويستطيلون عليهم بما وافقهم عليه من الباطل، وبما خالفوهم فيه من الحق، كما يوافق المتكلمة النفاة للصفات - أو لبعضها كالعلو وغيره - لمن نفى ذلك من المتفلسفة وينازعونهم في مثل بقاء الأعراض، أو مثل تركيب الأجسام من الجواهر المنفردة، أو وجوب تناهي جنس الحوادث ونحو ذلك. والمقصود هنا أن ابن رشد نقل عن الفلاسفة إثبات الجهة، وقرر ذلك بطرقهم العقلية التي يسمونها البراهين، مع أنه يزعم أنه لا يرتضي طرق أهل الكلام، بل يسميها هو وأمثاله من الفلاسفة الطرق الجدلية، ويسمون المتكلمين أهل الجدل، كما يسميهم بذلك ابن سينا وأمثاله، فإنهم لما قسموا أنواع القياس العقلي الشمولي الذي ذكروه في المنطق إلى: برهاني وخطابي، وجدلي، وشعري، وسوفسطائي، زعموا أن مقاييسهم في العلم الإلهي من النوع البرهاني، وان غالب مقاييس المتكلمين إما الجدلي وإما من الخطابي، كما يوجد هذا في كلام هؤلاء المتفلسفة، كالفارابي وابن سينا ومحمد بن يوسف العامري، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 ومبشر بن فاتك، وأبي علي بن الهيثم، والسهروردي المقتول، وابن رشد، وأمثالهم، وإن كانوا في هذه الدعاوى ليسوا صادقين على الإطلاق، بل الأقيسة البرهانية في العلم الإلهي في كلام المتكلمين أكثر منهما في كلامهم وأشرف، وإن كان قد يوجد في كلام المتكلمين أقيسة جدلية وخطابية بل وسوفسطائية، فهذه الأنواع في العلم الإلهي هي في كلام الفلاسفة أكثر منها في كلام المتكلمين وأضعف، إذا قوبل ما تكلموا فيه من العلم الإلهي بما تكلم فيه المتكلمون، بل ويستعملون من هذا الضرب في الطبيعيات، بل وفي الرياضيات قطعة كبيرة. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن العلو والجهة والمقصود هنا ذكر ما ذكره ابن رشد عنهم، وهذا لفظه في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصوليين، قال: (والقول في الجهة. وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة، في أول الأمر، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 يثبتونها لله سبحانه، حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية، كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله. وظواهر الشرع تقتضي إثبات الجهة مثل قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، ومثل قوله تعالى: {وسع كرسيه السماوات والأرض} [البقرة: 255] ، ومثل قوله: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} [الحاقة: 17] ومثل قوله: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} [السجدة: 5] ، ومثل قوله: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4] ، ومثل قوله: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور} [الملك: 16] ، إلى غير ذلك من الآيات، التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولاً، وإن قيل فيها: إنها من المتشابهات، عاد الشرع كله متشابهاً لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من في السماء نزلت الكتب، وإليها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قرب من سدرة المنتهى) . قال: (وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك. والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هو أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية) . قال: (ونحن نقول: إن هذا كله غير لازم، فإن الجهة غير المكان. وذلك أن الجهة هي: إما سطوح الجسم نفسه المحيطة به، وهي ستة، وبهذا نقول: إن للحيوان فوقاً وسفلاً، ويميناً وشمالاً، وأماماً وخلفاً، وإما سطوح جسم آخر تحيط بالجسم من الجهات الست. فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلاً. وأما سطوح الجسم المحيطة به فهي له مكان، مثل سطوح الهواء المحيطة بالإنسان، وسطوح الفلك المحيطة بسطوح الهواء هي أيضاً مكان للهواء. وهذه الأفلاك بعضها محيط ببعض ومكان له، وأما سطح الفلك الخارج فقد تبرهن أنه ليس خارجه جسم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون خارج ذلك الجسم أيضاً جسم آخر، ويمر الأمر إلى غير نهاية. فإذاً سطح آخر أجسام العالم ليس مكاناً أصلاً، إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم، فإذاً إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير الجسم، فالذي يمتنع وجوده هنالك هو عكس ما ظنه القوم، وهو موجود هو جسم، لا موجود ليس بجسم. وليس لهم أن يقولوا: إن خارج العالم خلاء. وذلك أن الخلاء قد تبين في العلوم النظرية امتناعه، لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئاً أكثر من أبعاد ليس فيها جسم، أعني طولاً وعرضاً وعمقاً، لأنه إن وقعت الأبعاد عنه عاد عدماً، وإن أنزل الخلاء موجوداً لزم أن تكون أعراض موجودة في غير جسم. وذلك لأن الأبعاد هي أعراض من باب الكمية ولا بد، ولكنه قد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة إن ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين، يريدون الله والملائكة. وذلك أن ذلك الموضع ليس بمكان ولا يحويه زمان، وكذلك إن كان كل ما يحويه الزمان والمكان فاسداً، فقد يلزم أن يكون ما هنالك غير فاسد ولا كائن، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 وقد تبين هذا المعنى فيما أقوله، وذلك أنه لما لم يكن ههنا شيء يدرك إلا هذا الموجود المحسوس أو العدم، وكان من المعروف بنفسه أن الموجود إنما ينسب إلى الوجود، أعني أنه يقال: إنه موجود في الوجود، إذ لا يمكن أن يقال: إنه موجود في العدم، فإن كان ههنا موجود هو أشرف الموجودات، فواجب أن ينسب من الوجود المحسوس إلى الجزء الأشرف، وهي السماوات. ولشرف هذا الجزء، قال الله تعالى: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} [غافر: 57] . قال: (فهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم. فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه، فإن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع، وأنه وجه العسر في نفيهم هذا المعنى مع نفي الجسمية، هو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 أنه ليس في الشاهد مثال له، وهو بعينه السبب في أنه لم يصرح الشرع بنفي الجسم عن الخالق سبحانه، لأن الجمهور إنما يقع لهم التصديق بحكم الغائب، متى كان ذلك معلوم الوجوه في الشاهد، مثل العلم في الفاعل، فإنه لما كان في الشاهد شرطاً في وجوده كان شرطاً في وجود الصانع الغائب، وأما متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد عند الأكثر، ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون، فإن الشرع يزجر عن طلب معرفته، إن لم تكن بالجمهور حاجة إلى معرفته، مثل العلم بالنفس، أو يضرب له مثال في الشاهد. فإن بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم، وإن لم يكن ذلك المثال هو الأمر المقصود فتفهيمه مثل كثير مما جاء من أحوال المعاد. والشبهة الواقعة في نفي الجهة عند الذين نفوها ليس يتفطن الجمهور لها، لا سيما إذا لم يصرح لهم بأنه ليس بجسم، فيجب أن يمتثل في هذا كله فعل الشرع، ولا يتأول ما لم يصرح الشرع بتأوله. والناس في هذه الأشياء في الشرع على ثلاث رتب: صنف لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 يشعرون بالشكوك العارضة في هذا المعنى، وخاصة متى تركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع، وهؤلاء هم الأكثرون، وهم الجمهور. وصنف عرفوا حقيقة هذه الأشياء، وهم الراسخون في العلم، وهؤلاء هم الأقل من الناس، وصنف عرضت لهم في هذه الأشياء شكوك ولم يقدروا على حلها، وهؤلاء هم فوق العامة دون العلماء، وهذا الصنف هم الذين يوجد في حقهم التشابه في الشرع، وهم الذين ذمهم الله تعالى. وأما عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابه. فعلى هذا المعنى ينبغي أن يفهم المتشابه.. ومثال ما عرض لهذا الصنف من الشرع مثال ما يعرض لخبز البر مثلاً، الذي هو الغذاء النافع لأكثر الأبدان، أن يكون لأقل الأبدان ضاراً، وهو نافع للأكثر، وكذلك التعلم الشرعي هو نافع للأكثر، وربما يضر الأقل. ولهذا الإشارة بقوله تعالى: {وما يضل به إلا الفاسقين} [البقرة: 26] . لكن هذا إنما يعرض في آيات الكتاب العزيز في الأقل منها والأقل من الناس، وأكثر ذلك هي الآيات التي تتضمن الإعلام عن أشياء في الغائب ليس لها مثال في الشاهد، فيعبر عنها بالشاهد الذي هو أقرب الموجودات إليها، وأكثرها شبهاً بها، فيعرض لبعض الناس أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 يرى الممثل به هو الممثل نفسه، فتلزمه الحيرة والشك، وهو الذي يسمى متشابهاً في الشرع. وهذا ليس يعرض للعلماء والجمهور، وهم صنفا الناس بالحقيقة، لأن هؤلاء هم الأصحاء، والغذاء الملائم إنما يوافق أأبدان الأصحاء، وأما أولئك فمرضى، والمرضى هم الأقل. ولذلك قال تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران: 7] ، وهؤلاء هم أهل الجدل والكلام. وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيراً مما ظنوه ليس على ظاهره، وقالوا: إن هذا التأويل هو المقصود به، وإما أتى به في صورة المتشابه ابتلاءً لعباده واختباراً لهم، ونعوذ بالله من هذا الظن بالله، بل نقول: إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجزاً من جهة الوضوح والبيان، فإذا ما أبعد عن مقصود الشرع من قال فيما ليس بمتشابه: إنه متشابه، ثم أوله بزعمه، وقال لجميع الناس: إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل، مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش، وغير ذلك مما قالوا: إن ظاهره متشابه. وبالجملة فأكثر التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تؤملت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 وجدت ليس يقوم عليها برهان، ولا تفعل فعل الظاهر في قبول الجمهور لها، وعلمهم عنها، فإن المقصود الأول في العلم في حق الجمهور إنما هو العمل، فما كان أنفع في العمل فهو أجدر. فأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهو الأمران جميعاً: أعني العلم والعمل) . قال: (ومثال من أول شيئاً من الشرع، وزعم أن ما أوله هو الذي قصد الشرع، وصرح بذلك التأويل للجمهور، مثال ما أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر لحفظ صحة جميع الناس، أو الأكثر، فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء المركب الأعظم لرداءة مزاج كان به، ليس يعرض إلا لأقل الناس، فزعم أن بعض تلك الأدوية التي صرح باسمه الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المركب لم يرد به ذلك الدواء الذي جرت به العادة في ذلك أن يدل بذلك الاسم عليه، وإنما أراد به دواءً آخر مما يمكن أن تدل عليه بذلك استعارة بعيدة، فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 وجعل فيه بدله الدواء الذي ظن أنه قصده الطبيب، وقال للناس: هذا هو الذي قصده الطبيب الأول، فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على وجه الذي تأوله عليه هذا المتأول، ففسدت به أمزجة كثير من الناس، فجاء آخرون شعروا بفساد أمزجة الناس عن ذلك الدواء المركب، فراموا إصلاحه بأن أبدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول، فعرض من ذلك للناس نوع من المرض غير المرض الأول، فجاء ثالث فتأول أدوية ذلك المركب على غير التأويل الثاني، فعرض للناس نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين، فجاء متأول رابع فتأول دواءً آخر غير الأدوية المتقدمة، فعرض للناس نوع رابع من المرض غير الأمراض المتقدمة، فلما طال الزمان بهذا الدواء المركب الأعظم، وسلط الناس التأويل على أدويته وغيروها وبدلوها، عرض منه للناس، أمراض شتى، حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس، وهذه حال الفرق الحادثة في هذه الشريعة، وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تأويلاً غير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه الذي قصد صاحب الشرع، حتى تمزق الشرع كل ممزق، وبعد جداً عن موضوعه الأول. ولما علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن مثل هذا يعرض، ولا بد في شريعته قال: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله تأويلاً صرحت به للناس) . قال: (وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة، في هذا الوقت، من الفساد العارض فيها من قبل التأويل، تبينت أن هذا المثال صحيح. فأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج، ثم المعتزلة بعدهم، ثم الأشعرية، ثم الصوفية، ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى، وذلك أنه صرح بالحكمة كلها للجمهور، وبآراء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 الحكماء، على ما أداه إليه فهمه، وذلك في كتابه الذي سماه بالمقاصد، وزعم أنه إنما ألف هذا الكتاب للرد عليهم، ثم وضع كتابه المعروف بتهافت الفلاسفة، فكفرهم فيه في مسائل ثلاثة من جهة خرقهم فيها الإجماع فيما زعم، وبدعهم في مسائل، وأتي فيه بحجج مشككة، وشبه محيرة أضلت كثيراً من الناس عن الحكمة والشريعة جميعاً، ثم قال في كتابه المعروف بجواهر القرآن إن الذي أثبته في كتاب التهافت هي أقاويل جدلية، وأن الحق إنما أثبته في المضنون به على غير أهله ثم جاء في كتابه المعروف بـ مشكاة الأنوار فذكر فيه مراتب العارفين بالله، وقال: إن سائرهم محجوبون، إلا الذين اعتقدوا أن الله سبحانه غير محرك السماء الأولى، وهو الذي صدر عنه هذا المحرك، وهذا تصريح منه باعتقاد مذاهب الحكماء في العلوم الإلهية، وهو قد قال في غير ما وضع: إن علومهم الإلهية تخمينات، بخلاف الأمر في سائر علومهم، وأما في كتابه الذي سماه المنقذ من الضلال فتحامل فيه على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 الحكماء، وأشار إلى أن العلم إنما يحصل بالخلوة والفكرة، وأن هذه المرتبة من جنس مراتب الأنبياء في العلم، وكذلك صرح بذلك بعينه في كتابه الذي سماه بكيمياء السعادة فصار الناس بسبب هذا التخليط والتشويش فرقتين: فرقة انتدبت لذم الحكماء والحكمة، فرقة انتدبت لتأويل الشرع وروم صرفه إلى الحكمة، وهذا كله خطأ، بل ينبغي أن يقر الشرع على ظاهره، ولا يصرح للجمهور بالجمع بينه وبين الحكمة، لأن التصريح بذلك هو تصريح بنتائج الحكمة لهم، دون أن يكون عندهم برهان عليها، وهذا لا يحل ولا يجوز، أعني التصريح بشيء من نتائج الحكمة لم يكن عنده البرهان عليها، لأنه لا يكون مع العلماء الجامعين بين الشرع والعقل، ولا مع الجمهور المتبعين لظاهر الشرع، فلحق من فعله هذا إخلال بالأمرين جميعاً، أعني بالحكمة وبالشرع عند أناس، وحفظ الأمرين أيضاً جميعاً عند آخرين. أما إخلاله بالشريعة فمن جهة إفصاحه فيه بالتأويل الذي لا يجب الإفصاح به، وأما إخلاله بالحكمة فلإفصاحه أيضاً بمعان فيها لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 يجب أن يصرح بها إلا في كتب البرهان، وأما حفظه للأمرين جميعاً، فإن كثيراً من الناس لا يرى بينهما تعارضاً من جهة الجمع الذي استعمل منهما، وأكد هذا المعنى بأن عرف وجه الجمع بينهما، وذلك في كتابه الذي سماه التفرقة بين الإسلام والزندقة، وذلك أنه عدد فيه أصناف التأويلات، وقطع فيه على أن المتأول ليس بكافر. وإن خرق الإجماع في التأويل. فإذاً ما فعل من هذه الأشياء هو ضار للشرع بوجه، وللحكمة بوجه، ونافع لهما بوجه، وهذا الذي فعله هذا الرجل إذا فحص عنه ظهر أنه ضار بالذات للأمرين جميعاً. أعني الحكمة والشريعة، وأنه نافع لهما بالعرض. وذلك أن الإفصاح بالحكمة لمن ليس من أهلها يلزم عن ذلك بالذات: إما إبطال الحكمة، وإما إبطال الشريعة، وقد يلزم عنها بالعرض الجمع بينهما. والصواب كان ألا يصرح بالحكمة للجمهور، فأما قد وقع التصريح، فالصواب أن تعلم الفرقة من الجمهور التي ترى أن الشريعة مخالفة للحكمة أنها ليست مخالفة لها، وكذلك يعرف الذين يرون أن الحكمة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 مخالفة لها من الذين ينتسبون للحكمة أنها غير مخالفة لها. وذلك بأن يعرف كل أحد من الفريقين أنه لم يقف على كنهها بالحقيقة، أعني على كنه الشريعة، ولا على كنه الحكمة، وأن الرأي في الشريعة الذي اعتقد أنه مخالف للحكمة هو رأي: إما مبتدع في الشريعة لا من أصلها، وإما رأي خطأ في الحكمة، أعني تأويل خطأ عليها، كما عرض في مسألة علم الجزئيات وفي غيرها من المسائل) . قال: (ولهذا المعنى اضطررنا نحن في هذا الكتاب أن نعرف أصول الشريعة، فإن أصولها إذا تؤملت وجدت أشد مطابقة للحكمة مما أول عليها. وكذلك الرأي في الذي ظن في الحكمة أنه مخالف للشريعة يعرف أن السبب في ذلك أنه لم يحط علماً بالحكمة ولا بالشريعة. ولذلك اضطررنا نحن إلى وضع قول في موافقة الحكمة للشريعة) . كلام ابن رشد في مسألة رؤية الله تعالى قال: (فإذا تبين هذا فلنرجع إلى حيث كنا فنقول: إن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 الذي بقي علينا من هذا الجزء من المسائل المشهورة هي مسألة الرؤية، فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي، بوجه ما، داخلة في هذا الجزء، أعني في الجزء المعدوم) يعني جزء التنزيه، فإنه تكلم في التنزيه بعد تكلمه في الصفات الثبوتية، فقال: (فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي، بوجه ما داخلة في هذا الجزء، أعني في الجزء المعدوم، لقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103] ، ولذلك أنكرتها المعتزلة، وردت الآثار الواردة في الشرع بذلك، مع كثرتها وشهرتها، فشنع المر عليهم، والسبب في وقوع هذه الشبهة في الشرع أن المعتزلة لما اعتقدوا انتفاء الجسمية عنه سبحانه، واعتقدوا وجوب التصريح بهذا لجميع المكلفين، وجب عندهم إذا انتفت الجسمية أن تنتفي الجهة، وإذا انتفت الجهة انتفت الرؤية، إذ كل مرئي في جهة من الرائي، فاضطروا لهذا المعنى إلى رد الشرع المنقول، وأعلوا الأحاديث بأنها أخبار آحاد. وأخبار الآحاد لا توجب العلم، مع أن ظاهر القرآن معارض لها، أعني قوله: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] ) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 قال: (وأما الأشعرية فراموا الجمع بين الاعتقادين، أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس، فعسر ذلك عليهم، ولجأوا في ذلك إلى حجج سوفسطائية مموهة، أعني الحجج التي توهم أنها حجج وهي كاذبة، وذلك أنه يشبه أن يكون يوجد في الحجج ما يوجد في الناس، أعني كما يوجد في الناس الفاضل التام الفضيلة، يوجد فيهم من هو دون ذلك في الفضل، ويوجد فيهم من يوهم أنه فاضل وليس بفاضل، وهو المرائي، وكذلك الأمر في الحجج أعني أن منها ما هو في غاية اليقين ومنها ما هو دون اليقين، ومنها حجج مرائية، وهي التي توهم أنها يقين وهي كاذبة. والأقاويل التي سلكها الأشعرية في هذه المسألة منها أقاويل في دفع دليل المعتزلة، ومنها أقاويل لهم في جواز إثبات الرؤية لما ليس بجسم، وأنه ليس يعرض من فرضها محال. فأما ما عاندوا به قول المعتزلة: إن كل مرئي فهو في جهة من الرائي، فمنهم من قال: إن هذا إنما هو حكم الشاهد لا حكم الغائب، وإن هذا الموضع ليس هو من المواضع التي يجب فيها نقل حكم الشاهد إلى الغائب، وإنه جائز أن يرى الإنسان ما ليس في جهة، إذ كان جائزاً أن يرى الإنسان بالقوة المبصرة نفسها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 دون عين، وهؤلاء اختلط عليهم إدراك العقل مع إدراك البصر فإن العقل هو الذي يدرك ما ليس في جهة، أعني في مكان. وأما إدراك البصر، فظاهر من أمره أن من شرطه أن يكون المرئي منه في جهة، أعني في مكان، ولا في كل جهة بل في جهة ما مخصوصة. ولذلك ليس تتأتى الرؤية بأي وضع اتفق أن يكون البصر من المرئي، بل بأوضاع محدودة وشروط محدودة أيضاً. وهي ثلاثة أشياء: حضور الضوء، والجسم الشفاف المتوسط بين البصر والمبصر، وكون المبصر ذا لون. والرد لهذه الأمور المعروفة بنفسها في الإبصار هو رد للأوائل المعلومة بالطبع للجميع، وإبطال لجميع علوم النظر والهندسة. وقد قال القوم - أعني الأشعرية - إن أحد المواضع التي يجب فيها أن ينقل حكم الشاهد إلى الغائب هو الشرط، مثل حكمنا بأن كل عالم حي، لكون الحياة تظهر في الشاهد شرطاً في وجود العلم قلنا لهم: وكذلك يظهر في الشاهد أن هذه الأشياء هي شرط في الرؤية، فألحقوا الغائب فيها بالشاهد، على أصلكم) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 قال: (وقد رام أبو حامد في كتابه المعروف بالمقاصد أن يعاند هذه المقدمة، أعني أن كل مرئي في جهة من الرائي، بأن الإنسان ينظر ذاته في المرآة، وليس ذاته منه في جهة ولا في غير جهة تقابله، وذلك أنه لما كان يبصر ذاته، وكانت ذاته لا تحال في المرآة التي في الجهة المقابلة، فهو يبصر ذاته في غير جهة) . قال: (وهذه مغالطة، فإن الذي يبصر هو خيال ذاته فقط، والخيال هو في جهة، إذ كان الخيال في المرآة، والمرآة في جهة. وأما حجتهم التي أتوا بها في إمكان رؤية ما ليس بجسم، فإن المشهور عندهم من ذلك حجتان: إحداهما - وهي الأشهر عندهم - ما يقولونه من أن الشيء لا يخلو من أن يرى من جهة أنه متلون، أو من جهة أنه جسم، أو من جهة أنه لون، أو من جهة أنه موجود. وربما عددوا جهات أخر غير هذه الوجوه، ثم يقولون: وباطل أن يرى من قبل أنه جسم، إذ لو كان كذلك لما رئي ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 هو غير جسم، وباطل أن يرى من قبل أنه ملون، إذ لو كان كذلك لما رئي، وباطل أن يرى لمكان أنه لون، إذ لو كان كذلك لما رئي الجسم. قالوا: وإذا بطلت جميع هذه الأقسام التي تتوهم في هذا الباب، لم يبق أن يرى الشيء إلا من قبل أنه موجود) . قال: (والمغالطة في هذا القول بينة، فإن المرئي منه ما هو مرئي بذاته، ومنه ما هو مرئي من قبل المرئي بذاته. وهذه هي حال اللون والجسم، فإن اللون مرئي بذاته، والجسم مرئي من قبل اللون، وكذلك ما لم يكن له لون لم يبصر، ولو كان الشيء إنما يرى من حيث هو موجود فقط، لوجب أن يبصر الأصوات وسائر المحسوسات الخمس، فكان يكون السمع والبصر وسائر الحواس الخمس حاسة واحدة، وهذا كله خلاف ما يعقل، وقد اضطر المتكلمون لمكان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 هذه المسألة - وما أشبهها - إلى أن يسلموا أن الألوان ممكنة أن تسمع، والأصوات ممكنة أن لا تسمع، وهذا كله خروج عن الطبع وعما يمكن أن يعقله الإنسان، فإن من الظاهر أن حاسة البصر غير حاسة السمع، وأن محسوس هذه غير محسوس تلك، وأن آلة هذه غير آلة تلك، وأنه ليس يمكن أن ينقلب البصر سمعاً، كما لا يمكن أن يعود اللون صوتاً، والذين يقولون: إن الصوت يمكن أن يبصر في وقت، فقد وجب أن يسألوا فيقال لهم: ما هو البصر؟ فلا بد أن يقولوا: هو قوة تدرك بها المرئيات: الألوان وغيرها، ثم يقال لهم: ما هو السمع؟ فلا بد أن يقولوا: هو قوة تدرك بها الأصوات، فإذا وضعوا هذا قيل لهم: فهل البصر عند إدراكه الأصوات هو بصر فقط، أو سمع فقط؟ فإذا قالوا: سمع فقط، فقد سلموا أنه لا يدرك الألوان. وإن قالوا: بصر فقط، فليس يدرك الأصوات، وإذا لم يكن بصراً فقط لأنه يدرك الأصوات، ولا سيما فقط لأنه يدرك الألوان، فهو بصر وسمع معاً، وعلى هذا فتكون الأشياء كلها شيئاً واحداً، حتى المتضادات، وهذا شيء - فيما أحسبه - يسلمه المتكلمون من أهل ملتنا، أو يلزمهم تسليمه - يعني هؤلاء الأشعرية) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 قال: (وهو رأي سوفسطائي لأقوام مشهورين بالسفسطة. وأما الطريقة الثانية التي سلكها المتكلمون في جواز الرؤية فهي الطريقة التي اختارها أبو المعالي في كتابه المعروف بالإرشاد وتلخيصها. أن الحواس إنما تدرك ذوات الأشياء، وما تنفصل به الموجودات بعضها من بعض، فهي أحوال ليست بذوات، فالحواس لا تدركها، وإنما تدرك الذات، والذات هي نفس الوجود المشتركة لجميع الموجودات، فإذاً الحواس إنما تدرك الشيء من حيث هو هو موجود) . قلت: هذه الحجة من جنس الأولى، لكن هذه على قول مثبتة الأحوال، وتلك على رأي نفاة الأحوال، لكن ذكرها على هذا الوجه فيه تناقض، حيث جعل الأحوال لا ترى، بل إنما يرى الوجود، والوجود حال عند مثبتة الأحوال، لكن مضمون ذلك أنها تدرك الحال المشتركة وهي الوجود، لا لما اختصت به. ثم قال ابن رشد: (وهذا كله في غاية الفساد. ومن أبين ما يظهر به فساد هذا القول أنه لو كان البصر إنما يدرك الأشياء لوجودها لما أمكنه أن يفرق بين الأبيض والأسود، لأن الأشياء لا تفترق بالشيء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 الذي تشترك فيه، ولكان في الجملة لا يمكن في الحواس: لا في البصر أن يدرك فصول الألوان، ولا في السمع أن يدرك فصول الأصوات، ولا في الطعم أن يدرك فصول المطعومات، وللزم أن يكون مدارك المحسوسات بالحس واحداً، فلا يكون فرق بين مدرك السمع ومدرك البصر، وهذا كله في غاية الخروج عما يعقله الإنسان، وإنما تدرك الحواس وذوات الأشياء المشار إليها بتوسط إدراكها لمحسوساتها الخاصة بها، فوجه المغالطة في هذا هو أنه ما يدرك ثانياً أخذ أنه يدرك بذاته) . قال: (ولولا النشأ على هذه الأقاويل، وعلى التعظيم للقائلين بها، لما أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع، ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة) . قال: (والسبب في مثل هذه الحيرة الواقعة في الشريعة - حتى ألجأت القائلين بنصرتها، في زعمهم، إلى مثل هذه الأقاويل الهجينة، التي هي ضحكة عند من عنى بتمييز أصناف الأقاويل أدنى عناية - هو التصريح في الشرع بما لم يأذن به الله ورسوله، وهو التصريح بنفي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 الجسمية للجمهور. وذلك أنه من العسير أن يجتمع في اعتقاد واحد أن ههنا موجوداً ليس بجسم، وأنه مرئى بالأبصار، لأن مدرك الأبصار هي في الأجسام أو أجسام، وكذلك رأى قوم أن هذه الرؤية هي مزيد علم في ذلك الوقت، وهذا لا يليق أيضاً الإفصاح به للجمهور، فإنه لما كان العقل من الجمهور لا ينفك عن التخيل، بل ما لا يتخيلون هو عندهم عدم، وكان تخيل ما ليس بجسم لا يمكن، والتصديق بوجود ما ليس بمتخيل غير ممكن عندهم، عدل الشرع عن التصريح لهم بهذا المعنى، ووصف لهم نفسه سبحانه بأوصاف تقرب من قوة التخيل مثل ما وصفه به من السمع والبصر والوجه وغير ذلك، مع تعريفهم أنه لا يجانسه شيء من الموجودات المتخيلة ولا يشبهه. ولو كان القصد تعريف الجمهور أنه ليس بجسم لما صرح لهم بشيء من ذلك، بل لما كان أرفع الموجودات المتخيلة هو النور ضرب المثال به، إذ كان النور هو أشهر الموجودات عند الحس والتخيل. وبهذا النحو من التصور أمكن أن يفهموا المعاني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 الموجودات في المعاد، أعني تلك المعاني مثلت لهم بأمور متخيلة محسوسة، فإذاً متى أخذ الشرع في أوصاف الله على ظاهره لم تعرض فيه هذه الشبهة ولا غيرها، لأنه إذا قيل: إنه نور، وإن له حجاباً من نور، كما جاء في القرآن والسنن الثابتة، ثم قيل: إن المؤمنين يرونه في الدار الآخرة، كما ترى الشمس لم يعرض في هذا كله شك، ولا شبهة في حق الجمهور، ولا حق العلماء، وذلك أنه قد تبرهن عند العلماء أن تلك الحال مزيد علم، لكن متى صرح به للجمهور بطلت عندهم الشريعة كلها أو كفروا المصرح لهم بها، فمن خرج عن منهاج الشريعة في هذه الأشياء فقد ضل عن سواء السبيل. وأنت إذا تأملت الشرع وجدته، مع أنه قد ضرب للجمهور في هذا المعنى المثالات التي لم يمكن تصورها إياها دونها، فقد نبه العلماء على تلك المعاني أنفسها التي ضرب مثالاتها للجمهور، فيجب أن يوقف عند حد الشرع في نحو التعليم الذي خص به صنفاً صنفاً من الناس، لئلا يختلط التعليمان كلاهما، فتفسد الحكمة الشرعية النبوية. ولذلك قال عليه الصلاة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 والسلام: «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، وأن نخاطبهم على قدر عقولهم» ، ومن جعل الناس شرعاً واحداً في التعليم فهو كمن جعلهم شرعاً واحداً في عمل من الأعمال، وهذا كله خلاف المحسوس والمعقول) . قال: (وقد تبين لك من هذه أن الرؤية معنى ظاهر، وأنه ليس يعرض فيه شبهة إذا أخذ الشرع على ظاهره في حق الله تبارك وتعالى، أعني إذا لم يصرح فيه بنفي الجسمية ولا إثباتها) . تعليق ابن تيمية على كلام ابن رشد في مناهج الأدلة قلت: هذا الرجل قد ذكر في كتابه أن أصناف الناس أربعة: الحشوية، والأشعرية، والمعتزلة والباطنية: باطنية الصوفية وهو يميل إلى باطنية الفلاسفة الذين يوجبون إقرار الجمهور على الظاهر كما يفعل ذلك من يقول بقولهم من أهل الكلام والفقه والحديث، ليس هو من باطنية الشيعة كالإسماعيلية ونحوهم الذين يظهرون الإلحاد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 ويتظاهرون بخلاف شرائع الإسلام، وهو في نفي الصفات أسوأ حالاً من المعتزلة وأمثالهم، بمنزلة إخوانه الفلاسفة الباطنية، حتى أنه يجعل العلم هو العالم، والعلم هو القدرة، وهو مع موافقته لابن سينا على نفي الصفات، يبين فساد طريقته التي احتج بها وخالف بها قدماء الفلاسفة، وهو أن ما يشهد به الوجود من الموجود الواجب يمتنع كونه موصوفاً لأن ذلك تركيب، ووافق أبا حامد - مع تشنيعه عليه - على أن استدلال ابن سينا على نفي الصفات بأن وجوب الوجود مستلزم لنفي التركيب، المستلزم لنفي الصفات - طريقة فاسدة، واختار طريقة المعتزلة، وهي أن ذلك تركيب، والمركب يفتقر إلى مركب، وهي أيضاً من نمط تلك في الفساد. وكذلك أيضاً زيف طريقهم التي استدلوا بها على نفي التجسيم: زيف طريقة ابن سينا وطرق المعتزلة والأشعرية بكلام طويل، واعتمد هو في نفي التجسيم على إثبات النفس الناطقة، وأنها ليست بجسم، فيلزم أن يكون الله ليس بجسم. ولا ريب أن هذه الحجة أفسد من غيرها، فإن الاستدلال على نفي كون النفس جسماً أضعف بكثير من نفس ذلك في الواجب، والمنازعون له في النفس أكثر من المنازعين له في ذلك، لكن مما يطمعه، ويطمع أمثاله في ذلك ضعف مناظرة أبي حامد لهم في مسألة النفس، فإن أبا حامد بين فساد أدلتهم التي استدلوا بها على نفي كون الواجب ليس بجسم، وبين أنه لا حجة لهم على ذلك، وغنما الحجة على ذلك طريق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 المعتزلة: طريقة الأعراض والحوادث. وأما في مسألة النفس فهو موافق لهم على قولهم لاعتقاده صحة طريقهم. وابن رشد يذم أبا حامد من الوجه الذي يمدحه به علماء المسلمين ويعظمونه عليه، ويمدحه من الوجه الذي يذمه به علماء المسلمين، وإن كانوا قد يقولون: إنه رجع عن ذلك، لأن أبا حامد يخالف الفلاسفة تارة، ويوافقهم أخرى، فعلماء المسلمين يذمونه بمن وافقهم فيه من الأقوال المخالفة للحق الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم الموافقة لصحيح المنقول وصريح المعقول، كما وقع من الإنكار عليه أشياء في كلام رفيقه أبي الحسن المرغيناني، وأبي نصر القشيري، وأبي بكر الطرشوشي، وأبي بكر بن العربي، وأبي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 عبد الله المازري، وأبي عبد الله الذكي، ومحمود الخوارزمي، وابن عقيل، وأبي البيان الدمشقي، ويوسف الدمشقي، وابن حمدون القرطبي القاضي، وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي محمد المقدسي، وأبي عمرو بن الصلاح، وغير واحد من علماء المسلمين وشيوخهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 والمتفلسفة، الذين يوافقون ما ذكره من أقوالهم، يذمونه لما اعتصم به من دين الإسلام ووافقه في الكتاب والسنة، كما يفعل ذلك ابن رشد الحفيد هذا، وابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقظان، وابن سبعين، وابن هود، وأمثالهم. وهؤلاء وأمثالهم يعظمون ما وافق فيه الفلاسفة، كما يفعل ذلك صاحب خلع النعلين وابن عربي صاحب الفصوص، وأمثالهم ممن يأخذ المعاني الفلسفية يخرجها في قوالب المكاشفات والمخاطبات الصوفية، ويقتدي في ذلك بما وجده من ذلك في كلام أبي حامد ونحوه. وأما عوام هؤلاء فيعظمون الألفاظ الهائلة مثل: لفظ الملك، والملكوت، والجبروت، وأمثال ذلك مما يجدونه في كلام هؤلاء وهم لا يدرون هل أراد المتكلم بذلك ما أراده الله ورسوله، أم أراد بذلك ما أراده الملاحدة كابن سينا وأمثاله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 والمقصود هنا أن ابن رشد هذا مع اعتقاده أقوال الفلاسفة الباطنية - لا سيما الفلاسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم الذين لهم التصانيف المعروفة في الفلسفة - ومع أن قول ابن رشد هذا في الشرائع من جنس قول ابن سينا وأمثاله من الملاحدة، من أنها أمثال مضروبة لتفهيم العامة ما يتخيلونه في أمر الإيمان بالله واليوم الاخر، وأن الحق الصريح الذي يصلح لأهل العلم، فإنما هو أقوال هؤلاء الفلاسفة، وهذه عند التحقيق منتهاها التعطيل المحض، وإثبات وجود مطلق لا حقيقة له في الخارج غير وجود الممكنات، وهو الذي انتهى إليه أهل الوحدة والقائلون بالحلول والاتحاد، كابن سبعين وأمثاله ممن حقق هذه الفلسفة ومشوا على طريقة هؤلاء المتفلسفة الباطنية من متكلم ومتصوف، وممن أخذ بما يوافق ذلك من كلام أبي حامد وأمثاله، وزعموا أنهم يجمعون بين الشريعة الإلهية والفلسفة اليونانية، كما زعم ذلك أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم من هؤلاء الملاحدة. وابن رشد هذا، مع خبرته بكلام هؤلاء وموافقته لهم، يقول: إن جميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك، وقرر ذلك بطريق عقلية من جنس تقرير ابن كلاب والحارث المحاسبي، وابن العباس القلانسي، والأشعري، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 والقاضي أبي بكر، وأبي الحسن التميمي، وابن الزاغوني، وأمثالهم ممن يقول إن لله فوق العرش وليس بجسم. وقال هؤلاء المتفلسفة كما يقوله هؤلاء المتكلمون الصفاتية: إن إثبات العلو لله لا يوجب إثبات الجسمية، بل ولا إثبات المكان، وبناء ذلك على أن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي، وهذا قول أرسطو وأتباعه، فهؤلاء يقولون: مكان الإنسان هو باطن الهواء المحيط به، وكل سطح باطن من الأفلاك فهو مكان للسطوح الظاهرة مما يلاقيه. ومعلوم أنه ليس وراء الأجسام سطح جسم باطن يحوي شيئاً، فلا مكان هناك على اصطلاحهم، إذ لو كان هناك محوى لسطح الجسم لكان الحاوي جسماً، وإذا كان كذلك فالموجود هنالك لا يكون في مكان ولا يكون جسماً، ولهذا قال: (فإذاً إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم، فالذي يمتنع وجوده هناك هو وجود جسم، لا وجود ما ليس بجسم) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 فقرر إن كان ذلك كما قرر إثباته، كما ذكره من أنه لا بد من نسبة بينه وبين العالم المحسوس. والذي يمكن منازعوه من الفلاسفة أن يقولوا له: لا يكمن أن يوجد هناك شيء: لا جسم ولا غيره، أما الجسم فلما ذكره، وأما غيره فلأنه يكون مشاراً إليه بأنه هناك، وما أشير إليه فهو جسم. وهذا كما يقول المعتزلة للكلابية وقدماء الأشعرية ومن وافقهم من أهل الحديث كالتميميين وأمثالهم أتباعهم، فيقول ابن رشد لهم ما تقوله الكلابية للمعتزلة، وهو أن وجود موجود ليس هو وراء أجسام العالم ولا داخل فيها، إما أن يكون ممكناً وإما أن لا يكون، فإن لم يكن ممكناً بطل قولهم، وإن كان ممكناً فوجد موجود هو وراء أجسام العالم وليس الجسم أولى بالجواز، لأنه إذا عرضنا على العقل وجود موجود قائم بنفسه، لا في العالم ولا خارجاً عنه، ولا يشار إليه، وعرضنا عليه وجود موجود يشار إليه فوق العالم ليس بجسم، كان إنكار العقل للأول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 أعظم من إنكاره للثاني، فإن كان الأول مقبولاً وجب قبول الثاني وإن كان الثاني مردوداً وجب رد الأول، فلا يمكن منازعو هؤلاء أن يبطلوا قولهم مع إثباتهم لموجود قائم بنفسه، لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه. وما ذكره ابن رشد من أن: هذه الصفة - صفة العلو - لم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله تعالى حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الشريعة - كلام صحيح، وهو يبين خطأ من يقول: إن النزاع في ذلك ليس إلا مع الكرامية والحنبلية، وكلامه هذا أصح مما زعمه ابن سينا حيث ادعى أن السنن الإلهية منعت الناس عن شهرة القضايا التي سماها (الوهميات) مثل أن: كل موجود فلا بد أن يشار إليه، فإن تلك السنن ليست إلا سنن المعتزلة والرافضة والإسماعيلية ومن وافقهم من أهل البدع ليست سنن الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين. وما نقله ابن رشد عن هذه الأمة فصحيح، وهذا مما يرجع أن نقله لأقوال فلاسفة أصح من نقا ابن سينا. ولكن التحقيق أن الفلاسفة في هذه المسألة على قولين وكذلك في مسالة ما يقوم بذاته من الأفعال وغيرها من الأمور، للفلاسفة في ذلك قولان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 والرازي إذا قال: (اتفق الفلاسفة) فإنما عنده ما في كتاب ابن سينا وذويه. وكذلك الفلاسفة الذين يرد عليهم أبو حامد إنما هم هؤلاء. ولا ريب أن مسائل الإلهيات كالنبوات ليس لأرسطو وأتباعه فيها كلام طائل. أما النبوات فلا يعرف له فيها كلام، وأما الإلهيات فكلامه فيها قليل جداً. وأما عامة كلام الرجل فهو في الطبيعيات والرياضيات، ولهم كلام في الروحانيات من جنس كلام السحرة والمشركين. وأما كلامهم في واجب الوجود نفسه، فكلام قليل جداً مع ما فيه من الخطأ، وهم لا يسمونه واجب الوجود، ولا يقسمون الوجود إلى واحب وممكن، وإنما فعل هذا ابن سينا وأتباعه، ولكن يسمونه المحرك الأول والعلة الأولى، كما قد بسط أقوالهم في موضع آخر. وعلم ما بعد الطبيعة عندهم هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه، وتلك الأمور كلية عامة مطلقة تتناول الواجب وغيره. وبعض كلامهم في ذلك خطأ وبعضه صواب، وغالبه تقسيم لأجناس الجواهر والأعراض، ولهذا كانوا نوعين: نوعاً نظارين مقسمين للكليات، ونوعاً متأهلين بالعبادة والزهد على أصولهم أو جامعين بين الأمرين كالسهروردي والمقتول، وأتباع ابن سبعين، وغيرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 وأما كلامهم في نفس العلة الأولى فقليل جداً، ولهذا كانوا على قولين: منهم من يثبت موجوداً واجباً مبايناً للأفلاك، ومنهم من ينكر ذلك، وحجج مثبتي ذلك على نفاته منهم حجج ضعيفة، وقدماؤهم كأرسطو كانوا يستدلون بأنه لا بد للحركة من محرك لا يتحرك، وهذا لا دليل عليه بل الدليل يبطله. وابن سينا سلك طريقته المعروفة، وهو الاستدلال بالوجود على الواجب، ثم دعواه أن الواجب لا يجوز أن يتعدد ولا تكون له صفة وهذه أيضاً طريقة ضعيفة ولعلها أضعف من طريقة أولئك، أو نحوها، أو قريبة منها. وإذا كان كلام قدمائهم في العلم بالله تعالى قليلاً كثير الخطأ، فإنما كثر كلام متأخريهم لما صاروا من أهل الملل، ودخلوا في دين المسلمين واليهود والنصارى، وسمعوا ما أخبرت به الأنبياء من أسماء الله وصفاته وملائكته وغير ذلك، فأحبوا أن يستخرجوا من أصول سلفهم ومن كلامهم ما يكون فيف موافقة لما جاءت به الأنبياء لما رأوا في ذلك من الحق العظيم الذي لا يمكن جحده، والذي هو أشرف المعارف وأعلاها، فصار كل منهم يتكلم بحسب اجتهاده، فالفارابي لون، وابن سينا لون، وأبو البركات صاحب المعتبر لون، وابن رشد الحفيد لون، والسهروردي المقتول لون وغير هؤلاء ألوان أخر. وهم في هواهم بحسب ما تيسر لهم من النظر في كلام أهل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 الملل. فمن نظر في كلام المعتزلة والشيعة، كابن سينا وأمثاله، فكلامه لون، ومن خالط أهل السنة وعلماء الحديث، كأبي البركان وابن رشد فكلامه لون آخر أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول من كلام ابن سينا. لكن قد يخفى ذلك على من يمعن النظر، ويظن أن قول ابن سينا أقرب إلى المعقول، كما يظن أن كلام المعتزلة والشيعة أقرب إلى المعقول من كلام الأشعرية والكرامية وغيرهم من أهل الكلام، ومن نظار أهل السنة والجماعة. ومن المعلوم - بعد كمال النظر واستيفائه - أن كل من كان إلى السنة وإلى طريق الأنبياء أقرب كان كلامه في الإلهيات بالطرق العقلية أصح، كما أن كلامه بالطرق النقلية أصح، لأن دلائل الحق وبراهينه تتعاون وتتعاضد، لا تناقض وتعارض. وما ذكره ابن رشد في اسم المكان يتوجه من يسلم له مذهب أرسطو، وأنا المكان هو السطح الداخل الحاوي المماس للسطح الخارج المحوي. ومعلوم أن من الناس من يقول: إن للناس في المكان أقوالاً آخر، منهم من يقول: إن المكان هو الجسم الذي يتمكن غيره عليه ومنهم من يقول: إن المكان هو ما كان تحت غيره وإن لم يكن ذلك متمكناً عليه ومنهم من يزعم أن المكان هو الخلاء وهو أبعاد. والنزاع في هذا الباب نوعان: أحدهما معنوي، كمن يدعي وجود مكان هو جوهر قائم بنفسه ليس هو الجسم، وأكثر العقلاء ينكرون ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 والثاني نزاع لفظي، وهو من يقول المكان من يحيط بغيره، يقول آخر: ما يكون غيره عليه أو ما يتمكن عليه. ولا ريب أن لفظ (المكان) يقال على هذا وهذا، ومن هنا نشأ تنازع أهل الإثبات: هل يقال: أن الله تعالى في مكان أم لا؟ هذا كتنازعهم في الجهة والحيز، لكن قد يقر بلفظ الجهة من لا يقر بلفظ (الحيز) أو (المكان) ، وربما أقر بلفظ الحيز أو المكان ومن لا يقر بالآخر. وسبب ذلك إما إتباع ما ورد، أو اعتقاد في أحد اللفظين من المعنى المردود ما ليس في الآخر. وحقيقة الأمر في المعنى أن ينظر إلى المقصود، فمن اعتقد أن المكان لا يكون إلا ما يفتقر إليه المتمكن، سواء كان محيطاً به أو كان تحته فمعلوم أن الله سبحانه ليس في مكان بهذا الاعتبار، ومن اعتقد أن العرش هو المكان، وأن الله فوقه، مع غناه عنه، فلا ريب أنه في مكان بهذا الاعتبار. فمما يجب نفيه بلا ريب وافتقار الله إلى ما سواه، فإنه سبحانه غني عن ما سواه، وكل شيء فقير إليه، فلا يجوز أن يوصف بصفة تتضمن افتقاره إلى ما سواه. وأما إثبات النسب والإضافات بينه وبين خلقه، فهذا متفق عليه بين أهل الأرض، وأما علوه على العالم ومباينته للمخلوقات، فمتفق عليه بين الأنبياء والمرسلين، وسلف الأمة وأئمتها، وبين هؤلاء الفلاسفة كما ذكر ذلك عنهم، لكن آخرون من الفلاسفة ينازعون في ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 فصل مذهب السلف والأئمة في العلو والمباينة فهذا ونحوه بعض كلام رؤوس أهل الكلام والفلسفة في هذا الباب، يبين خطأ من جعل النزاع في ذلك مع الكرامية والحنبلية، ويبين أن أكثر طوائف العقلاء يقولون بالعلو، وبامتناع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه. وأما كلام من نقل مذهب السلف والأئمة فأكثر من أن يمكن سطره. كلام أبي نصر السجزي في كتاب الإبانة قال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة له: فأئمتنا كسفيان الثوري، مالك، سفيان بن عيينة، حماد بن سلامة، حماد بن زيد، عبد الله بن المبارك، فضيل بن عياض، أحمد بن حنبل، إسحق بن إبراهيم الحنظلي، متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان، وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وإنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب ويرضى، ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئاً من ذلك فهو منهم بريء وهم منه براء. وأبو نصر هذا كان مقيماً بمكة في أثناء المائة الخامسة. كلام أبي عمر الطلمنكي في الوصول إلى معرفة الأصول وقال قبله الشيخ أبو عمر الطلمنكي المالكي، أحد أئمة وقته بالأندلس، في كتاب الوصول إلى معرفة الأصول قال: وأجمع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: {وهو معكم أين ما كنتم} [الحديد: 4] ، ونحو ذلك من القرآن: أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء. وقال أيضاً: (قال أهل السنة في قوله: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، أن الاستواء من الله على عرشه المجيد في الحقيقة لا على المجاز. كلام نصر المقدسي في الحجة على تارك المحجة وقال الشيخ نصر المقدسي الشافعي السيخ المشهور في كتاب الحجة له: (إن قال قائل: قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من اتباع كتاب الله وسنة رسوله، وما أجمع عليه الأئمة والعلماء، والأخذ بما عليه أهل السنة والجماعة، فاذكر مذهبهم وما أجمعوا عليه من اعتقادهم، وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم. فالجواب: أن الذي أدركت عليه أهل العلم ومن لقيته وأخذت عنهم، ومن بلغني قوله من غيرهم) فذكر جمل اعتقاد أهل السنة وفيه (أن الله مستو على عرشه بان من خلقه، كما قال في كتابه: {أحاط بكل شيء علما} [الطلاق: 12] ، {وأحصى كل شيء عدد} [الجن: 28] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 كلام أبي نعيم الأصبهاني ي عقيدته وقال قبله الحافظ أبي نعيم الأصبهاني المشهور، صاحب التصانيف المشهورة كحلية الأولياء وغيرها في عقيدته المشهورة عنه: (طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فما اعتقدوه اعتقدناه. فما اعتقدوه أن الأحاديث التي تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش، واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها، من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن عن خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم، ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سماواته من دون أرضه) . كلام أبي أحمد الكرخي في عقيدته وقال الشيخ أبو أحمد الكرخي، الإمام المشهور في أثناء المائة الرابعة، في العقيدة التي ذكر أنها اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهي العقيدة التي كتبها للخليفة القادر بالله، وقرأها على (الناس، وجمع الناس عليها، وأقرتها طوائف أهل السنة، وكان قد استتاب من خرج عن السنة من المعتزلة والرافضة ونحوهم، سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. وكان حينئذ قد تحرك ولاة الأمور لإظهار السنة لما كان الحاكم المصري وأمثاله من أئمة الملاحدة قد أنتشر أمرهم، وكان أهل ابن سينا وأمثالهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 من أهل دعوتهم، وأظهر السلطان محمود بن سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر، وأظهر السنة، وتناظر عنده ابن الهيصم وابن فورك في مسألة العلو، فرأى قوة كلام ابن الهيصم، فرجح ذلك، ويقال إنه قال لابن فورك: فلو أردت تصف المعدوم كيف كنت تصفه بأكثر من هذا؟ أو قال: فرق لي بين هذا الرب الذي تصفه وبين المعدوم؟ وأن ابن فورك كتب إلى أبي إسحق الأسفراييني يطلب الجواب عن ذلك، فلم يكن الجواب إلا أنه لو كان فوق العرش للزم أن يكون جسماً. ومن الناس من يقول: إن السلطان لما ظهر له فساد قول ابن فورك سقاه السم حتى قتله، وتناظر عنده فقهاء الحديث من أصحاب الشافعي وغيرهم، وفقهاء الرأي، فرأى قوة مذهب أهل الحديث فرجحه، وغزا المشركين بالهند، وهذه العقيدة مشهورة وفيها: (كان ربنا وحده ولا شيء معه، ولا مكان يحويه، فخلق كل شيء بقدرته، وخلق العرش لا لحاجته إليه، فاستوى على استواء استقرار، كيف شاء وأراد لا استقرار راحة كما يستريح الخلق، وهو يدبر السماوات والأرض ويدبر ما فيهما، ومن في البر والبحر، لا مدبر غيره، ولا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 حافظ سواه، يرزقهم ويمرضهم ويعافيهم، ويميتهم، والخلق كلهم عاجزون: الملائكة، والنبيون، والمرسلون، وسائر الخلق أجمعين، وهو القادر بقدرة، والعلم بعلم أزلي غير مستفاد، وهو السميع بسمع، والبصير ببصر، تعرف صفتهما من نفسه، لا يبلغ كنهها أحد من خلقه، متكلم بكلام يخرج منه، لا بآلة مخلوق كآلة المخلوقين، لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم وكل صفة وصف بها نفسه، أو وصف بها نبيه، فهي صفة حقيقية لا صفة مجاز) . كلام ابن عبد البر في كتاب التمهيد قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه التمهيد في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول، قال: (هذا حديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته ... وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم ..... وفيه دليل على أن الله في السماء على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 العرش فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على أن المعتزلة في قولهم: إن الله بكل مكان) . قال: (والدليل على صحة قول أهل الحق قوله تعالى ..... ) وذكر عدة آيات إلى أن قال: (هذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته. لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم) . وقال أبو عمر أيضاً: (أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7] : هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 وقال أيضاً (أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يجدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع: الجهمية والمعتزلة كلها، والخوارج، فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئاً على الحقيقة، ويزعم أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود، بلاشون، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله، وهم أئمة الجماعة) . كلام معمر بن أحمد الأصبهاني في وصيته قال الشيخ العارف معمر بن أحمد الأصبهاني، أحد شيوخ الصوفية في أواخر المائة الرابعة: (أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة، وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر، وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين) . قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 فيها: (وأن الله استوى على عرشه بلا كيف، ولا تشبيه ولا تأويل، والاستواء معقول، والكيف فيه مجهول، وأنه عز وجل مستو فيه على عرشه، بائن من خلقه، والخلق منه بائنون، بلا حلول، ولا ممازجة، ولا اختلاط ولا ملاصقة، لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد، الغني عن الخلق وأن الله سميع بصير، عليم خبير، يتكلم ويرضى ويسخط، ويضحك، ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاً، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول: هل من داع فأستجب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر) . قال: (ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، فمن أنكر النزول وتأول فهو مبتدع ضال) . كلام ابن أبي حاتم وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: (سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة يعني في أصول الدين - وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار فقالوا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً، وعراقاً، ومصراً وشاماً، ويمناً فكان من مذاهبهم أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته) . إلى أن قال: (وأن الله على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله، بلا كيف، أحاط بكل شيء علماً) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 كلام أبي محمد المقدسي وقال الشيخ أبو محمد المقدسي: (إن الله وصف نفسه بالعلو في السماء، ووصفه بذلك رسوله خاتم الأنبياء، وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة والأتقياء، والأئمة من الفقهاء، فتواترت الأخبار بذلك، على وجه حصل به اليقين، وجمع الله عليه قلوب المسلمين، وجعله مغروزاً في طباع الخلق أجمعين، فتراهم عند نزول الكرب يلحظون السماء بأعينهم، ويرفعون نحوها للدعاء أيديهم، وينتظرون مجيء الفرج من ربهم، وينطقون بذلك بألسنتهم، ولا ينكر ذلك إلا مبتدع، غال في بدعته، أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته) . قال: (وأنا ذاكر في هذا الجزء بعض ما بلغني في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والأئمة المقتدين بسنته على وجه يحصل القطع واليقين بصحة ذلك عنهم، ونعلم تواتر الرواية بوجوه منهم يزداد من وقف عليه من المؤمنين إيماناً، وننبه من خفي ذلك عليه حتى يصير كالمشاهد له عياناً) . كلام أبي عبد الله القرطبي في شرح معنى الاستواء وقال أبو عبد الله القرطبي المالكي لما ذكر اختلاف الناس في تفسير (الاستواء) . قال: (وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار، والفضلاء الأخيار: أن الله على عرشه، كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه، بلا كيف بائن من جميع خلقه. هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 وقال أيضاً في كتابه الكبير في التفسير لما تكلم على آية الاستواء، قال: (هذه مسألة الاستواء وللعلماء فيها كلام وأجزاء وقد بينا أقوال العلماء فيها في شرح الأسماء الحسنى. وذكر فيها أربعة عشر قولاً) وذكر قول النفاة من المتكلمين، فقال: وأنهم يقولون: (إذا وجب تنزيه الرب عن الحيز، فمن ضرورة ذلك ولواحقه له تنزيه الرب عن الجهة، فليس بجهة فوق عندهم، لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان وحيز ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون، ويلزم من ذلك التغير والحدوث) . وذكر أقوال هؤلاء المتكلمين، وقال: (قد كان السلف الأول لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى، كما نطق كتابه وأخبرت رسله ولم ينكر أحد من السلف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وإنما جهلوا كيفية الاستواء) . كلام أبي بكر النقاش وأما كلام السلف أنفسهم فأكثر من أن يمكن حصره. قال أبو بكر النقاش صاحب التفسير والرسالة: (حدثنا أبو العباس السراج قال: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه، كما قال: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] . كلام أبي بكر الخلال في كتاب السنة وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة (أنبأ أبو بكر المروذي، ثنا محمد بن الصباح النيسابوري، ثنا سليمان بن داود، أبو داود الخفاف، قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه قال الله تعالى {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، إجماع أهل العلم أنه فوق العرش ويعلم كل شيء في أسفل الأرضين السابعة، وفي قعور البحار) . وفي رواية: (وفي رؤوس الآكام وبطون الأودية، وفي كل موضع، كما يعلم علم ما في السماوات السبع، وما دون العرش، أحاط بكل شيء علماً، فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس، وإلا وقد عرف ذلك كله، وأحصاه ولا يعجزه معرفة شيء من معرفة غيره) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 كلام عبد الله بن أحمد في كتاب السنة وروى عبد الله بن أحمد في كتاب السنة وعبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علماً وديناً، من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد وإسحاق: أنه ذكر عنده الجهمية، فقال (هم شر قولاً من اليهود والنصارى، وقد اجتمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله فوق العرش وقالوا هم: ليس عليه شيء) . ورويا أيضاً عن عبد الرحمن بن مهدي، الإمام المشهور، وهو من هذه الطبقة قال: (أصحاب جهم يريدون أن يقولوا: أن الله لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيء وأن الله ليس على العرش، أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا) . وروى عبد الله بن أحمد عن عباد بن العوام الواسطي، من تلك الطبقة قال: كلمت بشر المريسي وأصحابه فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا: ليس في السماء شيء) . ورويا عن علي بن عاصم شيخ البخاري وغيره قال: ناظرت جهمياً فتبين من كلامه أنه لا يرى أن في السماء رباً) . وروى عبد الله بن أحمد عن سليمان بن حرب قال: سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال: إنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء شيء) . وروى عبد الله وغيره عن أبيه أحمد بن حنبل: ثنا شريح بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 النعمان سمعت عبد الله بن نافع الصائغ، سمعت مالك بن أنس يقول: الله في السماء وعلمه في كل مكان. وروى هذا الكلام مالك مكي خطيب قرطبة فيما جمعه من تفسير مالك نفسه، وكل هذه الأسانيد صحيحة. كلام أبي بكر البيهقي في الأسماء والصفات وروى أبو بكر البيهقي بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: (كنا نحن والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى فوق العرش، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته) . فقد ذكر الأوزاعي، وهو أحد الأئمة في عصر تابعي التابعين، الذي كان فيه مالك وابن الماجشون وابن أبي ذئب ونحوهم، أئمة أهل الحجاز، والليث بن سعد ونحوه أئمة أهل مصر، والثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ونحوهم، أئمة أهل الكوفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة ونحوهما، أئمة أهل البصرة، وهؤلاء ونحوهم أئمة الإسلام شرقاً وغرباً في ذلك الزمان. وقد حكى الأوزاعي عن شهرة القول بذلك في زمن التابعين،، وهم أيضاً متطابقون على ما كان عليه التايعون، كما ذكرنا قوا مالك وحماد بن زيد وغيرهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 كلام أبي حنيفة في كتاب الفقه الأكبر وقال أبو حنيفة في كتاب الفقه الأكبر المعروف المشهور عند أصحابه، الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: قال أبو حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقال: قد كفر لأن الله يقول: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، وعرشه فوق سبع سماوات. قال أبو مطيع: قلت: فإن قال: إنه على العرش ولكنه يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر لأنه أنكر أن يكون في السماء، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل) . وفي لفظ: قال: (سألت أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض. قال قد كفر لأن الله يقول: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، وعرشه فوق سبع سماوات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 قال: (فإنه يقول: على العرش استوى، ولكنه لا يدري العرش في الأرض أم في السماء قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر) . كلام عبد الله بن المبارك الذي رواه عته البخاري وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحيحة عن عبد الله بن المبارك أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه. ولا نقول كما يقول الجهمية بأنه ههنا في الأرض) . ومنن ذكر هذا عن ابن المبارك، البخاري في كتاب خلق أفعال العباد. وهكذا قال الإمام أحمد وغيره. كلام ابن خزيمة وقال محمد بن إسحق بن خزيمة - الملقب بإمام الأئمة -: (من لم يقل بأن الله فوق سماواته، وأنه على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة) وهذا معروف عنه، رواه الحاكم في تاريخ نيسابور، وأبو عثمان النيسبوري في رسالته المشهورة. كلام ربيعة بن أبي عبد الرحمن وروى الخلال بإسناد كلهم ثقات عن سفيان بن عيينة، قال: (سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق) . كلام مالك بن أنس وهذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 الكلام مروي عن مالك بن أنس صاحب ربيعة من وجوه متعددة، يقول في بعضها: الاستواء معلوم. وفي بعضها: غير مجهول، وفي بعضها: استواؤه غير مجهول، فيثبت العلم بالاستواء وينفي العلم بالكيفية. كلام آخر لبعض الأئمة وروى ابن أبي حاتم، عن هشام بن عبيد الله الرازي أنه حبس رجلاً في التجهم فتاب، فجيء به إلى هشام ليمتحنه، فقال له: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ قال: لا أدري ما بائن من خلقه. قال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب بعد. وروى أيضاً عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنه جعل يضرب قرابةً له بالنعل على رأسه يرى رأي جهم، ويقول: لا حتى يقول: الرحمن على العرش استوى، بائن من خلقه. وعن جرير بن عبد الحميد الرازي أنه قال: كلام الجهمية أوله عسل وآخره سم، وإنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء إله. وجميع الطوائف تنكر هذا، إلا من تلقى ذلك عن الجهمية، كالمعتزلة ونحوهم من الفلاسفة، فأما العامة من جميع الأمم فلا يستريب اثنان في أن فطرهم مقرة بأن الله فوق العالم، وأنهم إذا قيل لهم: لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا يقرب إليه شيء، ولا يقرب هو من شيء، ولا يحجب العباد عنه شيء، ولا ترفع إليه الأيدي، ولا تتوجه القلوب إليه طالبة له في العلو، فإن فطرهم تنكر ذلك، وإذا أنكروا هذا في هذه القضية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 المعينة التي هي المطلوب، فإنكارهم لذلك في القضايا المطلقة العامة التي تتناول هذا وغيره أبلغ وأبلغ. وأما خواص الأمم فمن المعلوم أن قول النفاة لم ينقل عن نبي من الأنبياء، بل جميع المنقول عن الأنبياء موافق لقول أهل الإثبات، وكذلك خيار هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم ينقل عنهم إلا ما يوافق قول أهل الإثبات. وأول من ظهر عنه قول النفاة هو الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وكانا في أوائل المائة الثانية فقتلهما المسلمون، وأما سائر أئمة المسلمين، مثل مالك والثوري والأوزاعي ووأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم، فالكتب مملوءة بالنقل عنهم لما يوافق قول أهل الإثبات. وكذلك شيوخ أهل الدين، مثل الفضيل بن عياض وبشر الحافي، وأحمد بن أبي الحواري وسهل بن عبد الله التستري وعمرو بن عثمان المكي والحارث المحاسبي ومحمد بن خفيف الشيرازي، وغير هؤلاء. وكتب أهل الآثار مملوءة بالنقل عن السلف والأئمة لما يوافق قول أهل الإثبات، ولم ينقل عن أحد منهم حرف واحد صحيح يوافق قول النفاة. فإذا كان سلف الأئمة وأئمتها وأفضل قرونها متفقين على قول أهل الإثبات، فكيف يقال: ليس هذا إلا قول الكرامية والحنبلية؟ . ومن المعلوم أن ظهور قول أهل الإثبات قبل زمن أحمد بن حنبل كان أعظم من ظهوره في هذا الزمان، فكيف يضاف ذلك إلى أتباعه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 وأيضاً فعبد الله بن سعيد بن كلاب، والحارث المحاسبي، وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن بن مهدي الطبري، وعامة قدماء الأشعرية يقولون: إن الله بذاته فوق العرش، ويردون على النفاة غاية الرد، وكلامهم في ذلك كثير مذكور في غير هذا الموضع. والمقصود هنا التنبيه على بطلان ما يعارض به النفاة من الحجج العقلية. وأما النفي فلم يكن يعرف إلا عن الجهمية كالمعتزلة ونحوهم، ومن وافقهم من الفلاسفة. وإلا فالمنقول عن أكثر الفلاسفة هو قول أهل الإثبات، كما نقله ابن رشد الحفيد عنهم، وهو من أعظم الناس انتصاراً لهم، وسلوكاً لطريقتهم، لا سيما لأرسطو وأتباعه، كما أنه يميل إلى القول بقدم العالم أيضاً. الوجه الثاني من وجوه الرد على الوجه الأول من كلام الرازي الوجه الثاني من أجوبة قوله: (لو كان بديهياً لامتنع اتفاق الجمع العظيم على إنكاره، وهم ما سوى الحنابلة) . هو أن يقال: لم يطبق على ذلك إلا من أخذه بعضهم عن بعض، كما اخذ النصارى دينهم بعضهم عن بعض، وكذلك اليهود والرافضة وغيرهم. فأما أهل الفطر التي لم تغير فلا ينكرون هذا العلم، وإذا كان كذلك فأهل المذاهب الموروثة لا يمتنع إطباقهم على جحد العلوم البديهية، فإنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 ما من طائفة من طوائف الضلال - وإن كثرت - إلا وهي مجتمعة على جحد بعض العلوم الضرورية. الوجه الثالث أن يقال: ما من طائفة من طوائف الكلام والفلسفة إلا وجمهور الناس يقولون: إنهم جحدوا العلوم الضرورية. فالقائلون بأن الممكن قد يترجح أحد طرفيه بلا مرجح من القادر أو غيره، يقول جمهور العقلاء: إنهم جحدوا العلوم الضرورية. والقائلون بأن الأجسام لا تبقى والأعراض لا تبقى، يقول جمهور الناس: إنهم جحدوا العلوم الضرورية. والقائلون بأن الأصوات المتعاقبة تكون قديمة، أزلية الأعيان باقية، وأن الأصوات المسموعة من الآدميين هي قديمة، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلم الضروري. والقائلون بأن الكلام هو معنى واحد: هو الأمر بكل ما أمر به، والخبر عن كل ما أخبر به، وأنه وإن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة، يقول جمهور العقلاء إنهم جحدوا العلم الضروري. والقائلون بأن العالم هو العلم والمعلوم، والعاقل هو العقل والمعقول، والعاشق هو العشق والمعشوق، واللذة هي الملتذ، والعلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلوم الضرورية. والقائلون بأن الوجود الواجب وجود مطلق بشرط الإطلاق أو لا بشرط يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلوم الضرورية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 والقائلون بأن النفس لا تدرك إلا الكليات دون الجزئيات، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلم الضروري. والقائلون بأن كل موجود يجوز أن تتعلق به الإدراكات الخمسة، وأن الصوت يرى، والطعم يسمع، واللون يشم، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلم الضروري. والقائلون بأنه يحدث إرادة لا في محل، أو يحدث فناء لا في محل، يقول جمهور العقلاء: أن فساد قولهم معلوم بالضرورة. والقائلون بأن الإرادة تحدث في الإنسان من غير سبب يوجب حدوثها، مما يقول جمهور العقلاء: إن فساد قولهم معلوم بالضرورة. والقائلون بأنه حي عليم قدير، من غير حياة ولا علم ولا قدرة، مما يقول جمهور العقلاء: إن فساد قولهم معلوم بالضرورة. والقائلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي بالخلافة نصاً جلياً أشاعه بين المسلمين، فكتموه ولم يظهروه، يقول جمهور العقلاء: إن قولهم معلوم الفساد بالضرورة. والقائلون بان للأمة إماماً معصوماً عمره سنتان - أو ثلاث أو أربع - دخل السرداب من أكثر من أربعمائة سنة، أو أن علياً لم يمت، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 وأمثال ذلك، يقول جمهور الناس: إن قولهم معلوم الفساد بالضرورة. وكذلك قول القائلين بأن الأعراض لا تبقى زمانين، مما يقول جمهور العقلاء: إن فساده معلوم بالضرورة. وكذلك من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي المنافقين مؤمنين، ويجعل إيمانهم كإيمان المؤمنين غير المنافقين، وهم مع ذلك مخلدون في النار، مما يعلم جمهور العقلاء المسلمين فساده بالاضطرار من دين الإسلام. وكذلك القائلون بأن القرآن العزيز زيد فيه زيادات، ونقص منه أشياء، مما يعلم بالضرورة امتناعه في العادة. وقول النصارى: إن الكلمة اتحدث بالمسيح، وإنها ليس هي الآب الجامع للأقانيم، وهي مع ذلك الرب الذي يخلق ويرزق، وهي جوهر، والجوهر عندهم واحد ليس إلا الآب، مما يقول الناس: إنه معلوم الفساد بالضرورة. ومثل هذا إذا تتبعناه كثير. فوجده الأقوال التي يقول جمهور الناس: إنها معلومة الفساد بالضرورة في قول طوائف كثيرة من الناس أكثر من أن تستوعب، فكيف يقال: لا يجوز إطباق الجمع الكثير على إنكار ما علم بالبديهة؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 ولكن إذا قيل: ما الفرق بين هذا وبين ما لا يمكن التواطؤ عليه من إثبات منف أو نفي ثابت، كما في خبر أهل التواتر. كان الجواب: أن الفطر التي لم تتواطأ يمتنع اتفاقها على جحد ما يعلم بالبديهة، فأما مع المواطأة فلا يمتنع اتفاق خلق كثير على الكذب، الذي يعلمون كلهم أنه كذب، وإن تضمن من جحد الحسيات والضروريات وإثبات نقيضها ما شاء الله. وأما في المذاهب فقد يجتمع على جحد الضروريات جمع كثير، إذا كان هناك شبهة أو هوى، فيكون عامتهم لم يفهموا ما قاله خاصتهم، مثل التعبير عن هذه المسألة بنفي الجهة والحيز والمكان، فيظن عامتهم أن مرادهم تنزيه الله تعالى عن أن يكون محصوراً في خلقه، أو مفتقراً إلى مخلوق، فيوافقون على هذا المعنى الصحيح، ظانين أنه مفهوم تلك العبارة، فأما إذا فهموا هم حقيقة قولهم، وهو أنه ما فوق السماوات رب، ولا وراء العالم شيء موجود، فهذا لا يوافقهم عليه - بعد - فهمه - أحد بفطرته، وإنما يوافقهم عليه من قامت عنده شبهة من شبه النفاة، لا سيما إن كان له هوى وغرض. وإذا كان المتفقون على هذا النفي - بعد فهمه - إنما قالوه لما قامت عندهم من حجج النفاة، أمكن غلطهم في ذلك وخطؤهم، واتفاقهم على جحد ما يخالف ذلك، وإن كان معلوماً بالضرورة، كما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 وقع مثل ذلك في عامة فرق أهل الضلال، ومع هذا فلا يكاد بوجد منهم من يرجع إلى فطرته بلا هوى، إلا وفطرته تنكر إثبات موجود لا مباين ولا محايث، لكن يقهر فطرته بالشبهة أو العادة أو التقليد، كما يقهر النصراني فطرته إذا أنكرت أن يكون الله هو المسيح ابن مريم. وعامة هؤلاء إذا أصابت أحداً منهم ضرورة تلجئه إلى دعاء الله وجد في قلبه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، ففطرته وضرورته تقر بالعلو، وينكر وجود موجود لا محايث ولا مباين، وعقيدته التي اعتقدها تقليداً أو عادةً أو شبهةً تناقض فطرته وضرورته. الوجه الرابع أن يقال: هذا معارض بما هو أبلغ منه، فإن الجموع الكثيرة يقولون: إنهم يجدون في أنفسهم عند الضرورة معنى يطلب العلو في توجه قلوبهم إلى الله ودعائه، وأنه يمتنع في عقولهم وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، وأن هذا معلوم لهم بالضرورة، فإن امتنع اتفاق الجمع العظيم على مخالفة البديهة، فتجب الحجة المثبتة، فيبطل نقيضها، وإن لم تمتنع بطلت حجة النفاة، فيثبت بطلانها على التقديرين. فصل الوجه الثاني من كلام الرازي في الأربعين وأما الوجه الثاني فقوله: إن مسمى الإنسان المشترك بين الأشخاص ممتنع أن يكون له قدر معنى وحيز معنى، وما أوردوه من أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 هذا لا وجود له إلا في العقل، وأن النزاع في الموجودات الخارجية. وجوابه بأن الغرض تعقل أمر لا يثبت العقل له جهة ولا قدراً، وهذا يمنع كون تلك المقدمة بديهية. الرد عليه من وجوه: الوجه الأول أن المثبتين إنما ادعوا أنه لا يوجد في الخارج موجودان إلا ولا بد أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً له، وأما ما في النفس من العلوم الكلية فلم ينفوه، ومن المعلوم أنه لا يلزم من كون العلوم الكلية ثابتة في النفس إمكان ثبوتها في الخارج، وإذا لم يلزم ذلك لم يلزم إمكان وجود موجود في الخارج لا محايث للاخر ولا مباين له. وأما قوله: المقصود أنه ممكن تعقل أمر لا يثبت له العقل جهة ولا قدراً. فيقال: بتقدير صحة ذلك، هذا يفيد إمكان تعقل ثبوته في النفس، لا يفيد إمكان تعلقه في الخارج، فمورد النزاع لا دليل عليه، وما أثبته ليس مورد النزاع. الوجه الثاني أن يقال: هذه المعاني الكلية هي كلية باعتبار مطابقتها لمفرداتها، كما يطابق اللفظ العام لأفراده. وأما في نفسها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 فأعراض معينة، كل منها عرض معين قائم في نفس معينة، كما يقوم اللفظ المعين بالفم المعين، والخط المعين بالورق المعين، فالخط يطابق اللفظ، واللفظ يطابق المعنى الذهني، والمعنى يطابق الموجود الخارجي، وكل من تلك الثلاثة قد يقال له: عام، وكلي، ومطلق، باعتبار شموله للأعيان الموجودة في الخارج، وأما هو في نفسه فشيء معين مشخص. وإذا كان كذلك فالإنسان المطلق من حيث هو الذي تصوره الذهن هو علم، وعرض معين في محل معين. فإذا قدر أن محل العلم وغيره من صفات الإنسان، كالحب والرضا والبغض، وغير ذلك مما يشار إليه إشارة حسية، كما يقوله جمهور الخلق، كانت الإشارة إلى ما فيه من الأعراض، كالإشارة إلى كل عرض قائم بمحله. وحينئذ فإذا كان المشار إليه حسياً له قدر معين، وحيز معين، فلمحل الصورة الذهنية قدر معين وحيز معين، وله أيضاً جهة. والكليات ثابتة في النفس كالجزئيات الثابتة فيها، فالنفس تعلم الإنسان المطلق والإنسان المعين، والإشارة إلى أحدهما كالإشارة إلى الآخر، فلا فرق حينئذ بين تصور الإنسان المشترك الكلي، والإنسان المعين الجزئي من هذه الجهة، لكن أحدهما لا يوجد إلا في النفس والآخر يوجد في الخارج، ويوجد تصوره في النفس. الوجه الثالث أن يقال: هذه الماهية المطلقة من حيث هي هي، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 إما أن يقال: هي ثابتة في الخارج، وإما أن لا يقال هي ثابتة في الخارج، فإن من الناس من يقول بثبوت الماهيات المجردة منفردة عن الأعيان، كالقائلين بالمثل الأفلاطونية. ومن الناس من يقول بثبوتها مقارنة للمعينات، والمطلق جزء من المعين، ويقولون: المطلق لا بشرط موجود في الخارج، وأما المطلق بشرط الإطلاق فليس موجوداً في الخارج، ويسمون المطلق لا بشرط الكلي الطبيعي، والمطلق بشرط الإطلاق هو العقلي، وكونه كلياً ومطلقاً هو الكلي المنطقي، إذ العقل عندهم مركب من الطبيعي والمنطقي، فيقول: الإنسان من حيث هو - مع قطع النظر عن جميع قيوده - هو الطبيعي، وكونه عاماً وكلياً ومطلقاً هو المنطقي، والمؤلف منهما هو العقلي. وآخرون يقولون: ليس في الخارج ما هو كلي في الخارج أصلاً، بل ليس في الخارج إلا ما هو معين مخصوص، ولكن ما كان في النفس كلياً يوجد في الخارج، ولا يوجد في الخارج إلا معيناً. فإذا قيل: الكلي الطبيعي موجود في الخارج، وأريد به: أن الطبيعة التي يجردها العقل كلية توجد في الخارج ولا توجد فيه إلا معينة فهذا صحيح. وإذا قيل: إن الطبيعة الكلية، مع كونها كلية، توجد في الخارج، أو أن الكلي الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، جزء من المعين الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، أو أن هذا الإنسان المعين مركب من جوهرين: أحدهما حيوان والآخر ناطق، أو من عرضين: حيوانية وناطقية، أو نحو هذه المقالات، فهذا كله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 باطل، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن يقال: هذه الكليات: إما أن يقال: إنها ثابتة في الخارج، وإما أن لا يقال. فإن لم يقل بذلك، لم يكن فيها حجة على إمكان وجود موجود في الخارج لا يشار إليه. وإذا قيل بثبوتها في الخارج، فمن المعلوم أن هذا ليس من العلوم البديهية الأولية، بل لم يقل هذا إلا طائفة من أهل المنطق اليوناني، وهم متناقضون في ذلك، ويقولون القول، ويقولون ما يناقضه، وبعضهم ينكر على بعض إثبات ذلك. وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجعل مثل هذه القضية مقدمة في إبطال قضية اعترف بها جماهير الأمم، واعترفوا بأنها مركوزة في فطرهم، مغروزة في أنفسهم، وأنهم مضطرون إليها، لا يمكنهم دفعها عن أنفسهم. لكن طائفة منهم تقول: إنها مع هذا خطأ، لاعتقادهم أنها - وإن كانت ضرورية في فطرتهم - ففطرتهم تسلم مقدمات تنتج نقيضها. وهؤلاء لا ينازعون أنها فطرية، مبتدأة في النفوس، ولكن يقدحون فيها بطرق نظرية. فإذا قال لهم المثبتون: نحن لا نقبل القدح في القضايا المبتدأة في النفس بالقضايا النظرية، أو قالوا: نحن لا نسلم لكم المقدمات التي تستدلون بها على نقيض هذه القضايا، كما لا نسلم لكم ثبوت الكليات في الخارج ونحو ذلك، ظهر انقطاع المعارض لهم، وأنهم يريدون دفع القضايا الضرورية بمجرد الدعاوى الوهمية الخيالية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 فصل الوجه الثالث من كلام الرازي في الأربعين وأما الوجه الثالث: فقوله (إن الخيال والوهم لا يمكنهما أن يستحصرا لأنفسهما صورة وشكلاً، ولا للقوة الباصرة وغيرها من القوى) . كلام ابن سينا في الإشارات فهذه الحجة من جنس حجة ابن سينا على ذلك فإنه قال في إشاراته في الحجة الثانية: (لو كان موجوداً بحيث يدخل في الوهم والحس، لكان الحس والوهم يدخل في الحس والوهم، ولكان العقل - الذي هو الحكم الحق - يدخل في الوهم. ومن بعد هذه الأصول، فليس شيء من العشق، والخجل، والوجل، والغضب، والشجاعة، والجبن، مما يدخل في الحس والوهم، وهي من علائق الأمور المحسوسة، فما ظنك بموجودات، إن كانت خارجة الذوات عن درجة المحسوسات وعلائقها) . الرد عليه من وجوه: الوجه الأول أن يقال: الوهم والخيال والقوة الباصرة، وغير ذلك من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 القوى، هي من باب الأعراض الباطنة في الإنسان، وكذلك العشق والخجل، والوجل ونحوهما. ومن المعلوم أن أحداً لم يقل: إن كل عرض له شكل وصورة، وإنما غاية من يقول ذلك أن يقوله في الجسم القائم بنفسه، لا في العرض بل الأعراض الظاهرة المشهودة، كالألوان والحركات والطعوم والروائح، ليس لها في أنفسها شكل وصورة قائمة بنفسها، فكيف بالأعراض الباطنة. فإن قال: بل هذه لها صورة وشكل: إما باعتبار محلها وصورتها وشكلها بحسب الجسم الذي قامت به، أو يجعل نفس العرض القائم بالجسم له صورة وشكل. يقال: وهذا يمكن أن يقال في الأعراض الباطنة القائمة بباطن الإنسان، كحسه الباطن، وحركته الباطنة، وتوهمه، وتخيله القائم بدماغه ونفسه، ونحو ذلك فإن هذه أعراض قائمة ببعض بدن الإنسان، وبروحه التي هي النفس الناطقة، أو بهما، وذلك جسم له شكل وصورة، فلها من الشكل والصورة من جنس ما للطعم واللون والحركات. الوجه الثاني أن هذه الأمور: إما أن تكون قائمة بنفسها، وإما أن تكون قائمة بغيرها. فإن قال: هي قائمة بنفسها، مثل أن يريد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 بالوهم والخيال الروح الباطن في الدماغ الذي تقوم به هذه القوى، أو جسماً آخر، فمعلوم أن ذلك له ما لغيره من الأجسام من الشكل والصورة. وإن كانت قائمة بهذه الأجسام، فلها حكم أمثالها من الأعراض القائمة بالأجسام. فعلى التقديرين لم يثبت بذلك إمكان وجود موجود، لا جسم ولا قائم بجسم، فضلاً عن أن يثبت وجود ما ليس في جهة، وما لا يمكن الإشارة إليه. وهكذا القوى في الخجل، والوجل، وسائر الأعراض النفسية. فإن قال: هذه الأعراض عندي قائمة بالنفس الناطقة، وتلك ليست جسماً، ولا قوة في جسم، ولا يمكن الإشارة إليها، وليست داخل السماوات والأرض، ولا خارج السماوات والأرض ولا تصعد ولا تنزل، ولا تتحرك ولا تسكن. فيقال له: هذا منتف في التخيل والتوهم، ونحو ذلك مما يعرف بأن محله قائم بنفسه وهو جسم. ثم يقال: إن ثبت ما تقوله في النفس الناطقة، كان ذلك حجة في إثبات موجود لا يمكن الإشارة إليه، وإن لم يثبت ذلك، لم يكن في مجرد الدعوى حجة لك في إثبات موجود قائم بنفسه لا يمكن الإشارة إليه، وقال لك المنازع: جميع هذه الأعراض عندي يمكن الإشارة إليها بالإشارة إلى محلها، كما يشار إلى غيرها من الأعراض، ويمكن الإحساس بها، وإن كنت الآن لا أحس بها، كما لا أحس ببعض أعضاء بدني الباطنة والظاهرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 وأهل الملل يعلمون أن الملائكة والجن موجودون في الخارج، وجمهور العباد لا يحسون بهم، والعقلاء لا يرتابون في إمكان أن يكون فوق الأفلاك ما لا نشاهده نحن الآن. وهذا معلوم بالضرورة. الوجه الثالث أن يقال: المثبتون قالوا: إنه لا يمكن وجود موجودين إلا أن يكون أحدهما مبايناً للآخر أو محايثاً له، أو قالوا: لا يمكن وجود موجود لا يمكن الإشارة إليه، أو لا يمكن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ونحو ذلك. فهذه قضية كلية لا تبطل - إن قبلت البطلان - إلا بثبوت نقيضها. وقول القائل: إن الخيال والوهم لا يمكنهما أن يستحضرا لأنفسهما صورة ولا شكلاً، ولا للقوة الباصرة وغيرها من القوى - كلام أجنبي لا يقدح في مقصودهم سواء كان حقاً أو باطلاً، إلا أن يثبت أن ما لا يمكن الوهم والخيال أن يثبت له صورة وشكلاً لا يمكن الإشارة إليه، بل يكون لا محايثاً لغيره ولا مبايناً له ونحو ذلك. ومعلوم أن هذا باطل، فإن القوة الباصرة، وغيرها من القوى، قائمة بالجسم، يشار إليها كما يشار إلى كل عرض قائم بالجسم، وهي محايثة لمحلها، كما تحايث الأعراض للجواهر، وتحايث سائر الأرض القائمة لمحلها، كما يحايث العرض العرض، فليست خارجة عن المباينة والمحايثة، فلم يكن في إثبات ذلك ما يناقض دعواهم الكلية، التي قالوا: إنها معلومة بالضرورة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 الوجه الرابع أن يقال: قول القائل: إن الوهم والخيال والقوة الباصرة وغيرها من القوى، والعشق، والخجل، والوجل، والغضب، والشجاعة، لا تدخل في الحس والوهم والخيال: إما أن يعني به أنه لا يمكن الإنسان أن يحس هذه الأمور، أو لا يمكن الإحساس بها بحال. فإن أراد الأول، لم يكن فيه حجة. وإن أراد الثاني معه المنازع ذلك، وقال: بل هذا مما يمكن الإحساس به، وطالبه بالدليل على أنه لا يمكن الإحساس به. الوجه الخامس أن يقال: حكم الإنسان بأن هذه الأعراض والقوى، أو النفس الحاملة لها، لا يتصور أن تحس بها، أضعف من حكمة بأن كل موجودين فلا بد أن يكون أحدهما مبايناً للآخر أو محايثاً له، وبأن كل موجود قائم بنفسه مشار إليه، ونحو ذلك. بل يقال بأن العاقل إذا رجع إلى فطرته وقيل له: هل يمكن أن يخلق الله في الإنسان قوة يحس بها - إما بالمشاهدة، وإما باللمس، وإما بغير ذلك - ما في باطن غيره من القوى والأعراض ومحل ذلك، وعرض على فطرته وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه - كان جزمه بامتناع هذا أقوى من جزمه بامتناع الأول. فإذا كان كذلك لم يمكن أن يجزم بامتناع الأول، ويجعل امتناعه دليلاً على إمكان الثاني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 الرد على الوجه الرابع من كلام الرازي من وجوه: الوجه الأول أن ما يتصوره العقل من النفي والإثبات،: إما أن يكون معيناً أو مطلقاً. فإن كان إثبات معين ونفيه، كان تصوره تبعاً لذلك المعين، فإذا كان ذلك المعين محايثاً لغيره أو مبايناً، كان تصوره كذلك، فإذا كان العقل يجزم بانتفاء وجود موجودين لا متباينين ولا متحايثين، نفى الثالث، وإن تصور النفي المطلق والإثبات المطلق، كان هذا من القضايا العامة الكلية، والكليات وجودها في الأذهان لا في الأعيان. وقد تقدم أن الكلام إنما هو في الوجود الخارجي لا الذهني. الوجه الثاني أن يقال: لا نسلم أنه لا يحكم بكون أحدهما محايثاً للآخر، بل تصوره للنفي والإثبات محله الذهن، وتصور أحدهما هو حيث هو تصور الآخر ولا نعني بالمحايثة إلا هذا. الوجه الثالث أن يقال: هو عبر عن قول هؤلاء بعبارة لا يقولونها، فإنهم لا يقولون: إن كل موجودين لا بد أن يكون أحدهما سارياً على الآخر أو مبايناً عنه، فإن الأعراض المجتمعة في محل واحد ليس كل منهما مبايناً للآخر. ولا يقال: إن العرض سار في العرض، بل يقال: إن الأعراض سارية في المحل. اللهم إلا أن يعبر معبر بلفظ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 السريان عن كون أحد العرضين بحيث هو الآخر، فإن هذا قد يسمى محايثة ومداخلة ومجامعة ونحو ذلك، وإذا كان كذلك فتصور النفي وتصور الإثبات يجتمعان، كما تجتمع سائر التصورات، والتصورات محلها كلها محل العلم من الإنسان، وهذه كلها متحايثة متجامعة قائمة بمحل واحد. الرد على الوجه الخامس من كلام الرازي من وجوه: الوجه الأول أن يقال: مجرد تقدير الذهن للأقسام لا يدل على إمكانها في الخارج، فإن يقدر أن الشيء: إما موجود وإما معدوم، وإما لا موجود ولا ومعدوم، وأن الموجود: إما أن يكون واجباً، وإما أن يكون ممكناً، وإما أن يكون لا واجباً ولا ممكناً، وأنه: إما قديم وإما محدث، وإما قائم بنفسه أو بغيره، أو لا قائم بنفسه ولا بغيره، وأمثال ذلك من التقديرات، ثم لم يكن هذا دليلاً على إمكان كل هذه الأقسام في الخارج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 فكذلك تقديره لأن الشيء: إما محايث، وإما مباين، وإما لا محايث ولا مباين، لا يدل على إمكان كل من الأقسام في الخارج. الوجه الثاني أن يقال: القوم لا يقولون: إما ساري وإما مباين، ولكن يقولون: إما أن يكون مبايناً له، وإما أن يكون محايثاً له - أي بحيث هو، سواء كان سارياً فيه سريان الصفة في الموصوف، وإما أن يكون جميعاً ساريين في موصوف واحد، كالحياة والقدرة القائمة لموصوف واحد. وحينئذ فلا يسلم توقف العقل عن نفي القسم الثالث، فإن من يقول: أنا أعلم بالضرورة أن الموجودين: إما أن يكونا متباينين، وإما أن يكونا متحايثين، يجزم بانتفاء موجود لا يكون مبايناً للموجود الآخر ولا محايثاً له. الوجه الثالث أن يقال: القسم الثالث: إما أن يقول: إنه ممكن إمكاناً ذهنياً أو خارجياً، والإمكان الذهني معناه عدم العلم بالامتناع، والثاني معناه العلم بالإمكان في الخارج. وهو قد فسر مراده بالأول، وهو عدم العلم حتى يقوم الدليل. وحينئذ فيقال: مجرد الإمكان الذهني - وهو عدم العلم بالامتناع - لا يدل على الإمكان الخارجي ولا العلم به، وإنما غايته أن يقول: إني لا أعرف إمكانه ولا امتناعه. والمدعي يقول: أنا أعلم امتناعه بالضرورة، وقد ذكرنا أنهم طوائف متفرقون اتفقوا على ذلك من غير مواطأة، وذلك يقتضي أنهم صادقون فيما يخبرون به عن فطرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 ومعلوم أن العلوم الضرورية لا يقدح فيها نفي النافي لها، فكيف يقدح فيها شك الشاك فيه. الوجه الرابع أن يقال: لا نسلم توقف العقل بعد التصور التام، بل لا يتوقف إلا لعدم التصور، أو لوجود ما يمنع من الحكم، لظن أو هوى، كسائر المنازعين في القضايا الضرورية من أهل الجحود والتكذيب. ومعلوم أن هؤلاء كثيرون في بني آدم، فإن الله قد أخبر عن قوم فرعون أنهم جحدوا بآياته واستيقنتها أنفسهم. وقال تعالى عن اليهود: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة: 146] . وقال تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} [البقرة: 75] . وقال عن المشركين: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام: 33] ، وقال موسى لفرعون: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر} [الإسراء: 102] . وقد أخبر عن كذب طوائف، وإذا كان كثير من الطوائف يتعمدون الكذب والتكذيب بما يعلمون أنه حق، وهذا جحد لما علموه وتيقنوه، علم أن في الطوائف من قد يتفقون على جحد ما يعلمونه، وكل طائفة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 جاز عليها المواطأة على الكذب، جاز عليها ذلك، ويجوز أيضاً أن يشتبه عليها الحق بالباطل، حتى تجحد ما هو حق في نفسه لاشتباهه عليها، وإن كان معلوماً بالضرورة عند غيرها، فإنه إذا جاز تعمد الكذب عليهم، فجواز الخطأ عليهم أولى. ومعلوم أن الحس قد يغلط، والعقل قد يغلط، فيجوز على الطائفة المعينة غلط حسهم أو عقلهم، وإذا كانت المعاني دقيقة، وفيها ألفاظ مجملة، وقد ألقى بعضهم إلى بعض أن هذا القول باطل وكفر، أمكن أن لا يتصوروه على وجهه، وإن كان غيرهم يتصوره لسلامته من الهوى ومن الاعتقاد المانع من ذلك. الرد على الوجه السادس من كلام الرازي من وجوه: الوجه الأول ما أجاب به بعض أصحابهم، حيث قال: هذا لا يرد عليهم، لأن الأعداد أمور ذهنية، والكلام في أمور خارجية. الوجه الثاني أن يقال: العدد مع المعدود، والتقدير مع المقدر، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 كالحد مع المحدود، والاسم مع المسمى، والعلم مع المعلوم، ونحو ذلك. فالعلم والقول والعدد والحد، الذي هو القول الدال، والتقدير ونحو ذلك، هي قائمة بالعالم، القائل. العاد، الحاد، المقدر، وإذا العدد هو معنى يقوم بالعاد، كان حكمه حكم سائر ما يقوم بالإنسان من هذه الأمور، وموضع ذلك نفس الإنسان، وأما مقدورها فهو تابع لمحلها، كأمثالها من الأعراض. الوجه الثالث أن يقال: هذه الأعداد هي من جملة الكليات، والقول فيها كالقول في كليات الأنواع. ومن المعلوم أن أصحاب فيثاغورس لما أثبتوا عدداً مجرداً قائماً بنفسه، أنكر ذلك عليهم جماهير العقلاء من إخوانهم وغيرهم، وكانوا أضعف قولاً من أصحاب أفلاطون الذي أثبتوا الحقائق المجردة الكلية قائمة بأنفسها التي يسمونها (المثل الأفلاطونية) . فإذا كان قد تقدم بطلان حجة من احتج بكليات الحقائق، فبطلان حجة من احتج بكليات العدد أولى وأحرى. فصل تابع كلام الرازي في الأربعين قال الرازي: (وإذا عرفت ذلك فنقول: المعنى من اختصاص الشيء بالجهة والمكان: أنه يمكن الإشارة الحسية إليه بأنه هنا أو هناك. والعالم مختص بالجهة والمكان بهذا المعنى، فإن كان الباري الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 كذلك كان مماساً للعالم أو محاذياً له قطعاً. ثم قول أكثر الكرامية: إنه مختص بجهة فوق، مماس للعرش، أو مباين عنه ببعد متناه. وقالت الهيصمية: هو مباين عنه ببعد غير متناه) . الرد عليه فيقال: الناس لهم في هذا المقام أقوال: منهم من يقول: هو نفسه فوق العرش غير مماس، ولا بينه وبين العرش فرجة، وهذا قول ابن كلاب، والحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي، والأشعري، وابن الباقلاني، وغير واحد من هؤلاء، وقد وافقهم على ذلك طوائف كثيرة من أصناف العلماء، ومن أتباع الأئمة الأربعة، وأهل الحديث والصوفية، وغيرهم. وهؤلاء يقولون: إنه بذاته فوق العرش، وليس بجسم، ولا هو محدود ولا متناه. ومنهم من يقول: هو نفسه فوق العرش، وإن كان موصوفاً بقدر لا يعلمه غيره. ثم من هؤلاء من لا يجوز عليه مماسة العرش، ومنهم من يجوز ذلك. وهذا قول أهل الحديث والسنة، وكثير من أهل الفقه، والصوفية والكلام غير الكرامية، فأما أئمة أهل السنة والحديث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 وأتباعهم، فلا يطلقون لفظ (الجسم) نفياً ولا إثباتاً، وأما كثير من أهل الكلام فيطلقون لفظ (الجسم) ، كهشام بن الحكم، وهشام الجواليقي وأتباعهما. وجوه للرازي في الأربعين الوجه الأول قال الرازي: لما وجوه: الأول: لو كان مشاراً إليه، فإن لم ينقسم كان في الحقارة كالجوهر الفرد، وتعالى عنه وفاقاً، وإن انقسم كان مركباً، وقد سبق بطلانه) . قال (وعبر أصحابنا عن هذا بأنه لو كان فوق العرش، فإن كان أكبر منه أو مثله كان منقسماً لكون العرش منقسماً، وإن كان أصغر فإن بلغ إلى صغر الجوهر الفرد جاءت الحقارة المنزه عنها وفاقاً، وإلا لزم التركيب. ثم من قال بأن كل متحيز قابل للقسمة كفاه أن يقول: كل متحيز فإن يمينه غير يساره، وقدامه غير خلفه، ولزم التركيب) . الرد عليه من وجوه: الوجه الأول قول من يقول: هو فوق العرش وليس بمنقسم، ولا متحيز، ولا له يمين ولا يسار يتميز منه بعضه عن بعض، كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية والكرامية والأشعرية، ومن وافقهم من أهل الحديث والصوفية، الذين يقولون: هو فوق العرش وليس بجسم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 كالتميميين، والقاضي أبي يعلى، وأتباعه كابن الزاغوني، وغير ذلك وكما يقول ذلك من يقول من الفلاسفة، كما حكاه ابن رشد عن الحكماء، كما تقدم بعض ذلك. وهؤلاء خلق كثيرون فإن هؤلاء يقولون: لا نسلم أنه إذا لم ينقسم كان الجوهر الفرد، ويقولون: لا نسلم أنه يلزم أنه يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساوياً، فإن هذه الأقسام الثلاثة إنما تلزم إذا كان جسماً متحيزاً محدوداً، فإذا كان فوق العرش وليس بجسم مقدر محدود، لم يلزم لا هذا ولا هذا، مع أنه مشار إليه. فإن قال النفاة: فساد هذا معلوم بالضرورة، فإنا نعلم بالضرورة أن ما كان فوق غيره، فإما أن يكون أكبر منه أو أصغر منه أو بقدره، ونعلم أنه يتميز منه جانب عن جانب، وهذا هو الانقسام. قالت لهم المثبتة: تجويز هذا أقرب إلى العقل من تجويز وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه، وتجويز وجود موجودين ليس أحدهما محايثاً للآخر ولا مبايناً له، وأنتم تقولون: إن الحكم بكون الشيء أكبر من غيره وأصغر ومساوياً، وأنه مباين له ومحايث له ومشار إليه ونحو ذلك، هو من حكم الوهم التابع للحس، وتقولون: إن حكم الوهم لا يقبل في غير الأمور الحسية، وتزعمون أن الكلام في صفات الرب تعالى من هذا الباب. فيقال لكم: إن كان مثل هذا الحكم غير مقبول، لم يقبل حكمكم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 بأنه إما أكبر وإما أصغر وإما مساو، فإن هذا حكم على ذوات المقدار، فإذا قدر ما لا مقدار له وهو فوق غيره، لم يلزمه شيء من الأقسام الثلاثة، وإن كان مثل هذا الحكم مقبولاً، لزم الحكم بأن كل موجودين فلا بد أن يكون أحدهما محايثاً للآخر أو مبايناً له. ومن المعلوم بضرورة العقل أنا إذا عرضنا على العقل، أو الوهم، أو الخيال، أو الحس - أو ما شئت فقل - قولين: أحدهما يتضمن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه، والآخر يتضمن إثبات موجود خارج العالم، ليس بجسم ولا منقسم، ولا يكون أكبر من العالم ولا أصغر - كان إنكار العقل - إن أنكر القولين - للأول أعظم، وتجويزه - إن جوز القولين - للثاني أعظم. فإن ادعى المدعي أن فساد قول من يثبت موجوداً خارج العالم، ولا أكبر ولا أصغر ولا مساوياً، معلوم بالضرورة. قيل له: وفساد قول من يثبت موجوداً لا داخل العالم ولا خارجه، هو معلوم بالضرورة بطريق الأولى. وقد تقدم بيان قول من يقول: إن فساد هذا القول معلوم بالضرورة، وإن المنازعون له يقولون: هذا حكم الوهم لا حكم العقل، فهكذا يقول هؤلاء: إن قولكم هذا فاسد، من حكم الوهم لا من حكم العقل. ولكن هؤلاء النفاة فيهم جهل وظلم، فإنهم يحتجون على منازعيهم بحجة هي لهم ألزم، ويثبتون قولهم بحجة هي على قول منازعيهم أدل، وهذا القول مع أنه أقرب إلى العقل فهو أقرب للسمع، فإن صاحبه لا يحتاج أن يتأول النصوص المثبتة للعلو والفوقية والاستواء، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 فيكون قوله أقرب إلى اتفاق الشرع والعقل، وأقرب إلى الشرع منفرداً، فيكون أرجح من قولهم على كل تقدير. وهكذا هو عند أهل الإسلام، فإن الكلابية والكرامية والأشعرية أقرب إلى السنة والحق من جهمية الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم، باتفاق جماهير المسلمين وعوامهم. الوجه الثاني أنه يقال له: ما تعني بقولك: إن كل مشار إليه فإما أن ينقسم أو لا ينقسم؟ أتعني بالانقسام إمكان تفريقه وتجزئته وتبعضه؟ أم تعني به أن كل مشار إليه، إذا لم يكن بقدر الجوهر الفرد فإنه يكون مركباً من الجواهر المنفردة؟ أو تعني به أنه يشار إلى شيء منه دون شيء، ويرى منه شيء دون شيء، ويتميز منه شيء عن شيء. فإن أردت الأول لازم التقدير الأول، فإنه لا يلزم من كونه لا يمكن تفريقه وتبعيضه وتقسيمه أن يكون صغيراً بقدر الجوهر الفرد، فإنا نعلم بالاضطرار إمكان كون الشيء كبيراً عظيماً مع أنه لا يمكن تفريقه وتبعيضه وتقسيمه. بل قد تنازع الناس في كثير من المخلوقات: هل تقبل التفريق أو لا تقبله؟ ومن قال: إنها تقبله أثبته بالدليل، لم يقل: إنه معلوم بالضرورة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 وكذلك إن عنى به أنه مركب من المادة والصورة، كما يقول بعض الفلاسفة، فأكثر العقلاء ينكرون ذلك. والصواب قول من ينكر ذلك، كما هو مذكور في غير هذا الموضع، وبتقدير تسليمه ينازع من سلمه في صحة المقدمة الثانية ويمنع صحة انتفاء اللازم. وإن أردت به المعنى الثالث: وهو أنه يتميز منه شيء عن شيء. فيقال لك: هذا القول لازم لجميع الخلائق. أما الصفاتية فإنهم يثبتون العلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، ومن المعلوم أن هذه المعاني متميزة في أنفسها، ليس كل واحد منها هو الآخر. وأما غيرهم فيعلمون الفرق بين كونه عالماً، وكونه قادراً، وكونه حياً، ونحو ذلك. والمتفلسفة يعلمون الفرق بين كونه موجوداً، وكونه واجباً، وكونه عاقلاً وعقلاً، وعاشقاً وعشقاً، ولذيذاً وملتذاً، ونحو ذلك، ففي الجملة لزوم مثل هذه المعاني المتعددة المتكثرة لازم لجميع الخلائق، وهذه مسألة الصفات. فإذا قال النفاة: عندنا العلم هو الإرادة، والإرادة هي القدرة، والوجوب هو الوجود، ونحو ذلك. كان لهم جوابان: أحدهما أن يقال: هذا معلوم الفساد بالضرورة، كما تقدم. ولا يرتاب عاقل في فساد مثل هذا بعد تصوره. والثاني أن يقال: إذا جاز لكم أن تثبتوا معاني متعددة ومتغايرة في الأحكام واللوازم والأسماء ليس التغاير بينها تغاير العموم والخصوص، كاللون والسواد، وتقولون: إنه لا تعدد فيها ولا كثرة ولا انقسام، جاز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 لمنازعكم أن يثبت ذاتاً فوق العالم لا انقسام فيها ولا تركيب، وكان هذا أقرب إلى العقل. فإن جاز أن تقولوا: لا يتميز العلم عن القدرة، ولا الإرادة عن الحياة، جاز أن يقول: لا يتميز ما يحاذي يمين العرش عما يحاذي يسار العرش. ومن المعلوم أن التعدد في الصفات أظهر من التعدد في المقدر، فإن كان ذلك مقبولاً كان هذا أولى بالقبول، وإن كان هذا مردوداً كان ذلك أولى بالرد، ولا يمكن أحد من العقلاء أن يرد ما يثبت أنه من المعاني المتعددة المعلومة بصريح العقل، ومع نطق الشرع بذلك في غير موضع، فإن الله تعالى أثبت لنفسه من الأسماء الحسنى التي تتعدد معانيها: كالعليم، والقدير، والرحيم، والعزيز، وغير ذلك، وأثبت له من الكلمات التي لا تعادلها، ما شهد به الكتاب العزيز، فقد أثبت تعدد أسمائه وكلماته، وفي ضمن ذلك تعدد صفاته، وهو الواحد المسمى بأسمائه الحسنى، المنعوت بصفات العلى، الصادق العدل في كلماته التامات صدقاً وعدلاً، وإذا كانت هذه الحجة مبنية عل نفي الصفات، فقد علم فساد أصلها. الوجه الثالث أن يقال: قولك: (وإن انقسم كان مركباً. وقد سبق بطلانه) قد سبق قولك: أنه ليس بمتحيز، لأن كل متحيز منقسم لذاته، بناء على نفي الجزء، وكل منقسم لذاته ممكن لافتقاره إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 جزئه الذي هو غيره، وكون المفتقر إلى الغير ممكناً بالذات. ومعلوم أن هذه الحجة قد تبين فسادها بطريق البسط في مواضع متعددة وبين أن مبناها على ألفاظ مجملة مشتبهة، وهي أصل توحيد الفلاسفة. وقد بين نظار المسلمين فسادها، كما بين ذلك أبو حامد الغزالي وغيره. جواب الرازي في نهاية المعقول على حجة التركيب في مسألة الصفات والرازي أجاب الفلاسفة عن حجة التركيب في مسألة الصفات فقال في نهاية العقول: (قوله: يلزم من إثبات الصفات وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية، فتكون تلك الحقيقة ممكنة. قلنا: إن عنيتم به احتياج تلك الحقيقة إلى سبب خارجي فلا يلزم، لاحتمال استناد تلك الصفات إلى الذات الواجبة لذاتها، وإن عنيتم به توقف الصفات في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة، فذلك مما يلتزمه. فأين المحال؟ وأيضاً فعندكم الإضافات صفات وجودية في الخارج، فيلزمكم ما ألزمتمونا في الصفات، وفي الصور المرتسمة في ذاته من المعقولات) . وقال أيضاً: (مما يحقق فساد قول الفلاسفة أنهم قالوا: إن الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 عالم بالكليات، وقالوا: إن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم، وقالوا: إن صورة المعلومات موجودة في ذات الله تعالى، حتى ابن سينا قال: إن تلك الصفة إذا كانت غير داخلة في الذات، بل كانت م لوازم الذات.. ومن كان هذا مذهباً له كيف يمكنه أن ينكر الصفات؟ وفي الجملة فلا فرق بين الصفاتية وبين الفلاسفة، إلا أن الصفاتية يقولون: إن الصفات قائمة بالذات، والفلاسفة يقولون: إن هذه الصور العقلية عوارض متقومة بالذات والذي تسميه الصفاتية صفة يسميه الفلسفي عارضاً، والذي يسميه الصفاتي قياماً، يسميه الفلسفي قواماً وتقوماً، فلا فرق إلا بالعبارة، وإلا فلا فرق في المعنى) . الوجه الرابع أن يقال: (إذا كان لفظ: التحيز والانقسام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 والجزء والافتقار، والغير ألفاظاً مجملة، فلفظ (المتحيز) يراد به ما حازه غيره من الموجودات، وليس مرادهم بهذا. ويراد به ما كان منحازاً عن غيره، أو ما كان بحيث يشار إليه وإن لم يكن معه موجود سواه، وهذا مرادهم بلفظ (المتحيز) ، ولهذا يقولون: العالم متحيز. ولفظ (الانقسام) يراد به الانقسام المعروف الذي يتضمن تفريق الأجزاء، وليس هذا مرادهم، ويراد به ما يتميز منه شيء عن شيء أو جانب عن جانب، وهذا مرادهم. ولفظ (الجزء) يراد به ما كان منفرداً فانضم إليه غيره، أو ما أمكن التفريق بينه وبين غيره، وليس هذا مرادهم. ويراد به ما حصل الامتياز بينه وبين غيره، وهذا مرادهم. ولفظ (الافتقار) يراد به أن يكون الشيء مفتقراً إلى فاعل يفعله، وليس هذا مرادهم هنا، ويراد به أن يكون ملازماً لغيره فلا يوجد أحدهما مع الآخر، وهذا مرادهم، وقد يقال: إنه يراد به كون الشيء مفتقراً إلى أمر منفصل عنه، وليس هذا مرادهم هنا، ويراد به أن يكون الشيء لا يتم إلا بما يدخل فيه، مما يقال: إنه جزء كالصفة، وهذا مرادهم هنا. وإذا عرف ذلك كان مضمون كلامهم أنه لو كان مشاراً إليه للزم أن لا يوجد إلا بلوازمه التي لا يوجد إلا بها، الداخلة في مسمى اسمه. ومعلوم أن ما كان كذلك لم يمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه المستلزمة لهذه اللازمات، والمتصفة بهذه الصفات، بل إذا كانت حقيقته متصفة بصفات الكمال الوجودية، كانت أحق بالوجود من أن لا يوصف إلا بأمور سلبية، يستلزم أن تكون ممتنعة الوجود، مشبهة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 بالمعدومات والجمادات، فما لا يتصف بشيء من صفات الكمال، فلا بد أن تكون له حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا كلام، ولا فعل، ولا عظمة، ولا رحمة، بل يكون موجوداً مطلقاً أو مجرداً - كان ممتنع الوجود، لا واجب الوجود. وما لا يكون إلا كاملاً، لا يكون إلا بكماله، وما يجب أن يكون حياً عليماً قديراً، لا يكون إلا بحياته وقدرته وعلمه، وليس لزوم صفات الكمال له واستلزامه إياها، موجباً لكونه لا يكون موجوداً بنفسه. وتسمى المسمى هذا جزءاً وبعضاً ونحو ذلك، غايته أن يقال: لا يمكن وجود الكل إلا بوجود بعضه، ومن المعلوم أن وجود الكل لا يوجد إلا بوجود الكل، فيكون الكل موجوداً بالكل، ولا يتضمن ذلك افتقاراً له إلى غيره، فإذا كان قول القائل: إنه مفتقر إلى نفسه أو كله لا يقدح في وجوب وجوده، فقوله: هو مفتقر إلى صفته أو بعضه أولى أن لا يقدح في وجوب وجوده. ومما يبين ذلك أن هؤلاء المتفلسفة يقولون: إن وجوده مستلزم لوجود المعلولات الممكنات، فلا يتصور وجوده بدون وجودات ممكنة معلولة منفصلة عنه، وذلك لا يقدح عندهم في وجوب وجوده بنفسه، فكيف يقدح في وجوب وجوده كونه مستلزماً لصفات كمال لازمة له قائمة بنفسه؟ فإن كان استلزامه لغيره افتقاراً إليه، فافتقاره إلى معلوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 المنفصل أعظم امتناعاً، وإن لم يكن افتقاراً إلى اللازم لم يكن استلزامه الصفات افتقاراً إليها. ومثل هذا التناقض كثير في كلام المخالفين للسنة تحقيقاً لقوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82] . الوجه الثاني من وجوه الرازي في الأربعين قال الرازي: (الوجه لثاني: لو كان مشاراً إليه لكان متناهياً من جميع الجوانب لما سبق من تناهي الأبعاد، ولأن عدم تناهيه إن كان من جميع الجوانب فإنه مخالط للعالم وما فيه من القاذورات، تعالى عنه، وإن كان من بعضها، فالجانب المتناهي، إن وافق غير الفصل والوصل، وإن خالفه فيها، وكل مركب من أجزاء مختلفة الطبائع ففيه أجزاء بسيطة، فأمكن على كل منها أن يماس ما على يمينه ويساره وبالعكس، فصح عليه الوصل والفصل، وكل ما كان كذلك كان تأليفه بمؤلف، تعالى عنه، وكل متناه من جميع الجوانب أمكن وجوده أزيد وأنقص مما وجد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 فاختصاصه بذلك القدر المخصص، ولأنه لو كان متناهياً من جميع الجوانب، لم يكن فوق كل الموجودات، لأنه يكون فوقه أمكنة خالية عنه، والخصم ينفيه) . الرد عليه من وجوه: الوجه الأول قول من يقول: هو فوق العرش، ولا يوصف بالتناهي ولا بعدمه إذ لا يقبل واحداً منهما، وهو قول من تقدم ممن يقول: هو فوق العرش ولا يوصف بأن له قدراً، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف، من الكلابية والكرامية والأشعرية، ومن وافقهم من أتباع الأئمة من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم. وإذا قال لهم النفاة: هذا ممتنع في بديهة العقل. قالوا لهم: القول بوجود موجود لا يشار إليه ولا يقبل الوصف بالنهاية وعدمها، ولا بدخول العالم ولا بخروج منه، أظهر فساداً في بديهة العقل، فإنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود خارج العالم بائن منه، لا يوصف بثبوت النهاية ولا انتفائها، ووجود موجود لا داخل العالم لا خارجه، ولا بائن ولا محايث ولا متناه ولا غير متناه - كان الثاني أظهر فساداً في العقل كما تقدم نظيره. الوجه الثاني قول من يقول: هو غير متناه: إما من جانب، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 وإما من جميع الجوانب، كما قال ذلك طوائف أيضاً من أهل الكلام والفقهاء وغيرهم، وحكاه الأشعري في المقالات عن طوائف. فإذا قيل لهم: هذا ممتنع. قالوا: قول منازعينا أظهر امتناعاً. وإذا قيل لهم: يلزمكم أن يكون مخالطاً للعالم. قالوا: منازعونا منهم من يقول: هو بذاته في كل مكان، ومنهم من ينفي ذلك، ونحن يمكننا أن نقول كما قال هؤلاء وهؤلاء، وإذا ادعى هؤلاء إمكان ذلك من غير مخالطة، ادعينا مثل ذلك. الوجه الثالث قول السلف والأئمة، وأهل الحديث والكلام والفقه والتصوف، الذين يقولون: له حد لا يعلمه غيره. فإذا قيل لهؤلاء: كل متناه من جميع الجوانب أمكن وجوده أزيد وأنقص مما وجد، واختصاصه بذلك القدر المخصص منفصل - منعوا هذا كما تقدم ذكره، وقالوا: لا نسلم أن كل ما اختص بقدر افتقر إلى مخصص منفصل عنه، ولا نسلم أن كل ما ثبت لواجب الوجود من خصائصه - يمكن أن يوجد بخلاف ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 وتقدم الكلام على هاتين المقدمتين، واعترف هؤلاء المحتجين بهما بفسادهما. وأما قوله: (لو كان متناهياً من جميع الجوانب لم يكن فوق كل الموجودات، لأنه يكون فوقه أمكنة خالية منه) . فكلام ساقط، لأنه ليس هناك شيء موجود: لا مكان ولا غير مكان، وإنما هناك: إما خلاء هو عدم محض ونفي صرف ليس شيئاً موجوداً على قول طائفة، وإما أنه لا يقال هناك لا خلاء ولا ملاء. وعلى كل تقدير فليس هناك شيء موجود، بل يقال لمن احتج بهذا: أنت تقول ليس فوق العالم شيء موجود، ولا وراء العالم شيء موجود، مع أنه متناه عندك، فكيف يجب أن يكون فوق رب العالمين شيء موجود؟ . ثم قال: (أنتم تزعمون أنكم تحتجون بالمعقولات اليقينية لا بالمقدمات الجدلية، فهب أنه لا يكون فوق جميع الموجودات، فأين دليلكم العقلي على امتناع هذا. الوجه الرابع قول بعض هؤلاء النفاة لبعض: لم قلتم: (إن عدم تناهيه: إن كان من جميع الجوانب فإنه مخالط للعالم وما فيه من القاذورات تعالى عنه) ولم لا يجوز أن يكون غير متناه من جميع الجوانب وهو غير مخالط؟ فإن قالوا: لأن فرض مشار إليه، غير متناه لا يخالط العالم - ممتنع في صريح العقل. قيل: وفرض موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون مبايناً لغيره، ممتنع في صريح العقل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 فإن قلتم: هذا في حكم الوهم. قالوا: وإثبات المخالطة لما لا نهاية له من حكم الوهم. وهؤلاء النفاة لمباينته للعالم، منهم من يقول: (إنه جسم، وهو في كل مكان، وفاضل في جميع الأماكن، وهو مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم، لأنه أكبر من كل شيء. وقال بعضهم: مساحته على قدر مساحة العالم. وقال بعضهم: هو جسم له مقدار في المساحة، ولا ندري كم ذلك القدر) . (ومنهم من يقول: إنه جسم تحل الأشياء فيه، وهو الفضاء، وليس بذي غاية ولا نهاية. وقال بعضهم: هو الفضاء، وليس بجسم، والأشياء قائمة به) . (وقال بعضهم: ليس لمساحة البارئ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 نهاية ولا غاية، وإنه ذاهب في الجهات الست، اليمين، والشمال، والأمام، والخلف، والفوق، والتحت، قالوا: وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم، ولا طويل ولا عريض، ولا عميق وليس بذي حدود، ولا هيئة ولا قطب) . حكى هذه الأقوال الأشعرية في المقالات وحكى عن زهير الأثري أنه كان يقول: (إن الله بكل مكان، وإنه مع ذلك مستو على عرشه، وأنه يرى بالأبصار بلا كيف، وأنه موجود الذات بكل مكان، وأنه ليس بجسم ولا محدود، ولا يجوز عليه الحلول والمماسة، ويزعم أنه يجيء يوم القيامة، كما قال تعالى: {وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر: 22] ، بلا كيف) . وكذلك أبو معاذ التومني. وهذا القول الذي حكاه الأشعري عن هؤلاء يشبه قول كثير من الصوفية والسالمية، كأبي طالب المكي وغيره. فهؤلاء القائلون بأنه بذاته في كل مكان على أقوال: منهم من يقول: له قدر، ومنهم من يقول: ليس له غاية ولا نهاية، ومنهم من يقول: هو جسم، ومنهم من يقول: ليس بجسم. ثم من هؤلاء من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 يقول: إنه غير متناه من جميع الجوانب، وهو مع ذلك لا يخالط الأشياء، وأيضاً فإنهم إذا قالوا: إنه يخالط الأشياء، قالوا: هذا لا يقدح في كماله، كما أن الشعاع لا يقدح فيه أنه فوق الأقذار. وقول هؤلاء وإن كان باطلاً، كما قد بين في غير هذا الموضع، فالمقصود أن النفاة الذين يقولون: ليس بداخل العالم ولا بخارجه، لا يمكنهم إبطال قول هؤلاء. بل قد يقول القائل: إن قول هؤلاء الحلولية خير من قول أولئك المعطلة، الذين يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه. ولهذا قال من قال: (متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئاً، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء) . ومنهم من يقول هذا تارة وهذا تارة ومنهم من يقول: هذا اعتقادي، وهذا ذوقي ووجدي. وإنما يتمكن من إبطال قول هؤلاء كلهم أهل السنة المثبتة، الذين يقولون: إنه مباين للعالم، فأما بعض هذه الطوائف مع بعضهم فإنهم متناقضون. فإذا قالوا: لا نسلم أنه يجب أن يخالط العلم، أو لا نسلم أن في ذلك محذوراً، بل يمكن عدم المخالطة، أو المخالطة، بلا نقص ولا عيب - كان قول هؤلاء من جنس أقوال أولئك، فإنهم أثبتوا ما يحيله العقل. فإذا قالوا لأولئك: هذا من حكم الوهم لا من حكم العقل، كان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 هذا بمنزلة قول أولئك: إن إحالة موجود لا داخل العالم ولا خارجه من حكم الوهم، فإنهم قد قالوا: إنه حكم في غير المحسوس بحكم المحسوس، فإن لم يكن في الوجود ما لا يمكن الإحساس به بطل قولهم، وإن كان فيه ما لا يمكن الإحساس به، وادعى هؤلاء أنه غير متناه من جميع الجوانب، وهو غير جسم عند بعضهم، وجسم عند آخرين منهم - كان الحكم حينئذ بكونه يكون مخالطاً للعالم، وأن ذلك ممتنع عليه، حكماً على غير المحسوس بحكم المحسوس، وهم لا يقبلون هذا الحكم. ثم إن الكلام هنا من جهة من يقول: إنه مشار إليه، ويقول: إنه متناه، وهو مع ذلك جسم، أو ليس بجسم. وإذا قال هؤلاء: كل مشار إليه فهو جسم، كان كقولهم: لو كان فوق العرش لكان مشاراً إليه، ولكان جسماً، وقد نازعهم في ذلك طوائف. وتبين أن قول من قال: هو فوق العرش وليس بجسم، ليس هو أبعد عن العقل، من قول من قال: أنه لا داخل العالم ولا خارجه أصلاً. فإن هذا أقرب إلى المعدوم من ذلك، وكل ما كان أقرب إلى العدم، كان أبعد عن الوجود الواجب. فهكذا من قال: يشار إليه وهو غير متناه ولا يخالط، أو يخالط ولا نقص في ذلك - فقوله ليس أبعد عن العقل من قول أولئك، بل نظير قولهم أن يقال: إنه في كل مكان بذاته، ولا يشار إليه، ولا نهاية له، كما قال بعضهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 فهذه الأقوال حكم ببطلانها حاكم واحد، فإن رد حكمه في بعضها رد في سائرها، فهذا جواب هؤلاء. الوجه الخامس قول من يقول: لا نسلم أنه إذا كان متناهياً من بعض الجهات يلزم ما ذكره من المحذور. وقوله: (الجانب المتناهي إن وافق غير المتناهي في الماهية صح عليه أن ينقلب غير متناه، وإلا لزم التركيب، فيصح الفصل والوصل، وما كان كذلك احتاج إلى مؤلف يؤلفه) . قالوا: لا نسلم أنه يجوز عليه الفصل والوصل والحال هذه، لإمكان أن يكون ذلك الاتصال من لوازم الذات، كقيام الصفات اللازمة لموصوفها، وأيضاً الموافقة في الماهية إنما تقتضي جواز انقلابه غير متناه، إن لو لم يكن المقدار المعين من لوازم وجوده. فإن قال: إن كل مختص بقدر فهو ممكن، فهي المقدمة الثانية، وقد تقدم إبطالها، فلا يمكنه حينئذ تقرير المقدمة الأولى إلا بالثانية، فلا يكون قد أقام دليلاً على أنه إذا كان متناهياً لزم التناهي من جميع الجوانب، إلا لافتقار الاختصاص إلى مخصص، وهذا: إن كان دليلاً صحيحاً فهو كاف سواء قدر التناهي من جميع الجوانب أو بعضها، وإن لم يكن صحيحاً بطل كلامه على بطلان تناهيه من جميع الجوانب، ومن بعضها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 الوجه الثالث من وجوه الرازي في لباب الأربعين قال: الرازي: الوجه الثالث: (أنه لو كان مشاراً إليه فإن صح عليه الحركة والسكون كان محدثاً لما سبق في مسألة الحدوث، وإلا كان كالزمن المقعد، وهو نقص تعالى عنه) . الرد عليه من وجوه: الوجه الأول أن يقال قد تقدم إبطال هؤلاء لدليل الحركة والسكون، كما أبطله الرازي نفسه في كتبه العقلية المحضة، وأبطل كل ما احتج به النفاة، من غير اعتراض على إبطال ذلك. وكذلك أبطله الآمدي والأرموي وغيرهما. الوجه الثاني قول من يقول: هو مع كونه مشاراً إليه لا يقبل الوصف بالحركة والسكون ولا بضد ذلك، كما يقولون هم: إنه لا يقبل الوصف بالدخول والخروج، والمباينة والمحايثة، ونحو ذلك من المتقابلات. فإن قيل لهؤلاء: إثبات مشار إليه لا يقبل ذلك غير معقول. قالوا: هذا أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه. وهؤلاء إذا قيل لهم: إما أن يكون مبايناً، وإما أن يكون محايثاً. قالوا: هذا من عوارض الجسم، فإذا قدر موجود لا يقبل ذلك، لم يوصف بمباينة ولا محايثة، فيقول لهم هؤلاء: كونه موصوفاً بالحركة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 والسكون فرع على قبوله لذلك، فإذا قدر موجود مشار إليه لا يقبل ذلك، لم يوصف بأحدهما. ومن الناس من يقول: الحركة من خصائص الجسم. ومنهم من يقول: الحركة يوصف بها ما ليس بجسم كمن يقول بإثبات نوع من الحركة للنفس، ويقول: إنها غير جسم. وكذلك قول من قال مثل ذلك في الواجب. الوجه الثالث أن يقال: اتصاف المتصف بالحركة والسكون: إما أن يكون صفة كمال أو لا. فإن لم يكن صفة كمال، لم يكن سلب ذلك نقصاً، فلا محذور فيه، وإن كان صفة كمال أمكن اتصافه بذلك فلا محذور فيه. فإن قيل: هو صفة كمال للجسم دون غيره. قيل: إما أن نعلم ثبوت موجود غير الجسم، أو لا نعلمه، فإن لم نعلمه لم يمكن إثبات موجود قائم بنفسه: لا تكن الحركة كمالاً، وإن علمنا وجود موجود ليس بجسم، فالعلم بذلك ليس بضروري، بل هو نظري، فلا بد له من دليل. وحينئذ فإما أن يمكن وجود مشار إليه ليس بجسم، أو لا يمكن، فإن أمكن جاز أن يشار إلى الباري تعالى، ويكون فوق العرش، وليس بجسم. وإن لم يمكن وجود مشار إليه إلا أن يكون جسماً، فلا بد من دليل يدل على إثبات وجود موجود لا يمكن الإشارة إليه، ولا يكون جسماً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 وهذه الوجوه هي أدلة ثبوت ذلك. فإذا قيل: لو لم يصح عليه الحركة والسكون لكان كالزمن، لم يمكن إثبات ذلك إلا إذا ثبت أن كل مشار إليه يقبل الحركة والسكون، وأن كل مشار إليه جسم. وهذا لا يثبت إلا إذا بطل قول من يقول: يمكن أن يشار إليه ولا يكون جسماً، أو يمكن أن يكون فوق العرش ولا يكون جسماً. وهؤلاء لا يمكن إبطال قولهم إلا إذا بطل قول من يقول بوجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه، لأنه بتقدير صحة قول هؤلاء، يمكن صحة قول أولئك، فإنه إذا جاز في العقل إمكان وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يباين غيره ولا يحايثه، أمكن وجود موجود قائم بنفسه، فوق عرشه، لا يشار إليه، وكان هذا أقرب إلى العقل من ذلك. فإذا كان إبطال قول هؤلاء مستلزماً لبطلان قول المدعي، لم يبطل قولهم إلا ببطلان قوله. وإذا بطل قوله، كانت الحجة على صحته باطلة. فتبين أن هذه الحجة يلزم من صحة مقدمتيها بطلان قول المدعي المحتج بها، فلا يمكن الاستدلال بها عليه، وهو المطلوب، فإنها إن صحت استلزمت بطلان دعواه، وإن لم تصح لم يمكن الاستدلال بها على دعواه، فبطلت الدلالة على التقديرين، وهو المطلوب. الوجه الرابع أن يقال: كثير من النظار يقولون: صحة الحركة ليست الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 من خصائص كونه مشاراً إليه، فإن كثيراً من هؤلاء يجوز أن يقوم به ما هو متجدد أو حادث، وإن قال: إنه غير مشار إليه، وقد تقدم قول الرازي: (إن عامة الطوائف يلزمهم القول بحلول الحوادث وإن أنكروا ذلك) مع أن نفاة العلو من هؤلاء يمنعون جواز الإشارة إليه، كما يقول ذلك من يقوله من الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية وغيرهم، بل المتفلسفة يجوزون حلول الحوادث بما ليس بجسم غير الواجب، كما يقولون مثل ذلك في النفس الفلكية والإنسانية. ثم أكثر أهل الكلام من هؤلاء يقولون: إن ذلك الحادث القائم بالواجب تجدد بعد أن لم يكن، فهؤلاء يصفونه بقيام الحوادث به في وقت دون وقت، ومع هذا فلا يجعلونه في حال انتفاء ذلك كالزمن المقعد، فيقول هؤلاء: يمكن أن تقوم به الحوادث، وهو نوع من الحركة، ولا يكون مشاراً إليه، ولا يكون عند انتفاء ذلك كالزمن، فإن سلم أولئك لهم إمكان ذلك بطلت الحجة، وإن لم يسلموا ذلك لهم: قالوا: هذا أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه، وإن كان هذا من حكم الوهم فكذلك الأول، وإلا لزم امتناع موجود قائم بنفسه لا يشار إليه، وهو المطلوب. ومما يوضح هذا أن لفظ الحركة قد يعني به الانتقال من حيز إلى حيز، وقد يعني به ما هو أعم من ذلك، كالحركة في الكيف والكم والوضع، مثل مصير النفس عالمة وقادرة ومريدة، ومصير الجسم أسود وأحمر، وحلواً وحامضاً. ومثل الاغتذاء والنمو الحاصل في الحيوان والنبات، ومثل حركة الفلك في حيز واحد، فهذه قد تسمى حركات، وإن لم يكن قد خرج الجسم فيها من حيز إلى حيز آخر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 وإذا كان لفظ الحركة من جنس لفظ الحدوث كان البحث عن قيام أحدهما به، كالبحث عن قيام الآخر به. ومعلوم أن كثيراً من النظار يصفونه بذلك، ولا يقولون: هو جسم. الوجه الرابع من وجوه الرازي في لباب الأربعين قال الرازي: (الوجه الرابع: المكان الذي يزعم الخصم حصوله فيه: إن كان موجوداً، وهو منقسم، كان جسماً، ولزم قدم الأجسام لذواته، وأيضاً المكان مستغن في وجوده عن المتمكن لجواز الخلاء وفاقاً، والباري تعالى عند الخصم يمتنع كونه لا في حيز، فكان مفتقراً إلى الحيز، وكان المكان بالوجوب والإلهية أولى، وإن كان معدوماً استحال حصول الوجود فيه، ولا يلزم علينا كون الجسم في المكان، لأنه المعنى منه كونه يمكن الإشارة إلى أحد جوانبه بأنه غير الآخر ومتصل به. وهذا المعنى في الباري يوجب التركيب، وتعالى عنه) . الرد عليه من وجوه: الوجه الأول أن يقال: لا نسلم الحصر، بل قد يكون الحيز تارة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 موجوداً وتارة معدوماً، فإنه إذا كان في الأزل وحده، لم يكن معه شيء موجود، فضلاً عن أن يكون في شيء موجود. ثم لما خلق العالم: فإما أن يكون مداخلاً للعالم، وإما أن يكون مبايناً له، وإذا امتنع أن يكون هو نفسه داخل العالم، أو دخل العالم فيه، وجب أن يكون مبايناً له، وإذا كان مبايناً للعالم، أمكن أن يكون فوق العالم، ويكون ما يسمى حينئذ مكاناً أمراً وجودياً، ولا يلزم أن يكون ملازماً له، فلا يلزم قدم المخلوقات، ولا افتقاره إلى شيء منها، بل كان مستغنياً عنها، وما زال مستغنياً عنها وإن كان عالياً عليها، فعلوه على العرش وعلى غيره من المخلوقات لا يوجب افتقاره إليه، فإن السماء عالية على الأرض وليست مفتقرة إليها، والهواء عال على الأرض وليس مفتقراً إليها، وكذلك الملائكة عالون على الأرض وليسوا مفتقرين إليها، فإذا كان المخلوق العالي لا يجب أن يكون مفتقراً إلى السافل، فالعلي الأعلى، الخالق لكل شيء والغني عن كل شيء، أولى أن لا يكون مفتقراً إلى المخلوقات مع علوه عليها. الوجه الثاني أن قول القائل: (إنه في كل مكان) لفظ فيه إجمال وتلبيس. والمثبتون لعلو الله على خلقه لا يحتاجون أن يطلقوا القول بأنه في مكان، بل منهم كثير لا يطلقون ذلك، بل يمنعون منه، لما فيه من الإجمال. فإذا قال قائل: إنه لو كان في مكان، لم يخل: إما أن يكون المكان موجوداً، أو معدوماً. قيل له: إذا قيل: إن الشيء في مكان، وفسر المكان بأنه معدوم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 كان حقيقته أنه وحده، ليس معه غيره، إذ لا يقول عاقل: إنه في مكان معدوم، وإنه مع هذا في شيء موجود قد أحاط به، أو كان هو فوقه، أو غير ذلك، إذ هذا كله من صفات الموجودات. وإذا كان كذلك فقول القائل. وإن كان المكان معدوماً استحال حصول الموجود فيه، إنما يلزم لو قدر أن هناك أمراً يكون الواجب فيه، فأما إذا فسر ذلك بأنه وحده، ليس معه غيره، امتنع أن يقال: إنه في غيره. الوجه الثالث أن يقال: إذا كنت أنت - وعامة العقلاء - تقولون: إن الجسم في مكان، ولا يلزم من هذا أن يكون في شيء موجود، لأنه يستلزم أبعاداً لا تتناهى، ولا في معدوم، لأن العدم لا يكون فيه شيء - فقولهم أولى بالقبول والجواز. وأما قوله: (إن المعنى من كون الجسم في المكان، كونه بحيث يمكن الإشارة إلى أحد جوانبه بأنه غير الآخر ومتصل به) . فيقال له: وبهذا المعنى فسرت قولهم بأنك قلت: المعنى من اختصاص الشيء بالجهة والمكان أنه يمكن الإشارة الحسية إليه بأنه هنا أو هناك. وأما قولهم: هذا المعنى يوجب التركيب في الباري، فهذا هو الحجة الأولى، وقد تقدم جوابها، فإذن هذه الحجة لا تتم إلا بالأولى، فلا تجعل حجة أخرى، وحجة التركيب قد تقدم بيان فسادها. الوجه الرابع أن يقال لفظ الحيز والمكان قد يعني به أمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 وجودي وأمر عدمي، وقد يعني بالمكان أمر وجودي، وبالحيز أمر عدمي. ومعلوم أن هؤلاء المثبتين للعلو يقولون: إنه فوق سماواته، وعلى عرشه، بائن من خلقه، وإذا قالوا: إنه بائن من جميع المخلوقات، فكل ما يقدر موجوداً من الأمكنة والأحياز فهو من جملة الموجودات، فإذا كان بائناً عنها لم يكن داخلاً فيها، فلا يكون داخلاً في شيء من الأمكنة والأحياز الوجودية على هذا التقدير، ولا يلزم قدم شيء من ذلك على هذا التقدير. وإذا قالوا: إنه فوق العرش، لم يقولوا: إن العرش كان موجوداً معه في الأزل، بل العرش خلق بعد أن لم يكن، وليس هو داخلاً في العرش، ولا هو مفتقر إلى العرش، بل هو الحامل بقوته للعرش ولحملة العرش، فكيف يلزم على هذا أن يكون معه في الأزل؟ بل كيف يلزم على هذا أن يكون داخلاً في العرش أو مفتقراً إليه، وإنما يلزم ما ذكره من لا بد له من شيء مخلوق يحتوي عليه، وهذا ليس قول من يقول: إنه بائن عن جميع المخلوقات. الوجه الخامس أن يقال: قوله (الباري عند الخصم يمتنع كونه لا في حيز) لفظ مجمل، فإن قال: إنه مفتقر عنده إلى حيز وجودي، فهذا لم يقله الخصم ولا يعرف أحداً قاله، وإن قاله من لا يعرف لم يلتفت إليه، ولا ريب عند المسلمين أن الله تعالى غني عن كل ما سواه، فكيف يقال: إنه مفتقر إلى حيز عدمي، فالعدم ليس بشيء حتى يقال: إن الرب مفتقر إليه، أو ليس بمفتقر إليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 وإذا فسر الحيز بأمر عدمي، لم يجز أن يقال: إن العدم الذي ليس بشيء أحق بالإلهية من الموجود القائم بنفسه، فعلم أن هذه الحجة مغلطة محضة، وأن لفظ الحيز لفظ مجمل. وهؤلاء يريدون بالحيز تارة ما هو موجود، ويريدون به تارة ما هو معدوم. وكذلك لفظ المكان، لكن الغالب عليهم أنهم يريدون بالحيز ما هو معدوم، وبالمكان ما هو موجود، ولهذا يقولون: العالم في حيز وليس في مكان. وإذا كان كذلك، فمن أثبت متحيزاً في حيز عدمي لم يجعل هناك موجوداً غيره، سواء كان ذلك واجباً أو ممكناً. وإذا كان كذلك لم يجب أن يكون هناك ما يجب أن يكون موجوداً معه، فضلاً عن أن يكون مفتقراً إليه. الوجه السادس أن يقال: هذه الحجة مبنية على أن كل مشار إليه مركب، وإن ذلك ممتنع في الواجب، فإن أردت بالتركيب أن غيره ركبه، أو أنه يقبل التفريق، ونحو ذلك، لم تسلم الأولى. وإن عنيت بالتركيب إمكان الإشارة إلى بعضه دون بعض، فللناس هنا جوابان: أحدهما: قول من يقول: هو فوق العالم وليس بمشار إليه، أو هو مشار إليه، وهو لا يتبعض، فيشار إلى بعضه دون البعض، لأن الإشارة إلى البعض دون البعض إنما تعقل فيما له أبعاض، فإذا قدر مشاراً إليه لا يتبعض، لم يمكن أن يقال هذا فيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 الثاني: قول من يقول: يمكن الإشارة إلى بعضه دون بعض، ويقول: التبعيض المنفي عنه، هو مفارقة بعضه بعض، وأما كونه يرى بعضه دون البعض، فليس هذا منفياً عنه، بل هو من لوازم وجوده، وإذا قال الثاني: هذا تركيب، وهو ممتنع، فقد عرف بطلان هذه الحجة. الوجه السابع أن يقال: إذا كان فوق العرش فلا يخلو: إما أن يلزم أن يكون جسماً أو لا يلزم، فإن لم يلزم بطل مذهب النفي، فإن مدار قولهم على أن العلو يستلزم أن يكون جسماً، فإذا لم يلزم ذلك لم يكن في كونه على العرش محذور، وإن لزم أن يكون جسماً، فإن لازم هذا القول قدم ما يكون جسماً، وحينئذ فقول القائل: إن كان المكان موجوداً كان جسماً ولزم قدم الأجسام لدوامه - لا يكون محذوراً على هذا التقدير، ولا يصح الاستدلال على انتفاء المكان بهذا الاعتبار. الوجه الثامن وأما الوجه الثامن: فقوله: (المكان مستغن في وجوده عن المتمكن، لجواز الخلاء وفاقاً، والباري عند الخصم يمتنع كونه لا في الحيز، فكان مفتقراً إلى الحيز) يعترض عليه الخصم بأنا لا نسلم أنه على هذا التقدير يكون كل مكان مستغنياً عن المتمكن، فإنه لا يقول عاقل إن شيئاً من الممكنات مستغنية عن الواجب الوجود، فإذا جعل ما سمى مكاناً من الممكنات المبدعات لله تعالى، لم يجز أن يقال: هو مستغن عنه. وأيضاً يقال: إن عنيت بكون المكان مستغنياً عن المتمكن، أنه لا يفتقر إلى كون المتمكن عليه، فهذا مسلم، لكنه لا يفيدك، إلا إذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 قيل: إن المتمكن مفتقر إلى وجود المكان المستغنى عنه، وهذا لم يذكره في التقسيم. وإن عنيت أنه يستلزم استغناءه عن فاعل مبدع، فهذا ليس بلازم على هذا التقدير، فإن الأمكنة كلها مفتقرة إلى فاعل مبدع، وإن استغنيت عن متمكن. وإذا كان وجوده مستلزماً للحيز على هذا التقدير، لم يكن مفتقراً إلى ما هو مستغن عنه، بل كان وجوده مستلزمة لأمور لازمة له مفتقرة إليه، وذلك لا يوجب أن يكون غيره مستغنياً عنه، ولا أن يكون مفتقراً إلى ما هو مستغن عنه، كما أن الذات إذا كانت مستلزمة للصفات، لم يجب أن تكون الصفات أحق بالإلهية. هذا عند من يقول بالصفات وكذلك من يقول بالأحوال من المسلمين، ومن نفى الجميع كالفلاسفة الدهرية، فعندهم أن وجود الواجب مستلزم لوجود الممكنات، مع أنها هي المفتقرة إليه، وهو مستغن عنها. ونكتة الاعتراض أنه فرض افتقاره إلى مكان مستغن عنه، فلا ريب أن هذا باطل بالاتفاق، لأنه يلزم أن يكون الخالق فقيراً إلى ما هو مستغن عنه، وهذا ينافي وجوب وجوده. وأما إذا كان ما سمي مكاناً مفتقراً إليه، وهو المبدع الخالق له، لم يكن فيما ذكره ما يبطل ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 أما إذا قدر أن وجوده لا يستلزم وجود ذلك ولا يشترط فيه ذلك، لكن حصل بحكم الجواز لا بحكم الوجوب، فهذا ظاهر. وإما إذا قدر أن ذلك لازم له، فغايته أن وجوده مستلزم لما يكون الرب ملزوماً له، وهو مفتقر إلى الرب تعالى، وقد عرف كلام الناس في مثل هذا؟. الوجه الخامس من وجوه الرازي في لباب الأربعين قال الرازي: (الوجه الخامس في نفي علوه على الخلق أن الأحياز إن تساوت في تمام الماهية، كان حصوله في بعضها بدلاً عن الآخر جائزاً، فافتقر فيه إلى مرجح، وإن تخالفت فيها كانت متباينة بالعدد، والماهية تختص بخواص معينة وصفات معينة، وهي غير متناهية، فقد وجد في الأزل مع الله أشياء موجودة قائمة بأنفسها غير متناهية، ولا يرتضيه مسلم. الرد عليه من وجوه: الوجه الأول أن يقال: الأحياز أمور عدمية كما قد عرف، فإنهم يقولون: العالم في حيز، والحيز عندهم عدمي، ولو قال قائل: إن الحيز قد يكون وجودياً، فالمثبتون يقولون: نحن نقول: أنه فوق العالم وحده، كما كان قبل المخلوقات، وليس هو في حيز وجودي، فإذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 سميت ما هناك حيزاً، كان تسميته للعدم حيزاً، وهو اصطلاحهم. وحينئذ فالعدم المحض ليس هو أشياء موجودة، حتى يقال: إنها متماثلة أو مختلفة. فإن قيل: من الناس من يقول: الحيز جوهر قائم بنفسه لا نهاية له. قيل: هذا القول إن كان صحيحاً ثبت قدم الحيز الوجودي، وحينئذ فتبطل الحجة التي مبناها على نفي ذلك. وإن كان باطلاً بطلت الحجة أيضاً كما تقدم، فهي باطلة على تقدير النقيضين، فثبت بطلانها في نفس الأمر. الوجه الثاني أن يقال: لم لا يجوز أن تكون الأحياز متساوية في الماهية. قوله: (حصوله في بعضها بدلاً عن الآخر جائز فيفتقر إلى مرجح) . يقال له: نعم وإذا افتقر إلى مرجح فإنه يرجح بعضها بقدرته ومشيئته، كما ترجح سائر الأمور الجائزة بعضها على بعض، وكما يرجح خلق العالم في بعض الأحياز على بعض، مع إمكان أن يخلقه في حيز آخر، وكما رجح ما خلقه بمقدار على مقدار، وصفة على صفة، مع إمكان أن يخلقه على قدر وصفة أخرى. الوجه الثالث أن يقال: ترجح بعض الأحياز على بعض متفق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 عليه بين العقلاء، سواء قالوا بالفاعل بالاختيار أو بالعلة الموجبة، فغن القائلين بالعلة الموجبة يقولون: إنها اقتضت وجود العالم في هذا الحيز دون غيره، وأما على القول بالفاعل المختار فالأمر ظاهر، وإذا كان ترجيح بعض الأحياز على بعض متفقاً عليه بين العقلاء، لم يكن في ذلك محذور. وإذا قيل: هذا ترجيح لبعضها على بعض في الممكن. قيل: فإذا جاز ذلك في الممكن، فهو في الواجب أولى بالجواز، فإن المرجح إن كان موجباً بالذات، فترجيحه لما يتعلق به أولى من ترجيحه لما يتعلق بغيره، وإن كان فاعلاً بالاختيار، فاختياره لما يتعلق به أولى من اختياره لما يتعلق بظاهره. وإذا قيل: هذا يلزم منه قيام الأمور الاختيارية بذاته. قيل: قد عرف أنهم يعترفون بذلك، وهو لازم لعامة العقلاء. الوجه الرابع أن يقال: أهل الإثبات القائلون بأن الله سبحانه فوق العالم، لهم في جواز الأفعال القائمة بذاته، المتعلقة بمشيئته وقدرته، قولان مشهوران: أحدهما: قول من يقول: لا يجوز ذلك، كما يقول ابن كلاب والأشعري ومن اتبعهما، من أصحاب أبي حنيفة وأحمد ومالك والشافعي وغيرهم، فهؤلاء يقولون: استواؤه مفعول له، فعله في العرش، ويقولون: إنه خلق العالم تحته، من غير أن يحصل منه انتقال وتحول من حيز إلى حيز، ويقولون: أنه خصص العالم بذلك الحيز بمشيئته وقدرته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 والقول الثاني: قول من يقول: إنه يفعل أفعالاً قائمة بنفسه باختياره ومشيئته، كما وصف نفسه في القرآن بالاستواء إلى السماء وعلى العرش، وبالإتيان والمجيء، وطي السماوات بيمينه، وغير ذلك، مما هو قول أئمة أهل الحديث، وكثير من أهل الكلام، ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فهؤلاء يقولون: إن ما يحصل من الترجيح لبعض الأحياز على بعض بأفعاله القائمة بنفسه هو بمشيئته وقدرته. فحصل الجواب عن هذا على قول الطائفتين جميعاً. الوجه الخامس أن يقال: الحيز، إما أن يقال: إنه موجود، وإما أن لا يقال: إنه معدوم. فإن قيل: هو معدوم، لم يلزم أن يكون مع الله في الأزل شيء موجود. وإن قيل: هو موجود، فإما أن يكون وجوده في الأزل ممتنعاً، وإما أن يكون ممكناً، فإن كان ممتنعاً تعين القسم الأول، وهو أن الأحياز متماثلة في تمام الماهية، فإن العدم المحض لا يتميز فيه شيء عن شيء، وحينئذ في فالتخصيص المفتقر إلى المرجح يحصل: إما بقدرته ومشيئته، على قول المسلمين وجمهور الخلق، وإما بالذات، عند من يجوز نظير ذلك، وإن كان وجوده في الأزل ممكناً، فلا محذور فيه، فبطا انتفاء اللازم. الوجه السادس أن يقال: التقسيم المذكور غير حاصر، وذلك لأن الأحياز: إما أن تكون متماثلة، وإما أن تكون مختلفة، وعلى التقديرين: فإما أن تكون متناهية، وإما أن تكون غير متناهية فإن كان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 وجود أحياز وجودية غير متناهية ممتنعاً، بطل هذا التقسيم، ولم يلزم بطلان غيره، وكذلك أي قسم بطل، لم يلزم بطلان غيره، وذلك لأن هؤلاء النفاة: منهم من يقول بثبوت أحياز قديمة: إما بنفسها، وإما بغيرها، كما تقول الطائفة منهم بأن القدماء خمسة: الواجب بنفسه، والحيز الذي هو الخلاء، والدهر والمادة والنفس. ويقول آخرون منهم بثبوت أبعاد لا نهاية لها، وإن لم يقولوا بغير ذلك. وما يذكر من هذه الأقوال ونحوها - وإن قيل: أنه باطل - فالقائلون بغير ذلك بهذه الأقوال هم المعارضون لنصوص الكتاب والسنة، وهم الذين يدعون أن معهم عقليات برهانية تنافي ذلك، فإذا خوطبوا على موجب أصولهم، وبين أنه ليس في العقليات ما ينافي النصوص الإلهية على كل مذهب، كان هذا من تمام نصر الله لرسوله وإظهار لنوره. الوجه السابع أن يقال: مقدمات هذه الحجة ليست برهانية، فإنه على تقدير تماثل الأحياز إنما يلزم الافتقار إلى المرجح، وهذا غير ممتنع. وأما على التقدير الثاني، فيلزم ثبوت أحياز مختلفة أما كونها غير متناهية فذلك غير لازم. وحينئذ فيقال: إذا قدر أن هذه الأحياز مفتقرة إليه، ممكنة بنفسها واجبة به، أمكن أن يقال فيها ما يقوله من يجوز أن يكون معه ما هو من لوازم ذاته، كما عرف من مذاهب الطوائف. ويقال على وجه التقسيم: إن امتنع أن يكون معه ما هو من لوازم ذاته، تعين القسم الأول وإلا جاز الثاني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 والمقصود بيان فساد أمثال هذه الكلام بالحجج العقلية المحضة، فإن هؤلاء النفاة يستعينون على معارضة النصوص الإلهية بأقوال الفلاسفة وغيرها، المخالفة لدين المرسلين، فإذا احتج لنصر النصوص الإلهية بما هو من هذا الجنس، كان ذلك خيراً من فعلهم. الوجه الثامن أن يقال: الأحياز: إن كانت عدمية، لم يكن في ذلك محذور، سواء كانت متماثلة أو مختلفة، فإن ثبوت أعدام غير متناهية في الأزل غير محذور، والمثبت لا يقول: إنه يفتقر إلى حيز وجودي منفصل عنه، فإن هذا ليس هو معروفاً من أقوال المثبتين. وإن قدر قائل يقوله أمكنه أن يقول: هذا من لوازم ذاته، وحينئذ فإن جاز أن يلزمه أمر وجودي كان هذا ممكناً، وإلا تعين قول من يجعل الحيز عدمياً، فعلم أنه لا حجة فيما ذكره. الوجه التاسع أن من المسلمين من يقول: قد قامت به في الأزل معاني لا نهاية لها، كعلوم لا نهاية لها، وكلمات لا نهاية لها، وإرادات لا نهاية لها، ونحو ذلك. ومن الناس من يقول بثبوت أبعاد لا نهاية لها، وحينئذ فإن كان علوه على العالم ممكناً بدون ثبوت أحياز قديمة، مختلفة غير متناهية، لم يضرهم بطلان هذا اللازم. وإن قيل: إن ذلك يستلزم هذا القول كان نفيه محتاجاً إلى دليل، وهو لم يذكر دليلاً على نفيه، وإنما قنع بحجة مسلمة، وهي أن المسلمين ليس فيهم من يرتضي أن يوجد معه في الأزل أشياء موجودة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 قائمة بأنفسها غير متناهية، ومعلوم أن هذا لا يرتضيه المسلمون، من أهل الإثبات وغيرهم، لاعتقادهم أن ذلك ليس من لوازم قولهم، فإذا قدر أنه من لوازم قولهم، احتاج نفيه إلى دليل، ولا يجوز أن يحتج على ذلك بالسمع، لأن السمع الدال على علو الله على خلقه أظهر وأكثر وأبين مما يدل على مثل هذا، فإن المحتج إذا احتج بمثل قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} [الزمر: 62] و: {رب العالمين} [الفاتحة: 2] . ونحو ذلك، لم يدل إلا على أن الأحياز الموجودة مخلوقة لله، وهو ربها، وهذا لا ينازع فيه مسلم، لكن الاستدلال بالسمع على قدم شيء من ذلك أضعف من الاستدلال على أن الله تعالى ليس فوق العالمين، فلا يمكن دفع أقوى الدلالتين بأضعفهما. الوجه العاشر أن يقال: هذا الرازي وأمثاله يدعون أنه ليس في السمع ما يصرح بأن الله كان وحده، ثم ابتدأ إحداث الأشياء من العدم، بل يقولون بما هو أبلغ من ذلك، كما يذكر مثل ذلك في كتاب المطالب العالية وغير ذلك من كتبه. وأما النصوص الكثيرة الدالة على علو الله على خلقه، فلا ينازعون في كثرتها، وظهور دلالتها، ولا يدعون أنه عارضها نصوص سمعية تدفع موجبها، وإنما يدعون أنه عارض العقل. وإذا كان الأمر كذلك، لم يجز أن يدفع موجب النصوص الكثيرة الدالة على أن الله فوق بأدلة سمعية، ليست في الظهور والكثرة بمنزلتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 بل إذا قدر تعارض الأدلة السمعية كان الترجيح مع الأكثر الأقوى دلالة بلا ريب، فعلم أنه لا يجوز دفع موجب نصوص العلو بالمقدمة التي أثبتها بالسمع. والمقدمة السمعية: إما نص أو إجماع، ولا نص في المسألة، وأما الإجماع فهو يقول: أنه لا يمكن العلم بإجماع من بعد الصحابة، ومعلوم أنه ليس عن الصحابة، بل ولا التابعين، ولا الأئمة المشهورين، ما يقرر ما يقرر مطلوبه، بل النقول المتواترة عنهم توافق إثبات العلو لا نفيه. وأيضاً فالإجماع عنده دليل ظني: ومعلوم أن النصوص الدالة على العلو أكثر وأقوى دلالة من النصوص الدالة على كون الإجماع حجة، فكيف يجوز أن تدفع النصوص الكثيرة البينة الدلالة، بنصوص دونها في الظهور والكثرة. وبالجملة من بنى كونه تعالى ليس على العرش على مقدمة سمعية، فقوله في غاية الضعف كيفما احتج، سواء ادعاها نصية أو إجماعية، مع أن قوله أيضاً في غاية الفساد في العقل عند من خبر حقائق الأدلة العقلية، فقوله فاسد في صحيح المنقول وصريح المعقول، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. الوجه السادس من وجوه الرازي في لباب الأربعين قال الرازي: (الوجه السادس في العالم كرة. فإن الكسوف القمري يرى في البلاد الشرقية في أول الليل، في البلاد الغريبة في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 آخره، فلو كان الله في جهة فوق لكان أسفل بالنسبة إلى سكان الوجه الآخر، وأنه باطل) . الرد عليه من وجوه: الوجه الأول أحدها: أن يقال: القائلون بأن العالم كرة يقولون: إن المحيط هو الأعلى، وإن المركز الذي هو جوف الأرض هو الأسفل، ويقولون: إن السماء عالية على الأرض من جميع الجهات، والأرض تحتها من جميع الجهات، ويقولون: إن الجهات قسمان: حقيقية وإضافية، فالحقيقية جهتان: وهما العلو والسفل، فالأفلاك وما فوقها هو العالي مطلقاً، وما في جوفها هو السافل مطلقاً. وأما الإضافية فهي بالنسبة إلى الحيوان، فما حاذى رأسه كان فوقه، وما حاذى رجليه كان تحته، وما حاذى جهته اليمنى كان عن يمينه، وما حاذى اليسرى كان عن يساره، وما كان قدامه كان أمامه، وما كان خلفه كان وراءه. وقالوا هذه الجهات تتبدل، فإن ما كان علواً له قد يصير سفلاً له، كالسقف مثلاً: يكون تارة فوقه، وتارة تحته، وعلي هذا التقدير فإذا علق رجل جعلت رجلاه إلى السماء ورأسه إلى الأرض، أو مشت نملة تحت سقف: رجلاها إلى السقف، وظهرها إلى الأرض، كان هذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 الحيوان باعتبار الجهة الحقيقية، السماء فوقه، والأرض تحته، لم يتغير الحكم، وأما باعتبار الإضافة إلى رأسه ورجليه، فيقال: إن السماء والأرض فوقه. وإذا كان كذلك، فالملائكة الذين في الأفلاك من جميع الجوانب - هم باعتبار الحقيقة كلهم فوق الأرض، وليس بعضهم تحت بعض، ولا هم تحت شيء من الأرض، أي الذين في ناحية الشمال ليسوا تحت الذين في ناحية الجنوب، وكذلك من كان في ناحية برج السرطان ليس تحت من كان في ناحية برج العقرب، وإن كان بعض جوانب السماء تلي رؤوسنا تارة وأرجلنا أخرى، وإن كان فلك الشمس فوق القمر، وكذلك السحاب وطير الهواء، هو من جميع الجوانب فوق الأرض وتحت السماء، ليس شيء منه تحت الأرض، ولا من في هذا الجانب تحت من في هذا الجانب، وكذلك ما على ظهر الأرض من الجبال والنبات والحيوان والأناسي وغيرهم، هم من جميع جوانب الأرض فوقها، وهم تحت السماء، وليس أهل هذه الناحية تحت أهل هذه الناحية، ولا أحد منهم تحت الأرض ولا فوق السماء البتة، فكيف تكون السماء تحت الأرض، أو يكون من هو فوق السماء تحت الأرض؟ ولو كان شيء منهم تحت الأرض، للزم أن يكون كل منهم تحت الأرض وفوقها، ولزم أن تكون كل من الملائكة وطير الهواء وحيتان الماء ودواب الأرض فوق الأرض وتحت الأرض، ويلزم أن يكون كل شيء فوق ما يقابله وتحته، ولزم أن يكون كل من جانبي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 السماء فوق الآخر وتحت الأرض وأن يكون العرش - إذا كان محيطاً بالعالم - تحت السماء وتحت الأرض، مع أنه فوق السماء وفوق الأرض، ولزم أن تكون الجنة تحت الأرض وتحت جهنم، مع أنها فوق السماوات وفوق الأرض وفوق جهنم، ولزم أن يكون أهل عليين تحت أهل سجين مع أنهم فوقهم. فإذا كانت هذه اللوازم وأمثالها باطلة، باتفاق أهل العقل والإيمان، علم أنه لا يلزم من كون الخالق فوق السماوات أن يكون تحت شيء من المخلوقات، وكان من احتج بمثل هذه الحجة إنما احتج بالخيال الباطل الذي لا حقيقة له، مع دعواه أنه من البراهين العقلية، فإن كان يتصور حقيقة الأمر فهو معاند جاحد محتج بما يعلم أنه باطل، وإن كان لم يتصور حقيقة الأمر، فهو من اجهل الناس بهذه الأمور العقلية، التي هي موافقة لما أخبرت به الرسل، وهو يزعم أنها تناقض الأدلة السمعية، فهو كما قيل: فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم الوجه الثاني أن يقال: هب أنا لا نأخذ بما يقوله هؤلاء، أليس من المعلوم عند جميع الناس أن السماوات فوق الأرض، والهواء فوق الأرض والسحاب والطير فوق الأرض، والحيتان والدواب والشجر فوق الأرض، والملائكة الذين في السماوات فوق الأرض وأهل عليين فوق أهل سجين، والعرش أعلى المخلوقات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال: «إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفه عرش الرحمن» . وهذه الأمور بعضها متفق عليه عند جميع العقلاء، وما لم يعرفه جميع العقلاء فهو معلوم عند من يقول به، ومن يقل أحد من العقلاء: أن هذه الأمور تحت الأرض وسكانها، وعلم العقلاء بذلك أظهر من علمكم بكرية الأفلاك، لو قدر أن ذلك معارض لهذا، فكيف إذا لم يعارضه. وإذا كانت المخلوقات التي في الأفلاك والهواء والأرض لا يلزم من علوها على ما تحتها أن تكون تحت ما في الجانب الآخر من العالم، فالعلي الأعلى - سبحانه - أولى أن لا يلزم من علوه على العالم أن يكون تحت شيء منه. الوجه الثالث أن يقال: هذه الحجة: إما أن تكون سمعية، وإما أن تكون عقلية. ومن المعلوم أنها ليست سمعية، ولو كانت سمعية لكانت السمعيات التي تدل على علو الله تعالى أنص وأكثر وأظهر على ما لا يخفى على مسلم. وإن كانت عقلية فلا بد من بيان مقدماتها بالعقل. وهو لم يذكر إلا قوله: (فإن كان الله في جهة فوق لكان أسفل بالنسبة إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 سكان الوجه الآخر من الأرض، وأنه باطل) . فذكر مقدمتين لم يدل عليهما: لزوم كونه أسفل بالنسبة إلى بعض المخلوقات، وبطلان هذا اللازم. والمنازع ينازع في كل من المقدمتين، فلا يسلم لزوم السفول، وإن سلم لزومه فلا بد من دليل عقلي ينفي به ذلك، وهو لم يذكر على ذلك دليلاً. ولا يجوز أن يقال: هذا يوجب النقص، وهو منزه عنه لوجهين: أحدهما: أن المثبت لا يسلم أن هذا نقص، ألا ترى أن الأفلاك موصوفة بالعلو على الأرض مع لزوم ما ذكر من السفول تحت سكان الوجه الآخر وليس ذلك نقصاً فيها؟ وكذلك كل ما يوصف بالعلو على ما تحته، مثل الهواء والسحاب والطير والحيوان والنبات والجبال والمعدن، ومثل الملائكة والجنة والعرش، وغير ذلك، فإذا كانت المخلوقات العالية أشرف في النفوس من المخلوقات السافلة، ولم يكن ما ذكره من هذا السفول الإضافي مانعاً من هذا الشرف والرتبة، ولا يوجب ذلك نقصاً - علم أن هذا ليس بنقص. فإن قيل: الناحية الأخرى ليس فيها حيوان ونبات ومعادن وجبال، وإنما فيها ماء، وكذلك السحاب والمطر قد يمنع كونه فيها. قيل: هذا لا يضرنا، فإنا نعلم أن الكواكب والشمس والقمر فوق الأرض مطلقاً، وعلوها على الأرض ليس بنقص فيها، وإن قدر ما تخيلوه في السفول، وكذلك إذا قدر هناك مثل ما في هذا الوجه، ولو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 كان ما هناك سافلاً، للزم أن تكون الشمس والقمر والسماوات إذا ظهرت علينا تحت ذلك الجانب من الأرض، وتحت ما هناك، ولزم أنه لا تزال الأفلاك تحت الكواكب، والشمس والقمر تحت الأرض وهذا في غاية الفساد. ومن العجائب أن هؤلاء النفاة يعتمدون في إبطال كتاب الله، وسنة أنبيائه ورسله، وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وما فطر الله عليه عباده، وجعلهم مضطرين إليه عند قصده ودعائه، ونصب عليه البراهين العقلية الضرورية، على مثل هذه الحجة التي لا يعتمدون فيها إلا على مجرد خيال ووهم باطل، مع دعواهم أنهم هم الذين يقولون بموجب العقل، ويدفعون موجب الوهم والخيال. وكل من له معرفة يعلم أن قول القائل: أن الشمس والقمر والكواكب الدائرة في الفلك هي بالليل تحت الأرض، هو من حكم الوهم الفاسد، والخيال الباطل، ليس له حقيقة في الخارج، فيريدون بهذا الوهم والخيال الفاسد أن يبطلوا صريح العقل وصحيح المنقول في أعظم الأصول، ويحولوا بين القلوب وقصد خالقها وعبادته بمثل هذا الوهم والخيال الفاسد، الملتبس على من لا يفهم حقيقة قولهم. الوجه الثاني: أن يقال: أنتم تقولون: لم يقم دليل عقلي على نفي النقص عن الله تعالى، كما ذكر ذلك الرازي متلقياً له عن أبي المعالي وأمثاله، وإنما ينفون النقص بالأدلة السمعية، وعمدتهم فيه على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 الإجماع، وهو ظني عنده، والنصوص الدالة عليه دون النصوص الدالة على العلو في الكثرة والقوة. وإذا كان كذلك، وكان علو الله تعالى على خلقه ثابتاً بالسمع، كان السمع مثبتاً لما نفيتموه، لا نافياً له، ولم يكن في السمع ما ينفي هذا المعنى وإن سميتموه ناقصاً، فإنه إذا كان عمدتهم الإجماع، فلا إجماع في موارد النزاع، ولا يجوز الاحتجاج بإجماع في معارضة النصوص الخبرية بلا ريب، فإن هذا يستلزم انعقاد الإجماع على مخالفة النصوص، وذلك ممتنع في الخبريات وإنما يدعيه من يدعيه في الشرعيات، ويقولون: نحن نستدل بالإجماع على أن النص منسوخ. الوجه الرابع أن يقال: إذا قدرنا موجودين أحدهما عظيم كبير، أعظم من السماوات والأرض، بحيث يمكنه أن يحيط بذلك كله ويحتوي عليه، وآخر لا يشار إليه، وليس هو داخل العالم ولا خارجه، كان من المعلوم بالضرورة أن الأول أكمل وأعظم. فإذا قال قائل: هذه العظمة تقتضي، إذا كان محيطاً بالعالم، أن يكون تحت شيء منه، كان من المعلوم أن وصف ذاك له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا يحيط بشيء، ولا يوصف بأنه عظيم كبير في نفسه، ولا أنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 ليس بعظيم كبير في نفسه - أعظم نقصاً من وصفه بإحاطة ما يستلزم إحاطته بجميع الموجودات. الوجه الخامس أن يقال: هب أن العالم كري، فلم قلت: إنه إذا كان فوق العالم يلزم أن يكون تحت بعضه، فإن هذا إنما يلزم إذا قدر أنه محيط بالعالم كله من جميع الجهات، فأما إذا قدر أنه فوق العالم من هذه الجهة التي عليها الحيوان والنبات والمعدن، لم يلزم أن يكون تحت العالم من تلك الجهة، فلو فرضنا مخلوقين أحدهما مدور، والآخر فوق المدور، ليس محيطاً به، كما يجعل الإنسان تحت قدمه حمصة أو بندقة، لك يلزم أن يكون الذي فوق المدور تحت المدور بوجه من الوجوه. وإذا قيل: المحيط بالمدور، كالفلك التاسع المحيط بالأرض، وهو العالي من كل جانب. قيل: هو العالي بالنسبة إلى ما في جوف المدور، وأما بالنسبة إلى ما فوق المدور فلا، بل المحيط وما في جوفه تحت ذلك الفوقاني مطلقاً، كما أن الحمصة والبندقة تحت الرجل الموضوعة عليها. ومما يوضح ذلك أن مركز الفلك هو السفل المطلق للفلك، والفلك من كل جانب عال عليه، فإذا قدر فوق الفلك من الجانب الذي يلي الجانب الذي عليه الأنام ما هو أعلى من الفلك من هذا الجانب وليس محيطاً به، ولا مركز العال مركزاً له - امتنع أن يكون هذا تحت شيء من العالم، بل هو قطعاً فوق الأفلاك من هذا الجانب، وليس تحتها من ذلك الجانب، فيلزم أن يكون هو فوقها لا تحتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 وإذا قال القائل: هذا كما لا يوصف بالسفول، فهو لا يوصف أيضاً بالعلو، فإن العالي المطلق هو المحيط، إذاً ليس إلا المحيط والمركز، وهذا إذا لم يكن محيطاً لم يكن عالياً. قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أنه على هذا التقدير إذا كان محيطاً لم يكن سافلاً البتة، بل يكون عالياً، وعلى هذا فإذا كان هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء، ولو أدلى المدلي بحبل لهبط عليه - كان محيطاً بالعالم عالياً عليه مطلقاً، ولم يلزم من ذلك أن يكون فلكاً ولا مشابهاً للفلك، فإن الواحد من المخلوقات تحيط قبضته بما في يده من جميع جوانبها، وليس شكلها شكل يده، بل ولا شكل يده شكلها. وذكر أن بعض الشيوخ سئل عن كون الرب عالياً محيطاً بالعالم ممسكاً له، فقال: بعض مخلوقاته كالباشق مثلاً يقبض بيده حمصة، فيكون فوقها محيطاً بها ممسكاً لها، فإذا كان هذا لا يمتنع في بعض مخلوقاته، فكيف يكون ممتنعاً في حقه. الثاني: أنه إذا قدر أنه عال وليس بمحيط، لم يلزم أن يكون له مركز، ولا أن يكون مركز العالم مركزاً له، وأن يكون المركز هو السفل بالنسبة إليه، وأن يكون العالي هو المحيط بالنسبة إليه، بل ذلك إنما يلزم في المحيط والمحاط به، فالمركز من المحيط كالنقطة من الدائرة، فإذا قدر ما ليس بدائرة ولا هو كرة، لم يكن له مركز كنقطة الدائرة. ولهذا لو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 قدر أن السماوات ليست محيطة بالأرض لم يكن لها مركز، مع تقدير الكرة المستديرة، فلا بد لها من نقطة في وسطها هو المركز، وأما ما ليس بمستدير ولا هو كرة فليس مركز الكرة - وهو النقطة التي وسطها - مركزاً له، سواء جعل فوق المستدير أو تحته، فلا يمتنع أن يكون شيء فوق المستدير وتحته إذا لم يكن مستديراً، ولا يكون مع هذا مشاركاً للمستدير في أن النقطة التي هي المحيطة مركزاً له، بل المركز نسبته إلى جميع جهات المحيط واحدة، وليست نسبته إلى ما فوق المحيط أو تحته - إذا قدر أن فوقه شيء أو تحته شيء ليس مستدير - نسبة واحدة، بل يكون المركز مع المحيط تحت هذا الشيء المعين الذي ليس بمستدير، كما قد يمكن أن يكون فوق شيء آخر، فالمركز بالنسبة إلى المحيط تحته، والمحيط فوقه. وأما ما يقدر فوق المحيط فهو عال على الجميع قطعاً، ويمتنع أن يقال: إنه ليس فوق المحيط، فإنه معلوم بصريح العقل أن الهواء فوق الأرض، والسماء فوق الأرض، وهذا معلوم قبل أن يعلم كون السماء محيطة بالأرض، بل الإحاطة قد يظن أنها مناقضة للعلو، لا يقول أحد: إن العلم بالعلو موقوف على العلم بها، ولا إن العلو مشروط بها، فإن الطير فوق الأرض، وليست محيطاً بها، والسحاب فوق الأرض وليس محيطاً بها، وكل جزء من أجزاء الفلك هو فوق الأرض وليس محيطاً بها، فتبين أن العلو معنى معقول، مع أنه لا يشترط فيه الإحاطة، وإن كانت الإحاطة لا تناقضه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 وهؤلاء النفاة حائرون: تارة يجعلون الإحاطة مناقضة للعلو، وتارة يجعلونها شرطاً في العلو لازمة له. ونحن قد بينا خطأهم في هذا وهذا، فلا هي مناقضة له، ولا هي منافية له. ولهذا كان الناس يعلمون أن السماء فوق الأرض، والسحاب فوق الأرض، قبل أن يخطر بقلوبهم أنها محيطة بالأرض. وكذلك يعلمون أن الله فوق العالم، وإن لم يعلموا أنه محيط به، وإذا علموا أنه محيط لم يمنع ذلك علمهم بأنه فوق. فتبين أنه ليس من شرط العلم بكون الشيء عالياً أن يعلم أنه محيط، ولو كانت الإحاطة شرطاً في العلم، امتنع العلم بالمشروط دون شرطه، ولكن لما كان في نفس الأمر الأفلاك عالية محيطة، كانت الإحاطة والعلو متلازمين في هذا - محال، فإن قدر أن كل عال فهو محيط، كان العلو والإحاطة متلازمين، وإن قدر وجود موجود عال ليس بمحيط لم تكن الإحاطة لازمة للعلو. فقد تبين أنه بتقدير أن يكون الرب عالياً ليس بمحيط فهو عال، وبتقدير أن يكون عالياً محيطاً فهو عال، فثبت علوه على التقديرين، وهو المطلوب. وإذا كان هذا معقولاً في مخلوقين، ففي الخالق بطريق الأولى. وقد قررت هذا على وجه آخر بأن يقال: فإن قيل: المحيط لا يتميز منه جانب دون جانب بكونه فوقاً وسفلاً، فلا يمكن إذا قدر شيء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 خارجاً عنه أن يقال: هو فوقه إلا كما يقال: هو سفله، وحينئذ ففرض شيء خارج عن المدور المحيط مع كونه فوقه، جمع بين الضدين. قيل: الجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن هذا الكلام إن كان صحيحاً لزم بطلان حجتكم، وإن لم يكن صحيحاً لزم بطلانها، فثبت بطلانها على تقدير النقيضين، فيلزم بطلانها في نفس الأمر، لأن الحق في نفس الأمر لا يخلو عن النقيضين. بيان ذلك أن المحيط إما أن يصح أن يقال: إن بعضه عال وبعضه سافل، وإما أن لا يصح، فإن لم يصح بطل أن يكون الخارج عنه تحت شيء من العالم، بل إذا قدر أنه يحيط به، ولو بقبضته له، لزم أن يكون عالياً عليه مطلقاً، ولم يكن سافلاً تحت شيء من العالم، وإن صح أن يكون بعضه عالياً وبعضه سافلاً، أمكن أن يكون مبايناً للعالم من الجهة العالية، فيكون عالياً عليه. وإن قيل: بل المحيط إذا حاذى رؤوسنا كان عالياً، وإذا حاذى أرجلنا كان سافلاً، فلا يزال بعضه عالياً، وبعضه سافلاً. قيل: فعلى هذا التقدير يكون العالي ما كان فوق رؤوسنا، وحينئذ فإذا كان مبايناً للعالم من جهة رؤوسنا دون أرجلنا، لم يزل عالياً علينا دائماً، وهو المطلوب. الوجه الثاني: أن يقال: هب أنه محيط بالعالم وفوقه من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 جميع الجهات، فإنما يلزم ما ذكرت أن لو كان من جنس فلك من الأفلاك، فإن المتخيل قد يتوهم أن ما استدار وأحاط بالأفلاك، كان تحت بعض العالم من بعض الجهات. ومن المعلوم أن الله تعالى ليس مثل فلك من الأفلاك، ولا يلزم إذا كان فوق العالم ومحيطاً به أن يكون مثل فلك، فإنه العظيم الذي لا أعظم منه. وقد قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} [الزمر: 67] . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه ما يوافق ذلك، مثل حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟» وفي رواية: «أنها تكون بيده مثل الكرة في يد الصبيان» وروي ما هو أقل من ذلك. والمقصود أنه إذا كان الله أعظم وأكبر وأجل من أن يقدر العباد قدره، أو تدركه أبصارهم، أو يحيطون به علماً، وأمكن أن تكون السماوات والأرض في قبضته لم يجب - والحال هذه - أن يكون تحت العالم، أو تحت شيء منه، فإن الواحد من الآدميين إذا قبض قبضة أو بندقة أو حمصة أو حبة خردل، وأحاط بها بغير ذلك، لم يجز أن يقال: إن أحد جانبيها فوقه، لكون يده لما أحاطت بها كان منها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 الجانب الأسفل يلي يده من جهة سفلها، ولو قدر من جعلها فوق بعضه بهذا الاعتبار، لم يكن هذا صفة نقص بل صفة كمال. وكذلك أمثال ذلك من إحاطة المخلوق ببعض المخلوقات، كإحاطة الإنسان بما في جوفه، وإحاطة البيت بما فيه، وإحاطة السماء بما فيها من الشمس والقمر والكواكب، فإذا كانت هذه المحيطات لا يجوز أن يقال: إنها تحت المحاط، وأن ذلك نقص، مع كون المحيط يحيط به غيره، فالعلي الأعلى المحيط بكل شيء، الذي تكون الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، كيف يجب أن يكون تحت شيء مما هو عال عليه أو محيط به، ويكون ذلك نقصاً ممتنعاً. وقد ذكر أن بعض المشايخ سئل عن تقريب ذلك إلى العقل، فقال للسائل: إذا كان باشق كبير، وقد أمسك برجله حمصة أليس يكون ممسكاً لها في حال طيرانه، وهو فوقها ومحيط بها، فإذا كان مثل هذا ممكناً في المخلوق، فكيف يتعذر في الخالق. بقية كلام الرازي في لباب الأربعين قال الرازي: (واحتج الخصم بالعلم الضروري بأن كل موجودين فإن أحدهما سار في الآخر أو مباين عنه في الجهة) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 قال: (والجواب أن دعوى الضرورة قد سبق بطلانها وبقي القسم الثالث فهذه المقدمة توجب الدور لتوقف ثبوتها على نفيها) . الرد على كلام الرازي والاعتراض على هذا: أن دعوى الضرورة لا يمكن إبطالها إلا بتكذيب المدعي أو بيان خطئه، والمدعون لذلك أمم كثيرة منتشرة يعلم أنها لم يتواطأوا على الكذب، فالقدح في ذلك كالقدح في سائر الأخبار المتواترة، فلا يجوز أن يقال: إنهم كذبوا فيما أخبروا به عن أنفسهم من العلم الضروري. وأيضاً فالمنازع يسلم أن مثل هذا مستقر في فطر جميع الناس وبدائههم، وأنهم مضطرون إليه لا يمكنهم دفعه عن أنفسهم، إلا كما يمكن دفع أمثاله مما هم مضطرون إليه، وإنما يقولون: إن هذه الضرورة خطأ وهي من حكم الوهم. وقد تقدم بيان فساد ذلك، وأن هذه قضية كلية عقلية، لا خبرية معينة، ولو كانت خبرية معينة فالجزم بها كالجزم بسائر الحسيات الباطنة والظاهرة، فهي لا تخرج عن العقليات الكلية والحسيات المعينة، وكما يمتنع اتفاق الطوائف الكثيرة التي لم تتواطأ على دعوى الكذب في مثل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 ذلك، يمتنع اتفاقهم على الخطأ في مثل ذلك، ولو جاز الخطأ في مثل ذلك، لم يكن الجزم بما يخبر به الناس عما عرفوه بالحس أو الضرورة لإمكان غلطهم في ذلك، فإن غلط الحس الظاهر أو الباطن أو العقل يقع لآحاد الناس، ولطائفة حصل بينها مواطأة، وتلقي بعضها عن بعض، كالمذاهب الموروثة، وكقول التابعين، لكون هذا معلوماً بالضرورة، فإنهم أهل مذهب تلقاه بعضهم عن بعض. وأما الجازمون بالضرورة في أن الله فوق العالم، أو أنه لا يعقل موجود قائم بنفسه لا يشار إليه، ولا يعقل موجودان ليس أحدهما محايثاً للآخر ولا مبايناً له، وأن مثل هذا ممتنع بالضرورة التي يجدونها في أنفسهم، كسائر العلوم الضرورية، فهؤلاء أمم كثيرة لم يتواطأوا ولم يتفقوا على مذهب معين. وأما قوله: (وبقي القسم الثالث، فهذه المقدمة توجب الدور لتوقف ثبوتها على نفيها) . فليس الأمر كذلك، لأن هذه المقدمة الضرورية لا يتوقف ثبوتها على نفي ما يعارضها، كسائر المعارف الضرورية، بل نعلم بالضرورة أن ما عارضها من النظريات فهو باطل على سبيل الجملة، وإن لم نذكر حل الشبه على وجه التفصيل، كما نعلم فساد سائر النظريات السوفسطائية المعارضة للعلوم الضرورية. وإذا قال قائل: لا تثبت هذه المقدمة حتى ينفي المعارض المبطل لها، ونفسي ذلك لا يكون إلا بثبوتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 كان قوله ممنوعاً غير مقبول باتفاق العقلاء على نظائر ذلك، فإن كل مقدمة ضرورية لا يتوقف ثبوتها على نفي ما يقدح فيها، والاستدلال بها لا يتوقف على ذلك، بل هم يقولون: إن القضايا اليقينية سواء كانت ضرورية أو نظرية، لا يتوقف العلم بموجبها على نفي المعارض، ولو توقف على ذلك لم يعلم أحد شيئاً، لأن ما يخطر بالقلوب من الشبهات المعارضة لا نهاية له، فكيف يحتاج إلى العلوم الضرورية إلى نفي المعارض. ولهذا كان جميع العقلاء السالمي الفطرة يحكمون بموجب هذه القضية الضرورية قبل أن يعلموا أن في الوجود من ينكرها ويخالفها، وأكثر الفطر السليمة إذا ذكر لهم قول النفاة بادروا إلى تجهيلهم وتكفيرهم، ومنهم من لا يصدق أن عاقلاً يقول ذلك، لظهور هذه القضية عندهم، واستقرارها في أنفسهم، فينسبون من خالفها إلى الجنون، حتى يروا ذلك في كتبهم أو يسمعوه من أحدهم. ولهذا تجد المنكر لهذه القضية يقر بها عند الضرورة، ولا يلتفت إلى ما اعتقدوه من المعارض لها. فالنفاة لعلو الله إذا حزب أحدهم شدة وجه قلبه إلى العلو يدعو الله. ولقد كان عندي من هؤلاء النافين لهذا من هو من مشايخهم، وهو يطلب مني حاجة، وأنا أخاطبه في هذا المذهب كأني غير منكر له، وأخرت قضاء حاجته حتى ضاق صدره، فرفع طرفه ورأسه إلى السماء، وقال: يا الله، فقلت له: أنت محق، لمن ترفع طرفك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 ورأسك؟ وهل فوق عندك أحد؟ فقال: أستغفر الله، ورجع عن ذلك لما تبين له أن اعتقاده يخالف فطرته، ثم بينت له فساد هذا القول: فتاب من ذلك، ورجع إلى قول المسلمين المستقر في فطرهم. كلام الرازي عن الجهة في لباب الأربعين قال الرازي: (واحتج الخصم أيضاً بأن اختصاص الجسم بالحيز والجهة إنما كان لكون قائماً بالنفس) يعني: وهذا ثابت لكل قائم بنفسه (وإذا كان في جهة كان في جهة فوق، لأن اختصاص الأشرف بالأشرف هو المناسب، ولأن الخلق بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم إليها عند التضرع والدعاء) قال: (والجواب أن اختصاص الجسم بالحيز والجهة قد يكون لذاته المخصوصة، فإنه لا يجب أن يكون اختصاص كل شيء بصفة لصفة أخرى) . الرد عليه والاعتراض على ذلك أن يقال: إن عنيت بذاته المخصوصة هو ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 يمتاز به جسم عن جسم، كما يقال: اختصاص الفلك بالحيز لكونه فلكاً، واختصاص الماء بالحيز لكونه ماء، واختصاص الهواء بالحيز لكونه هواء، فهذا باطل لا يقوله عاقل، فإن جميع الأجسام مشتركة في الاختصاص بالحيز والجهة، والحكم العام المشترك بينها، لا يكون إلا لما امتاز به بعضها عن بعض، فإنه لو كان لما امتاز به بعضها عن بعض وجب أن يختص ببعضها، كسائر ما كان من ملزومات المخصصات المميزات. وإذا قيل: إن المختلفات يجوز أن تشترك في لازم عام، كاشتراك أنواع الحيوانات المختلفة في الحيوانية، فهذا صحيح، لكن لا يجوز أن يكون الحكم العام المشترك فيه لأجل ما يخص به كل حيوان. وإذا قيل: إن الحكم الواحد بالنوع يجوز أن يعلل بعلتين مختلفتين، كما يعلل حل الدم بالردة والقتل والزنا، وكما يعلل الملك بالإرث والبيع والاصطياد، وكما يعلل وجوب الغسل بالإنزال والإيلاج والحيض، فالوجوب الثابت بهذا السبب ليس هو بعينه الوجوب الثابت بهذا السبب، لكنه نظير، مع أنهما يختلفان بحسب اختلاف الأسباب، فليس الملك الثابت بالإرث مساوياً للملك الثابت بالبيع من كل وجه، بل له خصائص يمتاز بها عنه، وكذلك حل الدم الثابت بالردة، ليس مساوياً لحل الدم الثابت بالقتل، بل بينهما فروق معينة. وكذلك الغسل المشروع بالحيض مخالف للغسل المشروع بالإيلاج من بعض الوجوه، وأما الإنزال والإيلاج فهما نوع واحد. وأما ما جزم العقل بثبوته للقدر المشترك، فيجب أن يضاف إلى قدر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 مشترك، والعقل يجزم بثبوت الحيز والجهة لكل جسم من غير أن يعلم كل جسم، بل لا يعقل حقيقة الجسم عنده إلا مع كونه متحيزاً ذا جهة، فصار هذا من لوازم القدر المشترك، فلا يجوز أن يضاف إلى المخصصات. وقوله: (لا يجب أن يكون اختصاص كل شيء بصفة لصفة أخرى) . إنما تكون حجة لو قيل: العلة في ثبوت هذه الصفة لصفة أخرى، وليس هذا هو المدعي، بل المدعي أن هذا من لوازم القدر المشترك، سواء قيل: إنه معلول له، أو غير لازم غير معلول له. وحينئذ فلا يحتاج أن نقول: ثبت لصفة أخرى، بل يمكن أن يكون لازماً لنفس الذات، لكن هو لازم لسائر ما يشابهها في الحيز والجهة، فلم يكن لزومه لها من جهة ما يمتاز به عن غيرها، بل من جهة القدر المشترك بينها وبين غيرها من الأجسام. فعلم أن اتصاف الجسم بكونه متحيزاً وذا جهة لازم له، لعموم كونه جسماً، لا لخصوص المعينات، بمعنى أن المشترك مستلزم لهذا الحكم. وإن عنيت بذاته المخصوصة القدر المشترك بين الأجسام، فلفظ (الجسم) مجمل إن عنيت به كل ما يشار إليه، فتسمية مثل هذا جسماً مما ينازعك فيه من ينازعك من أهل الإثبات والكلام في المعاني العقلية، لا في المنازعات العقلية. وصاحب هذا القول قد يمنع أن كل ما يشار إليه مركب من الجواهر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 المفردة، أو من المادة والصورة. وحينئذ فالناس هنا طوائف: منهم من يقول لك: هو فوق العرش وليس بجسم، ومنهم من يقول لك: هو فوق العالم وهو جسم، بمعنى أنه يشار إليه، لا بمعنى أنه مركب. ومنهم من يسلم لك أنه يلزم أن يكون مركباً، ومنهم من لا يطلق الألفاظ البدعية في النفي ولا الإثبات، بل يراعي المعاني العقلية والألفاظ الشرعية، فيقولون لك: القدر مشترك بينهما هو القيام بالنفس، فإنها كلها مشتركة في القيام بالنفس وفي التحيز وفي الجهة، فهذه أمور متلازمة. ويقول لك كثير منهم أو أكثرهم: لا يعقل قائم بنفسه غير متحيز، كما لا يعقل قائم بغيره إلا وهو صفة، سواء سمي عرضاً أو لم يسم، فإثبات المثبت قائماً بنفسه لا يشار إليه أمر لا يعقل عند عامة العقلاء، كإثباته قائماً بغيره ليس صفة له. يوضح ذلك أن الأجسام مختلفة على أصح قولي الناس، وإنما اشتركت في مسمى القيام بالنفس والمقدار، مع القيام بالنفس، فكما أن التحيز والجهة هما من لوازم المقدار العام، لا من لوازم ما يختص ببعضها، فكذلك هما من لوازم القيام بالنفس العام، لا من لوازم ما يختص ببعضها. وإن عنيت بلفظ الجسم ما هو مركب من المادة والصورة، أو من الجواهر المفردة، كما هو قول طوائف من أهل الكلام والفلسفة، فهنا المنازعون لك صنفان: منهم من يقول: هو جسم مركب من الجواهر المفردة، أو من المادة والصورة، وهؤلاء - وإن كان قولهم باطلاً - فليس لك حجة تبطل بها قولهم، بل هم على إبطال قولك أقدر منك على إبطال قولهم، فإن كل قول يكون أبعد عن الحق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 تكون حجج صاحبه أضعف من حجج من هو أقل خطأ منه. وقول المعطلة لما كان أبعد عن الحق من قول المجسمة، كانت حجج أهل التعطيل أضعف من حجج أهل التجسيم، ولما كان مرض التعطيل أعظم، كانت عناية الكتب الإلهية بالرد على أهل التعطيل أعظم، وكانت الكتب الإلهية قد جاءت بإثبات صفات الكمال على وجه التفصيل، مع تنزيهه عن أن يكون له فيها مثيل، بل يثبتون له الأسماء والصفات، وينفون عنه مماثلة المخلوقات، ويأتون بإثبات مفصل ونفي مجمل، فيثبتون أن الله حي، عليم، قدير، سميع، بصير، غفور، رحيم، ودود، إلى غير ذلك من الصفات، ويثبتون مع ذلك أنه لا ند له، ولا مثل له، ولا كفو له، ولا سمي له. ويقول تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] ، ففي قوله: {ليس كمثله شيء} رد على أهل التمثيل، وفي قوله: {وهو السميع البصير} رد على أهل التعطيل. ولهذا قيل: الممثل يعبد صنماً والمعطل يعبد عدماً. والمقصود هنا أن هؤلاء النفاة لا يمكنهم إقامة حجة على غلاة المجسمة الذين يصفونه بالنقائص، حتى الذين يقولون ما يحكى عن بعض اليهود أنه بكى على الطوفان حتى رمد، وأنه عض يده حتى جرى منه الدم ندماً، ونحو ذلك من المقالات التي هي من أفسد المقالات وأعظمها كفراً، ليس مع هؤلاء النفاة القائلين بأنه بداخل العالم ولا خارجه حجة عقلية يبطلون بها مثل هؤلاء الأقوال الباطلة، فكيف بما هو دونها من الباطل، فكيف بالأقوال الصحيحة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 وذلك أن عمدتهم على أن هذه الصفات تستلزم التجسيم وهو باطل، وعمدتهم في نفي التجسيم على امتناع اتصافه بالصفات، ويمسونه التركيب، أو على حدوث الجسم الذي مبناه على أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وعلى أن ما اختص بشيء فلا بد له من مخصص، من غير فرق بين الواجب بذاته القديم الأزلي وبين غيره، مع العلم بأنه لا بد للموجود الواجب من حقيقة يختص بها يتميز بها عما سواه، وأن ما اختصت به حقيقته يمتنع أن يكون لها مخصص، كما يمتنع أن يكون لوجوده الواجب موجب، أو لعلمه معلم، أو لقدرته مقدور، ونحو ذلك. وإذا كان كذلك فهؤلاء يقولون لك: الاختصاص بالحيز والجهة إنما كان لكون المختص بها قائما بالنفس، فيكون كل قائم بنفسه مختصاً بالحيز والجهة لذاته المخصوصة، فقد ظهر بطلان ذلك. وإن قلت: إنما اختص بالجهة المخصوصة والحيز المخصوص لذاته المخصوصة، لم ينازعوك في ذاك، بل يقولون: الاختصاص بجنس الجهة والحيز كان لجنس القيام بالنفس، فجنس الاختصاص لازم لجنس القيام بالنفس، فكل قائم بنفسه مختص بحيز وجهة، فقد تبين أن كونه متحيزاً ذا جهة لازم لعموم كونه جسماً، لا لخصوص جسم معين. وحينئذ فإن قلت: كما أن الاختصاص بالجهة والحيز من لوازم القيام بالنفس، فهو مستلزم لكونه جسماً. قالوا لك: ونحن نقول بذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 وكذلك إذا قلت لهم: كما لا تعقلون قائماً بنفسه إلا مختصاً بجهة وحيز، فلا تعقلون قائماً بنفسه إلا جسماً. قالوا لك: ونحن نقوم بذلك. فإذا شرعت معهم في نفي الجسم، كان لهم طريقان: أحدهما: أن يقولوا: هذا قدح في الضروريات بالنظريات: فلا نقبله، كما تقدم. والثاني: أن يبينوا بطلان أدلة النافية للتجسيم، وأن تعترف ببطلانها. فأنت في غير موضع من كتبك، ومن تقدمك، كالغزالي وغيره، تبينون فساد حجج المتكلمين على أن كل جسم محدث، وتقدحون فيها بما لا يمكن إبطاله، كما فعلت في المباحث المشرقية والمطالب العالية، بل كما فعل من بعدك الآمدي والآرموي وغيرهما، وأنتم في مواضع أخر تقدحون في حجج من احتج على أن الجسم مركب، وكل مركب فهو مفتقر بذاته، وتقدحون في أدلة الفلاسفة التي احتجوا بها على إمكان كل مركب، كما فعل ذلك الغزالي في تهافت الفلاسفة وكما فعله الرازي والآمدي وغيرهما. وهذه الحجة - وهي الاحتجاج بكون الرب قائماً بنفسه على كونه مشاراً إليه، وأنه فوق العالم - لما كانت حجة عقلية لا يمكن مدافعتها، وكانت مما ناظر به الكرامية لأبي إسحاق الإسفراييني، فر أبو إسحاق وغيره إلى إنكار كون الرب قائماً بنفسه بالمعنى المعقول، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 وقال: لا أسلم أنه قائم بنفسه إلا بمعنى أنه غني عن المحل، فجعل قيامه بنفسه وصفاً عدمياً لا ثبوتياً، وهذا لازم لسائرهم. ومعلوم أن كون الشيء قائماً بنفسه أبلغ من كونه قائماً بغيره، فإذا كان العرض القائم بغيره يمتنع أن يكون عدمياً، فقيام الجسم بنفسه أبلغ في الامتناع، وإذا كان المخلوق قائماً بنفسه، فمعلوم أن هذه صفة كمال تميز بها الجسم عن العرض، فخالق الجميع كيف لا يتصف إلا بهذه الصفة الكمالية. بل لا يكون قائماً بنفسه ولا بغيره إلا بمعنى عدمي، فيكون المخلوق مختصاً بصفة موجودة كمالية، والخالق لا يتصف إلا بالأمر العدمي، فيكون المخلوق متصفاً بصفة كمال وجودية، والخالق مختصاً بالأمر العدمي، والعدم لا يكون قط صفة كمال إلا إذا تضمن أمراً وجودياً، فما ليس بوجود ولا كمال في الوجود فليس بكمال، فإن لم يكن القيام بالنفس متضمناً لأمر وجودي، بل لا معنى له إلا العدم المحض، لم يكن صفة كمال، وعدم افتقاره إلى الغير أمر عدمي، والعدمي إن لم يتضمن صفة ثبوتية لم يكن صفة كمال، والعدم المحض لا يفتقر إلى محل، وكل صفة لا يشاركه فيها المعدوم لم تكن صفة كمال. وأما الصنف الثاني فهم يوافقونك على أن صانع العالم ليس بمركب من الجواهر المفردة، ولا من المادة والصورة، فليس هو بجسم. وحينئذ فقولك: إن اختصاص الجسم بالحيز والجهة، قد يكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 لذاته المخصوصة، إن عنيت بذاته المخصوصة هذا التركيب، فهذا المعنى ممنوع عنده، فضلاً عن أن يكون علة لهذا الحكم. وإن عنيت بذاته المخصوصة ما هو مشترك بين الأجسام من كونهاً مشاراً إليها، فلا يسلم لك أن في الوجود قائماً بنفسه غير مشار إليه. بقية كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة قال الرازي: في حجة خصمه: (وإذا كان في جهة كان في جهة فوق لأن اختصاص الأشرف بالأشرف هو المناسب) . قال: (والجواب: قوله: جهة فوق أشرف الجهات، خطابي لا يثبت به العقليات) . قال: (ولأن العالم كرة، فلا فوق إلا وهو تحت بالنسبة، ولأنه إن لم يكن لامتداده في جهة العلو نهاية، فكل نقطة فوقها نقطة أخرى، فلا شيء يفرض فيه إلا وهو سفل، وإن كان له نهاية كان فوق طرفه الأعلى خلاء أعلى منه، فلم يكن علواً مطلقاً، ولأن الشرف الحاصل بسبب الجهة للجهة بالذات، وللحاصل فيها بالعرض، فكان المكان في هذا الباب أشف منه، تعالى الله عن ذلك) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 الرد على الرازي وبيان تقرير العلو بالأدلة العقلية من طرق قلت: ولقائل أن يقول: تقرير العلو بالأدلة العقلية ثبت من طرق: الطريق الأول: أن يقال: إذا ثبت بالعقل أنه مباين للمخلوقات، وثبت أن العالم كري، وإن العلو المطلق فوق الكرة، لزم أن يكون في العلو بالضرورة. وهذه المقدمات عقلية ليس فيها خطابي، وذلك لأن العالم إذا كان مستديراً فله جهتان حقيقيتان: العلو والسفل فقط، وإذا كان مبايناً للعالم، امتنع أن يكون في السفل داخلاً فيه، فوجب أن يكون في العلو مبايناً له. وقد تقدم أن النافي قال: (إن العالم كرة) واستدل على ذلك بالكسوف القمري إذا كان يتقدم في الناحية الشرقية على الغربية. والقول بأن الفلك مستدير هو قول جماهير علماء المسلمين، والنقل بذلك ثابت عن الصحابة والتابعين، بل قد ذكر أبو الحسين بن المنادي، وأبو محمد بن حزم، وابن الجوزي، وغيرهم: أنه ليس في ذلك خلاف بين الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين، وقد نازع في ذلك طوائف من أهل الكلام والرأي، من الجهمية والمعتزلة وغيرهم. وقال الله تعالى: {وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون} [الأنبياء: 33] ، وقال: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} [يس: 40] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 قال ابن عباس وغيره: في فلكة، مثل فلكة المغزل. وفي حديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، «أن أعرابيا قال: يا رسول الله، جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه الصحابة، ثم قال: (ويحك أتدري ما الله؟ شأن الله أعظم من ذلك. إن الله لا يستشفع به أحد من خلقه، إن عرشه على سماواته هكذا، وقال بأصابعه مثل القبة، وأنه ليأط به أطيط الرحل الجديد براكبه» . وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. وإذا كان الخصم قد استدل بذلك، كان ذلك حجة عليه، فإذا كان العالم كرياً - وقد ثبت بالضرورة أنه: إما مداخل له، وإما مباين له وليس بمداخل له وجب أن يكون مبايناً له، وإذا كان مبايناً له، وجب أن يكون فوقه، إذ لا فوق غلا المحيط وما كان وراءه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 الطريق الثاني: أن يقال: علو الخالق على المخلوق وأنه فوق العالم، أمر مستقر في فطر العباد، معلوم لهم بالضرورة، كما اتفق عليه جميع الأمم، إقراراً بذلك وتصديقاً، من غير أن يتواطأوا على ذلك ويتشاعروا، وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون التصديق بذلك في فطرهم. الطريق الثالث: أن يقال: هم عندنا يضطرون إلى قصد الله وإرادته، مثل قصده عند الدعاء والمسألة، يضطرون إلى توجه قلوبهم إلى العلو، فكما أنهم مضطرون إلى دعائه وسؤاله، وهم مضطرون إلى أن يوجهوا قلوبهم إلى العلوم إليه لا يجدون في قلوبهم توجهاً إلى جهة أخرى، ولا استواء الجهات كلها عندها وخلو القلوب عن قصد جهة من الجهات بل يجدون قلوبهم مضطرة إلى أن تقصد جهة علوهم دون غيرها من الجهات. وهذا الوجه يتضمن بيان اضطرارهم إلى قصده في العلو، وتوجههم عند دعاءه إلى العلو، والأول يتضمن فطرتهم على الإقرار بأنه في العلو والتصديق بذلك، فهذا فطرة واضطرار إلى العلم والتصديق والإقرار، وذلك اضطرار إلى القصد والإرادة والعمل متضمن للعلم والتصديق والإقرار. الطريق الرابع: أن يقال: قوله (جهة فوق أشرف الجهات، خطابي) ليس كذلك، وذلك لأنه قد ثبت بصريح المعقول أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص، فإن الله يوصف بالكمال منهما دون النقص، فلما تقابل الموت والحياة وصف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 بالحياة دون الموت، ولما تقابل العلم والجهل وصف بالعلم دون الجهل، ولما تقابل القدرة والعجز وصف بالقدرة دون العجز، ولما تقابل الكلام والبكم وصف بالكلام دون البكم، ولما تقابل السمع والبصر والصمم والعمى، وصف بالسمع والبصر دون الصمم والعمى، ولما تقابل الغنى والفقر وصف بالغنى دون الفقر، ولما تقابل الوجود والعدم وصف بالوجود دون العدم، ولما تقابل المباينة للعالم والمداخلة له وصف بالمباينة دون المداخلة، وإذا كان مع المباينة لا يخلو إما أن يكون عالياً على العالم أو مسامتاً له، وجب أن يوصف بالعلو دون المسامتة، فضلاً عن السفول. والمنازع يسلم أنه موصوف بعلو المكانة وعلو القهر، وعلو المكانة معناه أنه أكمل من العالم، وعلوه القهر مضمونه أنه قادر على العالم، فإذا كان مبايناً للعالم، كان من تمام علوه أن يكون فوق العالم، لا محاذياً له، ولا سافلاً عنه، ولما كان العلو صفة كمال، كان ذلك كم لوازم ذاته، فلا يكون مع وجود غيره إلا عالياً عليه، لا يكون قط غير عال عليه. كما ثبت في الصحيح الذي في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» . ولهذا كان مذهب السلف والأئمة أنه مع نزوله إلى سماء الدنيا لا يزال فوق العرش. لا يكون تحت المخلوقات، ولا تكون المخلوقات محيطة به قط، بل هو العلي الأعلى: العلي في دنوه، القريب في علوه. ولهذا ذكر غير واحد إجماع السلف على أن الله ليس في جوف السماوات. ولكن طائفة من الناس قد يقولون: إنه ينزل ويكون العرش فوقه، ويقولون: إنه في جوف السماء، وإنه قد تحيط به المخلوقات وتكون أكبر منه. وهؤلاء ضلال جهال، مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول، كما أن النفاة الذين يقولون: ليس داخل العالم ولا خارجه جهال ضلال، مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول. فالحلولية والمعطلة متقابلان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 الطريق الخامس: أن يقال: إذا كان مبايناً للعالم: فإما أن يقدر محيطاً به، أو لا يقدر محيطاً به، سواء قدر أنه محيط به دائماً، أو محيط به في بعض الأوقات، كما يقبض يوم القيامة ويطوي السماوات، فإن قدر محيط به كان عالياً علو المحيط على المحاط به. وقد تقدم قولهم: (إن الفلك كري) فيلزم أن تكون الأفلاك محيطة بالأرض، فهي فوقها باتفاق العلماء، فما كان محيطاً بالجميع أولى بالعلو والارتفاع، سبحانه وتعالى وإن لم يكن مماثلاً لشيء من المخلوقات ولا مجانساً لأفلاك ولا غيرها. وإن لم يقدر محيطاً به، فإن كان العالم كرياً، وليس لبعض جهاته اختصاص بالعلو، فإذا كان مبايناً له لزم أن يكون عالياً، كيفما كان الأمر. وإن قدر أن العالم ليس بكري، أو هو كري ولكن بعض جهاته لها اختصاص بالعلو، مثل أن تقول: إن الله وضع الأرض وبسطها للأنام، فالجهة التي تلي رؤوس الناس هي جهة العلو من العالم دون الأخرى. فحينئذ إذا كان مبايناً، وقدر أنه غير محيط، فلا بد من اختصاصه بجهة العلو أو غيرها. ومن المعلوم أن جهة العلو أحق بالاختصاص، لأن الجهة العالية أشرف بالذات من السافلة، ولهذا اتفق العلماء على أن جهة السماوات أشرف من جهة الأرض، وجهة الرأس أشرف من جهة الرجل، فوجب اختصاصه بخير النوعين وأفضلهما، إذ اختصاصه بالناقص المرجوح ممتنع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 وأما قول النافي: (ولأن العالم كرة، فلا فوق إلا وهو تحت بالنسبة) . فيقال له: هذا خطأ، لما تقدم من أن المحيط باتفاق العقلاء عال على المركز، وأن العقلاء متفقون على أن الشمس والقمر والكواكب، إذا كانت في السماء، فلا تكون إلا فوق الأرض، وكذلك السحاب والطير في الهواء. وأيضاً فإن هذا التحت أمر خيالي وهمي لا حقيقة له، وليس فيه نقص، كالمعلق برجليه لا تكون السماء تحته إلا في الوهم الفاسد، والخيال الباطل، وكذلك النملة الماشية تحت السقف. فالشمس والقمر والنجوم السابحة في أفلاكها، لا تكون بالليل تحتنا إلا في الوهم والخيال الفاسد. وأيضاً فإنه مع كونه كرياً لا يمتنع أن نختص إحدى جهتيه بوصف اختصاص، ألا ترى أن الأرض مع قولهم، إنها كرية، فإن هذه الجهة التي عليها الحيوان والنبات والمعدن، أشرف من الجهة التي غمرها الماء؟ وإذا كانت هذه الجهة أشرف جهتي الأرض، لم يمتنع أن يكون ما يحاذيها أشرف مما يحاذي الجهة الأخرى، فما كان فوق الأفلاك من هذه الجهة أشرف مما يكون من تلك الجهة الأخرى. ومما يوضح ذلك أن مقتضى طبيعة الماء والتراب عند من يعتبر ذلك، أن يكون الماء قد غمر الأرض كلها من هذه الناحية، كما غمرها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 من تلك الناحية، لأن الماء بالطبع يعلو على التراب، ومع هذا اختص هذا الوجه بأن الماء ممنوع عنه. وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ليلة إلا والبحر يستأذن ربه في أن يغرق بني آدم فيمنعه ربه» . وأهل الطبع والحساب قد حاروا في سبب جفاف هذا الوجه، حتى قالوا: هذا سببه عناية الرب، مع أن هذا عندهم إذا قالوه ينقص مذاهبهم. وإذا كان هذا فيما شوهد، فما المانع أن يكون فوق الأفلاك من هذا الجانب ما هو مختص بأمر يقتضي اختصاص الرب بالعلو عليه من هذا الوجه؟ . تابع لكلام الرازي في لباب الأربعين وأما قوله: (إن لم يكن لامتداده في جهة العلو نهاية، فكل نقطة فوقها أخرى، فلا شيء يفرض فيه إلا وهو سافل، وإن كان له نهاية كان فوق طرف العلو خلاء أعلى منه، فلم يكن علواً مطلقاً) . الرد عليه من وجوه: الوجه الأول أن يقال: العلي الأعلى هو الذي ليس فوقه شيء أصلاً. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح: «أنت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء» . وحينئذ فهذا الخلق المذكور: إما أن يكون شيئاً موجوداً، وإما أن يكون شيئاً موجوداً، فإن كان الأول فهو من العالم والله فوقه إذ هو العلي الأعلى، الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وإن لم يكن شيئاً موجوداً، فهذا لا يوصف بأنه فوق غيره ولا تحته، ولا يقال: إن تحته شيء ولا فوقه شيء، إذ هو عدم محض، ونفي صرف، فلا يجوز أن يقال: إن فوق الله شيء، والعدم ليس بشيء، لا سيما العدم الممتنع، فإنه ليس بشيء باتفاق العقلاء، ويمتنع أن يكون فوق الله شيء، فهو عدم ممتنع. الوجه الثاني أن يقال غاية الكمال في العلو أن لا يكون فوق العالي شيء موجود، والله موصوف. وما ذكرته من الخلاء إذا قدر أنه لا بد منه، لم يقدح ذلك في علوه الذي يستحقه، كما أنه سبحانه موصوف على كل شيء قدير، والممتنع بنفسه الذي ليس بشيء ولا يدخل في العموم لا يكون عدم دخوله نقص في قدرته الشاملة. وكذلك هو سبحانه بكل شيء عليم، فيعلم الأشياء على ما هي عليه، فما لم يكن موجوداً لا يعلمه موجوداً، كما قال تعالى {قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} [يونس: 18] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 ولا يكون نفي هذا العلم نقصاً، بل هو من تمام كماله، لأنه يقتضي أن يعلم الأشياء على ما هو عليه، ونظائر هذا كثيرة. الوجه الثالث أن يقول له إخوانه الذين يقولون: أنه لا نهاية له في ذاته: قوله: (إن ما لا يتناهى فكل نقطة منها فوقها نقطة، فكل شيء، منه سفل) - لا يقدح في مطلوبنا، فإن مقصودنا أن لا يكون غيره أعلى منه، بل هو عال على كل موجود، ثم بعد ذلك إذا قدرت أنه ما منه شيء إلا وغيره منه أعلى منه، لم يقدح هذا في مقصوده ولا في كماله، فإنه لم يعل على شيء منه إلا ما هو لا من غيره. وأيضاً فإن مثل هذا لا بد منه، والواجب إثبات صفات الكمال بحسب الإمكان. وأيضاً فإن مثل هذا كمال في العلو، ولا يقدح في العالي، أن يكون بعضه أعلى من بعض إذا لم يكن بعضه عالياً عليه. وأيضاً فإن الناس متنازعون في صفاته: هل بعضها أفضل من بعض، مع أنها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه؟ وهل بعض كلامه أفضل من بعض مع كمال الجميع؟ والسلف والجمهور على أن بعض كلامه أفضل من بعض، وبعض صفاته أفضل من بعض، مع كونها كلها كاملة لا نقص فيها، كما دلت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 على ذلك نصوص الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} [البقرة: 106] . «وكقوله صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه: إن رحمتي تغلب غضبي» وفي لفظ: «سبقت غضبي» . وقوله: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] . تعدل ثلث القرآن. وقوله في فاتحة الكتاب: لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها. فنفى أن يكون لها مثل. وقوله عن آية الكرسي أنها أعظم آية في القرآن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 وقوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» . وقوله: «يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه، والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع» ، فأخبر أن الفضل بيده اليمنى، والقسط بيده الأخرى، مع أن كلا يديه يمين. كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» . فإذا كانت صفاته كلها كاملة لا نقص فيها، وبعضها أفضل من بعض، لم يمتنع أن هو العالي علواً مطلقاً، وإن كان منه ما هو أعلى من غيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 كلام آخر للرازي في لباب الأربعين وأما قوله: (إن الشرف الحاصل بسبب الجهة لها بالذات، وللحاصل فيها بالعرض) . الرد عليه من وجوه فجوابه من وجوه: إن هذا إنما يمكن أن يقال إذا كانت الجهة أمراً وجودياً، فأما إذا كانت أمراً عدمياً - والمراد بذلك أنه فوق العالم مباين له ليس معه هناك موجود غيره - لم يكن هناك شيء موجود غيره يستحق العلو، لا جهة ولا غيرها، فضلاً عن أن يستحق غيره العلو والشرف والذات. وهؤلاء يتكلمون بلفظ الجهة والحيز والمكان، ويعنون بها تارة أمراً معدوماً، وتارة أمراً موجوداً، ولهذا كان أهل الإثبات، من أهل الحديث والسلفية من جميع الطوائف، فمنهم من يطلق لفظ (الجهة) ومنهم من لا يطلقه، وهما قولان لأصحاب أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم من أهل الحديث والرأي. وكذلك لفظ (المكان) منهم من يطلقه ومنهم من يمنع منه. وأما لفظ (المتحيز) فمنهم من ينفيه، وأكثرهم لا يطلقه ولا ينفيه، لأن هذه ألفاظ مجملة تحتمل حقاً وباطلاً. وإذا كان كذلك فيقال: قول القائل (إن الله في جهة أو حيز أو مكان) إن أراد به شيئاً موجوداً غير الله، فذلك من جملة مخلوقاته ومصنوعاته، فإذا قالوا: إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، امتنع أن يكون محصوراً أو محاطاً بشيء موجود غيره، سواء سمى مكاناً أو جهة أو حيزاً أو غير ذلك، ويمتنع أيضاً أن يكون محتاجاً إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 شيء من مخلوقاته: لا عرش ولا غيره، بل هو بقدرته الحامل للعرش ولحملته، فإن البائن عن المخلوقات العالي عليها يمتنع أن يكون في جوف شيء منها. إذا قيل: إنه في السماء، كان المعنى إنه في العلو، وهو مع ذلك فوق كل شيء، ليس في جوف السماوات، فإن السماء هو العلو، وكل ما علا فهو سماء. يقال: سما، يسمو، سمواً، أي علا، يعلو، علواً. وهذا اللفظ يعم كل ما يعلو، لم يخص بعض أنواعه بسبب القرينة. فإذا قيل: فليمدد بسبب إلى السماء، فقد يراد به السقف، وإذا قيل: نزل المطر من السماء، كان نزوله من السحاب، وإذا قيل: العرش في السماء فالمراد به ما فوق الأفلاك. وإذا قيل: الله في السماء، فالمراد بالسماء ما فوق المخلوقات كلها، أو يراد: أنه فوق السماء وعليها، فأما أن يكون في جوف السماوات فليس هذا قول أهل الإثبات، أهل العلم والسنة، ومن قال بذلك فهو جاهل، كمن يقول: إن الله ينزل ويبقى العرش فوقه، أو يقول: إنه يحصره شيء من مخلوقاته، فهؤلاء ضلال، كما أن أهل النفي ضلال. وإن أراد بمسمي الجهة والحيز والمكان أمراً معدوماً، فالمعدوم ليس شيئاً، فإذا سمى المسمى ما فوق المخلوقات كلها حيزاً وجهة ومكاناً، كان المعنى: أن الله وحده هناك، ليس هناك غيره من الموجودات: لا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 جهة ولا حيز ولا مكان، بل هو فوق كل موجود من الأحياز والجهات والأمكنة وغيرها، سبحانه وتعالى. الوجه الثاني إن يقال: لو عارضكم معارض، وقال: الجهة وإن كانت موجودة فهي مخلوقة له مصنوعة، وهي مفتقرة إليه، وهو مستغن عنها، فإن العرش مثلاً إذا سمي جهة ومكاناً وحيزاً، فالله تعالى هو ربه وخالقه، والعرش مفتقر إلى الله افتقار المخلوق إلى خالقه، والله غني عنه من كل وجه، فليس في كونه فوق العرش، وفوق ما يقال له جهة ومكان وحيز - وإن كان موجوداً - إثبات شرف لذلك المخلوق أعظم من شرف الله تعالى. وهذا قد يجيب به من يثبت الخلاء ويجعله مبدعاً لله تعالى. الوجه الثالث إنه إذ كان عالياً على ما يسمى جهة ومكاناً، كان هو أعلى منه، فأي شرف وعلو كان لذلك الموجود بالذات أو بالعرض، فعلو، فعلو الله أكمل منه. الوجه الرابع أن يقال: لا نسلم أن العلو الحاصل بسبب الجهة هو لها بالذات ولغيرها بالعرض، إذ الجهة تابعة لغيرها، سواء كانت موجودة أو معدومة، وعلوها تبع لعلو العالي بها، فكيف يكون العلو للتابع بالذات وللمتبوع بالعرض؟ ‍‍! وقولنا: (عال بالجهة) مثل قولنا: عال بالعلو، وعالم بالعلم، وقادر بالقدرة، أو عال علو المكانة، أو عال القهر، فليس في ذلك ما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 يوجب أن تكون المكانة والقهر والعلو والعلم أكمل من القاهر العالم العالي ذي المكانة العالية، ومهما قدر أنه يسمى جهة فإما أن يكون عدماً فلا شرف له أصلاً، وإما أن يقدر موجوداً: إما صفة لله، وإما مخلوقاً لله، وعلى التقديرين فالموصوف أكمل من الصفة، والخالق أكمل من المخلوق، فكيف تكون الصفات والمخلوقات أكمل من الموصوف الخالق سبحانه وتعالى؟ ! . الوجه الخامس أن الجهة قد نعني بها نسبة وإضافة، كاليمين واليسار، والأمام والوراء فالعلو إذا سمي جهة بهذا الاعتبار، كان العالي بالجهة معناه: أن بينه وبين ما هو عال عليه نسبة وإضافة أوجبت أن يكون هذا فوق هذا، فهل يقال: إن هذه النسبة والإضافة التي بها وصف العالي بأنه عال أكمل من ذاته العالية الموصوفة بهذا العلو والنسبة. الوجه السادس أن يقال: هذا الذي قاله إنما يتوجه في المخلوق إذا علا على سقف أو منبر أو عرش أو كرسي أو نحو ذلك، فإن ذلك المكان كان عالياً بنفسه، وهذا صار عالياً لما صار فوقه بسبب علو ذلك. فالعلو لذلك السقف والسرير والمنبر بالذات، ولهذا الذي صعد عليه بالعرض. فكلامهم يتوجه في مثل هذا، وهذا في حق الله وهم وخيال فاسد، وتمثيل لله بخلقه، وتشبيه له بهم من صفات النقص التي يتعالى عنها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 وهؤلاء النفاة كثيراً ما يتكلمون بالأوهام والخيالات الفاسدة، ويصفون الله بالنقائص والآفات، ويمثلونه بالمخلوقات، بل بالناقصات، بل بالمعدومات، بل بالممتنعات، فكل ما يضيفونه إلى أهل الإثبات الذين يصفونه بصفات الكمال وينزهونه عن النقائص والعيوب، وأن يكون له في شيء من صفاته كفوا أو سمي، فما يضيفونه إلى هؤلاء من زعمهم أنهم يحكمون بموجب الوهم والخيال الفاسد، أو أنهم يصفون الله بالنقائص والعيوب، أو أنهم يشبهونه بالمخلوقات، هو بهم أخلق، وهو بهم أعلق، وهم به أحق، فإنك لا تجد أحداً سلب الله ما وصف به نفسه من صفات الكمال، إلا وقواه يتضمن لوصفه بما يستلزم ذلك من النقائص والعيوب ولمثيله بالمخلوقات، وتجده قد توهم وتخيل أوهاماً وخيالات فاسدة غير مطابقة بنى عليها قوله من جنس هذا الوهم والخيال، وأنهم يتوهمون ويتخيلون أنه إذا كان فوق العرش كان محتاجاً إلى العرش، كما أن الملك إذا كان فوق كرسيه كان محتاجاً إلى كرسيه. وهذا عين التشبيه الباطل، والقياس الفاسد، ووصف الله بالعجز والفقر إلى الخلق، وتوهم أن استواءه مثل استواء المخلوق، أو لا يعلمون أن الله يجب أن نثبت له صفات الكمال وننفي عنه مماثلة المخلوقات؟ وأنه: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] ، لا في ذاته ولا في صفاته ولا أفعاله؟ فلا بد من تنزيهه عن النقائص والآفات ومماثلة شيء من المخلوقات، وذلك يستلزم إثبات صفات الكمال والتمام، التي ليس فيها كفو لذي الجلال والإكرام. وبيان ذلك هنا أن الله مستغن عن كل ما سواه، وهو خالق كل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 مخلوق، ولم يصر عالياً على الخلق بشيء من المخلوقات، بل هو سبحانه خلق المخلوقات، وهو بنفسه عال عليها، لا يفتقر إلى علوه عليها إلى شيء منها، كما يفتقر المخلوق إلى ما يعلو عليه من المخلوقات، وهو سبحانه حامل بقدرته للعرش ولحملة العرش. وفي الأثر: أن الله لما خلق العرش أمر الملائكة بحمله، قالوا: ربنا كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك؟ فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله. فإنما أطاقوا حمل العرش بقوته تعالى، والله إذا جعل في مخلوق قوة أطاق المخلوق حمل ما شاء أن يحمله من عظمته وغيرها، فهو بقوته وقدرته الحامل للحامل والمحمول، فكيف يكون مفتقراً إلى شيء؟ وأيضاً فالمحمول من العباد بشيء عال، لو سقط ذلك العالي سقط هو، والله أغنى وأجل وأعظم من أن يوصف بشيء من ذلك. وأيضاً فهو سبحانه خلق ذلك المكان العالي والجهة العالية والحيز العالي، إذا قدر شيئاً موجوداً، كما لو جعل ذلك اسماً للعرش، وجعل العرش هو المكان العالي، كما في شعر حسان: تعالى علواً فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 فالمقصود أنه خلق المكان وعلاه، وبقوته صار عالياً، والشرف الذي حصل لذلك المكان العالي منه، ومن فعله وقدرته ومشيئته، فإذا كان هو عالياً على ذلك وهو الخالق له، وذلك مفتقر إليه من كل وجه، وهو مستغن عنه من كل وجه، فكيف يكون قد استفاد العلو منه، ويكون ذلك المكان أشرف منه. وإنما صار له الشرف به، والله مستحق للعلو والشرف بنفسه، لا بسبب سواه، فهل هذا وأمثاله إلا من الخيالات والأوهام الباطلة، التي تعارض بها فطرة الله التي فطر الناس عليها، والعلوم الضرورية، والقصود الضرورية، والعلوم البرهانية القياسية، والكتب الإلهية، والسنن النبوية، وإجماع أهل العلم والإيمان من سائر البرية؟ . تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو قال الرازي في حجة خصمه: (ولأن الخلق بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم إليها عند التضرع والدعاء) . وأجاب عن ذلك بأن رفع الأيدي إلى السماء معارض لوضع الجبهة على الأرض. الرد عليه من وجوه: الوجه الأول أن يقال: وضع الجبهة على الأرض لم يتضمن قصدهم لأحد في السفل، بل السجود بها يعقل أنه تواضع وخضوع للمسجود له، لا طلب وقصد ممن هو في السفل، بخلاف رفع الأيدي إلى العلو عند الدعاء، فإنهم يقصدون به الطلب ممن هو في العلو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 والاستدلال هو بقصدهم القائم بقلوبهم، وما يتبعه من حركات أبدانهم، والداعي يجد من قلبه معنى يطلب العلو، والساجد لا يجد من قلبه معنى يطلب السفل، بل الساجد أيضاً يقصد في دعائه العلو، فقصد العلو عند الدعاء يتناول القائم والقاعد والراكع والساجد. الوجه الثاني أن وضع الجبهة على الأرض يفعله الناس لكل من تواضعوا له من أهل الأرض والسماء، ولهذا يسجد المشركون للأصنام والشمس والقمر سجود عبادة، وقد سجد ليوسف أبواه وإخوته سجود تحية لا عبادة، لكون ذلك كان جائزاً في شرعهم، وأمر الله الملائكة بالسجود لآدم، والسجود لا يختص بمن هو في الأرض، بل لا يكاد يفعل لمن هو في بطنها، بل لمن هو على ظهرها عال عليها، وأما توجيه القلوب والأبصار والأيدي عند الدعاء إلى السماء فيفعلونه إذا كان المدعو في العلو، فإذا دعوا الله فعلوا ذلك، وإن قدر منهم من يدعوا الكواكب ويسألها، أو يدعوا الملائكة، فإنه يفعل ذلك. فعلم أن قصدهم بذلك التوجه إلى جهة المدعو المسؤول، الذي يسألونه ويدعونه، حتى لو قدر أن أحدهم يدعو صنماً أو غيره مما يكون على الأرض لكان توجه قلبه ووجهه وبدنه إلى جهة معبوده الذي يسأله ويدعوه، كما يفعل النصارى في كنائسهم، فإنهم يوجهون قلوبهم وأبصارهم وأيديهم إلى الصور المصورة في الحيطان، وإن كان قصدهم صاحب الصورة، وكذلك من قصد الموتى في قبورهم، فإنه يوجه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 قصده وعينه إلى من في القبر، فإذا قدر أن القبر أسفل منه توجه إلى أسفل، وكذلك عابد الصنم إذا كان فوق المكان الذي فيه الصنم، فإنه يوجه قلبه وطرفه إلى أسفل، لكون معبوده هناك. فعلم بذلك أن الخلق متفقون على أن توجيه القلب والعين واليد عند الدعاء إلى جهة المدعو، فلما كانوا يوجهون ذلك إلى جهة السماء عند الله، علم إطباقهم على أن الله في جهة السماء. الوجه الثالث أن الواحد منهم إذا اجتهد في الدعاء حال سجوده يجد قلبه بقصد العلو، مع أن وجهه يلي الأرض، بل كلما ازداد وجهه ذلاً وتواضعاً، ازداد قلبه قصداً للعلو، كما قال تعالى: {واسجد واقترب} [العلق: 19] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» . فعلم أنهم يفرقون بين توجه وجوههم في حال السجود إلى الأرض. وتوجيه القلوب في حال الدعاء إلى من في السماء. والقلوب حال الدعاء لا تقصد إلا العلو، وأما الوجوه والأيدي فيتنوع حالها، تارة تكون في حال السجود إلى جهة الأرض، لكون ذلك غاية الخضوع، وتارة تكون حال القيام مطرقة، لكون ذلك أقرب إلى الخشوع، وتارة تتوجه إلى السماء لتوجه القلب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن رفع البصر في الصلاة إلى السماء، وقال لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم» . وأما رفع البصر حال الدعاء خارج الصلاة، ففيه نزاع بين العلماء، وإنما نهي عن رفع البصر في الصلاة لأنه ينافي الخشوع المأمور به في الصلاة. قال تعالى: {فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر * خشعا أبصارهم} [القمر: 6-7] . وقال: {يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون * خاشعة أبصارهم} [المعارج: 43-44] . وقال: {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} [الشورى: 45] . ورأى عمر رضي الله عنه رجلاً يصلي وهو يلتفت، فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه. فخشوع القلب يستلزم خشوع البصر وذله، وذلك ينافي رفعه وفي اعتبار هذا في الدعاء نزاع. ولهذا يوجد من يخاطب المعظم عنده لا يرفع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 بصره إليه. ومعلوم أنه كانت الجهات بالنسبة إلى الله سواء لم نؤمر بهذا. الوجه الرابع أن السجود من باب العبادة والخضوع للمسجود له، كالركوع والطواف بالبيت. وأما السؤل والدعاء ففيه قصد المسؤول المدعو، وتوجيه القلب نحوه، لا سيما عند الضرورة، فإن السائل الداعي يقصد بقلبه جهة المدعو المسؤول بحسب ضرورته واحتياجه إليه. وإذا كان كذلك، كان رفع رأسه وطرفه ويديه إلى جهة، متضمن لقصده إياه في تلك الجهة، بخلاف الساجد فإنه عابد ذليل خاشع، وذلك يقتضي الذل والخضوع، ليس فيه ما يقتضي توجيه الوجه واليد ونحوه، لكن إن كان داعياً وجه قلبه إليه، وهذا حجة من فرق بين رفع البصر في حال الصلاة وحال الدعاء. الوجه الخامس أن يقال: قصد القلوب للمدعو في العلو أمر فطري عقلي اتفقت عليه الأمم من غير مواطأة، وأما السجود فأمر شرعي يفعل طاعة للآمر، كما تستقبل الكعبة حال العبادة طاعة للآمر. وحينئذ فالاحتجاج بما في فطر العباد من قصد من في العلو، وهذا لا معارض له. تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو قال (واحتج الخصم أيضاً بالآيات الواردة الموهمة للجهة، كقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، وقوله: {يخافون ربهم من فوقهم} [النحل: 50] ، وقوله: {وهو القاهر فوق عباده} [الأنعام: 61] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 قال: (والجواب أن الظواهر النقلية إذا عارضت الدلائل العقلية لم يمكن تصديقهما ولا تكذيبهما، لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما، ولا تصديق النقل وتكذيب العقل، لأن العقل أصل النقل، فتكذيبه لتصديقه يوجب تكذيبهما، فتعين تصديق العقل، وتفويض علم النقل إلى الله، أو الاشتغال بتأويل الظاهر) . الرد عليه وجواب هذا أن يقال: القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بعد تدبر ذلك، كالعلم بالأكل والشرب في الجنة، والعلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، والعلم بأن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، والعلم بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما، بل نصوص العلو قد قيل إنها تبلغ مئين من المواضع. والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين متواترة موافقة لذلك، فلم يكن بنا حاجة إلى نفي ذلك من لفظ معين، قد يقال إنه يحتمل التأويل، ولهذا لم يكن بين الصحابة والتابعين نزاع في ذلك، كما تنطق بذلك كتب الآثار المستفيضة المتواترة في ذلك، وهذا يعلمه من له عناية بهذا الشأن، أعظم مما يعلمون أحاديث الرجم والشفاعة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 والحوض والميزان، وأعظم مما يعلمون النصوص الدالة على خبر الواحد والإجماع والقياس، وأكثر مما يعلمون النصوص الدالة على الشفعة، وسجود السهو، ومنع نكاح المرأة على عمتها وخالتها، ومنع ميراث القاتل، ونحو ذلك مما يتلقاه عامة الأمة بالقبول. ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين، والأمور المعلومة بالضرورة عند السلف والأئمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة لبعض الناس: إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول، فيكون حين انصرافه عن الاستماع والتدبر غير محصل لشرط العلم، بل يكون ذلك الامتناع مانعاً له من حصول العلم بذلك، كما يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه، مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه، وكما يحصل لمن لا يصغي إلى استماع كلام غيره وتدبره، لا سيما إذا قام عنده اعتقاد إن الرسول لا يقول مثل ذلك، فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري. ولهذا كان كثير من علماء اليهود والنصارى يؤمنون بأن محمداً رسول الله، وأنه صادق، ويقولون: إنه لم يرسل إليهم، بل إلى الأميين، لأنهم أعرضوا عن سماع الأخبار المتواترة والنصوص المتواترة، التي تبين أنه كان يقول: إن الله أرسله إلى أهل الكتاب، بل أكثرهم لا يقرون بأن الخليل بنى الكعبة هو وإسماعيل، ولا أن إبراهيم ذهب إلى تلك الناحية، مع أن هذا من أعظم الأمور تواتراً لإعراضهم. وكثير من الرافضة تنكر أن يكون أبو بكر وعمر مدفونين عند النبي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 صلى الله عليه وسلم، وفي الغالية من يقول: إن الحسن والحسين لم يكونا ولدين لعلي، وإنما ولدهما سلمان الفارسي، وكثير من الرافضة لا تعلم أن علياً زوج بنته لعمر، ولا أنه كان له ابن كان يسمى عمر. وأما دعوى التقية والإكراه فهذا شعار المذهب عندهم. وبعض المعتزلة أنكر وقعة الجمل وصفين، وكثير من الناس لا يعلمون وقعة الحرة، ولا فتنة ابن الأشعث وفتنة يزيد بن المهلب، ونحوها من الوقائع المتواترة المشهورة. بل كثير من الناس، بل من المنسوبين إلى العلم، لا يعلمون مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم المواترة المشهورة وترتيبها، وما كان فيه قتال أو لم يكن، فلا يعلمون أيما قبل: بدر أو أحد؟ وأيما قبل: الخندق أو خيبر؟ وأيما قبل: فتح مكة أو حصار الطائف؟ ولا يعلمون هل كان في تبوك قتال أو لم يكن؟ ولا يعلمون عدد أولاد النبي صلى الله عليه وسلم: الذكور والإناث، ولا يعلمون كم صام رمضان، وكم حج واعتمر، ولا كم صلى إلى بيت المقدس بعد هجرته؟ ولا أي سنة فرض رمضان؟ ولا يعلمون هل أمر بصوم يوم عاشوراء في عام واحد أو أكثر؟ ولا يعلمون هل كان يداوم على قصر الصلاة في السفر أم لا؟ ولا يعلمون هل كان يجمع بين الصلاتين، وهل كان يفعل ذلك كثيراً أم قليلاً؟ . إلى أمثال هذه الأمور التي كلها معلومة بالتواتر عند أهل العلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 بأحواله، وغيرهم، ليس عنده فيها ظن فضلاً عن علم، بل ربما أنكر ما تواتر عنه؟ . ومعلوم أن أئمة الجهمية النفاة والمعتزلة وأمثالهم، من أبعد الناس عن العلم بمعاني القرآن والأخبار وأقوال السلف، وتجد أئمتهم من أبعد الناس عن الاستدلال بالكتاب والسنة، وإنما عمدتهم في الشرعيات على ما يظنونه إجماعاً، مع كثرة خطئهم فيما يظنونه إجماعاً، وليس بإجماع، وعمدتهم في أصول الدين على ما يظنونه عقليات، وهي جهليات، لا سيما مثل الرازي وأمثاله، الذين يمنعون أن يستدل في هذه المسائل بالكتاب والسنة. واعتبر ذلك بما تجده في كتب أئمة النفاة، مثل أبي الحسين البصيري وأمثاله، ومثل أبي حامد، والرازي، وأمثالهما. فأبو الحسين البصيري، وأمثاله من المعتزلة، يعتمدون في أصول دينهم على أحاديث قد يجمعها عبد الوهاب بن أبي حية البغدادي، فيها الكذب والضعف، وأضعافها من الأخبار المتواترة لا يعرفونها البتة، حتى يعتقدون أنه ليس في الرؤية إلا حديث جرير بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 الشمس وقبل غروبها فافعلوا» . ويقولون: هذا لم يروه إلا قيس بن أبي حازم، وكان يبغض علياً، فيظنون أنه ليس في الرؤية إلا هذا الحديث. وأهل العلم بالحديث يعلمون أحاديث الرؤية متواترة، أعظم من تواتر كثير مما يظنونه متواتراً، وقد احتج أصحاب الصحيح منها أكثر مما خرجوه في الشفعة، والطلاق، والفرائض، وسجود السهو، ومناقب عثمان وعلي، وتحريم المرأة على عمتها وخالتها، والمسح على الخفين، والإجماع، وخبر الواحد، والقياس، وغير ذلك من الأبواب الذين يقولون إن أحاديثها متواترة. فأحاديث الرؤية أعظم من حديث كل نوع من هذه الأنواع، وفي الصحاح منها أكثر مما فيها من هذه الأنواع. مثل حديث أبي هريرة الطويل في تجليه يوم القيامة، ومرورهم على الصراط، وهو في الصحيح أيضاً، من حديث أبي سعيد، ومن حديث جابر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 وفي الصحيحين حديث أبي موسى في رؤيته في الجنة. وفي الصحيحين في حديث الشفاعة رؤيته لربه. وفي الصحيح حديث صهيب في رؤية أهل الجنة. وأما أحاديث العلو وما يتضمن هذا المعنى، فأضعاف أضعاف أحاديث الرؤية. فأبو الحسين وأمثاله من المعتزلة، وكذلك الغزالي والرازي وأمثالهما من فروع الجهمية، هم من أقل الناس علماً بالأحاديث النبوية وأقوال السلف في أصول الدين، وفي معاني القرآن، وفيما بلغوه من الحديث، حتى أن كثيراً منهم لا يظن أن السلف تكلموا في هذه الأبواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 ومن كان له علم بهذا الباب، علم أن كلام السلف في هذه المسائل الأصولية، كمسائل العلو وإثبات الصفات الخبرية وغير ذلك. أضعاف أضعاف كلامهم في مسائل الجد، والإخوة، والطلاق، والظهار، والإيلاء، وتيمم الجنب، ومس المحدث للمصحف، وسجود السهو، ومسائل الإيمان، والنذور والفرائض، وغير ذلك مما تواتر به النقل عنهم. وهذا الأصل قد بسطناه في مواضع، مثل كلامنا في تواتر معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك، مما يحتاج إلى معرفة هذا الأصل، وأنه قد يتواتر عند أهل العلم بالشيء ما لا يتواتر عند غيرهم. وأهل العلم بالحديث أخص الناس بمعرفة ما جاء به الرسول. ومعرفة أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإليهم المرجع في هذا الباب، لا إلى من هو أجنبي عن معرفته، ليس له معرفة بذلك، ولولا أنه قلد في الفقه لبعض الأئمة، لكان في الشرع مثل آحاد الجهال من العامة. فإن قيل: قلت إن أكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول، وأقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين، وما بلغوه عن الرسول، ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك. قيل: هؤلاء أنواع: نوع ليس لهم خبرة بالعقليات، بل هم يأخذون ما قاله النفاة عن الحكم والدليل، ويعتقدونها براهين قطعية، وليس لهم قوة على الاستقلال بها، بل هم في الحقيقة مقلدون فيها، وقد اعتقد أقوال السلف أولئك، فجميع ما يسمعونه من القرآن والحديث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك، بل إما أن يظنوه موافقاً لهم، وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه. وهذه حال مثل أبي حاتم البستي، وأبي سعد السمان المعتزلي، ومثل أبي ذر الهروي، وأبي بكر البيهقي، والقاضي عياض، وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي الحسن علي ابن المفضل المقدسي، وأمثالهم. والثاني: من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد ويغلط فيها، كما غلط غيره، فيشارك الجهمية في بعض أصولهم الفاسدة، مع أنه لا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 يكون له من الخبرة بكلام السلف والأئمة من هذا الباب ما كان لأئمة السنة، وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما. وهذه حال أبي محمد بن حزم، وأبي الوليد الباجي، والقاضي أبي بكر بن العربي، وأمثالهم. ومن هذا النوع بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي، وأمثالهما. ونوع ثالث سمعوا الأحاديث، والآثار، وعظموا مذهب السلف. وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار، ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها. وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض. وهذا حال أبي بكر بن فورك، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل وأمثالهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل، كما فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار. وتارة يفوضون معانيها، ويقولون: تجري على ظواهرها، كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك. وتارة يختلف اجتهادهم، فيرجحون هذا تارة وهذا تارة، كحال ابن عقيل وأمثاله. وهؤلاء قد يدخلون في الأحاديث المشكلة ما هو كذب موضوع، ولا يعرفون أنه موضوع، وما له لفظ يدفع الإشكال، مثل أن يكون رؤيا منام، فيظنونه كان في اليقظة ليلة المعراج. ومن الناس من له خبرة بالعقليات المأخوذة عن الجهمية وغيرهم، وقد شاركهم في بعض أصولها، ورأى ما في قولهم من مخالفة الأمور المشهورة عند أهل السنة، كمسألة القرآن والرؤية، فإنه قد اشتهر عند العامة والخاصة أن مذهب السلف وأهل السنة والحديث: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، فأراد هؤلاء أن يجمعوا بين نصر ما اشتهر عند أهل السنة والحديث، وبين موافقة الجهمية في تلك الأصول العقلية، التي ظنها صحيحة، ولم يكن لهم من الخبرة المفصلة بالقرآن ومعانيه، والحديث وأقوال الصحابة، ما لأئمة السنة والحديث، فذهب مذهباً مركباً من هذا وهذا، وكلا الطائفتين ينسبه إلى التناقض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 وهذه طريقة الأشعري وأئمة أتباعه، كالقاضي أبي بكر، وأبي إسحاق الإسفراييني، وأمثالهما. ولهذا تجد أفضل هؤلاء، كالأشعري، يذكر مذهب أهل السنة والحديث على وجه الإجمال، ويحكيه بحسب ما يظنه لازماً، ويقول: إنه يقول بكل ما قالوه، وإذا ذكر مقالات أهل الكلام، من المعتزلة وغيرهم، حكاها حكاية خبير بها، عالم بتفصيلها. وهؤلاء كلامهم نافع في معرفة تناقض المعتزلة وغيرهم، ومعرفة فساد أقولهم. وأما في معرفة ما جاء به الرسول، وما كان عليه الصحابة والتابعون، فمعرفتهم بذلك قاصرة، وإلا فمن كان عالماً بالآثار، وما جاء عن الرسول، وعن الصحابة والتابعين، من غير حسن ظن بما يناقض ذلك، لم يدخل مع هؤلاء: إما لأنه علم من حيث الجملة أن أهل البدع المخالفين لذلك مخالفون للرسول قطعاً، وقد علم أنه من خالف الرسول فهو ضال، كأكثر أهل الحديث، أو علم مع ذلك فساد أقوال أولئك وتناقضها، كما علم أئمة السنة من ذلك ما لا يعلمه غيرهم كمالك وعبد العزيز الماجشون وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وسفيان بن عيينة وابن المبارك ووكيع بن الجراح وعبد الله بن إدريس وعبد الرحمن بن مهدي ومعاذ بن معاذ ويزيد بن هارون الواسطي ويحيى بن سعيد القطان وسعيد بن عامر والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبي عبد الرحمن القاسم بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 سلام ومحمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن حجاج النيسابوري والدارميين: أبي محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن وعثمان بن سعيد وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين وأبي داود السجستاني وأبي بكر الأثرم وحرب الكرماني ومن لا يحصى عدده إلا الله من أئمة الإسلام، وورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل. فهؤلاء كلهم متفقون على نقيض قول النفاة، كما تواترت الآثار عنهم، وعن غيرهم من أئمة السلف بذلك، من غير خلاف بينهم في ذلك. الوجه الثاني أن يقال نصوص ذلك صريحة لا تحتمل التأول، بالتأويلات المذكورة في ذلك من جنس تأويلات القرامطة الباطنية، وهي باطلة كما قد بين في موضعه، بل معلومة الفساد بالضرورة، كما بين بطلان تأويل كل من تأول (استوى) على غير ما يتضمن علوه على العرش، مثل تأويله بالقدرة والمكانة أو غير ذلك. الوجه الثالث أن يقال: لا نسلم أنه عارض ذلك دليل عقلي أصلاً. بل العقليات التي عارضتها هذه السمعيات هي من جنس شبه السوفسطائية، التي هي أوهام وخيالات غير مطابقة، وكل من قالها لم يخل من أن يكون مقلداً لغيره، أو ظاناً في نفسه، وإلا فمن رجع في مقدماتها إلى الفطر السليمة واعتبر تأليفها، لم يجد فيما يعارض السمعيات برهاناً مؤلفاً من مقدمات يقينية تأليفاً صحيحاً، وجمهور من تجده الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 يعارض بها أو يعتمد عليها، إذا بينت له فسادها، وما فيه من الاشتباه والالتباس، قال: هذه قالها فلان وفلان، وكانوا فضلاء، فكيف خفي عليهم مثل هذا؟ فينتهون بعد إعراضهم عن كلام المعصوم، الذي لا ينطق عن الهوى، وإجماع سلف الذين لا يجتمعون على ضلالة. ومخالفة عقول بني آدم التي فطرهم الله عليها، إلى تقليد رجال يقولون: إن هذه القضايا عقلية برهانية، وقد خالفهم في ذلك رجال آخرون من جنسهم، مثلهم وأكثر منهم، وعامة من تجده من طلبة العلم، المنتسبين إلى فلسفة أو كلام أو تصوف أو فقه أو غير ذلك، إذا عارض نصوص الكتاب والسنة بما يزعم أنه برهان قطعي، ودليل عقلي، وقياس مستقيم، وذوق صحيح، ونحو ذلك إذا حاققته وجدته ينتهي إلى تقليد لمن عظمه إذا كان من الأتباع، أو إلى ما افتراه هو - أو توهمه - إن كان من المتبوعين، وللطائفتين نصيب مما ذكره الله في أشباههم. قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب * إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار} [البقرة: 165-167] . وقال تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} [الفرقان: 27-29] . وقال تعالى: {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا} [الأحزاب: 66-68] . وقال تعالى: {وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد} [غافر: 47-48] . الوجه الرابع أن يقال: لا نسلم أنه بتقدير ما يذكر من التعارض لا يمكن تصديقهما، بل يمكن ذلك، فإن ما ينفيه صريح العقل من صفات النقص وإثبات المماثلة بين الخالق وصفاته، والمخلوق وصفاته، لم يثبته السمع الصحيح، وما أثبته السمع الصحيح الصريح لم ينفه عقل صريح. وحينئذ فلا يجوز أن يتعارض العقل الصريح والسمع الصحيح، وإنما يظن تعارضهما من غلط مدلولهما أو مدلول أحدهما، كمن يعارض الدلالات العقلية الصريحة من السوفسطائية وأمثالهم، وكمن يظن تعارض الأدلة السمعية من الملاحدة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 وكثيراً ما يشتبه ذلك وتتعارض الدلالتان عند من يكن السفسطة والإلحاد لشبه قامت به، فتكون الآفة من إدراكه لا من المدرك، كالأحول الذي يرى الواحد اثنين، والممرور الذي يجد الحلو مراً، وإلا فالسمع الصحيح هو القول الصادق من المعصوم، الذي لا يجوز أن يكون في خبره كذب لا عمداً ولا خطأً. والمعقول الصحيح هو ما كان ثابتاً أو منتفياً في نفس الأمر، لا بحسب إدراك شخص معين، وما كان ثابتاً أو منتفياً في نفس الأمر. لا يجوز أن يخبر عنه الصادق بنقيض ذلك، بل من شهد الكائنات على ما هي عليه وجدها مطابقة لخبر الصادق. كما قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} [فصلت: 53] . فأخبر أنه سيريهم من الآيات العيانية المشهودة لهم، ما يبين لهم أن القرآن حق. وقال تعالى: {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد} [سبأ: 6] . فمن أوتي العلم رأى أن ما أنزل إليه من ربه هو الحق، وأما من كان عنده ما يظنه علماً - وهو جهل - فذلك يرى الأمر على خلاف ما هو عليه، مثل من زاغ فأزاغ الله قلبه، وكان في قلبه مرض، فزاده الله مرضاً، وممن يقلب الله أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ومن الصم البكم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 العمي الذين لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهدى، أو لم يكونوا يعقلون بحال. وأمثال هؤلاء قال تعالى فيهم: {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} [الأنعام: 39] . وقد ضرب الله مثل هؤلاء وهؤلاء في غير موضوع من القرآن كسورة النور وغيرها. الوجه الخامس أن يقال: لا نسلم أن تصديق النقل المثبت لعلو الله على خلقه، وتكذيب ما يناقض ذلك مما يسمى معقولاً، يوجب القدح في أصل النقل كما في قوله: (لأن العقل أصل للنقل، فتكذيبه لتصديقه موجب لتكذيبهما) . قلنا: لا نسلم أن المعقول النافي لعلو الله على خلقه أصل للنقل فإنه ليس كل ما يسمى معقولاً، ولا كل ما يعلم بالعقل يتوقف العلم بصحة السمع عليه، فتلك الأمور، التي لا يتوقف العلم بصحة السمع عليها، ليست أصلاً للسمع، ولا يجوز أن يقال جنس المعقول به يعلم بالسمع، فلا يجوز أن يرد شيئاً منه، فإن العقلاء متفقون على أن جنس المعقولات لا يلزم من تكذيب بعضها تكذيب السمع، وإن قدر أنها عقليات صحيحة، مثل مسائل الحساب الدقيقة وغيرها، فإنها مع كونها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 عقليات صحيحة لا يلزم من القدح فيها في السمع، فكيف بالمعقولات التي فيها خطأ كثير وتنازع عظيم. بل كل من كان عن الشرائع أبعد، كان اضطرابهم في عقلياتهم أكثر، كالفلاسفة فإن بينهم من الاختلاف في عقلياتهم - حتى في المنطق والهيئة والطبيعيات - ما لا يكاد يحصى. وكلامهم في الإلهيات قليل، وعلمهم بها ضعيف، ومسائلها عندهم يسيرة، وهي مع هذا عندهم لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقي، ولا سمين فينتقل. وأساطينهم معترفون بأنه لا سبيل لهم إلى اليقين فيها وإنما يتكلمون فيها بالأولى وألا خلق، وهم مع هذا متنازعون فيها أعظم من تنازع كل فرقة من مبتدعة أهل الملل في الأمور الإلهية. وإذا كان جنس ما يسميه هؤلاء عقليات، فيه خطأ كثير باتفاق الناس وبالضرورة، لم يمكن أن يقبل جنس ما يقال له عقليات، فضلاً عن أن يعارض به، ولو قبل جنس ما يقال له عقليات كله، للزم من الجميع بين النقيضين ما شاء الله. فنفاة الجزء - الذي هو الجوهر الفرد - ومثبتوه، كل منهم يقول: إن ذلك معلوم بالعقل. والقائلون ببقاء بعض الأعراض، مع القائلين بفنائها، والقائلون بتماثل الأجسام مع القائلين باختلافها، والقائلون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 بوجوب تناهي الحوادث مع القائلين بعدم جواز تناهيها، وأضعاف ذلك. بل العقليات الصحيحة: ما كان معقولاً للفطر السليمة الصحيحة الإدراك التي لم يفسد إدراكها. وهذا القدر لا يزال موجوداً في بني آدم، وإن فسد رأي القوم، لم يلزم فساد رأي آخرين. لكن إذا تنازع الناس، وادعى كل فريق أن قولنا هو الذي تشهد به الفطر السليمة، لم يفصل بينهم إلا ما يتفقون على صدق شهادته: إما كتاب منزل من السماء يحكم بينهم، وإما شهادة فطر تقر الطائفتان أنها صحيحة الإدراك صادقة الخبر، فلا يحكم بين المتنازعين إلا حاكم يسلمان لحكمه. والمقصود هنا أنه لا يقول عاقل: إن كل ما يسمى معقولاً يجوز قبوله، فضلاً عن أن يجب، فضلاً عن أن يعارض به معقول آخر، فضلاً عن أن يعارض به كتاب منزل من عند الله. وإذا كان كذلك لم يكن في رد كثير مما يسمى معقولاً رد لسائرها، فإذا رد مما يسمى معقولاً ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه، لم يكن في هذا رد للأصل المعقول الذي به يعلم السمع، وهو المطلوب. وإذا كان كذلك، فالمعقول المذكور هنا الذي عارضوا به الآيات الإلهية والأحاديث النبوية - هو ما ذكروه في نفي علو الله على خلقه، وليس شيء من ذلك مما يحتاج في العلم بصحة السمع إليه، فإن إثبات موجود لا يمكن أن يشار إليه، ولا يكون داخل العالم ولا خارجه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 ومقدمات ذلك مستلزمه له، لا يتوقف العلم بصحة السمع على شيء من ذلك، فإن نعلم بالاضطرار بعد تأمل أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه التابعين لهم بإحسان، أن الذين أمنوا بالرسول وجزموا بصدقه - وهم باتفاق المسلمون أعلم الأمة بصدقه، والصدق ما أخبر به، وصحة ذلك - لم يكونوا في إيمانهم وعلمهم بصدقه، يستدلون بشيء من هذه المقدمات على صحة ذلك، ولو مناظرين به أحداً، ولا يقيمون بها حجة على غيرهم فضلاً عن أن يكونوا هم لم يعلموا صدقه إلا بعد العلم بهذه المقدمات المستلزمة لوجود موجود لا يشار إليه، وأن صانع العلم ليس بداخل العلم ولا خارجه، ولا فوق العالم رب ولا على العرش إله. ومما يوضح ذلك أن نعلم بالعادة المطردة أن القضايا التي بها علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به الله، لو كانت مستلزمة لقول نفاة العلو، وأن الله ليس مبايناً للعالم ولا هو فوق السماوات، ولا يمكن الإشارة إليه، ولا عرج أحد من الملائكة ولا محمد، إليه نفسه، ولا نزل من عنده نفسه شيء: لا ملك ولا غيره - لكانت هذه اللوازم تحصل في نفوسهم، كما حصلت على أنفس غيرهم، ولا سيما مع كثرة الخلق، وانتشار الإسلام، ودخول الناس في دين الله أفواجا، ولو كانت هذه القضايا مستقرة في أنفسهم، لامتنع فيه العادة أن يتكلموا بها، فضلاً عن أن يتكلموا بنقيضها، ولو وجب في العادة أن يعارضوا بها ما دل عليه ظاهر السمع، لكانوا يسألونه ويقولون: ما دلت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 عليه هذه الآيات والأحاديث التي أخبرتنا بها يناقض هذه القضايا التي علمنا بها أنك رسول الله الصادق عليه، فما يمكننا أن نجمع بين تصديقك في دعوى الرسالة، وبين الإخبار بهذه الأمور، بل تصديقك في دعوى الرسالة التي يقتضي تكذيب مقتضى هذه الأخبار، فكيف نصنع؟ هل لها تأويل يوافق ما به علماً أنك صادق؟ : أم نحن مأمورون بأن نقرأ ما ظاهره كفر وكذب يقدح في أصول إيماننا، ونعرض بقلوبنا وعقولنا عن فهم ذلك وتدبره والنظر فيه؟ . وهذا فيه عذاب عظيم للعقول، وفساد عظيم في القلوب، إذا كان الرجل مأموراً أن يقرأ في الليل والنهار كلاماً، يقرأ به في صلاته وغير صلاته، ويجزم بأنه صدق لا كذب، وأن من كفر بحرف منه فهو كافر، وذلك الكلام مشتمل على أن أخبارها ظاهرها ومفهومها يناقض ما به علم وصدق ذلك الكلام، بل هو باطل وضلال وكفر، فيورثه ذلك الحيرة والاضطراب، ويمرض قلبه أعظم مرض، ويكون تألمه لذلك ووجع قلبه، أعظم بكثير من مرض بدنه ووجع يده ورجله، فإنه حينئذ إن قبل ما به صدق هذا الرسول قدح في الكلام الذي أخبر أنه حق وصدق، فيكون ذلك الدليل الذي دله على صدقه، دله على كذب المفهوم من أخباره وإن صدق المفهوم من أخباره، أبطل شاهد صدقه. ومن المعلوم أن أخباره لو عارضت معقولاً لهم، غير ما به علموا صدقه، لأوجب ذلك من الحيرة والألم والفساد ما لا يعلمه إلا الله، فكيف إذا كان المعارض له ما به علموا صدقه؟ . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 وقد كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسأل بعضهم بعضاً، عن أدنى شبهة تعرض في خطابه وخبره، مثل ما كان يوم الحديبية لما صالح النبي صلى الله عليه وسلم مشركي مكة، على أن يرجع ذلك العام بأصحابه الذين قدموا معه معتمرين، وبايعهم بيعة الرضوان تحت الشجرة، وهم السابقون الأولون، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فصالح المشركين على أن يرجع بهم ذلك العام، ويرد إلى المشركين ما جاءه مؤمناً مهاجراً، ولا يرد المشركون من ذهب إليهم مرتداً، وامتنعوا من أن يكتبوا في كتاب الصلح: (بسم الله الرحمن الرحيم) وأن يكتبوا: هذا ما قضى عليه محمد رسول الله، وأمثال ذلك. والمقصود أن كثيراً من الصحابة اشتد عليهم ذلك، وأجلهم عمر، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (فقال: يا رسول الله، ألسنا على حق، وعدونا على باطل؟ قال: بلى. قال فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله وهو ناصري، ولست أعصيه. فقال: ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت، ونطوف به؟ فقال بلى، أقلت لك إنك تأتيه هذا العام؟ قال: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به) . ثم ذهب عمر إلى أبي بكر، فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، وأجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم، من غير أن يكون سمع جواب النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 والقصة مستفيضة رواها أهل الصحيح والمسند والمغازي والسير والتفسير والفقه وسائر العلماء. فهذا عمر، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» أخرجاه في الصحيحين. وقال: «إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه» . وقال: «لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر» رواه الترمذي. إلى غير ذلك من فضائله، وقد اشتبه عليه معنى نص، وليس ظاهره ينافي الواقع، فإن الله تعالى قال: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين} [الفتح: 27] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بذلك قبل نزول الآية خبراً مطلقاً، من المعلوم باتفاق الفقهاء أن الرجل إذا قال: والله لأفعلن كذا وكذا، ولم يكن هنا سبب ولا نية توجب التعجيل كان له أن يؤخره إلى وقت آخر، فلم يكن في ظاهر خطاب الله ورسوله ما يقتضي تعجيل إتيان البيت والطواف به. ومع هذا لما ظن هذا الذي هو أفضل الأمة بعد أبي بكر، أن ظاهره يقتضي التعجيل، أورده على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم على صديقه، وأجاب كل منهما في مغيب الآخر بأنه ليس في الخطاب ما يقتضي التعجيل، وإنما الذي فهم ذلك من الخطاب غلط في فهمه. فالغلط منه، لا لنقص في دلالة الخطاب. وأيضاً ففي الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذب. قالت عائشة: فقلت يا رسول الله، أليس الله يقول في كتابه: {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} [الانشقاق: 8] ، فقلت: ذلك العرض، ومن نوقش الحساب عذب» . ومعلوم أن قوله: {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} [الانشقاق: 8] ، لا يدل ظاهره على أن المحاسب يناقش، بل الظاهر من لفظ الحساب اليسير أنه لا تكون فيه مناقشة، ومع هذا فلما قال: من نوقش عذب، فظنت امرأة تحبه ويحبها - وهي أحب النساء إليه، وأبوها احب الرجال إليه - أن ظاهر خطابه يعارض تلك الآية - سألته عن ذلك ولم تسكت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 وكذلك في الحديث الصحيح أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة. قالت حفصة: فقلت يا رسول الله: أليس الله يقول: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71] . فقال: ألم تسمعيه قال: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} [مريم: 72] » . وقد بين في الحديث الصحيح الذي رواه جابر وغيره أن الورود هو المرور على الصراط، ومعلوم أنه إذا كان قد أخبرهم أن جميع الخلق يعبرون الصراط ويردون النار بهذا الاعتبار، لم يكن قوله لهم: فلان لا يدخل النار منافياً لهذا العبور، ولهذا قال لها: ألم تسمعيه قال: {ثم ننجي الذين اتقوا} فأخبرها أن هذا الورود لا ينافي عدم الدخول الذي أخبرت به، فالذين نجاهم الله بعد الورود - الذي هو العبور - لم يدخلوا النار. ولفظ الورود والدخول قد يكون فيه إجمال فقد يقال لمن دخل سطح الدار: أنه دخلها ووردها، وقد يقال لمن مر على السطح ولم يثبت فيها: إنه لم يدخلها. فإن قيل: فلان ورد هذا المكان الرديء ثم نجاه الله منه، وقيل فلان: لم يدخله الله إياه، كان كلا الخبرين صدقاً لا منافاة بينهما. وقوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} [مريم: 71-72] ، بيان فيه نعمة الله على المتقين: أنهم مع الورود والعبور عليها وسقوط غيرهم فيها نجوا منها، والنجاة من الشر لا تستلزم حصوله، بل تستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه، يقال: نجاه الله منهم. ولهذا قال تعالى: {ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم} [الأنبياء: 76] . ومعلوم أن نوحاً لم يغرق ثم خلص. بل نجي من الغرق الذي أهلك الله به غيره. كما قال: {فأنجيناه وأصحاب السفينة} [العنكبوت: 15] . وكذلك قوله عن لوط: {ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث} [الأنبياء: 74] . ومعلوم أن لوطاً لم يصبه العذاب الذي أصابهم من الحجارة والقلب وطمس الأبصار. وكذلك قوله: {ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ} [هود: 58] ، وقوله: {فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ} [هود: 66] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 وأمثال ذلك يبين سبحانه أنه نجى عباده المؤمنين من العذاب الذي أصاب غيرهم، وكانوا معرضين له، لولا ما خصهم الله من أسباب النجاة - لأصابهم ما أصاب أولئك. فلفظ (النجاة من الشر) يقتضي انعقاد سبب الشر، لا نفس حصوله في المنجى. فقوله تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا} [مريم: 72] ، لا يقتضي أنهم كانوا معذبين ثم نجوا، لكن يقتضي أنهم كانوا معرضين للعذاب الذي انعقد سببه، وهذا هو الورود. فقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ، لا ينافي هذا الورود، فإن مجرد الورود ليس بعذاب، بل هو تعريض للعذاب، وهو إنما نفى الدخول الذي هو العذاب، لم ينف التقريب من العذاب، ولا انعقاد سببه، ولا الدخول على سطح مكان العذاب. ومع هذا لما اشتبه ذلك على امرأته، سألته عن ذلك، وذكرت ما يعارض خبره في فهمها، ولم تسكت، وقد كان يفعل الأمر فيسألونه: هل هو بوحي فيجب طاعته؟ أو هو رأي يمكن معارضته برأي أصلح منه؟ ويشيرون عليه في الرأي برأي آخر، فيقبل منهم ويوافقهم، كما سأله الحباب بن المنذر لما نزل ببدر فقال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل الذي نزلته: أهو منزل أنزلكه الله، فليس لنا أن نتعداه، أم هو الرأي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 والحرب والمكيدة؟ فقال: (بل هو الرأي والحرب والكيدة. ) فقال: ليس هذا بمنزل قتال. ولما صالح غطفان عام الخندق على نصف ثمر المدينة لما تألبت عليهم الأحزاب: من قريش وحلفائها، وأهل نجد وجموعهم، وبني قريظة اليهود جيران المدينة، وكانت تلك القضية من أعظم البلاء والمحنة، وفيها أنزل الله سورة الأحزاب، فلما صالحهم على نصف ثمرها. قال له سعد ما مضمونه: إن كان الله أمرك بهذا سمعنا وأطعنا، وإن كان رأياً منك أردت به مصلحتنا، فقد كنا في الجاهلية وما أحد منهم ينال منها ثمرة إلا بشرىً أو قرىً، فحين أعزنا الله بالإسلام نعطيكم ثمرنا؟ أو كما قال: فبين له النبي صلى الله عليه وسلم: ( «إني لما رأيت الأعداء قد تحزبوا عليكم خشيت أن تضعفوا عنهم، فرأيت أن أدفع هؤلاء ببعض الثمر، فإذا كنتم ثابتين صابرين، فلا حاجة إلى هذا) » . وفي الصحيح «أنهم كانوا في بعض الأسفار فنفد زادهم فاستأذنوه في نحر ظهرهم - وهي الإبل التي يركبونها - فأذن لهم، فأتاه عمر وأخبره أنهم إن نحروا ظهرهم تضرروا بذلك، وطلب أن تجمع أزوادهم ويدعوا فيها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 بالبركة ليغنيهم الله بذلك عن نحر ظهرهم، ففعل ذلك» . وكذلك في الصحيح «أنه أعطى أبا هريرة نعله ليبشر الناس بأن الموحدين في الجنة، فلقيه عمر فرده، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم إذا سمعوا ذلك اتكلوا، فترك ذلك) » . بل كان يأمرهم بالأمر الذي يجب عليهم طاعته، فيعارضه بعضهم بما لا يصلح للمعارضة، فيجيبهم. (فإن في الصحيح «أنه نهاهم عن الوصال، فقالوا: إنك تواصل فقال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت عند ربي ويطعمني ويسقيني) » . ومعلوم أن هذه معارضة فاسدة، لو أوردها بعض طلبة الفقهاء، أجابه آخر بأن أمره ونهيه يجب طاعته فيه، وحكمه لازم للأمة باتفاق المسلمين، بل ذلك معلوم بالاضطرار من دينه، وإن كان بعض الناس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 ينازع في الأمر المطلق: هل يفيد الإيجاب أم لا؟ فلم ينازع في أنه إذا بين في الأمر أنه للإيجاب يجب طاعته، ولا أنه إذا صرح ابتداءً بالإيجاب تجب طاعته. ولكن نزاعهم في مراده بالأمر المطلق: هل يعلم به أنه أراد به الإيجاب؟ فهذا نزاع في العلم بمراده، لا نزاع في وجوب طاعته فيما أراد به الإيجاب، فإن ذلك لا ينازع فيه إلا مكذب به. والمقصود أن حكم النهي لازم للأمة، وأما فعله فقد يكون مختصاً به باتفاق الأمة. بل قد تنازعوا في تعدي حكم فعله إلى غيره، على ما هو معروف، فإذا أمر المسلمين أو نهاهم أمراً ونهياً علموا به مراده، لم يكن لأحد منهم أن يعارض ذلك بفعله باتفاق العلماء، وإنما يتكلمون في تعارض دلالة القول والفعل، إذا لم يعلموا مراده بالقول، كما تكلموا في «نهيه عن استقبال القبلة واستدبارها بغائط أو بول» ، «مع أنه قد رآه ابن عمر مستقبل الشام مستدبر الكعبة وهو يتخلى» . فهنا قد يظن بعضهم أن نهيه ليس عاماً بل خاص إذا لم يكن حائل، ويوفق بين القول والفعل، ويظن بعضهم الفرق بين الاستقبال والاستدبار، ويظن بعضهم أن أحدهما منسوخ لاعتقاده التعارض، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 ويظن بعضهم أن الفعل خاص له، فهذا كله لعدم علمهم بأن النهي عام محكم. وأما إذا علموا أن نهيه عام محكم غير منسوخ، كانوا متفقين على أنه لا يعارض بفعله. فتبين أن من عارض نهيه عن الوصال بقوله: إنك تواصل، كانت معارضته خطأ، باتفاق العلماء ومع هذا فقد أجابه ببيان الفرق، وقال: «إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» . «بل لما غير عادته يوم الفتح، فصلى الصلوات بوضوء واحد سأله عمر فقال: إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله. فقال: عمداً فعلته» . هذا وأمثاله كثير. هذا من المؤمنين به المحبين له، فأما معارضة الكفار بما لا يصلح للمعارضة - عند أهل النظر والخبرة بالمناظرة - على سبيل الجدل بالباطل فكثيرة. مثل معارضتهم لله لما نزل قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} [الأنبياء: 98] ، فقام ابن الزبعري وغيره فقالوا: قد عبد المسيح، فآلهتنا خير أم هو؟ . فأنزل الله تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون} [الزخرف: 57] : إي يضجون. {وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل} [الزخرف: 58-59] . وأنزل الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون} [الأنبياء: 101-102] . وقد ظن طائفة من الناس أن قوله {وما تعبدون} [الأنبياء: 98] ، لفظ يعم كل معبود من دون الله لكل أمة، فيتناول المسيح وغيره، وجعلوا هذا مما استدلوا به على عموم الأسماء الموصوفة، مثل (من) و (ما) و (الذي) . واستدل بذلك بعضهم على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب. قالوا: لأن اللفظ عام، وأخر بيان المخصص إلى أن نزل قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء: 101] . وهذا خطأ، ولو كان قول هؤلاء صحيحاً، لكانت معارضته المشركين صحيحة. فإن من سمع اللفظ العام ولم يسمع المخصص، فأورد على المتكلم، كان إراده مستقيماً. وهذا سوء ظن ممن قاله بكلام الله ورسوله وحسن ظن المشركين. ولكن هؤلاء وأمثالهم الذين يجعلون المفهوم المعقول الظاهر من القرآن مردوداً بآرائهم، كما رده المشركون بالمسيح، فإن قول المشركين إن المسيح لا يدخل النار والملائكة لا تدخل النار، كلام صحيح، أصح مما يعرض به المعارضون لكلام الله ورسوله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 فإن كانت معارض ابن الزبعري باطلة، فمعارضة هؤلاء أبطل، وهي باطلة قبل نزول القرآن، وقبل رد الله عليهم، وما نزل من القرآن كان مبيناً لبطلانها، الذي هو ثابت في نفسه يمكن علمه بالعقل، فإن الله إنما خاطب بقوله: {إنكم وما تعبدون من دون الله} [الأنبياء: 98] ، المشركين الذين يعبدون الأوثان، لم يخاطب بذلك أهل الكتاب. بل الآيات المكية عامتها خطاب لمن كذب الرسل مطلقاً، وأما ما يخاطب به من صدق جنس الرسول من أهل الكتاب والمؤمنين، ففي السور المدنية. والقرآن قد فصل بين المشركين وأهل الكتاب في غير موضع، كقوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} [البينة: 1] . وقوله: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} [الحج: 17] . وقوله لهم: {إنكم وما تعبدون من دون الله} [الأنبياء: 98] . الوجه الخامس بمنزلة قوله: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين} [الأنعام: 156] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 وبمنزلة قوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا} [فاطر: 42] . وأمثال ذلك مما فيه ضمير المخاطب والغائب، وهو متناول لأولئك المشركين، لكن يتناول غيرهم من جهة المعنى والاعتبار وتماثل الحالين. فلما قال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون} [الأنبياء: 98-99] ، دليل على انتفاء الإلهية، فإن الإله لا يدخل النار، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم أن يكون من لم يدخل النار إلهاً، فمن ورد النار لم يكن إلهاً، وليس كل من لا يردها إله. لكن كانت معرضة الزبعري وأشباهه من جهة المعنى والقياس والاعتبار، أي إذا كانت آلهتنا دخلوا النار لكونهم معبودين، وجب أن يكون كل معبود يدخل النار، والمسيح معبود فيجب أن يدخلها، فعارضوه بالقياس، والقياس مع وجود الفارق المؤثر قياس فاسد، فبين الله الفرق بأن المسيح عبد حي مطيع لله، لا يصلح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 أن يعبد لأجل الانتقام من غيره بخلاف الأوثان، فإنها حجارة، فإذا عذبت لتحقيق عدم كونها آلهة، وانتقاماً ممن عبدها، كان ذلك مصلحة، ليس فيها عقوبة لمن لا يصلح أن يعاقب. ولهذا قال تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلا} [الزخرف: 57] ، أي جعلوه مثلاً لآلهتهم فقاسوها به، فهذا حال من عارض النص الخبري بالقياس الفاسد، وهو حال الذين يعارضون النصوص الإلهية بأقيستهم الفاسدة، فيقولون: لو كان له علم وقدرة ورحمة وكلام وكان مستوياً على عرشه، للزم أن يكون مثل المخلوق الذي له علم وقدرة ورحمة وكلام ويكون مستوياً على العرش، ولو كان مثل المخلوق للزم أن يجوز عليه الحدوث، وإذا جاز عليه الحدوث امتنع وجوب وجوده وقدمه. فهذا من جنس معارضة ابن الزبعري، حيث قاس ما أخبر الله عنه بشيء آخر ليس مثله، بل بينهما فرق، والفرق بين الله وبين مخلوقاته، أعظم من الفرق بين المسيح وبين الأوثان، فإن كلاهما مخلوق لله تعالى. وأما قياس الخالق بالمخلوق، وقول القائل: لو كان متصفاً بالصفات والأفعال القائمة به، لكان مماثلاً للمخلوق المتصف بالصفات والأفعال القائمة به - ففي غاية الفساد، فإن تشابه الشيئين من بعض الوجوه لا يقتضي تماثلهما في جميع الأشياء، فإذا كان المسيح المشابه لآلهتهم في وجوه كثيرة لا تكاد تحصى - مثل كون هذا كان معدوماً وهذا كان معدوماً، وهذا محدث ممكن، وهذا محدث ممكن، وهذا مفتقر إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 غيره وهذا مفتقر إلى غيره، وهذا يقدر عليه غيره، وهذا يقدر عليه غيره، وهذا تعترض عليه الآفات والعلل كالتفريق والتجزئة والتبعيض، وهذا تعترض عليه الآفات والعلل كالتفريق والتجزئة والتبعيض، وهذا يمكن إفساده واستحالته، وهذا يمكن إفساده واستحالته، وأمثال ذلك من الأمور التي يجب تنزيه الرب عنها - فمع اشتراكهما في هذه الأمور التي يجب تنزع الرب عنها، لم يصح قياس أحدهما بالآخر، ولا أن يثبت له من الحكم ما ثبت له، وإن كانا قد اشتركا في هذه الأمور. فالخالق سبحانه الذي يفارق غيره بأعظم مما فارق به المسيح آلهتهم، هو أولى وأحق بأن لا يمثل بخلقه، لأجل موافقته في بعض الأسماء والصفات، إذ أصل هذا القياس الفاسد أن الشيئين إذا اشتركا وتشابها في بعض الأشياء، لزم اشتراكهما وتماثلهما في غير ذلك مما ليس من لوازم المشترك، وهذا كله خطأ فاحش، وبعضه أفحش من بعض، فالشيئان إذا اشتركا في شيء لزم أن يشتركا في لوازمه، فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، فأما ما ليس من لوازمه، فلا يجب اشتراكهما فيه. فكون المعبود من حصب جهنم، ليس من لوازم كونه معبوداً، بل من لوازم كونه معبوداً يصلح دخوله النار، والمسيح ونحوه لا يصلح دخولهم النار. وكذلك ثبوت الوجود والحياة والعلم والقدرة والاستواء والنزول، ونحو ذلك من الأمور التي يوصف بها الخالق والمخلوق، ليس من لوازمها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 الإمكان والحدوث والآفات والنقائص، فإن الإمكان من لوازم ما ليس واجباً بنفسه، والحدوث من لوازم المعدوم، وإمكان الآفات والنقائص من لوازم ما يقبل ذلك. وهذه الصفات صفات كمال لا تستلزم الآفات، بل قد تكون منافية للآفات والنقائص، والمنافي للشيء لا يكون من لوازمه، بل هو مناقض للوازمه، فكيف يجعل المنافي كالملازم؟ والمقصود أن المشركين كانوا يعارضون الرسول بما يتخيلونه مناقضاً لقوله، وإن لم يكن في ظاهر قوله ما يناقض: لا معقولاً ولا منقولاً، فكيف إذا كان ظاهر قوله يناقض صريح المعقول الذي عليه أئمة أرباب العقول، لا سيما إذا كان ذلك المعقول هو الذي لا يمكن تصديقه إلا به؟ فإذا كان قد أظهر ما يطعن في دليل صدقه وشاهده، كان معارضته بذلك أولى الأشياء. وكذلك أيضاً لما أخبرهم بالإسراء وشجرة الزقوم أنكر ذلك طائفة منهم، وزعموا أن العقل ينافي ذلك. وأنزل الله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن} [الإسراء: 60] . وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: «هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 قال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} [الإسراء: 1] . وقال: {أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى} [النجم: 12-16] . وقال تعالى: {وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق المبين * وما هو على الغيب بضنين * وما هو بقول شيطان رجيم} [التكوير: 22-25] . فإذا كان ما أخبرهم به من رؤية الآيات التي أراها الله إياها ليلة الإسراء قد أنكروها وكذبوه لأجلها، واستبعدوا ذلك بعقولهم، مع أن ذلك ليس ممتنعاً في العقل، فكيف بما هو ممتنع في صريح العقل. وكذلك أيضاً أنكروا أن يبعث الله بشراً رسولاً، وجعلوا ذلك منكراً ممتنعاً في عقولهم. كما قال تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا} [الإسراء: 24] . وقال: {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} [يونس: 2] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 وقال تعالى: {وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا} [الفرقان: 41] . وقال تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون * ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون} [الأنعام: 9] . وقال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91] . وقد حكى نحو ذلك عمن تقدم من الكفار، كقول قوم فرعون: {أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون * فكذبوهما فكانوا من المهلكين} [المؤمنون: 47-48] . وقول قوم نوح: {ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} [هود: 27] . وقالت أصناف الأمم لرسلهم: {إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا} [إبراهيم: 10] . حتى قالت الرسل: {إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده} [إبراهيم: 11] . وأمثال هذا. فقد ذكر عن المشركين أنهم أنكروا إرسال رسول من البشر، ودفعوا ذلك بعقولهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 وهذا قول من يجحد النبوات من البراهمة مشركي الهند وغيرهم، ولهم شبه معروفة يزعمون أنها براهين عقلية تقدح في جواز إرسال الرسل. ولهذا قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى} [يوسف: 109] . وقال: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43] . وقال: {قل ما كنت بدعا من الرسل} [الأحقاف: 9] . وأمثال ذلك. وكذلك لما أخبرهم بالمعاد عارضوه بعقولهم، وقد ذكر الله تعالى من حججهم التي احتجوا بها في إنكار المعاد ما هو مذكور في القرآن. كقوله تعالى: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون * أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم} [يس: 78-81] . وقد ذكر طعنهم في الرسالة والمعاد جميعاً في قوله تعالى: {ق والقرآن المجيد * بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 شيء عجيب * أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد * قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ} [ق: 1-4] . ثم ذكر الأدلة عليهم إلى قوله: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} [ق: 15] . وهذه السورة قد تضمنت من أصول الإيمان ما أوجبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في المجامع العظام، فيقرأ بها في خطبة الجمعة وفي صلاة العيد، وكان من كثرة قراءته لها يقرأ بها في صلاة الصبح، وكل ذلك ثابت في الصحيح. قال تعالى: {وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا * قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا} [الإسراء: 49-52] . وقد ذكر نحو ذلك عمن مضى من المكذبين للرسل، كقولهم عن رسولهم: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين} [المؤمنون: 35-38] . وقال تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} [الجاثية: 24] . وأمثال هذا في القرآن كثير. وذكر عنهم أنه طعنوا في الرسول بعقولهم بأمور ظنوها لازمة له، كقولهم: {وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحور} [الفرقان: 7-8] . قال تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} [الفرقان: 9] . وكذلك قالوا عمن قبله من الرسل كما قال فرعون: {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين} [الزخرف: 52-53] . وقالوا لشعيب: {إنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز} [هود: 91] . والمقصود هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعارضه من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 المؤمنين به والكفار من لا يكاد يحصى معارضة لا ترد عليه. ولم تكن إلا من جهل المعارض، ولم يكن في ظاهر الكلام الذي يقوله لهم ومفهومه ومعناه ما يخالفه صريح المعقول، بل كان المعارضون يعارضون بعقولهم ما لا يستحق المعارضة، فلو كان فيما بلغهم إياه عن الله، من أسمائه وصفاته ونحو ذلك، ما يخالف ظاهره صريح المعقول، لكان هذا أحق بالمعارضة، وكان يمتنع في مستمر العادة أن مثل هذا لا يعارضه أحد: لا معارضة دافع طاعن، ولا معارضة مستشكل مسترشد، فكيف إذا كان ذلك يعارض القضايا العقلية التي بها علموا نبوته، وأنه رسول الله إليهم؟ فكانت تكون المعارضة بذلك أولى أن تقع من الكفار والمسلمين. أما الكفار فيقولون له: نحن لا نعلم صدقك إلا بأن نعلم بعقولنا أموراً تناقض ما يفهم ويظهر مما تخبرنا به، فالمصدق لك يكون متناقضاً متلاعباً، لا يمكنه أن يقبل بعض أخبارك إلا برد بعضها، وهذا ليس فعل العالمين الصادقين دائماً، بل فعل من يكذب تارة ويصدق أخرى، أو يصيب تارة ويخطئ أخرى. وأما المسلمون المظهرون للإسلام فقد كان فيهم منافقون، وفي المؤمنين سماعون لهم يتعلقون بأدنى شبهة يوقعون بها الشك والريب في قلوب المؤمنين، وكان فيهم من له معرفة وذكاء وفضيلة وقراءة للكتب ومدارسة لأهل الكتاب، مثل أبي عام الفاسق، الذي كان يقال له أبو عامر الراهب، الذي أتخذ له المنافقون مسجد الضرار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 وأيضاً فقد كان اليهود والنصارى يعارضونه بما لا يصلح للمعارضة، ويقدحون في القرآن بأدنى شبهة، ويخاطبون بذلك من أسلم، كما قالوا للمغيرة بن شعبة: أنتم تقرأون في كتابكم: {يا أخت هارون} [مريم: 28] ، وموسى بن عمران كان قبل عيسى بسنين كثيرة، فظنوا أن هارون المذكور هو هارون أخو موسى، وهذا من فرط جهلهم، فإن عاقلاً لا يخفى عليه أن موسى كان قبل عيسى بسنين كثيرة، وأن مريم أم عيسى ليست أخت موسى وهارون، ولا هو المسيح ابن أخت موسى، وليس في من له تمييز - وإن كان من أكذب الناس - من يرى أن يتكلم بمثل هذا الذي يضحك عليه به كل من سمعه، فكيف بمن هو أعظم الناس عقلاً وعلماً ومعرفة، غلبت عقول بنى آدم ومعارفهم وعلومهم، حتى استجاب له كل ذي عقل مصدقاً لخبره، مطيعاً لأمره وذل له - أو خاف منه - كل من لم يستجيب له، وظهر به من العلم والبيان، والهدى والإيمان، ما قد ملأ الآفاق، وأشرق به الوجود غاية الإشراق. فكان النصارى الذين سمعوا هذا - لو كان لهم تمييز - لعلموا أن مثل هذا الرجل العظيم الذي جاء بالقرآن لا يخفى عليه أن المسيح ليس هو ابن أخت موسى بن عمران، ولا يتكلم بمثل ذلك، ولو كانت أختهما لكان إضافتها إلى موسى أولى من إضافتها إلى هارون، فكان يقال لها: يا أخت موسى، لكن لما اتفق أن مريم هذه بنت عمران، وذانك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 موسى وهارون ابنا عمران، فكان لفظ عمران فيه اشترك، والاشتراك غالب على أسماء الأعلام - نشأت الشبهة، حتى سأل المغيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «ألا قلت لهم إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم؟ إن هارون هذا كان رجلاً في بنى إسرائيل سموه باسم هارون النبي» . فمن كانوا يعارضونه بمثل هذه المعارضة، كيف يسكتون عن معارضته إذا كان الخطاب الذي أخبر به، والمفهوم الظاهر منه - بل الصريح منه الذي لا يحتمل التأويل مخالفاً لصريح العقل، بل مخالفا لما به يعلم صدقه وصدق الأنبياء قبله؟ وهلاً كان أهل الكتاب يقولون له: ما جئت به يقدح في نبوات الأنبياء قبلك، فإنا لا يمكننا أن نصدقك إلا بقضايا عقلية بها يعلم صدق الرسل، وما أظهرته للناس وبينته لهم وأخبرته به يناقض الأصول العقلية التي بها نعلم تصديق الأنبياء؟ واعلم أنه من أمعن النظر في هذا المقام وتوابعه، حصل لهم أمور جليلة: بطلان قول من يقول: العلم بصحة السمع لا يكون إلا بقضايا عقلية مناقضة للمفهوم الظاهر من أخبار الله ورسوله. بل بطلان قول من يجعل صريح العقل مناقضاً لأخباره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 بل بطلان قول من يدعي أن أقوال الجهمية النفاة لعلو الله على خلقه - مما هي معروفة بصريح العقل، سواء كانت موافقة لخبر الرسول أو مخالفة له. وذلك من وجوه: أحدها: أن إيمان المؤمنين به، العالمين بصدقه، حصل بدون هذه القضايا. الثاني: أن أحداً منهم لم يورد هذه المعارضة، ولم يستشكل هذا الذي هو تناقض في وعم هؤلاء. الثالث: أن المنافقين لم يورد أحد منهم هذا. الرابع: أن المشركين لم يورد أحد منهم هذا. الخامس: أن أهل الكتاب لم يورد أحد منهم هذا. السادس: أنه لم يعهد إليهم أن لا يصدقوا بمضمون هذه الظواهر ولا يعتقدوا موجبها، ولا أمرهم بترك تدبرها وفهمها وعقلها، ولا بتأويلها تأويلا يصرفها عن المعنى الظاهر المفهوم منها، ولا بتفويضها وقولهم: لا نعلم معناها. السابع: أن الصحابة لم يوصوا التابعين بذلك. الثامن: أن التابعين لم يوردوا على الصحابة، ولا أورد بعضهم على بعض ظهور هذا التناقض والتعارض، ولا سئل بعضهم بعضاً: كيف نصنع؟ هل نتبع موجب النصوص أو موجب العقول المعارضة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 وتناول النصوص؟ أو نصرف قلوبنا عن فهمها وتدبرها وعقلها، ونقول: لا ندري ما معناها؟ فإن قيل: فهذا الذي ذكرته ظاهراً لا يخفى على من تأمل أمور الإسلام كيف كانت، وكيف ظهر الإسلام، ومع هذا فهذه الشبه العقلية التي احتج بها النفاة وقد ضل بها خلق كثير من هذه الأمة ومن أهل الكتاب، فهل كانت عقول الكفار أصح من عقول هؤلاء؟ ثم إذا كان الأمر هكذا فكيف إذا وقع في هذه من وقع؟ قيل: المقصود هنا فساد قول من يقول: إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بقضايا عقلية تناقض مفهوم ما أخبر به، وهذا يلزم من قال ذلك من الجهمية والمعتزلة، وأتباعهم من الأشعرية، ومن دخل معهم من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة والصوفية: إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بأن يستدل على حوادث العالم بحدوث الأجسام، وأنه يستدل على ذلك بحدوث ما قام بها من الأعراض مطلقاً أو الحركات، وأن ذلك مبني على امتناع حوادث لا أول لها، وذلك يستلزم نفي الأفعال القائمة بذات الله تعالى المتعلقة بمشيئته واختياره، بل نفي صفاته، وأن يكون القرآن مخلوقاً، وأن الله لا يرى في الآخرة، ولا يكون فوق العالم. فمن قال: إن تصديقه فيما أخبر به لا يمكن إلا بهذه الطريق، كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام، ولهذا قال الأشعري وغيره: إن هذه الطرق مبتدعة في دين الأنبياء، بل محرمة غير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 مشروعة لا ريب أن عقل من آمن بالله ورسوله كان خيراً من عقل من سلك هذه الطريق من أهل الكلام. وأما عقول الكفار فلا ريب، وإن كانت عقول جنس المؤمنين خيراً من عقولهم، لكان قد يكون عند الكفار من عقل التمييز ما يمنعه أن يقول ما يقوله كثير من أهل البدع. ألا ترى أن أكاذيب الرافضة لا يرضاها أكثر من العقلاء من الكفار؟ فذلك عقول المشركين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تقبل أن ترد رسالته بمثل هذا الكلام الذي فيه من الدقة والغموض ما لا يفهمه أكثر الناس، ومن فهمه من العقلاء علم أنه من باب الهذيان والبهتان. يبين لك كل ذلك أن العرب مع شركها كانت مقرة بأن الله رب كل شيء وخالقه ومليكه، مقرة بالقدر، وكانت عقولهم من هذا الوجه خيراً من عقل من جعل كثيراً من المحادثات لم يخلقه الله ولا قدره ولا أراده، وكانت العرب أيضاً تقر بان الله فاعل مختار، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكانت عقولهم خيراً من عقول الدهرية والفلاسفة، الذين يقولون بأن العالم صدر عن علة تامة موجبة له، كما يقول الدهرية والإلهيون. ولا ريب أن من أنكر الصانع وقال بان العالم واجب بذاته، فعقله أفسد من عقل هؤلاء. والعرب لم تكن تقول بهذا اللهم إلا أن يكون في تضاعيفهم آحاد وتقوله، ولكن لم يكن هذا القول ظاهراً فيهم، بل الظاهر فيهم الإقرار بالخالق وعلمه وقدرته ومشيئته. وهذه الشبه - شبه الجهمية - هي في الأصل نشأت من ملاحدة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 الأمم المنكرين للصانع، وهؤلاء أجهل الطوائف وأقلهم عقلاً، فلهذا لم تكن العرب تعارض بمثل هذه الشبه، وإنما ذكر الله تعالى نظير قول الجهمية عن مثل فرعون وأمثاله من المعطلة، كالذي حاج إبراهيم في ربه. ولا ريب أن المعطلة شر من المشركين، والعرب، وإن كانوا مشركين، لم يكن الظاهر فيهم التعطيل للصانع، وإن كان قد يكون في أضعافهم من هو من المرتابين في الصانع أو الجاحدين له، كما في تضاعيف كل أمة، حتى في المصلين من هو من هؤلاء، إذ المنافقون لم يزالوا في الأمة ولم يزالوا على اختلاف أصنافهم. وإذا عرف أن المقصود بيان فساد قول من يزعم أنه لا يمكن تصديق الرسول إلا بالطريق الجهمية، المناقضة لإثبات ما اخبر من صفات الله وكلامه وأفعاله حصل المقصود. وأما من قال: إن هذه المعقولات تعارض المفهوم الظاهر من الآيات والأحاديث، من غير أن يقول: إن العلم بصدق الرسول موقوف عليها، كما يقول من يعتقد صحة هذه الطريق: طريقة الاستدلال على الصانع بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام، وإن قال إنه يمكن تصديق الرسول بدونها، كما يقول الأشعري نفسه، وكثير من أصحابه، والرازي وأمثاله، وكثير من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية، يوجد شيء من هذا في كلام المحاسبي، وأبي حاتم البستي، والخطابي، وأبي الحسن التميمي، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وابن الزاغوني، وغير هؤلاء - فإن هؤلاء وجمهور المسلمين يقولون: إنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 يمكن تصديق الرسل بدون طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام. لكن هؤلاء وغيرهم يعتقدون صحة تلك الطريق وإن قالوا: إن تصديق الرسل لا يتوقف عليها. ثم منهم من يقول: إنها لا تعارض النصوص، بل يمكن الجمع بينهما. الوجه الخامس وهذه طريق الأشعري وأئمة الصحابة: يثبتون الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن، مع اعتقادهم صحة طريقة الاستدلال بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام. وهذه طريق أبي حاتم بن حبان البستي، وأبي سليمان الخطابي، والتميميين: كأبي الحسن التميمي وغيره من أهل بيته، وأبي علي بن أبي موسى، والقاضي أبي يعلى، وأبي بكر البيهقي، وابن الزاغوني، وخلق كثير من طوائف المسلمين من الحنيفة والمالكية والشافعية والحنبلية. ومن هؤلاء من يدعي التعارض بينهما كالرازي وأمثاله، كما يقول ذلك من يوجب الاستدلال بطريقة حدوث الأعراض، كالمعتزلة، وأبي المعالي وأتباعه. فهؤلاء مشتركون في أن هذه الطريقة المعقولة لهم مناقضة لما يفهم من الآيات والأحاديث، سواء قالوا: إن تصديق الرسول موقوف عليها، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، وأتباع صاحب الإرشاد أو لم يقولوا ذلك، كما يقوله من يوافق الأشعري والرزي. وجمهور المسلمين على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 أن تصديق الرسول ليس موقوفاً عليها. وليس المقصود في هذا المقام إلا إبطال قول من يدعي أن تقديم النقل على العقل المعارض له يقدح في العقل الذي به علم صحة السمع، وقد تبين أن فساد هذا القول معلوم بالاضطرار من الدين، معلوم بالاضطرار من العادة، وأن الذين آمنوا بالرسول وعلموا صدقه، لم يكن علمهم موقوفاً على هذه القضايا. ومما يشترك فيه الفريقان أن يقال: أهل العقول الذين سمعوا القرآن، والكفار من المشركين وأهل الكتاب في العصور المتقدمة، لم يكن منهم من طعن فيه، أو رد عليه مخالفة هذه الأخبار عن صفات الله لصريح المعقول، فلو كان العلم بنقيض ذلك ثابتاً في عقول بني آدم، لم يمكن في العادة أن يكون هذا الكلام الذي طبق مشارق الأرض ومغاربها، وظهر وليه على عدوه بالحجة الباهرة والسيف القاهر، وفي صريح المعقول ما يناقض أخباره، ولا أحد من العقلاء يتفطن لذلك: لا على وجه الطعن، ولا على وجه الاستشكال، مع أن هذه العقليات مما تتوفر الهمم والدواعي على استخراجها واستنباطها لو كانت صحيحة لأنها متعلقة بأشرف المطالب، والعلم به الذي تتوفر الهمم على طاب معرفة صفاته نفياً وإثباتاً. فلو كانت هذه الطرق الدالة على السلب طرقاً صحيحة تعلم بالعقل، لكان مع الداعي التام يجب تحصيلها، فإنه مع كمال القدرة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 والداعي يجب وجود المقدور، فكان يجب أن تظهر هذه من أفضل الناس عقلاً وديناً. فلما لم يكن الأمر كذلك علم أن ذلك كان لفسادها، وأنهم لصحة عقولهم لم يعتقدوها، كما يعتقدوا مذهب القرامطة الباطنية، والرافضة الغالية، وأمثالهم من الطوائف التي يعلم فساد قولهم بصريح العقل. ومعلوم أن الباطل ليس له حد محدود، فلا يجب أن يخطر ببال أهل العقل والدين كل باطل، وأن يردوه فإن هذه لا نهاية له، بخلاف ما هو حق بصريح العقل في حق الله تعالى، لا سيما إذا كان مما يجب اعتقاده، بل يتوقف تصديق الرسول على معرفته، فإن هذا يمتنع أن تكون العصور الفاضلة، مع كثرة أهلها وفضلهم عقلاً وديناً، لم يعلموها ولم يقولوها. فعلم بذاك أن هذه المعارضات ليست من العقليات الصحيحة التي هي مستقرة في صريح العقل، بل هي من الخيالات الفاسدة المشابهة للعقليات التي تنفق على طائفة من الناس دون طائفة، كما نفقت على الجهمية ومن وافقهم دون جمهور عقلاء بني آدم. ولهذا كان أعظم نفاقها على أجهل الناس وأعظمهم تكذيباً بالحق وتصديقاً بالباطل، من القرامطة الباطنية، والحلولية والاتحادية وأمثالهم. ومن المعلوم أن أهل التواتر لا يجوز عليهم في مستقر العادة أن يكذبوا، ولا أن يكتموا ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فكما أن الفطر فيها مانع من الكذب، ففيها داع إلى الإظهار والبيان، فكذلك ها هنا. كما أن العقول المتباينة والفطر المختلفة إذا أخبرت عما تعلمه بضرورة أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 حس، لم تتفق على الكذب ولا الخطأ، فكذلك أيضاً العقول المتباينة والفطر المختلفة إذا سمعت ما يعلم بصريح العقل وبطلانه وفساده، لم تتفق على الإعراض عن النظر والاستدلال حتى يعرف فساده وبطلانه. ولهذا لم تظهر في أمة من الأمم أقوال باطلة إلا كان فيه من يعرف بطلان ذلك، فيتكلم بذلك مع من يثق به، وإن وافق في الظاهر لغرض من الأغراض. ولهذا تجد خلقاً من الرافضة والإسماعيلية والنصيرية يعلمون في الباطن فساد قولهم، ويتكلمون بذلك مع من يثقون به. وكذلك بين النصارى خلق عظيم يعلمون فساد قول النصارى، وكذلك بين اليهود. وهذه الأمة قد كان فيها في القرون الثلاثة منافقون لا يعلم عددهم إلا الله، وقد جاورهم من المشركين وأهل الكتاب أمم أخر، وهم طوائف متباينة، فما يمكن أحداً أن ينقل أنه كان قبل الجعد بن درهم وجهم بن صفوان من ظهر عنه القول بأن العقول تنافي ما في القرآن من إثبات العلو والصفات، أو بعض الصفات، لا من المؤمنين، ولا من أهل الكتاب، ولا من سائر الكافرين. ومن المعلوم أن هذا إذا كان مستقراً في صريح المعقول، فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن يستخرج ويستنبط، وإذا استخرج واستنبط فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن يتكلم به، وإذا تكلم به فلا بد مع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 توفر الهمم والدواعي أن ينقل. إلا ترى أنه لما تكلم به واحد، وهو الجعد بن درهم، نقل الناس ذلك؟ ثم الجهم بعده كذلك، ولم نقل إن هذا لم يكن في نفس أحد، فإن هذا لا يمكن نفيه، ولم ينقل أن أحداً من هؤلاء لم يناج به بعض الناس، فإن هذا لا يمكن نفيه، بل قلنا: إنه لم يظهر، وعدم ظهوره مع الكثرة والقوة الموجبة لتوفر الهمم والدواعي على استخراجه واستنباطه: إن كان حقاً يوجب أنه ليس حقاً، فإن معرفة الله وما يستحقه من الصفات نفياً وإثباتاً أعظم المطالب. ونحن نعلم بالاضطرار أن سلف الأمة كانوا أعظم الناس رغبة في هذا ومحبة له، فإذا كان الحق هو قول النفاة، وعلى ذلك أدلة عقلية يستخرجها الناظر بعقله، وهم من أعقل الناس وأرغبهم في هذا المطلب، امتنع مع ذلك أن لا يكون منهم من يفطن لهذا الحق، وإذا تفطن له، مع قوة دينهم ورغبتهم في الحيز، كانوا يظهرونه ويبينونه، وذلك يوجب ظهوره وانتشاره لو كان حقاً. وكذلك الكفار لهم رغبة في معرفة ذلك وإظهاره، لو كان حقاً، لما كان فيه من معارضة الرسول ومناقضته، ولما فيه من معرفة الحق. واعلم أن هذا كما يقال في أمتنا، فإنه يقال في بني إسرائيل، فإن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي يسميها النفاة تشبيهاً وتجسيماً. ومن المعلوم أن التوراة قد تداولها من الأمم ما لا يحصيهم إلا الله، وقد انتشرت بين النصارى كما انتشرت بين اليهود، فلو كان ما فيها من الصفات وإثبات العلو لله مما يناقض صريح العقل، لكان ذلك من أعظم ما كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 ينبغي أن يتعنت به بنو إسرائيل وغيرهم لموسى، فقد ذكر عنهم ومن تعنت بموسى أشياء لا تعلم بصريح العقل، قد آذوا موسى وقالوا إنه آدر وإنه قتل هارون، ودس عليه قارون بغياً لرميه بالزنا ليؤذي موسى بذلك. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا} [الأحزاب: 69] ، ومع هذا فأذى موسى بذلك أذى لا يشهد به صريح العقل، فلو كان ما اخبرهم به مما يناقض صريح العقل، لكان آذاه بالقدح في ذلك أبين وأظهر وأولى أن يستعمله من يريد الأذى له. وقد قال تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} [البقرة: 47] . وقال: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} [المائدة: 20] . وقال: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين} [الجاثية: 16] . وقد كان القوم مجاورين الروم والقبط والنبط والفرس، وهم أئمة الفلاسفة، والصابئين والمشركين من جميع الأصناف. وقد ذكروا أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 أساطين الفلاسفة كفيثاغورس وسقراط أفلاطون قدموا الشام وتعلموا الحكمة من لقمان وأصحاب داود وسليمان، فكيف بكون ما تدل عليه التوراة ويفهم منها مناقضاً لصريح المعقول الذي لا ينبغي أن يشك عاقل فيه، لا يظهر ذلك إلا في أوليائها ولا أعدائها؟ بل الطوائف كلها مجتمعة على تعظيم الذي جاء بالتوراة، خاضعين له، فهل يكون كتاباً مملوءاً مما ظاهره كذب وفرية على الله، ووصف له بما يمتنع عليه ولا يجوز في حقه، ولا يظهر بين العقلاء مناقضته ومعارضته؟ ومن اعتبر الأمور وجد الرجل يصنف كتاباً في طب وحساب أو نحو أو فقه، أو ينشأ خطبة أو رسالة، أو ينظم قصيدة أو أرجوزة، فيلحن فيه لحنة، أو يغلط في المعنى غلطة، فلا يسكت الناس حتى يتكلموا فيه ويبينوا ذلك ويخرجون إلى الحق من زيادة الباطل، وإن كان صاحب ذلك الكلام لا يدعوهم إلى طاعته واستتباعه، ويذم من يخالفه - فضلاً عن أن يكفره ويبيح قتاله وشتمه - فإذا كان الذي جاء بالقرآن، ودعا الناس إلى طاعته واستتباعه، وأن يكون هو المطاع الذي لا ينبغي مخالفته في شيء: دق ولا جل، ويقول إن السعادة لمن أطاعه والشقاء لمن خالفه، ويعظم مطيعيه، ويعدهم بكل خير، ويلعن مخالفيه ويبيح دماءهم وأموالهم وحريمهم، فمن المعلوم أن مثل هذه الدعوة لا يدعيها إلا أكمل الناس وأحقهم بها، وهم الرسل الصادقون، أو أكذب الناس وأبعدهم عنها، كالمتنبئين الكاذبين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 ومعلوم أن صاحب هذه الدعوة، تعاديه النفوس وتحسده، «كما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره بما جاءه، فقال: (إن قومك سيخرجوك. قال: أو مخرجيهم؟ قال: نعم، إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مأزورا) » . ومن المعلوم أن أعداء من يقول مثل هذا، إذا كان المفهوم من كلامه، والظاهر من خطابه هو كذب على الله، ووصفه بذلك كان قائلاً من التشبيه والتجسيم بما يخالف صريح العقل، بل يكون صاحبه كافراً كذاباً مفترياً على الله - كان هذا من أعظم مما تتوفر الهمم والدواعي على معارضته به، والطعن في ذلك والقدح في نبوته به. وهكذا موسى بن عمران وبنو إسرائيل، كان بمقتضى العادة المطردة إنه لا بد في كل عصر من أن يظهر إنكار مثل ذلك والقدح في ما جاء به موسى، وأن يكون المأذون له يؤذونه بذلك وأعظم منه. فإن قيل: أنه قد وجد طعن في موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم بمثل هذا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 قلنا: نعم، وجد بعد أن ظهرت مقالة الجهمية في المسلمين، وحديث الملاحدة من القرامطة الباطنية، والذين أخذوا شر قول الجهمية وشر قول الرافضة، وركبوا منهم قولاً ثالثاً شراً منهما، ونحن لم نقل: إنه لم يقدح أحد في الأنبياء والمرسلين، ولا كذبهم ولا عارضهم في نفس ما دعوا إليه من التوحيد والنبوة والمعاد، وعارضوهم بعقولهم، ولم يعارضوهم معارضة صحيحة، بل كان ما عارضوا به فاسداً في العقل. فهؤلاء الذين حدثوا من المعارضين هم أسوا حالاً من أولئك المعارضين، فغن القرامطة الباطنية شر من عباد الأصنام من العرب، وشر من اليهود والنصارى، فمجادلة هؤلاء وأمثالهم بالباطل ليس بعجيب، فما زال في الأرض من يجادل بالباطل ليدحض به الحق. ولكن قلنا: إذا كان الظاهر المفهوم مما خبروا به مخالفاً لصريح العقل، امتنع في العادة أن لا يعارض أولئك الأعداء به، ولا يستشكله الأصدقاء مع طول الزمان، وتفرق الأمة، فإذا كان العدو يعارض بالمعقول الفاسد، فكيف لا يعارض بالمعقول الصريح، وإذا كان الولي يستشكل ما لا إشكال فيه لخطأه هو نفسه، فكيف لا يستشكل ما هو مشكل يخالف ظاهره - بل نصه - للحق المعلوم بصريح العقل؟ فقلنا: عدم وجود هذه المعارضات مع توفر الهمم والدواعي على وجودها - لو كانت حقاً - دليل على أنها باطل، كما أن عدم نقل ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله - لو كان موجوداً - دليل على انه كذب، بخلاف وجود الطعن والمعارضة، فانه ليس دليلاً على صحة ما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 عارض به وطعن، كما أن مجرد نقل الناقل ليس دليلاً على صحة ما نقل. فليتدبر الفاضل هذا النوع من النظر والكلام فإنه ينفتح له أبواب من الهدى، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن الجهمية النفاة هم من أفسد الناس عقلاً، وأعظمهم جهلاً، وإن كان قد يحصل لأحدهم ملك وسلطان بيد أو لسان، كما حصل لفرعون ونمرود بن كنعان ونحوهما. ولهذا وصف الله لهؤلاء وأشباههم بأنهم لا يسمعون ولا يعقلون، ومن تدبر الحقائق وجد كل من كان أقرب إلى التصديق بما جاءت به الرسل والعمل به، كان أكمل عقلاً وسمعاً، وكل من كان أبعد عن التصديق بما جاءت به الرسل والعمل به، كما أنقص عقلاً وسمعاً. ولا ريب أن قول أهل التعطيل والإلحاد، ومن دخل منهم من أهل الحلول والاتحاد، ومن شاركهم في بعض أصولهم المستلزمة، لتعطيلهم وإلحادهم من سائر العباد هي من أفسد الأقوال وأكذبها وأعظمها تناقضاً، وأكثر من الأمور أدلة على نقيضها، من الأدلة العقلية والسمعية، لكان اشتبه بعض أصولهم على كثير من أهل الإيمان فظنوا أن ذلك برهان عقلي معارض للقرآن الإلهي، ولم يعلموا أن البرهان موافق للقرآن ومعاضد لا مناقض معارض، وإن دلائل الآيات والآفاق العيانية موافقة للدلائل القرآنية، إذ كانت أدلة الحق شهوداً صادقين، وحكماً لا يثبت عندهم إلا الحق المبين. ومن المعلوم أن أخبار الصادقين وشهاداتهم وإثباتاتهم تتعاون وتتعاضد وتتناصر وتتساعد، لا تناقض ولا تعارض، وإن قدر أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 أحدهم يغلط خطأ أو يكذب أحياناً، فلا بد أن يظهر خطأه وكذبه، وهذا ما استقراه الناس في أحاديث المحدثين للأحاديث النبوية، لا يعرف أن أحداً منهم غلط أو كذب، إلا وظهر لأهله صناعته كذبه أو خطأه. وكذلك الناظرون - أهل النظر والاستدلال في الأدلة السمعية أو العقلية - ما يكاد يغلط غالط منهم، إلا ويعر فالناس غلطه من أبناء جنسه وغيرهم. والجهمية النفاة المعطلة قلبوا حقائق الأدلة البرهانية العقلية والسمعية، ثم ادعوا أن معهم دلالات عقلية تعارض الآيات السمعية، فحرفوا الآيات وبدلوها بالتأويل، بعد أن أفسدوا العقول بزخرف الأباطيل. قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون * أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين * وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام: 112-115] . فإذا رأيت الدلائل اليقينية تدل على أن ما اخبر به الرسول لا يناقض العقول، بل يوافقها، وأن ما ادعاه النفاة من مناقضة البرهان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 لمدلول القرآن قول باطل، فلا تعجب من كثرة أدلة الحق، وخفاء ذلك على كثيرين، فإن دلائل الحق كثيرة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وقل لهذه العقول التي خالفت الرسول، في مثل هذه الأصول: كادها باريها، واتل قوله تعالى: {وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} [الأحقاف: 26] . ومما يوضح الأمر في ذلك أن يقال: من المعلوم أن موسى ومحمداً صلى الله عليهما وسلم وأمثالهما، كانوا من أكمل الناس معرفة وخبرة وعقلاً باتفاق من آمن بهم ومن كفر، فإن الكافر بهم يقول: كانوا من أدهى الناس واخبرهم بالأمور، وأعرفهم بالطرق التي تنال بها المقاصد، والأسباب التي تطلب بها المرادات، فسعوا فيما يصدقهم به الناس، ويطيعونهم بما كان عندهم من المعرفة والحذق والذكاء. وأما المؤمن بهم فيقول: إن الله خصهم من العلم والعقل والمعرفة واليقين، بما لم يشركهم أحد من العالمين. وقال وهب بن منبه لو وزن عقل محمد صلى الله عليه وسلم بعقل أهل الأرض لرجح. وإذا كان كذلك امتنع في صريح العقل أن من يريد أن الناس يصدقونه ويطيعونه، يذكر لهم ما يوجب في صريح العقل تكذيبه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 ومعصيته، والقدح فيما جاء به ومعارضته، فإن كان المفهوم المعروف مما أخبروا به الناس مناقضاً لصريح العقل. وهم لو لم يعرفوا أنه مناقض لصريح العقل، فقد وصفهم من قال ذلك من نقص العقل وفساده، بما أجمع الناس على فساده، وإن علموا أنه مناقض لصريح العقل، وأظهروه ولم يبينوه، ولم يذكروا ما يجمع بينه وبين صريح العقل، فقد سعوا فيما به يكذبهم المكذب، ويرتاب المصدق، ويستطيل به أعداؤهم على أوليائهم، فيكون أوليائهم في الريب والاضطراب، وأعدائهم قد فوقوا إليهم النشاب، وحزبوا عليه الأحزاب، وهم لا يستطيعون نصر ما جاء به الرسول بل يطلبون الإعراض عن سماعه، ومنع الناس من استماعه، ولا يفعله إلا من هو من أقل الناس عقلاً. وإذا كان هؤلاء بإجماع أهل الأرض كاملي العقول والمعرفة، بل أكمل الناس عقلاً ومعرفة، تبين أن الدين الذي أظهروه وبينوا وأخبروا به ووصفوه، لم يكن عنهم مناقضاً لصريح المعقول، ولا منافياً لحق مقبول، بل كان عندهم لا يخالف ذلك إلا كل كاذب جهول. ومما يوضح الأمر في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ظهر وانتشر ما أخبر به من تبديل أهل الكتاب وتحريفهم، وما اظهر من عيوبهم وذنوبهم، تنزيه لله عما وصفوه به من النقائص والعيوب، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 كقوله تعالى: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق} [آل عمران: 181] . وقوله تعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين} [المائدة: 64-65] ، وقوله تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38] . ونزه نفسه عما يصفوه به من الفقر والبخل والإعياء، فالإعياء من جنس العجز المنافي لكمال القدرة، والفقر من جنس الحاجة إلى الغير المنافي لكمال الغنى، والبخل من جنس منع الخير وكراهة العطاء، المنافي لكمال الرحمة والإحسان، وكمال القدرة والرحمة. والغنى من الغير مستلزم سائر صفات الكمال، فإن الفاعل إذا كان عاجزاً لم يفعل، وإذا كان قادراً ولم يرد فعل الخير لم يفعله، فإذا كان قادراً مريداً له فعل الخير، ثم إن كان محتاجاً إلى غيره، كان معاوضاً لا محسناً متفضلاً، وكان فيه نقص من وجه آخر، فإذا كان مع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 هذا غني عن الغير، لم يفعل إلا لمجرد الإحسان والرحمة، وهذا غاية الكمال. وقد نزه الله سبحانه نفسه في القرآن عما زعمته النصارى من الولد الشريك، فقال تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه} [النساء: 171] . وقال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا} [المائدة: 17] . وقال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم} [المائدة: 73-74] . ثم إنه جمع اليهود والنصارى في قوله: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30] . ومن المعلوم لمن له عناية بالقران أن جمهور اليهود لا تقول: إن عزير ابن الله، وإنما قالت طائفة منهم، كما قد نقل أنه قاله فنحاص بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 عازورا، أو هو وغيره. وبالجملة إن قائلي ذلك من اليهود قليل، ولكن الخبر عن الجنس. كما قال: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} [آل عمران: 173] ، فالله سبحانه بين هذا الكفر الذي قاله بعضهم وعابه به، فلولا كان ما في التوراة من الصفات التي تقول النفاة إنها تشبيه وتجسيم، فإن فيها من ذلك ما تنكره النفاة وتسميه تشبيهاً وتجسيماً، بل فيه إثبات الجهة وتكلم الله بالصوت، وخلق آدم على صورته وأمثال هذه الأمور. فإن كان هذا مما كذبته اليهود وبدلته، كان إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وبيان ذلك أولى من ذكر ما هو دون ذلك، فكيف والمنصوص عنه موافق للمنصوص في التوراة؟ فإنك تجد عامة كما جاء به الكتاب والأحاديث في الصفات موافقاً مطابقاً لما ذكر في التوراة، وقد قلنا قبل ذلك إن هذا كله مما يمتنع في العادة توافق المخبرين به من غير مواطأة. وموسى لم يواطئ محمداً، ومحمد لم يتعلم من أهل الكتاب. فدل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 ذلك على صدق الرسولين العظيمين، وصدق الكتابين الكريمين. وقلنا: إن هذا لو كان مخالفاً لصريح المعقول لم يتفق عليه مثل هذين الرجلين، اللذان هما وأمثالهما أكمل العالمين عقلاً، من غير أن يستشكل ذلك وليهما المصدق، ولا يعارض بما يناقضه عدوهما المكذب، ويقولان: إن إقرار محمد صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب على ذلك، من غير أن يبين كذبهم فيه، دليل على أنه ليس مما كذبوه وافتروا على موسى مع أن هذا معلوم بالعادة، فإن هذا في التوراة كثير جداً، وليس لأمة كثيرة عظيمة منتشرة في مشارق الأرض ومغاربها، غرض في أن تكذب على من تعظمه غاية التعظيم، بما يقدح فيه، وتبين فساد أقواله، ولكن لهم غرض في أن يكذبوا كذباً يقيمون به رياستهم وبقاء شرعهم، والقدح فيما جاء به من ينسخ شيئاً منها، كما لهم غرض في الطعن على عيسى بن مريم وعلى محمد صلى الله عليهما وسلم، فإذا قالوا ما هو من جنس القدح فيه عيسى ومحمد كان تواطؤهم على الكذب فيه ممكن، فإما إذا قالوا ما هو من جنس القدح في موسى فيمتنع تواطؤهم على ذلك في العادة، مع علمهم بأنه يقدح في موسى، كما يمتنع تواطؤ النصارى على ما يعلمون انه قدح في المسيح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 وأما المسلمون فقد عصمهم الله من أن يتفقوا على خطأ، لكن يعلم بمطرد العادات انه يمتنع تواطؤهم على ما يعلمون أن قدح في نبوته، فإن هذا لا يفعله إلا من هو مبغض له مكذب، ونحن نعلم أن اليهود لم يتفقوا على ضرب موسى وتكذيبه، ولا اتفقت النصارى على بغض المسيح وتكذيبه، فضلاً عن أن تتفق طائفة من المسلمين على بغض محمد وتكذيبه، وإذا اتفقت طائفة على بغضه وتكذيبه، مثل غالية الإسماعيلية والخزمية الباطنية وأمثالهم، لم تكن هذه الطائفة من أهل الإيمان به، وقد انكشف - ولله الحمد - أمرهم، وانهتك سترهم. وقد تتفق الطائفة على قول يكون متضمناً للقدح فيمن تعظمه ولا يعلم ذلك، كما يتفق مثل ذلك للنصارى والرافضة، وأمثالهم من جهال الطوائف، الذين اعتقدوا عقائد فاسدة فظنوها حقاً، وكذب بعضهم فنقلها لهم عن المسيح أو علي، فصدقوا ذلك الناقل، لا لثبوت صدقه عندهم، لكن لموافقته لهم فيما يعتقدونه. وهذا سبب كثرة الكذب والضلال بين النصارى والرافضة والغلاة من العامة وغيرهم، وإذا كان كذلك فهذه الأقوال التي في التوراة: إن كانت مخالفة لصريح العقل لم يكن في إضافتها إلى موسى إلا بطريق القدح فيه، فيمتنع اتفاق اليهود على نقلها عنه، وإن لم تكن مخالفة لصريح العقل، لم يكن حينئذ في نقلها عن موسى محذور. فثبت أن لا يجوز تكذيب نقل هذه عن موسى لاعتقاده مخالفتها بالعقل الصريح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 فإن قيل: إن الذي كذبها لهم كان يعتقد صدقها، أو كان غرضه إضلالهم، كما أن كثيراً من هذه الأمة يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أكاذيب لاعتقاده أنها حق صحيح يجب على الناس قبوله، فيكذب أحاديث في ذلك ليقبل الناس ما يعتقده، كما وقع مثل هذا لطوائف من أهل البدع والكلام، وبعض المتفقهة والمتزهدة، مثل الجويباري الذي كان يكذب للمرجئة والكرامية وغيرهم أحاديث توافق قولهم، ومثل بعض المتفقهة الذين كذبوا أحاديث توافق رأيهم لاعتقادهم أنه صدق، ومثل طائفة من أهل الزهد والعبادة كذبوا أحاديث في الرتغيب والترهيب، وقالوا: نحن كذبنا له ما كذبنا عليه، ومثل الذين كذبوا أحاديث في فضائل الأشخاص والبقاع والأزمنة وغير ذلك، وغير ذلك، لظنهم أن موجب ذلك حق، أو لغرض آخر. وآخرون من الزنادقة والملاحدة كذبوا أحاديث مخالفة لصريح العقل ليهجنوا بها الإسلام ويجعلوها قادحة فيه، مثل حديث عرق الخيل الذي فيه أنه خلق خيلاً فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق، فإن هذا الحديث وأمثاله لا يكذبه من يعتقد صدقه لظهور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 كذبه، وإنما كذبه من مقصوده إظهار الكذب بين الناس، كما يقولون: إنه وضعه بعض أهل الأهواء، ليقول: أن أهل الحديث يروون مثل هذا، ومع هذا فكل أهل الحديث متفقون على لعنة من وضعه. ومما يشبه ذلك حديث الجمل الأورق وأنه ينزل عشية عرفة على جمل أورق، فيصافح المشاة ويعانق الركبان، وحديث رؤيته لربه في الطواف، أو رؤيته ليلة المعراج بعين رأسه وعليه تاج يلمع، بل وكل حديث فيه رؤيته لربه ليلة المعراج عياناً، فإنها كلها أحاديث مكذوبة موضوعة، باتفاق أهل المعرفة بأحاديث، لكن الذين وضعوها يمكن أنهم كانوا زنادقة، فوضعوها ليهجنوا بها من يرويها ويعتقدها من الجهال، ويمكن أن الذين وضعوها كانوا من الجهال الذين يظنون مثل هذا حقاً، وأنهم إذا وضعوه قووا الحق، كما وضع كثير من هؤلاء أحاديث في فضائل الصحابة: أبي بكر وعمر وعثمان، لا سيما ما وضعوه في فضائل علي من الأكاذيب، فإنه لا يكاد يحصى، مع أن في فضائلهم الصحيحة ما يغنى عن الباطل، ومثل ما وضعوه في مثالبهم، لا سيما ما وضعته الرافضة في مثالب الخلفاء وغيرهم، فإن فيه من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله. والمقصود أن المعترض يقول: يمكن أن يكون الذين كذبوا ما في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 التوراة من الصفات على موسى، كانوا يعتقدونها فكذبوها، أو كان مقصودهم إضلال اليهود وبث الكذب فيهم لإفساد دينهم. قيل: هذا القدر يمكن أن يفعله الواحد والاثنان والطائفة القليلة، ولكن هؤلاء إذا حدثوا به عامة اليهود، مع معرفتهم واختلافهم، فلا بد إذا كان معلوماً فساده بصريح العقل أن يرده بعضهم أو يستشكله، ويقول: إن مثل هذا يقدح في موسى، فحيث قبلوه كلهم علم أنهم لم يكونوا يعتقدون أنه فاسد في صريح العقل. ومن المعلوم عند أهل الكتاب أن قدماءهم لم يكونوا ينكرون ما في التوراة من الصفات، وإنما حدث فيهم بعد ذلك، لما صار فيهم جهمية: إما متفلسفة مثل موسى بن ميمون وأمثاله، وإما معتزلة مثل أبي يعقوب البصير وأمثاله، فإن اليهود لهم بالمعتزلة اتصال وبينهما اشتباه، ولهذا كانت اليهود تقرأ الأصول الخمسة التي للمعتزلة، ويتكلمون في أصول اليهود بما يشابه كلام المعتزلة، كما أن كثيراً من زهاد الصوفية يشبه النصارى ويسلك في زهده وعبادته من الشرك والرهبانية ما يشبه سلوك النصارى، ولهذا أمرنا الله تعالى أن تقول في صلاتنا: {اهدنا الصراط الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 6-7] . والنصارى يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال، واليهود تشبه الخالق بالمخلوق في صفات النقص. ولهذا أنكر القرآن على كل من الطائفتين ما وقعت فيه من ذلك، فلو كان ما في التوراة من هذا الباب لكان إنكار ذلك من اعظم الأسباب، وكان فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لذلك من أعظم الصواب، ولكان النبي صلى الله عليه وسلم ينكر ذلك، من جنس إنكار النفاة. فنقول إثبات هذه الصفات يقتضي التجسيم والتجسيد والتشبيه والتكييف، والله منزه عن ذلك، فإن عامة النفاة إنما يردون هذه الصفات بأنها تستلزم التجسيم. ومن المسلمين وأهل الكتاب من يقول بالتجسيد، فلو كان هذا وتجسيماً وتجسيداً يجب إنكاره، لكان الرسول إلى إنكار ذلك أسبق وهو به أحق. وإن كان الطريق إلى نفي العيوب والنقائص، ومماثلة الخالق لخلقه، هو ما في ذلك من التجسيد والتجسيم، كان إنكار ذلك بهذا الطريق هو الصراط المستقيم، كما فعله من أنكر ذلك بهذا الطريق من القائلين بموجب ذلك من أهل الكلام، فلما لم ينطق النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا التابعون، بحرف من ذلك بل كان ما نطق به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 موافقاً مصدقاً لذلك، وكان اليهود إذا ذكروا بين يدي أحاديث في ذلك يقرأ من القرآن ما يصدقها. كما في الصحيحين عن «عبد الله بن مسعود أن يهودياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يوم القيامة يمسك السماوات على إصبع. والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا لقول الحبر، ثم قرا قوله تعالى {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} [الزمر: 67] » . وأخبر هو صلى الله عليه وسلم بما يوافق ذلك غيره مرة، كما في حديث ابن عمر الذي في الصحيحين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر هذه الآية ثم قال: يقول الله: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا المتعال ينجد نفسه. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرددها، حتى رجف به المنبر، حتى ظننا انه سيخر به» . فهذا كله ذكرناه لما بينا أن ما يخالف هذه النصوص من القضايا التي يقال: أنها عقلية ليست مما يحتاج إليه في العلم بصدق الرسول، فاعلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 بطلان قول القائل: إن تقديم النقل على العقل يوجب القدح فيه بالقدح في أصله، حيث تبين أن ذلك ليس قدحاً في أصله. وهذا الكلام في الأصل هو من قول الجهمية والمعتزلة وأمثالهم، وليس من قول الأشعري وأئمة الصحابة وإنما تلقاه عن المعتزلة متأخرو الأشعرية لما مالوا إلى نوع التجهم، بل الفلسفة، وفارقوا قول الأشعري وأئمة الصحابة، الذين لم يكونوا بمخالفة النقل للعقل، بل انتصبوا لإقامة ادلة عقلية عقلية توافق السمع. ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع، واثبت بالعقل الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع، فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضاً للسمع، بل ما جعله معاضداً له، وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل. وهؤلاء خالفوه وخالفوا أئمة الصحابة في هذا وهذا، فلم يستدلوا بالسمع في إثبات الصفات، وعارضوا مدلوله بما ادعوا من العقليات. والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب الأشعري بقايا من التجهم والاعتزال، مثل اعتقاد صحة طريقة الأعراض وتركيب الجسام وإنكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشاؤها ويختارها، وأمثال ذلك من المسائل التي أشكلت على من كان أعلم من الأشعري بالسنة والحديث وأقوال السلف والأئمة، كالحارث المحاسبي، وأبي علي الثقفي، وأبي بكر بن إسحاق الصبغي، مع أنه قد قيل: إن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 الحارث رجع عن ذلك، وذكر عن غير واحد ما يقتضي الرجوع عن ذلك، وكذلك الصبغي والثقفي قد روي أنهما استتيبا فتابا. وقد وافق الأشعري على هذه الأصول طوائف من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم، منهم من تبين له بعد ذلك الخطأ فرجع عنه، ومنهم من اشتبه عليه ذلك، كما اشتبه غير ذلك على كثير من المسلمين، والله يغفر لمن اجتهد في معرفة الصواب من جهة الكتاب والسنة، بحب عقله وإمكانه وإن أخطأ في بعض ذلك. والمقصود أنه لم يكن في المنسوبين إلى السنة ولو كان فيه نوع من البدعة، من يزعم أن صريح المعقول يخالف مدلول الكتاب والسنة، بل كل من تكلم بذلك كان عند الأمة من أهل البدع المضلة، فضلاً عن أن يقال: إن ما به يعلم صدق الرسول من المعقول مناقض لمدلول الكتاب والسنة، وإذ هذا كلام يفتح على صاحبه من الزندقة والإلحاد ما يخرجه عن طرد قوله إلى غاية الجهل والضلال والكفر والإلحاد، وإن لم يطرد قول ظهر منه من التناقض والفساد ما لا يوافقه عليه لا أهل التوحيد والحق والإيمان ولا طائفة من طوائف العباد. وبهذا كان يصف الأشعري كل من يواليه ويحبه من المنسوبين إلى السنة والجماعة، كما في رسالة أبي بكر البيهقي التي كتبها إلى بعض ولاة الأمور لما كان وقع بخراسان من لعنة أهل البدع ما وقع، وقصد بعض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 الناس إدخال الأشعري فيهم. وقد ذكر الرسالة أبو قاسم بن عساكر في تبين كذب المفتري. رسالة البيهقي في فضائل الأشعري قال البيهقي في أثناء الرسالة: (فليعلم الشيخ العميد أن أبا الحسن من أولاد أبي موسى الأشعري رضي الله عنه) . ثم ذكر من فضائل أبي موسى الأشعريين، وذرية أبي موسى أموراً معروفة، إلى قال: (إلى أن بلغت النوبة إلى أن شيخنا أبي حسن الأشعري، فلم يحدث في دين الله حدثاً، ولم يأت فيه ببدعة، بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الأئمة، في أصول الدين، فبصرنا بزيادة شرح وتبيين وأن ما قالوه وجاء به الشرع في الأصول صحيح في المعقول، خلاف ما زعمه أهل الأهواء من أن بعضه لا يستقيم في الآراء، فكان في بيانه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 تقوية ما لم يزل عليه أهل السنة والجماعة، ونصرت أقاويل من مضى من الأئمة، كأبي حنيفة وسفيان الثوري من أهل الكوفة، والأوزاعي وغيره من أهل الشام، ومالك والشافعي من أهل الحرمين، ومن نحا نحوهما من أهل الحجاز، وغيرها من سائر البلاد، كأحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث، والليث بن سعد وغيره، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم الحجاج النيسابوري إمامي أهل الآثار، وذلك من دأب من تصدر من الأئمة في هذه الأمة، وصار رأساً في العلم أهل السنة، في قديم الدهر وحديثه. إلى أن قال: (وحين كثرت المبتدعة في هذه الأمة، وتركوا ظاهر الكتاب والسنة، وأنكروا ما ورد أنه من صفات الله تعالى، نحوه: الحياة والقدرة والعلم، والمشيئة، والسمع، والبصر، والكلام، وجحدوا ما دل عليه من المعراج وعذاب القبر، والميزان، وأن الجنة والنار مخلوقتان، وأن أهل الإيمان يخرجون من النيران، وما لنبينا صلى الله عليه وسلم من الحوض والشفاعة، وأن الخلفاء الأربعة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 كانوا محقين فيما قاموا به من الولاية، وزعموا أن شيئاً من ذلك لا يستقيم على العقل، ولا يصح في الرأي - أخرج الله من نسل أبي موسى الأشعري إماماً قام بنصرة دين الله، وجاهد بلسانه وبنانه من صد عن سبيل الله، وزاد في التبيين لأهل اليقين، أن ما جاء به الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، مستقيم على العقول الصحيحة والآراء. ومضمون الرسالة إزالة ما وقع من الفتنة وإطابة قلوب أهل السنة. قال أبو القاسم بن عساكر: (وإنما كان انتشار ما ذكر أبو بكر البيهقي من المحنة واستعار ما أشار بإطفائه - في رسالته -من الفتنة، ما تقدم به من سب حزب الشيخ أبي الحسن الأشعري، في دولة السلطان طغرلبك، ووزارة أبي نصر الكندري، وكان السلطان حنيفاً سنياً، وكان وزيره معتزلياً رافضياً، فلما أمر السلطان بلعن المبتدعة على المنابر في الجمع، قرن الكندري - للتسلي والتشفي - اسم الأشعرية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 بأسماء أرباب البدع، وامتحن الأئمة الأفاضل، وعزل أبا عثمان النيسابوري عن خطبة نيسابور، وفوضها إلى بعض الحنيفة، فأم الجمهور، وخرج الأستاذ أبو القاسم وأبو المعالي عند البلد) . ثم ذكره زوال تلك المحنة في دولة ابن ذلك السلطان ووزارة النظام. وهذا الذي ذكره عنه البيهقي هو المعروف في كتبه وعند أئمة الصحابة، وذكر ابن عساكر عن جماعة ما يوافق كلام البيهقي فذكر أن أبا الحسن القابسي - وهو من كبار أئمة المالكية بالمغرب - سأل عنه فكان في جوابه: (واعلموا أن أبا الحسن الأشعري لم يأت من هذا الأمر - يعني الكلام - إلا ما أراد به إيضاح السنن - والتثبيت عليها - ودفع الشبه عنها) . وقال أبو بكر بن فورك: (انتقل الشيخ أبو الحسن الأشعري الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 من مذاهب المعتزلة إلى نصرة مذاهب أهل السنة والجماعة بالحجج العقلية، وصنف في ذلك الكتب) . وذكر ابن عساكر كلامه في مصنفاته. كلام الأشعري في الإبانة وقوله: (فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم الني بها تدينون. قيل له: قولنا الذي به تقول: وديانتنا التي بها ندين، التمسك بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثبوبته - قائلون: ولمن خالف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 قوله مجانبون، لأن الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين. وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئاً، وأن الله إله واحد فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولد، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله مستو على عرشه كما قال: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، وأن له وجه، كما قال: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [طه: 27] ، وان له يدين كما قال: {بل يداه مبسوطتان} [المائدة: 64] ، كما قال {لما خلقت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 بيدي} [ص 75] ، وأن له عينين بلا كيف، كما قال: {تجري بأعيننا} [القمر: 15] ، إلى أن قال (ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إجماع المسلمين، وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم، ونقول إن الله يجيء يوم القيامة، كما قال: {وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر: 22] ، وأن الله يقرب من عباده كيف يشاء كما قال: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [ق: 16] ، وكما قال: {ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى} [النجم: 8-9] . تعليق ابن تيمية فهذا الكلام وأمثاله في كتبه وكتب أئمة أصحابه: يبينون أنهم يعتصمون في مسائل الأصول التي تنازع فيها الناس بالكتب والسنة والإجماع، وأن دينهم التمسك بالكتاب والسنة، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ثم خصوا الإمام أحمد بالاتباع والموافقة، لما أظهر من السنة بسبب ما وقع له من المحنة. فأين هذا من قول من لا يجعل الكتاب والسنة والإجماع طريقاً إلى معرفة صفات الله، وأمثال ذلك من مسائل الأصول؟ فضلاً عمن يدعي تقديم عقله ورأيه على مدلول الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأئمة، ومن يقول: إذا تعارض القرآن وعقولنا قدمنا عقولنا على القرآن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 ولهذا كان الأشعري وأئمة الصحابة من المثبتين لعلو الله بذاته على العالم، كما كان ذلك مذهب ابن كلاب، والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي، وأبي بكر الصبغي، وأبي علي الثقفي وأمثالهم. لكن للبقايا التي بقيت على ابن كلاب وأتباعه من بقايا التهجم والاعتزال، كطريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام، احتاج من سلك طريقهم إلى طرد تلك الأقوال، فاحتاج أن يلتزم قول الجهمية والمعتزلة في نفي الصفات الخبرية، ويقدم عقله على النصوص الإلهية، ويخالف سلفه والأئمة الأشعرية، وصار ما مدح به الأشعري وأئمة الصحابة من السنة والمتابعة النبوية عنده من أقوال المجسمة الحشوية، كما أن المعتزلة لما نصروا الإسلام في مواطن كثيرة، وردوا على الكفار بحجج عقلية، لم يكن أصل دينهم تكذيب الرسول، ورد أخباره ونصوصه، لكن احتجوا بحجج عقلية: إما ابتدعوها من تلقاء أنفسهم وإما تلقوها عمن احتج بها من غير أهل الإسلام، فاحتجوا أن يطردوا أصول أقوالهم التي احتجوا بها وتسلم عن النقص والفساد، فوقعوا في أنواع من رد المعاني الأخبار الإلهية، وتكذيب الأحاديث النبوية. وأصل ما أوقعهم في نفي الصفات والكلام والأفعال، والقول بخلق القرآن، وإنكار الرؤية، والعلو لله على خلقه - هي طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام، وعنها لومهم ما خالفوا به الكتاب والسنة والإجماع في هذا المقام، مع مخالفتهم للمعقولات الصريحة التي لا تحتمل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 النقيض، فناقضوا العقل والسمع من هذا الوجه، وصاروا يعادون من قال بموجب العقل الصريح، أو بموجب النقل الصحيح. وهم وإن كان لهم من نصر بعض الإسلام أقوال صحيحة، فهم فيما خالفوا به السنة سلطوا عليهم وعلى المسلمين أعداء الإسلام، فلا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا. اعتراض يذكر نفاة الصفات فإن قيل: إنما لم يعارض سلف المؤمنين والكفار المتقدمون لهذه النصوص لأنهم كانوا قوماً عرباً فصحاء يفهمون ما أريد بها، ولم يكونا يفهمون منها إثبات أن ذاته نفسه فوق العرش، ولا ما يشبه ذلك من الأمر المستلزمة للتجسيم، فلما لم يفهموا منها ما فهمه المتأخرون من هذا الإثبات، لم يكن المفهوم منها عندهم معارضاً لشيء من الأدلة العقلية، وأما المتأخرون فلما صاروا يستدلون بها على الإثبات المستلزم للتجسيم، صار من يريد أن يرد عليهم يعارضهم بالأدلة العقلية النافية. فهذا خلاصة ما يمكن أن يقوله من يعظم الرسول والسلف من النفاة. بطلان هذا الكلام من وجوه متعددة: الوجه الأول فيقال: هذا باطل من وجوه متعددة: الوجه الأول أن يقال: فعلى هذا التقدير لا يكون المفهوم الظاهر من هذه النصوص إثبات العلو على العالم والصفات، ولا يجوز أن يقال: ظواهر هذه النصوص غير مراد، ولا أن قد تعارضت الدلائل النقلية والعقلية، فإنه إذا قدر أنها لا تدل على الإثبات: لا دلالة قطعية ولا ظاهرة بطل أن يكون في ظاهرها ما يفهم منه إثبات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 ومن المعلوم أن هذا خلاف قول الطوائف كلها من المثبتة والنفاة، حتى من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وإنكار معاد الأبدان، فإنهم معترفون بما اعترف به سائر الخلق من أن الظاهر المفهوم منها هو إثبات الصفات. ولكن هؤلاء المتفلسفة يقولون: إن الرسول لم يرد بيان العلم والإخبار بالأمر على وجهه، وإنما أراد التخييل، وإن تضمن ذلك التدليس وإظهار خلاف ما يبطن والكذب للمصلحة وهذا قول الملاحدة الباطنية. وفساد هذا المعلوم من وجوه اكثر مما يعلم به فساد قول الجهمية والمعتزلة. ولهذا كان هؤلاء عند المسلمين ملاحدة زنادقة الوجه الثاني أن يقال: التفاسير الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان تبين أنهم إنما كانوا يفهمون منها الإثبات، بل والنقول المتواترة المستفيضة عن الصحابة والتابعين في غير التفسير موافقة للإثبات، ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين حرف واحد يوافق قول النفاة، ومن تدبر الكتب المصنفة في آثار الصحابة والتابعين، بل المصنفة في السنة من: كتاب السنة والرد على الجهمية، للأثرم،، ولعبد الله بن أحمد، وعثمان بن سعيد الدارمي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وأبي داود السجستاني، وعبد الله بن محمد الجعفي، والحكم بن معبد الخزاعي، وحشيش بن أصرم النسائي، وحرب بن قاسم الكرماني، وأبي بكر الخلال، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي القاسم الطبراني، وأبي الشيخ الأصبهاني، وأبي أحمد العسال، وأبي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 نعيم الأصبهاني، وأبي الحسن الدارقطني، وأبي حفص بن شاهين، ومحمد بن إسحاق بن منده، وأبي عبد الله بن بطه، وأبي عمر الطلمنكي، وأبي ذر الهروي، وأبي محمد الخلال، والبيهقي، وأبي عثمان الصابوني، وأبي نصر السجزي، وأبي عمر بن عبد البر، وأبي القاسم اللالكائي، وأبي إسماعيل الأنصاري، وأبي القاسم التيمي، وأضعاف هؤلاء رأى في ذلك من الآثار الثابتة المتواترة عن الصحابة والتابعين، ما يعلم منه بالاضطرار أن الصحابة والتابعين كانوا يقولون بما يوافق مقتضى هذه النصوص ومدلولها، وأنهم كانوا على قول أهل الإثبات المثبتين لعلو الله نفسه على خلقه، المثبتين لرؤيته، القائلين بأن القرآن كلامه ليس بمخلوق بائن عنه. وهذا يصير دليلاً من وجهين: أحدهما من جهة إجماع السلف، فإنهم يمتنع أن يجمعوا في الفروع على الخطأ، فكيف في الأصول. الثاني: من جهة أنهم كانوا يقولون بما يوافق مدلول النصوص ومفهومها، لا يفهمون منها ما يناقض ذلك. ولهذا كان الذين أدركوا التابعين من أعظم الناس قولاً بالإثبات وإنكاراً لقول النفاة، كما قال يزيد بن هارون الواسطي من قال: إن الله على العرش استوى، خلاف ما يقر في نفوس العامة فهو جهمي. وقال الأوزاعي كنا - والتابعون متوافرون - نقر بأن الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. الوجه الثالث أن من له عناية بآثار السلف بعلم علماً أن قول النفاة إنما حدث فيهم في أثناء المائة الثانية، وأن أول من ظهر ذلك عنه الجعد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 بن درهم، والجهم بن صفوان، وقد قتلهما المسلمون. وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية أعظم وأكثر من أن يذكر هنا، حتى كان غير واحد من الأئمة يخرجهم عن عداد الأمة. وقال يوسف بن أسباط وعبد الله ابن المبارك: أصولي الثنتين وسبعين فرقة أربع: الخوارج والشيعة، والمرجئة والقدرية،. فقيل لابن المبارك: فالجهمية: فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ولأصحاب أحمد في الجهمية: هل هم من الثنتين وسبعين فرقة، أم هم خارجون عنها كالملاحدة والزنادقة؟ - قولان. والجهمية باتفاقهم هم نفاة الصفات الذين يقولون إن الله ليس فوق العالم، ولا يرى، ولا تقوم به صفة ولا فعل. وابن كلاب ومتبعوه خالفوهم في العلو والصفة، ووافقوهم على نفي الأفعال القائمة به، وغيرها مما يتعلق بمشيئته وقدرته، فكيف يمكن مع هذا أن يقال: إن السلف كانوا من القائلين بنفي العلو والصفات. وإذا كانوا من المثبتة امتنع أن يقال: إنهم عرفوا أن القرآن إنما يدل على قول الإثبات وخالفوه. الوجه الرابع أن يقال: القرآن: إما أن يقال: إنه بنفسه دال على العلو وإثبات ما يفهم منه من الصفات. وإما أن يقال: أنه ينفي ذلك، وإما أن يقال: إنه لا يدل على ذلك لا بنفي ولا إثبات. فإن قيل بالأول ثبت المقصود وعلم أن مدلول القرآن ومفهومه هو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 الإثبات، وتبين ما ذكر من أنه يمتنع أن يكون العقل الصريح معارضاً لذلك. وإن قيل بالثاني كان هذا معلوم الفساد بالاضطرار، فإن ليس في القرآن آية واحدة ظاهرة في نفي الصفات، وغاية ما يريد من يستدل بذلك أن يستدل بقوله: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] ، وقوله: {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4] ، ونحو ذلك، وهذه الآيات إنما تنفي مماثلة صفاته لصفات المخلوقين، لا تنفي ثبوت الصفات. ولا ريب أن القرآن تضمن إثبات الصفات ونفى مماثلة المخلوقات، فأما أن يكون فيه ما ينفي الصفات، فهذا من أعظم البهتان، الذي يظهر أنه كذب لكل عاقل. ولهذا لما كان النفاة يعتمدون على ما ينفي التمثيل كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} ، وقوله: {ولم يكن له كفوا أحد} ، وهذا لا يدل على مقصودهم في اللغة التي نزل بها القرآن، بل هو على نقيض مقصودهم أدل، فإن هذا يدل على ثبوت شيء موصوف بصفات الكمال، لا مماثل له في ذلك، وهم لم يثبتوا ذلك - احتاجوا إلى أن يفتروا على اللغة، بعد أن افتروا على العقل، فصاروا مفترين على الشرع والعقل واللغة، فيقول أحدهم: لو كان موصوفاً بالعلو لكان جسماً، ولو كان جسماً لكان مماثلاً لسائر الأجسام، والله قد نفى عنه المثل، فهذا أعظم ما يعتمدون عليه من جهة السمع. وقد بين في غير هذا الموضع فساد هذا من وجوه كثيرة. منها أن يقال: هنا ثلاث مقدمات حصل فيها التلبيس: أحدها: كون كل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 عال جسماً. والثاني: كون الأجسام متماثلة. والثالث: كون هذا التماثل هو المراد بالمثل في لغة العرب التي نزل بها القرآن. ومنشأ الغلط في الاشتباه والاشتراك والإجمال في لفظ (الجسم) ولفظ (المثل) . فيقال: الجسم في لغة العرب هو البدن، وهو عندكم مما يمكن الإشارة إليه، فالهواء والماء والنار ونحو ذلك ليس جسماً في لغة العرب، وهو في اصطلاحكم جسم. وإذا كان الجسم في لغة العرب أخص منه في عرفكم، وقد علم بصريح العقل أن الذهب ليس مثل الفضة، ولا الخبز مثل التراب، ولا الدم كالذهب، فما يسمى في لغة العرب (جسداً) و (جسماً) ونحو ذلك، هو مما يعلم أنه ليس متماثلاً بصريح العقل والحس، فكيف بما هو أعم من ذلك، مثل كونه يشار إليه، أو كونه يقبل الأبعاد الثلاثة: الطول والعرض والعمق؟ مع أن هذه الألفاظ ليس مرادهم بها ما هو معناها في اللغة المعروفة، فإن هؤلاء عندهم الحبة الواحدة، كالعدسة والسمسمة، بل الذرة التي قال الله فيها: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} [النساء: 40] ، هي في اصطلاحهم طويلة عريضة عميقة. ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب أنهم يقولون عن نوع الإنسان: هذا طويل، وهذا قصير. وكذلك أعضاء الإنسان كيده الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 ورجله وعنقه، يقولون: هذا طويل وهذا قصير، ويقولون: هذا عريض، وهذا دقيق ورقيق، لعنقه ويده. وأما العميق عندهم فيقال في مثل الآبار ونحوها، لا يقولون لفم الإنسان: إنه عميق، ولا لأذنه وعينه ونحو ذلك، فكيف بالعدسة والسمسمة والذرة. فإذا قالوا عن الشيء: إنه طويل عريض عميق، لم يقصدوا بذلك المعروف في اللغة، وما يعقله الناس من معنى الطول والعرض والعمق، بل يقصدون هذا المعنى العام الذي وضعوا له لفظ الطول والعرض والعمق، ثم يقولون مع هذا: إن كل ما وصف بهذه المعاني العامة، فإنه يجب أن يكون مماثلاً مستوياً في الحد والحقيقة، لا يختلف إلا باختلاف أعراضه. فهذا القول من أبعد الأقوال عن المعقول الذي يعرفه الناس بحسهم وعقلهم. ثم بتقدير أن يكون كذلك، فلا يتمارى عاقلان أن لفظ (المثل) في لفة العرب وسائر الأمم ليس المراد به هذا، وأنه إذا قيل له: إن كذا مثل كذا، أو ليس مثله، وهذا ليس له مثل، فإنه ليس المفهوم من (المثل) كون هذا بحيث يشار إليه، وكون هذا بحيث يشار إليه، أو كون كل منهما له قدر، أو له طول وعرض وعمق، لا بالمعنى اللغوي، ولا بما هو أقرب إليه، فضلاً عن اصطلاحهم. ونحن نعلم بالضرورة من لغة العرب انهم لا يقولون: الجبل مثل النار، ولا الهواء مثل الماء ولا الجمل مثل البقر، ولا الشمس والقمر مثل الذهب والفضة، مع اشتراكهما في كثير من الصفات الزائدة على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 مطلق المقدار، بل قد نفى في القرآن كون الشيء مثل غيره مع كون كل منهما جسماً، بل حيواناً، بل إنساناً. كما يف قوله: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد: 38] . وقال تعالى: {أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون} [الواقعة: 58-61] . وهذا في لغة العرب لقول شاعرهم: ليس كمثل الفتى زهير ... خلق يوازيه في الفضائل وقال الآخر: ما إن كمثلهم في الناس واحد فكيف يجوز مع هذا أن يستدل بقوله: {ليس كمثله شيء} ، أو قوله: {ولم يكن له كفوا أحد} على أنه لا صفة له، أو لا يرى في الآخرة، أو ليس فوق العرش - بناءً على تلك المقدمات، وهو أنه لو كان كذلك لكان جسماً، والأجسام متماثلة، والله قد نفى المثل؟ ومن عجيب ما يحتجون به أنهم يقولون: لو كان متصفاً بذلك لكان جسماً، ولو كان جسماً لكان منقسماً، والمنقسم ليس بواحد، والله قد أخبر أنه واحد. مع أنه لا يوجد في لغة العرب، بل ولا غيرهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 من الأمم، استعمال الواحد الأحد والوحيد إلا فيما يسمونه جسماً ومنقسماً، كقوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} [المدثر: 11] . وقوله تعالى: {وإن كانت واحدة فلها النصف} [النساء: 11] . وقوله: {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب} إلى قوله: {قال له صاحبه وهو يحاوره} [32-37] . وقوله: {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب} [البقرة: 266] . وقوله تعالى: {ولا يظلم ربك أحدا} [الكهف: 49] . وقوله: {ولا يشرك في حكمه أحدا} [الكهف: 26] . وقوله: {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: 110] . وقوله: {ولا تستفت فيهم منهم أحدا} [الكهف: 23] . وقوله: {قل إني لن يجيرني من الله أحد} [الجن: 22] . وقوله: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن: 18] . وقوله: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 وقوله: {ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا} [يوسف: 36] . إلى قوله: {أما أحدكما فيسقي ربه خمرا} [يوسف: 41] . وقوله: {قالت إحداهما يا أبت استأجره} [القصص: 26] . إلى قوله: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} [القصص: 27] . وقوله: {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4] . والعرب وغيرهم من الأمم يقولون: رجل، ورجلان اثنان، وثلاثة رجال، وفرس واحد، وجمل واحد، ودرهم واحد، وثوب واحد، ورأس واحد، وذكر واحد، وأمير واحد، وملك واحد، ومسكن واحد، وسيد واحد، وأمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى. فلفظ الواحد وما يتصرف منه في لغة العرب وغيرهم من الأمم لا يطلق إلا على ما يسمونه هم جسماً منقسماً، لأن ما لا يسمونه هم جسماً منقسماً ليس هو شيئاً يعقله الناس، ولا يعلمون وجوده حتى يعبروا عنه، بل عقول الناس وفطرهم مجبولة على إنكاره ونفيه، فلو قدر وجود هذا في الخارج، أو إمكان وجوده، لاحتيج بعد ذلك إلى أن يثبت لفظ (الواحد) في لغة العرب يعبرون بها عنه، إذ ليس كل ما وجد، أو أمكن وجوده، يجب أن يتصوره أهل اللغة، ويكون داخلاً فيما عبروا عنه من لغتهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 وإذا قدر أن أهل اللغة عبروا بلفظ (الواحد) و (الأحد) في لغتهم عن هذا، لم يجز أن يقال: إن لفظ (الواحد) في لغتهم لا يقع إلا عليه، لما ذكرناه أن لفظ (الواحد) وما اشتق منه عرف واشتهر استعماله في اللغة فيما يجعلونه هم جسماً منقسماً، وذلك ليس بواحد عندهم، فسمي الواحد عندهم منتف في اللغة، وإن قدر وجوده لكان نادراً في اللغة. والغالب المشهور في اللغة أن اسم (الواحد) يتناول ما ليس هو الواحد في اصطلاحهم، وإذا كان كذلك لم يجز أن يحتج بقوله تعالى: {وإلهكم إله واحد} [البقرة: 163] ، وقوله: {قل هو الله أحد} ونحو ذلك مما أنزله الله بلغة العرب، واخبرنا فيه انه أحد، وأنه إله واحد - على أن المراد ما سموه هم في اصطلاحهم واحداً مما ليس معروفاً في لغة العرب، بل إذا قال القائل: دلالة القرآن على نقيض مطلوبهم أظهر - كان قد قال الحق، فإن القرآن نزل بلغة العرب، وهم لا يعرفون الواحد في الأعيان إلا ما كان قديماً بنفسه، متصفاً بالصفات مبايناً لغيره، مشاراً إليه. وما لم يكن مشاراً إليه أصلاً، ولا مبايناً لغيره، ولا مداخلاً له، فالعرب لا تسميه واحداً ولا أحداً، بل ولا تعرفه، فيكون الاسم الواحد والأحد دل على نقيض مطلوبهم منه، لا على مطلوبهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 يؤيد هذا أنهم يقولون: اللفظ المشهور في اللغة الذي يتداوله الخاص والعام لا يجوز أن يكون موضوعاً بإزاء المعنى الدقيق الذي لا يفهمه إلا خواص الناس، وهذا مما استدل به نفاة الأحوال على مثبتيها، وقالوا: المعروف في اللغة أن الحركة هي كون الجسم متحركاً. وأما ما يدعونه من أن الحركة أمر يوجب كون الجسم متحركاً، فهذا المعنى لا يفهمه إلا الخاصة، فضلاً عن أن يعلموا أن لفظ (الحركة) موضوع له. ولفظ (الحركة) لفظ مشهور يتداوله الخاصة والعامة، فلا يحوز أن يكون مفهومه ما لا يتصوره المخاطبون به. وهذا بعينه ما يقال لهؤلاء النفاة الذين يسمون نفيهم توحيداً، فيقال هذا الواحد الذي تثبتونه، وهو أنه لا يشار إليه، ولا يتميز منه شيء عن شيء، ونحو ذلك - أمر لا يتصوره إلا بعض الناس، بل قليل منهم، والذين تصوروه تناعوا في إمكان وجوده في الخارج، فمنهم من قال: وجود هذا في الخارج ممتنع، وإن كان كذلك، ولفظ الواحد مشهور في اللغات كلها أشهر من لفظ (الحركة) ، فلا يجوز أن يكون مسمى هذا الاسم في اللغة المعروفة معنى لا يتصوره إلا قليل من الناس، وهم متنازعون في إمكان ثبوته في الخارج، وإذا لم يكن هذا المعنى هو المراد بلفظ (الواحد) و (الأحد) ، لم يجز الاستدلال بالسمع الوارد بلغة العرب على هذا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 ولو قيل: إنه يجوز استعمال لفظ (الواحد) في لغتهم في هذا المعنى: إما بطريق المجاز والاشتراك أو التواطؤ. قيل: هب أنه يجوز لمن بعدهم أن يستعمل ذلك، لكن نحن نعلم أنهم لم يستعملوه في ذلك، لأنهم لم يكونوا يثبتون هذا المعنى، وبتقدير أن يكون مستعملاً في هذا وهذا، فإنه يكون دالاً على ما به الاشتراك، فلا يدل على ما يمتاز به أحدهما عن الآخر، فلا يدل على محل النزاع، ولو قدر أنه حقيقة في أحدهما: مجاز في الآخر، لكان حقيقة في المعنى الذي يسبق إلى إفهام الناس عند الإطلاق، وهو المعروف. ولو قدر أنه مشتركاً اشتراكاً لفظياً لم يجز تعيين محل النزاع إلا بقرينة تدل على تعيينه، والقرائن اللفظية إنما تدل على نقيض قولهم، لا على عين قولهم، فإنه ليس في الكتاب إثبات واحد بالمعنى الذي ادعوه، فضلاً عن أن يكون الله موصوفاً به. وهذا (الواحد) الذي يثبته هؤلاء من جنس الأحوال التي يثبتها أولئك، ومن جنس الشيء المعدوم الذي يثبته من يقول: المعدوم شيء، ومن جنس الكليات والمجردات، كالعقول والمادة والصورة العقلية التي يثبتها الفلاسفة، فهؤلاء يثبتون في الخارج ما لا وجود له في الخارج، لكن مثبتة الأحوال اعقل، ولهذا كان فيهم من هو من أهل الإثبات، فإنهم عرفوا أنها ليست موجودة في الخارج، لكن تناقضوا حيث قالوا: لا موجودة ولا معدومة، فصاروا مشابهين للقرامطة الباطنية المتفلسفة، الذين يقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت. ومن قال: المعدوم شيء، وهو ثابت وليس بموجود - يشبه المتفلسفة الذين جعلوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 الكليات المجردات أموراً موجودة في الخارج، لكن تناقضوا حيث فرقوا بين الوجود والثبوت. والمقصود أن كل هؤلاء يجمعهم إثبات أمور يدعون أنها موجودة في الخارج، وهي لا يتصورها إلا طائفة قليلة من الناس، فضلاً عن أن تكون الألفاظ المعروفة المشهورة في اللغة دالة عليها. ولا ريب أنهم أخطأوا في المعاني المعقولة، ثم في مدلول الألفاظ المسموعة. فتبين لك أن قولهم يتضمن من الفرية على اللغة والعقل من جنس ما تضمن من الفرية على الشرع، وأنهم لا يمكنهم أن يقولوا: إن الشرع دال على قولهم بوجه من الوجوه، لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز. فإذا أريد بيان انتفاء دلالة النص على ما ادعوه من مسمى الواحد، كان هنا طرق: أحدها: أن هذا اللفظ لم يستعمل إلا فيما نفوه دون ما أثبتوه. الثاني: أن نبين انتفاء ما أثبتوه في الخارج، وحينئذ فلا يكون كلام دالاً على وجود ما ليس بموجود. الثالث: أن ما يذكرونه لا يتصوره عامة الناس: لا العرب ولا غيرهم، فلا يكون اللفظ موضوعاً له ودالاً عليه، وإن كان له وجود. ولا يقال: هو بتقدير وجوده يشمله لفظ الواحد، لما تقدم من أن اللفظ المشهور بين الخاص والعام لا يكون مسماه مما لا يتصوره إلا الخاصة. الطريق الرابع: أنه بتقدير شموله لما أثبتوه وما نفوه، فلا ريب أن شموله لما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 نفوه أظهر، إذ لم يعرف استعماله في ذلك، فلا يمكنهم دعوى اختصاص معنى الواحد بما ادعوه. الخامس: أنه بتقدير عمومه وكونه متواطئاً إنما يدل على القدر المشترك لا على خصوص ما أثبتوه. السادس: أنه بتقدير كون أحدهما مجازاً، فالحقيقة هي ما نفوه دون ما أثبتوه، لأن المعنى الذي يسبق إلى إفهام المخاطبين. السابع: أنه بتقدير الاشتراك اللفظي لا يجوز إرادة ما ادعوه غلا بقرينة، ويكفينا في هذا المقام ألا نستدل به على أحدهما. الثامن: أن من يستدل به على ما نفوه، لأن القرائن اللفظية المذكورة في القرآن تدل عليه، لأنه أثبت لهذا الواحد صفات متعددة، وأفعالاً متعددة، وتلك تستلزم ما نفوه لا ما أثبتوه. التاسع: أن يقال: أسم (الأحد) لا يستعمل في حق غير الله إلا مع الإضافة، أو في غير الموجب، كقوله: {قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا} [يوسف: 36] ، وقال: {ولا يظلم ربك أحدا} [الكهف: 49] ، وقال: {وإن أحد من المشركين استجارك} [التوبة: 6] ، فهو أبلغ في إثبات الوحدانية من اسم الواحد، ومع هذا فلم يستعمل إلا فيما نفوه مثل قوله: {ولم يكن له كفوا أحد} وأمثاله، لا يعرف استعمال (الأحد) فيما ادعوه، لا في النفي والإثبات، فكيف اسم الواحد؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 العاشر: أن القرآن أثبت الوحدانية في الإلهة بقوله: {وإلهكم إله واحد} [البقرة: 62] ، وقوله: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون} [النحل: 51] ، وقوله حكاية عن المشركين: {أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب} [ص: 5] . وأمثال ذلك. وأما كون القديم واحداً، أو الواجب واحداً، فهذا إنما يعرف عن الجهمية من المتكلمين والفلاسفة، فإنهم قالوا: القديم واحد، وهو لفظ مجمل يراد به أن الإله القديم واحد، وهذا حق، ويراد به أن مسمى القديم واحد، ثم قالوا: لو أثبتنا له الصفات لكان القديم أكثر من واحد. وقالت جهمية الفلاسفة: الواجب واحد، وهو مجمل: يراد به الإله الواجب بذاته، وهذا حق. ويراد به مسمى الواجب ثم قالوا: لو أثبتنا له الصفات لتعدد الواجب. ومعلوم أن التوحيد الذي في القرآن هو الأول لا هذا، وكذلك التوحيد الذي جاءت به السنة، واتفق عليه الأئمة، فتبين أن لفظ (التوحيد) و (الواحد) و (الأحد) في وضعهم واصطلاحهم، غير التوحيد والواحد والأحد في القرآن والسنة والإجماع وفي اللغة التي جاء بها القرآن. وحينئذ فلا يمكنهم الاستدلال بما جاء في كلام الله ورسله وفي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 لفظ التوحيد على ما يدعونه هم، لأن دلالة الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه، لا بلغة وعادة واصطلاح أحدثه قوم آخرون، بعد انقراض عصره وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته، كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} [إبراهيم: 4] ، بل لفظ (التوحيد) و (الأحد) و (الواحد) الموجود كلام الله ورسوله يدل على نقيض قولهم، وأنه موصوف بالصفات الثبوتية، كما تقدم التنبيه عليه من أنه لا يعرف مسمى الواحد في لغة العرب إلا ما كان كذلك، ومن أن الله وصف هذا الواحد بالصفات الثبوتية، وسماه بالأسماء المتضمنة للمعاني الثبوتية في غير موضع. فلو قدر أن لفظ (الواحد) فيه اشتراك وإجمال، لكان ما بينه القرآن من اتصافه بالصفات الثبوتية رافعاً للإجمال والاشتراك، موافقاً لقول أهل الإثبات دون النفاة. وهذه الأدلة كلما تدبرها العاقل تبين له قطعاً أن هؤلاء النفاة مناقضون للرسول، هم في جانب، والرسل في جانب، كمناقضة القرامطة الباطنية وأمثالهم، وأن استدلال هؤلاء بنصوص الأنبياء على نفيهم، من جنس استدلال القرامطة على شريعتهم الإلحادية بنصوص الأنبياء. ومما يبين ذلك أن كلام الله ورسوله صدق، بل أصدق الكلام كلام الله. والكلام الصدق يتضمن الإخبار عن الأمور على ما هي عليه، لا على خلاف ما هي عليه، بخلاف الكلام الذي هو كذب، سواء كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 صاحبه يعلم أنه كذب، أو كان مخطأ يظن أنه صدق مطابق للحقائق وليس كذلك، كما هو كلام هؤلاء النفاة للصفات، فإن الواحد الذي يثبتونه لا حقيقة له في الخارج، فيمتنع أن يكون كلام الله مخبراً عن وجوده في الخارج وذلك أنهم يجعلون الحقائق المتنوعة: كل واحدة هي الأخرى بلا امتياز أصلاً، فيجعلون الذات القائم بنفسها هي الصفة القائمة بها، كما يجعلون العالم عين العلم، والقادر عين القدرة. ومنهم من يجعل العلم عين المعلوم، ويجعلون كل صفة هي الأخرى، كما يجعلون العلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة، أو يجعلون النوع الكلي العام المقسوم إلى أعيان هو واحد بالعين، بحيث تكون هذه العين هي تلك العين، كما يقولون: الوجود واحد، والموجود الواجب، وهو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، الذي لا يختص بوجه من الوجوه، أو بشرط عدم كل أمر وجودي عنه، فلا يختص بكونه واجباً أو عالماً أو قادراً أو حياً، أو نحو ذلك من الأمور التي توجب اختصاصه بموجود دون موجود. وإذا حققوا الأمر لم يفرقوا بين الوجود الواجب الخالق القديم الفاطر الغني عن كل ما سواه، والوجود الممكن المحدث المخلوق المفطور الفقير الذي لا يستغني بوجه من الوجوه عن خالقه بل لا يزال فقيراً إليه. ويجعلون الكلام المنقسم إلى الأمر والنهي والخبر هو نفس الأمر والنهي والخبر، وإن عين الكلام الذي هو أمر عين الكلام الذي هو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 خبر، وعين الكلام الذي هو أمر بالصلاة، هو عين الكلام الذي هو أمر بالصيام، وعين الكلام الذي هو خبر عن الله، هو العين الكلام الذي هو خبر عن أبي لهب، فيجمعون ذلك بين كون الواحد العام الكلي المشترك الذي لا يكون إلا بالذهن، هو الآحاد المعينة الموجودة في الخارج، ولا يفرقون بين الواحد بالنوع والواحد بالعين. كما لم يفرق بين هذا وهذا وحدة الوجود، الذين قالوا الوجود واحد، وجعلوا وجود الخالق عين وجود المخلوقات، الذين قالوا: الحقائق المتنوعة كالأمر والخبر حقيقة واحدة. فالواحد الذي يثبته النفاة - أو من أخذ ببعض أقوالهم - لا بد أن يتضمن بعض هذا، مثل جعل الذرات هي الصفات، أو جعل كل صفة هي الأخرى، أو جعل الكل المقسوم إلى أنواع هو نفس الأعيان المختلفة الموجودة في الخارج، وجعل ما يمتنع وجوده في الخارج ولا يكون إلا في الذهن أمراً موجوداً في الخارج يجب وجوده في الخارج، وجعل ما يجب وجوده في الخارج مما يمتنع وجوده في الخارج، فلا يكون إلا في الذهن. ومنتهاهم في توحيدهم إلى إثبات واحدين: أحدهما: الجوهر الفرد الذي يثبته من يثبته من المعتزلة ومن وافقهم من أهل الكلام، مع أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 جمهور العقلاء ينكرونه، مع دعوى النظام أن في كل جسم من ذلك ما لا يتناهى. الثاني: الجواهر العقلية التي يثبتها من يثبتها من المتفلسفة، مع أن جمهور العقلاء يعلمون بالضرورة أنها إنما هي في الأذهان لا في الأعين، مثل الكليات المطلقة التي توصف بها العيان. وهم يقولون إن الحقائق الموجودة بالخارج - الذي يسمونها الأنواع، كالإنسان والفرس وغيرها من أنواع الحيوان - مركبة من هذه، ومثل المادة الكلية والصورة الجوهرية اللتين يدعون أنهما جوهران عقليان يتركب منهما كل جسم، ومثل العقول العشرة التي يدعون أنها مجردات - فإن هؤلاء يصورون أن ما يعقله الإنسان من المعقولات المجردات المفارقات للأعيان المحسوسة، فتوهموها أنها تلك المعقولات المجردات هي موجودة في الخارج مفارقات للأعيان محسوسة، وإنما هي أمور متصورة في الأذهان، لا أنها موجودة مع كونها كلية أو مع كونها مجردة في الأعيان، ثم يدعون تركيب الأنواع منها، كما يدعي أولئك تركب الأعيان من الأجزاء التي يسمونها الجواهر المنفردة. وقد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع آخر، وبين أن هذا الواحد الذي يثبتون في العلم الإلهي والطبيعي والمنطقي لا حقيقة له إلا في الأذهان. ومن تصور أن هذا حق التصور، تبين لهم من غلط هؤلاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 وضلالهم ما يطور وصفه، وتبين له أن ضلال هؤلاء في العقليات من جنس ضلالهم في السمعيات، وأنهم كما أخبر تعالى عن أصحاب النار: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10] . وكان من أصول الإلحاد والتعطيل - الذي سموه توحيداً - هو فرارهم من تعدد صفات الواحد الحق، وتعدد أسمائه وكلامه، مع ذلك لا محذور فيه، بل هو الحق الذي لا يمكن جحده. ومن فهم هذا انحل له ما يقوله من يقوله من المتفلسفة: أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وما يقوله من تركيب الأنواع من الأجناس والفصول، وأن ذلك الفرض الذي تتركب منه هذه الحقائق هو أيضاً أمر يقدر في الذهن لا حقيقة له في الخارج، وما يقولونه من أن الواحد لا يكون فاعلاً وقابلاً، وأمثال ذلك مما يعبرون عنه بلفظ الواحد هو واحد يقدر في الأذهان، لا حقيقة له في الخارج. الرد على قولهم: أن القرآن لم يدل على العلو والصفات من وجوه وإن قيل: إن القرآن لم يدل على العلو والصفات لا بنفي ولا إثبات، كان هذا أيضاً باطلاً ومعلوم الباطلان من وجوه: الوجه الأول أن العلم بدلالة النصوص على العلو والصفات أمر ضروري، فالقدح فيه من جنس القدح في ما دل عليه القرن من خلق السماوات والأرض، ومن نعيم الجنة والنار. ولا ريب أن دلالة القرآن والحديث على ذلك أعظم من دلالته على الميزان والشفاعة والحوض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 وفتنة القبر ومساءلة منكر ونكير، وأعظم من دلالته على أن محمد خاتم النبيين، وأنه أفضل الخلق، وأن الأنبياء أفضل من غيرهم وأن السابقين الأولين من أهل الجنة، وأعظم من دلالته على تنزيه الله عن البخل والكذب والظلم ونحو ذلك من النقائص. وبالجملة فما من صنف من الأصناف المعلومة بالضرورة من الدين إلا وتطريق التأويل إلى نصوصه من جنس تطريقه إلى نصوص العلو والصفات، أو أبلغ من ذلك أو قريب من ذلك. الوجه الثاني أن يقال: جميع الطوائف متفقة على أن ظواهر النصوص مثبتة للعلو والصفات. ولهذا كان المخلوقون إما بالتأويل المتضمن لصرف ذلك عن ظاهره، وإما بالتفويض مع قولهم: ظاهر ذلك غير مراد، فلو كان ظاهرها دالاً على الإثبات لما احتاجوا إلى هذا، ولدفعوا أصل ظهور هذه الدلالة، كما يدفع ظهور الدلالة في غير ذلك مما تقدم التمثيل به وغير ذلك. الوجه الثالث أن يقال: نحن نعلم بالضرورة أن ظهور دلالة هذه النصوص على العلو الصفات أعظم من ظهور ما كان المؤمنون والكافرون يوردونه من السؤالان عما يظنوه مشكلاً من القرآن، كما تقدم تمثيلاً. وإذا كان كذلك، ولم يسألوا عن ذلك، علم قطعاً أنه لم يكن منافياً لما يعلمونه بعقولهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 الوجه الرابع أن يقال: فعلى هذا التقدير يمتنع تعارض العقل والسمع، إذا لم يكن للسمع ظاهر يخالف العقل. وهذا هو كان صلب الكلام، وإنما ذكرنا مسألة العلو على طريق التمثيل، لنهم يذكرون ذلك فيها. فيقال: ليس في ظاهر القرآن ما يخالف الأدلة العقلية وهو المطلوب. الوجه الخامس أن الهمم والدواعي متوفرة على طلب العلم بهذه المسائل، وهي من أجل علوم الدين، ومعرفتها إما واجبة أو مؤكدة الاستحباب. وما كان كذلك يمتنع في الشرع والعادة أن الرسول لا يبين أمرها بالنفي ولا إثبات. الوجه السادس أن العلم بهذه المسائل إما أن يكون من الدين، وإما أن لا يكون. فإن قيل: ليس ذلك من الدين، بحيث لا يكون العلم بها أفضل من الجهل بها، وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وكل دين، فإن العلم بالله وما يستحقه من الأسماء والصفات لا ريب أنه مما يفضل الله به بعض الناس على بعض، أعظم مما يفضلهم بغير ذلك من أنواع العلم. ولا ريب أن ذلك يتضمن من الحمد لله، والثناء عليه، وتعظيمه وتقديسه، وتسبيحه وتكبيره - ما يعلم به أن ذلك مما يحبه الله ورسوله. سواء قيل: إن ذلك واجب أو مستحب، فمقصود أنه من المحمود الحسن المفضل عند الله ورسوله، فيكون ذلك من الدين. وقد قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 وقال تعالى: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} [المائدة: 16] . وقال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9] . وقال: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110] . وأمثال ذلك من النصوص التي يدل كل منها على أن بيان هذا ومعرفته مما جاء به الرسول، ونزل به هذا الكتاب، وعلمته هذه الأمة، وتضمنه هذا الدين، فلا يمكن أن يقال: إن الرسول والمؤمنين أعرضوا عنه، فلم يكن لهم به علم، ولا لهم فيه كلام لا بنفي ولا إثبات. الوجه السادس في الرد على كلام الرازي المتقدم وفيه الرد على كلام الرازي المتقدم: عن أصل الحجة أن يقال: لا نسلم أن العقل ينافي موجب هذه النصوص، بل هذه المعقولات النافية لذلك فاسدة، كما تقدم التنبيه على فسادها، فضلاً عن أن يكون المعقول المنافي لها هو الأصل في العلم بالسمع، فإن غاية هذه المعقولات أن يقال: لو كان فوق العالم لكان جسماً وذلك منتف، قد علم جواب أهل الإثبات عن هذه الحجة، فإن منهم من منع المقدمة الأولى، مثل كثير من أهل الكلام والفلسفة، وغيرهما من أصحاب كلاب والأشعري، وأهل الفقه والحديث والتصوف، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، والفلاسفة كما ذكر ابن رشد ونحوه. ومنهم من منع الثانية، كالهشامية والكرامية وغيرهما، ومنهم من فصل عن المعنى الجسم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 فإن قيل: إن معناه ما ليس بلازم للعلو، مثل كونه مماثلاً للمخلوقات - منع الأولى. فإن قيل: إن معناه لزم للعلو، مثل كونه مستشارا إليه - منع الثانية. فهو يقول: أنه فوق العالم قطعاً، كما علم ذلك بالعقل والسمع. فإذا قيل: لو كان فوقه لكان جسماً، فالمراد بمعنى الجسم: إما أن يكون لازماً للعلو، وإما أن لا يكون لازماً. فإذا كان لازماً لا محال، منعت المقدمة الثانية، وهي انتفاء اللازم. وإن لم يكن لازماً، منعت المقدمة الأولى وهي التلازم. وكل ما يقال في هذا المقام من الألفاظ المتجملة مثل لفظ (المتحيز) و (المركب) ونحو ذلك يستفصل عن معناه، كما يستفصل عن معنى لفظ (الجسم) ، فإذا تخلص محل النزاع في معنى معقول، مثل كون المراد بذلك ما تقوم به الصفات، أو ما يتميز منه شيء عن شيء، ونحو ذلك من المعاني - لم يسلم انتفاء ذلك، بل نقول: هذا لا بد من ثبوته بالعقل الصريح، كما دل عليه النقل الصحيح. الوجه السابع أن يقال: بل العقل الصريح الموافق للسمع لا منازع له. والعقل قد دل على أن الله تعالى فوق العالم، وهذه طريقة حذاق أهل النظر من أهل الإثبات، كما هو طريق السلف والأئمة: يجعلون العلو من الصفات المعلومة بالعقل. وهذه طريقة أبي محمد بن كلاب وأتباعه، كأبي عباس القلانسي، والحارث المحاسبي وأشباههما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 من أئمة الأشعرية، وهي طريقة محمد بن كرام وأتباعه، وطريقة أكثر أهل الحديث والفقه والتصوف، وإليها رجع القاضي أبو يعلى وأمثاله. ولكن طائفة من الصفاتية من أصحاب الأشعرية، ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم، يظنون أن العلو من الصفات الخبرية كالوجه واليدين ونحو ذلك، وانهم إذا أثبتوا ذلك أثبتوه لمجيء السمع به فقط، ولهذا كان من هؤلاء من ينفي ذلك ويتأول نصوصه أو يعرض عنها كما يفعل مثل ذلك من نصوص الوجه واليد. ومن سلك هذه الطريقة فإنه يبطل الأدلة التي قال: أنها نافية لهذه الصفة، كما يبطل ما به ينفون صفة الاستواء والوجه واليدين، ويبين أنه لا محذور في إثباتها، كما يقول مثل ذلك في الاستواء والوجه واليد، ونحو ذلك من الصفات الخبرية. وهؤلاء كلامهم امتن من كلام نفاة الصفات الخبرية نقلاً وعقلاً، وإذا قيل: إن في كلامهم تناقضاً، أو أنهم يقولون ما لا يعقل، ففي كلام النفاة من التناقض وما لا يعقل أكثر مما في كلامهم، فهم بالنسبة إلى النفاة اكمل علماً بالمعقول والمنقول، وأما بالنسبة إلى السلف والأئمة أهل الإثبات، فيظهر من تناقضهم وقولهم ما لا يعقل وما يظهر به رجحان طريقة السلف والأئمة عليهم، وتنسب به معارضة النفاة لهم. ويتبين به الحق الذي لا يعدل عنه من فهمه ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم المثبتون للعلو بالعقل لهم طرق: منها: أنهم يقولون: العلم بذلك ضروري مستقر في فطر بني آدم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 ومنها: أنهم يقولون: قصدهم لربهم عند الحاجات التي لا يقضيها إلا هو - هو أيضاً ضروري، وقصدهم لهم بتوجه قلوبهم إلى العلو أيضاً ضروري، فهم مفطورون على الإقرار به وأنه في العلو، وعلى انهم محتاجون غليه يسألونه عن الضرورات، وعلى انهم يقصدونه في العلو ولا في السفل، وأن قلوبهم بفطرتها تتوجه إلى العلو، اللهم إلا من أفسد فطرته وقصد أن يصدها عن مقتضاها مع أن هذا عند الحقيقة يغلب مع فطرته، ويظل عنه ما كان يفتريه. ومنها أنهم يقولون: إن ذلك أمر متفق عليه بين العقلاء السليمي الفطرة، وكل منهم يخبر بذلك عن فطرته من غير موطأة من بعضهم البعض، ويمتنع في مثل هؤلاء أن يتفقوا على تعمد الكذب عادة، ويمتنع أيضاً غلطهم في الأمور الفطرية الضرورية، فإن ذلك يسد باب العلم والمعرفة، وأن يثق الإنسان بشيء من علومه. ومتى قدح في مثل هذا، كان القدح في مقدمات ما يدعى أنه معارض لذلك أسهل بكثير، فإن المعارضين لا بد فيما يعارضون به من العقليات من قضايا تلقاها بعضهم عن بعض، فيجوز عليهم فيها من الاتفاق على الغلط وعلى تعمد الكذب، ما لا يجوز على المتفقين على قضايا لم يتلقها بعضهم عن بعض، مع كثرة هؤلاء وتنوع أصنافهم. ومنها أنهم يثبتون العلو بطرق نظرية: كقولهم: كل موجودين فإما أن يكون أحدهما مبايناً للآخر، وإما أن يكون مداخلاً له، ونحو ذلك من الطرق المعلومة لهم، فمعهم من العلم الضروري، والقصد الضروري، واتفاق العقلاء الذين لم يتواطأوا على قضاياهم والعقليات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 النظرية ما ليس للنفاة ما يشابهه، وليس مع النفاة إلا أقيسة نظرية قد بين فسادها، ومن لم يعلم فسادها على التفصيل كفاه أن يعلم فسادها مجملاً، فإنها مخالفة للمعارف الضرورية، ولما أجمعت عليه فطر البرية، مع مخالفتها لما جاء في الكتب الإلهية، كالتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب، فالعلم الموروث عن الأنبياء من بني إسرائيل وغيرهم، مع علم عامة المسلمين بمخالفتها للقرآن، ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أجمع عليه سلف الأمة وخيار قرونها، ولما اجتمع عليه عامة المؤمنين وأعيان الأمة من كل صنف. الوجه الثامن أن يقال لمن أجاب بهذا عن النصوص: إذا احتججت على من ينفي، ما تثبته بالنصوص: كإثبات القدر إن كنت من المثبتين له، أو إثبات الجنة والنار وما فيهما من الأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، إن كنت من المثبتين له، وإثبات وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الربا والخمر وغير ذلك من الشرائع، إن كنت من المثبتين له - إذا قال لك منازعك: هذه الظواهر التي احتججت بها قد عارضها دلائل عقلية وجب تقديمها عليها، فما كان جوابك لهؤلاء كان جواب أهل الإثبات لك. فإن قلت: ما أثبته معلوم معلوم بالاضطرار من الدين. قال لك أهل الإثبات للعلو: وهذا معلوم لنا بالاضطرار من الدين. فإن قلت: أنا لا أسلم هذا لكم. قالوا لك: ومن نازعك من القرامطة أو الفلاسفة أو المعتزلة لا يسلم لك ما ادعيته من الضرورة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 فإن قلت: لا يقدح في علمي الضروري منازعة غيري. قالوا لك: لا يقدح في علمنا الضروري منازعتك لنا. فإن قلت: أنا إذا نازعني منازع في الضروريات التي عندي سكت عنه ولم أنازعه. قيل لك: وهذا مما يمكن المثبت أن يقوله لك، كما تقوله لمنازعك أيضاً، لكن أنت لا توفي بهذا، بل تتناقض وتخاصم أهل الإثبات وتنكر عليهم، بل قد تعاديهم أو تكفرهم، فإن كان ما فعلته سائغاً لك، ساع لأولئك النفاة أن يخاصموك ويعادوك ويكفروك، كما فعلت هذا بأهل الإثبات، وإن كنت تنكر على من يعاديك ويكفرك من النفاة لما أثبته، فأنكر على نفسك معاداتك وتكفيرك لأهل الإثبات لما نفيته. وإن قلت: أنا لا أثق بصدقهم: أنهم يعلمون ذلك اضطراراً، أو لا أثق بخبرتهم بالعلم الضروري. قيل لك: ومنازعك النافي لا يثق بصدقك وعلمك أيضاً. فإن قلت: هو يعلم من ديني وعقلي ما يوجب معرفته بصدقي وعلمي. قيل لك: وأنت تعرف من دين أهل الإثبات وعقلهم، ما يوجب معرفتك بصدقهم وعلمهم. وإن قلت: أنا بين فساد العقليات التي يعارض به النفاة لما أثبته. قيل لك: والمثبتون لما تنفيه يثبتون فساد العقليات التي تعارضهم أنت بها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 وإن قلت: أنا وأولئك النفاة متفقون على النفي لما أثبته هؤلاء. قيل لك: والطائفة الفلانية والفلانية متفقتان على النفي لما أثبته. وأعلم أنه ليس من أهل الأرض إلا من يمكن مخاطبته بهذه الطريق، حتى غلاة النفاة من الجهمية والقرامطة والفلاسفة، فإنهم لا بد أن يثبتوا شيئاً من السمعيات بوجه من الوجوه، إذ لا يمكن أحداً من الطوائف أن ينفي جميع ما أثبته السمع من القضايا الخبرية والطلبية. وإذا قال: أنا أثبت ما جاء به السمع لكوني علمته بالعقل، لا لمجيء السمع به أمكن أن يجاب بمثل ذلك في إثبات العلو والصفات أيضاً، وأمكن أن يجاب بجواب آخر، وهو: أن كل من أقر بالنبوات بوجه من الوجوه، فلا بد له أن يثبت بأقوال الأنبياء ما تكون الحجة فيه مجرد قولهم، ولو أنه من الأمور العلمية السياسية، فإن هؤلاء كلهم لا بد لهم من العمل بالشرائع: إما في الظاهر، وإما للجمهور، وإما أوائل سلوكهم. وإن كان ممكن لا يثبت النبوات بوجه، فلا بد له من العمل بقول غير الأنبياء، كالملوك والفلاسفة ونحوهم. بل لا بد للإنسان أن يفهم كلام بني جنسه، إذ الإنسان مدني بالطبع، لا يستقل بتحصيل مصالحه، فلا بد لهم من الاجتماع للتعاون على المصالح، ولا يتم ذلك إلا بطريق يعلم به بعضهم ما يقصده غيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 وأي طريق فرض من الإشارة والعبارة والكتابة وغير ذلك - كان ذلك من جنس السمعيات والنقليات، فإن جماع ذلك ما به يعلم مراد الغير، فإن نفى ناف ذلك بطريق جعله معارضاً له من عقلياته، فلا بد لمن أثبت ما يثبته من السمعيات أن يجيبه بجواب، فما كان جواباً له، كان نظير جواباً لأهل الإثبات فيما علموا أنه مراد للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. الجواب التاسع أن يقال: نحن لا نرضى أن نجيبكم بما أجبتم به النفاة. وذلك أنكم مقصرون في مناظرة النفاة لما أثبتموه عقلاً وسمعاً، فإنكم في كثير من مناظراتكم لهم تصيرون إلى المكابرة ودعوى ما يعلمون هم نقيضها، كما تفعلونه في مسالة الرؤية والكلام وإثبات الصفات بدون إثبات لوازم ذلك، إذ أنتم كثيراً ما تثبتون الشيء بدون لوازمه، أو مع وجود منافيه. ومن هنا تسلط عليكم القرامطة والفلاسفة والمعتزلة، ونحوهم من النفاة، وكلام أئمتكم معهم كلام قاصر، يظهر قصوره لمن كان خبيراً بالعقليات. وسبب ذلك تقصيرهم في مناظرتهم، حيث سلموا لهم مقدمات عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة، فاحتاجوا إلى إثبات لوازمها، فاضطروا إما إلى موافقتهم على الباطل، وإما على التناقض الذي يظهر به فساد قولهم، وإما إلى العجز الذي يظهر به قصورهم وانقطاعهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 ثم أخذوا يناظرون أهل الإثبات للعلو ونحوه، بما به ناظرهم أولئك، ويتسلطون على العاجز من مناظرتهم مع المثبتين، كما تسلط عليهم أولئك، فصاروا بمنزلة من قصروا في جهاد من يليهم من الكفار حتى غلبوهم وهزموهم، فقاموا يقاتلون من يليهم من المسلمين، كما قاتلهم أولئك الكفار، حتى ظهر الباطل والكفر والضلال، بتفريطهم أولاً في جهاد من يليهم من الكفار، وعداوتهم ثانياً على من يليهم من المسلمين. وصاروا على ضد ما وصف الله به المؤمنين حيث قال: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29] ، {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} [المائدة: 54] ، فصاروا أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين. كما نعت النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج حيث قال: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان» . وحال الجهمية والرافضة شر من حال الخوارج، فإن الخوارج كانوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 يقاتلون المسلمين ويدعون قتال الكفار، وهؤلاء أعانوا الكفار على قتال المسلمين وذلوا للكفار، فصاروا معاونين للكفار أذلاء لهم، معادين للمؤمنين أعزاء عليهم، كما قد وجد مثل ذلك في طوائف القرامطة والرافضة والجهمية النفاة والحلولية. ومن استقرأ أحوال العالم رأى من ذلك عبراً، وصار في هؤلاء شبه من الذين قال الله تعالى فيهم: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا} [النساء: 51-52] . ولهذا تجد كثيراً من هؤلاء النفاة يصنف في الشرك والسحر وعبادة الكواكب والأوثان، وفي النفاق والزندقة التي توجد في كلام كثير من الفلاسفة وغيرهم، بل يخضع لهؤلاء الكفار والمنافقين ويذل لهم، ويريد أن يعلو على المؤمنين ويقهرهم، وإن كان هذا بسبب ضعف من قاتله من المؤمنين وتفريطهم وعداوتهم، كما أن قهر أولئك الكفار له كان بسبب ضعفه الحاصل من تفريطه وعدوانه، فالذم لاحق له بقدر ما فرط فيه من حقوق الله وتعداه من حرماته، كما أن هؤلاء يلحقهم أيضاً الذم بقدر ما فرطوا فيه من حقوق الله وتعدوه حرماته. وقد قال تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} [الزخرف: 39] . والمقصود هنا أن يقال لهؤلاء الذين ينفون العلو ويثبتون بعض الصفات: نحن لا نرضى أن نجيبكم بنا تجيبون به أنتم نفاة الصفات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 وغيرها مما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم، بل نجيبكم وأولئك جميعاً ببيان أنه ليس معكم فيما تخالفون به النصوص: لا عقل صريح ولا نقل صحيح، بل ليس معكم في ذلك إلا الأكاذيب المموهة المزخرفة بالألفاظ المجملة المموهة التي تلقاها بعضكم عن بعض تقليداً لأسلافكم، فإذا فسر معناها وكشف عن مغزاها ظهر فسادها بصريح المعقول، كما علم فسادها بصحيح المنقول، وتبين أيضاً أن حجة الرسول صلى الله عليه وسلم قائمة على من بلغه ما جاء به، ليس لأحد أن يعارض شيئاً من كلامه برأيه وهواه، بل على كل أحد أن يكون معه كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65] . ونحن لا نسلم ما سلمتموه أنتم من المقدمات الفاسدة، كما سلمتموه لمن عارض الكتاب من القرامطة والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم، بل نسد عليهم الطريق التي منها دخلوا على الإسلام، ونمنعهم المقدمات التي جعلوا علم الكلام الذي خالفوا به الكتاب والسنة وإجماع خير الأنام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 الوجه الرابع والأربعون أن يقال: العقليات التي يقال إنها أصل للسمع وأنها معارضة له ليست مما يتوقف العلم بصحة السمع عليها، فامتنع أن تكون أصلاً له، بل هي أيضاً باطلة. وقد اعترف بذلك أئمة أهل النظر، من أهل الكلام والفلسفة، فإن جماع هذه الطرق هي طريقان أو ثلاثة: طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الموصوف بها أو ببعضها كالحركة والسكون. وطريقة التركيب والاستدلال بها أن الموصوف بها ممكن أو محدث. فهاتان الطريقتان هي جماع ما يذكر في هذا الباب. والثالثة: الاستدلال بالاختصاص على إمكان المختص أو حدوثه. قد يقال: إنها طريقة أخرى، وقد تدخل في الأولى. والاستدلال باجتماع الجواهر وافتراقها - على رأي من يقول: إن الجسم مركب من الجواهر المنفردة - يدخل في الأولى والثانية. أما دخولها في الأولى فبناءً على أن الجواهر لا تخلو من الاجتماع والافتراق، كما لا يخلو الجسم - بل الجوهر - من الحركة والسكون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 وأما دخولها في الثانية فبناءً على أن الجسم مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، وحينئذ فيكون: إما ممكناً عند من يستدل بذلك على الإمكان، وإما محدثاً عند من يستدل بذلك على الحدوث. ولكن الاستدلال بهذه الطريق مبني على أن الجسم مركب من الجواهر المحسوسة التي لا تنقسم، وهي الجواهر المنفردة، أو من الجواهر العقلية، وهي المادة والصورة، وهذا مما ينازعهم فيه جمهور العقلاء، بخلاف كون الجسم لا يخلو عن نوع من الأعراض، فلا يخالف فيه إلا شذوذ. ثم الطريقة الأولى مبنية على امتناع وجود ما لا يتناهي من الحوادث، والثانية مبنية على أن ما اجتمعت فيه معان لزم أن يكون ممكناً أو حادثاً، والثالثة مبنية على أن المختص لا بد له من مخصص منفصل عنه. وهذه المقدمات الثلاث قد نازع فيها جمهور العقلاء، وكل من هذه الطرق تسلكه الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات والأفعال، ويسلكه أيضاً نفاة الأفعال القائمة به دون الصفات. وأما المتفلسفة القائلون بقدم العالم نفاة الصفات، فأصل كلامهم مبني على طريقة التركيب، بناءً على أن الموصوف مركب، وإذا استدلوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 بطريقة الأعراض فإنما يستدلون بها على أن الموصوف بها ممكن، ويسندون ذلك إلى التركيب، فإنما استدلالهم بالأعراض على حدوث الموصوف فلا يمكنهم، بل هذا نقيض قولهم. وكل من الطائفتين تطعن في طريقة الأخرى وتبين فسادها. ومعلوم أن المتكلمين القائلين بإثبات الصفات لله تعالى أقرب إلى الإسلام والسنة من نفاة الصفات، وأن نفاة الصفات القائلين بحدوث السماوات والأرض أقرب إلى الإسلام والسنة من القائلين بقدم ذلك، ومن كان إلى الإسلام والسنة أقرب، كانت عقلياته التي يعارض بها النصوص الإلهية أقل بعداً عن دين المسلمين. فإذا كان أئمة العلم قد أنكروا هذه التي هي أقرب من غيرها إلى العقل والنقل، وبينوا أنها فاسدة في العقل، محرمة في الشرع - كان ما هو أبعد منها وأضعف أعظم فساداً في العقل، وتحريماً في الشرع. وما زال أئمة العلم على ذلك، حتى أئمة النظر من أهل الكلام والفلسفة، فالاستدلال بالحكة والسكون على حدوث المتحرك الساكن، بل الاستدلال بالأعراض مطبقاً على حدوث ما قامت به من الجواهر والأجسام، والاستدلال بحدوث الصفات على حدوث ما قامت به من الموصوفات، والاستدلال بتركيب الأجسام من الجواهر، ونحو ذلك، وجعل ذلك طريقاً إلى العلم بحدوث العالم، وإلى العلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 بإثبات الصانع تعالى، هو طريق الجهمية والمعتزلة، ونحوهم من أهل الكلام المذموم - عند السلف المحدث في الإسلام، وهم الذين ابتدعوا هذه الطريقة، والاستدلال بها - والتزام لوازمها، والتفريع عليها، وإن كان قد شركهم في ذلك قوم من غير المسلمين، أو سبقوهم إلى ذلك، سواء كانوا من الصابئين أو اليهود أو غيرهم. والمقصود أن ظهور هذه في الإسلام كان ابتداؤه من جهة هؤلاء المتكلمين المبتدعين، وهذه هي من أعظم أصول هؤلاء المتكلمين. وهذه وأمثالها هي من الكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه والنهي عنه، وتجهيل أصحابه وتضليلهم، حيث سلكوا في الاستدلال طرقاً ليست مستقيمة، واستدلوا بقضايا متضمنة للكذب، فلزمهم بها مسائل خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة وصرائح المعقول، فكانوا جاهلين كاذبين ظالمين في كثير من مسائلهم ووسائلهم وأحكامهم ودلائلهم. وكلام السلف والأئمة في ذم ذلك كثير مشهور في عامة كتب الإسلام، وما من أحد قد شدا طرفاً من العلم إلا وقد بلغه من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 ذلك بعضه، لكن كثير من الناس لم يحيطوا علماً بكثير من أقوال السلف والأئمة في ذلك وبمعانيها، وقد جمع الناس من كلام السلف والأئمة في ذلك مصنفات مفردة، مثل ما جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي. ومثل المصنف الكبير الذي جمعه الشيخ أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الملقب بشيخ الإسلام الذي سماه ذم الكلام وأهله، ومن ذلك في كتب الآثار والسنة ما شاء الله. كلام الغزالي في الإحياء عن ذم علم الكلام وممن ذكر اتفاق السلف على ذلك الغزالي في أجل كتبه، الذي سماه إحياء علوم الدين قال: (فإن قلت: فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم، أو هو مباح، أو مندوب إليه؟ فاعلم أن للناس في هذا غلواً وإسرافاً في أطراف. فمن قائل: إنه بدعة وحرام، وإن العبد أن يلقى الله بكل ذنب - سوى الشرك - خير له من أن يلقاه بالكلام، ومن قائل: إنه واجب فرض: إما على كفاية، أو على الأعيان، وإنه أجل الأعمال، وأعلى القربات، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 وإنه تحقيق لعلم التوحيد، ونضال على دين الله) . قال: (وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف، قال ابن عبد الأعلى سمعت الشافعي يوم ناظر حفصاً الفرد - وكان من متكلمي المعتزلة - يقول: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام، وإني سمعت من حفص كلاماً لا أقدر أن أحكيه. وقال أيضاً: قد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما كنت ظننته قط، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه، ما عدا الشرك، خير له من أن ينظر في الكلام) . (وقال أيضاً: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 (وقال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام) . وقال (وقال أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب الكلام أبداً، ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل) . قال: (وبالغ فيه حتى هجر الحارث المحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتاباً في الرد على المبتدعة، وقال: ويحك ألست تحكي بدعتهم أولاً ثم ترد عليهم؟ ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة، والتفكر في تلك الشبهات، فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث) . تعليق ابن تيمية قلت: هجران أحمد للحارث لم يكن لهذا السبب الذي ذكره أبو حامد، وإنما هجره لأنه كان على قول ابن كلاب، الذي وافق المعتزلة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 على صحة طريق الحركات وصحة طريق التركيب، ولم يوافقهم على نفي الصفات مطلقاً، بل كان هو وأصحابه يثبتون أن الله فوق الخلق، عال على العالم، موصوف بالصفات، ويقررون ذلك بالعقل، وإن كان مضمون مذهبه نفي ما يقوم بذات الله تعالى من الأفعال وغيرها مما يتعلق بمشيئته واختياره، وعلى ذلك بنى كلامه في مسألة القرآن. وهذا هو المعروف عند من له خبرة بكلام أحمد، من أصحابه وغيرهم من علماء أهل الحديث والسنة، ولأبي عبد الله الحسين والد أبي القاسم الخرقي صاحب المختصر المشهور - كتاب في قصص من هجره أحمد سال فيه لأبي بكر المروذي عن ذلك، فأجابه عن قصصهم واحداً واحداً. وقد ذكر ذلك أيضاً أبو بكر الخلال في كتاب السنة، وقد ذكر ذلك ابن خزيمة وغيره ممن يعرف حقيقة هذه الأمور، وكذلك السري السقطي كان يحذر الجنيد بن محمد من شقاشق الحارث. ثم ذكر غير واحد أن الحارث رجع عن ذلك، كما ذكره معمر بن زياد في أخبار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 شيوخ أهل المعرفة والتصوف، وذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب التعرف لمذاهب التصوف عن الحارث المحاسبي، أنه كان يقول: إن الله يتكلم بصوت، وهذا يناقض قول ابن كلاب. وأبو حامد ليس له من الخبرة والآثار النبوية والسلفية ما لأهل المعرفة بذلك، الذين يتميزون بين صحيحه وسقيمه. ولهذا يذكر في كتبه من الأحاديث والآثار الموضوعة والمكذوبة ما لو علم أنها موضوعة لم يذكرها. وأحمد رضي الله عنه قد رد على الجهمية وغيرهم بالأدلة السمعية والعقلية، وذكر من كلامهم وحججهم ما لم يذكره غيره. بل استوفى حكاية مذهبهم وحججهم أتم استيفاء، ثم أبطل ذلك بالشرع والعقل. وقد نقل أبو حامد في كتابه ما ذكر أنه سمعه من بعض الحنابلة، وهو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 أن أحمد لم يتأول إلا ثلاث أحاديث، وهذا غلط على أحمد، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وتبين ما في هذا الكلام وتوابعه من الصواب والخطأ نقلاً وتوجيهاً. ولو اقتصر أبو حامد على ما نقله من كتاب ابن عبد البر عن الأئمة لم يكن فيه شيء من هذا الخطأ، فإن ابن عبد البر وأمثاله أعلم بالآثار من هؤلاء، ولكن لعله نقل ذلك من كلام أب طالب أو غيره. ونظير هذا ما ذكره أبو المعالي في كتابه أصول الفقه المسمى بالبرهان لما ذكر مذهب الناس في القياس العقلي والشرعي، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 فقال: (القياس فيما ذكره أصحاب المذاهب ينقسم إلى شرعي وعقلي، ثم الناظرون في الأصول والمنكرون تفرقوا على مذاهب، فذهب بعضهم إلى رد القياسين، وقال القائلون: هذا مذهب منكري النظر. وقال قائلون بالقياس العقلي والسمعي، وهذا مذهب الأصوليين والقياسيين، من الفقهاء. وذهب ذاهبون إلى القول بالقياس العقلي، وجحد القياس الشرعي. وهذا مذهب النظام وطوائف من الرافضة والإباضية والأزارقة ومعظم فرق الخوارج إلا النجدات. وصار صائرون إلى النهي عن القياس النظري، والأمر بالقياس الشرعي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 وقال (وهذا مذهب أحمد بن حنبل والمقتصدين من أتباعه، وليس ينكرون إفضاء النظر العقلي إلى العلم، ولكن ينهون عن ملابسته والاشتغال به) . كلام الجويني في البرهان قال: (وذهب الغلاة من الحشوية وأهل الظاهر إلى رد القياس العقلي والشرعي) . قال أبو المعالي: أطلق النقلة القياس العقلي، فإن عنوا به النظر العقلي فهو من نوعه إذا استجمع شرائط الصحة، مفض إلى العلم مأمور به شرعاً، والقياس الشرعي متقبل معمول به إذا صح على السبر اللائق به، وإن عنى الناقلون بالقياس العقلي اعتبار شيء بشيء، ووقوف نظر في غائب على استثارة معنى في شاهد، فهذا باطل عندي لا أصل له، فليس في المعقولات قياس، وقد فهم عنا ذلك طلبة المعقولات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 تعليق ابن تيمية قلت: هذا الذي ذكره أبو المعالي من إنكار القياس في المعقولات وافقه عليه طائفة من المتأخرين، كأبي حامد الرازي وأبي محمد المقدسي، قال: قياس التمثيل إنما يكون في الشرعيات. والمنطقيون قد يدعون أن قياس التمثيل في العقليات إنما يفيد الظن، وأما جمهور العقلاء فعلى أنه لا فرق بين قياس الشمول وقياس التمثيل في إفادة العلم والظن، فإن مما يجعل في قياس الشمول حداً أوسط يجعل في قياس التمثل مناط الحكم، ويسمى العلة والوصف والمشترك. فإذا قيل: النبيذ المسكر حرام، لأنه مسكر، وكل مسكر حرام - فهذا قياس شمول، ولا بد له من دليل يدل على صحة المقدمة الكبرى القائلة: كل مسكر حرام فإذا استدل بقياس التمثيل: قال: إنه مسكر فكان حراماً، قياساً على عصير العنب المسكر. ثم يبين أن العلة في الأصل هو السكر، فالدليل الدال على علة الوصف في الأصل، هو الدال على صحة المقدمة الكبرى، والسكر هو الوصف الذي علق به الحكم، وهو مناطه، وهو المشترك بين الأصل والفرع الذي علق به الحكم، والسكر المتصف بالسكر هو الحد الأوسط المقرر في قياس الشمول، الذي هو محمول في المقدمة الصغرى، موضوع في الكبرى. وأما ما ذكره عن أحمد فقد أنكره أصحاب أحمد، حتى قال أبو البقاء العكبري لمن قرأ عليه كتاب البرهان: (هذا النقل ليس بصحيح عن مذهب الإمام أحمد) . وهو كما قال، فإن أحمد لم ينه عن نظر في دليل عقلي صحيح يفضي إلى المطلوب، بل في كلامه في أصول الدين في الرد على الجهمية وغيرهم من الاحتجاج بالأدلة العقلية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 على فساد قول المخالفين للسنة ما هو معروف في كتبه وعند أصحابه. ولكن أحمد ذم من الكلام البدعي ما ذمه سائر الأمة، وهو الكلام المخالف للكتاب والسنة، والكلام في الله ودينه بغيره علم. واستدل أحمد بقوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] . وأحمد أشهر وأكثر كلاماً في أصول الدين بالأدلة القطعية: نقلها وعقلها من سائر الأئمة، لأنه ابتلي بمخالفي السنة، فاحتاج إلى ذلك. والموجود في كلامه، من الاحتجاج بالأدلة العقلية على ما يوافق السنة، لم يوجد مثله في كلام سائر الأئمة، ولكن قياس التمثيل في حق الله تعالى لم يسلكه أحمد، لم يسلك فيه إلا قياس الأولى، وهو الذي جاء به الكتاب والسنة، فإن الله لا يماثل غيره في شيء من الأشياء حتى يتساويا في حكم القياس، بل هو سبحانه أحق بكل حمد، وأبعد عن كل ذم، فما كان من صفات الكمال المحضة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فهو أحق به من كل ما سواه، وما كان من صفات النقص فهو أحق بتنزيهه عنه من كل ما سواه. والقرآن لما بين قدرته في إعادة الخلق بفعله لما هو أبلغ من ذلك، كان هذا من باب قياس الأولى. وكذلك بين تنزيهه عن الولد والشريك. وكذلك أحمد سلك هذا المسلك - كما ذكره في موضعه - مثل بيانه لإمكان كونه عالماً بجميع المخلوقات، مع كونه بائناً عن العالم فوق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 العرش، بقياسين عقليين: أحدهما أن الإنسان قد يكون معه قد صاف فيرى ما فيه مع مباينته له، فالرب سبحانه قدرته على العالم ومباينته له، أعظم من قدرة هذا على ما في يده، فلا تمتنع رؤيته لما فيه وأحاطته به مع مباينته له. والقياس الثاني من بنى داراً وخرج منها فهو يعلم ما فيها، لكونه فعلها، وإن لم يكن فيها. فالرب الذي خلق كل شيء وأبدعه، هو أحق بأن يعلم ما خلق، وهو اللطيف الخبير، وإن لم يكن حالاً في المخلوقات. والمقصود أن أحمد يستدل بالأدلة العقلية على المطالب الإلهية إذا كانت صحيحة، إنما يذم ما يخالف الكتاب والسنة، أو الكلام بلا علم، والكلام المبتدع في الدين، كقوله في رسالته إلى المتوكل: (لا احب الكلام في هذا إلا ما كان في كتاب الله أو حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة أو التابعين، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود) . وهو لا يكره - إذا عرف معاني الكتاب والسنة - أن يعبر عنها بعبارات أخرى إذا احتيج إلى ذلك، بل هو قد فعل ذلك، بل يكره المعاني المبتدعة في هذا، أي فيما خاض الناس فيه - من الكلام في القرآن والرؤية والقدر والصفات - غلا بما يوافق الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 ولهذا كره الكلام في (الجسم) وفي (الحيز) ، وفي اللفظ بالقرآن نفياً وإثباتاً، لما في كل من النفي والإثبات من باطل، وكلامه في هذه الأمور مبسوطة في موضع آخر كما هو معروف في كتابه وخطابه. والمذموم شرعاً ما ذمه الله ورسوله، كالجدل بالباطل، والجدل بغير علم، والجدل في الحق بعد ما تبين. فأما المجادلة الشرعية، كالتي ذكرها الله تعالى على الأنبياء عليهم السلام وأمر بها، مثل قوله تعالى: {قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} [هود: 32] . وقوله: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} [الأنعام: 83] ، وقوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} [البقرة: 258] . وقوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] . وأمثال ذلك، فقد يكون واجباً أو مستحباً، وما كان كذلك لم يكن مذموماً في الشرع. وما ذكره أبو حامد الغزالي من كلام السلف، في ذم أهل الكلام، لو أنه معروف عنهم، في كتب يعتمد عليها، لم يذكره هنا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 وقد نقل من ذلك ما نقله من كتاب أبي عمر بن عبد البر، الذي سماه فضل العلم وأهله، وما يلزمهم في تأديته وحمله وأبو عمر من اعلم الناس بالآثار والتميز بين صحيحيها وسقيمها. كلام الغزالي في الإحياء عن علم من الكلام وتعليق ابن تيمية عليه ومن ذلك ما نقله أبو حامد أيضاً عن أحمد أنه قال (علماء الكلام زنادقة) . قال: (وقال مالك: أرأيت إن جاء من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم بدين جديد؟) . قال: (يعني أن أقوال المتجادلين تتقاوم) . وقال: (وقال مالك: لا تجوز شهادة أهل الأهواء والبدع. فقال بعض أصحابه في تأويله: انه أراد بأهل الأهواء: أهل الكلام على أي مذهب كانوا) . قلت: هذا الذي كنى عنه أبو حامد هو محمد بن خويز منداد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 البصري الإمام المالكي، وقد قال: (إن أهل الأهواء عند مالك وأصحابه، الذين ترد شهادتهم، هم أهل الكلام) . قال: (فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع عند مالك وأصحابه. وكل متكلم فهو عندهم من أهل الأهواء: أشعري كان أو غير أشعري) هكذا ذكره عنه ابن عبد البر، ومنه نقل ذلك أبو حامد، لكان كنى عن التصريح بذلك. قال أبو حامد: (وقال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 وقال: (وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، ولا ينحصر ما ينقل عنهم من التجديدات فيه. وقالوا: ما سكت عن الصحابة، مع أنهم أعرف بالحقائق، وأفصح في ترتيب الألفاظ من غيرهم، إلا لعلمهم بما يتولد منه. ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون» ، أي المتعمقون في البحث والاستقصاء) . قال: واحتجوا بأن ذلك لو كان من الدين، لكان أهم ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلم طريقه، ويثني على أربابه، فقد علمهم الاستنجاء وندبهم إلا حفظ الفرائض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 وأثنى عليهم ونهاهم عن الكلام في القدر، وعلى هذا استر الصحابة فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم، وهم الأستاذون والقدوة، ونحن الأتباع والتلامذة) . قال: (وأما الفرقة الأخرى، فاحتجوا بان المحذور من الكلام: إن كان هو من أجل لفظ (الجوهر) و (العرض) وهذه الاصطلاحات الغريبة لأجل التفهم كالحديث والتفسير والفقه، ولو عرض عليهم عبارة النقض والكسب، والتعدية، والتركيب، وفساد الوضع لما كانوا يفهمونه، وإحداث عبارة للدلالة على مقصود صحيح، كإحداث آنية على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 هيئة جديدة لاستعمالها في مباح. وإذا كان المحذور هو المعنى، فنحن لا نعني به إلا معرفة الدليل على حدوث العالم، ووحدانية الخالق تعالى وصفاته، كما جاء به الشرع، فمن أين تحرم معرفة الله بالدليل؟ وإن كان المحذور هو الشغب، والتعصب، والعداوة، والبغض وما يفضي إليه الكلام، فذلك يحرم ويجب الاحتراز منه، كما أن الكبر والرياء وطلب الرياسة مما يفضي إليه على الحديث والتفسير والفقه، وهو محرم يجب الاحتراز منه، ولكن لا يمنع من العلم لأجل أدائه أليه. وكيف يكون ذلك الحجة المطالبة، والبحث عن محظوراً، وقد قال تعالى: {قل هاتوا برهانكم} [النمل: 64] ، وقال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 وقال تعالى: {إن عندكم من سلطان} [يونس: 68] أي من حجة وبرهان. وقال تعالى {قل فلله الحجة البالغة} [الأنعام: 149] . وقال تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} إلى قوله {فبهت الذي كفر} [البقرة: 158] ، وذكر إبراهيم مجادلته وإفحامه خصمه في معرض الثناء عليه. وقال تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} [الأنعام: 83] . وذكر كلاماً طويلاً ذكرناه وتكلمنا على ما فيه من مقبول ومردود كلاماً مبسوطاً في غير هذا الموضع، إلى أن قال: (فهذا ما يمكن أن يذكر للفريقين) . ثم ذكر تفصيلاً اختاره، مضمونه: أن فيه مضرة من آثار الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، ومضرة في تأكيد اعتقاد المبتدعة، وتثبيته في صدورهم، بحيث تنبعث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الإصرار بواسطة التعصب الذي يثور عن الجدل) . قلت: المضرة التي ذكرها: نوعان: أحدهما: يتعلق بالعلم، وهو التنبيه على شبه الباطل التي تضعف اعتقاد الحق، وتفضي إلى الباطل. والثاني: يتعلق بالقصد، وهو إثارة الهوى والحمية والعصبية التي تدعو إلى الإصرار ولو على الباطل، لئلا يغلب الشيطان. قال: (وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا. فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود) . قال (ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 وإيضاح لبعض الأمور، ولكن على الندور، وفي أمور جلية تكاد تنال قبل التعمق في صناعة الكلام) . قال: (بل منفعته شيء واحد، وهو حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام، وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل، فإن العامي يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسداً، ومعارضة الفاسد بالفاسد نافعة، والناس متعبدون بهذه العقيدة التي قدمناها، إذ ورد الشرع بها لما فيها من صلاح دينهم ودنياهم، اجتماع السلف عليها، والعلماء متعبدون بحفظ ذلك على العوام من تلبيسات المبتدعة، كما تعبد السلاطين بحفظ أموالهم عن تهجمات الغصاب والظلمة) . قال: (وإذا وقعت الإحاطة بضرره ومنفعته فينبغي أن يكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 كالطبيب الحاذق في استعمال الدواء الخطر، إذ لا يضعه إلا في موضعه، وذلك في وقت الحاجة، وعلى قدر الحاجة) . قلت فهذا كلام أبي حامد، مع معرفته بالكلام والفلسفة، وتعمقه في ذلك يذكر اتفاق سلف أهل السنة على ذم الكلام، ويذكر خلاف من نازعهم، ويبين أنه ليس فيه فائدة إلا الذب عن العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، وإذا لم يكن فيه فائدة إلا الذب عن هذه العقائد، امتنع أن يكون معارضاً لها، فضلاً عن أن يكون مقدماً عليها، فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول مناقضاً للكتاب والسنة، وما كان من ذلك مناقضاً للكتاب والسنة، وجب أن يكون من الكلام الباطل المردود الذي لا ينازع في ذمه أحد من المسلمين: لا من السلف والأئمة، ولا أحد من الخلف المؤمنين أهل المعرفة بعلم الكلام والفلسفة، وما يقبل من ذلك وما يرد، وما يحمد وما يذم، وإن من قبل ذلك وحمده كان من أهل الكلام الباطل المذموم باتفاق هؤلاء. هذا مع أن السلف والأئمة يذمون ما كان من الكلام والعقليات والجدل باطلاً، وإن قصد به نصر الكتاب والسنة، فيذمون من قابل بدعة ببدعة، وقابل الفاسد بالفاسد، فكيف من قابل السنة بالبدعة، وعارض الحق بالباطل، وجادل في آيات الله بالباطل ليدحض به الحق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 ولكن المقصود هنا بيان ما ذكره من اتفاق أئمة السنة على ذمه، وما ذكره من أنه هو وطريق الفلسفة لا يفيد كشف الحقائق ومعرفتها، مع خبرته بذلك. وهو تكلم بحسب ما بلغه عن السلف، وما فهمه وعلمه مما يحمد ويذم، ولم تكن خبرته بأقوال السلف وحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، كخبرته بما سلكه من طرق أهل الكلام والفلسفة، فلذلك لم يكن في كلامه من هذا الجانب من العلم والخبرة ما فيه من الجانب الذي هو به أخبر من غيره، وذلك أن ما ذكره من أن مضرته هي إثارة الشبهات في العلم، وإثارة التعصب في الإرادة، إنما يقال إذا كان الكلام في نفسه حقاً، بأن تكون قضاياه ومقدماته صادقة، بل معلومة. فإذا كان مع ذلك قد يورث النظر فيه شبهاً وعداوة قيل فيه ذلك: والسلف لم يكن ذمهم للكلام لمجرد ذلك، ولا لمجرد اشتماله على ألفاظ اصطلاحية إذا كانت معانيها صحيحة، ولا حرموا معرفة الدليل على الخالق وصفاته وأفعاله، بل كانوا أعلم الناس بذلك، وأعرفهم بأدلة ذلك، ولا حرموا نظراً صحيحاً في دليل صحيح يفضي إلى علم نافع، ولا مناظرة في ذلك نافعة: إما لهدى مسترشد، وإما لإعانة مستنجد، وإما لقطع مبطل متلدد، بل هم أكمل الناس نظراً واستدلالاً واعتباراً، وهم نظروا في أصح الأدلة وأقومها، فإن الناظر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 الطالب للعلم: إما أن يكون نظره في كلام معلم يبين له ويخاطبه بما يعرفه الحق، وإما أن يكون في نفس الأمور الثابتة، التي يخبر عنها المتكلم ويريد أن يعلم أمرها المتعلم، كسائر الناظرين في الطب والنحو وغير ذلك: إما أن ينظر في كلام المعلمين لهذا الفن، وإما أن ينظر فيما من شأنه أنه يخبر عنه كالأبدان واللغات. والسلف كان نظرهم في خير الكلام وأفضله، وأصدقه وأدله على الحق، وهو كلام الله تعالى، وهم ينظرون في آيات الله تعالى التي في الآفاق وفي أنفسهم، فيرون في ذلك من الأدلة ما يبين أن القرآن حق. قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53] . والمناظرة المحمودة نوعان: والمذمومة نوعان، وذلك لأن المناظر: إما أن يكون عالماً بالحق، وإما أن يكون طالباً له، وإما أن لا يكون عالماً به ولا طالباً له. فهذا الثالث هو المذموم بلا ريب، وأما الأولان: فمن كان عالماً بالحق فمناظرته المحمودة أن يبين لغيره الحجة التي تهديه إن كان مسترشداً طالباً للحق إذا تبين له، أو يقطعه ويكف عداوته إن كان معانداً غير متبع للحق إذا تبين له، ويوقفه ويسلكه ويبعثه على الناظر في أدلة الحق إن كان يظن أنه حق وقصده الحق. وذلك لأن المخاطب بالمناظرة إذا ناظره العالم المبين للحجة: إما أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 يكون ممن يفهم الحق ويقبله، فهذا إذا بين له الحق فهمه وقبله، وإما أن يكون ممن لا يقبله إذا فهمه، أو ليس له غرض في فهمه، بل قصده مجرد الرد له، فهذا إذا نوظر بالحجة انقطع وانكف شره عن الناس وعداوته، وهذا هو المقصود الذي ذكره أبو حامد وغيره، وهو دفع أعداء السنة المجادلين بالباطل عنها. وإما أن يكون الحق قد التبس عليه، وأصل قصده الحق، لكن يصعب عليه معرفته لضعف علمه بأدلة الحق، مثل من يكون قليل العلم بالآثار النبوية الدالة على ما أخبر به من الحق، أو لضعف عقله لكونه لا يمكنه أن يفهم دقيق العلم، أو لا يفهمه إلا بعد عسر، أو قد سمع من حجج الباطل ما اعتقد موجبه وظن أنه لا جواب عنه، فهذا إذا نوظر بالحجة أفاده ذلك: إما معرفة الحق، وإما شكاً وتوقفاً في اعتقاد الباطل، أو في اعتقاد صحة الدليل الذي استدل به عليه، وبعث همته على النظر في الحق وطلبه، إن كان له رغبة في ذلك، فإن صار من أهل العصبية الذين يتبعون الظن وما تهوى النفس الحق بقسم المعاندين كما تقدم. وأما المناظرة المذمومة من العالم بالحق، فأن يكون قصده مجرد الظلم والعدوان لمن يناظره. ومجرد إظهار علمه وبيانه لإرادة العلو في الأرض، فإذا أراد علواً في الأرض أو فساداً كان مذموماً على إرادته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 ثم قد يكون من الفجار الذين يؤيد الله بهم الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» ، فكما قد يجاهد الكفار فاجر فينتفع المسلمون بجهاده، فقد يجادلهم فاجر فينتفع المسلمون بجداله، لكن هذا يضر نفسه بسوء قصده وربما أوقعه ذلك في أنواع من الكذب والبدعة والظلم، فيجره إلى أمور أخرى. وقد وقع في ذلك كثير من هؤلاء وهؤلاء. وأما إن كان المناظر غير عالم بالحق، بأن لا يعرف الحق في نفس المسألة، أو يعرف الحق لكن لا يعرف بعض الحجج، أو الجواب عن بعض المعارضات، أو الجمع بين دليلين متعارضين، وأمثال ذلك - فهذا إذا ناظر: طالباً لمعرفة الحق وأدلته، والجواب عما يعارضها، والجمع بين الأدلة الصحيحة - كان محموداً، وإن ناظر بلا علم، فتكلم بما لا يعرف من القضايا والمقدمات - كان مذموماً. والسلف رضوان الله عليهم كانت مناظرتهم مع الكفار وأهل البدع - كالخوارج وغيرهم - من القسم الأول، وكانت مناظرة بعضهم لبعض في مسائل الأحكام والتفسير: تارة من القسم الأول، وتارة من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 القسم الثاني، وهي المشاورة التي مدحهم الله عليها بقوله عز وجل {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى: 38] . وما ذكره الله تعالى عن الأنبياء والمؤمنين من المجادلة يتناول هذا وهذا. وقد ذم الله تعالى في القرآن ثلاثة أنواع من المجادلة: ذم أصحاب المجادلة بالباطل ليدحض به الحق، وذم المجادلة في الحق بعد ما تبين، وذم المحاجة فيما لا يعلم المحاج. فقال تعالى: {وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق} [غافر: 5] . وقال تعالى: {يجادلونك في الحق بعد ما تبين} [الأنفال: 6] . وقال: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} [آل عمران: 66] . والذي ذمه السلف والأئمة من المجادلة والكلام هو من هذا الباب، فإن أصل ذمهم الكلام المخالف للكتاب والسنة، وهذا لا يكون في نفس الأمر إلا باطلاً، فمن جادل به جادل بالباطل، وإن كان ذلك الباطل لا يظهر لكثير من الناس أنه باطل لما فيه من الشبهة، فإن الباطل المحض الذي يظهر بطلانه لكل أحد لا يكون قولاً ومذهباً لطائفة تذب عنه، وإنما يكون باطلاً مشوباً بحق، كما قال تعالى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 {لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} [آل عمران: 71] . أو تكون فيه شبهة لأهل الباطل، وإن كانت باطلة وبطلانها يتبين عند النظر الصحيح، كالذين قالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن ومجنون، قالوا: إنه شاعر لأن الشعر كلام موزون مقفى فشبهوا القرآن به من هذا الوجه، والكاهن يخبر أحياناً بواحدة تصدق فشبهوا الرسول به من هذا الوجه، والمجنون يقول ويفعل خلاف ما في عقول ذوي العقول. فلما زعموا أن ما يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم يخالف ما يأتي به العقلاء نسبوه إلى ذلك. لكن ما ينصبه الله من الأدلة، ويهدي إليه عباده من المعرفة، يتبين به الحق من الباطل الذي يشتبه به، ولكن ليس كل من عرف الحق - إما بضرورة أو بنظر - أمكنه أن يحتج على من ينازعه بحجة تهديه أو تقطعه، فإن ما به يعرف الإنسان الحق نوع، وما به يعرفه به غيره نوع، وليس كل ما عرفه الإنسان أمكنه تعريف غيره به، فلهذا كان النظر أوسع من المناظرة، فكل ما يمكن المناظرة به يمكن النظر فيه، وليس كل ما يمكن النظر فيه يمكن مناظرة كل أحد به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 ولهذا كان أهل العلم بالحديث لهم علوم ضرورية بأقوال الرسول ومقاصده، لا يشركهم فيها إلا من شركهم في أسبابها. والمقصود هنا أن السلف كانوا أكمل الناس في معرفة الحق وأدلته، والجواب عما يعارضه، وإن كانوا في ذلك درجات. وليس كل منهم يقوم بجميع ذلك، بل هذا يقوم بالبعض،، وهذا يقوم بالبعض، كما في نقل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من أمور الدين. والكلام الذي ذموه نوعان: أحدهما أن يكون في نفسه باطلاً وكذباً، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل كذب، فإن أصدق الكلام كلام الله. والثاني أن يكون فيه مفسدة، مثلما يوجد في كلام كثير منهم: من النهي عن مجالسة أهل البدع، ومناظرتهم، ومخاطبتهم، والأمر بهجرانهم. وهذا لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم، فإن الحق إذا كان ظاهراً قد عرفه المسلمون، وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته، فإنه يجب منعه من ذلك، فإذا هجر وعزر، كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عسل التميمي، وكما كان المسلمون يفعلونه، أو قتل كما قتل المسلمون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما - كان ذلك هو المصلحة بخلاف ما إذا ترك داعياً، وهو لا يقبل الحق: إما لهواه، وإما لفساد إدراكه، فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين. والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه، وناظروه وبينوا له الحق، كما فعل عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه، ثم نكت التوبة بعد ذلك فقتلوه. وكذلك علي - رضي الله عنه - بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم، ثم رجع نصفهم، ثم قاتل الباقين. والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف، وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس، قوبل بالعقوبة. قال الله تعالى: {والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد} [الشورى: 16] . وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة، إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل، كما ينهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار، فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة، وقد ينهى عنها إذا كان المناظر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 معانداً يظهر له الحق فلا يقبله - وهو السوفسطائي - فإن الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة بينة بنفسها ضرورية وجحدها الخصم كان سوفسطائياً، ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك، بل إن كان فاسد العقل داووه، وإن كان عاجزاً عن معرفة الحق - ولا مضرة فيه - تركوه، وإن كان مستحقاً للعقاب عاقبوه مع القدرة: إما بالتعزير وإما بالقتل، وغالب الخلق لا ينقادون للحق إلا بالقهر. والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة من لا يقوم بواجبها، أو من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة، أو فيها مفسدة راجحة، فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحوال. وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة ومستحبة تارة أخرى. وفي الجملة جنس المناظرة والمجادلة فيها: محمود ومذموم، ومفسدة ومصلحة، وحق وباطل. ومنشأ الباطل من نقص العلم، أو سوء القصد. كما قال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} [النجم: 23] . ومنشأ الحق من معرفة الحق والمحبة له، والله هو الحق المبين، ومحبته أصل كل عبادة، فلهذا كان أفضل الأمور على الإطلاق معرفة الله ومحبته، وهذا هو ملة إبراهيم خليل الله تعالى، الذي جعله الناس إماماً، وجعله أمة يأتم به الخلق، وهو الذي ناظر المعطلين والمشركين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 ثم ذكر الله تعالى محاجته لمن حاجه في ربه: {إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر} [البقرة: 258] ، ومحاجته لقومه الذين كانوا يعبدون الكواكب. والجهمية نفاة الصفات الذين هم رؤوس أهل الكلام المذموم، قولهم مأخوذ من قول خصمائه، كما هو مأخوذ من قول فرعون خصم موسى عليه السلام، فإن فرعون أظهر جحد الصانع وعلوه على خلقه، وجحد تكليمه لموسى. وقوم إبراهيم كانوا مشركين، كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك، وكان فيهم من هو معطل، كما ذكر الله تعالى ذلك. والفلاسفة القائلون بدعوة الكواكب: فيهم المشرك، وفيهم المعطل. ونفي الصفات من أقوالهم، فمنهم من لا يثبت لهذا العالم المشهود رباً أبدعه، كما هو قول الدهرية الطبيعية منهم، ويجعلون العالم نفسه واجب الوجود بذاته، ومنهم من يثبت له مبدعاً واجباً بنفسه أبدعه، كما هو قول الدهرية الإلهية منهم، ويقولون: إن الواجب ليس له صفة ثبوتية، بل صفاته: إما سلب، وإما إضافة، وإما مركبة منهما. وكان الجعد بن درهم من أهل حران، وكان فيهم بقايا من الصابئين والفلاسفة - خصوم إبراهيم الخليل عليه السلام، فلهذا أنكر تكليم موسى وخلة إبراهيم، موافقة لفرعون والنمرود، بناءً على أصل هؤلاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 النفاة، وهو أن الرب تعالى لا يقوم به كلام، ولا يقوم به محبة لغيره، فقتله المسلمون، ثم انتشرت مقالته فيمن ضل من هذا الوجه. والمحبة متضمنة للإرادة، ومسألة الكلام والإرادة ضل فيها طوائف، كما ضلوا في إنكار العلو الذي أنكره فرعون على موسى. كما قد بسط هذا في موضعه. ومما يبين هذا أن السلف لم يذموا التكلم بأسماء مفردة: كالجوهر، والجسم، والعرض، فإن الاسم المفرد ليس بكلام، ولا يتكلم به أحد، وإنما ذموا الكلام المؤلف الدال على معان، والذين كانوا يتكلمون بهذه الأسماء كان كلامهم متضمناً لأمور فيها افتراء على الله ورسوله: إما إثبات ما نفاة الله، وإما نفي ما أثبته الله، ومتضمنة لمعان باطلة هي كذب وباطل في نفس الأمر. والمقصود هنا التنبيه على جنس ما مدحه السلف وذموه، وأنهم كانوا أعرف الناس بالحق وأدلته، وبطلان ما يعارضه، وإنما يظن بهم التقصير في هذا من كان جاهلاً بحقيقة الحق، وبما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم من العلم والإيمان، وبما وصل إليه السلف والأئمة، فجهله بالأول يوجب أن لا يعلم الحق بل يعتقد نقيضه، وجهله بالثاني يوجب ظنه أن ليس فيما جاء به الرسول بيان الحق بأدلته والمناظرة عنه، وجهله بالثالث يوجب ظنه أن السلف ذموا الكلام بالأدلة الصحيحة المفضية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 إلى العلم بالله وصفاته خوفاً من الشبهات والأهواء، بل الأصل في ذم السلف لكلام هو اشتماله على القضايا الكاذبة، والمقدمات الفاسدة، المتضمنة للافتراء على الله تعالى وكتابه ورسوله ودينه. فهذا هو الكلام المذموم بالذات، وهو الكلام الكاذب الباطل، وأما الكلام الذي هو حق وصدق، فهذا لا يذم بالذات، وإنما يذم المتكلم به أحياناً، لاشتمال ذلك على مضرة عارضة، مثل ما يحرم القذف، وإن كان القاذف صادقاً إذا لم يكن له أربعة شهداء، ومثل ما تحرم الغيبة والنميمة ونحو ذلك مما هو صدق لكن فيه ظلم للغير. وأما الكلام في الدين فنوعان: أحدهما أمر، والثاني خبر. والكلام في أصول الدين هو من النوع الثاني. ولا ريب أن الله تعالى أخبر بإثبات أمور ونفي أمور، وأصدق الكلام كلام الله، فما ناقض ذلك كان كذباً وقولاً على الله غير الحق. كما قال تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق} [النساء: 171] . وقال تعالى: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق} [الأعراف: 169] . وقال تعالى: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} [الأعراف: 152] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 وقال تعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} [الصافات: 180] ، وأمثال ذلك. وعامة الكلام الذي ذمه السلف تشتمل مسائله على كذب وفرية، ودلائل مسائله على كذب وفرية، كأقوال الجهمية النفاة لما أثبته الله تعالى له من الأسماء والصفات، وكلام القدرية النافية لما أثبته الله من قدرته ومشيئته. ودلائل الجهمية والنفاة: هو استدلالهم بدليل الجواهر والأعراض، فإنهم زعموا أن الأعيان المشاهدة كالسماوات والأرض مركبة من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، وأن المركب مسبوق بجزئه، ومفتقر إلى مركب يركبه، فيكون محدثاً وممكناً، وما قام بها من الصفات والحركات أعراض، والأعراض - أو بعضها - حادثة، وما كان شخصه حادثاً، وجب أن يكون نوعه حادثاً، فيمتنع وجود حوادث لا تتناهى، قالوا: بهذا عرفنا أن السماوات مخلوقة، وبذلك عرفنا أن الله موجود، فلزمهم على ذلك أن ينفوا صفات الله وأفعاله، وذلك باطل شرعاً وعقلاً، ولم يكن ما أقاموه دليلاً صحيحاً، فلا هم عرفوا الحق بدليل صحيح قويم، ولا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 هم نصروا بميزان مستقيم، ولكنهم قد يقابلون الفاسد بالفاسد، فإن أعداد الملة قد يقيمون شبهة على نقيض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، كشبهة الدهرية على قدم السماوات، فيقابلون ذلك بفاسد آخر، كاستدلالهم على حدوث ذلك بدليل الأعراض والصفات. وحفظ مثل هذا الكلام لاعتقاد العوام، كدفع المظلمة عنهم بعقوبات فيها عدوان، ومن ظن أن الخلف أعلم بالحق وأدلته، أو المناظرة فيه من السلف، فهو بمنزلة من زعم أنهم أقوم بالعلم والجهاد وفتح البلاد منهم، وكلا الظنين طريق من لم يعرف حقيقة الدين، ولا حال السلف السابقين. وهذا مثل كلام الرافضة وأمثالهم من أهل الفرية، الذي يتضمن قولهم التكذيب بالحق والتصديق بالباطل، فهؤلاء فيما يحدثون به من الكذب، ويكذبون به من الصدق في المقولات، بمنزلة أهل الكلام الباطل في البحث والنظر، كالجهمية الذين يكذبون بالحق ويصدقون بالباطل في العقليات. ولهذا كان غير واحد من السلف يقرن بين الجهمية والرافضة، وهما شر أهل الأهواء، وكان الكلام المذموم عند السلف أعظم من الشهادة بالزور وظلم الحق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 وذلك لأن الكاذب الظالم إذا علم أنه كاذب ظالم، كان معترفاً بذنبه، معتقداً لتحريم ذلك، فترجى له التوبة، ويكون اعتقاده التحريم، وخوفه من الله تعالى من الحسنات التي يرجى أن يمحوا الله بها سيئاته. وأما إذا كذب في الدين معتقداً أن كذبه صدق، وافترى على الله ظاناً أن فريته حق، فهذا أعظم ضرراً وفساداً. ولهذا كان السلف يقولون: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها. ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الخوارج المبتدعين مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم، ونهى عن الخروج على أئمة الظلم، وأمر بالصبر عليهم. «وكان يجلد رجلاً يشرب الخمر فلعنه رجل، فقال: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» . «وجاءه ذو الخويصرة التميمي وبين عينيه أثر السجود، فقال: يا محمد اعدل فإنك لم تعدل. فقال: ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل. ثم قال: يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم وقراءته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 مع قراءتهم. يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة» . فهذا المبتدع الجاهل لما ظن أن ما فعله الرسول ليس بعدل، كان ظنه كاذباً، وكان في إنكاره ظالماً، وهذا حال كل مبتدع نفى ما أثبته الله تعالى، أو أثبت ما نفاه الله، أو اعتقد حسن ما لم يحسنه الله، أو قبح ما لم يكرهه الله، فاعتقادهم خطأ، وكلامهم كذب، وإرادتهم هوى، فهم أهل شبهات في آرائهم، وأهواء في إرادتهم. فالسلف ذموا أهل الكلام الذين هم أهل الشبهات والأهواء، لم يذموا أهل الكلام الذين هم أهل كلام صادق، يتضمن الدليل على معرفة الله تعالى، وبيان ما يستحقه وما يمتنع عليه، ولكن قد يورث شبهة وهوى. وقد اعترف أبو حامد بأن ما ذكره هو من الكلام والفلسفة ليس فيه كشف الحقائق ومعرفتها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 وأما حراسة عقيدة العوام. فيقال: أولاً: لا بد أن يكون المحروس هو نفس ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أخبر به لأمته، فأما إذا كان المحروس فيه ما يوافق خبر الرسول وفيه ما يخالفه، كان تمييزه قبل حراسته أولى من الذب عما يناقض خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن حاجة المؤمنين إلى معرفة ما قاله الرسول وأخبرهم به ليصدقوا به، ويكذبوا بنقيضه، ويعتقدوا موجبه، قبل حاجتهم إلى الذب عن ذلك، والرد على من يخالفه، فإذا كان المتكلم الذي يقول إنه يذب عن السنة، قد كذب هو بكثير مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتقد نقيضه - كان مبتدعاً مبطلاً متكلماً بالباطل فيما خالف فيه خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن ما وافق فيه خبر الرسول، فهو فيه متبع للسنة، محق يتكلم بالحق. وأهل الكلام الذين ذمهم السلف لا يخلو كلام أحد منهم على مخالفة السنة، ورد بعض ما أخبر به الرسول، كالجهمية والمشبهة، والخوارج والروافض، والقدرية، والمرجئة. ويقال بأنها لا بد أن تحرس السنة بالحق والصدق والعدل، كما تحرس بكذب ولا ظلم، فإذا رد الإنسان باطل بباطل، وقابل بدعة ببدعة، كان هذا مما ذمه السلف والأئمة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 وهؤلاء - كما ذكره أبو حامد - يدخلون في هذا، وكلام السلف في ذم الكلام متناول لما ذمه الله في كتابه، والله سبحانه قد ذم في كتابه الكلام الباطل، والكلام بغير علم. والأول كثير. وأما الثاني فقد قال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] . وقال تعالى: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} [آل عمران: 66] . وقال: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} [الإسراء: 36] . وهذا النوعان مذمومان في القضاء والفتيا والتفسير. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاث: قاض في الجنة، وقاضيان في النار. رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وحكم بخلافه فهو في النار» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 وفي السنن: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ومن قال في القرآن برأيه فأخطأ فليتبوأ مقعده من النار» . فهذان النوعان من الكلام مذمومان مطلقاً، لا سيما ما كان في نفسه كذباً باطلاً، وأما جنس النظر والمناظرة، فهذا لم ينه السلف عنه مطلقاً، بل هذا - إذا كان حقاً - يكون مأموراً به تارة ومنهياً عنه أخرى، كغيره من أنواع الكلام الصدق، فقد ينهى عن الكلام الذي لا يفهمه المستمع، أو الذي يضر المستمع، وعن المناظرات التي تورث شبهات وأهواء، فلا تفيد علماً ولا ديناً. ومن هذا الباب أنه خرج صلى الله عليه وسلم على طائفة من أصحابه وهم يتناظرون في القدر، فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ وأن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل القرآن ليصدق بعضه بعضاً، لا ليكذب بعضه بعضاً. فإذا كانت المناظرة تتضمن أن كل واحد من المتناظرين يكذب ببعض الحق نهي عنه لذلك. وأكثر الاختلاف بين ذوي الأهواء من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 هذا الباب، كالقائلين بأن الله جسم متحيز في جهة، والنافين لذلك، والقائلين: إن الله يجبر العباد، والنافين لذلك وأمثال ذلك من الكلام المجمل المتشابه، الذي يتضمن حقاً وباطلاً، في جانبي النفي والإثبات. والكلام بلفظ (الجسم) و (الجوهر) و (العرض) في مسائل الصفات هو من هذا الباب. قال: أبو عبد الرحمن السلمي - وقد ذكر شيخ الإسلام في ذم الكلام من طريقة: سمعت أبا نصر أحمد بن محمد السجزي يقول: سمعت أبي يقول: قلت لأبي العباس بن سريج: ما التوحيد؟ قال: توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام، وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكاره ذلك. والمقصود هنا بيان فساد الطرق المعارضة للكتاب والسنة، وأما بيان اشتمال الكتاب والسنة على الطرق التي بها تحصل معرفة الله والإيمان به وبرسله وباليوم الآخر، فهذا مذكور في موضع آخر. تابع كلام الغزالي في الإحياء قد قال أبو حامد أيضاً لما ذكر أقسام العلوم: (فإن قلت: لم تورد في أقسام العلوم الكلام والفلسفة، وتبين أنهما محمودان أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 مذمومان؟ فاعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام في الأدلة التي ينتفع بها فالقرآن والأخبار مشتملة عليه، وما خرج عنه فهو: إما مجادلة مذمومة، وهي من البدع، وإما مشاغبات بالتعلق بمناقضات الفرق، وتطويل وقت بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع، وتمجها الأسماء، وبعضها خوض في ما لا يتعلق بالدين، ولم يكن شيء منها مألوفاً في العصر الأول، فكان الخوض فيه بالكلية من البدع. كلام الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر قال أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب: (ووقفت على ما التمسوه من ذكر الأصول التي عول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 سلفنا رحمة الله عليهم عليها وعدلوا إلى الكتاب والسنة من أجلها، واتباع خلفنا الصالح لهم في ذلك، وعدولهم عما صار إليه أهل البدع من المذاهب التي أحدثوها، وصاروا إلى مخالفة الكتاب والسنة بها، وما ذكرتم من شدة الحاجة إلى ذلك، فبادرت - أيدكم الله - بإجاباتكم إلى ما التمسوه، وذكرت لهم جملاً من الأصول، مقرونة بأطراف من الحجاج، تدلكم على صوابكم في ذلك، وخطأ أهل البدع فيما صاروا إليه من مخالفتهم، وخروجهم عن الحق الذي كانوا عليه قبل هذه البدع معهم، ومفارقتكم بذلك الأدلة الشرعية، وما أتى به الرسول منها ونبه عليها، وموافقتكم بذلك لطرد الفلاسفة الصادين عنها، والجاحدين لما أتت به الرسل صلوات الله عليهم منها: اعلموا - أرشدكم الله - أن الذي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 مضى عليه سلفنا وأتباعهم من صالح خلفنا: أن الله تعالى بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى سائر العالمين وهم أحزاب متشتتون، وفرق متباينون: منهم كتابي يدعو إلى الله بما في كتابه، وفلسفي قد تشعبت به الأباطيل في أمور يدعيها بقضايا العقول وبرهمي يمكن أن يكون لله رسول، ودهري يدعي الإهمال ويخبط في عشواء الضلال، وثنوي قد اشتملت عليه الحيرة، ومجوسي يدعي ما ليس له به خبرة، وصاحب صنع يعكف عليه ويزعم أن له رباً يتقرب بعبادة ذلك الصنم إليه، لينبههم جميعاً على حدثهم، ويدعوهم إلى توحيد المحدث لهم، ويبين لهم طرق معرفته، بما فيهم من آثار صنعتهم ويأمرهم برفض كل ما كانوا عليه من سائر الأباطيل، بعد تنبيهه عليه السلام لهم على فسادها، ودلالته على صدقه فيما يخبرهم به عن ربهم بالآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة، ويوضح لهم سائر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 ما تعبدهم الله به من شريعته، وأنه عليه السلام دعا جماعتهم إلى ذلك، ونبههم على حدثهم، بما فيهم من اختلاف الصور والهيئات، وغير ذلك من اختلاف اللغات، وكشف لهم عن طريق معرفة الفاعل لهم، بما فيهم وفي غيرهم مما يقتضي وجوده، ويدل على إرادته وتدبيره، حيث قال عز وجل: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21] ، فنبههم عز وجل بتقلبهم في سائر الهيئات التي كانوا عليها على ذلك. وشرح لهم ذلك بقوله سبحانه: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 12-14] . وهذا مما أوضح ما يقتضي الدلالة على حدث الإنسان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 ووجود المحدث له من قبل أن العلم قد أحاط بأن كل متغير لا يكون قديماً، وذلك أن تغيره يقتضي مفارقة حال كان عليها قبل تغيره، وكونه قديماً ينفي تلك الحال، فإذا حصل متغيراً بما ذكرناه من الهيئات التي لم يكن قبل تغيره عليها، دل ذلك على حدوثها وحدوث الهيئة التي كان عليها قبل حدوثها، إذ لو كانت قديمة لما جاز عدمها، وذلك أن القديم لا يجوز عدمه، وإذا كان هذا على ما قلنا، وجب أن يكون ما عليه الأجسام من التغير منتهياً إلى هيئات محدثة، ولم تكن الأجسام قبلها موجودة، بل كانت معها محادثة، ويدل ترتيب ذلك على محدث قادر حكيم من قبل أن ذلك لا يجوز أن يقع بالاتفاق، فيتم من غير مرتب له، ولا قاصد إلى ما وجد منه فيها، دون ما كان يجوز وقوعها عليه من الهيئات المخالفة لها، وجواز تقدمها في الزمان وتأخرها، وحاجتها بذلك إلى محدثها ومرتبها، لأن سلالة الطين والماء المهين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 بنفسه، لا يجوز أن يقع شيء من ذلك فيها بالاتفاق، لاحتمالها لغيره، فإذا وجدنا ما صار إليه الإنسان في هيئته المخصوصة به دون غيره من الأجسام، وما فيه الآلات المعدة لمصالحه: كسمعه وبصره وشمه وحسه وآلات ذوقه، وما أعد له من آلات الغذاء التي لا قوام له إلا بها، على ترتيب ما قد أحوج إليه من ذلك، حتى يوجد في حال حاجته إلى الرضاع بلا أسنان تمنع من غذائه، وتحول بينه وبين مرضعته، فإذا نقل من ذلك وخرج إلى غذاء لا ينتفع به، ولا يصل منه إلا غرضه إلا بطحنها له جعل له منها بقدر ما به الحاجة في ذلك إليه، والمعدة المعدة لطبخ ما يصل إليها من ذلك، وتلطيفه حتى يصل إلى الشعر والظفر، وغير ذلك من سائر الأعضاء في مجاز لطاف، قد هيئات لذلك بمقدار ما يقيمها، والكبد المعدة لتسخينها بما يصل من حرارة القلب، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 والرئة المهيأة لإخراج بخار الحرارة التي في القلب، وإدخال ما يعتدل به من الهواء البارد، باجتذاب المناخر، وما فيها من الآلات المعدة كخروج ما يفضل من الغذاء عن مقدار الحاجة، في مجاز ينفذ ذلك منها، وغير لك مما يطول شرحه، مما لا يصح وقوعه بالاتفاق، ولا يستغني في ما هو عليه عن مقوم له يرتبه، إذا كان ذلك لا يصح أن يترتب وينقسم في سلالة الطين والماء المهين بغير صانع لها مدبر، عند كل عاقل متأمل، كما لا يصح أن تترتب الدار على ما تحتاج إليه فيها من البناء بغير مدبر ينقسم ذلك فيها، ويقصد إلى ترتيبها. ثم زادهم الله تعالى في ذلك بياناً بقوله عز وجل: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 لآيات لأولي الألباب} [آل عمران: 190] ، فدلهم تعالى بحركة الأفلاك على المقدار الذي بالخلق الحاجة إليه في مصالحهم، التي لا تخفى مواقع انتفاعهم، بها كالليل الذي جعل لسكونهم، ولتبريد ما زاد عليهم من حر الشمس في زروعهم وثمارهم، والنهار الذي جعل لانتشارهم وتصرفهم في معايشهم، على القدر الذي يحتملونه في ذلك. ولو كان دهرهم كله ليلاً لأضر بهم ما فيه من الظلمة، التي تقطعهم عن التصرف في مصالحهم، وتحول بينهم وبين إدراك منافعهم، وكذلك لو كان دهرهم كله نهاراً، لأضر بهم ذلك ودعاهم إلى ما فيه من الضياء إلى التصرف في طلب المعاش مع حرصهم على ذلك، إلى ما لا يطيقونه، فأداهم قلة الراحة إلى عطبهم، فجعل لهم من النهار قسطاً لتصرفهم، لا يجوز بهم قدر الطاقة فيه، وجعل لهم من الليل قسطاً لسكونهم، لا يقتصر عن درك حاجتهم، لتعتدل في ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 أحوالهم، وتكمل مصالحهم، وجعل لهم من الحر والبرد فيهما، بمقدار ما لهم من ثمارهم ولمواشيهم من الصلاح، رفقاً لهم وجعل لون ما يحيط بهم من السماء ملاوماً لأبصارهم، ولو كان لونها على اختلاف ذلك من الأولون لأفسدها، ودلهم على حدثها، بما ذكرناه من حركتها، واختلاف هيئاتها، كما ذكرنا أنفاً، ودلهم على حاجتها وحاجة الأرض، وما فيهما من الحكم، ومع عظمها وثقل أجرامها إلى إمساكه عز وجل لهما بقوله تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا} [فاطر: 41] . فعرفنا تعالى أن وقوفهما لا يصح أن يكون من غيره، وأن وقوفهما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 لا يجوز ان يكون بغير موقف لهما، ثم نبهنا على فساد قول الفلاسفة بالطبائع، وما يدعونه من فعل الأرض والماء والنار والهواء في الأشجار، وما يخرج منها من سائر الثمار بقوله عز وجل: {وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل} ثم قال عز وجل {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} [الرعد: 4] . ثم نبه تعالى خلقه على انه واحد باتساق أفعاله وترتيبها، وأنه تعالى لا شريك له فيها، بقوله عز وجل: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] . ووجه الفساد بذلك: لو كان إلهين ما اتسق أمرهما على نظام، ولا يتم إحكام، وكان لا بد أن يلحقهما العجز، أو يحلقهما، عند التمانع في الأفعال والقدرة على ذلك، وذلك أن كل واحد منهما لا يخلو أن يكون قادراً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 ما يقدر عليه الآخر على طريق البدل من فعل لآخر، أو لا يكون كل واحد منهما قادراً على ذلك، فإن كان كل واحد منهما قادراً على فعل ما يقدر الأخر بدلاً منه، لم يصح أن يفعل كل واحد منهما ما يقدر عليه الآخر، وإلا بترك الآخر له، وإذا كان كل واحد منهما لا يفعل إلا بترك الآخر له، جاز أن يمنع كل واحد منهما صاحبه من ذلك. ومن يجوز أن يمنع ولا يفعل إلا بترك غيره له، فهو مذموم عاجز، وإن كان كل واحد منهما لا يقدر على فعل مقدور الآخر بدلاً منه، وجب عجزهما وحدوث قدرتيهما، والعاجز لا يكون إلهاً ولا رباً. ثم نبه المنكرين للإعادة، مع إقرارهم بالابتداء على جواز إعادته تعالى لهم، حيث قال لهم لما استنكروها وقالوا: من يحي العظام وهي رميم؟ {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 خلق عليم} ثم أوضح لهم ذلك بقوله: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون} [يس: 79-80] ، فدلهم بما يشاهدونه من جعله النار من العفار والمرخ وهما شجرتان خضراوان إذا حكت أحدهما الأخرى بتحريك الريح لها اشتعل النار فيهما، على جواز إعادته الحياة في العظام والنخرة والجلود المتمزقة. ثم نبه عباد الأصنام بتعريفه لهم على فساد ما صاروا إلى عبادتها مع نحتها، بقوله تعالى: {أتعبدون ما تنحتون} ثم قال: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 95-96] . فبين لهم فساد عبادتها، ووجوب عبادته دونها، بأنها إذا كانت لا تصير أصناماً إلا بنحتكم لها، فأنتم أيضاً لن تكونوا على ما أنتم عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 من الصور والهيئات إلا بفعلي، وإني - مع خلقي لكم وما تنحتونه - خالق لنحتكم، إذ كنت أنا المقدر لكم عليه والممكن لكم منه. ثم رد على المنكرين لرسله بقوله عز وجل: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس} [الأنعام: 191] . وقال تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165] . ثم احتج النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الكتب بما في كتبهم من ذكر صفته والدلالة على اسمه ونعته، وتحدي النصارى - لما كتموا ما في كتبهم من ذلك وجحدوه - بالمباهلة، عند أمر الله عز وجل له بذلك بقوله: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} آل عمران: 61] . وقال لليهود لما بهتوه: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} [البقرة: 94] ، فلم يجسر أحد منهم على ذلك، مع اجتماعهم على تكذيبه، وتناهيهم في عداوته، واجتهادهم في التنفير عنه، لما أخبرهم بحلول الموت بهم إن أجابوه إلى ذلك، فلولا معرفتهم بحاله في كتبهم، وصدقه فيما يخبرهم، لأقدموا على إجابته، ولسارعوا إلى فعل ما يعلمون أن فيه توهين أمره. ثم إن الله تعالى بعد إقامة الحجج عليهم أزعج خواطر جماعتهم للنظر فيما دعاهم إليه، ونبههم عليه، بالآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة، وأيده بالقرآن الذي تحدى به فصحاء قومه الذين بعث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 إليهم لما قالوا: إنه مفترى أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، أو سورة من مثله، وقد خاطبهم فيه بلغتهم، فعجزوا عن ذلك، مع إخباره لهم أنهم لا يأتون بمثله، ولو تظاهر على ذلك الإنس والجن، وقطع عليه السلام عذرهم به عذر غيرهم، كما قطع موسى عليه السلام عذر السحرة وغيرهم في زمانه بالعصا التي فضحت سحرهم، وبان بما كان منها - لهم ولغيرهم - أن ذلك من فعل الله تعالى، وأن هذا ليس تبلغه قدرتهم، ولا تطمع فيه خواطرهم، وكما قطع عيسى عليه السلام عذر من كان في زمانه من الأطباء، الذين قد برعوا في معرفة العقاقير، وقوى ما في الحشائش، وقدر ما ينتهي إليه علاجهم، وتبلغه حيلهم، بإحياء الموتى بغير علاج، وإبراء الأكمة والأبرص، وغير ذلك مما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 بهرهم به، وأظهر لهم منه ما يعلمون بيسير الفكر أنه خارج عن قدرهم، وما يصلون إليه بحيلهم. وكذلك قد أزاح نبينا صلى الله عليه وسلم بالقرآن - وما فيه من العجائب - علل الفصحاء من أهله، وقطع به عذرهم، لرؤيتهم أنه خارج عما انتهت إليه فصاحتهم في لغاتهم، ونظموه في شعرهم، وبسطوه في خطبهم، وأوضح لجميع من بعث إليه من الفرق التي ذكرناها فساد ما كانوا عليه بحجج الله وبيناته، ودل على صحة ما دعاهم إليه ببراهين الله وآياته، حتى لم يبق لأحد منهم شبهة فيه، ولا احتيج مع ما كان منه عليه السلام في ذلك إلى زيادة من غيره، ولو لم يكن ذلك كذلك، لم يكن له عليه السلام حجة على جماعتهم، ولا كانت طاعته لازمة لهم، مع خصامهم وشدة عنادهم، ولكانوا قد احتجوا عليه بذلك، ودفعوه عما يوجب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 طاعتهم له، وقرعوه بتقصيره عن إقامة الحجة عليهم فيما يدعوهم إليه، مع طول تحديه لهم، وكثرة تبكيتهم، وطول مقامه فيهم، ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلا، مع حرصهم عليه. وإذا كان هذا على ما ذكرناه، علم صحة ما ذهبنا إليه في دعوته عليه الصلاة والسلام إلى التوحيد، وإقامة الحجة على ذلك، وإيضاحه لطرق إليها. وقد أكد الله تعالى دلالة نبوته، بما كان من خاص آياته عليه السلام التي تنقض بها عاداتهم، كإطعامه الجماعة الكثيرة في المجاعة الشديدة من الطعام اليسير، وسقيهم الماء في العطش الشديد من الماء اليسير، وهو ينبع من بين أصابعه، حتى رووا ورويت مواشيهم، وكلام الذئب، وإخبار الذراع المشوية أنها مشوية، وانشقاق القمر، ومجيء الشجرة إليه عند دعائها إليه ورجوعها إلى مكانها بأمره لها، وإخباره لهم عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 السلام بما تجنه صدورهم، وما يغيبون به عنه من أخبارهم. ثم دعاهم عليه السلام إلى معرفة الله عز وجل، وإلى طاعته فيما كلف تبليغه إليهم، بقوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} [التغابن: 12] ، وعرفهم أمر الله بإبلاغه ذلك، وما ضمنه له من عصمته منهم، بقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] ، فعصمه الله منهم، مع كثرتهم وشدة بأسهم، وما كانوا عليه من شدة عنادهم وعداوتهم له، حتى بلغ رسالة ربه إليهم، مع كثرتهم ووحدته وتبري أهله منه، ومعاداة عشيرته، وقصد الجميع المخالفين له حين سفه آراءهم فيما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 كانوا عليه من تعظيم أصنامهم، وعبادة النيران، وتعظيم الكواكب، وإنكار الربوبية، وغير ذلك مملا كانوا عليه حتى بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأوضح الحجة في فساد جميع ما نهاهم مما كانوا عليه، ودلهم على صحة جميع ما دعاهم إلى اعتقاده وفعله بحجج الله وبيناته، وأنه عليه السلام - لم يؤخر عنهم بيان شيء مما دعاهم إليه عن وقت تكليفهم فعله، لما يوجبه تأخير ذلك عنهم من سقوط تكليفه لهم. وأنه جوز فريق من أهل العلم تأخير البيان فيما أجمله الله من الأحكام قبل لزوم فعله لهم فأما تأخير ذلك عن وقت فعله فغير جائز عن كافتهم. ومعلوم عند سائر العقلاء أن ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إليه من واجهه من أمته من اعتقاد حديثهم ومعرفة المحدث لهم. وتوحيده ومعرفة أسمائه الحسنى، وما هو عليه من صفات نفسه وصفات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 فعله، وتصديقه فيما بلغهم من رسالته، مما لا يصلح أن يؤخر عنهم البيان فيه، لأنه - عليه السلام - لم يجعل لهم فيما كلفهم من ذلك من مهلة، ولا أمرهم بفعله في الزمن المتراخي عنه، وإنما أمرهم بفعل ذلك على الفور، وإنما كان ذلك من قبل أنه لو أخر ذلك عنهم، لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إلى فعله، والزمهم ما لا طريق لهم إلى الطاعة فيه، وهذا غير جائز عليه، لما يقتضيه ذلك من بطلان أمره وسقوط طاعته. ولهذا المعنى لم يوجد عن أحد من صحابته خلاف في شيء ما وقف عليه جماعتهم، ولا شك في شيء منه، ولا نقل عنهم كلام في شيء من ذلك، ولا زيادة على ما نبههم عليه من الحجج، بل مضوا جميعاً على ذلك، وهم متفقون: لا يختلفون في حدثهم، ولا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 في توحيد المحدث لهم، وأسمائه وصفاته، وتسليم جميع المقادير إليه، والرضى فيها بأقسامه، لما قد ثلجت به صدورهم، وتبينوا وجوه الأدلة التي نبههم - عليه السلام عليها عند دعائه لهم إليها، وعرفوا به صدقه في جميع ما أخبرهم به، وإنما تكلفوا البحث والنظر فيما كلفوه من الاجتهاد في حوادث الأحكام عند نزولها بهم وحدوثها فيهم، وردها إلى معاني الأصول التي وقفهم عليها، ونبههم بالإشارة على ما فيها، فكان منهم رحمة الله عليهم في ذلك ما نقل إلينا عنهم من طريق الاجتهاد التي اتفقوا عليها، والطرق التي اختلفوا فيها، ولم يقلد بعضهم بعضاً في جميع ما صاروا إليه من جميع ذلك، لما كلفوا من الاجتهاد وأمروا به، فأما ما دعاهم إليه عليه السلام من معرفة حدثهم والمعرفة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 بمحدثهم، ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وعدله وحكمته - فقد تبين لهم وجوه الأدلة في جميعه، حتى ثلجت صدورهم به، واستغنوا على استئناف الأدلة فيه، وبلغوا جميع ما وقفوا عليه من ذلك، واتفقوا عليه إلى من جاء بعدهم، فكان عذرهم فيما دعوا إليه من ذلك، مقطوعاً بما نبههم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الأدلة على ذلك، وما شاهدوا من آياته الدالة على صدقه، وعذر سائر من تأخر عنه مقطوع بنقلهم ذلك إليهم، ونقل أهل كل زمان حجة على من بعدهم، ومن غير أن تحتاج - أرشدكم الله - في المعرفة لسائر ما دعينا إلى اعتقاده إلى استئناف أدلة غير الأدلة التي نبه النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ودعا سائر أمته إلى تأملها، إذ كان من المستحيل أن يأتي في ذلك أحد بأهدى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 مما أتى به، أو يصل من ذلك إلى ما بعد عنهم عليه السلام. وجميع ما اتفقوا عليه من الأصول المشهورة في أهل النقل الذين عنوا بحفظ ذلك، وانقطعوا إلى الاحتياط فيه، والاجتهاد في طلب الطرق الصحية إليه: من المحدثين والفقهاء، يعلم أكابرهم أصاغرهم، ويدرسون صبيانهم في كتاتيبهم، لتقر ذلك عندهم. ، وشهرته فيهم، واستغنائهم في العلم بصحة جميع ذلك، بالأدلة التي نبههم صاحب الشريعة عليها في وقت دعوته. واعلموا - أرشدكم الله - أن ما دل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات - بعد تنبيهه لسائر المتكلفين على حدثهم ووجود المحدث لهم - قد أوجب صحة أخباره، ودل على أن ما أتى به من الكتاب والسنة من عند الله عز وجل. وإذا ثبت بالآيات صدقه، فقد علم صحة كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 عنه، وصارت أخباره عليه السلام أدلة على صحة سائر ما دعانا إليه، من الأمور الغائبة عن حواسنا، وصفات فعله، وصار خبره - عليه السلام - عن ذلك سبيلاً إلى إدراكه، وطريقاً إلى العلم بحقيقته، وكان ما يستدل به من أخباره - عليه السلام - على ذلك، أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة، ومن اتبعها من القدرية وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام، من قبل أن الأعراض لا يصح الاستدلال بها، إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها، ويدق الكلام عليها، فمنها ما يحتاج إليه في الاستدلال على وجودها، والعرفة بفساد شبه المنكرين لها، والمعرفة بمخالفتها للجواهر، في كونها لا تقوم بنفسها، ولا يجوز ذلك على شيء منها، والمعرفة بأنها لا تبقى، والمعرفة باختلاف أجناسها، وأنه لا يصح انتقالها من محالها، والمعرفة بأن ما لا ينفك منها فحكمه في الحدث حكمها، ومعرفة ما يوجب ذلك من الأدلة وما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 يفسد به شبه المخالفين في جميع ذلك، حتى يمكن الاستدلال بها على ما هي أدلة عليه عند مخالفينا، الذين يعتمدون في الاستدلال على ما ذكرناه بها، لأن العلم بذلك لا يصح عندهم إلا بعد المعرفة بسائر ما ذكرناه آنفاً. وفي كل رتبة من ما ذكرنا فوق تخالف فيها، ويطول الكلام معهم عليها، وليست يحتاج - أرشدك الله - في الاستدلال بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه من المعرفة بالأمر الغائب عن حواسنا إلى مثل ذلك، لأن آياته والأدلة على صدق محسوسة مشاهدة، قد أزعجت القلوب، وبعثت الخواطر، على النظر في صحة ما يدعوا إليه، وتأمل ما استشهد به على صدقه، والمعرفة بأن آياته من قبل الله تعالى تدرك بيسير الفكر فيها، وأنها لا يصح أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 تكون من البشر، بوضوح الطرق إلى ذلك، ولا سيما مع إزعاج الله قلوب سائر من أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم على النظر في آياته، بخرق عوائدهم له، وحلول من يعدهم به من النقم عند إعراضهم عنه ومخالفتهم له، على ما ذكرنا مما كان من ذلك موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. وإذا كان ذلك على ما وصفنا بان لكم - أرشدكم الله - أن طرق الاستدلال بإخبارهم - عليهم السلام - على سائر ما دعينا إلى معرفته وما لا يدرك بالحواس - أوضح من الاستدلال بالأعراض، إذ كان أقرب إلى البيان على حكم ما شوهد من أدلتهم المحسوسة مما اعتمدت عليه الفلاسفة، ومن اتبعهم من أهل الأهواء واغتروا بها، لبعدهم عن الشبهة، كما ذكرناه، وقرب من أخلد ممن ذكرنا إلى الاستدلال به من الشبه، وكذلك ما منع الله رسله من الاعتماد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 عليه، لغموض ذلك على كثير ممن أمروا بدعائهم، وكلفوا - عليهم السلام - إلزامهم فرضه، فأخلدنا سلفنا رحمة الله عليهم ومن اتبعهم من الخلف الصالح، بعد ما عرفوه من صدق النبي صلى الله عليه وسلم، في ما دعاهم إليه من العلم بحذفهم، ووجود المحدث لهم، بما نبههم عليه من الأدلة - إلى التمسك بالكتاب والسنة، وطلب الحق في سائر ما ادعوا إلى معرفته منهم، والعدول عن كل ما خالفها، لثبوت نبوته عليه السلام عندهم، وثقتهم بصدقه في ما أخبرهم به عن ربهم، لما وثقته الأدلة لهم فيه، وكشفته لهم العبرة، وأعرضوا عما صارت إليه الفلاسفة - ومن اتبعهم من القدرية وغيرهم من أهل البدع - من الاستدلال بذلك على ما كلفوا معرفته، لاستغنائهم بالأدلة الواضحة في ذلك عنه، وإنما صار من أثبت حدث العلم والمحدث له من الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر، لدفعهم الرسل وإنكارهم لجواز مجيئهم، وإذا كان العلم قد حصل لنا بجواز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 مجيئهم في العقول وغلط من دفع لك، وبان صدقهم بالآيات التي ظهرت عليهم - لم يسع لمن عرف من ذلك ما عرفه أن يعدل عن طريقتهم، إلى طرق من دفعهم وأحال مجيئهم، فلما كان هذا واجباً لما ذكرناه عند سلف الأمة والخلف كان اجتهاد الخلف - في طلب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، والاحتياط في عدالة الرواة لها - واجباً عندهم، ليكونوا فيما يعتقدونه من ذلك على يقين. لذلك كان أحدهم يرحل إلى البلاد البعيدة في طلب الكلمة تبلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حرصاً على معرفة الحق من وجهه، وطلباً للأدلة الصحيحة فيه، حتى تثلج صدورهم بما يعتقدونه، وتسكن نفوسهم إلى من يتدينون به، ويفارقوا بذلك من ذمه في تقليده لمن يعظمه من سادته بغير دلالة تقتضي ذلك، ولما كلفهم الله عز وجل ذلك وجعل أخبار نبيه صلى الله عليه وسلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 طريقاً إلى المعارف بما كلفهم إلى آخر الزمان - حفظ أخباره عليه السلام في سائر الأزمنة، ومنع من تطرق الشبه عليها، حتى لا يروم أحد تغيير شيء منها، أو تبديل معنى كلمة قالها، إلا كشف الله تعالى ستره، وأظهر في الأمة أمره، حتى يرد ذلك عليه العربي والعجمي، ومن قد أهل لحفظ ذلك من حملة علمه عليه السلام. والمبلغين عنه، كما حفظ كتابه، حتى لا يطيق أحد من أهل الزيغ على تحريك حرف ساكن فيه، أو تسكين حرف متحرك، إلا يبادر القراء في رد ذلك عليه، مع اختلاف لغاتهم، وتباين أوطانهم، لما أراده الله عز وجل من صحة الأداء عنه، ووقوع التبليغ لما أتى به نبينا عليه السلام إلى من يأتي في آخر الزمان، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 لانقطاع الرسل بعده، واستحالة خلوهم من حجة الله عليهم، حتى قد ظهر ذلك بينهم، وأيست من نيله خواطر المنحرفين عنه، وجعل الله ما حفظه من ذلك وجمع القلوب عليه، حجة على من تعبد بعده عليه السلام بشريعته، ودلالة لمن دعا إلى قبول ذلك ممن لم يشاهد الأخبار، وأكمل الله لجميعهم طرق الدين، وأغناهم بها عن التطلع إلى غيرها من البراهين. ودل على ذلك بقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3] . وليس يجوز أن يخبر الله عز وجل عن إكماله الدين، مع الحاجة إلى غير ما أكمل لهم به الدين، وبين النبي صلى الله عليه وسلم معنى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 ذلك في حجة الوداع، لمن كان بحضرته من الجم الغفير من أمته، عند اقتراب أجله، ومفارقته لهم صلى الله عليه وسلم بقوله: اللهم هل بلغت؟ فلو كنا نحتاج مع ما كان منه - عليه السلام - في معرفة ما دعانا إليه، إلى ما رتبه أهل البدع من طرق الاستدلال، لما كان مبلغاً، إذ كنا نحتاج إلى المعرفة بصحة ما دعانا إليه إلى علم ما لم يبينه لنا من هذه الطرق التي ذكروها، ولو كان هذا كما قالوا، لكان فيما دعانا إليه وقوله بمنزلة الملغز، ولو كان كذلك لعارضه المنافقون، وسائر المرصدين لعداوته في ذلك، ولم يمنعهم مانع، كما لم يمنعهم من تعنيته في طلب الآيات، ومجادلته في سائر الأوقات، ولكنهم لم يجدوا سبيلاً إلى الطعن، لأنه عليه السلام لم يدع شيئاً مما بهم الحاجة إليه في معرفة سائر ما دعاهم إلى اعتقاده، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 أو مثل فعله كذا، إلا وقد بينه لهم. ويزيد هذا وضوحاً قوله عليه السلام «إني قد تركتكم على مثل الواضحة: ليلها كنهارها» . وإذا كان هذا على ما وصفنا علم أنه لم يبق بعد ذلك عتب لزائغ، ولا طعن لمبتدع، إذ كان - عليه السلام - قد أقام الدين، بعد أن أرسى أوتاده، وأحكم أطنابه، ولم يدع النبي صلى الله عليه وسلم لسائر من دعاه إلى توحيد الله حاجة إلى غيره، ولا لزائغ طعناً عليه، ثم مضى - صلى الله عليه وسلم - محموداً بعد إقامة الحجة، وتبليغ الرسالة، وأداء الأمانة والنصيحة لسائر الأمة، حتى لم يحوج أحداً من أمته إلى البحث عن شيء قد أغفله هو مما ذكره لهم أو معنى أسره إلى أحد من أمته. بل قد قال - عليه والسلام - في المقام الذي لم ينكتم قوله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 فيه، لاستحالة كتمانه على من حضره، أو طي شيء منه على من شهده،: إني خلفت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي، ولعمر إن فيهما الشفاء من كل أمر مشكل، والبرء من كل داء معضل، وإن في حراستهما من الباطل - على ما تقدم ذكرنا له - آية لمن نصح نفسه، ودلالة لمن كان الحق قصده) . قال: (وفيما ذكرنا دلالة على صحة ما استندوا إلى الاستدلال به، وقوة ما عرفوا الحق منه، فإذا كان ذلك ما وصفنا فقد علمتم بهت أهل البدع لهم في نسبتهم لهم إلى التقليد، وسوء اختيارهم لهم في المفارقة لهم، والعدول عما كانوا عليه معهم، وبالله التوفيق. وإذ قد بان بما ذكرناه استقامة لطرق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 استدلالهم، وصحة معارفهم، فلنذكر الآن ما اجتمعوا عليه من الأصول. تعليق ابن تيمية قلت: الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة، ونحوها على وجود الخالق سبحانه وتعالى، فحدوث الإنسان يستدل به على المحدث، لا يحتاج أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث له، ووجوب تناهي الحوادث. والفرق بين الاستدلال بحدوثه، والاستدلال على حدوثه بين. والذي في القرآن هو الأول لا الثاني، كما قال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [الطور: 35] ، فنفس حدوث الحيوان والنبات والمعدن والمطر والسحاب ونحو ذلك معلوم بالضرورة، بل مشهود لا يحتاج إلى دليل، وإنما يعلم بالدليل ما لم يعلم بالحس وبالضرورة. والعلم بحدوث هذه المحدثات علم ضروري لبا يحتاج إلى دليل، وذلك معلوم بالحس أو بالضرورة: إما بإخبار يفيد العلم الضروري، أو غير ذلك من العلوم الضرورية. وحدوث الإنسان من المني كحدوث الثمار من الأشجار، وحدوث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 النبات من الأرض، وأمثال ذلك. ومن المعلوم بالحس أن نفس الثمرة حادثة كائنة بعد أن لم تكن، وكذلك الإنسان وغيره. كما قال تعالى: {أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا} [مريم: 67] ، {قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا} [مريم: 9] . ومعلوم أن هذه المخلوقات خلقت من غيرها كما خلق الإنسان من نطفة، والطائر من بيضة، والثمر من شجرة، والشجرة من نواة، والسنبلة من حبة. ومعلوم أن ما منه خلق هذا استحال وزال، فالحبة التي أنبتت سبع سنابل لم تبق حبة ولم يبق منها شيء، بل استحال. وقد تنازع الناس في هذا الموضع، فقال طائفة من أهل الكلام: هنا أجسام وجواهر منتقلة من حال إلى حال، كالاجتماع بعد الافتراق، والافتراق بعد الاجتماع، وأت تلك الجوهر باقية، ولكن تغيرت صفاتها وأعراضها. وأنكر هؤلاء أن تكون نفس الأعيان القائمة بنفسها انقلبت حقيقتها فاستحالت ذاتها، ولكن تغيرت صفاتها. وهذا مبني على أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة. وهؤلاء يقولون: إنما يعلم بالحس والضرورة حدوث ما يحدث من الأعراض والصفات، وأما حدوث شيء من الأجسام القائمة بأنفسها، فلا نعلمه إلا بالاستدلال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 والذي ذكر الأشعري أولاً مبني على هذا الأصل، وهو في ذلك موافق لمن قال به من المعتزلة وغيرهم، وهذا من بقايا التي بقيت عليه من أصولهم العقلية، بعد رجوعه عن مذهبهم، وبيانه لبطلان أقوالهم التي أظهروا بها خلاف أهل السنة والجماعة. وجمهور العقلاء من أصناف الناس - أهل النظر والفلسفة وغيرهم - يقولون: إن هذا باطل، وإن الأجسام يستحيل بعضها إلى بعض، كما يقول ذلك الفقهاء والأطباء وغيرهم، وكما يشهد ذلك، وإن الحادث هو نفس أعيان الحيوان والنبات لا مجرد صفاتها، وينكرون أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة. والمنكرون للجوهر المفرد أكثر طوائف الكلام كالنجارية والضرارية والهشامية والكلابية وطائفة من الكرامية، مع جمهور الفلاسفة. وقالت طائفة من الفلاسفة وغيرهم: بل الأجسام التي يستحيل بعضها إلى بعض بينها مادة: وهي هيولى مشتركة بينها، هي بعينها باقية لم تتبدل، وإنما تبدلت الصورة، وتلك الهيولى جوهر عقلي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 وجمهور العقلاء أيضاً ينكرون ذلك. وذلك أن المني إذا صار حيواناً والماء هواءً والهواء ماءً، ونحو ذلك، فالجسم الثاني له عين وصفات وليس عين الأول ولا صفاته، وإنما يشتركان في النوع. وهو: أن هذا له قدر، وهذا له قدر، وكل منهما يقبل الاتصال والانفصال، ولكن ليس عين القدر هذا هو عين قدر هذا، ولا نفس ما يقوم به الاتصال والانفصال من أحدهما هو عين الآخر الذي يقوم به الاتصال والانفصال، وأحدهما إذا قبل الاتصال والانفصال فهو اجتماعه وافتراقه، وذلك عرض له، والقابل للاجتماع - الذي هو القائم به هو هو، ولكن تفرق بعد اجتماعه كالثوب والحجر ونحوهما مما يقطع ويكسر، وهو كالشمع، التي تختلف صورها وهي هي بعينها، وكالفضة التي تختلف صورها مع بقاء عينها، فنفس العين - التي هي الجوهر والجسم - باقية، وإنما تغير شكلها وصفتها وذلك هو الصورة العرضية التي تغيرت، لم تتغير الحقيقة. ولفظ (الصورة) لفظ مشترك: يراد بالصورة الشكل والهيئة، كصورة الخاتم والشمعة، والمادة الحامية لهذه الصورة هي الجسم بعينه. ويراد بالصورة نفس الجسم المتصور، وهذا الجسم المتصور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 ليس له مادة تحمله، فإن الجسم القائم بنفسه لا يكون شائعاً في الجسم قائماً بنفسه، لكن خلق من مادة، كما خلق الإنسان من المني، وهذه المادة لا تبقى مع وجود ما خلق منها، بل تفنى وتعدم شيئاً فشيئاً. وهذا هو العدم المشهود في الأعيان، فإن الله تعالى كما ينشئ ما يخلقه شيئاً فشيئاً فينفي ما يعدمه شيئاً فشيئاً. وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع. وإذ كان كذلك فالطريقة المذكورة في القرآن هي المعلومة بالحس والضرورة، ولا يحتاج مع ذلك إلى إقامة دليل على حدوث ما يحدث من الأعيان، بل يستدل بذلك على وجود المحدث لله تعالى. وأما المعتزلة والجهمية ومن تبعهم، فطريقتهم المشهورة في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع هي الاستدلال: (بإثبات الأعراض أولاً، وإثبات حدوثها ثانياً، وبيان استحالة خلو الجواهر عنها ثالثاً، وبيان استحالة حوادث لا أول لها رابعاً) ، وقد وافقهم عليها اكثر الأشعرية وغيرهم، وهذه هي التي ذمها الأشعري، وبين أنها ليست طريقة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولا من اتبعهم، وإنما سلكها من يخالفهم من الفلاسفة وأتباعهم المبتدعة كما تقدم. وقد تقدم نقل كلامه في ذلك وهو المقصود، وكلامه يقتضي أنها محرمة في الدين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 مبتدعة، لا حاجة إليها لطول مقدماتها، وغموضها، وما فيها من النزاع. وهذا هو الذي قصدناه، وهو أنه نقل اتفاق السلف على الاستغناء عن هذه الطريقة. وأما بطلانها، فذاك مقام آخر، ليس في كلامه تعرض لذلك، ولهذا كان ما سلكه هو من جنس هذه الطريق. كلام الشهرستاني عن حدوث العالم في نهاية الإقدام قال الشهرستاني في مسألة حدوث العالم: (وللمتكلمين طريقان في المسألة: أحدهما: إثبات حدوثه. والثاني إبطال القول بالقدم. أما الأول فقد سلك عامتهم طريق الإثبات بإثبات الأعراض) - كما تقدم ذكره - قال: (وأما الثاني فقد سلك شيخنا أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه طريق الإبطال فقال: لو قدرنا قدم الجوهر لم يخل من أمور: إما أن تكون مجتمعة، أو مفترقة، أو لا مجتمعة ولا مفترقة، أو مجتمعة ومفترقة معاً، أو بعضها مجتمعاً وبعضها مفترقاً، وبالجملة ليس يخلو من اجتماع وافتراق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 وجواز طريان الاجتماع والافتراق عليها، أو تبدل بعضها ببعض، وهي بذاتها لا تجتمع ولا تفترق، لأن حكم الذات ل يتبدل، فلا بد إذاً من جامع فارق) . قال: (وقد أخذ الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني هذه الطريقة فكساها عبارة أخرى) . تعليق ابن تيمية قلت: هذه الطريقة: إنما أراد بها امتناع قدم جميع الجواهر، فهي مبنية على إثبات الجوهر الفرد، حتى يمكن أن يفرض إمكان اجتماع الجواهر وافتراقها، وإلا فإذا قيل: إن من الأجسام ما هو واحد في نفسه، أو كل جسم متشابه فهو واحد في نفسه، أو قيل: إنه مركب من المادة والصورة - لم يلزم الافتراق فيما هو واحد في نفسه، ولا يسلم المنازع إمكان افتراق كل جسم، فيمنع قوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 (لا يخلو من اجتماع وافتراق، وجواز طريان الاجتماع والافتراق) بل ويمكن مع هذا أن يقال: هي مركبة من الجواهر، ويمنع قبول كل منهما للافتراق، لكن يبنيه على أن الجواهر متماثلة، فما جاز على أحدهما جاز على الآخر. ولا ريب أن تماثل الجواهر والأجسام: إن سلمه المنازع، كان القول بحدوث الأجسام كلها ظاهراً، فإن منها ما هو حادث قطعاً، فيكون جميعها قابلاً للحدوث، وما قبل الحدوث لم يكن بنفسه موجوداً، فلا بد له من صانع، وهو الذي سماه جامعاً فارقاً. لكن هم يقولون: إن الحادث المعلوم حدوثه هو الأعراض، وحينئذ فلا يكون في الجواهر ما يعلم حدوثه إلا بالدليل، وإن أراد به امتناع قدم بعض الجواهر، فهذا لا ينازعه فيه من يقول: إن الأعيان المحدثة جواهر، وهم اكثر العقلاء، فإنه من المعلوم بالاضطرار حدوث ما يشهد حدوثه من الحيوان والنبات والمعدن، لكن من يقول بأن الأجسام مركبة من جواهر، قد يقول: إن المحدث تأليف وتركيب، وهي أعراض. وأما جمهور العقلاء فيقولون: إن المحدث المشهود جواهر قائمة بأنفسها. فالمقصود أن من قال: الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة، فهذه الحجة توجب أنه لا بد لذلك التركيب من مركب. وكلام الأشعري - الذي ذكره الشهرستاني - مبني على هذه الأصل، ومن نازع في ذلك لم يفده شيئاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 وإذا دلت هذه الحجة فإنما تدل على حدوث التركيب الذي هو عرض، لا تدل على حدوث الجواهر إلا بالطريقة الأولى، وهي إثبات حدوث التركيب، وامتناع حوادث غير متناهية. وهذه الطريقة تسلكها الكرامية ونحوهم، ممن يقول: إن الله جسم قديم أزلي، وإنه لم يزل ساكناً ثم تحرك لما خلق العالم، ويحتجون على حدوث الأجسام المخلوقة بأنها مركبة من الجواهر المفردة، فهي تقبل الاجتماع والافتراق، ولا تخلو من اجتماع وافتراق، وهي أعراض حادثة لا تخلو منها، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. وأما الرب فهو عندهم واحد لا يقبل الاجتماع والافتراق، ولكنه لم يزل ساكناً. والسكون عندهم أمر عدمي وهو عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة. وهؤلاء يقولون: إن الباري لم يزل خالياً من الحوادث حتى قامت به، بخلاف الأجسام المركبة من الجواهر المفردة، فإنها لا تخلو من الاجتماع والافتراق. بقية كلام الشهرستاني قال الشهرستاني: (وربما سلك أبو الحسن طريقاً في حدوث الإنسان بكونه من نطفة أمشاج، وتقلبه في أطوار الخلقة، وأكوار الفطرة، وليس يشك في أنه ما غير ذاته ولا بدل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 صفاته: لا الأبوان ولا الطبيعة، فتعين احتياجه إلى صانع مدبر قال: وما ثبت من الأحكام لشخص واحد، أو لجسم واحد، ثبت في الكل لاشتراك الكل في الجسمية) . تعليق ابن تيمية قلت: هذه الطريقة هي المتقدمة التي ذكرها الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر، وهي مبنية على أنه أثبت حدوث الإنسان بما فيه من اختلاف الصور والهيئات، ولهذا قال: إنه سلك طريقاً في إثبات حدوث الإنسان فجعل حدوثه هو المدلول، وجعل الدليل اختلاف الصور عليه. وقد جعل الصورة الحادثة دليلاً على حدوث المتصور، ولا بد في هذه الطريقة من بيان امتناع حوادث لا أول لها، فهذه الطريقة من جنس طريقة الأعراض، لكنها أخص دليلاً ومدلولاً، فإن الهيئات أخص، ومدلولها إنما هو حدوث ما حدثت هيئته. ودليل أولئك يعم، ولكن الأشعري عدل عن طريقة غامضة إلى طريقة واضحة، وهذه الطريقة هي التي يسميها الرازي وأمثاله: الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض القائمة بالأجسام فإنهم يقولون في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 الاستدلال على وجود الصانع ما قاله الرازي في (نهاية العقول) وغيره. كلام الرازي في الاستدلال على وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ما ذكره من ذلك في (الأربعين) . وقال في النهاية: (اعلم أن الاستدلال على ما يعلم بالضرورة إنما يكون بما يعلم بالضرورة، والمعلوم بالضرورة: الأجسام، والأعراض القائمة بها، وكل منهما إما أن يعتبر إمكانه أو حدوثه، فلا جرم كانت الأدلة الدالة على الصانع تعالى هذه المسالك الأربعة) . وذكر أن الأول هو الاستدلال بحدوث الأجسام لقيام الأعراض بها أو بعضها بها، فهذه هي الطريقة المشهورة عند الجهمية والمعتزلة، ومن اتبعهم من الأشعرية والكرامية، ومن دخل في ذلك من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 وهذه هي التي ذكر الأشعري أنها طريقة الفلاسفة، ومن اتبعهم من القدرية، وذكر أنها مبتدعة مذمومة في الدين، لم يسلكها السلف الصالح، وذكر أنها خطرة مبتدعة، وأنه لا حاجة إليها. قال الرازي: والثاني: (الاستدلال بإمكان الأجسام على وجود الصانع تعالى) . قال: (وهذه عمدة الفلاسفة) . قلت: هذه طريقة ابن سينا ومن وافقه، ليست طريقة قدماء الفلاسفة. وهي مبنية على أصلهم الفاسد في التوحيد ونفي الصفات، الذين بين الناس فساده وتناقضهم فيه، وهو طريقة التركيب الذي يقولون: إن المتصف بالصفات مركب، والمركب مفتقر إلى أجزائه، قد تكلمنا عليها في مواضع. قال الرازي: (والمسلك الثالث: الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الصانع سواء كانت الأجسام واجبة أو ممكنة، قديمة أو حادثة) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 قلت: وهذه الحجة مبنية على تماثل الأجسام، وقد بين الناس فساد هذه الحجة، وبين الرازي نفسه فسادها، بل وجمهور العقلاء على فسادها. وقد بين ذلك في موضع آخر على وجه لا يبقي في القلب شبهة. قال الرازي: (والمسلك الرابع: الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض على وجود الصانع، ولنفرض الكلام في أعراض لا يقدر عليها بشر، مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء أنساناً، فإذا كانت تلك التركيبات أعراضاً حادثة، والعبد غير قادر عليها، فلا بد من فاعل آخر، ثم من ادعى أن العلم بحاجة المحدث إلى الفاعل ضروري ادعى الضرورة ههنا، ومن بنى ذلك على الإمكان أو على القياس على حدوث الذوات، فكذلك يقول في حدوث الصفات) . قال: (والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال بحدوثها، أن الأول يقتضي ان لا يكون الفاعل جسماً. والثاني لا يقتضي ذلك) . قلت: قد ذكرنا في غير موضع أن هذا المسلك صحيح، لكن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 الرازي قصر فيه من وجهين: أحدهما: أنه لا يستدل بنفس الحدوث، بل يجعل الحدوث دليلاً على إمكان الحادث، ثم يقول: والممكن لا بد له من مرجح، وهذا الإمكان الذي يثبته هو الإمكان الذي يثبته ابن سينا، وهو الإمكان الذي يشترك فيه القديم والحادث، فجعل القديم الأزلي ممكناً يقبل الوجود والعدم، وهذا مما خالفوا فيه سلفهم وسائر العقلاء، فإنهم متفقون على أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثاً. وابن سينا وأتباعه يوافقن الناس على ذلك، لكن يتناقضون وقد بسط الكلام على ذلك في مواضع، كما تكلمنا على ذلك فيما ذكره الرازي في إثبات الصانع في أول المطالب العالية وأول الأربعين وبينا فساد ذلك، وأنه على هذا التقدير لا ينفي لهم دليل على إثبات واجب الوجود. الوجه الثاني: إنه جعل ذلك استدلالاً بحدوث الصفات والأعراض ليس بمستقيم، بل هو مبني على مسألة الجوهر الفرد. وقد ذكرنا في غير موضع أن هؤلاء بنوا مثل هذا الكلام على مسألة الجوهر الفرد، وأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، وأن الحادث إنما هو اجتماع الجواهر وافتراقها، وحركتها وسكونها، وهذه الأربعة هي الأكوان عندهم، أو حدوث غير ذلك من الأعراض، فيجعلون تبديل الأعيان وإحداثها إنما هو تبديل أعراض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 وقد قابلهم في ذلك طائفة من المتفلسفة، كابن سينا وأمثاله، فجعلوا الصور كلها جواهر، كما جعل أولئك الصور كلها أعراضاً. وذلك أن هؤلاء المتفلسفة نظروا في المصنوعات: كالخاتم، والدرهم، والسيف، والسرير، والبيت، والثور، ونحو ذلك مما يؤلفه الآدميون ويصورونه، فوجدوها مركبة من مادة كالفضة، ويسمونها أيضاً الهيولى، والهيولى في لغتهم معناه المحل، وتصرفهم فيه بحسب عرفهم الخاص، كتصرف متكلمي العرب في اللغة المعربة، فهذه المصنوعات مركبة من مادة هي المحل، ومن صورة وهي الشكل الخاص، وهذا نظر صحيح. ثم زعموا أن صور الحيوان والنبات والمعدن لها مادة هي هيولاها كذلك، وأن النار والهواء والتراب لها أيضاً مادة هي هيولاها. ومنهم من قال: جميع الأجسام لها مادة مشتركة هي هيولاها، وجعلوا الهيولى ثلاث مراتب. صناعية وطباعية وكلية، وتنازعوا: هل تنفرد المادة الكلية عن الصور، فتكون الهيولى مجردة عن الصور؟ على قولين: وإثبات هذه المادة المجردة يذكر عن شيعة أفلاطون، وإنكار ذلك قول أصحاب أرسطو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 والتحقيق أن الصور الصناعية إنما هي أعراض وصفات قائمة بالأجسام، كالفضة والحديد والخشب والغزل واللبن ونحو ذلك، وأما الحيوان والنبات والمعدن فهي جواهر استحالت عن جواهر أخرى، وإثبات مادة مشتركة بينها باقية مع اختلاف الصور عليها قول باطل، كما أن إثبات أولئك للجوهر الفرد قول باطل. والذين قالوا: إن بدن الإنسان وأمثاله من المحدثات إنما حدثت أعراضه لم تحدث عين قائمة - أخطأوا، والذين قالوا: إن جميع الصور جواهر أخطأوا، بل الصورة قد تكون عرضاً كالشكل، والصور الصناعية من هذا الباب. وقد يعبر بالصورة عن نفس الشيء المصور كالإنسان، فالصورة هنا جوهر قائم بنفسه، ليس قائماً بجوهر آخر. والقرآن العزيز ذكر خلق الله تعالى لما خلقه من الجواهر التي هي أعيان قائمة بأنفسها، مع ما نشهده من إحداث الصفات والأعراض أيضاً، والاستدلال بذلك على الخالق سبحانه، وجعل ذلك من آياته هو مما بينه القرآن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 ولكن هؤلاء لم يسلكوا طريقة القرآن من وجهين: أحدهما: أنهم جعلوا الحوادث إنما هي أعراض لا أعيان، كما جعله الرازي وغيره. لكن الرازي وغيره مع ذلك استدلوا بذلك على إثبات الصانع، فكان دليلاً صحيحاً في نفسه، وإن كان فيه تقصير من ذلك الوجه، ومن حيث رد ذلك إلى طريقة الإمكان. الثاني: ما ذكره الأشعري، حيث أنه استدل بذلك على حدوث محل هذه الصفات والأعراض، بناء على أن الحادث صورة هي عرض ولها محل، فتكون الأجسام التي هي محل هذه الأعراض حادثة، وهذا لا يتم إلا ببيان امتناع حوادث لا أول لها، ثم إذا أراد أن يستدل بذلك على حدوث سائر الأجسام احتاج أن يبنيه على تماثل الأجسام. وهذه ثلاث مقدمات ينازعهم فيها أكثر العقلاء، بل يبينون فسادها بصريح المعقول، فهي من جنس طريقة المعتزلة. لكن مقصود الأشعري أن هذه الطريقة تغني الناس عن تلك الطريقة الطويلة، الكثيرة المقدمات، الغامضة التي يقع فيه نزاع، فإذا كانت الطريقتان مشتركتان في البناء على امتناع حوادث لا أول لها، وهذه الطريقة لا تحتاج إلى ما تحتاج إليه تلك، فكانت هذه أقرب وأيسر، فبحث الأشعري مع المعتزلة في هذه الطريقة، من جنس بحوثه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 معهم في غير ذلك من أصولهم، فإنه يبين تناقضهم، ويلزمهم فيما نفوه نظير ما يلزمونه لأهل الإثبات فيما أثبتوه فيستفاد من مناظرته لهم معرفة فساد كثير من أصولهم، ولكن سلم لهم أصولاً وافقهم عليها، مثل تسليمه لهم صحة طريق الأعراض مع طولها،، ومثل إثباته للصانع بهذه الطريق التي هي من جنسها، وبنى ذلك على إثبات الجوهر الفرد، فلزم من تسليمه ذلك لهم لوازم أراد أن يجمع بينها وبين ما أثبته من الرؤية، وإثبات الكلام والصفات والعلو لله تعالى، فقال جمهور طوائف العقلاء من أهل السنة والحديث وغيرهم، ومن المعتزلة والفلاسفة وغيرهم: أن هذا مناقضة مخالفة لصريح المعقول. ولهذا قال من قال: بقيت عليه بقية من الاعتزال، وقالوا: إنه وافقهم على بعض أصولهم التي بنوا عليها قولهم كهذا الأصل. كلام أبي نصر السجزي في الإبانة وهذا ما ذكره أبو نصر السجزي في الإبانة قال: حكى محمد بن عبد الله المغربي المالكي، وكان فقيهاً صالحاً، عن الشيخ أبي سعيد البرقي وهو من شيوخ فقهاء المالكيين ببرقة، عن أستاذ خلف المعلم، كان من فقهاء المالكيين، قال: أقام الأشعري أربعين سنة على الاعتزال، ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول) . قال أبو نصر: (وهذا كلام خبير بمذهب الأشعري وغوره) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 تعليق ابن تيمية قلت: ليس مراده بالأصول ما أظهروه من مخالفة السنة، فإن الأشعري مخالف لهم فيما أظهروه من مخالفة السنة، كمسألة الرؤية والقرآن والصفات. ولكن أصولهم الكلامية العقلية التي بنوا عليها الفروع المخالفة للسنة، مثل هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث العالم وإثبات الصانع، فإن هذا أصل أصولهم، كما قد بينا كلام أبي الحسين البصيري وغيره في ذلك، وأن الأصل الذي بنت عليه المعتزلة كلامهم في أصول الدين، هو هذا الأصل الذي ذكره الأشعري، لكنه مخالف لهم في كثير من لوازم ذلك وفروعه، وجاء كثير من أتباع المتأخرين، كأتباع صاحب الإرشاد فأعطوا الأصول - التي سلمها للمعتزلة - حقها من اللوازم، فوافقوا المعتزلة على موجبها، وخالفوا شيخهم أبا الحسن وأئمة أصحابه، فنفوا الصفات الخبرية، ونفوا العلو، وفسروا الرؤية بمزيد علم لا ينازعهم فيه المعتزلة، وقالوا: ليس بيننا وبين المعتزلة خلاف في المعنى، وإنما خلافهم مع المجسمة، وكذلك قالوا في القرآن: إن القرآن، الذي قالت به المعتزلة: إنه مخلوق، نحن نوافقهم على خلقه، ولكن ندعي ثبوت معنى آخر وأنه واحد قديم. والمعتزلة تنكر تصور هذا بالكلية، وصارت المعتزلة والفلاسفة - مع جمهور العقلاء، يشنعون عليهم بمخالفتهم لصريح العقل، ومكابرتهم للضروريات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 وسبب ذلك تسليمهم لهم صحة تلك الأقوال، التي ذكر الأشعري أنها مبتدعة في الإسلام، مع أنه يمكن بيان أن قول الأشعري وأصحابه أقرب إلى صحيح المعقول، من قول المعتزلة، كما يمكن أن يبين أن قول المعتزلة أقرب إلى صريح المعقول من قول الفلاسفة، لكن هذا يفيد أن هذا القول أقرب إلى المعقول وإلى الحق، لا يفيد أنه هو الحق في نفس الأمر، فهذا ينتفع به من ناظر الطاعن على الأشعرية من المعتزلة، والطاعن على المعتزلة من الفلاسفة، فتبين له أن قول هؤلاء خير من قول أصحابك، فإنه كما إن كل من كان أقرب إلى السنة فقوله أقرب إلى الأدلة الشرعية، فكذلك قوله أقرب إلى الأدلة العقلية. ولا ريب أن هذا مما ينبغي سلوكه، فكل قول - أو قائل - كان إلى الحق أقرب، فإنه يبين رجحانه على ما كان عن الحق أبعد، ألا ترى أن الله تعالى لما نصر الروم على الفرس وكان هؤلاء أهل الكتاب، وهؤلاء أهل أوثان، فرح المؤمنون بنصر الله لمن كان إلى الحق أقرب، على من كان عنه أبعد، وأيضاً فيمكن القريب إلى الحق أن ينازع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 البعيد عنه في الأصل الذي احتج به عليه البعيد، وأن يوافق القريب إلى الحق للسلف الأول الذين كانوا على الحق مطلقاً. مثال ذلك: أن متأخري الأشعرية إذا ناظروا المعتزلة في مسألة الرؤية، وقالت لهم المعتزلة: رؤية مرئي لا يواجه ولا يقابل مخالف لصريح العقل، أمكن الأشعرية - ومن وافقهم على نفي المقابلة والمواجهة، كطائفة من أصحاب أحمد وغير هم من أصحاب الأئمة الأربعة أن يقولوا لهم - الرؤية ثابتة بالسنة المستفيضة، بل المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبإجماع السلف من أهل العصر الأول، ويمكن تقريرها أيضاً بالعقل، كما بيناه في غير هذا الموضع. فلا يخلو من ذلك: إما أن يمكن الرؤية بدون المواجهة والمقابلة، وإما أن لا يمكن، فإن أمكن ذلك انقطعت المعتزلة، وإن لم يمكن كانوا بين أمرين: إما موافقة المعتزلة على نفي المقابلة لانتفاء المباينة والعلو، وإما موافقة أهل الحديث على المباينة والعلو، المتضمن معنى المقابلة والمواجهة. وهذا أولى بأتباع الأشعري، لأنه قول أئمة مذهبهم كابن كلاب وغيره، بل وقول الأشعري أيضاً وغيره من قدماء الأصحاب. فإن قال له المعتزلي: إذا قلت ذلك لزمك أن يكون متحيزاً، وأنت قد وافقتني على بطلان ذلك - أمكن الأشعري أن يقول له: إما أن يكون علوه على العرش ومباينته للخلق مع نفي التحيز ممكنا، وإما أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 لا يكون. فإن كان مكناً انقطع المعتزلي، وإن لم يكن ممكناً قال له: أنا وافقتك على نفي التحيز، لاعتقادي صحة الدليل الدال على أن كل متحيز هو محدث، لما اتفقنا عليه من التحيز لا بد أن يكون مركباً من الجواهر المنفردة، فيصح عليه الاجتماع والافتراق، ويصح عليه الحركة والسكون، وكل ما قبل ذلك لم يخل من الحوادث، والحوادث يجب أن تكون متناهية لها انتهاء، وما كان مستلزماً لما له انتهاء كان له ابتداء، فإذا كان المتحيز لا ينفك عما له ابتداء، كان له ابتداء لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع. فيقول الأشعري: هذا الدليل إن كان صحيحاً، ودليل الرؤية والعلو والمباينة أيضاً صحيح، أمكن أن أقول بموجب ذلك، وأثبت العلو والرؤية والمباينة بدون التحيز، وإن قدر أنه لا يمكن الجمع بين هذين، فموافقتي للسلف والأئمة في إثبات الرؤية والعلو والمباينة، مع موافقتي للكتاب والسنة، أولى من موافقتك على هذه المقدمة، وهي امتناع وجود ما لا يتناهى، فإن هذه المقدمة لكل طائفة فيها قولان، فللفلاسفة فيها قولان، وللمعتزلة فيها قولان، وللأشعرية فيها قولان، ولأهل السنة والحديث والفقه فيها قولان. وأكثر العقلاء على جواز وجود ما لا يتناهى في الجملة، ولكن منهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 من يجوز ذلك في الماضي كما يجوزه في المستقبل ومنهم من يجوزه في المستقبل دون الماضي. والأدلة الدالة على امتناع ذلك قد عرف ضعفها. ويقول له: وقد علمت بالاضطرار أن تصديق السلف للرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مبنياً عليها، فلا يكون العلم بصدق الرسول موقوفاً عليها، ولا علمي أيضاً بصدق الرسول موقوفاً عليها، ولا معرفتي للصانع تعالى موقوفة عليها. وليست هذه الطرق وأمثالها هي الطرق العقلية التي دل القرآن عليها وأرشد عليها فإن تلك الطرق صحيحة عقلية، لا يمكن عاقلاً أن ينازع فيها، فإن حدوث المحدثات مشهود معلوم الحس، وافتقار المحدث إلى محدث معلوم بضرورة العقل، بل العقل الصريح يعلم العقل افتقار كل ما يعلم حدوثه إلى محدث، كما يعلم افتقار جنس المحدثات إلى محدث، فتعلم الأعيان الجزئية الموجودة في الخارج، كما تعلم القضية الكلية الشاملة لها، إلى سائر نافي هذا الباب من الآيات الدالة على معرفة الصانع سبحانه، كما قد بسط في موضعه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 وإذا كان كذلك تبين أن العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ليس موقوفا على شيء من المقدمات المناقضة لإثبات الصفات الخبرية والرؤية والعلو على العرش ونحو ذلك مما دل عليه السمع، وهو المطلوب. فصل ومما يوضح ذلك أن هذه الطرق المبتدعة في الإسلام في إثبات الصانع، التي أحدثها المعتزلة والجهمية، وتبعهم عليها من وافقهم من الأشعرية، وغيرهم من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، قد طعن فيها جمهور العقلاء، فكما طعن فيها السلف والأئمة وأتباعهم، وذموا أهل الكلام بها، كذلك طعن في حذاق الفلاسفة وبينوا أن الطرق التي دل عليها القرآن العزيز أصح منها، وإن كان أولئك المعتزلة والأشعرية أقرب إلى الإسلام من هؤلاء الفلاسفة من وجه آخر. كلام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن ذم الأئمة لأهل الكلام فأما ذم السلف والأئمة لهذا الكلام فمشهور كثير. وقد قال أبو القاسم بن عساكر في كتابه المعروف بـ تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الأشعري: فإن قيل: (غاية ما تمدحون به أبا الحسن أن تثبتوا أنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 متكلم، وتدلونا على أنه بالمعرفة برسوم الجدل متوسم، ولا فخر في ذلك عند العلماء من ذوي التسنن والاتباع، لأنهم يرون أن من تشاغل بذلك من أهل الابتداع، فقد حفظ عن غير واحد من علماء الإسلام عيب المتكلمين، وذم أهل الكلام، ولو لم يذمهم غير الشافعي لكفى، فإنه قد بالغ في ذمهم وأوضح حالهم وشفى، وأنتم تنتسبون إلى مذاهبه، فهلا اقتديتم في ذلك به) . ثم روى ابن عساكر بإسناده عن الفريابي، حدثني بشر ابن الوليد سمعت أبا يوسف يقول: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب غريب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس. قال البيهقي، وروي هذا أيضا عن مالك بن أنس، وقال: قال البيهقي: وإنما يريد - والله أعلم - بالكلام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 كلام أهل البدع، فإن في عصرهما إنما كان يعرف بالكلام أهل البدع، فأما أهل السنة فقلما كانوا يخوضون في الكلام حتى اضطروا إليه بعد) . قال ابن عساكر: (وأما قول الشافعي: فأخبرنا فلان - وذكر من كتاب مناقب الشافعي لـ عبد الرحمن بن أبي حاتم: ثنا يونس بن عبد الأعلى، سمعت الشافعي يقول: لأن يبتلي المرء بكل ما نهى الله عنه - سوى الشرك - خير له من الكلام، ولقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت أن مسلما يقول ذلك. قال ابن أبي حاتم ثنا أحمد بن أصرم المزني قال: قال أبو ثور: سمعت الشافعي يقول: ما تردى أحد بالكلام فأفلح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 وقال ابن أبي حاتم: ثنا الربيع، قال رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة وقوم في المجلس يتكلمون بشيء من الكلام. فصاح فقال: إما أن تجاورونا بخير، وإما أن تقوموا عنا) . وروي أيضا (عن ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: لو علم الناس ما في الكلام في الأهواء لفروا منه كما يفر من الأسد) . قال ابن عساكر: (فإنما عنى الشافعي الكلام البدعي المخالف عند اعتباره للدليل الشرعي) . قال: (وقد بين زكريا بن يحيى الساجي في روايته هذه الحكاية عن الربيع أنه أراد بالنهي عن الكلام قوما تكلموا في القدر، ولذلك حكم بالتبديع، ويدل عليه ما أخبرنا فلان) . وروى بإسناده (عن محمد بن إسحاق بن خزيمة: سمعت يونس بن عبد الأعلى: يقول: جئت الشافعي بعد ما كلم حفصا الفرد، فقال: غبت عنا يا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 أبا موسى، لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء والله ما توهمته قط، ولأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله، خير له من أن يبتلى بالكلام) . قال: (فالشافعي إنما عنى بمقالته كلام حفص القدري وأمثاله) . تعليق ابن تيمية قلت: حفص الفرد لم يكن من القدرية، وإنما كان على مذهب ضرار بن عمرو الكوفي، وهو من المثبتين للقدر، لكنه من نفاة الصفات، وكان أقرب إلى الإثبات من المعتزلة والجهمية. كلام الأشعري في المقالات عن الضرارية وقد ذكر الأشعري في (المقالات) فقال: (ذكر الضرارية - أصحاب ضرار بن عمرو -: والذي فارق ضرار بن عمرو به المعتزلة قوله: إن أعمال العباد مخلوقة، وإن فعلا واحدا لفاعلين، أحدهما خلقه، وهو الله، والآخر اكتسبه، وهو العبد، وإن الله فاعل لأفعال العباد في الحقيقة، وهم فاعلون لها في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 الحقيقة. وكان يزعم أن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل، وأنها بعض المستطيع، وأن الإنسان أعراض مجتمعة، وكذلك الجسم أعراض مجتمعة .... وأن الأعراض قد يجوز أن تنقلب أجساما ... وكان يزعم أن كل ما تولد عن فعله، كالألم الحادث عن الضربة، وذهاب الحجر الحادث عن الدفعة، فعل لله - سبحانه - وللإنسان. وكان يزعم أن معنى أن الله عالم قادر: أنه ليس بجاهل ولا عاجز، وكذلك كان يقول في سائر صفات الباري لنفسه) . وقال: (وكان يزعم أن الله يخلق حاسة سادسة يوم القيامة للمؤمنين، يرون بها ماهيته - أي ماهو -) . قال: (وقد تابع على ذلك حفص الفرد وغيره) . فهذا الذي ذكره الأشعري من قول ضرار وحفص الفرد في القدر هو مخالف لقول المعتزلة، بل هو من أعدل الأقوال وأشبهها. وقوله إلى قول الأشعري وأصحابه في القدر والرؤية أقرب من قوله إلى قول المعتزلة، بل هو في القدر أقرب إلى قول أهل الحديث والفقهاء وسائر أهل السنة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 وأعدل من قول الأشعري، حيث جعل العبد فاعلا حقيقة، وأثبت استطاعتين، ونحو ذلك مما أثبته أئمة الفقهاء وأهل الحديث، كما هو مذكور في موضعه. عود لكلام ابن عساكر وتعليق ابن تيمية عليه قال ابن عساكر: (فأما الموافق للكتاب والسنة، الموضح لحقائق الأصول عند الفتنة فهو محمود عند العلماء) . وروي عن ابن خزيمة: (سمعت الربيع يقول: لم كلم الشافعي حفصاً الفرد، فقال حفص: القرآن مخلوق، قال له الشافعي: كفرت بالله العظيم) . وعن الربيع: (قال: حضرت الشافعي - أو حدثني أبو شعيب - ألا أني أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص الفرد، وكان الشافعي يسميه المنفرد، فسأل حفص عبد الله بن عبد الحكم، فقال: ما تقول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 في القرآن؟ فأبى أن يجيبه، فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه، فكلاهما أشار إلى الشافعي، فسأل الشافعي واحتج عليه، فطالت فيه المناظرة، فقال الشافعي بالحجة عليه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وكفر حفصاً الفرد. قال الربيع: فلقيت حفصاً في المسجد بعد، فقال: أراد الشافعي قتلى) . وروي عن الشافعي: (قال: ماناظرت أحداً أحببت أن يخطىء إلا صاحب بدعة، فإني أحب أن ينكشف أمره للناس) . (قال البيهقي إنما أراد الشافعي بهذا الكلام حفصاً الفرد وأمثاله من أهل البدع، وهكذا مراده بكل ما حكي عنه من ذم الكلام وذم أهله، غير أن بعض الرواة أطلقه، وبعضهم قيده) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 (وروى البيهقي عن أبي الوليد بن الجارود قال: دخل حفص الفرد على الشافعي، فقال لنا: لأن يلقى الله العبد بذنوب مثل جبال تهامة، خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل وأصحابه، وكان يقول بخلق القرآن) . قلت: حفص الفرد كما هو معروف عند أهل العلم بمقالات الناس بإثبات القدر، فهو من نفاة الصفات القائلين بأن الله تعالى لا تقوم به صفة ولا كلام ولا فعل. وأصل حجتهم في ذلك هو دليل الأعراض المتقدم، فإن القرآن كلام، والكلام عندهم كسائر الصفات والأفعال، لا يقوم إلا بجسم، والجسم محدث، فكان إنكار الشافعي عليه لأجل الكلام الذي دعاهم إلى هذا، لم تكن مناظرته له في القدر، ومن ظن أن الشافعي ناظره في القدر فقد أخطأ خطأ بينا، فإن الناس كلهم إنما نقلوا مناظرته له في القرآن: هل هو مخلوق أم لا؟. وأهل المقالات متفقون على أن حفصاً لم يكن من نفاة القدر بل من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 مثبته. وقد ظن البيهقي وغيره أنه إنما ذم مذهب القدرية فقال: (وإنما ذم الشافعي مذهب القدرية ألا تراه قال: بشيء من هذه الأهواء، واستحب ترك الجدال فيه وكأنه سمع ما رويناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم» - الحديث، أو غير ذلك من الأخبار الواردة في معناه، وعلى مثل ذلك جرى أئمتنا في قديم الدهر عند الاستغناء عن الكلام فيه، فإذا احتاجوا إليه أجابوا بما في كتاب الله، ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدلالة على إثبات القدر لله تعالى، وأنه لا يجري في ملكوت السماوات والأرض شيء إلا بحكم الله وبقدرته وإرادته، وكذلك في سائر مسائل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 الكلام اكتفوا بما فيها من الدلالة على صحة قولهم، حتى حدثت طائفة سموا ما في كتاب الله من الحجة عليهم متشابهاً، وقالوا: نترك القول بالأخبار أصلاً، وزعموا أن الأخبار التي حملت عليهم لا تصح في عقولهم، فقال جماعة من أئمتنا بهذا العلم، وبينوا لمن وفق للصواب ورزق الفهم أن جميع ما ورد في تلك الأخبار صحيح في المعقول، وما ادعوه في الكتاب من التشابه باطل في المعقول، وحين أظهروا بدعهم وذكروا ما اغتر به أهل الضعف من شبههم. أجابوهم فكشفوا عنها بما هو حجة عندهم، كما فعل الشافعي فيما حكينا عنه، لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما في ترك أنكار المنكر والسكوت عنه من الفساد والتعدي وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء، فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة، وكانوا لا يتسمون بتسميتهم) . قال: (وإنما يعني - والله أعلم - بقوله: من ارتدى بالكلام لم يفلح، كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة، وجعلوا معولهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 عقولهم، وأخذوا في تسوية الكتاب عليها، وحين حملت عليهم السنة بزيادة بيان لنقض أقاويلهم اتهموا رواتها وأعرضوا عنها) . قال: (فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة، وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل إبطالاً لمذهب من زعم أنه غير مستقيم في العقل) . إلى أن قال البيهقي: (وفي كل هذا دلالة أن الكلام المذموم إنما هو كلام أهل البدع الذي يخالف الكتاب والسنة، فأما الكلام الذي يوافق الكتاب والسنة، ويبين بالعقل والعبرة، فإنه محمود مرغوب فيه عند الحاجة، تكلم فيه الشافعي وغيره من أئمتنا رضي الله عنهم) . قال: (وكان عبد الله بن يزيد بن هرمز شيخ مالك بن أنس استاذ الشافعي بصيرا بالكلام والرد على أهل الأهواء) . وروي من تاريخ يعقوب بن سفيان، عن ابن وهب: (قال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 قال مالك: كان ابن هرمز رجلا كنت أحب أن أقتدي به، وكان قليل الكلام قليل الفتيا، شديد التحفظ وكان كثيرا ما يفتي الرجل ثم يبعث في إثره فيرده إليه يغير ما أفتاه قال: وكان بصيرا بالكلام، وكان يرد على أهل الأهواء، وكان من علم الناس بما اختلفت فيه الناس من هذه الأهواء. وروى ابن عساكر من طريق البيهقي عن الحاكم: سمعت أبا بكر بن عبد الله يوسف الحفيد ـ من أصل كتابه ـ سمعت الحسين بن الفضيل البجلي يقول: دخلت على زهير بن حرب بعد ما قدم من عند المأمون وقد امتحنه، فأجاب إلى ما سأله، وكان أول ما قال لي علي تكتب عن المرتدين؟ فقلت: معاذ الله، ما أنت بمرتد. وقد قال الله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} ، فوضع الله عن المكره ما يسمعه في القرآن، ثم سألته عن أشياء يطول ذكرها، فقال: أشدها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 علينا: أن قال لنا: ما تقولون في عيسى صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: من عيسى يا أمير المؤمنين؟ قال: عيسى بن مريم. قلنا: رسول الله، قال: وكلمته؟ قلنا: نعم. قال: فما تقولون فيمن قال: ليس عيسى كلمة الله؟ قلنا: كافر يا أمير المؤمنين. قال: فقال لنا: أليس عيسى كلمة الله؟ قلنا: بلى. قال: أفمخلوق أم غير مخلوق؟ قلنا: مخلوق. قال فمن زعم أنه غير مخلوق؟ قلنا: كافر يا أمير المؤمنين. قال: فما تقولون في القرآن؟ قلنا: كلام الله عز وجل. قال: مخلوق أو غير مخلوق؟ قلنا: غير مخلوق. قال: فمن زعم أنه مخلوق؟ قلنا: كافر. قال فمن زعم؟ أن عيسى غير مخلوق. وهو كلمة الله؟ قلنا: كافر قال: يا سبحان الله: عيسى كلمة الله، ومن نفى الخلق عنه كافر‍‍‍‍‍! والقرآن كلمة الله، ومن يثبت الخلق عليه كافر‍! قال الحسين: فأعلمته ما يجب من القول، وقلت له: قد كان المكي يختلف إليكم ويقول لكم: إني أعلم من هذا الباب مالا تعلمون. فتعلموا ذلك مني، فتحملكم الرياسة على ترك ذلك. ويقول لكم: يكون لكم ما تعلمتموه مني عدة تعتدونها لأعدائكم، فإن هجموا لم تحتاجوا إلى طلب العدة، وإن لم يحضركم الأعداء لم يضركم الإعداد للعدة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 فتأبون ذلك. والحجة في هذا الباب كيت وكيت. فقال: والله وددت أني كنت أعلم هذا كما تعلمه يوم دخلت على المأمون، وأن ثلث روايتي ساقطة عني. ثم نظر إلى يحيى بن معين وهو معه، فقال له: وأنا أقول كما تقول. فقال لي زهير: فعلم ابني فإنه حدث. فخلوت به في المسجد فعلمته ذلك، ثم انصرفت. قال الحاكم: الحسين بن الفضل البجلي، صاحب عبد العزيز المكي المقدم في معرفة الكلام. هـ) . قلت: هذه الحكاية وقع فيها تغيير، أن كان أصلها صحيحاً، فإن زهير بن حرب ويحيى بن معين ونحوهما، ممن امتحن في زمن المحنة، لم يجتمعوا بالمأمون، ولا ناظرهم، بل ذهب إلى الثغر بطرسوس، وكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن أبراهيم ين مصعب أن يمتحن الناس، فامتنعوا من الإجابة، فكتب إليه كتاباً ثانياً يغلظ فيه، ويأمر بقتل القاضيين: بشر بن الوليد، وعبد الرحمن بن إسحاق إن لم يجيبا، ويأمر بتقييد من لم يجب من العلماء، فامتنع من الإجابة سبعة، منهم: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 زهير بن حرب، وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح لم يجيبا، فحملا إليه مقيدين، فمات محمد بن نوح في الطريق، ومات المأمون قبل وصول أحمد بن حنبل إليه. وهذا كله معلوم عن أهل العلم بذلك، لم يختلفوا في ذلك، فإن كانت قد جرت مناظرة مع زهير بن حرب، فلعل ذلك كان من غير المأمون، ولعل ذلك كان بين يدي نائبه إسحاق بن إبراهيم، فإنه هو الذي باشرهم بالمحنة، وإنما الذي ناظر الجهمية في المحنة هو أحمد بن حنبل، وكان ذلك في خلافة المعتصم، بعد أن بقي في الحبس أكثر من سنتين، وجمعوا له أهل الكلام من البصرة وغيرها: من الجهمية والمعتزلة والنجارية: مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث، صاحب حسين النجار، وناظرهم ثلاثة أيام، وقطعهم في تلك المناظرات، كما قد شرحنا تلك المناظرات في غير هذا الموضع. وهذه الحجة التي ذكرت في حكاية زهير بن حرب، ذكرها الإمام أحمد وتكلم عليها في كتبه فيما الرد على الجهمية، وهو في الحبس، قبل اجتماعه بهم للمناظرة فكان الجواب عن هذه مما هو بعد عند الأئمة، كـ أحمد بن حنبل وأمثاله. كلام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية عن القرآن قال أحمد فيما كتبه: (ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر، فقال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 أنا أجد آية في كتاب الله تدل على القرآن أنه مخلوق. فقلنا: أي آية؟ قال: قول الله عز وجل: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم} ، وعيسى مخلوق. فقلنا: إن الله منعك الفهم في القرآن: إن عيسى تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن، لأنه يسمى مولوداً رضيعاً وطفلاً وغلاماً، يأكل ويشرب، وهو مخاطب بالأمر والنهي، يجري عليه الوعد والوعيد، ثم هو من ذرية نوح، ومن ذرية إبراهيم، فلا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى، فهل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى؟ ولكن المعنى من قول الله جل ثناؤه: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 ألقاها إلى مريم} فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له (كن) فكان عيسى صلى الله عليه وسلم بكن، فعيسى ليس هو الكن، ولكن بالكن كان، فالكن من الله قول، وليس الكن مخلوقا. وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله وكلمته. إلا أن كلمته مخلوقة، وقالت النصارى: عيسى روح الله من ذات الله، وكلمة الله من ذات الله، كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب، قلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة، وأما قول الله تعالى: {روح منه} ، يقول: من أمره كان الروح فيه، كقوله: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} ، يقول: من أمره، وتفسيره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 روح الله إنما معناها أنها روح يملكها الله خلقها الله، كما يقال: عبد الله، وسماء الله، وأرض الله) . فبين الإمام أحمد أن الجهمية المعطلة، والنصارى الحلولية، ضلوا في هذا الموضع، فإن الجهمية النفاة يشبهون الخالق تعالى بالمخلوق في صفات النقص، كما ذكر الله تعالى عن اليهود أنهم وصفوه بالنقائص، وكذلك الجهمية النفاة إذا قالوا: هو في نفسه لا يتكلم ولا يحب، ونحو ذلك من نفيهم. والحلولية يشبهون المخلوق بالخالق، فيصفونه لصفات الكمال التي لا تصلح إلا لله، كما فعلت النصارى في المسيح. ومن جمع بين النفي والحلول، كحلولية الجهمية: مثل صاحب الفصوص وغيره، قالوا: (ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص والذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق فهي كلها صفات له. كما أن صفات المخلوق حق الله) . فهم يصفون المخلوق بكل ما يوصف به الخالق، ويصفون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 الخالق بكل ما يوصف به المخلوق، فإن الوحدة والاتحاد والحلول العام يقتضي ذلك. ولفظ (الكلام) مثل لفظ: الرحمة، والأمر، والقدرة، ونحو ذلك من ألفاظ الصفات التي يسمونها في اصطلاح النحاة مصادر، ومن لغة العرب أن لفظ المصدر يعبر به عن المفعول كثيراً، كما يقولون: درهم ضرب الأمير. ومنه قوله تعالى: {هذا خلق الله} : أي مخلوقه؟. فالأمر يراد به نفس مسمى المصدر، كقوله: {أفعصيت أمري} ، {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} ، {ذلك أمر الله أنزله إليكم} . ويراد به المأمور به، كقوله تعالى: {وكان أمر الله قدرا مقدورا} ، {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} ، فالأول هو كلام الله وصفاته، والثاني مفعول ذلك وموجبه ومقتضاه. وكذلك لفظ (الرحمة) يراد بها صفة الله التي يدل عليها اسمه: الرحمن، الرحيم، كقوله تعالى: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما} ، ويراد بها ما يرحم به عباده من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 المخلوقات، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة» . وقوله «عن الله تعالى: يقول للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، ويقول للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي» . وكذلك الكلام يراد به الكلام الذي هو الصفة، كقوله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} ، وقوله: {يريدون أن يبدلوا كلام الله} . ويراد به ما فعل بالكلمة، كالمسيح الذي قال له (كن) فكان، فخلقه من غير أب على غير الوجه المعتاد المعروف في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 الآدميين، فصار مخلوقا بمجرد الكلمة دون جمهور الآدميين، كما خلق آدم وحواء أيضاً على غير الوجه المعتاد، فصار عيسى عليه السلام مخلوقا بمجرد الكلمة دون سائر الآدميين. وفي هذا الباب، باب المضافات إلى الله تعالى، ضلت طائفتان: طائفة جعلت جميع المضافات إلى الله إضافة خلق وملك، كإضافة البيت والناقة إليه، وهذا قول نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، حتى ابن عقيل وابن الجوزي وأمثالهما، إذا مالوا إلى قول المعتزلة سلكوا هذا المسلك، وقالوا: هذه آيات الإضافات لا آيات الصفات، كما ذكر ذلك ابن عقيل في كتابه المسمى بـ نفي التشبيه وإثبات التنزيه، وذكره أبو الفرج بن الجوزي في منهاج الوصول وغيره، وهذا قول ابن حزم وأمثاله ممن وافقوا الجهمية على نفي الصفات وإن كانوا منتسبين إلى الحديث والسنة. وطائفة بإزاء هؤلاء يجعلون جميع المضافات إليه إضافة صفة، ويقولون بقدم الروح، فمنهم من يقول بقدم روح العبد، لقوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 {ونفخت فيه من روحي} ، وهم من جنس النصارى الذين يقولون بأن روح عيسى من ذات الله تعالى. ومن هؤلاء من ينتسب إلى أهل السنة والحديث، إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة، كطائفة من أهل طبرستان وجيلان، وأتباع الشيخ عدي وغيره. وطائفة ثالثة تقف في روح العبد: هل هي مخلوقة أم لا؟ وهم منتسبون إلى السنة والحديث من أصحاب أحمد وغيرهم، والنزاع بين متأخري أصحاب أحمد وغيرهم وهو في المضافات الخبرية، كالوجه واليد والروح. وأما المعتزلة فيطردون ذلك في الكلام وغيره. وقد بين أحمد الرد على الطائفتين الأوليين، وهؤلاء الطائفتان أيضاً يضلون في المضاف بمن، فإن المجرور بالإضافة حكمه حكم المضاف، كقوله تعالى: {ولكن حق القول مني} ، وقوله تعالى: {وروح منه} ، فالطائفتان يجعلون القول منه كالروح منه، ثم يقةل النفاة: والروح مخلوقة بائنة عنه، فالقول مخلوق بائن عنه، ويقول الحلولية: القول صفة له ليس لمخلوق، فالروح التي منه صفة له ليست مخلوقة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 والفرق بين البابين: أن المضاف إذا كان معنى لا يقوم ينفسه ولا بغيره من المخلوقات، وجب أن يكون صفة لله تعالى قائما به، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب، وإن كان المضاف عينا قائمة بنفسها كعيسى وجبريل وأرواح بني آدم، امتنع أن تكون صفة لله تعالى، لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره. فقوله تعالى: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} ، وقوله في عيسى: {وروح منه} ، وقوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} ، يمتنع أن يكون شيء من هذه الأعيان القائمة بنفسها صفة لله تعالى. لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين: أحدهما أن تضاف إليه من جهة كونه خلقها وأبدعها، فهذا شامل لجميع المخلوقات، كقولهم: سماء الله، وأرض الله. ومن هذا الباب فجميع المخلوقين عباد الله، وجميع المال مال الله، وجميع البيوت والنوق لله. والوجه الثاني: أن يضاف إليه لما خصه الله به من معنى يحبه ويرضاه ويأمر به، كما خص البيت العتيق بعباجة فيه لا تكون في غيره، وكما خص المساجد بأن يفعل فيها ما يحبه ويرضاه من العبادات، وأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 تصان عن المباحات التي لم متشرع فيها فضلاً عن المكروهات. وكما يقال عن مال الفيء والخمس: هو مال الله ورسوله. ومن هذا الوجه فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره. فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه، وهذه الإضافة العامة لا تتضمن إلا خلقه وربوبيته. وكذلك كلماته نوعان: كلماته الدينية المتضمنة شرعه ودينه كالقرآن. وكلماته الكونية التي بها كون الكائنات. وهي الكلمات التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بها في قوله: «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر» ، فإن كلماته التي بها كون المخلوقات لا يخرج عنها بر ولا فاجر، بخلاف كلماته التي شرع بها دينه فإن الفجار عصوها، كما عصاها إبليس ومن اتبعه. والله تعالى لا يضيف إليه من المخلوقات شيئاً إضافة تخصيص إلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 لإختصاصه بأمر ويوجب الإضافة، وإلا فمجرد كونه مخلوقا ومملوكا لا يجب أن يخص بالإضافة. ويهذا يتبين فساد قول النفاة الذين يقولون في قوله تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} ، من الأقوال ما لا اختصاص لآدم به، كقولهم: بقدرته، أو بنعمته، أو أن المعنى: خلقته أنا، أو أنه أضافه إلى نفسه إضافة تخصيص، فإن هذه المعاني كلها موجودة في الملائكة وإبليس والبهائم، فلا بد أن يثبت لآدم من اختصاصه بكونه سبحانه خلقه بيديه مالا يثبت لهؤلاء. وكذلك أيضا إذا قيل عن القرآن العزيز - أو غيره - إنه كلام الله، فإن هذا لا يوجب أن تكون إضافته إليه إضافة خلق وملك، لوجهين: أحدهما: أنه صفة، والصفات إذا أضيفت إليه كانت إضافة وصف لا إضافة خلق. الثاني: أن هذا يقتضي أن يكون كل كلام خلقه الله كلام، فيكون إنطاقه لما أنطقه من المخلوقات كلاماً له، ومن عرف أن الله خالق كل شيء لزمه أن يجعل كل كلام في الوجود كلامه، كما فعل ذلك حلولية الجهمية، كابن عربي وغيره حيث قالوا: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 ولا يجوز أن تكون إضافته إليه لا ختصاصه بمعنى يحبه ويرضاه، كما أضاف إليه البيت والناقة، بقوله تعالى: {وطهر بيتي للطائفين والقائمين} ، وقوله: {ناقة الله وسقياها} ، لأن هذا يوجب أن يكون كل كلام يحبه الله فإنه كلامه، فيكون الإنسان إذا أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس يكون ذلك كلام الله، ويكون الشاهد إذا شهد بشهادة أمر بها تكون كلام الله، ويكون كل من حدث بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنما حدث بكلام الله تعالى. والناس قد تنازعوا في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله» . هل المراد بها: الكلمة التي شرعها الله، وهي عقد النكاح؟ أو المراد كلمة التي تكلم بها، وهي شرعه وإذنه وتحليله لذلك؟ والصواب أن المراد بقوله: كلمة الله، كلامه الذي تكلم به المتضمن إذنه وتحليله وشرعه، لا العقد الذي هو كلام العباد. ومن قال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 إن المراد به العقد فقد أخطأ من وجون متعددة، قد بسطناها في غير هذا الموضع، وتكلمنا على ذلك في مسألة مفردة، ولا يعرف قط أنه أضيف إلى الله كلام إلا كلام تكلم الله به، ولكن لو قدر أنه قد يراد بالكلام المضاف إلى الله ما أمر به، وقدر أنه حصل نزاع في قوله: {وكلمة الله هي العليا} هل المراد: الكلمة التي يحبها ويأمر بها؟ أو الكلمة التي تكلم بها، وهي نفس أمره وخبره؟ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا» . فمن قال: المراد بالجميع كلام الله الذي تكلم له أطردت الإضافة على قوله، ولو قدر أن قائلا قال: أضيف إليه من الكلام ما يحبه ويرضاه، وإن لم يكن تكلم به - لم يمكن أن يجعل كون القرآن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 كلامه من هذا الباب بالضرورة والاتفاق، إذ لازم ذلك أن يكون القرآن بمنزلة ما أمر به من الشهادة والأخبار وتقويم السلع وخرص النخل وسائر أنواع الكلام الصادق الذي يجب التكلم به، فيكون كل من تكلم بشيء من ذلك قد تكلم بكلام الله، ويكون كون القرآن كلام الله هو من هذا الباب، ولا يكون لله عز وجل في نفسه كلام إلاما تكلم به الخلق، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده. ثم قول القائل: الكلام الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر به، أو الكلام الذي يكرهه وينهى عنه - يقتضي أن هناك محبة ورضاء وامراً غير المأمور به، وكلاماً هو نهي غير المنهي عنه، وذلك هو كلامه الذي هو أمره ونهيه، فالأمر والنهي غير المأمور به والمنهي عنه. وهذا على قول من اشتبه عليه أمر الإضافة في هذا المواضع، وإلا فالصواب في قوله صلى الله عليه وسلم: «واستحللتم فروجهن بكلمة الله،» أنها كلمته التي تكلم بها. وكذلك قوله تعالى: {وكلمة الله هي العليا} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 هي كلمته التي تكلم بها، وكل كلام تكلم به سبحانه مخبرا فإنه صدق، كما أن كل كلام تكلم به آمرا فهو عدل، وقد تمت كلماته صدقا وعدلا. فالكلام له نسبة إلى المتكلم به، وهو الآمر المخبر به وله نسبة إلى المتكلم فيه، وهو المأمور به والمخبر عنه، فكلام الله الذي تكلم به يشبرك كله في كونه تكلم به. ثم ما أخبر به عن نفسه، مثل قوله تعالى: {قل هو الله أحد} ، وآية الكرسي، وغير ذلك - أفضل مما أخبر به عن خلقه، وذكر فيه أحوالهم، كقوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب} ، وهذا أصح القولين لأهل السنة وغيرهم، وهو قول جمهور العلماء من الأولين والآخرين، فإن طائفة من المنتسبين إلى السنة وغيرهم يقولون: إن نفس كلام الله تعالى لا يتفاضل في نفسه، بناء على أنه قديم، والقديم لا يتفاضل. ويتأولون قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 مثلها} ، أي خير لكم وأنفع. والصواب الذي عليه جمهور السلف والأئمة: إن بعض كلام الله أفضل من بعض، كما دل على ذلك الشرع والعقل. ففي الحديث الثابت «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي سعيد بن المعلى: لأعلمنك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها» ، ثم أخبره أنها فاتحة الكتاب، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس في القرآن لها مثل، فبطل قول من يقول بتماثل جميع كلام الله. وكذلك ثبت في الصحيح أنه قال لأبي بن كعب: أتدري أي آية في كتاب الله أعظم: فقال: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} ، فضرب بيده في صدري، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر، فبين أنه هذه الآية أعظم من غيرها من الآيات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 وقد ثبت عنه في الصحيحين من غيره وجه أن: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن. وذلك أن القرآن: إما خبر، وإما إنشاء، والخبر: إما خبر عن الخالق، وإما عن المخلوق. فثلثه قصص. وثلثه أمر، وثلثه توحيد، فهي تعدل ثلث القرآن بهذا الاعتبار. وأيضاً فالكلام وإن اشترك من جهة المتكلم به في أنه تكلم بالجميع. فقد تفاضل من جهة المتكلم فيه، فإن كلامه الذي وصف به نفسه، وأمر فيه بالتوحيد، أعظم من كلامه الذي ذكر فيه بعض خلقه، وأمر فيه بما هو دون التوحيد. وأيضاً فإذا كان بعض الكلام خيراً للعباد وأنفع، لزم أن يكون في نفسه أفضل من هذه الجهة، فإن تفاضل ثوابه ونفعه إنما هو لتفاضله في نفسه، وإلا فالشيئان المتساويان من كل وجه، لا يكون ثواب أحدهما أكثر، ولا نفعه أعظم. والمقصود هنا شيئان: أحدهما: أن الذين يعظمون الأشعري وأمثاله من أهل الكلام كالبيهقي، وابن عساكر، وغيرهما - وقد عرفعوا ذم الشافعي وغيره من الأئمة للكلام، ذكروا أن الكلام المذموم هو كلام أهل البدع، وقالوا: إنما كان يعرف في عصرهم بالكلام أهل البدع، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 وأنه أراد بذلك كلام مثل حفص الفرد وأمثاله، وأنه لما حدثت طائفة سمت ما في كتاب الله من الحجة عليهم متشابها، وقالوا بترك القول بالأخبار التي رواها أهل الحديث، وزعموا أن الأخبار التي حملت عليهم لا تصح في عقولهم، قام جماعة من أئمتنا، وبينا أن جميع ما ورد في الأخبار صحيح في المعقول، وما ادعوه في الكتاب من التشابه باطل في العقول، وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء، فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة، فكانوا لا يسمون تسميتهم، وإنما يعني بقوله (من ارتدى بالكلام لم يفلح) كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة، وجعلوا معولهم عقولهم، وأخذوا في تسوية الكتاب والسنة عليها، فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة، وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل، إبطالاً لمذهب من زعم أنه غير مستقيم في العقل. قلت: وهذا اتفاق من علماء الأشعرية، مع غيرهم من الطوائف المعظمين للسلف، على أن الكلام المذموم عند السلف: كلام من يترك الكتاب والسنة، ويعول في الأصول على عقله، فكيف بمن يعارض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 الكتاب والسنة بعقله؟! وهذا هو الذي قصدنا إبطاله، وهو حال أتباع صاحب الإرشاد الذين وافقوا المعتزلة في ذلك. وأما الرازي وأمثاله، فقد زادوا في ذلك على المعتزلة، فإن المعتزلة لا تقول: إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين، بل يقولون: إنها تفيد اليقين، ويستدلون بها أعظم مما يستدل بها هؤلاء. الثاني: أن كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه ونحوه من الأئمة تضمن ذم كلام حفص الفرد وأمثاله في مسألة القرآن. والكلام في ذلك مبني على نفي قيام الأفعال به، فإن المعتزلة يقولون: الكلام لا بد له من فعل يتعلق بمشيئة المتكلم وقدرته، فلو قام به الكلام لقامت به الأفعال، وهي حادثة، فكان يكون محلا للحوادث، وبطل الدليل الذي استدللنا به على حدوث العالم. وقد بينا أن ذم الشافعي لكلام حفص وأمثاله لم يكن لأجل إنكار القدر، فإن حفصاً لا ينكره، وإنما كان لإنكار الصفات والأفعال، المبني على دليل الأعراض. وهكذا كلام الإمام أحمد - وغيره من الأئمة - في ذم الكلام، كان متناولاً لكلام الجهمية. وكلام أحمد وأمثاله في ذلك كثير ظاهر معلوم، فإن مناظرته للجهمية، ورده عليهم، أشهر وأكثر من أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 يذكر هنا، وكان من المناظرين له أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث، وهو على قول حسين النجار - والنجار من المثبتة للقدر - وكذلك كانوا يذمون المريسي وغيره من المثبتين للقدر، فتبين أن كلامهم في ذم أهل الكلام لم يكن لأجل إنكار القدر، بل كان ذمهم للجهمية أعظم من ذمهم للقدرية. كلام الأشعري في مقالات الإسلاميين عن النجارية قال الأشعري في المقالات: (ذكر قول الحسين بن محمد النجار: كان هو وأصحابه يقولون: إن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى وهم فاعلون لها، وإنه لا يكون في ملك الله إلا ما يريده، وأن الله لم يزل مريداً أن يكون في وقته ماعلم أنه يكون في وقته، مريداً أن لا يكون ما علم أنه لا يكون، وأن الاستطاعة لا يجوز أن تتقدم الفعل، وأن العون من الله يحدث في حال الفعل مع الفعل وهو الاستطاعة، فإن الاستطاعة الواحدة لا يفعل بها فعلان، وأن لكل فعل استطاعة تحدث معه إذا حدث، وإن الاستطاعة لا تبقى، وأن في وجودها وجود الفعل، وفي عدمها عدم الفعل) . وذكر سائر قوله في القدر من جنس قول الأشعري وأصحابه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 (وأن الإنسان لا يفعل في غيره، وأنه لا يفعل الأفعال إلا في نفسه، كنحو الحركات والسكون، والإرادات والعلوم، والكفر والإيمان، وإن الإنسان لا يفعل ألماً ولا إدراكاً ولا رؤية، ولا يفعل شيئاً على طريق التولد) . قال: (وكان برغوث يميل إلى قوله) . قال: (وكان يزعم أن الله لم يزل جواداً بنفي البخل عنه، ولم يزل متكلماً بمعنى أنه لم يزل غير عاجز عن الكلام، وأنه كلام الله محدث مخلوق، وكان يقول في التوحيد يقول المعتزلة، إلا في باب الإرادة والجود، وكان يخالفهم في القدر ويقول بالإرجاء. وكان يزعم أن جائز أن يحول الله العين إلى القلب، ويجعل في العين قوة القلب، فيرى الله الإنسان بعينه: أي يعلمه بها، وكان ينكر الرؤية لله بالأبصار على غير هذا الوجه) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 قلت: فقول ضرار والنجار وأتباعهما كبرغوث وحفص، وقول بشر المريسي ونحوه من أهل الكلام الذين ذمهم الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة، ليس فيه إنكار للقدر، بل فيه إثبات له، وإنما ذمومهم لما في قولهم من نفي ما وصف الله به نفسه، مع أن قول النجار وضرار خير من قول المعتزلة، وقولهما في الرؤية يشبه قول من ينفي العلو ويثبت الرؤية من الأشعرية ونحوهم، وأصل كلامهم الذي بنوا عليه نفي ذلك ما تقدم من الأصول الثلاثة، ليس لهم غيرها، وهي دليل الأعراض، والتركيب، والأختصاص. كلام الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله ومما يبين ذلك ما ذكره الشيخ أبو سليمان الخطابي في رسالته المعروفة في الغنية عن الكلام وأهله قال فيها: (وقفت على مقالتك وظهور ما ظهر بها من مقالات أهل الكلام، وخوض الخائضين فيها، وميل بعض منتحلي السنة إليها، واغترارهم بها، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 واعتذارهم في ذلك بأن الكلام وقاية للسنة، وجنة لها، يذب به عنها، ويزداد بسلاحه عن حريمها، وفهمت ما ذكرته من ضيق صدرك بمجالسهم، وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم، لأن موقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله، وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره، وكلا الأمرين يصعب عليك: أما القبول فلأن الدين يمنعك منه، ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه، وأما الرد المقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول، ويؤاخذونك بقوانين الجدل، ولا يقنعون منك بظواهر الأمور، وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان، وفي رد مقالة هؤلاء القوم من حجة وبرهان، وأن أسلك في ذلك طريقة لا يمكنهم دفعها، ولا يسوغ لهم من جهة العقل جحدها وإنكارها، فرأيت إسعافك لازماً في حق الدين، وواجب النصيحة لجماعة المسلمين، فإن الدين النصيحة) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 «واستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصحية، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» . قال: (واعلم أن هذه الفتنة قد عمت اليوم وشملت، وشاعت في البلاد واستفاضت، فلا يكاد يسلم من رهج غبارها إلا من عصمه الله، وذلك مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء» . قال: ثم إني تدبرت هذا الشأن، فوجدت عظم السبب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 فيه أن الشيطان صار اليوم بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بزيادة فهم، وفضل ذكاء وذهن، ويوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة، واقتصر على واضح بيان منها، كان أسوة للعامة، وعد واحداً من الجمهور والكافة، وأنه قد ضل فهمه، واضمحل لطفه وذهنه فحركهم بذلك على التنطع في النظر، والتبدع لمخالفة السنة والأثر، ليبينوا بذلك عن طبقة الدهماء، ويتميزوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء، فاختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة، وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها، وتاهوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 عن حقائقها، ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس، ولا قبلوا بيقين علم) . قال: (ولما رأوا كتاب الله ينطق يخلاف ما انتحلوه، ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه، ضربوا بعض آياته ببعض، وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم، واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم، ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسنته المأثورة عنه، وردوها على وجوهها، وأساءوا في نقلتها القالة، ووجهوا عليهم الظنون، ورموهم بالتزيد، ونسبوهم إلى ضعف المنة، وسوء المعرفة بما يروونه من الحديث، والجهل بتأويله، ولو سكلوا سبيل القصد، ووقفوا عند ما أنتهى بهم التوقيف، لوجدوا برد اليقين، وروح القلوب، ولكثرت البركة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 وتضاعف النماء، وانشرحت الصدور، ولأضاءت فيها مصابيح النور، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) . تعليق ابن تيمية فهذا الذي وصفه الشيخ أبو سليمان الخطابي هو حال أهل الكلام، الذين يعارضون الكتاب والسنة بعقلهم، فيتأولون الكتاب على غير تأويله، ويردون الحديث بما يمكنهم، مثل زعمهم أنه خبر واحد، وأن كان من المستفيضات المتلقاة بالقبول، ومثل غير ذلك من وجوه الرد، لأن الأصول التي بنوا عليها دينهم تناقض منصوص الكتاب والسنة، كطريقة الأعرض والتركيب والاختصاص، ونحو ذلك مما تقدم. وهم فيها خاضوا فيه من العقليات المعارضة للنصوص، في حيرة وشبهة وشك، من كان منهم فاضلاً ذكياً قد عرف نهايات أقدامهم كان في حيرة وشك، ومن كان منهم لم يصل إلى الغاية كان مقلدا لهؤلاء، فهو يدع تقليد النبي المعصوم وإجماع المؤمنين المعصوم، ويقلد رؤوس الكلام المخالف للكتاب والسنة، الذين هم في شك وحيرة، ولهذا لا يوجد أحد من هؤلاء إلا وهو: إما حائر شاك، وإما متناقض يقول قولاً ويقول ما يناقضه، فيلزم بطلان أحد القولين أو كلاهما، لا يخرجون عن الجهل البسيط مع كثرة النظر والكلام، أو عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 الجهل المركب الذي هو ظنون كاذبة، وعقائد غير مطابقة، وإن كانوا يسمون ذلك براهين عقلية، وأدلة يقينية، فهم أنفسهم ونظراؤهم يقدحون فيها، ويبينون أنها شبهات فاسدة، وحجج عن الحق حائدة. وهذا الأمر يعرفه كل من كان خبيراً بحال هؤلاء، بخلاف أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم المتبعين له، فإنهم ينكشف لهم أن ما جاء به الرسول، هو الموافق لصريح المعقول، وهو الحق الذي لا اختلاف فيه ولا تناقض. قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} . فهؤلاء مثل نور الله في قلوبهم: {كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم} : نور الإيمان، ونور القرآن، نور صريح المعقول، ونور صحيح المنقول. كما قال بعض السلف: يكاد المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر، فإذا جاء الأثر كان نوراً على نور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 وقال لغير واحد من الصحابة - كجندب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر: - تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانا. قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} وأما أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة فهم: إما في الجهل البسيط، وإما في الجهل المركب، كالكفار، فالأولون: {كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} . والآخرون: {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} . فأهل الجهل والكفر البسيط لا يعرفون الحق ولا ينصرونه، وأهل الجهل والكفر المركب يعتقدون أنهم عرفوا وعلموا، والذي معهم ليس لعلم بل جهل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 عود لكلام الخطابي في الغنية قال أبو سليمان الخطابي: (واعلم أن الأئمة الماضين، والسلف المتقدمين، لم يتركوا هذا النمط من الكلام، وهذا النوع من النظر، عجزاً عنه، ولا انقطاعاً دونه، وقد كانوا ذوي عقول وافرة، وأفهام ثاقبة، وقد كان وقع في زمانهم هذه الشبه والآراء، وهذه النحل والأهواء، وإنما تركوا هذه الطريقة وأعرضوا عنها لما تخوفوه من فتنتها، وحذروه من سوء مغبتها، وقد كانوا على بينة من أمرهم، وعلى بصيرة من دينهم، لما هاهم الله له من توفيقه، وشرح به صدورهم من نور معرفته، ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته، وتوقيف السنة وبيانها، غناء ومندوحة عما سواهما، وأن الحجة قد وقعت بهما، والعلة أزيحت بمكانهما، فلما تأخر الزمان بأهله، وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة، وقلت عنايتهم، واعترضهم الملحدون بشبههم، والمتحذلقون بجدلهم - حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام، ولم يدافعوهم بهذا النوع من الجدل، لم يقووا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 بهم، ولم يظهروا في الحجاج عليهم، فكان ذلك ضلة من الرأي، وغبنا فيه، وخدعة من الشيطان، والله المستعان) . تعليق ابن تيمية قلت: هو كما قال أبو سليمان فإن السلف كانوا أعظم عقولاً، وأكثر فهموماً، وأحد أذهاناً، وألطف إدراكاً، كما قال عبد الله بن مسعود: من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن: «خير قرون الأمة القرن الذي بعث فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» . وأعظم الفضائل فضيلة العلم والأيمان، فهم أعلم الأمة باتفاق علماء الأمة، ولم يدعوا الطرق المبتدعة المذمومة عجزاً عنها، بل كانوا كما قال عمر بن عبد العزيز: على كشف الأمور أقوى، وبالخير لو كان في تلك الأمور أحرى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 وقول الخطابي: (تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها، لما تخوفوه من فتنتها، وحذروه من سوء مغبتها) فسنبين إن شاء الله أن تلك الطرق المخالفة للسنة هي في نفسها باطلة، فأضربوا عنها، كما يضرب عن الكذب والقول الباطل، وإن كان مزخرفاً مزيناً، ولم يستجيزوا أن يقابلوا الفاسد بالفاسد، ويردوا البدعة بالبدعة. وأما الكلام الذي لا يدري أصدق هو أم كذب، فهو بمنزلة الشاهد الذي لا يعلم صدقه، فهذا قد يعرض عنه خوفاً أن يكون باطلاً وكذباً. فهذا يكون في الطرق المجهولة الحال. ولا ريب أن كثيراً من الناس لا يعلم أحق هي أم باطل، فينهى عن القول بما لا يعلم، وقد ينهى بعض الناس عن أن ينظر فيما يعجز عن فهمه ومعرفة الحق فيه من الباطل، خوفاً من أن يزل ذهنه فيضل، ولا يمكن هداه، فالخوف يكون فيما لا يعلم حاله، أو لا يعلم حال سالكه، وإن كان حقاً. وأما الكلام المخالف للنصوص فهو في نفسه باطل، فالنهي عنه كالنهي عن الكذب والكفر ونحو ذلك. وقوله: (وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم، لما هداهم الله له من توفيقه، وشرح به صدورهم من نور معرفته) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 فهذا بيان لأنهم كانوا أهل علم ويقين، لا أهل جهل وتقليد، وأنه حصل لهم معرفة يقينية ضرورية، بهدى الله لهم، وشرح صدورهم، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أن الإيمان والعلم لا يتوقف على النطر الذي أحدثه أهل الكلام، فضلاً عن الكلام المخالف للنصوص. وقوله: (ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب والسنة غنىً ومندوحة عما سواهما) فهذا لأن الكتاب - والسنة - قد بين الحق وبين الطرق التي بها يعرف الحق، وذكر من الأدلة العقلية والأمثال المضروبة، التي هي مقاييس برهانية، ما هو أكمل في تحصيل العلم واليقين، مما أحدثه أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة. وليس هدى الكتاب بمجرد كونه خبراً، كما يظنه بعضهم، بل قد نبه وبين ودل على ما به يعرف الحق من الباطل، من الأدلة والبراهين، وأسباب العلم واليقين، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع. وما ذكره من أنه لما تأخر الزمان، وفترت عزائم بعض الناس عن طلب حقائق علوم الكتاب والسنة أخذوا يردون شبه الملحدين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 بالكلام المبتدع، المستلزم مخالفة النصوص - فهو كما قال. وقد تأملت هذا في عامة الأبواب فوجدته كذلك، بل وجدت جميع أهل البدع يلزمهم أن لا يكونوا مصدقين بتنزيل القرآن، ولا بتفسيره وتأويله في كثير من الأمور، والعلم - والإيمان - يتضمن التصديق بالتنزيل، وما دل عليه من التأويل، وما من بدعة من بدع الجهمية وفروعهم، إلا وقد قالوا في القرآن بما يقدح في تنزيله، وقالوا في معانيه بما يقدح في تفسيره وتأويله. فمن تأمل طرق المعتزلة ونحوهم، التي ردوا بها على أهل الدهر والفلاسفة ونحوهم، فيما خالفوا فيه المسلمين، رآهم قد بنوا ما خالفوا فيه النصوص على أصول فاسدة في العقل، لا قطعوا بها عدوا الدين، ولا أقاموا على موالاة السنة واتباع سبيل المؤمنين، كما فعلوه في دليل الأعراض والتركيب والاختصاص. وكذلك من ناطرهم من الكلابية وغيرهم، فيما خالفوا فيه السنة من مسائل الصفات والقدر وغير ذلك، بنوا كثيراً من الرد عليهم على أصول فاسدة: إما أصول وافقوهم عليها مما أحدثه أولئك، كموافقة من وافقهم على دليل الأعراض والتركيب ونحوهما، وإما أصول عارضوهم بها فقابلوا الباطل بالباطل، كما فعلوه في مسائل القدر والوعد والوعيد، ومسائل الأسماء والأحكام، فإن أولئك كذبوا بالقدر، وأوجبوا إنفاذ الوعيد، وقاسوا الله بخلقه فيما يحسن ويقبح، وهؤلاء ابطلوا حكمة الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 تعالى، وحقيقة رحمته وعدله، وقالوا ما يقدح في أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وتوقفوا في بعض أمره ونهيه، ووعده ووعيده، فصار أولئك يكذبون بقدرته وخلقه ومشيئته، وهؤلاء يكذبون برحمته وحكمته، وببعض أمره ونهيه، ووعده ووعيده، كما قد بسط في موضعه. فكان ما دفعوا به أهل البدع من أصول مبتدعة باطلة وافقوهم عليها، أو أصول مبتدعة باطلة قاتلوهم فيها، ضلة من الرأي، وغبناً فيه، وخدعة من الشيطان، بل الحق أنهم لا يوافقون على باطل، ولا يقابل باطلهم بباطل. وهذا كما أصاب كثيراً من الناس من أهل العبادة والزهد والتصوف والفقر، أعرضوا عن السماع الشرعي، والزهد الشرعي، والسلوك الشرعي، فاحتاجوا أن يعتاضوا عن ذلك بسماع بدعي، وزهد بدعي، وسلوك بدعي، يوافق فيه بعضهم بعضاً في باطل، أو يقابل باطلهم بباطل آخر، وكما أصاب كثيراً من الناس مع الولاة الذين أحدثوا الظلم، فإنهم تارة يوافقونهم على بعض ظلمهم، فيعاونونهم على الإثم والعدوان، وتارة يقابلون ظلمهم بظلم آخر، فيخرجون عليهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 ويقاتلونهم بالسيف، وهو قتال الفتنة، فمن الناس من يوافق على الظلم ولا يقابل الظلم، مثل ما كان بعض أهل الشام، ومنهم من كان يقابله بالظلم والعدوان، ولا يوافق على حق ولا على باطل كالخوارج، ومنهم من كان تارة يوافق على الظلم، وتارة يدفع الظلم بالظلم، مثل حال كثير من أهل العراق. وكثير من الناس مع أهل البدع الكلامية والعملية بهذه المنزلة: إما أن يوافقوهم على بدعهم الباطلة، وإما أن يقابلوها ببدعة أخرى باطلة، وإما أن يجمعوا بين هذا وهذا، وإنما الحق في أن لا يوافق المبطل على باطل أصلاً، ولا يدفع بباطل أصلاً فيلزم المؤمن الحق، وهو ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يخرج عنه إلى باطل يخالفه: لا موافقة لمن قاله، ولا معارضة بالباطل لمن قال باطلاً. وكلا الأمرين يستلزم معارضة منصوصات الكتاب والسنة بما يناقض ذلك، وإن كان لا يظهر ذلك في بادي الرأي. بقية كلام الخطابي في الغنية قال أبو سليمان: (فإن قال هؤلاء القوم: فإنكم قد أنكرتم الكلام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 ومنعتم استعمال أدلة العقول، فما الذي تعتمدون عليه في صحة أصول دينكم، ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها، وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه، وأن الرسول لم يثبت صدقة إلا بأدلة العقول، وأنتم قد نفيتموها؟) . قال أبو سليمان: (قلنا: إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف، ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر، وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع، ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بياناً، وأصح برهاناً، وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة وتابعتموهم عليه. وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات، ولا يرون لها حقيقة، فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور، ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء، فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله عز وجل عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 والإيداع والانقطاع على سالكها) . تعليق ابن تيمية قلت: وهذا الذي ذكره الخطابي يبين أن طريقة الأعراض من الكلام المذموم، الذي ذمه السلف والأئمة، وأعرضوا عنه، كما ذكر ذلك الأشعري وغيره، وأن الذين سلكوها سلكوها لكونهم لم يسلكوا الطرق النبوية الشرعية، فمن لم يسلك الطرق الشرعية احتاج إلى الطرق البدعية، بخلاف من أغناه الله بالكتاب والحكمة. والخطابي ذكر أن هذه الطريقة متعبة مخوفة، فسالكها يخاف عليه أن يعجز أو أن يهلك. وهذا كما ذكره الأشعري وغيره، ممن لم يجزموا بفساد هذه الطريقة، وإنما ذموها لكونها بدعة، أو لكونها صعبة متعبة قد يعجز سالكها، أو لكونها مخوفة خطرة لكثرة شبهاتها. وهكذا ذكر الخطابي في كتاب شعار الدين ما يتضمن هذا المعنى، ولهذا كان من لم يعلم بطلان هذه الطريقة أو اعتقد صحتها، قد يقول ببعض موجباتها. كما يقع مثل ذلك في كلام الخطابي وأمثاله، ما يوافق موجبها، وقد أنكره عليه أئمة السلف والعلم، كما هو مذكور في غير هذا الموضع. وهذا قد وقع فيه طوائف من أصناف الناس، من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 وأما قوله: (إنهم أخذوا هذه الطريقة من الفلاسفة) كما ذكر ذلك الأشعري. فيقال: كثير من الفلاسفة يبطل هذه الطريقة، كأرسطو وأتباعه، فلم يوجد عنهم، ومن الفلاسفة من يقول بها، والذين قالوا بها من أهل الكلام ليس كلهم أخذها عن الفلاسفة، بل قد تتشابه القلوب. كما قال تعالى: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم} . وقال تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون} . وأكثر المتكلمين السالكين لها مناقضون للقول المشهور عن الفلاسفة لا موافقون لهم، بل يردون على أرسطو وأصحابه في المنطق والطبيعيات والألهيات. تابع كلام الخطابي في الغنية قال الخطابي: (وبيان ما ذهب إليه السلف - من أئمة المسلمين - في الاستدلال على معرفة الصانع وإثبات توحيده وصفاته، وسائر ما ادعى أهل الكلام تعذر الوصول إليه إلا من الوجه الذي يذهبون إليه، ومن الطريقة التي يسلكونها، ويزعمون أن من لم يتوصل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 إليه من تلك الوجوه كان مقلداً غير موحد على الحقيقة - هو أن الله سبحانه لما أراد إكرام من هداه لمعرفته، بعث رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. وقال له: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} . وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، وفي مقامات شتى، وبحضرته عامة أصحابه: «ألا هل بلغت» . وكان الذي أنزل عليه من الوحي، وأمر بتبليغه، هو كمال الدين وتمامه، لقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} ، فلم يترك صلى الله عليه وسلم شيئاً من أمور الدين: قواعده، وأصوله، وشرائعه، وفصوله - إلا بينه، وبلغه على كماله وتمامه، ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لا خلاف بين فرق الأمة: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال. ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبداً في كل وقت وزمان، ولو أخر عنه البيان لكان التكليف واقعاً بما لا سبيل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 للناس إليه، وذلك فاسد غير جائز، وإذا كان الأمر على ما قلناه، وقد علم يقيناً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض، وتعلقها بالجواهر، وانقلابها فيها، إذ لا يمكن واحداً من الناس أن يروي عنه ذلك ولا عن أحد من أصحابه من هذا النمط حرفاً واحداً فما فوقه، لا من طريق تواتر ولا آحاد - علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء، وسلكوا غير طريقتهم، ولو كان في الصحابة قوم يذهبون مذاهب هؤلاء في الكلام والجدل، لعدوا من جملة المتكلمين، ولنقل إلينا أسماء متكلميهم، كما نقل إلينا أسماء فقهائهم وقرائهم وزهادهم، فلما لم يظهر ذلك، دل على أنه لم يكن لهذا الكلام عندهم أصل) . قال الخطابي: (وإنما ثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه: أحدهما: ثبوت النبوة بالمعجزات التي أوردها نبيهم من كتاب قد أعياهم أمره، وأعجزهم شأنه، وقد تحداهم به وبسورة من مثله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 وهم العرب الفصحاء والخطباء والبلغاء، فكل عجز عنه، ولم يقدر على شيء منه بوجه: إما بأن لا يكون في قولهم ولا في طباعهم أن يتكلموا بكلام يضارع القرآن في جزالة لفظه. وبديع نظمه، وحسن معانيه، وإما أن يكون ذلك في وسعهم، وتحت قدرهم، طبعاً وتركيباً، ولكن منعوه وصرفوا عنه ليكون آية لنبوته، وحجة عليهم في وجود تصديقه، وإما أن يكونوا إنما عجزوا عن علم ما جمع في القرآن من أنباء ما كان، والإخبار عن الحوادث التي تحدث وتكون، وعلى الوجوه كلها، فالعجز موجود، والانقطاع حاصل، هذا إلى ما شاهدوه من آياته، وسائر معجزاته المشهودة عنه، الخارجة عن سوم الطباع، الناقضة للعادات، كتسبيح الحصا في كفه، وحنين الجذع لمفارقته، ورجف الجبل تحته، وسكونه لما ضربه برجله، وانجذاب الشجرة بأغصانها وعروقها إليه، وسجود البعير له، ونبوع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 الماء من بين أصابعه حتى توضأ به بشر كثير، وربو الطعام اليسير بتبريكه فيه حتى أكل منه عدد جم، وأخبار الذراع إياه بأنها مسمومة، وأمور كثيرة سواها، يكثر تعدادها هي مشهورة، ومجموعة في الكتب التي أنشئت لمعرفة هذا الشأن) . قال الخطابي: (فلما استقر ما شاهدوه من هذه الأمور في نفوسهم، وثبت ذلك في عقولهم، صحت عندهم نبوته، وظهرت عن غيره بينونته، ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب، ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله عز وجل وأمر صفاته، وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة، ودلائل الحكمة، الشاهدة على أن لها صانعاً حكيماً، عالماً، خبيراً، تام القدرة، بالغ الحكمة، وقد نبههم الكتاب عليه، ودعاهم إلى تدبره وتأمله، والاستدلال به على ثبوت ربوبيته، فقال عز وجل: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} : إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة، ولطيف الحكمة، الدالين على جود الصانع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 الحكيم، لما ركب فيها من الحواس التي عنها يقع الإدراك، والجوارح التي يباشر بها القبض والبسط، والأعضاء المعدة للأفعال التي هي خاصة بها، كالأضراس الحادثة فيهم عند استغنائهم عن الرضاع، وحاجتهم إلى الغذاء، فيقع بها الطحن له، وكالمعدة التي اتخذت لطبخ الغذاء، والكبد التي يسلك إليها صفاوته، وعنها يكون انقسامه على الأعضاء في مجاري العروق المهيأة لنفوذه إلى أطراف البدن، وكالأمعاء التي يرسب إليها تفل الغذاء وطحانه فيبرز عن البدن. وكقوله تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت} . وكقوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} . وما أشبه ذلك من جلال الأدلة، وظواهر الحجج، التي يدركها كافة ذوي العقول، وعامة من يلزمه حكم الخطاب، مما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 يطول تتبعه واستقراؤه، فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه، ثم بينوا وحدانيته وعلمه وقدرته، بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة، واطرادها في سبلها، وجريها على إدلالها، ثم علموا سائر صفاته توقيفاً عن الكتاب المنزل، الذي بان حقه، وعن قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي قد ظهر صدقه، ثم تلقى جملة أمر الدين عنهم أخلافهم وأتباعهم، كافة عن كافة، قرناً بعد قرن، فتناولوا ما سبيله الخبر منها تواتراً واستفاضة، على الوجه الذي تقوم به الحجة، وينقطع فيها العذر، ثم كذلك من بعدهم عصراً بعد عصر، إلى آخر من تنتهي إليه الدعوة، وتقوم عليه بها الحجة، فكان ما اعتمده المسلمون من الاستدلال في ذلك أصح وأبين، وفي التوصل إلى المقصود به أقرب، إذ كان التعلق في أكثره إنما هو بمعاني درك الحس، وبمقدمات من العلم مركبة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 عليها، لا يقع الخلف في دلالتها) . تعليق ابن تيمية قلت: ذكر الخطابي طريقين إلى معرفة الله وصفاته: طريقاً سمعية. وطريقاً عقلية، وكلاهما طريق شرعية معروفة بالقرآن. أما الأولى: فهو أن تعلم نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بما أظهره الله على يديه من المعجزات وبغير ذلك، ثم يعرفون بذلك ما أخبرهم به ودعاهم إليه من التوحيد وإثبات الصفات، وهذا لأن نفس الإقرار بالصانع سبحانه فطري ضروري، أو معلوم بأدنى نظر وتأمل يحصل لعموم الخلق. ثم معرفة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم تعلم بما أظهره من المعجزات الدالة على صدق الرسول. وقد نبه الخطابي أن فيما جاء به الرسول من بيان الطرق العقلية التي يعرف بها ثبوت الخالق وتوحيده وصفاته، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن تعريفه للناس ما عرفهم إياه بمجرد خبره، وإن كان ذلك بعد ثبوت صدقه كما يظنه كثير من أهل الكلام، بل عرفهم ما به يعرف ثبوت الخالق ووحدانيته وصفاته، وما به يعرف صدقه، فبين ما جاء به من أصول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 الدين وأدلته العقلية التي يعلم بها ما يمكن معرفته بالعقل، وأخبرهم عن الغيب الذي لا يمكنهم معرفته بمجرد عقلهم. ولهذا قال الخطابي: (وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أنه لها صانعاً حكيماً عالماً خبيراً تام القدرة بالغ الحكمة) . قال: (وقد نبههم الكتاب عليه، ودعاهم إلى تدبره وتأمله، والاستدلال به على ثبوت ربوبيته، فقال عز وجل: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} . إلى قوله: (وما أشبه ذلك من جلال الأدلة، وظواهر الحجج، التي يذكرها كافة ذوي العقول، وعامة من يلزمه حكم الخطاب، مما يطول تتبعه واستقراؤه، فعن هذه الأمور ثبت عندهم أمر الصانع وكونه، ثم بينوا وحدانيته وعلمه وقدرته، بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة، واطرادها في سبلها، وجريها على إدلالها، ثم علموا سائر صفاته توقيفاً عن الكتاب .... إلى آخر كلامه) . كلام القاضي عبد الجبار في تثبيت دلائل النبوة وهذا مما اعترف به النظار من جميع الطوائف: من المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم، كما قال القاضي عبد الجبار في أول كتابه المصنف في تثبيت نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (الحمد لله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 الذي من على عباده بإرسال رسله، وختمم بسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، فأرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وإنما يعرف الرسول من عرف المرسل، وقد حصل لك العلم به تبارك وتعالى بما في كتاب المصباح وغيره، وأجلها وأعظمها وأوضحها وأبينها ما في القرآن مما نبه الله عليه، وجعله في عقول العقلاء، فينبغي أن يراعيه، ويديم النظر فيه، ويواصل الفكر في آيات الله، ويعتبر بالنقل والاعتبار، تنال المعرفة) . وكذلك قال الأشعري في كتابه المشهور المعروف باللمع لما ذكر خلق الإنسان واستدل به على الخالق تعالى. كما قد حكينا كلامه، وذكرنا كلامه وكلام القاضي أبي بكر عليه، وأن كلامه أجود، مع أنه جعل الإنسان مما يستدل على خلق جواهره بأنها لا تخلو من الحوادث بناءً على أن الحدوث المشهود إنما هو حدوث الأعراض كالتأليف والتركيب، وهو المراد بالخلق، بناءً على ثبوت الجوهر الفرد. وهذا وإن كان ضعيفاً، وأكثر علماء المسلمين ينازعون في هذا. كلام الباقلاني شرح اللمع فالمقصود أنه استدل بالخلق على الخالق. قال القاضي أبو بكر: (ثم قال أبو الحسن مؤيداً لما ذكره من حدوث الإنسان، وحدوث تصويره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 وتعلقه بخالق خلقه، ومدبر دبره: وقد قال تعالى: {أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} فما استطاعوا بحجة أن يقولوا إنهم يخلقون مع تمنيهم الولد، فلا يكون، ومع كراهتهم له يكون قال: وقال تنبيهاً لخلقه على وحدانيته: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} ، فبين لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع صنعهم، ومدبر دبرهم) . قال القاضي أبو بكر: (واعملوا أن الغرض بذكر الآيتين الإخبار عن الله في نص كتابه بما دلهم العقول عليه، وتقريبه والتنبيه على موضع الاستدلال به من جهة السمع، ليكون المرء عند سماعه أقرب إلى العلم بإدراك ما يلتمس علمه، وترتيب ما النظر فيه على حقه وموجبه، وأن يجمع لأهل التوحيد المقربن بالسمع بين دلائل العقول وتنبيه السمع عليها، وأن النظر في مقدورات الله والاعتبار بها طريقاً إلى العلم بصانعها المدبر بها والخالق لأعيانها) . قال: (وأما وجه التنبيه من قوله: {أفرأيتم ما تمنون * أأنتم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 تخلقونه أم نحن الخالقون} ، فهو أن من سبيل الخالق المنشىء، أن يكون ماخلقه واقعاً بقصده وإرادته، وأن يجد نفسه قادرة عليه وعلى إجاد عينه، إن كان مخترعاً له، أو على تصويره وتخطيطه، إن كان الخلق تصويراً وتقديراً) . قال: (وإذا ثبتت هذه الجملة، وعلمنا أن وجود الولد بنيته وهيئته، وليس بمقصور على إرادة الوالد، ولا مما يجد في نفسه القدرة عليه - ثبت بذلك أن الولد المخلوق ليس من فعل الوالد على سبيل المباشرة، ولا على جهة التولد عن حركاته) . قال: (وأما وجه التنبيه من قوله: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} ، رده لهم إلى الاعتبار في أحوالهم، وتنقلهم من حال إلى حال، ومن تركيب إلى تركيب، وعجيب ما قد فعل بذواتهم من التصوير والتأليف، وخلق الحواس ومواضعها، وتركيب كل عضو من أعضائهم على صفة ما يحتاج إلى استعماله فيه: من اليد للبطش، والرجل للمشي، وغير ذلك من جوارحهم، ومايتجدد في أنفسهم من الحوادث التي لم تكن، ويزول عنهم من الأمور الني يؤثرون استدامتها، مع علمهم بأن الصورة لا بد لها من مصور، وأن التأليف للدار والكتابة وضروب المنسوجات والمصنوعات لا بد لها في عقولهم من صانع مؤلف، وأن التغير في صفاته مع جواز بقائه على ما يعبر عنه لا بد له من ناقل نقله، ومغير غيره، وأنهم يجب أن يعلموا بذلك أن تصوير الإنسان وتغيره في الأحوال التي ذكرها أولى أن يتعلق بمصور صوره، وناقل نقله وغيره من تركيب إلى تركيب، وحال إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 حال: أن الإنسان أقرب إلى علم هذا بالتنبيه من ناحية السمع عليه، وأجدر أن يتحقق علم ما فيه، وإن كان لو أفرد بعقله، وأحيل على صحيح نظره، لقال بما نبه السمع على مواضعه، وإن احتاج في ذلك إلى فضل فكر بالكد والروية وإتعاب النفس في طلب الحق) . قال: (فهذا وجه التنبيه مما تلاه من التنزيل) . وذكر في التوحيد والمعاد نحواً من ذلك، بخلاف نفي التشبيه، فإنه جعله من باب ما دل القرآن عليه بالخبر. وأما ما ذكره هو وغيره: من أنهم عرفوا صدق الرسول بالمحجزات ابتداءً، فهذا يكون على وجهين: أحدهما: أنهم عرفوا إثبات الخالق بالضرورة، ثم عرفوا صدق الرسول بالمعجزات. الثاني: أن يقال: نفس ظهور المعجزات دلت على إثبات الخالق وعلى صدق رسوله، كما كان إظهار موسى للآيات: مثل العصا، واليد، دليلاً على الصانع وعلى صدق الرسول. ولهذا لما قال له فرعون: {لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين} . قال له موسى: {قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين} . فأظهر موسى هذه الآيات لما قال له فرعون: {لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين} فدل ذلك على أنه أظهرها لإثبات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 العلم بالصانع، ولصدق الرسول. والأدلة الدالة على صدق الرسول كثيرةً مبسوطةً في غير هذا الموضع. وبنبوته يستدل على تفصيل صفات الله وأسمائه، وعلى توحيده الذي هو عبادته وحده لا شريك له، وهو توحيد الإلهية وكذلك على توحيد الربوبية. فكلا نوعي التوحيد مما يمكن علمه بالسمع، وهذا مما اعترف به غير واحد من حذاق النظار، وقالوا: إنه يمكن العلم بصدق الرسول قبل العلم بالوحدانية، مع أن الخطابي أردا - والله أعلم - بعلم التوحيد: علم صفات الرب سبحانه وأسمائه، فإنهم يسمون ذلك علم التوحيد، وذلك مما يمكن معرفته بالشرع، فإنه يعلم بالفطرة، وبالعقل إثبات الصانع على طريق الإجمال، وأما تفصيل صفاته وأسمائه فتعلم بالسمع. وأيضاً فإذا عرف أن العلوم الإلهية حقيقتها موجودةً عند الأنبياء عليهم السلام، فإنهم الصادقون المصدقون فيما يخبرون به من ذلك، وأن الواجب تلقي ذلك عنهم - كان العلم بأن هذا يستفاد من الرسول يمكن إثباته بما به يعلم أنه رسول، وإذا علم أنه رسول تعلم منه هذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 المطلوب. كما إذا عرف أن علاج المرضى يؤخذ من الأطباء، والاستفتاء يرجع فيه إلى المفتين، وأمر التقويم يرجع فيه إلى المقومين. فإذا عرف أن هذا طبيب، أو مفت، أو مقوم، رجع إليه في ذلك. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، وبين أن العلم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم له طرق متعددة، فمن ادعى من المتكلمين: المعتزلة والجهمية وموافقيهم - أنه لا يمكن العلم بصدقة إلا بعد العلم بحدوث الأجسام، وأن ذلك لا يعلم إلا بطريقة الأعراض، فقوله خطأ مبتدع، وهو الذي ذكر الخطابي أنه لم يسلك أحد من السلف هذه الطريق. وأما الطريق العقلية التي ذكرها، فهي طريق دل عليها القرآن، وأرشد إليها، ونبه عليها، وهي الاستدلال بما يجدونه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة، ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعاً حكماً عالماً خبيراً. إلى قوله: (فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه، ثم تبينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة، واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها) . وهذا لأن الفعل الواحد المتسق المنتظم لا يكون عن اثنين، ولا يكون إلا عن عالم قادر، كما بين في غير هذا الموضع. عود لكلام الخطابي في الغنية فهذه الصفات ونحوها مما يعلم بالعقل. قال: (ثم علموا سائر صفاته توقيفاً عن الكتاب المنزل) . وهذا كالصفات الخبرية: مثل الوجه، واليدين، والاستواء على العرش، ونحو ذلك. قال الخطابي: (فأما الأعراض فإن التعلق بها إما أن يكون عذراً، وإما أن يكون تصحيح الدلالة من جهتها عسراً متعذراً. وذلك أن اختلاف الناس قد كثر فيها، فمن قائل: لا عرض في الدنيا ناف لوجود الأعراض أصلاً، وقائل: إنما هي قائمة بأنفسها، لا تخالف الجواهر في هذه الصفة، إلى غير ذلك من الاختلاف فيها. وأوردوا في نفيها شبهاً قوية، فالاستدلال بها، والتعلق بأدلتها، لا يصح إلا بعد التخلص من تلك الشبه، والانفكاك عنها. والطريقة التي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 سلكناها سليمة من هذه الآفات، برية من هذه العيوب، فقد بان ووضح فساد قول من زعم وادعى من المتكلمين أن من لم يتوصل إلى معرفة الله تعالى وتوحيده من الوجه الذي يصححونه من الاستدلال، فإنه غير موحد في الحقيقة، لكنه مستسلم مقلد، وأن سبيله سبيل الذرية في كونها تبعاً للآباء في الإسلام، وثبت أن قائل هذا القول مخطىء، وبين يدي الله ورسوله متقدم، وبعامة الصحابة وجمهور السلف مزر، وعن طريق السنة عادل، وعن نهجها ناكب) . تعليق ابن تيمية قلت: وهذا الذي ذكره الخطابي بين ظاهر، بتقدير أن تكون تلك الطريق صحيحة في نفسها، موصلة إلى العلم، فإن سلوكها - والحال هذه - إما غرر وخطر، وإما مشق صعب، بل معجوز عنه، فإنها تحتاج إلى تصحيح مقدمات كثيرة دقيقة متنازع فيها، وقد لا تثبت للإنسان فيضل عنها، فكانت بمنزلة من يريد الحج من طريق بعيدة مخوفة، يمكن سالكها أن يصل بعد جهد ومشقة، ويمكن أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 ينقطع، فمثل هذه الطريق قد يعجز صاحبها، وقد يضل بعد جهد ومشقة عظيمة، إذا لم يكن فيها مخوف، وإذا كان فيها مخوف فقد يهلك قبل الوصول. ومعلوم أن من عدل إلى هذه الطريق، وترك الطريق المستقيمة الواضحة الآمنة الميسرة كان ظلوماً جهولاً. وأما بتقدير أن تكون طريقاً فاسدة، كما يعرفه من عرف حقيقتها، فإنها: إما أن لا توصل إلى مطلوب، لأن النظر في الدليل الفاسد يستلزم الجهل المركب لا محالة، بل قد لا يحصل معه لا علم ولا جهل، وهذا حال كثير من حذاق النظار الذين سلكوها. وإما أن توصل إلى نقيض الحق، إذا اعتقد سالكها صدق بعض مقدماتها الكاذبة، وهذه حال كثير ممن اعتقد صحتها، وعارض بموجبها صحيح المنقول وصريح المعقول. وهي حال أهل البدع من المعتزلة والجهمية، ومن وافقهم على مقتضاها، فإنها منشأ ضلال ما شاء الله تعالى من طوائف أهل الكلام، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع، فالأولون يبقون في الجهل البسيط، وهؤلاء يصيرون في الجهل المركب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 تابع كلام الخطابي في الغنية قال الخطابي: (فهذا قولهم ورأيهم في عامة السلف وجمهور الأئمة وفقهاء الخلف، فلا تشتغل - رحمك الله - بكلامهم، ولا تغتر بكثرة مقالاتهم، فإنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازنه أو يقاربه، فكل بكل معارض، وبعض ببعض مقابل، وإنما يكون تقدم الواحد منهم، وفلجه على خصمه بقدر حظه من البيان، وحذقه في صنعة الجدل والكلام، وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل، على أصول مؤصلة لهم، ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم، فهم يطالبونهم بقودها وطردها، فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق الجدل منقطعاً، وجعلوه مبطلاً، وحكموا بالفلج لخصمه عليه، والجدل لا يبين به حق، ولا تقوم به حجة. وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين كلتاهما باطل ويكون الحق في ثلاثة غيرهما، فمناقضة أحدهما صاحبه غير مصحح مذهبه وإن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 كان مفسداً له قول خصمه، لأنهما مجتمعان معاً في الخطأ، مشتركان فيه، كقول الشاعر فيهم: حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقاً، وكل كاسر مكسور وإنما كان الأمر كذلك لأن واحداً من الفريقين لا يعتمد في مقالتها التي ينصرها أصلاً صحيحاً، وإنما هي أوضاع تتكافأ وتتقابل، فيكثر المقال، ويدوم الاختلاف، ويقل الصواب. قال الله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} . فأخبر سبحانه ما كثر فيه الاختلاف فليس من عنده. وهذا من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين مذاهب فاسدة، لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل، وذلك صفة الباطل الذي أخبر الله عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 ثم قال سبحانه في الحق: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} . قال الخطابي: (فإن قيل: دلائل النبوة، ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم - ما عدا القرآن - إنما نقلت إلينا من طريق الآحاد دون التواتر، والحجة لا تقوم بنقل الآحاد على من كان في الزمان المتأخر، لجواز وقوع الغلط فيها، واعتراض الآفات من الكذب وغيره عليها، قيل: هذه الأخبار، وإن كانت شروط التواتر في آحادها معدومة، فإن جملتها راجعة من طريق المعنى إلى التواتر، ومتعلقة به جنساً، لأن بعضها يوافق بعضاً ويجانسه. إذ كل ذلك واقع تحت الإعجاز، والأمر المزعج للخواطر الناقض لمجرى العادات) . قال: (ومثال ذلك أن يروي قوم ان حاتم طي وهب لرجل مائة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 من الأبل، ويروي آخرون أنه وهب لرجل آخر ألفاً من الغنم، ويروي آخرون أنه وهب آخر عشرة أرؤس من الخيل والرقيق إلى ما يشبه ذلك حتى يكثر عدد ما يروى عنه، فهو وإن لم يثبت التواتر في كل واحد منها نوعاً نوعاً، فقد ثبت التواتر في جنسها، وحصل من جملتها العلم بأن حاتماً سخي، كذلك هذه الأمور وأن لم يثبت لأفراد أعيانها تواتر، فقد ثبت برواية الجم الغفير، الذي لا يحصى عددهم، ولا يتوهم التواطؤ في الكذب عليهم، أنه قد جاء بمعنى معجز للبشر خارج عما في قدرهم، فصح بذلك أمر نبوته) . كلام الخطابي في كتاب شعار الدين وقال الخطابي أيضاً فيما ألحقه بكتاب شعار الدين وبراهين المسلمين (الكلام المكروه الذي زجر عنه العلماء وعابوه، هو التجرد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 في مذهب الكلام، والتعمق فيه على الوجه الذي يذهب المتكلمون. وذلك أنهم أدعوا الوقوف على حقائق الأمور من جهة العقول، وزعموا أن شيئاً من المعلومات لا يذهب عليهم علمه، ولا يعجزهم إدراكه، على سبيل التحديد والتحقيق) . تعليق ابن تيمية قلت: هذا هو حقيقة قول من لم يجعل السمعيات تفيد العلم، إنما يحصل العلم عنده من جهة العقل فقط، وقول من يظن أنه بمجرد عقله يعرف ما جاءت به الشرائع. ولهذا قول الإمام أحمد في أول رسالته في السنة التي رواها عنه عبدوس بن مالك العطار: (ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول) ، فبين أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يعارض بضرب الأمثال له، ولا يدركه كل أحد بقياس، ولا يحتاج أن يثبته بقياس، بل هو ثابت بنفسه، وليس كل ما ثبت يكون له نظير، وما لا نظير له لا قياس فيه، فلا يحتاج المنصوص خبراً وأمراً إلى قياس، بخلاف من أردا أن ينال كل ما جاءت به الرسل بعقله، ويتلقاه من طريق القياس، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 كالقياس العقلي المنطقي، وهو قياس الشمول أو قياس التمثيل ونحو ذلك، فإن كلاً من هذا وهذ يسمى قياساً. وقد تنازع الناس في اسم القياس: هل هو حقيقة في قياس التمثيل، مجاز في قياس الشمول؟ كما يقوله أبو حامد الغزالي وأبو محمد المقدسي وغيرها، أو هو حقيقة في قياس الشمول مجاز في قياس التمثيل؟ كما يقوله أبو محمد بن حزم وغيره، أو القياس حقيقة فيهما؟ كما يقوله الجمهور. على ثلاثة أقوال. وأيضاً فهم متنازعون في الجنسين: أيهما هو الذي يوصل إلى العلم؟ كثير من الناس من أهل النطق اليوناني ونحوهم يزعم أن الموصل إلى العلم هو قياس الشمول فقط دون قياس التمثيل، وكثير من أهل الكلام يرجح قياس التمثيل، ويقول: إن قياسهم المنطقي قياس الشمول قليل الفائدة أو عديمها. وحقيقة الأمر أن القياسين متلازمان، فكل قياس شمول هو متضمن لتمثيل، وكل قياس تمثيل هو متضمن لشمول، فأن القايس قياس التمثيل لا بد أن يعلق الحكم بالوصف المشترك، فإذا قال: النبيذ المسكر حرام لأنه مسكر، فكان حراماً كخمر العنب، فقد علق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 التحريم بالسكر، ولا بد له من دليل بدل على تعلق الحكم بذلك الوصف المشترك: إما بنص، أو إجماع، أوغير ذلك من الطرق الدالة على أن الحكم معلل بذلك الوصف المشترك بين الأصل والفرع، وهو الذي يسمى جواب المطالبة، فإن القايس إذا قاس توحه عليه منوع، أحدها: منع الحكم في الأصل. والثاني: منع ثبوت الوصف الذي علق به الحكم في الأصل. والثالث: منع وجوده في الفرع. وهذه الأسولة الثلاثة قد يسهل جوابها، والرابع: منع علة الوصف، وهو منع كون الحكم متعلقاً به، وهذا أعظم الأسولة. وذلك الوصف الذي علق به الحكم، يسمونه: علة، وسبباً، وداعياً، وموجباً، ومناطاً، وباعثاً، وأمارةً، وعلامة، ومشتركاً، وأمثال ذلك. ثم إذا أراد المستدل أن يصوغ هذا قياس شمول، قال: النبيذ مسكر، كل مسكر حرام، ولا بد له من إثبات هذه القضية الكبرى، وهو قوله: كل مسكر حرام، كما يحتاج الأول إلى إثبات كون السكر هو مناط التحريم، والذي جعله الأول مناط الحكم، جعله الثاني الحد الأوسط المتكرر في المقدمتين، ولا بد لكل منهما من الدلالة على ذلك، وكل من القياسين يتضمن حكماً عاماً كلياً، ولهذا اتفق أرباب القياس الشمولي المنطقي على أنه لا بد فيه من قضية كلية، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 واتفق أرباب القياس التمثيلي على أنه لا بد فيه من مشترك بين الأصل والفرع، والمشترك هو الكلي، لكن في قياس الشمول لا يجب أن يبين ثبوت الكلي في صورة من الصور المعنية، بل يقول الرجل: السواد والبياص لا يجتمعان، وإن لم يعين سواداً أو بياضاً معينين، ويقول: الكل أعظم من الجزء، ولا يعين شيئاً. وأما قياس التمثيل فلا بد فيه من تعيين أصل يقاس به الفرع ويمثل به، فيقال: هذا السواد وهذا البياض لا يجتمعان، فكذلك سائر السواد والبياض. وهذا الكل أعظم من هذا الجزء، وهلم جراً. ويقول أهل التمثيل: هذا أنفع لأن الكليات لاوجود لها في الأعيان، إنما وجودها في الأذهان، فإذا مثل الفرع بمعين ثابت في الخارج أفاد ذلك معرفة شيء موجود معين، بخلاف الكلي الذي لا تتمثل أعيانه في الخارج. ولهذا كل متكلم في كليات مقدرة لا يتصور أعيانها الموجودة في الخارج، فإما أن يكون كلامه قليل الفائدة، بل عديمها، وإما أن يكون كثير الخطأ والغلط، وإما أن يجتمع فيه الأمران. ويقولون أيضاً: إن العلم بكل واحد واحد من الأعيان يحصل بما به يحصل المعين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 الآخر، فإنا إذا قلنا: الكل أعظم من الجزء، كان علمنا بأن هذا الكل أعظم من هذا الجزء، كعلمنا بذلك في الكل الآخر، فلم نستفد بالقضية الكلية علماً بمعين، إلا والعلم بذلك المعين مستغن عن القضية الكلية، ففيه تطويل بلا فائدة. ويقول أهل قياس الشمول: بل قياس التمثيل لا يفيد إلا بتوسط تعليق الحكم بالمشترك، وهو الحد الأوسط، فلا بد فيه من قضية كلية أيضاً، لكن قد يدعي القايس الممثل تعليق الحكم بالمشترك بمجرد التمثيل، ولا يقيم دليلاً على أن الوصف المشترك الجامع بين الأصل والفرع هو مناط الحكم الذي هو الحد الأوسط، وربما أثبت ذلك بطرق لا تفيد العلم، كالاستقراء الناقص الذي هو من نوع السبر والتقسيم ونحو ذلك، ففي كل من القياسين قضية كلية، لكن صاحب الشمول يثبتها وصاحب التمثيل لا يثبتها. قال أصحاب التمثيل: بل صاحب الشمول لا يمكنه إثباته إلا بطريق التمثيل، وإلا فإذا نازعه المنازع في الشمول والعموم، لم يكن له طريق إلا ذكر الأعيان بأن يقول: هذا الكل أعظم من هذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 الجزء، وإذا قيل: بل العقل يقضي بالقضية الكلية قضاءً عاماً. قيل: إنما كان ذاك بواسطة علمه بالجزئيات، فيعود إلى التمثيل. ولهذا توجد عامة قضاياهم الكلية منتقضة باطلة، لأنهم يدعون فيها العموم، بناءً على ما عرفوه من التجارب والعادات، وتكون تلك منتقضة في نفس الأمر كما هو الواقع، فإن من قال: كل نار فإنها تحرق ما لاقته، إنما قاله لأجل إحساسه بما أحس به من جزئيات هذا الكلي، وقد انتفض ذلك عليه بملاقاتها للياقوت والسمندل وغير ذلك، وبسط الكلام في هذا له موضع آخر. والمقصود هنا التنبيه على أن كل واحد من قياس التمثيل والشمول يفيد أمراً كلياً مطلقاً بواسطته يحصل العلم بالمعينات الموجودة في الخارج، ثم قد يكون العلم بتلك المعينات غنياً عن ذينك القياسين، والمعين الذي لا نظير به لا يعلم لا بهذا القياس ولا بهذا القياس، وقد تكون الكلية منتقضة، فالقياس لا يحصل بنفسه العلم بالمعينات، وقد لا يحصل العلم به مطلقاً، وقد يكون كثير الانتقاض، بخلاف النصوص النبوية، فإنها لا تكون إلا حقاً، وهي تخبر عن المعينات على ما هي عليه. وأعظم المطالب العلم بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأمره، ونهيه، وهذا كله لا تنال خصائصه لا بقياس الشمول ولا بقياس التمثيل، فإن الله تعالى لامثل له فيقاس به، ولا يدخل هو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها، فلهذا كانت طريقة القرآن - وهي طريقة السلف والائمة - أنهم لا يستعملون في الإلهيات قياس تمثيل وقياس شمول تستوي أفراده، بل يستعملون من هذا وهذا قياس الأولى، فإن الله له المثل الأعلى، فإذا أدخل هو - سبحانه - وغيره تحت قضية كلية، مثل أن يقال: القائم بنفسه لا يفتقر إلى المحل كما يفتقر العرض مثلاً، أو قيل: كل موجود فله خاصية لا يشركه فيها غيره ونحو ذلك - كان هو سبحانه أحق بمثل هذه الأمور من سائر الموجودات، فهو أحق بالغنى عن المحل من كل قائم بنفسه، وهو أحق بانتقاء المشارك له في خصائصه من كل موجود. وكذلك إذا قيس قياس تمثيل فكل كمال يستحقه موجود من جهة وجوده فالوجود الواجب أحق بتنزيه عنه، وهو أحق بانتفاء أحكام العدم وأنواعه وأشباهه وملزوماته عنه من كل موجود. وإذا كان الأمر الوجودي كالرؤية مثلاً لا يتعلق إلا بأمور موجودة لا يجوز أن تتعلق بمعدوم، لأن العدم لا يكون سبباً للوجود، وكان كل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 ما كان أكمل وجوداً كان أحق بأن يرى، كان الباري سبحانه بأن يرى أحق من كل موجود، وإذا كان تعذر الرؤية أحياناً قد يكون لضعف الأبصار، وكان في الموجودات القائمة بنفسها ما تتعذر أحياناً رؤيته لضعف أبصارنا في الدنيا، كان ضعفها في الدنيا عن رؤيته أولى وأولى. وليس المقصود هنا الكلام على أعيان المسائل، ولكن المقصود بيان مسمى القياس، وأنه وإن كان قد يحصل به من العلوم أمور عظيمة، فإنه لا يحصل به كل مطلوب، ولا يطرد في كل شيء. فطرق العلم ثلاث: أحدها: الحس الباطن والظاهر، وهو الذي تعلم به الأمور الموجودة بأعيانها. والثاني: الاعتبار بالنظر والقياس، وإنما يحصل العلم به بعد العلم بالحس، فما إفاده الحس معيناً يفيده العقل والقياس كلياً مطلقاً، فهو لا يفيد بنفسه علم شيء معين، لكن يجعل الخاص عاماً، والمعين مطلقاً، فإن الكليات إنما تعلم بالعقل، كما أن المعينات إنما تعلم بالإحساس. والثالث: الخبر، والخبر يتناول الكليات والمعينات والشاهد والغائب، فهو أعم وأشمل، لكن الحس والعيان أتم أكمل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 وقد تنازع الناس في السمع والبصر إيهما أكمل؟ فذهبت طائفة منهم ابن قتيبة إلى أن السمع أكمل، لعموم ما يعلم به وشموله. وذهب الجمهور إلى أن البصر أكمل، فليس المخبر كالمعاين، وليس كل ما يعاين يمكن الإخبار عنه، وليس العلم الحاصل بالخبر كالعلم الحاصل بالعيان، وإن كان الخبر لا ريب في صدقه، لكن نفس المرئي المعاين لا يحصل العلم به قبل العيان كما يحصل عن العيان. والتحقيق في هذا الباب أن العيان أتم وأكمل، والسماع أعم وأشمل، فيمكن أن يعلم بالسماع والخبر أضعاف ما يمكن علمه بالعيان والبصر أضعافاً مضاعفة، ولهذا كان الغيب كله إنما يعلم بالسماع والخبر، ثم يصير المغيب شهادة، والمخبر عنه معايناً، وعلم اليقين عين اليقين. والمقصود هنا أن الخبر أيضاً لا يفيد إلا مع الحس أو العقل، فإن المخبر عنه، إن كان قد شوهد، كان قد علم بالحس، وإن لم يكن شوهد ما يشبهه من بعض الوجوه، وإلا لم يعلم بالخبر شيء فلا يفيد الخبر إلا بعد الحس والعقل، فكما أن العقل بعد الحس، فالخبر بعد العقل والحس، فالإخبار يتضمن هذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 وهذا، وكما أنه ليس كل ما علم بالخبر والسماع يمكن اعتباره بالقياس، إما لعدم النظير له من كل وجه، وإما لغير ذلك. ثم إذا كان الخبر صادقاً لا كذب فيه، أمن معه من الانتفاض والفساد، بخلاف القياس، فإن كثيراً مما يبني فيه على قضايا كلية تكون منتقضة، وإن كان فيه ما ليس منتقضاً. والمقصود أنه ليس كل شيء يمكن علمه بالقياس، ولا كل شيء يحتاج فيه إلى القياس، فلهذا قال الأئمة: ليس في المنصوصات النبوية قياس. وأما كونها لا تعارض بالأمثال المضروبة، فهذا الذي ذكرناه من أن المنصوص لا يعارضه دليل عقلي صحيح. أما قولهم: لا تدرك بالعقول، فإن نفس الغريزة العقلية التي تكون للشخص قد تعجز عن إدراك كثير من الأمور، لا سيما الغائبات، فمن رام بعقل نفسه أن يدرك كل شيء كان جاهلاً، لا سيما إذا طعن في الطرق السمعية النبوية الخبرية. وهذا هو الذي يسلكه من يسلكه من الفلاسفة ومن يشبههم من أهل الكلام. وهؤلاء هم الذين يذكر أبوحامد الغزالي وغيره تهافتهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 وتناقضهم، وأن ما يدعونه من المعارف الإلهية بعقولهم جمهوره باطل، وإن كان قد وقع في كلامه من كلام هؤلاء أمور، قيل أنه رجع عنها. ولا ريب أن الرسل صلوات الله عليهم يخبرون الخلق بما تعجز عقولهم عن معرفته، ولا يخبرونهم بما يعلمون امتناعه، فهم يخبرنهم بمحارات العقول لا بمحالاتها، فمن أراد أن يعرف ما أخبرت به الرسل بعقله، كان شبيهاً بمن قال الله تعالى فيه: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته} ، وقال: {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة} . كلام آخر للخطابي وتعليق ابن تيمية قال الخطابي: (وذهب العلماء إلى خلاف هذا الرأي، وجعلوا المعلومات قسمين: قسم يمكن استدراكه وتثبيته حقيقة، وقسم لا يعلم إلا ظاهره ولا يتعرض لعلم باطنه وطلب كيفيته، وانتهوا في ذلك إلى ما نطق به الكتاب، وقوله سبحانه: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به} ، يجعلون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 الوقف عند قوله: {إلا الله} ويستأنفون الكلام فيما بعده، وهو مذهب الصحابة، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وعائشة، وابن عباس، قالوا: وقد حجب عنا أنواع من العلم، كعلم قيام الساعة، وكعلم الروح، حين يقول: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} ، وقال تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} ، وقال: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} . قلت: قد ذكرنا معنى لفظ (التأويل) في غير هذا الموضع، وأنه في اللغة التي نزل بها القرآن يراد به: حقيقة الشيء كالكيفية التي لا يعلمها إلا الله، كما قال مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول) . ويراد به التفسير، وهو كقوله: (الاستواء معلوم) فإنه تفسيره ومعناه معلوم) ويراد به تحريف الكلم عن مواضعه، كتأويلات الجهمية، مثل تأويل من تأول: استوى بمعنى استولى. وهذا الذي اتفق السلف والأئمة على بطلانه وذم أصحابه. ومثل هذا لا يقال فيه: لا يعلمه إلا الله، بل يقال: إنه باطل وتحريف وكذب، ولكن في القسم الأول يقال: لا يعلمه إلا الله، وأما القسم الثاني فيعلمه الله، وقد يعلمه الراسخون في العلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 قال الخطابي: (فلم ينته أهل التعمق من المتكلمين حتى تكلموا في الروح وتكلموا في القدر، والتعديل والتجويز، وتكلموا في النفس والعقل وما بينهما، وتكلموا في أشياء لا تعنيهم ولا تجدي عليهم. شيئاً. كالكلام في الجزء والطفرة وما أشبه ذلك من الأمور التي لا طائل لها، ولا فائدة فيها، فزجر العلماء عن الخوض في هذه الأمور، وخافوا فتنتها، والخروج منها إلى ما يفضي بالمرء إلى أنواع من المكروه: من الأقوال الشنعة، والمذاهب الفاسدة، ورأوا أن يقتصروا من الكلام على ما انتهى إليه بيان الدين، وتوقيف الشريعة) . قلت: فقد ذكر الخطابي في الكلام المذموم ما لا يد ركه الإنسان بعقله، وما لا فائدة فيه. وما لا يدركه الإنسان بعقله إذا تكلم بلا علم، والكلام بلا علم ذمه الله في كتابه، وما لا فائدة فيه هو من باب ما لا يعني الإنسان ولا يفيده، ومن باب العلم الذي لا ينفع، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع. ولهذا يقال: العلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول، وهذان النوعان هما اللذان يذكرهما أبو حامد وغيره في وصف غير العلوم الشرعية، فيقول: (هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها - ونعوذ بالله من علم لا ينفع - وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها، وإن بعض الظن إثم. فالأول كالعلم بدقائق الهيئة، وحركات الكواكب، وغير ذلك مما هو بعد التعب الكثير لا يفيد إلا تضييع الزمان، وتعذيب الحيوان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 والثاني كالعلم بأحكام النجوم، التي غلبها ظنون لا تغني من الحق شيئاً، والخطأ فيها أكثر من الصواب، والكذب فيها أكثر من الصدق) . وهذان النوعان غير ما ذكر أولاً، ذمه لما فيه من الخطر والعسر والعجز. وهذه الثلاثة غير ما هو كذب في نفسه وباطل، فإن هذا هو الكلام المذموم في نفسه، فما كان كذباً غير مطابق للحق فهو مذموم في نفسه، بخلاف ما فيه عسر وهو حق، فإن هذا، وإن ذم من وجه فقد يحمد من وجه آخر، بخلاف ما لا يدركه الإنسان، أو ما لا فائدة فيه، فإن هذا قد يقال: إن مضرته تضييع الزمان من جنس اللعب واللهو الذي لا ينفع، أو من جنس البطالة وتضييع الزمان، لكن متى أفضى بصاحبة إلى اعتقاد الباطل حقاً، والكذب صدقاً، كان من القسم المذموم بنفسه. وكل كلام ناقض نصوص الأنبياء فإنه من الكلام المذموم بنفسه، وهو باطل قطعاً. وأما قوله: (وتكلموا في الروح، والقدر، والتعديل والتجوير، والعقل والنفس) فقد يظن أن الكلام في هذا مذموم مطلقاً، وليس كذلك. بل الكلام في ذلك وغيره بالحق النافع لا يذم، وإنما يذم الكلام الباطل، والكلام بلا علم، والكلام الحق لمن يعجز عن معرفته. كما قال ابن مسعود: ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. وقال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ وأما الكلام الحق النافع فهو محمود غير مذموم. قال الخطابي: (ثم إن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج الناس إليه نصاً وتسمية، فاحتجنا إلى انتزاع أحكام الحوادث في ضمن الأسماء والنصوص، من طريق المعاني والمعقول من النصوص، فاستنبطه العلماء وتكلموا فيه من طريق القياس، ولم يتجاوزوه إلى الكلام فيما لا أصل له من الكتاب والسنة، ولم يتعرضوا لما ورد الكتاب - ثم السنة - بالزجر عنه وعن الخوض فيه، وكان هذا موضع الفرق بين الكلامين) . قال: (وقد أشار الشافعي إلى هذه الجملة، وأبان عنها بما زجر عنه من النظر في الكلام، وعابه من مذاهب المتكلمين. وبما زجر عنه من التقليد وجب عليه من النظر والاستدلال، فعلمنا أن زجر عنه ليس هو الذي أمر به، وتبينا أن له في الأصول مذهباً ثالثاً، ليس بالتقليد ولا بالتجريد لمذاهب المقتحمين في غمرات الكلام، والخائضين في أوديته، وإنما هو الاستدلال بمعقول أصول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 الدين، التي مرجعها إلى علوم الحس ومقدماتها، والنظر المتعلق بالأصول التي هي الكتاب والسنة الصحيحة التي ينقطع العذر بها) . قال: (ونحن لم نعد فيما أوردنا من الكلام في كتاب شعار الدين هذه الجملة، وإن كان الذي عبناه في مسألة الغنية عن الكلام هو المذهب الآخر الذي تقدم ذكرنا له، وهو مذهب الغلو والأفراط، وما يقابله من مذاهب من يرى التقليد، ولا يقول بحجج العقول، فهو في التفريط والتقصير مواز لمذاهب المتكلمين في الغلو والأفراط. والطريقة المثلى هي القصد والاعتدال، وهو ما نختاره ونذهب إليه) . قال: (وسبيل ما نأتيه ونذره من هذا الباب سبيل القياس، فإنا نستعمله في مواضع ونأباه في مواضع، فلا يكون ذلك منا مناقضة، وكذلك ما نطلقه من جواز الكلام في موضع، وكراهته في موضع آخر. والأصل في مذاهب الناس كلهم ثلاث مقالات: القول بالحس حسب، وهو مذهب الدهرية، فإنهم قالوا بما يدركه الحس، لم يقولوا بمعقول ولا خبر وقال قوم بالحس والمعقول حسب، ولم يقولوا بالخبر، وهو مذهب الفلاسفة، لأنهم لا يثبتون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 النبوة. وقال أهل المقالة الثالثة بالحس والنظر الأثر، وهو جماعة المسلمين، وهو قول عمائنا وبه نقول) . قلت: تفصيل مقالات الناس مبسوط في غير هذا الموضع، فإن الدهرية لا تنكر جنس المعقول، بل تنكر من المعقول ما لا يكون جنسه محسوساً. وهذا فيه كلام مبسوط في غير هذا الموضع، وإنما كفروا بإنكارهم الغيب الذي أخبرت به الرسل. والفلاسفة أيضاً لا تنكر جنس الخبر، بل تقول بالأخبار المتواترة وغيرها. ولكن ينكرون استفادة الأمور الغائبة بأخبار الأنبياء، وهم قد يعظمون الأنبياء - صلوات الله عليهم - ويوجبون اتباع شرائعهم، ويأمرون بقتل من يخرج عنها، لكن يجعلون مقصودها هو إقامة مصالح الناس في دنياهم بالعدل الذي شرعته الأنبياء. وأما الأمور الإلهية والمعاد ونحو ذلك، فيزعمون أنهم لم يخبروا عنها بما يحصل به العلم، ولكن خاطبوا الناس فيه بطريق التخييل وضرب المثل الذي ينتفع به الجمهور. وحقيقة قولهم هو ما ذكره الخطابي من أنهم لا يجعلون خبر الأنبياء طريقاً إلى العلم، وقد ذكرنا من كلام من دخل معهم في هذا الأصل الفاسد، من المنتسبين إلى المسلمين، ما تبين به هذا الأصل، وبينا من ضلالهم وكذبهم في هذا القول ما قد بسط في موضعه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 333 وحقيقة ما يزعمونه في المعقول إنما هو أمور ذهنية كلية، قائمة في الذهن، لا حقيقة لها في الخارج. وما يثبتونه من المجردات العقليات، بل وواجب الوجود الذي يثبتونه وغير ذلك، يعود إلى هذا. ومن هنا استطال عليهم إخوانهم الفلاسفة الطبيعية والدهرية، فإن أولئك لم ينكروا مثل هذه العقليات، ولكن أنكروا وجود هذه في الخارج، وادعوا أن كل موجود في الخارج فلا بد أن يمكن إحساسه، والفريقان جميعاً كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله من الإخبار بالغيب إلا من كان منهم من الصابئة الحنفاء الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحاً، فأولئك هم سعداء في الآخرة. كما قال تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} . وأما الصابئة المشركون، الذين يعبدون الكواكب والأوثان، ونحوهم من الفلاسفة المشركين، فهؤلاء كفار كسائر المشركين. والفلسفة اليونانية - فلسفة المشائين - عامتها من هذه الفلسفة، فإن اليونان كانوا مشركين يعبدون الكواكب والأوثان، وفي مقالاتهم حق وباطل، كما في مقالات مشركي العرب والهند وغيرهم من أصناف المشركين، وهذا مبسوط في موضعه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 وأما ما ذكره الخطابي من القياس والاعتبار في الأحكام الشرعية. وأن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج إليه الناس نصاً. فهذا كلام في القياس العلمي الشرعي، وهو مبسوط في موضعه. والناس في هذا بين إفراط وتفريط، كما هم كذلك في القياس العقلي الخبري. فطائفة تزعم أن أكثر الحوادث لا تتناولها النصوص، بل إنما تعلم بالقياس. وطائفة بآرائهم يزعمون أن القياس كله باطل، حتى يردون الاستدلال المسمى بتنقيح المناط، ويردون قياس الأولى وفحوى الخطاب، والعلة المنصوصة، ويرجعون إلى العموم واستصحاب الحال. وكل من الطائفتين مخطئة غالطة، فإن الطائفة الأولى بخست الكتاب والسنة حقهما، وقصرت في معرفتهما وفهمهما، واعتصمت بأنواع من الأقيسة الطردية التي تغنى من شيئاً، أو بتقليد قول من لا تعرف حجة قائله. وكثيراً ما تجد هؤلاء إذا فتشت حجتهم إنما هي مجرد دعوى. بأن يظن أحدهم أن الحكم الثابت في الأصل معلق بالوصف المشترك، من غير دليل يدله على ذلك، بل بمجرد اشتباه قام في نفسه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 أو بمجرد استحسان ورأي ظن به أن مثل ذلك الحكم ينبغي تعليقه بذلك الوصف، وأحدهم يبني الباب على مثل هذه القواعد، التي متى حوقق عليها سقط بناؤه، وربما تمسكوا من الآثار الضعيفة بما يعلم أهل المعرفة بالأثر أنه من الموضوع المكذوب، فضلاً عن أن يكون من كلام المعصوم. وقد يتمسكون بما يظهر له من ألفاظ المعصوم، ولا تكون داله على ما فهموه. وأما الطائفة الثانية فتعتصم من استصحاب الحال ونفي الحكم لعدم دليله - في زعم أحدهم - مع ظهور الأدلة الشرعية بما يبين به فساد قولها، ويفرق بين المتماثلين تفريقاً لا يأتى به عاقل، فضلاً عن نبي معصوم، وتجمد على ما تراه ظاهر النص من خطائها في فهم النص ومراد قائله، وتسلب الشريعة حكمها ومحاسنها ومعانيها، وتضيف إلى الله ورسوله من التحكم المنافي للعدل والإحسان، ما يجب أن ينزه عنه الملك العادل، والرجل العاقل. والناس كلهم متفقون على الاجتهاد والتفقه، الذي يحتاج فيه إلى إدخال القضايا المعينة تحت الأحكام الكلية العامة، التي نطق بها الكتاب والسنة. وهذا هو الذي يسمى تحقيق المناط، كالاجتهاد في تعيين القبلة عند الاشتباه، والاجتهاد في عدل الشخص المعين، والنفقه بالمعروف للمرأة المعينة، والمثل لنوع الصيد أو للصيد المعين، المثل الواجب في إتلاف المال المعين، وصلة الرحم الواجبة، ودخول أنواع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 من المسكرات في اسم الخمر، وأنواع من المعاملات في اسم الربا والميسر، وأمثال ذلك مما فيه إدخال أعيان تحت نوع، وإدخال نوع خاص تحت نوع أعم منه. فهذا الاجتهاد مما اتفق عليه العلماء، وهو ضروري في كل شريعة، فإن الشارع غاية ما يمكنه بان الأحكام بالأسماء العامة الكلية، ثم يحتاج إلى معرفة دخول ما هو أخص منها تحتها من الأنواع والأعيان. وقد احتج من احتج من الأئمة المثبتين للقياس عليه بمثل هذا القياس، وأن القرآن العزيز ورد بمثل هذا في القبلة، وجزاء الصيد، وعدل الشخص، ونحو ذلك. وهذا لا حجة فيه، فإن مثل هذا لا نزاع فيه، وهو ضروري لا بد منه، ولا يمكن إثبات حكم النوع - أو عين - إلا بمثل هذا. ونفاة القياس لا يسمونه قياساً، وإن سماه المسمي قياساً كان نزاعاً لفظياً. والتحقيق أن دخول الأعيان في المعنى العام الذي دل عليه الخطاب، هو من قياس الشمول، وأن تمثيل بعض الأعيان والأنواع ببعض، هو من قياس التمثيل، لكن شمول اللفظ لهذا ولهذا بطريق العموم يغني عن قياس التمثيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 ونفاة القياس المعروفون بالسنة لا ينازعون في العموم، وإن سماه الممي قياساً كلياً، بل هو عمدتهم وعصمتهم، هو واستصحاب الحال. فهذا نوع. ومن نازع في القياس والعموم جميعاً - كما فعل ذلك من فعله من الرافضة - فهؤلاء سدوا على أنفسهم طريق معرفة الأحكام، فلهذا يحتجون بما يزعمون أنه قول المعصوم. ومن الناس من يظن أن العلة المنصوصة هي المسماة بتحقيق المناط، وهي داخلة فيه. وليس كذلك، فإن هذه فيها نزاع. وهنا نوع ثان يسمى تنقيح المناط، وهو أن يكون الشارع قد نص على الحكم في عين معينة، وقد علم بالنص والإجماع أن الحكم لا يختص بها، بل يتناولها وغيرها، فيحتاج أن ينقح مناط الحكم، أي يميز الوصف الذي تعلق به ذلك الحكم، بحيث لا يزداد عليه ولا ينقص منه. وهذا كأمره صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي استفتاه لما جامع امرأته في رمضان بالكفارة، ثم لما أتى العرق، قال: أطعمه أهلك وأمره لمن سأله عن فأرة وقعت في سمن بأن تلقى وما حولها ويأكل السمن. وأمره لمن سأله عمن أحرم بعمرة، وعليه جبة، وهو متضمخ بخلوق، أن ينزع عنه الجبة، ويغسل الخلوق، ويصنع في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 عمرته ما كان صانعاً في حجته. وأمره لمن ابتاع صاعاً جيداً من التمر بصاعين من الرديء، أن يبيع الرديء بدراهم ثم يبتاع بها جيداً. ومثل أمره لبريرة لما عتقت أن تختار. ومثل رجمه لماعز والغامدية، وقطعه لسارق رداء صفوان والمخزومية وغيرهما، وأمثال ذلك. فإنه من المعلوم لجميع العلماء أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم ليس مخصوصاً بتلك الأعيان، بل يتناول ما كان مثلها، لكن يحتاجون إلى معرفة مناط المشترك الذي به علق الشارع الحكم. وهذا قد يكون ظاهراً، وقد يكون خفياً. فالظاهر: مثل كون سبب الرجم هو زنا المحصن، وسبب القطع هو السرقة. والخفي: مثل كون الكفارة وجبت لخصوص الجماع، أو لعموم الإفطار. وهل وجبت لنوع من الإفطار، أو لجنسه؟ وهل وجب لوقاع في صوم صحيح في رمضان، أو لوقاع في صوم واجب في رمضان؟ سواء كان صحيحاً أو فاسداً؟ كما يجب في الإحرام الواجب، سواء كان صحيحاً أو فاسداً فهذه مما تنازع فيه الفقهاء. وكذلك لما أجاب عن الفأرة التي وقعت في السمن، فلا ريب أن الحكم ليس مخصوصاً بتلك الفأرة والسمن، ولا بنوع من الفأر ونوع من الأسمان، فلا بد من إثبات حكم عام. وهذا النوع يقر به كثير من منكري القياس، أو أكثرهم. وكثير من الفقهاء لا يسميه قياساً، بل يثبتون به الكفارات والحدود، وإن كانوا لا يثبتون ذلك بالقياس، فإنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 هنا قد علم يقيناً أن الحكم ليس مخصوصاً بمورد النص، فلا يجوز نفيه عما سواه بالاتفاق، كما يمكن ذلك في صور القياس المحض المسمى بتخريج المناط، فإنه لما نهى عن التفاضل في الأصناف الستة لم يعلم أن حكم غيرها حكمها، إلا بدليل يدل على ذلك. ولهذا كان بعض نفاة القياس لما حكموا في مثل هذا بأن الحكم مخصوص بفأرة وقعت في سمن، دون سائر الميتات والنجاسات الواقعة في سائر المائعات، ظهر خطاؤهم يقيناً، فإن الشارع - صلوات الله عليه - لم يعلق الحكم في خطابه بفأره وقعت في سمن، ولكن السائل سأله عن ذلك، والسائل إذا سأل عن حكم عين معينة، أو نوع باسمه، لم يجب أن يكون الحكم معلقاً مختصاً بما سأل عنه السائل، بل قد يكون ما سأل عنه السائل داخلاً في حكم عام، كما إذا سئل عن عين معينة لم يكن الحكم مخصوصاً بتلك العين، ولا فرق بين أن يسأل عن عين أونوع، فليس في جوابه ما يقتضي اختصاص الحكم بمورد السؤال، فهذا من أعظم الغلط. وهنا يظهر تفاضل العلماء بما آتاهم الله من العلم، فمن استخرج المناط الذي دل عليه الكتاب والسنة، دل على فهمه لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل أن يقول القائل: الحكم هنا ليس متعلقاً بمجرد الميتة، بل بالخبيث الذي قال الله تعالى فيه: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} ، فإن الميتة، وإن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 شاركت الخنزير والدم في التحريم، فقد شمل الجميع اسم الخبيث، فالتحريم متناول للوصف العام، ليس مخصوصاً بنوع من الأنواع، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيه دليل على الاختصاص بنوع، لتعلق الحكم بالوصف العام المشترك - وهو الخبث - فيكون الخبيث الجامد الواقع في السمن حكمه حكم الفأرة، سواء كان دماً أو ميتة متجسدة، ونحو ذلك. ثم ينظر في السمن فيعلم أنه لا اختصاص في الشرع له بذلك، بل سائر الأدهان كذلك ثم سائر المائعات كذلك، ثم يبقى النظر: هل يفرق بين الماء وسائر المائعات؟ أو يسوي بينهما؟ وهل يفرق بين الجامد والمائع أو يسوى بينهما؟ وهل يفرق بين القليل والكثير، أو يسوى بينهما؟ هذا من المواضع الخفية التي تنازع فيها العلماء. والمقصود هنا أن مثل هذا لا يرده إلا جهلة نفاة القياس. وكذلك العلة المنصوصة، وكذلك القياس في معنى الأصل، وقياس الأولى. وأما القياس الذي يستخرج علة الأصل فيه بالمناسبة، فهذا محل اجتهاد. ولهذا تنازع الفقهاء القياسون من أصحاب أحمد وغيرهم في ذلك، فمنهم من لا يقول إلا بالعلة المنصوصة، ومنهم من يقول بالمؤثر، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 وهو ما نص على تأثيره في نظير ذلك الحكم، كالصغر فإنه قد علم أن الشارع علق به ولاية المال، فإذا علق به ولاية النكاح كان هذا إثباتاً لعلة هذا الحكم بنظيره المؤثر. وأما إذا لم يكن مؤثراً، فهو الذي يسمونه المناسب الغريب، وفيه قولان مشهوران، فإنه استدلال على أن الشرع علق الحكم بالوصف لمجرد ما رأيناه من المصلحة. ومن تدبر الأدلة الشرعية: منصوصها ومستنبطها، تبين له أن القياس الصحيح هو التسوية بين المتماثلين، وهو من العدل الذي أمر الله به ورسوله، وأنه حق لا يجوز أن يكون باطلاً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بالعدل، فلم يسو بين شيئين في حكم إلا لاستوائهما فيما يقضي تلك التسوية، ولم يفرق بين اثنين في حكم إلا لافتراقهما فيما يقتضي ذلك الفرق، ولا يجوز أن يتناقض قياس صحيح ونص صحيح، كما لا يتناقض معقول صريح ومننقول صحيح، بل إذا ظن بعض الناس تعارض النص والقياس، كان أحد الأمرين لازماً: إما أن القياس فاسد، وإما أن النص لا دلالة له. ومع هذا فالكتاب والسنة بينا جميع الأحكام بالأسماء العامة، لكن يحتاج إدخال الأعيان في ذلك إلى فهم دقيق ونظر ثاقب، لإدخال كل معين تحت نوع، وإدخال ذلك النوع تحت نوع آخر بينه الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 وحينئذ فكل من الحوادث شملها خطاب الشارع، وتناولها الاعتبار الصحيح. وخطاب الشارع العام الشامل دل عليها بطريق العموم الذي يرجع إلى تحقيق المناط، وهو في معنى قياس الشمول البرهاني. والاعتبار الصحيح تناولها بطريق قياس التمثيل، الذي يتضمن التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين. والتماثل والاختلاف ثابت في نفس الأمر، وقد نصب الله عليه أدلة تدل عليه، وكما أن القياس الشمولي والتمثيلي يرجعان إلى أصل واحد، ولا يجوز تناقضهما إلا مع فسادهما أو فساد أحدهما، فكذلك الخطاب العام والاعتبار الصحيح يرجعان إلى أصل واحد، ولا يجوز تناقضهما إلا لفساد دلالتهما أو أدلة أحدهما. وهذا تنبيه على مجامع نظر الأولين والآخرين في جميع استدلالهم، ومن تبصر في ذلك وفهمه وعلم ما فيه من الأحاطة. وبين له أن دلائل الله تعالى لا تتناقض، وأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الموافق لصرائح المعقول، وأن ما شرعه للعباد هو العدل الذي به صلاح المعاش والمعاد، وإن فهم - مع ذلك - مسألة التحسين والتقبيح العقلي، وارتباطها بمسألة المناسبات، ورجوع جنس التحسين والتقبيح إلى حصول المحبوب ودفع المكروه - هو المعروف والمنكر - كما يرجع جنس الخبر إلى الوجود والعدم، وإن هذا يرجع إلى الحق النافع، وفي مقابلته الباطل الذي لا ينفع، وهذا يرجع إلى الحق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 الموجود، وفي مقابلته المعدوم - تبين به أيضاً تناسب جميع العلوم الصحيحة، والموجودات المعتدلة، والشرائع الإلهية، وأعطى كل ذي حق حقه: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} ، {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} . وإذا أحسن الاعتبار، تبين له ما في منطق اليونان وفلسفتهم من الصواب والخطأ في الحد والبرهان، لت سيما في مواد القياس والبرهان، وتبين له كثير من خطأهم في التفريق بين المتماثلين، والتسوية بين المختلفين، مثلما ذكروه في مواد البرهان من قبول بعض القضايا التي سموها يقينية واعتقدوها كلية، وليس الأمر كذلك، وردهم لبعض القضايا التي سموها مشهورات ووهميات، مع كونها قد تكون أقوى من كثير من القضايا التي سموها يقينية، كما قد ذكر في غير هذا الموضع، فهذا لمعة من كلام علماء الكلام وغيرهم في طريقة الأعراض ونحوها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وأما كلام الفلاسفة في هذا الباب، فقال القاضي أبو الوليد بن رشد الحفيد في كتابه المعروف بالأصول في العقائد: (قد رأيت أن أفصح في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها، ونتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم بحسب الجهد والاستطاعة، فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة، كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى، وأن من خالفه: إما مبتدع، وإما كافر مستباح الدم والمال، وهذا كله عدول عن مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم، وسببه ما عرض لهم من الضلال عن مقصد فهم الشريعة. وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة: الطائفة التي تسمى بالأشعرية، والتي تسمى بالمعتزلة، والطائفة التي تسمى بالباطنية، والطائفة التي تسمى بالحشوية. وكل هذا الطوئف قد اعتقدت في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 الله اعتقادات مختلفة، وصرفت كثيراً من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها في تلك الاعتقادات، وزعم كل منهم أن اعتقاده هو الشريعة الأولى التي قصد بالحمل عليها جميع الناس، وأن من زاغ عنها فهو: إما كافر، وإما مبتدع. وإذا تؤملت جميعها وتؤمل مقصد الشرع، ظهر أن جلها أقاويل محدثة، وتأويلات مبتدعة. وأنا أذكر من ذلك ما يجري مجرى العقائد الواجبة في الشرع، الذي لا يتم الإيمان إلا به، وأتحرى في ذلك مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم، دون ما جعل أصلاً في الشرع، وعقيدة من عقائده، من قبل التأويل الذي ليس بصحيح، وأبدأ من ذلك بتعريف ما قصد الشارع أن يعتقده الجمهور في الله تبارك وتعالى، والطرق التي سلك بهم في ذلك، وذلك في الكتاب العزيز. ونبتدي من ذلك بمعرفة الطريق التي تفضي إلى وجود الصانع، إذ كانت أول معرفة يجب أن يعلمها المكلف، وقبل ذلك فينبغي أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 نذكر آراء تلك الفرق المشهورة، فنقول: أما الفرقة التي تدعى بالحشوية، فإنهم قالوا: إن طريق معرفة وجود الله سبحانه هو السمع لا العقل، أعني أن الإيمان بوجوده الذي كلف الناس التصديق به، يكفي فيه أن يتلقى من صاحب الشرع ويؤمن به إيماناً، كما يتلقى منه أحوال المعاد وغير ذلك مما لا مدخل للعقل فيه) . قال: (وهذه الفرقة الظاهر منها أنها مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع، مفضية إلى معرفة وجود الله تبارك وتعالى) . تعليق ابن تيمية قلت: ليس المقصود هنا الكلام علىكل ما يقوله هذا الرجل، فإن حصره للمسلمين في هذه الطوائف الأربعة تقصير منه، إذ السلف والأئمة وخيار المسلمين ليس منهم واحد من هذه الطوائف، فإن المعتزلة قد عرفت بدعتهم عند المسلمين، والأشعرية جاءوا بعدهم، وما كان في كلامهم من حق فهو قول السلف والأئمة، وما كان فيه من باطل فهو مما أحدث، كأقوال المعتزلة وغيرهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 وأما الباطنية فهم أبعد عن السلف والأئمة من هؤلاء وهؤلاء. وأما الذي سماهم بالحشوية، فهذا الذي ذكره عنهم، إن يريد به أن الإيمان بوجود الرب تبارك وتعالى يكفي فيه مجرد إخبار من لم يعلم صدقه بعد، فهذا قول لا يقوله عاقل يعقل ما يقول، فضلاً عن أن يكون هذا قول طائفة لها قول، أو قول سلف الأمة وأئمتها، ولكن غاية ما قد يقال: إن الجزم بوجود الرب تعالى يكفي في الأيمان بأي طريق من الطرق حصل ذلك. وقد تنازع الناس في الجزم: هل يمكن أن يكون يغير علم أم لا؟ وهل يحصل الإيمان بدون العلم به أم لا؟ وإذا حصل الإيمان بدون العلم فهل بعد ذلك طلب العلم به أم لا؟ وتنازعوا في العلم به: هل يحصل ضرورة وموهبة أم لا يحصل إلا كسباً؟ ونحو ذلك من المسائل التي ليس هذا موضعها. وكذلك العلم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره من المخبرين، له طرق متنوعة ليس هذا موضعها. فغير الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخبر بشيء قد يعلم صدقه بوجوه متنوعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن يعلم صدقه كذلك. وقد يفرق في التصديق بين شخص وشخص. فهذا وأمثاله مما يقوله من يتكلم في العلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 فهؤلاء قد يقولون: العلم بوجود الرب هو فطري ضروري، لا يتوقف على النظر والعلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، مع ما يقترن برسالته من آيات الصدق التي تحصل أيضاً بالضرورة. وإذ حصل العلم بالصانع تعالى وبالرسول بعلوم ضرورية، أمكن بعد هذا أن يعلم تفصيل المعرفة بالله وصفاته وغير ذلك بطريق السماع من الرسول. ومما يبين هذا أن الذين خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم كان عامتهم مقرين بالصانع، وكانت آيات رسالته وأعلام نبوته أظهر عند طالب الحق من أن تخفى على عاقل. وأيضاً فقد يقال: إن من الناس من يحصل له العلم بحال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه عالم صادق فيما يذكره من العلوم الإلهية والمعارف الدينية، ثم يعرف من الرسول صلى الله عليه وسلم هذه العلموم كما قد يسلكه أبو حامد، وهذا الرجل، وغير واحد في العلم بالنبوة - فيقولون نعلم أن هذا نبي، كما نعلم أن هذا الطبيب، وأن هذا شاهد عدل، وأن هذا أمين، وسائر الصناعات، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 فإنه إذا علم وجود النوع كان العلم بأن هذا الشخص من أهل هذا النوع له طرق متنوعة. فهذا طريق تعرف به نبوة النبي قبل العلم بتفصيل العلوم الإلهية والدينية. وبالجملة فالعلم بنبوة النبي لها طرق كثيرة قد ذكرت في غير هذا الموضع. فالذين يسلكون في معرفة الله تعالى طريق السماع والخبر المجرد يعرفون صدق النبي أولاً، ثم يعلمون بخبره ما أخبر به. ولعلم بصدق النبي ليس موقوفاً على إثبات المقدمات التي يذكرها كثير من أهل الكلام، كالمعتزلة ومن تبعهم، لما سلكوا في ذلك طريق إثبات حدوث الأجسام، بما ادعوه من التركيب، وبما اتصفت به من الاختصاص، وبما قام بها من الأعراض والحوادث، وظنوا أنه لا طريق إلى العلم بصدق الرسول إلا هذه - أخذوا يشنعون على من لم يسلك هذه الطرق، أو قال ما يناقض مقدماتها. وقد عرف بطلان طريقهم شرعاً وعقلاً، ولهم ولنحوهم من أهل الكلام الباطل تشنيعات على أهل الجماعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 وقد تقدم من كلام أبي سليمان الخطابي وغيره في الغنية عن الكلام وأهله وبيان طريق المعرفة بهذا الموضع. ومثل هذا موجود في كلام عامة أئمة المسملين، فإنهم يذمون الطريق التي أحدثها أهل الكلام، كالمعتزلة ونحوهم. ولكن هؤلاء الذين ابتدعوها يذمون من لم يسلكها من عوام المسلمين وعلمائهم، ويسمونهم حشوية. فإن لفظ الحشوية أول ما عرف الذم به من كلام المتعتزلة ونحوهم، رووا عن عمر بن عبيد أنه قال: عبد الله بن عمر حشوياً وهم يسمون العامة الحشو، كما تسميهم الرافضة والفلاسفة الجمهور، ويسمون مذهب الجماعة مذهب الحشو. فما كان السلف والأئمة يردونهم إلى الشرع، وظنوا هم أن الشرع لا يدل إلا بمجرد خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا بطريق الإلزام، فيلزم أن يكون وجود الصانع تعالى يكفي فيه مجرد خبر الرسول بوجوده، وكان هذا من تقصيرهم في معرفة الشرع، فإن الشرع يتضمن بيان الدلائل العقلية التي يحتاج إليها وينتفع لها في هذا الباب. وقد اعترف بذلك أئمة طوائف الكلام والفلسفة الذين يقولون: لا تعرف إلا بالعقل، بل الذين يقولون بأن وجوب المعرفة والنظر ثابت في العقل، كما سنذكر إن شاء الله تعالى بعض كلامهم في ذلك. فإن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 الكتاب - والرسول - وإن كان يخبر أحياناً بخبر مجرد، كما يأمر أحياناً بأمر مجرد، فهو يذكر مع إخباره عن الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، من الدلالة والبيان والهدى والإرشاد، ما يبين الطرق التي يعلم لها ثبوت ذلك، وما يهدي القلوب ويدل العقول على معرفة ذلك، ويذكر من الآيات والأمثال المضروبة، التي هي مقاييس عقلية وبراهين يقينية، ما لا يمكن أن يذكر أحد من أهل الكلام والفلسفة ما يقاربه، فضلاً عن ذكر ما يماثله أو يفضل عليه. ومن تدبر ذلك رأى أنه لم يذكر أحد - طريقاً عقلياً يعرف به وجود الصانع، أو شيء من أحواله - من أهل الكلام والفلاسفة إلا وقد جاء القرآن بما هو خير منه وأكمل وأنفع وأقوى وأقطع، بتقدير صحة ما يذكره هؤلاء. تنازع الناس في أصل المعرفة بالله وكيف تحصل مما يبين أصل الكلام في هذا المقام أنه قد تنازع الناس في أصل المعرفة بالله: هل تحصل ضرورة في قلب العبد؟ أو لا تحصل إلا بالنظر؟ أو تحصل بهذا تارة وهذا تارة؟.. القائلون بأنها لا تحصل بالنظر فذهب كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية، ومن وافقهم من الطوائف، من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 وغيرهم، إلى أنها لا تحصل إلا بالنظر، وهؤلاء يقولون في أول واجب على العبد: هل هو النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله أو المعرفة؟ وقد تنازعوا في ذلك على قولين ذكرهما هؤلاء الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم. والنزاع لفظي، فإن النظر واجب وجوب الوسيلة، من باب ما لا يتم الوجب إلا به، والمعرفة واجبة وجوب المقاصد. فإول واجب وجوب الوسائل هو النظر، وأول واجب وجوب المقاصد هو المعرفة. ومن هؤلاء من يقول: أول واجب هو القصد إلى النظر. وهو أيضاً نزاع لفظي فإن العمل الاختياري مطلقاً مشروط بالإرادة، وحكى عن أبي هاشم أنه قال: أول الواجبات الشك. وقال كثير من أهل الكلام والصوفية والشيعة وغيرهم: إن المعرفة يبتديها الله اختراعاً في قلوب العقلاء البالغين من غير سبب يتقدم، وغير نظر وبحث، وأنها تقع ضرورة. ويذكر ذلك عن صالح قبة وفضل الرقاشي وغيرهما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 وعن الجاحظ أنه قال: معرفة الله ضرورية، وأنها تقع في طباع نامية عقب النظر والاستدلال، وأن العبد غير مأمون بها. ويذكر نحو ذلم عن ثمامة بن أشر. وذكروا عن الجهم أنه قال: معرفة الله واقعة باختيار الله لا باختيار العبد، لأن العبد لا يفعل شيئاً. وقال جمهور طوائف المسلمين: يمكن أن تقع ضرورة، ويمكن أن تقع بالنظر. بل قال كثير من هؤلاء: إنها تقع بهذا تارة وبهذا تارة، فالذين جوزوا وقوعها ضرورة هم عامة أهل السنة وسائر المثبتين للقدر كالأشعري وغيره. وتنازع نظارهم: هل ذلك بطريق خرق العادة أو هو معتاد؟ على قولين. ومن هؤلاء القائلين بأنها تحصل تارة بالضرورة وتارة بالنظر أبو حامد والرازي والآمدي وغيرهم. ولهذا لما أوردوا عليهم في مسألة وجوب النظر: أن المعرفة قد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 تحصل بغير الحس والخبر والنظر بطريق تصفية النفس، وأنها طريق الصوفية، وأنهم جازمون بما هم عليه من العقائد في المعارف الإلهية بخلاف أصحاب النظر، فإنه قد لا يحصل لهم هذا الجزم. وإذا كان كذلك فالرياضة إن لم تتعين طريقاً إلى تحصيل معرفة الله، فلا أقل من أن تكون هي من جملة الطرق المفيدة لمعرفة الله تعالى. كلام الرازي في نهاية العقول عن المعرفة الفطرية فقال الرازي في كتابه الكبير نهاية العقول في الجواب: العقائد الحاصلة عند التصفية إما أن تكون ضرورية، وإما أن لا تكون. فإن كانت ضرورية فلا كلام لنا فيها، فإنا قد نسلم أن النظريات يمكن أن تصير ضرورية، وإن لم تكن ضرورية فلا يخلو إما أن تكون تلك العقائد بحال يلزم من زوالها زوال شيء من العلوم الضرورية، أو يلزم، فإن لزم فتلك العلوم إنما حصلت مرتبة على تلك العلوم الضرورية، ولا معنى للعلم النظري إلا ذلك، وإن لم يلزم فتلك العقائد ليست إلا عقائد تقليدية، فلا عبرة حينئذ بذلك، فإن أمثال تلك العقائد قد توجد لأصحاب الرياضة من المبطلين من اليهود والنصارى والدهرية) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 كلام الآمدي في الأبكار وكذلك قال أبو الحسن الآمدي في كتابه الكبير المسمى أبكار الأفكار في مسألة وجوب النظر لما ذكر حجة من ذكر من جهة المنازع: (إنا لا نسلم أنه لا طريق إلى معرفة الله إلا النظر والاستدلال، بل أمكن حصولها بطريق آخر، إما بأن يخلق الله تعالى العلم للمكلف بذلك من غير واسطة، وإما بأن يخبره به من لا يشك في صدقه، كالمؤيد بالمعجزات الصادقة، وإما بطريق السلوك والرياضة وتصفية النفس وتكميل جوهرها، حتى تصير متصلة بالعوالم العلوية، مطلعة على ما ظهر وبطن، من غير احتياج إلى تعليم وتعلم) . وقال في الجواب: (قولهم: لا نسلم توقف المعرفة على النظر. قلنا نحن إنما نقول بوجوب النظر في حق من لم يحصل له العلم بالله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 بغير النظر، وإلا فمن حصلت له المعرفة بالله بغير النظر في حقه غير واجب) . وكذلك ذكر هذا غير واحد من أئمة الكلام من أصحاب الأشعري وغيرهم، ذكروا أن المعرفة بالله تعالى قد تحصل ضرورة، وأنهم مع قولهم بوجوب النظر فإنهم يقولون: بإيمان العامة: إما لحصول المعرفة لهم ضرورة، وإما لكونهم حصل لهم من النظر ما يقتضي المعرفة، وإما لصحة الإيمان بدون المعرفة، ونقلوا صحة إيمان العامة عن جميعهم. كلام أبي الحسن الطبري الكيّا كلام أبي الحسن الطبري الكيا وممن ذكر ذلك أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا في كتابه في الكلام، أو بعض نظرائه من أصحاب الأستاذ أبي المعالي، قال: (فإن قيل: إذا قلتم: إن النظر واجب والمعرفة واجبة، فما قولكم في العوام وسائر الناس الذين لا ينظرون ولا يعرفون؟ أهم مؤمنون أم كافرون؟ قلنا: اختلف في هذا علماء الأصول. أما أبو هاشم رأس القدرية فإنه ركب الأبلق العقوق في هذا، وقال: من لا يعرف الله فهو كافر غير مؤمن، وقال: المعرفة واجبة فإذا لم تحصل فضدها النكرة، والنكرة كفر، وقرره بأن هؤلاء العامة يقولون: إنهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 مخيرون في المذاهب أم غير مخيرين؟ فإن قلتم: إنهم مخيرون بين الرفض والاعتزال والقدر، والتجسيم والتشبيه، وغير ذلك من المذاهب فهذا خطأ وعناد. وإن قلتم: لا يخيرون بل يتبعون بعض المذاهب، فلا يمكن اختيار بعض المذاهب إلا بدليل، وذلك هو العلم والنظر) . قال: (وأما علمائنا فكلهم مجمعون على أن العامة مؤمنون، وأنهم حشو الجنة، إلا أنهم اختلفوا في ذلك، فقال قائلون: إنهم عالمون بالله تعالى، عارفون بالأدلة، إلا أن عبارتهم غير مفصحة بالألفاظ المصطلح عليها، وإلا فالأدلة في طي عقولهم ونشر نفوسهم، وإذا رأى أحدهم خضرة تفوه يقول: سبحان الله وما هذا نظر منه. وقالوا: لا معنى للعلم إلا اعتقاد المعلوم على ما هو عليه، وهذا موجود في حق العامة. ثم أنهم قالوا في العلوم النظرية: ما قولكم فيها؟ أتجيزون وجودها ضرورة أم لا تجوزوا ذلك فقد أبعدتم، وإن جوزتم ذلك فألا قلتم مثله ههنا؟ ويكون التكليف الوارد في حقهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتكون المعارف ضرورية) . قال: (وقال قائلون من علمائنا: هم مؤمنون غير عالمين لأن العلم حقيقة، فإن وجدت حكمنا بإنهم عالمون، وإلا فلا. والعلم معرفة المعلوم على ما هو به، على وجه لا يمكن الانحلال عنه ولا الانفكاك منه، وإذا طرأت علية شبهة لا يرتاع لها ولا يتشكك. وهذا العلم بناؤه على طريق يفيد العلم، ولا يوجد هذا في حق العامة فإنهم وإن اعتقدوا المعلوم على ما هو به، إلا أنهم يعرضه التشكك إذا ذكرت لهم شبهة، أذ لا يقدرون على دفعها بطريق يستند العلم إليه، لأنهم يدفعون الشبه باتباع الآباء والتعصب الذي نشأوا عليه، وهذا لا يحصل به العلم، وإذا قال: إن العم حصل بغير اتباع الآباء والتقليد، فهذا عالم حقيقة، كسادات الصوفية، فإن المعارف في حقهم ضرورة) . قال: (وأما قوله بأن العامة ينظرون. قلنا: لعمري ذاك كله مبادىء النظر، وما وصلوا إلى غاية النظر، وهو وقوف منهم على أحد شطري الشيء، لأنهم يقولون: العالم حادث، ويجوز أن يكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 حادثاً، ويجوز أن يكون قديماً مثلاً، فيعتقد حدوثه لا ينظر إلى الجانب الآخر. والعالم يستعرض المسالك، ويشرحها بالمدارك، وينهي النظر إلى الغاية القصوى) . قال: (فإن قيل: كيف يكونون مؤمنين وليسوا بعارفين؟ قلنا: لأن الله تعالى أوجب عليهم هذا القدر، ولم يوجب عليهم العلم. وهذا معلوم بضرورة العقل، مستنداً إلى السمع، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكتفي من الأعراب بالتصديق، مع علمنا بقصور علمهم عن معرفة النظر والأدلة، بل يجب عليهم نفي الشك عنهم، فإذا كانوا قد نفوا الشك واللبس عنهم، وعقائدهم مستقرة، فهم مؤمنون. ولا نقول: يجب العلم، بل لو زال الشك عنهم بخبر التواتر ظاهراً، أو قول بعض المشايخ، أو منام هائل في حق الخصوم، ثم سكنت قلوبهم إلى اعتقادهم، صح ذلك. فإن لم يزل عنهم الشك إلا بالعلم، فعند ذلك لا بد منه) . قال: (وفي القرآن حجاج، وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج، غير أن العامي يكتفي له، كقوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول} ، وليس من أنكر الحشر ينكره لأجل العياء. وكذلك قوله تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون} ، {ألكم الذكر وله الأنثى} ، وليس هذا يدل على نفي الولد قطعاً، فمبادىء النظر كافية لهم. فإن قيل: فإذا لم يجب هذا النظر على كافة الناس، فهل يجب على الآحاد؟ قلنا: أجل، يجب في كل عصر أن يقول به آحاد الناس، وهو فرض من فروض الكفايات، كالجهاد وتعلم القرآن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 وغير ذلك من فروض الكفايات. فأما عامة الناس فلا يتعين عليهم العلم، بل الاعتقاد الصحيح يكفيهم) . تعليق ابن تيمية قلت: المقصود أن الطائفة الأولى الذين قالوا: إن العامة عليهم العلم، قالوا: إنه قد يحصل لهم ضرورة، وقد يحصل بالنظر. والطائفة الثانية الذين اكتفوا بالاعتقاد، اعترفوا بأن من الناس من يحصل له المعرفة ضرورة، كسادات الصوفيه. وأما ذكره من أن الحجاج الذي في القرآن يكتفي به العامي، وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج، فهذا الكلام يقوله مثل هذا الرجل وأمثاله من أهل الكلام الجاهلين بحقائق ما جاء به التنزيل، وما بعث به الرسول، حتى قد يقول بعضهم: إن الطريقة البرهانية ليست في القرآن، وهؤلاء جهلهم بمعاني الأدلة البرهانية التي دل عليها القرآن، كجهلهم بحقائق ما أخبر به القرآن، بل جهلهم بحقائق ما دل عليه الشرع من الدلائل العقلية والمطالب الخبرية، أعظم من جهلهم بما سلكوه من الطرق البدعية التي سموها عقلية. وقد رأيت في كلام هذا الرجل وأمثاله من ذلك عجائب يخالفون بها صريح المعقول، مع مخالفتهم لصحيح المنقول، ونقص علمهم وإيمانهم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 وقد بينا في غير هذا الموضع أن الطرق التي جاء بها القرآن هي الطرق البرهانية التي تحصل العلم في المطالب الإلهية، مثال ذلك أنه يستدل بقياس الأولى البرهاني، لا يستدل بقياس التمثيل والتعديل، وذلك أن الله تعالى ليس مماثلاً لشيء من الموجودات، فلا يمكن أن يستعمل في حقه قياس شمول منطقي تستوي أفراده في الحكم، كما لا يستعمل في حقه قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع، فإنه سبحانه لا مثل له، وإنما يستعمل في حقه من هذا وهذا قياس الأولى، مثل أن يقال: كل نقص ينزه عنه مخلوق من المخلوقات، فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عنه، وكل كمال مطلق ثبت لموجود من الموجودات، فالخالق تعالى أولى بثبوت الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، لأنه سبحانه واجب الوجود، فوجوده أكمل من الوجود الممكن من كل وجه، ولأنه مبدع الممكنات وخالقها، فكل كمال لها فهو منه وهو معطيه، والذي خلق الكمال وأبدعه وأعطاه أحق بأن يكون له الكمال، كما يقولون: كل كمال في المعلول فهو من العلة. وكان المشركون يقولون: إن الملائكة بنات الله، كما حكى الله ذلك عنهم بقوله: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا} ، وهم مع هذا يجعلون البنات نقصاً وعيباً، ويرون الذكر كمالاً، فقال لهم: كيف تصفون ربكم بأنقص الوصفين، وأنتم مع هذا لا ترضون هذا لأنفسكم؟ فهذا احتجاج عليه بطريق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 الأولى في بطلان قولهم: إن له البنات ولهم البنين، لم يحتج بذلك على نفي الولد مطلقاً كما يقول من يفتري على القرآن. قال تعالى: {ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون} ، {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون * للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} إلى قوله تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون} . فبين سبحانه وتعالى أنهم يفضلون أنفسهم على ربهم، ويجعلون له ما يكرهون، ويقولون بوصفهم الكذب أن لهم الحسنى، وأنهم يجعلون لأنفسهم ما يشتهون، وأن ما جعلوا لله نظيره إذا بشر به أحدهم ظل وجه مسوداً يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون. فبين سبحانه أن هذا الحكم حكم سىء. كما قال تعالى في الآية الأخرى: {ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى} ، أي قسمة جائرة. وقال في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 الآية الأخرى: {وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين * أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم * أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين * وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون} ، فقال تعالى مقيماً للحجة مخاطباً باستفهام الإنكار المبين لبطلان ما أنكره وامتناعه، وأن ذلك مستقر في الفطر: {أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين} ، فإنه لوقدر على سبيل الفرض أن يتخذ ولداً، أكان يتخذ مما يخلق بنات ويصفيكم بالبنين؟! أي يجعل البنين صافين لكم لا يشرككم في اتخاذ البنين، بل تكونون أنتم مخصوصون بخير الصنفين، وهو سبحانه مخصوص بالصنف المنقوص؟! ثم ذكر عنهم ما يبين فرط نقص البنات عندهم فقال: {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا} ، وهن الإناث، كما ذكر ذلك في سورة النحل، أي بالذي جعله مثلاً للرحمن وهن البنات اللاتي جعل للرحمن مثلهن فضربه للرحمن مثلاً أي جعله له مثلاً حيث مثل به الملائكة الذين جعلهم بنات الله، فجعلهن يماثلن البنات اللاتي جعل الرحمن مثلهن، فضرب للرحمن - أي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 جعل له - مثلاً، يماثل البنات اللاتي إذا بشر أحدهم بها ظل وجهه مسوداً وهو كظيم. ثم بين نقص النساء فقال: {أو من ينشأ في الحلية} ، وهن النساء تربين في الحلية: {وهو في الخصام غير مبين} ، وهي المرأة لا تكاد تتكلم بحجة لها إلا كانت عليها، فبين أنهم من نقصهن يكملن بالحلية التي تزينهن في أعين الرجال، وهي لا تبين في الخصام. وعدم البيان صفة نقص، فإن الله ميز الإنسان بالنطق والبيان، الذي فضله به على سائر الحيوان، كما قال تعالى {الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان} ، وقال: {اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} . وأهل المنطق يقولون: الإنسان هو الحيوان الناطق، ولما كان هذا أظهر صفاته قال تعالى: {فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} ، وقد قال تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى} ، وهذه هي الأصنام الكبرى التي كانت بمدائن الحجاز، فإنه كانت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 اللات لأهل المدينة، والعزى لأهل مكة، ومناة الثالثة الأخرى لأهل الطائف. وهذه كلها مؤنثة، كما قال في الآية الأخرى: {إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا} . وهذه جعلوها شركاء له تعبد من دونه، وسموها بأسمائه مع التأنيث، كما قيل: إن اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من مني يمنى إذا قدر، وكانوا يسمونها الربة، وهم سموها بهذه الأسماء التي فيها وصفها لها بالإلهية والعزة والتقدير والربوبية، وهي أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، أي من كتاب وحجة، فإن الله تعالى لم يأمر أحداً بإن يعبد أحداً غيره، ولم يجعل لغيره شركاء في إلهيته. كما قال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 وهو سبحانه دائما ينزه نفسه في كتابه العزيز عن الشريك والولد، كما ذكره في سورة النحل، حيث قال: {ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم} الآية، وما بعدها. وقال: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} . وقال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك} . وقال تعالى: {قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد} . وقال تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون} . وقالت الجن: {وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا} . وإذا أراد أن يحتج سبحانه على نفي الولد مطلقاً لم يذكر هذه الحجة التي لن يفهم وجهها من لم يعرف ما في القرآن من الحجاج، وظن هو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 وأمثاله من أهل الضلال أن حجاجهم أكمل من حجاج القرآن، وأنهم حققوا أصول الدين أعظم من تحقيق الصحابة والتابعين. بل يذكر سبحانه الحجة المناسبة للمطلوب كقوله تعالى: {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون * بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} . وقال تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} . والكلام على هذه الآيات وما فيها من الأسرار مذكور في غير هذا الموضع، وقد بين هناك أن هؤلاء الآيات تضمنت إبطال قول المبطلين من المشركين والصابئين وأهل الكتاب، وتضمنت إبطال ما كان يقوله مشركو العرب، وما يقوله النصارى، وما يقوله مشركو الصابئة وفلاسفتهم، الذين يقولون بتولد العقول، أو العقول والنفوس عنه. ومن أراد الجمع بين كلامهم وبين النبوات سماها ملائكة، ويقول: العقل كالذكر، والنفس كالأنثى. فهؤلاء خرقوا له بنين وبنات بغير علم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 ثم بين سبحانه أنه مبدع للسماوات والأرض، والإبداع خلق الشيء على غير مثال، بخلاف التولد الذي يقتضي تناسب الأصل والفرع وتجانسهما. والإبداع خلق الشيء بمشيئة الخالق وقدرته، مع استقلال الخالق له وعدم شريك له، والتولد لا يكون إلا بجزء من المولد بدون مشيئته وقدرته، ولا يكون إلا بانضمام أصل آخر إليه. تعليق ابن تيمية وقال تعالى: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} ، فبين بطلان كون الولد له من غير صاحبة لقوله: {ولم تكن له صاحبة} ، فإن التولد لا يكون إلا من أصلين، وليس في الموجودات ما يكون وحده مولداً لشيء، بل قد خلق الله تعالى من كل شيء زوجين، وهو سبحانه الفرد الذي لا زوج له. وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين فساد قول المتفلسفة الذين يقولون: لا يصدر عن الواحد إلا واحد، حتى قالوا: إن الواجب لم يصدر عنه أولاً إلا العقل، ثم بتوسط العقل صدر عقل ونفس وفلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 وهذا الكلام، وإن كان فساده معلوماً من وجوه كثيرة، كما قد بسط في موضعه، فالمقصود هنا أنه ليس في الموجودات الواحد البسيط الذي يصفونه، وهو المجرد عن جميع صفات الإثبات الذي لا يوصف إلا بالسلوب والإضافات، بل هذا الواحد لا حقيقة له. وأيضاً فإنه لا يعرف في الوجود واحد صدر عنه بمجرده شيء، وما يمثلون به من أن النار لا يصدر عنها إلا الإحراق والتسخين، والماء لا يصدر عنه إلا التبريد، والشمس يصدر عنها الشعاع، ونحو ذلك كلها حجج عليهم، فإن هذه الآثار لم تصدر عن مجرد هذه الأجسام وطبائعها، بل لا تكون السخونة والإحراق إلا عن شيئين: أحدهما: النار أو الشعاع أو الحركة، فإن هذه الثلاثة من أسباب السخونة. والثاني: محل قابل لذلك، كبدن الحيوان والنبات، ونحو ذلك، وإلا فالسمندل والياقوت وغيرهما لما لم تكن فيه قوة القبول لم تحرقه النار. وكذلك الشعاع لا بد له من محل يقبل الانعكاس عليه، وإلا فإذا لم يكن هناك جسم قابل له لم يحدث الشعاع. وهؤلاء الملاحدة يقولون: إن الأول الواجب الوجود، الذي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 يسمونه العلة، هو ذات بسيطة، ليس له نعت من النعوت، وأنه صدر عنه عقل هو واحد بسيط أيضاً لأنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد ثم صدر عنه عقل ونفس وفلك، وليس هذا نظير ما يمثلون به من الآحاد، فإن آثارها كانت بمشاركة من القوابل الموجودة، وهنا كل ما سوى الأول فهو معلول له، ليس هناك موجود غيره ليشترك هو وذلك الموجود في ذلك، كاشتراك الشمس والمطارح القابلة، واشتراك النار والموارد القابلة. فقوله تعالى: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} ، بيان أن التولد لا يكون إلا بين اثنين وهو سبحانه لا صاحب له فكيف يكون له ولد. وهذا القدر لما كان مستقر في فطر الناس كان عامة ما يسمونه تولداً ونتاجاً إنما يكون عن أصلين، فالأمور التي تسمى متولدات - كالشبع والري ونحو ذلك - إنما حدثت عن أصلين: فعل العبد، والأسباب الأخر المعاونة له. وكذلك النظار يقولون: النتيجة لا تكون إلا عن مقدمتين ويشبهون حصول النتيجة عن المقدمتين بحصول النتاج عن الأصلين من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 الحيوان، لأن هذين أصلان في التوليد، وهذين أصلان في التولد. ثم قال تعالى: {وخلق كل شيء} ، وذلك بيان لأنه إذا كان خالقاً لجميع الأشياء، فكيف يكون فيها ما هو متولد عنه؟ والجمع بين الخلق والتوليد ممتنع، كما يمتنع الجمع بين التولد والتعبد. كما قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا} . وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} ، حتى أنه استدل بهذا طائفة من الفقهاء على أن ولد الإنسان يعتق عليه إذا ملكه، فلا يكون عبده من هذه الآية، لأنه سبحانه بين تنافي التوليد والتعبيد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 وهذا الحكم معلوم بأدلة أخرى، كما في الصحيح «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مجح على باب فسطاط، فقال: لعل صاحبها يلم بها؟ قالوا: أجل قال: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستعبده وهو لا يحل له؟» فبين صلى الله عليه وسلم أنه إذا وطىء تلك الحبلى وسقى ماءه زرع غيره، فإنه بتلك الزيادة التي تحصل منه في الجنين، يصير شريكاً له في التولد، وحينئذ فلا يحل له أن يستعبده، ولا أن يجعله موروثاً عنه، كما يورث ماله، فإذا كان هذا بمشاركته في التولد مع أن الولد قد انعقد من ماء غيره، فكيف بالولد الذي انعقد منه؟ وكذلك قوله تعالى: {وهو بكل شيء عليم} كما، قال في الآية الأخرى: {لقد أحصاهم وعدهم عدا} ، فإن إحاطة العلم والعد بهم فيه بيان أنه لا يكون منهم إلا ما يعلمه، لا ينفردون عنه بشيء، كما ينفرد الولد عن والده، والشريك عن شريكه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 وقوله في الآية الأخرى: {بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} ، بيان لكونه سبحانه يخلق الأشياء بكلمته، وأنها منقادة له، فإذا قال له: كن، كانت. وهذا مناف للتوليد، بل خلق المسيح عليه السلام بكلمة (كن) . وقد علم في الشاهد أن من يدبر الأشياء بمجرد كلمته ليس كالذي يحتاج إلى أن تولد منه الأشياء، فكيف يوصف بالتولد وهو سبحانه في جميع ما يقضيه إنما يقول له: كن فيكون؟ وأما ما ذكره من قوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول} ، وقول ذلك القائل: من أنكر الخلق فلم ينكره لأجل كونه عيي بالخلق الأول. فيقال له: مثل هذا الكلام إذا قاله ملحد طاعن في القرآن، كان فيه الدلالة على جهله وضلاله ما لا يقدر على وصفه الإنسان. وذلك أن الله تعالى في كتابه ذكر من دلائل المعاد وبراهينه ما لا يقدر أحد على أن يأتي بقريب منه، وذكر فيه من أصناف الحجج ما ينتفع به عامة الخلق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 374 فإنه سبحانه دل على إمكان إحياء الموتى وقدرته على ذلك بطريق الوجود والعيان، وبطريق الاعتبار والبرهان، والأول أعظم الطريقين، فلا شيء أدل على إمكان الشيء من وجوده. فذكر في كتابه ما أحياه من الموتى في غير موضع. كما قال تعالى في سورة البقرة: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} ، فهذه في قصة موت بني إسرائيل الذين سألوه الرؤية. وقال في قصة البقرة: {فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون} . وقال في الذين خرجوا من ديارهم: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس} ، الآية - وهي قصة معروفة. وقال تعالى: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 375 لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} ، فقص هذه القصة التي فيها موت البشر مائة عام، وموت حماره، ومعه طعامه وشرابه، ثم إحياء هذا الميت وإحياء حماره وبقاء طعامه وشرابه لم يتغير ولم يفسد، وهو في دار الكون والفساد التي لا يبقى فيها في العادة طعام وشراب بدون التغير بعض هذه المدة، وهذا يبين قدرته على إحياء الآدميين والبهائم، وإبقاء الأطعمة والأشربة لأهل الجنة في دار الحيوان بأعظم الدلالات. وذكر بعد ذلك قول إبراهيم: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم} ، فأمره بخلط الأطيار الأربعة مثلاً مضروباً لاختلاط الأخلاط الأربعة، ثم أحيى الأطيار، وميز بين هذا وهذا، وجعلهن يأتين سعياً إجابة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 376 لدعوة الداعي، فكان في ذلك من الدليل ما لا يخفى على ذي تحصيل. فهذه خمس قصص في إحياء الآدميين، وقصة في إحياء البهائم، وقصة في إبقاء الطعام والشراب، وقصة في إحياء الطير. وذلك في غير هذا موضع إحياء المسيح صلى الله عليه وسلم للموتى، وذكر قصة أصحاب الكهف وبقاءهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين نياماً لا يأكلون ولا يشربون وهم أحياء لم يفسدوا. وقال في القصة: {وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها} . فهذه القصص فيها من الإخبار بالموجود ما هو من أعظم الدلائل على القدرة والإمكان لإحياء الله الموتى. وصدق هذه الأخبار يعلم بما به يعلم صدق الرسول، ويعلم بأخبار أخرى من غير طريق الرسول، وإخبارهم بها من أعلام نبوته، كما قد بسط في موضع آخر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 377 وأما الصنف الثاني، وهو طريق إثبات الإمكان والقدرة بالاعتبار والقياس بطريق الأولى، فإنه سبحانه يستدل على ذلك تارةً بخلق النبات، ويبين أن قدرته على إحياء الموتى كقدرته على إنبات النبات. وتارةً يستدل على ذلك بخلق الحيوان نفسه، وأن قدرته على الإعادة كقدرته على الابتداء وأولى. وتارةً يبين ذلك بقدرته على خلق السماوات والأرض، كما في قوله تعالى: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج * ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور} . وفي هذا الكلام العزيز من أنواع الاعتبار ما لا يحتمله هذا المكان. وقال تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 378 فبين أن إخراج النبات بالماء مما يتذكر به إخراج الموتى من قبورهم. وقال تعالى: {ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج} . وقال تعالى: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور} وقال تعالى: {أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون * ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون} . وقال تعالى: {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم} . وقال تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير} . وقال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 وقد بين سبحانه من حجج منكري المعاد، والجواب عنها وتقريره ما يطول هذا الموضع باستقصائه، كما في قوله: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون} . إلى آخر الآيات، وهذا باب واسع ليس هذا موضع بسطه. فأما الآية التي ذكرها القائل التقدم، وهي قوله: {أفعيينا بالخلق الأول} . فإن العرب تقول: عي وعيي بأمره إذا لم يهتد لوجهه، ويقول الرجل: عييت بأمري إذا لم يهتد لوجهه، وأعياني هو. وقال الشاعر: عيوا بأمرهم كما ... عييت ببيضتها الحمامة فالعيي بالأمر يكون عاجزاً عنه مثل أن لا يدري ما يفعل فيه. فقال سبحانه باستفهام الإنكار المتضمن نفي ما استفهم عنه، وأن ذلك معلوم عند المخاطب: {أفعيينا بالخلق الأول} ، فلم نكن عالمين بما نصنع فيه، ولا قادرين عليه؟ أم خلقناه بعلمنا وقدرتنا، وأتنيا فيه من الإحكام والإتقان بما دل على كمال علمنا وحكمتنا وقدرتنا؟ وهذا نظير قوله: {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير} . تعليق ابن تيمية ومن المستقر في بدائه العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق الآدميين، فإذا كان فيها من الدلالة على علم خالقها وقدرته وحكمته ما بهر العقل، أفلا يكون ذلك دالاً على أنه قادر على إحياء الموتى لا يعي بذلك كما لم يعي بالأول بطريق الأولى والأخرى؟ ولعل هذا الجاهل لم يفهم هذه الآية، فظن أن قوله: {ولم يعي بخلقهن} ، وهو من الإعياء: الذي هو النصب اللغوب، وأن المعنى إذا كنا ما تعبنا في الخلق الأول، فكيف نتعب في الثاني؟ فإن كان هذا هو الذي فهمه من الآية، كما يفهم ذلك جهال العامة الذين لا يعرفون لغة العرب ولا تفسير القرآن، ولا يفرقون بين عيي وأعياء، فقد أوتي من جهة جهله بالعقل والسمع. وهؤلاء المبتدعين يجهلون حقائق ما جاء به الرسول، ويعرضون عنه، ثم يحكمون بموجب جهلهم أن ليس في ذلك من البراهين من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 381 جنس ما في كلامهم، ولو أوتوا العقل والفهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لتبينوا أنه الجامع لكل خير. وأما فساد طرقهم المخالفة للنصوص، فهو بين لكل ذكي فاضل منهم ومن غيرهم. ويكفيك أن عمدتهم في أصول الدين إما دليل الأعراض، وقد علم ما فيه من الأعتراض وإما دليل الوجوب المستلزم للواجب. وقد بينا في غير هذا الوضع أن تلك الطريقة لا تدل على وجود واجب، فإن ذلك إنما يدل إذا ثبت وجود الممكن الذي يستلزم الواجب. والممكن عندهم هو متناول القديم والحادث، فجعلوا القديم الأزلي داخلاً في مسمى الممكن، وخالفوا بذلك سائر العقلاء من سلفهم وغيرهم، مع تناقضهم في ذلك. وبهذا التقدير لا يمكنهم أن يقيموا دليلاً على أن الممكن بهذا الاعتبار يحتاج إلى فاعل. وقد أوردوا على هذه الطريقة من الاعتراضات ما أوردوه، ولم يمكنهم أن يجيبوا عنه بجواب صحيح، كما قد بسط في موضعه. ثم غايته إثبات وجود واجب لا يتميز عن المخلوقات، ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب لا يتميز على المخلوقات. ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات، فكثير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 382 من نظارهم يطعن في دليل إثبات واجب الوجود، وكثير من محققيهم وعارفيهم يقول: إن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات. ومآل القولين واحد، وهو قول فرعون الذي أنكر رب العالمين، فإن فرعون وغيره لم ينكروا وجود هذا العالم المشهود، فمن جعله هو الوجود الواجب، أو كان قوله لا يدل إلا على ذلك، كان منكراً للصانع. ثم إذا كان هذا الوجود الواجب، كان ما يلزمهم على ذلك من المحالات أضعاف ما فروا منه، كما بينا ذلك في غير هذا الموضع. فمن جعله وجود كل موجود، كان فيه الشهادة على نفس الوجود المحدث الكائن بعد أن لم يكن بأنه واجب، ومن جعله وجود الفلك كان فيه من افتقار واجب الوجود إلى غيره، ومن حدوث الحوادث بلا سبب فاعل، ومن غير ذلك ما يناقض أصولهم وأصول غيرهم المتفق على صحتها، ويوقعهم في شر مما منه فروا. والمقصود هنا أنه سبحانه لما قال: {أفعيينا بالخلق الأول} ، لم يرد الإعياء الذي هو التعب، وإيما أراد العي، كما تقول العرب: عيي بأمره إذا لم يهتد لوجهه. وحينئذ فيكون في الآية من الدلالة على علم الخالق وحكمته ما يبين أنه خلقه بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه. ومن كان خالقاً لهذا العالم بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه، كان بأن يقدر على إحياء الموتى أولى وأحرى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 383 والملاحدة المنكرون للعماد تعود شبههم كلها إلى ما ينفي علم الرب تعالى أو قدرته أو مشيئته أو حكمته. ونفي العي يثبت هذه الصفات، فتنتفي أصول شبههم. فالفلاسفة الإلهيون الذين هم أشهر هذه الطوائف بالحكمة والنظر والعلم - رهط الفارابي وابن سينا وأمثالهما - عمدتهم في إنكار المعاد هو اعتقادهم قدم العالم، وأن الفاعل علة تامة موجبة بالذات، لا يختلف فعلها، فلا يجوز أن يتغير العالم لأجل ذلك. وهؤلاء في كلامهم من نفي قدرته وعلمه ومشيئته ما هو مبسوط في غير هذا الموضع. ومن أيسر ذلك أنهم في الحقيقة ينكرون أن يكون خالقاً للمحدثات. وإذا كان قد عرف بضرورة العقل أن المحدثات، وما فيها من التخصيص والإتقان والحكمة، دل على الخالق العليم القدير الحكيم، علم فساد قول هؤلاء، فإن قولهم يستلزم أن تكون المحدثات كلها حدثت بلا محدث، لأن العلة القديمة التامة التي جعلوها الأول لا يتأخر عنها شيء من معلولاتها، فلا يكون شيء من الحوادث معلولاً لها، فلا يكون مفعولاً لها، ولا يجوز أن تكون الحوادث معلولة لعلة أخرى تامة موجبة بذاتها، لأن القول في تلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 384 العلة كالقول في هذه، ولا يجوز أن يكون صدرت عن ممكن لا علة له، لأن الممكن لا يكون موجوداً بنفسه، بل لا بد له من موجد - سمي علة أو لم يسم - ولا يجوز أن يكون صدرت عن ممكن بنفسه، لأن كون ذلك الممكن محدثاً لها أمر ممكن محدث. فلا بد له من محدث، فإذا استحال على أصولهم صدور الحوادث عن العلة التامة الواجبة بواسطة أو غير واسطة، فقد تعذر صدورها عن ممكن لا موجب له، وعن موجب لا يستند فعله إلى الواجب بنفسه، لزم على قولهم أن لا يكون لها فاعل. ووجه الحصر أن يقال: محدث الحوادث: إما أن يكون هو الواجب بنفسه، بوسط أو بغير وسط، أو غير الواجب بنفسه. وما ليس بواجب بنفسه فهو الممكن. والممكن إما أن يكون له موجد، وإما أن لا يكون. والثاني ممتنع. والأول نفس إحداثه للمحدثات أمر حادث ممكن، فلا بد له من موجد. فتبين أن المحدثات لا بد لها من محدث، يكون واجباً بنفيه، ولا يكون علة تامة مستلزمة لمعلولها، وهذا يبطل أصل قولهم. وهذا قول حذاقهم - كابن سينا وأمثاله - الذين يقولون: إنه صدر عن موجب بالذات. ويحكى هذا القول عن برقلس. وأما أرسطو وأتباعه فعندهم الأول لا يوجب شيئاً ولا يفعل شيئاً، بل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 385 الفلك يتحرك للتشبه به - وهذا أفسد من ذاك من طرق متعددة وليس هذا موضع بسط ذلك. وإنما المقصود هنا التنبيه على أن قوله تعالى: {ولم يعي بخلقهن} ، فيه تنبيه على ثبوت الأمور التي توجب وصف خالق السماوات والأرض بصفات الكمال وبإحداث الأفعال، وذلك هو الذي يستلزم قدرته على إحياء الموتى، وبسط ذلك يطول. ومما يبين خذلان الله لأهل البدع، والمخالفين للكتاب والسنة، أن هذين الأصلين: أمر الولادة، وأمر المعاد، هما من أعظم أصول أهل الضلال كالدهرية من الفلاسفة وغيرهم، الذين يقولون: إن العقول تولدت عن الله، وينكرون إحياء الله الموتى. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك. فأما شتمه إياي فقوله: إني اتخذت ولداً، وأنا الأحد الصمد، الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد. وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته» . وهذا في الصحيح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث أبي هريرة، وابن عباس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 386 وهؤلاء الملاحدة شتموه بما ذكروه من تولد الموجودات عنه، وكذبوه بقولهم: لن يعيدنا كما بدأنا، وضاهوا في ذلك أشباههم من ملاحدة العرب. قال تعالى: {ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا * أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا} إلى قوله: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا * أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا * ونرثه ما يقول ويأتينا فردا} إلى قوله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} . فذكر سبحانه في هذا الكلام الرد على من أنكر المعاد، وعلى من قال: إنه اتخذ ولداً، كما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في الحديث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 وهذا المبتدع ذكر في دلالة القرآن على هذا وعلى هذا ما تقدم التنبيه على فرط ضلال قائله عن حقائق ما أنزل الله على رسوله. ولهذا كانت طريقة القرآن فيما يثبته للرب تعالى وينفيه عنه مبنية على برهان الأولى، لا على البرهان الذي تستوي أفراده، أو يماثل فرعه أصله. قال تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى} ، بعد قوله: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم} . وقال تعالى في الآية الأخرى: {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن} ، أي بما ضربوه للرحمن مثلاً، والمثل الذي ضربوه له هو البنات، وهو عندهم مثل سوء مذموم معيب. فقال تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} ، ومن قال: إنه ولد الملائكة، أو قال: إنه ولد العقول أو النفوس، فإنه لا يؤمن بالآخرة، فله مثل السوء. والله تعالى له المثل الأعلى، فلا يضرب له المثل المساوي، إذا لا كفو ولا ند، فضلاً عن أن يضرب له المثل الناقص، ولا يكتفي في حقه بالمثل العالي، بل له المثل الأعلى، إذ هو الأعلى سبحانه، والعلم به أعلى العلوم، وذكره أعلى الأذكار، وحبه أعلى الحب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 388 والذي يبتغي وجه ربه الأعلى هو أعلى إذ هو الأتقى الذي هو أكرم الخلق على الله، كما قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ، وقال تعالى: {وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} . ونظير ما ذكره سبحانه في الأولاد، ما ذكره في الشركاء في قوله تعالى: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} ، يقول تعالى: إذا كان الواحد منكم ليس له من مماليكه شريك في ما رزقه الله، بحيث يخاف ذلك المملوك، كما يخاف السادة بعضهم بعضاً، فكيف تجعلون لي شريكاً هو مملوكي، وتجعلونه شريكاً فيما يختص بي من العبادة والمخافة والرجاء حتى تخافوه كما تخافوني؟. ومن المعلوم أن ملك الناس بعضهم بعضاً ملك ناقص، فإن السيد لا يملك من عبده إلا بعض منافعه، لا يملك عينه، وهو شبيه بملك الرجل بعض منافع امرأته، وملك المستأجر بعض منافع أجيره. ولهذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 يشبه النكاح بملك اليمين، كما قال عمر رضي الله عنه: النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته. وقال زيد بن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله، وقرأ قوله تعالى: {وألفيا سيدها لدى الباب} ، فإذا كان هذا الملك الناقص لا يكون المملوك فيه شريكاً للمالك، فكيف بالملك الحق التام لكل شيء؟ ملك المالك للأعيان والصفات، والمنافع والأفعال، الذي لا يخرج عن ملكه شيء بوجه من الوجوه، ولا لغيره ملك مفرد، ولا شريك في ملك ولا معاونة له بوجه من الوجوه، كيف يسوغ في مثل هذا، أن يجعل مملوكه شريكه بوجه من الوجوه؟. والشرك نوعان: أحدهما: شرك في الربوبية، والثاني شرك في الإلهية. فأما الأول فهو إثبات فاعل مستقل غير الله، كمن يجعل الحيوان مستقلاً بإحداث فعله، ويجعل الكواكب، أو الأجسام الطبيعية، أو العقول، أو النفوس، أو الملائكة، أو غير ذلك مستقلاً بشيء من الإحداث، فهؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الحوادث عن الفاعل، فإن كل ما يذكرونه من فعل هذه الفاعلات أمر حادث يفتقر إلى محدث يتم به إحداثه، وأمر ممكن لا بد له من واجب يتم به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 390 وجوده، وكل ما سوى الخالق القديم الواجب الوجود بنفسه مفتقر إلى غيره، فلا يتم به حدوث حادث، ولا وجود ممكن. وجمهور العرب لم يكن شركها من هذا الوجه، بل كانت مقرة بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وإنما كان من النوع الثاني، فإثبات التوحيد في النوع الثاني يتضمن الأول من غير عكس. والثاني الشرك في الإلهية، وضده هو التوحيد في الإلهية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن المشركين المقرين بأنه رب كل شيء، كانوا يتخذون آلهة يستجلبون بعبادتها المنافع، ويستدفعون بها المضمار، ويتخذونها وسائل تقربهم إليه، وشفعاء يستشفعون بها إليه. وهؤلاء خلق من خلقه، لا يملكون لأحد نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه، فكل ما يطلب منهم لا يكون إلا بإذنه، وهو سبحانه لم يأمر بعبادة غيره، ولم يجعل هؤلاء شفعاء ووسائل. بل قد قال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} . قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} . وقال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 391 السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون} . وهذا المعنى كثير في القرآن: يبين سبحانه أنه لم يشرع عبادة غيره، ولا إذن في ذلك، بل يبين أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فإنه كما يمتنع أن يكون غيره رباً فاعلاً، يمتنع أن يكون إلهاً معبوداً. وإذا كان جعل المملوك شريكاً في الملك الناقص - بحيث يرغب إليه كما يرغب إلى المالك، يرهب منه كما يرهب من المالك - ممتنعاً يوجب الفساد، فجعل المملوك المخلوق شريكاً لمالكه الخالق أولى بالامتناع ولزم الفساد. وذلك أن الذي يخافه إنما يخاف أن يضره، فإذا كان يعلم أنه لا يضره إلا بإذن الله سبحانه، كان الله تعالى هو الذي يجب أن يخاف. وكذلك الذي يرجوه، إذا كان إنما يرجو نفعه، وهو لا ينفعه إلا بإذن الله، كان الله هو الذي يجب أن يرجى، إذ لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله، بخلاف مملوك البشر، فإنه - وإن كان لا يترف في المال إلا بإذن سيده، ولا يمنع من أذن له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 392 سيده - فقد يمكنه معصية سيده، وإن كان في معصيته نوع من الفساد. والخالق تعالى لا يمكن أحداً أن يفعل شيئاً إلا بمشيئته وقدرته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وفي معصية أمره الفساد الذي لا صلاح معه، فالمخلوق أعجز عن أن ينفع أو يضر بدون إذنه، من عجز المملوك عن النفع والضر بدون إذن سيده، ومعصية المخلوق لأمره، الذي أرسل به رسله، أعظم فساداً من معصية المملوك لأمر سيده. قال تعالى في قصة الخليل صلى الله عليه وسلم ومناظرته لقومه: {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 393 قال تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} . وقال تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم} . ولما كان الطريق إلى الحق هو السمع والعقل، وهما متلازمان، كان من سلك الطريق العقلي دله على الطرق السمعي، وهو صدق الرسول، ومن سلك الطريق السمعي بين له الأدلة العقلية، كما بين ذلك القرآن، وكان الشقي المعذب من لم يسلك لا هذا ولا هذا. كما قال أهل النار: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} . وقال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} . ولهذا نفى سبحانه عن الشرك الطريق السمعي والعقلي، ونفى شرك الإلهية والربوبية في مثل قوله: {قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 394 ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين} ، فطالبهم أولاً بالطريق العقلي، وثانياً بالطريق السمعي. ونظيره قوله: {قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا} ، وهذا باب واسع قد بسط الكلام فيه في غير هذا الموضع. والمقصود هنا التنبيه اللطيف على بعض ما في القرآن من تقرير المعاد ونفي الولد والشريك، إذ كان هذا فصلاً معترضاً في هذا المقام. فقد تبين أن جمهور النظار من جميع الطوائف يجوزون أن تحصل المعرفة بالصانع بطريق الضرورة، كما هو قول الكلابية والأشعرية، وهو مقتضى قول الكرامية والضرارية والنجارية والجهمية وغيرهم، وهو قول طوائف أهل السنة، من أهل الحديث والفقهاء وغيرهم، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفه ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وإنما ينازع في ذلك من ينازع من القدرية كالمعتزلة ونحوهم، مع أنهم متنازعون في ذلك، بل كثير من أهل الكلام، بل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 395 وجمهور العلماء، يقولون: إن الإقرار بالصانع حاصل لعامة الخلق بطريق الضرورة. ذكر الشهرستاني في نهاية الإقدام أن الفطرة تشهد بوجود الله تعالى كما ذكر الشهرستاني في كتابه المعروف بنهاية الإقدام في قاعدة التعطيل قال: (قد قيل: إن التعطيل ينصرف إلى وجوه شتى: منها: تعطيل الصنع عن الصانع. ومنها: تعطيل الصانع عن الصنع. ومنها: تعطيل الباري عن الصفات الأزلية الذاتية ومنها تعطيل الباري عن الصفات الأزلية القائمة بذاته. ومنها: تعطيل الباري عن الصفات والأسماء أزلاً. ومنها: تعطيل ظواهر الكتاب والسنة عن المعاني التي دلت عليها) . ثم قال. أما تعطيل العالم عن الصانع العليم، القادر الحكيم، فلست أراها مقالة، ولا عرفت عليها صاحب مقالة إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية: أنهم قالوا: كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 العالم في الأزل أجزاء مبثوثة تتحرك على غير استقامة فاصطكت اتفاقاً، فحصل منها العالم بشكله الذي تراه عليه، ودارت الأكوار وكرت الأدوار، وحدثت المركبات) . قال: (ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر الصانع، بل هو معترف بالصانع، لكنه يحيل سبب وجود العالم على البخت والاتفاق، احترازاً عن التعطيل، فما عدت هذه المسألة من النظريات التي يقام عليها برهان، فإن الفطرة السليمة الإنسانية شهدت - بضرورة فطرتها، وبديهة فكرتها - على صانع حكيم، قادر عليم: أفي الله شك، {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 397 الله} ، {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم} . قال: وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء، فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء: {دعوا الله مخلصين له الدين} ، {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} . ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع، وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشريك: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، {فاعلم أنه لا إله إلا الله} ، ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد ونفي الشريك {ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا} ، {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} {وإذا ذكرت ربك في القرآن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 398 وحده ولوا على أدبارهم نفورا} . قال: (وقد سلك المتكلمون طريقاً في إثبات الصانع، وهو الاستدلال بالحوادث على محدث صانع، وسلك الأوائل طريقاً آخر وهو الاستدلال بإمكان الممكنات على مرجح لأحد طرفي الإمكان، ويدعي كل واحد من جهة الاستدلال ضرورة وبديهة) . قال: (وأنا أقول ما شهد به الحدوث أو دل عليه بعد تقديم المقدمات، ودون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتجاج ذاته إلى مدبر، هو منتهى مطلب الحاجات، فيرغب إليه ولا يرغب عنه، ويستغنى به ولا يستغنى عنه، ويتوجه إليه ولا يعرض عنه، ويفزع إليه في الشدائد والمهمات، فإن احتياج نفسه أوضح له من احتياج الممكن الخارج إلى الواجب، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 والحادث إلى المحدث، وعن هذا المعنى كانت تعريفات الحق سبحانه في التنزيل على هذا المنهاج. {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} . {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} ، {ومن يرزقكم من السماء والأرض} ، {أمن يبدأ الخلق ثم يعيده} . قال: (وعن هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم: «خلق الله العباد على معرفته، فاجتالتهم الشياطين عنها» ، فتلك المعرفة هي ضرورة الاحتياج، وذلك الاجتيال من الشيطان هو تسويله الاستغناء ونفي الحاجة، والرسل مبعوثون لتذكير وضع الفطرة وتطهيرها من تسويلات الشياطين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 400 فإنهم الباقون على أصل الفطرة، وما كان له عليهم من سلطان: {فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى} ، {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} . ومن رحل إلى الله قربت مسافته، حيث يرجع إلى نفسه أدنى رجوع، فيعرف احتياجه إليه في تكوينه، وبقائه وتقلبه في أحواله وأنحائه، ثم استبصر من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس، ثم استشهد به على الملكوت، لا بالملكوت عليه: {أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} ، عرفت الأشياء بربي، وما عرفت ربي بالأشياء، ومن غرق في بحر المعرفة، لم يطمع في شط، ومن تعالى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط، فثبت بالدلائل والشواهد أن العالم لم يتعطل عن الصانع الحكيم، العالم القدير، تعالى وتقدس) . وقال أيضاً في أول كتابه: (قد أشار إلي من إشارته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 غنم، وطاعته حتم، أن أجمع له مشكلات الأصول، وأحل ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول، لحسن ظنه بي أني وقفت على نهايات مسارح النظر، وفزت بغايات مطارح الفكر، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم. لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذقن أو قارعاً سن نادم فلكل عقل مسرى ومسرح، هو سدرته المنتهى، ولكل قدم محط ومجال، هو غايته القصوى، إذا وصل إليها ووقف دونها، فيظن الناظر أولاً، أن ليس وراء مرتبته مطاف لطيف الخاطر، ولا فوق درجته مطرح لشعاع الناظر، ويتيقن آخراً أن مطار الأفكار، إنما يتعلق بذوات المقدار، وجناب العزة لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 إلى أن قال: (وإذا كان لا طريق إلى المطلوب من المعرفة إلا الاستشهاد بالأفعال، ولا شهادة للفعل إلا من حيث احتياج الفطرة واضطرار الخلقة، فحيثما كان الاضطرار والعجز أشد، كان اليقين أوفر وآكد: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} ، لا جرم: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} . والمعارف التي تحصل من تعريفات أحوال الاضطرار، أشد رسوخاً في القلب من المعارف التي نتائج الأفكار، في حال الاختيار) . تعليق ابن تيمية ‍‍‍ قلت: فهذا كله كلام الشهرستاني، وهو من أئمة المتأخرين من النظار، وأخبرهم بالمقالات، وقد صرح بأن معرفة الله ليست معدودة من النظريات التي يقام عليها البرهان، وأن الفطرة تشهد بضرورتها وبديهة فكرتها بالصانع الحكيم، إلى آخر ما ذكره وأن ما تنتهي إليه مقدمات الاستدلال بإمكان الممكنات أو حدوثها من القضايا الضرورية، دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية، من احتياج الإنسان في ذاته إلى مدبر. وأما ما ذكره من أن إنكار الصانع ليس مقالة معروفة لصاحب مقالة. فإنه، وإن لم يكن مذهباً مشهوراً، عليه أمة من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 403 الأمم المعروفة، لكنه مما يعرض لكثير من الناس، ويقوله بعض الناس: إما ظاهراً دون الباطن - كحال فرعون ونحوه - وإما باطناً وظاهراً، كما ذكر الله مناظرة إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه للذي حاجه في ربه، ومحاجة موسى صلوات الله عليه وسلامه لفرعون. لكن هذا لا يمنع أن تكون المعرفة به مستقرة في الفطرة، ثابتةبالضرورة، فإن هذا نوع من السفسطة حال يعرف لكثير من الناس: إما عمداً، وإما خطأ. وكثير من الناس قد ينازع في كثير من القضايا البديهية، والمعارف الفطرية، في الحسيات والحسابيات، وكذلك في الإلهيات. ومن تأمل ما يحكيه الناس من المقالات عن الناس، في العلوم الطبيعية والحسابية، رأى عجائب وغرائب. وبنو آدم لا ينضبط ما يخطر لهم من الآراء والإرادات، فإنهم جنس عظيم التفاوت، ليس في المخلوقات أعظم تفاضلاً منه، خيارهم خير المخلوقات عند طائفة، أو من خيرها عند طائفة، وشرهم شر المخلوقات، أو من شرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 404 قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} . وقال تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} . وقال تعالى: {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال} . وقال تعالى: {أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير * ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص} . ونظير هذا كثير. وكما تنازع النظار في المعرفة: هل تحصل ضرورة، أو نظراً، أو تحصل بهذا وهذا، على ثلاثة أقوال، فكذلك تنازعوا في مسألة وجوب النظر المفضي إلى معرفة الله تعالى على ثلاثة أقوال. فقالت طائفة من الناس: إنه يجب على كل أحد. وقالت طائفة: لا يجب على أحد. وقال الجمهور: إنه يجب على بعض الناس دون بعض. فمن حصلت له المعرفة او الإيمان عند من يقول: إنه يحصل بدون المعرفة بغير النظر لم يجب عليه، ومن لم تحصل له المعرفة ولا الإيمان إلا به وجب عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 405 كلام ابن حزم في الفصل وذكر غير واحد أن هذا قول جمهور المسلمين، كما ذكر ذلك أبو محمد بن حزم في كتابه المعروف بـ الفصل في الملل والنحل فقال في مسألة: (هل يكون مؤمناً من اعتقد الإسلام دون استدلال، أم لا يكون مسلماً إلا من استدل؟) . قال: (وذهب محمد بن جرير والأشعرية إلا أبا جعفر السمناني إلى أنه لا يكون مسلماً إلا من استدل، وإلا فليس مسلماً) . قال: (وقال الطبري: من بلغ الاحتلام أو الإشعار من الرجال أو النساء، أو بلغ المحيض من النساء، ولم يعرف الله بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال، فهو كافر حلال الدم والمال: وقال إنه أذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمهما وتدريبهما على الاستدلال على كل ذلك) . قال: (وقالت الأشعرية: لا يلزمهما الاستدلال على ذلك إلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 406 بعد البلوغ) قال: وقال سائر أهل الإسلام: كل من اعتقد بقلبه اعتقاداً لا يشك فيه، وقال بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن كل ما جاء به حق، وبرىء من كل دين سوى دين محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه مسلم مؤمن، ليس عليه غير ذلك. تعليق ابن تيمية قلت: القول الأول هو في الأصل معروف عمن قاله من القدرية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام، وإنما قاله من قاله من الأشعرية موافقة لهم، ولهذا قال أبو جعفر السمناني: القول بإيجاب النظر بقية بقيت في المذهب من أقوال المعتزلة، وهؤلاء الموجبون للنظر يبنون ذلك على أنه لا يمكن حصول المعرفة الواجبة إلا بالنظر، لا سيما القدرية منهم، فإنهم يمنعون أن يثاب العباد على ما يخلق فيهم من العلوم الضرورية، وليس إيجاب النظر على الناس هو قول الأشعرية كلهم، بل هم متنازعون في ذلك. كلام الأشعري فقال الأشعري في بعض كتبه: (قال بعض أصحابنا: أول الواجبات الإقرار بالله تعالى وبرسله وكتبه ودين الإسلام. وقال أيضاً: لو سأل سائل عمن ورد من الصين ورأى الاختلاف، ماذا يلزمه؟ فقال: عنه جوابان: أحدهما: أن يلزمه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 407 النظر ليعرف الحق فيتبعه. والثاني: يلزمه اتباع الحق وقبول الإسلام، ثم تصحيح المعرفة بالنظر والاستدلال على أقل ما يجزئه) . وقد تنازع أصحابه وغيرهم في النظر في قواعد الدين: هل هو من فروض الأعيان، أو من فروض الكفايات؟ والذين لا يجعلونه فرضاً على الأعيان، منهم من يقول: الواجب هو الاعتقاد الجازم. ومنهم من يقول: بل الواجب العلم، وهو يحصل بدونه. كما ذكر ذلك غير واحد من النظار من أصحاب الأشعرية وغيرهم، كـ الرازي والآمدي وغيرهما. والذين يجعلونه فرضاً على الأعيان، متنازعون: هل يصح الإيمان بدونه وتاركه آثم، أم لا يصح؟ على قولين. والذين جعلوه شرطاً في الإيمان، أو أوجبوه، ولم يجعلوه شرطاً اكتفوا بالنظر الجملي دون القدرة على العبارة والبيان، ولم يوجب العبارة والبيان إلا شذوذ من أهل الكلام. ولا ريب أن المؤمنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين، لم يكونوا يؤمرون بالنظر الذي ذكره أهل الكلام المحدث، كطريق الأعراض والأجسام. لكن هل يقال: مجرد الاعتقاد الجازم كان كافياً لهم؟ أم لا بد من علم يحصل بالنظر؟ أم يحصل علم ضروري بغير الطريقة النظرية؟ فهذا مما تنوزع فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 408 رد ابن حزم قال ابن حزم: (فاحتج من أوجب الاستدلال بالإجماع على أن التقليد مذموم، وما لم يعرف بالاستدلال فهو تقليد) . (قالوا والديانات لا يعرف حقها من باطلها بالحس، لا يعلم إلا بالاستدلال، ومن لم يحصل له العلم فهو شاك، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما حكاه من المسؤول في قبره. قال: «فأما المؤمن - أو الموقن - فيقول: هو عبد الله ورسوله، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته» . وقال في الجواب: (التقليد أخذ المرء قول من هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم ممن لم يأمرنا الله باتباعه وأخذ قوله، بل حرم علينا ذلك. وأما أخذ قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 409 فرض الله تصديقه وطاعته فليس تقليداً، بل إيمان وتصديق، واتباع للحق، وطاعة الله ورسوله) . قال: (فموه هؤلاء الذين أطلقوا على الحق - الذي هو اتباع الحق - اسم التقليد، الذي هو باطل. والقرآن إنما هو ذم فيه تقليد الآباء والكبراء والسادة في خلاف ما جاءت به الرسل، وأما اتباع الرسل فهو الذي أوجبه، لم يذم من اتبعهم أصلاً) . قال: (وأما احتجاجهم بأنه لا تعرف الأشياء إلا بالدلائل، وبأن ما لم يصح به دليل فهو دعوى، ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما، فإن هذا ينقسم قسمين. فمن كان من الناس تنازعه نفسه إلى تصديق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يسمع الدلائل، فهذا فرض عليه طلب الدليل، إلا أنه مات شاكاً أو جاحداً قبل أن يسمع من البرهان ما تثلج به نفسه، فقد مات كافراً، وهو مخلد في النار، بمنزلة من لم يؤمن ممن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأى المعجزات، فهذا أيضاً لو مات قبل أن يرى المعجزات مات كافراً بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام، وإنما أوجبنا على من هذه صفته طلب البرهان، لأن فرضاً عليه طلب ما فيه نجاته من الكفر. والقسم الثاني: من استقرت نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 410 وسلم، وسكن قلبه إلى الإيمان، ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل، توفيقاً من الله له، وتيسيراً له لما خلق له من الخير والحسنى، فهؤلاء لا يحتاجون إلى برهان، ولا إلى تكليف استدلال. وهؤلاء هم جمهور الناس من العامة والنساء والتجار والصناع والأكراه والعباد، وأصحاب الحديث الأئمة، الذين يذمون الكلام والجدل والمراء في الدين) . قال: (وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم} . وقال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} . قال: (فقد سمى الله راشدين القوم الذين زين الإيمان في قلوبهم وحببه إليهم، وكره إليهم المعاصي، فضلاً منه ونعمة وهذا هو خلق الله الإيمان في قلوبهم ابتداءً، وعلى ألسنتهم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 411 ولم يذكر الله في ذلك استدلالاً أصلاً. وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم ولا لكبرائهم، لأن هؤلاء مقرون بألسنتهم، محققون في قلوبهم، أن آباءهم ورؤساءهم لو كفروا لما كفروا هم، بل كانوا يستحلون قتل آبائهم ورؤسائهم والبراءة منهم، ويحسون من أنفسهم النفار العظيم عن كل من سمعوا منه ما يخالف الشريعة، ويرون أن حرقهم بالنار أخف عليهم من مخالفة الإسلام) . قال: (وهذا أمر قد عرفناه من أنفسنا حساً، وشاهدناه في ذواتنا يقيناً، فلقد بقينا سنين كثيرة لا نعرف الاستدلال ولا وجوهه، ونحن - ولله الحمد - في غاية اليقين بدين الإسلام، وكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وفي غاية سكون النفس إليه، وفي غاية النفار عن كل ما يعترض فيه بشك، وكانت تخطر في قلوبنا خطرات سوء في خلال ذلك ينبذها الشيطان، فنكاد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 412 لشدة نفارنا عنها أن نسمع خفقان قلوبنا استبشاعاً لها، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن ذلك، فقيل له: إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يقدم فتضرب عنقه أحب إليه من أن يتكلم به. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك محض الإيمان، وأخبر أنه وسوسة الشيطان، ثم تعلمنا طرق الاستدلال وأحكمناها - ولله الحمد والمنة - فما زادنا يقيناً على ما كنا، بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق، وصرنا كما عرف وقد أيقن يكون - الفيل سماعاً ولم يره، ثم رآه، فلم يزدد يقيناً بصحة إنيته أصلاً، لكن أرانا صحيح الاستدلال رفض بعض الآراء الفاسدة التي نشأنا عليها فقط) . قال: وإن المخالفين لنا ليعرفون من أنفسهم ما ذكرنا، إلا أنهم يلزمهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر قبل استدلالهم ولا بد، فصح بما قلنا أن كل من محض اعتقاد الحق بقلبه، وقاله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 413 بلسانه، فهم مؤمنون محققون. ليسوا مقلدين أصلاً، وإنما كانوا مكذبين مقلدين لو أنهم قالوا واعتقدوا أننا إنما نتبع في الدين آباءنا وكبراءنا فقط، ولو أن آباءنا وكبراءنا تركوا دين محمد صلى الله عليه وسلم لتركناه، فلو قالوا هذا واعتقدوه لكانوا مقلدين كفاراً غير مؤمنين، لأنهم إنما اتبعوا آباءهم وكبراءهم الذين نهوا عن اتباعهم، لم يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمروه باتباعه) . قال: (وإنما كلق الله الإتيان بالبرهان - إن كانوا صادقين - الكفار المخالفين لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا نص الآية، ولم يكلف قط المسلمين الإتيان بالبرهان، ولا أسقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان. والفرق بين الأمرين واضح وهو أن كل من خالف النبي صلى الله عليه وسلم فلا برهان له أصلاً، فكلف المجيء بالبرهان تبكيتاً وتعجيزاً، وإن كانوا صادقين - وليسوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 414 صادقين - فلا برهان لهم، وأما من اتبع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتبع الحق الذي قامت البراهين بصحته، ودان بالصدق الذي قامت الحجة البالغة بوجوبه، فسواء علم هو بذلك - أي البرهان - أو لم يعلم، حسبه أنه على الحق الذي صح البرهان به، ولا برهان على سواه، فهو محق مصيب) . قال: (وأما قولهم: ما لم يكن علماً فهو شك وظن، والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال. قالوا: والديانات لا تعرف صحتها بالحواس ولا بضرورة العقل، فصح أنه لا تعرف صحتها إلا بالاستدلال، فإن لم يستدل المرء فليس عالماً، وإذا لم يكن عالماً فهو جاهل شاك أو ظان، وإذا كان لا يعلم الدين فهو كافر. قال: فهذا ليس كما قالوا، لأنهم قضوا قضية باطلة فاسدة بنوا عليها هذا الاستدلال، وهي إقحامهم في حد العلم قولهم عن ضرورة أو استدلال. هذه زيادة فاسدة لا نوافقهم عليها، ولا جاء بتصحيحها قرآن، ولا سنة، ولا إجماع، ولا لغة، ولا طبيعة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 415 ولا قول صاحب. وحد العلم على الحقيقة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقط، وكل من اعتقد شيئاً على ما هو به ولم يتخالجه شك فيه فهو عالم به، وسواء كان عن ضرورة حسً، أو عن بديهة عقل، أو عن برهان استدلال، أو عن تيسير الله عز وجل له، وخلقه لذلك المعتقد في قلبه، ولا مزيد ولا يجوز البتة أن يكون محقق في اعتقاد شيء، كما هو ذلك الشيء، وهو غير عالم به، وهذا تناقض وفساد وتعارض) . قال: وقول النبي صلى الله عليه وسلم في مساءلة الملك حجة عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال فيه: «فأما المؤمن أو الموقن فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، ولم يقل: فأما المستدل. فحسبنا نور المؤمن الموقن، كيف كان إيمانه ويقينه. و «قال صلى الله عليه وسلم: وأما المنافق أو المرتاب» - ولم يقل: غير المستدل - فيقول: «سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته» ، فنعم هذا هو قولنا، لأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 416 المنافق والمرتاب ليسا موقنين ولا مؤمنين، وهذا مقلد للناس لا محقق، فالخبر حجة عليهم كافية. وأما قولهم: إن الله قد ذكر الاستدلال في غير موضع من كتابه وأمر به وأوجب العلم به، والعلم به لا يكون إلا عن استدلال، فهذا أيضاً زيادة أقحموها وهي قولهم: وأمر به. فهذا لا يجدونه أبداً، ولكن الله ذكر الاستدلال وحض عليه، ونحن لا ننكر الاستدلال، بل هو فعل حسن مندوب إليه، محضوض عليه كل من أطاقه، لأنه مزيد من الخير، وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق، وإنما ننكر كونه فرضاً على كل أحد لا يصح إسلام أحد دونه، فهذا هو الباطل المحض. وأما قولهم: إن الله أوجب العلم به، فنعم. وأما قولهم: والعلم لا يكون إلا عن استدلال، فهذا هو الدعوى الكاذبة التي أبطلناها آنفاً. وأول بطلانها أنه دعوى بلا برهان) . قال: (فسقط قولهم إذ تعرى من البرهان، وكان دعوى منهم مفتراه لم يأت بها نص قط ولا إجماع. ونحن ذاكرون البراهين على بطلان قولهم. يقال لمن قال: لا يكون مسلماً إلا من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 417 استدل أخبرنا: متى يجب عليه فرض الاستدلال؟ أقبل البلوغ أو بعده؟ فأما الطبري. فإنه أجاب بأن واجب قبل البلوغ. قال ابن حزم: وهذا خطأ، لأن من لم يبلغ ليس مكلفاً ولا مخاطباً) . قال: وأما لاأشعرية فإنهم أتوا بما يملأ الفم، وتقشعر منها جلود أهل الاسلام، وتصطك منه المسامع، ويقطع ما بين قائلها وبين الله، وهو أنهم قالوا: لا يلزم طلب الأدلة إلا بعد البلوغ. ولم يقنعوا بهذه الجملة حتى كفونا المؤونة، وصرحوا بما كنا نريد أن نلزمهم، فقالوا غير مساترين: لا يصح إسلام أحد بأن يكون بعد بلوغه شاكاً غير مصدق. قال: وما سمعنا قط في الكفر والانسلاخ من الإسلام بأشنع من قول هؤلاء القوم: إنه لا يكون أحد مسلماً حتى يشك في الله عز وجل، وفي صحة النبوة، وفي هل رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق أو كاذب؟ ولا سمع قط سامع في الهوس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 418 والمناقضة والاستخفاف بالحقائق بأقبح من قول هؤلاء: إنه لا يصح الإيمان إلا بالكفر، ولا يصح التصديق إلا بالجحد، ولا يوصل إلى رضا الله عز وجل إلا بالشك فيه، وأن من اعتقد موقناً بقلبه ولسانه أن الله ربه لا إله إلا هو، وأن محمد رسول الله، وأن دين الله الذي لا دين غيره - فإنه كافر مشرك، نعوذ بالله من الخذلان. فوالله لولا خذلان الله - الذين هو غالب على أمره - ما انطلق لسان ذي مسكة بهذه العظيمة) . تعليق ابن تيمية قلت: هذا القول هو في الأصل من أقوال المعتزلة، وقد أوجب أبو هاشم وطائفة معه الشك، وجعلوه أول الواجبات. ومن لم يوجبه من الموافقين على أصل القول، قال إنه لابد من حصوله، وإن لم يؤمر به. وهذا بناء على أصلين: أحدهما: أن أول الواجبات النظر المفضي إلى العلم. والثاني: أن النظر يضاد العلم، فإن الناظر طالب للعلم، فلا يكون في حال النظر عالماً. وكلا الأصلين باطل. أما الأول، فقد عرف الكلام فيه. وأما الثاني، فإن النظر نوعان: أحدهما: النظر المتضمن طلب الدليل، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 419 وهو كالنظر في المسؤول عنه ليعلم ثبوته أو انتفاؤه، كالنظر في مدعي النبوة: هل هو صادق أو كاذب؟ والنطر في رؤية الله تعالى: هل هي ثابتة في الآخرة أم منتفية؟ والنظر في النبيذ المسكر: أحلال هو أم حرام؟ فهذا الناظر طالب، وهو في حال طلبه شاك. وليس هذا النظر هو النظر المقتضي للعلم، فإن ذلك هو النظر فيما يتضمن النظر فيه للعلم، وهو النظر في الدليل، كالنظر في الآية والحديث، أو القياس الذي يستدل به، فهذا النظر مقتض للعلم، مستلزم له. وذلك النظر مضاد للعلم مناف له. ولما كان في لفظ (النظر) إجمال، كثر اضطراب الناس في هذا المقام، وتناقض من تناقض منهم، فيوجبون النظر لأنه يتضمن العلم، ثم يقولون: النظر يضاد العلم. فكيف يكون ما يتضمن العلم مضاداً له لا يجتمعان. فمن فرق بين النظر في الدليل، وبين النظر الذي هو طلب الدليل، تبين له الفرق. والنظر في الدليل لا يستلزم الشك في المدلول، بل قد يكون في القلب ذاهلاً عن الشيء، ثم يعلم دليله، فيعلم المدلول، وإن لم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 420 يتقدم ذلك شك وطلب. وقد يكون عالماً به، ومع هذا ينظر في دليل آخر، لتعلقه بذلك الدليل، فتوارد الأدلة على المدلول الواحد كثير، لكن هؤلاء لزمهم المحذور، لأنهم إنما أوجبوا عليه النظر، فإذا أوجبوه لزم انتفاء العلم بالمدلول، فيكون الناظر طالباً للعلم، فيلزم أن يكون شاكاً، فصاروا يوجبون على كل مسلم: أنه لا يتم إيمانه حتى يحصل له الشك في الله ورسوله بعد بلوغه، سواء أوجبوه، أو قالوا: هو من لوازم الواجب. ومن غلطهم أيضاً. أنه لو قدر أن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر، فليس من شرط ذلك تأخر النظر إلى البلوغ، بل النظر قبل ذلك ممكن، بل واقع، فتكون المعرفة قد حصلت بذلك النظر، وإن لم يكن واجباً كما لوتعلم الصبي أم الكتاب وصفة الصلاة قبل البلوغ، فإن هذا التعلم يحصل به مقصود الوجوب بعد البلوغ، والنظر إنما هو واجب وجوب الوسائل، فحصوله قبل وقت وجوبه أبلغ في حصول المقصود. ونظير ذلك: إن يتوضأ الصبي قبل البلوغ، والبالغ قبل دخول وقت الصلاة، فيحصل بذلك مقصود الوجوب بعد البلوغ والوقت. والكلام في هذه المسألة له شعب كثيرة، وقد تكلم عليها في غير هذا الموضع. والمقصود هنا بيان طرق كثير من أهل العلم في تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم. وتحقيق هذه المسألة يتعلق بمسائل: منها: أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 421 الاعتقاد الجازم بلا ضرورة ولا استدلال: هل يمكن أم لا؟ وإذا أمكن: فهل يسمى علماً أم لا؟ ومنها: أن لفظ (الضرورة) فيه إجمال. فقد يراد به مايضطر إليه الإنسان من المعلومات الظاهرة المشتركة بين الناس. وقد يراد به ما يحصل في نفسه بدون كسبه. وقد يراد به ما لا يقبل الشك. وقد يراد به ما يلزم نفس الإنسان لزوماً لا يمكن الانفكاك عنه. ومنها: أن حصول العلم في النفس قد يحصل لكثير من الناس حصولاً ضرورياً، مع توهمه أنه لم يحصل له، كما يقع مثل ذلك في القصد والنية، فإن الأمة متفقة على أن الصلاة ونحوها من العبادات لا تصح إلا بالنية من جنس القصد، والإرادة محلها القلب باتفاقهم، فلو لفظ بلسانه غير ما قصد بقلبه أو بالعكس، كان الاعتبار بقصده الذي في قلبه. ثم إن كثيراً من الناس اشتبه عليهم أمر النية، حتى صار أحدهم يطلب حصولها وهي حاصلة عنده، ويشك في حصولها في نفسه وهي حاصلة، لا سيما إذا اعتقد أنه يجب مقارنة النية للصلاة، فيرى في أحدهم من الوسواس في حصولها ما يخرجه عن العقل والدين، حتى قيل: الوسوسة لا تكون إلا عن خبل في العقل، أو جهل بالشرع. وأصل ذلك جهلهم بحقيقة النية وحصولها، مع خروجهم عن الفطرة السليمة، التي فطر الله عليها عباده. ومن المعلوم أن كل من علم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 422 ما يريد أن يفعله، فلا بد ان ينويه ويقصده، فيمتنع أن يفعل العبد فعلاً باختياره، مع علمه به وهو لا يريده، فالمصلي إذا خرج من بيته وهويعلم أنه يريد الصلاة، امتنع أن لا يقصد الصلاة ولا ينويها. وكذلك الصائم إذا علم أن غداً من رمضان وهوممن يصومه، أمتنع أن لا ينويه. وكذلك المتطهر إذا أخذ الماء وهو يعلم أن مراده الطهارة، أمتنع أن لا يريدها. وإنما يتصور عدم النية مع الجهل بالمفعول، أو مع أنه ليس مقصوده المأمور به، مثل من يظن أن وقت الصلاة أو الصيام قد خرج، فيصوم ويصلي ظاناً أن ذلك قضاء بعد الوقت، فهذا نوى القضاء، فإذا تبين له بعد ذلك أن الصوم والصلاة إنما كانا في الوقت، إذا فهذا يجزئه الصلاة والصيام بلا نزاع. وكذلك من اغتسل بالماء لقصد لقصد إزالة الوسخ، أو لتعليم الغير، فهذا لم يكن مراده بما فعله الطهارة المأمور بها. ولهذا تنازع الفقهاء في صحة الصلاة بمثل هذه الطهارة، وأمثال ذلك. ولهذا يجد المسلم في نفسه فرقاً بين ليلة العيد الذي يعلم أنه لا يصومه، وبين ليالي رمضان الذي يعلم أنه يصومه. ويجد الفرق بين ما إذا كان مقيماً أو مسافراً يريد الصيام، وبين ما إذا كان مسافراً لا يريد الصيام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 423 فكما أن الإرادة تكون موجودة في نفس الإنسان، وقد يشك في وجودها، أولا يحسن أن يعبر عن وجودها، أو يطلب وجودها فهكذا العلم الضروري وغيره، قد يكون حاصلاً في نفس الإنسان، وهو يشك في وجوده، أو يطلب وجوده، أو لا يحسن أن يعبر عنه، لأن وجود الشيء في النفس شيء، والعلم بوجوده في النفس شيء آخر، فالتمييز بينه وبين غيره والتعبير عن ذلك شيء آخر. فهكذا عامة المؤمنين: إذا حصل أحدهم في سن التمييز يحصل له من الأسباب، التي توجب معرفته بالله وبرسوله، ما يحصل بها في نفسه علم ضروري ويقين قوي، كحصول الإرادة لمن علم ما يريد فعله، ثم كثير من أهل الكلام يلبسون عليه ما حصل له ويشككونه فيه، كما أن كثيراً من الفقهاء يلبسون على المريد الناوي ما حصل له ويشككونه فيه. والعلم الحاصل في النفس لا تنضبط أسبابه، ومنه ما يحصل دفعة، كالعلم بما أحسه. ومنه ما يحصل شيئاً بعد شيء، كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة، والعلم بمدلول القرائن التي لا يمكن التعبير عنها. وكذلك حصول الإرادة، فإن من الأشياء ما تحصل إرادته الجازمة في النفس، كإرادة الأشياء الضرورية التي لا بد له منها، كإرادة دفع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 424 الأمور الضارة له، وكإرادة الجائع الشديد الجوع، والعطشان الشديد العطش، لتناول ما تيسر له من الطعام والشراب. ومنه ما يحصل شيئاً بعد شيء، كإرادة الإنسان لما هو أكمل له وأفضل، فإن هذا قد تحصل إرادته شيئاً بعد شيء. وكذلك إرادته لما يشك في كونه محتاجاً إليه، أو كونه نافعاً له، فإن الإرادة قد تقوى بقوة العلم، وقد تضعف بضعفه، وقد تقوى بقوة نفس محبة الشيء المطلوب وضعف محبته. ومن عرف حقيقة الأمر تبين له أن النفوس فيها إرادات فطرية، وعلوم فطرية، وأن كثيراً من أهل الكلام في العلم قد يظنون عدم حصولها، فيسعون في حصولها، وتحصيل الحاصل ممتنع، فيحتاجون أن يقدروا عدم الموجود، ثم يسعون في وجوده، ومن هنا يغلط كثير من الخائضين في الكلام والفقه. وقد يكون العلم والإرادة حاصلين بالفعل، أو بالقوة القريبة من الفعل، مع نوع من الذهول والغفلة، فإذا حصل أدنى تذكر رجعت النفس إلى ما فيها من العلم والإرادة، أو توجهت نحو المطلوب، فيحصل لها معرفته ومحبته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 425 والله تعالى فطر عباده على محبته ومعرفته، وهذه هي الحنيفية التي خلق عباده عليها، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» . وقد قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} . وقال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» ؟ والكلام في هذه الأمور مذكور في غير هذا الموضع. ومن المسائل المتعلقة بهذا الباب أن العلم والإيمان واجب على الناس بحسب الإمكان، فالجمل التي فرض الله تعالى على الخلق كلهم الإقرار بها مما يمكنهم معرفتها. وأما التفاصيل ففيها من الدقيق ما لا يمكن أن يعرفه إلا بعض الناس، فلو كلف بقية الناس بمعرفته، كلفوا ما لا يطيقون، ولهذا لم يجب على كل أحد أن يسمع كل آية في القرآن ويفهم معناها، وإن كان هذا فرضاً على الكفاية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 426 ومن المعلوم أنه في تفاصيل آيات القرآن من العلم والإيمان ما يتفاضل الناس فيه تفاضلاً لا ينضبط لنا. والقرآن الذي يقرأه الناس بالليل والنهار يفاضلون في فهمه تفاضلاً عظيماً، وقد رفع الله بعض الناس على بعض درجات، كما قال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} ، بل من الأخبار ما إذا سمعه بعض الناس ضرهم ذلك، وآخرون عليهم أن يصدقوا بمضمون ذلك ويعلموه، قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسول؟ وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. فمثل هذه الأحاديث التي سمعت من الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمعها منه، وعلم أنه قالها، يجب على من سمعها أن يصدق بمضمونها، وإذا فهم المراد كان عليه معرفته والإيمان به. وآخرون لا يصلح لهم أن يسمعوها في كثير من الأحوال، وإن كانوا في حال أخرى يصلح لهم سماعها ومعرفتها. والقرآن مورد يرده الخلق كلهم، وكل ينال منه على مقدار ما قسم الله له. قال تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 427 فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} . وهذا مثل ضربه الله سبحانه لما أنزل من العلم والإيمان والقلوب التي تنال ذلك، شبه الإيمان بالماء النازل، والقلوب بالأودية، فمنها كبار ومنهاصغار، وبين أن الماء كما يختلط بما يكون في الأرض، كذلك القلوب فيها شبهات وشهوات تخالط الإنسان، وأخبر أن ذلك الزبد بجفأ جفاءً، وما ينفع الناس يمكث في الأرض، كذلك الشبهات تجفوها القلوب، وما ينفع يمكث فيها. وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا ورعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 428 دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» . وما ذكره ابن حزم من أن العلم قد يحصل في القلب لا عن ضرورة ولا نظر، ورده على من يحصره في النوعين فمثل هذا قد يكون النزاع فيه لفظياً. وذلك أن نافي الحصر قد يريد بالضرورة ما كان عن ضرورة حس، وأولئك يجعلون ما يحصل من العلم الضروري بالحس أحد أنواع العلم الضروري وقد يريد بالضرورة ما يضطر إليه الإنسان بدون نظر في تصوره. وأولئك يريدون بالعلم الضروري والبديهي ما اضطر إليه الإنسان إذا تصور طرفيه، سواء كان ذلك التصور ضرورياً أو لم يكن، بل كثير من الناس يقول: إن جميع العلوم ضرورية باعتبار أسبابها، فإن العلم الحاصل بالنظر والكسب والاستدلال هو بعد حصول أسبابه ضروري، يضطر إليه الإنسان، وهذا اختيار أبي المعالي وغيره. وللناس في هذا الباب اصطلاحات متعددة، من لم يعرفها يجعل بينهم نزاعاً معنوياً، وليس كذلك. كما أن طائفة منهم يجعلون العلم البديهي هو الضروري، والكسبي هو النظري. ومنهم من يفرق بينهما، فيجعلون الضروري ما اضطر إليه العبد من غير عمل وكسب منه، لا في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 429 تصور المسألة ولا دليلها ويجعلون البديهي ما بدهه، وإن كان عن نظر اضطر إليه من غير كسب منه، فإن العبد قد يضطر إلى أسباب العلم. وقد يختار اكتساب أسبابه. وهذا في الحسيات وغيرها، كمن يفجأه ما يراه ويسمعه، من غير قصد إلى رؤيته وسمعه، ومن يسعى في رؤية الشيء واستماعه. والأول لا يدخل تحت الأمر والنهي. والثاني يدخل تحت الأمر والنهي. وأيضاً فمن الناس من يقول: العلوم الضرورية والبديهية يشترك فيها عامة العقلاء، ويجعل ما يختص به بعضهم ليس من هذا القسم. ومنهم من يسمى كل ما اضطر إليه الإنسان وبدهه ضرورياً وبديهياً، وإن كان ذلك مختصاً بنوع من الناس، كما يختص بالأنبياء والأولياء وأهل الفراسة والإلهام. وعلى هذا فالعلم الحاصل بتيسير الله تعالى وهدايته وإلهامه، وجعله له في قلب العبد بدون استدلال، يسميه هؤلاء علماً ضرورياً. وإن كان ابن حزم وأمثاله لا يسمونه ضرورياً، فهذا نزاع لفظي. ومن حد الضروري بأنه العلم الذي يلزم نفس العبد لزوماً لا يمكنه الانفكاك عنه، جعل هذا كله ضرورياً. وكذلك يقول كثير من شيوخ أهل المعرفة لكثير من أهل النظر: إن علمنا ضروري، كما في الحكاية المعروفة التي ذكرها أبو العباس أحمد بن محمد بن خلف المقدسي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 430 ورأيتها بخطه عن الشيخ أحمد الحيوقي المعروف بالكبرى، قال: دخل علي فخر الدين الرازي ورجل آخر من المعتزلة كبير فيهم، فقالا: يا شيخ، بلغنا أنك تعلم علم اليقين. فقلت نعم أنا أعلم علم اليقين. فقالا لي: كيف تعلم علم اليقين، ونحن نتناظر من وقت كذا إلى وقت كذا، وكلما أقام حجة أبطلتها، وكلما أقمت بجة أبطلها؟ فقلت: ما أدري ما تقولان، ولكن أنا أعلم علم اليقين. فقالا: فبين لنا ما هذا اليقين. فقلت: واردات ترد على النفوس، تعجز النفوس عن ردها. فجعلا يرددان هذا الكلام، ويقولون: واردات ترد على النفوس، تعجز النفوس عن ردها. وتعجبا من هذا الجواب، لأنه رحمه الله بين أن ذلك من العلوم الضرورية التي تلزم القلب لزوماً لا يمكنه مع ذلك دفعها. قالا له: كيف الطريق إلى هذه الواردات؟ فقال لهما: بأن تسلكا طريقتنا التي نأمركم بها فاعتذر الرازي بما له من الموانع. وأما المعتزلي فقال: أنا محتاج إلى هذه الواردات، فإن الشبهات قد أحرقت قلبي. فأمر الشيخ بما يفعله من العبادة والذكر وما يتبع ذلك، ففتح الله عليه بهذه الواردات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 431 والمعتزلة ينفون العلو والصفات، ويسمون من أثبت مجسماً حشوياً، فلما فتح الله تعالى عليه بذلك، قال: والله ما الحق إلا فيما عليه هؤلاء الحشوية والمجسمة، أو كما قال، فإن عهدي بالحكاية من زمان، وكان هذا الشيخ الكبرى إذا قيل له: من قال: {الرحمن على العرش استوى} فهو مجسم، يقول: فخذ إني حنيئذ مجسم وكان من أجل شيوخ وقته في بلاده، بلاد جرجان وخوارزم. تابع كلام ابن حزم قال أبو محمد بن حزم: (ومن البرهان الموضح لبطلان هذه المقالة الخبيثة أنه لا يشك أحد ممن يدري شيئاً من السير من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية في أن رسول الله صلى لله عليه وسلم منذ بعث لم يزل يدعو الناس، الجم الغفير، إلى الإيمان بالله تعالى، وبه، وبما أتى به، ويقاتل من أهل الأرض من يقاتله ممن عند ويستحل سفك دمائهم، وسسبي نسائهم وأولادهم، وأخذ أموالهم، متقرباً إلى الله تعالى بذلك، وأخذ الجزية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 432 وإصغاره، ويقبل من آمن به، ويحرم ماله ودمه وأهله وولده، ويحكم له بحكم الإسلام، ومنهم المرأة البدوية، والراعي، والراعية، والغلام الصحراوي، والوحشي، والزنجي، والمسبي، والزنجية المجلوبة، والرومي والرومية، والأغثر الجاهل والضعيف في فهمه، فما منهم من أحد ولا من غيرهم قال عليه السلام: إني لا أقبل إسلامك، ولايصح لك دين إلا حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه. قال: ولسنا نقول: إنه لم يبلغنا أنه قال ذلك لأحد، بل نقطع - نحن وجميع أهل الأرض - قطعاً كقطعنا على ما شاهدنا: أنه عليه السلام لم يقل هذا قط لأحد، ولا رد إسلام أحد حتى يستدل، ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة، أولهم عن آخرهم، ولا يختلف أحد في هذا الأمر. ومن المحال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 433 الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصح لأحد الإسلام إلا به، ثم يتفق على إغفال ذلك أو تعمد ترك ذكره جميع أهل الإسلام، ويبينه هؤلاء الأشقياء، ومن ظن أنه وقع من الدين على ما لا يقع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر بلا خلاف. فصح أن هذه المقالة خرق للإجماع، وخلاف لله ولرسوله، ولجميع أهل الإسلام قاطبة) . تعليق ابن تيمية قلت: قبول الإسلام الظاهر يجري على صاحبه أحكام الإسلام الظاهرة: مثل عصمة الدم، والمال، والمناكحة، والموروثة، ونحو ذلك. وهذا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر، وإن لم يعلم ما في باطن الإنسان. كما قال صلى الله عليه وسلم: «فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» . وقال: «إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 434 ولهذا يقاتل الكافر حتى يسلم أو يعطي الجزية، فيكون مكرهاً على أحد الأمرين. ومن قال: لا تؤخذ الجزية من وثني قال: إنه يقاتل حتى يسلم. وأما الإيمان الباطن الذي ينجي من عذاب الله في الآخرة، فلا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر، بل قد يكون الرجل مع إسلامه الظاهر منافقاً، وقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منافقون، وقد ذكرهم الله تعالى في القرآن في غير هذا موضع، وميز سبحانه بين المؤمنين والمنافقين في غير موضع. كما في قوله: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب * ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور * فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير} . وقال تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 435 من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم * إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} . وهؤلاء قد قالت طائفة: إنهم أسلموا ظاهراً مع كونهم منافقين. وقال الأكثرون: بل كانوا مسلمين غير منافقين ولا واصلين إلا حقيقة الإيمان، فإنه قد قال فيهم: {وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم} . والمنافق عمله حابط لا يتقبله الله، ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولايسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» وغير ذلك من الأحاديث التي تكلم عليها في غير هذا الموضع، فإن مسألة الإيمان والكفر والنفاق متعلقة بمسألة أول الواجبات، ووجوب النظر، بالفاسق الملي، وتكفير أهل البدع، وغير ذلك من المسائل التي تكلم عليها الناس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 436 وبهذا أجابوا عن هذه الحجة، فإنه لما قيل لهم: أجمع المسلمون على أن الكافر إذا أراد أن يسلم يكتفي منه بالإقرار بالشهادتين. قالوا: إنما نجتزىء منه بذلك لإجراء الإسلام عليه. فإن صاحب الشرع جعل ذلك أمارة لإجراء الأحكام. ولو كان ذلك إيماناً حقيقياً لما قال في حق النسوة المهاجرات: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن} ثم يقول: من ترك ملة من الملل وعاد إلى ملتنا، فلا بد له من حامل يحمله عليه، فإن كان الذي يحمله عليه ما علمه من فساد ملته وعقيدته، وصحة دين الإسلام، فهذا القدر كاف من النظر والاستدلال على الجملة، وإن كان الذي يحمله رهبةً منا، أو رغبة فيما أعطانا الله من المال وغيره، فهجرته إلى ما هاجر إليه. تابع كلام ابن حزم قال أبو محمد: (فإن قالوا: فما كانت حاجة الناس إلى الآيات والمعجزات؟ وإلى احتجاج الله عليهم بالقرآن وإعجازه؟ وبدعاء اليهود إلى تمني الموت، ودعاء النصارى إلى المباهلة وشق القمر؟ قلنا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 437 وبالله التوفيق قد قلنا: إن الناس قسمان: قسم لم تسكن نفوسهم إلى الإسلام، ولا دخلها التصديق، فطلبوا منه عليه السلام البراهين، فأراهم المعجزات، فانقسموا قسمين: طائفة آمنت، وطائفة عندت وجاهرت فكفرت، وأهل هذه الصفة اليوم هم الذين يلزمهم طلب الاستدلال فرضاً ولابد، وقسم وفقهم الله تعالى لتصديقه عليه السلام، وخلق في نفوسهم الإيمان، كما قال تعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} ، فهؤلاء آمنوا له عليه السلام بلا تكليف آية. وأهل هذه الصفة هم اليوم المعتقدون للإسلام حقاً بلا معرفة باستدلال. قال أبو محمد ويلزم أهل هذه المقالة أن جميع أهل الأرض كفار إلا الأقل، وقد قال بعضهم: إنهم مستدلون. قال: وهذه مجاهرة هو يدري أنه فيها كاذب، وكل من سمعه يدري الجزء: 7 ¦ الصفحة: 438 أنه فيها كاذب، لأن أكثر العامة من حاضرة وبادية لايدري ما معنى الاستدلال، فكيف يستعمله؟) . تعليق ابن تيمية قلت: لفظ الاستدلال فيه إجمال، فإن أريد العبارة عن نظم الأدلة والجواب عن الممانعات والمعارضات، فهذا قد يقال: إنه لا يحسنه إلا من يحسن الجدل. وأما الاصطلاح المعين، والترتيب المعين، أو اللفظ المعين، فهذا بمنزلة اللغات، لا يعرفه إلا من يعرف تلك اللغة، وليس هذا واجباً بلا ريب. وإن أريد به نفس طلب العلم بالشيء بالدليل والنظر فيما يدل على الشيء، فهذا مركوز في فطرة جميع الناس، فإنه مامنهم من أحد إلا وعنده من نوع النظر والاستدلال، بل ومن الجدال، بحسب ما هداه الله إليه من ذلك. وقد قال تعالى: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} والإنسان يجادل بالباطل ليدحض به الحق، من غير معرفة بقوانين الجدل، فكيف لا يجادل بالحق؟. وللناس من النظر والمناظرة في صناعتهم وأمور دنياهم، ما يبين أن النظر والمناظرة مركوز في فطرهم، فكيف في أمور الدين؟ والله سبحانه يقول: {الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى} وقال تعالى: {قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 439 وهذا الذي ذكره ابن حزم هو قول كثير من الأشعرية، فإنهم متنازعون في النظر: هل هو فرض على الأعيان أو على الكفاية؟ وفي الواجب: هل هو المعرفة أو الاعتقاد الجازم المصمم؟ وهل يسمى ذلك علماً أم لا؟ كلام الجويني في نفي وجوب النظر وكان أبو المعالي يقول: (لم يكلف الناس العلم، فإن العلم في هذه المسائل عزيز لا يتلقى إلا من النظر الصحيح التام، فتكليف ذلك عامة الناس تكليف ما لا يطاق، وإنما كلفوا الاعتقاد السديد مع التصميم وانتفاء الشك والتردد، ولو سمى مسم مثل هذا الاعتقاد علماً، لم يمنع من أطلاقه) . قال: (وقد كنا ننصر هذه الطريقة زماناً من الدهر، وقلنا: مثل هذا الاعتقاد علم على الحقيقة، فإنه اعتقاد يتعلق بالمعتقد على ما هو به مع التصميم، ثم بدا لنا أن العلم ما كان صدوره عن الضرورة أو الدليل القاطع) . قال: (وهذا الاعتقاد الذي وصفناه لا يتميز في مبادىء النظر حتى يستقر ويتميز عن اعتقاد الظان والمخمن) . كلام أبي إسحاق الإسفراييني وقال أبو إسحاق الإسفراييني في آخر مصنفاته: (من اعتقد ما يجب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 440 اعتقاده هل يكتفي به؟ اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من اكتفى به، ومنهم من شرط إقرار هذه العقائد بالأدلة) . تعليق ابن تيمية قلت: والذين أوجبوا النظر من الطوائف العامة نوعان: أحدهما: من يقول: إن أكثر العامة تاركوه، وهؤلاء على قولين فغلاتهم يقولون: إن إيمانهم لا يصح. وأكثرهم يقولون يصح إيمانهم تقليداً، مع كونهم عصاة بترك النظر. وهذا قول جمهورهم. قد ذكر هذا طوائف من الحنفية وغيرهم، كما ذكر من ذكر من الحنفية في شرح الفقه الأكبر فقالوا: قال أبو حنيفة وسفيان ومالك والأوزاعي وعامة الفقهاء وأهل الحديث بصحة إيمان المقلد، ولكنه عاص بترك الاستدلال. كلام شارح الفقه الأكبر لأبي حنيفة وقال الشارح: (هذا يفيد فائدتين: إحداهما: أن الإيمان بالتقليد صحيح، وإن لم يهتد إلى الاستدلال، خلافاً للمعتزلة والأشعرية، فإنهما لا يصححان إيمان المقلد والإيمان بالتقليد، ويقولان بكفر العامة) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 وقال: (وهذا قبيح من أقبح القبائح لأنه يؤدي إلى تفويت حكمة الله تعالى في الرسالة والنبوة، لأن من أعطي الرسالة والنبوة أمر بعرض الإسلام أولاً على الكفرة، فلو كان الإسلام لا يصح بالعرض والتقليد، لفات الحكمة في الرسالة، إلا أن درجة الاستدلال أعلى من درجة التقليد ألف مرة، وكل من كان في الاستدلال والاستنباط أكثر، كان إيمانه أنور) . وذكر كلاماً آخر. تعليق ابن تيمية قلت: القول القبيح الباطل تكفير من حكم الشارع بإيمانه، وهم المؤمنون من العامة وغيرهم، الذين لم يسلكوا الطرق المبتدعة، كطريق الأعراض ونحوها. وأما كون إيمان العامة تقليداً أو ليس تقليداً؟ وهل هم عصاة أو ليسوا عصاة؟ فهذا كلام آخر. وأما المعتزلة والأشعرية فلهم في ذلك نزاع وتفصيل معروف. والنوع الثاني من موجبي النظر - وهم جمهورهم - يقولون: إنه متيسر على العامة، كما يقوله القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلي وغيرهما، ممن يقول ذلك. كلام أبي يعلى في وجوب النظر قالوا: (فإن قيل: فتقولون بوجوب معرفة الله، ومعرفة نبوة رسله، في حق كل مكلف من أهل النظر والعامة، وجفاة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 442 الأعراب والأكراد، وأهل القصبة والرستاق، ومن يقصر فهمه عن معرفة الدقيق وأدلة التفصيل؟ قيل: نعم، لأنه ليس في جميع من ذكرت من يعرف فهمه ويقصر علمه عن معرفة الحدث والمحدث عند مشاهدة تغيير العالم، وما يحدث ويتجدد في أجسامه، من الزيادة والنقصان والنماء وتغير الحالات، وما تجد عليه النطفة من التصور والانتقال من حال إلى حال، وإن قصرت عبارته عن أن يقول: إن هذه أمور متجددة طارئة، إنه لا بد للصنعة من صانع، وللكتابة من كاتب. وقد علم أن انتقال النطفة، إلى أن تصير إنساناً أو بهيمة، أعظم في الأعجوبة، من تحول الفضة خاتماً، والخشبة سريراً وباباً، والغزل ثوباً منسوجاً، وإن لم يعبر عن ذلك بعبارات المتكلمين، وألفاظ الناظرين، وكما يفرق بين خبر الوحد الذي لا يوجب العلم، وبين خبر التواتر الموجب للعلم، وكما تجد في أنفسها الفرق بين الظن والتقليد، وبين المشاهدة وعلم اليقين، وإن تعذر عليها الفصل بين ذلك أجمع من طريق العبارة. وإذا كان كذلك وجب أن يكون لجميعهم سبيل إلى معرفة الحدوث والمحدث) . هذه عبارة القاضي أبي يعلي، وغيره من هؤلاء الذين وافقوا القاضي أبا بكر على طريقته. كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر وكذلك قال ابن الزاغوني، وهو من القائلين بوجوب النظر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 443 والاستدلال، وحكى ذلك عن عامة العلماء، كما ذكره القاضي أبو يعلي، وابن عقيل، وأبو الخطاب، وغيرهم. قال: (والذي فرضه الله على الأعيان على ضربين: أحدهما: ما لا يتم الإيمان إلا به، وهو معرفة الله وتوحيده، وأنه صانع الأشياء، وأن الكل عبيده، وأمثال ذلك. فهذا يستوي في لزومه العالم والعامي، ونعني بقولنا: العالم، الذي تبصر وتدرب وعرف الحجة من الشبهة، وتبحر في مواقف الاجتهاد للمعرفة، وانتصب دافعاً بالحق شبه أهل الاعتراض، على وجه يترجح به الثقة، ويساعده بالفهم اليقين والمعرفة. ونعني بالعامي من فصل عن أرباب الاختصاص في أحراز العلم وكثرة التبحر، وإنما سمي عامياً من جهة قلة العدد في خواص العلماء، بالإضافة إلى من بقي، فخواص العلماء في كل زمان آحاد يسير عددهم، والناس غيرهم أعم وجوداً، وأكثر عدداً. فلهذا سمي من قل علمه عامياً ومن جملة العامة. ولسنا نريد بالعامي من لا معرفة له بشيء من العلم بحال. فإذا ثبت هذا، فسائر العامة مؤمنون عارفون بالله في عقائدهم وديانتهم، غير مقلدين في شيء قدمناه ذكره) . قال: (وذهبت طوائف من المعتزلة والقدرية إلى أنه لا يعرف الله إلا العلماء، فإما العوام فلا يحكم بصحة إيمانهم ولا بمعرفتهم لله) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 444 قال: (والدليل على إبطال قولهم هو أنا نقول: حقيقة الإيمان العائد إلى المعتقد هي طمأنينة النفس، وسكون القلب إلى معرفة مايعتقد، بإسناد ذلك إلى دليل يصلح له. وهذا لا يعدم في حق أحد من العامة. وبيان ذلك: أنه لو قيل لأحد من العوام: بم عرفت ربك؟ لقال: بأنه انفرد ببناء هذه السماء ورفعها، فلا يشاركه في هذا موصوف بجسم ولا جوهر. وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وإلى السماء كيف رفعت} ، ومن سائر الآيات التي فيها ذكر السماء والاعتبار بها. وهذا الآيات هي الأصل عند العلماء، وإنما ينفردون عن العامة في هذا ببيسط البيان المليح، والتشقيق، والغامض الدقيق. وفي بيان حكم يدركها العامي فهماً بجنانه، ويقصر عن شرحها بلسانه، فهما في ذلك كرجلين اتفقا في العلم بمسألة، وأحدهما في الكشف أبسط باعاً، وأفصح شرحاً. وهذا يرجع إلى شيء، وذلك أنه قد ثبت أن الله تعالى كلف الكل معرفته، وضمن فيما أن لا يزيد تكليفه على مقدار الوسع، بقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} ، فحقيقة المعرفة بالشيء إنما هي الوقوف عليه بالعلم على ما هو به، ولا يوصل إلى ذلك في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 445 حق الله إلا باستناد المعتقد فيه إلى دليله، فلو كان الدليل لا يدخل الوقوف عليه في طوق العامي، لأدى ذلك إلى تكليفه ما ليس في وسعه، وهذا خلاف ما نص الله عليه. دليل آخر: وهو أنا إذا تأملنا أدلة التوحيد، وما يجب على العامي ترك التقليد فيه، وجدناه سهلاً في مأخذه، قريباً في تناوله، تشتاق النفوس إليه بأنسها، ويستند ذلك إلى شيئين: أحدهما: أن ذلك منوط بالعقل، ولأجل هذا ادعى خصومنا أن المعرفة وجبت بالعقل، والعوام عقلاء. ويظهر ذلك شرعاً وعقلاً: أما الشرع فلا يكلف إلا عاقلاً، وهو تسليم أموالهم إليهم لرشدهم، ولا رشيد إلا عاقل. وأما طريق العقل فيما يظهر من ذلك في تدبيرهم، وتدقيق حيلهم، وخفي مكرهم، في تقاسيم أحوال الدنيا. وقد سطر الناس في ذلك كتباً، وصنفوا فيها من فنون المكر والحيل، وتدقيق الآراء في أنواع التدبير ما فيه غنية لمن تأمله. والثاني: أن أدلة ذلك جلية في أعلى مقامات الإيضاح والكشف، حتى تجد النفوس بها مستأنسة، وذلك مثلما يستدل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 446 العامي على معرفة أن له خالقاً، فيعلم عند تأمل نفسه أنه جسم مجموع مفعول مصنوع، وهو عاجز في نفسه عن صنع ذاته وصفاته من وجوه. أيسرها: أن الصانع من شرطه أن يتقدم على المصنوعات، فإذا ثبت ذلك في نفسه، واستقر ذلك في أمثاله من جنسه، واستوى العالم كله عنده في أنه يشاركه في صفات نفسه، اقتضى ذلك إثبات صانع آخر، يخالفهم في استحقاق الجمع لحقيقة الوحدة، ويتحقق فيه شرط السبق إلى غير غاية. وهذا وأمثاله معروف عند العامة، لا يخفى عليهم، وإن عجزوا في بعضه عن الإفصاح بشرحه، والمأخوذ على المكلف فهمه ومعرفته، على وجه يزول عنه الشك، ويبعد فيه الريب، ويستضيء به العقل، وتثق به النفس. وهذا سهل لا تقصر العامة عن معرفته، فلهذا قضينا لهم بالإيمان والمعرفة، وهذا جلي واضح. ولكونه حقاً في نفسه، صحيحاً في معناه، سوى الله في أحكامه بين العالم والعامي، في احكام ذلك العامة، وهي الخطاب بالأمر والنهي، وإقرارهم على حكم القبول في المعقود من الأنكحة والبيوع، وأداء الفرائض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 447 واجتناب المحارم، والغسل والتكفين، والصلاة عليهم، والدفن في مقابر المسلمين إلى قبلتهم، والتوارث منهم، وذلك يوجب لهم القضاء بالإيمان والمعرفة) . قال: (واحتج المخالف بأن حقيقة المعرفة هو العلم بالشيء، أو العلم بالمعلوم، وإنما يكون ذلك إذا وصل صاحبه إلى اليقين فيه، وإذا لم يكن قادراً على بصيرة دليل يكشفه، ولا على دفع شبهة يحلها، لم يكن على يقين فيما علمه، لأنه قد يعترض عليه، فيما عنده شك، ما يوجب نقلته عما كان عليه، أو يعرض له من الشكوك، ما يزيل الثقة بما عنده. ومن هو على هذه الصفة فهو ناقص المعرفة، وتجويز النقصان في هذا يوجب أنه لم يتعلق بما مثله يصلح أن يكون كافياً في مقصوده، شافياً في مراده، وإلا فحقيقة المعرفة لا تدخلها التجزئة، فيثبت منها بعض دون بعض. فبان بهذا أن كل من كان في عداد العامة، فهو غير عارف على الحقيقة، ومن ليس بعارف لم يثبت له تسمية ما يستحقه أهل المعرفة من ذلك) . قال: (والجواب أن ما أسلفناه في أول المسألة، هو جواب عما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 448 ذكروه، وهو أنه إذا أضاف ما علمه إلى دليل مثله لا يفسد، وقد استحكمت ثقة المعترف به في مدة حياته، لا يعتريه فساد، ولا يدخله نقص، واتفق على ذلك من يساويه في معرفته، ومن يزيد عليه في مقام العلم والاجتهاد، فقد استحكمت ثقته به من وجهين: أحدهما: علمه وتجربته. والثاني: اتفاق أهل الملة على صحته. ومثل هذا لا يعارضه شك يخرج المتمسك به عن الثقة، فإنه قد ثبت عند العامة عموماً، لا يختلف فيه أحد منهم، أن كل جسم مبني مجموع محدث، كان بعد أن لم يكن، ويتوهم نقضه، كما يتحقق بناؤه، وإن كان كل واحد منهم ليس بفاعل نفسه، ولا فعله مثله، ويتحقق أن من شرط الفاعل أن يكون سابقاً على المفعول، فإذا تساوت الأجسام في هذا، دل على أن الفاعل لها غيرها، وهو من لا يشاركها فيما أوجب بها العجز، وهذا جلي واضح لا يمكن دفعه، ولا تقابله شبهة تؤثر فيما استقر عند العالم به. وهذا كاف لا يقصر عنه عامي، ولا يقدر على الزيادة فيه عالم، إلا بتحسين العبارة فيه، أو حذف مواد الشبهة عنه. وهذا أمر زائد على مقدار فهمه، والثقة بصحته، ولهذا كان من فرائض الكفايات) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 449 تعليق ابن تيمية قلت: ولقائل أن يقول: إن جمهور العامة لا يعرف هذا الدليل، بل ولا يعرف مسمى الجسم في اصطلاح المستدلين به، ولا يعرف أن الهواء يسمى جسماً، بل أكثر الناظرين في العلم، من أهل الفلسفة والكلام، والفقه والحديث والتصوف، لم يعرفوا صحة هذا الدليل، بل قالوا: إن باطل. والسلف والأئمة جعلوا هذا من الكلام المبتدع الباطل، ولم يدع أحد من الأنبياء وأتباعهم أحداً إلى الاستدلال على معرفة الله بهذا الطريق، وإنما ابتدعه في الإسلام، من كان مبتدعاً في الإسلام، من الجهمية والمعتزلة ونحوهم. ولكن الذي يعرفه العامة، والخاصة، إن كل واحد من الآدميين محدث، كان بعد أن لم يكن، وأنه ليس بفاعل نفسه. ولم يفعله مثله. ولهذا استدل سبحانه بذلك، في قوله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} . وكذلك يعلمون حدوث ما يشهدون حدوثه، ويعلمون أنواعاً من الادلة غير هذا. تابع كلام ابن الزاغوني قال أبو الحسن بن الزاغوني: (وأما قولهم: إنه قد يعترض عليه من الشبهة ما يوجب تفلته، ويرفع ثقته، فليس كذلك، من وجهين: أحدهما: أن خيالات الشبه لا تكافي فيما ذكرنا، فما يقصر من الشبه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 450 فتقصيره يظهر سريعاً. والنثاني: أنه إذا طرأ على العامي شبهة، فإنه لا يزال يسأل عنها، ويبالغ في التفتيش والتنقير، حتى يخبره العلماء الربانيون في ذلك بما تقوى به ثقته) . قال: (وأما قولهم: إن المعرفة ناقصة في حقه، فإن أردتم أنها ناقصة من حيث إنه لا يصل إلى مطلوب المسألة، فهذا محال، لا فهذا مما لا يدخله نقص، وذلك لأن الإنسان: إما عارف بالمسألة، أو غير عارف، ولا واسطة بينهما وإن أردتم بالنقص من طريق العدد في المسائل أو في الدلائل فصحيح، غير أنه يفصل به بين علم الأعيان وعلم الكفاية، وذلك غير قادح في ثبوت المسألة بدليلها الذي لا غنى عنه ولا زيادة عليه) . تعليق ابن تيمية قلت: هذا مبني على أن المعرفة بالله تعالى لا تتفاضل، وأن الشيء لا يكون معلوماً من وجه، مجهولاً من وجه. وهذا أحد القولين للناس في هذه المسألة، وهو قول طائفة من أهل الحديث والفقهاء، من أصحاب أحمد وغيرهم، وقول كثير منهم من أصحاب الأشعري، أو أكثرهم، وهو قول جهم بن صفوان وكثير من المرجئة. لكن جمهور الناس على خلاف هذا. وقد ذكر القاضي أبو يعلى في ذلك عن أحمد في روايتين. وهذا يشبه تنازع الناس في العقل: هل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 451 يتفاضل؟ فمذهب الجمهور أنه يتفاضل، وهو قول أكثر أصحاب أحمد، وغيرهم من العلماء، كـ التميمي، والقاضي، وأبي الخطاب، وغيرهم من العلماء. وقالت طائفة: لا يتفاضل. وهو قول أكثر أصحاب الأشعري، وابن عقيل، وغيرهم. وهو يشبه تنازعهم في أن بعض الواجبات: هل تكون أوجب من بعض؟ فـ ابن عقيل وغيره ينكرون التفاضل في هذا. وجمهور الفقهاء يجوزون التفاضل في هذا. والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن الذين يقولون بوجوب النظر والاستدلال على الأعيان، أو يقولون: إن الإيمان لا يصح إلا به، لأن المعرفة واجبة، والمعرفة لا تتم إلا به، فقول جمهورهم: إن المراد بذلك هو العلم الذي يقوم بالقلب، لا العبارة عنه، ولا يوجبون نظم الدليل بالعبارة، ولا القدرة على جواب المعارض، ويقولون: إن العلم بالدليل أمر متيسر على العامة، وإن العامة المؤمنين قد حصل لهم في قلوبهم النظر والاستدلال المفضي إلى العلم، وإن لم يكونوا قادرين على نظم الدليل وبيانه بالعبارة. وهذا موجود في عامة ما يقوم بالنفس من علم، وحب وبغض، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 452 ولذة وألم، وغير ذلك، يكون ذلك موجوداً في النفس، يعلم به الإنسان، ولكن وصف ذلك وبيانه، والتعبير عنه، شيء آخر. وليس كل من علم شيئاً أمكنه أن يصفه، ولهذا يسمى مثل هذا متكلماً. ومعلوم أن العلم ليس هو الكلام. ولهذا يقال: العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان هو حجة الله على عباده. وقد روي ذلك عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وقد قيل: إنه من كلام الحسن، وهو أقرب. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إنكم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، كثير معطوه، قليل سائلوه. وسيأتي عليكم زمان كثير خطباؤه، قليل فقهاؤه، قليل معطوه، كثير سائلوه. فالفقيه الذي تفقه قلبه، غير الخطيب الذي يخطب بلسانه، وقد يحصل للقلب من الفقه والعلم أمور عظيمة، ولا يكون صاحبه مخاطباً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 453 بذلك لغيره، وقد يخاطب غيره بأمور كثيرة من معارف القلوب وأحوالها، وهو عار عن ذلك، فارغ منه. وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة: طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل الثمرة: طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة: ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة: طعمها مر ولا ريح لها» . فبين صلى الله عليه وسلم إن الإنسان قد يقرأ القرآن فيتكلم بكلام الله وهو منافق، ليس في قلبه إيمان، وآخر يكون مؤمناً قلبه، فيه من معرفة الله تعالى وتوحيده، ومحبته وخشيته، ما هو من أعظم الأمور، وهو لا يتكلم بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى. ولهذا قال جندب بن عبد الله، وابن عمر، وغيرهما: تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيماناً. وأنتم تتعلمون القرآن، ثم تتعلمون الإيمان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 454 وقد قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} . وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة» . فأخبر انه أنزل الإيمان في القلوب. وقد تقدم قوله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} . وهذا مثل ضربه الله لما أنزله في القلوب من الإيمان والقرآن، وشبه القلوب بالأودية، وشبه ما يخالط القلوب من الشهوات والشبهات بالزبد الذي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 455 يذهب جفاء، يجفوه القلب ويدفعه، وشبه ما يبقى في الأرض من الماء النافع بما يبقى في القلوب من الإيمان النافع. وتقدم أيضاً حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء، فشرب الناس وسقوا وزرعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قيعان: لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» . فقسم صلى الله عليه وسلم الناس فيما بعث به من الهدى والعلم، الذي شبهه بالغيث، إلى ثلاثة أقسام: فقسم قبلوه فانتفعوا به في نفوسهم علماً وعملاً. وقسم حفظوه وأوده إلى غيرهم. وقسم ثالث لا هذا ولا هذا. وقوله تعالى: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} نظير قوله: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 456 ففي هاتين الايتين بين سبحانه أن الإيمان والهدى حصل بالوحي النازل، لا بمجرد العقل الذي كان حاصلاً قبل الوحي. والناس متنازعون في المعرفة: هل حصلت بالشرع، أو بالعقل؟ وهل وجبت بهذا أو بهذا؟ والنزاع في هاتين المسألتين موجود بين عامة الطوائف، من اصحاب أحمد وغيره. فإن الناس لهم في العقل: هل يعلم به حسن الأشياء وقبحها؟ والوجوب والتحريم، قولان مشهوران: أحدهما: أنه لا يعلم به ذلك، وهو قول الأشعري وأصحابه، وابن حامد، والقاضي أبي يعلى، والقاضي يعقوب، وابن عقيل، وابن الزاغوني، وغيرهم من أصحاب أحمد وكثير من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما. والثاني: أنه يعلم به ذلك. وهذا قول المعتزلة والكرامية وغيرهم. وهو قول أبي الحسن التميمي، وأبي الخطاب، وغيرهما من أصحاب أحمد. وذكر أبو الخطاب أنه قول جمهور العلماء، وهو قول كثير من أئمة الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم، كـ أبي القاسم سعد بن علي الزنجاني، وأبي نصر السجزي. وقول كثير من أصحاب مالك والشافعي، وهو الذي ذكره أصحاب أبي حنيفة، وذكروه عن أبي حنيفة نفسه. وقد بسط الكلام على هذه المسألة، وما فيها من التفصيل، في غير هذا الموضع. وكذلك المعرفة: هل تحصل بالعقل أو بالشرع؟. فيها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 457 نزاع بين العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم من العلماء. وحقيقة المسألة: أن المعرفة منها ما يحصل بالعقل، ومنها ما لا يعرف إلا بالشرع. فالإقرار الفطري: كالإقرار الذي أخبر الله به عن الكفار، قد يحصل بالعقل، كقوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} . وأما ما في القلوب من الإيمان المشار إليه في قوله تعالى: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} فلا يحصل إلا بالوحي، كما في قوله: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي} . ومما يتعلق بهذه المسألة الكلام فيما يلهمه الله تعالى المؤمنين من الإيمان، كقوله تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} . وقوله: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} ، وقوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} . وقوله: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} إلى قوله: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 وقوله: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم} . وقوله: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} وقوله: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} . وأمثال ذلك مما يبين أن ما يحصل في القلوب من الهدى والنور الإيمان هو من الله تعالى بفضله ورحمته. وهذا يتعلق بمسألة القدر. ولما كانت المعتزلة قدرية تنكر أن يكون الله تعالى خالقاً لأفعال العباد، ويقولون: إن ما يحصل للعبد من الإيمان، لم يحصل من الله تعالى، بل قد أعطى الكافر من أسباب الإيمان مثل ما أعطى المؤمن، وليس له نعمة على المؤمن، أعظم من نعمته على الكافر، ولكن نفس القدرة التي بها آمن هذا بها كفر هذا، وكل منهما رجح أحد مقدوريه بلا سبب يوجب الترجيح، لأن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح. وأما من قال منهم بقول أبي الحسين: إن الفعل لا يحصل مع القدرة إلا بالداعي، وإن الله يخلق الداعي، وأنه يجب وجود المقدور عند وجودهما، فهذا موافق لأهل السنة في المعنى، وإن أظهر نزاعهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 459 والمعتزلة كانوا هم أئمة الكلام في وجوب النظر والاستدلال بطريقة الأعراض والأجسام وما يتبع ذلك، وصاروا يقولون: إن الإيمان لا يمكن أن يحصل للعبد بدون اكتسابه له، لا يمكن عندهم أن يحصل بعلم ضروري يجعله الله في قلب العبد، ولا بإلهام وهداية منه، يختص بها من يشاء من عباده. ولهذا خالفهم المثبتون للقدر، كـ الأشعري وغيره، وقالوا: يمكن أن يعلم بالاضطرار ما يعلم بالنظر، فإن هذا عندهم ليس أمراً لازماً، لكنه بحسب العادة. والمعتزلة يقولون: إن الإيمان إذا كان موهبة من الله تعالى لعبد، وتفضلاً منه عليه، لم يستحق العبد الثواب. وأهل السنة يقولون: هو محسن إلى العبد متفضل عليه، بأن أرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن جعل له السمع والبصر الفؤاد الذي يعقل به، وأن هداه للإيمان، وأن أماته عليه، فكل هذا إحسان منه إلى المؤمن وتفضل عليه، وإن كان هو قد كتب على نفسه الرحمة، وكان حقاً عليه نصر المؤمن، وحق العباد عليه إذا وحدوه ألا يعذبهم، فذاك حق أوجبه بنفسه، بكلماته التامات وبما تستحقه نفسه المقدسة من حقائق الأسماء والصفات، لا أن شيئاً من المخلوقات أوجب عليه شيئاً، أو حرم عليه شيئاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 460 والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر. فلما صار من أخذ ما أخذه من الكلام المحدث عنهم، كـ الأشعري ومن سلك سبيله من أصحاب أحمد ومالك والشافعي، يسلكون مسلكهم في مسألة إيجاب النظر، وأن الإيمان لا يحصل إلا به، قال أبو جعفر السمناني، أحد أئمة الأشعرية: (هذه المسألة بقية بقيت في المذهب من الأعتزال لمن اعتقدها، وذلك لكون الأشعري كان معتزلاً تلميذاً لأبي علي الجبائي، ثم رجع عن ذلك إلى مذهب ابن كلاب وأمثاله من الصفاتية المثبتين للقدر، والقائلين بأن أهل الكبائر لا يخلدون، ونحو ذلك من الأصول التي فارق بها المعتزلة للجماعة. وأصل الكلام المحدث، المخالف للكتاب والسنة، المذموم عند السلف والأئمة، كان أئمة الجهمية والمعتزلة وأمثالهم، والمعتزلة قدرية جهمية، وجهم وأتباعه جهمية مجبرة، ثم الأشعري كان منهم، ولما فارقهم وكشف فضائحهم، وبين تناقضهم، وسلك مسالك أبي محمد بن كلاب وأمثاله، ناقضهم غاية المناقضة في مسائل القدر والوعيد والأسماء والأحكام، كما ناقضهم في ذلك الجهمية والضرارية والنجارية ونحوهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 461 وكان الأشعري أعظم مباينة لهم في ذلك من الضرارية، حتى مال إلى قول جهم في ذلك، لكنه كان عنده من الانتساب إلى السنة والحديث وأئمة السنة، كـ الإمام أحمد وغيره. ونصر ما ظهر من أقوال هؤلاء، ما ليس عن أولئك الطوائف. ولهذا كان هو وأمثاله يعدون من متكلمة أهل الحديث، وكانوا هم خير هذه الطوائف، وأقربها إلى الكتاب والسنة، ولكن خبرته بالحديث والسنة كانت مجملة، وخبرته بالكلام كانت مفصلة، فلهذا بقي عليه بقايا من أصول المعتزلة، ودخل معه في تلك البقايا وغيرها طوائف من المنتسبين إلى السنة والحديث، من أتباع الأئمة من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد. وعامة هؤلاء يقولون الأقوال المتناقضة، ويقولون القول ولا يلتزمون لوازمه. ومن أسباب ذلك أنهم يقولون القول المأثور عن الصحابة والسلف، الموافق للكتاب والسنة، ولصريح المعقول، ويسلكون في الرد على بعض الكفار، أو بعض أهل البدع، مسلكاً سلكته المعتزلة ونحوهم، وذلك المسلك لا يوافق أصول أهل السنة، فيحتاجون إلى التزام لوازم ذلك المسلك المعتزلي، وإلى القول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 462 بموجب نصوص الكتاب والسنة، والمعقول الموافق لذلك، فيحصل التعارض والتناقض. وهكذا المعتزلة ردوا على كثير من الكفار رداً بطرق سلكوها، متى التزموا لوازمها عارضت حقاً آخر معلوماً بالشرع أو العقل. ومن تدبر هذه الأبواب رأى عجائب، وما ثم ما يثبت على السبر والتقسيم ويسلم عن التناقض، إلا ما جاء من عند الله. كما قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} . وكثير من هذه الطوائف يتعصب على غيره، ويرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع المعترض في عينه، ويذكر من تناقض أقوال غيره، ومخالفتها للنصوص والمعقول، ما يكون له من الأقوال في ذلك الباب ما هو من جنس تلك الأقوال، أو أضعف منها، أو أقوى منها. والله تعالى يأمر بالعلم والعدل ويذم الجهل والظلم. كما قال تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 463 وقال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فرجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار» . رواه أهل السنن. ومعلوم أن الحكم بين الناس في عقائدهم وأقوالهم أعظم من الحكم بينهم في مبايعهم وأموالهم. وقد قال تعالى: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 464 وقد رأيت من كلام الناس في هذا الباب وغيره ألواناً لا يسعها هذا الموضع، وكثير من نزاع الناس يكون نزاعاً لفظياً، أو نزاع تنوع، لا نزاع تناقض. فالأول مثل أن يكون معنى اللفظ الذي يقوله هذا، هو معنى اللفظ الذي لا يقوله هذا، وإن اختلف اللفظان، فيتنازعان، لكون معنى اللفظ في اصطلاح أحدهما، غير معنى اللفظ في اصطلاح الآخر، وهذا كثير. والثاني أن يكون هذا يقول نوعاً من العلم والدليل صحيحاً، ويقول الآخر نوعاً صحيحاً. وكثير من نزاع الناس في هذا الموضع من هذا الباب، وكثير منه نزاع في المعنى، والنزاع المعنوي: إما أن يكون في ثبوت شيء وانتفائه، وإما أن يكون في وجوب شيء وسقوطه. فالنزاع في صحة دليل الأعراض ونحوه نزاع معنوي، وكذلك النزاع في وجوب الاستدلال بهذا الدليل على الإيمان، أو توقف صحة الإيمان عليه، ونحو ذلك. ولما كان الكلام في هذه الأبواب المبتدعة، مأخوذ في الأصل عن المعتزلة والجهمية ونحوهم، وقد تكلم هؤلاء في أول الواجبات: هل هو النظر، أو القصد، أو الشك، أو المعرفة؟ صار كثير من المنتسبين إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 السنة، المخالفين للمعتزلة في جمل أصولهم، يوافقونهم على ذلك. ثم الواحد من هؤلاء إذا انتسب إلى إمام من أئمة العلم، كـ مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وصنف كتاباً في هذا الباب يقول فيه: (قال أصحابنا) و (اختلف أصحابنا) فإنما يعني بذلك أصحابه الخائضين في هذا الكلام، وليسوا من هذا الوجه من أصحاب ذلك الإمام فإن أصحابه الذين شاركوه في مذهب ذلك الإمام، إنما بينهم وبين أصحابه المشاركين له في ذلك الكلام عموم وخصوص، فقد يكون الرجل من هؤلاء دون هؤلاء وبالعكس، وقد يجتمع فيه الوصفان. وهذا موجود كثيراً في أتباع جميع الأئمة، فتجد الواحد، من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد يقول: اختلف أصحابنا في أول الواجبات، ونحو ذلك، ولا يصح كلامه إلا على هذا الوجه. كلام أبي الفرج المقدسي كما يقول أبو الفرج المقدسي الحنبلي في تبرصته فإنه قال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 (فصل) : في أول ما أوجب الله على العبد المكلف، وفي ذلك وجهان لأصحابنا: أحدهما: أن أول ما أوجب الله على العبد معرفته، والثاني: أن أول ما أوجب الله على العبد النظر والاستدلال، المؤديان إلى معرفة الله تعالى) . قال: (وقال قوم: أول ما أو جب الله على العبد الطهارة والصلاة وغير ذلك) . ثم قال: (دليلنا أن معرفة الله يجب أن تتقدم على عبادته، لأنه لا يجوز للمكلف ان يعبد ما لا يعرف وإذا ثبت هذا، وجب تقدم المعرفة على العبادة) . قال: (وإلى ذلك دعانا الباري بقوله تعالى: {أولم يتفكروا في أنفسهم} وقال: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} . قال: (ولم يندبنا إلى النظر والتفكر إلا لكي نستدل على معرفته) . قال: (دليل ثان: أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما أرسل به إلى الأمة التوحيد، ومعرفة الله تعالى بالوحدانية ونفى الإليهة عما سواه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 حتى يقولوا لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» . ثم فرض عليهم بعد ذلك الفرائض، فدل على ما قلناه) . تعليق ابن تيمية قلت: فهذا الكلام وأمثاله يقوله كثير من أصحاب الأئمة الأربعة ومعلوم أن الأئمة الأربعة ما قالوا لا هذا القول، ولا هذا القول، وإنما قال ذلك من أتباعهم من سلك السبل المتقدمة. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع أحداً من الخلق إلى النظر ابتداءً، ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه. كما قال في الحديث المتفق على صحته لمعاذ بن جبل رضي الله عنه، لما بعثه إلى اليمن: «إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 وكذلك سائر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم موافقه لهذا، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عمر: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» . وفي حديث ابن عمر: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة» . وهذا مما اتفق عليه أئمة الدين، وعلماء المسلمين، فإنهم مجمعون على ما علم بالاضطرار من دين الرسول، أن كل كافر فإنه يدعى إلى الشهادتين، سواء كان معطلاً، أو مشركاً، أو كتابياً، وبذلك يصير الكافر مسلماً، ولا يصير مسلماً بدون ذلك. كما قال أبو بكر بن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذ قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ إلى الله من كل دين يخالف دين الإسلام - وهو بالغ صحيح يعقل - أنه مسلم، فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتداً، يجب عليه ما يجب على المرتد. لكن تنازعوا فيما إذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله: هل يتضمن ذلك الشهادة بالتوحيد أو لا يتضمن؟ أو يفرق بين من يكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 مقراً بالتوحيد ومن لا يكون مقراً، على ثلاثة أقوال معروفة من مذهب أحمد وغيره من الفقهاء. ولهذا قال غير واحد ممن تكلم في أول الواجبات، كالشيخ عبد القادر وغيره: أول واجب على الداخل في ديننا هو الشهادتان. واتفق المسلمون على أن الصبي إذا بلغ مسلماً، لم يجب عليه عقب بلوغه تجديد الشهادتين. والقرآن العزيز ليس فيه أن النظر أول الواجبات، ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد، وإنما في الأمر بالنظر لبعض الناس، وهذا موافق لقول من يقول: إنه واجب على من لم يحصل له الإيمان إلا به، بل هو واجب على كل من لا يؤدي واجباً إلا به. وهذا أصح الأقوال. فقوله تعالى: {أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون} وهذا بعد قوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 ثم قال تعالى: {أولم يتفكروا في أنفسهم} فالضمير عائد إلى الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون. وقوله تعالى: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين * أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون} . فهذا مذكور بعد قوله: {والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين} . ثم قال: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم} ، فالضمير عائد إلى المكذبين، فإنه قال تعالى: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} ثم قال تعالى: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون} فقول هؤلاء، كأبي المعالي وغيره: (أول ما يجب على العاقل البالغ، باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعاً، القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدث العالم) هو في الأصل من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 كلام المعتزلة، وهو كلام مخالف لما أجمع عليه أئمة الدين، ولما تواتر عن سيد المرسلين، بل لما علم بالاضطرار من دينه. وإذا قدر أن أول الواجبات هو النظر، أو المعرفة، أو الشهادتان، أو ماقيل، فهذا لا يجب على البالغ أن يفعله عقب البلوغ، إلا إذا لم يكن قد فعله قبل البلوغ، فأما من فعل ذلك قبل البلوغ فإنه لا يجب عليه فعله مرة ثانية، لا سيما إذا كان النظر مستلزماً للشك، المنافي لما حصل له من المعرفة والإيمان، فيكون التقدير: اكفر ثم آمن، واجهل ثم أعرف، وهذا كما أنه محرم في الشرع، فهوممتنع في العقل، فإن تكليف العالم الجهل من باب تكليف ما لا يقدر عليه، فإن الجاهل يمكن أن يصير عالماً، فإذا أمر بتحصيل العلم كان ممكناً، أما العالم فلا يقدر أن يصير جاهلاً، كما أن من رأى الشيء وسمعه لا يمكن أن يقال لا يعرفه، فمن كان الله قد أنعم عليه وشرح صدره للإسلام قبل بلوغه، فحصل له الإيمان المتضمن للمعرفة، لم يمكن أن يؤمر بما يناقض المعرفة، من نظر ينافي المعرفة، أو شك أو نحو ذلك، بل الأمر لمن حصل له علم ومعرفة أن يقدم ذلك ثم يحصله، مثل تكليف من حصل له قصد الصلاة ونيتها، بأن يقدم ذلك ثم تحصل النية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 وهذا مع أنه من باب الجهل والسفه والضلال، فهو من باب تكليف العباد ما يعجزون عنه، ولهذا يقال: الوسوسة لا تكون إلا من خبل في العقل أو جهل بالشرع. وقد اتفق الفقهاء على أن الصبي إذا تطهر قبل البلوغ لم يجب عليه إعادة الوضوء إذا بلغ، وكذلك لوكان عليه ديون فقضاها، أو قضاها وليه، لم يجب عليه إعادة القضاء بعد البلوغ، بل لو صلى الفرض في أول الوقت ثم بلغ، ففي إعادة الصلاة عليه نزاع معروف بين العلماء، ومذهب الشافعي لا تجب الإعادة، وهو قول في مذهب أحمد. ومن الناس من يضعف هذا القول، ولعله أقوى من غيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحداً من الصبيان بإعادة الصلاة، مع العلم بأن كثيراً منهم يحتلم بالليل. وقد صلى العشاء مع بقاء وقتها. والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب البلوغ. والشهادة تتضمن الإقرار بالصانع تعالى وبرسوله، لكن مجرد المعرفة بالصانع لا يصير به الرجل مؤمناً، بل ولا يصير مؤمناً بأن يعلم أنه رب كل شيء حتى يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يصير مؤمناً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 بذلك حتى يشهد أن محمداً رسول الله، ثم كون ما يجب من العرفة لا يحصل إلا بالنظر، أو يمكن حصوله بدونه؟ وهل أصل المعرفة فطرية ضرورية أو نظرية؟ أو يحصل بهذا تارة ولهذا تارة؟ والنظر المحصل لها: هل يتعين في طريق معين أو لا يتعين؟ هذه مسائل أخر. ومما يتعلق بهذا تنازعهم في المعرفة الواجبة: هل تحصل بالعقل أو بالشرع؟ وكثير من النزاع في ذلك لفظي، وبعضه معنوي. فمن ادعى أن المعرفة لا تحصل إلا بطريقة الأعراض والتركيب ونحو ذلك من الطرق المبتدعة، التي للمعتزلة والمتفلسفة ومن وافقهم. كان النزاع معه معنوياً. ونحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول وسلف الأمة بطلان قول هؤلاء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحداً بهذه الطرق، ولا علق إيمانه، ومعرفته بالله بهذه الطرق، بل القرآن وصف بالعلم والإيمان من لم يسلك هذه الطرق. ولم ابتدع بعض هذه الطرق من ابتدعها، أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها، ووسموا هؤلاء بالبدعة والضلالة. ثم القول بأن أول الواجبات هو المعرفة أو النظر، لا يمشي على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 قول من يقول: لا واجب إلا بالشرع كما هو قول الأشعرية وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. فإنه على هذا التقدير لا وجوب إلا بعد البلوغ على المشهور، وعلى قول من يوجب الصلاة على ابن عشر سنين أوسبع، لا وجوب على من لم يبلغ ذلك. وإذا بلغ هذا السن فإنما يخاطبه الشرع بالشهادتين، وإن كان لم يتكلم بهما، وإن كان تكلم بهما خاطبه بالصلاة. وهذا هو المعنى الذي قصده من قال: أول الواجبات الطهارة والصلاة. فإن هذا أول ما يؤمر به المسلمون إذا بلغوا، أو إذا ميزوا. كما «قال صلى الله عليه وسلم: مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» . ولهذا قال الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما: يجب على كافل الصبي أن يأمره بالطهارة والصلاة لسبع. ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد شهادتين، ولا نظر ولا استدلال، ونحو ذلك. ولا يؤمر بذلك بعد البلوغ، وإن كان الإقرار بالشهادتين واجباً باتفاق المسلمين، ووجوب ذلك، يسبق وجوب الصلاة، لكن هو قد أدى هذا الواجب قبل ذلك: إما بلفظه وإما بمعناه، فإن نفس الإسلام والدخول فيه إلتزام لذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 وهنا مسائل تكلم الفقهاء فيها، فمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام ولم يتكلم بهما؟ والصحيح أنه يصير مسلماً بكل ما هو من خصائص الإسلام. فإن قال هؤلاء: يعني بكونه أول الواجبات: أنه أول العبد من الواجبات؟ قيل: قد يؤدي قبل ذلك واجبات: من قضاء الديون، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، والعدل وغير ذلك. فإن قيل: لكن هذا أول واجب يتعلق به الثواب في الآخرة، بخلاف ما أدي بدونه، فإنه لا ثواب فيه في الآخرة؟. قيل: مع قولنا بأنه لا وجوب ولا ثواب في الآخرة إلا بالشرع، فلا يثاب لا على هذا وعلى هذا قبل مجيء الشرع، ولا يجب لا هذا ولا هذا إلا بالشرع، وإذا خاطبه الشارع الناس، فإنما يأمر العبد ابتداءً لما لم يؤده من الواجبات دون ما أداه. فلم يخاطب المشركين ابتداءً بالمعرفة إذ كانوا مقرين بالصانع، وإنما أمرهم بالشهادتين، ولو لم يكونوا مقرين بالصانع، فإنه لم يأمرهم بإقرار مجرد عن الشهادتين، بل أمرهم بالشهادتين ابتداءً. والشهادتان تتضمن المعرفة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 فلو أقروا بالصانع وعرفوه من غير إقرار بالشهادتين لم يقبل ذلك منهم، ولم يخرجوا بذلك من الكفر، ولم يرتب خطابهم بذلك شيئاً بعد شيء، بل خاطبهم بالجميع ابتداءً. وهنا تكلم الناس في وجوب إمهال الكافر إذا طلب الإمهال للنظر، فأوجبه من أوجبه من المتكلمين من المعتزلة، ومن تبعهم على هذه الطريقة، كالقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى في المعتمد وغيرهما. وأما الفقهاء أئمة الدين فلا يوجبون ذلك مطلقاً. أما في حال المقاتلة فيقاتلون حتى يسلموا أو يقروا بالجزية، إن كانوا من أهلها، فإذا أسر الرجل منهم فهذا لا يتعين قتله. فإذا طلب مثل هذا الإمهال ورجى إسلامه أمهل. وأما المرتد فلا يؤخر عند الجماهير أكثر من ثلاث. وأما من له عهد، فذلك لا يكره على الإسلام، فهو في مهلة النظر دائماً. ولوطلب أهل دار ممتنعين من الإمام أن يمهلهم مدةً، ورجا بذلك إسلامهم، ولم يخف مفسدة راجحةً، أمهلهم. والحربي إذا طلب الأمان حتى يسمع القرآن، وينظر في دلائل الإسلام، أمناه. كما قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} . وأما من قال بالوجوب العقلي، كما هو قول المعتزلة والكرامية، ومن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، فهؤلاء هم الذين قالوا ابتداء: أول ما يجب المعرفة أو النظر المؤدي إليها. لكن أخد كلامهم من أراد أن يبنية على أصوله من الأشعرية ونحوهم، فتناقض كلامه. ومن قال بالوجوب العقلي إذا قال: أول الواجبات المعرفة كان ذلك أقرب، ثم له أن يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أوجب الشهادتين ابتداء فقد ضم إلى الواجب العقلي ما يجب بالشرع، وجعل أحدهما شرطاً في الآخر، فلا يقبل لأحدهما دون الآخر، ومن أدى هذا الواجب أو بعضه لم يخاطبه إلا بفعل ما لم يؤده. وعلى هذا فيكون خطاب الشارع للناس بحسب أحوالهم. وأول الواجبات الشرعية يختلف باختلاف أحوال الناس، فقد يجب على هذا ابتداءً ما لا يجب على هذا ابتداءً، فيخاطب الكافر عند بلوغه بالشهادتين، وذلك أول الواجبات الشرعية التي يؤمر بها. وأما المسلم فيخاطب بالطهارة إذا لم يكن متطهراً، وبالصلاة وغير ذلك من الواجبات الشرعية التي لم يفعلها. وفي الجملة فينبغي أن يعلم أن ترتيب الواجبات في الشرع واحداً بعد واحد، ليس هو أمراً يستوي فيه جميع الناس، بل هم متنوعون في ذلك، فكما أنه قد يجب على هذا ما لا يجب على هذا، فكذلك قد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 يؤمر هذا ابتداءً بما لا يؤمر به هذا. فكما أن الزكاة يؤمر بها بعض الناس دون بعض، وكلهم يؤمر بالصلاة، فهم مختلفون فيما يؤمرون به ابتداءً من واجبات الصلاة، فمن كان يحسن الوضوء وقراءة الفاتحة، ونحو ذلك من واجباتها، أمر بفعل ذلك، ومن لم يحسن ذلك أمر بتعلمه ابتداءً، ولا يكون أول ما يؤمر به هذا من أمور الصلاة، هو أول ما يؤمر به هذا. وهكذا الواجبات العقلية: إذا قيل بالوجوب العقلي يتنوع الناس في ترتيبها. فهذا يؤمر بقضاء ما عليه من الديون، وهذا يؤمر برد ما عنده من الودائع، وهذا يؤمر بالعدل في حكمه والصدق في شهادته، وأمثال ذلك. وكما أنهم متنوعون في ترتيب الوجوب فهم متنوعون في ترتيب الحصول علماً وعملاً. كلام أبي الحسين البصري عن العلم وقد سلك طائفة من أهل الكلام، من المعتزلة ومن وافقهم، ترتيباً معيناً في العلم الواجب على كل مكلف، وزعموا أنه لايمكن حصول المعرفة لأحد إلا على ذلك الترتيب الخاص، كما ذكرناه من كلام أبي الحسين البصري وأمثاله، حيث قالوا: (ليس يثق أحد بصحة ما جاءت به الرسل إلا بعد المعرفة بصدقهم، ولا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات التي تميزهم عن غيرهم، وليس تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح، لكي يؤمن أن يصدق الكذابين، وليس يعلم أنه لا يفعل القبيح إلا إذا عرف أنه عالم بقبحه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 عالم باستغنائه عنه، ولا يعرف غناه إلا بعد أن يعلم بأنه غير جسم، ولا يعرف أنه غير جسم إلا إذا عرف أنه قديم، ولا يعلم أنه قديم، ولا يعلم أنه عالم بكل قبيح إلا إذا علم أنه عالم بكل شيء، ولا يعلم ذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته، ولا يعلم أنه يثبت ويعاقب إلا إذا علم أنه قادر حي، ولا نعرف موصوفاً بهذه الصفات إلا إذا عرفت ذاته، وإنما تعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة، ولا معروفة باضطرار، ولا طريق إليها إلا أفعاله) . قال: (فيجب أن يتكلم في هذه الأشياء ليعلم صحة ما جاءت به الرسل) . ثم إنه تكلم في حدوث الأجسام، وبنى الأمر في ذلك على أن ما لم يسبق الحوادث فهو محدث، وبنى ذلك على أنه إذا كان كل من الحوادث له أول، استحال أن لا يكون له أول، لأنها ليست سوى آحادها، كما يستحيل أن يكون كل واحد من الزنج أسود، ولا يكونوا كلهم سوداً. تعليق ابن تيمية فقد جعل الدين كله مبنياً على هذا الترتيب، المبني على هذه المقدمة، التي ينازعه فيها جمهور العقلاء من أهل الملل وغيرهم. وهذا هي أصول الدين عندهم، وهذا مما يخالفهم فيه جماهير المسلمين، بل جمهور عقلاء العالمين، بل يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 الرسول لم يوجب هذه الطريق ولا دعا إليها، ولا كان إيمان السابقين الأولين موقوفاً عليها. وعامة ما ذكره من الترتيب ممنوع. فقوله: لا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات ينازعه فيه طوائف كثيرون، بل أكثر الناس. وقوله: (لا تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح) ينازعه فيه أيضاً طوائف كثيرون. وقوله: (لا يعلم غناه إلا إذا علم أنه ليس بجسم) ينازعه فيه أيضاً طوائف كثيرون. وكذلك ما ذكره من قوله: (ولا يعلم ذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته) ومراده نفي الصفات، والقول: بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، ونحو ذلك مما ينازعه فيه طوائف كثيرون. وقوله: (إنما يعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة ولا معرفة باضطرار) ينازعه فيه طوائف آخرون. فهذا ترتيب المعتزلة للعلم بالله ورسله. ولغيرهم من طوائف المتكلمين ترتيب آخر، وفيه من الممانعات والمعارضات من جنس ما في ترتيب هؤلاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 ونظير هذه التراتيب التي أحدثها أهل الكلام، وادعوا أنه لا يحصل العلم إلا بها، تراتيب ذكرها طوائف من الصوفية المصنفين في أحوال القلوب وأعمالها، لما تكلموا في المقامات والمنازل وترتيبها. فهذا يذكر عدداً من المنازل والمقامات وترتيباً. وهذا يذكر عدداً آخر وترتيباً. ويقول هذا: إن العبد لا ينتقل إلى مقام كذا، حتى يحصل له كذا، وأنه ينتقل إلى كذا بعد كذا، ويقول هذا: عدد المنازل مائة، ويقول الآخر عددها أكثر، وأقل. ثم هذا يقسم المنازل أقساماً يجعلها الآخر كلها قسماً. ويذكر هذا أسماء وأحوالاً لا يذكرها الآخر. وغاية الواحد من هؤلاء أن يكون ما ذكره وصف حاله وحال أمثاله وسلوكهم وترتيب منازلهم، فإذا كان ما قالوه حقاً، فغايته أن يكون وصف سلوك طائفة معينة. أما كون جميع أولياء الله تعالى لا يسلكون إلا على هذا الوجه المرتب، وهذه الانتقالات، فهذا باطل. وكذلك أيضاً نظير هذا ما يذكره من المتفلسفة وأهل المنطق في ترتيب العلم وأسباب حصوله، وما يذكرونه، من الحدود والأقيسة، والانتقالات الذهنية، فغاية كلامهم - إذ كان صحيحاً - أن يكون ذلك وصفاً لما تسلكه طائفة معينة. أما كون جميع بني آدم لا يحصل لهم العلم بمطالبهم إلا بهذه الطرق المعينة، فهذا كلام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 باطل. فحصر هؤلاء لمطلق العلم في ترتيب معين، وحصر هؤلاء العلم بالله وبصدق رسله في ترتيب معين، وحصر هؤلاء للوصول إلى الله في ترتيب معين، كل هذا مع كونه في نفسه مشتملاً على حق وباطل، فالحق منه لا يوجب الحصر، ولكن هو وصف قوم معينين، وطرق العلم والأحوال وأسباب ذلك وترتيبه أوسع من أن تحصر في بعض هذه الطرائق. ولهذا كانت الرسل صلوات الله عليهم وسلامه يأمرون بالغايات المطلوبة من الإيمان بالله ورسوله وتقواه، ويذكرون من طرق ذلك وأسبابه ما أقوى وأنفع. وأما أهل البدع المخالفون لهم فبالعكس، يأمرون بالبدايات والأوائل، ويذكرون من ذلك ما هو أضعف وأضر. فمتبع الأنبياء لا يضل ولا يشقى، ومتبع هؤلاء ضال شقي. إذ كانت قضايا هؤلاء فيها من الباطل الذي هو كذب وإفك، وإن لم يعلم صاحبه أنه كذب وإفك، بل يظنه صدقاً، ما لا يحصيه إلا الله. وإذا كان الناس يتنوعون في الوجوب وترتيب الواجبات، ويتنوعون في الحصول وترتيب الحاصلات، لم يمكن أن يجعل ما يخص بعضهم شاملاً لجميعهم، وكثير من الغلط في هذا الباب إنما دخل من هذا الوجه: يصف أحدهم طريق طائفة، ثم يجعله عاماً كلياً، ومن لم يسلكه كان ضالاً عنده، ثم ذلك الطريق إما أن يكون خطأ وإما أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 يكون صواباً. ولكن ثم طرق أخرى غير ذلك الطريق، فيجيء من سلك غير ذلك الطريق: يبطله بالكلية، ويرد ما فيه من الصواب. وقد تكلمنا على مسألة تحسين العقل وتقبيحه في غير هذا الموضع، وفصلنا القول فيها. وبينا منشأ الغلط، فإن الطائفتين اتفقوا على أن الحسن والقبح باعتبار الملائمة والمنافرة قد يعلم بالعقل. والملائمة تتضمن حصول المحبوب المطلوب المفروح به، والمنافرة تتضمن حصول المكروه المحذور المتأذى به. وهذا الذي اتفقوا عليه حق، لكن توهموا بعد هذا أن الحسن والقبح الشرعي خارج عن ذلك، وليس الأمر كذلك، بل هو في الحقيقة يعود إلى ذلك. لكن الشارع عرف بالموجود، وأثبت المفقود. فتحسينه: إما كشف وبيان، وإما إثبات لأمور في الأفعال والأعيان. وعلى قول من يجعل الأحكام صفات ثابتة للأفعال وللأعيان فالتحسين الشرعي يتضمن أن الحسن ما حصل به الحمد والثواب، والقبح ما حصل به الذم والعقاب، ومعلوم أن الحمد والثواب ملائم للإنسان، والذم والعقاب مناف للإنسان. وكذلك توهم من توهم من الطائفتين أن إثبات ذلك في حق الله تعالى ممتنع، لكون هؤلاء المتوهمين لم يفرقوا بين الإرادة، والمحبة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 والرضا، بل جعلوا كل مراد محبوباً مرضياً. ثم قال هؤلاء: الكفر والفسوق والعصيان ليس محبوباً باتفاق المسلمين، فلا يكون مراداً، فيكون وقوع ذلك بدون إرادته، فيكون في ملكه ما لا يريده، فيكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون. وقال هؤلاء بل هو مريد لكل حادث، فإنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. والكفر والفسوق والعصيان. مراد له فيكون محبوباً مرضياً، فيكون محباً راضياً، فيكون محباً راضياً بالكفر والفسوق والعصيان، فهؤلاء سووا بين المأمور والمحظور في أن الجميع محبوب مرضي فلزمهم تعطيل الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وإن لم يلتزموه. وأولئك قالوا: يكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، فلزمهم أن يكون عاجزاً مغلوباً، وإن كانوا لا يكرمون عجزه. فهؤلاء لم يجعلوا لله الملك، وأولئك لم يجعلوا الحمد، والله تعالى له الملك وله الحمد. هؤلاء أرادوا إثبات إلهيته، وأنه معبود محمود حكيم عادل، فقصروا في ذلك، ونقصوه موجب ربوبيته، وقدرته ومشيئته. وهؤلاء أثبتوا موجب ربوبيته، وقدرته ومشيئته، لكنهم نقصوا موجب إلهيته وحكمته، ورحمته وحمده. وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 والمقصود هنا التنبيه على منشأ النزاع في الوجوب، كما نبهنا على النزاع في ترتيب الوجوب. وأما الحصول فكثير من الناس يقول: المعرفة لا تحصل إلا بالعقل، وقد يسرف هؤلاء حتى لا يثبتوا أشياء من صفات الله تعالى، لا نفياً ولا إثباتاً إلا بالعقل. وصرح هؤلاء بأنه لا يستدل بنصوص الرسل على شيء من صفات الله تعالى، لا إثباتاً ولا نفياً. كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ومن اتبعهم من متأخري الأشعرية، ويجعلون أصول الدين هي: العقليات المحضة التي لا تعلم بالسمع. ثم قد يعينون من الطرق العقلية ما هو باطل عقلاً وشرعاً كطريقة الأعراض، وطريقة التركيب وطريقة الاختصاص. وإلى هذه الثلاث تعود جميع أصول النفاة. ويقابلهم آخرون فيقولون: المعرفة لا تحصل إلا بالسمع، ولا تحصل بالعقل. وربما قالوا: إنه لا يمكن حصولها بالعقل. وقد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة العقلية والسمعية متلازمة، كل منهم مستلزم صحة الآخر. فالأدلة العقلية تستلزم صدق الرسل فيما أخبروا به، والأدلة السمعية فيها بيان الأداة العقلية التي بها يعرف الله، وتوحيده، وصفاته، وصدق أنبيائه. ولكن من الناس من ظن أن السمعيات ليس فيها عقلي. والعقليات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 لا تتضمن السمعي. ثم افترقوا فمنهم من رجح السمعيات، وطعن في العقليات، ومنهم من عكس. وكلا الطائفتين مقصر في المعرفة بحقائق الأدلة السمعية والعقلية. ثم تجد هؤلاء وهؤلاء في أتباع الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم. كلام أبي الفرج صدقة بن الحسين وكثير من النزاع في ذلك قد يكون لفظياً. وقد رأيت من ذلك عجائب كطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد سلكوا الطريقة الأولى، ونسبوا من خالفهم في ذلك إلى الجهل والغباوة، حتى أن بعض متأخري أصحاب أحمد، وهو أبو الفرج صدقة ابن الحسين البغدادي صنف مصنفاً سماه محجة الساري في معرفة الباري سلك فيه مسلك ابن عقيل وأمثاله من المتكلمين المنتسبين إلى السنة، مشوب من كلام المعتزلة مع مخالفتهم لهم في شعار مذهبهم، فذكر أنه سئل عن المعرفة بأي طريق تحصل؟ ومن أي طريق تجب؟ وأن يبين اختلاف الناس في ذلك. وذكر أن الناس تنازعوا في أول واجب على الإنسان بعد سن البلوغ والعقل، هل هو النظر أو المعرفة؟ وأنهم اتفقوا على وجوب المعرفة، واختلفوا في طريقه. قال: (فذهب أهل الحق والسنة والجماعة إلى أن طريق الوجوب هو السمع والنقل وقالت المعتزلة: طريق الوجوب هو العقل) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 ثم قال: (وهنا مزلة أقدام لبعض أصحابنا الحنابلة. لأنهم إذا سئلوا مطلقاً عن معرفة الله، وقيل لهم: بم يعرف الله؟ قالوا: بالشرع، من غير فصل بين الوجوب والحصول) . قال: (وقد نبهتهم على هذا غير مرة، فما هبوا من رقدتهم، ولا انتبهوا من سنتهم) . ثم ذكر قول الإمامية والباطنية، وأن المعرفة تحصل عندهم بقول الرسول والإمام المعصوم، دون نظر العقل. وتكلم في مسألة نفي الوجوب العقلي بما ليس هذا موضعه. وتكلم في طرق المعلومات بالكلام المعروف لأهل هذه الطريقة، وأن منها ما لا يعلم إلا بالعقل، ومنها ما لا يعلم بالسمع، ومنها ما يعلم بهما. فالذي لا يعلم إلا بالعقل: علمنا بأنه لا بد من موجود قديم، لأن الكل لو كان حادثاً لكان حادثاً بلا سبب. وهذه المعرفة تتقدم على ورود الرسول، فلا حاجة فيها إلى الرسول. بل مثاله علمنا بدلالة معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقه. والذي يعلم بمجرد التعليم من النبي المعصوم مثل علمنا بمقادير العبادات الواجبة، وما يتعلق بالآخرة من الجنة، والنار، وعذاب القبر، والحساب، والميزان، وغير ذلك. قال: (فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليفصل الشرع، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 وليشرح أمر الآخرة. فأما معرفة افتقار هذا العالم إلى صانع قادر على إرسال الرسل، فهو متقدم على قول الرسول، فكيف يكون مستفاداً من قول الرسول؟ فمعرفة المرسل إذاً تقدم على معرفة الرسول ومعرفة صدقه، فكيف يعرف بقول الرسول؟ قال: وأما مثال ما يدرك بالعقل والسمع جميعاً، فهو كرؤية الله تعالى، وكونه خالقاً لأعمال العباد فهذا مما يعلم بمجرد السمع وبمجرد العقل. ثم قال: (وأما حجتنا في حصول المعرفة بمجرد العقل فقوله تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت} ، وقال في موضع آخر {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} ، وقال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} ، فهذا كله دعوة إلى الدلائل العقلية، وهو التأمل في الآيات الدالة على حدوث العالم، وقدم الصانع، من غير شرط، على ما نبنيه من بعد) . قال: (ولأنه بالعقل يستدل بالشاهد على الغائب، وبالبناء على الباني، وبالكتابة على الكتاب، من غير سماع خطاب) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 قال: (وآثار صنع الباري - عزت قدرته - في الموجودات أكثر وأظهر من كل دليل. وكل من وقف على آثار صنعته بنور عقله، يقع له العلم بوجود الصانع. إذ لا يتصور مصنوع بلا صانع، ولا مخلوق بلا خالق) . قال: (والدليل على أن النظر أول الواجبات هو أن سائر الواجبات من الصلاة والصيام إنما يوجد بعد المعرفة، لأن إنما يصح أن يتقرب إلى الله من يعرفه. فصارت المعرفة متقدمة على سائر الواجبات، والنظر متقدم على المعرفة، لأنه طريق إليها، وطريق الشيء متقدم عليه، فصح أن النظر متقدم على كل شيء واجب، وهنا التقدم في النظر إنما هو في وجوده لا في وجوبه، وإلا فالواجب الأول هو المعرفة. يعني: الواجب قصداً) . قال: (والحاجة التي دعت إلى النظر هو أنه لا طريق إلى المعرفة إلا به. والدليل على ذلك أن المعرفة إما تكون واقعة مبتدأة، كمعرفة العاقل أن العشرة أكثر من الخمسة، وإما أن تكون واقعةً عن طريق، كمعرفتنا بالمدركات إذا أدركناها بحواسنا الخمس، وكمعرفتنا بما غاب عنا إذا أخبرنا به خلق عظيم شاهدوه، نحو معرفتنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 بمكة من جهة الخبر، وإما أن تكون بالاستدلال، كاستدلالنا بالبناء على الباني) . قال: (ومعلوم أن معرفة الله تعالى لا تجري مجرى معرفتنا بأن العشرة أكثر من الخمسة، لأنه لو جرت هذا المجرى لاستغنينا عن الاستدلال عليه، كما نستغني عن الاستدلال على أن العشرة أكثر من الخمسة. ومعلوم أن نفوس العقلاء تتشوف إلى الاستدلال على الله تعالى، ولا يجوز أن تكون معرفتنا بالله تعالى لإدراك الحواس، لأنه لا يجوز أن يدرك بشيء منها في الدنيا، ولا يجوز أن تكون معرفتنا به واقعة بالخبر، لأن الخبر إنما يفضي إلى المعرفة إذا أخبر به خلق كثير عن مشاهدة، وليس أحد يخبرنا بالله عن مشاهدة. ولا يجوز أن تكون معرفته بطريق الإلهام، كما زعمت طائفة من الصوفية وبعض الشيعة، لأن الإلهام هو تخايل يقع في القلب، قد يكون ذلك من الله وقد يكون من وسوسة الشيطان، وليس على أحدهما دليل يدل عليه، ولأن من يدعي الإلهام يمكن خصمه أن يدعي خلافه. فإنه إذا قال: ألهمت بكذا. فيقول خصمه: وأنا ألهمت بكذا. فكان العمل به عملاً بلا دليل. ألا ترى أن صاحب الشرع أمرنا بالاجتهاد عند الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 فقد النصوص؟ هو عمل بدلالة النصوص، كما روي في حديث معاذ) . قال: (ولا يلزم على هذا التحري في الأواني وغيرها في الشرع، فإنه عمل بشهادة القلب، لأنه هناك ليس ثم دليل سواه. وذلك ليس من قبل ما ذكرنا، لأن الإلهام لا يصلح حجة لإلزام الحكم على الغير، وكذلك التحري أيضاً لا يصلح للإلزام على غيره، وإنما اعتبر لجواز العمل في حق نفسه عند عدم سائر الأدلة. أما المشروعات فلا يتصور أن تنفك عن نوع دليل: إما الكتاب، أو السنة، أو إجماع، أو قياس، فلا ضرورة في العمل بغير حجة ودليل. فإذا بطلت هذه الأقسام كلها ثبت أنه لا طريق إلى معرفة الله إلا بالنظر) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 قال: (فإن قيل: بماذا تعلمون أن في العقول حجة ودليلاً؟ قيل: بأن تبين في كل مسألة تبييناً عقلياً يفضي النظر فيه إلى العلم. فإن قيل لم قلتم إن معرفة الله لا تنال إلا بالنظر في حجة العقل؟ قيل: الدلالة على ذلك: أن الكتاب إنما يصح أن يستدل به إذا علم أنه كلام الله الحكيم. فيجب تقدم العلم بالله وحكمته وبأن هذا كلامه، وإنما لم يصح الاستدلال عليه بالسنة، لأنه إنما يصح الاستدلال بها إذا ثبت أنها كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكيم، فيجب تقدم العلم بالله وحكمته، وأن هذا الرسول رسوله. وإنما لم يصح الاستدلال بالإجماع على الله، لأنه إنما يصح الاستدلال بالإجماع بعد أن يعلم أن الله ورسوله قد شهدا بأنه حجة، فيجب تقدم العلم بالله، فصح أن العلم بالله لا يستفاد بغير حجة العقل) . قال: (فإن قيل فما الدليل الذي يؤدي النظر فيه إلى معرفة الله تعالى؟ قيل: نفسك وسائر ما تشاهدوه من الأجسام. فوجه دلالة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 الإنسان من نفسه على الله تعالى أنه قد كان نطفة، ثم تقلبت به الأحوال إلى أن انتهى إلى حال الكمال، فلا بد لهذا التنقل والتغير من مغير. ولم يكن التغير في وقت أولى من وقت. فلا يخلو ذلك المغير إما أن يكون قد اقتضى تغيرها على سبيل الإيجاب من غير اختيار بالطبع أو القالب، أو يكون اقتضى تغيرها على سبيل الاختبار وهو الفاعل. ولا يخلو ذلك الفاعل إما أن يكون هو الإنسان أو غيره. وإن كان غيره فلا يخلو إما أن يكون من جنسه أو من غير جنسه. فإن كان من جنسه فإما أن يكون أبويه أو غيرهما. فإن كان من غير جنسه فهو قولنا. وسنبطل سائر الأقسام، ونثبت هذا الأخير. أما أنه لا يجوز أن يكون الإنسان قد تشكل لأجل أن الرحم على شكل القالب، فلأن الكلام فيمن شكل ذلك القالب، كالكلام فيمن شكل الإنسان، ولأن القالب يقتضي تشكيل ظاهر ما يلقى فيه. فما الذي اقتضى تشكيل باطن الإنسان ووضع أجزاء الباطن مواضعها؟ ولا يجوز أن يكون المقتضى لتغيير الإنسان وتشكيله طبيعية غير عالمة ولا مختارة، لأن الإنسان أبلغ في الترتيب والحكمة من بناء دار وصناعة تاج. وكما لم يجز أن يحصل ذلك ممن ليس بعالم فكذلك الإنسان. ألا ترى أن أعضاء الإنسان مقسومة على حسب المنفعة وموضوعة مواضعها؟ ولا يجوز أن يكون الإنسان هو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 الذي غير نفسه من حال إلى حال، لأنه لو قدر على ذلك في حال ضعفه لكان في حال كماله أقدر. وإذا عجز عن خلق مثله وخلق أعضائه في حال كماله فهو عن ذلك في حال الضعف أعجز، ولا يجوز أن يكون المغير له من حال إلى حال أبويه، لأنه ليس يجري على حسب إيثارهما، ألا ترى أنهما يريدانه فلا يكون ويكرهانه فيكون؟ ويريدانه ذكراً فيكون أنثى، ويريدانه أنثى فيكون ذكراً؟ فإذا لم يكن لأبويه في ذلك تأثير فغيرهما مما لا تعلق له به أجدر. فصح أن للإنسان فاعلاً مخالفاً له، وهو الله تعالى) . قال: (فإن قيل: فكيف يدل غير على الله؟ قيل: إن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق. وهذه حوادث فيجب أن يكون للجسم محدثاً إذ لم يتقدم الحوادث، والدليل على أن الأجسام محدثة هو أن الأجسام محدثة، وكل محدث يحتاج إلى محدث) . قال: (وهذا الكلام يشتمل على أصلين: أحدهما: أن الأجسام محدثة، والثاني: أن كل محدث يحتاج إلى محدث. أما الأصل الأول فالغرض به أن يدل على أن الجواهر والأجسام محدثة غير قديمة، ولا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 يصح أن تثبت صفة لشيء وتنقى صفة عن شيء إلا وقد عرفنا ما تثبت له الصفة، والصفة التي نثبتها والصفة التي ننفيها. فيجب أن نذكر ما الجوهر وما الجسم وما القديم وما المحدث. ولما كان الوصلة إلى حدوث الجسم هو العرض، الذي هو الحركة والسكون، والكون والاجتماع والافتراق، ولم يصح أن يتوصل بما لا نعرفه، وجب أن نبين ما العرض، وما الكون، وما الحركة، وما السكون، وما الاجتماع والافتراق، فالجوهر هو الذي يشغل الحيز في وجوده، ويصح أن تحله الأعراض، ومعنى شغله الحيز أن يوجد في جهة ومكان فيحوزه، ويمنع مثله من أن يوجد معه بحيث هو والجسم هو المؤلف، عند قوم: هو الطويل العميق. والقديم هو: الموجود الذي لم يزل، والذي لا أول لوجوده والمحدث هو، الذي لوجوده أول. والعرض هو ما يعرض في الوجود ولا يكون له لبث كلبث الجواهر والأجسام. وذلك أن ما قل لبثه بالإضافة إلى غيره سموه عارضاً. قال الله تعالى: {هذا عارض ممطرنا} وذلك نحو الحركة والسكون. والحركة زوال الجسم من مكان إلى مكان، والسكون لبث الجوهر في المكان أكثر من وقت واحد، والكون ما به كون الجوهر في مكان دون مكان، والاجتماع كونا جوهرين متماسين، والافتراق كونا جوهرين غير متماسين) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 قال: (وإذ قد ذكرنا حدود هذه الأشياء، فلندل على حدوث الأجسام. فنقول: إن الأجسام لم تسبق الحركة والسكون المحدثين، وكل ما لم يسبق المحدث فهو محدث) . ثم إنه ساق هذه الحجة إلى آخرها. كما ساقها من قبله، مثل ابن عقيل ونحوه، وقبلهم أبو الحسين البصري، وأمثاله الذين هم أئمة هذه الحجة، وقد ذكرنا سياق أبي الحسين لها فلا حاجة إلى تكريرها. وقال: (فإن قيل: فما تقولون فيمن حصلت له هذه المعرفة بمجرد التقليد أو غيره؟ أيكون عارفاً بالله مؤمناً؟ قيل: نعم، إلا أنه يكون مأثوماً بترك ما وجب عليه من النظر) . تعليق ابن تيمية قلت: أما هذه الحجة: حجة الأعراض، فقد عرف اعتراض الناس عليه وذمهم لها. وأما الحجة المتقدمة، وهي الاستدلال بحدوث الإنسان، فإنها حجة صحيحة، وهي من الحجج التي دل عليها القرآن وأرشد إليها. والمقصود هنا أن هذا وأمثاله ممن يقولون: إن المعرفة لا تحصل إلا بالعقل، ويشنعون على من يقول: إنها تحصل بالسمع، من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 أصحابهم وغير أصحابهم، إذا تدبر كثير من كلام أصحابهم الذين ينازعهم هؤلاء، تبين أن نزاعهم لهم ليس في نفس ما ثبت معرفته بمجرد العقل، بل في أمر آخر. والمعنى الذي أراد أولئك أنه يحصل بالسمع، ليس هو المعنى الذي اتفقوا على أنه لا يحصل إلا بالعقل، كما ذكر ذلك الشريف أبو علي بن أبي موسى وغيره. وسنذكر إن شاء الله تعالى بعض كلامهم، فالنزاع بينهم وبين كثير من أصحابهم قد يكون لفظياً، وقد يكون معنوياً، فإن المقدمات التي حصروا بها المعرفة في طريقهم ينازعهم الناس في كل واحدة منها، وإن تنوع المنازعون. وهذا كله بناء على أن دلالة السمع هي مجرد خبر المخبر الصادق، كما هو اصطلاح هؤلاء. وأما إذا عرف أن دلالة السمع تتناول الأخبار، وتتناول الإرشاد والتنبيه والبيان للدلائل العقلية، وأن الناس كما يستفيدون من كلام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 المصنفين والمعلمين الأدلة العقلية التي تبين لهم الحق، فاستفادتهم ذلك من كلام الله أكمل وأفضل. فتلك الأدلة عقلية باعتبار أن العقل يعلم صحتها إذا نبه عليها، وهي شرعية باعتبار أن الشرع دل عليها وهدى إليها. فعلى هذا التقدير تكون الدلائل حينئذ شرعية عقلية. وعلى هذا فقد يقال: الأدلة الشرعية نوعان: عقلي وسمعي. فالعقلي ما دل الشرع عليه من المعقولات، والسمعي ما دل بمجرد الإخبار. وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن أئمة النظار معترفون باشتمال القرآن على الدلائل العقلية. وأما على اصطلاح أولئك، فكثيراً ما يعنون بالدليل الشرعي الدليل السمعي الخبري، وهو مجرد خبر الشارع الصادق، فعلى اصطلاحهم ينازعهم الناس في تلك المقدمات العقلية، التي زعموا أن المعرفة لا تحصل إلا بها. فأما المقدمة الأولى، وهي قولهم: إن المعرفة لا تحصل مبتدأة في النفس، بل لا بد لها من طريق، فهي من موارد النزاع. فإذا قيل لهم: إنها قد تحصل في النفس مبتدأة، لم يكن لها على نفي ذلك دليل إلا مجرد الاستقراء، الذي هو: إما فاسد، وإما ناقص. وقولهم: إن نفوس العقلاء تتشوف إلى الاستدلال. يقول لهم المنازعون: لا نسلم أن جميع العقلاء كذلك، بل جمهور العقلاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 مطمئنون إلى الإقرار بالله تعالى، وهم مفطورون على ذلك. ولهذا إذا ذكر لأحدهم اسمه تعالى، وجد نفسه ذاكرةً له مقبلة عليه، كما إذا ذكر له ما هو عنده من المخلوقات. والمتجاهل الذي يقول: إنه لا يعرفه، هو عند الناس أعظم تجاهلاً ممن يقول: إنه لا يعرف ما تواتر خبره من الأنبياء والملوك، والمدائن والوقائع، وذلك عندهم أعظم سفسطة من غيره من أنواع السفسطة. ولهذا من تتبع مقالات الناس المخالفة للحس والعقل، وجد المسفسطين فيها أعظم بكثير من المسفسطين المنكرين للصانع. فعلم أن معرفته في الفطرة أثبت وأقوى، إذ كان وجود العبد ملزوم وجوده، وحاجته معلقة به سبحانه وتعالى، بل كل ما يخطر بقلب العبد ويريده فهو ملزوم له، وخواطر العباد وإرادتهم لا نهاية لها. وانتقال الذهن من الملزوم إلى اللازم لا ينحصر، بل إقرار القلوب به قد لا يحتاج إلى وسط وطريق، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات. وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كان مستيقناً في الباطن، كما قال له موسى: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 وقال تعالى عنه وعن قومه: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} . ولهذا قال: {وما رب العالمين} على وجه الإنكار له، قال له موسى: {رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون} وقد زعم طائفة أن فرعون استفهم استفهام استعلام، فسأله عن الماهية، وأن المسؤول عنه لما لم يكن له ماهية عجز موسى عن الجواب. وهذا غلط وعلى هذا التقدير يكون استفهم استفهام إنكار وجحد، كما دل سائر آيات القرآن على أن فرعون كان جاحداً لله نافياً له، لم يكن مثبتاً له، طالباً للعلم بماهيته. فلهذا بين لهم موسى أنه معروف، وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بما هو، فإن هذا إنما هو سؤال عما يجهل، وهو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل، بل معرفته مستقرة في الفطرة أعظم من معرفة كل معروف، وهو سبحانه له المثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو في السماء إله وفي الأرض، فأهل السماوات والأرض يعرفونه ويعبدونه، وإن كان أكثر أهل الأرض، كما قال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} . ولهذا قالت الأنبياء عليهم السلام لأمهم: {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض} وهذا استفهام إنكار يتضمن النفي، ويبين أنه ليس في الله شك. وقول القائل: ليس في هذا شك، يراد به أنه قد بلغ في الظهور والوضوح ولزوم معرفته، إلى حيث لا ينبغي أن يشك فيه، وإلى حيث لا يشك فيه. وعلى كلا التقديرين يتبين أن الإقرار بالصانع بهذه المثابة. وأما الطريق الثاني، وهو إدراك الحواس، فلا ريب أنهم لا يقولون إنهم يدركونه بالحس الظاهر، بل يقولون: إن الحس نوعان: ظاهر، وباطن. والإنسان يحس بباطنه الأمور الباطنة، كالجوع والعطش، والشبع والري، والفرح والحزن، واللذة والألم، ونحو ذلك من أحوال النفس، فهكذا يحسون ما في بطونهم من محبته سبحانه وتعظيمه، والذل له، والافتقار إليه، مما اضطروا إليه وفطروا عليه، ويحسون أيضاً ما يحصل في بواطنهم من المعرفة المتضمنة لمثله الأعلى في قلوبهم. والإحساس نوعان: نوع بلا واسطة، كالإحساس بنفس الشمس والقمر والكواكب، وإحساس بواسطة: كالإحساس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 بالشمس والقمر والكواكب في مرآه، أو ماء، أو نحو ذلك. والقلوب مفطورة على أن يتجلى لها من الحقائق ما هي مستعدة لتجليها فيها، فإذا تجلى فيها شيء أحست به إحساساً باطناً تجليه فيها. وأيضاً فنفس مشاهدة القلوب لنفسه تبارك وتعالى أمر ممكن، وإن كان ذلك قد يقال: إنه مختص ببعض الخلق، كما قال أبو ذر وابن عباس وغيرهما من السلف: «إن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده» . وقال ابن عباس: رآه بفؤاده مرتين. فهذا النوع إذا كان ممكناً، وقد قيل: إنه واقع، لم يمكن نفيه إلا بدليل. وأما الرؤية بالعين في الدنيا. وإن كانت ممكنة عند السلف والأئمة، لكن لم تثبت لأحد، ولم يدعها أحد من العلماء لأحد إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم على قول بعضهم. وقد ادعاها طائفة من الصوفية لغيره، لكن هذا باطل، لأنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة أن أحداً لا يراه في الدنيا بعينه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت» . وقد بسطنا الكلام على مسألة الرؤية في غير هذا الموضع، وبينا أن النصوص عن الإمام أحمد وأمثاله من الأئمة هو الثابت عن ابن عباس من أنه يقال: رآه بقلبه، أو: رآه بفؤاده. وأما تقييد الرؤية العين فلم يثبت، لا عن ابن عباس ولا عن أحمد. والذي في الصحيح «عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه» !. وقد روى أحمد بإسناده عن أبي ذر أنه رآه بفؤاده، واعتمد أحمد على قول أبي ذر لأن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة، وأجابه - وهو أعلم بمعنى ما أجابه به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ثبت أنه رآه بفؤاده، دل ذلك على مراده. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 وأما قولهم: لا يجوز أن تكون معرفتنا به واقعة بالخبر، لأن الخبر إنما يفضي إلى المعرفة، إذا أخبر به خلق كثير عن مشاهدة، وليس أحد يخبر بالله عن مشاهدة. فهذا مما ينازعهم فيه المنازعون، ويقولون: ليس من شرط أهل التواتر أن يخبروا عن مشاهدة، بل إذا أخبروا عن علم ضروري، حصل العلم بمخبر أخبارهم، وإن لم يكن المخبر مشاهداً. والمعرفة بالله قد تقع ضرورة، وإذا كان كذلك أمكن المعرفة بتصديق أخبار المخبرين عن المعرفة الحاصلة ضرورة، إلى ترى أن ما يخبر به الناس عن أنفسهم من لذة الجماع، وكثير من المطاعم والمشارب، بل ولذه العلم والعبادة والرئاسة، وحال السكر والعشق، وغير ذلك من الأمور الباطنة، تحصل المعرفة بوجودها بالتواتر لمن لم يجدها من نفسه، ولا عرفها بالضرورة في باطنه؟ وليست أمراً مشاهداً، بل إطباق الناس على وصف رجل بالعلم أو العدل أو الشجاعة أو الكرم أو المكر أو الدهاء، أو غير ذلك من الأمور النفسانية التي لا تعلم بمجرد المشاهدة يوجب العلم بذلك لمن تواترت هذه الأخبار عنده، وإن لم يكن المخبرون أخبروا عن مشاهدة، وكذلك الإخبار عن ظلم الظالمين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 ولهذا كانت العداله والفسق تثبت بالاستفاضة، ويشهد بها بذلك، كما يشهد المسلمون كلهم أن عمر بن عبد العزيز كان عادلاً، وأن الحجاج كان ظالماً. والعدل والظلم ليس أمراً مشاهداً بالظاهر، فإن الإنسان أكثر ما يشاهد الأفعال كما يسمع الأقوال، فإذا رأى رجلاً يعطى ويقتل، شاهد الفعل، أما كونه قتل بحق أو بغير حق، أو أعطى عدلاً وإحساناً، أو غير عدل وأحسان، فهذا لا يعلم بمجرد المشاهدة، بل لابد من دخول العقل في هذا العلم. وكذلك من لا يعرف الطب والنحو: إذا رأى ما تواتر عند أهل الطب والنحاة من علم أبقراط وجالينوس وأمثالهما، والخليل وسيبويه، علم أن هؤلاء علماء بالطب والنحو، وإن لم يعرف هو الطب والنحو وليست معرفة المخبرين بذلك عن المشاهدة. بل وكذلك إذا تواتر عنده كلام الناس بالإخبار عن علم مالك والشافعي وأحمد ويحيى بن معين والبخاري ومسلم وأمثالهم بالفقه والحديث، علم علمهم بذلك، وإن كان المخبرون لم يخبروا عن مشاهدة لكن من رآى كلام هؤلاء، من أهل الخبرة بالفقه والحديث، علم بالضرورة أنهم علماء بذلك، ثم هؤلاء يخبرون بذلك غيرهم. فيتواتر ذلك عند هؤلاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 وكذلك القضايا الحسابية، كالعلم بالمضروبات والمنسوبات والمجموعات ونحو ذلك، هو ضروري لمن علمه، فإذا أخبر أهل تواتر بذلك لواحد حصل له العلم بذلك، وإن كانوا إنما أخبروا عن علم ضروري. وهكذا العلم بصدق الصادق وكذب الكاذب، يعلمه من باشره وجربه ضرورة، ويعلمه من تواتر ذلك عنده بطريق الخبر. ولهذا كان العلم بأن محمداً صلى الله عليه وسلم، كان صادقاً معروفاً بالصدق لا يكذب متواتراً عند من لم يباشره، لأن الذين جربوه من أعدائه وغيرهم كانوا متفقين على أنه صادق أمين، حتى أن هرقل لما سأل أبا سفيان - وكان حين سأله من أشد الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم -: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال أبو سفيان: لا. فأخبر أنه - هو وغيره من قريش - لم يكونوا يتهمونه بالكذب، فضلاً عن أن يخبروا عنه بالكذب، وكانوا يسمونه الأمين. ولما كان أبو سفيان مخبراً بهذا بين جماعة من قومه يقرونه على ذلك، مع قيام المقتضى للتكذيب لو كان قد كذب، استفاد هرقل بهذا أنه لا يكذب. فقال: قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله. وهذا وأمثاله باب واسع، فالعلم بمخبر الأخبار يحصل إذا كان المخبر عالماً بالضرورة، سواء كان المخبر مشاهداً أو لم يكن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 وأما طريقة الإلهام، فالإلهام الذي يدعى في هذا الباب، هو عند أهله علم ضروري، لا يمكنهم دفعه عن أنفسهم، أو مستند إلى أدلة خفية لا تقبل النقض، فلا يمكن أن يكون باطلاً. وأما الاستدلال على الأحكام بالإلهام، فتلك مسألة أخرى، ليس هذا موضعها، والكلام في ذلك متصل بالكلام على الاستحسان والرأي وأنواعهما، وأن ما يعنيه هذا بالاستحسان، قد يعنيه هذا بالإلهام. وليس الكلام فيما علم فساده من الإلهام لمخالفته دليل الحس والعقل والشرع، فإن هذا باطل، بل الكلام فيما يوافق هذه الأدلة لا يخالفها. وليس من الممتنع وجود العلم بثبوت الصانع وصدق رسوله إلهاماً، فدعوى المدعي امتناع ذلك يفتقر إلى دليل. فطرق المعارف متنوعة في نفسها، والمعرفة بالله أعظم المعارف، وطرفها أوسع وأعظم من غيرها، فمن حصرها في طريق معين بغير دليل يوجب نفياً عاماً لما سوى تلك الطريق لم يقبل منه، فإن النافي عليه الدليل، كما أن المثبت عليه الدليل. نعم، من نفى تلك بحسب علمه، لم ينازع في ذلك. فإذ قال: لا أعلم طريقاً آخر، أو لم يحصل لي ولمن عرفته طريق آخر، كان نافياً لعلمه ولما علم وجوده، لا نافياً للأمور المحققة في نفس الأمر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 كلام العلماء في ذم علم الكلام فهذا الكلام وأمثاله يرد على النزاع المعنوي، ولهذا كان كثير من الفضلاء، الذين يوجبون هذه الطريقة ويصححونها، قد رجعوا عن ذلك، وتبين لهم ذم هذا الكلام، بل بطلانه، كما يوجد مثل ذلك في كلام غير واحد منهم، مثل أبي المعالي، وابن عقيل، وأبي حامد، والرازي وغيرهم، من الذين يصححون هذه الطريق، بل يوجبونها تارة، ثم إنهم ذموها أو أبطلوها تارة. قال أبو المعالي في آخر عمره: (خليت أهل الإسلام وعلومهم، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهوا عنه والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق ببره فأموت على دين العجائز، وإلا فالويل لابن الجويني) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 وسأل رجل ابن عقيل فقال له: هل ترى لي أن أقرأ الكلام، فإني أحسن من نفسي بذكاء؟ فقال له: (إن الدين النصيحة، فأنت الآن على مابك مسلم سليم، وإن لم تنظر في الجزء - يعني الجوهر الفرد - وتعرف الطفرة - يعني طفرة النظام - ولم تخطر ببالك الأحوال، ولا عرفت الخلاء والملاء والجوهر والعرض، وهل يبقى العرض زمانين، وهل القدرة مع الفعل او قبله، وهل الصفات زوائد على الذات، وهل الاسم المسمى أو غيره، وهل الروح جسم أو عرض، فإني أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا ذلك ولا تذاكروه، فإن رضيت أن تكون مثلهم بإيمان ليس فيه معرفة هذا فكن، وإن رأيت طريقة المتكلمين اليوم أجود من طريقة أبي بكر وعمر والجماعة، فبئس الاعتقاد والرأي) . قال: (ثم هذا علم الكلام قد أفضى بأربابه إلى الشكوك، وأخرج كثيراً منهم إلى الإلحاد بشم روائح الإلحاد من فلتات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 كلامهم، وأصل ذلك كله أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع، وطلبوا الحقائق وليس في قوة العقل درك لما عند الله من الحكمة التي انفرد بها، ولا أخرج الباري من علمه ما علمه هو من حقائق الأمور، وقد درج الصدر الأول على ما درج عليه الأنبياء من هذه الإقناعات، ولما راموا ما وراءها ردوا إلى مقام غايته التحكيم والتسليم، وهو الذي يزرى به طائفة المتكلمين على أهل النقل والسنة، وتسميهم الحشوية، وإليه ينتهي المتكلمون أيضاً، لكنهم يتحسنون بما ليس لهم، وبما لم يتحصل عندهم، فهم بمثابة من يدعي الصحة بتجلده وهو سقيم، ويتغانى على الفقراء وهو عديم، والعقل، وإن كان للتعليل طالباً، فإنه يذعن بأن فوقه حكمة إلهية، توجب الاستكانة والتحكيم لمن هو بعض خلقه) . قال: (وإنما دخلت الشبه من ثلاث طرق ترجع إلى طريق واحد، وذلك أن قوماً نظروا إلى أن العقل هو الأصل في النظر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 والاستدلال، اللذين هما طريقة العلم، فإذا قضى العقل بشيء عولوا عليه، فلما قضى بوجود صانع لهذا العالم المحكم بالقواعد أثبتوه، ثم نظروا في أفعاله، فرأوا هدم الأبنية المحكمة، وشاهدو جزيئات لم تأت على نظام الكليات، ومضمار تعقب منافع، فجحدوا الأول بالآخر، ففسد اعتقادهم في الكل، بما عرض لهم من اختلال الجزء، وقالوا: إن دل الإحكام على حكيم، فقد دل الاختلال على الإهمال، فشكوا. والقبيل الآخر أثبتوا صانعاً للكليات، وأضافوا الشرور إلى صانع آخر، فثنوا بعد أن وحدوا. والقبيل الآخر عللوا بما انحرم بعلل لم تشف غليل العقل، فلما لم يستقم لهم التعليل جنحوا، وقالوا: خفي علينا وجه الحكمة فيما عرض في العالم من الفساد، فسلموا لمن استحق التسليم، وهو الصانع، وهذه طائفة أهل الحديث) . قال: (وهذا الذي يقال له مذهب العجائز، وإليه كل عالم محق) . قال: وقد ظن قوم أن مذهب العجائز ليس بشيء، وليس كذلك. وإنما معناه أن المدققين لما بالغوا في النظر، فلم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليلات، وقفوا مع هذه الجملة التي هي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 مراسم) . تعليق ابن تيمية قلت: قول القائل: (إن الصحابة - رضي الله عنهم - ماتوا وما عرفوا ذلك) فيه تفصيل. وذلك أن هذا الكلام فيه حق وباطل، فأما الباطل فهو مثل إثبات الجوهر الفرد، وطفرة النظام، وامتناع بقاء العرض زمانين، ونحو ذلك. فهذا قد لا يخطر ببال الانبياء والأولياء، من الصحابة وغيرهم، وإن خطر ببال أحدهم، تبين له أنه كذب، فإن القول الباطل الكذب هو من باب ما لا ينقض الوضوء، ليس له ضابط، وإنما المطلوب معرفة الحق والعمل به، وإذا وقع الباطل عرف أنه باطل ودفع، وصار هذا كالنهي عن المنكر، وجهاد العدو، فليس كل شيء من المنكر رآه كل من الصحابة وأنكروه، ومع هذا فلا يقطع على كل من الصحابة بأنهم لم يعرفوا أمثال هذه الأقاويل ويعرفوا بطلانها، فإنهم فتحوا أرض الشام ومصر والمغرب والعراق وخراسان، وكان بهذه البلاد من الكفار المشركين الصابئين وأهل الكتاب من كان عنده من كتب أهل الضلال من الفلاسفة وغيرهم ما فيه هذه المعاني الباطلة، فربما خوطبوا بهذه المعاني بعبارة من العبارات، وبينوا بطلانها لمن سألهم. والواحد منا قد يجتمع بأنواع من أهل الضلال، ويسألونه عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 أنواع من المسائل، ويوردون عليه أنواعاً من الأسولة والشبهات الباطلة فيجيبهم عنها، وأكثر الناس لا يعلمون ذلك ولا ينقلونه. والشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة قد ناظروا أنواعاً من الجهمية أهل الكلام وجرى بينهم من المعاني ما لم ينقل، ولكن من عرف طريق المناظرين لهم، والمسائل التي ناظروهم فيها، علم ما كانوا يقولونه، كالفقيه الذي يعرف أن فقيهين تناظرا في مسألة من مسأئل الفقه، مثل مسألة قتل المسلم بالذمي، أو القتل بالمثقل ونحو ذلك، فينقل المناظرة من لم يفهم ما قالاه، فيعرف الفقيه الفاضل - مما نقل - ما لم ينقل. وأما الخوض في مسألة الروح: هل هي قائمة بنفسها، أم هي عرض؟ فكلام الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة في أن الروح: عين بنفسها تخرج من البدن، وتصعد وتعرج، وتنعم وتعذب، وتتكلم وتسأل وتجيب، وأمثال ذلك أكثر من أن يمكن سطره هنا، فكيف يقال: إن الصحابة ماتوا وما عرفوا هل الروح عين قائمة بنفسها، أو صفة من الصفات؟ وإن كانوا هم كانوا لا يتخاطبون بلفظ الجسم والعرض. وكذلك قول القائل: إن الصحابة لم يعرفوا هل الصفات زوائد على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 الذات، ليس بسديد. فإن كلام الصحابة في إثبات الصفات لله تعالى أكثر وأعظم من أن يمكن سطره هنا، بل كلام الصحابة في إثبات الصفات العينية الخبرية التي تسميها نفاة الصفات تجسيماً، أكثر من أن يمكن سطره هنا، وكلامهم وكلام التابعين صريح في أنهم لم يكونوا يثبتون ذاتاً مجردة عن الصفات. وأما اللفظ: هل الصفات زائدة على الذات أم لا؟ فلفظ مجمل، فإن أراد به المريد أن هناك ذاتاً قائمة بنفسها، منفصلة عن الصفات الزائدة عليها، فهذا لا يقوله أهل الإثبات، ولا الصحابة. وإن أراد به أن الصفات زائدة على الذات المجردة التي يعترف بها النفاة، فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة، فالسلف والأئمة لم يثبتوا ذاتاً مجردة حتى يقولوا: الصفات زائدة عليها، بل الذات التي أثبتوها هي الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها، وهذا المعنى متواتر في كلام الصحابة. ففي الجملة: المعاني الصحيحة الثابتة كان الصحابة أعرف الناس بها، وإن كان التعبير عن تلك المعاني يختلف بحسب اختلاف الاصطلاحات. والمعاني الباطلة قد لا تخطر ببال أحدهم، وقد تخطر بباله فيدفعها، أو يسمعها من غيره فيردها، فإن ما يلقيه الشيطان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 من الوسواس والخطرات الباطلة ليس لها حد محدود، وهو يختلف بحسب أحوال الناس. وأما ما ذكره ابن عقيل من قوله: (ليس في قوة العقل درك لما عند الله من الحكمة التي انفرد بها ... إلى آخر كلامه) فهذا كله في العلل الغائية، وحكمة الأفعال وعواقبها، ومسائل القدر والتعديل والتجوير، فإن ابن عقيل كان - لكثرة نظره في كتب المعتزلة وما عارضها - عنده في هذا الأصل أمر عظيم، وهو من أعظم الأصول التي تشعب فيها كلام الناس. وكان طوائف من المنتسبين إلى الحديث والسنة كالأشعري، والقاضي أبي بكر، ومن وافقهم في أصل قولهم، وإن كان يختلف كلامه، كالقاضي أبي يعلى، وابن الزاغوني، وطوائف لا يحصيهم إلا الله، ينكرون التعليل جملة، ولا يثبتون إلا محض المشيئة، ولا يجعلون في المخلوقات والمأمورات معاني لأجلها كان الخلق والأمر، إلى غير ذلك من لوازم قولهم. والمعتزلة يثبتون تعليلاً متناقضاً في أصله وفرعه، فيثبتون للفاعل تعليلاً لا تعود إليه حكمة، ثم يزعمون أن كل واحد من العباد قد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 أراد به الفاعل كل من هو صالح له أو أصلح، وفعل معه ما يقدر عليه من ذلك، ويتكلمون في الآلام والتعويضات، والثواب والعقاب، بكلام فيه من التناقض والفضائح ما لا يحصى. وفي ذلك الحكاية المشهورة لأبي الحسن الأشعري مع أبي علي الجبائي لما سأله عن إخوة ثلاثة: مات أحدهم قبل البلوغ، والآخر بلغ فكفر، والآخر بلغ فآمن وأصلح، فرفع الله درجات هذا في الجنة، والصغير جعله دونه في الجنة، والكافر أدخله النار. فقال له الصغير: يارب ارفعني إلى درجة أخي. قال: إنك لا تستحق ذلك، فإن أخاك عمل عملاً صالحاً استحق به ذلك. فقال: يارب إنك أحييته حتى بلغ، وأنا أمتني، فلو أبقيتني لعملت مثل ما عمل. فقال له: إنه كان في علمي إنك لو بقيت لكفرت، فاخترتك إحساناً إليك. قال: فصرخ الكافر من النار: يارب فهلا أمتني قبل البلوغ ما فعلت بهذا؟ قالوا: فما سأله عن ذلك انقطع. ولهم على الكلام أبي الحسن اجوبة لها موضع آخر. والمقصود هنا أن ابن عقيل نظر في تعليلات المعتزلة فرآها عليلة، ورأى أنه لا بد من إثبات الحكمة والتعليل في الجملة، خلافاً لما كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 ينصره شيخه القاضي أبو يعلى: فصار يثبت الحكمة والتعليل من حيث الجملة، ويقر بالعجز عن التفصيل. والقاضي أبو خازم بن القاضي أبي يعلى في كتابه المصنف في أصول الدين الذي رتبه ترتيب محمد بن الهيصم في كتابه المسمى بجمل المقالات يسلك مسلك من أثبت الحكمة والمصلحة العامة التي تجب مراعاتها، وإن أفضى ذلك إلى مفسدة جزيئة، كما يشخد ذلك في المخلوقات والمأمورات، وهذا مذهب الفقهاء في تعليل الشرعيات، وهو مذهب كثير من النظار، أو أكثرهم، في تعليل المخلوقات، كما ذهب إلى ذلك الكرامية والفلاسفة وغيرهم من الطوائف، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. ولم يرد ابن عقيل بقوله: (وقد درج الصدر الأول على ما درج عليه الأنبياء من هذه الإقناعيات) . والإقناعيات تكون في الأدلة الدالة على العلم بإثبات الصانع، وإثبات الصفات له، والمعاد، ونحو ذلك، فإن تلك عند ابن عقيل وامثاله برهانيات يقينيات، فكيف يجعلها عند الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 الأنبياء والسلف إقناعيات؟ ولكن أراد بذلك، الإقناعيات في تعليل أفعاله. وسماها هو إقناعيات لأن هذا مبلغ أمثاله من العلم، ومنتهاهم من المعرفة في ذلك. وأما الأنبياء عليهم السلام، والسلف رضوان الله عليهم، فإن الله تعالى أطلعهم من حكمته في خلقه وأمره على ما لم يطلع عليه هو وأمثاله، ولكن هؤلاء ليس لهم بحقائق أحوال الأنبياء والصحابة من الخبرة ما يعرفون به منتهاهم في هذه المطالب العالية، كما أنه ليس لهم من الخبرة بهذه المسائل الكبار ما انتهوا معه إلى غايتها، لكنهم يعلمون أن الأنبياء أفضل الخلق، والصحابة بعدهم أفضل الخلق، فيعتقدون فيهم أنهم وصلوا إلى منتهى ما يصل إليه الخلق في هذه المسائل. ثم إنهم لما نظروا - مع فرط ذكائهم - ولم يصلوا إلا إلى هذا، ظنوا أنه لا غاية وراءهم، فقالوا ما قالوا. وهكذا كل طائفة سلكت فانتهت إلى حيث رأت أنه منتهى الخلق، فإنها تقضي على كل من تعظمه بأن هذا منتهاه، كما قد رأينا طائفة من الفلاسفة لما رأوا أن قول الفلاسفة هو منتهى معارف العقلاء، صاروا إذا رأوا شخصاً ظهر عنه ما يدل على كمال عقله، وعظم علمه وفضله، ومعرفته بأقوالهم على الحقيقة، يجعلون قوله هو منه ورأينا من كلامه ما يناقض قول الفلاسفة، يقول ذلك الفيلسوف الفاضل: هذا والله قد عرف حقيقة قولنا، ومن عرف حقيقة قولنا لم يعدل عنه، إلا أن يكون هناك شيء أعلى منه، ثم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 يبقى حائراً: هل فوق قولهم ما هو أكمل منه، لما ظهر منه من كون العارف بحقيقة قولهم، مع حسن قصده وعدله، قد عدل عنه إلى قول يناقضه؟ أو ليس فوقه ما هو أكمل منه؟ لأن هذا الفيلسوف لا يعرف أن فوقه ما هو أكمل منه. وهكذا الاتحادية أهل الوحدة ينسبون كل من عرف علمه وعقله وكماله إلى أنه منهم، وإن كان مظهراً للإنكار عليهم، وهكذا أهل الحيرة في الصفات الخبرية، يجعلون السلف والأئمة يمرون آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت، مع عدم علمهم بمعانيها. وإن كانوا من نفاتها قالوا: إنهم كانوا يعتقدون نفيها في الباطن: ولا يعلمون مدلول النصوص. ولما كان هذا عندهم هو الغاية التي انتهوا إليها، والسلف عندهم أعظم الناس، جعلوا هذا غاية السلف. وهؤلاء الطوائف وقع لهم الخطأ من جهتين: أحداهما: أنهم لم يعرفوا الحق في نفسه على ما هو عليه، لا بدليل عقلي ولا سمعي. الثانية: أنهم لم يعرفوا حقيقة أقوال السلف وما كان عندهم من العلم والبيان، فكان عندهم قصور في معرفة الحق في نفسه، وفي معرفة الأنبياء والسلف به، وظنوا أن ما وصلوا إليه هو الغاية الممكنة، فجعلوا ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 منتهى غيرهم، فصاروا يحكون كلام المعظمين عندهم على هذا الوجه. وقد رأينا من ذلك أموراً، حتى أن من قضاتهم وأكابرهم من يحكي أقوال الأئمة الأربعة في مسألة من المسائل الكبار، فإذا قيل له: أهذا نقله أحد عن الشافعي أو فلان أو فلان؟ قال: لا، ولكن هذا قاله العقلاء، والشافعي لا يخالف العقلاء، أو نحو هذا الكلام. فالطوائف المقصرة الضالة تجد حكايتهم للمنقولات، مثل نظرهم في المعقولات، فلا نقل صحيح، ولا عقل صريح. وكل من كان أبعد عن متابعة الأنبياء، كان أبلغ في هذين الأمرين، حتى ينتهي الأمر إلى القرامطة الباطنية، الذي مبنى أمرهم على السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات. ثم الشيعة أقرب منهم، فكان عندهم من السفسطة والقرمطة بحسبهم، والمعتزلة خير منهم، فهم أقل سفسطة وقرمطة، ولكن دخل من ذلك عندهم، بحسب ما فيهم من مخالفة الكتاب والسنة، أمور كثيره. كلام ابن عقيل في ذم علم الكلام وابن عقيل لما خبر كلام المعتزلة لم يرض طريقهم، فلهذا ذكر أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 الناس ثلاث طوائف: طائفة شكت لما رأت وجود الشر والضرر في العالم. وطائفة قالت بالأصلين وهم الثنوية. والطائفة الثالثة عللوا ما انخرم بعلل لم تشف غليل العقل - كما فعلت المعتزلة - فلما لم يستقم لهم التعليل، جنحوا وقالوا: خفي علينا وجه الحكمة فيما عرض في العالم من الفساد، فسلموا لمن استحق التسليم، وهو الصانع. قال: (وهذه طائفة أهل الحديث) وهذا بناءً على إثبات الحكمة والغاية والتعليل من حيث الجملة، والاعتراف بجهلة من جهة التفصيل، وذكر أن هذا منتهى كل عالم محق، وهذا مبلغ علم من انتهى إلى هنا. ولابن عقيل أنواع من الكلام، فإنه كان من أذكياء العالم، كثير الفكر والنظر في كلام الناس، فتارة يسلك مسلك نفاة الصفات الخبرية، وينكر على من يسميها صفات، ويقول: إنما هي إضافات، موافقة للمعتزلة، كما فعله في كتابه ذم التشبيه وإثبات التنزيه وغيره من كتبه، واتبعه على ذلك أبو الفرج بن الجوزي في كتابه كف التشبيه بكف التنزيه) في كتابه منهاج الوصول، وتارة يثبت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 الصفات الخبرية، ويرد على النفاة والمعتزلة بأنواع من الأدلة الواضحات، وتارة يوجب التأويل كما فعله في الواضح وغيره وتارة يحرم التأويل ويذمه وينهي عنه، كم فعله في كتاب الأنتصار لأصحاب الحديث، فيوجد في كلامه من الكلام الحسن البليغ ما هو معظم مشكور، ومن الكلام المخالف للسنة والحق ما هو مذموم مدحور. وكذلك يوجد هذا وهذا في كلام كثير من المشهورين بالعلم، مثل أبي محمد بن حزم، ومثل أبي حامد الغزالي، ومثل أبي عبد الله الرازي وغيرهم. ولابن عقيل من الكلام في ذم من خرج عن الشريعة من أهل الكلام والتصوف ما هو معروف، كما قال في الفنون، ومن خطه نقلت، قال: (فصل: المتكلمون وقفوا النظر في الشرع بأدلة العقول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 فتفلسفوا، واعتمد الصوفية المتوهمة على واقعهم فتكهنوا، لأن الفلاسفة اعتمدوا على كشف حقائق الأشياء بزعمهم، والكهان اعتمدوا على ما يقلى إليهم من الاطلاع، وجميعاً خوارج على الشرائع، هذا يتجاسر إن يتكلم في المسائل التي فيها صريح نقل بما يخالف ذلك المنقول، بمقتضى ما يزعم أنه يجب في العقل، وهذا يقول: قال لي قلبي عن ربي، فلا على هؤلاء أصبحت، ولا على هؤلاء أمسيت، لا كان مذهب جاء على طريق السفراء والرسل، يريد تعلم بيان الشرايع، وبطلان المذاهب والتوهمات، والطرايق المخترعات: هل لعلم الصوفية عمل في إباحة دم أو فرجً، أوتحريم معاملة، أو فتوى معمول بها في عبادة أو معاقدة؟ أو للمتكلمين بحكم الكلام حاكم ينفذ حكمه في بلد أو رستاق؟ أو تصيب للمتوهمة فتاوي وأحكام؟ إنما أهل الدولة الإسلامية والشريعة المحمدية المحدثون والفقهاء: هؤلاء يروون أحاديث الشرع، وينفون الكذب عن النقل، ويحمون النقل عن الاختلاف. وهؤلاء المفتون يفنون عن الأخبار تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، هم الذي سماهم النبي صلى الله عليه وسلم: الحملة العدول، فقال: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 فالخارج - وإن خفقت بنوده، وكثرت جموعه، وسمي بالملك - يبعد أن يضرب له دينار أو درهم، أو يخطب له على منبر، أو تكون أموره إلا على المغالطة والمخالسة، بينا هو على حاله يتضعضع لكتاب الملك، وتخشى من أن يقابله بقتال، أو يصافه بحرب، لأن في نفس الخارجي بقية من انخساس الباطل، وللملك - وإن قل جمعه - صولة الحق، وكذلك البرخشتي مع الطبيب المقيم: هذا مختار يطلب من الأدوية ما يسكن الألم في الحال، ويضع على الأمراض الأدوية الجواد العاملة بسرعة، فيأخذ العطية والخلعة لسكون الألم وإزاله المرض، ويصبح على أرض أخرى، ومنزل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 بعيد، وطبه مجازفة، لأنه يأمن الموافقة والمعاينة. والأطباء المقيمون يلامون على تطويل العلاج، وإنما سلكوا الملاطفة بالأدوية المتركبة دون الحادة من الأدوية، وإن عجلت سكون الألم، فإنها غير مأمونة الغوائل، ولا سليمة العواقب، لأن ماتعطى الأدوية الحادة من السكون إنما هو لغلبة المرض، وحيثما غلبت الأمراض أوهت قوى المحل الذي حلته الأمراض، فهو كما قيل: الدواء للبدن كالصابون للثوب ينقيه ويبليه، كذلك كلما احتد الصابون وجاد أخلق الثوب، فكذلك الفقهاء والمحدثون يقصرون عن إزالة الشبه. لأنهم عن نقل يتكلمون، وللخوف على قلوب العوام من الشكوك يقصرون القول ويقللون، فهم حال الأجوبة ينظرون في العاقبة، والمبتدعة والمتوهمة يتهجمون، كتهجم البرخشتي، فعلومهم فرح ساعة، ليس لعلومهم ثبات، فإن اشتبه على قوم ما دلسه الصوفيه عليهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن في أمتي محدثين ومكلمين، وهو ما يلقي من الفراسات والدرايات، كما نطق به عمر. قيل لهم: لو نطق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 عمر برأيه ولم يصدقه الوحي على لسان السفير، لما التفت إلى واقعته، ولا يبتنى الشرع على فراسته. ألاتراه لما مات السفير قال من هو أعلى طبقة منه: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله برأيي؟ وقال في الكلالة ما قال. يقول الصديق هذا وأسلم اليوم لشيخ رباط يخلو بأمرد في سمعه، ويسمع الغناء من أمرد وحرة، ويأكل من الحرام شبعة، ويرقص كما تشمس الخيل، لا يسأل الفقهاء، ولا يبنى أمره على النقل، يقول بواقعة، ويقول أتباعه: الشيخ يسلم إليه طريقته، وأي طريقة مع الشرع؟ وهل أبقت الشريعة لقائل قولاً؟ وهل جاءت إلا بهدم العوايد ونقض الطرايق؟ ما على الشريعة أضر من المتكلمين والمتصوفين. هؤلاء يفسدون العقول بتوهمات شبهات العقول، وهؤلاء يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان، يحبون البطالات، والاجتماع على اللذات، وسماع الأصوات المشوشات للمعايش والطاعات، وأولئك يجرئون الشباب والأحداث، وعلى البحث وكثرة السؤال والاعتراضات، وتتبع الشرع بالمناقضات. وما عرفنا للسلف الصالح أعمال هؤلاء الصوفية، بل كانت أحوالهم الجد لا الهزل، ولا أحوال المتكلمين: لا التكشف ولا البحث، بل كانوا عبيد تسليم وتحكيم في المعتقدات، وجد وتشهير في الأعمال والطاعات، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 فنصيحتي لأخواني من المؤمنين الموحدين أن لا يقرع أبكار قلوبهم كلام المتكلمين، ولا تصغي مسامعهم إلى خرافات المتصوفين، بل الشغل بالمعايش أولى من بطالة المتصوفة، والوقوف مع الظواهر أولى من توغل المنتحلة للكلام. وقد خبرت طريقة الفريقين: غاية هؤلاء الشك، وغاية هؤلاء الشطح. والمتكلمون عندي خير من المتصوفة، لأن المتكلمين مرادهم مع التحقيق مزيد الشكوك في بعض الأشخاص، ومؤدي المتصوفة إلى توهم الإشكال، والتشبيه هو الغاية في الإبطال، بل هو حقيقة المحال، مما يسقط المشايخ من عيني، وإن نبلوا في أعين الناس أقداراً وانساباً، وعلوماً وأخطاراً، إلا قول القائل منهم إذا خوطب بمقتضى الشرع: عدتي كذا وكذا، يشير إلى طريقة قد قننها لنفسه، تخرج عن سمت الشرع، فذاك مختلق طريقة، وكل مختلق مبتدع، ولو كان في ترك النوافل، لأن الاستمرار على ترك السنن خذلان. قال أحمد رضي الله عنه وقد سئل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 عن رجل استمر على ترك الوتر: هذا رجل سوء. أنا أنصح بحكم العلم والتجارب: إياك أن تتبع شيخاً يقتدي بنفسه، ولا يكون له إمام يعزى إليه ما يدعوك إليه، ويتصل ذلك بشيخ إلى شيخ إلى السفير صلى الله عليه وسلم، الله الله، الثقة بالأشخاص ضلال، والركون إلى الآراء ابتداع، اللين والانطباع في الطريقة مع السنة، أحب إلي من الخشونة والانقباض مع البدعة، الله لا يتقرب إليه بالامتناع مما لم يمنع منه، كما لا يتقرب إليه بأعمال لم يأمر بها. اصحاب الحديث رسل السفير: الفقهاء المترجمون لما أراد السفير من معاني كتابه، ولا يتم اتباع إلا بمنقول، ولا يتم فهم المنقول إلا بترجمان، وما عداهما تكلف لا يفيد. وإلى هذين القسمين انقسم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقلةً وفقهاء، ولا نعرف فيهم ثالثاً. أصحاب أسواق وصفقات وتجارات، لا ربط ولا مناخ للبطالات، يا أصحاب المخالطات والمعاملات، عليكم بالورع، يا أصحاب الزوايا والانقطاعات عليكم بحسم مواد الطمع. يا طراق المبتدئين إياكم واستحسان طرائق أهل التوهم والخدع، ليس السني عندي المحب لمعاوية ويزيد، ولا لأبي بكر وعمر، ولا الشيعة عندي من زار المشاهد، وأنشد المراثي والقصايد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 السني عندي من تتبع آثار الرسول فعمل بها بحسب ما يفتيه الفقهاء، واحتذى الرسم، واتبع الأمر، وكف عن النهي وتنزه عن الشبه، ووقف عند الشك، وتفرغ من كل علم خالف النقل، وإن كانت له طلاوة في السمع، وقبول في القلب، ليس قلبك معياراً على الشرع، مالله طائفة أجل من قوم حدثوا عنه، وما أحدثوا وعولوا على ما رووا، ولا على ما رأوا، الصبر على الرواية مقام الصديقين. قال الخضر للسفير: {إنك لن تستطيع معي صبرا} لأن مستحسناً برأيه ومستقبحاً برأيه لا يتبع، لأنه قد بان لك بنص القرآن أن استحسان عقل السفير الكليم واستقباحه ما كان على القانون الصحيح، حتى كشف له عن العذر فيما كان استقبحه) . تعليق ابن تيمية قلت: ولا ابن عقيل من هذا الجنس في تعظيم الشرع، وذم من يخالفه من أهل النظر والكلام، وأهل الإرادة والعبادة، كلام كثير من هذا الجنس. كما قد تقدم تكلم في ذلك طوائف من اهل العلم والدين، لكن من غلب عليه طريق النظر والكلام، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 كان ذمه لمنحرفه العباد أكثر من ذمه لمنحرفه أهل الكلام، وهذا كثير في أهل الكلام والفقهاء، لاسيما في العتزلة، وهؤلاء قد لا يعرفون ما في طريق أهل العبادة والتصوف من الأمور المحمودة في الشرع، ومن غلب عليه طريقة أهل التصوف. وهذا يوجد كثيراً في كلام أهل الزهد والعبادة، لا سيما المعظمين لطريق الصوفية، فمثل أبي عبد الرحمن السلمي، وأبي طالب المكي، وأبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري، وأبي حامد الغزالي، وإن كانوا يذمون من منحرفة الصوفية ما يذمون، فذمهم لجنس أهل الكلام والبحث والنظر أعظم. ومثل أبي بكر بن فورك، وأبن عقيل، وأبي بكر الطرطوشي، وأبي عبد الله المازري، وأبي الفرج بن الجوزي، وإن كانوا يذمون من بدع أهل الكلام والفلسفة ما يذمون، فذمهم لما يذمونه من بدع أهل التصوف والتاله أعظم. وقد قال الله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون» . رواه الترمذي وصححه. وكان طائفة من السلف يقولون: من فسد من الفقهاء ففيه شبه من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 اليهود، ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى. فمن كان فيه بدعة من أهل الكلام والنظر والفقه كالمعتزلة تجدهم يذمون النصارى أكثر مما يذمون اليهود، واليهود يقرأون كتبهم ويعظمونهم. ومن كان فيه بدعة، من أهل العبادة والتصوف والزهد، تجدهم يذمون اليهود أكثر مما يذمون النصارى، وتجد النصارى يميلون إليهم، وقد يحصل من مبتدعة الطائفين من موالاة اليهود والنصارى بحسب ما فيهم من مشابهتهم، وهذا موجود كثيراً، كما دل عليه الكتاب والسنة. وهذه الطريقة الأولى التي يعتمد عليها من يعتمد، مثل ابن عقيل، وصدقه بن الحسين، وغيرهما، هي التي ذكرها أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر، وهي التي اعتمد عليها في كتابه المشهور المسمى: بـ اللمع في الرد على أصحاب البدع وهو أشهر مختصراته، وقد شرحوه شروحاً كثيرة، ومن أجلها‍‍‍ شرح القاضي أبي بكر له. كلام الأشعري في اللمع عن إثبات وجود الله تعالى وهذه السياقة النتقدمة هي سياقة أبي الحسن في اللمع فإنه قال في أوله: (إن سأل سائل: ما الدليل على أن للخلق صانعاً صنعه، ومدبراً دبره؟ قيل: الدليل على ذلك أن الإنسان، الذي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 هو في غاية الكمال والتمام، كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم لحماً ودماً، وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال إلى حال، لأنا نراه في حال كمال قوته، وتمام عقله، ولا يقدر أن يحدث لنفسه سمعاً ولا بصراً، ولا أن يخلق لنفسه جارحة، فدل ذلك على أنه قبل تكامله، واجتماع قوته وعقله، كان عن ذلك أعجز، لأن ما عجز عنه في حال الكمال، فهو في حال النقصان عنه أعجز، ورأيناه طفلاً، ثم شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر والهرم، لأن الإنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم، ويردها إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك، فدل ما وصفناه على أنه ليس هو الذي نقل نفسه في هذه الأحوال، وأن له ناقلاً نقله من حال إلى حال، ودبره على ما هو عليه، لأنه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر) . قال: (ومما يبين ذلك أيضاً: أن القطن لا يجوز أن يتحول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 غزلاً مفتولاً، ولا ثوباً منسوجاً يغير صانع ولا ناسج، ومن اتخذ قطناً فانتظر أن يصي رغزلاً مفتولاً، ثم ثوباً منسوجاً، بغير صانع ولا ناسج، كان عن المعقول خارجاً، وفي الجهل والجاً، وكذلك من قصد إلى برية لم يجد فيها قصراً مبنياً، فانتظر أن يتحول الطين إلى حال الآجر، وينتضد بعضه إلى بعض بغير صانع ولا بان كان جاهلاً، فإذا كان تحول النطفة علقة، ثم مضغة، ثم لحما، ثم عظماً ودماً، أعظم في الأعجوبة، كأن أولى أن يدل على صانع صنعها، أعني النطفة، ونقلها من حال إلى حال) . قال: (وقد قال تعالى: {أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} ، فما استطاعوا بحجة أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 يقولوا إنهم يخلقون ما يمنون مع تمنيهم الولد فلا يكون، ومع كراهتهم له فيكون. وقال تنبيهاً لخلقه على وحدانيته: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} فبين لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع صنعهم، ومدبر دبرهم) . تعليق ابن تيمية قلت: هذا الدليل مبني على مقدمتين: على تحول الإنسان من حال إلى حال، وأن ذلك لا بد له من صانع حوله من حال إلى حال، وكلتا المقدمتين ضرورية. والأولى هي مسألة حدوث صفات الأجسام، كما تقدم بيانه، وأن من أهل الكلام من يقول إن: المشهود هو حدوث الصفات لا حدوث الأعيان، وإن أكثر الناس على خلاف ذلك. وهذا هو طريقة القرآن، ولكن حدوث الصفات هي أقرب الطرق إلى طريقة القرآن، وأما الثانية فهي ضرورية، ولهذا لم يذكر أبو الحسن عليها دليلاً، لكن كثير من أصحابه يقولون: إنها طريقة، موافقةً منهم لمن قال ذلك من المعتزلة. كلام الباقلاني شرحاً لكلام الأشعري ولهذا اعترض من اعترض من المعتزلة على كلام أبي الحسن، فأجابه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 القاضي أبو بكر على أصله بجواب ذكره. قال القاضي أبو بكر: (أعلم أنه إنما ضرب المثل بما ذكره من القطن واللبن لظهوره في نفوس العامة والخاصة، واعتقاد جميعهم لجهل من جوز تنضد البنيان، واجتماع الآجر والتراب، وتصوير المصنوعات بغير صانع ولا مدبر، وأنت لو اعترضت كل من سلمت حاسته، وصح عقله، فسألته: هل يجوز وجود ما ذكره من ضروب المحكمات بغير صانع، مع العلم بأنها لم تكن كذلك من قبل؟ لمنع ذلك ولاستجهل قائله، لتقدم الأدلة وتقررها على فساده، في نفوس العامة والخاصة، وإن كانت العامة تقصر عبارتها عن عبارة الخاصة، وألفاظ المتكلمين، وطريق المستنبطين في التعبير، وقولهم: لم تجد كتابة إلا من كاتب، ولا ضرباً إلا من ضارب، ولا بناءً إلا من بان، وإن استحالة وجود ضرب من لا ضارب، وبناء من لا بان، كاستحالة ضارب لا ضرب له، وبان لا بناء له، وقد تقرر هذا المعنى في نفوسهم، وإن قصروا عن تأديته، وصار مقارناً للعلوم الضرورية، وصار المخالف فيه عند سائرهم كالمخالف فيما يدرك من جهة الحواس) . قال: (وجملة القول في هذا الباب أنا لا ندعي، ولا صاحب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 الكتاب، أن العلم باستحالة وقوع الصنعة لا من صانع، شيء يدرك من جهة الضروريات وتعلم صحته من طريق درك الحواس، لكنه يدرك بالاستنباط، فإذا حصل في نفوس من يجوز أن يشك في هذه المسألة، وفي صانع الأشياء التي غاب عنها، نظير لما يشك فيه، ومثل لما ارتاب فيه، رده إليه، وجعله أصلاً معه في تصحيح ما ينبغي تصحيحه، وكشف ما يرجى له كشفه) . قال: وقوله: لو أن منتظراً انتظر اجتماع المصنوعات من غير صانع كان متجاهلاً، كلام صحيح، لأن الصنعة يستحيل وقوعها إلا من صانع، كما يستحيل في العقول وجود صانعاً لا صنعة له، وكاتب لا كتابة له، فتعلق الصنعة بالصانع، كتعلق الصانع في كونه صانعاً بوجود صنعته، واستحالة أحد الأمرين في المعقول كاستحالة الآخر) . قال: (وهذه النكتة المعتمدة في هذا الدليل، وإنما نذكر ضروباً من ضروب الصنائع تقريباً بذكره، وليس القصد بذكره تخصيص تعليقه بالصانع، وإنما يراد بذلك وجوب تعلق سائر المصنوعات بصانع صنعها، فاعرف ذلك) . وذكر كلاماً آخر إلى أن قال: (فإن قال قائل: فما الدليل الآن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 على أنه لا بد لسائر الأفعال الحاضرة والغائبة من فاعل فعلها، ومدبر دبرها؟ وكيف وجه تعلق الإنسان وغيره من المصنوعات، بفاعل ومدبر صنعه وقصده، متى لم يكن هو الفاعل لنفسه؟ قيل له: قد تقدم من كلام صاحب الكتاب ما هو دلالة على ذلك، وقد مضى شرحنا له، حيث قلنا: إن تعلق الفعل بالفاعل، كتعلق الفاعل في كونه فاعلاً بفعله. ثم نقول في الدليل على ذلك: إنه لا يسوغ أن يجيب عن هذه المسألة إلا من سلم لنا هذه الأمور - التي هي التأليفات والتصويرات والتركيبات - معان محدثات، وإن كان لا يقر بأنها أفعال، كلم في أصل هذه المسألة، وقرر معه القول بوجوب حدوثها، فإذا كان الأمر على ما وصفناه، لم يكن لأحد أن يسأل عن هذه المسألة. وقد يخالف في أن هذه الأمور التي ذكرناها أفعال، لأنه إذا قال: ما الدليل على أن هذه الأفعال تتعلق بفاعل؟ فقد أثبتها أفعالاً، فإذا أنكر أن تكون أفعالاً، فقد أبطل بآخر كلامه ما أثبته بأوله، ولكن قد يسوغ أن يقول: ما الدليل على أن التأليف يتعلق بمؤلف؟ وإن لم يسلم أنه فعل، لشبهة تدخل عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 فإذا كان الأمر على ما وصفنا، رجعنا فقلنا: الدليل على أنه لا بد للأفعال من تعلق بفاعل، أنا وجدناها يتقدم بعضها على بعض في الوجود، ويتأخر بعضها عن بعض، وتوجد في زمان كان يصح عدمها فيه، بدلاً من الوجود، وتعدم في زمان يصح وجودها فيه بدلاً من العدم. فإذا كان هذا وصفها، قلنا: لا يخلو ما تقدم منها: أن يكون متقدماً لنفسه، أو لمعنى يوجد به، أو لا لنفسه ولا لعلة، أولمقدم قدمه، وكذلك حكم القول فيما تأخر منها، فنظرنا فإذا هو مستحيل أن يكون إن ما تقدم منها إنما تقدم لنفسه، لأنه قد يتقدم على ما هو جنسه، وتأخر عنه ما ذاته مثل ذاته، كالجواهر وأجزاء السواد وغير ذلك من المتماثلات، فلو كان ما تقدم منها متقدماً لنفسه، لم يكن بالتقدم أولى مما هو مثل له، ولا كان المتأخر منها بالتأخر أولى منه بالتقدم، إذ قد صح وثبت أن المتماثلين هما ما سد أحدهما مسد صاحبه، وناب منابه، واقتضت ذاته من الأحكام ما اقتضته ذات ما كان مثلاً له. وفي العلم بتقدم بعض المتماثلات على بعض، وتأخر بعضها عن بعض - فإن ما تقدم منها، فالتقدم أولى منه بالتأخر، وما تأخر منها، فالتأخر أولى منه بالتقدم - دليل على أنه لا يجوز أن يكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 المتقدم منها متقدماً لنفسه، ولا المتأخر منها متأخراً لنفسه، ويستحيل أن يكون ما تقدم منها متقدماً لعلة توجد به، لأنه ليس بأن توجد له تلك العلة - إذا لم تكن تلك العلة منه معلقة بموجد - أولى من وجودها بغيره. ووجود سائر ما جانسها، بسائر ما يحتمله ذلك الجنس من العلل المقتضية بالتقدم، الذي هو الوجود في الوقت المخصوص الذي يتكلم عليه، حتى تتساوى في الوجود، ولا يتأخر بعضها عن بعض، لاحتمالها ما يقتضي وجودها من المعاني وكونها متماثلة. على أنه لو كان المتقدم من الجواهر وأجزاء السواء متقدماً لعلة، والمتأخر عنها متأخراً لعلة، لكانت علة التقدم قبل علة التأخر، إذ كانت موجودة مع المتقدم، الذي هو قبل المتأخر. ولو كان ذلك كذلك، لوجب أن يكون لعلة ايضاً، ما تقدمت إحدى العلتين على الأخرى، لأن علة التقدم والتأخر يجب أن تكونا من جنس واحد، لأنهما حدوثان ووجودان للحادث الموجود، ولو ثبتا معنى من المعاني. وقد أبنا فيما سلف أنه لا يجوز تقدم أحد المثلين، على صاحبه لنفسه وجنسه. ووجود الشيئين في زمانين متغايرين، لا يخرج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 الوجود عن حقيقته، فيجب لذلك أن تكون علة وجود الشيء في زمان، كعلة وجود غيره في غير ذلك الزمان، ومن جنسها. وإذا كان كذلك، وجب أن يكون تقدم إحدى العلتين للأخرى لعلة ثانية، والقول في الثانية وفي وجوب تعليقها بثالثة - إذا كانت متقدمة لعلة - كالقول في الأولى. وكذلك القول في علة التأخر، وهذا يوجب ما لا نهاية له من الحوادث، وذلك محال. فإن اعترف المخالف أن الشيء الذي يتقدم وجوده وجود ما هو مثل له لعلة فعلها فاعل، أقر أن الفعل يتعلق بالفاعل، وكان حكم المعلول حكم العلة، ففي ذلك ما أردناه. وإن امتنع من تعلق العلة المقتضية لوجود ما يوجد به الفاعل، دخل عليه ما كلمناه به آنفاً: من أنه ليس احتمال بعض الجواهر لما يقتضي وجوده في زمان بعد زمان، بأولى من احتمال وجود ذلك فيما هو مثل له) . قال: (وسنبين بعد هذا أن الجواهر المعدودات، ليست بذوات ولا أعيان ولا جواهر قبل وجود الأعراض، وأنها لم توجد إلا مع وجودها. وإنما لم نقدم هذا الباب في هذه الدلالة لعدم حاجتنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 إليه، وذلك أنا نجعل مكان قولنا: (تقدمت الجواهر بعضها على بعض) ، أن نقول: إن بعضها ينتضد قبل بعض، وبعضها يتفرق قبل بعض، وبعضها يجتمع قبل بعض، وأنه لا يجوز أن يكون ما ينتضد منها منتضداً لنفسه، وما افترق منها مفترقاً لنفسه لقيام الدليل على تماثلها، وأن ما اقتضاه ذوات بعضها من الأحكام اقتضاه ذوات سائرها، وفي العلم بأن منها ما يكون مجتمعاً منتضداً، ومنها ما يكون متفرقاً متبايناً، دليل على أنه ليس الذي اقتضى لها ذلك ذواتها، وإن كانت تلك العلة فعلها فاعل، فصارت بوجودها على صفة ما ذكرناه من الاجتماع والافتراق، فصح أن الأفعال تتعلق بالفاعل، وأن تلك العلة إذا كانت متعلقة بالفاعل من حيث كانت فعلاً محدثاً، وجب أن يكون هذا سبيل الجسم، إذ كان فعلاً لمساواته لما تعلق بالفاعل فيما لو كان متعلقاً به. وهذا إقرار بتعلق الأفعال بالفاعل) . قال: (ويستحيل أن يكون ما تقدم منها متقدماً لا لنفسه ولا لعلة، لأنه كان يجب أن لا يكون بالتقدم - في وقت تقدمه - أولى منه بالتأخر، ولا بالتأخر أولى منه بالتقدم، ولا كان هو بأن يكون متقدماً لا لنفسه ولا لعلة، أولى من تقدم ما هو مثل له في زمانه، لا لنفسه ولا لعلة، وفي العلم بكون المتقدم أولى منه بالتأخر، والمتأخر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 أولى منه بالتقدم، وإن وصفه بالتقدم والتأخر يفيد فوائد متغايرة، لا تجري مجرى الألقاب التي لا تفيد - دليل على أنه لا يجوز أن يكون ما تقدم منها متقدماً لا لنفسه ولا لعلة) . قال: (وفي فساد هذه الأقسام التي لا يخلو الأمر منها في التقدم والتأخر، دليل على أن مقدماً قدم منها ما قدم، وأخر منها ما أخر) . قال: (وهذا أحد ما يعول عليه في وجوب تعلق الأفعال بفاعل) . قلت: مضمون هذا الكلام أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث يستدل عليه بأن ذلك يتضمن الاختصاص بزمان دون زمان، والتخصيص لا بد له من مخصص، لأنه ترجيح لأحد المتماثلين على الآخر، وترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح معلوم الفساد بالضرورة، ولم يحتج بعد هذا أن يستدل على أن الترجيح لا بد له من مرجح، لأن ذلك ترجيح لأحد طرفي الممكن على الآخر، فلا بد له من مرجح، وقد ذكرنا فيما بعد أن هذا هو الطريق الذي سلكه أبو الحسين، وأبو المعالي، وابن عقيل، وابن الزاغوني، وغيرهم: قرروا افتقار المحدث الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 إلى المحدث بأن ذلك تخصيص بأحد الجائزين، والتخصيص بأحد الجائزين لأنه لا بد له من مخصص، وهذا عندهم مختص بالمحدثات، ولا يتصور عندهم ممكن قديم حتى يستدلوا بافتقار الممكن المتساوي الطرفين إلى مرجح لأحدهما، أو مرجح لوجوده. وذكر القاضي أبو بكر أن ما ذكر من ضرب المثل باللبن إذا صار بناءً، والغزل إذا صار ثوباً، إنما هو لأجل ظهور ذلك في نفوس العامة والخاصة، لا لأن أحداهما مقيس على الآخر. وذلك أن كثيراً من المعتزلة، كأبي علي، وأبي هاشم، يقررون ذلك بالقياس على أفعال العباد، فيقولون: كما أن الكتابة لا بد لها من كاتب، والبناء لا بد له من بان، فكذلك الجسم المحدث لا بد له من فاعل للقدر المشترك، لأن العلة الموجبة افتقار الأصل المقيس عليه إلى الفاعل، هي موجوده في الفرع المقيس، لأن افتقار الأصل إلى الفاعل إنما كان لحدوثه، وهذا موجود في الفرع ... إلى سائر كلامهم المعروف في مثل هذا. فذكر القاضي أبو بكر أنه لا حاجة إلى هذا، بل افتقار أحداهما كافتقار الآخر، وقرر الجميع بالطريقة التي ذكرها، وهو قوله: (لأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 الصنعة يستحيل وقوعها إلا من صانع، كما يستحيل في العقول وجود صانع لا صنعة له، وكاتب لا كتابة له، فتعلق الصنعة بالصانع، كتعلق الصانع في كونه صانعاً بوجود صنعته) . قال: (وهذه النكتة المعتمدة في هذا الدليل) . تعليق ابن تيمية قلت: بيان هذا أنه إذا قيل: صنعة، أو فعل، كان هذا اللفظ متضمناً صانعاً فاعلاً، كما إذا قيل: فاعل صانع، كان ذلك متضمناً فعلاً وصنعة. وذلك لأن المصدر يستلزم الفاعل، كما يستلزم الفاعل المصدر، فكما أن العقل يعلم امتناع فاعل لا فعل له، فهو يعلم امتناع فعل لا فاعل له. والقاضي أبو بكر قرر هذا الوجه أيضاً بناءً على أن العلم بافتقار المحدث إلى محدث ليس بضروري، وزعم أن الأشعري يقول بذلك، كما تقدم من قوله: (إنا لا ندعي - ولا صاحب الكتاب - أن العلم باستحالة وقوع الصنعة لا من صانع، شيء يدرك من جهة الضرورات) . ومن المعلوم أن كلام الأشعري ليس فيه شيء من هذا، ولم يذكر في كلامه أن العلم بافتقار الصنعة إلى صانع يقرر بأن استلزام الصنعة للصانع كاستلزام الصانع للصنعة، ولا بأن ذلك يتضمن تقديماً وتأخيراً، فيفتقر إلى مقدم ومؤخر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 ثم إن القاضي قرر ذلك بأن ذلك التقدم والتأخر لا يجوز أن يكون لعلة تقوم بالمتقدم والمتأخر، لأنه ليس وجود العلة به بأولى من وجودها بغيره، إذا لم يكن هناك موجد. وكذلك وجود سائر العلل المجانسة لها لسائر ما يحتمله ذلك الجنس الذي وجدت به العلة، ولأن ذلك يتضمن تقدم علة على علة، فتفتقر أيضاً إلى لعة متقدمة، وذلك يفضي إلى وجود حوادث لا نهاية لها، وهو محال. وهذه المقدمة فيها نزاع مشهور، لكنه احتج بها على من يسلمها من المعتزلة، ولأنه عند نفسه قد أقام الدليل عليها في موضع آخر. وأيضاً فإنه بنى دليله على تماثل الجواهر، وهذا فيه نزاع مشهور، لكنه أحال على تقريره لذلك في موضع آخر. وإبطال هذا القسم يظهر بدون هذه الأدلة التي اعتمد عليها، وذلك أن الكلام في حدوث ما يحدث من الحوادث التي تقدمت وتأخرت، وهذه لا تقوم بها العلل في حال عدمها، إنما تقوم بها في حال وجودها، فيمتنع أن يكون حدوثها لمعنى قام بها قبل حودثها، لأن المعدوم لا يحدث الموجود، ولا يكون المعدوم علة للموجود. ولكن سلوك هؤلاء لهذه الطرق البعيدة التي فيها شبهة وطول، دون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 الطرق القريبة التي هي أقرب وأقطع، قد يكون لكون المناظر لهم لا يسلم صحة الطرق القريبة الواضحة القطعية، إما عناداً منه، وإما لشبهة عرضت له افسدت عقله وفطرته، مثلما يعرض كثيراً لهؤلاء، فيحتاج مع من يكون كذلك إلى أن يعدل معه إلى طريق طويلة دقيقة يسلم مقدماتها مقدمةً مقدمة، إلى أن تلزمه النتيجة بغير اختياره، وإن كانت المقدمات التي مانعها أبين وأقطع من المقدمات التي سلمها، لكن هذا يحتاج إليه كثيراً في مخاطبة الخلق، فكم من شخص لا يقبل شهادة العدول الذين لا يشك في صدقهم، ويقبل شهادة من هو دونهم: إما لجهله، وإما لظلمه. وكذلك كم من الخلق من يرد أخباراً متواترة مستفيضة، ويقبل خبر من يحسن به الظن، لاعتقاده أنه لا يكذب، وكم من الناس من يرد ما يعلم بالدلائل السمعية والعقلية، ويقبله إذا رآى مناماً يدل على ثبوته، أو قاله من يحسن به الظن لثقة نفسه بهذا أكثر من هذا، وكم ممن يرد نصوص الكتاب والسنة حتى يقول ما يوافقها شيخه أو إمامه فيقبلها حينئذ، لكون نفسه اعتادت قبول ما يقوله ذلك المعظم عنده، ولم يعتد تلقي العلم من الكتاب والسنة، ومثل هذا كثير. فكذلك كثير من الناس قد يألف نوعاً من النظر والاستدلال، فإذا أتاه العلم على ذلك الوجه قبله، وإذا أتاه على غير ذلك الوجه، لم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 يقبله، وإن كان الوجه الثاني أصح وأقرب، كمن تعود أن يحج من طريق بعيدة معطشة مخوفة، وهناك طرق أقرب منها آمنة وفيها الماء، لكن لما لم يعتدها نفرت نفسه عن سلوكها. وكذلك الأدلة التي فيها دقة وغموض وخفاء، قد ينتفع بها من تعودت نفسه الفكرة في الأمور الدقيقة، ومن يكون تلقيه للعلم عن الطرق الخفية التي لا يفهمها أكثر الناس، أحب إليه من تلقيه له من الطرق الواضحة التي يشركه فيها الجمهور. ومثل هذا موجود في المطاعم والمشارب، والملابس والعادات، لما في النفوس من حب الرياسة. فهذه الطرق الطويلة الغامضة التي تتضمن تقسيمات، أو تلازمات، أو إدراج جزيئات تحت كليات، قد ينتفع بها من هذا الوجه في حق طائفة من الناظرين والمناظرين، وإن كان غير هؤلاء، من أهل الفطر السليمة والأذهان المستقيمة، لا يحتاج إليها، بل إذا ذكرت عنده مجها سمعه، ونفر عنها عقله، ورأى المطلوب أقرب وأيسر من أن يحتاج إلى هذا، فإن علم العقول بافتقار المحدث إلى محدث، أبين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 وأظهر من علم العقول بأن تخصيص أحد المثلين بشيء دون الآخر يحتاج إلى مخصص، ومن تصور هاتين القضيتين حق التصور، لم يمكنه - مع الشك في الأولى - أن يجزم بالثانية، بل قد لا يتصور إحداهما حق التصور. ألا ترى أنه إذا قيل لمن صدق بالثانية: لم قلت: إن التقديم والتأخير لا بد له من مقدم ومؤخر؟ رجع إلى فطرته السليمة وحكم بذلك، وغايته أن يقول: الأشياء المتساوية لا يترجح بعضها على بعض إلا بمرجح. فلو قال قائل: لما قلت ذلك؟ ولم لا يجوز أن يترجح هذا على هذا إلا بمرجح أصلاً؟ ويختص بما اختص به لا لمخصص أصلاً؟ لكان إنكاره لقول هذا القائل، دون إنكاره لقول من قال: لم قلت: إن هذه الحوادث لا تحدث إلا بمحدث؟ وهذا التأليفات والتركيبات الحادثة كانت، بعد أن لم تكن، لا بمؤلف ولا مركب، فإن ترجيح أحد المتساويين الحادثين على الآخر بلا مرجح، هو نوع من حدوث الحادث بلا محدث، فإن سوغ العقل حدوث حادث بلا محدث، سوغ ان يحدث أحد المثلين دون الآخر، بلا مخصص لحدوثه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 وهل تخصيص أحد الحادثين بوقت دون وقت، أو شكل دون شكل، أو وصف دون وصف، إلا نوع من حدوث حادث؟ فإن الصفات والأشكال حوادث، والتقدم والتأخر إضافة للحوادث إلى وقتها، فهو صفة في الحدوث، كإضافة الحادث إلى مكانه، وكل ذلك مما يعلم بصريح العقل وفطرته السليمة، أنه لا بد له من محدث، مخصص، فاعل، مؤلف، سواه. ولهذا لم يحتج الأشعري إلى أن يقيم على ذلك دليلاً، كما فعله القاضي أبو بكر وأتباعه، إلا أن يكون في موضع آخر فعل كما فعلوا، ولعله إن فعل ذلك لأجل عناد المناظرين أو جهلهم، فسلك بهم الطريق البعيدة لما لم يسلكوا الطريق القريبة، لا لأنه عنده يحتاج إلى الطريق البعيدة. ولهذا لا توجد هذه الطريق البعيدة في كلام أحد من السلف والأئمة، ولا ذكرت في القرآن، فإنها من باب تضييع الزمان، وإتعاب الحيوان في غير فائدة. والقرآن لا يذكر فيه مخاطبة كل مبطل بكل طريق، ولا ذكر كل ما يخطر بالبال من الشبهات وجوابها، فإن هذا لا نهاية له ولا ينضبط، وإنما يذكر الحق والأدلة الموصلة إليه لذوي الفطر السليمة، ثم إذا اتفق معاند أو جاهل، كان من يخاطبه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 من المسلمين، مخاطباً له بحسب ما تقتضيه المصلحة، كما يحتاج إلى الترجمة أحياناً وكما قد يستدل على أهل الكتاب بما يوجد عندهم من التوراة والإنجيل. ففي الجملة: الطرق التي تختص بطائفة طائفة، مع طولها وثقلها على جمهور الخلق، لا تكون في مثل الكتاب العزيز، الذي جعله الله شفاءً ورحمةً، ودعا به الخلق جميعهم ليخرجهم به من الظلمات إلى النور، فإن مثل هذا الكتاب العزيز لا يليق أن يذكر فيه من الطرق ما يثقل على جمهور الخلق ويستركونه ويعدونه لكنةً وعياً لا يحتاج إليه، ويرونه من باب إيضاح الواضحات، كما لو ذكر فيه الرد على السوفساطئية ببيان أن الشمس موجودة، والقمر موجود، والبحار موجودة، والجبال موجودة، والكواكب موجودة، وأن الإنسان يعلم هذا بالمشاهدة - ونحو ذلك - لكن هذا مما يستقبح ذكره، ويستثقله ويستركه جمهور العقلاء، لأن هذا عندهم أمر معلوم، مستقر في عقولهم، لا يحتاجون فيه إلى خطاب عالم من العلماء، فضلاً عن كتاب منزل من السماء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 وإذا قدر أن بعض الناس احتاج إلى إزالة ما عرض له من هذه الشبه السوفسطائية، كان هذا من الأمراض النادرة التي لا تعرض لجمهور العقلاء، وعلاج هذا لا يحتاج إلى كتاب منزل من السماء يقصد به هدى الخلق، وبيان ما يحتاجون إليه في صلاح أمورهم. ولو ذكر في القرآن مثل هذا، لم يكن لما يذكر من ذلك غاية، لأن الخواطر الفاسدة لا نهاية لها ولا ضابط، فكان يضيع زمان الناس في القراءة والسماع لما لا ينتفع به جماهيرهم، ويشتغلون بذلك عما لا بد لهم منه، ولا يصلح أمرهم إلا به. ونحن لم يكن بنا حاجة - في الإيمان بالله ورسوله - إلى مثل هذه الطرق، وإنما ذكرناها لما كان الذين سلكوها يعارضون كلام الله ورسوله بمقتضاها، يزعمون أنه قد قامت عندهم أدلة عقلية تناقض ما جاءت به الرسل، فكشفنا حقائق هذه الطرق التي يعرضون بها، لنبين أن ما عارض النصوص منها لا يكون إلا باطلاً، وما لم يعارض النصوص: فقد يكون حقاً، وقد يكون باطلاً، وماكان حقاً ولم يعارض النصوص، فقد لا يحتاج إليه، بل في الطرق العقلية التي دلت النصوص عليها وهدت إليها ما يغني عن ذلك، بل تلك الطرق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 أقوى وأقرب وأنفع، فإن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم. وقد قال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} ، والصراط المستقيم هو أقرب الطرق إلى المطلوب، بخلاف الطرق المنحرفة الزائفة، فإنها إما أن لا توصل، وإما أن توصل بعد تعب عظيم، وتضييع مصالح أخر، فالطرق المبتدعة إن عارضت كانت باطلاً، وإن لم تعارض، فقد تكون باطلاً، وقد تكون حقاً لا يحتاج إليه مع سلامة الفطرة. ولهذا كل من كان إلى طريق الرسالة والسلف أقرب، كان إلى موافقة صريح المعقول وصحيح المنقول أقرب. فـ القاضي أبو بكر، وإن كان أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول في أصول الدين - بخلاف أصول الفقه - من أبي المعالي، وأتباعه، والأشعري أقرب إلى ذلك من القاضي أبي بكر، وأبو محمد بن كلاب أقرب إلى ذلك من أبي الحسن، والسلف والأئمة أقرب إلى ذلك من ابن كلاب، فكل من كان إلى الرسول أقرب كان أولى بصريح المعقول وصحيح المنقول، لأن كلام المعصوم هو الحق الذي لا باطل فيه، وهو المبلغ عن الله كلامه، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. ومما يبين ذلك أن ما ذكره القاضي أبو بكر من الطريقين البعيدين اقربهما مبني على أن دلالة الصنعة على الصانع، كدلالة الصانع على الصنعة، وهذا إنما يدل من جهة الاشتقاق اللفظي كما تقدم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 ومن المعلوم أن من شاهد الحوادث قبل أن يعلم أن لها صانعاً، لا يعلم أنها صنعة ولا مفعولة لفاعل، حتى يتضمن علمه بأحدهما علمه بالآخر، فإن لم يعلم أن الحادث لا بد له من محدث، لم يعلم أنها مفعولة ولا مصنوعة، فضلاً عن أن يعلم أن لها صانعاً فاعلاً وإذا علم أنها مصنوعة مفعولة، امتنع مع ذلك أن لا يعلم أن لها صانعاً فاعلاً. يوضح ذلك أن علم الناس بأن الصنعة مفتقرة إلى الصانع، ليس بدون علمهم بأن الصانع لا بد له من صنعة، بل علمهم بالأول قد يكون أقوى من الثاني، وذلك لأنه أراد بكلامه أن الصانع لا يكون صانعاً الإبصنعة، والفاعل لا يكون فاعلاً إلا بفعل، وهذا صحيح. ولكن ليس هذا بأبين من كون المصنوع لا يكون مصنوعاً إلا بصانع، والمفعول لا يكون مفعولاً إلا بفاعل، والفعل لا يكون فعلاً إلا بفاعل، والصنعة لا تكون صنعة إلا بصانع، بل إذا رأوا الحادث علموا بعقولهم أنه لا بد له من فاعل أحدثه، وقد يرون ما يصلح أن يكون فاعلاً، ولا يعلمون: هل فعل شيئاً أو لم يفعله؟ فكان فيما ذكره بيان الأبين الأظهر بالأخفى، وهم يمنعون من تحديد الأظهر بالأخفة. وقد قلنا: إن مثل هذا قد يستعمل مع جهل المخاطب أو عناده ونحو ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 وأما الطريق الثانية التي جعلها القاضي أبو بكر معتمدة، فهي مع طولها يمكن تقريرها بمقدمات صحيحة، لكنه أدخل في بعض مقدماتها تماثل الجواهر وتناهي الحوادث. ومعلوم لكل مؤمن عاقل أن الإقرار بالصانع لا يفتقر إلى هذا وهذا، بل وعلم الخلق بأن الحادث لا بد له من محدث، لا يفتقر لا إلى هذا ولا إلى هذا، وهو ذكر هاتين المقدمتين مع غيرهما، وفيما ذكره من غيرهما غنية عنهما، فإن تماثيل الأعراض كأجزاء السواد يغنيه عن تماثل الجواهر. وما ذكره من الوجه الأول في امتناع التقدم لعلة يغنيه عن الوجه الثاني، المبني على تناهي الحوادث. ثم مما ينبغي أن يعرف أن الذين سلكوا الطرق المبتدعة في إثبات الصانع وتصديق رسله، إذا اعتقدوا أنه لا طريق إلا ذلك الطريق، جعلوا من خالفهم في صحة تلك الطريق ملحداً أو دهرياً أو نحو ذلك، وهذا يذكرونه في مواضع. منها: أنهم لما اعتقدوا أن إثبات الصانع تعالى موقوف على إثبات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 الجوهر الفرد، جعلوا إثبات ذلك من أقوال المسلمين، ونفي ذلك من أقوال الملحدين. وكذلك قد يقولون: إن تماثل الجواهر والأجسام من أقوال المسلمين، ونفي ذلك من أقوال الملحدين، وكذلك قد يقولون: إن تناهي الحوادث من أقوال المسلمين، والقول بعدم تناهيها من أقوال الدهرية الملحدين، ولهذا نظائر. مع أن الذين يضيفونه إلى المسلمين قد يكون إنما ابتدعه طائفة من أهل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة، والقول الآخر هو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها وجمهور الخلق. وكذلك قد يضيفون إلى السنة ما لا يوجد في كتاب ولا سنة، ولا قول أحد من السلف، بل قد يكون المأثور ضد ذلك، حتى يتناقض أحدهم في النقل. فيحكي إجماع المسلمين، أو إجماع أهل الملل على شيء، ثم يحكي النزاع عنهم في موضع آخر. كلام أبي الحسن الطبري إلكيا كما رأيته قد ذكره بعض فضلاء المتكلمين من أصحاب أبي المعالي، أظنه أبا الحسن الطبري المعروف بإلكيا، أو بعض نظرائه ذكر في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 كتابه في الكلام لما استدل على حدوث العالم بدليل الأعراض، المشهور عن المعتزلة وأتباعهم من الأشعرية والكرامية وغيرهم - قال: (فإما الركن الرابع، وفيه المعركة، والتشاجر عنده يحصل، وهو إثبات استحالة حوادث لا أول لها، وقد أطبق المليون وأتباع الأنبياء كلهم على استحالة حوادث لا أول لها - وقال ملحدة الفلاسفة بإثبات حوادث لا أول لها) . وقال: في مسألة حلول الحوادث بعد أن ذكر قول الكرامية قال: (واعلم أن المشبهة أيضاً يقولون: إن الحوادث تقوم به، وإن لم يصرحوا به، فهم والكرامية في إثبات الجهة وقيام الحوادث بذات القديم، على حد سواء. وذلك أنهم يجوزون على الله الجيئة والذهاب، والنزول والصعود، والانتقال، فيقولون: هذه الأشياء لم تكن فكانت، وهذا هو الحادث. ثم أثبتوا له التحيز، وذلك لا يقوم إلا بمتحيز) . قال: (وقد أثبتوا حوادث لا أول لها) . قال: ولا تصول الملحدة إلا بهذا، وقد دللنا على بطلانه، وأنه لا يتم القول بحدوث العالم إلا بإبطاله) . تعليق ابن تيمية قلت: وهذا القول الذي يحكيه هذا وأمثاله من إجماع المسلمين، أو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 إجماع المليين في مواضع كثيرة، يحكونه بحسب ما يعتقدونه من لوازم أقوالهم، وكثير من الإجماعات التي يحكيها أهل الكلام هي من هذا الباب، فإن أحدهم قد يرى أن صحة الإسلام لا تقوم إلا بذلك الدليل، وهم يعلمون أن المسلمين متفقون على صحة الإسلام، فيحكون الإجماع على ما يظنونه من لوازم الإسلام، كما يحكون الإجماع على المقدمات التي يظنون أن صحة الإسلام مستلزمة لصحتها، وأن صحتها من لوازم صحة الإسلام، أو يكونون لم يعرفوا من المسلمين إلا قولين أو ثلاثة، فيحكون الإجماع على نفي ما سواها، وكثير مما يحكونه من هذه الإجماعات لا يكون معهم فيها نقل لا عن أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، بل ولا عن العلماء المشهورين، الذين لهم في الأمة لسان صدق، ولا فيها آية من كتاب الله، ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم مع هذا يعتقدون أنها من أصول الدين، التي لا يكون الرجل مؤمناً، أولا يتم دين الإسلام إلا بها، ونحو ذلك. ومثل هذا الرجل، وأمثاله من أهل الكلام، لما اعتقدوا أن العلم بإثبات الصانع وصدق الرسول موقوف على هذا الدليل، أخذ يحكيه عن جميع أهل الملل وجميع أتباع الأنبياء، وهو مع هذا لا يمكنه أن ينقله عن عالم واحد، لا من الصحابة ولا من التابعين، ولا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 تابعيهم، ولا معه فيه آية ولا حديث، والمنصوص عن الأئمة المشهورين عند الأمة يناقض ذلك، ولهذا عاد فحكى عن أهل الحديث الذين سماهم مشبهة، أنهم يقولون بذلك وإن كان ذكره في معرض التشنيع عليهم ففي ذلك ما يبين أن أتباع الأنبياء تنازعوا في ذلك. وما ذكره من أن حدوث العالم لا يتم إلابإبطاله، يقول منازعوه: إن الأمر في ذلك بالعكس، وإن القول بما أخبرت به الرسل من أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، لا يتم مع هذا القول، ولا يتم إلا بنقيضه، لأن إبطال هذا يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وحدوث مجموع الحوادث بلا سبب حادث، ويصير الفاعل فاعلاً بعد أن لم يكن، بدون سبب جعله فاعلاً، بل حقيقة هذا القول أنه صار قادراً بعد أن لم يكن بغير سبب، وصار الفعل ممكناً بدون سبب وهذا ممتنع في بدائه العقول. وبذلك صالت الدهرية على أهل الكلام، الذين سلكوا هذه السبيل. فإنهم لما رأوا فساد هذا القول في صريح المعقول، وظنوا أن هذا قول الرسل وأبتاعهم، اعتقدوا أن الرسل صلوات الله عليهم أخبرت بما يخالف صريح المعقول. ثم من أحسن الظن بهم قال: فعلوا ذلك لمصلحة الجمهور، إذ لم يمكن مخاطبتهم بالحق المحض، فكذبوا لمصلحة الجمهور، فساء ظن هؤلاء بما جاءت به الأنبياء، وامتنع أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 يستدلوا به على علم، وأولئك المتكلمون بجهلهم قصدوا إقامة الدليل على تصديق الأنبياء، ونصر ما جاؤوا به، فما نقص علمهم بالسمعيات والعقليات أدى ما فعلوه إلى تكذيب الرسل والطعن فيما جاؤوا به. فأما القول بما أخبرت به الرسل فلا يناقض هذا الأصل، بل يبطل ما يدفع به الملاحدة أقوال الرسل. ثم إنه يحكي عن اهل الحديث هذا القول، وأن معنى قولهم هو أنه تحله الحوادث، وتجد كثيراً من متكلمة أهل الحديث كأبي الحسن بن الزاغوني، وأبي بكر بن عربي يحكون الإجماع على امتناع قيام الحوادث به، وأظن ان أبا علي بن أبي موسى ذكر ذلك، وهذا من جملة الإجماعات التي يطلقها من يطلقها بحسب ما ظنه، وهذا لأن هذه أقوال مجمله، قد يفهم منها ما هو باطل بالإجماع، والمطلقون لها أدرجوا فيها معاني كثيرة، لا يفهمها إلا خواص الناس. وأول من أظهر هذه المقالات الجهمية والمعتزلة ونحوهم، وصاروا يقولون: إنه منزه عن الأعراض، والأبعاض، والحوادث، والمقدار، والحد، ونحو ذلك. ويدخلون في نفي الأعراض نفي الصفات، وفي نفي الحوادث نفي الأفعال القائمة به، وفي نفي المقدار نفي علوه على خلقه، ومباينته لهم، وفي نفي الأبعاض نفي علوه ومباينته، ونفي الصفات الخبرية: كالوجه، واليدين، ونحو ذلك، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 مما يستلزم عندهم أن يكون له أبعاض. ومن عجيب ذلك ما ذكروه في هذه المسألة، مسألة افتقار الحادث إلى المحدث، فإن أبا الحسن لما قال: الدليل على أن للخلق صانعاً صنعه، ومدبراً دبره؟ واستدل بحدوث الإنسان كما تقدم، فسر القاضي أبو بكر قوله بوجهين: أحدهما: أنه يريد بالخلق: التقدير. وكل جسم فله قدر، فيكون المعنى: ما الدليل على أن لكل جسم قدراً من الأقدار، قدره مقدر؟ لكن هذا الوجه لم يرده الأشعري، ولا بنى كلامه على إرادته، وإنه لم يذكر دليلاً على ذلك. والوجه الثاني: أن يكون الخلق: بمعنى الإبداع والاختراع، وجعل الشيء شيء شيئاً عيناً بعد أن لم يكن كذلك. وهذا هو الوجه الذي أراده، لكن اعترض عليه بعض المعتزلة، وأظنه القاضي عبد الجبار، بأن كل من أقر بالمحدث المخلوق أقر بالخالق، وكل من اعترف بمفعول اعترف بفاعل، ولو سلم أن الجسم مخلوق لم يحتج إلى تعاطي الدليل على إثبات الصانع الخالق. وأراد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 عبد الجبار بيان فساد الطريقة التي سلكها الأشعري، وتصحيح طريق شيوخه، وهو إثبات حدوث الأجسام أولاً، ثم إثبات المحدث بعد ذلك. وليس الأمر كما ذكره عبد الحبار، بل الأشعري قصد العدول عن هذه الطريقة التي سلكها المعتزلة عمداً، مع علمه بها، كما قد بين ذلك في رسالته إلى الثغر، وبين أنها بدعة محرمة في الشرائع لم يسلكها السلف والأئمة، وعدل عنها إلى الاستدلال بحدوث صفات الإنسان، لأن ذلك أمر مشهود معلوم، والقرآن العزيز قد دل عليها وأرشد إليها. لكن الأشعري لما أراد تقرير حدوث النطفة سلك في الاستدلال على حدوثها الطريقة المعروفة للمعتزلة في حدوث الأجسام، فهو وإن كان قد وافقهم على صحة هذه الطريقة، فهو يقول إن فيها تطويلاً وشبهات ومقدمات كثيرة فيها نزاع، فلا يحتاج إليها ابتداء، ولا يقف العلم والإيمان بالله تعالى عليها، بخلاف نفس تحول النطفة من حال إلى حال، فإن هذا أبين وأظهر من كون كل جسم لا بد له من أعراض مغايرة له، وأن الأعراض حادثة النوع. ثم من أراد إثبات حدوث الأجسام بأنها لا تخلو عن الحركة والسكون، كما فعله من فعله من المعتزلة ومن وافقهم، فالأمر عليه أيسر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 من إثبات من أثبت ذلك، بأنها لا يخلو من كل جنس من أجناس الأعراض عن واحد منها، وأن جميع أنواع الأعراض لا تبقى زمانين، كما سلك هذه الطريقة كثير من الأشعرية ومن وافقهم، فإن هذه أبعد الطرق وأطولها وأضعفها مقدمات، لوكان في هذه الطرق شيء صحيح. فالجواب لعبد الجبار عن الأشعري أن يقال له: هو استدل بحدوث الإنسان، وهو أمر معلوم مشهود لا ينازع فيه عاقل، وكان في ذلك مندوحة له عن الاستدلال بحدوث جميع الأجسام، وحينئذ فإذا ثبت أن للإنسان صانعاً ثبت سائر صفاته من العلم والقدرة وغير ذلك، ثم أمكن أن يعلم حدوث السماوات والأرض بالسمع، فلا يحتاج إلى ما يدل على حدوث جميع الأجسام، مع أن تمام الطريقة التي ذكرها الأشعري تدل على ذلك، فيقال لعبد الجبار: إن كانت طريقتكم صحيحة فقد سلكها الأشعري في آخر استدلاله، وإن كانت باطلة لم يكن عليه ملام في تركها، بل الذين ذموا ما ذموا منه، من أتباع السلف والأئمة، ذموا منها ما وافقكم فيه من هذه الطريقة وأمثالها، فالذي تطلبون منه من موافقتكم، هو الذي ينكره عليه السلف والأئمة، كما ينكرون ذلك عليكم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 وفي الجملة، فإن كان طريقكم مذموماً فالذم الذي يلحقه به أقل مما يلحقكم به، وإن كان صحيحاً فهو قد سلكه في آخر الدليل، لكنه لم يجعل نفس إثبات الصانع تعالى مفتقراً إلى إثبات حدوث الأجسام، لعلمه بأن الأمر ليس كذلك، وبأن هذا مخالفة لدين المسلمين، وسائر أهل الملل، فكان في موافقتكم على سلوك هذه الطريق ابتداء مخالفة للشرع والعقل. وأما كون من أقر بالشيء المحدث المخلوق أقر بالخالق، ومن اعترف بالمفعول اعترف بالفاعل، كما ذكره هذا المعتزلي، فالأمر كذلك. ولهذا لم يتعرض الأشعري للدليل على ذلك، بل جعل كون المحدث دالاً على المحدث أمراً مستقراً معلوماً بالفطرة، إذ النزاع في ذلك أقبح من نزاع السوفسطائية. وأما القاضي أبو بكر فأراد أن يجيب عن الأشعري بوجه آخر، فزعم أن افتقار المحدث إلى المحدث أمر نظري لا ضروري، وأن الأشعري أثبت ذلك، وذكر أن إثباته لذلك من جهة تتضمن الفعل للفاعل، كتضمن الفاعل للفعل. ومن المعلوم أن كلام الأشعري ليس فيه شيء من هذا، ولا يحتاج كلامه إلى هذا، وإما نشأ الغلط من ظن القاضي أبي بكر أن العلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 بافتقار المحدث إلى الفاعل أمر نظري، وليس الأمر كذلك، بل هو ضروري عند جماهير العقلاء، وإن كان نظرياً عند طائفة من أهل الكلام من المعتزلة ومن وافقهم. والشيء قد يكون ضرورياً مع إمكان إقامة الأدلة النظرية عليه، فلا منافاة بين كونه ضرورياً مستقراً في الفطر، وبين إمكان إقامة الدليل عليه. كلام الباقلاني في بيان معنى الخلق فقال القاضي أبو بكر: (وأما توجيه كلام أبي الحسن إلى أن الخلق بمعنى الاختراع والابتداع فصحيح مع أكثر أهل الدهر، لأن كثيراً من الدهرية والفلاسفة يزعمون أن العالم محدث من غير محدث، وأنه متشكل ومتصور بغير مصور ولا مدبر، مع إظهارهم الإقرار بحدوثه وأنهم لذلك يعتقدون، فإذا حصل هذا الإقرار من الفريق الذين ذكرناهم بحدث الأجسام وتصويرها وتركيبها، مع إنكارهم الصانع المصور، كان الكلام معهم في تعلقها بمحدث أحدثها وصورها، بعد الأصل الذي قد سلموه صحيحاً) قال: (وقد زعم قوم من المسلمين أن شطر الحوادث، أو قريباً من شطرها، يقع من غير محدث ولا فاعل أصلاً، وهو ثمامة بن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 أشرس النميري وشيعته، لأنه كان يزعم أن المتولدات كلها لا فاعل لها، وهي مع ذلك حوادث وأفعال) . قال: (وإنما ذكرت لك هذه الفرقة من أهل الملة، لتعلم أن الإقرار بحدث الشيء وإنكار محدثه مذهب قد شاع في أهل الملة وغيرهم، وأن تعجب من تعجب من هذا وإنكاره دليل على جهله وشدة غباوته، وقلة عنايته بمعرفة مذاهب الأمم السالفة، ومن بعدهم من شيوخه المعتزلة، مع أن الدعوة التي عول عليها صاحب الأعتراض، هو أن قال: كل من أقر بالشيء المحدث المخلوق أقر بالخالق، وكل من اعترف بمفعول اعترف بالفاعل، ولو سلم أن الجسم مخلوق لم يحتج إلى تعاطي الدليل على إثبات الصانع الخالق) . قال: (وقد أنبأنا بالذي سلف من الكلام على جهله في هذا، وذهابه عن جهة الصواب فيه. ثم نقول: فهب أن الأمر كما وصفته، ماالذي فيه يوجب غلط واضع الكتاب في تعاطيه إقامة الدليل على إثبات الخالق؟ وقد اتفق الجميع من العاقلين على أن الأفعال تتعلق بفاعل، وأن المخلوقات تتعلق بخالق، ليس هو مما يعلم بالاضطرار، ولا يثبت بدرك الحواس، وإنما يتطرق إليه بالبحث والفحص، إلا شرذمة قليلة لا يعتد بقولها، ادعت في هذا المذهب البديهة، وأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 العلم يقع به عند كمال العقل، وليس هذا من قولنا وقول هذا المعترض، وقد يصح أن يشك في وجوب هذا التعلق من العقلاء شاكون إذا عدلوا عن جهة الاستدلال، وطرق الاستشهاد المؤدي إلى معرفة وجوب تعلق الفعل بالفاعل، وإذا كان هكذا لم يستنكر ما سلكه شيخنا رضي الله عنه من ذكر الدليل على أن الإنسان ليس هو المحدث لنفسه، وأن له محدثاً سواه، وأن المخلوق لا بد له من أن يتعلق بخالق، فإذا كان هذا إنما يعلم بالاستدلال، فكإنه إنما أراد أن يعرف المتعلم وجه الدليل الذي أدى المجمعين إلى وجوب تعلق الفعل بالفاعل، وما من أجله أجمعوا على ذلك، فما في هذا مما يعاب، لولا فرط الجهل وسوء الظن بالشيوخ؟! وأيضاً فإن الذي عابه هذا المعترض غلط بين من قبل أنه سام الرجل إقامه الدليل على حدوث الجسم قبل إقامته على وجود محدثه. وهذا الترتيب لعمري يجب على من قصد إلى أن يدل على الأمرين. فأما من قصد أن يقيم الدلالة على أحدهما، وهو أن المحدث يتعلق بوجود محدث، فلا يجب عليه ذلك، فإنه قصد إلى الكلام في إحدى المسألتين دون الأخرى) . قال: (وقد يقضي القول في هذا الذي سامه هذا المعترض في إثبات الأعراض وحدوث الأجسام في غير كتاب بما لا يخفي على من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 عرف من مذهبه القليل واطلع منه على اليسير) . تعليق ابن تيمية قلت: ولقائل أن يقول: ما ذكره القاضي أبو بكر ليس فيه جواب عن الأشعري، بل كلام الأشعري صحيح في نفسه لا يحتاج إلى ما ذكره. وبيان ذلك من وجهين: أحدهما: أن كلام الأشعري ليس فيه إقامة دليل على هذه المقدمة التي جعلها القاضي نظرية، وهو تعلق الفعل بالفاعل، وأن المخلوق لا بد له من خالق. بل الأشعري ذكر هذه المقدمة ذكراً مطلقاً، وجعلها مسلمة، ولم ينازع فيها من يعبأ فيها من يعبأ به، ولهذا لا يعرف في أهل المقالات المعروفة من نازع فيها. وقول القاضي: إن كثيراً من الدهرية والفلاسفة يقولون: إنه محدث من غير محدث، فهذا القول إنما يحكي عن شرذمة لا يعرف منهم وقد تأول الشهرستاني وغيره ذلك بأنهم أرادوا به أن سبب حدوثه كان بالاتفاق، لا أنهم أنكروا الصانع، وحينئذ فيكونون قد أثبتوا فاعلاً ولم يثبتوا سبباً للحدوث. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية وغيرهم: يقرون بالصانع المحدث من غير تجدد سبب حادث، ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع، وقال لهم الناس: هذا ينقض الاصل الذي أثبتم به الصانع، وهو أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، فإذا كانت الأوقات متماثلة، والفاعل على حال واحدة، لم يتجدد فيه شيء أزلاً وأبداً، ثم اختص أحد الأوقات بالحدوث فيه، كان ذلك ترجيحاً بلا مرجح. فقول أولئك الدهرية وقول محمد بن زكريا الرازي وأمثاله في إحالة الحدوث على تعلق النفس بالهيولى وأمثال ذلك، كل ذلك ينزع إلى أصل واحد، وهو إثبات حدوث حادث بلا سبب حادث. والفلاسفة القائلون بقدم العالم، كأرسطو وابن سينا وأمثالهما، جعلوا هذا حجة على القائلين بحدوث العالم، لكن قولهم تضمن هذا وما هو أقبح منه، فإنهم زعموا أن الحوادث كلها تحدث عن علة تامة قديمة مستلزمة لمعلولها، لا يتأخر عنها شيء من معلولها، كما يقوله ابن سينا وأمثاله: إن الأول يحرك المتحركات، بمعنى أنها تتحرك للتشبه به، لا أنه أبدع حركتها، كما أنها لم يدعها عندهم، فلزم من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 ذلك أن تكون الحوادث كلها حدثت لا محدث، وذلك أعظم من كونها حدثت بلا سبب حادث، وقد بسط هذا في موضعه. وأما ما حكاه القاضي عن ثمامة، فهو من لوازم قوله، كما أن المعتزلة البصريين لما قالوا: تحدث إرادة لا في محل بل إرادة، ألزمهم الناس بحدوث الحوادث كلها بلا إرادة، وهو ينفي عنها الفاعل الإرادي، لا ينفي سبباً اقتضى حدوثها، وهم مع هذا معترفون بأنه لا بد للحوادث من فاعل مختار، ولكن لازم المذهب ليس بمذهب، وليس كل من قال قولاً التزم لوازمه التي صرح لفسادها، بل قد يتفق العقلاء على مقدمة وإن تناقض بعضهم في لوازمها، ولهذا كانت الشبه الواردة على قول القائل: إن التخصيص الحادث لا بد له من محدث مخصص، أو أن الممكن لا بد له من مرجح، أعظم مما يرد على أن المحدث لا بد له من محدث. كلام الرازي في نهاية العقول عن مسألة إثبات وجود الله تعالى والتناقض الذي يلزم أولئك أكثر. ولها أورد أبو عبد الله الرازي في مسألة إثبات الصانع على طريقة أسولة لم يجب عنها بجواب صحيح، فإنه يبني جميع ما يذكره من الطرق على أن الممكن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 لا بد له من سبب، فاعترض على ذلك بأنه: (لم قلتم: إن الممكن لا بد له من سبب؟. ثم هنا نظران: أحدهما: أن نقول: أنتم في هذا المقام بين أمرين: إما أن تدعوا الضرورة فيه أو النظر. ودعوى الضرورة باطل لوجهين: أحدهما أنا إذا عرضنا على العقل أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح، وعرضنا أيضاً قولنا: إن الواحد نصف الأثنين، لم نجد القضية الأولى في قوة القضية الثانية. وثانيهما: أن العقلاء جوزوا وقوع الممكن لا عن سبب، ولو كان ذلك ضرورياً لاستحال من العقلاء دفعه. بيان أن العقلاء جوزوا ذلك صور ست: أحدها: أن القائلين بحدوث العالم، وهم المسلمون، يقولون: إن الله فعل في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 الوقت المعين، دون سائر الأوقات، لا لأمر يختص به ذلك الوقت. ومن علل منهم ذلك باختصاص ذلك الوقت بمصلحة خفية، يحكم باختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة دون سائر الأوقات المذكورة، مع تساويها بأسرها، فيكون ذلك وقوعاً للممكن بلا سبب. وثانيها: أن الذين يحيلون الدواعي والأعراض على الله تعالى، وينكرون كون الحسن والقبح صفة عائدة إلى الفعل، يقولون: أن الله تعالى حكم في الواقعة المعينة بحكم مخصوص، من إيجاب، أو ندب، أو حظر، أو إباحة، مع كون سائر الوقائع مساوياً لها، فلا يكون على مذهبهم لتخصيص تلك الواقعة بذلك الحكم سبب مخصوص. وثالثها: أن أكثر زعموا أن القادر، مع تساوى دواعيه إلى الشيء وضده، قد يفعل أحدهما دون الآخر لا لمرجح، بل زعموا أن الهارب من السبع إذا اعترضه طريقان متساويان من جميع الوجوه، فإنه لا بد وأن يختار أحدهما دون الآخر، وزعموا أن العلم بذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 ضروري، وأن الجائع إذا خير بين أكل رغيفين متساويين من كل الوجوه، فإنه لا بد وأن يختار أحدهما، بل يبتدىء بكسر أحد جوانب ذلك الرغيف من غير سبب مختص يختص به ذلك الجانب، وكذلك النائم ينقلب من احد جنبيه على الآخر لا لمرجح، وادعوا الضرورة في هذه الصورة. ورابعها: أن أكثر المعتزلة زعموا أن الذوات متساوية في الذاتية، ومختلفة في الصفات الذاتية، وأنه ليس لاختصاصها بتلك الصفة علة. وخامسها: زعمت الفلاسفة أن حركات الفلك لأجل التشبه، مع أنها لو وقعت إلى الجهة المضادة لجهتها، أو أسرع أو أبطأ مما وجدت، لكن التشبه حاصلاً لا عن مرجح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 وسادسها: أنهم يقولون: الكوكب المعين يختص بموضع معين من الفلك، مع كون ذلك الموضع مساوياً لسائر المواضع في الحقيقة والماهية، لكون الفلك عندهم بسيطاً، فثبت أن العقلاء حكموا في هذه الصور بوقوع الممكن لا عن سبب، ولو كان العلم بذلك ضرورياً لاستحال ذلك، كما استحال أن يحكم بعضهم بكون الواحد أكثر من اثنين. فهذا البطلان قول من يدعي الضرورة في هذا المقام، وأما من يدعي الاستدلال فلا بد له من دليل، وأنتم ما ذكرتم ذلك الدليل. ثم لو ذكرتموه فإنه ينتقض بالصور التي عددناها) . وذكر أسولة أخرى. ثم قال أبو عبد الله الرازي: (والجواب على منهجين: الأول: إجمالي، وهو أن دليلنا بناء على مقدمتين: إحدهما: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 أن المحدث لا بد وأن يكون ممكناً، لأن الذي لا يقبل حقيقة العدم لا يكون معدوداً في شيء من الأوقات. وثانيهما: أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح. وهاتان المقدمتان لا يشك فيهما عاقل، وما ذكرتموه من الشكوك فهي جارية مجرى شبه السوفسطائية القادحة في سائر العلوم الضرورية. وكما أن تلك الشبه مع قوتها لا تقدح في شيء من العلوم الضرورية، وتلك لا تزيل عنا الجزم والوثوق بالمشاهدات، فكذلك ما ذكرتموه) . قال: (وهذا جواب قاطع للمنصف) . قال: (والمنهج الثاني أن نجيب عن الشكوك المذكورة على التفصيل) . إلى أن قال: (قوله: إذا ثبت كون المحدثات ممكنة، وجب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 استنادها إلى مؤثر. قوله: تدعون فيه الضرورة أو النظر؟ قلنا: بل ندعي فيه الضرورة، فإنا أذا فرضنا إنساناً سليم العقل لم يمارس هذه المجادلات، ثم يعرض على عقله أن كفتي الميزان: هل يمكن أن تترجح إحداهما على الأخرى لا لسبب أصلاً؟ فإن صريح العقل يشهد له بإنكار ذلك. وكذلك إذا دخل برية لم يجد فيها عمارة أصلاً، ثم دخلها فوجد فيها عمارة رفيعة مشيداً، فإنه مضطر إلى العلم بوجود باني وصانع، وكذلك إذا أحس بصوت أو حركة اضطر إلى العلم بوجود مصوت أو متحرك، بل الصبيان يضطرون إلى العلم بذلك، لأنهم إذا وجدوا في موضع شيئاً لم يتوقعوا حصوله هناك، حملتم طباعهم السليمة على طلب من وضع ذلك الشيء في ذلك الموضع، فدلنا هذا على أن ذلك من العلوم الضرورية. قوله: إذا عرضنا على العقل أن الواحد نصف الأثنين، وعرضنا أيضاً أن الممكن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 لا يترجح أحد طرفيه على الآخر الإ لمرجح، وجدنا الأول أظهر. قلنا: هذا ممنوع، وبتقدير التسليم لا يلزم من كون الأول أجلى منه أن لا يكون هو جلياً، وذلك لأن العلوم الضرورية متفاوتة في الجلاء، كما أن العلوم النظرية متفاوتة في الخفاء، وكما أن التفاوت في النظريات لا يخرجها عن كونها نظرية، وكذلك التفاوت في الضروريات لا يخرجها عن أن تكون ضرورية. قوله: إن جمعاً من العلماء التزموا وقوع الممكن لا عن سبب، ولو كان فساد ذلك ضرورياً لما قالوا به. قلنا: إنهم لم يلزموا ذلك، بل غايته أن صار ذلك لازماً على مذاهبهم، وليس كل ما صار لازماً وجب أن يلتزمه صاحب ذلك المذهب. والإشكال إنما يجيء من التزامه ما يناقض هذه القضية لا من لزومه، وكذلك فإن أصحاب هذه المذاهب متى ألزمتهم وقوع الممكن لا عن سبب، فإنهم يحتالون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 في الجواب عن ذلك، سواء كانت أجوبتهم عن ذلك قوية أو ضعيفة، وذلك يدل على أن العلم بذلك ضروري. وأما العذر عن كل واحد من الصور التي أوردناها، فنحن بعد ذلك إن شاء الله تعالى في المواضع اللائقة بها نجيب عنها. قال: وبالجملة فكل مذهب يؤدي إلى القول بوقوع الممكن لا عن سبب، فإحالة البطلان على ذلك المذهب أولى من إحالته على هذا الأصل المعلوم بالضرورة) . تعليق ابن تيمية قلت: فهو إن سلك مسلك هؤلاء في بيان افتقار المحدث إلى المحدث لأنه ممكن، والممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح، فمسلكه اطول وأضعف. بل هذا المسلك الذي سلكه باطل، كما قد بسط الكلام عليه في موضع آخر. وذلك أن كون تخصيص أحد الوقتين المتماثلين بالحدوث دون الآخر يفتقر إلى مخصص، أبين من كون الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح، فإن المعلوم لكل أحد أن الممكن الذي لا يوجد بنفسه لا بد له من غيره، فلا يترجح وجوده إلا بمرجح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 أما كون عدمه لا يترجح على وجوده إلا بمرجح فهذا محل نزاع، وأكثر العقلاء على نقيض ذلك، وعندهم أن العدم لا يعلل ولا يعلل به، كما قال ذلك من قاله من متكلمة أهل الإثبات، وغيرهم كـ القاضي أبي بكر وأتباعه، كـ أبي المعالي، والقاضي أبي يعلى، وابن الزاغوني، وغيرهم. فالجمهور يقولون: عدم الممكن لا يفتقر إلى سبب، بل ليس له من ذاته وجود، فإذا لم يكن ثم سبب يقتضي وجوده نفي معدوماً. وإذا قال القائل: عدم وجوده لعدم علة وجوده، كما أن وجوده لوجود علة وجوده. قالوا له: أتعني أن نفس عدم العلة هو الموجب لعدمه، كما أن العلة المقتضية لوجوده كالفاعل هو المقتضي لوجوده؟ أم تعني أن عدم العلة مستلزم لعدمه، ودليل على عدمه؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم. وذلك لأن عدمه لا يفتقر إلى سبب منفصل أصلاً، وما لا يفتقر إلى سبب منفصل لا يعلل بسبب منفصل، وذاته ليست مستلزمة للعدم لتكون ممتنعة، بل ليست مقتضية للوجود، فعدمه مستمر إذا لم يكن هناك سبب يقتضي وجوده، ولكن يستدل بعدم الموجب على عدم الموجب، لأن وجوده بدون سبب محال. فإذا علمنا ان لا سبب يقتضي وجوده، علمنا عدم وجوده، فهذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 من باب الاستدلاب وقياس الدلالة، لا من باب العلة التي هي المؤثرة في عدمه في الخارج، والله أعلم. وأيضاً فالمعلوم بالبديهة هو أن ترجيح أحد المتماثلين من كل وجه على نظيره لا يكون إلا بمرجح، كما ذكره من أن كفتي الميزان لا تترجح إحداهما على الاخرى إلا بمرجح، وأن هذا معلوم بصريح العقل. وإذا كان كذلك، فطريقة المتكلمين من الذي قالوا: لا يختص بوقت دون وقت إلا بمخص، كما قاله القاضي أبو بكر، والقاضي أبو يعلى، وأبو الحسين البصري، وأبو المعالي، وابن عقيل، وابن الزاغوني، وأمثال هؤلاء من نظار المسلمين - خير من طريقة الذين احتجوا بأن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح. كما فعل ذلك ابن سينا، والسهروردي المقتول، والرازي، والآمدي، وأمثال هؤلاء، فإن هؤلاء بنوا ذلك على أن الممكن لا يترجح أحد طرفي وجوده وعدمه على الآخر إلا بمرجح. ومن المعلوم أن العلم يكون أحد الأمرين لا يترجح على الآخر إلا بمرجح يظهر في الأمرين المتماثلين من كل وجه، كما ذكروه في كفتي الميزان، فإما إذا قدرناهما متساويتين، لم يترجح إحداهما على الأخرى إلا بمرجح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 وكذلك الأوقات المتماثلة، إذا اختص وقت عن وقت بحدوث الحادث فيه، كان ذلك التخصيص تخصيصاً لأحد المثلين على الآخر، والتخصيص ترجيح له عليه، فلا يد له من مخصص مرجح. وأما الوجود والعدم فليسا متماثلين في أنفسهما، وإن كان الممكن يقبل الوجود ويقبل العدم، فليس وجوده مماثلاً لعدمه، كتماثل الكفتين والوقتين، ولكن هما بالنسبة إليه جائزان، وهو قابل لهما. فغاية ما يقال: إنه باعتبار نفسه ليس هو بأحدهما أولى منه بالآخر، فهما بالنسبة إليه متماثلان من هذا الوجه، فيكون ترجيح أحدهما مفتقراً إلى مرجح، ولكن عند التحقيق يظهر أنهما بالنسبة إليه ليسا متماثلين، وأنه ليس هنا حقيقتان ترجيح إحداهما على الأخرى، بل ليس له نفسه وجود أصلاً، فهو باعتبار ذاته لا يستحق إلا العدم، لا يقال: إنه لا يستحق لا الوجود ولا العدم، بل إذا جردنا النظر إلى محض ذات الممكن، الذي يقبل الوجود والعدم، علمنا أن ذاته لا تكون موجودة بذاته. لسنا نقول: إن ذاته تستلزم العدم، بحيث يكون عدمها واجباً ووجودها ممتنعاً، فإن هذا حقيقة الممتنع لذاته، لا حقيقة الممكن لذاته. ولكن نقول: إن ذاته هي باعتبار النظر إليها فقط معدومة عدماً ليس واجباً، بل عدماً يمكن أن يتبدل بالوجود. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 ومما يوضح ذلك أن كل محدث فهو ممكن، فإنه كان معدوماً ثم صار موجوداً، فهو قابل للوجود والعدم. ثم إنه من المعلوم لكل أحد أن المحدث لا يقال: إن عدمه يفتقر إلى سبب مرجح، كما يفتقر وجوده إلى سبب مرجح، بل المحدث ليس له من نفسه وجود أصلاً، ولا يستحق باعتبار ذاته إلا العدم، أي لا يثبت له بذاته إلا العدم، لا أنه يجب له بذاته العدم، فالعدم ليس واجباً بذاته، بل هو ثابت بذاته. وقولي: ثابت بذاته، ليس هو إخباراً عن شيء ثابت في الخارج وذات، فإن المعدوم ليس له في الخارج ذات ثابتة، بل حقيقة الأمر أنه ليس له في الخارج شيء موجود من ذاته، ولكن هو ممكن الوجود من غيره، فهو مفتقر إلى غيره في كونه موجوداً لا في كونه معدوماً. وإذا قال قائل: إن الممكن - أو المحدث - يفتقر في عدمه إلى عدم السبب الموجب. قيل له: وعدم ذلك السبب الموجب: إما أن يكون واجباً، وأما أن يكون ممكناً، فإن كان واجباً، لزم أن يكون عدم كل ممكن واجباً، فتكون جميع الممكنات ممتنعة، لأن عدم كل ممكن على هذا التقدير معلول بعدم واجب، وإذا كان معدوماً لعدم علته، وعدم علته واجباً، كان عدمه واجباً، وهذا معلوم الفساد بالبديهة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 وإن قيل: إن عدم العلة ممكن، فإن كان معدوماً بنفسه، أمكن أن يكون الممكن معدوماً بنفسه لا بعلة، وهو المطلوب. وإن كان معدوماً بعلة، كان القول في تلك العلة كالقول في الأخرى، ويلزم من هذا أن يكون عدم كل ممكن معللاً بعدم ممكن آخر. وهذا باطل لوجوه: منها: أنه ليس تعليل عدم هذا بعدم هذا، بأولى من العكس. فإن كل ممكن مفتقر إلى المرجح المؤثر، سواء سمي فاعلاً أو علة، أو موجباً أو سبباً، أو ما سمي به. فإذا قيل: عدم هذا الممكن لعدم مؤثره، وعدم ذلك المؤثر لعدم مؤثره، كان كل منهما مساوياً للآخر في الافتقار إلى المؤثر، فليس أن يكون عدم أحدهما لعدم الآخر، المفتقر عدماً إلى المؤثر، بأولى من أن يكون عدم ذاك لعدم هذا المفتقر عدمه إلى المؤثر، مع استوائهما في ذلك. منها: إذا كان عدم هذا لعدم ذاك، وعدم ذاك لعدم آخر، فالعدم الثالث إن كان هو الأول، لزم الدور القبلي، وإن كان غيره، لزم التسلسل في العلل والمعلولات، وكلاهما ممتنع. فهذا كله مما يببين أن عدم الممكن ليس مفتقراً إلى المؤثر، كافتقار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 وجوده إلى المؤثر، فليس ترجيح وجوده على عدمهه، كترجيح إحدى كفتي الميزان، وترجيح أحد الزمانين بالحدوث على الآخر، فإنه هناك رجح الشيء على مثله بلا مرجح، ونسبة الحادث إلى هذا الزمان كنسبته إلى هذا، ونسبة الرجحان إلى هذه الكفة كنسبته إلىهذه، بخلاف الوجود والعدم يالنسبة إلى الممكن، فإن ليس رجحان الوجود كرجحان العدم. ومما يبين هذا أن المرجح للوجود في الممكن، ليس هو المرجح للعدم، لا مثله، ولا من جنسه، فإن المرجح للوجود مؤثر موجود، والمرجح للعدم عدم المؤثر، وليس الوجود هو العدم، ولا مثله، ولا من جنسه، فليس المرجح لأحد طرفي الممكن هو المرجح للآخر، ولا مثله، ولا من جنسه، ولا يمكن ذلك فيه، بخلاف المرجح لإحدى كفتي الميزان والمخصص لوقت دون وقت بالحدوث، فإنه يمكن أن يكون هو الآخر لتغير صفته، أو ما يكون من جنس بالآخر. وأيضاً فترجيح سائر صفات الحادث والممكن على الأخرى، ليست كترجيح الوجود على العدم، بل هي أقرب إلى ترجيح الوقت على الوقت، كتخصيصه بقدر دون قدر، ووصف دون وصف، ومكان دون مكان، ونحو ذلك. فإن هذا إلى تخصيصه لوقت دون وقت، أقرب منه إلى تخصيصه بالوجود دون العدم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 فتبين بذلك أن طريقة أولئك النظار من متكلمة المسلمين، مع كونهم سلكوا فيها من التطويل والتبعيد ما لا يحتاج إليه، بل ربما كان فيه مضرة، خيراً من طريقة هؤلاء، الذي استدلوا بترجيح أحد طرفي الممكن. ثم إن ابن سينا وأمثاله كانوا خيراً فيها من الرازي والآمدي وأمثالهما. والرازي فيها خير من الآمدي، كما قد ذكر في غير هذا الموضع. وهذا لو قدر أن هذه الطريقة - طريقة ابن سينا ومن اتبعه كـ الرازي ونحوه - طريقة صحيحة، فكيف إذا كانت باطلة؟! كما قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع، وبينا أن هذه الطريقة لا تدل على إثبات وجود واجب ثابت في الخارج، مغاير للممكن أصلاً. ولو دلت على ذلك لم تدل على أنه مغاير للأفلاك ونحوها. ولهذا كان من سلك هذه الطريقة لا يمكنه أن يثبت بها الصانع، ولو أثبت بها الصانع، لم يمكنه أن يجعله شيئاً غير الأفلاك، فضلاً عما يدعونه من نفي التركيب، الذي جعلوه دليلاً على نفي الصفات. وذلك أن هؤلاء بنوا هذه الطريقة على أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وأن الممكن لابد له من واجب، فاحتاجوا إلى شيئين: إلى حصر القسمة في الواجب والممكن، وأن الممكن يستلزم الواجب. ولفظ (الواجب) فيه إجمال. قد يراد به الموجود بنفسه الذي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 لا فاعل له، فتدخل فيه - إذا كان ذاتاً موصوفة بالصفات - ذاته وصفاته. ويراد به القائم بنفسه مع ذلك، فتدخل فيه الذات دون الصفات. ويراد به المبدع للممكنات، فلا تدخل فيه إلا الذات المتصفة بالصفات. ويراد به شيء منفرد، ليس بصفة ولا موصوف. فهذا يمتنع وجوده، ولم يفهموا دليلاً على وجوده، فضلاً عن أن يكون واجب الوجود. فإذا قالوا: نعني بالواجب ما لا تقبل ذاته العدم، وبالممكن ما تقبل ذاته العدم. قيل لهم: أثبتوا وجود ممكن تقبل ذاته العدم لتحتاج إلى الواجب. ولما قيل لهم ذلك لم يثبتوه إلا بإثبات الحوادث، التي تكون موجودة تارة ومعدومة أخرى. وهذا صحيح، فإن الحوادث مشهودة، وافتقارها إلى المحدث معلوم الضرورة. لكنهم لم يسلكوا هذا المسلك، فإن هذا إنما يثبت وجود قديم أحدث الحوادث. والممكن عندهم يتناول ما يكون قديماً ومحدثاً، فالقديم الأزلي عندهم يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم. وهذا القول قاله ابن سينا واتبعه هؤلاء، وخالفوا به جميع العقلاء حتى أرسطو وأصحابه، وحتى خالفوا أنفسهم وتناقضوا، فإن ابن سينا وأتباعه صرحوا في غير موضع بأن الممكن، الذي يقبل الوجود الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 والعدم لا يكون إلا محدثاً، لا يكون قديماً أزلياً، وأن ما كان قديماً أزلياً، لم يكن إلا واجباً ضرورياً يمتنع عدمه. فهذا القول باطل، وإن قدر صحته، فلا يتمكن إثباته إلا بكلفة ونظر دقيق. ومعلوم أن العلم بواجب الوجود الصانع للممكنات، لا يتوقف على العلم بكون القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه، قد يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم، فهم يقولون: إذا أثبتنا قديماً نحتاج بعد ذلك إلى أن نثبت أنه واجب الوجود لا ممكن الوجود، لأن القديم يحتمل الأمرين. وهذه طريقة الرازي التي اعتمد عليها في عامة كتبه كـ الأربعين ونهاية العقول والمطالب العالية وغيرها من كتبه. فهؤلاء إذا قيل لهم أثبتوا واجب الوجود، الذي هو قسيم الممكن عندهم، والممكن عندهم يتناول القديم والحادث، لم يمكنهم إثبات هذا الواجب إلا بإثبات ممكن يقبل الوجود والعدم. وهذا لا يمكنهم إثباته إلا بإثبات الحادث، الذي يكون موجوداً تارة معدوماً أخرى. والحادث يسلتزم ثبوت القديم، والقديم عنده لا يجب أن يكون واجب الوجود، بل قد يكون ممكن الوجود، فهم لم يثبتوا: لا واجب الوجود، ولا ممكن الوجود، الذي به يثبت واجب الوجود الذي ادعوه. ثم إذا قدر أنهم أثبتواوجود واجباً، فهم لم يقروا أنه واحد وأنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 مغير للأفلاك، إلا بدعوى أن الواجب لا يكون مركباً، لأن المركب يفتقر إلى أجزائه وما افتقر إلى أجزائه لم يكن واجباً. ومعلوم أن هذا إنما ينفي وجوب واجب، بمعنى أنه منفرد، ليس بصفة ولا موصوف، وأن مثل هذا يمتنع أن يكون موصوفاً، مع أن الغرض أنه ليس بموصوف. ولكن هذا الواجب لم يقم دليل على وجوده، بل ولا على إمكانه، وإنما يقوم الدليل على امتناعه. يراد به افتقار المفعول إلى فاعله، والمعلوم إلى علته الفاعلة، وإنما يراد به أنه يلزم من وجود المركب وجود أجزائه، فيلزم من وجود الذات المتصفة بصفات، وجود الذات والصفات. وهذا لا محذور فيه، وحقيقته أنه يلزم من كون الشيء موصوفاً كونه موصوفاً، ومن كونه مركباً كونه مركباً. وهذا كلام صحيح، وليس فيه ما يدل على امتناع ذلك، وقد بسط هذا فيغيره هذا الموضع. وقد تفطن الغزالي وغيره لبعض ما به يفسد كلامهم، وقد تكلمنا على ذلك وعلى أنواع أخر مما يتبين به بطلان كلامهم. والمقصود هنا بيان أن طريقة أولئك خير من طريقة هؤلاء. وهذا كله مما يبين أن كل من كان إلى الإسلام أقرب، فإن عقلياته في الأمور الإلهية أصح من عقليات من كان على الإسلام أبعد منه، إلا حيث يكون قد اتبع في عقليانه من هو عن الإسلام أبعد منه. هذا كله بين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 لمن تدبره، ومن تدبر كلام هؤلاء وكلام هؤلاء، وجد كلام متكلمي المسلمين خيراً من كلام متكلمي الفلسفة ومبتعيهم. وهذه الطريقة هي طريقة ابن سينا وأتباعه، لم يسلكها أرسطو وقدماء الفلاسفة. كلام ابن سينا وتعليق ابن تيمية وقد قال ابن سينا في الإشارات: (ما حقه في نفسه الإمكان فليس يصير موجوداً من ذاته، فإنه ليس وجوده من ذاته أولى من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 عدمه، من حيث هو ممكن. فإن صار أحدهما أولى، فلحضور شيء أو غيبته، فوجود كل ممكن الوجود من غيره) . فقوله: (ما حقه الإمكان فليس يثير موجوداً من ذاته) قضي صحيحة وهي بينة بنفسها، فإن الممكن هو الذي يكون وجوده بنفسه. فإذا قيل: ما لا يكون وجوده بنفسه فوجوده من غيره، كان هذا من القضايا البينة، ولكن هذا لا يعرف، بل ولا يثبت إلا في الأمور الحادثة، التي تكون موجودة تارة ومعدومة أخرى، كما اعترف، هو وسلفه وسائر العقلاء، لأن ما يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثاً. وقد ذكرنا ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع، ولم يمكنهم إقامة دليل على الافتقار إلى الفاعل إلا في المحدث. وأما استدلاله على ذلك بقوله: (فليس وجوده في ذاته أولى من عدمه من حيث هو ممكن) فهذا لا يحتاج إليه، وهو متنازع فيه، وهو لم يقم عليه دليلاً، بل يقال: هو العدم باعتبار ذاته أولى به من الوجود، بل هو باعتبار مجرد ذاته لا يستحق إلا العدم، بل يقال: هذا باطل، فإن ما كان يفتقر إلى فاعل يفعله، يعلم بالضرورة أنه لا يوجد إلا بالفاعل الذي فعله، وأما عدمه فلا يفتقر فيه إلى شيء، وكل ما كان يمكن وجوده وعدمه، لا يكون وجوده إلا بموجد يوجده، وأما عدمه فلا يحتاج فيه إلى شيء. وقوله: (فإن صار أحدهما فلحضور شيء او غيبته) هو أيضاً مما لا يحتاج إليه ولا بينه، ولا هو مسلم، بل هو باطل، إذ كان الممكن إنما يفتقر إلى غيره إذا كان موجوداً، فأما ما كان مستمراً على العدم، فلا يحتاج دوام عدمه إلى شيء، وحقيقة كلامه أنه صار الوجود فلحضور غيره، وإن صار العدم فلغيبة غيره، فيكون إنما عدم لغيبة سببه، وهذا كما قد عرف كلام ليس ببين، وهو متنازع فيه، بل هو باطل، وعند التحقيق تبين أن عدم الغير مستلزم لعدمه، ودليل على عدمه، لا أنه الموجب لعدمه. وكلام القاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري وأمثالهما في هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 الباب، هو أصرح في المعقول، بل هو صواب، وهذا خطأ، وإن كان أولئك مقصرين من وجه آخر، حيث استولوا على الواضح بالخفي. وأما ابن سينا وأتباعه، كـ الرازي وغيره، فدليلهم باطل، ولم يثبتوا وجوداً واجباً، بل تكلموا في تقسيم الوجود إلى واجب وممكن بكلام ابتدعوه، خالفوا به سلفهم وسائر العقلاء ونقضوا به أصولهم التي قرروها بالعقل الصريح، فإن أبا الحسين يقول: (الدليل على أن للمحدث محدثاً هو أنه لا يخول: إما أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث، أو كان يجب أن يحدث، فلو حدث مع وجوب أن يحدث، لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من ان يحدث من قبل، فلا يستقر حدوثه على حال، إذ كان حدوثه واجباً في نفسه. وإن حدث مع جواز أن لا يحدث، لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث، لولا شيء اقتضى حدوثه) فقد بين أن الحادث إن كان واجب الحدوث بنفسه لم يختص بوقت دون وقت، إذ الواجب بنفسه لا يختص بوقت دون وقت، وإذا لم يختص يجب أن لا يحدث في بعض الأوقات، والتقدير أنه حدث في بعض الأوقات. وأيضاً فالتخصيص بوقت دون وقت لا بد له من مخصص، وإن كان ممكن الحدوث، بحيث يكون قد حدث وكان من الممكن أن لا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 يحدث، لم يكن بالحدوث أولى منه بعدم الحدوث لولا شيء اقتضى حدوثه. فقول أبي الحسين: (لم يكن وجود الحدوث أولى من عدم الحدوث لولا مقتض اقتضى الحدوث) يبين أن رجحان وجود الحدوث على عدم الحدوث، يفتقر إلى مقتض لترجيح الحدوث على عدم الحدوث. فكانت هذه الطريقة، مع طولها، خيراً من طريقة ابن سينا والرازي وأمثالهما، لو كانت تلك صحيحة، من وجهين: أحدهما: أن افتقار رجحان المحدث على عدمه إلى مقتض، أبين في المعقول من افتقار كل ممكن، فإن الممكن الذي يقدر أنه ليس بمحدث، قد نازع طوائف من الناس في ثبوته، وفي إمكان كونه معلولاً لغيره، ونحو ذلك. بل عامة العقلاء على امتناعه، والذين يثبتونه يعترفون بامتناعه، والعقل الصريح يدل على امتناعه، ولم يقيموا دليلاً على تحقيقه، ولا على افتقاره إلى واجب، وعلى إثبات واجب يكون قسيماً له. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 وأما المحدث الذي كان بعد عدمه، لم ينازع هؤلاء، ولا عامة العقلاء في أنه لا يترجح وجودهه على عدمه إلا بمقتض، فكان الاستدلال بترجيح وجود المحدث على عدمه، أولى من الاستدلال برجحان وجود كل ممكن، لو قدر أن الممكن أعم من المحدث فكيف أذا لم يكون الممكن إلا محدثاً؟ ‍‍‍. الثاني: أنه قال: (لم يكن بالحدوث أولى منه بالعدم لولا شيء اقتضى حدوثه) فبين أن رجحان الوجود على العدم لا يكون إلا بمقتض، لم يقل: إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يكون إلا بمرجح. وهذا الذي قاله أبو الحسين متفق عليه بين الطوائف، وهو بين في العقل ضروري فيه، بخلاف ما قاله أولئك، فإن فيه نزاعاً واضطراباً، وليس هو بينا في العقل، بل الصواب يقتضيه. وكذلك أبو الحسين يقول دائماً: (ما كان موجوداً على طريق الجواز لم يكن بالوجود أولى منه بالعدم لولا فاعل) وهذا كلام صحيح، ولكن ابن سينا إنما أخذ هذه الطريق التي سلكها من كتب المعتزلة ونحوهم من متكلمي الإسلام، وأراد تقريبها إلى مذهب سلفه الفلاسفة الدهرية، ليصير كلامه في الإلهيات مقرباً لجنس كلام متكلمي المسلمين، ثم يأخذ المواضع التي خالف فيها المتكلمون للشرع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 والعقل، فيستدل لها على ما نازعوه فيه، مما وافقوا فيه دين المسلمين، وهذا كما فعلت إخوانه الباطنية، مثل صاحب كتاب الأقاليد الملكوتية ونحوه، فإنهم عمدوا إلى كل طائفة من طوائف القبلة، فأخذوا منها ما وافقوهم فيه من المقدمات المسلمة التي غلط فيها أولئك، فبنوا عليها لوازمها التي تخرج أولئك عن دين المسلمين، وناظروا بذلك المعتزلة وأمثالهم، كما قالوا للمعتزلة: أنتم سلمتم لنا نفي التشبيه والتجسيم، ونفيتم الصفات بناء على ذلك، ثم أثبتم الأسماء الحسنى لله تعالى والتشبيه يلزم في الأسماء كما يلزم في الصفات. فإذا قلتم: إنه حي عليم قدير، لزم في ذلك من التجسيم والتشبيه نظير ما يلزم في إثبات الحياة والعلم والقدرة وأردتم إثبات أسماء بلا صفات، وهذا ممتنع. وإذا كنتم قد وافقتم على نفي الصفات، وهي لازمة للأسماء، فنفي اللازم يقتضى نفي الملزوم، فيلزمكم نفي الأسماء، ولهذانظائر في كلامهم. فابن سينا وجد في كتب متكلمي المسلمين، من المعتزلة وأشباههم، أن تخصيص أحد المتماثلين على الآخر لا يكون إلا بمخصص، كما في تخصيص الحدوث بوقت دون وقت، وهذا مما جعله هؤلاء أصلاً لهم في إثبات العلم بالصانع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 فأخذ ابن سينا كلام هؤلاء ونقله إلى ماده الإمكان والوجوب، وأن الممكن لا يترجح إلا بمرجح، لئلا يناقض قوله في قدم العالم، ويقول: إنه معلول علة قديمة مستلزمة له ونسى ما قرره في المنطق، هو وسلفه، من أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا حادثاً، وأن الدائم الأزلى والأبدي لا يكون إلا ضرورياً واجباً، لا يكون ممكن الوجود والعدم، وهذا الذي ذكروه في المنطق متفق عليه بين العقلاء. وأخذ قولهم الضعيف في أن القادر المختار يحدث الحوادث بلا سبب حادث، جعله له حجة على قدم العالم، بناء على مطالبتهم بسبب الحدوث، وكان ما يلزمه ويبين فساد قوله، أعظم مما يلزمهم ويبين فساد قولهم، فإنه إذا كان العالم صادراً عن علة مستلزمة له، والعلة المستلزمة لا يتأخر عنها شيء من معلولها، لزم أن لا يحدث في العالم شيء من الحوادث، أو أن تكون الحوادث حدثت بلا محدث. وفي ذلك من الترجيح بلا مرجح ما هو أعظم مما بنوا عليه وجود الواجب. فيلزمهم على قولهم بطلان ما أثبتوا به واجب الوجود، وبطلان الاستدلال بالحدوث على المحدث، وبالممكن على الواجب، وأن تكون الحوادث حدثت بلا محدث أصلاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 وذلك أعظم من قول أولئك: حدثت عن قادر مختار بدون سبب حادث وهؤلاء أصل قولهم: إن العلة التامة يقارنها معلولها في الزمان، كما جعلوا الفلك القديم الأزلي عندهم مقارناً لعلته في الزمان، وقابلوا لذلك قول المتكلمين، الذي قالوا: بل المؤثر التام يتأخر عنه أثره. والصواب أن المؤثر التام يتعقبه أثره، لا يقارنه، ولا يتراخي عنه، كما قال تعالى {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} . ولهذا يقال: كسرته فانكسر، وقطعته فأنقطع وطلقت المرأة فطلقت، وعتقت العبد فعتق. وعلى هذا فيلزم حدوث كل ما سوى الرب تعالى، لأن ما كونه لا يكون إلا بعد تكوينه لا مع التكوين. وهم إذا قالوا: إن المكون مع التكوين، لزمهم أن لا يحدث شيء من العالم، وهو خلاف المشاهدة. فإن الأول إذا كان علة تامة، والعلة التامة يقارنها معلولها، وكل ما ساواه معلوله كان الجميع قديماً. ولزمهم أيضاً أن كل ما حدث يحدث عند حدوثه تمام علل لا نهاية لها، وذلك في آن واحد، وذلك ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 وقد ذكر ابن سينا أن هذه الطريقة، التي سلكها في إثبات واجب الوجود ولوازمه، هي غير طريقة سلفه الفلاسفة، بل هي طريقة محدثة. وهذا مما يبين أنه ركبها مما أخذه عن المعتزلة ونحوهم من متكلمة الإسلام، ومن أصول سلفه الفلاسفة، والذي أخذه عن متكلمة الإسلام أقرب إلى الحق مما أخذه عن سلفه في ذلك، لأنه أخذ عنهم أن تخصيص أحد الشيئين المتماثلين المحدثين دون الآخر لا بد له من مخصص، وهذا حق. فأخذ من ذلك أن تخصيص الممكن بالوجود لا بد له من موجب، وهذا حق. لكن قد ينازعونه في أن الممكن: هل يمكن أن يكون قديماً أم لا؟ فإنهم - وعامة العقلاء - يقولون: الممكن لا يكون إلا محدثاً وهو - وسلفه - يسلمون لهم ذلك. وأيضاً فإن أبا الحسين وأمثاله يقولون: الموجود على طريق الجواز، ليس بالوجود أولى منه بالعدم لولا الفاعل. ويقولون: إنه يستحيل ان يوجب القديم بالفاعل، لأن المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم، وليس للقديم حال عدمية. ولهذا يقولون: إن وجود القديم واجب، وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال. فصح أنه واجب الوجود في كل حال، فاستحال عدمه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 وضم ابن سينا وأتباعه إلى ذلك أن الممكن لا يكون معدوماً إلا بسبب. وهذا مما نازعه فيه الجمهور، حتى إخوانه الفلاسفة نازعوه في ذلك. وهذا الذي ذكرته من أن ابن سينا أخذ هذه الطريق عن المتكلمين، رأيته بعد ذلك قد ذكره ابن رشد الحفيد. ذكر في كتابه الذي سماه تهافت التهافت. فإن أبا حامد الغزالي ذكر ذلك في كتابه المسمى بتهافت الفلاسفة مسألة في بيان عجز الفلاسفة عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم. كلام الغزالي عن عجز الفلاسفة عن الاستدلال على وجود الصانع للعالم قال: (فنقول: النسا فرقتان: فرقة أهل الحق، وقد رأوا أن العالم حادث، وعلموا ضرورةً أن الحادث لا يوجد بنفسه، فافتقر إلى صانع، فعقل مذهبهم في القول بالصانع. وفرقة أخرى هم الدهرية، وقد رأوا العالم قديماً، ثم كما هو عليه، ولم يثبتوا صانعه، ومعتقدهم مفهوم. وإن كان الدليل يدل على بطلانه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 فأما الفلاسفة فقد رأوا قديماً ثم أثبتوا مع ذلك له صانعاً) . قال: (وها المذهب بوضعه متناقض، لا يحتاج إلى إبطال) . رد ابن رشد على الغزالي في تهافت التهافت قال ابن رشد الحفيد: (بل مذهب الفلاسفة مفهوم في الشاهد، أكثر من المذهبين جميعاً. وذلك أن الفاعل قد يلقى صنفين: صنف يصدر منه مفعول يتعلق به فعله في حال كونه. وهذا إذا تم كونه استغنى عن الفاعل، كوجود البيت عن البناء والصنف الثاني إنما يصدر عنه فعل فقط يتعلق بمفعول، لا وجود لذلك المفعول إلا بتعلق الفعل به، وهذا الفاعل يخصه أن فعله مساوق لوجود ذلك المفعول، أعني أنه إذا عدم ذلك الفعل عدم المفعول، وإذا وجد ذلك الفعل وجد المفعول، أي هما معاً، وهذا الفاعل أشرف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 وأدخل في باب الفاعلية من الأول، لأنه يوجد مفعوله ويحفظه. والفاعل الآخر يوجد مفعوله، ويحتاج إلى فاعل آخر يحفظه بعد الإيجاد وهذه حال المحرك مع الحركة، والأشياء التي وجودها إنما هو في الحركة، والفلاسفة لما كانوا يعتقدون أن الحركة فعل الفاعل، وأن العالم لا يتم وجوده إلا بالحركة، قالوا: إن الفاعل للحركة هو الفاعل للعالم، وأنه لو كف فعله طرفة عين عن التحريك لبطل العالم، فعلموا قياسهم هكذا: العالم فعل، أو شيء، وجوده تابع لفعل. وكل فعل لا بد له من فاعل موجود بوجوده، فأنتجوا من ذلك أن العلم له فاعل موجود بوجوده، فمن لزم عنده أن يكون الفعل الصادر عن فاعل العالم حادثاً، قال: العالم حادث عن فاعل لم يزل قديماً وفعله قديم. أي: لا أول له ولا آخر، لا أنه موجود قديم بذاته، كما تخيل لمن يصفه بالقدم) . تعليق ابن تيمية قلت: ولقائل أن يقول: هذا الذي ذكره ابن رشد عن الفلاسفة أراد به تقرير طريقة أرسطو وأتباعه، الذين استدلوا بالحركة على وجود المحرك الذي لا يزال محركاً غير متحرك، ويسمونه الأول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 وهو الواجب الوجود عند ابن سينا وأتباعه. وأما من قبل ابن سينا من الفلاسفة فلا يخصونه بواجب الوجود، إذ كل قديم فهو عندهم واجب الوجود، فلا يخصه بواجب الوجود إلا من يقول: لا قديم إلا هو، وليس هذا قول أرسطو وأتباعه، وإن كان هو مذهب جماهير العقلاء من أهل الملل وغيرهم. كلام أرسطو وأتباعه وكلام أرسطو وأتباعه باطل من وجوه: (الوجه الأول) أن هؤلاء لم يجعلوا الأول فاعلاً للحركة الفلكية، إلا من حيث هو محبوب معشوق يتشبه به الفلك، لا من حيث هو مبدع محدث للحركة. ومعلوم أن المحبوب المتحرك إليه من غيره بالمحبة له والشوق، لا سيما إذا كان محباً للتشبيه به لا لذاته، كما يتشبه المأموم بإمامه، لا يكون هو المبدع المحدث للحركة بمجرد ذلك، وإنما يكون علة غائية، لا علة فاعلية، فلم يثبتوا الواجب الوجود بنفسه فاعلاً لشيء من الحوادث، كما قد بسط في موضعه. وأرسطو وأتباعه معترفون بأن الأول عندهم لا يفعل شيئاً ولا يعلم شيئاً، ولا يريد شيئاً. الوجه الثاني أنه بتقدير أن يثبتوه محدثاً مبدعاً للحركة التي لا قوام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 للفلك والعالم إلا بها، كما قد يدعي ذلك ابن رشد وأمثاله، فإنما يكون فاعلاً لما هو شرط في وجود العالم، لا يكون فاعلاً لنفس جواهر العالم وسائر أعراضه، بل هو فاعل لعرض واحد من أعراضه، وهي الحركة التي زعموا أنه لا قوام له بدونها. وهذا من أبعد الأشياء عن كونه مبدعاً للعالم، ولاسيما إذا جعلوا فعله للحركة من جهة كونه محبوباً، فهو بمنزلة كون كل محبوب يبدع المحب، الذي لا يقوم بدون تلك المحبة، بل بمنزلة كون الإمام المقتدى به مبدعاً للمؤتم به، من جهة كونه يحتاج إلى الأئتمام به. ومعلوم أن هذا لا يقوله عاقل، بل هذا يتضمن أن واجب الوجود - كالفلك عند أرسطو وأتباعه - يفتقر إلى شيء بائن عنه، وذلك يدل على فساد قولهم، فما قاله أرسطو وأتباعه من الحق يدل على فساد قول المتأخرين، وما قاله المتأخرون من الحق في الواجب يدل على فساد قول أرسطو وأتباعه. الوجه الثالث إن كون العالم لا يمكن وجوده بدون الحركة أمر لا دليل عليه، بل هو باطل، وأقصى ما يمكن أن يقال: يمكن وجوده لكن يكون ناقصاً. ومعلوم أن هذا حال سائر المخلوقات التي لها صفات كمال إذا عدم بعض صفاتها، إنما يلزم نقصها لا يلزم عدمها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 الوجه الرابع أنه ادعى أن هذا الفاعل أشرف من الفاعل الذي فعل البناء ونحو. فيقال: إن ادعيت أن ما يفعل حركةً في غيره أشرف مما يفعل التأليف القائم به، فهذا غير مسلم، لا يسما إذا كان فعل ذلك بجهة كونه محبوباً أو مؤتماً به، وهذا مبدع لنفس التأليف القائم بغيره. ومعلوم أن حاجة المؤلف إلى التأليف قائم به أعظم من حاجة المتحرك إلى الحركة القائمة به، وأن تغير ذات المؤلف إذا انتفض تأليفه، أبين من انتقاض ذلك المتحرك إذا والت حركته، فإذا جعلتم فاعل الحركة فاعلاً، ففاعل التأليف أولى أن يكون فاعلاً، وهذا أمر مشهود، ليس من جمع الأجزاء المتفرقة وجعلها شيئاً واحداً، كمن حرك الشيء الساكن، لاسيما إذا كان تحريكه كتحريك الخبز للجائع، والماء للعطشان، والمرأة للرجل، والرجل للمرأة، فكيف إذا كان كتحريك الإمام للمؤتم به؟ وإن قال: إن ذلك الفاعل للحركة يفعلها دائماً، وفاعل التأليف لا يفعله إلا حال إحداثه، وهذا هو الوجه الذي قصده. فيقال له: ليس في الشاهد أمر يفعل الحركة التي لا قوام للمتحرك إلا بها دائماً. فقولك: إن مذهب الفلاسفة مفهوم في الشاهد أكثر من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 المذهبين، وذلك أن الفاعل قد يصدر منه مفعول يتعلق به فعله في حال كونه، وقد يصدر عنه فعل يتعلق بمفعول، لا وجود لذلك المفعول إلا بتعلق الفعل به، وهذا الفاعل يخصه إن فعله مساوق لوجود ذلك المفعول، وهذه حال المحرك مع الحركة، والأشياء التي وجودها إنما هو في الحركة. فيقال لك: ليس فيما نشاهده شيء من هذا الصنف الثاني، وإنما الفاعل المشاهد هو من النمط الأول. وإن قلت: إن النفس تحرك البدن بهذا الاعتبار. فيقال لك: كون النفس وحدها هي المحركة للبدن، دون أن يكون هناك سبب للحركة، أمر لو كان حقاً لم يكن من المشاهدات. وأيضاً فالنفس لا يقول عاقل: إنها هي الفاعلة للبدن. وأيضاً فكل من النفس البدن شرط في حركة الآخر. الوجه الحامس أن يقال: نحن نسلم أن الفاعل، الذي نفتقر إليه المفعول دائماً، أكمل ممن لا يفتقر إليه إلا حال حدوثه. لكن إذا قيل: إن المخلوقات مفتقرة إلى الخالق دائماً، كان هذا قولاً صحيحاً، وليس هذا نظير ما ذكرته من الصنفين. بل لو قيل: إنه يفعل تأليف العالم دائماً، وأن تأليفه لا يقوم إلا به، كان هذا خيراً من قول سلفك: إنه يفعل حركة العالم دائماً، لو كانوا قائلين بذلك. فكيف وحقيقة قولهم: إنه لا يفعل شيئاً؟. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 فأنت لو جعلته من الصنف الأول، من الفاعلين الذين يفعلون تأليف المؤلفات، كان خيراً من أن تجعله فاعلاً للحركات. لكن الفاعل الدائم، للفعل الذي يحتاج إليه المفعول دائماً، أكمل ممن لا يفتقر إليه المفعول إلا في حال حدوثه، فإذا جعلته فاعلاً للتأليف، وهو محتاج إليه دائماً، كان خيراً من أن تجعله فاعلاً للحركة، فكيف ولم تجعلوه فاعلاً إلا من جهة كونه متشبهاً به فقط؟. الوجه السادس أن يقال: العالم ليس فيه مخلوق يشهد أنه فاعل لشيء منفصل عنه من كل وجه، لا عين ولا صفة، فإن فاعل التأليف في غيره كالبناء والخياط والكاتب ونحوهم، غاية فعله تأليف تلك الأجسام، مع أن كثيراً من متكلمة الإثبات، كالأشعري ومن وافقه، يقولون: ليس فعله إلا ما قام به في محل قدرته، وما خرج عنه ليس فعله. والقائلون بالتولد يقولون: بل ذلك التأليف فعله. والقول الوسط: أن التألف حادث بسبب فعله القائم به، وبسبب ما في الأجزاء المؤلفة من قبول التأليف وحفظه، ولهذا لم تكن الأجزاء محتاجة إلى الإنسان المحدث لتأليفها بعد التأليف، لأنها تمسك التأليف بما فيها من اليبس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 والقوة التي جعلها الله فيها، وتلك لا حاجة إليه فيها، فالذي أحتيج إليه إنما هو مجرد فعله القائم به فقط. وأما مبدع العالم فهو المبدع لأعيانه وأعراضه وحركاته، فليس له نظير، إذ هو سبحانه ليس كمثه شيء: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. وأما ما ذكره هو من إثبات مخلوق محدث لحركة تقوم بغيره، لا يقوم إلا بها، والمخلوق يحدثها دائماً، فليس هذا بمشاهد في الفاعلين، والمثل الذي ضربه لقوله وقولهم، وإن لم يكن مطابقاً، ولس في المشاهدات ما يكون فعله كفعل الرب تعالى، ولا فعل كفعله - فقولهم أقرب من قوله، لأنه موجود في العالم، وهو أقرب إلى الفاعل المطلق. فقوله: (إن الفاعل الذي يوجد مفعوله ويحفظه، أشرف وأدخل في باب الفاعلية من الفاعل الذي يوجد مفعوله ويحتاج إلى فاعل آخر يحفظه بعد الإيجاد) كلام صحيح، لكن ليس هو مطابقاً لقول إخوانه الفلاسفة، فإنهم لم يثبتوا أنه فاعل لجوهر العالم ولأعراضه، بل غاية ما جعلوه فاعلاً للحركة، ثم لم يجعلون فاعلاً لها إلا من جهة كونه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 علة غائية، لكون الفلك يقصد التشبه به، وهذا القدر لا يوجب أن يكون هو الفاعل. وأما أولئك فأثبتوا أنه فاعل لجواهر العالم. ثم من قال من المتكلمين، المعتزلة ونحوهم، إن المحدثات لا تحتاج إلى الفاعل المحدث إلا في حال الحدوث لا في حال البقاء فقوله - مع فساده - أرجح من قول الفلاسفة، لكونهم أثبتوا فاعلاً حقيقة. فأما قول أهل السنة وجماهير أهل الملة، الذي يقولون: إن المخلوقات محتاجة إلى الخالق في حال الحدوث وحال البقاء، فهذا أكمل من قولهم من كل وجه، وإذا ضم إلى ذلك أنه إلههم الذي يعبدونه ويحبونه، وأنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، تبين بذلك أن العالم محتاج إليه من جهة كونه رباً فاعلاً، ومن جهة كونه إلهاً محبوباً معبوداً. وفي هذا من التفاضل بينه وبين قول سلفه الفلاسفة ما لا يخفى على أضعف الناس نظراً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 بقية كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة قال الغزالي: (فإن قيل: نحن إذا قلنا للعالم صانع لم نرد به فاعلاً مختاراً يفعل بعد أن لم يكن يفعل، كما يشاهد في أصناف الفاعلين من الخياط، والنساج والبناء، بل نعني به علة العالم، ونسميه المبدأ الأول، على معنى أنه لا علة لوجوده، وهو علة لوجود غيره، فإن سميناه صانعاً فبهذا التأويل. وثبوت موجود لا علة لوجوده يقوم عليه البرهان القطعي على قرب، فإنا نقول: العالم موجود، والموجود إما أن يكون له علة، وإما أن يكون لا علة له، فإن كان له علة، فتلك العلة لها علة ام لا علة لها؟ وهكذا القول في علة العلة، فإما ان تتسلسل إلى غير نهاية، وهو محال. وإما أن تنتهي بالآخر إلى علة أولى لا علة لوجودها فنسميه المبدأ الأول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 وإن كان العالم موجوداً بنفسه لا علة له. فقد ظهر المبدأ الأول، فإما لم نعن به إلا موجوداً لا علة له، هو ثابت بالضرورة. نعم لا يجوز أن يكون المبدأ الأول هو السماوات، لأنها عدد، ودليل التوحيد يمنعه، فيعرف بطلانه بنظر في صفة المبدأ ولا يجوز أن يقال: إنه سماء واحد أو جسم واحد، أو شمس، أو غيره، لأنه جسم، والجسم مركب من الهيولى والصورة، والمبدأ الأول لا يجوز أن يكون مركباً، وذلك يعرف بنظر ثان. والمقصود أن موجوداً، لا علة لوجوده، ثابت بالضرورة والاتفاق - وإنما الخلاف في الصفات - وهو الذي نعنية بالمبدأ الأول) . قال الغزالي: (والجواب من وجهين: أحدهما: أنه يلزم على مساق مذهبكم أن تكون أجسام العالم قديمة لذلك لا علة لها. وقولكم إن بطلان ذلك يعلم بنظر ثان، فيبطل ذلك عليكم في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 مسألة التوحيد ونفي الصفات بعد هذه المسألة. الوجه الثاني: وهو الخاص بهذه المسألة، هو أن يقال: نثبت تقديراً أن هذه الموجودات لها علة، ولكن علتها علة، ولعلة العلة علة كذلك، وهكذا إلى غير نهايتة. وقولكم: أنه يستحيل إثبات علل لا نهاية لها، لايستقيم منكم. فإنا نقول: عرفتم ذلك ضرورةً بغير واسطة او عرفتموه بواسطة؟ لا سبيل إلى دعوى الضرورة، وكل مسلك ذكرتموه في النظر، يبطل عليكم بتجويز حوادث لا أول لها. وإذا جاز أن يدخل في الوجود ما لا نهاية له، فلم يبعد أن يكون بعضها علة لبعض وينتهي من الطرف الآخر إلى معلول لا معلول له ولا ينتهي في الجانب الآخر إلى علة لا علة لها؟ كما أن الزمان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 السابق له آخر، وهو الآن. ولا أول له. فإن زعمتم أن الحوادث الماضية ليست موجودة معاً في الحال، ولا في بعض الأحوال، والمعدوم لا يوصف بالتناهي وعدم التناهي، فيلزمكم النفوس البشرية المفارقة للأبدان، فإنها لا تفنى عندكم، والموجود المفارق للبدن من النفوس لا نهاية لأعدادها، إذ لم تزل نطفة من إنسان وإنسان من نطفة، إلى غير نهاية، ثم كل إنسان مات، فقد بقي نفسه، وهو بالعدد غير نفس من مات قبله، ومعه، وبعده، وإن كان الكل بالنوع واحداً، فعندكم في الوجود، في كل حال، نفوس لا نهاية لأعدادها) . قال: (فإن قيل: ليس لبعضها ارتباط ببعض، ولا ترتيب لها: لا بالطبع، ولا بالوضع، وإنما نحيل نحن موجودات لا نهاية لها، إذا كان لها ترتيب بالطبع، كالأجسام فإنها مرتبة بعضها فوق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 بعض، أو كان بها ترتيب بالطبع، كالعلل والمعلولات، وأما النفوس فليست كذلك. قلنا: هذا تحكم في الوضع ليس طرده أولى من عكسه، فلم أحلتم. أحد القسمين دون الآخر، وما البرهان المفرق؟. وبم تنكرون على من يقول: إن هذه النفوس التي لا نهاية لها، لا تخلو عن ترتيب، إذ وجود بعضها قبل البعض، فإن الأيام والليالي الماضية لا نهاية لها، فإذا قدرنا وجود نفس واحدة، في كل يوم وليلة، كان الحاصل في الوجود الآن خارجاً عن النهاية، واقعاً على ترتيب في الوجود، أي بعضها بعد البعض. والعلة غايتها أن يقال: إنها قبل المعلول بالطبع، كما يقال: إنها فوق المعلول بالذات لا بالمكان، فإذا لم يستحل ذلك في القبل الحقيقي الزماني، فينبغي أن لا يستحيل في القبل الذاتي الطبيعي. وما بالهم لم يجوزوا أجساماً بعضها فوق بعض بالمكان إلى غير نهاية، وجوزوا موجودات بعضها قبل البعض بالزمان إلى غير النهاية؟ وهل هذا إلا تحكم بارد لا أصل له؟. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 قال فإن قيل: البرهان القاطع على استحالة علل إلى غير النهاية، أن يقال: كل واحدة من آحاد العلل، ممكنة في نفسها أو واجبة؟ فإن كانت واجبة لم تفتقر إلى علة. وإن كانت ممكنة فالكل موصوف بالإمكان، وكل ممكن فيفتقر إلى علة زائدة على ذاته، فيفتقر الكل إلى علة زائدة على ذاته، فيفتقر الكل إلى علة خارجة عنها. قلنا: لفظ الممكن والواجب لفظ مبهم، إلا أن يراد بالواجب ما لا علة لوجوده، ويراد بالممكن ما لوجوده علة، فإن كان المراد هذا، فلنرجع إلى هذه اللفظة، ونقول: كل واحد ممكن: على معنى أن له علة زائدة على ذاته، والكل ليس بممكن: على معنى انه ليس له علة زائدة على ذاته خارجة منه، وأن أريد بلفظ الممكن غير ما أردناه، فهو ليس بمفهوم) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 قال: (فإن قيل: فهذا يؤدي إلى أن يتقوم واجب الوجود بممكنات الوجود، وهو محال. قلنا: إن أردتم بالواجب والممكن ما ذكرناه، فهو نفس المطلوب، فلا نسلم أنه محال. وهو كقول القائل: يستحيل أن يتقوم القديم بالحوادث، والزمان عندهم قديم، وآحاد الذوات حادثة، وهي ذات أوائل، والمجموع لا أول له، فقد تقوم ما لا أول له بذوات أوائل، وصدق ذوات أوائل على الآحاد، ولم يصدق على المجموع. وكذلك يقال على كل واحد: إن له علة، ولا يقال: للمجموع علة، وليس كل ما صدق على الآحاد يلزم أن يصدق على المجموع، إذ يصدق على كل واحد أنه واحد، وأنه بعض، وأنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 جزء ولا يصدق على المحجموع وكل واحد حادث بعد أن لم يكن، أي له أول، والمجموع عندهم ما ليس له أول. فتبين أن من يجوز حوادث لا أول لها، وهي صور العناصر الأربعة المتغيرات، فلا يتمكن من إنكار علل لا نهاية لها، ويخرج من هذا أنه لا سبيل لهم إلى الوصول إلى إثبات المبدأ الأول لهذا الإشكال، وخرج قولهم إلى التحكم المحض. فإن قيل: الدورات ليست موجودة في الحال، ولا صور العناصر وإنما الموجود منها صورة واحدة بالفعل، وما لا وجود له لا يوصف بالتنهاهي وعدم التناهي، إلا إذا قدر في الوهم وجودها، ولا يتعذر ما يقدر في الوهم، فإن كانت المقدرات بعضها علل لبعض، فالإنسان قد يفرض ذلك في وهمه، وإنما الكلام في الموجود في الأعيان لا في الأذهان، لا يبقى إلا نفوس الأموات، وقد ذهب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 بعض الفلاسفة إلى أنها كانت واحدة أزلية قبل التعلق بالأبدان، وعند مفارقة الأبدان تتحد، فلا يكون فيه عدد، فضلاً عن ان يوصف بأنه لا نهاية لها، وقال آخرون: النفس تابع للمزاج، وإنما معنى الموت عدمها، ولا قوام لها بجوهرها دون الجسم، فإذن لا وجود في النفوس إلا في أحياء، والأحياء الموجودون محصورون، ولا تنتهي النهاية عنهم، والمعدومون لا يوصفون أصلاً بوجود النهاية ولا بعدمها إلا في الوهم، إذا فرضوا موجودين) . قال: (والجواب أن هذا الإشكال في النفوس أوردناه على ابن سينا والفارابي والمحققين منهم، إذا حكموا بأن النفس جوهر قائم بنفسه، وهو اختيار أرسطاليس والمعتبرين من الأوائل، ومن عدل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 عن هذه المسلك فيقول: هل يتصور أن يحدث شيء يبقى أم لا؟ فإن قالوا: لا، فهو محال، وإن قالوا نعم، قلنا: إذا قدرنا كل يوم حدوث شيء وبقاءه، اجتمع إلى الآن لا محالة موجودات لا نهاية لها، فالدورة وإن كانت منقضية، فحصول موجود فيها، يبقى ولا ينقضي غير مستحيل، وبهذا التقدير يتقرر الإشكال، ولا غرض في أن يكون ذلك الباقي نفس آدمي، أو جني، أو شيطان، أوملك، أو ماشئت من الموجودات، وهو لازم على كل مذهب لهم، إذا أثبتوا دورات لا نهاية لها) . تعليق ابن تيمية قلت: أبو حامد جعل الطريقة الصحيحة في أثبات الصانع الاستدلال بالحدوث على المحدث، وقال: إنا نعلم بالضرورة أن الحادث لا يوجد نفسه فافتقر إلى صانع، وهذا موافق لما ذكره حذاق أهل النظر، بخلاف من ذهب إليه من ذهب من المعتزلة ومن وافقهم. كـ القاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما، ممن جعل هذه المقدمة نظرية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 وأخذ أبو حامد يطعن على طريقة ابن سينا وأمثاله في إثبات واجب الوجود بوجهين. أحدهما: أن غاية هذه الطريقة إثبات موجود واجب، ولكن لا يمكن نفي كونه جسماً من الأجسام إلا بطريقهم في التوحيد الذي مضمونه نفي الصفات، وتلك مبناها على نفس التركيب، وقد بين أبو حامد فساد كلامهم في هذا. وهذا الوجه الذي ذكره أبو حامد أحسن فيه، وكنت قد كتبت على توحيد الفلاسفة ونفيهم الصفات كلاماً بينت فيه فساد كلامهم في طرقة التركيب، قبل أن أقف على كلام أبي حامد، ثم رأيت أبا حامد قد تكلم بما يوافق ذلك الذي كتبته. ومن هنا يعلم أن ابن سينا لا يمكنه بهذه الطريقة إفساد مذهب الفلاسفة الطبيعين الذين يقولون بأن الفلك واجب الوجود بنفسه، وإن كان يمكن إفساد قولهم بطرق أخرى. ولهذا ظن كثير من المتأخرين أن ابن سينا موافق للدهرية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 المحضة، الذين يقولون: إن العالم واجب الوجود بذاته، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى. الوجه الثاني الذي أبطل به أبو حامد طريقهم: أنها مبنية على إبطال علل ومعلولات لا نهاية لها، وقد ألزمهم أنهم لا يمكنهم إبطال ذلك مع قولهم بثبوت حوادث لا تتناهي كما قد ذكره. وابن سينا والرازي والآمدي إنما أثبتوا واجب الوجود بناءً على هذه المقدمة. فكان ما ذكره أبو حامد إبطالاً لطريق هؤلاء كلهم. والآمدي وافق أبا حامد على ضعف الحجة في نفي النهاية عن العلل، فلا جرم لم يقرر في كلامه إثبات واجب الوجود، بل قرره في كتاب الأفكار بطريق أفسدها في كتاب رموز الكنوز وقد بينا بطلان اعتراضه في غير هذا الموضع. وليس فيما ذكره أبو حامد والآمدي إبطال لطريقة المعتزلة، ومن وافقهم، على أن تخصيص الحدوث بأحد الزمانين لا بد له من مخصص، فإن تلك لا تفتقر إلى أبطال التسليل في العلل والمعلولات. ومدار كلام أبي حامد على أنه لا فرق بين نفي النهاية في الحوادث ونفيها في العلل. وأنتم تجوزونها في الحوادث، فجوزوها في العلل. والناس لهم في هذا المقام قولان: أحدهما: قول من يبطل عدم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 النهاية فيهما جميعاً، مثل كثير من أهل الكلام: المعتزلة ومن وافقهم. ثم من هؤلاء من يبطل عدم النهاية في الأزل والأبد، كقول جهم والعلاف. وأكثرهم يبطلونها في الأزل دون الأبد، لأن من دين المسلمين دوام نعيم الجنة لا إلى نهاية. ولهذا قال جهم بانقطاع نعيم الجنة، وقال العلاف ببطلان حركاتهم. والثاني: قول من يبطل عدم النهاية في الفاعلين والعلل دون الحوادث والآثار، كما هو قول جمهور الفلاسفة من القائلين بحدوث العالم والقائلين بقدمه، وهو قول طوائف من أهل الكلام، من المعتزلة والأشعرية وهو قول جمهور أهل الحديث وأئمة السنة. وما ذكره أبو حامد من الكلام على بطلان حجة من ينفي عدم النهاية، هو أنه لا يلزم أن ماصدق على الآحاد صدق على الجميع، كما قاله هؤلاء في الحوادث، بخلاف ما قاله أبو الحسين البصري، وغيره من أهل الكلام، من أنه صدق على الآحاد صدق على الجيمع، ثم سوى أبو حامد بين الأمرين. وقد تكلمنا في غير هذا الموضع على الفرق بين الأمرين، وهو أن الوصف إذا ثبت للجميع كثبوته للأفراد، كان حكم الجميع حكم أفراده، وإن لم يكن ثبوته للجميع كثبوته للأفراد، لم يلزم أن يكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 حكمها حكمه، فالأول مثل وصفها بالوجود، أو العدم، أو الوجوب، أو الامكان، أو الامتناع، فإذا قدر أشياء لا تناهى، كل منها موجود، فالكل أيضاً موجود. ثم أن قدر وجود كل منها مقارناً للآخر، كان وجود الجميع مقارناً، وإن قدر وجودها متعاقبة كان وجود الجملة متعاقباً. وإذا قدرت كل منها معدوماً فالكل أيضاً معدوم، وإذا قدرت عدم كل منها مع عدم الآخر كانت معدومة معاً، وإذا قدرت عدم كل منها بعد الآخر، كانت متعاقبة في العدم. فالحوادث المتعاقبة التي تعدم بعد وجودها - كالحركات - وجودها متعاقب، وعدمها متعاقب. فالجملة أيضاً موجودة على التعاقب، معدومة على التعاقب. وإذا قدر أشياء لا تتناهي ممتنعة، فالجملة ممتنعة، ولو قدر أشياء لا تتناهي واجبة، فالجملة أيضاً واجبة، فكذلك إذا قدر أمور لا تتناهي، ليس لشيء منها وجود من نفسه، بل كل منها مفتقر إلى غيره، فوصف الافتقار والحاجة والإمكان يجب تناوله للجملة، كتناوله لكل من أفرادها، كما يتناول وصف الوجود والعدم، والوجوب والامتناع، للجملة بحسب تناوله للأفراد، فلا تكون الجملة إلا مفتقرة محتاجة ممكنة، لا تكون معدومة مع وجود كل منها، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 ولا تكون واجبة بنفسها مع إمكان كل منها، فإن اجتماعها عرض مفتقر إلى الممكنات، فهو أولى بالإمكان منها. ولو قال قائل: فكيف تصفونها بالامتناع، مع كون كل منها ممكناً؟ أليس في هذا وصف بالامتناع للجملة دون الأفراد؟ قيل له: نحن لا نقدر وجود علل ومعلولات لا تتناهى في الخارج، ثم نحكم عليها بالامتناع، فإن هذا جمع بين النقيضين. فإن كونها موجودة في الخارج ينافي امتناعها، ولكن نقدر ذلك في الذهن، ثم نحكم على هذا المقدر في الذهن بامتناعه في الخارج، كالجمع بين النقيضين. وأمثاله من الممتنعات، بخلاف ما إذا قدر وجودها في الخارج، وكل منها ممكن. وقيل: إن الجملة واجبة بنفسها، فهذا هو الممتنع، كما ان وصفها مع ذلك بالامتناع ممتنع، وتقديرها في الذهن لا يكفي في وجود الممكنات، لأن الممكن لا يوجد إلا بما هو موجود في الخارج لا مقدر في الذهن. وهذا بخلاف ما إذا قدر أشياء لا تتناهي كل منها بعد الآخر، لم يلزم أن تكون الجملة بعد غيرها. كالحوادث المستقبلة في الجنة. فإن كلاً منها بعد غيره، وليست الجملة بعد غيرها، بل لا تزال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 إلى غير نهابة، وهذا لأن تقديرها غير متناهية يستلزم أن لا يكون بعدها شيء. فحينئذ إذا قيل: بعد كل واحد غيره، كان التقدير أن الجملة ليس لها بعد، ولكل واحد من أجزائها بعد. ومعلوم أن مثل هذا حكم الجملة فيه ليس حكم الأفراد، وكذلك إذ قدر أنه لا أول للجملة، ولكل منها أول. وكذلك إذا قيل: إن الجملة كل، وجميع، ومجموع، أومستدير، أومربع، أو مثلث، أو حيوان، أو إنسان لم يلزم أن يكون كل من أجزائها كلاً، ولا مدوراً، ولا حيواناً. ولكن الذي يبين فساد مذهب هؤلاء الفلاسفة أن يقال: قد علم بصريح العقل واتفاق العقلاء امتناع التسلسل في العلل، وأما وجود حوادث لا تتناهى فلا ننازعهم فيه مطلقاً، إذ كان أئمة السنة يقولون بذلك في أفعال الرب وأقواله. لكن تبين خطؤهم من وجوه: فساد مذهب الفلاسفة من وجوه (الوجه الأول) أن قولهم يتضمن وجود حوادث لا تتناهى في آن واحد، وهذا محال باتفاقهم مع جماهير العقلاء، بل بتضمن وجود تمام علل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 ومعلولات لا تتناهي في آن واحد، ووجود ممكنات لا تتناهى في آن واحد، وهذا مما يصرحون بامتناعه، مع قيام الدليل على امتناعه، وتضمن امتناع وجود حادث، ووجود الحوادث بلا مؤثر تام، وكل هذا ممتنع. وذلك أن أصلهم أن المعلول يجب مقارنته لعلته التامة في الزمان، لا يتعقبها ولا يتراخى عنها، فيكون الأثر مع التأثير التام. وكثير من المتكلمين يقولون: يجوز أن يتراخى. والصحيح قول ثالث، وهو أن يتعقبه: لا يكون معه، ولا متراخياً عنه. وذلك يستلزم حدوث كل ما سوى الله تعالى. وأما على قولهم فيلزم أن لا يحدث شيء في الوجود، بل يكون كل ممكن قديماً أزلياً، لوجود علته التامة في الأزل. ويلزم أن لا يحدث شيء لامتناع حدوث الحادث بدون سبب حادث، والأول يمتنع عندهم أن يحدث عنه شيء، ويلزم أنه كلما حدث حادث حدثت حوادث لا نهاية لها، فإنهم يقولون: لا يحدث حادث حتى تحدث تمام علته. فيقال: وذلك التمام حادث، فيحتاج أن يحدث معه تمام علته وهلم جراً، فيلزم وجود تمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد. وهذا ممتنع، كامتناع علل ومعلولات لاتتناهى في آن واحد، إذ لا فرق بين امناع التسلسل في ذات العلة وفي تمامها، إذ كانت لا تصير علة بالفعل إلا إذا كانت تامة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 162 ولهذا قالوا: لا يحدث حادث إلا بسبب حادث، فلو حدث عن القديم لا فتقر إلى حادث، والقول في الثاني كالقول في الأول، فيلزم أن لا يحدث شيء. وهذا بعينه يلزمهم في كل حادث، فإنه لا يحدث حتى يحدث حادث هو تمام مؤثره، وذلك الحادث لا يحدث حتى يحدث حادث معه، فيلزم أن لا يحدث شيء. فالمتكلمون قالوا: القادر يفعل بدون سبب حادث، فقالوا: هذا محال. وقالوا: تحدث الحوادث كلها بدون سبب حادث ولا فاعل محدث لها، فكان قولهم أشد بطلاناً. الوجه الثاني أن وجود حوادث لا أول لها إنما يمكن في القديم الواحد، فإذا قدر قديمان: كل منهما تقوم به حوادث لا تتناهى، كما يقولونه في الأفلاك، فهذا ممتنع. لأن كلاً منهما لا بداية لحركاته ولا نهاية، مع أن أحدهما أكثر من الآخر، وما كان أكثر من غيره كان ما دونه أقل منه، فيلزم أن يكون ما لا أول له ولا آخر يقبل أن يزاد عليه، ويكون شيء آخر أكثر منه، وهذا ممتنع، كما امتنع مثل ذلك في الأبعاد. (الوجه الثالث) أن قولهم يقتضي أن يكون فعل الفاعل مقارناً له أزلاً وأبداً، وأن يكون القديم الأزلي مفعولاً ممكناً يقبل الوجود والعدم، وهذا مما يعلم فساده بصريح العقل واتفاق العقلاء. كلام ابن رشد رداً على الغزالي وتعليق ابن تيمية وقد أورد ابن رشد على أبي حامد في هذا كلاماً، بعضه من باب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 الأسولة اللفظية وبعضه من باب الأسوله المعنوية، فقال عن الدليل الذي ذكره لهم في إثبات العلة الأول. (هذا كلام مقنع غير صحيح، فإن اسم العلة يقال باشتراك الاسم على العلل الأربع، أعني: الفاعل، والصورة، والهيولى، والغاية. وكذلك لو كان هذا جواب الفلاسفة لكان جواباً مختلاً، فإنهم كانوا يسألون عن أي علة أرادوا بقولهم: إن العالم له علة أولى، فإن قالوا: أردنا بذلك السبب الفاعل الذي فعله لم يزل ولا يزال، مفعوله هو فعله، لكان جواباً صحيحاً على مذهبهم، على ما قلنا غير معترض عليه. ولو قالوا: أردنا به السبب المادي لكان قولهم معترضاً. وكذلك لو قالوا: أردنا به السبب الصوري لكان معترضاً أن فرضوا صورة العالم قائمة به. وإن قالوا: أردنا به صورة مقارنة للمادة، جرى قولهم على مذهبهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 164 وإن قالوا: صورة هيولانية، لم يكن المبدأ عندهم شيئاً غير جسم من الأجسام، وهذا لا يقولون به. وكذلك إن قالوا: هو سبب على طريق الغاية، كان جارياً أيضا على أصولهم. وإذا كان هذا الكلام فيه من الاحتمال ما ترى، فكيف يصح أن يجعل جواباً للفلاسفة؟) . وبسط الكلام بسطاً لا يرد على أبي حامد، فإنه قد علم أنه أراد بالعلة هنا العلة الفاعلة، لا الأقسام الثلاثة، وهم يسمون المبدأ الأول العلة الأولى، ويقولون: كل ما سواه صادر عنه، فالذي ذكره تقرير مذهبهم - كما يقولونه - على أحسن وجه، فلا حاجة إلى مؤاخذة لفظية، وهو كون لفظاً مشتركاً، فإن هذا من باب الإعنات في الخطاب، والخروج عن المقصود. والاستفسار مع ظهور المقصود، نوع من اللد في الكلام، وأبغض الرجال إلى الله الألد الخصم. ثم اعترض ابن رشد على الوجهين اللذين ذكرهما أبو حامد، فقال على الوجه الأول، وأنه يلزمهم على مساق مذهبهم أن يكون المبدع جسماً قديماً لا علة له، وأنهم لم يبطلوا ذلك إلا بقولهم في التوحيد ونفي الصفات، وقد أبطلة أبو حامد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 قال ابن رشد: (يريد أنهم إذا لم يقدروا على نفي الصفات، كان ذلك الأول عندهم ذاتاً بصفات، وما كان على هذه الصفة فهو جسم، أو قوة في جسم، ولزمهم أن يكون الأول الذي لا علة له الأجرام السماوية) . قال ابن رشد: (وهذا القول لازم لمن يقول بالقول الذي حكاه عن الفلاسفة - يعني طريقة ابن سينا والفلاسفة - يعني الأوائل - لا يحتجون على وجود الأول الذي لا علة له، بمانسبة إليهم من الأحتجاج، ولا يزعمون أيضاً أنهم يعجزون عن دليل التوحيد، ولا عن دليل نفي الجسمية عن المبدأ الأول. وستأتي هذه المسألة فيما بعد) . قلت: ابن رشد لما رأى ضعف الطريقة المنسوبة إلى الفلاسفة في كتب ابن سينا، في نفي الصفات ونفي التجسيم. وأنها ليست طريقة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166 أوليهم، بنى نفي الصفات ونفي التجسيم تارة على إثبات النفس، وأنها ليست بجسم، واستدل بأضعف من دليلهم، وتارة يستدل بطريقة كلامية لفظية، وهي أن المركب لا بد له من مركب، والمؤلف لا بد له من مؤلف. وهذا إنما يكون إذا أطلق هذا اللفظ على مسماه، باعتبار أن هناك مؤلفاً فعل التأليف، ومركبا فعل التركيب. ومن لا يطلق هذا اللفظ بحال، أو أراد به ما فيه اجتماع، وقال: إن ذلك واجب بنفسه، لم يكن مثل هذا الكلام حجة عليه، وهذا مبسوط في موضعه. المقصود تبيين ما أخذه ابن سينا عن أسلافه، وما أخذه عن المتكلمين، وكيف خلط أحدهما بالآخر. قال ابن رشد: (قول أبي حامد: ولكن لعلتها علة، ولعلة العلة علة، وهكذا إلى غير نهاية، إلى قوله: وكل مسلك ذكرتموه في النظر يبطل عليكم بتجويز دورات لا أول لها، شك تقدم الجواب عنه، حين قلنا: إن الفلاسفة لا تجوز عللاً ومعلولات لا نهاية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 167 لها، لأنه يؤدي إلى معلول لا علة له، ويوجبونها بالعرض من قبل علة قديمة، لكن لا إذا كانت مستقيمة ومعاً وفي مواد لا نهاية لها، بل إذا كانت دوراً) . قال: (وأما ما يحكيه عن ابن سينا: أنه يجوز نفوساً لا نهاية لها، وأن ذلك إنما يمتنع فيما له وضع، فكلام غير صحيح، ولا يقول به أحد من الفلاسفة، وامتناعه يظهر من البرهان العام الذي ذكرناه عنهم، فلا يلزم الفلاسفة شيء مما ألزمهم من قبل هذا الوضع، أعني القول لوجود نفوس لا نهاية لها بالفعل. ومن أجل هذا قال بالتناسخ من قال: إن النفوس متعددة بتعدد الأشخاص، وأنها باقية) . قال: (وأما قوله: وما بالهم لم يجوزوا أجساماً بعضها فوق بعض بالمكان إلى غير نهاية، وجوزوا موجودات بعضها قبل بعض بالزمان إلى غير نهاية؟ وهل هذا إلا تحكم بارد؟!. فإن الفرق بينهما عند الفلاسفة ظاهر جداً، وذلك أن وضع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 168 الأجسام لا نهاية لها معاً يلزم عنه أن يوجد لما لا نهاية له كل، وأن يكون بالفعل، وذلك مستحيل، والزمان ليس بذي وضع، فليس يلزم من وجود أجسام، بعضها فوق بعض إلى غير نهاية، وجود ما لا نهاية له بالفعل، وهو الذي امتنع عندهم) . ثم لما ذكر ابن رشد البرهان الذي حكاه أبو حامد عن الفلاسفة على استحالة علل لا نهاية لها، قال ابن رشد: (وهذا البرهان الذي حكاه عن الفلاسفة، أول نقله إلى الفلسفة ابن سينا، على أنه طريق خير من طريق القدماء، لأنه زعم أنه من جوهر الموجود، وأن طرق القوم من أعراض تابعة للمبدأ الأول، وهو طريق أخذه ابن سينا من المتكلمين، وذلك أن المتكلمين ترى أن من المعلوم بنفسه أن الموجود ينقسم إلى ممكن وضروري، ووضعوا أن الممكن يجب أن يكون له فاعل، وأن العالم بأسره لما كان ممكناً، وجب أن يكون الفاعل له واجب الوجود وهذا هو اعتقاد المعتزلة قبل الأشعرية، وهو قول جيد ليس فيه كذب، إلا ما وضعوه فيه: من أن العالم بأسره ممكن، فإن هذا ليس معروفاً بنفسه، فأراد ابن سينا أن يعمم هذه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة، كما ذكر أبو حامد، وإذا سومح في هذه القضية، لم تنته به القسمة إلى ما أراد، لأن قسمة الموجود أولاً إلى ما له علة، وإلى ما لا علة له، ليس معروفاً بنفسه. ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وإلى ضروري، فإن فهمنا منه الممكن الحقيقي، أفضى إلى ممكن ضروري، ولم يفض إلى ضروري لا علة له، وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري، لم يلزم عن ذلك إلا أن ما له علة فله علة، وأمكن أن نضع أن تلك لها علة، وأن يمر ذلك إلى غير نهاية، فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا عله له، وهو الذي يعنونه بواجب الوجود، إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له: الممكن الحقيقي، فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية، وأما إن عنى بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية، فلم يتبين بعد ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين في الموجودات الممكنة بالحقيقة، ولا يتبين بعد أن ها هنا ضرورياً يحتاج إلى علة، فيجب عن وضع هذا أن ينتهي الأمر إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 170 ضروري بغير علة، إلى أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية، التي من علة ومعلول، كالأمر في الجملة الممكنة) . قلت: فقد ذكر ابن رشد لما ذكر البرهان الذي حكاه أبو حامد عن الفلاسفة على استحالة علل لا نهاية لها: أن هذا البرهان الذي حكاه عن الفلاسفة أول من نقله إلى الفلسفة ابن سينا على أنها طريق خير من طريق القدماء، لأنه زعم أنه من جوهر الوجود وأن طرق القوم من اعراض تابعة للمبدأ الأول. قال: (وهو طريق أخذه ابن سينا من المتكلمين، وذلك أن المتكلم يرى أن من المعلوم بنفسه أن الموجود ينقسم إلى ممكن وضروري، ووضعوا أن الممكن يجب أن يكون له فاعل، وأن العالم بأسره لما كان ممكناً وجب أن يكون الفاعل له واجب الوجود هذا هو اعتقاد المعتزلة قبل الأشعرية) . قال: (وهو قول جيد ليس فيه كذب، إلا ما وضعوا فيه من أن العالم بأسره بممكن، فإن هذا ليس معروفاً بنفسه، فأراد ابن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 171 سينا أن يعمم هذه القضية ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة، كما ذكره أبو حامد) . قلت: فقد بين أن كون الممكن يجب أن يكون له فاعل، قول جيد، إذ ان الممكن هو المحدث عند عامة العقلاء من الفلاسفة وغيرهم، والمحدث لا بد له من فاعل. هذا أيضا معلوم بين مسلم عند عامة العقلاء. وأما قوله: (ليس فيه كذب إلا ما وضعوا فيه من أن العالم بأسره ممكن، فإن هذا ليس معروفاً بنفسه. فأراد ابن سينا أن يعمم هذه القضية. ويجعل المفهوم من الممكن ما له علة) . فإنه يقول: أولئك أرادوا بالممكن المحدث، وليس من المعروف بنفسه أن العالم كله محدث، فأراد ابن سينا أن يجعل معنى الممكن هو ما له علة، حتى يبني على ذلك أن العالم كله ممكن وله علة قديمة أزلية. وهذا القول الذي ذكره ابن سينا، يظن من أخذ الفلسفة من كلامه، أنه قول أرسطو وأتباعه، وليس كذلك. وإنما يذكر هذا عن برقلس. ولهذا قال: الباري جواد وعلة جوده هو ذاته، فيكون جوده دائناً. وهذا يوافق قول ابن سينا، ولا يوافق قول أرسطو، فإن الأول عنده لا فعل له: لا جوداً ولا غير جود، ولا إرادة، بل ولا يعلم ما سواه. وقول ابن رشد: (إن كون العالم بأسره ممكن ليس معروفاً بنفسه) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 فيقال له: إن سلم أنه ليس معروفاً بنفسه، هو معروف بالأدلة الكثيرة الدالة على أن كل ما سوى الله ممكن: يقبل الوجود والعدم، بل إنه محدث وكل ما سواه فقير إليه، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن، وأنه ليس شيئاً موجوداً بنفسه غنياً عما سواه، قديماً أزلياً، إلا واحد. وأدلة ذلك مذكورة في مواضع، وحينئذ فيحصل بذلك المقصود. لكن المتكلمون من الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية والكرامية ونحوهم، سلكوا في ذلك الاستدلال بأن ذلك لا يخلو عن الأعراض الحادثة، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، لامتناع حوادث لا أول لها، فلزم بذلك أن الأول لم يزل غير متكلم بمشيئته وقدرته، ولا فاعل لشيء، بل ولا كان يمكنه أن يكون متكلماً إذا شاء، فعالاً لما يشاء، بل هذا ممتنع، فلا يكون مقدوراً، فيلزم أنه صار قادراً بعد أن لم يكن، وفاعلاً، بل ومتكلماً بمشيئته بعد أن لم يكن، وأن الفعل صار ممكناً بعد أن كان ممتنعاً، من غير تجدد شيء أوجب انقلابه من الامتناع إلى الإمكان، إلى غير ذلك من اللوازم. كما قد بسط في موضعه. والسلف والأئمة كلهم ذموا الكلام المحدث وأهله، وأخبروا أنهم يتكلمون بالجهل، ويخالفون الكتاب والسنة وإجماع السلف، مع أن كلاهم جهل وضلال. مخالف للعقل، كما هو مخالف للشرع، كما قد بسط في موضعه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 173 والمقصود ذكر كلام ابن رشد على طريقة ابن سينا: قال ابن رشد: (وإذا سومح ابن سينا في هذه القضية: - وهو أن الممكن ما له علة - لم تنته به القسمة إلى ما أراد، لأن قسمة الوجود إولاً: إلى ما علة، وإلى ما لا علة له، ليس معروفاً بنفسه، ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري) . قلت: أما تقسم الوجود إلى ما علة وإلى ما لا علة، فهذا تقسم دائر بين النفي والإثبات، لا يمكن المنازعة فيه، كما إذا قيل: الموجود ينقسم إلى ما قوم بنفسه، وإلى ما لا قوم بنفسه، وإلى ما هو موجود بنفسه، وما ليس موجوداً بنفسه، ونحو ذلك من التقسيمات الدائرة بين النفي والإثبات. فهذا تقسيم حاصر، وإذ لا واسطة بين النفي والإثبات، وهما النقيضان. كما أنهما لا يجتمعان فلا يرتفعان أيضاً. لكن دعوى ابن سينا وأتباعه المقسمون هذا التقسيم: أن ما له علة ينقسم إلى ممكن حقيقي - وهو الحادث - وإلى ضروري، هو الذي ليس بيناً بنفسه، ولم يقيموا عليه دليلاً، ولا يمكنهم إقامة دليل عليه، بل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 174 الدليل يدل على بطلانه. ولهذا أظهر ما ذكره ابن رشد من فساد كلامهم. قال ابن رشد: (ثم إذا قسم ما له علة إلى ممكن وضروري، فإن فهمنا منه الممكن الحقيقي أفضى إلى ممكن ضروري، ولم يفض إلى ضروري لا علة به، وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري، لم يلزم من ذلك إلا أن ما له علة فله علة، وأمكن أن نضع أن تلك العلة لها علة، وأن يمر ذلك إلى غير نهاية. فلا ينتهي الامر إلى موجود لا علة له، وهو الذي يعنونه بواجب الوجود. إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له: الممكن الحقيقي، فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيه إلى غير نهاية) . فقد بين ابن رشد أنه إذا قسم الوجود إلى ما له علة وما ليس له علة، ثم قسم ما له علة إلى ممكن وضروري، فإذا أراد بالممكن: الممكن الحقيقي، وهو الحادث، وهو قد جعل الممكن ما له علة - أفضى ذلك إلى ما له علة، فينقسم إلى ممكن ضروري - وهو القديم - وإلى ممكن حقيقي - وهو الحادث. ولم يكن في هذا إثبات ضروري لا علة له، وهو واجب الوجود، لأن مجرد تقسيم الوجود إلى قسمين لا يستلزم ثبوت كل من القسمين، بل لا بد من دليل بدل على ثبوتهما، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 175 وإلا فمجرد التقسيم دعوى مجردة، كما لو قيل: الوجود ينقسم إلى ماهو ثابت، وإلى ما ليس بثابت، أو ينقسم إلى قديم وحادث، وما ليس بقديم ولا حادث، أو ينقسم إلى واجب وممكن، وما ليس بواجب ولا ممكن. فهذا تقسيم دائر بين النفي والإثبات، لكن لا يستلزم ثبوت كل من الأقسام. وإذا قيل: ينقسم إلى معلول وغير معلول. وقيل: المعلول ينقسم إلى ممكن حقيقي - وهو الحادث وإلى ممكن باصطلاح ابن سينا - وهو المعلول - مع كونه ضرورياً، كان غايته إذ أثبت انقسام المعلول إلى ضروري وحادث: إثبات القسمين: الضروري والحادث، أو إثبات ضروري معلول، ليس في إثبات ضروري ليس بمعلول، وهو واجب الوجود بنفسه، فلم يكن فيما ذكره إثبات واجب الوجود بنفسه، فكيف وليس فيه أيضاً إثبات ضروري معلول، وإنما فيه تقسيم المعلول إلى ضروري وغير ضروري؟. ومجرد التقسيم لا يدل على ثبوت كل من القسمين، فلم يكن فيما ذكره لا إثبات ضروري معلول ولا غير معلول، إن لم يبين أن المحدث يدل على ذلك، ولا استدل بالحدوث ألبته، وهو الممكن الحقيقي، وإنما استدل بالممكن الذي ابتدعه، وجعله يتناول القديم الضروري والمحدث ولو استدل بالمحدث لدل على إثبات قديم، وثبوت قديم لا يدل على واجب الوجود باصطلاحهم لأن القديم عندهم ينقسم إلى واجب وممكن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 176 فإن أرادوا أن يثبتوا الواجب بنفسه، قالوا: (والقديم - الذي سموه ممكناً - يفتقر إلى واجب بنفسه) . وهذا ليس بيناً، وعامة العقلاء ينازعونهم فيه، ولا يمكنهم إقامة دليل عليه. فهذا الذي سموه ممكناً هو قديم أزلي ضروري الوجود، ومثل هذا لا يدل على واجب بنفسه، وهو أيضاً ليس بثابت، فلم يثبتوا هذا الممكن، ولم يثبتوا الواجب الذي يستدل عليه بهذا الممكن، فلم يثبتوا ما ادعوه من الممكن، ولا ما ادعوه من الواجب. قال ابن رشد: (وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري، لم يلزم من ذلك إلا أن ما له علة فله علة) . قلت: وذلك لأنه إذا قسم الوجود إلى ما له علة، وما لا علة له، وسمى هذا الأول ممكناً، ثم قسم هذا الممكن إلى: الممكن الحقيقة - وهو الحادث - وإلى الضروري - وهو القديم المعلول - لم يلزم من ذلك إلا إثبات قديم معلول، وهو أن هذا الضروري الذي له علة، هو ضروري له علة. وهذا إذا قدر أنه أثبت هذا القسم. وحينئذ فيكون قد أثبت ضرورياً واجب الوجود معلولاً. قال: وإذا أمكن أن يكون الضروري الواجب الوجود معلولاً لعلة، أمكن أيضاً أن تكون تلك العلة، وإن كانت ضرورية واجبة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 177 الوجوب معلولة لعلة أخرى وهلم جراً، ولم يكن على هذا التقدير معنا ما يدل على امتناع هذا التسلسل، لأن مضمونه إثبات أمور واجبتة ضرورة كل منها له علة، والجملة كلها واجبة ضرورة، مع كونها وكون كل منها معلولاً، وهو الممكن بهذا الاصطلاح المتأخر، إذا الممكن عندهم يكون ضرورياً واجب الوجود ممتنع العدم - مع كونه معلولاً لغيره. فلا يمتنع على هذا التقدير وجود علل ومعلولات كل منها واجب ضروري، ويسمى ممكناً باعتبار أنه معلول، وإن كان ضرورياً واجب الوجود، لا باعتبار أنه محدث مفتقر إلى فاعل. كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية وحقيقة الأمر أنهم قدروا أموراً متسلسلة، كل منها واجب الوجود ضروري يمتنع عدمه، وكل منها معلول، وسموه باعتبار ذلك ممكناً، وقالوا: إنه يقبل الوجود والعدم. وحينئذ فلا يمكنهم إثبات افتقار واحد منها إلى علة، فضلاً عن افتقارها كلها، لأن التقدير أنها جميعها ضرورية الوجود لا تقبل العدم، ومثل هذا يعقل افتقاره إلى فاعل، ويعود الأمر إلى الممكن الذي أثبتوه، وهو الضروري الواجب الوجود القديم الأزلي: هل يفتقر إلى فاعل ومرجح يرجح وجوده على عدمه؟ وقد عرف أنه ليس لهم على ذلك دليل، بل جميع العقلاء يقولون: إن هذا لا يفتقر إلى فاعل. ولهذا لما بنوا إثبات واجب الوجود على إثبات هذا الممكن - كما فعله ابن سينا والرازي والآمدي وغيرهم - لم يمكنهم إقامة دليل على أن هذا الممكن - بهذا التفسير - يفتقر إلى فاعل، وورد على هذا الممكن من الأسولة ما لم يمكنهم الجواب عنه، كما قد ذكر بعض ذلك في غير هذا الموضع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 178 وقد ذكر بعض ذلك الرازي في الأربعين ونهاية العقول والمطالب العالية والمحصل وغير ذلك من كتبه. وهؤلاء قسموا الوجود إلى واجب وممكن، وعنوا بالممكن ما له علة، وأدخلوا في الممكن القديم الأزلي الضروري الواجب الذي يمتنع عدمه، فيلزمهم بيان أن هذا الممكن لا بد له من واجب، فلم يثبتوا ذلك إلا بأن المحدث يفتقر إلى فاعل. هذا حق، لكنه يدل على إثبات قديم أزلي، لا يدل على أن القديم الأزلي ينقسم إلى واجب وممكن كما ادعوه. ولما لم يثبتوا هذا الممكن، والواجب لا يثبت إلا بثبوته، لم يثبتوا لا واجباً ولا ممكناً، ولا عرف انقسام الوجود إلى واجب وممكن على اصطلاحهم، بل غايتهم ثبوت الواجب على التقديرين. وإن لم يثبت الممكن، فإنه إن كان الممكن ثباتاً فقد ثبت الواجب، وإن لم يكن ثابتاً فقد بقي القسم الآخر، وهو الواجب، لأنه لا واسطة بين النفي والإثبات. ونحن قلنا: الموجود: إما أن يكون له علة، وإما أن يكون لا علة له، والمعلول لا بد له من علة، فلزم ثبوت ما لا علة له على التقديرين وهو المطلوب. قيل لهم: هذا لا ينفعكم لوجهين: احدهما: أنكم لم تثبتوا وجوداً لا علة له، ومجرد التقسيم لا يدل عليه، بل جوزتم أن يكون موجود قديم أزلي معلول. وعلى هذا التقدير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 فيجوز وجود علل ومعلولات لا تتناهى، فلا يثبت لكم وجود لا علة له. الثاني: أن يقال: هذا غايته أن يدل على ثبوت وجود واجب. فمن قال: الوجود كله واحد، وهو واجب لا ينقسم إلى واجب وممكن، ولا قديم ومحدث، فقد وفى بموجب دليلكم، وهذا مما يبين به غاية كلام هؤلاء. ولما كان هذا منتهى كلامهم، صار السالكون لطريقهم نوعين: نوعاً يقول: لم يثبت واجب الوجود لإمكان علل ومعلولات لا تتناهى، ويوردون على إبطال التسلسل ما يقولون: لا جواب عنه، كالآمدي وغيره. ونوعاً يقول: الوجود كله واجب: قديمه ومحدثه، وليس في الوجود موجودان: أحدهما قديم، والآخر محدث، وأحدهما واجب والآخر ممكن، بل عني وجود المحدث الممكن هو عين وجود الواجب القديم، كما يقوله ابن عربي وأتباعه، كابن سبعين والقونوي. فيتدبر من هداه الله هذا التناقض العظيم، الذي أفضى إليه هذا الطريق الفاسد، الذي سلكه ابن سينا وأتباعه، في إثبات واجب الوجود. فنظارهم يعترفون بأنه لم يقم دليل على إثبات وجود واجب، بل ولا على ممكن بالمعنى الذي قدره. ومعلوم أن هذا في غاية السفسطة، فإن انقسام الموجود إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 180 واجب: هو قديم أزلي، وإلى ممكن: هو محدث وجد بعد أن لم يوجد، معلوم بالضرورة بجميع العقلاء وعوامهم. وصوفيتهم يقولون: الوجود الواجب القديم الأزلي هو عين الوجود المحدث ليس هنا وجودان: أحدهما واجب قديم، والآخر ممكن محدث، فهؤلاء يجمعون بين النقيضين، حين يجعلون الوجود الواحد قديماً حادثاً ممكناً، معلولاً مفعولاً واجباً، وغير مفعول ولا معلول. وأولئك لم يثبت عندهم أحد النقيضين، بل يشكون في رفع النقيضين، فلم يثبت عندهم وجود واجب، بل ولا ممكن بالمعنى الذي قرره. ومعلوم أن الموجود مشهود، وأنه إما ممكن وإما واجب، فمن رفع النوعين أو شك في ثبوتهما، أوثبوتا أحدهما، فهو في غاية السفسطة، كما أن من لم يثبتهما، بل جعل الجميع واجباً بنفسه قديماً أزلياً، وأنكر وجود الحوادث، فهو في غاية السفسطة. والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر. وإنما المقصود هنا ذكر ما ذكره ابن رشد، فإنه مع تعظيمه للفلاسفة، وغلوه في تعظيمهم، وقوله: إنهم وقفوا على أسرار العلوم الإلهية، قد تفطن لفساد ما ذكره أفضل متأخريهم وأتباعه، وهو عند التحقيق خير مما ذكره أرسطو وأتباعه، فإذا كان هذا فساداً فذاك بطريق الأولى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 181 وقد تبين ما ذكره ابن رشد حيث قال: (وإن فهمنا من الممكن ما له علة وهو ضروري، لم يلزم عن ذلك إلا أن ما له علة، وأمكن أن نضع أن تلك لها علة، وأن نمر ذلك إلى غير نهاية، فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا علة له، وهو الذي يعنونه بواجب الوجود، إلا أن يفهم من الممكن، الذي وضعه بإزاء ما لا علة له، الممكن الحقيقي، فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية) . قال ابن رشد: إنه إذا أريد بالممكن ما يعقل العقلاء أنه ممكن، وهو المحدث بعد أن لم يكن، الذي يكون أن يكون موجوداً تارة ومعدوماً تارة أخرى، فإن هذا هو الممكن الحقيقي، فإذا أريد بالممكن هذا، وقيل: الوجود ينقسم إلى ممكن وغير ممكن، والممكن ما له علة، وهو الممكن الحقيقي وهو الحادث، كان حقيقة الكلام: أنه ينقسم إلى قديم وحادث، كما قاله المتكلمون. وحينئذ فهذه الممكنات - التي هي المحدثات - هي التي يستحيل فيها وجود علل لا تتناهى، فإن المحدث يعلم بالضرورة أنه لا بد له من محدث، فإذا قدرنا وجود ما لاينتاهى من المحدثات، كان كل منها لا بد له من محدث، وكان مجموع المحدثات أعظم افتقاراً إلى محدث، فإنه كلما كثرت المحدثات كان افتقارها إلى محدث لها أعظم من افتقر واحد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 منها، وتسلسل المحدثات إذا قدر إلى ما لايتناهى لا يخرجها عن كونها جميعها محدثة، وأن جيمعها مفتقر إلى محدث خارج عنها، والمحدث الخارج عن جميع المحدثات لا يكون إلا قديماً. وعلى هذا التقدير فليس فيها معلول قديم أزلي، ولا معلول ضروري، كما قدره أولئك، حيث قدروا عللاً ومعلولات لا تتناهى، كل منها محدث وكل منها ممكن، مع أن الممكن قد يكون ضرورياً ممتنع العدم واجب الوجود، فكانوا محتاجين إلى بيان أن الضروري الوجود القديم الأزلي يكون معلولاً، حتى يكون المجموع من ذلك معلولاً، وهذا ممتنع عليهم، حيث جمعوا بين النقيضين. قال ابن رشد: (وأما إن عنى بالممكن ما له علته من الأشياء الضرورية فلم يتبين بعد أن ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين من الموجودات الممكنة بالحقيقة، ولا تبين بعد أن ها هنا ضرورياً يحتاج إلى علة، فيجب عن وضع هذا أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة، إلى تبين أن الأمر في الجملة الضرورية - التي من علة معلول - كالأمر في الجملة الممكنة) . قلت: فابن رشد ذكر أولاً أن الممكن، إن فهمنا منه: الممكن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 183 الحقيقي وهو المحدث، فقد تبين فساد كلامهم على هذا التقدير. وإن عني بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية - كما يقوله ابن سينا وأتباعه: إن الأفلاك ضرورية واجبة الوجود، يمتنع عدمها أزلاً وأبداً، ويقول مع ذلك: إنها ممكنة، يمعنى أنها معلولة - قال ابن رشد: فلا يمكن إثبات واجب الوجود على هذا التقدير، كما لا يمكنهم إثباته بطريقتهم على التقدير الأول. وذلك أن مقدمة الدليل لا بد أن تكون معلولة قبل النتيجة، فيستدل على ما لا يعلم بما يعلم، ويستدل بالبين على الخفي. وحينئذ فما ذكروه فاسد من وجهين: أحدهما: أنه لم يتبين بعد أنه يستحيل وجود التسلسل في هذه الممكنات بالوجه الذي تبين في الممكنات الحقيقية. وهي المحدثات. ودليلهم في إثبات واجب الوجود موقوف على إبطال التسلسل، وإبطال التسلسل إنما يمكن في المحدثات، لا في الأمور الضرورية التي لا تقبل العدم، إذا قدر تسلسلها. الوجه الثاني: قال: (ولا تبين بعد أن ها هنا ضرورياً يحتاج إلى علة، فيجب عن وضع هذا، إي عن تقدير هذا، أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة، إلى أن تبين أن الأمر في الجملة الضرورية، التي من علة ومعلول، كالأمر في الجملة الممكنة) . ومعنى كلامه: أن مقدمة الدليل يجب أن تكون معلومة قبل النتيجة، فإذا كانوا يثبتون واجب الوجود بما جعلوه ممكناً، وإن كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 ضرورياً واجب الوجود، لكنه واجب بغيره، فيجب أولاً أن يثبتوا أن هاهنا ضرورياً يحتاج إلى علة، وهو الواجب بغيره، الذي قالوا: إنه واجب أزلاً وأبداً ضروري الوجود، لكنه واجب بغيره لا بنفسه، فلهذا سموه ممكناً. قال: (ولم يبين بعد أن ها هنا ضرورياً يحتاج إلى علة، حتى يلزم عن تقدير ذلك أن يكون هنا ضرورياً بغير علة، وهو الواجب بنفسه، ولو بين هذا أولاً كان يحتاج بعد ذلك أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية، التي من علة ومعلول، كالأمر في الجملة الممكنة) . يقول: تبين أولاً أنه يمكن أن يكون ضروري الوجود واجب الوجود أزلاً وأبداً، وهو مع ذلك معلول غيره. لقيل: هذا يدل على ضروري آخر يكون واجب الوجود ويكون علة له، وحينئذ فنحتاج أن نقول: إنه يمتنع وجود علل ومعلولات، كل منها ضروري واجب الوجود قديم يمتنع عدمه أزلاً وأبداً، فيكون التسلسل فيها باطلاً، كما كان التسلسل باطلاً في الممكن الحقيقي، وهو المحدث. فإنه قد علم بالعقل واتفاق العقلاء أنه يمتنع وجود محدثات متسلسة، كل منها محدث الآخر، ليس فيها قديم، فلو ثبت إمكان معلول قديم أزلي، لوجب بعد هذا أن ينظر في امتناع التسلسل، وقد تقدم أن التسلسل في ذلك على هذا التقدير لا يمكن إقامة الدليل على امتناعه، فيكيف إذا لم يثبت الأصل الذي بنوا عليه كلامهم؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 185 وهذا الأصل الذي بنوا عليه كلامهم - وهو أن الممكن قد يكون قديماً أزلياً ضرورياً واجباً بغيره، وأن الواجب الضروري القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه أزلاً وأبداً، ينقسم إلى واجب بنفسه وإلى ممكن بنفسه واجب بغيره - هو مما ابتدعه ابن سينا، وخالف فيه عامة العقلاء من سلفه ومن غيره سلفه. وقد صرح أرسطو وسائر الفلاسفة أن الممكن، الذي يمكن وجوده وعدمه، لا يكون إلامحدثاً، وأن الدائم القديم الأزلي لايكون إلا ضرورياً، لا يكون محدثاً. وابن سينا وأتباعه وافقوهم على ذلك، كما ذكروا ذلك في المنطق في غير موضع، كما قد ذكرت ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع، من كتابه المسمى بالشفاء وغيره. لكن ابن سينا وأتباعه تناقضوا بسبب أنهم لما وجدوا المتكلمين قد قسموا الموجود إلى واجب وممكن، والممكن عندهم هو الحادث، سلكوا سبيلهم في هذا التقسيم، وأدخلوا في الممكن ما هو قديم أزلي، ونسوا ما ذكروه في غير هذا الموضع: من أن الممكن لا يكون إلا محدثاً. وكان ما ذكره هؤلاء، وسائر العقلاء، دليلاً على أن ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن، لما ثبت أنه ليس واجب الوجود موجوداً بنفسه إلى الله وحده، وأن كان ما سواه مفتقر إليه. وكان ما ذكره أرسطو وسائر العقلاء مبطلاً لما ذكره ابن سينا وأتباعه في الممكن وتناقضوا فيه، وكان ما ذكره ابن سينا وأتباعه من العقلاء في الواجب بنفسه مبطلاً لما ذكره أرسطو وأتباعه، وابن رشد أيضاً، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 186 من أن الفلك ضروري الوجود واجب الوجود لا يقبل العدم، فإنه محتاج إلى غيره، وهم يسلمون أنه محتاج إلى الأول، لأنه لا قوام له إلا بحركته، ولا قوام لحركته إلا بالأول، فكان لا وجود له إلا بالأول، فامتنع أن يكون وجوده بنفسه، بل كان معلولاً بغيره، وما كان معلولاً بغيره لم بكن موجوداً بنفسه، بل كان ذلك الأول علة في وجوده، وما كان له علة في وجوده ثابتة عنه، علم بصريح العقل أنه ليس موجوداً بنفسه، فلا يكون واجباً بنفسه، وما لم يكن واجباً بنفسه كان ممكناً، وكان محدثاً، كما قد بسط في مواضع. إذا المقصود هنا ذكر كلام ابن رشد، وابن رشد يقول: إن لفظ الممكن في اصطلاح الفلاسفة ليس هو لفظ الممكن في اصطلاح ابن سينا وأتباعه، وما كان أزلياً واجباً بغيره دائماً - بحيث لا يقبل العدم - لا يسمى ممكناً، بل الممكن ما كان معدوماً يقبل الوجود، وأما ما لم يزل واجباً يغره فليس هو بممكن. وقد ذكر هذا في غير موضع من كتابه، وذكر أن ما ذكره ابن سينا خروج عن طريقة الفلاسفة القدماء، وأن طريقه التي أثبت به الجزء: 8 ¦ الصفحة: 187 واجب الوجود، بناءً على هذا الأصل، إنما هو إقناعي لا برهاني، كقوله في الكلام في مسألة الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. (وما وضع في هذا القول من أن كل معلول فهو ممكن الوجود، فإن هذا إنما هو صادق في المعلول المركب، وليس يمكن أن يوجد شيء مركب وهو أزلي، فكل ممكن الوجود عند الفلاسفة فهو محدث) . قال: (وهذا شيء قد صرح به أرسطاطاليس في غير ما موضع من كتبه) . قال: (وأما هذا الذي يسميه ابن سينا ممكن الوجود، فهذا والممكن الوجود مقول باشتراك الاسم وكذلك ليس كونه محتاج إلى الفاعل ظاهراً من الجهة التي منها تظهر حاجة الممكن) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 188 قلت: وهذا الذي حكاه عنهم: من أن الممكن عندهم لا يكون إلا محدثاً مركباً قد ذكره في غير موضع، وذكر عنهم أن الأفلاك عندهم ليست مركبة من المادة والصورة، كالأجسام العنصرية والمولدات، وأن القول بأن كل جسم مركب من المادة والصورة إنما هو قول ابن سينا دون القدماء، وكذلك ذكر عنهم أن القول بأن الأول صدر عنه عقل، ثم عن العقل عقل ونفس وفلك، وهلم جراً إلى العقل الفعال ليس هو قول القدماء، بل هو قول ابن سينا وأمثاله. وكذلك ذكر فيما ذكره ابن سينا وأتباعه في الوحي والمنامات: أن سببها كون النفس الفلكية عالمة بحوادث العالم، فإذا اتصلت بها نفوس البشر فاض عليها العلم منها، ذكر أنه ليس قول القدماء، بل هو قول ابن سينا وأمثاله، وهو مع هذا فالذي يذكر عن القدماء وطرقهم، هو أضعف من قول ابن سينا بكثير. وعامة ما يذكر في واجب الوجود أن يكون شرطاً في وجود غيره، وأما كونه علة تامة لغيره ورباً ومبدعاً، كما يقوله ابن سينا وأمثاله، فهذا لا يوجد تقريره فيما ذكره عن الأوائل، فإذا كانت طريقة ابن سينا يلزمها أن تكون الحوادث حدثت بغير محدث، فطريقة أولئك تستلزم أن تكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 189 الممكنات وجدت بغير واجب، أو أن يكون كل من الواجبين بأنفسهما لا يتم وجوده إلا بالآخر، إلى غير ذلك مما في كلامهم من الفساد. والمقصود هنا أن نبين أن خيار ما يوجد في كلام ابن سينا فإنما تلقاه عن مبتدعة متكلمة أهل الاسلام، مع ما فيهم من البدعة والتقصير. ولما أورد عليهم الغزالي في قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. وعدة أدلة بين بها فساد قولهم، قال ابن رشد: (إذا اعتقدت الفلاسفة أن في المعلول الأول كثرة، لزمهم ضرورة أن يقال لهم: من أين كان في المعلول الأول كثرة؟ وكما يقولون: إن الواحد لا يصدر عنه كثير، كذلك يلزمهم أن الكثير لا يصدر عن الواحد، فقولهم: إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، يناقض قولهم: إن الذي صدر عن الواحد الأول شيء فيه كثرة، إلا أن يقولوا: إن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 190 الكثرة في المعلول الأول كل واحد منها أول، فيلزمهم أن تكون الأوائل كثيرة) . قال: (والعجب كل العجب كيف خفي هذا على أبي نصر وابن سينا؟ لأنهما أول من قال هذه الخرافات، فقلدهما الناس، ونسبوا هذا القول إلى الفلاسفة، لأنهم إذا قالوا: إن الكثرة التي في المبدأ الثاني إنما الثاني إنما هي مما يعقل من ذاته ومما يعقل من غيره، لزم عندهم أن تكون ذاته ذات طبيعتين: أعني صورتين. فليت شعري أيتهما الصادرة عن المبدأ الأول، وأيتهما التي ليست الصادرة؟) . قال: وكذلك إذا قالوا فيه: إنه ممكن من ذاته واجب من غيره، لأن الطبيعة الممكنة يلزم ضرورة أن تكون غير الطبيعة الواجبة التي استفادها من واجب الوجود، فإن الطبيعة الممكنة ليس يمكن أن تعود الجزء: 8 ¦ الصفحة: 191 واجبة، إلا لو أمكن أن تنقلب طبيعة الممكن ضرورياً، وكذلك ليس في الطبائع الضرورة إمكان أصلاً، كانت الضرورة بذاتها أو بغيرها) . قال: (وهذه كلها خرافات وأقاويل أضعف من أقاويل المتكلمين، وهي كلها أمور دخيلة في الفلسفة، ليست جارية على أصولهم، وكلها أقاويل ليست تبلغ مرتبة الإقناع الخطبي، فضلاً عن الجدلي ولذلك يحق ما يقول أبو حامد في غير موضع من كتبه: إن علومهم الإلهية ظنية) . وقال أيضاً لما أراد أن يقرر قول أرسطو: إن كل حادث فهو مسبوق بإمكان العدم، والإمكان لا بد له من محل، وقد رد ذلك أبو حامد بأن الإمكان الذي ذكروه يرجع إلى قضاء العقل، فكل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 192 ما قدر العقل وجوده فلم يمتنع تقديره، سميناه واجباً، فهذه قضايا عقلية لا تحتاج إلى موجود حتى نجعل وصفاً له، لأن الإمكان كالامتناع، وليس للامتناع محل في الخارج، ولأن السواد والبياض يقضي العقل فيهما قبل وجودهما بكونهما ممكنين. فقال ابن رشد: (هذه مغلطة، فإن الممكن يقال على القابل وعلى المقبول، والذي يقال على الموضوع القابل يقابله الممتنع، والذي يقال على المقبول بقابله الضروري، والذي يتصف بالإمكان الذي يقاله الممتنع، ليس هو الذي يخرج من الإمكان إلى الفعل، من جهة ما يخرج إلى الفعل، لأنه إذا خرج ارتفع عنه الإمكان، وإنما يتصف بالإمكان من جهة ما هو بالقوة، والحامل لهذا الإمكان هو الموضوع الذي ينتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، وذلك بين من حد الممكن، فإن الممكن هو المعدوم الذي يتهيأ أن يوجد وأن لا يوجد، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 193 وهذا المعدوم الممكن ليس هو ممكناً من جهة ما هو معلوم، ولامن جهة ما هو موجود بالفعل، وإنما هو ممكن من جهة ما هو بالقوة. ولذلك قالت المعتزلة: إن المعدوم ذات ما، وذلك أن العدم يضاد الوجود، وكل واحد منهما يخلف صاحبه، فإذا ارتفع عدم شيء ما خلفه وجوده، وإذا ارتفع وجوده خلفه عدمه. ولما كان نفس العدم ليس يمكن فيه أن ينقلب وجوداً، ولا نفس الوجود أن ينقلب عدماً، وجب أن يكون القابل لهما شيئاً ثالثاً غيرهما، وهو الذي يتصف بالإمكان والتكون والانتقال من صفة العدم إلى صفة الوجود، فإن العدم لا يتصف بالتكون والتغير، ولا الشيء الكائن بالفعل يتصف أيضاً) وبسط الكلام في هذا. وقال أيضاً في دليلهم المشهور على قدم العالم، وهو قولهم: (يستحيل صدور حادث من قديم مطلق، لأنا إذا فرضنا القديم ولم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 194 يصدر منه العالم مثلاً، فإنما لم يصدر لأنه لم يكن للوجود مرجح، بل كان وجود العالم ممكناً عنه إمكاناً صرفاً، فإذا حدث لم يخل: إما أن يتجدد مرجح أو لا يتجدد، فإن لم يتجدد مرجح بقي العالم على الإمكان الصرف كما كان قبل ذلك، فإن تجدد مرجح انتقل الكلام إلى ذلك المرجح: لم رجح الآن ولم يرجح قبل؟ فإما أن يمر إلى غير نهاية، أو ينتهي الأمر فيها إلى مرجح لم يزل مرجحاً) . كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية قال ابن رشد: (هذا القول هو قول في أعلى مراتب الجدل، وليس هو واصلاً موصل البراهين، لأن مقدماته هي عامة، والعامة قريبة من المشتركة، ومقدمات البراهين هي من الأمور الجوهرية المناسة، وذلك أن الممكن يقال اشتراك على الممكن الأكثري، الممكن الأقلي، والذي على التساوي، وليس ظهور الحاجة فيها إلى مرجح على التساوي، وذلك أن الممكن الأكثري قد يظن به أن يترجح من ذاته، لا من مرجح خارج عنه، بخلاف الممكن على التساوي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 195 والإمكان أيضاً منه ما هو من الفاعل، وهو إمكان الفعل، ومنه ما هو من المنفعل، وهو إمكان القبول، وليس ظهور الحاجة فيهما إلى المرجح على السواء. وذلك أن الإمكان الذي في المنفعل مشهور حاجته إلى المرجح من خارج، لأنه يدرك حساً في الأمور الصناعية وكثير من الأمور الطبيعية، وقد يلحق فيه شك في الأمور الطبيعية، لأن أكثر الأمور الطبيعة مبدأ تغيرها منها، ولذلك يظن في كثير منها أن المحرك هو المتحرك هو المتحرك، وأنه ليس معروفاً بنفسه: أن كل متحرك فله محرك، وأنه ليس ها هنا شيء يحرك ذاته. فإن هذا كله يحتاج إلي بيان، فلذلك فحص عنه القدماء. وإما الإمكان الذي في الفاعل، فقد يظن في كثير منها أنه لا يحتاج في خروجه إلى الفعل إلى مرجح من خارج، لأن انتقال الفاعل من أن لا يفعل إلى أن يفعل، قد يظن بكثير منه أنه ليس تغيراً يحتاج إلى مغير، مثل انتقال المهندس من أن لا يهندس إلى أن يهندس، وانتقال المعلم من أن لا يعلم إلى أن يعلم) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 196 قال: (والتغير أيضاً الذي يقال إنه يحتاج إلى مغير: منها ما هو في الجوهر، ومنه ما هو في الكيف، ومنه ما هو في الكم، ومنه ما هو في الأين. والقديم أيضاً: يقال على ما هو قديم بذاته، وقديم بغيره عند كثير من الناس، والتغيرات منها ما يجوز عند قوم على القديم، مثل جواز كون الإرادة الحادثة على القديم عند الكرامية، وجواز الكون والفساد على المادة الأول عند القدماء وهي قديمة. وكذلك المعقولات: على العقل الذي بالقوة، ووهو قديم عند أكثرهم ومنها ما لا يجوز، وبخاصة عند بعض القدماء دون بعض) . قال: (وكذلك الفاعل أيضاً: منه ما يفعل بإرادة، ومنه ما يفعل بطبيعة. وليس الأمر في كيفية صدور الفعل الممكن الصدور عنهما واحداً: أعني في الحاجة إلى المرجح، وهل هذه القسمة في الفاعل حاصرة أويؤدي البرهان إلى فاعل لايشبه الفاعلين بالطبيعة، ولا الذي بالإرادة التي في الشاهد) ؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 197 قال: (وهذه كلها مسائل كثيرة عظيمة يحتاج كل واحد منها إلى أن يفرد بالفحص عنها وعما قاله القدماء فيها. وأخذ المسألة الواحدة بدل المسائل الكثيرة هو موضع مشهور من مواضع السفسطائيين، والغلط في واحد من هذه المبادي، هو سبب لغلط عظيم آخر في الفحص عن الموجودات) . قلت: المقصود هنا أن بين اختلاف اصطلاحهم في مسمى الممكن، وأن الطريفة المشهورة عند المتأخرين في الفلسفة هي الطريفة المضافة إلى أفضل متأخريهم ابن سينا، والفارابي قبله. وهذا ابن رشد، مع عنايته التامة بكتب أرسطو والقدماء، واختصاره لكلامهم، وعنايته بالانتصار لهم والذب عنهم، يذكر أن كثيراً من ذلك إنما هو من قول هؤلاء المتأخرين، ليس هو من قول قدمائهم. ولما ذكر عن ابن سينا أنه استعمل لفظ الممكن في أعم مما هو عند الفلاسفة قال: إنه جعل المفهوم من لفظ الممكن ما له علة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 198 قال: وحينئذ فقول القائل: إن الموجود ينقسم إلى ما له علة، وإلى ما لا علة له، يحتاج إلى دليل. قال: ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري. فالضروري هو الذي لا يمكن عدمه، بل هو واجب دائماً بعلته، والممكن الحقيقي ما كان يمكن وجوده وعدمه، وهو ما كان معدوماً. وحينئذ فالممكن الحقيقي لا يكون إلا حادثاً، وذلك يستلزم وجود واجب وهو الضروري، ولكن لا يستلزم أنه لا علة له إلا بدليل منفصل. قال: وإذا جعلنا الممكن ما له علة، كان التقدير: أن ما له علة فله علة، ويمكن حينئذ تقدير ممكنات لا تنتهي. فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا علة له، وهو المسمى عندهم بواجب الوجود، إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له: الممكن الحقيقي، فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية، وأما إن عنى بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية، فلم يتبين بعد أن ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين في الموجودات الممكنة بالحقيقة، ولا تبين بعد أن ها هنا ضرورياً يحتاج إلى علة، حتى يقال: إنه لا بد أن ينتهي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 199 الأمر إلى ضروري بغير علة، إلى أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية، التي من علة ومعلول، كالأمر في الجملة، الممكنة. قلت: ولفظ الممكن إذا قيل فيه يمكن أن يوجد ويمكن لا يوجد، فهذا لا يكون إلا إذا كان معدوماً. كما ذكر ابن رشد أنه اصطلاح الفلاسفة، فإما كل ما يمتنع عدمه، فليس بممكن بهذا الاعتبار أن يكون ممكن الوجود والعدم. بل هذا واجب الوجود، سواء قيل: إنه واجب بنفسه. أو واجب بغيره، وإذا كان من هذا ما هو واجب بغيره أزلاً وأبداً، فكونه ممكناً يفتقر إلى دليل. فتقسيم الموجود إلى واجب وممكن، بهذا الاعتبار، لا بد له من دليل، كما ذكر ابن رشد. بخلاف المعدوم الذي يمكن وجوده، فهذا يعلم أنه ممكن. ولهذا كان ابن سينا ومن سلك طريقته محتاجين إلى إثبات كون الأفلاك ممكنة بنفسها، لا واجبة بنفسها. وهذا وإن كان حقاً، لكن دليلهم عليه في غاية الضعف، فإنه مبين على أن كل جسم ممكن، ودليلهم عليه ضعيف جداً، كما قد بين في غير هذا الموضع، وقد بين ضعفه أبو حامد، ووافقه ابن رشد مع عنايته بالرد عليه على ضعف هذه الطريق. والتحقيق أن هذا يسوغ تسميته ممكناً في اللغة، باعتبار أنه بنفسه لا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 200 يوجد. لكن ما كان كذلك لا يكون إلا محدثاً، فيسمى ممكناً باعتبار، ويسمى محدثاً باعتبار، والإمكان والحدوث متلازمان، وأما تسمية ما هو قديم أزلي يمتنع عدمه ممكناً يمكن وجوده وعدمه، فهذا لا يعرف في عقل ولا لغة. وإن قدر أنه حق فالنزاع هنا لفظي. لكن إذا عرفت الاصطلاحات زالت إشكالات كثيرة تولدت من الإجمال الذي في لفظ الممكن، كما قد بسط في غير هذا الموضع. واختلاف الاصطلاح في لفظ الممكن هنا غير اختلاف الاصطلاح في الممكن العام الذي هو قسيم الممتنع. والممكن الخاص الذي هو قسيم الواجب الممتنع، بل نفس الممكن الخاص على هذا الاصطلاح المذكور عن القدماء إنما هو في المحدث الذي يمكن وجوده وعدمه. وأما ما يقدر واجباً بغيره دائماً، فذاك لا يسمى ممكناً بهذا الاصطلاح. وأما على اصطلاح ابن سينا وأتباعه، وهو كون الممكن ما له علة. قال ابن رشد: فما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري. فالضروري هو الذي لا يمكن عدمه، بل هو واجب دائماً بعلة، وهذا مما يقوله الفلاسفة في الأفلاك والممكن الحقيقة هو الحادث. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 201 قال: وذلك يسلتزم وجود واجب وهو ضروري، ولكن لا يستلزم أنه لا علة له إلا بدليل منفصل. وهذا الذي قاله ابن رشد بناء على أن افتقار المحدث إلى المحدث أمر ضروري، كما هو قول الجمهور. فإذا كان المراد بالممكن الحقيقي هو الحادث، فلا بد له من فاعل ليس بحادث، وهو الضروري في اصطلح عامة العقلاء، فإن كل قديم هو ضروري عند عامة العقلاء، وكل ممكن الإمكان الخاص هو محدث عندهم، ثم بعد هذا كونه لا علة له. والعلم بامتناع التسلسل في مثل هذا: بأن يكون للمحدث محدث إلى غير نهاية، ممتنع عند جميع العقلاء. وقد بين ذلك في موضعه. وأما كون الممكن، الذي هو قديم أزلي ضروري الوجود، هو معلول لغيره، فهذا ليس يبين أيضاً امتناع التسلسل فيه على هذا التقدير كما تقدم، وعلى هذا التقدير فيمكن تقرير ما ذكره الغزالي من أن ما قالوه في امتناع التسلسل باطل على أصولهم، فإن كل ممكن إذا قدر أنه معلول، مع كونه واجباً قديماً أزلياً، فالقول في علته كقول فيه، فإذا قدر علل ومعلولات، كل منها واجب قديم أزلي لا نهاية لها، لم يظهر امتناع هذا على هذا التقدير، ولم يظهر افتقار مجموعها إلى واجب خارج عنها، إذ كان كل منها واجب له علة. فإذا قيل: المجموع لا علة له، لم يظهر امتناع ذلك، كما يظهر امتناعه في المحدثات، ولكن كونه له الجزء: 8 ¦ الصفحة: 202 علة أو لا علة له يفتقر إلى دليل آخر. وقد تكلم ابن رشد على القول المنسوب إلى الفلاسفة في كتب ابن سينا في صدرو العالم عن الله، وأنه صدر عن عقل، ثم عن العقل عقل ونفس وفلك، إلى العقل العاشر، كما هو معرف من مذهبهم وتقريره. قال ابن رشد لما حكاه أبو حامد عنهم: (وهذا كله تخرص على الفلاسفة من ابن سينا وأبي نصر وغيرهما، ومذهب القوم القديم هو أنه ها هنا مبادىء هي الأجرام السماوية، ومبادىء الموجودات السماوية، موجودات مفارقة للمواد، هي المحركة للأجرام السماوية، والأجرام السماوية تتحرك إليها على جهة الطاعة لها، والمحبة فيها، والامتثال لأمرها إياها بالحركة والفهم عنها، وأنها إنما خلقت من أجل الحركة. وذلك أنه لما صح أن المبادىء التي تحرك الأجسام السماوية هي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 203 مفارقة للمواد، وأنها ليست بأجسام، لم يبق وجه به تحرك الأجسام، ما هذا شأنه إلا من جهة أن المحرك أمر بالحركة، ولذلك لزم عندهم أن تكون الأجسام السماوية حية ناطقة تعقل ذواتها وتعقل مباديها المحركة لها على جهة الأمر لها، ولما تقرر أنه لا فرق بين العلم والمعلول، إلا أن المعلوم في مادة، والعلم ليس في مادة، وذلك في كتاب النفس فإذا وجدت موجودات ليست في مادة، وجب أن يكون جوهرها علماً، أو عقلاً، أو كيف شئت أن تسميها، وصح عندهم أن هذه المبادىء مفارقة للمواد، من قبل أنها التي أفادت الأجرام السماوية الحركة الدائمة، التي لا يلحقها فيها كلال ولا تعب، وإن كل ما يفيد حركة دائمة بهذه الصفة فإنه ليس جسماً ولا قوة في جسم، وأن الجسم السماوي إنما استفاد البقاء من قبل المفارقات، وصح عندهم أن هذه المبادىء المفارقة وجودها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 204 مرتبط بمبدأ أول فيها، ولولا ذلك لم يكن هنا نظام موجود، وأقاويلهم مسطورة في ذلك. فينبغي لمن أراد معرفة الحق أن يقف عليها من عنده. وما يظهر أيضاً من كون جميع الأفلاك تتحرك الحركة اليومية، مع أنها تتحرك بها الحركات التي تخصها، مما صح عندهم أن الآمر بهذه الحركة هو المبدأ الأول، وهو الله سبحانه وتعالى، وأنه أمر ساير المبادىء أن تأمر ساير الأفلاك بساير الحركات، وأن بهذا الأمر قامت السماوات والأرض، كما أن بأمر الملك الأول في المدينة قامت جميع الأوامر الصادرة ممن جعل الملك له ولاية أمر من الأمور من المدينة إلى جميع من فيها من أصناف الناس. كما قال سبحانه: {وأوحى في كل سماء أمرها} ، وهذا التكليف والطاعة هي الأصل في التكليف والطاعة التي وجبت على الإنسان لكونه حيواناً ناطقاً) . قال: (وأما ما حكاه ابن سينا من صدور هذه المبادىء بعضها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 205 عن بعض، فهو شيء لا يعرفه القوم، وإنما الذي عندهم أن لها من المبدأ الأول مقامات معلومة، لا يتم لها وجود إلا بذلك المقام منه، كما قال تعالى: {وما منا إلا له مقام معلوم} ، وأن الارتباط الذي بينها هو الذي يوجب كونها معلولة بعضها عن بعض، وجميعها عن المبدأ الأول، وأنه ليس يفهم من الفاعل المفعول، والخالق والمخلوق، في ذلك الوجود، إلا هذا المعنى فقط، وما قلناه من ارتباط وجود كل موجود بالواحد، وذلك خلاف ما يفهم ها هنا من الفاعل والمفعول، والصانع والمصنوع. فلو تخيلت آمراً له مأمورون كثيرون، وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر، ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر، ولا وجود لم دون المأمورين إلا بالمأمورين، لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي صار به صارت موجودة، وأنه إن كان شيء وجوده في أنه مأمور، فلا وجود له إلا من قبل الآمر الأول، وهذا المعنى هو الذي ترى الفلاسفة أنه عبرت عنه الشرائع بالخلق والاختراع والتكليف) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 206 قال: (فهذا هو أقرب تعليم يمكن أن يفهم به مذهب هؤلاء القوم، من غير أن يلحق ذلك الشنعة التي تلحق من سمع مذاهب القوم، على التفصيل الذي ذكره أبو حامد ها هنا) . يعني ما ذكره ابن سينا. قال: (وهذا كله يزعمون أنه قد بين في كتبهم، فمن أمكن أن ينظر في كتبهم على الشروط التي ذكروها، فهو الذي يقف على صحة ما يدعون أو ضده) . قال: (وليس يفهم من مذهب أرسطاطاليس غير هذا، ولا من مذهب أفلاطون وهو منتهى ما وقفت عليه العقول الإنسانية. وقد يمكن الإنسان أن يقف على هذه المعاني من أقاويل عرض لها إن كانت مشهورة، مع أنها معقولة، وذلك أن ما شأنه هذا الشأن من التعليم، فهو لذيذ محبوب عند الجيمع) . قال: (وأحد المقامات التي يظهر منها هذا المعنى، هو أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 207 الإنسان إذا تأمل ما ها هنا، ظهر له أن الأشياء التي تسمى حية عالمة، هي الأشياء المتحركة من ذاتها بحركات محدودة، بجواهر وأفعال محدودة تتولد عنها أفعال محدودة. ولذلك قال المتكلمون: إن كل فعل فإنما يصدر عن حي عالم، فإذا حصل له هذا الأصل، وهو أن كل ما يتحرك حركات محدودة يلزم عنها أفعال محدودة منتظمة، فهو حيوان عالم. وأضاف إلى ذلك ما هو مشاهد بالحس، وهو أن السماوات تتحرك من ذاتها حركات محدودة، يلزم عند ذلك في الموجودات التي دونها أفعال محدودة. ونظام وترتيب به قوام ما دونها من الموجودات، تولد أصل ثالث لا شك فيه، وهو أن السماوات أجسام حية مدركة، فأما أن حركتها يلزم عنها أفعال محدودة، بها قوام ما ها هنا وحفظه، من الحيوان والنبات والجمادات، فذلك معروف بنفسه عند التأمل، فإنه لولا قرب الشمس وبعدها عن فلكها المائل، لم يكن ها هنا فصول أربعة، ولو لم يكن ها هنا فصول أربعة، لما كان نبات ولا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 208 حيوان، ولا جرى الكون علىنظام في كون الاستقصات بعضها من بعض على السواء لينحفظ بها الموجود مثال ذلك أنه إذا بعدت الشمس إلى جهة الجنوب برد الهواء في جهة الشمال، فكانت الأمطار، وكثر الاستقص المائل وكثر في جهة الجنوب تولد الاسطقس الهوائي، وفي الصيف بالعكس: أعني إذا صارت الشمس فوق سمت رؤوسنا، وهذه الأفعال التي تلفى للشمس من قبل القرب والبعد، الذي لها دائماً من موجود موجود، من المكان الواحد بعينه، تلفى للقمر ولجميع الكواكب، فإن لكلها أفلاكاً مائلة، وهي تفعل فصولاً أربعة في حركاتها الدورية. وأعظم من هذه كلها، في ضرورة وجود المخلوقات وحفظها، الحركة العظمى اليومية الفاعلة للليل والنهار. وقد نبه الكتاب العزيز على العناية بالإنسان لتسخير جميع السماوات له، في غير ما آية. مثل قوله سبحانه: {وسخر لكم الليل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 209 والنهار} الآية. فإذا تأمل الإنسان هذه الأفعال والتدبيرات اللازمة والمتقنة عن حركات الكواكب، ورأى الكواكب تتحرك هذه الحركات وهي ذوات أشكال محدودة، ومن وجهات محدودة، ونحو حركات محدودة، وحركات متضادة - علم أن هذه الأفعال المحدودة إنما هي عن موجودات مدركة حية، ذوات اختيار وإرادة، ويزيده إقناعاً في ذلك أن يرى أن كثيراً من الأجسام الصغيرة الحقيرة الخسيسة المظلمة الأجساد التي ها هنا، لم تعدم بالحياة بالجملة، على صغر أجرامها، وخساسة أقدارها، وقصر أعمارهما، وإظلام أجسادها، وأن الجود الإلهي أفاض عليها الحياة والإدراك، التي لها دبرت ذاتها، وحفظت وجودها - علم على القطع أن الأجسام السماوية أحرى أن تكون حية مدركة من هذه الأجسام، لعظم أجرامها، وشرف وجودها، وكثرة أنوارها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 210 كما قال سبحانه: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} الآية، وبخاصة إذا اعتبر تدبيرها الأجسام الحية التي ها هنا، علم على القطع أنها حية، فإن الحي لا يدبره إلى حي أكمل حياة منه، فإذا تأمل الإنسان هذه الأجسام العظيمة الحية، الناطقة المختارة المحيطة بنا، ونظر إلى أصل ثالث، وهو أن عنايتها بما ها هنا هي غير محتاجة إليها في وجودها، علم أنها مأمورة بهذه الحركات، ومسخرة لما دونها من الحيوانات والنباتات والجمادات، وأن الآمر لها غيرها، وهوغير جسم ضرورة، لأنه لو كان جسماً لكان واحداً منها، وكل واحد منها مسخر لما دونه ها هنا من الموجودات، وخادم لما ليس يحتاج إلى خدمته في وجود ذاته، وأنه لولا مكان هذا الآمر لها لما اعتنت بما ها هنا على الدوام والاتصال، لأنها مدبرة ولا منفعة لها، خاصة في هذا الفعل فإذن إنما تتحرك من قبل الأمر والتكليف للجرم المتوجه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 211 إليها لحفظ ما ها هنا وإقامة وجوده، والآمر هو الله تعالى. وهذا كله معنى قوله تعالى: {أتينا طائعين} . ) . قال: (ومثال هذا في الاستدلال: لو أن إنساناً رأى جمعاً عظيماً من اناس، ذوي نطق وفضل، مكبين على أفعال محدودة، لا يخلون بها طرفة عين، مع أن تلك الأفعال غير ضرورية في وجودهم، وهم غير محتاجين إليها - لأيقن على القطع أنهم مكلفون ومأمورون بتلك الأفعال، وأن لهم آمراً هو الذي أوجب لهم تلك الخدمة الدائمة، للعناية بغيرهم المستمرة، هو أعلى قدراً منهم، وأرفع مرتبة، وأنهم كالعبيد مسخرين له. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه الكتاب العزيز في قوله سبحانه: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} . وإذا اعتبر الإنسان أمراً آخر، وهو أن كل واحد من الكواكب السبعة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 212 له حركات خادمة لحركاته الكلية، ذوات أجسام تخدم جسمه الكلي، كأنها خدمة يعتنون بخادم واحد - علم أيضاً على القطع أن لجماعة كل كوكب منها آمراً خاصاً بهم، رقيباً عليهم، من قبل الآمر الأول مثل ما يعرض عند تدبير الجيوش: أن يكون منها جماعة جماعة، كل واحد منها تحت آمر واحد، وأولئك الآمرون، وهم المسمون العرفاء، يرجعون إلى أمير واحد، وهو أمير الجيش. كذلك الأمر في حركات الأجرام السماوية التي أدرك القدماء. من هذه الحركات - وهي نيف على الأربعين - ترجع كلها إلى سبعة آمرين، وترجع السبعة - أو الثمانية، على اختلاف بين القدماء في عدد الحركات - إلى الآمر الأول. وهذه المعرفة تحصل للإنسان بهذا الوجه، سواء علم كيف مبدأ خلقه هذه الأجسام - أعنى السماوية - أو لم يعلم، وكيف ارتباط وجود سائر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 213 الآمرين باللآمر الأول أو لم يعلم، فإنه لا شك أنها لو كانت موجودة من ذاتها، أعني قديمة من غير علة ولا موجد، لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر واحد لها بالتسخير وألا تطيعه، وكذلك حال الآمرين مع الآمر الأول. وإذا لم يجز ذلك عليها، فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة، وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها، لا فيعرض من اعراضها، كحال السيد مع عبيده، بل في نفس وجودها، فإنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات، بل تلك الذوات تقومت بالعبودية. وهذا هو معنى قوله تعالى: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} ، وهذا الملك هو ملكوت السماوات والأرض الذي أطلع الله إبراهيم عليه في قوله تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 214 من الموقنين} وأنت تعلم تأنه إذا كان الآمر هكذا، فإنه يجب ألا تكون خلقة هذه الأجسام ومبدأ كونها على نحو كون الأجسام التي ها هنا، وأن العقل الإنساني يقصر عن إدراك كيفية ذلك الفعل، وإن كان يعترف بالوجود، فمن رام أن يشبه الوجودين: أحدهما بالفاعل، وأن الفاعل لها فاعل بالنحو الذي توجد الفاعلات ها هنا، فهو شديد الغفلة، عظيم الزلة كثير الوهلة) . قال: (فهذا هو أقصى ما تفهم به مذاهب القدماء في الأجرام السماوية. وفي إثبات الخلق لها، وفي أنه ليس بجسم، وإثبات ما دونه من الموجودات التي ليست بأجسام، واحدها هي النفس) . قال: (وأما إثبات وجوده من كونها محدثة، على نحو حدوث الأجسام التي نشاهدها كما رام المتكلمون، فعسير جداً والمقدمات المستعلمة في غير ذلك غير مفضية بهم إلى ما قصدوا بيانه) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 215 قلت: فهذا الكلام لا ريب أنه إلى الكلام الذي نقله الناس عن أرسطو وأصحابه في إثبات واجب الوجود أقرب من كلام ابن سينا وأمثاله. بل هذا خير من الكلام المنقول عن أرسطو من وجوه متعددة، فإن المنقول عن أرسطو إنما فيه أنه جعل الأول محركاً لها، من حيث هو محبوب معشوق لها للتشبه به، يحركها تحريك المحبوب لمحبه، بل تحريك المتشبه به للمتشبه، كتحريك الإمام للمؤتم، فإن هذا أضعف من تحريك المحبوب لمحبه، كتحريك الطعام للآكل، ولمرأة للجماع. وأما هذا فقد جعله آمراً لها بالحركة، مسخراً لها بذلك، مكلفاً لها بذلك. لكن أرسطو أثبت قوله بأن الحركة الإرادية الشوقية لا بد فيها من عقل يتشبه به الفلك، كم يتشبه المؤتم بالإمام. كلام أرسطو عن الحركة الشوقية والمحرك الأول قال: والشيء المتشوق إليه علة لحركة المتحرك إليه بالشوق، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 216 والشيء المشتاق إليه معلول له من جهة تلك العلة، وفي تلك الحركة وحركة كل واحد من الأجسام، فتشتاق كلها وترتفع إلى محرك أول لا يتحرك. وهذا لم يذكر حجة على أن المبدأ الأول هو الآمر بالحركات، فإن كان قصد أن أمره لها بمعنى كونه متشبهاً به محبوباً لها كما ذكر أرسطو، فقد ذكر طريقة أرسطو بعينها، وقد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع، وبينا ما فيها من النقص والتقصير عن إثبات واجب الوجود، وأنها تدل على أن هؤلاء القوم من أبعد الخلق عن معرفة الله تعالى. نقد كلام ابن رشد عن الحركة الشوقية للسماوات وكذلك كلام هذا الرجل ليس فيه إثبات الصانع، كما ليس ذلك في كلام أرسطو. وفي باطل وتناقض من وجوه: (الوجه الأول) أنه جعل الحركة تاره لا قوام للسماوات إلا بها، كما ذكر ذلك أرسطو حيث قال: إنه لا وجود لها إلا في قبول الأمر وطاعة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 217 الآمر، يعني الحركة كما ذكر أرسطو، وجعلها تارة مستغنية عنها، ولكنها كلفت بها لأجل السفليات، وأن حال المكبين على أفعال لا يخلون منها طرفة عين، مع أن تلك الأفعال غير ضرورية في وجدهم، وهم غير محتاجين إليها. الوجه الثاني أن غاية ما في هذا أن يكون آمراً لها بالحركة، وليس في مجرد الأمر بالفعل ما يوجب أن يكون الفعل القائم بالفاعل من إبداع الآمر ومن خلقه، ولا أنه محتاج إلى الآمر في نفس إحداث الفعل، كما ذكره في أمر الملك لنوابه، وأمر القائد لجيشه. وأمر السيد لعبيده. الوجه الثالث أنه لم يذكر حجة على أنه لا قوام لها إلا بحركة التي أمرت بها، فمن أين يعلم أن قوام ذاتها بتلك الحركة؟. الوجه الرابع أنه لو قدر أنه أبدع الحركة التي قامت بها، وأنه لا قوام لها إلا بالحركة، فغاية ما في ذلك أن يكون ذلك شرطاً في قوامها، ويكون فاعلاً لشرط من شروط وجودها، ليس في هذا ما يقتضي أنه أبدع سائر أعراضها، ولا أبدع أعيانها. الوجه الخامس أن هذا مبني على إثبات عقول مفارقة وراء الأفلاك، وأن فيها عقلاً هو فوقها في الرتبة، والدليل الذي ذكره هذا، وابن سينا وغيرهما من الفلاسفة، في إثبات العقول، إنما يدل على إثبات عقول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 218 هي أعراض تفتقر إلى أعيان تقوم بها، من جنس العقل الموجود في نفوسنا، فأما إثبات عقول هي جواهر قائمة بنفسها، فلا دليل لهم على ذلك أصلاً. ولولا أن هذا ليس موضع بسط ذلك، لذكرت ألفاظهم بأعيانهم، ليتبين لك ما ذكرته. ولكن هؤلاء القوم يجعلون الأعراض جواهر، والجواهر أعراضاً، والصفة هي الموصوف، والموصوف هو الصفة. وعلى هذا بنوا كلامهم، كما صرحوا به في غير موضع. ومن هنا يظهر: الوجه السادس وهو أن هذا وأمثاله جعلوا نفس العلم هو العالم، وجعلوا نفس العلم هو جوهراً قائماً بنفسه واجب الوجود. وهذا من أعظم سفسطة في الوجود، وهو شر من كلام النصارى بكثير. وغاية ما ينتهي إليه ما يدعونه من المفارقات المجردات عن المادة، وهو العقول التي جعلولها مبادىء، أنها علوم كلية كالعلوم الكلية التي لنا. ومن المعلوم أن العلوم الكلية لا تقوم إلا بعالم، لكن هؤلاء غلطوا حيث أثبت قدماؤهم كأصحاب أفلاطون، كليات مجردة عن الأعيان، وهي المثل الأفلاطونية، وجعلوها أزلية أبدية، وإنما التغير والتحول في أعيانها فلما تبين لأرسطو وأتباعه فساد هذا أبطلوه، وقالوا: الكليات لا يكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 219 وجودها منفكة عن الأعيان. وهؤلاء ظنوا أيضاً أن الأعيان الموجودة تقارنها كليات مغايرة للأعيان وهو أيضاً غلط، فإن كل هذه الأمور الكلية إنما ثبتوها في الأذهان لا في الأعيان، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن العقول المفارقات التي أثبتوها هي من جنس هذه الكليات، ولهذا يصرحون بأن العلم هو العالم، حتى في واجب الوجود قالوا: إنه هو العلم، وإنه العالم، وأن العلم هو القدرة، فجعلوا نفس الذات الموصوفة هي الصفة، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، كما قد بسط في غير هذا الموضع. ثم إنهم أثبتوا واجب الوجود بطريق الحركة، وأنه لا بد لها من محرك والمحرك هو المحبوب عندهم، الذي يحب التشبه به لا تحب ذاته، لأن الحركة الإرادية لا بد له من ذلك، وادعوا أنه لا بد له من محرك لا يتحرك، وقدبين فساد هذا في غير هذا الموضع من هذا الكتاب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 220 وابن رشد قرر طريقتهم على غاية ما أمكنه من الحسن والبيان، وهي كما ترى غايتها أن تكون الأجسام المتحركة محتاجة إلى آمر يحركها، والمراد بأمره بالحركة: كونه محبوباً لها، أي تحب أن تتشبه به، لا أنها تحب ذاته، كما ذكره سلفه الفلاسفة الذين بين طريقهم، وشبهه بالملك الآمر لمن دونه من نابه في مملكته بأوامر، وكل واحد يأمر من دونه، وكلها ترجع إلى الآمر الأول. ومعلوم أن الآمر لم يبدع شيئاً من أعيان المأمورين: لا صفاتهم ولا أفعالهم، بل الملك الآمر له شعور بأمره، وطلب من المأمور، وأما كون الشيء محبوباً مشتاقاً إليه أو للتشبه به، فليس في هذا صدور أمر من أمر، ولا شعور بالمحب المشتاق، ولا طلب لفعل منه. وابن رشد قرر بأن الآمر لها هو المبدع لها، بأنها لو كانت موجودة من ذاتها، أي قديمة من غير علة ولا موجد، لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر احد لها بالتسخير، وألا تطيعه، كذلك حال الآمرين مع الآمر الأول، وإذا لم يجز ذلك عليها، فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة، وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها. لا في عرض من أعراضها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 221 فيقال له: أنت لم تقرر أنه آمر لها، وسلفك إنما ذكروا أنه محبوب لها، أي تحب التشبه به، وهب أنه آمر لها، فأنت لم تذكر دليلاً على أنها إذا كانت مأمورة كانت مملوكة، إلا قولك: (إنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات، بل تلك الذوات تقومت بالعبودية) . وهذه دعوى مجردة. فلم لا يجوز أن يقال: تلك العبودية زائدة على الذات؟ وقولك: (إنها تقومت بالعبودية) : إن أردت تقومت. بتعبدها الذي هو طاعتها وحركتها، فهذه دعوى أرسطو، وقد علم ما فيها. وبتقدير أن تكون حقيقتها هي تلك الحركة، بل يقتضي أن تكون الحركة شرطاً في وجودها. وإن أردت بتقومها بالعبودية تقومها بأن خلقها الله تعالى، فهذا هو المطلوب، ولم تذكر عليه حجة. وأيضاً فقولك: علم أن الآمر لها غيرها، وهو غير جسم، لأنه لو كان جسماً لكان واحداً منها - كلام لا حجة فيه، لوجهين: أحدهما: أنه مسخراً للعقول: ولم يلزم أن يكون من العقول المسخرة، فلماذا يلزم إذا كان مسخراً للأجسام، أن يكون من الأجسام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 222 المسخرة؟ فهو عندهم عقل وليس من العقول المسخرة، فلا يلزم أيضاً إذا قيل: هو قائم بنفسه، أو هو حي عليم قدير، أو هو جوهر، أو جسم أو ذات، أو غير ذلك، أن يكون من جملة المسخرات من هذا الجنس. الثاني: أنه لم لا يجوز أن يكون خارجاً عن جملة المسخرات المأموره كما أنه قائم بنفسه، وهو آمر لأعيان قائمة بنفسها، وهو موصوف. وهو آمر لموصوفات، وأمثال ذلك. وإذا كانت الأعيان أو الأجسام أو الموصفات مختلفة الحقائق، لم يلزم أن يكون الآمر لها مماثلاً للمأمور. وأيضاً فإنك قلت: لو تخيلت أمراً له مأمورون كثيرون، وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر، ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر، ولا وجود لمن دون المأمورين إلا بالمأمورين، لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي صارت موجودة. وهذا الكلام فيه تفريق بين المأمور الذي لا وجود له إلا في قبول الأمر، كما يقولون: لا توجد الأفلاك إلا بالحركة، وهي قبول الأمر، أو أن العقول لا توجد إلا بما فيها من قبول الأمر، وبين ما صدر عن الأفلاك أو العقول من المولدات التي لا وجود لها إلا بالعقول أو الأفلاك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 223 ومن المعلوم أن احتياج العقول والأفلاك إلى الواجب بذاته، أعظم من حاجة ما دونها إليها: فكيف يقال في هذا: لا يوجد إلا به؟ ويقال في ذلك: لا يوجد إلا بقبول الأمر؟ ومن المعلوم أن ما يظهر من تأثير الأفلاك في الأرض إنما هو في بعض أحوالها، كما ذكره من تأثير قرب الشمس وبعدها والليل والنهار. ومن المعلوم بالحس أن هذا ليس وحده مستقلاً بإبداع ما في الأرض، وإنما هو من جملة الأسباب التي بها يتم، كما يفتقر الحيوان والنبات إلى الريح، وافتقارها إلى ذلك أعظم من افتقارها إلى الشمس، وكما تفتقر إلى الأرض والتراب وغير ذلك من الأسباب. وبالجملة هذه الطريق التي سلكها هؤلاء مبنية على ثلاث مقدمات أن الأفلاك لا تقوم إلا بالحركة، وأن الحركة لا تقوم إلا بآمر منفصل، أو محبوب منفصل يحب التشبه به، فالأفلاك لا تقوم إلا بذلك. ثم إذا كانت لا تقوم إلا بذلك، لزم أن تكون جميع أعيانها وصفاتها صادرة عنه، وهم لم يقروا ذلك. وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، لكن يمكن تقريره بأن يقال: إذا كان قوامها بحركتها، وقوام حركتها به، فقوامها به، وإذا كان قوامها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 224 به، امتنع أن تكون واجبة الوجود بنفسها، لأن ما كان واجب الوجود بنفسه لا يكون قوامه بغيره. وإذا كان الفلك متحركاً بغيره امتنع أن يكون واجب الوجود، فيكون ممكن الوجود بنفسه. وممكن الوجود بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، فيجب أن يكون مفتقراً إلى مبدع فاعل، كما كان مفتقراً إلى محبوب مشتاق إليه للتشبه به. فهذه الطريق يمكن أن يقرر به إثبات واجب الوجود. لكن هم لم يذكروا هذا، وهم في إصطلاحهم لايسمون الواجب بغيره ممكناً. وإنما سلك هذه الطريقة متأخروهم، لكن متأخروهم لم يثبتوا كون الفلك ممكناً لا واجباً بنفسه بهذه الطريق، فظهر في كلام قدمائهم التقصير من وجه، وفي كلام متأخريهم التقصير من وجه آخر. ولهذا ما صاروا مقصرين في إثبات كون الفلك ممكناً مصنوعاً، صار الدهرية منهم إلى أنه واجب بنفسه. عود إلى لكلام ابن رشد في الرد على الغزالي وتعليق ابن تيمية ولهذا لما ناظرهم أبو حامد الغزالي وبين عجزهم عن إثبات كون كل جسم ممكناً، كما اعترفوا بأنه ليس كل جسم محدثاً، قال: (فإن قيل: إن الدليل على أن الجسم لا يكون واجب الوجود أنه إن كان واجب الوجود الجزء: 8 ¦ الصفحة: 225 لم يكن له علة: لا خارجة عنه ولا داخلة فيه، فإن كانت له علة لكونه مركباً، كان باعتبار ذاته ممكناً، وكل ممكن مفتقر إلى واجب الوجود) . أجاب بأن البرهان لم يقم على إثبات واجب الوجود بالتفسير الذي ادعيتموه، وإنما قام بمعنى أنه ليس له علة فاعلة، وأما كونه ليس له علة مادية أو صورية، فلم يقم دليل على واجب الوجود بهذا الاعتبار. قال: (وكل تلبياتهم في هاتين اللفظيتين) : واجب الوجود وممكن الوجود (فلنعد إلى المفهوم وهو نفي العلة) (يعني العلة الفاعلة) وإثباتها، فكأنهم يقولون: إن هذه الأجسام لها علة أم لا علة لها؟ فيقول الدهري: لا علة لها، فما المستنكر؟ وإذا عنى بالإمكان والوجوب هذا، فنقول: إنه واجب وليس ممكناً. وقولهم: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 226 الجسم لا يكون واجباً تحكم لا أصل له) . قال ابن رشد: (قد تقدم من قولنا: إنه إذ فهم من واجب الوجود ما ليس له علة، وفهم من ممكن الوجود ما له علة، لم تكن قسمة الموجود بهذين الفصلين، معترفاً بها، فإن للخصم أن يقول: ليس كما ذكر، بل كل موجود لا علة له. لكن إذا فهم من واجب الوجود: الموجود الضروي، ومن الممكن: الممكن الحقيقي، أفضى الأمر - ولا بد - إلى موجود لا علة له، وهو أن يقال: كل موجود فإما أن يكون ممكناً أو ضررياً، فإن كان ممكناً فله علة، فإن كانت تلك العلة من طبيعة الممكن، تسلسل الأمر. فيقطع التسلسل بعلة ضرورية، ثم يسأل في تلك العلة الضرورية: إذا جوز أيضاً أن يكون من الضروري ما له علة وما ليس له علة، فإن وضعت العلة من طبيعة الضروري الذي له علة لزم التسلسل، وأنتهى الأمر إلى علة ضرورية ليس لها علة) . قال: (وإنما أراد ابن سينا أن يطابق بهذه القسمة رأي الفلاسفة في الموجودات، وذلك أن الجرم السماوي عند الجميع من الفلاسفة هو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 227 ضروري بغيره. وأما: هل الضروري بغيره فيه إمكان بالإضافة إلى ذاته؟ ففيه نظر ولهذا كانت هذه الطريقة مختلة إذا سلك فيها هذا المسلك، فأما مسلكه فهو مختل ضرورة، لأنه لم يقسم الموجود أولاً إلى الممكن الحقيقي والضروري، وهي القسمة الموجودة بالطبع للموجودات) . قال: (ثم قال أبو حامد مجيباً للفلاسفة في قولهم: إن الجسم ليس بواجب الوجود بذاته لكونه له أجزاء هي علته. فإن قيل: لا ينكر أن يكون الجسم له أجزاء، وأن الجملة إنما تقوم بالأجزاء، وأن الأجزاء تكون سابقة في الذات على الجملة. قلنا: ليكن كذلك، فإن الجملة تقومت بالأجزاء واجتماعها، ولا علة للأجزاء ولا اجتماعها، بل هي قديمة كذلك بلا علة فاعلية، فلا يمكنهم رد هذا إلا بما ذكروه من لزوم نفي الكثرة عن الموجود الأول، وقد أبطلنا عليهم، ولا سبيل لهم سواه) . قال: (فبان أن من لا يعتقد حدوث الأجسام، لا يصل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 228 لاعتقاد في الصانع أصلاً) . قال ابن رشد: (هذا القول لازم لزوماً لا شك فيه لمن سلك طريقة واجب الوجود في إثبات موجود ليس بجسم، وذلك أن هذه الطريق لم يسلكها القدماء، وإنما أول من سلكها - فيما وصلنا - ابن سينا، وقد قال: إن أشرف من طريقة القدماء، وذلك أن القدماء إنما صاروا إلى إثبات موجود ليس بجسم هو مبدأ للكل، من أمور متأخرة، وهي الحركة والزمان. وهذه الطريقة تفضي إليه - زعم - أعني إلى إثبات مبدأ بالصفة التي أثبتها القدماء من النظر في طبيعة الوجود بما هو موجود، ولو أفضت لكان ما قال صحيحاً، لكنها ليس تفضى) . وذلك أن واجب الوجود بذاته إذا وضع موجوداً فغاية ماينتفي عنه أن يكون مركباً من مادة وصورة، وبالجملة أن يكون له جزء، فإذا وضع موجوداً مركباً من أجزاء قديمة، من شأنها أن يتصل بعضها بعض، كالحال في العالم وأجزائه، صدق على العالم - أو على أجزائه - أنه واجب الوجود) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 229 قال: (هذا كله إذ سلمنا أن ها هنا موجوداً هو واجب الوجود، وقد قلنا نحن: إن الطريقة التي سلكها في إثبات موجود بهذه الصفة ليست برهانية، ولا تفضى بالطبع إليه، إلا على النحو الذي قلنا، وأكثر ما يلزم هذا القول، أعني ضعف هذه الطريقة عند من يضع ها هنا جسماً بسيطاً غير مركب من مادة وصورة، وهو مذهب المشائين، لأن من يضع مركبا قديماً من أجزاء بالفعل، فلا بد أن يكون واحداً بالذات، وكل وحدة في شيء مركب فهي من قبل واحد بنفسه، أعني بسيطاً ومن قبل هذا الواحد صار العالم واحداً. وكذلك يقول الإسكندر: إنه لا بد أن تكون ها هنا قوة روحانية سارية في جميع أجزاء العالم، كما يوجد في جميع أجزاء الحيوان الواحد قوة تربط أجزاءه بعضها ببعض. والفرق الذي بينهم أن الرباط الذي في العالم قديم من قبل أن الرابط قديم، والرباط الذي بين أجزاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 230 الحيوان ها هنا كائن فاسد بالشخص غير كائن ولا فاسد بالنوع، من قبل الرباط القديم، من قبل أنه لم يمكن فيه أن يكون غير كائن ولا فاسد بالشخص، كالحال في العالم، فتدارك الخالق سبحانه هذا النقص الذي لحقه بهذا النوع من التمام الذي لم يكن فيه غيره، كما يقوله أرسطو في كتاب الحيوان) . قال: (وقد رأينا في هذا الوقت كثيراً من أصحاب ابن سينا، لموضع هذا الشك، تأولوا على ابن سينا هذا الرأي، وقالوا: إنه ليس يرى أن ها هنا مفارقاً وقالوا: إن ذلك يظهر من قوله في واجب الوجود في مواضع، وإنه المعنى الذي أودعه في فلسفته المشرقية. قالوا: وإنما سماها فلسفة مشرقية، لأنها مذهب أهل المشرق، ويرون أن الآلهة عندهم هي الأجرام السماوية، على ما كان يذهب إليه وهم مع هذا يضعفون طريق أرسطو في إثبات المبدأ الأول من طريق الحركة) . قال: (ونحن قد تكلمنا على هذه الطريقة غير ما مرة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 231 وبينا الجهة التي منها يقع اليقين لها، وحللنا جميع الشكوك الواردة عليها. وتكلمنا أيضاً على طريقة الإسكندر في ذلك أعني الذي اختاره في كتابه الملقب بالمبادىء وذلك أنه يظن أنه عدل عن طريقة أرسطو إلى طريقة أخرى، لكنها مأخوذة من المبادىء التي بينها أرسطو، وكلا الطريقين صحيحة، لكن الطبيعة أكثر ذلك هي طريقة أرسطو. قال: (ولكن إذا حققت طريقة واجب الوجود عندي، على ما أصف كانت حقاً، وإن كان فيها إجمال يحتاج إلى تفصيل، وهو أن يتقدمها العلم بأصناف الممكنات: الوجود في الجوهر، والعلم بأصناف الواجبة الوجود في الجوهر. وهذه الطريقة هي أن نقول: إن الممكن الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود في الجوهر الجسماني، وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق، وهو الذي لا قوه فيه أصلاً: لا في الجوهر، ولا في غير ذلك من أنواع الحركات. وما هكذا فليس بجسم. مثال ذلك أن الجرم السماوي قد يظهر من أمره أنه واجب الوجود في الجوهر الجسماني، وإلا لزم أن يكون هنالك جسم أقدم منه، وظهر منه أنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 232 ممكن الوجود في الحركة التي في المكان، فوجب أن يكون المحرك له واجب الوجود في الجوهر، وألا يكون فيه أصلاً: لا على حركة، ولا على غيرها، فلا يوصف بحركة ولا سكون، ولا يغير ذلك من أنواع التغيرات. وما هو بهذه الصفة فليس بجسم أصلاً، ولا قوة في جسم، وأجزاء العالم الأزلية إنما هي واجبة الوجود في الجوهر: إما في الكلية كالحال في الاسطقسات الأربع، وإما بالشخص كالحال في الأجرام السماوية) . قلت: المقصود ذكر طرق هؤلاء، ومنتهى نظرهم ومعرفتهم، وأن خيار ما في كلام ابن سينا وأمثاله، إنما تلقاه من طرق المتكلمين، كالمعتزلة ونحوهم مع ما فيهم من البدعة. وأما ما ذكره هذا من طريقة الفقهاء، فهي أضعف وأقل فائدة في العلوم الإلهية من طريقة ابن سينا بكثير، فإن ابن سينا أدخل الفلسفة من المعارف الإلهية التي ركبها من طرق المتكلمين، وطرق الفلاسفة والصوفية. ما كسا به الفلسفة بهجة ورونقاً، حتى نفقت على كثير من أهل الملل، بخلاف فلسفة القدماء، فإن فيها من التقصير والجهل في العلوم الإليهة ما لا يخفى على أحد. وإنما كلام القوم وعلمهم في العلوم الرياضية والطبيعية، وكل فاضل يعلم أن كلام أرسطو وأمثاله في الإلهيات قليل نزر جداً، قليل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 233 الفائدة إذاكان صحيحاً، مع أنه لا يوصل إليه إلا بالتعب كثير، مع أنه يقول: هذا غاية فلسفتنا ونهاية حكمتنا. وهوكما قيل: لحم جمل غث على رأس جبل وعر، ولا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل. وهذا الذي ذكره ابن رشد في إثبات واجب الوجود، مضمونه: أن الممكن الوجود، هو في اصطلاحه الذي ذكره عن القدماء: المحدث بعد عدم، يجب أن تتقدمه واجب الوجود، وهو القديم الذي لم يسبقه عدم. وهذا هو بعينه قول المتكلم: إن المحدث مفتقر إلى قديم. ثم قال: (وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق، وهو الذي لا قوة فيه أصلاً، وليس بجسم) . وهذا لم يذكر عليه دليلاً صحيحاً. وقوله: (إن الفلك يظهر من أمره أنه واجب الوجود) أي قديم في جوهره، (وأنه ممكن الوجود في الحركة) هو قول الفلاسفة الدهرية، الذي يقولون: إن الأفلاك قديمة وحركتها دائمة. وهذا لا دليل له أصلاً، بل جميع ما يذكرونه من الأدلة في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 234 قدم العالم لا يدل شيء منها على قدم الأفلاك، بل غاية ما يدل على أن الله لم يزل فاعلاً، وأنه لا بد قبل الأفلاك من شيء آخر موجود، ونحو ذلك مما لا يدل على قدم الأفلاك. ثم إذا قدر ثبوت ذلك فقوله: يجب أن يكون المحرك للفلك واجب الوجود في الجوهر، وألا يكون فيه أصلاً لا على حركة ولا غيرها، فلا يكون جسماً، أي لا يقوم له فعل من الأفعال - دعوى مجردة. ثم لم قدر أنه لا يقوم به فعل، فلم قال: إن ما لا يقوم به فعل لا يكون جسماً؟ يقال: غاية ما ذكره أن يكون ما قاله ممكناً. فيقال: كما أنه يمكن ذلك فيمكن نقيضه. فإنه كما يجوز أن يكون المحرك له غير متحرك. فالمحرك المتحرك أولى بالجواز والإمكان. ثم يقال: بل ما ذكرته هو على نقيض قولكم أدل منه على قولكم، وذلك لأن الفلك إذا كان دائم الحركة - وقد قررت أن المحرك له غيره - فالمحرك له إما أن يكون متحركاً وإما أن لا يكون. فإن لم يكن متحركاً كان محركاً لغيره بدون حركة فيه. وهذا إما أن يكون ممكناً وإما أن يكون ممتنعاً. فإن كان ممكناً بطل مذهبهم، وإن أمكن فالفلك نفسه: إما أن يكون واجباً بنفسه، وإما أن يكون ممكناً، فإن كان واجباً بنفسه وحركته ممكنة، وهو محتاج في حركته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 235 إلى محرك منفصل، كان واجب الوجود بنفسه جسماً متحركاً بحركة تقوم به، يفتقر فيها إلى غيره. وحينئذ فيمكن أن يقال: المحرك للفلك هو أيضاً جسم متحرك بحركة فيه، سواء احتاج فيها إلى غيره أولم يحتج. وإذا لم يتحج إلى غيره كان أولى. وإن قيل: إن الفلك ممكن الوجود، فلا بد له من الواجب، فيكون الواجب علة موجبة له. فلا بد أن يكون علة تامة في الأزل له، لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن كذلك. والعلة التامة لا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها، فإن كان علة تامة لحركة الفلك لزم وجودها في الأزل، وهو ممتنع. وإن لم يكن علة تامة له، لم يكن بد من أمر يتجدد يصير به علة تامة لحدوث ما يحدث من الحركة. وذلك المتجدد إن كان منه فقد بطل قولهم، وإن كان من الممكن كان قولهم أبطل وأبطل، فإن ما من الممكن لا بد أن يكون له من الواجب، إذ لا شيء له من نفسه. وهذا يصلح أن يكون حجة في أول هذه المسألة، وهو أن الحركة الدائمة في الفلك، إذا كانت صادرة عن موجب، فالموجب لها: إن كان علة تامة لها في الأزل لم يتأخر عنها شيء من معلولها، وإن لم تكن تامة في الأزل صار موجباً بعد أن لم يكن. وذلك التمام: إن كان له من نفسه كان متحركاً، وهو خلاف ما زعموه، وإن كان من غيره كان واجب الوجود بنفسه، مفقتراً في تمام فعله إلى غيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 236 وهذا أعظم عليهم: وهو أن يكون متحركاً بحركة من غيره. وإذا قيل: نقول في صدور الفعل الدائم الذي في الفلك عن الواجب ما يقال لو كان ذلك الفعل في الواجب. قيل: الفعل إذا كان قائماً في الواجب بنفسه، لم يكن على هذا القول يمتنع أن تقوم به الأفعال التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولا يكون مفتقراً في شيء من ذلك إلى شيء من مخلوقاته، بل كل ما سواه فقير إليه. وأما على قولهم: فهم يقولون: إنه يمتنع أن يقوم بالمبدأ الأول شيء من الأفعال، ويقولون: إن الفعل الدائم القائم بالفلك صادر عنه شيئاً بعد شيء. فيقال لهم: الفلك إن كان واجباً بنفسه، فقد قام بالواجب بنفسه حركات شيئاً بعد شيء، فامتنع أن يقولوا: إن الواجب بنفسه لا تقوم به الأفعال. وإن كان الفلك ليس واجباً بنفسه، لم ممكن بنفسه، فهو صادر عن الأول: ذاته وصفاته وأفعاله. فإذا قدر قديماً لزم أن يكون المقتضى التام له قديماً، والفلك الممكن قابل للحركة شيئاً بعد شيء، فلا بد له من واجب، والحركة ممكنة لا واجبة بنفسها، فلا بد لها من فاعل يفعلها شيئاً بعد شيء، فإذا قدر الفاعل الفلك، ففاعله الفلك ممكنة، فإذا حدثت شيئاً بعد شيء لم يكن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 237 لها بد من فاعل. وحدوث الحوادث شيئاً بعد شيء عن علة تامة في الأزل لا يتأخر عنها شيء من موجبها ممتنع، فوجب أن يكون لحدوث تلك الحوادث أمراً يتعلق بالواجب، وذلك من لوازم الواجب، لا يفتقر إلى غير الواجب، وما منه بخلاف ما يقوم بالممكن، فإن الممكن نفسه مفتقر إلى غيره، فما فيه أولى أن يفتقر إلى غيره. وهذا قد بسط في موضع آخر، وبين أنهم يلزمهم التناقض وفساد قولهم، سواء قدر الفلك واجباً بنفسه، أو قدر ممكناً واجباً بغيره. والمقصود هنا إنما كان التنبيه على طرق الطوائف في إثبات الصانع، وأن ما يذكره أهل البدع من المتكلمة والمتفلسفة، فإما أن يكون طويلاً لا يحتاج إليه، أو ناقصاً لا يحصل المقصود، وأن الطرق التي جاءت بها الرسل هي أكمل الطرق وأقربها وأنفعها، وأن ما في الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة يغني عن هذه الأمور المحدثة، وأن سالكيها يفوتهم من كمال المعرفة بصفات الله تعالى وأفعاله ما نيقصون به عن أهل الإيمان نقصاً عظيماً إذا عذروا بالجهل، وإلا كانوا من المستحقين للعذاب، إذا خالفوا النص الذي قامت عليهم به الحجة، فهم بين محروم ومأثوم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 238 وهذه الطرق التي أخدها، ابن سينا عن المتكلمين، من المعتزلة ونحوهم، وخلطها بالكلام سلفه الفلاسفة، صار بسبب ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة، يستطيل بها على المسلمين، ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين. وليس الأمر كذلك. وإنما هو قول مبتدعتهم، وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية: صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقهم عليه مما هو مخالف للنصوص ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية. ولهذا كان لهؤلاء وأمثالهم نصيب من حال المرتدين، الذين قال الله تعال فيهم: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} ولهذا آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى عبادة الأوثان، والشرك بالرحمن مثل دعوة الكواكب والسجود لها، أو التصنيف في ذلك كما صنفه الرازي وغيره في ذلك. والذي أحدثه الفلاسفة، كابن سينا وأمثاله، عن المعتزلة: منه ما هو صحيح، ومنه ما هو باطل. فالصحيح كقولهم: إن تخصيص شيء دون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 239 شيء بالحدوث في وقت دون وقت لا بد له من مخصص. والباطل نفي الصفات. وركب ابن سينا من الأمرين ما دار به على المعتزلة، ونحوهم من المتكلمين، ولم يقتصر على مجرد ما قالوه، بل وسع القول فيه، حتى وصله كلام سلفه الدهرية. فالأول: وهو أن تخصيص الحدوث بوقت لا بد له من مخصص، ضم إليه: أن كل ممكن، وإن كان قديماً، لا يترجح إلا بمرجح، وبنى على ذلك إثبات واجب الوجود. وهي الطريقة التي أحدثها في الفلسفة، وهي مركبة من كلام الفلاسفة المعتزلة. والمعتزلة لا تقتصر في أن التخصيص لا بد له من مخصص على تخصيص الحدوث، بل تقول ذلك فيما هو أعم من ذلك، ولا تفرق بين الاختصاص الواجب والاختصاص الممكن. وابن سينا وافقهم على ذلك، فتناقضت عليه أصوله، وأما الأصل الفاسد الذي أخذه عنهم، فهو نفي الصفات، ولما كانت المعتزلة تنفي الصفات وتسمي إثباتهما تجسيماً، والتجسيم تركيباً، ويقولون: إن المركب لا بد له من مركب، فلا يكون مركباً، فلا يكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 240 جسماً لأن الجسم مركب، فلا يقوم به صفة، لأن الصفة لا تقوم إلا بجسم، ولا يكون فوق العالم، لأنه لا يكون فوق العالم إلا جسم. ولا يرى في الآخرة، لأن الرؤية إنما تقع على جسم، أو عرض في جسم. وكلامه مخلوق، لأن لو قام به الكلام لكان جسماً. أخذ ابن سينا وأمثاله هذه الأصول، وألزمهم ما هو أبلغ من ذلك، فزاد في نفي الصفات عليهم، حتى كان أظهر تعطيلاً منهم، بل أبلغ تعطيلاً من الجهم رأس نفاة الصفات. وخالف ابن سينا وأمثاله المعتزلة في أمور: بعضها أصابوا في مخالفتهم، وبعضها أخطأوا في مخالفتهم، لكن الذي أصابوا فيه، منه ما صاروا يحتجون به على باطلهم، لضعف طريق المعتزلة الذي به يردون باطلهم. وهذا الذي ذكرته يجده من اعتبره في كتب ابن سينا كـ الإشارات وغيرها، ويتبين للفاضل أنه إنما بنى إلحاده في قدم العالم على نفي الصفات، فإنهم لما نفوا الصفات والأفعال القائمة بذاته، وسموا ذلك توحيداً، ووافقهم ابن سينا على تقرير هذا النفي الذي سموه توحيداً، بين امتناع القول بحدوث العالم مع هذا الأصل، وأظهر تناقضهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 241 ولكن قوله في قدم العالم أفسد من قولهم، ويمكن أظهار تناقض قوله، أكثر من إظهار تناقض أقوالهم. فلهذا تجده في مسألة قدم العالم يردد القول فيها، ويحكي كلام الطائفتين وحجتهم كأنه أجنبي، ويحيل الترجيح بينهما إلى نظر الناظر، مع ظهور ترجيحه لقول القائلين بالقدم. وأما مسألة نفي الصفات فيجزم بها، ويجعلها من المقطوع به الذي لا تردد فيه، فإنهم يوافقون عليها، وهو بها تمكن من الاحتجاج عليهم في قدم العالم، وبها تمكن من إنكار المعاد، وتحريف الكلم عن مواضعه، وقال: نقول في النصوص الواردة في المعاد كما قلتم في النصوص الواردة في الصفات، وقال: كما أن الكتب الإلهية ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في التوحيد، يعني التوحيد الذي وافقته عليه المعتزلة، وهو نفي الصفات بناءً على نفي التجسيم والتركيب، فكذلك ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في أمر المعاد. وبنى ذلك على أن الإفصاح بحقيقة الأمر لا يمكن خطاب الجمهور به، وإنما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 242 يخاطبون بنوع من التخييل والتمثيل الذي ينتفعون به فيه، كما تقدم كلامه. وهذا كلام الملاحدة الباطنية الذين ألحدوا في اسماء الله وآياته، وكان منتهى أمرهم تعطيل الخالق، وتكذيب رسله، وإبطال دينه. ودخل في ذلك باطنية الصوفية، أهل الحلول والاتحاد وسموه تحقيقاً ومعرفة وتوحيداً. ومنتهى أمرهم هو إلحاد باطنية الشيعة، وهو أنه ليس إلا الفلك وما حواه وما وراء ذلك شيء. وكلام ابن عربي، صاحب فصوص الحكم وأمثاله من الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، يدور على ذلك لمن فهمه، ولكن يسمون هذا العالم الله، فمذهبهم في الحقيقة مذهب المعطلة، كفرعون وأمثاله، ولكن هؤلاء يطلقون عليه هذا الاسم، بخلاف أولئك. وأيضاً فقد يكون جهال هؤلاء وعوامهم يعتقدون أنهم يثبتون خالقاً مبايناً للمخلوق، مع قولهم بالوحدة والاتحاد، كما رأينا منهم طوائف، مع ما دخلوا فيه من العلم والدين، لا يعرفون حقيقة مذهب هؤلاء، لما في ظاهره من الإقرار بالصانع ورسله ودينه. وإنما يعرف ذلك من كان ذكياً خبيراً بحقيقة مذهبهم، ومم كان كذلك فهو أحد رجلين: إمامؤمن عليهم: علم أن هذا يناقض الحق، وينافي دين الإسلام، فذمهم وعاداهم. وإما زنديق منافق: علم حقيقة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 243 أمرهم، وأظهرمن ما يظهرون، وكان من أئمتهم. فهذا وأمثاله من جنس آل فرعون، الذين جعلوا أئمة يدعون إلى النار. والأول من أتباع الرسل والأنبياء، كآل إبراهيم، الذين جعلهم الله أئمة يهدون بأمره. كلام ابن سينا في الإشارات وهذا الذي ذكرته لك من حال هؤلاء، يتبين لكل مؤمن ذكي رأى كتبهم، وتبين له مقصودهم. فما ذكرته عن ابن سينا مذكور في كتابه الإشارات الذي هو زبدة الفلسفة عندهم، الذي قال في خاتمته: (أيها الأخ إن مخضت لك في هذه الإشارات عن زبد الحق، وألقمتك نفي الحكم، في لطائف الكلم، فصنه عن المبتذلين والجاهلين، ومن لم يرزق الفطنة الوقادة، والروية والسعادة، وكان صغاه مع الغاغة، أو كان من ملاحدة هؤلاء المتفلسفة ومن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 244 همجهم، فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته، واستقامة سيرته، أو بتوقفه عما يفزع إليه الوسواس، ونظر إلى الحق بعين الرضا والصدق، فآته ما سألك منه مدرجاً مجزأ مفرقاً، تستفرس ما تسلفه لما تستأنفه، وعاهده بالله وبالأيمان التي لا مخرج له منها، أن يجري فيما تؤتيه مجراك، متأسياً بك، فإن أذعت هذه العلم وأضعته، فالله بيني وبينك) وبهذه الوصية أوصى الرازي في شرحه له، كما وصى بذلك في كلامه على حديث المعراج لما شرحه بنظير شرح هؤلاء له. وهذا من جنس وصايا القرامطة الملاحدة في البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم. والمقصود هنا أن ابن سينا في الكتاب الذي عظمه، لما تكلم على أفعال الرب تعالى وصفاته، سلك ما ذكرته لك عنه، كما قد ذكرنا في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 245 غير هذا الموضع، لما ذكر النزاع في مسألة الصنع الإبداع وحدوث العالم. قال في آخره: (فهذه هي المذاهب، وإليك الاعتبار بعقلك دون هوالك، بعد أن تجعل واجب الوجود واحداً) . والرازي لم يعرف وجه وصيته فقال: (إن كان المقصود منه الأمر بالثبات على التوحيد، فإنه يكون كلاماً أجنبياً عن مسألة الحدوث والقدم. وإن كان المقصود منه إنما هو المقدمة التي يظهر منها الحق في مسألة القدم والحدوث فهو ضعيف، لأن القول بوحدة واجب الوجود لا تأثير له في ذلك أصلاً، لأن القائلين بالقدم يقولون: ثبت إسناد الممكنات بأسرها إلى واجب الوجود لذاته، فسواء كان الواجب واحداً أو أكثر من واحد، لزم من كونه واجباً دوام آثاره وأفعاله. وأما القائلون بالحدوث، فلا يتعلق شيء من أدلتهم بالتوحيد والتثنية، فثبت أنه لا تتعلق مسألة القدم والحدوث بمسألة التوحيد) . قلت: ليس مراد ابن سينا بالتوحيد الذي جاءت به الرسل، وهو عبادة الله وحدة لا شريك له، مع ما يتضمنه من أنه لا رب لشيء من ممكنات سواه، فإن إخوانه من الفلاسفة من أبعد الناس عن هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 246 التوحيد، إذ فيهم من الإشراك بالله تعالى، وعبادة ما سواه، وإضافة التأثيرات إلى غيره، بل ما هو معلوم لكل من عرف حالهم، ولازم قولهم: إخراج الحوادث كلها عن فعله. وإنما مقصوده التوحيد الذي يذكره في كتبه، وهو نفي الصفات، وهو الذي شارك فيه المعتزلة، وسموه أيضا توحيداً. وهذا النفي الذي سموه توحيداً، لم ينزل به كتاب، ولا بعث به رسول، ولا كان عليه أحد من سلف الأئمة وأئمتها، بل هو مخالف لصريح المعقول، مع مخالفته لصحيح المنقول. والمقصود منه وجه ارتباطه بمسألة الحدوث والقدم، وذلك أن الأصل الذي بنى عليه حجته في مسألة القدم: أنه كيف تحدث السماوات بعد أن لم تكن محدثة من غير حدوث أمر؟ وهذا إنما يكون على قول نفاة الصفات والأفعال القائمة به، الذي يقولون: إنه لا يقوم به فعل يتعلق بمشيئته وقدرته، وإلا فعلى قول أهل الإثبات تبطل حجته. وأيضاً فمقصود تمهيد أصله في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وهذا إنما يتم إذا ثبت موجوداً مجرداً لا صفة له ولا نعت، وإلا فإذا كان الخلق موصوفاً بصفات متنوعة: كالعلم والقدرة والكلام والمشيئة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 247 الرحمة، بأفعال متنوعة: كالخلق والاستواء ونحو ذلك - لم يكن واحداً عندهم، بل كان مركباً وجسماً. وحينئذ فيقال لهم: هذا الذي تسمونه واحداً لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو أمر يقدر في الأذهان، لا يوجد في الأعيان، وهو نظير الواحد البسيط، الذي يجعلون منه تتركب الأنواع، فإن هذا الواحد الذي يثبتونه في الكليات، ويقولون: إنه منه تتركب الأنواع الموجودة، هو نظير الواحد الذي يثبتونه في الألهيات، ويقولون: هو مبدأ الوجود. وكلاهما لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو يقدره الذهن، كما يقدر الكليات المجردة عن الأعيان، وكما يقدر بعداً مجرداً ودهراً مجرداً ومادة مجردة، كما يقوله شيعة أفلاطون ومن وافقهم. بل هذه الأمور أقرب إلى وجودها في الخارج من ذلك الواحد الذي يقدرونه: إما الواحد الكلي البسيط، الذي تتركب منه الأنواع في حدودها وحقائقها، وإما الواحد المعين الذي تصدر عنه الموجودات. ومتى بطل واحدهم هذا بطل توحيدهم، فبطل نفيهم للصفات، وبطل قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فبطل قولهم في الأفعال، فبطل ما قرروه في قدم العالم، وبطل ما احتجوا به على ذلك من الحجة، حيث قالوا: كيف يصدر عنه ما لم يكن صادراً، من غير قيام أمر متجدد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 248 به؟ فكان إبطال ما ألحدوا به في توحيد الله تعالى بهدم أصول ضلالهم. أيضاً فالمقالات التي أبطلها ابن سينا في مسألة حدوث العالم وقدمه، بنى إبطالها على هذا التوحيد الذي هو نفي الصفات، فكان هذا عصمته التي لا بد له منها. وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن ابن سينا ذكر مقالات الناس في مسألة الحدوث والقدم، ولم يذكر مقالة أساطين الفلاسفة المتقدمين، كما لم يذكر مقالة الأنبياء والمرسلين. والمقالات التي حكاها من الباطل إنما احتج على إبطالها بما لا حجة له فيه، فقال: (أوهام وتنبيهات. قال قوم: إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته، واجب لنفسه، لكنه إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجباً، وتلوت قوله تعالى: {لا أحب الأفلين} فإن الهوي في حظيرة الإمكان أفول ما) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 قلت: وهذا القول هو قول القائلين بقدم العالم وأنه واجب بنفسه، ليس له موجب آخر. وهو الظاهر المشهور من مذاهب الدهرية، وإليه يعود كلام محقيقهم، ولهذا كان أئمة الكلام القدماء، من المعتزلة والأشعرية وغيرهم، كأبي على الجبائي وأمثاله، وكـ القاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وأمثالهما، لا يذكرون عن الدهرية إلا هذا القول. وأما القول الذي ذكره ابن سينا وهو أنه معلول علة واجبة أبدعته، فهذا قوله وقول أمثاله من الفلاسفة. وقد حكي هذا القول عن برقلس، وقد نازعه فيه إخوانه الفلاسفة، وهو لم يذكر له عليهم حجة مستقيمة، وإنما احتج عليهم بما احتج عليهم بما ذكره في توحيد واجب الوجود، وأنه لايكون موصوفاً بصفات فتكون فيه كثرة، ولا يكون جسماً فتكون فيه كثرة، ونفى الأنواع الخمسة التي سماها تركيباً كتركيب الجسم من أجزائه الحسية: الجواهر المفردة، ومن أجزائه العقلية: وهي المادة والصورة، ومن الذات والصفات، ومن العام والخاص، ومن الوجود والماهية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 250 ولهذا بين أبو حامد الغزالي وغيره من المسلمين، بل وابن رشد وأمثاله من الفلاسفة، فساد ما ذكروه في هذا التوحيد، وبطلان ما نفوه من هذه المعاني التي سموها تركيباً، وأنه لا حجة لهم على ذلك أصلاً إلا ما توهموه من مدلول لفظ واجب الوجود بالمعنى الذي تصوروه، لا بالمعنى الذي قام عليه الدليل، فكان مبنى حجتهم على ألفاظ مجملة إذا بينت ظهر فساد كلامهم. ولهذا احتاج ابن سينا في مسألة إثبات الصانع إلى توحيده، فضلاً عن إثبات أفعاله قال: (وقال آخرون: بل هذا الوجود المحسوس معلول. ثم افترقوا: فمنهم من زعم أن أصله وطينته غير معلولين، لكن صنعته معلولة. وهؤلاء قد جعلوا في الوجود واجبين. وأنت خبير باستحالة ذلك. ومنهم من جعل وجوب الوجود لشيئين أو لعدة أشياء، وجعل غير ذلك من ذلك. وهؤلاء في حكم الذين من قبلهم) . فيقال له: الذين جعلوا الوجود لشيئين أو عدة أشياء، يدخل فيهم من جعل أصله وطينته غير معلومين، فإن ما لم يكن معولاً كان واجباً لنفسه، فهؤلاء جنس واحد، حيث جعلوا واجب الوجود أكثر من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 251 واحد. ومع هذا فحجتك على إبطال قولهم قد عرف ضعفها، ولكن الفرق بين هؤلاء وهؤلاء: أن هؤلاء يجعلون الصانع أكثر من واحد، فيقولون بالتعدد في الصانع. وأولئك إذا أثبتوا أصلاً وطنية غير معلولة، فلا يجعلونها فاعلة صانعة، بل قابلة للفاعل، فهؤلاء يقولون: إن الفاعل للعالم واجب بنفسه وهؤلاء يدخل فيهم من قال بقولهم، كابن زكريا المتطبب حيث قالوا: القدماء خمسة، وسبب حدوث العالم عشق النفس للهيولى، فإن هؤلاء يقولون بقدم مادة العالم ومكانه وزمانه والنفس. وكان ابن سينا ذكر هذا القول، وذكر قول المجوس الذين يقولون بقدم النور والظلمة. فهذان القولان متشابهان من بعض الوجوه، فإن هذا يقول: سبب حدوث العالم اختلاط النور والظلمة. وهذا يقول: سببه عشق النفس للهيولى، ثم ذكر قول المتكليمن وقول أصحابه، فلم يذكرإلا هذه الأقوال الأربعة. وأما قول أئمة الفلاسفة وأساطينهم القدماء فلم يذكره، كما لم يذكر قول الأنبياء وسلف الأمة. وحينئذ فيقال: مذهب جمهور الفلاسفة أن أصل العالم معلول عن الواجب نفسه، والعالم مع ذلك محدث الصورة. فهؤلاء لا يقولون بتعدد الواجب، ولا يقولون بقدم العالم، ولا يقولون بأن طينته غير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 252 معلولة. وهذا القول لم يذكره في نقله للمقالات، مع أنه من أشهر الأقوال عن أساطين الفلسفة، وهو أظهر أقوالهم في الحجة والدليل، فإنه لا يدر عليه ما يرد على غيره، ولا يمكنه أن يحتج على فساد قول هؤلاء بما احتج به على فساد قول غيرهم، بل حجته الصحيحة لا تدل إلا على قول هؤلاء، فإنهم يمكنهم أن يثبتوا للحوادث سبباً حادثاً، ويجعلون الفاعل معطلاً عن الفعل، ولا يقولون بقدم الأفلاك وحدوث حوادثها من غير سبب حادث، ولا يخالفون النصوص المشهورة عن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه. فكان قولهم أقرب إلى العقل والنقل من الأقوال التي ذكرها. قال: (ومنهم من وافق على أن واجب الوجود واحد، ثم افترقوا فقال فريق منهم: إنه لم يزل ولا وجود لشيء عنه، ثم ابتدأ وأراد وجود شيء عنه، ولولا هذا لكانت أحوال متجددة من أصناف شتى في الماضي لا نهاية لها موجودة بالفعل، لأن كل واحد منها وجد، فالكل وجد، فيكون لما لا نهاية له من أمور متعاقبة كلية منحصرة في الوجود. قالوا: وذلك محال، وإن لم تكن كلية حاصرة لأجزائها معاً فإنها في حكم ذلك، وكيف يمكن أن تكون حال من هذه الأحوال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 253 توصف بأنها لا تكون إلا بعد ما لا نهاية له، فتكون موقوفة على ما لا نهاية له، فيقطع إليها ما لا نهاية له. ثم كل وقت يتجدد يزداد عدد تلك الاحوال، وكيف يزداد عدد ما لا نهاية له؟ ومن هؤلاء من قال: إن العالم يوجد حين كان أصلح لوجوده، ومنهم من قال: لم يمكن وجوده إلا حين وجد، ومنهم من قال: لا يتعلق وجوده بحين وشيء آخر بل بالفاعل، ولا يسأل عن لم فهؤلاء هؤلاء) . قال: (وبإزاء هؤلاء قوم من القائلين بوحدانية الأول، يقولون: إن واجب الوجود بذاته واجب الوجود في جميع صفاته وأحواله الأزلية، وأنه ليس يتميز في العدم الصريح حال الأولى به فيها أن لا يوجد شيئاً، أو بالأشياء أن لا توجد عنه أصلاً، وحال بخلافها، ولا يجوز أن تسنح له إرادة متجددة إلا لداع، وأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 254 تسنح جزافاً. وكذلك لا يجوز أن تسنح طبيعة أو غير ذلك بلا تجدد حال، وكيف تسنح إرادة لحال تجددت، وحال حال ما يتجدد كحال ما يمهد له التجدد فيتجدد؟ وإذا لم يكن تجدد، كانت حاله ما لم يتجدد شيء حالاً واحدة مستمرة على نهج واحد، وسواء جعلت التجدد لأمر تيسر، أو لأمر زال مثلاً لحسن من الفعل وقتاً ما، أو تيسر، أو وقت معين، أوغير ذلك مما عد، أو لقبح كان يكون له قد زال، أو عائق، أوغير ذلك كان فزال. قالوا: فإن كان الداعي إلى تعطيل واجب الوجود عن إفاضة الخير والجود هو كون المعلول مسبوق العدم لا محالة. فهذا الداعي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 255 ضعيف قد انكشف لذوي الأبصار ضعفه على أنه قائم في كل حال، وليس في حال بأولى بإيجاب السبق من حال، وأما كون المعلول ممكن الوجود في نفسه واجب الوجود بغيره، فليس يناقض كونه دائم الوجود بغيره كما نبهت عليه. وأما كون غير المتناهي كلاً موجوداً ككون كل واحد وقتاً ما موجوداً فهو توهم خطأ، فليس إذا صح على كل واحد حكمه صح على كل محصل، وإلا لكان يصح أن يقال: الكل من غير المتناهي يمكن أن يدخل في الوجود، لأن كل واحد يمكن أن يدخل في الوجود، فيحمل الإمكان على الكل، كما حمل على كل واحد. قالوا: ولم يزل غير المتناهي من الأحوال التي يذكرونها معدوماً إلا شيء بعد شيء، وغير المتناهي المعدوم قد يكون فيه أكثر وأقل، ولا يثلم ذلك كونها غير متناهية في العدم. وأما توقف الواحد منها على أن يوجد قبله ما لا نهاية له، أو احتياج شيء منها إلى أن ينقطع إليه ما لا نهاية له، فهو قول كاذب. فإن معنى قولنا: كذا توقف على كذا هو أن الشيئين وصفاً معاً بالعدم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 256 والثاني لم يكن يصح وجوده إلا بعد وجود المعلول الأول، وكذلك الاحتياج. ثم لم يكن البتة ولا في وقت من الأوقات، يصح أن يقال: إن الأخير كان متوقفاً على وجود مالا نهاية، أو محتاجاً إلى أن يقطع إليه ما لا نهاية له، بل أي وقت فرضت وجدت بينه وبين كون الأخير أشياء متناهية، ففي جميع الأوقات هذه صفته، لا سيما والجميع عندكم وكل واحد واحد، فإن عنيتم بهذا التوقف أن هذا لم يوجد إلا بعد وجود أشياء كل واحد منها في وقت آخر لا يمكن أن يحصى عددها، وذلك محال، فهذا نفس المتنازع فيه: أنه ممكن أوغير ممكن، فكيف يكون مقدمة في إبطال نفسه؟ أبان يغير لفظها بتغيير لا يتغيره به المعنى؟ قالوا: فيجب من اعتبار ما نبهنا عليه أن يكن الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كوناً أولياً وما يلزم من ذلك الاعتبار لزوماً ذاتياً، إلا ما يلزم من الاختلافات يلزم عندها فيتبعها التغير) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 257 قال: (فهذه هي المذاهب وإليك الاعتبار بعقلك دون هواك) . تعليق ابن تيمية هذا جملة كلامه، فهذا الكلام قد ذكر فيه قول المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام، وقوله وقول أمثاله من الفلاسفة، وذكر حجة المعتزلة المعروفة عندهم، وهو دليل الأعراض المبني على إبطال حوادث لا تتناهى، وذكر حجته في أن تخصيص حال دون حال بالفعل لا بد له من مخصص، فإذا كانت الأحوال متساوية لزم انتفاء المخصص، فينتفي التخصيص، فينتفي ما ذكروه من الحدوث. وهذه الحجة مادتها من كلام المعتزلة الصحيح، حيث أخذ عنهم أن التخصيص بوقت دون وقت لا بد له من مخصص. وهم بنوا على ذلك إثبات الصانع، هو على ذلك بنى إثبات واجب الوجود، لكن نقل ذلك إلى الممكن الذي ليس له من نفس وجود، فتخصيصه بالوجود دون العدم، وبالعدم دون الوجود، كتخصيص الحدوث بوقت دون وقت. وقد عرف أن هذا الكلام مادته من كلام المعتزلة والفلاسفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 258 جميعاً، وأن الصواب الذي فيه - وهو امتناع تخصيص المحدث أو الممكن بلا مخصص - هو من كلام المعتزلة الذي وافقهم عليه، والخطأ الذي فيه بعضه منهم وأكثره منه، فإنه ألزم المعتزلة بطرد هذا الأصل، فلما لم يطردوه نقض قولهم. وحينئذ فيقال له: بطلان قول المعتزلة لا يستلزم صحة قولك، إلا لو لم يمكن قول إلا وقولك وقولهم. فكيف وأقاويل أئمة الفلاسفة ليست من القولين؟ وكذلك الأقوال التي عليها أئمة السنة والحديث ليست من القولين؟. والأقوال الموجودة في الكتب الإلهية: التوراة والقرآن اللذين لم يأت من عند الله تعالى كتاب أهدى منهما ليست واحداً من القولين، فإذا قدر بطلان قول معين لم يلزم صحة قولك، فكيف إذا كان ما أفسدت به قول المعتزلة يبطل أيضاً قولك؟ فقولك أفسد من قولهم إن كان قولهم فاسداً، وكذلك إن كان صحيحاً، فهو فاسد على كل تقدير. وذلك أن عمدتك على بدلان قولهم أنه يمتنع أن يختص وقت دون وقت بالحدوث بل سبب مخصص حادث. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 259 فيقال لك: وأنت تقول: إن الحوادث كلها تحدث بلا سبب حادث. وعلى قولك فكل حادث حادث في وقت من الأوقات، فإن ذلك الوقت اختص بالحدوث بلا سبب مخصص حادث، فألزمهم اختصاص وقت من الأوقات بالحدوث دون سائر الأوقات بلا مخصص. وأنت يلزمك اختصاص كل وقت بما يحدث فيه من الحوادث بلا سبب مخصص، واختصاص كل حادث بصفته وقدره بلا سبب مخصص، واختصاص كل حادث بوقته بلا سبب مخصص، وحدوث جميع الحوادث بلا سبب مقتض للحوادث، فهم إن كان ما التزموه باطلاً فقد التزمت أضعافه، فيكون قولك أفسد. وإن لم يكن باطلاً بطلت حجتك على إبطال قولهم، فتبين أن إبطالك لقولهم، مع اعتقادك لما تعتقده، باطل على كل تقدير، وعلم أن الأصول الصحيحة التي وافقتهم عليها، هي بطلان قولك أدل منها على بطلان قولهم، والأصول الفاسدة التي وافقوك عليها، إذا كانوا قد تناقضوا فيه ولم يطردوها، فأنت أعظم تناقضاً في عدم طردك لأصولك مطلقاً: صحيحها وفاسدها. وبيان ذلك أنه قد قال: يجب أن يكون الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كوناً أزلياً، ومايلزم من ذلك لزوماً ذاتياً وإلا ما يلزم من اختلافات يلزم عندها فيتبعها التغيير يعني حركة الفلك وما يتبعها من التغيير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 260 فيقال له: إذا لم يكن مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كوناً أزلياً، واللازمة من ذلك لزوماً ذاتياً، كما يقوله في لزوم الفلك عنه، وما يقدره علة للفلك من العقول أوغيرها، فاللازم لهذه اللوازم: إما أن يكون لازماً لها لا ينفك عنها في وقت من الأوقات، أو لازماً لها في حال دون حال. فإن كان لازماً لها في كل الأوقات، وجب أن لا يحدث شيء، وأن لا يكون تغير أصلاً. وإن كان لازماً لها في وقت دون وقت، فقد اختلف نسبة لوازمه إلى الأوقات، والأمور الحادثة في الأوقات، حيث حدث عن لوازمه في هذا الوقت ما لم يحدث في هذا الوقت، وإذا اختلفت نسبة اللوازم إلى الأوقات والحودث، لزم أن تختلف نسبته إلى الأوقات والحوادث، لأن الأمور الكائنة عنه كوناً أزلياً، وما يلزمها لزوماً ذاتياً، نسبتها إلى جميع الأوقات والحوادث كنسبته، لأنه لو كانت نسبتها إلى الأوقات والحوادث تخالف نسبته، لكانت حالها في بعض الأوقات والحوادث مخالفاً لحاله، ولكانت مختصة في بعض الأوقات بمعنى منتف في أوقات أخر. وذلك تخصيص لبعض الأوقات دون وقت آخر بحدوث حادث فيه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 261 فإن جاز تخصيص وقت دون وقت بحدوث من غير سبب حادث، بطل أصل الكلام. وإن لم يجز ذلك، لزم أن يكون اختصاص لوازمه بحدوث حادث فيها أو منها بوقت دون وقت، إنما كان لاختصاصه هو بحدوث حادث فيه أو منه لوقت دون وقت، وإلا لم تكن تلك اللوازم لوازم له. فلا بد من أحد أمرين: إما أن تكون الأمور اللازمة له ليست لازمة، فتكون الحوادث حدثت عنه ابتداء بدون وسائط، وهذا أشد إبطالاً لقولهم. وإما أن تكون تلك الأمور اللازمة له لا تخصص في وقت دون وقت بحدوث حادث فيها أو منها، إلا لتخصيص لها بذلك، إذ لو اختصت دون تخصيصه، للزم الحدوث بلا محدث، وهو ممتنع. ومتى كان تخصيص اللوازم لحدوث حادث فيها أو منها إنما هو لتخصيصها لها بذلك، كانت نسبته إلى الأوقات والحوادث نسبة مختلفة كنسبة اللوازم. وهذا أمر لا محيد لهم عنه، هو يبين بطلان قولهم بياناً ضرورياً لمن فهمه. إذ أصل قولهم حدوث التغير عما لا يتغير. وهذا يناقض ما قالوه. فهم بين أمرين: إن جوزوا حدوث متغير عن غير متغير، لم يمكنهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 262 إبطال قول المعتزلة ونحوهم، الذين يقولون بحدوث جميع الحوادث من غير حدوث سبب، بل بمجرد القدرة، أو القدرة والإرادة التي لم تزل ولا تزال على حال واحدة. وإن لم يجوزوا حدوث متغير عن غير متغير، بطل قوهم كله. فإن الفلك متغير مختلف هو في نفسه، مختلف القدر والصفات، وهو متغير عندهم بما يحدث فيه من الحركات. وهذا التغير صادر عما لا يتغير عندهم، سواء قالوا: هو صدر عن العقل الذي لا يتغير، كما يقوله ابن سينا وأمثاله، أو صادر عن الواجب بنفسه الذي لا يتغير، كما يقوله ابن رشد وأمثاله، أو صادر عن الواجب بتوسط العقل، كما يقوله النصير الطوسي وأمثاله، أو مهما قالوه من جنس هذه المقالات فلا بد على كل تقدير أن يلزمهم حدوث متغير عن غير متغير. وحينئذ فبطلت حجتهم على المعتزلة، وكانوا أكثر التزاماً للباطل الذي قرروا أنه باطل، وأبطلوا به قول المعتزلة. وذلك أنهم يجعلون جنس الحركات والحوادث كلها حدثت بلا محدث أصلاً، لأن العلة القديمة الأزلية لا يتأخر عنها شيء من معلولاتها ولوازمها، فكل ما تأخر عنها فليس من موجبها: لا بوسط ولا بغير وسط. وتلك الحوادث لم تحدث الجزء: 8 ¦ الصفحة: 263 عن واجب آخر بالاتفاق والضرورة، فيلزم أن لا يكون للحوادث كلها محدث، وأن لا يكون الرب تعالى محدثاً لشيء من الحوادث. وفي هذا من تعطيل الصنع عن الصانع وتعطيل الصانع عن الصنع، ما هو أعظم من كل قول قاله غيرهم، فإنهم يشنعونه على المعتزلة ونحوهم: بأنكم إذا قلتم بحدوث العالم عطلتم الصانع في أزلة عن الصنع. فقال لهم: أنتم عطلتم الصانع دائماً عن صنع شيء من الحوادث، على ما هوبين ظاهر لكل من تدبر هذا، فقد عطلتموه عن أن يحدث شيئاً من الخير والإحسان أزلاً وأبداً. وأما صنعه اللوازم وجوده، فهذا أنتم منازعون فيه، وقد بين غير واحد بطلان قولكم فيه. وحينئذ فتكونون قد عطلتموه عن كل فعل وصنع وإفاضة وإيجاب واقتضاء أزلاً وأبداً. وأما تعطيل الصنعة عن الصانع، فهذا ليس قولاً معروفاً لطائفة معروفة، بل الأمم المعروفون متفقون على أن الصنعة لا بد لها من صانع. وهذا ضروري في العقل. وعلى قولكم: الحوادث دائماً تحدث، وليس لها صانع، فإن العلة التامة في الأزل لا يحدث عنها شيء أصلاً. وأيضاً فإن الحوادث مختلفة في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 264 صفاتها ومقاديرها. كما أن الفلك مختلف في صفته وقدرة. والواحد البسيط من كل جهة يمتنع أن يصدر عنه ما هو مختلف في صفاته وأقداره، وإن جاز ذلك بطل قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. وإذا بطل هذا القول بطل قولهم في صدور العالم عنه، سواء كان صادراً عنه بوسائط لازمة له بسيطة كالعقول، أو بغير وسائط أو بوسائط مختلفة، فكيف ما قدروه، فلا بد لهم من لوازم أجسام مختلفة في القدر والصفات عن واحد بسيط لا صفة له ولا فعل فيه. وأيضاً فما زمان من الأزمنة إلا وتحدث فيه حوادث مختلفة، وقد يختص بعض الأزمنة بحوادث ليست من جنس حوادث بقية الأزمنة، كحادث الطوفان وأمثاله، بل إرسال موسى عليه السلام، وما تبع رسالته من الحوادث، وإرسال محمد صلى الله عليه وسلم وما تبع رسالته من الحوادث، وأمثال ذلك، هي من الحوادث المختصة بزمان دون زمان، فإذا كان لا سبب للحوادث إلا ذات نسبتها إلى جميع الأزمنة سواء، ولوازمها التي نسبتها إلى جميع الأزمنة سواء، وقد قالوا لأجل هذا: يمتنع تخصيص زمان دون زمان بحدوث العالم، وقالوا: العالم قديم لذلك، ففي هذا القول من تخصيص بعض الأزمنة بحادث دون حادث، ما في ذلك القول وزيادات، فإن المعتزلة يقولون: التخصيص إنما وقع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 265 وقت إحداث العالم فقط، ثم التخصيص في سائر الأوقات كان أسباب حادثة في العالم. وهؤلاء يقولون: لا تزال الأوقات تختص بالحوادث من غير سبب، مع أن نسبته إلى جميع الأوقات والحوادث واحدة. والأشعرية ونحوهم، وإن قالوا: إنه لا يزال يخص وقتاً دون وقت بحدوث الحوادث، من غير سبب يقتضي التخصيص سوى محض الإرادة، التي نسبتها إلى جميع الأوقات والحوادث واحدة، فهم أطرد لقولهم من قولكم: إن نسبته إلى الأوقات واحدة، مع أنه لم يزل ولا يزال يخص كل وقت بحادث دون الآخر، مع استواء نسبته إلى الأوقات. فأنتم مع قولكم بدوام الفعل وأزليته، في قولكم من مخالفة أصلكم أكثر مما في قول المعتزلة وقول الأشعرية. وأيضاً فمعلوم أن الحركات مختلفة، والمتحركات مختلفة، وليست الحركات كلها صادرة عن حركة الفلك الأطلس، بل لكل فلك، أو لكواكب كل فلك، حركة تخصه، فإن الناس يشهدون بعيونهم حركات الخمسة على خلاف حركات الثوابت، ويشهدون حركة الشمس والقمر والكواكب من المشرق إلى المغرب، على خلاف حركة الخمسة وحركة الثوابت. تعليق ابن تيمية والجمهور من أهل الهيئة يقولون: المتحرك هو الأفلاك، وإن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 266 الحركة المشرقية هي حركة المحيط بما فيه، وسواء كان الأمر كذلك أو لم يكن، فليست حركة كل كوكب وفلك تابعة لحركة المحيط، بل الحركات مختلفات وإذا كان كذلك امتنع أن تصدر هذه الحركات المختلفة عن واحد بسيط لا يصدر عنه إلا واحد، سواء صدرت بواسطة أو بغير وساطة. وأما صدور المختلفات عن ما لا يصدر عنه إلا واحد بلا واسطة، فهو جمع بين النقيضين، وقول متناقض. وأما الصدور بواسطة، فتلك الواسطة يجب أن لا تكون إلا واحد عن واحد، فإذا قدر أن الأول واحد بسيط لا يصدر عنه إلا واحد، وإلا كان قولاً متناقضاً، فإنه إذ صدر عنه ما فيه كثرة، فقدر صدر عنه أكثر من واحد، وإن لم يكن في الصادر كثرة، وجب أن لا يصدر عن الصادر الأول إلا واحد، وهلم جراً، وهذا خلاف المشهود. وما يلفقونه في هذا المقام من قولهم: إن الأول يعقل مبدعه ويعقل نفسه، وأنه باعتبار عقله للأول صدر عنه عقل، وباعتبار عقله لنفسه صدر عنه نفس أو فلك، أو باعتبار وجوبه بالأول صدر عنه عقل، وباعتبار إمكانه صدر عنه نفس أو فلك، أو باعتبار عقله صدر كذا أو كذا، وباعتبار وجوبه أو إمكانه صدر كذا أو كذا، أو مهما قالوه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 267 من الأقوال التي يقدرها الذهن في هذا المقام، فهي مع كونها أقوالاً لا دليل عليها، وإنما هي تحكمات ورجم بالغيب، بل والدليل يقوم على فسادها، فلا يحصل بها جواب عما يدل على فساد أصلهم، فإن تلك الوجوه إما أن تكون أموراً وجودية أو عدمية، فإن كانت وجودية، فقد صدرت عن الأول، فقد صدر عنه أمور متعددة أكثر من واحد بلا واسطة، وإن كانت عدمية لا يخرج الصادر الأول عن أن يكون واحداً بسيطاً، وحينئذ فلا يصدر عنه إلا واحد. يبين ذلك أن كثرة السلوب العدمية إن أوجبت كثرة، فالأول فيه كثرة لكثرة ما يسلب عنه، وإن لم توجب كثرة فلا كثرة في الصادر الأول بأمور عدمية، فلا يصدر عنه إلا واحد، وهلم وجراً. وأيضاً فهذا الواحد الذي يقدرونه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان، كالواحد الذي يجعلونه مبدأ المركبات العقلية، كما بسط هذا في موضع آخر. وإذا كان كذلك، فما يقولونه في هذا المقام من أنه حركة الفلك واحدة أزلية أبدية، وهي فعل الرب الدائم فعله، قول باطل لوجوه: أحدها: أن الحركات ليست واحدة، بل حركات مختلفات وليس بعضها صادراً عن بعض. فقول القائل: إنها واحدة قول باطل. الثاني: أن الحركة الدائمة سواء كانت واحدة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 268 نوعاً واحداً أو أنواعاً مختلفة تحدث شيئاً بعد شيء، وإذا كان الأول علة تامة أزلية، كان مستلزماً لمعلوله، فلا يتأخر عنه شيء من معلوله، بل يكون معلوله كله أزلياً أبدياً دائماً بدوامه، إن أمكن مقارنة المعلول لعلته، لا يحدث منه شيء بعد شيء، فإن الحادث في الزمن الثاني يمتنع أن تكون علته تامة أزلية، لأن العلة التامة مستلزمة لمعلولها، وهو لا يكون بينه وبينها فصل، فكيف وأجزاء الحركة الحادثة شيئاً بعد شيء كلها منفصلة عن الأزل؟ فامتنع أن يكون معلول علة تامة أزلية. الثالث: أن يقال: كون المفعول المعين يقارن فاعله في الزمان، أمر لا يعقل وجوده في الخارج، وإنما يقدره الذهن، كما يقدر الممتنعات. وسواء سمي الفاعل علة أولم يسم، فإنه لا تعقل علة صدر عنها معلول وهو مفعول لها، وكان زمانهما واحداً، ولكن قد يكون الشيء مستلزماً لغيره ومقارناً له في الزمان، كاستلزام الذات لصفاتها اللازمة واستلزام حركة أحد الجسمين المتلازمين لحركة الآخر، كحركة الخاتم واليد، لكن لا يكون الملزوم فاعلاً للازم، فإنه لا يعقل مفعول معين لازم لفاعله البتة. ولكن لفظ (العلة) فيه إجمال واشتباه واشتراك، فقد يراد بها الملزوم الموجب، وقد يراد بها الفاعل. والملزوم الموجب الذي ليس بفاعل يعقل أن يقارنه لازمه وموجبه الذي ليس بمفعول له، لكن موجبه الذي هو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 269 مفعول له لا يعقل مقارنته له، لكن يعقل صدور الفعل عنه شيئاً بعد شيء، فتكون المفعولات صادرة عنه شيئاً بعد شيء. وهؤلاء أصلوا أصلاً فاسداً ظهر به فساد قولهم وهو أن العلة التامة التي تسمى المؤثر التام يجب أن يقارنه معلوله في الزمان بحيث لا يتأخر عنه، ولا يكون معلول إلا لعلة تامة. وهذا ناقضوا به المتكلمين الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم في قولهم: إن المؤثر التام يجوز، بل قد يجب، أن يتراخى عنه أثره، فقالوا: الباري كان في الأزل مؤثراً تاماً وتراخى عنه أثره. فقال أولئك: بل يجب أن يقارنه أثره. والصواب قول ثالث، وهو أن التأثير التام من المؤثر يستلزم الأثر، فيكون الأثر عقبه، لا مقارناً له، ولا متراخياً عنه. كما يقال: كسرت الإناء فانكسر، وقطعت الحبل فانقطع، وطلقت المرأة فطلقت وأعتقت العبد فعتق. قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} ، فإذا كون شيئاً كان عقب تكوين الرب له، لا يكون مع تكوينه ولا متراخياً عنه. وقد يقال: يكون مع تكوينه، بمعنى أنه يتعقبه لا يتراخى عنه. وهو سبحانه ما شاء كان ووجب بمشيئته وقدرته، وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته له، وعلى هذا فكل ما سوى الله تعالى لا يكون إلا حادثاً مسبوقاً بالعدم، فإنه إنما يكون عقب تكوينه له، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 270 فهو مسبوق بغيرهم سبقاً زمانياً. وما كان كذلك لا يكون إلا محدثاً والمؤثر التام يستلزم وجود أثره عقب كمال التأثير التام. وأما على قول هؤلاء، فيلزمهم أمور باطلة تستلزم فساد قولم. منها: أنه لا يحدث في العالم شيء، فإنه إذا كانت العلة تامة أزلية ومعلولها معها في الزمان، وكل ما سواه مغلول له بوسط أو بغير وسط، لزم أن يكون كل ما سوى الله قديماً أزلياً. ومنها: أنه يلزم أن لا يحدث شيء حتى تحدث حوادث لا تتناهى في آن واحد. وهذا متفق على استحالته عندهم وعند سائر العقلاء، وهو تسلسل علل ومعولات، أو تمام علل ومعلولات حادثة لا نهاية لها، فإنه كلما حدث حادث، فإنه لا يحدث حتى تحدث علته التامة أو تمام علته التامة وتكون حادثة معه، وتلك لا تحدث حتى يحدث معها ماهو كذلك، فلزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى، أوتمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد. وإذا قالوا: كل حادث مشروط بعدم ما قبله لم يصح على قولهم، لأن عدم الحادث الأول سابق للحادث الثاني. وعندهم العلة التامة يجب مقارنتها للمعلول ولا تتقدم عليه. ولكن هذا يصح على قول أهل السنة الذين يقولون: المعلول يحصل عقب تمام العلة التامة لا معها، فيكون حدوث الثاني عقب عدم الأول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 271 وعلى هذا القول فيلزم حدوث كل ماسوى الله تعالى. وبهذا يظهر بطلان قولهم وصحة قول المسلمين، فإنهم قد يشبهون قولهم بما يحدث شيئاً فشيئاً عن الفاعل بالاختيار أو بالطبع، كالحجر الهابط، وكالمسافر إلى بلد، فإنه يقطع المسافة شيئاً فشيئاً، والمقتضى لقطعه المسافة، وهو قصده تلك المدينة، قائم. لكن قطعه للجزء الثاني منها مشروط بعدم الأول. فيقال لهم: هذا يدل على فساد قولكم، فإنه ليس هنا مؤثر تام قارنه أثره، ولم يوجد الأثر إلا عقب التأثير التام لا معه، فليس هذا نظير قولكم، بل هو نظير قول من يقول: لم يزل يحدث شيئاً بعد شيء، وإحداثه للثاني مشروط بعدم الأول. وهذا نظير قول من يقول: لم يزل متكلماً إذا شاء، فعالاً لما يشاء، فوجود الثاني، كالإرادة الثانية، والكلمة الثانية، والفعل الثاني، مشروط بانقضاء الأول، وبانقضاء الأول تم المؤثر التام المقتضى لوجود الثاني. وعلى هذا فكل ما سوى الرب حادث كائن بعد أن لم يكن، وهو سبحانه المختص بالقدم والأزلية، فليس في مفعولاته قديم، وإن قدر أنه لم يزل فاعلاً، وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ليس في المفعولات قديم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 272 البتة، بل لا قديم إلا هو سبحانه، وهو وحده الخالق لكل ماسواه، وكل ما سواه مخلوق، كما قال تعالى: {الله خالق كل شيء} . وهؤلاء لمما كانت مناظرتهم مع المتكلمين الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم على أصلهم في الاستدلال على حدوث الأجسام، أو حدوث العالم، بامتناع حوادث لا أول لها، ورأى هؤلاء أن هذه قضية كاذبة. ولهذا كان أئمة أهل الكلام، كـ الرازي وغيره، يوفقونهم على فسادها، فإن الرازي وإن قرر في كتبه الكلامية كـ الأربعين ونهاية العقول وغيرهما: امتناع حوادث لا أول لها، كما تقدم تقريره، واعتراض إخوانه عليه، فهو نفسه في كتب أخرى يقدح في هذه الأدلة، ويقرر وجوب دوام الفاعلية، وامتناع حدوث الحوادث بلا سبب، وامتناع حدوثها في غير زمان، ويجيب عن كل ما يحتج به في هذه الكتب، كما فعل ذلك في كتاب المباحث المشرقية وغيره. ولعل الذين قدحوا في أدلته هذه، كـ الآمدي والأبهري والأرموي صاحب لباب الأربعين وغيرهم، أخذوا ذلك - أو بعضه - من كلامه، أو أخذوه هم من حيث أخذه هو. وهذا قد رأيته فإني كنت قد أرى اعتراض هؤلاء عليه أو بعض أجوبته، ثم أنظر بعد ذلك في كلام آخر له، فأجدهم قد أخذوا ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 273 الأعتراض أو الجواب، أخذو، من كلامه كما في الجواب الباهر الذي ذكره الأرموي، فإنه أخذه من المطالب العالية. والاعتراضات التي ذكرها هو وغيره على تقريره لامتناع حوادث لا أول لها، قد ذكرها الرازي في المباحث المشرقية وذكرها الآمدي أيضاً. ولهذا أرأيت من يغتر بكلام هؤلاء من طلبة العلم حقيقة أمرهم. وأن هذا التقرير الذي وافقوا فيه شيوخهم المتكلمين، ومن المعتزلة والأشعرية، هم بعينهم قد قدحوا فيه في موضع آخر قدحاً لم يجيبوا عنه. فلا يظن الظان أن ما ذروه مما ينصر دين الإسلام، بل هذا مما يقوي معرفة المسمين بذم الكلام الذي ذمه السلف والأئمة. وأنه جهل لا علم. ولا يغتر المغتر بما يجده من كثرة ذكر المصنفين في الكلام لذلك، واتباع آخرين مقلدين لهم في ذلك، فإن النظر: إما أن يكون ناظراً بنفسه حتى يتبين له الحق، أو يقلد المعصوم، فهذان طريقان علميان، وإما أن يكون محسناً للظن بشيوخ تقدموا، من شيوخ هذا الكلام المحدث، فهؤلاء قد عارضوهم من هو أعلم منهم. فالسلف والأئمة عارضوهم، وأتباعهم الحذاق الذين تعقبوا كلامهم عارضوهم وناقضوهم، وأتباعهم الذين تعقبوا كلامهم عارضوهم وناقضوهم، والفلاسفة أيضاً عارضوهم وناقضوهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 وإذا قال القائل: هذا الأصل قد قرره مثل أبي الهذيل العلاف وأبي إسحاق النظام، ومثل الجهم بن صفوان، واتبعهم عليه مثل أبي علي وأبي هاشم، وعبد الجبار بن أحمد، وأبي الحسين البصري، وغيرهم. ووافقهم على صحة هذه الطريقة - وهو امتناع حوادث لا أول لها - مثل محمد بن كرام، وابن الهيثم وغيرهما، ومثل أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر، وأبي المعالي، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، ابن الزاغوني، وأبي عبد الله المازري، والقاضي أبي بكر بن العربي، وغيرهم، بل ومثل الشريف المرتضى وأمثاله من شيوخ الشيعة، فهؤلاء - وأضعافهم - يحتج بهذه الطريقة، وإن كان أصلها مأخوذاً من الجهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف وغيرهما. قيل لمن قال هذا القول: الواحد من هؤلاء لم يعظمه من يعظمه من المسلمين، إلا لما قام به من دين الإسلام، الذي كان فيه موافقاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الواحد من هؤلاء له مساع مشكورة في نصر ما نصره من الإسلام، والرد على طوائف من المخالفين لما جاء به الرسول، فحمدهم والثناء عليهم بما لهم من السعي الداخل في طاعة الله ورسوله، وإظهار العلم الصحيح الموافق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والمظهر لباطل من خالف الرسول، وما من أحد من هؤلاء، ومن هو أفضل منهم، إلا وله غلط في مواضع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 275 وإذا كان كذلك فانظر في هذا الأصل الذي اتبع فيه متأخروهم لمتقدميهم، من إثباتهم حدوث العالم والأجسام بهذه الطريق: هل هي طريقة صحيحة في العقل أم لا؟ وهل هي موافقة للشرع أم لا؟ فعرضها على الكتاب والميزان، فإن الله تعالى يقول: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} ، فاعرض عما يذكرونه بما ثبت من كتاب الله وسنة رسوله، وما ثبت عن الصحابة التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين، وزنه أيضاً بالميزان الصحيحة العادلة العقلية، واستعن على ذلك بما يذكره كل من النظار في هذه الطريقة وأمثالها، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، ولا تتبع الظن فإنه لا يغنى من الحق شيئاً، وسل الله أن يلهمك ويهديك. فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح الإلهي «أن الله تعالى قال: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم» . وقد ثبت في صحيح مسلم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 276 من الليل يصلي يقول: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» . والله تعالى قد أخبر عن أهل النار أنهم قالوا: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} ، فالضلال وقع في السمع والعقل، فإن أقواماً نصروا الإسلام - أو السنة - في ظنهم، وصاروا يدخلون في الإسلام - أو السنة - ما ليس منه، ولم يكن لهم من الخبرة بالكتاب - وتفسير السلف له - والسنة، وأقوال سلف الأمة ما يعرفون به ما بعث الله به رسوله، مما عرف بالنص والإجماع. ولهذا نجد جمهور أهل الكلام من أبعد الناس عن معرفة الحديث وأقوال الصحابة، ويذكرون أحاديث يظنونها صحيحة وتكون من الموضوعات المكذوبات، وأحاديث تكون صحيحة متلقاة بالقبول، بل مجمع على تلقيها بالقبول وصحتها عند علماء أهل الحديث، وهم يكذبون بها أو يرتابون فيها، وكذلك نجدهم - وغيرهم - في العقليات قد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 277 أحسنوا الظن بطريقة دون طريقة، وفي كل من الطريقين ما يؤخذ ويترك، وأهم الأمور معرفة ماجاء به الرسول وفهم ذلك. فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عيه وسلم أنه قال: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» ، وأول الفقه فهم خطاب الله ورسوله، بعد معرفة ثبوت ذلك عن الرسول، ولو كان في نفس الأمر أن السمعيات لا يجب قبولها حتى يقوم الدليل على صدق المبلغ، وهو بعد في قطع هذه المسافة، فينبغي له أن لا ينظر في مسألة مما تكلم فيها الناس، حتى يعرف ما قاله هذا الرسول وما ثبت عنه، فإنه لوقدر واحد من العلماء النظار، لكان ينبغي أن يعرف ما قاله في مسائل النزاع، لينظر في قوله وقول غيره، كما يفعل من نظر في أقوال النظار، فكيف إذا كان في نفس الأمر هو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى؟. ومعلوم أن الرجل لو تكلم في مسألة طب تنازع فيها الناس، وقد بلغه أن لبقراط وجالنيوس وأمثالهم فيها نصاً، لم ينبغ له أن يثبت القول فيها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 278 حتى يعرف ما قاله هؤلاء، مع جواز غلطهم في نفس الأمر، فكيف بنصوص الانبياء في الأمور الألهية؟. وإذا وقع في قلبه شبهة الباطنية، من الفلاسفة وغيرهم، أنهم تكلموا بالتخييل والتمثيل، لا بإظهار الحقائق، إذ لم يكن إلا ذلك، فليس لأحد أن يقبل هذا القول منهم تقليداً لهم، بل ينظر في أقواله وأحواله وسائر أموره وأحوال أصحابه، هل يطابق قول هؤلاء، أم يورث علماً ضرورياً بأن هؤلاء كاذبون عليهم عمداً أو خطأ: إما عناداً وإما ضلالاً؟ وهذا مبسوط في موضعه. تعليق ابن تيمية والمقصود هنا أن هؤلاء المتكلمين الذين جمعوا في كلامهم بين حق وبين باطل، وقابلوا الباطل بباطل، وردوا البدعة ببدعة، لما ناظروا الفلاسفة وناظروهم، في مسألة حدوث العالم ونحوها، استطال عليهم الفلاسفة لما رأوهم قد سلكوا تلك الطريق، التي هي فاسدة عند أئمة الشرع والعقل، وقد اعترف حذاق النظار بفسادها، فظن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بامتناع حوادث لا أول بها، وأقاموا الدليل على دوام الفعل، لزم من ذلك قدم هذا العالم، ومخالفة نصوص الأنبياء، وهذا جهل عظيم، فإنه ليس للفلاسفة ولا لغيرهم دليل واحد عقلي صحيح يخالف شيئاً من نصوص الأنبياء. وهذه مسألة حدوث العالم وقدمه، لا يقدر أحد من بني آدم يقيم دليلاً على قدم الأفلاك أصلاً، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 279 وجميع ما ذكروه ليس فيه ما يدل على قدم شيء بعينه من العالم أصلاً، وإنما غايتهم أن يدلوا على قدم نوع الفعل، وأن الفاعل لم يزل فاعلاً، وأن الحوادث لا أول لها، ونحو ذلك مما لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم، وهذا لا يخالف شيئاً من نصوص الأنبياء، بل يوافقها. وأما النصوص المتواترة عن الأنبياء بأن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وأن الله خالق كل شيء، فكل ماسواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن، فلا يمكن أحداً أن يذكر دليلاً عقلياً يناقض هذا، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. وهذه مسألة حدوث العالم أعظم عمد الفلاسفة فيها، التي عجز المتكلمون عن حلها، ليس فيها ما يدل على قدم شيء من العالم أصلاً ولهذا كان ما أقامه الناس من الأدلة على أن كل مفعول فهومحدث كائن بعد أن لم يكن، ولك ما سوى الله مفعول فيكون محدثاً، لا يناقض ذلك، وإنما يناقض ذلك أصل الجهمية والمعتزلة حيث قالوا: إن الله كان، ولا يتكلم بشيء ولا يفعل شيئاً، بل كان الكلام والفعل عليه ممتنعاً، لا مقدوراً له في الأزل، ثم إنه صار ذلك ممكناً مقدوراً بدون تجدد شيء، فيحدث الكلام والفعل بدون سبب أوجب حدوث ذلك أصلاً. ثم قال أئمة هذه الطريقة - وهو الجهم وأبو الهذيل - بأن لا بد من فناء الفعل وفناء الحركات كلها، زاد الجهم: وبفناء العالم كله: الجنة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 280 والنار، فيكون الرب ما زال معطلاً من الكلام والفعال، صم لا يزال معطلاً من الكلام والفعال، وإنما حدث ما حدث من الكلام والفعال في مدة قليلة جداً بالنسبة إلى الأزل والأبد، فبهذا القول وما يترتب عليه أقام على هؤلاء الشناعة أئمة الشرع والعقل، ورآى الناس أن في ذلك من مخالفة الشرع والعقل مالا يجوز السكوت عن رده، لكن هؤلاء، وإن كانوا ابتدعوا مخالفة للشرع والعقل بحسب نظرهم واستدلالهم، فالمتفلسفة المتنازعون لهم أبعد عن العقل والشرع، وهؤلاء يردون صريح ما تواتر عن الرسل، ويزعمون أنهم خيلوا ومثلوا. وأما أولئك فقد يتأولون النصوص، أو يقولون: لها معنى لا نفهمه، ولا يقولون: إن الرسل قصدت أن تخبر بالأمور على خلاف ما هي عليه بطريق التخييل والتمثيل، بل كثير مما ينصرونه من بدعهم يظنون أن الرسل قالوه، فخطؤهم تارة في تكذيب الناقل، وتارة في تأويل المنقول. وأولئك يعلمون صدق الناقل وصدق المنقول عنه، ولكن يقولون كلاماً مضمونه أنه كذب للمصلحة، ولهذا سماهم المسلمون: ملحدين: فإنهم يلحدون في آيات الله، ولهذا يفضي بهم تأويل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 281 النصوص إلى ما يعلم العامة والخاصة أنه افتراء على الرسول وإلحاد محض، مثل تأويلات الباطنية للعبادات وللقرآن وغير ذلك. وكان مما سلط هؤلاء على الإلحاد، إدخال أولئك في الشريعة ما ليس منها، وإن كانوا متأولين في ذلك، فما جعلوا من دين الإسلام القول بأن الخالق لم يكن يمكنه أن يتكلم ويفعل، ثم أمكنه ذلك بلا سبب، وأن ذلك يتضمن ترجيح الممكن بلا مرجح، وأن الممكن انقلب من الأمتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا سبب حادث، والفاعل أمكنة الفعل والكلام بعد أن لم يكن ممكناً بلا سبب - أخذ ذلك المتفلسفة وناقضوه واستدلوا بحجتهم المشهورة على قدم العالم، بأن كل ما يعتبر في كون الباري مؤثراً: إما أن يكون موجوداً في الأزل، وإما أن لا يكون، فإن كان موجوداً لزم القول بأنه لم يزل فاعلاً، لأن المؤثر التام لا يتخلف عنه أثره، وإن لم يكن موجوداً امتنع وجوده بعد هذا، لأن القول في ذلك الحادث كالقول في غيره، فإذا لم يحصل المرجح التام امتنع الفعل، وإذا حصل وجب وجود الفعل. وهذه الحجة لما ذكروها صار أولئك يجيبون عنها بما لا يفسدها، بأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 282 يقولوا: المرجح هو علم الفاعل وإرادته أو قدرته، أو إمكان الفعل وانتفاء المانع، وهو الأزل، أو حصول المصلحة. وكل ما قالوه من هذا وغيره إذا نظر فيه بعينه لم يكن جواباً صحيحاً، فإن العلم يتبع المعلوم على ما هو به، والمعلوم يتبع الإرادة، فإن لم يكن المرجح ثابتاً في نفس الأمر، لم يكن العلم مرجحا. وأما الإرادة فادعى كثير منهم أنها بذاتها توجب تخصيص أحد المتماثلين. وهذا القدر خلاف ما يعقل من الإرادة، فإنه لا تعرف الإرادة ترجح أحد المتماثلين من كل وجه، بل لا بد من اختصاص أحدهما بما يوجب الترجيح. وإثبات إرادة كما ذكروه لا يعرف بشرع ولا عقل، بل هو مخالف للشرع والعقل، فإنه ليس في الكتاب والسنة وما يقتضي أن جميع الكائنات حصلت بإرادة واحدة بالعين تسبق جميع المرادات بما لا نهاية له، وكذلك سائر ما ذكروه. ثم إن هذه الأمور إن كانت قديمة فلم يحدث مرجح، وإن حدث بعد أن لم يحدث شيء منها أو تعلق بها، فقد حدث الحادث بدون موجب لحدوثه، وترجح أحد المتماثلين بلا مرجح، فقد حدث الحادث بدون موجب لحدوثه، والمرجح قبل وجوده كما هو بعد وجوده لم يكن ناقصاً فتم. والرازي يجيب بأن الإرادة مرجحة كجواب أصحابه، ثم يضعف هذا الجواب، وتارة يقول: بل العقل والنفوس أزلية فحدث تصور من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 283 التصورات للنفس أوجب حدوث الأجسام، وهو باطل في نفسه مخالف للعقل والنقل كما تقدم، وأجود أجوبته المعارضة والنقض، وهو أنه يقول: هذه الحجة تستلزم أن لا يحدث شيء من العالم، وهو خلاف المشاهدة. وهذه المعارضة جيدة إذا ادعى المدعي أن المرجح التام لكل ممكن ثابت في الأزل، فأن الحس والمشاهدة يناقض ذلك، ودليلهم لا يدل على ذلك، بل يدل على حصول مطلق الترجيح، لا على حصول ترجيح لممكنات معينة، ولا كل ممكن. فهذا يبين أنه ليس في دليلهم حصول مطلوبهم، فإن مطلوبهم حصول المؤثر التام في الأزل لأثر معين، كالعقول والنفوس والأفلاك. ومعلوم أن دليلهم لا يدل على ذلك، بل إنما يدل على أنه لم يزل يفعل شيئاً، فإذا قدر أن ذلك الفعل هو قائم بنفسه، لا مفعول له في الخارج، كان ذلك وفاءً بموجب دليلهم، وإذا قدر أن ذلك كونه لم يزل متكلماً إذا شاء، كان وفاءً بموجب دليلهم. وإذا قيل: إنه قامت به إرادات متعاقبة، كما قاله الأبهري، وأن بسبب بعض تلك الإرادات حدثت الحوادث، كان ذلك وفاءً بموجب دليلهم، إذ موجبه أنه يمتنع كونه يصير فاعلاً بعد أن لم يكن، والمثبت لمطلق لا ثبت فعلاً معيناً ولا مفعولاً معيناً، فضلاً عن أن يثبت عموم الفعل والمفعول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 284 بل الذي يدل على فساد قولهم أنا قد علمنا بالمشاهدة والإحساس تجدد الحوادث في العالم، وقد امتنع أن يكون في الأزل مؤثراً تاماً فيها، فلا بد من حدوث تمام المؤثرية لك واحد منها، والإحداث من غيره ممتنع بوسط أو بغير وسط، فلا يحدث حادث إلا منه، سواء كان بوسط كالعقول أو بغير وسط، فلو كان المؤثر كما زعموه، من أنه واحد بسيط لا تقوم به صفة ولا أمر اختياري، لكان حاله عند هذه الحوادث كحاله قبلها وبعدها. وهكذا الأمر في كل حال، وهو قبل حدوث الحادث المعين لم يكن علة تامة، فعنده يجب أن لا يكون علة تامة، فلا يجوز أن يحدث شيء على موجب أصولهم. وإذا قالوا: حدث من الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية ما أعدت القوابل لقبول فيضه. قيل لهم: هذا إنما يصح إذا كانت القوابل والاستعدادات من غير الفاعل الممد، كما في الشمس، وكما يقولونه في العقل الفعال. فأما الباري تعالى فمنه الإعداد والإمداد، وكل ما سواه من القوابل والمقبولات، والاستعدادات والإمدادات، فمنه لا من غيره، سواءً كان بوسط أو بغير وسط. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 285 وإذا كان كذلك، وكان حاله قبل إحداث كل حادث، كحاله قبل ذلك الحادث، امتنع أن يحدث منه شيء أصلاً: لا قابل ولا مقبول، ولا استعداد ولا إمداد. فهم وإن أثبتوا أنه لم يزل فاعلاً، فقولهم يوجب أنه لم يحدث شيئاً قط، بل ولا فعل شيئاً قط، بل حدثت الحوادث بلا محدث، فعلم أنه باطل. وليس في قولهم ما يوجب قدم شيء من العالم، فقولهم بقدمه باطل. ولهذا لم يحفظ القول بقدم الأفلاك عن أساطين الفلاسفة، بل أول من حفظ ذلك عنه أرسطو وأتباعه. وأما أساطين القدماء، فالمنقول عنهم حدوث الأفلاك، فهم قائلون بحدوث صورة العالم، ولهم في المادة كلام فيه اضطراب. فالنقل الثابت عن أعيانهم بحدوث العالم، موافق لما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم. ونقل أصحاب المقالات عن غير واحد من أئمتهم القول بإثبات الصفات لله، وبإثبات الأمور الاختيارية القائمة بذاته. وهذا قول من يقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول، من الأوائل والأواخر، كأبي البركات وغيره. وهؤلاء لم يوافقوا أرسطو وأتباعه، ولا ابن سينا وأمثاله، على أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 286 الرب وجود بسيط لا صفة له ولافعل، بل أثبتوا له الصفات القائمة بذاته، وأنه يفعل بإرادات تقوم بذاته: إرادة بعد إرادة. وهؤلاء أبعدوا أن يمكنهم إقامة الدليل على قدم شيء من العالم، فإن الفاعل الذي يفعل بإرادات قائمة به بذاته شيئاً بعد شيء، لا يقوم لهم دليل على أن شيئاً من مفعولاته لم يزل مقارناً له، إذ يمكن أنه فعل مفعولاً بعد مفعول. وأن هذا العالم خلقه من مادة كانت قبله. كما أخبرت بذلك الرسل. فأخبر الله تعالى في القرآن أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأخبر أنه سبحانه: {استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم} . قال في الآية الأخرى: {ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} . فأخبر أنه سواهن سبع سماوات في يومين، وأن السماء كانت دخاناً، وهو بخار الماء كم جاء تفيسره في عدة آثار: أنه خلق السماء من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 287 بخار الماء، والبخار دخان الماء، كما أن دخان الأرض دخان. وإن أريد بالدخان التراب فقط. أو دخان التراب والماء، فكل ذلك فيه إخبار الله أنه خلق السماوات السبع من مادة أخرى، كما أخبر أنه خلق الإنسان من مادة، وأنه خلق الجان من مادة. وثبت في الصحيح: صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» . وثبت في صحيح مسلم، عن عبد الله به عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» . وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض» وفي رواية صحيحة: «ثم خلق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 288 السماوات والأرض» ، قأخبر أنه كان بين تقديره وبين خلقه للسماوات والأرض خمسين ألف سنة، وهذه أزمنة مقدرة بحركات موجوده قبل وجود الأفلاك والشمس والقمر. وأخبر أنه كان عرش الرب إذ ذاك على الماء. وقد جاءت الآثار المشهورة بأن الماء كان على وجه الأرض، وأنه خلق السماء من دخان ذلك الماء. وكذلك في أول التوراة مثل هذا، سواء أنه في أول الأمر خلق الله السماوات والأرض، وأنه كانت الأرض مغمورة بالماء، وكانت الريح تهب على الماء، وذكر تفصيل خلق هذا العالم. ففي هذه الآثار المنقولة عن الأنبياء أنه كان موجوداً قبل خلق هذا العالم أرض وماء وهواء، وتلك الأجسام خلقها الله من أجسام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 289 أخر فإن العرش أيضاً مخلوق، كما أخبرت بذلك النصوص، واتفق على ذلك المسلمون، فأساطين الفلاسفة المتقدمون كانوا - فيما نقل الناقلون عنهم - قولهم يوافق هذا، لم يكونوا بقدم العالم، فإن هذا قول ليس عليه دليل أصلاً، مع أنه في غاية الفساد. وحقيقته أن الصانع لم يصنع شيئاً، وأن الحوادث تحدث بلا محدث، بل حقيقته أن هذا العالم واجب الوجود، وأنه ليس له مبدع. وأرسطو إنما أثبت له علة غائية يتشبه الفلك لها، واستدل عليه بكون حركة الفلك عنده اختيارية، فلا بد لها من غاية، وقال: إن العلة الأولى تحرك الفلك كما يحرك المعشوق عاشقه، والمشوق في الحقيقة ليس له قصد ولا علم ولا فعل في تحريك العاشق، بل ذاك لمحبته يتحرك إليه، فكيف وحقيقة قولهم أن يتحرك للتشبه به، كمايتحرك المأموم للتشبه بإمامه؟ فهكذا يقولون: أن الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى. وقد بينا فساد قوله. وحكينا ما ذكره أصحابه من أقواله، وما فيها من الفساد، في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن يعلم العقلاء أنه مخالف لصريح العقل، ليس من دين المسلمين، كما أنه من خالف كتاب الله، وسنة رسوله، أو إجماع السابقين، ليس من دين المسلمين، فليس في دينهم الصحيح: لا ما يخالف صحيح المنقول، ولا ما يخالف صريح المعقول، ولاما يناقض صحيح المنقول وصريح المعقول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 290 والمقصود هنا أن الممكن لا يترجح إلا بمرجح، وأن هذا متفق عليه بين العقلاء، والله أعلم. فصل ثم إن الرازي، مع سلوكه المسلك المتقدم، ذكر أن هذه المتقدمة، أعني أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، هي مقدمة ضرورية، وأن من لزمه ما يناقضها فهو لم يلزم ذلك، فليس من العقلاء من يلتزم نقيضها، والأقوال المستلزمة نقيض هذه القضية باطلة قطعاً. وهذا الذي قاله صحيح في الممكن المعلوم أنه ممكن وهو المحدث، فإن وجود المحدث بلا محدث مما يعلم بضرورة العقل امتناعه، وأما الممكن بالمعنى الذي قالوه وهو ما يتناول القديم، فهو يبين أنه باطل، وأنهم لم يثبتوا بهذه الطريق: لا إثبات متمكن ولا إثبات واجب. ولكن قد ذكر أيضاً أنه من المعلوم بضرورة العقل أن المتساوي الطرفين لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح. وهذا صحيح يوافقه عليه عامة العقلاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 291 وقد ذكر أن كثيراً من الطوائف يتنافضون، فيقولون بما يناقض هذه القضية، ونحن ليس بنا حاجة أن نجيب عن أهل الباطل به نقول: إن قولهم بترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح له يدل على فساد قولهم، كما يدل على فساد قول المتفلسفة الدهرية وفساد قول الجهمية والقدرية. وحينئذ فليس في تلك اللوازم ما نحتاج أن نجيب عنه، إلا ما ذكره عن المسلمين من قولهم: إن الله فعل العالم في الوقت المعين دون سائر الأوقات، لا لأمر يختص به ذلك الوقت. فإن القول المحكي عن المسلمين لا بد أن يكون موجوداً في كتاب الله أو سنة رسوله، أو هو مما انعقد عليه إجماع المسلمين، ولو لم يكن إلا إجماع الصحابة وحدهم فلو كان فيه نزاع بين المسلمين لما جاز أن يحكى عنهم كلهم. فكيف وهذا القول ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها. ولا هو متفق عليه بين أهل الكلام منهم؟ بل هوقول طوائف من أهل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة. وطوائف منهم ينازعون في ذلك، ويقولون: إن الحادث إنما حدث لسبب اقتضى حدوثه واختصاصه بذلك الوقت، مع قولهم: إن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، كما ثبت ذلك بالنصوص المتواترة، وقد علم النزاع في تسلسل الآثار، بل فيما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 292 يقوم بذات الله تعالى من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته مع عدم تناهيها، وثبوت تسلسلها. والمقصود هنا أن القول بترجيح الممكن - الذي هو الحادث - بلا مرجح ممتنع عند عامة العقلاء، فإن كان الممكن هو الحادث، كان كلاهما دليلاً على مدلول واحد. القول بحدوث حادث بلا محدث ممتنع لوجوه وإن قدر أن الممكن أعم من المحدث، فنقول: إذا كان ذلك ممتنعاً فالقول بحدوث حادث بلا محدث ممتنع أيضاً. بل هو أعظم امتناعاً لوجوه: (الأول) أنه يتضمن رجحان الممكن بلا مرجح، لأن كل محدث فهو يمكن وجوده وعدمه، إذ لولا إمكان وجوده لما وجد، ولولا إمكان عدمه لما كان معدوماً قبل حدوثه، فوجوده يقتضي ترجيح وجوده علىعدمه، وذلك يفتقر إلى مرجح. الثاني أن ذلك يتضمن تخصيص حدوثه بوقت دون وقت، وصفة دون صفة، وتخصيص أحد المثلين بما يختص به عن الآخر لا بد له من مخصص. الثالث أن نفس العلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين وأقوى وأظهر في العقل من كون الممكن لا يترجح إلا بمرجح. وهذا يتصور هذا من العقلاء ويعلمون بطلانه بالضرورة، من لا يتصور الممكن ويعلم افتقاره إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 293 المرجح، إلا بنوع من التكلف الذي لا يتصور به ذلك. وقد تبين أن الناس في هذا المقام على درجات، وكل من كان إلى الفطرة العقلية والشريعة النبوية أقرب، كانت طريقته أقوم، فالمستدل بأن الموجود على سبيل الجواز، وهو الموجود الممكن، لا يكون بالوجود أولى منه بالعدم إلا بالفاعل، وأن ما حدث مع جواز أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث، لولا شيء اقتضى حدوثه، كما سلك ذلك كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية، ومن وافقهم من الفقهاء أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم - خير من المستدل بأن الموجود الممكن مطلقاً لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح، وهذا المستدل بأن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح خير من المستدل بأنه لا يترجح وجوده على عدمه، ولا عدمه على وجوده إلا بمرجح، كما سلك ابن سينا وأتباعه، كالسهروردي والرازي والآمدي وغيرهم مع تناقض هؤلاء، حيث قالوا في موضع آخر: إن العدم المستمر لا يحتاج إلى سبب، كما قاله نظار المسلمين من جميع الطوائف. ثم الذين استدلوا بذلك، ولم يحتاجوا إلى قطع التسلسل، كما فعل الجمهور، أقرب من الذين احتاجوا إلى قطع التسلسل، كما فعل ابن سينا ونحوه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 294 ثم هؤلاء الذين لم يحتاجوا إلا إلى إبطال التسلسل دون إبطال الدور، أقرب من الذين احتاجوا إلى إبطال التسلسل والدور جميعاً، كما فعل الرازي ونحوه، وظنوا أن الدليل لايتم إلا بذلك. ثم هؤلاء الذين أبطلوا التسلسل خير من الذين أقروا بعجزهم عن ذلك كما فعل الآمدي. ثم إن أبا الحسين مع أن طريقه أصح وأبين وأقرب من طرق هؤلاء، فطريقة القاضي أبي بكر بن الطيب، والقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي الجويني، وابن عقيل، وأبي الحسن ابن الزاغوني، وأمثالهم، خير من طريقته. كلام أبي الحسن البصري في إثبات محدث العالم وذلك أنه قال: (فإذا ثبت أن العالم محدث، فالدلالة على أن له محدثاً، هي أنه لا يخلو إما أن يكون حدث، وكان يجوز أن لا يحدث، أو كان يجب أن يحدث. فلو حدث مع وجوب أن يحدث، لم يكن أن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل، فلا يستقر حدوثه على حال، إذ كان حدوثه واجباً في نفسه، وإن حدث مع جواز أن لا يحدث، لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث، لولا شيء اقتضى حدوثه. وسندل على أنه عالم قادر، فصح قولنا) . قال: (واستدل شيوخنا، رحمهم الله، على أن الأجسام تحتاج إلى محدث، بأن تصرفنا يحتاج إلى محدث، لأجل أنه محدث، فكان حدوث الجزء: 8 ¦ الصفحة: 295 كل محدث يحوجه إلى محدث، فإذا كانت الأجسام محدثه، احتاجت إلى محدث) . قال: (والدلالة على حاجة تصرفنا إلى محدث، هو أنه لو حدث بنفسه من غير محدث لحدث، وإن كرهناه، وكنا ممنوعين منه، فلما وقع بحسب قصدنا، وانتفى بحسب كراهتنا، علمنا أنه يحتاج إلينا. والدليل على أنه يحتاج إلينا لأجل حدوثه، أنه إما أن يحتاج إلينا لأجل حدوثه، أو لبقائه، أو لعدمه، فلو احتاج إلينا لأجل بقائه، لوجب أن لا يبقى البناء إذا مات الباني، ولا يجوز أن يحتاج إلينا لعدمه، لأن تصرفنا كان معدوماً قبل وجودنا، وقبل كوننا قادرين، فصح أنه احتاج إلينا ليحدث، ولأن حدوثه هو المتجدد بحسب قصدنا وإرادتنا، وهو الذي لا يتجدد إذا كرهناه، فعلمنا أنه إنما يحتاج إلينا لأجل حدوثه) . تعليق ابن تيمية قلت: فطريقة شيوخه الذين أشار إليهم من المعتزلة، هي الاستدلال على افتقار المحدث إلى المحدث بالقياس على تصرفاتنا، وأنها تحتاج إلى محدث لأجل كونها محدثة. وقد سلك هذه الطريقة غير المعتزلة من أصحاب الأشعري وغيرهم، حتى مثل أبي القاسم القشيري وأبي الوفاء بن عقيل، وبنوا ذلك على هذه. وأما الطريقة التي ذكرها هو، وبناها على التقسيم الذي ذكره وهو أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 296 المحدث لا يخلو من أن يحدث مع وجوب حدوثه، أو مع جواز حدوثه وجواز أن لا يحدث. وأبطل الأول، بأنه لو كان حدوثه واجباً، لم يكن حدوثه في حال بأولى من حدوثه قبل تلك الحال، فلا يستقر حدوثه على حال، إذ كان حدوثه واجباً في نفسه. وقد قال قبل هذا: إن وجود القديم واجب، وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال، فصح أنه واجب الوجود في كل حال، واستحال عدمه. وهذا التقسيم لا يحتاج إليه، ولا على إبطال هذا القسم بما ذكروه، وذلك أن قول القائل: إما أن يحدث مع وجوب حدوثه، أو مع جواز حدوثه. إما أن يريد به وجوب حدثه بنفسه، أو وجوبه بغيره. فإن أراد به الثاني فهذا لا يمتنع، بل يجوز أن يقال: المحدث حدث مع وجوب حدوثه بالمقتضى لحدوثه لا بنفسه، أي وجد المقتضي التام لحدوثه، الذي يمتنع معه أن لا يحدث. وهذا إذا قيل، فإنه يدل على ثبوت الصانع المحدث أيضاً لا ينفي ذلك، فليس في إثبات هذا القسم ما ينفي ثبوت الصانع. ولكن هؤلاء المعتزلة قد ينازعون قي كون الممكن عند وجود المقتضى التام يكون واجباً. ويقولون: لا يقع شيء من الممكنات والحوادث إلا على وجه الجواز، أو أن يكون بالوجود أولى منه بالعدم، لا على وجه الوجوب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 297 ويقولون: إن القادر المختار، سواء كان قديماً أو محدثاً، لا يفعل إلا مع جواز أن لا يفعل، وإنه يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وهذا مما نازعهم فيه جمهور العقلاء. وليس المقصود هنا بيان صحة قول الجمهور، وفساد قولهم. لكن المقصود أن قولهم سواء كان صحيحاً أو فاسداً، فهم يستغنون عن جعله مقدمة إثبات الصانع. وإذا أمكن إثبات العلم بالصانع على كل تقدير، كان خيراً من إثباته على تقدير قول تنازع فيه كثير من العقلاء وهم يمكنهم إثباته بأن المحدث لا بد له من محدث، سواء قيل أنه يجب بمحدثه أو لم يقل ذلك، فلا حاجة بهم في إثباته إلى ذلك. وإما إن أراد القائل بقوله: إما أن يحدث مع وجوب أن يحدث أو مع جواز أنه يحدث، مع وجوب أن يحدث بنفسه بدون مقتض لحدوثه، فلا ريب أن هذا فاسد معلوم فساده بضرورة العقل. والعلم بفساده أبين من العلم بكون حدوثه ليس في حال بأولى منه في حال أخرى، وذلك أن ما حدث يعلم أنه ليس واجباً بنفسه، فإن الواجب بنفسه لا يقبل العدم. والمحدث كان معدوماً، فيمتنع أن يقال إنه حادث، وهو واجب بنفسه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 298 ومن المعلوم أن المحدث يمتنع أن يكون قديماً، فإن هذا نقيض هذا، إذ المعني بكونه محدثاً أنه ليس بقديم. ومن المعلوم أن واجب الوجود بنفسه يجب أن يكون قديماً، والعلم بأن واجب الوجود بنفسه يجب أن يكون قديماً، أبين من العلم بكون القديم يجب أن يكون واجب الوجود بنفسه. فإن الأول لم تنازع فيه طائفة معروفة، والثاني نازع فيه طائفة معروفة. وأيضاً فإن أبا الحسين استدل على أن القديم يجب أن يكون واجب الوجود بنفسه، بأنه ليس وجوده في حال بأولى من وجوده في حال، فصح أنه واجب الوجود في كل حال، فامتنع عدمه. وأما كون واجب الوجود بنفسه يكون قديماً، فهو أبين من هذا. وحينئذ فالمحدث لا يمكن أن يقال: إنه حدث، وهو أنه حدث وهو واجب الوجود بنفسه، أبين من كونه ليس وجوده في حال أولى منه في حال. وأبو الحسين بنى كلامه على نفي هذه الأولوية، التي مضمونها أن الوقتين متساويان. فلا يجوز تخصيص أحد الوقتين عن الآخر بالحدوث إلا بمخصص. وهذا يكفيه في الاستدلال ابتداء، فإن المحدث اختص حدوثه بوقت، وتخصيص أحد الوقتين لا بد له من مخصص. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 299 وهذه هي الطريقة التي سلكها القاضي أبو بكر ومن وافقه، وهي خير وأقرب وأصح من طريقة أبي الحسين. أما كونها خيراً وأقرب فظاهر، وأما كونها أصح فلأن أبا الحسين جعل من مقدمات حجته أنه إذا حدث مع وجوب أن يحدث، لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل، فلا يستقر حدوثه على حال. وهذا كما تقدم فيه إجمال يحتاج إلى استفصال، يترتب عليه نزاع. فإذا قال له القائل: بل حدث مع وجوب أن يحدث لمقتضى اقتضى وجوب حدوثه في تلك الحال، لم يمكنه أن يقول: ليس إيجاب المقتضى لحدوثه في تلك الحال بأولى من اقتضائه لوجوب حدوثه في غير تلك الحال، لأنه يقول له كما قلت: إن المقتضى لحدوثه مع جواز حدوثه، يخصص الحدوث بحال من حال، كذلك يقول: إن المقتضي لوجوب حدوثه يخصص الحدوث بحال دون حال. فإن قال: المقتضى الموجب لا يخص بحال دون حال، بخلاف المقتضى مع عدم وجوب الاقتضاء. كان الجواب من وجوه: أحدها: المنع، فإن هذه دعوى مجردة. الثاني: أن يقال: لا نسلم أنه يمكن أن يكون شيء مقتضياً للحدوث إلا مع الوجوب، وإنه مادام اقتضاؤه جائزاً فإنه يمتنع الاقتضاء، وذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 300 لأنه إذا جاز أن يقتضى، وجاز أن لا يقتضى، كان كل من الأمرين ممكناً جائزاً، لم يكن ثبوت الاقتضاء أولى من انتفاء، لولا أمر آخر اقتضى ذلك الاقتضاء، ثم القول في اقتضاء ذلك الاقتضاء كالأول، ويلزم منه توقف حدوث الحوادث على اقتضاءات متسلسلة لا نهاية لها، ولا وجود لشيء منه، وما توقف على ما لا وجود له فلا وجود له، وهو يبطل التسلسل فيما هو دون هذا. وهذا المقام مقام معروف للمعتزلة في فعل الرب، وفعل العبد يذكرونه في مسألة حدوث العالم، ومسألة القدر، وهو مما استطالت عليهم به أهل السنة والفلاسفة وغيرهم. لا سيما وأبو الحسين يقول: إنه مع فعل القادر يتوقف على الداعي، وإنه عند وجود الداعي التام يجب وجود المقدور، فيكون أصل قوله موافق لقول من قال من أهل السنة ومن الفلاسفة: إن الحادث يحدث مع وجوب أن يحدث، وهذايناقض قوله بأنه لا يحدث إلا مع جواز الحدوث لا مع وجوبه. الثالث أن يقال: هب أنا سلمنا إمكان ثبوت المقتضى، وأنه يقتضى مع جواز أن لا يقتضى، وأنه يخص الحدوث بحال دون حال، فإذا أمكن الحدوث والتخصيص بما هو مقتض مع جواز أن لا يقتضى، فالحدوث والتخصيص بمقتض واجب الاقتضاء أولى وأحرى. فإن قيل: ما كان واجب الاقتضاء لم يتخلف عنه مقتضاه، فيلزم قدم الحوادث، بخلاف ما كان جائز الاقتضاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 301 قيل: هذا إنما يصح لو كان اقتضاؤه لكل ما يقتضيه لازماً له، وكان مجرد ذاته علة موجبة لمعلولاته، كما يقوله من يقول ذلك من المتفلسفة، كبرقلس وابن سينا وأتباعهما. فإنهم يقولون: إن الأول علة بمجرد ذاته لجميع المعلولات، وما سواه معلول به، فيلزمهم أن لا يتخلف عنه شيء من الحوادث، وهذا باطل قطعاً. وأما إذا كان اقتضاؤه وفعله لما يفعله، إنما هو أنه مقتض لوجود كل حادث في الوقت الذي حدث فيه، لا سيما إذا قيل مع ذلك بأنه مقتض لما يقتضيه كمشيئته وقدرته، كما هو قول المسلمين وجماهير العقلاء. فيقال: إذا قدر أنه قادر مختار، وهو يحدث الحوادث، مع جواز أن لا تكون مشيئته وقدرته مستلزمة لحدوثها، فلان يحدثها مع كون مشيئته وقدرته مستلزمة لها أولى وأحرى. وحينئذ فيحدث مع وجوب حدوثها بقدرته ومشيئته. ولا يمكنهم أن يقولوا: القدرة والمشيئة لا تخص وقتاً دون وقت، لأن هذا ينقض قولهم. فإنهم يقولون: إنه لمجرد قدرته يخص بعض الأحوال دون بعض. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 302 ولو قال قائل: ذلك من غيرهم. لقيل له: تخصيص القدرة والمشيئة للحوادث بحال دون حال، هو بحسب ما يعلمه من الأسباب المقتضية للتخصيص. وغاية ذلك أن يستلزم أن تقوم بذاته أسباب تقتضي التخصيص متعلقة بمشيئته وقدرته. أو يقال: إن هذا يستلزم ما لا نهاية له على سبيل التعاقب، ونحو ذلك من المقامات المعروفة التي لا يوردها أحد، إلا وهو يلزمه بترك التزامها من التناقض أعظم مما يلزم به منازعه، وأما منازعه فيمكنه التزامها، ولا يتناقض قوله: لا عقلاً ولا شرعاً. ولكن من حسن المناظرة والتعليم أن يبين لمن يرد قولاً ما يلزمه هو على تقديره رده ومن أراد تصحيح الحق بقول باطل يمكن استغناؤه عن ذلك القول، وأن الحق يمكن تصحيحه بدونه، وأنه إذا صححه بذلك الطريق، كان ما يلزمه من اللوازم التي تناقض قوله وتفسده، أعظم مما يلزمه إذا أعرض عن ذلك. وبهذا وأمثاله يتبين أنه لم يسلك أحد طريقاً مخالفة للسنة في إثبات شيء من اصول الإيمان، إلا والله قد أغنى عنها بما هو سليم من عيوبها، وأن تلك الطريق وإن غمض على أكثر الناس معرفة فسادها لدقته، فلا يخفى عليهم إمكان الاستغناء عنها. ونحن كثيراً ما نقصد بيان أن الطرق التي خالفها سالكها شيئاً من النصوص غير محتاج إليها، بل مستغن عنها، ليتبين أن العلم بصدق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 303 الرسول، وصحة ما جاء به من الكتاب والسنة، ليس موقوفاً على شيء من الطرق التي تناقض شيئاً مما جاء به، مع أنا نبين أيضاً أن تلك الطرق فاسدة، لكن بيان الاستغناء عنها في مقام، وبيان فسادها في مقام. وأهل البدع يدعون الحاجة إليها أولاً، ثم يعارضون بها النصوص ثانياً، فنحن نبين الغنى عنها، ثم نبين فسادها ثانياً، ثم نبين ثالثاً أن الطرق العقلية الصحيحة، وهي الأدلة السمعية متلازمان، فيلزم من صحة أحدهما صحة الآخر. وهذا قدر زائد على عدم تنافيها، وعدم تنافيها وحده كاف في بطلان قول من يزعم تنافيهما. وأيضاً فلو قدر أن فيها ما ينافي السمع، فذلك المنافي ليس هو الأدلة العقلية التي بها نعلم صحة السمع. وذلك كله مما تبين به بطلان قول من يقول: إن تقديم الكتاب والسنة على ما يعارض ذلك، يستلزم قدح الشرع في أصله. وطريقة القاضي أبي بكر وأمثاله ليس فيها هذا التقسيم الذي ذكره أبو الحسين، بل ذكر أولاً أن تخصيص المحدث بوقت دون وقت لا بد له من مخصص، وأن ما قدم من الحوادث وأخر، لا بد له من مقدم ومؤخر، من غير أن يحتاج أن يقول: إن الحدوث: إما أن يكون واجباً، وإما أن يكون غير واجب، وهذا أصح وأقرب وأبين. ثم أن طريقة أبي الحسن الأشعري التي في اللمع خير من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 304 طريقة القاضي، فإنه بناها على أن المحدث لا بد له من محدث، ولم يحتج أن يستدل على ذلك بأن الحدوث تخصيص بوقت دون وقت، والتخصيص لا بد له من مخصص، فإن هذا وإن كان صحيحاً فالعلم بافتقار المحدث إلى المحدث أبين وأقوى من هذا. وكل ما يذكر في تخصيص أحد الوقتين، أو تخصيصه بصفة دون صفة، هو موجود في نفس الحدوث، فإن تخصيص هذا الحادث بالحدوث دون غيره من الممكنات، لا بد له من مخصص، ونفس الحدوث مستلزم للمحدث الفاعل، ولو قدر أنه لم يحدث غيره، ولا يمكن حدوث غيره، وأنه ليس هناك حال أخرى تصلح للحدوث، فإن كون الحادث يحدث نفسه من غير محدث يحدثه، من أبين الأمور استحالة في فطر جميع الناس. والعلم بذلك مستقر في فطر جميع الناس، حتى الصبيان، حتى أن الصبي إذا رأى ضربة حصلت على رأسه، قال: من ضربني؟ من ضربني؟ وبكى حتى يعلم من ضربه. وإذا قيل له: ما ضربك أحد، أو هذه الضربة حصلت بنفسها من غير أن يفعلها أحد، لم يقبل عقله ذلك، وهو لا يحتاج في هذا العلم الفطري الذي جبل عليه إلى أن يستدل عليه بأن حدوث هذه الضربة في هذه الحال، دون ما قبلها وما بعدها، لا بد له من مخصص، بل تصور هذا فيه عسر على كثير من العقلاء، وبيان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 305 ذاك بهذا، من باب بيان الأجلى بالأخفى. ثم الطرق التي جاء بها القرآن خير من طريقة الأشعري وغيره، فإن فيها إثبات الصانع بنفس ما يشاهده الناس، من حدوث الأعيان المحدثة، وحدوث الأعيان مشهود معلوم، لا يحتاج أن يستدل على حدوثها بحدوث صفاتها، وأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. بل سالكو هذه السبيل ظنوا أن الأعيان لا تحدث، وإنما تحدث صفاتها وأنهم لم يشهدوا حدوث جسم ولا جوهر قائم بنفسه، وإنما شهدوا حدوث صفات الأجسام، وأن الأجسام متماثلة مركبة من جواهر متماثلة، وهي تنقلب فيها من وصف إلى وصف. قالوا: فهذا هو الذي يشهد حدوثه، ثم بهذا يعلم حدوث ما قامت به هذه الحوادث، فأنكروا ما يعلمه الناس بحسهم ومعاينتهم، من حدوث ما يشهدون حدوثه من الأجسام، ثم احتاجوا مع ذلك إلى أن يثبتوا حدوث هذه الأعيان بالاستدلال الذي ذكروه، من أنها لا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. وهذه الطريق يظهر الاستغناء عنه لكل أحد بما يشهده من حدوث الأعيان، وأصحابها يسلمون الاستغناء عنها بما يشهدونه من حدوث الصفات، كما ذكره الرازي وغيره، وعلى التقديرين فقد ثبت الاستغناء عنها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 306 فمن قال: إن العلم بإثبات الصانع وتصديق رسله موقوف عليها، فقد ظهر خطؤه عقلاً لكل أحد، كما علم مخالفته لدين الإسلام بالضرورة. فإنه من المعلوم بالاضطرار: أن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، ما دعوا أحداً من الناس إلى الإقرار بالخالق وبرسله بهذه الطريق، ولا استدلوا على أحد بهذه الحجة، بل ولا سلكوا هم في معرفتهم هذه الطريق، ولا حصلوا العلم بهذا النوع من النظر والاستدلال المبتدع المحدث، الذي قد أغنى الله عنه، وظهر الغنى عنه لكل عاقل. ثم معرفة فساد هذه الطريق عقلاً، هو ألطف من العلم بالغنى عنها. ولهذا يظهر الغنى عنها لخلق كثير، قبل أن يظهر لهم فسادها. وقد ذكر من الكلام على مقدماتها، وفسادها، وطعن بعض أهلها في بعض، وإفسادها لمقدماتها، وبيان فسادها بصريح العقل، في غير هذا الموضع، ما ينبه على المقصود. والمقصود هنا: التنبيه على أن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث، والمفعول إلى الفاعل، وهو من العلوم الضرورية البديهية، وهو أظهر وأقوى مما استدل به عليه القاضي وأمثاله، من كون تخصيص الحدوث بوقت دون وقت، لا بد له من مخصص. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 307 وهذا الذي ذكره القاضي أبو بكر وأمثاله، أظهر مما استدل عليه أبو الحسين وأمثاله، من أن الحدوث: إما أن يكون على وجه الوجوب، أو على وجه الجواز. وهذا الذي ذكره أبو الحسين وأتباعه من أن الجائز الممكن ليس وجوده أولى من عدمه، لولا المقتضى لحدثه، أظهر مما ذكره ابن سينا، والرازي، وأمثالهما، من أن الجائز الممكن ليس وجوده أولى من عدمه، ولا عدمه أولى من وجوده إلا لمرجح من فصل عنه. وطريق هؤلاء بعضها أصح وأقرب من طريق بعض. وقد ظهر بما ذكرنا فساد القاضي أبي بكر: أنه لم يخالف في أن افتقار المحدث إلى محدث مما لا يعلم بالاضطرار، وإنما يتطرق إليه بالفحص والبحث إلا شرذمة لا يعتد بقولها، ادعت في هذه المذهب البديهة. كلام الأشعري في اللمع عن إثبات وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية ثم يقال له: إن كان هذا حقاً، فالأشعري لم يذكر في اللمع دليلاً على ذلك، بل جعل ذلك مسلماً، وإنما أثبت حدوث الإنسان وأنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 308 لم يحدث نفسه. ثم قال: (فدل ما وصفناه على أنه ليس هو الذي نقل نفسه في هذه الأحوال، وأن له ناقلاً نقله من حال إلى حال، ودبره على ما هو عليه، لأنه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر) . فذكره هذه المقدمة مجردة عن الاستدلال، فإن كان العالم انتقاله من حال إلى حال، لا يعلم به أن له ناقلاً مدبراً إلا بأدلة تذكر، فهو لم يذكر تلك الأدلة، بل ادعى دعوى نظرية تقبل النزاع بلا دليل. وحينئذ فيكون طعن من طعن المعتزلة في كلامه أوجه، فإنه لم يقم دليلاً: لا على حدوث الجسم، ولا على أن المحدث لا بد له من محدث. ثم يقال: من العجائب أن يكون القول بأن العالم حدث من غير محدث أحدثه، وأن بعض الحوادث حدث من غير محدث أحدثه، قول قاله كثير من الفلاسفة والدهرية، أو طائف من نظار المسلمين. وقول بأن العلم بأن الأفعال تتعلق بفاعل، وأن المخلوقات تتعلق بفاعل، وأن المخلوق تتعلق بخالق - علم ضروري، إنما قاله شرذمة لا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 309 يعتد بقولها، وأن الجميع من العقلاء إنما يعلم هذا بالفحص والبحث، مع أنه لا يعلم أن أحداً من المشهورين بالعلم، طلب على هذا دليلاً، ولم يذكر عن أحد من الكفار مطالبة أحد من المؤمنين بدليل على هذا، ولا في كتاب الله وسنة ورسوله، ولا كلام أحد من السلف والأئمة ذكر حاجة هذا إلى الاستدلال. أو الاستدلال عليه بما ذكرتموه: من أن ذلك يتضمن التقدم والتأخر، فلا بد به من مرجح. فصل ومن هنا يظهر الوجه الثاني، الذي تبين به أن ما ذكره الأشعري لا يحتاج إلىما ذكره القاضي. وذلك أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث، هو أبده للعقل، وأرسخ في القلب، وأظهر عند الخاصة والعامة، مما قرره به، وهو أن ذلك يتضمن تخصيص بعض الأزمان بالحدوث دون بعض، والتخصيص لا بد له من مخصص. فالأول: إن لم يكن أقوى منه وأجلى، فليس هو دونه، وغاية هذا الثاني أن يكون مثله أو داخلاً في أفراده. لا سيما على أصل القاضي، وموافقيه من المعتزلة والأشعرية، فإنهم يجوزون اختصاص بعض الأزمنة بالحوادث دون بعض، بدون سبب اقتضى ذلك التخصيص. وإذا أضافوا التخصيص إلى المشيئة القديمة، فنسبة المشيئة إلى جميع الحوادث والأزمنة سواء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 310 وإذا كانت النسبة مستوية، فثبوت هذه النسبة مع أحد المتماثلين دون الآخر، تخصيص بلا مخصص. وإذا قالوا: الإرادة لذاتها تخصص مثلاً عن مثل بلا سبب، مع تضمن ذلك ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح أصلاً، أمكن منازعهم أن يقول بتخصيص أحد الزمانين المتماثلين بالحوادث دون الآخر بلا مخصص أصلاً، وقال: من شأن الأوقات التخيصص بلا مخصص. وإذا قالت المعتزلة: القادر المختار يرجح أحد مقدورية على الآخر بلا مرجح، كان ما يلزمهم كما يلزم أولئك وأشد. فمن كانت هذه الأقوال أقواله، وكان غاية ما يثبت به الصانع وافتقار المحدث إلى محدث: أن الحوادث مختصة بزمان دون زمان، فلا بد للتخصيص من مخصص، وأن التخصيص بلا مخصص ممتنع، ويجعل ذلك بديهياً ضرورياً. كيف يمكنه أن يقول: إن وجود الحوادث بلا محدث، والفعل بلا فاعل، والصنعة بلا صانع، ليس امتناعه بديهياً ضرورياً؟ فمن جعل العلوم البديهية الضرورية ليست بديهية ضرورية، وجعل ما هو دونها بديهياً ضرورياً، تناقضت أقواله، وكان فيها من مخالفة العقل والسمع ما لا يحصيه إلا الله. وهذا بخلاف الطرق المذكورة في القرآن، فإنها في غاية السداد والاستقامة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 311 ومن أقرب ذلك أن إثبات الفاعل مبني على مقدمتين ضروريتين: أحداهما: أن الإنسان محدث. والثانية: أن المحدث لا بد له من محدث. فأبو الحسن - مع جماهير العقلاء - جعولوا المقدمة الثانية ضرورية بخلاف ما ذكره القاضي ومن وافقه، حيث أثبتوا بما هي أقوى منه وأجلى. وإن كانت هذه الطرق الخفية البعيدة وأمثالها ينتفع بها في حق من لم ينفذ للطرق الجلية القريبة، أوعرضت له فيها شبهة كما تقدم. وأما المقدمة الأولى: وهو أن الإنسان والثمار والمطر والسحاب ونحو ذلك محدث فهذه مقدمة معلومة بالمشاهدة والضرورة، فإن حدوث الحوادث مشهود. ثم من قال من أهل الجوهر الفرد والهيولى: إن الحادث إنما هو صفات الأجسام لا أعيانها، أو صورتها لا مادتها، أمكنهم إثبات المحدث بناءً على ذلك، وهذه الطريقة التي ذكرها الرازي وغيره، وهي الاستدلال بحدوث صفات الأجسام. وأما من أنكر ذلك، وهم جمهور العقلاء، فإن الحادث عندهم هو نفس الأعيان المحسوسة. وأبو الحسن ممن يثبت الجوهر الفرد، ولم يكتف بالاستدلال على حدوث الصفات، بل أراد إثبات حدوث نفس النطفة، فأثبت ذلك بطريقة استلزامها للحوادث، وما لا ينفك عن الحوادث فهو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 312 حادث. وهي الطريقة التي سلكتها المعتزلة في حدوث الأجسام ابتداءً، وعلى هذه الطريقة فحدوث الإنسان نظري لا ضروري. وإذا ضم إلى ذلك أن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث نظري، كما قاله من قاله من المعتزلة ومن وافقهم، كـ القاضي أبي بكر وأتباعه - صار كل من المقدمتين في إثبات الصانع نظرياً. وهذا أضعف هذه الطرق وأطولها، لكن مبناها على أن التخصيص الحادث لا بد له من مخصص، وهذا عند هؤلاء ضروري، كافتقار الممكن إلى الواجب. ثم الذي سلكوا طريقة ابن سينا جعلوا هذا نظرياً، وأثبتوا منع التسلسل بطريقة ابن سينا، وهي أقرب مما بعده. فجاء من بعدهم، كـ الرازي، ضم إلى ذلك نفي الدور أيضاً، ثم هو والآمدي ونحوهما أثبتوا بطلان التسلسل بطرق طويلة، واستصعب ذلك على الآمدي، حتى قال: إنه عاجز عن تمشيها، وحل مايرد عليها، كما ذكرناه. ولا ريب أن تمشيها مع تفسيرهم الممكن بالتفسير الذي أحدثه ابن سينا ممتنع. وأما تمشيتها إذا جعل الممكن هو الذي يوجد تارة، ويعدم أخرة، فهو سهل متيسر، معلوم ببدائه العقول. فانظر من عدل عن الطرق المستقيمة شرعاً وعقلاً، كلما أمعن في العدول أمعن في البعد عن الحق وتطويل الطريق وتصعيبها، حتى آل الأمر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 313 بهم إلى الجهل العظيم، وإلى العجز عن الاستدلال على ما هو أعظم الأشياء ثبوتاً ووجوداً، وأكثرها وأقواها أدلة، وأولاها بالعلم من كل معلوم، وأحقها بأن يكون مستقراً في الفطرة، دائم الحصول في القلوب، حاصلاً بأكمل الأسباب التي يمكن بها حصول العلم. والمقصود هنا الكلام على الطريقة التي ذكرها أبو الحسن، وأنها أقرب وأصح من الطريقة التي سلكها من سلكها من المعتزلة ومن وافقهم، كـ القاضي أبي بكر وأمثاله، وأنها طريقة صحيحة لم ينازع فيها طائفة مشهورة، إذا اكتفي فيها بحدوث ما يعلم حدوثه كالإنسان والنبات وغيرهما من الحوادث. وأما إذا احتيج فيها إلى إثبات حدوث الأجسام كلها بطريقة الأعراض، أو قيل: إن حدوث الإنسان ونحوه لا يثبت إلا بمثل تلك الطريق، كان المنازع في صحة هذه الطريق جمهور العقلاء من أهل الملل والفلاسفة، وكان هذا من الكلام الذي ذمه السلف والائمة. فالمخالفون للطرق الفطرية العقلية الشرعية، القريبة الصحيحة، كلما أبعدوا عنها مدحوا من يوافقهم في البعد، ولهذا عكس هؤلاء الكلام على المقدمتين، فأخذوا يوافقون أبا الحسن على المقدمة المبتدعة الباطلة، ويذمونه أو يعتذرون عنه على المقدمة البديهة الصحيحة الشرعية. تابع كلام الأشعري في اللمع قال أبو الحسن: (فإن قال قائل: ما أنكرتم من أن تكون النطفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 314 قديمة لم تزل؟ قيل له: لو كان ذلك كما ادعيتم، لم يجز أن يلحقها الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغير، لأن القديم لا يجوز انقلابه وتغييره، وأن يجري عليه سمات الحدث، لأن ما جرى عليه ذلك ولزمته الصنعة، لم ينفك عن سمات الحدث، وما لم يسبق المحدث كان محدثاً مصنوعاً، فبطل لذلك قدم النطفة وغيرها من الأجسام) . كلام الباقلاني في شرح اللمع قال القاضي أبو بكر: (اعلم أن هذا الذي ذكره هو المعول عليه في الاستدلال على حدوث سائر الأجسام، وذلك أن الذي عناه بقوله: لو كانت قديمة لم يلحقها الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغير، وخروجها من صفة كانت عليها إلى صفة لم تكن عليها، كنحو خروجها عن السكون إلى الحركة، وعن الحركة إلى السكون، وكاستصلابها بعد لينها، وافتراقها بعد اجتماعها، وما يلحقها من تعاقب الأكوان، وغير ذلك من التغيرات، لأن القديم الحاصل على صفة من الصفات لا يجوز خروجه عنها على ماذكره أصلاً، وذلك أن القديم إذا لم يزل مجتمعاً مثلاً أو مفتقراً، أومتحركاً أو ساكناً، أو على بعض هذه الصفات، لم يجز خروجه عنه، لأنه لايخلو أن يكون على ما هو عليه في أزله: لنفسه، أو لعلة، أولا لنفسه ولا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 315 لعلة، أن لبطلان نفسه، أو لبطلان معنى، فيستحيل أن يكون على ما هو عليه لا لنفسه ولا لمعنى، لأن هذا يوجب خروج الإثبات عن تعلقه بمثبت، والخبر عن تعلقه بمخبر، وغير ذلك من وجوه الفساد، ويستحيل أن يكون ما هو عليه لبطلان نفسه - وعدمها، لأن المعدوم ليس بشيء يحصل على صفة من الصفات، ولأنه ليس عدم نفسه - إن جاز عدمها - بأن يكون تحصيله ساكناً أولى من تحصيله له متحركاً، ويستحيل أن يكون ذلك لبطلان معنى كان موجوداً به. لأن القديم لا يجوز عدمه، ولأنه ليس بأن يكون متحركاً لعدم سكونه أولى من غيره، ممن يصح أن يكون متحركاً. وهذا يوجب أن يكون الجسم إنما تحرك لعدم سكونه إلى محاذاة بعينها، ولو كان ذلك كذلك لم يكن تحركه لعدم ذلك السكون إلى تلك المحاذاة بعينها، أولى من تحركه إلى غيرها من الجهات، وإلىما هو أبعد منها. وفي تحركه إلى جهة مخصوصة، ومحاذاة معينة - دليل على أن ذلك إنما وجب له لمعنى سوى عدم سكونه، ولأنه ليس بأن يتحرك هو لأجل عدم السكون، أولى من غيره من الأجسام، لأن عدم السكون ليس هو بأكثر من خلوه منه، وأنه ليس فيه وغيره من الأجسام حال من ذلك السكون أيضاً، فكيف صار خلوه منه يوجب له التحرك أولى من كل من خلا من الأجسام؟ وفي فساد ذلك: دليل على أنه لا يجوز أن يكون المتحرك تحرك لعدم معنى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 316 وجملة هذا أن القديم لا يجوز عدمه، ولا يجوز لمثل ذلك أن يكون القديم إنما يتحرك فيما لم يزل لعدم نفسه، ولا لعدم معنى قديم. فلم يبق إلا وجهان: أحدهما: أن يكون فيما لم يزل على ما هو عليه لنفسه أو لمعنى قديم. فإن كان لم يزل ساكناً لنفسه، استحال تحركه بعد سكونه، لوجود نفسه في كلا الحالين. ويستحيل خروج الشيء عن الوصف المستحق لنفسه، مع وجود نفسه التي بها كان كذلك. وإن كان لم يزل ساكناً لأجل معنى قديم، استحال أن يتحرك إلا عند عدم سكونه القديم، وإلا وجب تحركه وسكونه معاً. فإذا استحال ذلك، واستحال عدم سكونه إذا كان قديماً، واستحال أن يخرج القديم عن الصفة التي هو فيها لم يزل عليها، لم يجز أن يلحقه - لما وصفناه - وانقلاب ولا تغيير، ولا اعتمال ولا تأثير، فصح ما قاله شيخنا أبو الحسن من هذا الوجه) . تعليق ابن تيمية قلت: ولقائل أن يقول: هذا الكلام مضمونه أن ما به يعلم حدوث النطفة، به يعلم حدوث سائر الأجسام، وأن المنكر لحدوث سائر الأجسام يمكنه إنكار حدوث النطفة. وليس الأمر كذلك. بل حدوث الحيوان والنبات والمعدن ونحوذلك، وحدوث أوائل ذلك، كالنطفة والبيضة وطاقة الزرع ونحو ذلك - أمر مشهود معلوم بالحس والضرورة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 317 واتفاق العقلاء. وهذا بخلاف الفلك، فإنه ليس شهود حدوثه كشهود حدوث الحيوان والنبات والمعدن. وكذلك من ينازعهم في الواجب وفي تسميته جسماً: كالهاشمية والكرامية وغيرهم. أو من لا يطلق الاسم، ولكن يقولون له: ما أثبته نسميه نحن جسماً، أو يجب أن يكون جسماً، كما يعلم حدوث هذه الحوادث المشهودة. فإن قال بهذا، فالمفرق يقول: حدوث النطفة مشهود معلوم مسلم، وكذلك حدوث ما أشبهها. وأما حدوث كل ماسميته جسماً، فإنما أثبته بما ذكرته من الدليل، وهو ضعيف على ما سنذكره. فإن قال: أعني بالنزاع في حدوث النطفة النزاع في حدوث الجواهر المفردة، التي منها تركبت النطفة وتألفت، أو في حدوث مادتها التي لبستها صورة النطفة. قيل له: الجواب من طريقتين: أحدهما: أن يقال: هذا لا حاجة لك به. الثاني: أن يقال: ما ذكرته ليس بصحيح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 318 فأما الطريق الأول ففيه وجوه. أحدها: أن العلم بحدوث ما يحدث، والاستدلال به على ثبوت الصانع ليس مفتقراً إلى أن يعلم: هل في النطفة جواهر منفردة أو مادة؟ وهل ذلك قديم أو حادث؟ بل مجرد حدوث ما شهد حدوثه يدل على أن له محدثاً، كما يدل حدوث سائر الحوادث على أن لها محدثاً. وإن قال: فقصدي تعميم حدوث سائر الأجسام. قيل له: فحينئذ لم يكن بك حاجة إلى ذكر حدوث الإنسان وحده من النطفة، بل كان هذا تطويلاً. إذ كان ما به بثبت حدوث النطفة، به يثبت حدوث الإنسان ابتداء. وحينئذ فيكون كلام الأشعري كلام من لا يعرف الاستدلال والنظر، كما قاله من اعترض عليه من المعتزلة، فإنه إذا كان لا بد في الاستدلال بالأجسام المخصوصة في آخر الأمر من دليل يتناول جميع الأجسام، كان ذكر هذا ابتداءً أولى من التطويل، لا سيما في مثل المختصر الذي يطلب فيه التقريب والتسهيل. وأيضاً، فإن العلم بحدوث الحوادث المشهودة أظهر وأبين من العلم بحدوث جميع الأجسام، وذلك كاف في إثبات العلم بالصانع، فلماذا تجعل موقوفة على مقدمات لو كانت صحيحة، كان فيها من التطويل والغموض ما يوجب هذا كثيراً: إما عدم العلم، أو حصول ضده الجزء: 8 ¦ الصفحة: 319 من اعتقاد الباطل، فيكون ما جعل طريقاً إلى العلم والإيمان، موجباً لضده من الجهل والكفر. والوجه الثاني: أن يقال: فحينئذ يكون الشك في حدوث الحيوان والنبات ونحو ذلك، مبيناً على كونها مركبة من الجواهر المنفردة أو المادة والصورة، وإمكان قدم الجواهر المنفردة أو المادة. ومعلوم أن هذا لو كان صحيحاً، لكان من الدقيق الذي يحتاج إلى بيان، وهم لم يبنوا ذلك. ومن المعلوم أن هذا موضع اضطراب فيه أهل الكلام والفلسفة اضطراباً لا يتسع هذا الموضع لاستقصائه: فقالت طائفة: إن الأجسام مركبة من أجزاء لا تتجزأ، وهي الجواهر المنفردة، وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية. وقالت طائفة: بل فيها أجزاء لا نهاية لها، وهوالمذكور عن النظام. وعليه انبنى القول بطفرة النظام. ولهذا يقال: ثلاثة لا يعلم لها حقيقة: طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري. وقالت طائفة: بل هي مركبة من المادة والصورة، وهي تقبل الانقسام إلى غير نهاية، لكن ليس فيها أجزاء لا نهاية لها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 320 وقالت طائفة: ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا، بل تقبل التجزؤ إلى أجزاء لا تتجزأ. وقالت طائفة: ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا، ولا تتجزأ إلى غير غاية. بل إذا صغرت الأجزاء انقلبت إلى أجسام أخر، مع كونها في نفسها يتميز منها جانب عن جانب. فهؤلاء لا يقولون بقبول الانقسام إلى غير نهاية، ولا بوجود ما لا يقبل الانقسام، بل كل ما وجد يقبل الانقسام، لكنه يستحيل إلى جسم آخر، في حال تميز جانب منه عن جانب، فلا يوجد فيه انقسام إلى غير نهاية. وقد بسط الكلام على هذه الأقوال في غير هذا الموضع. وأذكياء المتأخرين: مثل أبي الحسين البصري، وأبي المعالي الجويني، وأبي عبد الله الرازي: كانوا متوقفين في آخر أمرهم في إثبات الجوهر الفرد. فإذا كان الأمر هكذا لم يمكن أحداً أن يطالب بدليل على حدوث الحيوان، باعتبار تركبه من الجواهر، أو المادة والصورة، حتى يثبت ذلك أولاً. ومن المعلوم لكل عاقل أن علم الناس بحدوث ما يشهدون حدوثه من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 321 الأجسام، ليس موقوفاً على العلم بأنها مركبة هذا التركيب، الذي كلت فيه أذهان هؤلاء الأذكياء. الوجه الثالث: أن يقال: حدوث مايشهد حدوثه من الثمار والزروع والحيوان وغير ذلك أمر مشهود، فإن الإنسان إذا تأمل خشب الشجرة، وما يخرجه الله منها من الأنوار والثمار، وما يخرجه من الأرض من الزروع، وما يخرجه من الحيوان من النطفة والبيض - أيقن بحدوث هذه الأعيان. فإذا قيل له: هذا لم يحدث، ولكن كانت أجزاؤه مفرقة فاجتمعت، وجعل لها صفة غير تلك الصفة. قال: أما ما تغيرت صفاته، كتغير الأبيض إلى السواد، والساكن إلى الحركة، والحامض إلى الحلاوة، والمفرق إلى الاجتماع، وتغير الجسم من شكل إلى شكل، كتغير الشمعة والفضة ونحو ذلك من صورة إلى صورة - فهذا كله، وما يشبهه، يشهد فيه أن العين باقية، وإنما تغيرت صفاتها التي هي: الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، والألوان والطعوم والأشكال. بخلاف الثمرة التي تخرج من الشجرة، والجنين الذي يخرج من بطن أمه، والفروج الذي يخرج من البيضة، فإن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 322 عاقلاً لا يقول: إن نفس الرطبة فها جرم الخشب باقياً، ولا أجزاء الجنين كعظمه وبصره فيه أجزاء النطفة باقية، ولا نفس الفروج فيه بياض البيض باقياً. ومن قال: إن هذا باق في هذا، كما أن الجسم الذي اسود بعد بياضه، وحلا بعض حموضته، وصار مدوراً بعد أن كان مسطحاً باق - فهو لا يتصور ما يقول، أو هو معاند مسفسط. فالأمر ينتهي إلى عدم التصور التام أو العناد المحض. وهذا أصل كل ضلال، وهو الجهل أو العناد، والعناد وصف المغضوب عليهم، والجهل وصف الضالين. والفرق بين استحالة العين وبين تبدل الصفات معلوم للعامة والخاصة. وقد ذكر الفقهاء ذلك في غير موضع. ثم كلامهم في النجاسة إذا استحالت، مثل أن تصير رماداً أو ملحاً ونحو ذلك. ومثل كلامهم في باب الأيمان: فيما إذا حلف على فعل في جسم معين، فتغير ذلك الجسم المعين. فإن كان التغيير لم يزل الاسم فاليمين باقية بلا نزاع بينهم، كما لو حلف لا يكلم هذا الرجل فمرض أو صار شيخاً، أو لا يأكل هذه الخبز فصار كسراً، ونحوذلك. وإن كانت قد استحالت أجزاؤه تغير اسمه: مثل أن يحلف لا أكلت هذه البيضة فصارت فروجاً، أولا أكلت هذه الحنطة فصارت زرعاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 323 قالوا: فهنا لا يحنث، لأنه زال اسمه، وزالت أجزاؤه. وإن تغيرت الصفة مع زوال الاسم: كما إذا حلف لا كلمت هذا الصبي فصار شيخاً، أولا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشاً - فإنه يحنث عند جمهورهم: كأبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور من مذهبه، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي. وكذلك لو حلف لا أكلت من هذا الرطب فصار تمراً. وتنازعوا فيما إذا أكل مما يصنع من الرطب والعنب من الدبس والخل، فمنهم من قال: يحنث، وهو مذهب مالك، وهو المشهور من مذهب أحمد. ومنهم من قال: لا يحنث، كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي. وطائفة من أصحاب أحمد قالوا: لأن اسم المحلوف عليه وصورته زالت فلم يحنث، كما في مسألة البيضة والفروج. فقال لهم الأولون: عين المحلوف عليه باقية، فصار كمسألة الحمل، بخلاف البيضة إذا صارت فرخاً، فإن أجزاءها استحالت فصارت عيناً أخرى، ولم يبق عينها. مع أن في هذه المسائل كلاماً ليس هذا موضعه، إذ كان منهم من يرى اليمين باقية مع استحالة العين لأجل التغيير، ومنهم من يرى أنه بمجرد زوال الاسم تزول اليمين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 324 ولكن المقصود هنا أنه من المستقر في عقول الناس الفرق بين استحالة الأعيان وانقلابها، وبين تغير صفاتها مع بقاء عينها وذاتها. ولهذا اتفقوا كلهم على أن العين الخبيثة لا تطهر بمجرد تغير الصفة، فالدم والميتة ولحم الخنزير والخمر: إذا تغيرت صفاته، مثل أن يجمد الدم والخمر، أو يسيل شحم الميتة والخنزير ونحو ذلك، فإنه لا يزول التحريم باتفاقهم. وأما إذا استحالت العين: مثل أن يصير ذلك ملحاً أو رماداً أو نحو ذلك، ففيه نزاع مشهور. والجمهور على أنه يطهر بالاستحالة، كما هو مذهب أكثر أهل الرأي وأهل الظاهر، وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد، واتفقوا على أن الخمر المنقلبة بفعل الله تعالى خلاً أنها تطهر. وأما الطريق الثاني: وهو بيان أن ما ذكره ليس بدليل صحيح على حدوث الأجسام - فإن المعترض يقول: قوله: (إن القديم إذا حصل على صفة من صفات لم يجز خروجه عنها) كلام مجمل، قد يراد به أنه إذا حصل على صفة لازمة لذاته لم يجز خروجه عنها. وقد يريد له إذا حصل على حال عارضة له، سواء كان نوعها لازماً له أولم يكن لازماً لذاته، مثل الفعل والعمل، سواء سمي حركة أو لم يسم: كالإتيان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 325 والمجيء والنزول والمناداة والمناجاة، وأمثال ذلك مما تنازع فيه الناس: هل يقوم بالقديم أم لا؟. فجمهور أهل السنة والحديث المتبعون للسلف، والأئمة من السلف والخلف، مع كثير من طوائف الكلام، وأكثر الفلاسفة: يجوزون أن يقوم بالقديم ما يتعلق بمشئته وقدرته من الأفعال وغير الأفعال، فيقول هؤلاء: قول القائل: أن القديم الحاصل على صفة، لا يجوز خروجه عنها، إن إراد به مواقع الإجماع: مثل صفات الكمال اللازمة لذات الله، أو نوع الصفات الازم لذات الله تعالى، فهذا لا نزاع فيه. وإن أراد به أعيان الحوادث، فما الدليل على أن القديم إذا قام به حال من غير هذه الأحوال المعينة، لم يجز خروجه عنها؟ وأما استدلال المستدل بقوله: لا يخلو أن يكون على ما هو عليه في أزله لنفسه، أو لعلة، إلى آخر الكلام. فيقال لك: ذلك الأمر الذي قام هو به، هو معنى من المعاني؟ فإن جعلت الموجب لذلك المعنى أمراً آخر - على قول مثبتي الأحوال القائلين: بأن كونه عالما ومتحركا معنى أوجبه العلم والحركة - خوطبت على هذا الاصطلاح وقيل لك: قام به ذلك لمعنى. قوله: وإذا كان لمعنى استحال أن يزول إلا عند عدم ذلك المعنى، والقديم يستحيل عدمه. يقال له: قول القائل: القديم يستحيل عدمه، لفظ مجمل. أتريد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 326 به: أن العين القديمة أو صفتها اللازمة لها يستحيل عدمه، أو النوع الذي لا يزال يستحيل عدمه؟ فإن أراد شيئاً من هذه المعاني، لم يكن له فيه حجة. وإن أراد أن النوع القديم يستحيل عدم فرد من أفراده المتعاقبة، فهذا محل نزاع، ولا دليل على امتناع عدمه، ولم يعدم القديم هنا، بل النوع القديم لم يزل، ولكن عدم فرد من أفراده بمعاقبة فرد آخر له، كالأفعال المتعاقبة شيئاً بعد شيء. فإذا كان القائم بالقديم نوع لم يزل مع تعاقب أفراده، لم يكن قد عدم النوع، بل كان الكلام في كونه أزلياً كالكلام في كونه أبدياً، وكما أنه لا يزال، فلا يعدم النوع، وإن عدم ما يعدم من أعيانه، فكذلك القول في كونه لم يزل. وأيضاً فيقال له: القديم إذا فعل بعد إن لم يكن فاعلاً، فكونه فعل أمر موجود أو معدوم؟. فإن قال: إنه معدوم. فهذا مكابرة للحس والعقل، فإن الفعل إذا كان أمراً عدمياً، فلا فرق بين حال أن يفعل وحال ألا يفعل، لأن العدم المحض لا يكون فعلاً. وإذا لم يكن فرق بين الحالين، وهو في حال ألا يفعل لا فعل، فيجب في الحال التي زعم أنه فعل ألا يكون له فعل لتساوي الحالين، فيجب ألا يفعل مع كونه فعل، وهذا جمع بين النقيضين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 327 وإن قال: كونه فعل أمر موجود، فالقديم قبل أن يفعل كان على صفة، فإما أن يتجدد ما يوجب خروجه عن تلك الصفة أو لا يتجدد، فإن لم يتجدد وجب ألا يفعل، وإن تجدد شيء انتقض قوله: إنه إذا كان على صفة من الصفات لم يجز خروجه عنها. فإن قيل: إنما أعني بالصفة المعنى القائم بذاته، وذاك لم يزل. قيل: هب أنك عنيت هذا، لكن دليلك يتناول هذا وغيره، ويوجب أن الأمر القديم الأزلي لا يجوز تحوله من حال إلى حال بوجه من الوجوه، لأن ما كان قديماً كان لمعنى، والقديم لا يزول. فالأمر المتجدد المتحول الحادث، سواء سميته صفة أو حالاً أو حادثاً أو فعلاً، وسواء كان قائماً به أو بغيره، بموجب دليلك أنه لا يجوز بغير الأمور القديمة الأزلية. فإن كان هذا حقاً وجب ألا يحدث شيء من الحوادث، فإن جوز أن تحدث عن قديم من غير حدوث أمر وجودي يكون شرطاً في وجودها، فقد جوز تغير الأمور الأزلية بلا سبب. وإن قال: لا بد من تجدد أمر به يحصل حدوثها، وإذا تجدد أمر فقد حصل تغير لم يكن في الأزل، فانتقضت حجته. وإيضاح هذا أن يذكر نظير حجته. فيقال له: القديم الذي لم يزل غير فاعل لا يجوز كونه فاعلاً، فإنه إذا كان غير فاعل، فإما أن يكون ذلك لنفسه أو لعلة، إلى آخر الكلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 328 وإن قال: فعله بعد أن لم يكن فاعلاً، ليس إلا مجرد وجود المفعولات، والفعل حدوث نسبة وإضافة بينهما، وهي عدمية. فيقال له: فالمتجدد القائم به يقال فيه كذلك، ليس هو إلا مجرد وجود ذلك المتجدد، وهو حدوث نسبة وإضافة عدمية، والفعل حدوث نسبة وإضافة نسبة وإضافة بيهما وهي عدمية. فإن قال: هذا يلزم منه قيام المتجددات والحوادث به، وهذا لا يجوز. قيل له: هذه مصادرة على المطلوب، فإنك أنت لم تقم دليلاً على أن القديم لا تقوم المتجددات والحوادث به، بل ما ذكرته هو الدليل على ذلك. فإن كان استدلالك على هذا لا يتم إلا بأن تجعل المطلوب مقدمة في إثبات نفسه، لم يكن لك عليه دليل إلا مجرد الدعوى، وصار هذا بمنزلة أن يقول القائل: القديم لا تقوم به الأحوال المتجددة، لأن القديم لا تقوم به الأحوال المتجددة. وإذا كان العلم بالصانع موقوفاً على هذا الدليل، لم يكن هناك علم بالصانع، بل صار حقيقة الكلام: الدليل على ثبوت الصانع حدوث النطفة وغيرها من الأجسام، والدليل على حدوث ذلك أنه تقوم به المتجددات والحوادث، وما قام به المتجددات والحوادث كان حادثاً، لأن ما قام به المتجددات والحوادث كان جادثاً. فيكون منتهى الكلام: مجرد الدعوى التي نوزع فيها والاستدلال عليها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 329 بنفسها، مع ترك الدليل الواضح البين، الذي يشهد به الحس ويعلمه الخلق، ولا ينازع فيه عاقل - وهو حدوث المحدثات التي يشهد حدوثها، ثم افتقار المحدثات إلى فاعل ليس بمحدث بل قديم - من الأمور المعلولة بالضرورة لعامة العقلاء، لا ينازع فيه إلا من هو من شر الناس سفسطة. فهذا وأمثاله مما يقوله جمهور الأنام، في مثل هذا المقام، ويقولون: إنا نعلم بالاضطرار: أن ما ذكره الله تعالى في القرآن ليس فيه إثبات الصانع بهذه الطريق، بل ما في القرآن من الإخبار عن الله بما أخبر عنه من أفعاله وأحواله يناقض هذه الطريق. ويقولون: إن العقل الصريح مطابق لما في القرآن، فإن حدوث المحدثات مشاهد معلوم بالحس والعقل، وكون المحدث لا بد لهم من محدث أمر يعلم بصريح العقل، وأيضاً فحدوث الحادث بدون سبب حادث ممتنع في العقل. عود لكلام الباقلاني في شرح اللمع قال القاضي أبو بكر: (وأما قول أبي الحسن: إن الانقلاب والتغير والاعتمال والتأثير من سمات الدحث، وما لم يسبق المحدثات كان محدثاً مثلها - ففيه وجهان من الكلام: أحدهما: أن نقول: إن التغييرات من سمات الحدوث بدلالة أن التغير هو خروج الشيء من صفة إلى صفة - فلا يخلو إما أن يكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 330 خروجاً من صفة قدم إلى صفة قدم، أو من صفة حدث إلى صفة حدث، أو من صفة قدم إلى صفة حدث، أو من صفة حدث إلى صفة قدم. والأول باطل لوجهين: أحدهما: أن المنتقل انتقل إلى أمر مستأنف لم يكن عليه، وذلك لا يكون قديماً. الثاني: أن ذلك يقتضي عدم القديم كما تقدم، والقديم لا يجوز عدمه) . قال: (ويستحيل أن يكون التغيير خروجاً من حال حدث، لأن ذلك لا يثبت إلا بأحد وجهين: إما بحدوث تغيير القديم، أو ببطلان معنى منه قد ثبت قدمه، ووجوب حدوث ما اكتسبه وصفاً بعد أن لم يكن مستحقاً له. وما قبل الحوادث لم يخل منها أو من أضدادها، وما لم يوجد قبل أول الحوادث ولم يعر منها كان محدثاً مثلها) . قال: (ولا خلاف بيننا وبينهم - يعني المعتزلة - في هذا القسم لنطنب فيه) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 331 وقال: (وأما الوجه الآخر: فهو أن نقول: إنما أراد بقوله: إنها من سمات الحدث ودلائلة - إنها إذا ثبت حدوثها وأن الجسم لم يخل منها ولم يوجد قبل أولها: وجب له من الحدث ما وجب لها، إذ لا يخلو أن يكون وجد مع وجودها أو بعد وجودها، إذ قد فسد أن يكون موجوداً قبلها. فإن كان وجد مع وجودها، وجب له من الحدث ما وجب لها، وإن كان وجد بعد وجودها، كان أولى بالحدوث، لأن ما وجد بعد المحدث كان أولى أن يكون محدثاً) . قال القاضي أبو بكر: (واعلم أن هذا الدليل على حدوث النطفة وغيرها من الأجسام، إذا علق على هذه النكتة، وسلك فيها هذا الضرب من الاستدلال - فلا بد فيه من مقدمات أربع: أولها: الدلالة على إثبات الأعراض. والثانية: الدلالة على حدوثها وأن لها أولاً تنتهي إليه. والثالثة: أن الجسم لا يخلو منها ولا يوجد قبل أولها. والرابعة: أن ما لم يسبق المحدثات فواجب أن يكون محدثاً مثلهاً) . ثم تكلم على إثبات هذه المقدمات بالكلام المعروف فهم في ذلك. ولما قيل له: لم قلتم: إن الجسم لا ينفك من هذه الحوادث، ولا يوجد قبل أولها؟. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 332 قال: (لأدلة منها: أنا نعلم بالاضطرار وببدائه العقول ومقدماتها: أن الأجسام إذا كانت موجودة فلا تخلو من الاجتماع والافتراق، وذلك لأنها لا تعدو إذا كانت موجودات من أن تكون متماسة متلاصة، كل شيء منها إلى جنب صاحبه، أوتكون متباينة متباعدة، كل شيء منها لا إلى جنب صاحبه، وليس بين هذين منزلة. فإن كانت متماسة، فذلك معنى الاجتماع، وإن كانت متباينة، فذلك هو معنى الافتراق) . قال: (ومما يبين ذلك أيضاً: أنا لوجاز لنا وجود جسم خالياً من الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، والحياة والموت، والسواد والبياض غيرهما من الألوان ومن سائر الهيئات، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، ولكان ذلك ممتنعاً، لأنا وجدنا هذه الأعراض متعاقبة عن الأجسام. وتفسير التعاقب: أن الشيء منها يوجد بعقب غيره) . تعليق ابن تيمية قلت: أما الاجتماع والافتراق: فإذا قدر وجود جسمين فلا بد من يجتمعا أو يفترقا. وأما الجسم الواحد الذي ليس معه غيره، فلا يوصف بمجامعة غيره ولا مفارقته. وإنما يصفه بالاجتماع والافتراق من يقول: بأنه مركب من الأجزاء المفردة. فيقول: تلك الأجزاء إما مجتمعة وإما مفترقة، وهذا ليس معلوماً بالبديهة ولا الحس، ولا يسلمه جمهور الناس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 333 وأما الحياة والموت: فقد ينازعه من ينازعه من النظار في ذلك. فإن نظار المسلمين وغيرهم متنازعون في الموت: هل هو وجودي أو عدمي؟. ثم من قال: إنه عدمي، يقول كثير منهم: إن هذين متقابلان، تقابل العدم والملكة. وما لا يقبل الحياة والموت، كالجماد، لا يوصف بواحد منهما. لكن القاضي وجمهور الناس، يردون على هؤلاء: بأنه هذا اصطلاح منكم لا يلزمنا. ويقولون: إنا نفسر الموت بما يكون النزاع معه لفظياً. ويقول القاضي وأكثر الناس: إن كل جسم فإنه يقبل الحياة. لكن الذي يقال له: الجسم، لا يخلو من أن يكون حياً أو ميتاً، كما لا يخلو من أن يكون متحركاً أو ساكناً، واتصافه بالحياة لايستلزم إمكان اتصافه بالموت. فإن القديم سبحانه موصوف بالحياة والعلم والقدرة، ولا يمكن اتصافه بضد ذلك. وحينئذ: فلا يمكن أن يقال: إن كل جسم يقبل الحياة والموت إلا بدليل يدل على ذلك. والحياة لايجب أن تكون حادثة لا نوعاً ولا شخصاً، كما قد يقال مثل ذلك في الحركة. تابع كلام الباقلاني وتعليق ابن تيمة عليه ثم قال القاضي أبو بكر: (فإن قال قائل: فما الدليل على أن لم يسبق المحدثات محدث، وأنه واجب لا محالة القضاء على حدوث الجسم، متى لم يوجد قبل أول الحوادث، ولم زعمتم ذلك؟. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 334 قيل له: الدليل على هذا قريب واضح: وذلك أنه لا حال للجسم مع الحوادث إلا بثلاثة أحوال: إما أن يكون موجوداً قبل أولها، أو يكون موجوداً مع وجودها، أو يكون موجوداً بعدها. فإذا بطل أن يكون الجسم عارياً عن الحوادث ومنفكاً من سائرها - وجب أنه ليس له معها إلا حالان: إما أن يكون موجوداً مع وجودها، أو بعدها. فإن كان موجوداً مع وجودها، ولوجودها أول: فواجب أن يكون حكمه في الوجود عن أول، وحصوله عن عدم حكمها، وذلك يوجب من حيث شركها في علة الحدوث متى لم يكن سابقاً لها. وإن كان موجوداً بعدها: كان أولى بالحدوث منها لوجوده بعدها) . فهذا منتهى كلام القاضي وأبي الحسن في إثبات الصانع، وكلام أبي الحسن أجود، فإنه بناه على التغير المحسوس في النطفة، لم يحتج من ذلك إلى إثبات جنس الأعراض لكل جسم. وقول القاضي: إن الدليل على حدوث النطفة وغيرها من الأجسام إذا علق على هذه النكتة، فلا بد فيه من إثبات الأعراض أولاً، وعلى حدوثها ثانياً - فليس كما قال. بل الأشعري عدل عن هذه الطريق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 335 قصداً، كما ذكره في رسالة الثغر، وذم هذه الطريق وعابها. وذلك أن ما ذكره من تحول النطفة وانقلابها أمر مشهود محسوس، لا ينازع فيه عاقل سليم، سواء سمي ذلك تحول عرضاً أولم يسم، وسواء قيل: إن ذلك العرض مغاير للجسم، أوقيل ليس بمغاير له، وتحولها مشهود حدوثه لا يحتاج من ذلك إبطال كمون الأعراض ولا انتقالها. لكن منتهى الدليل إلى مقدمة واحدة: وهو أن ما قامت به الحوادث فهو حادث، بناءً على أن ما قامت به لم ينفك عنها، وما لم يسبق الحوادث فهو حادث. وهذه المقدمات فيها نزاع مشهور. وجمهور الناس من المسلمين واليهود النصاري والمجوس والصابئين والمشركين يخالفون في ذلك، حتى جمهور الفلاسفة المتقدمون والمتأخرون القائلون بقدم العالم وحدوثه يخالفون في ذلك. والجمهور القائلون بأن الله خلق السماوات والأرض بعد أن لم تكونا مخلوقتين، لا يتوقف إثبات ذلك عندهم على هذه المقدمة، بل ويقولون: إن إثبات خلقهما لا يثبت إلا مع نقيض هذه المقدمة. بل وكذلك القول بأن الله خالق كل شيء، وأنه هو القديم وحده وما سواه محدث مسبوق بالعدم، كما هو مذهب أهل الملل. وجمهور العقلاء يقول أئمتهم: إنها لا تحتاج إلى هذه المقدمة، بل لا تثبت إلا مع نقيض هذه المقدمة، ومع القول بإبطالها. ويقولون: إن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 336 موجب هذه المقدمة أن كل موجود محدث، وأنه ليس في الوجود قديم، مع أن هذا معلوم الفساد بالضرورة. وأما الكلام في أن ما قبل الحوادث لم يخل منها، ففيها نزاع مشهور بين أهل الكلام. وذلك قوله: ما لم يسبق الحوادث فهو حادث، فيها من منازعة أهل الحديث والكلام والفلسفة ما هو معروف. وقد يسلم هذه من ينازع في الأولى من الكرامية ونحوهم، وقد ينازع في هذه من لا ينازع في الأولى من أهل الحديث والفلسفة والكلام وغيرهم. وهذه المقدمة هي التي جعلها الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم عليها من الأشعرية والكرامبة وأتباع الأئمة الأربعة - أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد - أصل الدين. ثم إن قدماءهم كانوا يأخذونها مسلمة، ويظنونها ضرورية، ولا يميزون بين ما لا يسبق الحادث المعين والحوادث المحدودة التي لها مبدأ، وما لا يسبق جنس الحوادث. فإن ما لا يسبق الحادث المعين أو الحوادث المحددة التي لها مبدأ، فهو محدث بالضرورة، ولا ينازع في هذا عاقل. فإن ما كان عينه حادثاً فما لم يكن قبله فإنه محدث مثله بالضرورة، كما قرره. لأنه إما بعده. وما كان مع الحادث أو بعده فهو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 337 حادث بالضرورة. وأما ما لا يسبق جنس الحوادث، وهو ما قدر أنه لم يزل يقارنها حادث بعد حادث وهلم جراً، كما أنه يقارنه حادث بعد حادث، وفان بعد فان في الأبد، فيقدر ليس متقدماً على جنس الحوادث، ولا متأخراً عن جنس الحوادث والفانيات، فهذا محل نزاع: نازعهم فيه جمهور الناس من أهل الملل، والفلاسفة القائلين بحدوث العالم وبقدمه. وقد رأيت في كتب كثير من المتكلمين: من المعتزلة والأشعرية وغيرهم، أنهم أخذوا هذه المقدمة مسلمة، وجعلوها ضرورية. واشتبه عليهم ما لم يسبق عين الحادث بما لم يسبق نوع الحادث. والأول ظاهر معلوم لكل احد. وأما الثاني فليس كذلك. فصاروا ينتهون في أصل أصول دينهم الذي زعموا أنه ثابت بصريح المعقول، وأنهم به عرفوا وجود الخالق وصدق رسله، وأنه به يردون على من خالف الملة، وبه خالفوا ما خالفوه من نصوص الكتاب والسنة، وأقوال السلف والأئمة وأهل الحديث، إلى هذه المقدمة. وهي لفظ مجمل فيه عموم، وإطلاق أحد نوعيه بين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 338 فإذا ذكروا ذلك النوع البين، ظنوا أن المقدمة صارت معلومة ضرورية، والمطلوب لا يتم إلا ببيان النوع الآخر، وهم لم يبينوه. وهذا مما يبين للفاضل المعتبر كيف تدخل الشبهات والبدع على كثير من الناس، وإن كانوا من أعقل الناس وأذكاهم وأفضلهم، وإن كانوا لم يعتمدوا التلبيس لا على أنفسهم، ولا على من يعلمونه ويخاطبونه، لكن اشتبه الأمر عليهم، فوقعوا في شبهات ظنوها بينات. وهذا مما يعتبر به المسلم فلا يعدل عن كلام الله وكلام رسوله المعصوم، الذي عرف أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إلى كلام من يروج عليهم مثل هذه الشبهات، ويغرقون في مثل هذه المجملات، ولا يتبين لهم ما فيها من فصل الخطاب، والتقسيم المميز للصحيح من السقيم. ويعرف بهذا حذق السلف والأئمة، الذين ذموا مثل هذا الكلام، وجعلوه من الجهل الذي يستحق أهله العقوبة والانتقام. لكن هؤلاء ذكروا في موضع آخر الكلام مع من يدعي وجود ما لا يتناهى، وبحثوا معه، وإن كانوا لم يجعلوا ذلك من المقدمات التي لا بد منها في هذه المسألة. وقد ذكر القاضي أبو بكر بعد هذا فقال: (فصل: فإن قال قائل من أهل الدهر، الذاهبين إلى أنه: لا حركة إلا وقبلها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 339 حركة، ولا حادث إلا وقبله حادث، لا إلى غاية: فما أنكرتم من ألا تدل الحوادث على حدوث الجسم أصلاً، إذ كان لا أول لوجودها، ولا شيء منها إلا وقبله شيء لا إلى غاية؟. يقال له: أنكرنا ذلك لأمور: أقربها أن هذا الذي قلته محال متناقض، وذلك أنه لا يخلو ما ما مضى من الحوادث وانقضى، أن يكون محدثاً موجوداً عن أول، وأن يكون الفعل والفراغ قد أتيا عليه، أو أن يكون منها ما هو غير وجود عن أول، ولا كائن عن حدوث. فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحاً مبتدأ قد أتى عليه الفراغ - استحال قولكم: إنها لم تزل موجودات شيئاً قبل شيء، لأن ما لم يزل موجوداً فقديم غير مستفتح. وقولنا: إنها حوادث وجب لها الاستفتاح والوجود عن أول، والجمع بين ذلك متناقض - محال. وإن كان فيما أوقعنا عليه هذه التسمية، وهو قولنا: حوادث، ما هو موجود لا عن أول، وكائن عن عدم، فالموجود لا بحدوث، والكائن لا عن عدم واجب أن يكون قديماً لا محالة، كما أن الفلك عندكم وعناصر الأشياء - التي هي: الماء، والأرض، والنار، والهواء - قديمة عندكم، إذ كانت موجودة لا عن عدم، وكانت لا بحدوث، فواجب أن يكون الفلك قديماً لا أول لوجوده. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 340 ولو أمكن أن يكون فيما أوقعنا عليه قولنا: حوادث، ما هو كائن لا بحدوث، موجود لا عن عدم، وهو مع ذلك محدث في الحقيقة - لوجب أن يكون الفلك أيضاً وهذه الأعراض موجودةً لا بحدوث، كائناً لا عن عدم، وهو مع ذلك محدث غير قديم. وكذلك القول في سائر أجسام العالم المركبة من هذه الأصول. ولو جاز ذلك جاز في جميع أجسام العالم. فإن لم يجز هذا، ووجب قدم الفلك الكائن لا عن عدم، الموجود بغير حدوث - وجب قدم ما كان من الحوادث لا عن عدم، وما هو موجود فيها بغير حدوث. وهذا يوجب أن من الحوادث ما هو قديم، وذلك غاية التناقض والجهل لمن بلغه، لأن هذين الوصفين متناقضان. وإذا كان كذلك استحال ما قلتموه من أن الحوادث لم تزل شيئاً قبل شيء لا إلى أول. قال: (وتحرير ذلك أن هذا قول يوجب أن منها ما هو قديم لا محالة. والقديم لا يكون محدثاً، ولا مجموعاً من الحوادث، لأن قولنا محدث جمع مبني من لفظ واحد، ومن المحال أن يكون من جملة الحوادث. فوجب أن للحوادث كلاً وجميعاً، وأن ما انقضى منها ومضى قد لقي الفراغ على جميعه، وأن لم يسبقه ولم يكن قبله، فواجب أن يكون محدثاً مثله) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 341 فدل ما ذكره أبو الحسن في حال النطفة، وما يلحقها من التغييرات والانقلاب والتأثيرات على أنها محدثة، وهي وسائر الأجسام، إذ سائر الأجسام هي كالنطفة فيما استدل به على حدوثها، من الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغيير) . قال: (وهذا الطريق من الكلام في حدوث الأجسام هو المعتمد في هذا الباب) . تعليق ابن تيمية قلت: هذا القاضي هو المقدم على أبناء جنسه. وهذا منتهى كلامه في هذا الموضع، الذي هو عندهم أصل الدين، الذي جعلوه أصلاً لرد ما خالفه من النصوص النبوية، ولما خالفه من مذاهب الدهرية. والمنازعون من أئمة السنة وأئمة الفلسفة يقولون لهم: ما ذكرتموه ليس فيه إلا مجرد الدعوى المبنية على عدم تصور النزاع، فإن قولكم: لا يخلو ما مضى من الحوادث أن يكون موجوداً عن أول، أو يكون فيها ما هو غير موجود عن أول - جوابه: أن ما مضى من الحوادث يراد به كل فرد بعينه، ويراد به النوع المتعاقب شيئاً بعد شيء. فإن كان المراد كل واحد واحد من الحوادث، فليس فيها شيء قديم، بل كل منها كائن بعد أن لم يكن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 342 وإن كان مرادك النوع المتعاقب شيئاً بعد شيء، فليس له أول، وليس هو حادثاً، بل النوع قديم من أن كل فرد من أفراده حادث. وأنت لم تذكر دليلاً على امتناع هذه البتة، وإنما ذكرت أنه ليس فيها شيء قديم، وهذا مسلم لا نزاع فيه. وقلت: فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحاً مبتدأ، قد أتى الفراغ عليه استحال قولكم: إنها لم تزل موجودة شيئاً قبل شيء، لأن ما لم يزل فقديم غير مستفتح. فيقال لك: كل واحد منها مستفتح مبتدأ. ولكن لم قلت: إنه إذا كان كذلك استحال قول القائل: إنها لم تزل موجودة شيئاً قبل شيء، لأن ما لم يزل فقديم غير مستفتح؟. فإن هذا القائل يقول: إن الذي لم يزل، إنما هو الجنس المتعاقب شيئاً بعد شيء، وأما كل واحد واحد من تلك الحوادث فلا يقول عاقل: إنه لم يزل. فقول القائل: فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحاً مبتدأ قد أتى الفراغ عليه، استحال قولكم: إنها لم تزل موجودة شيئاً قبل شيء. يقال له: هم لا يقولون: إن جنس الماضي مستفتح مبتدأ. فإن ما لم يزل موجوداً شيئاً قبل شيء لا يكون إلا قديماً لم يزل، ولكن يقولون: إن كل واحد من تلك الحوادث مستفتح مبتدأ، وهذا لا يقولون فيه: إنه لم يزل موجوداً. فالذي يقولون: إنه لم يزل، ليس هو الذي يقولون: إنه مستفتح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 343 مبتدأ. وهذا كما يقولون في المستقبلات الفانية المنقضية المتصرمة كالحركات: إن كل واحد منها فان منقض، والجنس ليس بفان منصرم بل هو دائم. كما قال تعالى: {أكلها دائم} ، وقال: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} . فالجنس دائم لا نفاذ له، وكل واحد واحد من أفراد الرزق المأكول ينفذ لا يدوم. ولما تفطن كثير من أهل الكلام، لما في هذه المقدمة من الإجمال والإبهام، وأنها لا بد من بيان هذه المقدمة في هذا الموضع، ميزوا بين النوعين، كما فعل ذلك أبو الحسين البصري وأبو المعالي الجويني، والشهرستاني، والرازي وغيرهم. فعرفوا أن المراد أنه ما لم يسبق جنس الحوادث لا عين الحوادث، وأن ذلك لا يتم إلا ببيان أن الحوادث يجب أن يكون لها ابتداء، وأنه يمتنع وجود حوادث لا يتناهى نوعها. فإخذوا يحتجون على ذلك بما ذكرناه، وذكرنا اعتراض الناس عليه في غير هذا الموضع. ولهذا جعل أبو الحسين وأبو المعالي ونحوهما هذا الدليل مبنياً على أربع مقدمات: إثبات الأعراض، وإثبات حدوثها، وإثبات استلزام الجسم لها، واستحالة حوادث لا أول لها. وجعلوا النتيجة: أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، فإن ذلك حينئذ يكون معلوماً بالضرورة، بخلاف ما فعله كثير من أهل الكلام من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 344 الجهمية والمعتزلة والأشعرية والشيعة وغيرهم، حيث جعلوا المقدمات أربعاً: إثبات الأعراض، وإثبات حدوثها، وأثبات استلزام الجسم لها، والرابعة: أن ما لم يسبق الحوادث فهو محدث، وهذه هي النتيجة، وتصلح أن تكون مقدمة إذا تبين أن ما لم يسبق جنس الحوادث فهو محدث، لكن هم لم يثبتوا ذلك هنا، واللفظ مجمل كما ترى. لكن قد بين هؤلاء، كـ القاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وغيرهما الكلام على هذا الأصل. وهو امتناع وجود ما لا يتناهى في موضع آخر، فجعلوا الكلام في إبطال ما لا يتناهى من الحوادث، والأجزاء التي هي الجواهر المفردة، ونحو ذلك جنساً. ومنهم من يجعل ذلك دليلاً ثابتاً في المسألة، كما فعله ابن عقيل والقشيري وغيرهما. وقد ذكرنا: أن الناس لهم في وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل ثلاثة أقوال، قال بكل قول طائفة من نظار المسلمين وغيرهم. أحدها: امتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل. وهذا قول أبي الهذيل والجهم بن صفوان. وعن هذا الأصل قال الجهم بفناء الجنة والنار، واشتد إنكار سلف الأمة عليه ذلك. وليس هذا قول من يقول بأنهما ليستا مخلوقتين، ولو كانتا مخلوقتين لفنيتا. كما قال ذلك طائفة من الجهمية والمعتزلة، فإن هؤلاء يقولون: إن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 345 العالم كله لا بد أن يفنى جميعه ثم يعاد، فلو كانت الجنة مخلوقة لفنيت فيما يفنى، ثم تعاد فلا تفنى، والجهم يقول: تفنى فناءً لا تعاد بعده، وأبو الهذيل يقول: تفنى حركات أهل الجنة والنار. والقول الثاني: قول من يقول بامتناع ما لا يتناهى في الماضي دون المستقبل، لأن الماضي قد وجد، والمستقبل لم يوجد بعد. وهو قول أكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم. والثالث: قول من يقول بإمكان وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل كما هو قول أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة. لكن أئمة أهل الملل وغيرهم ممن يقر بأن الله خالق كل شيء، وأن كل ما سواه محدث مسبوق بعدم - يقولون: لا يجوز وجود حوادث لا تتناهى إلا من قديم واحد. وأما من يقول بوجود قديمين متحركين، كمن يقول بقدم الأفلاك، فإن هؤلاء - كأرسطو وأتباعه - لا يجوزون أن يوجد بكل من القديمين - بل والقدماء - حوادث لا بداية لها ولا نهاية، مع أن إحداهما أكثر من الأخرى، فيجوزون فيما لا أول له ولا آخر أن يكون غيره أكثر منه، وأن يكون قابلاً للزيادة، بخلاف الذين قبلهم، فإنهم إنما يجوزون ذلك في قديم واحد، فإذا كان ما يفعله لا بداية له ولا نهاية، لم يلزم أن يكون قابلاً للزيادة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 346 وعلى هذا فللناس في أن ما لا يسبق جنس الحوادث هل هو حادث؟ أقوال: أحدها: أنه يجب أن يكون حادثاً مطلقاً. والثاني: لا يجب أن يكون حادثاً. والثالث: أنه كان محتاجاً إلى غيره وجب أن يكون حادثاً، وإن كان غنياً عن غيره لم يجب أن يكون حادثاً. وأيضاً فإن ما لم يسبق حوادث نفسه لم يجب أن يكون حادثاً، وإن لم يسبق حوادث غيره كان حادثاً. وقد قرر هذا في موضع آخر. ومن فهم ما ذكرناه، ونظر فيما صنفه الناس في هذا الباب من الاستدلال على حدوث الأجسام بأنها لا تخلو من الحوادث، وما لم يسبق الحوادث فهو حادث - تبين له تقصير كثير منهم في استيفاء مقدمات الدليل. ثم الذين استوفوا مقدماته يبقى الكلام معهم في صحة تلك المقدمة، وقد عرف منازعه أكثر أهل الملل، وأكثر الفلاسفة، أو كثير من الطائفتين فيها وإبطالهم لها. ولما كان هؤلاء وأمثالهم يدعون أن معرفة الله لا تحصل إلا بالمعقول، ويفسرون المعقول بمثل هذا الدليل الذي هو باطل، وغايته إذا قيل: إنه صحيح أنه لا يصل به إلى المطلوب إلى قليل من الناس بعد كلفة شديدة، ومخاطرة عظيمة، ويريدون أن يردوا بمثل هذا ما دل عليه الكتاب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 347 والسنة، واتفق عليه سلف الأمة، بل ما علم بفطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها، ودلت عليه العقليات الصريحة، قابلهم من قال: إن المعرفة لا تحصل إلا بالشرع. وهؤلاء في الغالب لا يريدون بذلك المعرفة الحاصلة لعموم الخلق من الكفار وغيرهم، فإن هذه عندهم فطرية ضرورية، أو مكتسبة بنوع من نظر العقل. وقد تقدم كلام الناس في أن أصل الإقرار بالصانع فطري ضروري، أو قد يكون ضرورياً، خلافاً لمن قال: إنه لا يحصل إلا بالنظر. وكلام السلف والأئمة في ذلك كثير. ولهذا كان كثير من أتباعه ممن يقول: إن أول الواجبات هو النظر، وأن المعرفة لا تحصل إلا به، قد يقول خلاف ذلك في موضع آخر. وقد تقدم أن القاضي أبا يعلى وغيره كانوا يقولون بوجوب النظر في هذه الطريقة: طريقة الأعراض، ثم رجعوا عن ذلك. ويقولون: إن المعرفة نظرية، وإنها حاصلة بالنظر في الأدلة المذكورة في القرآن. وكثير من الناس كانوا يقولون أولاً بوجوب النظر المعين الذي توجبه الجهمية والمعتزلة، وهو النظر في حدوث الأعراض ولزومها للأجسام، وأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وأنه أول واجب على العباد، ثم رجعوا عن ذلك لما تبين له فساد القول بوجود ذلك. كلام أبي يعلى في المعتمد عن وجوب النظر ومن هؤلاء القاضي أبو يعلى، وابن عقيل، وأبو المعالي الجويني، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 348 والغزالي، والرازي، وغيرهم. فإن هؤلاء وأمثالهم سلكوا أولاً الطريقة التي وجدوها للمتكلمين الذي سلكوا مسلك الجهمية والمعتزلة. فقالوا - وهذا لفظ القاضي أبي يعلى في المعتمد -: (إذا ثبت صحة النظر ووجوبه، فإن أول ما أوجب الله على خلقه العقلاء النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة الله تعالى) . قال: (وقد قيل: إن أول الواجبات إرادة النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله تعالى) . قلت: هذا قول أبي المعالي في إرشاده وذكر القاضي أبو بكر وغيره. واختار القاضي أبو يعلى هذا في موضع آخر، فقال: (أول ما أنعم الله على المؤمنين - بعد الحياة - من النعم الدينية: خلق القدرة على الإرادة للنظر والاستدلال المؤديين إلى إثبات المعاني وحدوثها، وأن الجواهر لم تخل منها ولم تسبقها في الوجود الموصل له إلى معرفة الله تعالى) . قال: (وقد قيل: أول نعمة دينية خلق القدرة على الإيمان) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 349 قال: (وجه الأول: أول طاعة واجبة لله على الخلق اكتساب الإرادة للنظر المؤدي إلى إثبات المعاني وحدوثها، وأن الجواهر لم تسبقها، وإذا كان ذلك أول الواجبات، وجب أن يكون أول النعم عليه من النعم الدينية) . قال: (وأعظم نعمة الله على المؤمنين من النعم الدينية وأجلها: كتب الإيمان في قلوب المؤمنين) . قال: (وقد قيل: أعظم النعم الدينية هي: خلق القدرة على الإيمان، والأول أشبه. فإن أعظم الطاعات هو الإيمان، فإنه بوجوده والموافاة به يحصل الثواب الدائم في الآخرة، وإذا لم يوجد لا يحصل ذلك. ثم قالوا: - وهذا لفظ القاضي أبي يعلى - خلافاً لمن قال: إن أول الواجبات المعرفة بالله، وخلافاً لمن قال: معرفة الله غير واجبة، وأن الواجب الإقرار به والتصديق له. قال: (والدلالة على ما ذكرنا، أنه قد ثبت أن من لا يعرف الله لا يمكنه أن يتقرب إليه، كما أن من لا يعرف زيداً لا يمكنه أن يتقرب إليه. لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفاً بالمتقرب إليه، وليس بمشاهد لنا، ولا معلوم لنا ضرورة، فوجب ألا نعلمه إلا بالنظر والاستدلال في الطريق الموصل إليه، فلما لم تتم المعرفة إلا به، وجب أن يكون واجباً، وإذا وجب علم أنه أول الواجبات) . ثم قال: (فصل) : وإذا ثبت أن أول الواجبات، فإنما يجب النظر في الطريق الموصل إلى معرفة الله، وهو حدوث الأشياء من الجواهر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 350 والأجسام، وإذا كانت محدثةً وجب أن يكون لها محدث، لأن المحدث لو لم يعلق بمحدث، لم تتعلق الكتابة بكاتب، والضرب بضارب، لأن ذلك كله يبعد، إذ استحالة محدث لا محدث له كاستحالة كتابة لا كاتب لها. فلو جاز محدث لامحدث له، لجاز محدث لا إحداث له وذلك محال. وأيضاً، فإنا نرى الحوادث يتقدم بعضها على بعض، ويتأخر بعضها عن بعض، فلولا أن مقدماً قدم منها ما قدم، وأخر منها ما أخر،، لم يكن ما تقدم منها أولى من أن يكون متأخراً، وما تأخر منها أولى من أن يكون متقدماً، فدل ذلك على أن لها مقدماً محدثاً لها، قدم منها ما قدم، وأخر منها ما أخر) . وكان القاضي قد سمع رسالة الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله على مسعود السجزي، عن علي بن سري السجستاني، عن الخطابي، وذكر أن بعض الناس اعترض عليها. فإن الخطابي ذكر عن الغنية عن الاستدلال بحدوث الجواهر والأجسام، لكونها لا تنفك عن الحوادث كما تقدم. وقال: (فأموا مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 351 وهذه طريقة السلف من أئمة المسلمين في الاستدلال على معرفة الصانع، وحدوث العالم، لأنه إذا ثبتت نبوته بقيام المعجز (وجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب، ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله تعالى وصفاته وكلامه) ..... (وقد نبههم في كتابه على الاستدلال به على ربوبيته فقال: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} .... ) وقال: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت} ، وقوله: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات} ، وما أشبه ذلك مما يدل على إثبات الصانع) إلى آخر كلامه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 352 قال القاضي: (وقد اعترض على هذا بعضهم فقال: هذه رجوع منهم ومناف لما ذكره، لأنه حث على الاعتبار بأنفسنا وبالسماوات والأرض، وليس ذلك بمعجزات الأنبياء، وإنما هي الأجسام والأعراض) . قال: (وإنما احتج المتكلمون بالأعراض لأن الجسم لا ينفك منها، وهي محدثة في أنفسها، لعلمنا بأن العرض يعدم في حال ويوجد في حال أخرى. وهذا شاهد على حدوثها، وعلى حدوث ما لا ينفك منها) . قال: (ومعنى قوله: انقلابها فيها، انقلاب الجواهر في الأعراض، ومعناه تغيره من سواد إلى بياض، ومن حركة إلى سكون) . قلت: قد يراد بانقلابها فيها انقلاب الأعراض في الجواهر، فإنها تنقلب من عدم إلى وجود، ومن وجود إلى عدم، ومن نوع إلى نوع: كالبياض والسواد، والحركة والسكون. وهذا المعترض على الخطابي أخطأ، فإن الخطابي ذكر طريقين كما ذكرنا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 353 أحدهما: المعجزات، بناء على أن الإقرار بالصانع فطري، أو على المعجزات يستدل بها على الخالق، وعلى صدق أنبيائه، كما ذكرنا في عصا موسى. والطريق الثاني: أن القرآن نبه على الأدلة العقلية الصحيحة، كما اعترف أئمة النظار بأن القرآن دل على الطريق العقلية. فقال: (وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة، ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعاً حكيماً، عالماً خبيراً، تام القدرة، بالغ الحكمة. وقد نبههم الكتاب على ذلك، ودعاهم إلى تدبره وتأمله، والاستدلال به على ثبوت ربوبيته، فقال عز وجل: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} ، إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة ولطيف الحكمة، الدالين على وجود الصانع الحكيم) . ثم تكلم في خلق الإنسان بما تقدم ذكره. قال: (وكقوله: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 354 وبقوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} ، وما أشبه ذلك من خلال الأدلة، وظواهر الحجج التي يدركها كافة ذوي العقول، وعامة من يلزمه حكم الخطاب، مما يطول تتبعه واستقراؤه) . قال: (فبهذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه) . فقد بين الخطابي بعض ما نبه عليه القرآن من الاستدلال بالآيات النفسية والأفقية، وهي أدلة عقلية. والخطابي ذم طريقة الاستدلال بالأعراض، وأنها لازمة للأجسام. وهذه الطريقة لم ينبه القرآن عليها، ولكن بعض الناس ذكروا: أن هذه طريقة إبراهيم الخليل صلوات الله عليه، في قوله: {لا أحب الأفلين} ، قالوا: لأن الأفول هو الحركة التي لم يخل الجسم منها. وهذا باطل لوجوه: بطلان استدلال الفلاسفة أحدها: أن الأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير هو المغيب والاحتجاب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 355 والثاني: أنه لو استدل بالحركة لكان من حين بزغت استدل بذلك، لم يؤخر الدلالة إلى حين الغروب. الثالث: أن قصة إبراهيم هي على نقيض مطلوبهم أدل، فإنه لم يجعل الحركة منافية لما قصده، بل المنافي هو الأفول. الرابع: أن إبراهيم لم يكن معنياً بقوله: {هذا ربي} ، أنه رب العالمين، عل أي وجه قاله، ولا اعتقد ذلك قومه ولا غيرهم، وإنما كان الذي يقول ذلك يتخذه رباً لينال بذلك أغراضه، كما كما عباد الكواكب والشمس والقمر يفعلون ذلك. وكان قومه من هؤلاء، لم يكونوا جاحدين للصانع، بل مشركين به. ولهذا قال لهم: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} . وقال في آخر قوله: {إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين * وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} ، وقد بسط هذا في موضع آخر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 356 والمقصود هنا: أن القاضي كان أولاً يقول بطريقة من يقول: إن أول الواجبات هو النظر في حدوث الأجسام، ثم رجع القاضي عن ذلك، ووافق الخطابي وغيره ممن سلك مسلك السلف والأئمة، وقالوا: إن هذه الطريقة ليست واجبة بل هي عند محققيهم باطلة، وإن كان النظر واجباً في غيرها من الطرق الصحيحة. وقد افتتح القاضي كتابه بقوله: (الحمد لله مبتدىء الأشياء ومخترعها من غير شيء، العالم بها قبل تكوينها، والقادر عليها قبل أنشائها، جاعل العلامات، وناصب الدلالات، ومبين الآيات، الآمر أولي الأبصار بالأفكار، وأولي الألباب بالاعتبار، أرسل الرسل بالإنذار، وأنزل الكتب بالأنوار، وباعث النبيين، ومنقذ العمين. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى، وأمينه المرتضى، أنزل عليه كتابه الهدى نوراً لمن التمسه، وضياءً لمن اقتبسه، ودليلاً لمن طبله، دلهم فيه على معاني حكمته، ولطيف صنعته، وبيان جلاله، أثبت الحجة به على أوليائه وأعدائه، وهو كلامه الذي يعجز الخلق أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، لا معقب لأمره، ولا راد لفضله، تعالى عما يقول الجاحدون علواً كبيراً) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 357 ثم قال: (وهذه خطبة شيخنا أبي بكر عبد العزيز بن جعفر بن أحمد، ذكرها في أول كتابه الشافي قصدت أن أفتتح كتابي بها تبركاً به، ولأنه قد صرح فيها بالقول وبالنظر والاستدلال بقوله: الآمر أولي الأبصار بالأفكار، وأولي الألباب بالاعتبار) . قال: (وفي هذا بيان لوجوب النظر وصحته، وإزالة الإشكال عمن توهم غير هذا في المذهب) . قلت: وإيجاب النظر مطلقاً غير إيجاب النظر في الطريق المعين، طريقة كون الأعراض حادثة وهي لازمة للأجسام، فإن هذه لا يقول بوجوبها على المسلمين أحد من أئمة المسلمين، الذي يعرفون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويتبعونه، إذ كان معلوماً بالاضطرار لكل من عرف ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجب النظر في هذه الطريقة، بل ولا دل على صحتها، بل ما أخبر به يناقض موجبها، وهي وإن جعلها من جعلها من أهل الكلام المحدث أصلاً في معرفة الصانع وصفاته، وصدق رسله، فهي عند التحقيق تناقض معرفة الصانع ومعرفة صفاته وصدق رسله، كما قد بسط في مواضع والمقصود هنا أن القاضي أبا يعلى ونحوه ممن كان يقول أولاً: إن المعرفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 358 لا تحصل إلا بالنظر في هذه الطريقة، وهو أول الواجبات، لما ذكروا قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» ، قالوا: - واللفظ للقاضي في الفطرة -: (ما الفطرة هنا؟ على روايتين عن أحمد: كلام القاضي أبي يعلى عن معنى الفطرة أحداهما: الإقرار بمعرفة الله تعالى، وهي العهد الذي أخذه عليهم في أصلاب آبائهم، حين مسح ظهر آدم، فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فليس أحد إلا وهو يقر بأن له صانعاً ومدبراً، وإن سماه بغير اسمه. قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} ، فكل مولود يولد على ذلك الإقرار الأول) . قال: (وليس الفطرة ها هنا الإسلام، لأمرين: أحدهما: أن معنى الفطرة: ابتداء الخلقة. ومنه قوله تعالى: {فاطر السماوات والأرض} ، أي مبتدئهما. وإذا كانت الفطرة هي الأبتداء، وجب أن تكون تلك هي وقعت لأول الخلق، وجرت في فطرة المعقول، وهو استخراجهم ذريةً، لأن تلك حالة ابتدائهم، ولأنها لو كانت الفطرة هنا: الإسلام لوجب إذ ولد من بين أبوين كافرين ألا يرثهما ولا يرثانه، ما دام طفلاً، لأنه مسلم، واختلاف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 359 الدين يمنع الإرث، ولوجب ألا يصح استرقاقه، ولا يصح إسلامه بإسلام أبيه، لأنه مسلم) . قال: (وهذا تأويل ابن قتيبة، ذكره في إصلاح الغلط على أبي عبيد، وذكره أبو عبد الله بن بطة في الإبانة. قال: (وليس كل من ثبت له المعرفة حكم بإسلامه، كالبالغين من الكفار فإن المعرفة حاصلة لهم وليسوا بمسلمين) . قال: (وقد أومأ أحمد إلى هذا التأويل في رواية الميموني، فقال: الفطرة الأولى التي فطر الله عليها، فقال له الميموني: الفطرة: الدين؟ قال: نعم) . قال القاضي: (وأراد أحمد بالدين: المعرفة التي ذكرناها) . قال: (والرواية الثانية: الفطرة هنا: ابتداء خلقه في بطن أمه) . قال: لأن حمله على العهد الذي أخذه عليهم، وهو الإقرار بممعرفة الله تعالى، حمل للفطرة على الإسلام، لأن الإقرار بالمعرفة إقرار بالإيمان، والمؤمن مسلم) . قال: (ولو كانت الفطرة الإسلام لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين ألا يرثهما ولا يرثانه، لأن ذلك يمنع أن يكون الكفر خلقاً لله، وقد ثبت من أصولنا أن أفعال العباد خلق لله عن طاعة ومعصية) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 360 قال: (وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية علي بن سعيد، وقد سأله عن كل مولود يولد على الفطرة، فقال: على الشقاوة والسعادة. وكذلك نقل محمد بن يحيى الكحال، أنه سأله عن كل مولود يولد على الفطرة، قال: هي التي فطر الناس عليها: شقي أو سعيد. وكذلك نقل حنبل عنه، قال: الفطرة التي فطر الله العباد من الشقاء والسعادة) . قال: (وهذا كله يدل من كلامه على أن المراد بالفطرة ها هنا: ابتداء خلقه في بطن أمه) . تعليق ابن تيمية قلت: أحمد لم يذكر العهد الأول، وإنما قال: الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها، وهي الدين. وقد قال في غير هذا موضع: إن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما، حكم بإسلامه. واستدل بهذا الحديث: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه. فدل على أنه فسر الحديث: بأنه يولد على فطرة الإسلام، كما جاء ذلك مصرحاً به في الحديث: ولو لم يكن كذلك لما صح استدلاله بالحديث. وقوله في موضع آخر: يولد على مافطر عليه من شقاوة وسعادة لا ينافي ذلك، فإن الله تعالى قدر الشقاوة والسعادة وكتبها، وقدر أنها تكون بالأسباب التي تحصل بها، كفعل الأبوين. فتهويد الأبوين وتنصيرهما وتمجيسهما هو مما قدره الله تعالى. والمولود ولد على الفطرة سليماً، وولد على أن هذه الفطرة السليمة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 361 يغيرها الأبوان، كما قدر الله تعالى ذلك وكتبه. كما مثل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» ، فبين أن البهيمة تولد سليمة، ثم يجدعها الناس، وذلك بقضاء الله وقدره، فكذلك المولود يولد على الفطرة سليماً، ثم يفسده أبواه، وذلك أيضاً بقضاء الله وقدره. وإنما قال الأئمة: ولد على ما فطر عليه من شقاء وسعادة، لأن القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليس بقدر الله، بل مما فعله الناس، لأن كل مولود يولد خلقه على الفطرة، وكفره بعد ذلك من الناس. ولهذا قالوا لـ مالك بن أنس: إن القدرية يحتجون علينا بأول الحديث، فقال: احتجوا عليهم بآخره. وهو قوله: الله أعلم بما كانوا عاملين. فبين الأئمة أنه لا حجة فيه للقدرية، فإنهم لا يقولون إن نفس الأبوين خلقا تهوده وتنصره، بل هو تهود وتنصر باختياره، لكن كانا سبباً في ذلك بالتعليم والتلقين، فإذا أضيف إليهم بهذا الاعتبار، فلأن يضاف إلى الله الذي هو خالق كل شيء بطريق الأولى، لأن الله، وإن خلقه مولوداً على الفطرة سليماً، فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره وعلم ذلك. كما في الحديث الصحيح: (إن الغلام الذي قتله الخضر يوم طبع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 362 كافراً، ولو بلغ لأرهق أبويه طغياناً وكفراً) . فقوله: طبع، أي طبع في الكتاب، أي قدر وقضي، لا أنه كان كفره موجوداً قبل أن يولد، فهو مولود على الفطرة السليمة، وعلى أنه بعد ذلك يتغير فيكفر، كما طبع كتابه يوم طبع. ومن ظن أن المراد به الطبع على قلبه، وهو الطبع المذكور على قلوب الكفار، فهو غالط. فإن ذلك لا يقال فيه: طبع يوم طبع، إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره. وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عياض بن حمار «عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى أنه قال: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً» . وهذا صريح في أنه خلقهم على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك. وكذلك في حديث الأسود بن سريع الذي رواه أحمد وغيره، قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملكم على قتل الذرية؟ قالوا: يا رسول الله: أليسوا أولاد المشركين؟ قال: أو ليس خياركم أولادكم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 363 المشركين؟ ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: ألا إن كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه» . فخطبته لهم بهذا الحديث عقب نهيه عن قتل أولاد المشركين، وقوله لهم: أو ليس خياركم أولاد المشركين؟ يبين أنه أراد أنهم ولدوا غير كفار، ثم الكفر طرأ بعد ذلك. ولو كان أراد أن المولود حين يولد يكون إما كافراً وإما مسلماً على ما سبق له القدر - لم يكن فيما ذكره حجة على ما قصده صلى الله عليه وسلم من نهية لهم عن قتل أولاد المشركين. وقد ظن بعضهم أن معنى قوله: «أو ليس خياركم أولاد المشركون؟» معناه: لعله أنه قد يكون سبق في علم الله أنهم لو بقوا لآمنوا، فيكون النهي راجعاً إلى هذا المعنى من التجويز. وليس هذا معنى الحديث، ولكن معناه: إن خياركم هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، هؤلاء من أولاد المشركين، فإن آباءهم كانوا كفاراً، ثم إن البنين أسلموا بعد ذلك، فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كانوا مؤمناً، فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه، وهو سبحانه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 364 وهذا الحديث قد روي بألفاظ يفسر بعضها بعضاً، ففي الصحيحين - واللفظ للبخاري - عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} ، قالوا: يا رسول الله: أفرأيت من يموت صغيراً؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين» . وفي الصحيح: قال الزهري: يصلي على كل مولود متوفى وإن كان لغية، من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام إذا استهل صارخاً، ولا يصلى على من لم يستهل من أجل أنه سقط، و «إن أبا هريرة كان يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} » . وفي الصحيح من رواية الأعمش: «ما من مولود يولد إلا وهو على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 365 الملة» . وفي رواية أبي معاوية عنه: إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه، فهذا صريح في أنه يولد على ملة الإسلام، كما فسره ابن شهاب راوي الحديث، واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك. قال ابن عبد البر في التمهيد: (روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وغيره، فممن رواه عن أبي سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وحميد بن عبد الرحمن، وأبو صالح السمان، وعبد الرحمن الأعرج، وسعيد بن أبي سعيد، ومحمد بن سيرين) . كلام ابن عبد البر في التمهيد عن معنى الفطرة قال: (ورواه ابن شهاب، واختلف في إسناده، منهم من رواه عن سعيد عن أبي هريرة، ومنهم من رواه عن أبي سلمة عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 366 أبي هريرة ومنهم من رواه عن حميد عن أبي هريرة. قال محمد بن يحيى الذهلي: كل هذه صحاح عن ابن شهاب، محفوظة) . قال ابن عبد البر: (وقد سئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزىء الصبي عنه أن يعتقه وهو رضيع؟، قال: نعم لأنه ولد على الفطرة) . قال ابن عبد البر لما ذكر النزاع في تفسير هذا الحديث: (وقال آخرون: الفطرة ها هنا الإسلام، قالوا: وهوالمعروف عند عامة السلف أهل التأويل، وقد أجمعوا في تأويل قوله عز وجل: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} ، على أن قالوا: فطرة الله: دين الله الإسلام. واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث: اقرأوا إن شئتم: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} . وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قول الله عز وجل: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} قالوا: فطرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 367 الله: دين الإسلام، لا تبديل لخلق الله، قالوا: لدين الله. واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن يحيى بن جابر، عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي، عن عياض بن حمار المجاشعي، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوماً: ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب: إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين وأعطاهم المال حلالاً لا حرام فيه، فجعلوا ما أعطاهم الله حلالاً وحراما» الحديث. قال: (وكذلك روى بكر بن مهاجر، عن ثور بن يزيد بإسناده مثله في هذا الحديث (حنفاء مسلمين) . ( ... قال أبو عمر: روى هذا الحديث قتادة عن مطرف بن عبد الله، عن عياض بن حمار، ولم يسمعه قتادة من مطرف، ولكن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 368 قال: حدثني ثلاثة: عقبة بن عبد الغافر، ويزيد بن عبد الله بن الشخير، والعلاء بن زياد، كلهم يقول: حدثني مطرف، عن عياض، عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه: «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم» . لم يقل: مسلمين، وكذلك رواه الحسن عن مطرف عن عياض، ورواه ابن إسحاق عمن لا يتهم، عن قتادة بإسناده، وقال فيه: «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم» ولم يقل مسلمين) . قال: (فدل هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه، لأنه ذكر (مسلمين) في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث، وأسقطه من رواية قتادة، وكذلك رواه الناس عن قتادة، قصر فيه عن قوله: مسلمين، وزاد ثور بإسناده، والله أعلم) . قال: (والحنيف في كلام العرب: المستقيم المخلص، ولا استقامة أكثر من الإسلام) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 369 قال: (وقد روي عن الحسن قال: الحنيفة: حج البيت، وهذا يدلك على أنه أراد الإسلام، وكذلك روي عن الضحاك والسدي: (حنفاء) قال: حجاجاً، وعن مجاهد: (حنفاء) قال: متبعين) . قال: (وهذا كله يدلك على أن الحنيفية: الإسلام) . قال: (وقال أكثر العلماء: الحنيف: المخلص. وقال الله عز وجل: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما} وقال: {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل} . فلا وجه لإنكار من أنكر رواية من روى: حنفاء: مسلمين. قال الشاعر - وهو الراعي -: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 370 أخليفة الرحمن إنا معشر ... حنفاء نسجد بكرةً وأصيلاً عرب نرى لله في أموالنا ... حق الزكاة منزلاً تنزيلاً فهذا وصف الحنيفية بالإسلام، وهو أمر واضح لا خفاء به) . قال: (ومما احتج به - من ذهب إلى أن الفطرة في هذا الحديث: الإسلام - قوله صلى الله عليه وسلم «خمس من الفطرة» ويروى «عشرة من الفطرة» يعني فطرة الإسلام) . قلت: الدلائل الدالة على أنه أراد: على فطرة الإسلام - كثيرة، كألفاظ الحديث التي في الصحيح، مثل قوله: (على الملة) ، (وعلى هذه الملة) ومثل قوله في حديث عياض بن حمار: «خلقت عبادي حنفاء كلهم» وفي لفظ «حنفاء مسلمين» ومثل تفسير أبي هريرة وغيره من رواة الحديث ذلك، وهو أعلم بما سمعوا. وأيضاً، فإنه لو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام، لما سألوا عقب ذلك: (أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير؟) ، لأنه لو لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لم سألوه. والعلم القديم وما يجري مجراه لا يتغير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 371 وكذلك قوله: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، بين فيه أنهم يغيرون الفطرة التي فطر الناس عليها. وأيضاً، فإنه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص فيه، ثم تجدع بعد ذلك، فعلم أن التغيير وارد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها. وأيضاً، فإن الحديث مطابق للقرآن، لقوله تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} ، وهذا يعم جميع الناس، فعلم أن الله فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة، وفطرة الله أضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذم، فعلم أنها فطرة محمودة لا مذمومة. يبين ذلك أنه قال: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها} وهذا نصب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول عند سيبويه وأصحابه، فدل على أن إقامة الوجه للدين حنيفاً هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، كما في نظائره، ومثل قوله: {كتاب الله عليكم} ، وقوله: {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} ، فهذا عندهم مصدر منصوب بفعل مضمر لازم إضماره، دل عليه الفعل المتقدم. كأنه قال: كتب الله ذلك عليكم، وسن الله ذلك. وكذلك هنا فطر الله الناس على ذلك: على إقامة الدين لله حنيفاً. وكذلك فسره السلف كما تقدم النقل عنهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 372 كلام الطبري في تفسيره عن معنى الفطرة قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره المشهور يقول: فسدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك الله يا محمد لطاعته، وهي الدين حنيفاً. يقول: مستقيماً لدينه وطاعته. فطرة الله التي فطر الناس عليها، يقول: صنعة الله التي خلق الناس عليها، ونصب فطرة على المصدر من معنى قوله: {فأقم وجهك للدين حنيفا} وذلك أن معنى ذلك: فطر الله الناس على ذلك فطرة) . قال: (وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل) . وروي (عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} ، قال: الإسلام، فمنذ خلقهم الله من آدم جميعاً يقرون بذلك. وقرأ: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} . فهذا قول الله، كان الناس أمة واحدة يومئذ، فبعث الله النبيين بعد) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 373 وروي بإسناده الصحيح عن (ابن أبي نجيح عن مجاهد: فطرة الله، قال: الدين، الإسلام. وقال (ثنا ابن حميد، ثنا يحيى بن واضح، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن يزيد بن أبي مريم، قال: مر عمر بمعاذ بن جبل فقال: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص - وهو الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها - والصلاة: وهي الملة، والطاعة: وهي العصمة. فقال عمر: صدقت) . قال: حدثني يعقوب - يعني الدورقي - ثنا أبن علية، ثنا أيوب عن أبي قلابة أن عمر قال لمعاذ: ما قوام هذه الأمة؟ فذكر نحوه) . قال: (وقوله {لا تبديل لخلق الله} : يقول: لا تغيير لدين الله، أي لا يصلح ذلك ولا ينبغي أن يفعل) . ثم ذكر بإسناده الصحيح عن (ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: لا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 374 تبديل لخلق الله. قال: لدين الله) . وروي عن (عبد الله بن إدريس، عن ليث قال: أرسل مجاهد رجلاً يقال له قاسم إلى عكرمة، يسأله عن قول: {لا تبديل لخلق الله} ، فقال عكرمة: هو الخصاء. فرجع إلى مجاهد فقال: أخطأ، لاتبديل لخلق الله إنما هو الدين، ثم قرأ: {لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} ) . وروي عن (وكيع، عن نصر بن عربي، عن عكرمة: لا تبديل لخلق الله: لدين الله) . وروي أيضاً عن (حسين بن واقد عن يزيد النحوي، عن عكرمة: فطرة الله التي فطر الناس عليها، قال: الإسلام، وكذلك روي (عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن ليث، عن مجاهد قال: لدين الله) . وروي (عن سعيد، عن قتادة: {لا تبديل لخلق الله} : أي لدين الله) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 375 وكذلك روي (عن ابن عيينة، عن حميد الأعرج، قال: قال سعيد بن جبير: {لا تبديل لخلق الله} ، قال: لدين الله) . وكذلك عن (المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله {لا تبديل لخلق الله} ، قال: دين الله) . وكذلك عن (وكيع، عن سفيان الثوري، ومسعر، عن قيس بن مسلم، عن إبراهيم النخعي: {لا تبديل لخلق الله} ، قال: دين الله) . وكذلك عن (مغيرة، عن إبراهيم قال: لدين الله) . وعن (عمرو بن أبي سلمة، سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن قوله تعالى: {لا تبديل لخلق الله} . قال: لدين الله) . وروي أيضاً عن ابن عباس أنه سئل عن إخصاء البهائم فكرهه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 376 وقال: لا تبديل لخلق الله. وعن حميد الأعرج قال: قال عكرمة: الإخصاء، وعن حفص بن غياث، عن ليث، عن مجاهد قال: الإخصاء) . تعليق ابن تيمية قلت: مجاهد وعكرمة: روي عنهما القولان، إذ لا منافاة بينهما، كما قال تعالى: {ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} ، فتغيير ما خلق الله عليه عباده من الدين تغيير لخلقه، والخصاء وقطع الأذن أيضاً تغيير لخلقه. ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما بالآخر في قوله: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟» . فأولئك يغيرون الدين، وهؤلاء يغيرون الصورة بالجدع والخصاء، هذا تغيير لما خلقت عليه نفسه، وهذا تغيير ما خلق عليه بدنه. واعلم أن هذا الحديث لما صارت القدرية يحتجون به على قولهم الفاسد، صار الناس يتأولونه تأويلات يخرجونه بها عن مقتضاة. فالقدرية من المعتزلة وغيرهم يقولون: كل مولود يولد على الإسلام، والله لا يضل أحداً، ولكن أبواه يضلانه. الحديث حجة على المعتزلة ونحوهم من المتكلمين والحديث حجة عليهم من وجهين: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 377 أحدهما: أنه عند المعتزلة ونحوهم من المتكلمين: لم يولد أحد على الإسلام أصلاً، ولا جعل الله أحداً مسلماً ولا كافراً، ولكن هذه أحدث لنفسه الكفر، وهذا أحدث لنفسه الإسلام، والله لم يفعل واحداً منهما عندهم، بلا نزاع بين القدرية، ولكن هو دعاهما إلى الأسلام، وأزاح علتهما، وأعطاهما قدرة مماثلة فيهما تصلح للإيمان والكفر، ولم يختص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان، فإن ذلك عندهم غير مقدور، ولو كان مقدوراً لكان ظلماً، وهذا قول عامة المعتزلة. وإن كان بعض متأخريهم كأبي الحسين يقول: إنه خص المؤمن بداعي الإيمان، ويقول عند الداعي والقدرة يجب وجود الإيمان، فهذا في الحقيقة موافق لأهل السنة، فهذا أحد الوجهين. الثاني: أنهم يقولون: إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل، فيستحيل. أن تكون المعرفة عندهم ضرورية، أو تكون من فعل الله تعالى. وأما آخر الحديث فهو دليل على أن الله تعالى يعلم ما يصيرون إليه بعد ولادتهم على الفطرة، هل يبقون عليها فيكونون مؤمنين؟ أو يغيرونها فيصيرون كفاراً؟. وإن احتجت القدرية بقوله: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» من جهة كونه أضاف التغيير إلى الأبوين - فيقال لهم: أنتم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 378 تقولون: إنه لا يقدر: لا الله ولا أحد من مخلوقاته، على أن يجعلهما يهوديين أو نصرانيين أو مجوسيين، بل هما فعلا بأنفسهما ذلك، بلا قدرة من غيرهما ولا فعل من غيرهما، فحينئذ لا حجة لكم في قوله: «فأبواه يهودانه» ... وأهل السنة متفقون على أن غير الله لا يقدر على جعل الهدى أو الضلال في قلب أحد. فقد اتفقت الأمة على أن المراد بذلك: دعوة الأبوين لهما إلى ذلك، وترغيبهما فيه، وتربيتهما عليه، ونحو ذلك مما يفعل المعلم والمربي مع من يعلمه ويربيه، وذكر الأبوين بناءً على الغالب، إذ لكل طفل أبوان، وإلا فقد يقع ذلك من أحد الأبوين، وقد يقع من غير الأبوين حقيقةً وحكماً. عود إلى كلام ابن عبد البر وتعليق ابن تيمية عليه وأما غير القدرية فقال أبو عمر بن عبد البر: اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلافاً كثيراً، وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة، فذكر ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في غريبه المشهور، قال: قال ابن المبارك: يفسره آخر الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» . قال ابن عبد البر: هكذا ذكر عن ابن المبارك، لم يزد شيئاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 379 وذكر عن محمد بن الحسن أنه سأله عن تأويل هذا الحديث فقال: (كان هذا القول عن صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد) . هذا ما ذكره أبو عبيد. قال ابن عبد البر: (أما ما ذكره عن ابن المبارك فقد روي عن مالك نحوه، وليس فيه مقنع من التأويل ولا شرح موعب في أمر الأطفال، ولكنها جملة تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر أو إيمان، أو جنة أو نار ما لم يبلغوا العمل) . قال: (وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن، فأظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه: إما لإشكاله عليه، أو لجهلة به، أولما شاء الله. وأما قوله: إن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد، فلا أدري ما هذا. فإن كان أراد أن ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 380 منسوخ، فغير جائز عند العلماء دخول النسخ في إخبار الله تعالى وأخبار رسوله، لأن المخبر بشيء، كان أو يكون، إذا رجع عن ذلك، لم يخل رجوعه عن تكذيبه لنفسه، أو غلطة فيما أخبر به، أو نسيانه. وقد جل الله وعصم رسوله في الشريعة والرسالة منه. وهذا لا يجهله ولا يخالف فيه أحد له أدنى فهم، فقف عليه، فإنه أمر جسيم من أصول الدين. وقول محمد بن الحسن: إن ذلك كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ليس كما قال، لأن في حديث الأسود بن سريع ما يبين أن ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد) . وروي بإسناده (عن الحسن، عن الأسود بن سريع، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال أقوام بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان؟ فقال رجل: أو ليس إنما هو أولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ليس خياركم أولاد المشركين؟ إنه ليس من مولود يولد إلا على الفطرة حتى يبلغ فيعبر عنه ليسانه، ويهوده أبواه أو ينصرانه» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 381 قال: وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة، منهم بكر المزني، والعلاء بن زياد، والسري بن يحيى. وقد روي عن الأحنف عن الأسود بن سريع، قال: وهو حديث بصري صحيح. قال: وروى عوف الأعرابي عن سمرة بن جندب، «عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل مولود يولد على الفطرة. فناداه الناس: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين» . قلت: أما ما ذكره عن ابن المبارك ومالك، فيمكن أن يقال: إن المقصود أن آخر الحديث يبين أن الأولاد قد سبق في علم الله ما يعملون إذا بلغوا، وأن منهم من يؤمن فيدخل الجنة، ومنهم من يكفر فيدخل النار. فلا يحتج بقوله: (كل مولود يولد على الفطرة) . على نفي القدر كما احتجت به القدرية، ولا على أن أطفال الكفار كلهم في الجنة لكونهم ولدوا على الفطرة، فيكون مقصود الأئمة أن يستقر الأطفال على ما في آخر الحديث. وأما قوله محمد، فإنه رأى الشريعة قد استقرت على أن ولد اليهودي والنصراني يتبع أبوية في الدين في أحكام الدنيا، فيحكم له بحكم الكفر في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 382 أنه لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه المسلمون، ويجوز استرقاقهم، ونحو ذلك - فلم يجز لأحد أن يحتج بهذا الحديث على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين حتى تعرب عنهم ألسنتهم، وهذا حق. لكن ظن أن الحديث اقتضى أن يحكم لهم في الدنيا بأحكام المؤمنين، فقال: هذا منسوخ، كان قبل الجهاد، لأنه بالجهاد أبيح استرقاق النساء والأطفال، والمؤمن لا يسترق، ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية، أمر ما زال مشروعاً، وما زال الأطفال تبعاً لأبويهم في الأمور الدنيوية. والحديث لم يقصد بيان هذه الأحكام، وإنما قصد ما ولد عليه من الفطرة. وإذا قيل: إنه ولد على فطرة الإسلام، أو خلق حنيفاً ونحو ذلك. فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده. فإن الله تعالى يقول: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} ، ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام، لمعرفته ومحبته. فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له، وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئاً بعد شيء، بحسب كمال الفطرة، إذا سلمت عن المعارض. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 383 وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره، كما أن كل مولود يولد فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الإغذية والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه. وهذا من قوله تعالى: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} ، وقوله: {الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى} ، فهو سبحانه خلق الحيوان مهتدياً إلى طلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئاً فشيئاً بحسب حاجته. ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة. قال ابن عبد البر: (وأما اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث، وما كان مثله، فقالت فرقة: الفطرة في هذا الموضع أريد بها الخلقة التي خلق عليها المولود من المعرفة بربه فكأنه قال: (كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة) يريد خلقةً مخالفة لخلقة البهائم، التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 384 قالوا: (لأن الفاطر هو الخالق) . قال: (وأنكرت أن يكون المولود يفطر على إيمان أو كفر أو معرفة أو إنكار) . قلت: صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها، فهذا ضعيف. فإن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفاً، ولا أن يكون على الملة، ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبوية لفطرته، حتى يسأل عمن مات صغيراً. ولأن القدرة هي في الكبير أكمل منها في الصغير. وهو لما نهاهم عن قتل الصبيان، فقالوا: إنهم أولاد المشركين. قال: أليس خياركم أولدا المشركين؟ ما من مولود إلا يولد على الفطرة. ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك، مع كونهم مشركين، مستوجبين للقتل. وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها، فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور، فدل على أنهم فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم للإيمان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 385 قال: (وقال آخرون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» ، يعني البدأة التي ابتدأهم عليها، يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت، والسعادة والشقاوة، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم اعتقادهم) . (قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة. والفاطر المبدىء والمبتدىء، فكأنه قال: صلى الله عليه وسلم: يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاوة والسعادة، وغير ذلك مما يصير إليه وقد فطره عليه. واحتجوا بقوله تعالى: {كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة} . وروي بإسناده إلى (ابن عباس قال: لم أدر ما فاطر السماوات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 386 فطرتها، أي ابتدأئتها) .... (وذكروا ما يروى عن علي رضي الله عنه في دعائه: اللهم جبار القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها) . قلت: حقيقة هذا القول أن كل مولود فإنه يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه. ومعلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة، فجميع البهائم هي مولودة على ماسبق في علم الله لها. والأشجار مخلوقة على ما سبق في علم الله لها. وحينئذ فيكون كل مخلوق مخلوقاً على الفطرة. وأيضاً فإنه لو كان المراد ذلك لم يكن لقوله: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» معنى، فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها، على هذا القول، فلا فرق بين التهويد والتنصير حينئذ، وبين تلقين الإسلام وتعليمه، وبين تعليم سائر الصنائع، فإن ذلك كله داخل فيما سبق به العلم. وأيضاً فتمثيله ذلك بالبهيمة التي ولدت جمعاء ثم جدعت، يبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه. وأيضاً فقوله: (على هذه الملة) ، وقوله: (إني خلقت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 387 عبادي حنفاء) يخالف هذا. وأيضاً فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان، فإنه من حين كان جنيناً إلى ما لا نهاية له من أحواله، على ما سبق في علم الله، فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بغير مخصص. وقد ثبت في الصحيح أنه: قبل نفخ الروح فيه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فلو قيل: كل مولود ينفخ فيه الروح على الفطرة، لكان أشبه بهذا المعنى، مع أن النفخ هو بعد الكتابة. قال ابن عبد البر: (قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن أبن المبارك، أنه سئل عن هذا الحديث، فقال: يفسره الحديث الآخر حين سئل عن أطفال المشركين: الله أعلم بما كانوا عاملين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 388 قال المروزي: وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول، ثم تركه. قال ابن عبد البر: ما رسمه مالك في موطأه، وذكره في أبواب القدر، فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا) . قلت: أئمة السنة مقصودهم أن الخلق صائرون إلى ما سبق به علم الله منهم من إيمان وكفر، كما في الحديث الآخر: (إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً) والطبع الكتاب، أي كتب كافراً كما قال: (فيكتب رزقه، وأجله وعمله، وشقي أو سعيد) ، وليس إذا كان الله قد كتبه كافراً، يقتضي أنه حين الولادة كافر، بل يقتضي أنه لا بد أن يكفر، وذلك الكفر هو التغيير، كما أن البهيمة التي ولدت جمعاء، وقد سبق في عمله أنها تجدع، كتب أنها مجدوعة بجدع يحدث لها بعد الولادة، لا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعة. وكلام أحمد في أجوبة أخرى له، يدل على أنه الفطرة عنده: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 389 الإسلام، كما ذكر محمد بن نصر عنه أنه آخر قوليه، فإنه كان يقول: إن صبيان أهل الحرب إذا سبوا بدون الأبوين كانوا مسلمين، وإن كانوا معهما فهم على دينهما، وإن سبوا مع أحدهما، فعنه روايتان، وكان يحتج بالحديث. كلام أبي بكر الخلال في كتابه الجامع قال أبو بكر الخلال في الجامع في كتاب أحكام أهل الملل: (أنبأ أبو بكر المروزي أن أبا عبد الله قال في سبي أهل الحرب: إنهم مسلمون إذا كانوا صغاراً، وإن كانوا مع أحد الأبوين. وكان يحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «فأبواه يهودانه وينصرانه» .... قال: وأما أهل الثغر فيقولون: إذا كان مع أبوية: إنهم يجبرونه على الإسلام) . قال: (ونحن لا نذهب إلى هذا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأبواه يهودانه» .... الجزء: 8 ¦ الصفحة: 390 قال الخلال: أنبأ عبد الملك الميموني قال: سألت أبا عبد الله قبل الحبس - أي قبل أن يحبس أحمد في محنة الجهمية - عن الصغير يخرج من أرض الروم وليس معه أبواه قال: إذا مات صلى عليه المسلمون. قلت: يكره على الإسلام؟ قال: إذا كانوا صغاراً يصلون عليه أكره من يليه إلا هم، وحكمه حكمهم. قلت: فإنه كان معه أبواه؟ قال: إذا كان معه أبواه - أو أحدهما - لم يكره، ودينه على دين أبويه. قلت: إلى أي شيء يذهب إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة» : حتى يكون أبواه؟ قال: نعم. قال: وعمر بن عبد العزيز نادى به؟ قال: فرده إلى بلاد الروم إلا وحكمه حكمهم. قلت: في الحديث كان معه أبواه؟ قال: لا، وليس ينبغي إلا أن يكون معه أبواه) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 391 قال الخلال: (ما رواه الميموني قول أول لأبي عبد الله) .... (ولذلك نقل إسحاق ابن منصور أن أبا عبد الله قال: إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم. قلت: لا يجبرون على الإسلام، إذا كان معه أبواه أو أحدهما؟ قال: نعم) . قال الخلال: (وقد روي هذه المسألة عن أبي عبد الله خلق كلهم قال: إذا كان مع أحد أبويه فهو مسلم. وهؤلاء النفر سمعوا من أبي عبد الله بعد الحبس، وبعضهم قبل وبعد، والذي أذهب إليه: ما رواه الجماعة) . وقال الخلال: (ثنا أبو بكر المروزي قال: قلت لأبي عبد الله: إني كنت بواسط، فسألوني عن الذي يموت هو وامرأته، ويدعا طفلين ولهما عم، ما تقول فيهما؟ فإنهم قد كتبوا إلى البصرة فيها، وقالوا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 392 إنهم قد كتبوا إليك. فقال: أكره أن أقول فيها برأي. دع حتى أنظر، لعل فيها عمن تقدم. فلما كان بعد شهر عاودته، فقال: قد نظرت فيها فإذا قول النبي صلى الله عليه وسلم (فأبواه يهودانه وينصرانه .... ) ، هذا ليس له أبوان. قلت: يجبر على الإسلام؟ قال: نعم، هؤلاء مسلمون، لقول النبي صلى الله عليه وسلم) ... (وكذلك نقل يعقوب بن بختان قال: قال أبو عبد الله: الذمي إذا مات أبواه وهو صغير جبر على الإسلام، وذكر الحديث: «فأبواه يهودانه وينصرانه» .... (ونقل عن عبد الكريم بن الهيثم العاقولي في المجوسيين يولد لهما ولد فيقولان: هذا مسلم فيمكث خمس سنين، ثم يتوفى؟ قال: ذاك يدفنه المسلمون. قال النبي صلى الله عليه وسلم «فأبواه يهودانه وينصرانه» .... (وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن قوم يزوجون بناتهم من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 393 قوم، على أنه ما كان من ذكر فهو للرجل مسلم، وما كان من أنثى فهي مشركة: يهودية أو نصرانية أو مجوسية؟ فقال: يجبر هؤلاء من أبى منهم على الإسلام، لأن آباءهم مسلمون. حديث النبي صلى الله عليه وسلم «فأبواه يهودانه وينصرانه» يردون كلهم إلى الإسلام) . ومثل هذا كثير في أجوبته، يحتج بالحديث على أن الطفل إنما يصير كافراً بأبويه، فإن لم يكن مع أبوين كافرين فهو مسلم، فلو لم تكن الفطرة: الإسلام، لم يكن بعدم أبويه يصير مسلماً، فإن الحديث إنما دل على أنه يولد على الفطرة. ونقل عنه الميموني أن الفطرة هي الدين، وهي الفطرة الأولى. قال الخلال: (أخبرني الميموني أنه قال لأبي عبد الله: كل مولود يولد على الفطرة يدخل عليه إذا كان أبواه، معناه: أن يكون حكمه حكم ما كانوا صغاراً؟ فقال لي: نعم، ولكن يدخل عليك في هذا. فتناظرنا بما يدخل علي من هذا القول، وبما يكون بقوله. قلت لأبي عبد الله: فما تقول أنت فيها، وإلى أي شيء تذهب؟ قال: إيش أقول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 394 أنا؟ ما أدري أخبرك هي مسلمة كم ترى، ثم قال لي: والذي يقول: كل مولود يولد على الفطرة ينظر أيضاً إلى الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها. قلت له: فما الفطرة الأولى: هي الدين؟ قال لي: نعم. فمن الناس من يحتج بالفطرة الأولى مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» . قلت لأبي عبد الله: فما تقول لأعرف قولك؟ قال: أقول: (إنه على الفطرة الأولى) . فجوابه: أنه على الفطرة الأولى، وقوله: إنها الدين - يوافق القول بأنه على دين الإسلام. وأما جواب أحمد: أنه على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة، الذي ذكر محمد بن نصر أنه كان به ثم تركه، فقال الخلال: (أخبرني محمد بن يحيى الكحال، أنه قال لأبي عبد الله: كل مولود يولد على الفطرة، ما تفسيرها؟ قال: هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، شقي أو سعيد) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 395 وكذلك نقل عنه (الفضل بن زياد، وحنبل، وأبو الحارث أنهم سمعوا أبا عبد الله في هذه المسألة، قال: (الفطرة التي فطر الله العباد عليها من الشقاوة والسعادة) . وكذلك نقل: (عن علي بن سعيد أنه سأل أبا عبد الله عن كل مولود يولد على الفطرة. قال: على الشقاء والسعادة، فإليه يرجع على ما خلق) . (وعن الحسن بن ثواب قال: سألت أبا عبد الله عن أولاد المشركين. قلت: إن ابن أبي شيبة أبا بكر قال: هو على الفطرة حتى يهودانه أبواه أو ينصرانه، فلم يعجبه شيء من هذا القول وقال: كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة، يولد على الفطرة التي خلقوا عليها من الشقاء والسعادة التي سبقت في أم الكتاب، ارفع ذلك إلى الأصل. هذا معناه كل مولود يولد على الفطرة) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 396 تعليق ابن تيمية قلت: وأما ثبوت حكم الكفر في الآخرة للأطفال، فكان أحمد يقف فيه، تارة يقف عن الجواب، وتارة يردهم إلى العلم، كقوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين» . وهذا أحسن جوابيه، كما، نقل محمد بن الحكم عنه، وسأله عن أولاد المشركين، فقال: أذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» . ونقل عنه (أبو طالب أن أبا عبد الله سئل عن أطفال المشركين. فقال: كان ابن عباس يقول: (فأبواه يهودانه وينصرانه) ، حتى سمع: «الله أعلم بما كانوا عاملين» . فترك قوله. قال أحمد: (وهي صحاح، ومخرجها كلها صحاح. وكان الزهري يقول: من الحديث ما يحدث بها على وجوهها) . وأما توقف أحمد في الجواب، (فنقل عنه علي بن سعيد أنه سأله عن قوله: فأبواه يهودانه وينصرانه. قال: الشأن في هذا، وقد اختلف الناس، ولم نقف منها على شيء أعرفه) . وقال الخلال: (رأيت في كتاب لهارون المستملي، قال أبو عبد الله: إذا سأل الرجل عن أولاد المشركين مع آبائهم، فإنه أصل كل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 397 خصومه، ولا يسأل عنه إلا رجل الله أعلم به، قال: ونحن نمر هذه الأحاديث على ما جاءت، ونسكت، لا نقول شيئاً) . (قال المروزي: قال أبو عبد الله سأل بشر بن السري عن سفيان الثوري عن أطفال المشركين، فصاح به وقال: يا صبي، أنت تسأل عن هذا؟!) . وكذلك نقل خطاب بن بشر، وحنبل أن عبد الرحمن بن الشافعي سأل أحمد عن هذا، فنهاه، ولم ينقل أحد قط عن أحمد أنه قال: هم في النار. ولكن طائفة من أتباعه، كالقاضي أبي يعلى وغيره، لما سمعوا جوابه بأنه قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ظنوا أن هذا من تمام حديث مروي «عن خديجة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أولادها من غيره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هم في النار. فقالت: بلا عمل؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين» . فظن هؤلاء أن، أحمد أجاب بحديث خديجة، وهذا غلط على أحمد. فإن حديث خديجة هذا حديث موضوع كذب لا يحتج بمثله أقل من صحب أحمد، فضلاً عن الإمام أحمد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 398 وأحمد إنما اعتمد على الحديث الصحيح، حديث ابن عباس، وحديث أبي هريرة، وهو في الصحيحين «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} » . وكذلك في الصحيح عن ابن عباس «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أطفال المشركين. فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين» . وقد ذكر أحمد أن ابن عباس رجع إلى هذا، بعد أن كان يقول: هم مع آبائهم. فدل على أن هذا جواب من لا يقطع بأنهم مع آبائهم. وأبو هريرة نفسه، الذي روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قد ثبت عنه ما رواه غير واحد، منهم عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره وغيره، من حديث عبد الرازق: أنبأ معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه عن أبي هريرة قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام، ثم أرسل إليهم رسولاً: أن ادخلوا النار، فيقولون: كيف ولم يأتنا رسل؟ قال: وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً، ثم يرسل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 399 إليهم رسولاً، فيطيعه من كان يريد أن يطيعه. ثم قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} . وروي هذا الأثر عن أبي هريرة: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره من رواية محمد بن الأعلى، عن محمد بن ثور، عن معمر، ومن رواية القاسم، عن الحسين، عن أبي سفيان، عن معمر، وقال فيه: (والشيوخ الذين جاء الاسلام وقد خرفوا) فبين أبو هريرة أن الله لا يعذب أحداً حتى يبعث إليه رسولاً، وأنه في الآخرة يمتحن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا. وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد، عن أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وعن الأسود بن سريع أيضاً، قال أحمد في المسند: حدثنا علي بن عبد الله ثنا معاذ بن هشام ثنا أبي عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب، لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 400 أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب، ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً» . وبالإسناد عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة بمثل هذا الحديث، غير أنه قال في آخره: «فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ومن لم يدخلها يسحب إليها» . وقد جاءت بذلك عدة آثار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين، بأنه في الآخرة يمتحن أطفال المشركين وغيرهم ممن لم تبلغه الرساله في الدنيا. وهذا تفسير قوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين» . وهذا هو الذي ذكره الأشعري في المقالات عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه يذهب إليه. وهذا التفصيل يذهب الخصومات التي كره الخوض فيه لأجلها من كرهه. فإن من قطع لهم بالنار كلهم، جاءت نصوص تدفع قوله، ومن قطع لهم بالجنةكلهم، جاءت نصوص تدفع قوله. ثم إذ قيل: هم مع آبائهم، لزم تعذيب من لم يذنب، انفتح باب الخوض في الأمر والنهي، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 401 والوعد والوعيد، والقدر والشرع، والمحبة والحكمة والرحمة. فلهذا كان أحمد يقول: هو أصل كل خصومه. فأما جواب النبي صلى الله عليه وسلم الذي أجاب به أحمد آخراً، وهو قوله «الله أعلم بما كانوا عاملين» ، فإنه فصل الخطاب في هذا الباب. وهذا العلم يظهر حكمه في الآخرة، والله تعالى أعلم. تابع كلام ابن عبد البر في التمهيد وأحمد - رحمه الله - كان متبعاً في هذا الباب وغيره لمن قبله من أئمة السنة، كما روينا عن طريق إسحاق بن راهويه، فيما ذكره ابن عبد البر وغيره. (ثنا يحيى بن آدم، ثنا جرير بن حازم، عن أبي رجاء العطاردي: سمعت أبن عباس يقول: لا يزال أمر هذه الأمة مواتياً أو مقارباً، أو كلمة تشبه هاتين، حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر. قال يحيى بن آدم: فذكرته لابن المبارك، فقال: أفيسكت الإنسان على الجهل؟ قلت: فتأمر بالكلام؟ فسكت. وذكر محمد بن نصر المروزي، ثنا شيبان بن شيبة، ثنا جرير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 402 بن حازم فذكره بإسناده. وقال: لا يزال أمر هذه الأمة مقارباً أو مواتياً ما لم يتكلموا في الولدان والقدر. وذكر المروزي أيضاً، ثنا عمرو بن زرارة، أنبأ إسماعيل بن علية، عن ابن عوان قال: كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فقال: ماذا كان بين قتادة وبين حفص بن عمر في أولاد المشركين؟ قال: وتكلم ربيعة الرأي في ذلك؟ فقال القاسم: إذا الله انتهى عند شيء فانتهوا وقفوا عنده. قال: فكأنما كانت ناراًفطفئت؟. تعليق ابن تيمية قلت: ابن عباس رضي الله عنه خطب بهذه الخطبةبالبصرة، وكان عنده وعند غيره من الصحابة من العلم بما يحدث في هذا الأمة، والتحذير من أسباب الفتن، ما قد نقل إلينا، كما في الحديث الذي ذكره أحمد في رسالته للمتوكل في قصة ابن عباس مع عمر ابن الخطاب، لما كثر القراء، وخوفهما من اختلاف الأمة وافتراقها، والمسائل المشكلة إذا خاض فيها أكثر الناس لم يفهموا حقيقتها، وإذا تنازعوا فيها صار بينهم أهواء وظنون، وأفضى ذلك إلى الفرقة والفتنة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 403 ومن ذلك الحديث الذي رواه أحمد وغيره، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، وقائل يقول: ألم يقل الله كذا؟ وآخر يقول: ألم يقل الله كذا؟ فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا ما أمرتم به فافعلوه، وما نهيتم عنه فاتركوه. فهذا الحديث ونحوه مما ينهى فيه عن معارضة حق بحق، فإن ذلك يقتضي التكذيب بأحد الحقين، أو الاشتباه والحيرة. والواجب التصديق بهذا الحق وهذا الحق، فعلى الإنسان أن يصدق بالحق الذي يقوله غيره، كما يصدق بالحق الذي يقوله هو، ليس له أن يؤمن بمعنى آية استدل بها، ويرد معنى آية استدل بها مناظره، ولا أن يقبل الحق من طائفة، ويرده من طائفة أخرى. ولهذا قال تعالى: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين * والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} . فذم سبحانه من كذب أو كذب بحق، ولم يمدح إلا من صدق وصدق بالحق. فلو صدق الإنسان فيما يقوله، ولم يصدق بالحق الذي يقوله غيره، لم يكن ممدوحاً، حتى يكون ممن يجيء بالصدق ويصدق به، فأولئك هم المتقون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 404 ومسألة القدر يحتاج فيها إلى الإيمان بقدر الله، وإلى الإيمان بشرع الله، فطائفة غلب عليهم التصديق بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، فظنوا أن هذا لا يتم إلا بالتكذيب بالقدر، فأخطأوا في التكذيب به، وطائفة ظنت أن الإيمان بالقدر لا يتم إلا بأن يقول: إن الرب تعالى يخلق ويأمر لا لحكمه ولا لرحمة، ولا يسوي بين المتماثلين، بل بإرادة ترجح أحد المتماثلين لا لمرجح. واشتركت الطائفتان في أن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح. وهذا أصل مذهب القدرية النفاة، ولهذا قالوا: إن العبد لا يحتاج في ترجيح أحد مقدوريه على الآخر إلى مرجح يفتقر فيه إلى الله تعالى، وإن الله لا يمتن على المطيع بنعمة أنعم بها عليه دون العاصي صار بها مطيعاً، وتوهموا أن هذا من الظلم الذي يجب نفيه، وظن أولئك أنه لا يمكن أبطال قولهم إلا بأن يقال: الظلم ممتنع لذاته، وأنه مهما قدر من الممكنات فهو عدل، حتى تعذيب الأنبياء والصالحين، وتنعيم الكفار والفاسقين، إلى أمثال هذه الأمور التي خاض فيها الناس في القدر، وكانت من أعظم أسباب الجهل والظلم. وكان أعظم ظهور ذلك من أهل البصرة الذين خطبهم ابن عباس، وكذلك أمر أطفال المشركين: طائفة يقولون: يعذبهم كلهم، أو يمكن تعذيبهم كلهم، بناءً على المشيئة المرجحة بلا سبب ولا حكمة ولا رحمة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 405 وطائفة تقول: بل يدخلون الجنة مع من آمن وعمل صالحاً، بناءً على رحمة بلا حكمة، وتسوية بين أولاد المؤمنين وأولاد الكفار، وبين من آمن وعمل صالحاً ومن لم يؤمن ويعمل صالحاً، من غير اعتبار التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين، فيقع الاختلاف والاشتباه والتفرق. وهذه المسأئل وغيرها قد بين الله ورسوله أمرها، فإن الله أكمل الدين، وأتم النعمة. وقد «قال النبي صلى الله عليه وسلم: تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» . وفي الصحيح «عن أبي ذر رضي الله عنه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علماً» . وقد أنزل الله كتابه شفاءً لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين. وقال تعالى: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} . قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وقد قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} ، فحكم الله بكتابه بين الناس فيما اختلفوا فيه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 406 وقال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} . فهذه النصوص وأمثالها مما يبين أن ما بعث الله به رسله، يبين للناس ما يحتاجون إليه من أمر دينهم في هذه المسائل وغيرها، لكن ليس كل واحد قد بلغته النصوص كلها، ولا كل أحد يفهم ما دلت عليه النصوص، فإن الله يختص من يشاء عباده من العلم والفهم بما يشاء، فمن اشتبه عليه الأمور فتوقف لئلا يتكلم بلا علم، أو لئلا يتكلم بكلام يضر ولا ينفع فقد أحسن، ومن علم الحق فبينه لمن يحتاج إليه وينتفع به فهو أحسن وأحسن. ولهذا لما روى يحيى بن آدم لابن المبارك هذا الأثر عن ابن عباس، وهو قوله: إنه لا يزال أمر هذه الأمة مواتياً أو مقارباً، شك الراوي، حتى يتكلموا في الولدان والقدر، وكأن قائل هذا يطلب من الناس السكوت مطلقاً. قال له ابن المبارك: أفيسكت الإنسان على الجهل؟ وقد صدق ابن المبارك، فقال له يحيى بن آدم: أفتأمر بالكلام؟ فسكت ابن المبارك، لأن أمره بالكلام مطلقاً يتضمن الإذن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 407 بالكلام الذي وقع من الناس، وفيه من الجهل والكذب ما ينهى عنه. وتحقيق الأمر أن الكلام بالعلم الذي بينه الله وسوله مأمور به، وهو الذي ينبغي للإنسان طلبه، وأما الكلام بلا علم فيذم، ومن تكلم بما يخالف الكتاب والسنة فقد تكلم بلا علم، وقد يتكلم بما يظنه علماً: إما برأي رآه، وإما بنقل بلغه، ويكون كلاماً بلا علم. وهذا قد يعذر صاحبه تارة وإن لم يتبع، وقد يذم صاحبه إذا ظلم غيره ورد الحق الذي معه بغياً. كما ذم الله ذلك بقوله: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} . فالبغي مذموم مطلقاً. سواء كان في أن يلزم الإنسان الناس بما لا يلزمهم، ويذمهم على تركه، أو بأن يذمهم على ما هم معذورون فيه، والله يغفر لهم خطأهم فيه، فمن ذم الناس وعاقبهم على ما لم يذمهم الله تعالى ويعاقبهم. فقد بغى عليهم، لا سيما إذا كان ذلك لأجل هواه. وقد قال تعالى: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} . والله تعالى قد قال: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 408 فالسعيد من تاب الله عليه من جهله وظلمه، وإلا فالإنسان ظلوم جهول، وإذا وقع الظلم والجهل في الأمور العامة الكبار، أوجبت بين الناس العداوة والبغضاء، فعلى الإنسان أن يتحرى العلم والعدل فيما يقوله في مقالات الناس، فإن الحكم بالعلم والعدل في ذلك أولى منه في الأمور الصغار. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة. رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار» . فإذا كان هذا فيمن يقضي في درهم وثوب، فكيف بمن يقضي في الأصول المتضمنة للكلام في رب العالمين، وخلقه وأمره، ووعده ووعيده؟. ولهذا لما اشترك هؤلاء القدرية القائلون بأن القادر المختار يرجح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح في هذا الأصل، وناظروا به الملاحدة القائلين بقدم العالم، من الدهرية الفلاسفة وغيرهم، ورأى أولئك أن هذا ليس بعلم ولا عدل، طعموا في هؤلاء القدرية. فإن الإنسان إذا اتبع العدل نصر على خصمه، وإذا خرج عنه طمع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 409 فيه خصمه، فصار بين الفلاسفة الدهرية والمتكلمين القدرية في هذا الباب من النزاع ما استطار شرره، وإن كانت القدرية أقرب إلى العلم والعدل. ومن الناس من يحار، ومنهم من يوافق هؤلاء تارة وهؤلاء تارة، تناقضاً منه في حالين، أو جمعاً بين النقيضين في حال واحدة. ولو اتبعوا ما بعث الله ورسوله من الهدى ودين الحق، لحصل لهم من العلم والعدل ما يرفع النزاع، ويدخلهم في اتباع النص والإجماع، والكلام على هذه المسألة له موضع آخر. والمقصود هنا تفسير قوله: (كل مولود يولد على الفطرة) وأن من قال بإثبات القدر، وأن الله كتب الشقي والسعيد، لم يمنع ذلك أن يكون ولد على الإسلام ثم تغير بعد ذلك، كما تولد البهيمة جمعاء ثم تغير بعد ذلك، فإن الله تعالى يعلم الاشياء على ما هي عليه، فيعلم أنه يولد سليماً ثم يتغير. والآثار المنقولة عن السلف لا تدل إلا على هذا القول الذي رجحناه، وهو أنهم ولدوا على الفطرة، ثم صاروا إلىما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة، لا تدل على أنه حين الولادة لم يكن على فطرة سليمة مقتضية للإيمان، مستلزمة له لولا المعارض. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 410 فروى ابن عبد البر في ضمن هذا المنقول بإسناده (عن موسى بن عبيده، سمعت محمد بن كعب القرظي في قوله: {كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة} ، وقال: من ابتدأ الله خلقه لضلالة وإن علم بعمل أهل الهدى، ومن ابتدأ خلقه على الهدى صيره إلى الهدى، وإن عمل بعمل أهل الضلالة، ابتدأ خلق إبليس على الضلالة، وعمل بعمل السعادة مع الملائكة، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه من الضلالة. قال: وكان من الكافرين. وابتدأ خلق السحرة على الهدى وعملوا بعمل الضلالة، ثم هداهم إلى الهدى والسعادة، وتوفاهم، عليها مسلمين. وبهذا الإسناد عن محمد بن كعب في قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} ، يقول: فأقروا له بالبإمان والمعرفة الأرواح قبل أن تخلق أجسادها) . فهذا المنقول عن محمد بن كعب يبين أن الذي ابتدأهم عليه، وهو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 411 ما كتبه أنهم صائرون إليه، قد يعملون قبل ذلك غيره، وأن من ابتدأه على الضلالة، أي كتبه أنه يموت ضالاً، فقد يكون قبل ذلك عاملاً بعمل أهل الهدى، وحينئذ من ولد على الفطرة السليمة المقتضية للهدى، لا يمتنع أن يعرض لها ما يغيرها، فيصير إلى ما سبق به القدر لها. كما في الحديث الصحيح: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يصير بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن أحدكم ليعلم بعمل أهل النار، حتى ما يصير بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة» . ولهذا قال محمد بن كعب: إن جميع الذرية أقروا له بالإيمان والمعرفة، فأثبت هذا وهذا، إذ لامنافاة بينهما. ثم روى ابن عبد البر بإسناده (عن سعيد بن جبير في قوله: {كما بدأكم تعودون} ، قال: كما كتب عليكم تكونون. تعليق ابن تيمية وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {كما بدأكم تعودون} ، قال: شقي وسعيداً. وقال غيره عن مجاهد: {كما بدأكم تعودون} ، قال: يبعث المسلم مسلماً والكافر كافراً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 412 وقال الربيع أبن أنس عن أبي العالية: {كما بدأكم تعودون} قال: عادوا إلى علمه فيهم، فريقاً هدى، وفريقاً حق عليهم الضلالة) . قلت: ما في هذه الأقوال من إثبات علم الله وقدره السابق، وأن الخلق يصيرون إلى ذلك، حق لا محالة، كما دل عليه الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وأما كون ذلك تفسير الآية، فهذا مقام آخر ليس هذا موضعه. ولفظ (بدأ الله الخلق) : يراد به ابتداء تكوينهم، وهو ظاهر القرآن. وقد يراد به ابتداء أسباب خلقهم وعلامات ذلك، كما في قول السائل للنبي صلى الله عليه وسلم: «ما كان أول أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي: رأت أنني حين ولدتني كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام» . قال: (وقال آخرون: معنى قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» أن الله فطرهم على الإنكار والمعرفة، وعلى الكفر والإيمان، فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم، فقال ألست بربكم؟ قالوا جميعاً: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 413 بلى، فأما أهل السعادة فقالوا: بلى، على معرفة له طوعاً من قلوبهم، وأما أهل الشقاء فقالوا: بلى، كرهاً غير طوع. قالوا: ويصدق ذلك قوله: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها} ، قالوا: وكذلك قوله: {كما بدأكم تعودون * فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} ، قال محمد بن نصر المروزي: وسمعت إسحاق بن إبراهيم - يعني ابن راهويه - يذهب إلى هذا المعنى. واحتج بقول أبي هريرة: اقرأوا إن شئتم: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} . قال إسحاق: يقول: (لا تبديل للخلقة التي جبل عليها ولد آدم كلهم، يعني من الكفر والإيمان، والمعرفة والإنكار، واحتج إسحاق بقول الله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} . قال: إسحاق: أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد: استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فقال: انظروا ألا تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل) . وذكر (حديث أبي بن كعب في قصة الغلام الذي قتله الخضر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 414 قال: وكان الظاهر ما قال موسى: أقتلت نفساً زاكية بغير نفس؟ فعلم الله الخضر ما كان الغلام عليه في الفطرة التي فطره عليها، وأنه لا تبديل لخلق الله: فأمر بقتله، لأنه كان قد طبع يوم طبع كافراً) . وروى إسحاق حديث أبي بن كعب. «عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الغلام الذي قتله الخضر طبعه الله يوم طبعه كافراً» . وهذا الحديث رواه مسلم. وروى البخاري وغيره (عن ابن عباس أنه كان يقرأها: وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين. قال إسحاق: فلو ترك النبي صلى الله عليه وسلم الناس ولم يبين لهم حكم الأطفال، لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين، لأنهم لا يدرون ما جبل كل واحد منهم عليه حين أخرج من ظهر آدم، فبين النبي صلى الله عليه وسلم حكم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 415 الطفل في الدنيا فقال: «أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، يقول: أنتم لا تعلمون ما طبع عليه في الفطرة الأولى، ولكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه، فاعرفوا ذلك بالأبوين، فمن كان صغيراً بين أبوين كافرين ألحق بحكم الكفار، ومن كان صغيراً بين أبوين مسلمين ألحق بحكم الأسلام، وأما إيمان ذلك وكفره مما يصير إليه فعلم ذلك إلى الله، ويعلم ذلك فضل الخضر موسى إذ أطلعه الله عليه في ذلك الغلام وخصه بذلك العلم. قال: (ولقد «سئل ابن عباس عن الولدان: ولدان المسلمين والمشركين، فقال ابن عباس: حسبك ما اختصم فيه موسى والخضر قال: إسحاق: ألا ترى إلى قول عائشة حين مات صبي من الأنصار بين أبوين مسلمين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 416 فقالت عائشة: طوبى له عصفور من عصافير الجنة. فرد عليها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقال: مه يا عائشة، وما يدريك؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلها، وخلق النار وخلق لها أهلها» . قال إسحاق: فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم) . (وسئل حماد بن سلمة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» ، فقال: هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم. قال ابن عبد البر: (وقال ابن قتيبة: يريد حين مسح ظهر آدم فاستخرج منه ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى) . قلت: مقصود حماد وإسحاق ومالك وابن المبارك، ومن اتبعهم كابن قتيبة، وابن بطة، والقاضي أبي يعلى، وغيرهم، هو منع احتجاج القدرية بهذا الحديث على نفي القدر، وهذا مقصود صحيح. ولكن سلكوا في حصوله طرقاً بعضها صحيح وبعضها ضعيف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 417 كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ثبت عنه أنه قال: «احتج آدم وموسى، فقال موسى: ربنا أرنا أبانا آدم الذي أخرجنا من الجنة. فقال له: أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي كلمك الله تكليماً، وخط لك التوراة بيده، فبكم تجد علي مكتوباً قبل أن أخلق: {وعصى آدم ربه فغوى} ؟ قال: بأربعين خريفاً. قال: فحج آدم موسى» . فبهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وهو مروي بإسناد جيد من حديث عمر. فلما توهم من توهم أن ظاهره أن المذنب يحتج بالقدر على من لامه على الذنب، اضطربوا فيه: فكذب به طائفة من القدرية كالجبائي، وتأوله طائفة من أهل السنة تأويلات ضعيفة قصداً لتصحيح الحديث، ومقصودهم صحيح. لكن طريقهم في رد قول القدرية وتفسير الحديث ضعيفة، كقول بعضهم إنما حجه لكونه أباه، وقول الآخر: لكونه كان قد تاب، وقول الآخر: لكون الذنب كان في شريعة والملام في أخرى، وقول الآخر: حجة لأن الاحتجاج به كان في الآخرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 418 دون الدنيا، وقول الآخر: الاحتجاج بالقدر ينفع الخاصة المشاهدين لجريان القدر عليهم دون العامة، فإن الحديث صريح بأن آدم احتج بالقدر وحج به موسى. وأيضاً فموسى أعلم من أن يلوم تائباً، وموسى وآدم أعلم من أن يظنا أن القدر حجة لأحد في ذنب، فإن هذا لو كان حقاً لكان حجةً لإبليس وفرعون، وكل كافر وفاسق. وكذلك قول من قال: إن الأحتجاج بالقدر لا يجوز في الدنيا بل بعد الموت قول باطل، أو احتجاج الخاصة به سائغ، فإنه قول باطل، فإن الأنبياء جميعهم تابوا من ذنوبهم ولم يحتج أحد منهم بالقدر، ووقع العتب والملام بسبب الذنب، كما حقق الله ذلك في القرآن، ولكن موسى لام آدم لما حصل له وللذرية من الشقاء بالخروج من الجنة، كما في الحديث: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فلامه لأجل المصيبة التي لحقتهم بسببه، لا من جهة كونه عصى الأمر أو لم يعصه، فإن هذا أمر قد تاب الله عليه منه، واجتباه ربه وهداه، فأخبر آدم بأن القدر قد سبق بذلك، فما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، ما أخطاه لم يكن ليصيبه. كما قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 419 إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} ، وقال: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه} . قال طائفة من السلف: هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. فالعبد مأمور بالصبر عند المصائب نظراً إلى القدر، وأما عند الذنوب فمأمور بالاستغفار. فحج آدم موسى لأن ما أصابهم من المصيبة كانت مقدرة هي وسببها. فلا بد أن يصيبهم ذلك، فلا فائدة من ملام لا يدفع المصيبة المقدرة بعد وقوعها، وإنما الفائدة في الرجوع إلى الله. ومثل هذا قول أنس في الحديث الصحيح: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي شيء فعلته لما فعلته، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته، وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول: دعوه فلو قضي شيء لكان» . ومن هذا قوله في الحديث الصحيح: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 420 لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن اللو تفتح عمل الشيطان» . والمقصود هنا أنهم تشعبوا في حديث الفطرة كتشبعهم في حديث الحجة. وأصل مقصودهم من الإيمان بالقدر صحيح، لكن لا يجب مع ذلك أن يفسر القرآن والحديث إلا بما هو مراد الله ورسوله، ويجب أن يتبع في ذلك ما دل عليه الدليل. وكثيراً ما يقع لمن هو من أهل الحق - في أصل مقصوده، وقد أخطأ في بعض الأمور - هذا المجرى، مثل أن يتكلموا في مسألة، فإذا أرادوا أن يجيبوا عن حجج المنازعين ردوها رداً غير مستقيم. وما ذكروه من أن الله فطرهم على الكفر والإيمان، والمعرفة والنكرة: إن أرادوا به أن الله سبق علمه وقدره بأنهم سيؤمنون ويكفرون، ويعرفون وينكرون، وأن ذلك كان بمشيئة الله وقدرته وخلقه، فهذا حق يرده القدرية، فغلاتهم ينكرون العلم، وجمهورهم ينكرون عموم خلقه وممشيئته وقدرته، وإن أرادوا أن هذه المعرفة والنكرة كانت موجودة حين أخذ الميثاق، كما في ظاهر المنقول عن إسحاق، فهذا يتضمن شيئين: أحدهما: أنهم حينئذ كانت المعرفة والإيمان موجوداً فيهم، كما قال ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 421 طوائف من السلف، وهو الذي حكى إسحاق الإجماع عليه. والآية في تفسيرها نزاع ليس هذا موضعه، وكذلك في وجود الأرواح قبل الأجساد قولان معروفان. لكن المقصود هنا أن هذا إن كان حقاً، فهو توكيد لكونهم ولدوا على تلك المعرفة والإقرار، فهذا لا يخالف ما دلت عليه الأحاديث من أنه يولد على الملة، وأن الله خلق خلقه حنفاء، بل هو مؤيد لذلك. وأما قول القائل: إنهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى: طائع وكاره، فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فيما أعلم، إلا عن السدي في تفيسره. قال السدي في قول الله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم} . قالوا: لما أخرج الله آدم من الجنة، قبل أن يهبطه من السماء، مسح صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 422 فذلك قوله: وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال. ثم أخذ منهم الميثاق فقال: {ألست بربكم قالوا بلى} . فأطاعه طائفة طائعين وطائفة كارهين، على وجه التقية. فقال هو والملائكة: {شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل} ، فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنه ربه. وذلك قوله عز وجل: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها} ، وذلك قوله: {فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} يعني يوم أخذ الميثاق. فهذا الأثر إن كان حقاً ففيه أن كل ولد آدم يعرف الله، فإذا كانوا ولدوا على هذه النطفة فقد ولدوا على المعرفة، ولكن فيه أن بعضهم أقر كارهاً مع المعرفة، بمنزلة الذي يعرف الحق لغيره ولا يقر به إلا مكرهاً، وهذا لا يقدح في كون المعرفة فطرية، مع أن هذا لم يبلغنا إلا في هذا الأثر، ومثل هذا لا يوثق به. فإن هذا في مثل تفسير السدي، وفيه أشياء قد عرف بطلان بعضها، إذ كان السدي - وإن كان ثقة في نفسه - فهذه الأشياء أحسن أحوالها أن تكون كالمراسيل، إن كانت أخذت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف إذا كان فيها ما هو مأخوذ عن أهل الكتاب الذين يكذبون كثيراً؟ وقد عرف أن فيها شيئاً كثيراً مما يعلم أنه باطل، لا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 423 سيما ولو لم يكن في هذا إلا معارضة لسائر الآثار التي تسوي بين جميع الناس في ذلك الإقرار. وقول الله تعالى: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها} ، إنما هو في الإسلام الموجود بعد خلقهم، لم يقل: إنهم حين العهد الأول أسلموا طوعاً وكرهاً. يدل على ذلك أن ذلك الإقرار الأول جعله الله حجة عليهامن عند من يثبته ولو كان فيهم كاره لقال: لم أقل ذلك طوعاً بل كرهاً، فلا تقوم عليه به حجة. وأما احتجاج إسحاق رحمه الله، بقول أبي هريرة: اقرأوا إن شئتم: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} ، قال إسحاق: نقول: لا تبديل للخلقة التي جبل عليها. فهذه الآية فيها قولان: أحدهما: أن معناها النهي، كما تقدم عن ابن جرير أنه فسرها بالنهي، أي: لا تبدلوا دين الله الذي فطر عليه عباده، وهذا قول غير واحد من المفسرين الذين لم يذكروا غيرهم كالثعلبي والزمخشري. والثاني: ما قاله إسحاق: وهو أنه خبر على ظاهرها، وأن خلق الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 424 لا يبدله أحد. وظاهر اللفظ أنه خبر فلا يجعل نهياً بغير حجة، وهذا أصح. وحينئذ فيقال: المراد ما خلقهم عليه من الفطرة لا تبدل، فلا يخلقون على غير الفطرة، لا يقع هذا قط. والمعنى أن الخلق لا يتبدل فيخلقون على غير الفطرة، ولم يرد بذلك أن الفطرة لا تتغير بعد الخلق، بل نفس الحديث يبين أنها تتغير، ولهذا شبهها بالبهيمة التي تولد جمعاء ثم تجدع، ولا تولد بهيمة قط مخصية ولا مجدوعة. وقد قال تعالى عن الشيطان: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} ، فالله أقدر الخلق على أن يغيروا ما خلقهم عليه بقدرته ومشيئته. وأما تبديل الخلق، بأن يخلقوا على غير تلك الفطرة، فهذا لا يقدر عليها إلا الله، والله لا يفعله، كما قال: {لا تبديل لخلق الله} ، ولم يقل: لا تغيير، فإن تبديل الشيء يكون بذهابه وحصول بدله، فلا يكون خلق بدل هذا الخلق، ولكن إذا غير بعد وجوده، لم يكن الخلق الموجود عند الولادة قد حصل بدله. وأما قول القائل: لا تبديل للخلقة التي جبل عليه ولد آدم كلهم من كفر وإيمان، فإن عنى بها أن ما سبق به القدر من الكفر والإيمان لا يقع خلافه، فهذا حق. ولكن ذلك لا يقتضي أن تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس ممتنع، ولا أنه غير مقدور، بل العبد قادر على ما أمره الله به الجزء: 8 ¦ الصفحة: 425 من الإيمان، وعلى ترك ما نهاه عنه من الكفر، وعلى أن يبدل حسناته بالسئيات بالتوبة، كما قال تعالى: {إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم} . و {أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} . تعليق ابن تيمية وهذا التبديل كله هو بقضاء الله وقدره، وهذا بخلاف ما فطروا عليه حين الولادة، فإن ذاك خلق الله الذي لا يقدر على تبديله غيره، وهو سبحانه لا يبدله قط، بخلاف تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس، فإنه يبدله دائماً، والعبد قادر على تبديله بإقدار الله له على ذلك. ومما يبين ذلك أنه قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} ، فهذه فطرة محمودة، أمر الله بها نبيه، فكيف يكون فيها كفر وإيمان مع أمر الله تعالى بها؟ وهل يأمر الله تعالى قط بالكفر؟. وقد تقدم تفسير السلف: لا تبديل لخلق الله تعالى، بأنه: دين الله، أو تبديل خلق الحيوان بالخصاء ونحوه، ولم يقل أحد منهم إن المراد: لا تبديل لأحوال العباد من إيمان إلى كفر ولا من كفر إلى إيمان، إذ تبديل ذلك موجود، ومهما وقع كان هو الذي سبق به القدر، والله تعالى عالم بما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 426 سيكون، لا يقع خلاف معلومه، لكن إذا وقع التبديل كان هو الذي علمه، وإن لم يقع كان عالماً بأنه لا يقع. وأما قوله: الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً. فالمراد به: كتب وختم، وهذا من طبع الكتاب، وإلا فاستنطاقهم بقوله: {ألست بربكم قالوا بلى} ، ليس هو طبعاً لهم، فإنه ليس بتقدير ولا خلق. ولفظ (الطبع) لما كان يستعمله كثير من الناس في الطبيعة، التي هي بمعنى الجبلة والخليقة، ظن الظان أن هذا مراد الحديث. وهذا الغلام الذي قتله الخضر قد يقال فيه: إنه ليس في القرآن ما يبين أنه كان غير مكلف، بل ولا ما يبين أنه كان غير بالغ، ولكن قال في الحديث الصحيح: الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً، ولو أدرك لأرهق أبويه طغياناً وكفراً. وهذا دليل على كونه لم يدرك بعد، فإن كان بالغاً - وقد كفر - فقد صار كافراً بلا نزاع، وإن كان مكلفاً قبل الاحتلام في تلك الشريعة، أو على قول من يقول: إن المميزين مكلفون بالإيمان قبل الاحتلام، كما قاله طوائف من أهل الكلام والفقه، من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم - أمكن أن يكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 427 مكلفاً بالإيمان قبل البلوغ، ولو لم يكن مكلفاً، فكفر الصبي المميز صحيح عند أكثر العلماء، فإذا ارتد الصبي المميز صار مرتداً، وإن كان أبواه مؤمنين، ويؤدب على ذلك باتفاق العلماء أعظم مما يؤدب على ترك الصلاة، لكن لا يقتل في شريعتنا حتى يبلغ. فالغلام الذي قتله الخضر: إما أن يكون كافراً بالغاً كفر بعد البلوغ فيجوز قتله، وإما أن يكون كافراً قبل البلوغ وجاز قتله في تلك الشريعة، وقتل لئلا يفتن أبويه عن دينهما، كما يقتل الصبي الكافر في ديننا، إذا لم يندفع ضرره عن المسلمين إلا بالقتل. بل الصبي الذي يقاتل المسلمين يقتل، فقتل الصبي الكافر المميز يجوز لدفع صباله الذي لا يندفع إلا بالقتل. وأما قتل صبي لم يكفر بعد، بين أبوين مؤمنين، للعلم بأنه إذا بلغ كفر وفتن، فقد يقال إنه ليس في القرآن ما يدل عليه، ولا في السنة. وقد يقال: بل في السنة ما يدل عليه، ومنه قول ابن عباس لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان: إن علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتله وإلا فلا. رواه مسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 428 والمعلوم من الكتاب والسنة لا يعارض إلا بما يصلح أن يعارض به. ومن قال بالأول يقول: إن الله تعالى لم يأمر أن يعاقب أحد بما يعلم أنه يكون منه قبل أن يكون منه، ولا هو سبحانه يعاقب العباد بما يعلم أنهم سيعماونه حتى يفعلوه. ويقول قائل هذا القول: إنه ليس في قصة الخضر شيء من الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه عموم الناس، وإنما فيها علمه بأسباب لم يكن علم بها موسى، مثل علمه بأن السفينة لمساكين ووراءهم ملك ظالم، وهذا أمر يعلمه غيره. وكذلك كون الجدار كان لغلامين يتيمين، وأن أباهما كان رجلاً صالحاً، هذا مما قد يعلمها كثير من الناس، فكذلك كفر الصبي مما يمكن أنه كان يعلمه كثير من الناس حتى أبواه، لكن لحبهما له لا ينكران عليه، أو لا يقبل منهما الإنكار عليه. فإن كان الأمر على ذلك، فليس في الآية حجة أصلاً، وإن كان ذلك الغلام لم يكفر بعد أصلاً، ولكن سبق في العلم أنه إذا بلغ كفر. فهذا أيضاً يبين أنه قتل قبل أن يصير كافراً، ومن قال هذا يقول: إنه قتل دفعاً لشره. كما قال نوح: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 429 فقد دعا نوح عليها السلام بهلاكهم لدفع شرهم في المستقبل، وعلى هذا فلم يكن قبل قيام الكفر به كافراً. وقول ابن عباس: وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين، ظاهره أنه كان حينئذ كافراً. وأما تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» أنه أراد به مجرد الإلحاق في أحكام الدنيا، دون أن يكون أراد أنهما يغيران الفطرة، فهذا خلاف ما يدل عليه الحديث، فإنه شبه تكفير الأطفال بجدع البهائم تشبيهاً للتغيير بالتغيير. وأيضاً فإنه ذكر الحديث لما قتلوا أولاد المشركين ونهاهم عن قتلهم، وقال أليس خياركم أولاد المشركين؟ كل مولود يولد على الفطرة. فلو أراد أنه تابع لأبويه في الدنيا لكان هذا حجة لهم، يقولون: هم كفار كآبائهم فنقتلهم. وكون الصغير يتبع أباه في أحكام الدنيا، هو لضرورة حياته في الدنيا، فإنه لا بد من مرب يربيه، وإنما يربيه أبواه، فكان تابعاً لهما ضرورة ولهذا متى سبي منفرداً عنهما صار تابعاً لسابيه عند جمهور العلماء، كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وغيرهم، لكونه هو الذي يربيه. وإذا سبي منفرداً عن أحدهما أو معهما، ففيه نزاع للعلماء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 430 واحتجاج الفقهاء، كأحمد وغيرهم، بهذا الحديث على أنه متى سبي منفرداً عن أبويه يصير مسلماً، لا يستلزم أن يكون المراد بتكفير الأبوين مجرد لحاقه بهما في الدين، ولكن وجه الحجة أنه إذا ولد على الملة فإنما ينقله عنها الأبوان اللذان يغيرانه عن الفطره، فمتى سباه المسلمون منفرداً عنهما، لم يكن هناك من يغير دينها، وهو مولود على الملة الحنيفية، فيصير مسلماً بالمقتضى السالم عن المعارض، ولو كان الأبوان يجعلانه كافراً في نفس الأمر بدون تعليم وتلقين، لكان الصبي المسبى بمنزلة الكافر. ومعلوم أن الكافر البالغ إذا سباه المسلمون لم يصر مسلماً، لأنه صار كافراً حقيقة. فلو كان الصبي التابع لأبويه كافراً حقيقة، لم ينتقل عن الكفر بالسباء، فعلم أنه كان يجزي عليه حكم الكفر في الدنيا تبعاً لأبويه، لا لأنه صار كافراً في نفس الأمر. يبين ذلك أنه لو سباه كفار، لم يكن معه أبواه ولم يصر مسلماً، فهو هنا كافر في حكم الدنيا، وإن لم يكن أبواه هوداه ونصراه ومجساه. فعلم أن المراد بالحديث أن الأبوين يلقنانه الكفر ويعلمانه إياه. وذكر صلى الله عليه وسلم الأبوين لأنهما الأصل العام الغالب في تربية الأطفال، فإن كل طفل غير فلا بد له من أبوين، وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما، بخلاف ما إذا ماتا أو عجزا لسبي الولد عنهما أو غير ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 431 ومما يبين ذلك قوله في الحديث الآخر: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فإما شاكراً وإما كفوراً» . فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز، فحينئذ يثبت له أحد الأمرين، ولو كان كافراً في الباطن بكفر الأبوين، لكان ذلك من حين يولد، قبل أن يعرب عنه لسانه. وكذلك قوله في الحديث الآخر الصحيح، حديث عياض بن حمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً» . صريح في أنهم خلقوا على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم وحرمت عليهم الحلال وأمرتهم بالشرك، فلو كان الطفل يصير كافراً في نفس الأمر من حين يولد، لكونه يتبع أبويه في الدين قبل أن يعلمه أحد الكفر ويلقنه إياه، لم يكن الشياطين هن الذين غيروهم عن الحنيفية وأمروهم بالشرك، بل كانوا مشركين من حين ولدوا تبعاً لآبائهم. ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة، فإن أولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا، مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم، وحضانة آبائهم لهم، وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم، والموارثة بينهم وبين آبائهم، واسترقاقهم إذا كان آبائهم محاربين، وغير ذلك - صار يظن من يظن أنهم كفار في نفس الأمر، كالذي تكلم بالكفر وعمل به. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 432 ومن هنا قال من قال: إن هذا الحديث - هو قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» كان قبل أن تنزل الأحكام، كما ذكره أبوعبيد، عن محمد بن الحسن، فأما إذا عرف أن كونهم ولدوا عى الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعاً، لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة. وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم إيمانه من لا يعلم المسلمون حاله، إذا قاتلوا الكفار، فيقتلونه ولا يغسل ولا يصلى عليه ويدفن مع المشركين، وهو في الآخرة من المؤمنين أهل الجنة، كما أن المنافقين تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، فحكم الدار الآخرة غير حكام الدار الدنيا. وقوله: «كل مولود يولد على الفطرة» إنما أراد به الإخبار بالحقيقة التي خلقوا عليها، وعليها الثواب والعقاب في الآخرة، إذا عمل بموجبها وسلمت عن المعارض، لم يرد له الإخبار بأحكام الدنيا، فإنه قد علم بالاضطرار من شرع الرسول أن أولاد الكفار يكونون تبعاً لآبائهم في أحكام الدنيا، وأن أولادهم لا ينتزعون منهم إذا كان للآباء ذمة، وإن كانوا محاربين استرقت أولادهم ولم يكونوا كأولاد المسلمين. ولا نزاع بين المسلمين أن أولاد الكفار الأحياء مع آبائهم، لكن تنازعوا في الطفل إذا مات أبواه أو أحدهما، هل يحكم بإسلامه؟ فعن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 433 أحمد رواية أنه يحكم بإسلامه، لقوله: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، فإذا مات أبواه بقى على الفطرة. والرواية الأخرى كقول الجمهور: إنه لا يحكم بإسلامه. وهذا القول هو الصواب، بل هو إجماع قديم من السلف والخلف، بل هو ثابت بالسنة التي لا ريب فيها. فقد عليم أن أهل الذمة كانوا على عهد النبي صلى الله علي وسلم بالمدينة، ووادي القرى، وخيبر، ونجران، وأرض اليمن وغير ذلك، وكان فيهم من يموت وله ولد صغير، ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام يتامى أهل الذمة. وكذلك خلفاؤه كان أهل الذمة في زمانهم طبق الأرض بالشام ومصر والعراق وخراسان، وفيهم من يتامى أهل الذمة عدد كثير، ولم يحكموا بإسلام أحد منهم، فإن عقد الذمة اقتضى أن يتولى بعضهم بعضاً، فهم يتولون حضانة يتاماهم كما كان الأبوان يتولون حضانة أولادهما. وأحمد رضي الله عنه يقول: إن الذمي إذا مات ورثه ابنه الطفل، مع قوله في إحدى الروايتين: إنه يصير مسلماً، لأن أهل الذمة ما زال أولادهم يرثونهم، ولأن الإسلام حصل مع استحقاق الإرث، لم يحصل قبله. والقول الآخر هو الصواب كما تقدم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 434 والمقصود هنا أن قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» لم يرد به في أحكام الدنيا، بل في نفس الأمر، وهو ما يترتب عليه الثواب والعقاب، ولهذا لما قال هذا، سألوه فقالوا: يا رسول الله: أرأيت من يموت من أطفال المشركين؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين. فإن من بلغ منهم فهو مسلم أو كافر، بخلاف من مات. وقد تنازع الناس في أطفال المشركين على أقوال: فقالت طائفة: إنهم كلهم في النار. وقالت طائفة: كلهم في الجنة. وكل واحد من القولين اختاره طائفة من أصحاب أحمد. الأول: اختاره القاضي أبي يعلى وغيره، وحكوه عن أحمد، وهو غلط على أحمد كما أشرنا إليه. والثاني: اختاره أبو الفرج بن الجوزي وغيره. ومن هؤلاء من يقول: هو خدم أهل الجنة. ومنهم من قال: هم من أهل الأعراف. والقول الثالث: الوقف فيهم. وهذا هو الصواب الذي دلت عليها الأحاديث الصحيحية، وهو منصوص أحمد وغيره من الأئمة. وذكره ابن عبد البر عن حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وابن المبارك وإسحاق بن راهويه. قال: وعلى ذلك أكثر أصحاب مالك، وذكر أيضاً في أطفال المسلمين نزاعاً ليس هذه موضعه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 435 لكن الوقف قد يفسر بثلاثة أمور: أحدها: أنه لا يعلم حكمهم، فلا يتكلم فيهم بشيء، وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى النسة، وقد يقال: إن كلام أحمد يدل عليه. والثاني: أنه يجوز أن، يدخل جميعهم الجنة، ويجوز أن يدخل جميعهم النار. وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى السنة، من أهل الكلام وغيرهم، من أصحاب أبي الحسن الأشعري وغيرهم. والثالث: التفصيل، كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» فمن علم الله منه أنه إذا بلغ أطاع أدخله الجنة، ومن علم منه أن يعصي أدخله النار. ثم من هؤلاء من يقول: إنهم يجزيهم بمجرد علمه فيهم، كما يحكى عن أبي العلاء القشيري المالكي. والأكثرون يقولون: لا يجزي على علمه بما سيكون حتى يكون، فيمتنحهم يوم القيامة، ويمتحن سائر من لم تبلغه الدعوة في الدنيا، فمن أطاع حينئذ دخل الجنة ومن عصى دخل النار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 436 وهذا القول منقول عن غير واحد من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم. وقد روي به آثار متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم حسان يصدق بعضها بعضاً، وهو الذي حكاه الأشعري في المقالات عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه يذهب إليه، وعلى هذا القول تدل الأصول المعلومة بالكتاب والسنة، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبين أن الله لا يعذب أحداً حتى يبعث إليه رسولاً. والمقصود هنا الكلام على الأقوال المذكورة في تفسير هذا الحديث، وقد تبين ضعف قول من قال: الفطرة: الكفر والإيمان، وأن الإقرار كان من هؤلاء طوعاً، ومن هؤلاء كرهاً. ومما يضعف هذا القول طائفة أخرى بأن جميع أولئك كان إقرارهم جميعهم له بالربوبية من غير تفصيل بطوع وكره. تعليق ابن تيمية قال ابن عبد البر: (وقال آخرون: معنى الفطرة المذكورة في المولدين ما أخذ الله من ذرية آدم من الميثاق، قبل أن يخرجوا إلى الدنيا، يوم استخرج ذرية آدم من ظهره، فخاطبهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فأقروا جميعاً له بالربوبية عن معرفة منهم به، ثم أخرجهم من أصلاب آبائهم مخلوقين مطبوعين على تلك المعرفة وذلك الإقرار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 قالوا: وليست تلك المعرفة بإيمان، ولا ذلك الإقرار بإيمان، ولكنه إقرار من الطبيعة للرب، فطرةً ألزمها قلوبهم، ثم أرسل إليهم الرسل يدعوهم إلى الاعتراف له بالربوبية والخضوع، تصديقاً بما جاءت به الرسل، فمنهم من أنكر وجحد بعد المعرفة وهو به عارف، لأنه لم يكن الله يدعو خلقه إلى الإيمان به وهو لم يعرفهم نفسه، لأنه كان حينئذ يكون قد كلفهم الإيمان بما لا يعرفون. قالوا: وتصديق ذلك قول الله عز وجل: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} ، وذكروا ما ذكره السدي عن أصحابه) كما تقدم. وروى بإسناده في التفسير المعروف عن أبي جعفر الرازي (عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، في قول الله عز وجل: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} إلى قوله: {أفتهلكنا بما فعل المبطلون} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 438 قال: فجعلهم جميعاً أرواحاً، ثم صورهم، ثم استنطقهم فقال: ألست بربكم؟. قالوا: بلى شهدنا، أن يقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا. قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، ولا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك. قال: فإني أرسل إليكم رسلي، وأنزل عليكم كتبي، فلا تكذبوا رسلي، وصدقوا بوعدي، وإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي. قال: فأخذ عهدهم وميثاقهم، ورفع أباهم آدم، فرأى منهم الغني والفقير، وحسن الصورة، وغير ذلك، فقال: يا رب لو سويت بين عبادك؟ قال: أحببت أن أشكر. قال: والأنبياء يومئذ بينهم مثل السرج. وقال: وخصوا بميثاق آخر للرسالة أن يبلغوها. قال: فهو قوله: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} . قال: وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها) . قال: (وذلك قوله: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 439 وجدنا أكثرهم لفاسقين} . قال: (فكان في علم الله من يكذب به ومن يصدق. قال: وكان روح الله عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عهدها وميثاقها في زمن آدم) . فهذا القول يحقق القول الأول في أن كل مولود يولد على الفطرة، التي هي المعرفة بالله والإقرار به، وفيه زيادة: أن ذلك كان قد حصل لهم قبل الولادة حين استخرجوا من صلب آدم. وقد فسر (فطرة الله) في الحديث بذلك. وأما قول صاحب هذا القول: (إن هذا الإقرار ليس هو بإيمان يستحق عليه الثواب) فهذا لا يضر، فإنه قد بين فيه أن المعرفة بالله ضرورية، وأنه بذلك صح أن يأمرهم، فإن المأمور إن لم يعرف الآمر امتنع أن يعرف أنه أمره. ولو لم تكن المعرفة ثابتة في الفطرة لكان الرسول إذا قال لقومه: أدعكم إلى الله، لقالوا مثل ما قال فرعون: وما رب العالمين؟ إنكاراً له وجحداً، كأن يكون قولهم متوجهاً. وفرعون لم يقل هذا لعدم معرفته في الباطن بالخالق، لكن أظهر خلاف ما في نفسه. كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} ، وكما قال له موسى: {لقد علمت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 440 ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر} . ولهذا قال تعالى: {ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب * قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى} ، فأخبر تعالى أن أولئك المكذبين لما قالوا: {إنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب * قالت رسلهم أفي الله شك} . وهذا استفهام إنكار بمعنى النفي والأنكار على من لم يقر بهذا النفي. والمعنى: ما في الله شك، وأنتم تعلمون أنه ليس في الله شك، ولكن تجحدون انتفاء الشك جحوداً تستحقون أن ينكر عليكم هذا الجحد. فدل ذلك على أنه ليس في الله شك عند الخلق المخاطبين، وهذا يبين أنهم مفطورون على الإقرار، وإلا فالأمر النظري مسلتزم للشك قبل العلم، لا سيما إذا كانت طرقة خفيةً طويلة، فكل من لم يعرف تلك الطرق يشك فيه، فإن كان لا طريق للمعرفة إلا طريقة الأعراض وطريقة الوجود ونحو ذلك، فالشك في الله حاصل لمن لم يعرف هذه الطرق، وهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 441 جمهور الخلق، بل ولأكثر من سلك هذه الطرق أيضاً إذا عرف حقيقتها. قال ابن عبد البر: (وقال آخرون معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة» لم يرد رسول الله عليه وسلم بذكر الفطرة ها هنا كفراً ولا إيماناً، ولا معرفة ولا إنكاراً، وإنما أراد أن كل مولود يولد على السلامة خلقةً وطبعاً وبنيةً، ليس معها كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار، ثم يعتقد الكفر أو الإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا. واحتجوا بقوله في الحديث: «كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء» يعني سالمة: «هل تحسون فيها من جدعاء» يعني مقطوعة الأذن. فمثل قلوب بني آدم بالبهائم، لأنها تولد كاملة الخلق، لا يتبين فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها، فيقال: هذه بحاير وهذه سوايب، يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم، ليس لهم كفر حينئذ ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار، كالبهائم السالمة، فلما بلغوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 442 استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلهم، قالوا: ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمرهم، ما انتقلوا عنه أبداً، وقد تجدهم يؤمنون ثم يكفرون ثم يؤمنون. قالوا: ويستحيل في العقول أن يكون الطفل في حال ولادته يعقل كفراً أو إيماناً، لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون فيها شيئاً. قال تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} فمن لم يعلم شيئاً استحال منه كفر أو إيمان، أو معرفة أو إنكار. قال أبو عمر: هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الولدان عليها، وذلك أن الفطرة: السلامة والاستقامة، بدليل قوله في حديث عياض بن حمار: إني خلقت عبادي حنفاء، يعني على استقامة وسلامة، فكأنه - والله أعلم - أراد الذين خلصوا من الآفات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 443 كلها والزيادات، ومن المعاصي والطاعات، فلا طاعة منهم ولا معصية إذا لم يعملوا بواحدة منهما. ومن الحجة أيضاً في هذا قول الله تعالى: {إنما تجزون ما كنتم تعملون} ، {كل نفس بما كسبت رهينة} ، ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء. قال الله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} . قلت: هذا القائل إن أراد بهذا القول أنهم خلقوا خالين من المعرفة والإنكار، من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحداً منهما، بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان وكتابة الكفر، وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر، وهذا هو الذي يشعر به ظاهر الكلام - فهذا قول فاسد، لأنه حينئذ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار، والتهويد والتنصير والإسلام، وإنما ذلك بحسب الأسباب، فكان ينبغي أن يقال: فأبواه يسلمانه ويهودانه وينصرانه ويمجسانه، فلما ذكر أن أبوه يكفرانه، وذكر الملل الفاسدة دون الإسلام، علم أن حكمه في حصول ذلك بسبب منفصل غير حكم الكفر. وأيضاً فإنه على هذا التقدير لا يكون في القلب سلامة ولا عطب، ولا استقامة ولا زيغ، إذ نسبته إلى كل منهما نسبة واحدة، وليس هو بأحدهما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 444 أولى منه بالآخر، كما أن الرق قبل الكتابة فيه لا يثبت له حكم مدح كالمصحف، ولا حكم ذم القرآن مسيلمة، والتراب قبل أن يبنى مسجداً أو كنيسة، لا يثبت له حكم واحد منهما. ففي الجملة كل ما كان قابلاً للممدوح والمذموم على السواء، لم يستحق مدحاً ولا ذماً. والله تعالى يقول: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} ، فأمره بلزوم فطرته التي فطر الناس عليها، فكيف لا يكون فيها مدح ولا ذم؟. وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق، وشبه ما يطرأ عليها من الكفر بجدع الأنف والأذن. ومعلوم أن كمالها محمود ونقصها مذموم، فكيف تكون فبل النقص لا محمودة ولا مذمومة؟. وإن كان المراد بهذا القول ما قاله طائفة من الناس، من أن المراد: أنهم ولدوا على الفطرة السليمة، التي لو تركت مع صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار، والإيمان على الكفر، ولكن بما عرض من الفساد خرجت عن هذه الفطرة - فهذا القول قد يقال: إنه لا يرد عليه ما يرد على ما قبله، فإنه صاحبه يقول: في الفطرة قوة يميل بها إلى المعرفة والإيمان، كما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 445 في البدن السليم قوة يحب بها الأغذية النافعة، وبهذا كانت محمودة وذم من أفسدها، لكن يقال: فهذا الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والاستعداد والصلاحية: هل هي كافية في حصول المعرفة، أو تقف المعرفة على أدلة يتعلمها من خارج؟. فإن كانت المعرفة تقف على أدلة يتعلمها من خارج، أمكن أن توجد تارة وتعدم أخرى، ثم ذلك السبب الخارج يمتنع أن يكون موجباً للمعرفة بنفسه، بل غايته أن يكون معرفاً ومذكراً، فعند ذلك إن وجب حصول المعرفة، كانت المعرفة واجبة الحصول عند وجود تلك الأسباب وإلا فلا، وحينئذ فلا يكون فيها إلا قبول المعرفة والإيمان، إذا وجدت من يعلمها أسباب ذلك. ومعلوم أن فيها قبول الإنكار والكفر، إذا وجدت من يعلمها أسباب ذلك، وهو التهويد والتنصير والتمجيس. وحينئذ فلا فرق بين الإيمان والكفر، والمعرفة والإنكار، إنما فيها قوة قابلة لكل منهما واستعداد له، لكن يتوقف على المؤثر الفاعل من خارج. وهذا القسم الأول الذي أبطلناه، وبينا أنه ليس في ذلك مدح للفطرة، وإن كان فيها قوة تقتضي المعرفة بنفسها، وإن لم يوجد من يعلمها أدلة المعرفة، لزم حصول المعرفة فيها بدون ما نسمعه من أدلة المعرفة، سواء قيل: إن المعرفة ضرورية فيها، أو قيل: إنها تحصل بأسباب كالأدلة التي تنتظم في النفس، من غير أن يسمع كلام مستدل، فإن النفس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 446 بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال مالا يحتاج معه إلى كلام أحد، فإن كان كل مولود يولد على هذه الفطرة، لزم أن يكون المقتضى للمعرفة حاصلاً لكل مولود، وهو المطلوب. والمقتضى التام يستلزم مقتضاه، فتبين أن أحد الأمرين لازم: إما لكون الفطرة مستلزمة للمعرفة، وإلا استوى الكفر والإيمان بالنسبة إليها، وذلك ينفي مدحها. وتلخيص النكتة أن يقال: المعرفة والإيمان بالنسبة إليها ممكن بلا ريب، فإما أن تكون هو موجبة مسلتزمة له، وإما أن يكون ممكناً بالنسبة إليها، ليس بواجب لازم لها. فإن كان الثاني، لم يكن فرق بين الكفر والإيمان، إذ كلاهما ممكن بالنسبة إليها. فتبين أن المعرفة لازمة واجبة لها، إلا أن يعارضها معارض. فإن قيل: ليست موجبة مستلزمة للمعرفة، ولكنها إليها أميل، مع قبولها للنكرة. قيل: فحينئذ إذا لم تسلتزم المعرفة، وجبت تارة وعدمت أخرى. وهي وحدها لا تحصلها، فلا تحصل إلا بشخص آخر كالأبوين، فيكون الإسلام كالتهويد والتنصير والتمجيس. ومعلوم أن هذه الأنواع بعضها أبعد عن الفطرة من بعض كالتمجيس، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 447 ولكن مع ذلك لما لم تكن الفطرة مقتضية لشيء منها، أضيفت إلى السبب، فإن لم تكن الفطرة مقتضية للإسلام، صار نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد والتنصير إلى التمجيس، فوجب أن تذكر كما ذكر ذلك. وهذا كما أن الفطرة لو لم تقتض الأكل عند الجوع - مع القدرة عليه - لم يوجد الأكل إلا بسبب منفصل. والنبي صلى الله عليه وسلم شبه اللبن بالفطرة، لما عرض عليه الخمر واللبن واختار اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو أخذت الخمر لغوت أمتك. والطفل مفطور على أن يختار شرب اللبن بنفسه، فإذا تمكن من الثدي لزم أن يرتضع لا محالة، فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض، وهو مولود على أن يرتضع، فكذلك هو مولود على أن يعرف الله، والمعرفة ضرورية له لا محالة إذا لم يوجد معارض. وأيضاً فإن حب النفس وخضوعها لله وإخلاص الدين له، مع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 448 الكبر والشرك والنفور، إما أن يكون نسبتها إلى الفطرة سواء، أو الفطرة مقتضية للأول دون الثاني. فإن كانا سواء، لزم انتفاء المدح كما تقدم، ولم يكن فرق بين دعائها إلى الكفر ودعائها إلى الإيمان، ويكون تمجيسها كتحنيفها، وقد عرف بطلان هذا. وإن كان فيها مقتض لهذا فإما أن يكون المقتضى مسلتزماً لمقتضاة عند عدم المعارض، وإما أن يكون متوقفاً على شخص خارج عنها. فإن كان الأول، ثبت أن ذلك من لوازمها، وأنه مفطورة عليه، لا تفقد إلا إذا فسدت الفطرة. وإن قيل: إنه متوقف على شخص، فذلك الشخص هو الذي يجعلها حنيفية كما يجعلها مجوسية. وحينئذ فلا فرق بين هذا وهذا. وإذا قيل: هي إلىالحنيفية أميل، كان كما يقال: هي إلى النصرانية أميل. فتبين أن فيها قوة موجبة لحب الله، والذل له، وإخلاص الدين له، وأنها موجبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض، كما فيها قوة تقتضي شرب اللبن الذي فطرت على محبته وطلبه. تعليق ابن تيمية ومما يبين هذا أن كل حركة إرادية، فإن الموجب لها قوة في المريد، فإذا أمكن في الإنسان أن يحب الله ويعبده ويخلص له الدين، كان فيه قوة تقتضي ذلك، إذ الأفعال الإرادية لا يكون سببها إلا من نفس الحي المريد الفاعل، ولا يشترط في إرادته إلا مجرد الشعور بالمراد، فما في النفوس من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 449 قوة المحبة له - إذا شعرت به - يقتضي حبه إذا لم يحصل معارض. وهذا موجود في محبة الأطعمة والأشربة والنكاح، ومحبة العلم، وغير ذلك. وإذا كان كذلك، وقد ثبت أن في النفس قوة المحبة لله والذل له، وإخلاص الدين له، وأن فيها قوة الشعور به - لزم قطعاً وجود المحبة فيها، والذل بالفعل لوجود المقتضى الموجب إذا سلم عن المعارض، وعلم أن المعرفة والمحبة لا يشترط فيهما وجود شخص منفصل يكلمها بكلام، وإن كان وجود هذا قد يذكر ويحرك، كما لو خوطب الجائع بوصف طعام، أو خوطب المغتلم بوصف النساء، فإن هذا مما يذكر ويحرك، لكن لا يجب ذلك في وجود الشهوة للطعام ووجود الأكل. فكذلك الأسباب الخارجة لا يتوقف عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق والذل له ومحبته، وإن كان ذلك مذكراً ومحركاً، أومزيلاً للمعارض المانع، لكن المقصود أنه لا يحتاج حصول ذلك في الفطرة إليه مطلقاً. وأيضاً فالإقرار بالصانع بدون عبادته، بالمحبة له والذل له وإخلاص الدين له، لا يكون نافعاً، بل الإقرار مع البعض أعظم استحقاقاً للعذاب، فلا بد أن يكون في الفطرة مقتض للعلم، ومقتض للمحبة، والمحبة مشروطة بالعلم، فإن ما لا يشعر به الإنسان لا يحبه، والحب للمحبوبات لا يكون بسبب من خارج، بل هو جبلي فطري، وإذا كانت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 450 المحبة جبلية فطرية، فشرطها - وهو المعرفة أيضاً - جبلي فطري، فلا بد أن يكون في الفطرة محبة الخالق مع الإقرار به. وهذا أصل الحنيفية التي خلق الله خلقه عليها، وهو فطرة الله التي أمر الله بها. وأيضاً فإذا كانت المحبة فطرية، وهي مشروطة بالشعور، لزم أن يكون الشعور أيضاً فطرية، والمحبة له أيضاً فطرية، لأنها لو لم تكن فطرية، لكانت النفس قابلة لها ولضدها على السواء، وهذا ممتنع كما تقدم. وإذا كانت في الفطرة أرجح، لزم وجودها في الفطرة، وإلا كانت ممكنة الحصول وعدمه، كما في المجوسية وغيرها من الكفر، فتبقى الحنيفية مع المجوسية، كاليهودية مع المجوسية، وهذا باطل كما تقدم. فعلم أن الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها، والحب لله والخضوع له والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية، وذلك مسلتزم للإقرار والمعرفة، ولازم اللازم لازم، وملزوم الملزوم ملزوم، فعلم أن الفطرة ملزومة لهذه الأحوال، هذه الأحوال لازمة لها، وهو المطلوب. قال أبو عمر: (قد مضى في الفطرة ومعناها عند العلماء ما بلغنا عنهم والحمد لله، وأما أهل البدع فمنكرون لكل ما قاله العلماء في تأويل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 451 قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} الآية، قالوا: ما أخذ الله من آدم ولا من ذريته ميثاقاً قط قبل خلقه إياهم، وما خلقهم قط إلا في بطون أمهاتهم، وما استخرج قط من ظهر آدم ذرية تخاطب، ولو كان ذلك لأحياهم ثلاث مرات. والقرآن قد نطق عن أهل النار: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} من غير إنكار عليهم. وقال تعالى تصديقاً لذلك: {وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} قالوا: وكيف يخاطب الله عز وجل من لا يعقل؟ وكيف يجيب من لا عقل له؟ أم كيف يحتج عليه بميثاق لا يذكرونه؟ أم كيف يؤاخذون بما قد نسوه ولم يذكروه، ولا يذكر أحد أن ذلك عرض له أو كان منه؟. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 452 قالوا: وإنما أراد الله بقوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} إخراجه إياهم في الدنيا، وخلقه لهم، وإقامة الحجة عليهم، بأن فطرهم ونبأهم فطرة: إذا بلغوا وعقلوا علموا أن الله ربهم. ثم اختلف القائلون بهذا كله في المعرفة: هل تقع ضرورة أو اكتساباً. على ما قد ذكرنا في غير هذا المكان) . قلت: ليس المقصود هنا الكلام على هذه الآية وتفسيرها، والكلام في معرفة حاصلة قبل الولادة أو نفيها، بل المقصود إثبات المعرفة الفطرية الحاصلة بعد الولادة، وإذا كان من نفاة الأول من يقول: إن هذه ضرورية، فكيف بمن أثبت الثنتين، وهذه الأقوال التي ذكرها منها اثنان من جنس، وهو قول من يقول: ولدوا على ما سبق به القدر، أو على ذلك، وكانوا مفطورين عليه من حين الميثاق الأول، منهم مقر طوعاً وكرهاً، أو اثنان من جنس، وهو قول من يقول: ولدوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 453 قادرين على المعرفة، وقول من يقول: ولدوا قابلين لها وللتهود والتنصر، إما من التساوي، وإما مع رجحان القبول للإسلام. وأما من قول من يقول: ولدوا على فطرة الإسلام، أو علىالإقرار بالصانع، وإن لم يكن ذلك وحده أيماناً، أو على المعرفة الأولى يوم أخذ الميثاق عليهم - فهذه الثلاثة لا منافاة بينها، بل يحصل بها المقصود. والكتاب - والسنة - دل على ما اتفقت عليه من كون الخلق مفطورين على دين الله، الذي هو معرفة الله والإقرار به، بمعنى أن ذلك موجب فطرتهم، وبمقتضاها يجب حصوله فيها، إذا لم يحصل ما يعوقها، فحصوله فيها لا يقف على وجود شرط، بل على انتفاء مانع. ولهذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم لموجب الفطرة شرطاً، بل ذكر ما يمنع موجبها، حيث قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، كما قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} ، فأخبر أن المشركين مفترقون. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه لا تشركوه به شيئاً، وأنت تعتصموا بحبل الله جميعاً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 454 ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» . وقد قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} . وقال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} . وقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} . وأصل الدين الذي فطر الله عليه عباده، كما قال: خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً. فهو يجمع أصلين: أحدهما عبادة الله وحده لا شريك له، وإنما يعبد بما أحبه وأمر به، وهذا هو المقصود الذي خلق الله له الخلق، وضده الشرك والبدع. والثاني: حل الطيبات التي يستعان لها على المقصود، وهو الوسيلة. وضدها تحريم الحلال. والأول كثير في النصارى، والثاني - وهو تحريم الطيبات - كثير في اليهود، وهما جميعاً في المشركين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 455 ولهذا ذم الله تعالى المشركين على هذين النوعين في غير موضع من كتابه، كسورة الأنعام والأعراف، يذكر فيها ذمهم على ما حرموه من المطاعم والملابس وغير ذلك، وذمهم على ما ابتدعوه من العبادات التي لم يشرعها الله تعالى. وفي الحديث: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة» ، فنعبده وحده بفعل ما أحبه، ونستعين على ذلك بما أحله. كما قال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} . وهذا هو الدين الذي فطر الله عليه خلقه، فإنه محبوب لكل أحد، فإنه يتضمن الأمر بالمعروف الذي تحبه القلوب، والنهي عن المنكر الذي تبغضه، وتحليل الطيبات النافعة، وتحريم الخبائث الضارة. الأدلة العقلية تدل على أن كل مولود يولد على الفطرة وهذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن «كل مولود يولد على الفطرة» ، مما تقوم الأدلة العقلية على صدقه، كما أخبر الصادق المصدوق، وتبين أن من خالف مدلول هذا الحديث فإنه مخطىء في ذلك. وبيان ذلك من وجوه: (الوجه الأول) أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصل له تارة من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 456 الاعتقادات والإرادات ما يكون حقاً، وتارة ما يكون باطلاً، فإن اعتقاداته قد تكون مطابقة لمعتقدها وهو الحق، وقد تكون غير مطابقة وهو الباطل. والخبر عن هذا صدق وعن هذا كذب. والإرادات تنقسم إلىما يوافق مصلحته، وهو جلب المنفعة له، وإلى ما لا يوافق مصلحته بل يضره. فإن الإنسان حساس متحرك بالإرادة. ولهذا «قال صلى الله عليه وسلم: أصدق الأسماء: الحارث وهمام، وأحبها إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، وأقبحها: حرب ومرة» ، فإن الإنسان لا بد له من حرث وهو العمل والحركة الإرادية، ولا بد من أن يهم بالأمور: منها ما يهم به ويفعله، ومنها ما يهم به ولا يفعله، فإن كان المراد موافقاً لمصلحته كانت الإرادة حسنة محمودة، وإن كان مخالفاً لمصلحته كانت الإرادة سيئة مذمومة، كمن يريد ما يضر عقله ونفسه وبدنه. وإذا كان الإنسان تارةً تكون تصديقاته وإراداته حسنة محمودة، وتارة تكون سيئة، فلا يخلو: إما أن تكون نسبة نفسه إلى النوعين نسبة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 457 واحدة بحيث لا يترجح أحد الصنفين على الآخر بمرجح من نفسه، أو لا بد أن تكون نفسه مرجحة لأحد النوعين. فإن كان الأول، لزم أن لا يوجد أحد الصنفين إلا بمرجح منفصل عنه، ثم ذلك المرجح المنفصل إذا قدر مرجحان: أحدها يرجح الصدق الذي ينفعه، والآخر يرجح الكذب الذي يضره، فإما أن يتكافأ المرجحان، أويترجح أحدهما، فإن تكافأ المرجحان لزم أن لا يحصل واحد منهما، وهو خلاف المعلوم بالضرورة، فإنا نعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق، وأن ينتفع، وأن يكذب وتضرر، مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع وإذا كان لا بد من ترجيح أحدهما فترجح الكذب الضار - مع فرض تساوى المرجحين أولى بالامتناع من تكافيهما، فعين أنه تكافأ المرجحان فلا بد أن يترجح عنده الصدق والنفع، وهو المراد باعتقاد الحق وإرادة الخير. فعلم أن في فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة النافع، وحينئذ فالإقرار بوجود الصانع ومعرفته والإيمان به هو الحق أو نقضيه؟ والثاني معلوم الفساد قطعاً، فتعين الأول. وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به. وأيضاً فإنه مع الإقرار به، إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو عدم محبته، والثاني معلوم الفساد، وإذا كان الأول أنفع له، كان في فطرته محبة ما ينفعه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 458 وأيضاً فإنه إما أن تكون عبادته وحده لا شريك له أكمل للناس علماً وقصداً، أو الإشراك به، والثاني معلوم الفساد، فوجب أن يكون في فطرته مقتض يقتضي توحيده. وأيضاً فأما أن يكون دين الإسلام مع غيره من الأديان متماثلين، أو الإسلام مرجوحاً أو راجحاً. والأول والثاني باطلاق باتفاق المسملين، وبأدلة كثيرة، فوجب أن يكون في الفطرة مقتض يقتضي خير الأمرين لها، وامتنع أن تكون نسبة الإسلام وسائر الملل إلى الفطرة واحدة، سواء كانت نسبة قدرة، أو نسبة قبول. وإذا لزم أن يكون في الفطرة مرجح للحنيفية التي أصلها معرفة الصانع ومحبته، وإخلاص الدين له، فإما أن يكون مع ذلك لا يوجد مقتضاها إلا بسبب منفصل، مثل من يعلمه ويدعوه، أو يمكن وجود ذلك بدون هذا السبب المنفصل. فإن كان الأول لزم أن يكون موجبها متوقفاً على مخاطب منفصل دائماً، فلا يحصل بدونه البتة. ثم القول في حصول موجبها لذلك المخاطب المنفصل، كالقول في الأول، وحينئذ فيلزم التسلسل في المخاطبين، ووجود مخاطبين لا يتناهون، وهو أيضاً مخاطبون، وهذا تسلسل في الفاعلين، وهو ممتنع. وإن كان في المخاطبين من حصل له بموجب الفطرة بلا مخاطب منفصل، دل على إمكان ذلك في الفطرة، فبطل هذا التقدير: وهو كون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 459 موجب الفطرة لا يحصل قط إلا لمخاطب منفصل. وإذا أمكن حصول موجب الفطرة بدون مخاطب منفصل، علم أن في الفطرة قوة تقتضي ذلك، وأن ذلك ليس موقوفاً على مخاطب منفصل، لكن قد يكون لذلك المقتضى معارض مانع، وهذا هو الفطرة. وهذا الدليل يقتضي أنه لا بد في الفطر ما يكون مستغنياً عن مخاطب منفصل في حصول موجب الفطرة، لكن لا يقتضي أن كل واحد كذلك، لكن إذا عرف أن ما جاز على أحد الإنسانين يجوز على الآخر لتماثلهما في النوع، أمكن ذلك في حق كل شخص، وهو المطلوب. الوجه الثاني أن يقال: إذا ثبت أن نفس الفطرة مقتضية لمعرفته ومحبته، حصل المقصود بذلك، وإن لم تكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج كثير منهم في حصول ذلك إلى سبب معين للفطرة: كالتعليم والتخصيص. فإن الله قد بعث الرسل، وأنزل الكتب، ودعوا الناس إلى موجب الفطرة: من معرفة الله وتوحيده، فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة، وإلا استجابت لله ورسله، لما فيها من المقتضى لذلك. ومعلوم أن قوله: كل مولود يولد على الفطرة، ليس المراد به أنه حين ولدته أمه يكون عارفاً بالله موحداً له، بحيث يعقل ذلك. فإن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 460 الله يقول: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} . ونحن نعلم بالاضطرار أن الطفل ليس عنده معرفة بهذا الأمر، ولكن ولادته على الفطرة تقتضي أن الفطرة تقتضي ذلك، وتستوجبه بحسبها. فكلما حصل فيه قوة العلم والإرادة، حصل من معرفتها بربها، ومحبتها له، ما يناسب ذلك كما أنه ولد على أنه يحب جلب المنافع ودفع المضار بحسبه، وحينئذ فحصول موجب الفطرة، سواء توقف على سبب، وذلك السبب موجود من خارج، أو لم يتوقف، على التقديرين يحصل المقصود. ولكن قد يتفق لبعضها فوات الشرط أو وجود مانع، فلا يحصل مقصود الفطرة. الوجه الثالث أن يقال: من المعلوم أن النفوس إذا حصل لها معلم ومخصص، حصل لها من العلم والإرادة بحسب ذلك. ومن المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق. ومعلوم أن مجرد التعليم والتخصيص لا يوجب العلم والإرادة، لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك. وإلا فلو علم البهائم والجمادات وحضضها، لم يحصل لها ما يحصل لبني آدم، والسبب في الموضعين واحد، فعلم أن ذلك لاختلاف القوابل. ولهذا يشترك الناس في سماع القرآن، ويتفاوتون في آثاره فيهم من العلم والحال وهكذا في سائر الكلام. وإذاكان كذلك علم أن في النفوس قوة تقتضي العلم والإرادة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 461 يبين ذلك أن ذلك المرجح إذا حصل من خارج، فمعلوم أنه نفس لا يوجب بنفسه حصول العلم والإرادة في النفس، إلا بقوة منها تقبل ذلك، وتلك القوة لا تتوقف على أخرى، وإلا لزم التسلسل الذي لا يتناهى بين طرفين متناهين، أو الدور القبلي، وكلاهما ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء. فهذا يدل على أن في النفس قوة ترجح الدين الحق علىغيره، وحينئذ فالمخاطب إنما عنده تنبيهاً على ما لا تعلمه لتعلمه، أو تذكيرها بما كانت ناسية لتذكره، أو تخضيضها على ما لا تريده لتريده، ونحو ذلك. وكل هذه الأمور يمكن أن تحصل بخواطر في النفس تقتضي تنبيهها وتذكيرها وتحضيضها. واعتبار الإنسان ذلك من نفسه يوجب علمه بذلك، فإن ما يسمعه الإنسان من كلام البشر بمكن أن يخطر له مثله في قلبه. فعلم أن الفطرة يمكن حصول إقرارها بالصانع والمحبة والإخلاص له بدون سبب منفصل، وأنه يمكن أن تكون الذات كافية في ذلك. ومن المعلوم أنه إذا كان المقتضى لذلك قائماً في النفس وقدر عدم المعارض، فالمقتضى السالم عن المعارض المقاوم يجب مقتضاه، فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يصل لها من يفسدها كانت مقرةً بالصانع، عابدةً له. فإن قيل: هذه الخواطر التي تخطر للإنسان قد تحصل لبعض الناس دون بعض، بحسب ما يتفق من الأسباب، كما أن بعض الناس يحصل له الجزء: 8 ¦ الصفحة: 462 من يخاطبه دون بعض، فليسوا مشتركين في أسباب الخواطر والخطاب. قيل: إذا لم تكن الخواطر متوقفة على مخاطب من خارج، كانت الفطرة الإنسانية هي المقتضية لذلك، وإن كان ذلك بأسباب يحدثها الله من إلهام ملك أو غيره، لكن المقصود أنه لا يحصل لها ذلك بواسطة تعلم إنسان ودعائه. وهذا هو المقصود بيانه من كونها ولدت على الفطرة، ليس المراد أنه يجب وجود الهدى لكل إنسان، فإن هذا خلاف الواقع. والحديث قد بين أن المولود يعرض له من يغير فطرته. الوجه الرابع أن يقال: هب أنه لا بد من الداعي المعلم من خارج، لكن في النفس ما يوجب ترجيح الحق على الباطل في الاعتقادات والإرادات، وهذا كاف في كونها ولدت على الفطرة. الوجه الخامس أن يقال: المقصود أنه إذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج، كانت الفطرة مقتضية للصلاح، لأن المقتضي فيه للعلم والإرادة النافعة قائم، والمانع زائل، إذ يجب وجود مقتضاه. والأول استدلال بوقوع الإقرار بدون سبب من فصل على وجود المقتضي التام في الفطرة، وهذا استدلال بوجود المقتضي التام على حصول مقتضاه. وليس المقصود هنا أن المقتضى التام يجب وجوده لكل أحد، فإنه هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 463 ممتنع، بل إن الفطرة تقتضى وجوده، كما تقتضى فطرة الصبي شرب لبن أمه، فلو لم يعرض له المانع للزم وجود الشرب. لكن قد يعرض له مرض فيه أو في أمه أو غير ذلك، يوجب نفوره عن شرب لبنها. وحب العبد لربه هو مفطور فيه، أعظم مما فطر فيها حبه للبن أمه. قال الله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا} ، فلو لم يكن المقتضي التام ممكن وجوده في الفطرة، لم يحصل موجبها إلا بمرجح من خارج، وهو خلاف الواقع، ولأنها إذا خلت عن الأسباب الخارجة، لم يكن بد من وجود صلاحها أو فسادها، والثاني ممتنع، فتعين الأول. الوجه السادس أن السبب الذي في الفطرة: إما أن يكون مسلتزماً للمعرفة والمحبة، وإما أن يكون مقتضياً لها بدون استلزام، وعلى التقديرين يحصل المقصود. الوجه السابع أن النفس لا تخلو عن الشعور والإرادة، بل هذا الخلوممتنع فيها. فإن الشعور والإرادة من لوازم حقيقتها، ولا يتصور أن تكون النفس إلا شاعرةً مريدةً، ولا يجوز أن يقال: إنها قد تخلو في حق الخالق تعالى عن الشعور بوجوده وعدمه، وعن محبته وعدم محبته. وحينئذ فلا يكون الإقرار به ومحبته من لوازم وجودها، ولو لم يكن لها معارض، بل هذا باطل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 464 وذلك أن النفس لها مطلوب مراد بضروة فطرتها، وكونها مريدة من لوازم ذاتها، لا يتصور أن تكون نفس الإنسان غير مريدة. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء الحارث وهمام» ، وهي حيوان، وكل حيوان متحرك بالإرادة، فلا بد لها من حركة إرادية، وإذا كان كذلك فلا بد لكل مريد من مراد، والمراد إما أن يكون مراداً لنفسه أو لغيره، والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه، فيمتنع أن تكون جميع المرادات مرادات لغيرها، فإن هذا تسلسل في العلل الغائبة، وهو ممتنع، كامتناع التسلسل في العلل الفاعلية، بل أولى. وإذا كان لا بد للإنسان من مراد لنفسه، فهذا هو الإله الذي يألهه القلب. فإذاً لا بد لكل عبد من إله، فعلم أن العبد مفطور على انه يحب إلهه. ومن الممتنع أن يكون مفطوراً على أنه يأله غير الله لوجوده: منها: أن هذا خلاف الواقع. ومنها: أنه ليس هذا المخلوق، بأن يكون إلهاً لكل الخلق، بأولى من هذا. ومنها: أن المشركين لم يتفقوا على إله واحد، بل عبد كل قوم ما يستحسنوه. ومنها: أن ذلك المخلوق إن كان ميتاً فالحي أكمل من الميت، فيمتنع أن يكون الناس مفطورين على عبادة ميت، وإن كان حياً فهو أيضاً مريد، فله إله يألهه، فلو كان هذا يأله هذا، وهذا يأله هذا، لزم الدور الممتنع، أو التسلسل الممتنع، فلا بد لهم كلهم من إله يألهونه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 465 فإن قلت: ما ذكرته يستلزم أنه لا بد لكل حي من إله، أو لكل إنسان من إله، لكن لم لا يجوز أن يكون مطلوب النفس مطلق المألوه، لا مألوهاً معيناً، وجنس المراد لا مراداً معيناً؟. قيل: هذا ممتنع، فإن المراد إما أن يراد لنوعه أو لعينه، فالأول مثل كون العطشان يريد ماءً، والسغبان يريد طعاماً، فإرادته هنا لم تتعلق بشيء معين، فإذا حصل عين من النوع حصل مقصوده. والمراد لذاته لا يكون نوعاً، لأن أحد المعنيين ليس هو الآخر، فلو كان هذا مراداً لذاته، للزم أن لا يكون الآخر مارداً لذاته، وإذا كان المراد لذاته هو القدر المشترك بينهما، لزم أن يكون ما يختص به أحدهما ليس مراداً لذاته، وإذا لم يكن مراداً لذاته، لزم أن يكون ما يختص به كل منهما ليس مراداً لذاته. والكلي لا وجود له في الأعيان إلا معيناً، فإذا لم يكن في المعينات ما هو مارد لذاته، لم يكن في الموجودات الخارجية ما هو مراد لذاته، فلا يكون فيها ما يجب أن يألهه أحد، فضلاً عما يجب أن يألهه كل واحد. فتبين أنه لا بد من إله معين، هو المحبوب لذاته من كل حي، ومن الممتنع أن يكون هذا غير الله، فلزم أن يكون هو الله، وعلم أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، وأن كل مولود ولد على حبة هذا الإله، ومحبته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 466 مستلزمة لمعرفته، فعلم أن كل مولود ولد على محبته ومعرفته، وهو المطلوب. وهذا الدليل يصلح أن يكون مستقلاً، وهذا بخلاف ما يراد جنسه كالطعام والشراب، فإنه ليس في ذلك ما هومارد لذاته، بل المراد دفع ألم الجوع والعطش، أو طلب لذة الأكل والشرب. وهذا حاصل بنوع الطعام والشراب، لا يتوقف على معين بخلاف ما هو مارد ومحبوب لذاته، فإنه لا يكون إلا معيناً. أن يقال: اليهود عندهم نوع من المعرفة بالحق لكن بلا عمل به، بل مع بغض له ونفور عنه واستكبار. والنصارى معهم نوع من المحبة والطلب والإرادة، لكن بلا علم، بل مع ضلال وجهل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون» . رواه الترمذي وصححه. وأمرنا الله أن نقول في صلاتنا: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} آمين. فإن النعمة المطلقة لا تحصل إلا بمعرفة الحق واتباعه، وإذا كان كذلك، والإنسان يحتاج إلى هذا وهذا، فطرته السليمة: إما أن تكون مقتضية لمعرفة الحق دون العلم به، أو للعمل به دون معرفته، أو لهما، أو لا لواحد منهما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 467 فإن كان الرابع: فيلزم أن يستوي عندها الصدق والكذب، والاعتقاد المطابق والفاسد، وإرادة ما ينفعها وإرادة ما يضرها، وهذا خلاف ما يعلم بالحس الباطن والظاهر وبالضرورة. وإن كان الثالث: فيلزم أن يستوي عندها مع العمل أن تعلم وأن تجهل، وأن تهتدي وأن تضل، وأن لا يكون فيها مع استواء الدواعي الظاهرة ميل إلى أحدهما، وهوأيضاً خلاف المعلوم بالحس والضرورة. وإن كان الثاني: فيلزم أن يستوي عندها إرادة الخير النافع والشر الضار دائماً، إذا استوت الدواعي الخارجة. هو أيضاً خلاف الحس الباطن والظاهر، وخلاف الضرورة. فبين أنه لا يستوى عندها هذان، بل يترجح عندها هذا وهذا جميعاً. وحينئذ فلا تكون مفطورة لا على يهودية ولا على نصرانية، فعلى المجوسبة أولى، ويلزم أن تكون مفطورة على الحنيفية المتضمنة لمعرفة الحق والعمل به، وهو المطلوب. فصل في قوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " فصل في قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون قالت الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، وللناس في هذه العبادة التي خلقوا له قولان: أحدهما: أنها وقعت منهم. ثم هؤلاء منهم من يقول: جميعهم خلقوا لها. ومنهم من يقول: إنما خلق لها بعضهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 468 والقول الثاني: أنهم كلهم خلقوا لها، ومع ذلك فلم تقع إلا من بعضهم. وهؤلاء حزبان: حزب يقولون: إن الله لم يشأ إلا العبادة، لكنهم فعلوا ما لا يشاؤه بغير قدرته ولا مشيئته، وهم القدرية المنكرون لعموم قدرته ومشيئته وخلقه. والثاني يقولون: بل كل ما وقع فهو بمشيئته وقدرته وخلقه، لكن هو لا يحب إلا العبادة التي خلقهم لها، ولا يأمر إلا بذلك، فمنهم من أعانة ففعل المأمور به، ومنهم من لم يفعله. واللام عند هؤلاء كاللام في قوله: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} ، وفي قوله: {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين} . وقوله تعالى: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} ، على قول الأكثرين، الذي يجعول (لعل) متعلقة بقوله: (خلقكم) كما قال {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 469 وقوله: {كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين} . وقوله: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما} . وقوله: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم} . وقوله: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} . ومنه قوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} . وقوله: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} ونحو ذلك مما فيه: أن الله يفعل فعلاً لغاية يحبها ويرضاها، ويأمر بها عباده، وإذا حصلت لهم كان فيها نجاتهم وسعادتهم، ثم منهم من يعينه على فعلها، ومنهم من لا يفعلها، فإن هذا قد أشكل على طائفة من الناس، وقالوا: كيف يفعل فعلاً لغاية مع علمه أنها لا تحصل؟. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 470 فيقال: الغاية التي يراد الفعل لها هي غاية مرادة للفاعل، ومراد الفاعل نوعان: فإنه تارةً يفعل فعلاً ليحصل بفعله مراده، فهذا لا يفعله، وهو يعلم أنه لا يكون. والله تعالى يفعل ما يريد، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولكن الله يفعل ما يريد. وتارةً يريد من غيره أن يفعل فعلاً باختياره، لينتفع ذلك الفاعل بفعله، ويكون ذلك محبوباً للفاعل الأول، كمن يبني مسجداً ليصلي فيه الناس، ويعطيهم مالاً ليحجوا به ويجاهدوا به، وسلاحاً ليجاهدوا به، ويأمرهم بالمعروف ليفعلوه، وينهاهم عن المنكر ليتركوه، وهم إذا فعلوا ما أراد لهم ومنهم، كان صالحاً لهم، وكان ذلك محبوباً له، وإن لم يفعلوا ذلك، لم يكن صلاحاً لهم ولا حصل محبوبه منهم. ثم هذا قد لا يكون قادراً على فعل ما أمروا به اختياراً. ولهذا زعمت القدرية النافية أن الرب ليس قادراً على هدي العباد، وهو خطأ عند أهل السنة، وقد يكون قادراً، فإنه سبحانه لو شاء لآتى كل نفس هداها: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} . لكن المخلوق قد يعين بعض من أمره لمصلحة له في إعانته، ولا يعين آخر، والرب تعالى قد يعين المؤمنين فيفعلوا ما أمروا به، وأحبه الله منهم، لا يعين آخرين، لما له في ذلك من الحكمة، فإن الفعل لا يوجد إلا بلوازمه وانتفاء أضداده. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 471 وقد يكون في وجود ذلك فوات حكمة له، هي أحب إليه من طاعة أولئك، أو وجود شيء دفعه أحب إليه من حصول معصية أولئك. وحينئذ فإذا أمر العباد ونهاهم، ليطيعوه ويعبدوه، ويفعلوا ما أحبه، وينالوا كمالهم الذي هو غايتهم التي خلقوا لها، جاز أن يقال: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} ، وأن يقال: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} . وأن يقال: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم} . وأن يقال: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} ، ونحو ذلك. وإن كان هو لم يخلق ما أمره به، وإذا خلقهم وخلق لهم ما ينتفعون به، ليعبدوه ويطيعوه، ويشكروه ويذكروه، ويبلغوا الغاية المحمودة في حقهم، التي يحبها ويرضاها لهم - صح أن يقال: إنما خلقهم ليعبدوه، وإن كان هو لم يخلق لكل منهم ما به يصير عابداً له، كما جاز أن يقال: وإنما بنيت المسجد ليصلوا فيه، وإنما أعطيتهم المال ليحجوا ويجاهدوا ونحو ذلك، فإنه ليس من شرط من فعل فعلاً لغاية يفعلها غيره، أن يكون هو فاعلاً لتلك الغاية. ثم إذا علم أن كثيراً من هؤلاء لا يصلي ولا يحج ولا يجاهد، وإن من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 472 يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لا يطيعه، لم يمنع ذلك أن يفعل ما يفعل، ويأمر بما يأمر به، لأن نفس ذلك الفعل وذلك الأمر مصلحة له، وهذا موجود في المخلوق والخالق، فإن المخلوق - كالرسول وغيره - يأمر وينهي، وإن كان يعلم أنه لا يطاع، لأن نفس أمره لهم، له فيه مصلحة ومنفعة وثواب، وفيه حكمة في حق المأمور والمنهي. وكذلك يفعل ما يفعل لمصالح الناس، وإن علم أنهم لا يفعلون ذلك، إذا كان له في ذلك أجراً ومثوبة ومصالح أخرى، فإنه إذا كان بعض الناس يصلى في المسجد، وبعضهم لا يصلي فيه، قامت حجته على من لا يصل واستحق العقوبة، وكان قد أزاح عن نفسه العلة، بأن يقال: لم يبن لهم مسجداً يصلون فيه. والخالق تعالى أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأنذر العباد، وأزاح عللهم، وفعل لهم من الأسباب التي بها يتمكنون من الطاعة، أعظم مما يفعله كل آمر غيره بالمأمورين، فليس أحد أزاح علل المأمورين أعظم من الله، فلا تقوم حجة آمر على مأمور، إلا وحجة الله على عباده أقوام، ولا يستحق مأمور من آمره ذماً ولاعقاباً لمعصيته إلا واستحقاق عصاة الله لأمره أعظم استحقاقاً وذماً، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ولا ييسر أمر على مأموريه ويرفع عنهم ما لا يطيقونه، إلا والله تعالى أعظم تيسيراً على مأموريه وأعظم رفعاً لما لا يطيقونه عنهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 473 وكل من تدبر الشرائع، لا سيما شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وجد هذا فيها أظهر من الشمس. ولهذا قال في آية الصيام: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} . وقال في آية الطهارة: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} . وقال: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» . وهو سبحانه يسقط الواجبات إذا خشي المريض زيادة في المرض أو تأخر البرء، فيسقط القيام في الصلاة، والصيام في شهره، والطهارة بالماء كذلك، بل المسافر مع تمكنه من الصيام أسقطه عنه في شهره، وقال: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 474 والشريعة طافحة بهذا وأمثاله، وهو سبحانه مع ذلك هو رب كل شيء ومليكه وخالقه، فلا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته، وهو سبحانه محسن متفضل إلى من أمرهم ونهاهم بقدر زائد لا يقدر عليه، ولا يفعله غيره، وهو أن جعلهم مؤمنين مسلمين مطيعين، وهذا لا يقدر عليه غيره من الآمرين الناهين، وهو في ذلك محسن إليهم منعم عليهم نعمة ثانية، غير نعمته بالإرسال والبيان والإنذار، فهذه نعمة يختصمون بها غير النعمة المشتركة. وأما الكفار فلم ينعم عليهم بمثل ما أنعم به على المؤمنين، ومن لم ينعم ويحسن بمثل ذلك، لم يكن قد أساء وظلم مع الإقدار والتمكين وإزاحة العلل، إذا كان له في ترك ذلك حكمة بالغة، لو فعل بهم مثلما فعل بالأولين، بطلت تلك الحكمة التي هي أعظم من طاعتهم، وحصلت مفسدة أعظم من مفسدة معصيتهم. فمن وجه ليس ذلك بواجب عليه لهم، ومن وجه له في ذلك حكمة بالغة لا تجتمع هي ومساواتهم بأولئك، فتقتضي الحكمة ترجيح خير الخيرين، بتفويت أدناهما، ودفع شر الشرين بالتزام أدناهما. وقول القائل: كيف يفعل فعلاً لغاية مع علمه أنها لا تحصل؟ جوابه: أن ذلك إنما يمتنع إذا كان ليس مراده إلا تلك الغاية فقط، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 475 فإذا لم تحصل لم يحصل ما أراده، ومن فعل شيئاً لأجل مراد يعلم أنه لا يحصل كان ممتنعاً. وبهذا يبطل قول القدرية الذين يقولون: لم يرد إلا المأمور، وما سواه واقع بغير مراده، وخلق الخلق لذلك المراد بعينه، مع علمه أنه لا يكون، وهذا تناقض. يقولون: يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء. وأما أهل السنة الذين يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا يقع إلا ما شاءه، وإن وقع ما لم يحبه ويأمر به، فلحكمة له في ذلك باعتبارها خلقه، ولولا الغاية التي يريدها به لم يخلقه، فلا إشكال على قولهم. وإذا علم أن الرب له مراد بما أمره، وله مراد بما خلقه، فإذا لم يحصل ما أمر به فقد حصل ما خلقه، فما حصل إلا مراده، وهو لم يخلق ذلك المعين الذي أمر به، لئلا يستلزم عدم مراد أحب إليه منه وهو ما خلقه، وقد يكون ذلك المأمور يستلزم تفويت مأمور آخر هو أحب إليه منه. مثاله أن فرعون لو أطاع لم يحصل ما حصل من الآيات العظيمة، التي حصل بها من المأمور ما هو أعظم من إيمان فرعون. وصناديد قريش لو أطاعوا لم يحصل ما حصل من ظهور آيات الرسول، ومعجزة القرآن، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 476 وجهاد المؤمنين الذي حصل به من طاعة الله ومحبوبه ما هو أعظم عنده من إيمان صناديد قريش. وعلى هذا فيجوز أن يقال: إن الله إنما خلق الجن والإنس ليعبدوه، فإنه هذا هو الغاية التي أرادها منهم بأمره، وبها يحصل محبوبه، وبها تحصل سعادتهم ونجاتهم، وإن كان منهم من لم يعبده، ولم يجعله عابداً له، إذا كان في ذلك الجعل تفويت محبوبات أخر، هي أحب إليه من عبادة أولئك، وحصول مفاسد أخر، هي أبغض إليه من معصية أولئك. ويجوز أيضاً أن يقال: {ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} ، فإنه أراد بخلقهم صائرون إليه من الرحمة والاختلاف. ففي تلك الآية ذكر الغاية التي أمروا بها، وهنا ذكر الغاية التي إليها يصيرون، وكلاهما مرادة له، تلك مرادة بأمره، والموجود منها مراد بخلقه وأمره. وهذه مرادة بخلقه، والمأمور منها مراد بخلقه وأمره. وهذا معنى ما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: {إلا ليعبدون} ، قال: معناه إلا لآمرهم أن يعبدوني الجزء: 8 ¦ الصفحة: 477 وأدعوهم إلى عبادتي، واعتمد الزجاج هذا القول، فرواه ابن أبي نجيح عن مجاهد: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، قال: لآمرهم وأنهاهم. وروى سليمان بن عامر عن الربيع بن أنس، قال: ما خلقتهما إلا للعبادة. وأما من قال: المراد: المؤمنون، فروى ابن مصلح عن الضحاك في قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، قال هي خاص للمؤمنين. وأمامن قال: كلهم وقعت منهم العبادة التي خلقوا لها. فروي الوالبي عن ابن عباس: إلا ليعبدون: إلا ليقروا لي بالعبودية طوعاً وكرهاً. وقال السدي: خلقهم للعبادة، فمن العبادة تنفع، ومن العبادة عبادة لا تنفع: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} هذا منهم عبادة، وليس تنفعهم مع شركهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 478 وروى ابن أبي زائدة، عن ابن جريج في قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، قال: إلا ليعرفون. روى هذه الأقوال ابن أبي حاتم بأسانيده إلا قول علي. وذكر الثعلبي عن مجاهد: إلا ليعرفون. قال: ولقد أحسن في هذا القول، لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. ودليل هذا التأويل قوله: {ولئن سألتهم من خلقهم} الآيات، قال: وروى حبان عن الكلبي: إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، بيانه: قوله: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} ، فعلى هذه الأقوال أن جميع الإنس والجن عبدوه وعرفوه ووحدوه، وأقروا له بالعبودية طوعاً وكرهاً. والأولون لا ينكرون ما أثبته هؤلاء، لكن يقولون: ليست هذه هي العبادة التي خلقوا لها، وإن كان قد وجد من جميعهم معرفة به، وإقرار به، وعبودية له طوعاً وكرهاً. وهذا يبين أن جميع الإنس والجن مقرون بالخالق معترفون به مقرون بعبوديته طوعاً وكرهاً، وذلك يقتضي أن هذه المعرفة من لوازم نشأتهم، وأنه لم ينفك عنها أحد منهم، مع العلم بأن النظر المعين الذي يوجبه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 479 الجهمية والمعتزلة لا يعرفه أكثرهم، فعلم بذلك ثبوت المعرفة والإقرار بدون هذا النظر. وقد روى ابن جريج عن زيد بن أسلم: إلا ليعبدون قال: جبلهم على الشقاء والسعادة. وكذلك عن وهب بن منبه: {إلا ليعبدون} قال: جبلهم على الطاعة وجبلهم على المعصية، ذكرهما ابن أبي حاتم؟ وعلى هذا فيكون المراد بالعبادة دخولهم تحت قضائه وقدره، ونفوذ ميشئته فيهم. وقد فسر بهذا ما رواه الوالبي عن ابن عباس حيث قال: إلا ليقروا لي بالعبودية طوعاً وكرهاً. قال الثعلبي: (فإن قيل: كيف كفروا، وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته؟ قيل: إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم، لأن قضاءه جار عليهم، لا يقدرون على الامتناع منه إذا نزل لهم، وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمر به، فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه) . قلت: وهذا المعنى - وإن كان في نفسه صحيحاً، وقد نازعت القدرية في بعضه - فليس هو المراد بالآية. فإن جميع المخلوقات - حتى البهائم والجمادات - بهذه المنزلة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 480 وأيضاً فالعبادة المذكورة في عامة المواضع في القرآن لا يراد بها هذا المعنى. وأيضاً فإن قوله: {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} ، دليل على أنه خلقهم ليعبدوه، لا ليرزقوا ويطعموا، بل هو المطعم الرازق، وإطعامه لهم ورزقه إياهم، هو من جملة تدبيرهم وتصريفهم، الذي قد جعله أهل هذا القول عبادةً له، فتكون العبادة التي خلقوا لها كونهم مرزوقين مدبرين، وهذا باطل. وأيضاً: فقوله {ليعبدون} يقتضي فعلاً يفعلونه هم. وكونه يربيهم ويخلقهم، ليس فيه إلا فعله فقط، ليس في ذلك فعل لهم. ويلي هذا القول في الضعف قول من يقول: إنهم كلهم عبدوه، أو أن الآية خاصة فإنه هذه أقوال ضعيفة، كما أن قول القدرية الذين يقولون: إنه ما كان منهم كان بغير مشيئته وقدرته وإنه لم يشأ إلا العبادة فقط، وما كان غير ذلك فإنه حاصل بغير مشيئته وقدرته - قول ضعيف. والناس لما خاضوا في القدر صارت الأقوال المتقابلة تكثر فيه، وفي تفسير القرأن بغير المراد، وهو مما «نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم حيث خرج عليهم وهم يتنازعون في القدر: هذا قول: ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول: ألم يقل الله كذا؟ فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 481 والمقصود هنا أنه من المعروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به، مع أن جمهور الخلق لا يعرفون النظر الذي يذكره هؤلاء، فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن، وأنه من لوازم خلقهم، ضروري فيهم، وإن قدر أنه حصل بسبب، كما أن اغتذاءهم بالطعام والشراب هو من لوازم خلقهم، وذلك ضروري فيهم. وهذه هو الإقرار والشهادة المذكورة في قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} . فإن هذه الآية فيها قولان: من الناس من يقول: هذا الإشهاد كان لما استخرجوا من صلب آدم، كما نقل ذلك عن طائفة من السلف، ورواه بعضهم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره الحاكم، لكن رفعه ضعيف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 482 وإنما المرفوع الذي في السنن، كأبي داود، والترمذي، وموطأ مالك، من حديث أبي هريرة ومن حديث عمر: هو أنهم استخرجهم، ليس في هذه الكتب أنهم نطقوا ولا تكلموا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 483 ولكن في حديث أبي هريرة أنه أراهم آدم. وفي حديث عمر وغيره أنه قال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار. ففيها إثبات القدر وأن الله علم ما سيكون قبل أن يكون، وعلم الشقي والسعيد من ذرية آدم، وسواء كان ما استخرجه فرآه آدم هي وأمثالهم أو أعيانهم. فأما نطقهم فليس في شيء من الأحاديث المرفوعة الثابتة، ولا يدل عليه القرآن، فإن القرآن يقول فيه: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم} ، فذكر الأخذ من ظهور بني آدم - لا من نفس آدم - وذرياتهم يتناول كل من ولده، وإن كان كثيراً، كما قال تمام الآية: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} . وقال تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض} ، وقال: {ذرية من حملنا مع نوح} ، وقال: {ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون} ، إلى قوله: {وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس} ، فاسم الذرية يتناول الكبار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 484 وقوله: {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} ، فشهادة المرء على نفسه في القرآن يراد بها: إقراره. فمن أقر بحق عليه فقد شهد به على نفسه. قال تعالى: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} ، وهذا مما احتج به الفقهاء على قبول الإقرار. وفي حديث ماعز بن مالك: فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أقر أربع مرات. ومنه قوله تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر} ، فإنهم كانوا مقرين لما هو كفر، فكان ذلك شهادتهم على أنفسهم. وقال تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} ، فشهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم، وهو إذاً الشهادة على أنفسهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 485 ولفظ شهد فلان وأشهدته: يراد به تحمل الشهادة، ويراد به أداؤها، فالأول كقوله: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم} ، والثاني كقوله: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} . وقوله: {وأشهدهم على أنفسهم} ، من هذا الثاني، ليس المراد أنه جعلهم يتحملون شهادة على أنفسهم يؤدونها في وقت آخر، فإنه سبحانه في مثل ذلك إنما يشهد على الرجل غيره. كما في قصة آدم لما أشهد عليه الملائكة، وكما في شهادة الملائكة وشهادة الجوراح على أصحابها، ولما ظن بعض المفسرين هذا قال: المراد أشهد بعضهم على بعض. لكن هذا اللفظ حيث جاء في القرآن، إنما يراد به شهادة الرجل على نفسه، بمعنى أداء الشهادة على نفسه، وهو إقراره على نفسه، فالشهادة هنا خبر. وقولهم: {بلى شهدنا} ، هو إقرارهم بأنه ربهم، ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه، ولهذا قال في الآية: {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} ، فقولهم: بلى، معناه: أنت ربنا. وهذا إقرار بربوبيته لهم، وهذا الإقرار هو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 486 شهادة على أنفسهم، أي إنطاقهم بالإقرار بربوبيته، وجعلهم شهداء على أنفسهم بما أقروا به من ربوبيته. وقوله: (أشهدهم) يقتضي أنه هو الذي جعلهم شاهدين علىأنفسهم بأنه ربهم، وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آباؤهم، وهذا الأخذ المعلوم المشهود الذي لا ريب فيه هو أخذ المني من أصلاب الآباء ونزوله في أرحام الأمهات. لكن لم يذكر هنا الأمهات لقوله فيما بعد: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} ، وهم كانوا متبعين لدين آبائهم، لا لدين الأمهات، كما قالوا: {إنا وجدنا آباءنا على أمة} . ولهذا قال: {قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم} ، فهو يقول: اذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مقرين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم، فهذا الإقرار حجة لله عليهم يوم القيامة، فهو يذكر أخذه لهم، وإشهاده إياهم على أنفسهم، إذ كان سبحانه خلق فسوى، وقدر فهدى. فالأخذ يتضمن خلقهم، والإشهاد يتضمن هداه لهم إلى هذا الإقرار، فإنه قال: {أشهدهم} أي جعلهم شاهدين. وقد ذكرنا أن الإشهاد يراد به تحميل الشهادة، كقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} ، أي احملوا هذه الشهادة على هؤلاء المشهود عليهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 487 وهنا لم يقل: أشهدوا على أنفسهم بما أنطقهم به، فيكون هذا إقرار مشهوداً به غير الشهادة، سواء كان شهادة بعضهم على بعض، كما قاله بعضهم أو كان شهادتهم على أنفسهم بما أقروا به، بل شهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم. فالشهادة هي الإقرار، كما قال: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} ، وكما قيل لماعز: شهد على نفسه أربعاً. فإشهادهم على أنفسهم جعلهم شاهدين على أنفسهم، أي مقرين له بربوبيته، كما قال في تمام الكلام: {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} ، فقولهم: بلى شهدنا، هو إقرارهم بربوبيته، وهو شهادتهم على أنفسهم بأنه ربهم وهم مخلوقون به، فشهدوا على أنفسهم بأنهم عبيده. كما يقول الملوك: هذا سيدي، فيشهد على نفسه بأنه مملوك لسيده، وذلك يقتضي أن هذا الإشهاد من لوازم الإنسان، فكل إنسان قد جعله الله مقراً بربوبيته، شاهداً على نفسه بأنه مخلوق والله خالقه. ولهذا جميع بنى آدم مقرون بهذا شاهدون به على أنفسهم. وهذا أمر ضروري لهم لا ينفك عنه مخلوق، وهو مما خلقوا عليه وجبوا عليه، وجعل علماً ضرورياً لهم، لا يمكن أحداً جحده. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 488 ثم قال بعد ذلك: {أن تقولوا} أي كراهة أن تقولوا، ولئلا تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين: عن الإقرار لله بالربوبية، وعلى نفوسنا بالعبودية، فإنهم كانوا غافلين عن هذا، بل كان هذا من العلوم الضرورية اللازمة لهم، التي لم يخل منها بشر قط، بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية، ولكن قد يغفل عنها كثير من بني آدم، من علوم العدد والحساب وغير ذلك، فإنها إذا تصورت كانت علوماً ضرورية، لكن كثير من الناس غافل عنها. وأما الاعتراف بالخالق فإنه علم ضروري لازم للإنسان، لا يغفل عنه أحد بحيث لا يعرفه، بل لا بد أن يكون قد عرفه، وإن قدر أنه نسيه، ولهذا يسمى التعريف بذلك تذكيراً، فإنه تذكير بعلوم فطرية ضرورية قد ينساها العبد. كما قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} ، وفي الحديث الصحيح: «يقول الله للكافر: فاليوم أنساك كما نسيتني» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 489 ثم قال: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} ، ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد. إحداهما: {أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} . فبين أن هذا علم فطري ضروري، لا بد لكل بشر من معرفته، وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل، وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري، وهو حجة على نفي التعطيل. والثاني: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} ، فهذا حجة لدفع الشرك، كما أن الأول حجة لدفع التعطيل. فالتعطيل مثل كفر فرعون ونحوه، والشرك مثل شرك المشركين من جميع الأمم. وقوله: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} : وهم آباؤنا المشركون، وتعاقبنا بذنوب غيرنا؟ وذلك لأنه قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين، وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذى الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم، إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية، ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 490 أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، اتبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم. فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم، فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء، كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية. كما قال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها. وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد، حجة في بطلان الشرك، لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا. وهذا لا يناقض قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ، فإن الرسول يدعو إلى التوحيد، لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع، لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم، فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم. ومعرفتهم بذلك، وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم، به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله، فلا يمكن أحداً أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلاً، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني، لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له، فلم يكن معذوراً في التعطيل ولا الإشراك، بل قام به ما يستحق به العذاب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 491 ثم إن الله بكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال رسول إليهم، وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب، كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول، فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب، والرب تعالى مع هذا لم يكن معذباً لهم حتى يبعث إليهم رسولاً. والناس لهم في هذا المقام ثلاثة أقوال، قال بكل قول طائفة من المنتسبين إلى السنة، من أصحاب الأئمة الأربعة، أصحاب أحمد وغيره. طائفة تقول: إن الأفعال لا تتصف بصفات تكون بها حسنة ولا سيئة البتة. وكون الفعل حسناً وسيئاً إنما معناه أنه منهي عنه أو غير منهي عنه، وهذه صفة إضافية لا تثبت إلا بالشرع، وهذا قول الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، كالقاضي أبي يعلى وأتباعه، وهؤلاء لا يجوزون أن يعذب الله من لم يذنب قط، فيجوزون تعذيب الأطفال والمجانين. وطائفة تقول: بل الأفعال متصفة بصفات حسنة وسيئة، وأن ذلك قد يعلم بالعقل ويستحق العقاب بالعقل، وإن لم يرد سمع، كما يقول ذلك المعتزلة، ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم،: أبي الخطابي وغيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 492 وطائفة تقول: بل هي متصفة بصفات حسنة وسيئة تقتضي الحمد والذم، ولكن لا يعاقب أحداً إلا بلوغ الرسالة، كما دل عليه القرآن في قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} . وفي قوله: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} . وقال تعالى لإبليس: {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} . وهذا أصح الأقوال، وعليه يدل الكتاب والسنة، فإن الله أخبر عن أعمال الكفار بما يقتضي أنها سيئة قبيحة مذمومة، قبل مجيء الرسول إليهم، وأخبر أنه لا يعذبهم إلا بعد إرسال رسول إليهم. وقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} حجة على الطائفتين. وإن كان نفاة التحسين والتقبيح العقلي يحتجون بهذه الآية على منازعيهم، فهي حجة عليهم أيضاً فإنهم يجوزون على الله أن يعذب من لا ذنب له ومن لم يأته رسول، ويجوزون تعذيب الأطفال والمجانين الذي لم يأتهم رسول، بل يقولون: إن عذابهم واقع. وهذه الآية حجة عليهم، كما أنها حجة على من جعلهم معذبين بمجرد العقول من غير إرسال رسول. والقرآن دل على ثبوت حسن وقبح قد يعلم بالعقول، ويعلم أن هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 493 الفعل محمود ومذموم، ودل على أنه لا يعذب أحداً بعد إرسال رسول. والله سبحانه أعلم. كلام أبي محمد بن عبد البصري وقال الشيخ أبو محمد بن عبد البصري في كتابه في أصول السنة والتوحيد: (فصل في الخلق على الفطرة. قال: وخلق الله الخلق على الفطرة، وهو قوله سبحانه: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} ، وهي الإقرار له بالربوبية، مع معرفة الوحدانية، وذلك أنه سبحانه خلق الخلق على علم منه بهم، مشاهد لما يؤول أمرهم وعواقبهم إليه، فخلقهم على ما علم منهم وشاء، غير مؤمنين ولا كافرين صبغةً، بل مقرين عارفين، لا موحدين ولا جاحدين. وكذلك قد روي في الأثر، بقول الله تعالى: خلقت خلقي حنفاء مقرين، لا منكرين ولا موحدين، وذلك إثبات ونفي الجبر، فثابت في نظره وعلمه عامة عواقبهم، وله التحكم فيهم، وهو أعدل من أن يضطرهم إلىكفر وغيره، فيبطل بذلك الكسب، وإذا بطل الكسب بطل التكليف والامتحان، إذ التكليف لا يكون جبلاً، ولا يقع اضطراراً وجبراً، ولا يكون إلا اختياراً، إذ قد أمروا بها، وأنزل الكتب وأرسل الرسل، وكل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 494 ما منه حق غير عابث، عدل غير ظالم، عالم لا يخفى عليه شيء، شاء لم يزل يشاء أن يثبتهم ويعاقبهم على أفعال تكون كسباً لهم. وهو عادل في عباده: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} . وقال عز من قائل: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} مع ما أنه لم يزل مالكاً لهم، وقادراً عليهم، ومتصرفاً فيهم، لا غناء لهم عنه، ولا محيص لهم منه، فخلقهم عز وجل على الفطرة كما أخبر، وخلق الأعمال كما ذكرنا، ولم يضطر أحداً إلى شيء من ذلك، ولو خلقهم كفاراً صبغةً لما قال لهم: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم} ، إذ لا يليق بالحكيم أن يخلق صبغةً ويغير نفس ما خلق من غير كسب. وقال سبحانه: {أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين} ، ولو خلقه كافراً لما صح منه الإيمان، وكان معذوراً مدلياً بحجته، والله تعالى يقول: {لا تبديل لخلق الله} ، وكان ذلك تكليف ما لا يطاق، كما أن يصرف الأسود فيقال له أبيض، والأبيض أسود، وذلك مستحيل من حكيم. وأما قوله سبحانه: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 495 مؤمن} ، يعني: أنه خلق الكل وقد اعترفوا به بذلك، فمنهم من شكر خالقه واعترف له بالنعم، وبالإخراج من العدم إلى الوجود، فحقق فعله، وقبل من رسله، ووحد ربه. ومنهم من كفر ولم يشكر خالقه، وأشرك به ما لا يجوز له، وكذب برسله، فصار كافراً بفعله. وقد روي نحو من هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكراً وإما كفوراً» . وقد قال تعالى: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} ، فلما امتثل ذلك قوم، وعدل عنه آخرون، كانوا هم المرادين من قوله: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} . وقد قال سبحانه في حال المؤمنين {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} ، فأخبر أنه فعل ذلك بهم بعد ما خلقهم، ولم يقل: خلقكم مؤمنين: وكره إليكم الكفر، فدل على أنه لم يفعل بالكافر ما فعل بالمؤمن، وذلك أبلغ دليل على أنهم لم يخلقوا صبغة: كافرين ولا مؤمنين) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 496 إلى أن قال: (وقد رأينا على الكفر برهة ثم آمن، ومن كان مؤمناً ثم كفر. ولو كان ذلك صبغةً لما انتقلوا، ولما كان من الكسب صح عليه النقلة والتحويل، وقد قال تعالى: {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم} ، فأضافه إليهم حقيقة. وقال: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا} ، {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا} ، ألا ترى أنهم لما لم يخلقوا صبغة كفاراً نفعهم إيمانهم؟. ولما قال فرعون (آمنت) لم ينفعه. وقد أشفى في الحديث بما فيه مقنع بقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، وهو إجماع المسلمين أن الكافر لا يعاقب ويجلد على ما خلق، إنما يعاقب ويجلد على نيته وكسبه، وهو موضع إيثارهم لما نهاهم عنه، على ما أمرهم به من الإيمان، فكان تكذيبه لهم على كسب اكتسبوه، وفعل فعلوه، ونهي ارتكبوه، وأمر خالفوه، وهو ما أحدثوه، لا شيء جبلوا عليه ولا اضطروا له، ولا خلقوا مجبولين عليه، إذ لو خلقهم كفاراً لكانوا إلى ذلك مضطرين، ولم يقل بذلك أحد من المسلمين. ألاترى أنه لما خلقهم علىمعرفة لم يصح لهم ولم يقع غير ذلك، ولم يثابوا على ذلك؟ أعني: معرفة الربوبية، وهي الفطرة، ووجدنا الكفر يصح النقل عنه إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 497 الإيمان، ويقع الارتداد عن الإيمان إلى الكفر، فكان كمعرفة التوحيد الذي يقع اختياراً. وقال سبحانه: {فمنهم من آمن ومنهم من كفر} ولم يقل: منهم من خلقت مؤمناً، ومنهم من خلقت كافراً. وقال سبحانه: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} ، فأعلمنا أن كذبهم وكفرهم هو كسبهم الذي حرمهم البركات، وعليه توعدهم بالعقوبات، وكون الكافر مخلوقاً كافراً صراح بالجبر، ومن قال: ما سبق في العلم والنظر ولا هو داخل في القضاء والقدر، فهو قدري رديء. وقد لعنت القدرية والمرجئة، وكذلك المجبرة، والله لا يجبر أحداً على فعل، إذ لو جبر لكانوا عن التكليف خارجين كما جبلت الملائكة على الطاعة. وقد قال سفيان، وأحمد، وسهل، والإمام، وأهل العلم: (إن الله لا يجبر على طاعة ولا على معصية، وهو الجبار الذي جبر القلوب على فطرتها) . إلى أن قال: (قال سبحانه: {وما ربك بظلام للعبيد} ، مع كونه سبحانه فعالاً لما يريد، وليس معنى (شاء) معنى (علم) ، ولا معنى (علم وشاء) معنى (خلق) ، فشاءهم وعلمهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 498 وقدرهم وقضاهم مؤمنين وكافرين في حكم الكينونة، وهي العواقب التي لم يزل بها عالماً، وعليها قادراً، ولها شائياً، ولم يخلقهم في العبودية والدينونة والبنية والتركيب كفاراً، ولا إقراراً للزوم المطالبة والعبودية، ومحال أن يخلقهم لذلك ويتعبدهم، ويطالبهم، كما زعم أهل الإجبار، من ضرار وأصحابه، وسالكي البدعة، والمضاهي لهم بالعدوان والطغيان، والمغترين المحيلين على الأقدار، والمتمسكين بمعاذير ليست لهم بأعذار، لم يؤمنوا أن الأعمال محصاة، والعواقب مشهودة، وأعمالهم في القبضتين داخلة، وإلى المعبود صائرون، وعلى اكتسابهم محاسبون، وبها مؤاخذون. قال أصدق القائلين: {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} ، وهل الكفر وغيره إلا عملان وكسبان؟ فمن زعم أنه ما سبق في علمه عواقبهم، وما قضى عليهم بما وجد منهم، ولا شاء ذلك في ملكه، ولا خلق أعمالهم، ولا أحصى سكونهم وحركاتهم، ولا شهد في القدم إلى ما إليه صائرون - فهو قدري ومعتلي، مكابر معتزلي، مدعي الحول والقوة، وأن الأمر إليه. ومن زعم أن كلفهم صبغةً، وجبرهم على الأفعال، وجعل كسبهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 499 مجازاً، وأعمالهم لا صنع لهم فيها - فهو أخس القدرية، وأعتى المجبرة، وهو الغالي في دين الله، المرجىء المحيل بمعاصيه على ربه، وبفجوره على من تقدس عن كسبه، بل تنزه عما يقول الظالمون، ولم يزل عليماً شائياً، حكيماً عادلاً متفضلاً، منصفاً محققاً، مجبراً خالقاً، آمراً ناهياً، غير عابث ولا تارك لأمورهم سدى، ولا لها مهملاً، فخلق الكافر على الفطرة، وخلق كفره وشاءه في ملكه، ولم يجبره عليه ولا اضطره إليه، ولم يتوله، بل تبرأ منه، وتركه معه، ونهاه عن اعتقاده والتلبس به وبفعاله، وجعل له قدرةً واستطاعةً على كسبه، وتركه مع هواه، فلما دخل تحته، واعتقده في نفسه، واتصل به، واختاره وأحبه - كان كما ذكرنا في الجمع والتفرقة، والخلقة والكسب، فصار بما اعتقد واكتسب، كافراً، وسمي فاجراً، ولا هو لنفسه خالقاً، ولا لكفره مخترعاً، بل له مكتسباً، وبه اجتمع ففارق الإيمان والإحسان الذي أمر بمواصلتهما، فصار لذلك مجانياً، وخالط الكفر فصار فيه والجاً، فتوجه نحوه التهديد، ولزمه الوعيد، فألزمه ما اكتسب، ورده إل ىما علم، وأدخله في وعيده، واستحق عقوبته، وخلده بنيته: {وما ربك بظلام للعبيد} . وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين» . وهذا نص من صاحب الشريعة جلي واضح لا شبهة فيه، يسفر عن إيضاح ما أوردناه، حنفاء عارفين على فطرته، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 500 وهي معرفة ربوبيته، والإقرار بوحدانيته، لا يقع بذلك كفر ولا إيمان، بل ذلك عليهم طارىء بالحكم الجاري، فخلق الكل على الفطرة، وأمر الكل بالإيمان، لصحة الدعوة، وعموم النصيحة، وأقدر الكل على ما أمر وأراد) . تعليق ابن تيمية قلت: فهذا الكلام يوافق قول من قال: خلقهم على الفطرة، التي هي المعرفة والإقرار بالصانع، وأن ذلك لا يصير به العبد مؤمناً ولا كافراً، وقد أبطل من يقول: إنهم خلقوا على الكفر والإيمان، وهو ظاهر القول الذي تقدم عن طائفة من العلماء. وصاحب هذا الكلام يقول: الذي خلقوا عليه من المعرفة والإقرار لا يمكن تغييره. وهذا موافق لقول من قال: لا تبديل لخلق الله - إنها بمعنى الخبر. لكن ذاك يقول: إنهم لا يخلقون إلا على الفطرة، لا يبدل الخلق، فيخلقون على غير ذلك. وصاحب هذا الكلام يقول: لايبدل الخلق بعد ذلك، أي: لا يمكن أن يصيروا غير عارفين مقرين بالخلق، بل هذه المعرفة والإقرار أمر لازم لهم، وهو يقول: كل ما خلق عليه العبد فلا يمكن انتقاله عنه، وهو يثبت القدر، وأن الله خالق أفعال العباد، وينكر أن يكونوا جبلوا على ذلك واضطروا إليه أو جبروا عليه. فأما الكلام في الجبر فهو مبسوط في غير هذا الموضع، وقد بينا أن مذهب الأئمة، كالأوزاعي والثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم، أنهم ينكرون إثبات الجبر ونفيه معاً. ومذهب الزبيدي وطائفة: نفي الجبر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 501 وإنكار إثباته فقط، وهو موافق لهذا الكلام. وأما ما حكاه أحمد ونحوه: أن الله لا يجبر على طاعة ولا معصية - فهو حكاه بحسب ما بلغه واعتقده. والمنصوص الصريح عنه الإنكار على من قال: جبر. وعلى من قال: لم يجبر. وفي الجملة الكلام في هذا الباب له موضع آخر. والمقصود هنا ما ذكره في تفسير الفطرة، وأنه فسر ذلك بأن الخلق فطروا على المعرفة والإقرار. وأما قوله: (إن ذلك ليس بإيمان، وإن ذلك لا يمكن تحويله) فقد قدمنا الكلام على ذلك، وبينا أن النصوص تدل على أن ما ولدوا عليه يتغير، وإن كان ذلك بقضاء الله وقدره، كما تغير الشاة المولودة سليمة بجدع الأنف والأذن. والمقصود هنا كلامه في أن المعرفة بالصانع فطرية ضرورية، وقد بسط ذلك مستوفياً في أول كتابه. وهذا الشيخ أبو محمد بن عبد البصري المالكي، طريقته طريقة أبي الحسن بن سالم وأبي طالب المكي، وأمثالهما من المنتسبين إلى السنة والمعرفة والتصوف، واتباع السلف وأئمة السنة والحديث، كمالك وسفيان الثوري وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي وأحمد بن حنبل وأمثالهم. وكذلك ينسبون إلى سهل ابن عبد الله التستري وأمثاله من الشيوخ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 502 تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية قال أبو محمد في كتابه هذا الذي صنفه في أصول السنة والتوحيد، قال: (وكان إجماع السلف والخلف، وأئمة الدين وفقهاء المسلمين، من شرق وغرب، وسهل وجبل، وسائر أقاليم الإسلام، من مغرب ومصر وشام وعراق وحجاز ويمن وبحر وخراسان مجتمعين: على أن عقيدة السنة أربع عشرة خصلة: سبعة متعلقة بالشهادة، وهي مما يدان بها في الدنيا، وسبعة متعلقة بالغيب وهي مما يؤمن بها من أحكام الآخرة. فالتي في دار الدنيا: القول مع الاعتقاد بأن الإيمان: قول وعمل ونية، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأن القرآن غير مخلوق، وتخيير الأربعة على الترتيب، وإثبات الإمامة، وترك الخروج على أحد منهم، والصلاة على من مات من أهل القبلة، وترك المراء والجدل. والمتعلقة بالآخرة: الإيمان بأحكام البرزخ، والآيات التي بين يدي الساعة، والبعث بعد الموت، ورؤية الله تعالى، والإيمان بالحوض والشفاعة والصراط والميزان، وخلود الدارين، فمن خالف شيئاً من هذا فقد خالف اعتقاد السنة والجماعة، وهذا مما لا شبهة فيه بين أصحاب الحديث والفقهاء والعلماء من سائر الأقاليم. وسنتكلم على كل مسألة بذاتها، ونقيم الدليل على ذلك من كتاب وسنة ونظر، وبه التوفيق والمعونة، وهو حسبنا ونعم الوكيل، لا غناء بنا عنه طرفة عين ولا أقل من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 503 ذلك، إذ قد أدبنا وعلمنا كيف نقول، فقال: {إياك نعبد وإياك نستعين} ، إثباتاً للمجاهدة، وفقراً إلى المعونة منه سبحانه. فأول الكلام الواقع في الخلاف في المعارف، فجمهور قول المعتزلة أن جميعها اضطرار) . قلت: كأنه بالعكس وأظن الغلط في النسختين: المعتزلة. (وقال ابن كلاب وطائفة: جميعها اكتساب. وقول أصحاب الحديث: إن منها اضطراراً ومنها اكتساباً، وكان الأصل في ذلك أن المعرفة اسم لاضطرار ومكتسب، وكأن الاضطرار راجع إلى معرفة الربوبية والوحدانية، والمكتسب راجع إلى المريد ونحوه. فصل: في معرفة الوحدانية التي جبل الرحمن الرحيم الخلق عليها وبه نستعين. أما معرفة الوحدانية فهي معرفة الصانع القديم، المخترع لأعيان الأشياء، والمتمم تصويره لها على غير مثال، ولا بد لكل مخترع أن يعرف المنعم عليه بالإخراج من العدم إلى الوجود، وهي غير مكتسبة لأنها تعم من يصح منه الكسب ومن لا يصح منه، وهي ضرورة لا اختيار فيها، كما لا كسب فيها، ولا يتوصل إليها بالأسباب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 504 دليل ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} ، يعني: وما من شيء إلا يسبح. قال ابن عباس: حتى النبات الذي خلقه يسبح بحمده. وقال عكرمة: لايسبن أحدكم ثوبه ولا دابته، فما من شيء إلا يسبح بحمده. وروي أن صرير الباب بالتسبيح. وقال سبحانه: {يا جبال أوبي معه والطير} ، وقد روي: سبحي. وقال سبحانه: {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون} ، يعني: صاغرون. وقال سبحانه: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} الآية. وقوله سبحانه: {سبح لله ما في السماوات والأرض} ، وسبح إخبار عن ماض وآت، وإعلام لنا أن كل شيء يسبح بحمده، ويسجد لعظمته، ويعترف بألوهيته ووحدانيته، ولا يجوز أن تسجد الأشياء وتسبح لمجهول. وكذلك اعترافها بفضائل رسله، وما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 505 استفاض من مخاطبات الجمادات له صلى الله عليه وسلم، وسلامها عليه، وحنينها إليه، ومخاطبة الأنعام والوحوش، والطير، والصغار في المهود، وغير ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: «إن البهائم أبهمت إلا عن ثلاث» ، فذكر معرفة بارئها. وهذه الأشياء مما لا يصح فيها الاستدلال والنظر، ولا عقول، ولا اختيار، ولا كسب، وقد عقل معرفتها لبارئها عز وجل، وثبت بالكتاب والسنة. وهذا ظاهر جلي ينفي وجود هذه المعرفة بالوسائط، لأنها حق له عز وجل، ينفي عن نفسه ما شمل سائر البرية من المعلوم والمجهول، لأنه سبحانه خلق الأشياء مجهولة، ثم جلاها بالأسماء، فعرفت من بعد جهلها، وذلك دليل الحدث، فعز عن أن يكون كالحوادث التي عرفت بغيرها. وقال بعض الحكماء كلمات لا سبيل إلى نقضها: وهو أن كل معروف بغير نفسه مجهول، وكل تام بغيره معلول. ولقد أحسن فيما قال وأصاب، إذ معرفته بغيره شهادة قاطعة على وجود علة المجهول فيه، الذي ارتفعت عنه تغيره، الذي لولاه لم يعرف، فصارت معرفته بغيره صارخة بفقره، إلى من ارتفعت عنه علة المجهول، والغير علة، والعلة لا تصحب إلا معلولاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 506 قلت: وقد قرر كلامه صاحبنا الشيخ أبو العباس الواسطي، فقال: (المعنى: أنه لولا وجود زيد ما عرف عمرو، وبوجود زيد زالت الجهالة عن عمرو، فصار زيد مفتقراً إلى وجود عمرو واسمه، لزوال الجهالة عنه به وباسمه، والمعنى: أن المخلوق مفتقر إلى علة يعرف بها، بخلاف الواحد الذي لا نظير له، ولا هو مفتقر إلى علة يعرف به ويقوم بها، بل العباد مفترقون إليه وإلى معرفته) . قال: وهذا إشارة إلى المعرفة الفطرية، فإنه سبحانه لم يعرف فيها بغيره، بل كان هو المعروف بها بنفسه إلى خلقه) . قال الشيخ أبو محمد بن عبد: (فعز ربنا أن يقوم بالعلل، فيصير دليلاً بعد ماكان مدلولاً) . هكذا رأيته في الكتاب، وإنما أراد: (فيصير مدلولاً بعد ما كان دليلاً) . قال: (وقد جاء في الأثر: يقول الله تعالى في بعض الكتب السالفة: أنا الدال على نفسي، ولا دليل أدل علي مني. وقد روى: كنت كنزاً لا أعرف، فأحببت أن أعرف، فأظهرت خلقاً وتعرفت إليه بنفسي فعرفوني. وهذ نص بإزالة العلل، لأنه من ثبت بغيره ونفي بغيره، كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 507 إثباته تخييراً، وتلك علل الحوادث، فهو الثابت بثباته، المعروف بنفسه، لم يعرف من بعد جهل، إذ ذاك تغيير عن الأزل، فهو المعروف أزلياً، والعارفون محدثون، كما أنه إله لم يزل، والمألوهون المقرون له بالإلهية محدثون، ولا يجوز على الإلهية تغيير، ولا أن تقوم لها صفة بالحوادث، وهذه المعرفة تعم سائر البرية من ساكن ومتحرك، وهي جبل كجبل الملائكة على الخدمة، فتلزم مكلفاً وغير مكلف) . قال: (والفصل الثاني: معرفة الربوبية، وهي خاصة للمكلفين من بني آدم، وهي تعم مؤمنهم وكافرهم وسائر فرقهم، وهي ضرورية أيضاً، وهي عن رؤية، وهي قوله سبحانه: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} ، وهذا في غير وقت الكسب والتكليف، فتعرف إليهم بنفسه بلا وسائط ولقنهم التاء وخاطبهم بحرف التعريف، فأقر الكل له بتلك المعرفة، إذ عاينوه جباراً قهاراً، وهي معرفة لا يقع بها إيمان ولا توحيد، لأنها إقرار للضرورة، وليس للكافر فيها اختيار، إذ لو كان له فيها اختيار لجحدها، كما جحد معرفة التوحيد، ولو كانت كسبية لوقع له بها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 508 إيمان وثواب، بلى هي ضرورية يرجع إليها في شدائده، قال تعالى: {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} . وقد أخبر عن الكفار أنهم يعرفونه مع ردهم على رسله. قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} ، وقال سبحانه: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} ، مع آيات كثيرة، وذلك موجود منهم ضرورة، وهم في الجاهلية يعرفونه ولا ينكرونه، ويقولن: إلهنا القديم والعتيق، وإله الآلهة، ورب الأرباب، وغير ذلك، مع كفرهم. فدل ذلك على أن تلك ضرورة ألزموها، وهو قوله تعالى: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها} ، وقول: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} ، يعني: معرفة ربوبيته. وقد جاء في الأثر: يقول الله تعالى: (خلقت خلقي حنفاء مقرين) يعني عرفاء عرفوه بوحدانيته، وأقروا له بمعرفة ربوبيته، وإنما جحدوا معرفة التوحيد الذي تعبدهم بها على ألسنة السفراء، وهو قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} . وقول صاحب الشرع: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 509 إله إلا الله» ، لم يقل: حتى يقولوا: إن ربهم رباً، إذ هم عارفون بذلك. وإنما أمرتهم الرسل أن يصلوا معرفة التوحيد بمعرفة الربوبية والوحدانية فأبوا، وقبل ذلك الموحدون، فقال في حال المؤمنين: {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} ، وقال في حال الكفار: {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} . فالسفراء لهم مدخل في معرفة التوحيد دون معرفة الوحدانية والربوبية، إذ لكل معرفة مقام، فليس للعقل والكسب والوسائط والنظر والاستدلال في هذه المعرفة حكم، لكونها عامة موجودة ممن يصح منه النظر والاستدلال وممن لا يصح منه، فلو كلفهم كلهم النظر والاستدلال، لكان مكلفاً لهم شططاً، إذ لايصح من الكل النظر والاستدلال، ويصح من الكل المعرفة بالاضطرار، فحملهم من ذلك ما رفع به عنهم الشطط. وحديث الجارية فمشهور، وهي مما لا يصح منه النظر والاستدلال. وكذلك الأبله والمجنون وغيرهم، لو سألتهم عن الله سبحانه لأشاروا إليه بما عرفهم، فتعرف سبحانه قبل التكليف بنفسه وبعد التكليف بالسفراء، لأنه لو خطابهم وكاشفهم قبل التكليف بلا سفير لبطل التكليف) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 510 قال: وقد «قال له أبو ذر رضي الله عنه: يا رسول الله، بماذا أقول: عرفت الله؟ فقال: إنك إن قلت بمن فقد أشركت، وإن حلت كفرت، وإن وسطت واسطة ضللت» . وقد قيل لعلي رضي الله عنه: بم عرفت ربك؟ فقال: بما عرفني نفسه، لا يشبه صورةً، ولا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس. وعن ابن عباس حين سأله نجدة الحروري فقال: يا ابن عباس بما عرفت ربك إذ عرفته؟ فأجاب بنحو من جواب أمير المؤمنين. وقول الصديق الأكبر: (سبحان من لم يجعل للخق طريقاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته) . فهذه المعرفة ضرورة للعارف موجودة فيه، كوجود ضرورة المقعد وقعوده موجودة فيه، فهو سبحانه المعروف الذي لا ينكره شيء، والمعلوم الذي لا يجهله شيء، فمن كانت معه معرفتان فهو كافر، وبالمعرفة الثالثة يصح الإيمان، وهو الفصل الثالث: وهي معرفة التوحيد التي دعت الرسل إليها، وبعثوا بها، وكلفنا قبولها، وهي قوله: {وإلهكم إله واحد} ، وهو قوله: {لئلا يكون للناس على الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 511 حجة بعد الرسل} ، وأخبرنا أنه ما كان معذباً قبل بعثتهم، فكانوا يعرفون أن لهم رباً وإلهاً، ولكنهم ينكرون توحيد الإله وبعث رسله وشرائع دينه، وبه وقع منهم الكفر. فوجود ذلك منهم يزيل عنهم معرفة التوحيد، ولا يزيل ضرورتهم، وهذه المعرفة وجبت بالتوقيف، وهي ما وقفتنا الرسل عليه، ودلنا عليه سبحانه، ووفقنا لذلك، وبها يجب الخلود في الجنة، وبعدمها يجب الخلود في النار، وهي مكتسبة ولم تجب بالعقل كما زعمت المعتزلة، لأن هذه المقالة تضاهي مقالة البراهمة، حيث زعمت أن في قوة العقل كفاية عن بعث الرسل، والحق لم يخبر أنه ما كان يعذبهم حتى يرزقهم عقولاً، وإن كان العقل حجة فهو باطن، والرسل حجة الله ظاهرة. وقد قيل لبعض العارفين: بم عرفت الله؟ قال: بالله. فقيل: فأين العقل؟ فقال: العقل عاجز يدل على عاجز. وقد جاء في الأثر: إن الله سبحانه لما خلق العقل، وأقامه بين يديه - وهو حجة من قال: عرف بالعقل - فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: عزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أكرم علي منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أعرف. فتعلق الخصم بهذه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 512 الكلمة، وتمام الحديث: فطفق لا ينطق، فكحله بنور العزة، فقال: أنت الله الذي لا إله إلا أنت، فلم يعرف العقل الله إلا بالله. وإذا كان الله معروفاً من طريق التوحيد بالعقل، فما بال قريش - مع كونها ذوي عقول - يقول الله عنهم إخباراً: {أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب} ؟ فإن كان لا عقل لها فلا حجة عليها، وإن كانت ذوي عقول فما أغنت عنهم عقولهم. وقال سبحانه: {وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم} الآية، وأخبر عنهم أنهم يقولون في النار: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} ، لا خلاف أنهم كانوا ذوي أسماع لا يسمعون بها، وكذلك عقول لا تغني عنهم ولا يستعملونها، فلم تكن مغنية لهم مع تكذيبهم الرسل، فبوجود الرسل صح التكليف، وبالعقل تمثيل ذلك بعد التوفيق، وليس للعقل مدخل فما تقدم من المعارف، وإن كان له ها هنا مدخل، فالأصل الرسل والعقل اتبع ذلك. وأما العقل فله مدخل بالغ في معرفة المزيد، وكذلك العلم، فالعلم بيان الله، والعقل حجة الله، والرسل هم الحجة الظاهرة المبلغة عن الله مراده، والمخبرة بأمره، والداعية إلى سبيله. ولما كان سبحانه لا سبيل إليه. ولا عقول تشرف عليه، ولا لنا طاقة إلى استماع كلامه، لم يكن بد من بعث الرسل لنعلم بها مراد الربوبية منا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 513 وليس هذا للعقل، وإنما للعقل الزوائد والتصرف في المراد المخبر عنه الرسل، فعم سبحانه بمعرفة وحدانيته سائر ما ابتدع، وخص بمعرفة ربوبيته بني آدم كما كرمهم، وخص بمعرفة توحيده المؤمنين، وخص بمعرفة المزيد خواص المؤمنين. وفي هذه المعرفة يتفاوت الناس، فمن كان معه معرفتان كان كافراً، ومن كان معه ثلاث فهو مسلم، فإذا كان أربع كان مؤمناً، فإذا كانت معه خمس كان مؤمناً عالماً، ثم يفاوتون في معرفة المزيد على قدر أحوالهم، وصدق الهمم، واتباع العلم، وقوة اليقين، وصفاء الإخلاص، وصحة المعتقد، ولزوم السنة. فالعقل والعلم والنظر والاستدلال، والافتكار والاعتبار، يكشف عن معرفة المزيد التي يتفاوت فيها العبيد، فمن جعل حكم معرفة في أخرى فقد غلط غاية الغلط، وأوبقه الجهل، ورماه في بحر الحيرة ونقض الآثار، إذ قد ورد في بعضها أنه عرف بنفسه، وفي بعضها بالعلم، وفي بعضها بالعقل، وغير ذلك. فدل على أن كل معرفة لها حكم ومصدر، ومقام وحال، فللكل معرفة الوحدانية والربوبية، وليس للكل معرفة التوحيد. وإذا عمت معرفة التوحيد المسلمين، فليس لكل المسلمين معرفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 514 المزيد، وإذا زعم الخصم أن المعارف المتقدمة وجبت - أي حصلت - بالنظر والاستدلال - فذلك مكابر معاند. فإن احتج بقوله تعالى عن الخليل: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا} ، إلى قوله: {إني بريء مما تشركون} ، فتلك حجة على الخصم لا له، لأنه لو عرف بالنظر والاستدلال لما صح له أن يقال: إني بريء مما تشركون، ولم يحكم النظر والاستدلال، ولا يقول: إني بريء مما تشركون، وإني وجهت وجهي، إلا عارف بربه. تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية وما كان ذلك من الخليل إلا بالرشد السابق الذي خبرت الربوبية عنه، بقوله تعالى: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل} ، وإنما أراد بذلك القول الإنكار على قومه والتوبيخ لهم، إذ كانوا يعبدون الشمس والقمر والنجم من دون الله، فقال ما قال على طريق الإنكار ليعلمهم أن ما جاز عليه الأفول والتغيير من حال إلى حال، لم يكن بإله يعبد ولا رب يوحد. وإنما الإله الذي خلقكم، ولمعرفته فطركم: هو الذي أخبر عنه بقوله: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض} ، وإن كان مخرج الآية مخرج الخبر، فإنما المراد به الاستفهام) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 515 قلت: وذكر ابن عبد أشياء، وإن كان في بعض ما ذكره آثار لا تثبت، وكلام مستدرك، فالمقصود بيان ما ذكره من أن المعرفة فطرية. إلى أن قال: وإنما كان الخليل بقوله منبها لقومه، ومذكراً لهم الميثاق الأول، رداً لهم إلى ضرورتهم، ليصلوا إلى ما انعجم عليها بما هو ضرورتهم وكوشفوا به، وإن كان ذلك من الخليل في طفوليته كم حكي، فأين محل النظر والاستدلال؟ وإن كان في حال رجوليته فمتى التبس هذا الحكم على بعض المؤمنين في زماننا وغيره، حتى يلتبس على الخليل، الذي اصطفاه الله بالخلة من بين العالمين؟! نعوذ بالله من الحيرة في الدين. لا جرم وقال تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} ، ولو أن الله عرف بالعقل لكان معقولاً بعقل، وهو الذي لا يدركه عقل، ولا يحيط به إحاطة، وإنما أمرنا بالنظر والتفكير فيما عرف بالتقدير، لا إلى من: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} ، فعرفنا أن لكل أثراً مؤثراً، ولك بناء بان، ولكل كتابه كاتب من ضرورتنا إلى ذلك، كما عرفنا اضطراراً أن السماء فوقنا والأرض تحتنا، ومعرفة وجودنا، وغير ذلك، إذ يستحيل أن يحدث الشيء نفسه، لعلمنا بأنه في وجوده وكماله يعجز، كيف في عدمه وعجزه؟!) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 516 قال: (والفصل الرابع: وهي معرفة المزيد بالعقل والعلم والاستدلال، وخالص الأعمال مدلول عليها، وإن كان الأصل فضل الله المحض. قال الله تعالى: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} ، وقد روى: معرفة، {وزدناهم هدى} ، {ولدينا مزيد} ، {لئن شكرتم لأزيدنكم} ، فوعد بالزيادات وأخبر عنها، فكلما نصحوا فيما عرفوا، كوشفوا بما غاب عنهم في المقام الثاني من المقام الأول. وفي الحديث: «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم» وكان عمر بن عبد العزيز يقول: (جهلنا بما علمنا تركنا العمل بما علمنا، ولو علمنا بما علمنا لفتح الله على قلوبنا غلق ما لا تهتدي إليه آمالنا. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أراد عزاً بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وعلماً بلا تعلم، فليخرج من ذل معصية الله، إلى عز طاعة الله، فإنه واجد ذلك كله» . وقد روي: «إذا زهد العبد في الدنيا، وكل الله سبحانه بقلبه ملكاً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 517 يغرس فيه آثار الحكمة، كما يغرس أكار أحدكم الفسيل في بستانه» . وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول - ويكتب بذلك إلى عماله-: (احفظوا عن المطيعين لله ما يقولون، فإنه يتجلى لهم أمور صادقة) فكلما استعمل العبد عقله، وعمل بعلمه، وأخلص في عمله، وصفا ضميره، وجال بفهمه في بصيرة العقل، وذكاء النفس، وفطنة الروح وذهن القلب، وقوى يقينه، ونفى شكه، وضبط حواسه بالآداب النبوية، وقام على خواطره بالمراقبة، وتحرى ترك الكذب في الأقوال والأفعال، وصار الصدق وطنه، وذهب عنه الرياء والعجب، وأظهر الفقر والفاقه إلى معبوده، وتبرأ من حوله وقوته، ولزم الخدمة، وقام بحرمة الأدب، وحفط الحدود والاتباع، وهرب من الابتداع، زيد في معرفته، وقويت بصيرته، وكوشف بما غاب عن الأعيان، وصار من أهل الزيادة بحقيقة مادة الشكر الموجبة للمزيد، وهذه المعرفة لا يجب أن تكون ضرورة، ولا أيضاً معرفة التوحيد، إذ لو كانت ضرورة لعمت وبطل الثواب، فلم يجبر سبحانه على معرفة توحيد، وعلى معرفة المزيد، إذ لو كان كذلك لأغنى عن بعث الرسل، وإنزال الكتب، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 518 وإقامة الحجج، وإنما هو الجبار الذي جبر القلوب على فطرتها، وأقامها مع مقدرتها، لم يكلفها فوق الطاقة، ولا شططاً، فجبر على معرفة ربوبيته ووحدانيته، ولم يجبر على ما سوى ذلك من المعارف كما زعمت المجبرة، فمن أهل الكلام من يزعم أن المعارف كلها اضطرار، وذلك غلط. وهو قول جمهور شيوخ الاعتزال والمجبرة وبعض المتشيعة، ومنهم من يزعم أن جميعها اكتساب، وذلك أيضاً غير صواب، وبه يقول القدرية وبقايا الاعتزال وغيرهم، وأصحاب الحديث وأهل الظاهر، فيقولون بالاضطرار والاكتساب. والأمر هو ما ذكرنا، والصواب ما شرحنا، لأن كل مقالة خالفت ما رتبنا فمنقوضة مضطربة، نصرح بإبطالها، ونومي إلى تناقض الأحاديث، فمعارف الاضطرار لا تفاوت فيها، ومعارف الاكتساب يقع فيها التفاوت، ويتفاضل الناس فيها على قدر ما ذكرنا. فلما ثبت أنه القديم الأزلي وحده، وما سواه محدث، وكان القاهر لهم على الاتحاد والفناء، كانت المعرفة لهم من هذا الوجه اضطراراً وجبلاً، وكذلك لما اضطرهم في الذر، وخاطبهم كفاحاً في غير زمان التكليف، لم يجز أن يكون ذلك بكسب، فلما أرسل رسله، وأنزل كتبه، وتعرف على ألسنة السفراء، لم يصح أن يكون ذلك جبراً ولا ضرورة فيسقط الجزء: 8 ¦ الصفحة: 519 التكليف، ولا يكون ذلك موقع الحكمة، ولا ثبوت حجة: {وما ربك بظلام للعبيد} ، وهو الفعال لما يريد، ذو الحكمة البالغة، والعدل الشامل، والفضل الذي يختص به، فعرفناه من حيث وحدانيته وربوبيته، من حيث يعرف، ومن حيث توحيده، ومن حيث وصف ووقف، ومن حيث المزيد، من حيث استعمل ووفق، واختص وتفضل، فلكل معرفة مقام، ولكل مقام حكم، فعم بالأول، وأفراد بالثاني، واختص بالثالث من مقامات المعارف، فمعارف البلغاء بالإصابة، ومعرفة النظر والاستدلال لأهل الرأي والمكايلة والكلام، ومعرفة الفقه للعلماء، والحديث للرواة، والفراسة للحكماء، والمزيد للأنبياء والأولياء، مع مشاركتهم للغير في المعارف، لا يشاركهم غيرهم فيما خصوا به وكوشفوا، فلما استوى الكل في كونهم أحداثاً مربوبين، استووا في تلك المعرفة، ولما وقعت الميزة بالكسب والاختصاص، تباينوا وتفاوتوا في المعارف، وما يعقل ذلك إلا عارف، ولا ينكره إلا جاهل، فوصل الكل إلى معرفة الربوبية، ولم ينته أحد إلى معرفة المزيد، وهو أن يعرف الله حق معرفته. قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره} . وقد روي: ما عرفوه حق معرفته. وقال صلى الله عليه وسلم: «لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور، ولزالت بدعائكم الجبال، ولو خفتم الله حق خوفه لعلمتم العلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 520 الذي ليس بعده جهل، وما وصل أحد إلى ذلك. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، الله أجل أن يبلغ أحد كنه أمره كله» . هذا وهو أعرف الخلق بربه، الذي تصير معارف ذوي المعارف عند معرفته نكرة. وقد كان يقول في مناجاته: «اللهم عرفني نفسك حتى أزداد لك رغبة، ومنك رهبة» . وهذا طلب الزيادة في المعرفة، كما أدبه: {وقل رب زدني علما} . وقد كان الشبلي يقول: (ما عرف الله أحد حقيقةً) يعني لو عرفوه حقيقةً ما اشتغلوا بسواه. وكان الواسطي يقول: (كما به كانوا، كذلك به عرفوا) . وقال أبو الحسن المروزي في قصيدته: به عرفوه فاهتدوا لرشادهم ... ولولا الهدى منه عموا وتحيروا وقال النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه: «والله لول الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا» الحديث) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 521 قال: (فليس شيء إلا وهو يعرف الله سبحانه، ولو كان الحكم واحداً والمعرفة واحدة لاستووا. وعدم الاستواء ووجود التفاوت يشهد بصحة ما قلنا، مع تصحيح الآثار، ومذاقات ألفاظ الرجال، فهو أجل أن يجهل، وأعز أن تنتهي فيه معارف ذوي المعارف، أو تبلغه بصائر ذوي البصائر: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} . ومعرفة الرب بربوبيته، إذ ربوبيته ظاهرة، لا يدعها جاحد، ولا يقدر أن ينكرها معاند، إذ هو أجل أن يخفى، وأعز أن يقاس، وأعظم أن تشرف عليه العقول، أو يتناوله معقول، ليس في حيز المجهولات فيستدل عليه، ولا مضبوط بالحواس فتصل الأفهام إليه، فعرفناه بما تعرف، ووصفناه بما وصف، إذ به عرفت المعارف، ووجدت الدلائل، فعرفنا نفسه، وعرفنا رسله، بما أظهر على أيديها من المعجزات، والبراهين والآيات، وتعرف إلينا على ألسنتهم كيف نوحده ونشكره ونعبده، إذ لا وصول لنا إلى مراده منا إلا بما أرسل وعلم، لتكون المملكة معذوقة بمالكها، ونوحده بما وحد به نفسه، ونثني عليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 522 بثنائه، ونشكره كما علمنا على آلائه، إذ هو الغني عن كل شيء، وكل شيء إليه فقير. قال الله: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} ، فلفقرنا لم نعرفه بنا، ولغنائه عنا عرفناه به، وجعل لنا الزيادة في الكسب، والتوصل بالأسباب، ومنه البداية، وإليه المنتهى، فكل من ألزمنا بسبب، عكسنا عليه ذلك السبب، وتسلسل الأمر، وإلى الله ترجع الأمور: {وإليه يرجع الأمر كله} ، فلا مجهول فيستدل عليه، ولا متوقع فيرتقب، فللرسل تأثير في العبادات، وللاستدلال تأثير في المكونات، وللعقول تأثير في المدبرات، وللرياضات تأثير في المكتسبات. وقد أخبر سبحانه في كتابه فقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ، وقد روي: ليعرفون. فلأجل ذلك وقعت المعرفة من الجميع ولم تقع العبادة، فأراد ليعرفوه ثم يعبدوه على بساط المعرفة، فما جبرهم عليه من معرفة ربوبيته وقع، وما ردهم فيه إلى الاكتساب وقع من بعض دون بعض، ألا ترى أنه لم يقع من الكفار التعجب والإنكار من أنه سبحانه رب وإله؟ وإنما تعجبت وأنكرت التوحيد بالإلهية، فقالوا: {أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب} ، فما أريد منهم أن يقع بهم علل، وما ألزمهم من معرفة ربوبيته لم يكن لهم سبيل إلى إنكاره وجحده كغيره من المعارف) . تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية قال: (فأصحاب المقالات وضعت كل معرفة غير موضعها، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 523 وأجملت وجهلت الحكم، فالتبس عليها الحكم، واختلفوا بما يصاب؟: بالعقول، أو الاستدلال أو بالإمام؟ فقال بعضهم: أصل المعرفة معرفة الإمام. ومنهم من يقول: أهل البيت، يعني معرفتهم. والأئمة والعلماء والفقهاء أكثرهم يذهب إلى أن المعرفة معرفة العلم والفقه، من حلال وحرام، وفرائض ومندوبات، وأحكام وسنن. وقال بعضهم: هي أن تعرف الله على يقين حتى تستقر معرفته في قلبك. واختلفوا: أي وقت تقع؟ فمنهم من يزعم: قبل البحث والنظر. ومنهم من قال: بعد البحث والنظر. وقوم يقولون: بعد البلوغ. ومنهم من بجعل حدها معرفة الأجسام والأعراض والجواهر، وكلام يكثر ذكره، ويتبين لك في نفس الكلام - إذا لزمت ما قررنا وشرحنا - أن أهل الكلام اعتقدوا ما يليق بالطبع فأثبتوا من طريق العبودية، فجعلوا معرفته بأسباب، وأهل الحق اعتقدوا ما يليق بالربوبية فأثبتوه من حيث الربوبية، والربوبية لا تدنسها العلل، ولا يقع عليها غوامض الفطر، فقرر الله الخلق ودعاهم إلى معرفته كفاحاً، لئلا يشركوا في العلم بمعرفته ولا تكون لهم حجة. قال سبحانه: {أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل} وذلك لموضع ما ألزمهم من الضرورة، ولو قررهم بمعرفته في حال العبودية - كما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 524 زعم الجاهلون - لخرجوا عن كونهم مكلفين لموضع النظر إليه، لكن تعرف إليهم من بعد ما ألزمهم من الضرورة بالوسائط والآيات فمن نصح معبوده، وقام على مراعاة ما شرعه له، وتعرف به إليه، واتكل في المعرفة عليه، وأسند جميع أموره إليه، ذكره ما سلف من الحال، وكشف له عن العواقب والمآل، فزهد فيما يفنى، وزادت رغبته فيما يبقى، وصار للإله موحداً خائفاً، ومصدقاً راجياً، ومن قصر في رعايته، وخلط في سعايته، وسلك محجة التفريط، ولم ينصح فيما أعطى من ضرورته وعقله، جمت عيوبه، وكثرت ذنوبه، فملكه هواه، فأعماه وأراده، ولم يبلغ مناه، فأنساه ذلك ما كان في وقت التعريف، فحصل في جملة من خان وعاند، ولم يكن بخارج من كون ماكان يجهله، إذ قد ثبت العلم بذلك فلم يكن بخارج من النار، ولم يكن بخارج من ضرورته) . قال: (وقد ثبت أهل الكلام معارف ضرورية، كمعرفة الإنسان بوجود نفسه، فالربوبية أولى بذلك. وكذلك الأعراض والأجسام والجواهر لأهل الكلام، والجمع والتفرقة، وما يعرف بالفكر ويشترط بالعلم، ومعرفة الشرع للفقهاء، والمعرفة التي هي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 525 الحجة والبرهان، والنور والبيان، للعلماء البلغاء الحكماء، ومعرفة الصفات - وهي العلم به - فهي للأولياء الذين يشاهدونه بالقلوب، ويكاشفهم بالغيوب، إذ يظهر لهم ما لا يظهر لغيرهم، وهم المكاشفون بنور اليقين، وعلم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين المخصوصون بالحقائق، والمبتدأون بالمكنون من ذخائر كراماته، لأهل صفوته وولايته، فلكل قوم مقام ولكل مقام علم، ولكل علم حكم. وكذلك المعارف على أحكام ومقامات، فلا يتعدى بمعرفة مقامها) . قال: (وقد قيل لأبي الحسين النوري: كيف لا تدركه العقول؟ فقال: كيف يدرك ذو مدى من لا مدى له؟ أم كيف يدرك ذو غاية من لا غاية له؟ أم كيف يدرك مكيف من كيف الكيف. وقال الواسطي: كما قامت الأشياء وبه فنيت كذلك به عرفوه. وقال الشبلي: الحق لا يعرف بسواه. وقال النباجي: طوبى لأهل المعرفة، عرفهم نفسه قبل أن عرفوه) . قال: (صدق أئمة الدين، وشيوخ المسلمين فالله سبحانه هو المعروف الأزلي، وهو الهادي إلى معرفته، والمتعرف بنفسه إلى بريته، إذ ضلت العقول والفهوم، والعلوم والأوهام، في تيه التيه أن تتوهمه، والأفكار والأضمار ان تدركه، لأنه العظيم الذي فاتت عظمته لكل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 526 حيث وتقدير، وعجز عن توهمه كل فكر وضمير، وردعت العقول، فلم تجد مساغاً فرجعت كليلة، ورجع الوهم خاسئاً وهو حسير) . إلى أن قال: (بل هو المعروف بما تعرف، والموصوف كما وصف، فتعرف إلينا بربوبيته، ووصف لنا توحيده ووحدانيته، وأقسم على ذلك بقوله تعالى: {والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلهكم لواحد} ، وهو الصادق في خبره وشهادته، إذ هو الواحد في الحقيقة، الذي لا شريك له في الألوهية والابتداع، وتعرف إلينا بهذه المعرفة على ألسنة السفراء، فأوقفتنا السفراء على توحيده، الذي تعرف إلينا به في كلامه وخطاه، فالأصل منه ثم السفراء. {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} ، وأسعدنا بالعقل الذي هو الحجة، والعلم الذي هو الحجة، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة، وطالبنا بالاعتبار والافتكار والقبول، ليكون أقوى في البرهان، وأبلغ في البيان. قال سبحانه: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون} ، فنزه نفسه عما زعموا وابتدعوا، وصدق الله في خبره وصدقت الرسل) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 527 وتكلم على هذه الآية، وعلى قوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} ، بما يناسب ذلك، إلى أن قال: (قال سبحانه: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء} . وقال سبحانه: {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل} . وقال: {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا} ، مثلا لمن عبد غيره، إذ ضرب العبد مثلاً لمن عبد من دونه، لأنه ذليل عاجز مفتقر مدبر مملوك، لا يقدر على شيء: لا نفعا ولا ضراً، ولا خلقاً ولا أمراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً. ومن رزقناه: جعله مثلا يستدل به على توحيده وكمال ربوبيته، لأنه الواسع الجواد القادر الرازق للعباد سراً وجهراً، فضرب الله سبحانه لهم الأمثال ليوبخهم ويريهم عجزهم فيما أضافوا إليه من الشركاء، مع إقرارهم بمعرفة ربوبيته تعالى الله عما يشركون، فعز من لمن يشارك في قدرته، وجل من لم يرام في وحدانيته، وتعظم من تفرد بالربوبية، فجل أن يكون له شريك في خلقه) . إلى أن قال: (فخلقهم على الفطرة، وبعث إليهم السفراء، وعلمهم العلم، وركب فيهم العقل بالفكر. فبالفطرة عرفوه، وبالواسائل عبدوه، فلولا الله سبحانه ما عرفناه من طريق ربوبيته، ولولا إرسال الرسول مع ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 528 خاطبنا به، ووقفنا عليه، ووفقنا له، ومن علينا به، وكتب في قلوبنا، واختصنا - ما عرفنا توحيده، ولا كيف نطيعه. ولولا ما ظهرت من الآيات والمعجزات، التي أظهرها على أيدي الرسل، بحقائق معانيها التي يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها، لم نعرف رسله. ولولا زوائد الأعمال، وتصحيح الأحوال، والعلوم والفهوم والمعارف، وأسرار مقامات القوم، وحلاوة أذواقهم، والروائح الواردة إلينا منهم وعنهم - ما عرفنا ذوي المزيد. وكل ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. فلو شكر الكافر ما اضطره إليه من معرفة باريه بربوبيته، واعترف له بنعمه، وإخراجه من العدم إلى الوجود، ورأى الأفضال والنعم التي قد عم بها، وكمال صورته، وإدرار رزقه عليه - لأوصله شكره بمعرفة توحيده، فصدق رسوله، وحقق ما سلف من عهده، ورجع إلى ضرورته، واعترف بوحدانيته، فأبطل ما سواه، ولم ير إلهاً إلا إياه، ولكن لما جهل النعمة. وزاغ عن العهد، ونكث في إقراره، وكذب السفراء - حرمه أكبر المنن، وأفضل النعم: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} ، فتركه مع هواه، فكان هلاكه في مناه، وإذا شكر المؤمن معرفة التوحيد التي من بها عليه، وشكرها قبول ماجاء به الرسول: قول، وعمل، وإخلاص نية، وإصابة سنة، ولزوم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 529 قدوة، وحبس عن المخالفة أو صلة بمعرفة مزيدة، فكلما نصح في مزيد، رفع إلى مزيد. قال سبحانه: {لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} . قلت: ويستدل على ما ذكره أبومحمد بن عبد وغيره من أن المعرفة الأولية الفطرية تحصل بلا دليل أن ما يعلم بالدليل إنما يعلم إذا علم أن الدليل مسلتزم له ليكون دليلاً عليه. وهذه هي الآية والعلامة. وكذلك الاسم إنما يدل على المسمى إذا عرف أنه اسم له، وذلك مشروط بتصور المدلول عليه اللازم، وبأن هذا ملزوم له. ولهذا قيل: إن المقصود بالكلام ليس هو تعريف المعاني المفردة، لأن المعنى المفرد لا يفهم من اللفظ حتى يعرف أن اللفظ دال عليه، فلا بد أن يعرف أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، حتى تعرف دلالته عليه، فتكون المعرفة بالمعنى سابقة للمعرفة بدلالة اللفظ عليه، بخلاف المعنى المركب، فإنه إنما يحتاج إلى العلم بجنس المركب لا بالتركيب المعين، فنعرف أنه إذا قيل: قام فلان، أنه فعل القيام القائم به. فإذا قيل: زيد، عرف أنه فعل القيام القائم به، بخلاف مسمى زيد، وأنه لا يعرف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 530 أن زيداً يدل على مسماه، حتى يعرف أولاً مسمى زيد، فلو استفيد مسمى زيد من زيد لزم الدور. وهذا موجود في كل ما دل على معنى مفرد. فما دل على الباري إنما تعرف دلالته عليه إذ عرف أنه مستلزم له، وذلك مشروط بمعرفة اللازم المدلول عليه، فلا يعرف أن هذا دليل على هذا المعين حتى يعرف المعنى والدليل، وأن الدليل مستلزم للمعين المدلول عليه، فلو استفيد معرفة المعين من الدليل لزم الدور، بل يكون ذلك المعين متصور قبل هذا، وتلك الأمور مستلزمة له، وآيات عليه، فكلما تصورت تصور المدلول عليه، فيكون كما قال: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} ، تبصرة: إذا قدر أنه مس طيف من الشيطان فشككه فيما عرفه أولاً، فإذا رآى آياته المستلزمة لوجوده، كان ذلك تبصرة من ذلك اللطيف. كما قال تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} ، وتكون تذكرة إذا حصل نسيان وغفلة تذكرة بالله، فهي تبصرة لما قد يعرض من الجهل، وتذكرة لما قد يحصل من غفلة، وإن كان أصل المعرفة فطرياً حصل في النفس بلا واسطة البتة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 531 وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الأدلة نوعان: أقيسة، وآيات. فأما الأقيسة فلا تدل إلا على معنى كلي، لا تدل على معنى معين. فإذا قيل: هذا محدث. وكل محدث فله محدث قديم. أو: كل ممكن فلا بد له من واجب، فإنما يدل على قديم واجب الوجود بنفسه، لا يدل على عينه، بل نفس تصور هذا لا يمنع من وقوع الشركة فيه. فإذا قدر أنه عرف أنه واحد لا يقبل الشركة، فإنه لم تعرف عينه، فلا بد أن تعرف علينه بغير هذه الطريق، والايات تدل على عينه، لكن كون الآية دليلاً على عينه مشروطة بمعرفة عينه قبل، إذ لو لم تعرف عينه لم يعرف أن هذه الآية مستلزمة لها. فعلم أنه في الفطرة معرفة بالخالق نفسه، بحيث يميز بينه وبين ما سواه، كما ذكره أبو محمد بن عبد وغيره، ولهذا كل من تطلب معرفته بالدليل، فلا بد أن يكون مشعوراً به قبل هذا، حتى يطلب الدليل عليه أو على بعض أحواله. وأما ما لا تشعر به النفس بوجه فلا يكون مطلوباً لها. وإذا كان مطلوباً لها فلا يمكن أن يستدل عليه بشيء، حتى يعلم أنه يلزم من تحقق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 532 الدليل تحققه. وقد بسط هذا في موضع آخر، وبين فيه أن التصور البسيط المفرد لا يجوز أن يكون مطلوباً بالحد، وإنما يطلب بالحد ما يكون مشعوراً به من بعض الوجوه، فيطلب الشعور به من وجه آخر. ولهذا لم يكن مجرد الحد معرفاً بالمحدود، إن لم يعرف أن الحد مطابق له، وهو لا يعرف ذلك إن لم يعرف المحدود، وإلا فمجرد الدعوى لا تفيد. وكذلك الدليل القياسي. إذا قيل: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، فإن لم يعرف المقدمتين لم يعرف النتيجة. وإذا كان آية على شيء معين. مثل كون الكوكب الفلاني، كالجدي مثلاً، علامة على جهة الكعبة، فلا بد أن يكون قد عرف الجدي وعرف أنه من جهة الشمال، وعرف أن الجهة المعينة جهة الكعبة في الجنوب، فإذا رآى الجدي علم أن جهة الكعبة تقابله. ولولا تقدم معرفته بالدليل وهو الجدي، والمدلول عليه وهو جهة الكعبة، لم يمكنه الاستدلال. لكنه عرف أولاً الدليل والمدلول عليه، ثم خفى عليه المدلول، وهوجهة الكعبة في بعض الأوقات والمواضع، فلما رآى الدليل عرف المدلول الذي كان قد جهله بعد علمه به، كمن سمع منادياً ينادي باسم من يطلبه كابنه وأخيه، وقد أضل مكانه، فإذا سمع الاسم استدل به عل المسمى الذي كان يعرفه قبل هذا، ولكنه قد حصل له به نوع من الجهل بعد ذلك. فالآيات الدالة على الرب تعالى: آياته القولية التي تكلم بها كالقرآن، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 533 وآياته الفعلية التي خلقها في الأنفس والآفاق، تدل عليه وتحصل بها التبصرة والذكرى، وإن كان الرب تعالى قد عرفته الفطرة قبل هذا، ثم حصل له نوع من الجهل أو الشك أو النسيان ونحو ذلك. ومما ينبغي أن يعرف أن علم الإنسان بالشيء وتصوره له شيء، وعلمه بأنه عالم به شيء، وعلمه بأن علمه حصل بالطريق المعين شيء ثالث. وكذلك إرادته وحبه شيء، وعلمه بأنه مريد محب له شيء، وكون الإرادة والمحبة حصلت بالطريق المعين شيء ثالث. فالمتوضىء والمصلي والصائم يحصل في قلبه نية ضرورية للفعل الاختياري، ولا يمكنه دفع ذلك عن نفسه، وإن لم يتكلم بالنية، ثم قد يظن أن النية إنما حصلت بتكلمه بها، وهو غالط في ذلك. وكذلك قد يحصل له علم ضروري بمخبر الأخبار المتواترة، ثم ينظر في دلالة الخبر، فيظن أن العلم الحاصل له لم يحصل إلا بالنظر، وهو قد كان قبل النظر عالماً. وقد يقال: إن النظر وكد ذلك العلم أو أحضره في النفس بعد ذهول النفس عنه، وهذا مما يبين لك أن كثيراً من النظار يظنون أنهم لم يعرفوا الله بالطريق المعين من النظر الذي سلكوه، وقد يكون صحيحاً، وقد يكون فاسداً. فإن كان فاسداً فهو لا يوجب العلم، وهم يظنون أن العلم إنما حصل به، وهم غالطون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 534 بل العلم قد حصل بدونه، وإن كان صحيحاً، فقد يكون مؤكداً للعلم ومحضراً له، ومبيناً له، وإن كان العلم حاصلاً بدونه. هذه الأمور من تصورها حق التصور تبين له حقيقة الأمر في أصول العلم، وعلم أن من ظن أن الأمر الذي يعرفه عامة الخلق، وهو أجل المعارف عندهم، من حصره في طريق معين لا يعرفه إلا بعضهم كان جاهلاً، لو كان ذلك الطريق صحيحاً، فكيف إذا كان فاسداً‍!؟. ومما يوضح الكلام في هذا الذكر المشروع لله هو كلام تام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» . فأما مجرد ذكر الاسم المفرد، وهو قول القائل: (الله، الله) فلم تأت به الشريعة، وليس هو كلاماً مفيداً، إذا الكلام المفيد أن يخبر عنه بإثبات شيء أو نفيه. وأما التصور المفرد فلا فائدة فيه، وإن كان ثابتاً بأصل الفطرة، وإن كان المعلوم بالفطرة ما تدخل فيه أمور ثبوتية وسلبية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 535 كلام ابن أبي موسى في شرح الإرشاد والقائلون بأن المعرفة تحصل بغير العقل يفسرون كلامهم بمعنى صحيح، مثل ما ذكره الشريف أبو علي بن أبي موسى في شرح الإرشاد في الفقه تصنيفه، لما شرح عقيدته المختصرة التي ذكرها في أول الإرشاد. قال لما ذكر التوحيد: (الكلام بعد ذلك: المعرفة هل تدرك بالعقول أم بالسمع؟) قال: (فالذي نذهب إليه قول إمامنا: إن معرفة الخالق أنه الله لا تدرك إلا بالسمع) قال: (وقد اختلف أصحابنا في ذلك على طريقين. فقال الأقلون منهم: إن المعرفة تدرك بالعقول، مع اتفاقهم معنا أنها لا تدرك بمجرد العقل قبل ورود السمع بها) . قال: (والدليل على أنه تدرك بالسمع، وأنه لا مدخل للعقول فيها قبل ورود السمع بها: ان العقل مخلوق كالحواس الخمس من البصر والسمع والشم واللمس والمذاق. ثم المقسوم منه يتفاضل الخلق فيه. يعلم ذلك كل أحد ضرورة، فإذا كان كذلك فاللمس لا يدرك له اللامس الأراييح، والشم لا يدرك به الشام الأصوات) . قال: (وجملة هذا أن الله لم يجعل اللمس سبيلاً إلى إدراك الأراييح، ولا الشم سبيلاً إلى إدراك المسموعات، بل جعل كل واحد منهما سبيلاً لإدراك ما خص به، وإن كنا نجوز أن يفعل ذلك ويجعل العلم في اليد، والكلام في الرجل، والنظر في اللسان، لأن الجواهر من جنس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 واحد. وإذا جاز قيام الرؤية ببعضها جاز بجميعها، ولكن ذلك لا يكون في الدنيا إلا لنبي ليكون من معجزاته. ودليل تصوره كلام الذراع للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الآخرة إذا أنطق الله عز وجل الجوارح بقوله: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} ، {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} ، وبقوله: {ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة} . قال: (فيجوز أن يجعل الله الظن يوم القيامة في الوجوه المعذبة. كذلك العقل لم يجعل الله له سبيلاً إلى إدراك السواد والبياض، ولا إلى إدراك المشام والطعوم، بل جعل الله له سبيلاً إلى التمييز بين الموجودات، وإلى إدراك فهم السمعيات، والفرق بين الحسن منها والقبيح، والباطل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 منها والصحيح، فإذا نظر إلى المصنوعات التي لا سبيل للخلق إلى مثلها، ويعجز كل فاعل عنها، وتحقق بصحة التمييز المركب فيه - إذا أراد الله هدايته - أن المحدثات لا تصنع نفسها، علم أنها مفتقرة إلى صانع، غير أنه لا يعرف من هو قبل ورود السمع، فإذا ورد السمع بأن الصانع هو الله قبله العقل، ووقع له فهم في السمع، وتحقق صحة الخبر، وعرف الله من ناحية السمع، لا من ناحية العقل، لأن العقل بمجرده لا يعلم من الصانع قط، وأكثر ما في بابه أن يقع به التمييز، فيبقى أن يفعل الجماد نفسه، ويقتضي بالشاهد على الغائب، فأما أن يعرف من الصانع فمحال إلا من جهة السمع) . قال: (والدليل على صحة اعتبارنا أن الله خاطب العقلاء بالاعتبار، فقال {فاعتبروا يا أولي الأبصار} يعني البصائر. وقال: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} أي عقل. وقال: {ليتذكر أولو الألباب} ، فأمرهم باعتبار ما جعل لهم سبيلاً إلى اعتباره دون غيره. ثم الدليل القاهر هو القاضي بصحة ما ذكرت: أن الله عز وجل حجب عن الخلق - من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين وسائر الخلق أجمعين - معرفة ما هو، ولم يجعل لهم طريقاً إلى علم مائيته، ولا سبيل إلى إدراك كيفيته، جل أن يدرك أو يحاط به علماً، وتعالى علواً كبيراً: {ولا يحيطون به علما} ، فمنع من أحاطة العلم به، فلا سبيل لأحد إليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 وقال: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} ، فنفى عن نفسه الأشبهاه والأمثال، فمنع من الاستدلال عيه بالمثلية، كما منع الدليل على إدراك كيفيته أو علم ماهيته. فهذا الذي لا سبيل للعقل إلى معرفته، ولا طريق له إلى علمه. ثم كلف جل إسمه سائر بريته، وأفترض على جميع المكلفين من خليقته علم من هو، ليعرف الخلق معبودهم، ويعلموا أمر إلههم وخالقهم، فلما كلفهم ذلك نصب لهم الدليل عليه سمعاً، ليتوصلوا به إلى أداء ما افترض عليهم من عبادته، وعلم ما كلفهم من معرفته، علماً منه جلت عظمته بأن لا طريق للعقل إلى علم ذلك بحال، فقال تعالى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} ، وقال: {ذلكم الله ربكم} ، وقال: {الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم} ، وقال: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} . قال: (ولو سألهم قبل أن يسمعوا باسمه عن تأويل من خلقهم، ماكان لهم طريق إلى علم ذلك، لأن الأسماء لا تسمع من جهة العقل) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 قال: فثبت وتقرر بالدليل الذي لا يحتمل إلا ما ذكرناه: أن الله العظيم لم يعرف إلا من جهة السمع، لإحاطة العلم أنه لا طريق للعقل بمجرده إلى معرفة هذه الأسماء، ولا إلى معرفة المسمى، لو لم يرد السمع بذلك. ومدعي ذلك ومجوزه من ناحية العقل بعلم بطلان دعواه ضرورة) . وتكلم على قصة إبراهيم بكلام ليس هذا موضعه، إلى أن قال: (والمعرفة عندنا موهبة من الله، وتقع استدلالاً لا اضطراراً، لأنه لو كانت تعلم بضرورة لاستوى فيها العقلاء) . إلى أن قال: (فثبت أن المعرفة لا تقع إلا من ناحية السمع، على ما نقول: إن الله لا يخلى خلقه في وقت من الأوقات، ولا في عصر من الأعصار ممن يعرفه إليهم، فتعرف إليهم على ألسنة رسله، وأرسل الرسل بالدعاء إليه، والدلاة عليه، لكيلا تسقط حجج الله. وكان كل نبي يعرف أمته معبودهم، كقول نوح لقومه: {يا قوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله} ، وكقول شعيب: {يا قوم اعبدوا الله} . وكذلك في قصص غيرهم من الرسل، كل منهم يديم الدعوة لقومه، فإذا قبض كان حكم شريعته قائماً في حال الفترة، إلى أن ينسخها الله بإرسال نبي آخر، فيقوم الثاني لأمته في التعريف والدعوة قيام الماضي لأمته، فما أخلى الله الخلق من سمع يعرفونه به، ويستدلون به على ربوبيته ومعرفة أسمائه) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 تعليق ابن تيمية قلت: ففي هذا الكلام قد جعل العلم ثلاثة أنواع: أحدها: هو الذي يعرف بالعقل، والثاني: المعرفة التي لا تحصل إلا بالسمع. والثالث: ما لا سبيل إلى معرفته لا بعقل ولا بسمع. فالأول: المعرفة المطلقة المجملة بأن هذه المحدثات التي يعجز عنها الخلق لا بد لها من صانع. ولكن هذه المعرفة لا تفيد معرفة عينه ولا أسمائه، فإن المحدثات إنما تدل على فاعل ما مطلق من حيث الجملة. وكذلك سائر ما يذكر من البراهين القياسية، فإنما تدل على أمر مطلق كلي، إذ كان البرهان المنطقي العقلي لابد فيه من قضية كلية، والنتيجة موقوفة على جميع المقدمات، فإذا كان المدلول عليه لم تعرف عينه قبل الاستدلال، لم يدل هذا الدليل إلى على أمر مطلق كلي. وإيضاح ذلك أنه إذا استدل بحدوث المحدثات على أنه له محدثاً، وبإمكان الممكنات على أن هناك واجبا، فإنه لم يعرف إلا وجود محدث واجب بنفسه، وهذا معنى كلي مطلق لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه، فلا يكون في ذلك معرفة عينه، ولو وصف هذا بصفات مطلقة لم يخرجه ذلك عن أن يكون مطلقاً كلياً. ثم إنه ضل من ضل من الجهمية نفاة الصفات، من المتفلسفة والمعتزلة والمتصوفة، حيث أثبتوا وجوداً واجباً قديماً، ثم وصفوه بصفات سلبية توجب امتناع تعينه، وأنه لا يكون إلا مطلقاً، وقد علم أن ما لا يكون مطلقاً كلياً، لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان، فيكون ما أثبتوه لا وجود له في الخارج. ومن المعلوم الفرق بين كون الدليل لم يدل على عينه وبين نفي تعينه، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 فإن من سلك النظر الصحيح علم أنه موجود معين متميز، وإن كان دليله لم يدله على عينه، بخلاف من نفى تعينه وجعله مطلقاً كلياً، أو قال ما يستلزم ذلك، فإن هذا معطل له في الحقيقة. ومثال هذا من علم بالدليل وجود نبي مرسل أرسله الله إلى خلقه ولم يعلم عينه، فهذا قد علمه علماً مطلقاً. وأما من قال: إن هذا النبي إنما يوجد مطلقاً لا معيناً، فهذا قد نفى وجوده في الخارج. فإذا تبين أن القياس العقلي البرهاني لا يفيد إلا معرفة مطلقة كلية، فمعلوم أن أسماءه لا تعرف إلا بالسمع، فبالسمع عرفت أسماء الله وصفاته التي يوصف بها من الكلام. ولولا السمع لما سمي ولا ذكر ولا حمد ولا مدح ولا نعت ولا وصف. فإن كان هذا هو الذي أراده بمعرفة عينه ومن هو، فلا ريب أنه لا يحصل إلا بالسمع، وإن أراد بذلك معرفة أخرى، مثل المعرفة بسائر نعوته التي أخبرت بها الرسل، فهذا أيضاً يعلم بالسمع، ومنها ما لا يعلم بمجرد القياس العقلي، ومنها ما قد تنازع الناس هل يعلم بالعقل أم لا؟ وأما معرفة عين المسمى الموصوف الذي علم وجوده، فهذا في المخلوقات يعرف بالإحساس ظاهراً أو باطناً: إما بالإحساس بعينه، أو بالإحساس بخصائصه. فمن علم اسم شخص ونعوته، أو اسم أرض وحدودها، فإنه يعرف عينها بالرؤية: إما بمخبر يخبره أن هذا المعنى هو الموصوف المسمى، وإما بأن يرى اختصاص ذلك المعين بتلك الأسماء والصفات. قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} . فمن عرف نعوت النبي صلى الله عليه وسلم التي نعت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 بها في الكتب المتقدمة، ثم رآه ورأى خصائصه، علم أن هذا هو ذاك، لعدم الاشتراك في تلك الصفات. وهذه المعرفة قد تكون بمشاهدة عينه كالذين شاهدوه، وقد لا تكون بمشاهدة عينه، بل بطرق أخرى يعلم بها أنه هو، كما يعلم أن القرآن تلقي عنه، وأنه هاجر من مكة إلى المدينة ومات بها، وأنه هو المذكور في الأذان، وهو الذي يسميه المسلمون محمداً رسول الله، وهو صاحب هذه الشريعة التي عليها المسلمون. فهذه الأمور تعرف بها عينه من غير مشاهدة. وكذلك قد تعرف عين خلفائه وأصحابه وغيرهم من الناس، وتعرف أقوالهم وأفعالهم وغير ذلك من أحوالهم، معرفة معينة لااشتراك فيها مع عدم المعاينة. لكن قد شوهد آحاد الأناسي وعلم أن هؤلاء من هذا النوع، ولكن لم يشهد ما يشبه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه من كل وجه، وإما شوهد ما يشبههم من بعض الوجوه. فهذا القدر المسمى يعلم بمشاهدة نظيره. وأما القدر الفارق، فلا بد أن يشارك غيره في وصف آخر، فيعلم ما بينهما من القدر المشترك أيضاً. فالأمور الغائبة لا يمكن معرفتها ولا التعريف بها إلا بما بينها وبين الأمور الشاهدة من المشابهة. لكن إذا عرف أنه لا شركة في ذلك، علم أنه واحد معين من علم بعض صفاته. وإن جوز فيه الشركة لم يعلم عين ذاك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 ففي الجملة معرفة عين من علم بعض صفاته قد يحصل بالسماع، وقد يحصل بالعيان، وقد يحصل بالاستدلال. والعلم بالموصوف قد يعلم بطرق متعددة، فمن علم نعت الملك ثم رآه فقد يعلم عينه لما استقر عنده من معرفة صفاته. وقد يعلم ذلك بمن يخبره أن ذلك المسمى الموصوف هو هذا المعين. ولهذا إذا كان في كتاب الوقف ونحوه حدود عقار وصفاته، فقد تعلم الحدود بالمعاينة والاستدلال بأن لا يدل ما يطابق تلك النعوت إلا هي. وقد يعلم بالخبر والشهادة ما يشهد الشهود بأن الحد المسمى الموصوف هو هذا المعين. وإذا شهد الشهود على مسمى منسوب، وكتب بذلك حاكم إلى حاكم آخر، أو شهد شهود فرع على شهود أصل، فإنه يعلم عين المسمى المنسوب، كمن شهد بنسبة ولا يوجد له شريك، فإن وجد له شريك لم تعلم عينه بالشهادة باسمه ونسبه، وصار ذلك كالحلية والنعت المشترك، وهل يشهد بالتعيين بمجرد الحلية عند الحاجة؟ فيه نزاع بين الفقهاء. وكما أن معرفة عين الموصوف تحصل بطرق، فنفس العلم الأول بصفته المختصة يحصل بطرق. والعلم بالمعينة قد يكون بالمشاهدة الظاهرة، وقد يكون بالمشاهدة الباطنة، وقد لا يكون إلا لمجرد الآثار. ومما يبين الفرق بين المعين والمطبق، ما ذكره الفقهاء في باب الأعيان المشاهدة الموصوفة. فإن المبيع قد يكون معيناً وقد لا يكون، والمعين قد يكون مشاهداً، فهذا يصح بيعه بالإجماع. وقد يكون غائباً، وفيه ثلاثة أقوال مشهورة للعلماء، وهي ثلاث روايات عن أحمد: أحدها: أنه لا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 يصح بيعه، كظاهر مذهب الشافعي. والثاني: يصح، وصف أو لم يوصف، كمذهب أبي حنيفة. والثالث: وهو مذهب مالك والمشهور من مذهب أحمد: أنه يصح بالصفة، ولا يصح بدونها. ولو تلف هذا المبيع قبل التمكن من قبضة بآفة سماوية، انفسخ البيع فيه باتفاق العلماء، ولم يكن للمشتري المطالبة ببدله، لأن حقه تعين في عين معينة. وأما المبيع المطلق في الذمة، فمثل دين السلم. فإنه أسلم في شيء موصوف مطلق ولم يعينه. وهو بمنزلة الثمن المطلق الذي لم يعين، وبمنزلة الديون التي ثبتت مطلقة، كالصداق وبدل القرض والأجرة ونحو ذلك. ومثله في الواجبات الشرعية وجوب عين رقبة مطلقة ونحو ذلك. فهنا الواجب أمر مطلق لم يتعين، بل لمن هو عليه أن يأتي بأي عين من الأعيان إذا حصل به المقصود. ولو أتى بمعين فتلف قبل التمكن من قبضه، كان للمستحق المطالبة بعين أخرى. وهكذا قال الفقهاء في الهدي المطلق، كهدي التمتع والقرآن والهدي المعين، كما لو نذر هدياً بعينه، فإن المعين لو تلف بغير تفريط منه، لم يكن عليه بدله، بخلاف ما وجب في الذمة. فإنه لو عينه وتلف كان عليه إبداله. وكل موجود في الخارج فهو في نفس معين. لكن العلم به قد يكون مع العلم بعينه، وقد لا يكون مع العلم بعينه، كالمبيع إذا كان مشاهداً فقد عرف المشتري عينه، وإذا كان غائباً فهو معين في نفسه، والمشتري لا يعرف عينه، وإنما يعرف منه أمراً مطلقاً، سواء كان ذلك المطلق لا يحتمل سواه، أو يحتمله ويحتمل غيره، فإنه قد يبيعه العبد أو الأرض التي من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 صفتها كذا وكذا، ويصفها بصفات تميزها لا تحتمل دخول غيرها فيها، وهذا بخلاف المسلم فيه، فإنه لا يكون معيناً، ومتى كان معيناً بطل السلم، كما لو أسلم في ثمن بستان بعينه، أو زرع أرضاً بعينها، قبل بدو الصلاح، كما جاء في ذلك حديث مسند عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا تبين هذا فإذا عرف محدث للحوادث واجب قديم، وعلم انتفاء الشركة فيه بأنه واحد لا شريك في الخلق، أو غير ذلك من خصائصه التي لا يوصف بها اثنان، مثل أنه رب العالمين، وأنه على كل شيء قدير ونحو ذلك - فقد تعرف عينه بالعقل - عرف أنه واحد معين في نفس الأمر لا شركة فيه، فيطلب القلب حينئذ معرفة عينه، بخلاف ما يمكن الشركة فيه. وإذا كان كذلك فقد يعترض المعترض على قول من قال: إن عينه لا تعرف إلا بالسمع، ويقول: التعيين حينئذ بما جعل الله في القلوب من ضرورة المعرفة والقصد والتوجه والإشارة إلى ما فوق السماوات، فإنها مفطورة على أنه ليس فوق العالم غيره. ولهذا كان منكرو علو الله ومباينته لمخلوقاته من الجهمية الحلولية، أو النفاة للحلول والمباينة ونحوهم، إنما يثبتون وجوداً مطلقاً لا يعين ولا يشار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 إليه، بل يقولون بلا إشارة ولا تعيين، وهؤلاء يثبتون وجوداً مطلقاً كلياً، لا يعينونه لا ببواطنهم ولا بظواهرهم. ولهذا يبقون في حيرة واضطراب، تارة يجعلونه حالاً في المخلوقات لا يختص بشيء، وتارة يسلبونه هذا وهذا، ويقولون: الحق لا يقيد ولا يخصص ولا يقبل الإشارة والتعيين، نحو ذلك من العبارات التي مضمونها في الحقيقة نفي ثبوته في الخارج، فإن كل موجود في الخارج فإنه متعين متميز عن غيره، مختص بخصائصه التي لا يشركه فيها غيره. وهذا هو المقيد في اصطلاحهم، وهم يظنون أن ما ذكره ثابت في الخارج، لكنهم ضالون في ذلك. وضلالهم كضلال في أمور كثيرة لا توجد إلا في الأذهان ظنوناً ثابتة في الأعيان. ومن هنا ضل من ضل في مسألة المعدوم: هل هو شيء أم لا؟ وفي مسألة الأحوال، وفي مسألة وجود الموجودات: هل هو ماهيتها الثابتة في الخارج أو غير ذلك؟ والكلي الطبيعي: هل هو ثابت في الخارج أم لا؟ وجماع أمرهم أنهم جعلوا الأمور العقلية التي لا تكون ثابتة إلا في العقل - كالمطلقات الكلية ونحوها - أموراً موجودة ثابتة في الخارج، وزعموا أن هذا هو الغيب الذي أخبرت به الرسل، وذلك ضلال. فإن الغيب الذي أخبرت به الرسل هو مما يمكن الإحساس به في الجملة، ليس مما لا يمكن الإحساس به، لكن مشاهدته والإحساس به يكون بعد الموت، وفي الدار الآخرة. وهناك الحياة وتوابعها من الإحساس والعمل أقوى وأكمل، فإن الدار الآخرة لهي الحيوان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 فالرسل لم تفرق بين الغيب والشهادة، لأن أحدهما معقول والآخر محسوس، كما ظن ذلك من ظنه من المتفلسفة والجهمية، ومن شركهم في بعض ذلك، وإنما فرقت بأن أحدهما مشهود الآن، والآخر غائب عنا لا نشهده الآن، ولهذا سماه الله تعالى غيباً. قال تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} ، لم يسمه مقولاً، وقد بسط الكلام على هذا في موضعه. والمقصود هنا أن ما عرف وصفه تعرف عينه بوجه من وجوه الإحساس، إما بذاته وإما ببعض خصائصه. والله تعالى يختص بما فوق العالم، فالعباد يشيرون إلى ذلك، ويعلمون أن خالق العالم هو الذي فوق العالم، لا يشركه في ذلك أحد. وهذا العلم قد يحصل بالفطرة، وقد يحصل بالاستدلال والقياس، وقد يحصل بالسمع من الرسل، كما أخبرت بأن الله فوق العالم. ولهذا قال فرعون: {يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا} . ولهذا كان معراج نبينا صلى الله عليه وسلم إلى السماء. وكذلك سائر ما تعرفه القلوب من خصائصه. وقد يقال: هو تعيين يمكن حصوله بدون السمع. وذلك أن معرفة عينه بالمشاهدة لا تحصل في الدنيا، فلم يبق إلا معرفة عينه بغير هذه الطريق، كما يعرف عين الرسول صلى الله عليه وسلم من لم يشاهده، بمعرفة ما يعرفه من خصائصه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 وأما القائل: إن عينه لا تعرف إلا بالسمع، فقد يقول: إن ما حصل للقلوب من معرفة عينه إنما حصل بالسمع. والناس متنازعون في كونه فوق العالم: هل هو من الصفات التي تعلم بالعقل؟ كما هو قول أكثر السلف والأئمة، وهو قول ابن كلاب وابن كرام، وآخر قولي القاضي أبي يعلى. أو هو من الصفات السمعية التي لا تعلم إلا بالسمع، كما هو قول كثير من أصحاب الأشعري، وهو أول قولي القاضي أبي يعلى وطائفة معه. فابن أبي موسى وأمثاله قد يقولون بهذا، ويقولون: لم نعلم ذلك إلا بالسمع. ويقولون: لم تعلم أنه فوق السماء إلا بالسمع، لكن كلامه أعم من ذلك. وكلامهم يصح إذا فسر بأنواع من التعيين التي لم تعلم إلا بالسمع، كالصفات الخبرية. أو فسر بأن السمع هو الذي أرشد العقول إلى ما به يعلم التعيين، وأنه لولا إرشاد السمع لم يعلم ذلك، أو بأنه أراد بالتعيين معرفة الأسماء والصفات القولية، التي يوصف الله بها. أو أراد بذلك أن كثيراً من الناس - أو أكثرهم - لا تحصل لهم معرفة شيء من التعيين إلا بالسمع. وكثير ممن يقول بوجوب النظر وأنه أول الواجبات، أو أول الواجبات: المعرفة، يقولون مع ذلك: إن المعرفة لا تحصل إلا بالشرع، كما ذكر ذلك أبو فرج المقدسي، وابنه عبد الوهاب، وابن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 درباس، وغيرهم، كما قال من قال قبلهم: إنها لا تحصل إلا بالشرع. وهؤلاء يريدون بالعقل: الغريزة ولوازمها من العلوم التي تحصل لعامة العقلاء، وأن ذلك مجردة لا يوجب المعرفة، بل لا بد من أمر زائد على ذلك. كما قالوا في استدلالهم: إن المعرفة لو كانت بالعقل، لكان كل عاقل عارفاً، ولما وجد جماعة من العقلاء كفاراً، دل على أن المعرفة لم تثبت بالعقل. ألا ترى أن ما يدرك بالضرورة لا يختلف أرباب النظر فيه؟ وهذا إنما ينفي المعرفة الإيمانية، وإلا فعامة العقلاء يقرون بالصانع. وأيضاً فهذا ينفي أن تكون المعرفة الإيمانية ضرورية. وهو أيضاً يوجب أن الطرق العقلية لا تفصل مورد النزاع، ولا يحصل عليها الإجماع. وهوكما قالوا. فإن الطرق القياسية العقلية النظرية، وإن كان منها ما يفضى إلى العلم، فهي لا تفصل النزاع بين أهل الأرض. تارة لدقتها وغموضها، وتارةلأن النفوس قد تنازع في المقدمات الضرورية، كما ينازع أكثر النظار في كثير من المقدمات الضرورية. ولهذا لم يأمر الله عند التنازع إلا بالرد إلى الكتب المنزلة. قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 فيه} ، فجعل الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الكتاب المنزل من السماء. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} . فأمر عند التنازع بالرد إلى الله والرسول. كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي ولهذا قال هؤلاء المقررون لكون المعرفة لاتحصل بمجرد العقل ما قاله عبد الوهاب ابن أبي الفرج وغيره: (إنا نقول إن المعرفة لو كانت بالعقل، لوجب أن يكون كل عاقل عارفاً بالله تعالى، مجمعاً على رأي واحد في التوحيد، ولما وجدنا جماعة من العقلاء كفاراً، مع صحة عقولهم ودقة نظرهم - دل على أن المعرفة لم تحصل بالعقل، لأن العقل حاسة من جملة الحواس. فالحواس لا تختلف في محسوساتها، ألا ترى أن ما يدرك بالنظر من أسود وأحمر وأخضر وأصفر، وحيوان، وحجر، لا يختلف أرباب النظر فيه؟ فدل على أن معرفة الله حصلت بمعنى غير العقل، لوجود الأختلاف في المعرفة، والاتفاق فيما طريقة العقل والحواس) . تعليق ابن تيمية وتسمية هؤلاء للعقل حاسة من الحواس هومما نازعهم فيه طوائف من أصحابهم وغيرهم، كأبي الحسن بن الزاغوني وغيره. والنزاع في ذلك عند التحقيق يرجع إلى اللفظ، ولذلك قالوا: لوكان العقل علة في معرفة الباري، لوجب أن تحصل المعرفة بوجوده، وتعدم بعدمه. كالمنظورات تدرك بوجود البصر، وتعدم معرفتها ونظرها بعدم البصر. وكذلك المسموعات وسائر المحسوسات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 18 ولما رأينا المسلم يرتد عن الإسلام، مع وجود عقله الذي كان به قبل الارتداد مؤمناً، علمنا أن المعرفة حصلت له بغير ذلك. وكذلك نرى المؤمن بالله يذهب عقله، ويحكم بجنونه، وهو باق على المعرفة، مقر بالتوحيد، عارف بالله. وعقلاء كثيرون يكفرون بالله ويشركون به. فدل على أن المعرفة مستفادة بمعنى غير العقل. وهذا الكلام يقتضي أن مجرد الغريزة ولوازمها لا تستلزم المعرفة الواجبة على العباد. وهذا مما لا ينازع فيه أحد، فإن من يقول: إن المعرفة تحصل بالعقل، يقول: إن أصل الإقرار بالصانع يحصل بعلوم عقلية، ولكن ليس ذلك هو جميع المعرفة الواجبة، ولا بمجرد ذلك يصير مؤمناً. وهذا العقل هوالعقل الذي هو شرط في الأمر والنهي. وقد يراد بالعقل ما تحصل به النجاة. كما قال تعالى عن أهل النار: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} . وقال تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} . وقال تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} . وقال: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} ، وأمثال ذلك في القرآن. واحتجوا على أن المعرفة لا تحصل بمجرد العقل، بقوله تعالى: {وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله} . وهذه الآية وأمثالها تدل على أن السمع والأبصار والأفئدة لا تنفع صاحبها مع جحده بآيات الله. فتبين أن العقل الذي هو مناط التكليف لا يحصل بمجرده الإيمان النافع، والمعرفة المنجية من عذاب الله. وهذا العقل شرط في العلم والتكليف لا موجب له. احتجوا أيضاً بما ذكروه «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تعلموا العلم، فإن تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه، به يعرف الله ويعبد، وبه يمجد الله ويوحد. هو إمام العمل، والعمل تابعه. يرفع الله بالعلم أقواماً فيجعلهم للناس قادة وأئمة يقتدى بهم، وينتهى إلى رأيهم» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 20 قالوا: فوجه الدليل قوله: (به يعرف الله ويعبد) . وهذا الكلام معروف عن معاذ بين جبل رضي الله عنه، رووه عنه بالأسانيد المعروفة. وهو كلام حسن، ولكن روايته مرفوعاً فيه نظر. وفيه: أن الله يعرف ويعبد بالعلم، لا بمجرد الغريزة العقلية. وهذا صحيح لا ينازع فيه من يتصور ما يقول. ومن يقول: إن المعرفة تحصل بالعقل، يقول: إنما تحصل بعلوم عقلية، أي يمكن معرفة صحتها بنظر العقل، لا يقول: إن نفس العقل - الذي هو الغريزة ولوازمها - يوجب حصول المعرفة والعبادة. وقد تنازع كثير من الناس في مسمى العلم والعقل، أيهما أشرف؟ وأكثر ذلك منازعات لفظية. فإن العقل قد يراد به: الغريزة، وقد يراد به: علم يحصل بالغريزة. وقد يراد به: عمل بالعلم. فإذا أريد به علم كان أحدهما من جنس الآخر. لكن قد يراد بالعلم: الكلام المأثور عن المعصوم. فإنه قد ثبت أنه علم، لقوله: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم} . وأمثاله. ويراد بالعقل: الغريزة. فهنا يكون أحدهما غير الآخر. ولا ريب أن مسمى العلم بهذا الاعتبار أشرف من مسمى العقل. فإن مسمى العلم هنا كلام الله تعالى، وكلام الله أشرف من الغريزة التي يشترك فيها المسلم والكافر. وأيضاً فقد تسمى العلوم المسموعة عقلاً، كما قيل: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 21 رأيت العقل عقلين ... فمطبوع ومسموع فلا ينفع مسموع ... إذا لم يك مطبوع كما لا تنفع العين ... وضوء الشمس ممنوع وأما العمل لعلم، وهو جلب ما ينفع الإنسان، ودفع ما يضره، بالنظر في العواقب، فهذا هو الأغلب على مسمى العقل في كلام السلف والأئمة، كالآثار المروية في فضائل العقل. ومنه الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان مرسلاً: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات. وبهذا الاعتبار فالعقل يتضمن العلم، والعلم جزء مسماه. ومعلوم أن مجموع العلم والعمل به أفضل من العلم الذي لا يعمل به. وهذا كما قال غير واحد من السلف في مسمى الحكمة، كما قال مالك بن أنس: (الحكمة معرفة الدين والعمل به) . وكذلك قال الفضيل بن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 22 عياض، وابن قتيبة، وغير واحد من السلف. قال الشاعر: وكيف يصح أن تدعى حكيماً، ... وأنت لكل ما تهوى ركوب وقال آخر: ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم وهذا المعنى موجود في سائر الألسنة، لكن لكل أمة حكمة بحسبها، كما أن لكل أمة ديناً. فاليونان لهم ما يسمونه حكمة، وكذلك الهند. وأما حكمة أهل الملل فهي أجل من ذلك. ومما احتج به هؤلاء أنهم قالوا: لا يدرك بالعقل إلا ما يكنفه العقل ويحيط به علماً. والباري سبحانه وتعالى لا تدركه العقول ولا تحيط به. لقوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} وقوله: {ولا يحيطون به علما} . قال ذو النون المصري: العقل عاجز ولا يدل إلا على عاجز، فأما الربوبية فلا سبيل إلى كيفية إدراكها بالعقول، ليس هو إلا الرضا والتسليم والإيمان والتصديق) . لكن هذا الكلام وما يشبهه إنما يقتضي أن معرفة كنهه وحقيقته لا تدركه العقول. وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء، وإنما نازع في ذلك طوائف من متكلمي المعتزلة ومن وافقهم. ولهذا كان السلف والائمة يذكرون أنهم لا يعرفون كيفية صفاته. كقولهم: (الأستواء معلوم، والكيف مجهول) . وهذا الكيف المجهول هو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 23 التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. وهذا هو النوع الثالث من العلم الذي ذكر ابن أبي موسى أن الله انفرد به. وقد قال ابن عباس: (التفسير أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله: من ادعى علمه فهو كاذب) . وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين أن لفظ التأويل لفظ مشترك بحسب الاصطلاحات: بين صرف اللفظ عن الأحتمال الراجح إلى المرجوح، وبين تفسير اللفظ وبيان معناه، وبين الحقيقة التي هي نفس ما هو عليه في الخارج، وأن التأويل بالمعنى الثاني كان السلف يعلمونه ويتكلمون به، وبالمعنى الثالث انفرد الله به، وأما بالمعنى الأول فهو كتحريفات الجهمية التي أنكرها السلف وذموها. ومما احتج به هؤلاء: القدر، وأن العلم والإيمان يحصل للعبد بفضل الله ورحمته. تابع كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي وتعليق ابن تيمية عليه قال عبد الوهاب: (وأيضاً فإن الله قال في حق المؤمنين: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} ، فاعلم أن الإيمان من تفضله، وكتبه في القلوب. فأي عمل للعقل بعد ذلك؟ وإنما العقل بمنزلة القارىء للمكتوب، فإن كان في القلب شيء مكتوب قرأه العقل، كالمسطور يدركه النظر. وإذا لم يكن في القلوب شيء مكتوب لم يفد العقل فائدة) . قال: (ثم نقول: هل نال الأنبياء النبوة بعقولهم؟ أم باصطفاء الله لهم وإرساله إليهم الملائكة؟ فإن قال: بعقولهم. فقد أكذبه الله تعالى بقوله: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 24 وإذا ثبت أن العقل لم يفد الرسالة والنبوة، وإنما ذلك اختصاص من الله لهم، كذلك معرفة الله والإيمان به ليس للعقل في ذلك شيء. وإنما العقل شرط في التكليف والخطاب بالشرع، كالحياة والوجود) . قال والده أبو الفرج: قال بعض أصحابنا: عرف بنور الهداية. وقال غيره: عرفنا نفسه بتعرفه، والجميع واحد. قال: (وقد روي ذلك عن جماعة من السلف الصالح، فسئل بعضهم: أعرفت الله بمحمد أم عرفت الله به؟ فقال: عرفت الله به، وعرفت محمداً بالله، ولو عرفت الله بمحمد لكانت المنة لمحمد دون الله) . قلت: هذه الطريقة تصلح أن تكون رداً على القدرية من المعتزلة ونحوهم، الذين يقولون: إن ما يحصل باختيار العبد من علم وعمل فإنه هو الذي أحدثه بدون معونة من الله له، وله هدى يسره له خصه به دون الكافر. بل يجعلون المؤمن والكافر سواء فيما فعل الله بهما من أسباب الهداية، حيث أرسل الرسول إليهما جميعاً، وخلق لكل منهما استطاعة يتمكن بها من الإيمان، وأزاح علةكل منهما. بل يقولون: إنه يجب عليه أن يفعل بكل منهما من اللطف الذي يؤمن به اختياراً كل ما يقدر عليه، فيفعل به الأصلح في دينه، وأنه ليس في المقدور مما يؤمن به اختيار شيء، ولكن المؤمنون - كأبي بكر وعلي آمنا بأنفسهما، والكفار - كأبي لهب وأبي جهل - كفرا بأنفسهما، من غير أن يختص الله المؤمن بأسباب تقتضي إيمانه. ولهذا قال لهم الناس: إذا كان الأمر كذلك، وهما مستويان في أسباب الإيمان، فلما أختص أحدهما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 25 بوجود الإيمان منه دون الآخر؟ وإذا قالوا بمشيئته وقدرته، قالوا لهم: إن كان للكافر مثل ذلك بطل الاختصاص، وإن لم يكن له مثل ذلك كان المؤمن مخصوصاً بأسباب من الهداية لم يحصل مثلها للكافر. وأيضاً فإن الله يسأل الهدى إلى الصراط المستقيم في كل صلاة، والهدى المشترك بين المؤمن والكافر قد فعله، بل يجب عنده عليه فعله، فما المطلوب بالدعاء بعد ذلك؟ وأيضاً فإن الله تعالى قال: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} . الآية، فبين أنه حبب الإيمان إلى المؤمنين وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان. والقدرية من المعتزلة والشيعة تتأول ذلك بأنه حبب الإيمان إلى كل مكلف وزينة بما أظهره من دلائل حسنه، وكره الكفر بما أظهر من دلائل قبحه. فيقال لهم: أول الآية وآخرها خطاب للمؤمنين، بقوله: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} وقال في آخرها: {أولئك هم الراشدون} فبين أن الذين حبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر هم الراشدون، والكفار ليسوا براشدين، ولو كان قد فعل بالكفار كما فعل بهم، لم يصح أن يمتن عليهم بما يشعر اختصاصهم به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 26 كما قال في أثناء السورة: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} . فلو كان المراد بالهداية الهداية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، لم يقل: إن كنتم صادقين. فإن تلك حاصلة سواء كانوا صادقين في قولهم أمناء، أولم يكونوا صادقين. وهذا كقوله: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} ، وأمثال ذلك مما يبين اختصاص المؤمنين بهدى ليس للكفار. كقوله: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} . وقوله: {فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة} . وقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} ، ومثل هذا في القرآن كثير، وليس هذا موضع بسط هذه المسألة، ولكن المقصود التنبيه على المأخذ. فالمعتزلة يقولون إن ما يحصل بكسب العبد واختياره من المعرفة ليس مما جعله الله في قلبه. ويقولون: إن المعرفة الواجبة لا تكون مما يقذفها الله في قلب العبد، لأن الواجب لا يكون إلا مقدوراً للعبد. ومقدورات العباد عندهم لا يفعلها الله ولا يحدثها، ولا له عليها قدرة. وقد يقولون: إنه لا يستحق الثواب إلا على مقدوره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 27 ولهذا يقول من يقول منهم: إنه يمتنع أن تكون ضرورية، لأنه حينئذ لا يستحق عليها الثواب. لكن هنا هم متنازعون فيه، لإمكان أن يكون الثواب على ما سوى ذلك، كما أن الحياة والقدرة على النظر والعلوم الضرورية هي من خلق الله عندهم، ولا ثواب فيه ولا أجر لها. ولهذا جوز أهل الإثبات أن تقع المعارف النظرية ضرورية وبالعكس، ولأن ذلك لا ينافي ما وعد الله به من الثواب عندهم، بل يجوز عندهم أن يجعل الله في قلب العبد من معرفته ومحبته ما يحصل بغير كسبه، ويثيبه عليه أعظم الثواب. فالذين احتجوا من أهل السنة على أن المعرفة والإيمان تحصل للعبد بفضل الله ورحمته وهدايته وتعريفه، ونحو ذلك من العبارات، يتضمن قولهم إبطال قول هؤلاء القدرية. وهذا صحيح، لكن ليس في ذلك ما يقتضي أن المعرفة لا يمكن أن تحصل بنظر العقل، كما أنه ليس في ذلك ما يقتضي أنها لا تحصل بتعليم الرسول والعلماء والمؤمنين ودعائهم وبيانهم واستدلالهم. بل من المعلوم أن العلم يحصل في قلب العبد تارة بما يسمعه من الناس من البيان والتعليم: إما إرشاداً إلى الدليل العقلي، وإما اخباراً بالحق الواقع. وتحصل تارة بما يقذفه في قلبه من النظر والاعتبار والاستدلال الذي ينعقد في قلبه، كما يحصل تارة بكسبه واستدلاله. ويحصل تارة بما يضطره الله إليه من العلم من غير إكتساب منه، وإن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 28 كان العلم الذي حصل باكتسابه ونظره هو مضطر إليه في آخر الأمر. فلا يمكن العالم العارف، بعد حصول المعرفة في قلبه بدليل أو غير دليل، أن يدفع ذلك عن قلبه، اللهم إلا بأن يسعى فيما يوجب نسيانه وغفلته عن ذلك العلم. وقد لا يمكنه تحصيل الغفلة والنسيان. وذلك أن ما كتبه الله في قلوب المؤمنين من الإيمان، سواء حصل بسبب من العبد، كنظره واستدلاله، أو بسبب من غيره، أو بدون ذلك، هو والأسباب التي بها حصل بقضاء الله وقدره، وهي من نعمة الله على عبده، فإن الله هو الذي من بالأسباب والمسببات. فمن ظن أن المعرفة والإيمان يحصل بمجرد عقله ونظره واستدلاله - كما تقوله القدرية - كان ضالاً. وهذا هو الذي أبطله هؤلاء. وقولهم: إن العقل شرط في التكليف والخطاب كالوجود والحياة، كلام صحيح. والشرط له مدخل في حصول المشروط به، كما للحياة مدخل في الأمور المشروطة بها. والعقل قد يراد به الغريزة، وقد يراد به نوع من العلم ونوع من العمل وكل هذه الأمور هي من الأمور المعينة على حصول الإيمان. ولهذا يتفاضل الناس في الإيمان بحسب تفاضلهم في ذلك. وأهل السنة لا ينكرون وجود ما خلقه الله من الأسباب ولا يجعلونها مستقله بالآثار، بل يعلمون أنه ما من سبب مخلوق إلا وحكمه متوقف على سبب آخر، وله موانع تمنع حكمه، كما أن الشمس سبب في الشعاع، وذلك موقوف على حصول الجسم القابل به، وله مانع كالسحاب والسقف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 29 والله خالق الأسباب كلها، ودافع الموانع. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: «من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له» . كما قال تعالى: ( {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} . وقال تعالى: {من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون} . وقال تعالى: {ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه} . ولهذا كان مذهب أهل السنة أن ما يحصل بالقلب من العلم، وإن كان بكسب العبد ونظره واستدلاله واستماعه ونحو ذلك، فإن الله تعالى هو الذي أثبت ذلك العلم في قلبه، وهو حاصل في قلبه بفضل الله وإحسانه وفعله. والقدرية لا يجعلونه من فعل الله، بل يقولون: هو متولد عن نظره، كتولد الشبع عن الأكل، والري عن الشرب، والجرح عن الجرح، فيجعلون هذه الأمور المتولدات عن الأسباب المباشرة من فعل العبد فقط، كما يقولون في الأمور المباشرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 30 وقد عارضهم من ناقضهم من متكلمة الإثبات، فلم يجعل للعبد فعلاً ولا أثراً في هذا المتولدات، بل جعلها من مخلوقات الله التي لا تدخل تحت مقدور العباد ولا فعلهم، ولم يجعل للعبد فعلاً إلا ما كان في محل قدرته، وهو ما قام ببدنه، دون ما خرج عن ذلك. والقول الوسط أن هذه الأمور التي يقال لها المتولدات حاصلة بسبب فعل العبد وبالأسباب الأخرى التي يخلقها الله. فالشبع يحصل بأكل العبد وابتلاعه، وبما جعله الله في الإنسان وفي الغذاء من القوى المعينة علىحصول الشبع. وكذلك الزهوق حاصل بفعل العبد وبما جعله في المحل من قبول الانقطاع، وهو سبحانه خالق للأثر المتولد عن هذين السببين، اللذين أحدهما فعل العبد، وهو خالق للسببين جميعاً. ولهذا كان العبد مثاباً على المتولدات، والله تعالى يكتب له بها عملاً، وقد ذكر الأفعال المباشرة والمتولدة في آيتين في القرآن. قال تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح} ، فهذه الأمور كلها هي مما يسمونه متولداً، فإن العطش والتعب والجوع هو من المتولدات، وكذلك غير الكافر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 31 وكذلك ما يحصل فيهم من هزيمة ونقص نفوس وأموال وغير ذلك. ثم قال تعالى: {ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم} ، فالإنفاق وقطع الوادي عمل مباشر فقال فيه: {إلا كتب لهم} ولم يقل: به عمل صالح. وأما الجوع والعطش والنصب وغيظ الكفار ما ينال منهم فهو من المتولدات، فقال فيه: {إلا كتب لهم به عمل صالح} ، فدل ذلك على أن عملهم سبب في حصول ذلك، وإلا فلا يكتب للإنسان بدون سبب من عمله، بل تكتب الآثار لأنها من أثر عمله. قال تعالى: {نكتب ما قدموا وآثارهم} . وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» . وقال في الحديث الصحيح: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 32 ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» . ولهذا كانت هذه التي يسمونها المتولدات يؤمر بها تارة وينهى عنها أخرى. كما قال تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} . وقال تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم} . وقال: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} . وقال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين} . فأخبر أنه هو المعذب بأيدي المؤمنين، فهذا مبسوط في موضع آخر. والمقصود هنا أن القدرية لما كانت تزعم أن ما يحصل من الإيمان في القلب ليس من فعل الله، بل هو من فعل العبد فقط، وأنه خارج عن مقدور الله وعن ما من الله به على العبد - كان ما ذكر رداً عليهم. وأما من أقر بأن ذلك من فضل الله وإحسانه، وجعل ما يحصل بالنظر والاستدلال من فضل الله وإحسانه، فلا حجة عليه إذا قال إنه بنظر العقل واستدلاله قد يهدي الله العبد ويجعل في قلبه علماً نافعاً. وقد تنازع أهل الإثبات في اقتضاء النظر الصحيح للعلم: هل هو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 33 بطريق التضمن الذي يمتنع الفكاكة عنه عقلاً؟ أو بطريق إجراء الله العادة التي يمكن نقضها؟ وبكل حال فالعبد مفتقر إلى الله في أن يهديه ويلهمه رشده. وإذا حصل له علم بدليل عقلي، فهو مفتقر إلى الله في أن يحدث في قلبه تصور مقدمات ذلك الدليل ويجمعها في قلبه، ثم يحدث العلم الذي حصل بها. وقد يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدهم نظراً ويعميه عن أظهر الأشياء، وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظراً ويهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فلا حول ولا قوة إلا به. فمن اتكل على نظره واستدلاله، أو عقله ومعرفته، خذل. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كثيراً ما يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» ويقول في يمينه: «لا ومقلب القلوب» . ويقول: «والذي نفسي بيده» ويقول: «ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، وإن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 34 وكان إذا قام من الليل يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذانك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» . وكان يقول هو وأصحابه في ارتجاجهم: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينةً علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا وهذا في العلم كالإرادات في الأعمال، فإن العبد مفتقر إلى الله في أن يحبب إليه الإيمان ويبغض إليه الكفر، وإلا فقد يعلم الحق وهو لا يحبه ولا يريده، فيكون من المعاندين الجاحدين. قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} . وقال: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} ، فكما أن الإنسان فيما يكتسبه من الأعمال مفتقر إلى الله محتاج إلى معونته، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، كذلك فيما يكتسبه. من العلوم، ومع هذا فليس لأحد حجة على الله في أن يدع ما أمر به من الأسباب التي يحصل بها العلم النافع والعمل الصالح. ولكن الشأن في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 35 تعيين الأسباب، فيذم من المعتزلة أنهم أحدثوا طرقاً زعموا أن معرفة الله لا تحصل إلا بها، وزعموا أن المعرفة تجب بها بفعل العبد لا بفعل الله. ومن الناس من قد يوافقهم على إحدى البدعتين دون الأخرى. وكثير من الناس قد اختلف كلامه في هذا الأصل، تارة يقول: إن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر، ويجعل أول الواجبات النظر أو المعرفة الحاصلة به، وقد يعين طريق النظر، كما فعل ذلك القاضي أبي يعلى في المعتمد موافقة للقاضي أبي بكر وأمثاله من الموافقين في هذا الأصل للمعتزلة، وكما فعل ابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم. ومن توابع ذلك أن النظر المفيد للعلم لا يكون إلا نظراً في دليل. والنظر الذي يوجبونه يكون نظراً فيما يعلم الناظر أنه دليل، لأنه لو علم قبل النظر أنه دليل لعلم ثبوت المدلول، وإذا كان عالماً به لم يحتج إلى الاستدلال عليه، فيوجبون سلوك طريق لا يعلم السالك أنه طريق. كلام أبي يعلى عن عدم وجوب النظر ثم أن القاضي أبا يعلى في كتابه المعروف بعيون المسائل الذي صنفه في الخلاف من المعتزلة والأشعرية ذكر ما يخالف ذلك، فقال: (مسألة: مثبتو النبوات تحصل لهم المعرفة بالله بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول، خلافاً للأشعرية في قولهم: لا تحصل حتى ننظر نستدل بدلائل العقول. دليلنا أن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجز علمنا أن هناك مرسلاً أرسله، إذ لا يكون هناك نبي إلى وهناك مرسل. وإذا ثبت أن هناك مرسل أغنى ذلك عن النظر والاستدلال في دلائل العقول على إثباته. ولأنه لما لم يقف وجود المعرفة على النظر في دلائل العقول، بل وجبت بالشرع، كذلك طريقها جاز أن يحصل بالشرع دون دلائل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 36 العقول. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم» فحكم بصحة إيمانهم بالدعاء إلى الشهادتين والإجاب إليها من غير أن يوجد منهم نظر واستدلال) . قال: (واحتج المخالف بأن الله أمر بالنظر والاستدلال في دلائله. فقال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} ، وقال: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} . وقال: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} . وقال: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها} . وقال: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} ، وإذا أمر بذلك دل على أن النظر يثمر المعرفة) . قال: (والجواب أنا لا نمنع حصول المعرفة به، وإنما كلامنا هل تحصل بغيره أم لا؟ وقد دللنا على حصوله بغيرها من الوجه الذي ذكرنا) . تعليق ابن تيمية ولقائل أن يقول: أما قوله: (إن المعرفة يجوز حصولها بالشرع) فهذا مسلم، لكن حصولها بالشرع على وجوه: أحدهما: أن الشرع ينبه على الطريق العقلية التي بها يعرف الصانع، فتكون عقلية شرعية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 37 الثاني: أن المعرفة المنفصلة بأسماء الله وصفاته، التي بها يحصل الإيمان، تحصل بالشرع، كقوله تعالى: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} . وقوله: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي} . وقوله: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم} ، وأمثال ذلك من النصوص التي تبين أن الله هدى العباد بكتابه المنزل على نبيه. كلام الفرج الشيرازي عن وجوب المعرفة بالشرع وأما كون مجرد الوجوب بالشرع، فلا يدل على إمكان الحصول بمجرد الشرع. ونظير هذا استدلال طائفة كالشيخ أبي الفرج الشيرازي على أوجوبها وحصولها بالشرع. فقالوا: (لا يخلو إما أن تكون معرفة الباري وجبت أو حصلت بالشرع دون العقل، أو بالعقل دون الشرع، أو بهما جميعاً. لا يجوز أن يكون ذلك بالعقل دون الشرع لما بينا. ولا يجوز أن يكون ذلك بالشرع والعقل لأنه لا يخلو إما أن يكون ما يعرف بالعقل يوجد في الشرع أو لا يوجد. ولا يجوز أن يقال: لا يوجد في الشرع، لأن الله تعالى قال: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} ، وإذا كان ذلك موجوداً في الشرع، فلا حاجة بنا إلى ذكر العقل) . تعليق ابن تيمية فيقال: هذه الطريقة تفيد أن ذلك موجود في الشرع. ويستدل على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 38 ذلك بقوله: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} . وقوله: {ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء} . وقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} ، ونحو ذلك مما فيه الاستدلال بذلك أجود من الاستدلال بقوله: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} ، لأن الكتاب هنا في أشهر القولين - هو اللوح المحفوظ، كما يدل عليه السياق في قوله: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء} . وإذا كان الشيء موجوداً في الشرع، فذلك يحصل بأن يكون في القرآن الدلالة على الطريق العقلية والتنبيه عليها والبيان لها والإرشاد إليها. والقرآن ملآن من ذلك، فتكون شرعية بمعنى أن الشرع هدى إليها، عقلية بمعنى أنه يعرف صحتها بالعقل، فقد جمعت وصفي الكمال. وأيضاً فإذا كان الشرع قد دل على شيء أو أوجبه، وقدر أن في العقل ما يوافق ذلك، لم يضر ذلك، وإن كان قد يستغنى عنه، فلا يطعن في صحته للاستغناء عنه. وأما كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يطالب الناس بالنظر والاستدلال، فهذا دليل قاطع على أن الواجب متأدى بدون الطرق التي أحدثها الناس وأبدعها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 39 وأما الوجه الأول وهو قوله: (إن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجز، علم أن هناك مرسلاً أرسله، لكون ثبوت لارسالة يستلزم ثبوت المرسل) فهذا لا بد فيه من تقدير. وهذا الكلام الذي قاله من أن العلم بالرسول يتضمن العلم بالمرسل، كلام صحيح. فإن العلم بالإضافة يستلزم العلم بالمضاف والمضاف إليه. لكن المعترض يقول له: المعجزة لا تدل على الرسالة إلا بعد العلم بإثبات الصانع، ثم يعلم بعد ذلك صدق الرسول، إما لكون المعجز يجري مجرى التصديق، والعلم بذلك ضروري في العادة. وإما لكون المعجز لم يدل على الصدق للزم عجز الرب عن طريق يصدق به الرسول، وإما لكون تصديق الكذاب قبيحاً، هو منزه عن فعل القبيح، ونحو ذلك من الطرق التي سلكوها من سلكها من أهل النظر القائلين بأن صدق الرسول لا يعرف إلا بالمعجزة. والطريقان الأولان هما طريقا الأشعري وأصحابه ومن وافقهم، كالقاضي أبي يعلى وأمثاله. والثاني هو طريق المعتزلة ومن وافقهم، كأبي الخطاب وأمثاله. وأما القائلون بأن صدق الرسول يعرف بطرق أخرى غير المعجزة، فلا يحتاجون إلى هذا. وقد بسط الكلام على ذلك في موضعه. والمقصود هنا أن قول القائل: إن مثبتي النبوات تحصل لهم معرفة بالله بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول. وإنا لا نمنع صحة النظر، ولا نمنع حصول المعرفة به، وإنما خلافنا: هل يحصل بغيره؟ يحتاج إلى بيان حصول المعرفة لمثبتي النبوات. والقاضي في هذا قد سلك مسلك الخطابي، كما قد كتبنا كلامه، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 40 وقد قال: (إنما يثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه: أحدها: ثبوت النبوات بالمعجزات التي أوردها نبيهم) إلى قوله: (فلما استقر ما شاهدوه من هذه الأمور في أنفسهم، وثبت ذلك في عقولهم، صحت عندهم نبوته، وظهرت عن غيره بينونته، ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب، ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله، وإثبات صفاته، وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم، وفي سائر المصنوعات، من آثار الصنعة، ودلائل الحكمة الشاهدة على أن له صانعاً حكيماً عالماً خبيراً، تام القدرة، بالغ الحكمة. وقد نبههم الكتاب عليه، ودعاهم إلى تدبره وتأمله، والاستدلال به على ثبوت ربوبيته) إلى آخر كلامه. وهذا الكلام يمكن تقريره بطرق: أحدها: بأن يقال: الإقرار بالصانع ضروري لا يحتاج إلى نظر، فإذا شوهدت المعجزات أمكن أن يعلم بها صدق الرسول. الثاني: أن يقال: نفس المعجزات يعلم بها صدق الرسول المتضمن إثبات مرسله، لأنه دالة بنفسها على ثبوت الصانع المحدث لها، وأنه أحدثها لتصديق الرسول، وإن لم يكن قبل ذلك قد تقدم من العبد معرفة الإقرار بالصانع. وقد يقال: إن قصة موسى من هذا الباب. قال تعالى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 41 {كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون * فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين * أن أرسل معنا بني إسرائيل * قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين * وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل * قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون * قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين * قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم * فجمع السحرة لميقات يوم معلوم * وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين * فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين * قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون * فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون * فألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 42 وهارون * قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين * قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين} . وفي سورةطه: {فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى} . إلى آخر القصة. ففرعون كان منكراً للصانع، مستفهماً عنه استفهام إنكار، سواء كان في الباطن مقراً به أو لم يكن، ثم طلب من موسى آية فأظهر آيته، ودل بها على إثبات إلهية ربه وإثبات نبوته جميعاً. كما قال: {لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين} . ولهذا قال السحرة لما عارضوا معجزته بسحرهم، فبطل سحرهم، تبين أن تلك آية لا يقدر عليها المخلوقين: {قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون} فكان إيمانهم بالله لما شاهدوا معجزة موسى صلى الله عليه وسلم، فكانت المعجزة مبينة للعلم بالصانع وبصدق رسوله. وذلك أن الآيات التي يستدل بها على ثبوت الصانع تدل المعجزة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 43 كدلالتها وأعظم. وإذا كانت دلالتها على صدق الرسول معلومة بالاضطرار، كالمثل الذي ضربوه في أن رجلاً لو تصدى بحضرة ملك مطاع وقال: إن كنت رسولك فانقض عادتك، وقم ثم اقعد، ثم قم ثم اقعد، فخرق الملك عادته، وفعل ما طلبه المدعي على وفق دعواه - لعلم الحاضرون بالضرورة أنه فعل ذلك تصديقاً له. فمن المعلوم أنه إذا تنازع رجلان: هل داخل هذه الدار ناسخ يكتب خطاً مليحاً؟ فأخذ المدعى ورقاً أبيض، ومعه شعر قد صنعوه في تلك الحال في ورقة أخرى، وقال: إن كان هناك ناسخ فلينسخ هذا الشعر في هذه الورقة البيضاء، فأخرجت إليهم الورقة البيضاء وقد كتب فيها ذلك الشعر - تيقنوا أن هناك من ينسخ. فكذلك من نازع في إثبات صانع يقلب العادات ويغير العالم عن نظامه، فأظهر المدعي للرسالة المعجز الدال على ذلك - علم بالضرورة ثبوت الصانع الذي يخرق العادات، ويغير العالم عن نظامه المعتاد. وبالجملة فانقلاب العصا حية أمر يدل على ثبوت صانع قدير عليم حكيم، أعظم من دلالة ما اعيد من خلق الإنسان من نطفة، فإذا كان ذاك يدل بنفسه على إثبات الصانع، فهذا أولى. وليس هذا الموضع بسط هذا. وإنما المقصود التنبيه على أن المعجزات قد يعلم بها ثبوت الصانع وصدق رسوله معاً. وما ذكرناه من كون الإقرار بالصانع فطري ضروري هو قول أكثر الناس، حتى عامة فرق أهل الكلام. قال بذلك طوائف منهم من المعتزلة والشيعة وغيرهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 44 وكون المعرفة يمكن حصولها بالضرورة، لم ينازع فيه إلا شذوذ من أهل الكلام، ولكن نازع كثير منهم في الواقع. وزعم أن الواقع أنها لا تحصل لأكثر الناس إلا بالنظر. وجمهور الناس نازعوه في هذا، وقالوا: بل هي حاصلة لأكثر الناس فطرة وضرورة. كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر وابن الزاغوني ممن يقول بوجوب النظر، وأن المعرفة لا تحصل إلا به، حتى قال: ( فصل : إذا قال القائل: أنا أعتقد حدوث العالم والتوحيد وصحة الدين، وأقر بالنبوة لا بطريق النظر ولااستدلال، ولا عن نظر في حجة أو دليل، لكن بطريق التقليد في ذلك، أو مما سوى ذلك، مما لا يستدل إلى معرفة ثابتة عن نظر في حجة أو دليل بحيث ينتهي الاستدلال إلى العلم الحق، فهذا ليس هو بمؤمن، ولا نحكم بأنه مؤمن عند الله، ولا يثاب على هذا الإيمان، بل هو معاقب ملوم على ترك ما أمر به من العلم بالله وصحة الدين والنبوة، والنظر فيما يقتضي به النظر فيه إلى معرفته بذلك بطريق اليقين) . قال: (وقالت طائفة: هو مؤمن عندنا وعند الله إذا صادق اعتقاده التوحيد والنبوة، وما يجب عليه اعتقاده من الحق في المعارف الدينية، سواء كان ممن يتهيأ له ذلك بطريق انقطع فيه بأدلته، أو ممن لا يتهيأ له ذلك) قال: (وقالت طائفة: هو مؤمن في الظاهر عندنا، ولا نعلم: هل هو مؤمن عند الله أم لا؟ وقالت طائفة: نحكم بأنهم مؤمنون ما لم يخطر ببالهم ما يخالف ذلك من التشبيه والحيز، وإبطال النبوات، وأعراض الجزء: 9 ¦ الصفحة: 45 الشبه في ذلك. فإذا خطر لهم شيء من ذلك وجب عليهم النظر والاستدلال لدفعه، وأن لا يتمكثوا ولا يتثبطوا عن النظر حتى يصلوا إلى عين الحق الرافع للشبهة، فإن لم يصلوا إلى ذلك لم يؤدوا ما فرض عليهم من الإيمان علىحقه، وإن عجزوا عن ذلك لم يكن عجزهم عذراً عن الوصول إلى حقيقة الحق) . قال: (وقالت طائفة: لا يجب عليهم ذلك، ويحل لهم البقاء على ما هم عليه، وأن لا يعتقدوا في ذلك شيئاً، مع القيام على السنة) . قال: (والدلالة عليه أنا قد قدمنا الدليل على وجوب معرفة الله، وسائر المعارف الدينية: من التوحيد، وصحة النبوة، والدين. وبينا أن حقيقة المعرفة إنما تكون بالعلم وأبطلنا أن يكون التقليد طريقاً إلىالعلم. وإنما يصل إلى العلم به واليقين فيه إذا خرج عن الشبهة العارضة، الموجبة للشك، الناقلة عن الحق. وإذا ثبت ذلك بالأدلة المتقدمة، فمدعي المعرفة مع ترك النظر والاستدلال - المؤدي إلى الدليل القاطع المتوقف على حقيقة التوحيد والمعارف الدينية - مبطل وإذا كان مبطلاً في معرفته لم نحكم بإيمانه، لأن الإيمان ها هنا هو التصديق، وإنما يصدق بما يزول معه الشك، ويبرأ من عهدة الاشتباه) . وبسط الكلام في ذلك العادة المعروفة. وقد قال في كتابه الكبير الذي سماه منهاج الهدى: (فصل في معرفة الله وسائر معارف الدين: كسبية وليست حاصلة بطريق الضطرار) . قال: (وقال طوائف، منهم الجاحظ وصالح قبة وفضل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 46 الرقاشي والصوفية وكثير من الشيعة: معارف الدين كلها حاصلة بطريق الضرورة. ثم اختلفوا بعد ذلك، فقال طائفة، منهم صالح قبة: إن الله جعل معارف دينه ضرورة يبتديها ويخترعها في قلوب البالغين، من غير سبب متقدم، ولا بحث ولا نظر، وهو قول طائفة من الشيعة. وقالت طائفة من الشيعة: إن الله يخترعها في قلوب البالغين، لكن من المحال أن يفعلها فيهم إلا بعد فكر ونظر يتقدمها، ثم يهب الله المعرف لمن أحب، كما يهب الولد عند الوطء، وقد يجوز أن لا يهبها مع النظر، كما لا يهب الولد مع الوطء. وقالت طائفة من الشيعة: الخلق مضطرون إلى المعارف بالأسباب، فإذا حصلت عن الأسباب كانوا مختارين للمعرفة، مضطرين إليها في حال واحدة، فيكون مضطراً للسبب مختاراً للإرادة. وقال طائفة من المعتزلة القائلين بأن المعرفة ضرورة: إن الله لا يخترع شيئاً من أمور الدين والدنيا وعلومهمااختراعاً، ولكنها تحدث من بعد الإرادة وطباعاً، وأن الله خلق العباد وهيأهم لاكتساب الإرادة، وما يحدث بعدها من نظر وغيره فهو واقع بالطبع، وليس يضاف إلى الإنسان إلى على سبيل المجاز والاتساع) . قال: (وقالت طائفة من المعتزلة، منهم غيلان بن مروان: إن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 47 معرفة الإنسان لنفسه ومعرفة صانعه وأنه غيره، يضطر الإنسن إليها بالطبع، فأما باقي المعارف الدينية فكلها اكتساب) . قال: (وقالت طائفة، منهم أبو الهذيل العلاف: معرفة العلم والدليل الذي يدعو إلى معرفة الصانع إضطرار. فأما ما يحدث بعدها من علم فعام بالقياس، فذلك علم اختيار واكتساب) . قال: (وقالت: طائفة، منهم بشر بن المعتمر: معرفة الإنسان لنفسه ليست من فعله ولا من كسبه ولا اضطرار إليها، بل تخترع له وتخلق مخترعة في قلبه، وما يدرك بالحواس من علوم الديانات وغيرها اضطرار، وما يعلم بالقياس اكتساب، ويجوز فيهما جميعاً الاضطرار، ويجوز فيهما جميعاً أن يكونا اكتساباً) . قال: (وقالت طائفة منالمعتزلة: الناس مضطرون إلى ذلك على كل حال، وليس لهم في ذلك حيلة) . قال: (وقالت طائفة من المعتزلة، منهم الجاحظ: معرفة الله تقع ضرورة في طباع نامية عقب النظر والاستدلال) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 48 قال: (وقالت الجبرية، ومتقدمهم جهم بن صفوان: معرفةالله تقع باختيار الله لا باختيار العبد، وبنوه عل مذهبهم في الخبر) . قال ابن الزاغوني: (وتفيد هذه المسألة فائدة حكيمة، وهو أن القائل بمعرفة الله واجبة بطريق الكسب يقول: إن الله يعاقب العبد على جهله بالله وجهله بالدين واعتقاد الباطل. وأمامن قال: إنها ضرورية، فإنه يقول: فائدة ذلك أنه لا يجوز أن يعذب الله الجاهل على جهله، وعل أنه لم يكتسب المعرفة، لأن ذلك ليس من مقدوراته، وإنما يعذبه على جحده وإنكاره لما عرفه إياه بطريق اضطراره له إليه) . فصل وما ذكرناه من أن الرسل، صلوات الله عليهم، بينوا للناس الطرق العقلية، ونبهوهم عليها، وهدوهم إليها، كما أنه معلوم لنا، فهو مما ذكره طوائف من أئمة الكلام والفلسفة. وأعظم المتكلمين المعظمين للطرق العقلية هم المعتزلة، فإنهم يقولون: كما أن المعرفة لا تحصل ابتداء إلا بالعقل، فإنهم يقولون بأنها واجبة بالعقل، بناءً على القول بأن العقل يعرف به الإيجاب والتحريم، والتحسين والتقبيح. وهذا الأصل تنازع فيه المتأخرون من عامة الطوائف. فلكل طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد فيه قولان. وأما الحنفيه فالمعروف عنهم القول بتحسين العقول وتقبيحه، ونقلوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه، وأنه كان يوجب بالعقل معرفة الله تعالى. ولأصحاب الحديث والصوفية وغيرهم في هذا الأصل نزاع. ومن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 49 القائلين بتحسين العقل وتقبيحه من أهل الحديث أبو نصر السجزي وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما، وذكروا أن إنكار ذلك من بدع الأشعري التي لم يسبق إليها. وممن قال ذلك من أصحاب أحمد أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب وغيرهما. بل ذكروا أن هذا قول جمهور الناس، وذكروا مع ذلك أن الرسل أرشدت إلى الطرق العقلية كما أمرت بالواجبات العقلية. فهم مع قولهم بتحسين العقل وتقبيحه يقولون: إن الرسل بينت ذلك ووكدته، وهكذا، مع قولهم بأن المعرفة تحصل بالأدلة العقلية، يقولون: إن الرسل بينت ذلك ووكدته، فما يعلم بالعقل من الدين هو عندهم جزء من الشرع، والكتاب - والسنة - يأتي على المعقولات الدينية عندهم. كلام الكلوذاني في تمهيده وتعليق ابن تيمية قال أبو الخطاب في تمهيده: (اختلف أصحابنا: هل في قضاء العقل حظر وإباحة وإيجاب وتحسين وتقبيح أم لا؟ فقال أبو الحسن التميمي: في قضايا العقل ذلك، حتى لا يجوز أن يرد الشرع بحظر ما كان في العقل واجاباً، كشكر المنعم، والعدل، والإنصاف، وأداء الأمانة، ونحو ذلك. ولا يجوز أن يرد بإباحة ما كان في العقل محظوراً، نحو الظلم، والكذب، وكفر النعمة، والخيانة، وما أشبه ذلك) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 50 قال: (وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين وعامة الفلاسفة) . قال: (وقل شيخنا - يعني القاضي أبي يعلى -: (ليس قضايا العقل ذلك، وإنما يعلم ذلك من جهة الشرع، وتعلق بقول أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار: ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، وإنما هو الاتباع) . قال أبو الخطاب: (وهذه الرواية - إن صحت عنه - فالمراد به الأحكام الشرعية التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها) . قلت: قول أحمد: (لا تدركها العقول) أي أن عقول الناس لا تدرك كل ما سنه رسول لله صلى الله عليه وسلم، فإنها لو أدركت ذلك، لكان علم الناس كعلم الرسول. ولم يرد بذلك أن العقول لا تعرف شيئاً أمر به ونهي عنه. ففي هذا الكلام الرد ابتداء على من جعل عقول الناس معياراً على السنة، ليس فيه رد على من يجعل القول موافقة للسنة) . قال أبوالخطاب: (ولهذه القول قالت الأشعرية وطائفة من المجبرة، وهم الجهمية) . قال: (وعلى هذا يخرج وجوب معرفة الله: هل هي واجبة بالشرع، حتى لو لم يرد ما يلزم أحداً أن يؤمن بالله وأن يعترف بوحدانيته ويوجب شكره أم لا؟ فمن قال: يجب بالشرع، يقول: لا يلزم شيء من ذلك لو لم يرد الشرع. ومن قال بالأول: قال: يجب على كل عاقل الإيمان بالله والشكر له. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 51 ووجه ذلك أنه لو لم يكن في العقل إيجاب وحظر، لم يتمكن المفكر أن يستدل على أن الله سبحانه لا يكذب خبره، ولا يؤيد الكذاب بالمعجزة، إذ لا وجه في العقل لاستقباحه وخروجه عن الحكمة قبل الخبر عندهم. وإذا كان كذلك لم يؤمن العاقل كون كل خبر ورد عنه أنه كذب، وكل معجزة رآها أن يكون قد أيد بهذا الكذاب المتخرص، وفي ذلك ما يمنع الأخذ بخبر السماء، والانقياد لمعجزات النبوة الدالة على صدقها. ولما وجب اطراح هذا القول، والاعتقاد بأن الله جلت عظمته منزه عن الكذب، متعال عن تأييد المتخرص بالمعجزة، ثبت أن ذلك إنما قبح وحظر في العقل وامتنع في الحكمة) . قلت هذه طريقة معروفة للقائلين بالتحسين والتقبيح العقليين. ويقولون إنهم يعلمون بتلك أن الله منزه عن أن يفعل القبيح، كالكذب وتصديق الكاذب المدعي للنبوة بالمعجزة الدالة على صدقه، وإن كان ذلك ممكناً مقدوراً له، لكن لا يفعله لقبحه وخروجه عن الحكمة. وهم يقولون: إنه بهذه الطريقة يعلم صدق الأنبياء. والذين ينازعونهم - كالأشعري وأصحابه، وابن حامد، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وابن الزاغوني وغيرهم - يسلكون في المعرفة بتصديق الأنبياء غير هذه الطريق. وإما طريقة القدرة - كما سلكها الأشعري في أحد قوليه، والقاضيان أبو بكر وأبو يعلى وغيرهما - وهو أنه لا طريق إلى تصديق النبي غير المعجزة، فلو لم تكن دالة على التصديق للزم عجز الباري عن تصديق الرسل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 52 وإما طريقة الضرورة - كما سلكها الأشعري في قوله الآخر، وأبو المعالي وطوائف أخر - وإما غير ذلك من الطرق التي بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع. وليس المقصود هنا بسط الكلام في هذه المسائل. بل المقصود أن جميع الطوائف - حتى أئمة الكلام والفلسفة - معترفون باشتمال ما جاءت به الرسل على الأدلة الدالة على معرفة الله وتصديق رسله، كما سيأتي ذكره في كلام القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين، والفلاسفة وغيرهم. قال أبوالخطاب: (دليل آخر: أنه غير ممتنع أن يخطر للعاقل أنه لم يخلق نفسه ولا خلقه من هو مثله من أبيه وأمه، إذ لو كانا قادرين على ذلك، لكان هو أيضاً قادراً، وكانا يقدران على خلق غيره. وهو يعلم أنهما لا يقدران، فيعلم أن له خالقاً من غير جنسه خلقه وخلق أبويه، ثم يرى إنعامه عليه بإكماله وتسخير ما سخر له من المأكول والمشروب والأنعام وغير ذلك، كإقداره عليهم، ويخطر له أنه لم يعترف له بذلك ويشكره أنه يعاقبه، وإذا جوز ذلك وجب عليه في عقله دفع الضرر والعقاب بالتزام الشكر. فإن قيل: كما يجوز أن يخطر له ما ذكرتم، يجوز أن يخطر له أن له خالقاً أنعم عليه، وأنه غني عن شكره وجميع ما يتقرب به إليه. ويخاف من تكلف له ذلك أن يسخط عليه ويقول: من أنت حتى تقابلني بالشكر، وتعتقد أنه جزاء نعمتي؟ وما أصنع بشكر مثلك؟ ونحو ذلك. وفي هذا ما يمنعه من التزام شيء من جهة عقله) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 53 قال: (والجواب: أن العاقل، مع اعترافه بحكمة خالقه، لا يتوهم أنه يسخط على من شكره وتذلل له وتضرع إليه، وإن كان غنياً عن ذلك، لأن الذي بعثه على الشكر ليس هو اعتقاد حاجة خالقه إلى الشكر، ولا أن شكره يقومن بإزاء النعمة عليه، فيمتنع، لعلمه بغناه عن ذلك. وإنما الباعث له حسن الشكر والتذلل. والتعظيم للمنعم من بدائه العقول. والحكيم لايسخط ما هذا سبيله. فإذاً قد أمن عاقبة الإقدام على الشكر، ولم يأمن عاقبة العقاب على تركه، فيجب في عقله توخي ذلك. وصار مثال ذلك أن يقال للعاقل: في الطريق مفسدون، يأخذون المال ويقتلون النفس، أو سباع تفترس الآدمي. ويقال له: أنت ما معك قليل نذر، والمفسدون قد استغنوا بما قد أخذوا، فلعلهم لا يعرضن لك أنفة من قلة مالك. والسباع قد افترست جماعة فقد شبعوا، فلعلهم لا يعرضون لك. فإن في العقل يجب عليه التوقف عن سلوك ذلك الطريق لا الإقدام عليه، كذلك ها هنا) . قلت: مضمون ذلك أن العقل يوجب سلوك الأمن دون طريق الخوف. قال: (دليل ثالث: أنه لو لم يكن في قضاء العقول: إلزام وحظر، لأمكن العاقل أن لا يلزمه شيء أصلاً، لأنه متى قصد بالخطاب سد سمعه فلم يسمع الخطاب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 54 كما أخبر الله عن قوم نوح: {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا} ، فلما علمنا أنه يجوز بعقله أن يكون في الخبر الذي خوطب به نجاته وسلامته من الهلاك، وفي الإعراض عنه بسد أذنه هلاكه ودماره، ثبت أن في عقله وجوب الإصغاء إلى الخبر، وحظر الإعراض عنه، وذلك وصية العقل لا السمع) . قال: (دليل رابع: أن العقلاء أجمعوا على قبح الكذب والظلم والخيانة وكفران النعمة، وحسن العدل والإنصاف والصدق وشكر المنعم: من أقر منهم بالنبوة ومن جحدها. ولهذا يرى الدهرية وأهل الطبائع في ذلك كأهل الأديان، بل أكثر. فدل على أنهم استفادوا ذلك من العقل لا من الأنبياء. وإذا ثبت أن فيها تحسيناً وتقبيحاً، ثبت أن فيها حظراً وإباحة. وقد صرح عليه السلام بذلك لما عرض نفسه على القبائل. دليل خامس: أنا نجد الحمد على الجميل والذم على القبيح يلزمان مع وجود العقل، ويسقطان مع عدمه، فلولا أنه مقتض للحسن والقبح لم يكن لتخصيص العاقل بالذم على القبيح والمدح على الحسن معنىً. وإذا قد وجدنا ذلك، دل على أن في العقل حظراً أو إلزاماً. دليل سادس: أن التكليف محال إلا مع العقل، ولهذا لا يكلف الشرع شيئاً إلا بعد كمال عقولنا. فدل على أن السمع يعلم بالعقول. وإذا كان معلوماً به، والعقل متقدم عليه، ولا تقف معرفته على الشرع - استحال أن يقال: طريق معرفة الله السمع. وكيف يتصور ذلك ونحن لا نعلم وجوب النظر بقول الرسول حتى نعلم أنه رسول؟ ولا نعلم أنه رسول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 55 حتى نعلم أنه مؤيد بالمعجزة؟ ولا نعلم أنه مؤيد بالمعجزة حتى نعلم أن التأييد من الله سبحانه؟ ولا نعرف التأييد من الله حتى نعرفه ونعلم أنه لا يؤيد الكذاب بالمعجزة؟ ولا نعرف ذلك إلا بفهم العقل، الذي هو نوع من العلوم الضرورية؟ فدل على أن معرفته سبحانه بالعقل. دليل سابع: لو لم تجب معرفته بالعقل لوجب أن يجوز على الله أن ينهي عن معرفته، وأن يأمر بكفره وعصيانه والجور والكذب، كما يجوز أن ينسخ ما شاء من السمعيات، ويوجب ما كان قد نهى عنه. فلما لم يكن ذلك، دل على أن ذلك غير ثابت بالسمع، وإنما يثبت بالعقل الذي لا يتغير، ولا يجوز نكثه ونسخه. دليل آخر: أن الله وهب العقل وجعله كمالاً للآدمي. وإذا أغفل النظر وضيع العقل إذا لم يقتبس منه خيراً، وإذا كان لا يقبح شيئاً ولا يحسنه، فوجوده وعدمه سيان، وهذا لا يقوله عاقل. وأيضاً يدل على ذلك عبارة ملخصة: أن من وجد نفسه مؤثراً بآثار الصنعة، مستغرقاً في أنواع النعمة، لم يستبعد أن يكون له صانع صنعه، وتولى تدبيره، وأنعم عليه، وأنه إن لم ينظر في حقيقة ذلك ليتوصل إلى الاعتراف له وإلتزام شكره، عوقب على ما أغفل من النظر، وضيع من الاعتراف والشكر، فإن العقل سيلزمه النظر لا محاله، إذ لا شيء أقرب إلى الإنسان من النظر، فدل على وجوبه بالعقل) . قلت: هذه الأدلة فيها للمنازعين كلام يحتاج معه إلى فصل الخطاب، كما ذكر في موضعه. وهذه الطريقة التي سلكها أبو الخطاب، وغيره من أهل النظر: من المعتزلة وغيرهم، بنوها على أن معرفة الله تحصل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 56 بالاستدلال بنفس الإنسان، ولا يحتاج مع ذلك إلى إثبات حدوث الإجسام، كما سلك الأشعري أيضاً هذه الطريقة. قال أبو الخطاب: (احتج الخصم بظواهر الآية، كقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ، ولم يقل: حتى نجعل عقولاً. وقوله تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} ، ولم يقل: بعد العقل. وقوله: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} ، وغير ذلك من الآيات، فجعل الحجة والعذاب يتعلق بالرسل. فثبت أنه لا بالمعقول حجة ولا عذاب) . وقال: (والجواب أن الله بعث الرسل يأمرون بالشرائع والأحكام، وينذرونهم قرب الساعة ووقوع الجزاء على الأعمال، ويبشرونهم على الطاعة وشكر النعمة بدوام النعمة ومزيدها في دار الخلود، ويخوفونهم على المعصية بالعذاب الشديد، ويكونوا شهوداً على أعمالهم. وقد قال تعالى: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} . وقال: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} . وهذا بعد أن يعرفوا الله بعقولهم، ويردون الشبهات المؤدية إلى التعطيل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 57 والتشبه، بالحكمة التي جعلها الله فيهم، والنور العقلي المفرق بين الحق والباطل، وإلا فنحن نعلم أن المفكر إذا خطر بباله أن الكتاب لعله مخترع مختلق من جهة مخلوق، والرسول لعله متخرص متمترق، لم يخرج ذلك من قلبه الرجوع إلى الآيات والسنة، وهو يتوهم فيها ما ذكرنا. إنما يرجع إليه بعد ما ثبت عنده حقيقة التوحيد وصدق الرسول، وأن القرآن كلام الله الذي لا يجوز عليه الكذب، وعرف محكم الكتاب من متشابه، وعرف طرق الأخبار وما يجب فيها، فإنه يستغني حينئذ عن النظر بعقله) . قال: (فإن قيل: هذا توهين لأمر الرسل، وجعلهم لا يغنون في التوحيد شيئاً، وإنما يفيد بعثهم في الفروع، وأنه لا فائدة من الآيات التي ذكر فيها التوحيد والدعوة إليه) . ثم قال: (والجواب: أنا نقول: بل لهم في الأصول أعظم فائدة، لأنهم ينبهون العقول الغافلة، ويدلون على المواضع المحتاج إليها في النظر، ليسهل سبيل الوقوف عليها. كما يسهل من يقرأ عليه الكتاب على المتعلم بأن يدله على الرموز، ويبين له مواضع الحجة والفائدة، وإن كان ذلك لا يغنيه عن النظر في الكتاب وقراءته. وأيضاً فإنه بعثهم لتأكيد الحجة، فيؤكدون الحجة على العباد كيلا يقولوا: خلقت لنا الشهوات، وشغلتنا بالملاذ عن التفكر والتدبر فغفلنا. فقطع الله سبحانه حجتهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 ألا ترى أنه تعالى قال: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير} ، فجعل الحجة عليهم طول العمر للتفكر والتذكر، ثم التدبر للتنبيه) . قلت: فهؤلاء الذين يقولون بوجوب المعرفة بالعقل، وأنها لا تحصل إلا بالعقل، ذكروا أن الرسل بينوا الأدلة العقلية التي يستدل بها الناظر، كما نبهوا الغافل ووكدوا الحجة، إذ كانوا ليسوا بدون من يتعلم الحساب والطب والنجوم والفقه، من كتب المصنفين، لا تقليداً لهم فيما ذكروه، لكن لأنهم يذكرون من الكلام ما يدله على الأدلة التي يستدل بها بعقله. فهداية الله لعباده بما أنزله من الكتب، وإرشاده لهم إلى الأدلة المرشدة، والطرق الموصلة، التي يعمل الناظر فيها بعقله ما يؤدي إليه من المعرفة، أعظم من كلام كل متكلم، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. وأبو الخطاب يختار ما يختاره كثير من الحنفية - أو أكثرهم - مع من يقول ذلك من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم - من أن الواجبات العقلية لا يشترط فيها البلوغ، بل تجب قبل البلوغ، بخلاف الواجبات الشرعية. قال: (واحتج بأنه لو كان في العقل إلزام وحظر، لوجب أن يكون لمعرفة الحسن والقبح أصل في أوائل العقول يترتب عليه ما سواه. ألا ترى أن للقدم والحدث فيها أصلاً؟ ولو كان ذلك كذلك، لكان من أنكر الحسن والقبح مكابراً لعقله مغالطاً لنفسه، لأن جاحد ما يثبت في البدائه مكابر) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 59 قال: (والجواب أن للحسن والقبح أصلاً في بدائه العقول، وهو علمنا بحسن شكر المنعم، والإنصاف، والعدل، وقبح الكذب، والجور، والظلم. ومنكر ذلك مكابر لكافة العقلاء. إلا أن من العقلاء من قال: لا أعرف ذلك بضرورة العقل، وإنما أعرفه بالنظر والخبر. فذلك مقر بالحسن والقبح، ومدع غير طريق الجماعة فيه، فنتكلم في ذلك ونبين له أن الجاهلية وعبدة الأصنام ومن لم تبلغه الدعوة يعلم ذلك، كما يعلمه أهل الأديان، فسقط أن يكون طريقه إلا العقل. وعلى أن القدم والحدوث لهما أصل في بدائه العقول ثم الخلف في ذلك واقع. ولا يقال: إن مخالفنا مكابر عقله. واحتج بأنه أجمع القائلون بأن في العقل إلزاماً وحظراً، على أنه لا يلزم ولا يحظر إلا بتنبيه يرد عليه، فإذا ثبت هذا، قلنا: يجب أن يكون ذلك التنبيه بخبر الشرع لا الخواطر، لأن الخواطر يجوز أن تكون من الملك ومن الشيطان ومن ثوران المرة، وما أشبه ذلك. وإذا جاز ذلك فيها لم نلتفت إلى تنبيهها، والتفتنا إلى ما تؤثر به، وهو خبر الشرع. فإذا عدم خبر الشرع ثبت أنه لا إلزام ولا حظر في ذلك) . وقال: (والجواب أنه لا بد أن ينبه على معرفة حسن الشكر بخطور النعمة بباله من منعم قصد الإحسان إليه، فإنه إذا خطر له نعمه عليه - على ما ذكرنا - ألزمه عقله الشكر لا محالة، سواء نبه على ذلك وسوسة إو إلهام. ولذلك مهما خطر بباله كفران النعمة عرف قبحة. ومهما خطر بباله أن القبيح لا يبعد أن يكون سبباً لهلاكه وعقابه، وأن يكون ضده سبباً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 60 لنجاته، فإنه يلزمه النظر في ذلك، سواء كانت الخطرة من الملك أو من الشيطان. فثبت أن التنبيه لا يقف على خبر السماء، ثم يلزم أن الحدوث والقدم لا يكون إلا بتنبيه، ثم ذلك خاطر عقلي، ولا يقال: يقف على تنبيه الشرع) . قال: (واحتج بأن الأمة أجمعت أن التكليف يقف على البلوغ، وليس العقل موصوفاً بذلك، من قبل أن الغلام إذا احتلم فليس يستحدث عقلاً، وإنما ذلك عقل قبل بلوغه، فبان أن العقل لا يوجب شيئاً ولا يحظره. وقال: (الجواب: أن الموقوف من التكليف على البلوغ هو تكليف الشرعيات خاصة. فأما الأحكام المتستفادة بالعقل، فإنها تلزم الإنسان إذا استفاد من العقل ما يمكنه أن يفعل به بين الحسن والقبيح، فلا نسلم ما ذكروه) . قلت: هذا الذي قاله هو قول كثير من الحنفية وأهل الكلام - المعتزلة وغيرهم - من القائلين بتحسين العقل وتقبيحه. فإن هؤلاء لهم في الوجوب قبل البلوغ قولان: وكثير ممن يقول بتحسين العقل وتقبيحه هم ونفاة ذلك من الطوائف الأربعة ينفون الوجوب قبل البلوغ. وقد ذكر طائفة من مصنفي الحنفية في كتبهم، قالوا: وجوب الإيمان بالعقل مروي عن أبي حنيفة. وقد ذكر الحاكم الشهيد في المنتقى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 61 عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، أنه لا عذر لأحد بالجهل بخالقه لما يرى من خلق السماوات والأرض، وخلق نفسه، وسائر خلق ربه. قالوا: ويروى عنه أنه قال: لو لم يبعث الله رسولاً لوجب على الخلق معرفته بعقولهم. قالوا: وعليه مشايخنا من أهل السنة والجماعة، حتى قال أبو منصور الماتريدي في صبي عاقل: إنه يجب عليه معرفة الله، وإن لم يبلغ الحنث. قالوا: وهو قول كثير من مشايخ العراق. ومنهم من قال: لا يجب على الصبي شيء من قبل البلوغ، كما لا تجب عليه العبادات البدنية بالاتفاق) . قلت: هذا الثاني قول أكثر العلماء، وإن كان القول بالتحسين والتقبيح يقول به طوائف كثيرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، كما يقول به هؤلاء الحنفية، وتنازع هولاء الطوائف في مسألة الحظر والإباحة، وأن الأعيان قبل ورود الشرع، هل هي على الحظر أو الإباحة؟ لا يصح إلا على قول من يقول: إنه بالعقل يعلم الحظر إو الإباحة. وأما من قال: إن العقل لا يعلم به ذلك، ثم قال بأن هذه الأعيان قبل ورود الشرع حظراً أوإباحة، فقد تناقض في ذلك. وقد رام منهم من تفطن لتناقضه أن يجمع بي قوليه فلم يتأت. كقول طائفة: إنه بعد الشرع علمنا به أن الأعيان كانت محظورة أومباحة، ونحو ذلك من الأقوال الضعيفة، وليس هذا موضع بسط ذلك. لكن المقصود هنا أن الأكثرين على انتفاء التكليف قبل البلوغ، لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق» . وهو معروف في السنن وغيرها، متلقى عند الفقهاء بالقبول، من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 62 حديث عائشة وغيرهما. وأيضاً فإن قتل الصبي من أهل الحرب لا يجوز - باتفاق العلماء. وأيضاً فالناس مع تنازعهم في أولاد الكفار: هل يدخلون الجنة أو النار، أو يتوقف فيهم؟ لم يفرق أحد - علمناه - بين المميز وغيره، بل المنصوص عن أحمد ويغره من أئمة السنة - وهو المشهور عنهم - الوقف فيهم. وذهب طائفة إلى أنهم في النار، كما اختاره القاضي أبو يعلى وغيره. وذكروا أن أحمد نص على ذلك، وهو غلط عن أحمد. فإن المنصوص عنه أنه أجاب فيهم بجواب النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» . وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وفي الصحيح أيضاً من حديث ابن عباس. لكن هذا الحديث روي أيضاً في حديث يروى «أن خديجة سألته عن أولادها من غيره، فقال: هم في النار. فقالت: بلا عمل؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين» . فظن هؤلاء أن أحمد أفتى بما في حديث الجزء: 9 ¦ الصفحة: 63 خديجة، كم ذكر ذلك القاضي في المعتمد. وهذا غلط على أحمد. فإن هذا الحديث ضعيف، بل موضوع. وأحمد أجل من أن يعتمد على مثل هذا الحديث، والحديث متناقض، ينقض آخره أوله. وذهبت طائفة إلى أنهم في الجنة، كأبي الفرج بن الجوزي وغيره. والذين قالوا بالوقف فسره بعضهم بأنه يدخل فريق منهم الجنة وفريق النار بحسب تكليفهم يوم القيامة، كما جاء في ذلك عدة آثار. وهذا هو الذي حكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث، وقد بسطنا هذا فيما تقدم. والمقصود هنا أنا لم نعلم من السلف من قال إنه فرق فيمن لم يبلغ بين صنف وصنف في القتل أو في عقاب الآخرة، بل الفقهاء متفقون على أن العقوبات التي فيها إتلاف، كالقتل والقطع، لا تكون إلا لبالغ. لكن قد يجمع بين هذا وهذا بأن يقال: الإثم الموجب لعقاب الآخرة مرفوع عمن لم يبلغ. وكذلك العقوبات الدنيوية التي فيها إتلاف. فأما التعزير بالضرب ونحوه فلم يرفع عن المميز من الصبيان. بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» ، فأمر بضربهم على ترك الواجب الشرعي الذي هو الصلاة، فضربهم على الكذب والظلم أولى. وهذا مما لا يعلم بين العلماء فيه نزاع: أن الصبي يؤذى على ما يفعله من القبائح وما يتركه من الأمور التي يحتاج إليها في مصلحته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 64 وهذا النزاع من لوازم الواجبات العقلية للميزين عند من يقول بالإيجاب العقلي، نظير النزاع في الواجبات الشرعية، فإن أحد القولين في مذهب أحمد، وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز: أن الصلاة تجب على ابن عشر. وكذلك الصوم يجب عليه إذا أطاقه. وحينئذ فإيجاب أبي الخطاب وموافقيه للتوحيد أولى من هذا. بل يقال: لولم يقل بالوجوب العقلي فإنه يجب أن يقال: إن الصبي يجب عليه الإقرار بالشهادتين قبل وجوب الصلاة عليه، فإن وجوبهما متقدم على وجوب الصلاة بالاتفاق. وأما ما يجب في مال الصبي من النفقات وقضاء الديون وغيره، والعشور والزكوات عند الجمهور الذين يوجبون الزكاة في ماله، فذلك لا يشترط فيه التمييز باتفاق المسلمين، بل يجب ذلك في مال المجنون أيضاً، وفي مال الطفل. وللفقهاء في إسلام الصبي وردته وإحرامه، وغير ذلك من أقواله وأفعاله، كلام معروف، ليس هذاموضع بسطه. وفي ذلك من تناقض أقوال بعضهم، ورجحان بعض الأقوال على بعض ما ليس هذا موضعه، وإنما المقصود هنا أن أعظم الناس تعظيماً للعقل هم القائلون بأنه يوجب ويحظر، ويحسن ويقبح، كالمعتزلة والكرامية والشيعة القائلين بذلك، ومن وافقهم من طوائف الفقهاء والعلماء. وأما الفلاسفة فالنقل عنهم مختلف لتناقض كلامهم، فالمشهور عنهم أن العقل يحسن ويقبح، كما نقله أبو الخطاب عنهم. ولكن كلامهم في مبادىء المنطق وقولهم: إن هذه القضايا من المشهورات لا من البرهانيات، لما رأى الناس أنه يناقض ذلك، صاروا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 يحكون عنهم أنهم لا يقولون بتحسين العقل وتقبيحه، كما نقله الرازي وغيره. فإذا كان المتكلمون القائلون بتحسين العقل وتقبيحه، وأنه لا طريق إلى المعرفة إلا به، وأنه يوجبها، يعني على المميزين، يقولون مع ذلك: إن الشرع بين هذه الطرق العقلية وأرشد إليها، ودل الناس عليها، ووكدها وقررها، حتى تمت الحجة به على الخلق، فجعلوا ما جاء به الشرع متضمناً للمقصود بالعقل من غير عكس، حتى صارت العقليات النافعة جزءاً من الشرع، فكيف غيرهم من طوائف أهل النظر؟ وكذلك الفلاسفة ذكروا ذلك، كما ذكره أبو الوليد بن رشد الحفيد، لما قسم الناس إلى أربعة أصناف، كما سيأتي. فصل. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه فصل. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه فقد ذكرنا ما تيسر من طرق الناس في المعرفة بالله، ليعرف أن الأمر في ذلك واسع، وأن ما يحتاج الناس إلى معرفته، مثل الإيمان بالله ورسوله، فإن الله يوسع طرقه وييسرها، وإن كان الناس متفاضلين في ذلك تفاضلاً عظيماً. وليس الأمر كما يظنه كثير من أهل الكلام من أن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بطريق يعينونها، وقد يكون الخطأ الحاصل بها يناقض حقيقة الإيمان، كما أن كثيراً منهم يذكر أقوالاً متعددة، والقول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 66 الذي جاءت به الرسل، وكان عليه سلف الأمة لا يذكره ولا يعرفه. وهذا موجود في عامة الكتب المصنفة في المقالات والملل والنحل، مثل كتاب أبي عيسى الورق، والنوبختي، وأبي الحسن الأشعري، والشهر ستاني: تجدهم يذكرون من أقوال اليهود والنصارى والفلاسفة وغيرهم من الكفار، ومن أقوال الخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئه والكلابية والكرامية والمجسمة والحشوية أنواعاً من المقالات. والقول الذي جاء به الرسول، وكان عليه الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين، لا يعرفونه ولا يذكرونه. بل وكذلك في كتب الأدلة والحجج التي يحتج بها المصنف للقول الذي يقول إنه الحق، تجدهم يذكرون في الأصل العظيم قولين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك وينصرون أحدهما، ويكون كل ما ذكروه أقوالا فاسدة مخالفة للشرع والعقل. والقول الذي جاء به الرسول، وهو الموافق لصحيح المنقول وصريح العقول لا يعرفونه ولا يذكرونه، فيبقى الناظر في كتبهم حائراً ليس فيما ذكروه ما يهديه ويشفيه، ولكن قد يستفيد من رد بعضهم على علمه ببطلان تلك المقالات كلها. وهذا موجد في عامة كتب أهل الكلام والفلسفة: متقدميهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 67 ومتأخريهم إلى كتب الرازي والآمدي ونحوها، وليس فيها من أمهات الأصول الكلية والالهية القول الذي هو الحق، بل تجد كل ما يذكرونه من المسائل وأقوال الناس فيها، إما أن يكون الكل خطأ، وإما أن يذكروا القول الصواب من حيث الجملة، مثل إطلاق القول بإثبات الصانع، وأنه لا إله إلا هو وأن محمداً رسول الله، لكن لا يعطون هذا القول حقه: لا تصوراً ولا تصديقاً فلا يحققون المعنى الثابت في نفس الأمر من ذلك، ولا يذكرون الأدلة الدالة على الحق، وربما بسطوا الكلام في بعض المسائل الجزئية التي لا ينتفع بها وحدها، بل قد لا يحتاج إليها. وأما المطالب العالية والمقاصد السامية، من معرفة الله تعالى والإيمان به وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلا يعرفونه كما يجب، وكما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ولايذكرون من ذلك ما يطابق صحيح المنقول ولا صريح المعقول. وابن رشد الحفيد واحد من هؤلاء. ولهذا لما ذكر أصناف الأمة، وجعلهم أربعة أقسام: باطنية، وحشوية، ومعتزلة، وأشعرية: جرى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 68 في ذلك على طريق أمثاله من أهل الكلام والفلسفة. وهو قد نبه على كثير مما جاء به القرآن، كما سنذكره عنه. لكن المقصود أنه في تقسيم الأمة لم يذكر القسم الذي كان عليه السلف والأئمة، وعليه خيارها إلى يوم القيامة. لكنه صدق في وصفه من ذكره بالتقصير عن مقصود الشرع فإنه كما قال. قال: وذلك أنه يظهر من غير ما آية من كتاب الله تعالى أنه دعا الناس فيها إلى التصديق بوجود الباري تعالى بأدلة عقلية منصوص عليها فيها، مثل قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} ومثل قوله {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض} ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى. قال: وليس لقائل أن يقول: إنه لو كان واجباً على كل من آمن بالله أن لا يصح إيمانه إلا من قبل وقوفه على هذه الأدلة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 69 لكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو أحداً إلى الإسلام إلا عرض عليه هذه الأدلة، فإن العبر كلها كانت تعترف بوجود الباري سبحانه وتعالى. ولذلك قال تعالى {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} ، ولا يمتنع أن يوجد من الناس من يبلغ منه فدامة الطبع وبلادة القريحة إلى أن لا يفهم شيئاً من الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع للجمهور. وهذا فهو أقل الوجود، فإذا وجد ففرضه الإيمان بالله من جهة السماع. قال: فهذه حال الحشوية مع ظاهر الشرع. قال: وأما الأشعرية فإنهم رأوا أن التصديق بوجود الباري تعالى لا يكون إلا بالعقل. لكن سلكوا في ذلك طرقاً ليست هي الطرق الشرعية التي نبه الله عليها ودعا الناس إلى الإيمان به من قبلها، وذلك أن طريقهم المشهورة انبنت على بيان أن العالم محدث، وانبنى عندهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 70 حدوث العالم على القول بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، وأن الجزء الذي لا يتجزأ محدث بحدوثه. وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ، وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد _ وبالجملة حدوث الأجسام - طريقة معتاصة تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل، فضلاً عن الجمهور، ومع ذلك فهي غير برهانية ولا مفضية بيقين إلى وجود الباري تعالى. وذلك أنه إذا فرضنا أن العالم محدث لزم - كما يقولون - أن يكون له - ولا بد - فاعل محدث، وذلك أن هذا المحدث لسنا نقدر أن نجعله أزلياً ولا محدثاً، أما كونه محدثاً فلأنه يفتقر إلى محدث، وذلك المحدث إلى محدث، ويمر الأمر إلى غير نهاية، وذلك مستحيل. وأما كونه أزلياً فإنه يجب أن يكون فعله المتعلق بالمفعولات أزلياً فتكون المفعولات أزلية، والحادث يحب أن يكون وجوده متعلقاً بفعل حادث، اللهم إلا لو سلموا أنه يوجد فعل حادث عن فاعل قديم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 71 فإن المفعول لا بد أن يتعلق به الفاعل، وهم لا يسلمون ذلك، فإن من أصولهم أن المقارن للحادث حادث. قلت: من أصولهم التي تلقوها عن المعتزلة أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، وهذا متفق عليه بين العقلاء إلا إذا أريد به الحادث بالشخص، فإن ما لا يسبق الحادث المعين يجب أن يكون حادثاً، وأما ما لا يسبق نوع الحادث فهو محل النزاع بين الناس وعليه ينبني هذا الدليل. وكثير من الناس لايميز في هذا المقام بين ما هو بعينه حادث، وما تكون آحاد نوعه حادثة والنوع لم يزل، حتى أن كثيراً من أهل الكلام إذا رأوا أن الحركات حادثة، أو غيرها من الأعراض، اعتقدوا أن ما لا يسبق ذلك فهو حادث، ولم يميزوا بين ما لا يسبق الحادث المعين، وما لا يسبق النوع الدائم الذي آحاده حادثة، فهو لا يسبق النوع وإن سبق كل واحد واحد من آحاده. ولما تفطن كثير من أهل الكلام للفرق، أرادوا أن يثبتوا امتناع حوادث لا تتناهى بطريق التطبيق وما يشبهه، كما قد ذكر ذلك في موضعه. فهم لايسلمون وجود حوادث لا أول لها عن فاعل قديم، ويسلمون وجود فعل حادث العين عن فاعل قديم. وهو يقول: الحادث يجب أن يكون وجوده متعلقاً بفعل حادث، ثم ذلك الحادث متعلق بفعل حادث، فيكون فعل حادث الأفراد دائم النوع عن فاعل قديم. فهو يقول: لا يمكن وجود الجزء: 9 ¦ الصفحة: 72 حادث عن فاعل أزلي إلا بفعل حادث الأفراد دائم النوع، وهم لايسلمون ذلك. قال: وأيضاً إن كان الفاعل حيناً يفعل وحيناً لا يفعل، وجب أن يكون هنالك علة صيرته بإحدى الحالتين أولى منه بالأخرى، فلنسأل أيضاً في تلك العلة مثل هذا السؤال وفي علة العلة، فيمر الأمر إلى غير نهاية. قال: وما يقوله المتكلمون في جواب هذا من أن الفعل الحادث كان بإرادة قديمة ليس بمنج ولا مخلص من هذا الشك، لأن الإرادة غير الفعل المتعلق بإيجاده حادثاً، سواء فرضنا الإرادة قديمة أو حادثة، متقدمة على الفعل أو معه. فكيفما كان فقد يلزمهم أن يجوزوا على القديم أحد ثلاثة أمور: إما إرادة حادثة وفعل حادث، وإما فعل حادث وإرادة قديمة، وإما فعل قديم وإرادة قديمة. والحادث ليس يمكن أن يكون عن فعل قديم بلا وسطة، إن سلمنا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 73 لهم أنه يوجد عن إرادة قديمة. ووضع الإرادة نفسها هي الفعل المتعلق بالمفعول شيء لا يعقل، وهو كفرض مفعول بلا فاعل، فإن الفعل غير الفاعل وغير المفعول وغير الإرادة. والإرادة هي شرط الفعل لا الفعل. وأيضاً فهذه الإرادة القديمة يجب أن تتعلق بعدم الحادث دهراً لانهاية له، إذا كان الحادث معدوماً دهراً لانهاية له فهي لا تتعلق بالمراد في الوقت الذي اقتضت إيجاده، إلا بعد انقضاء دهر لا نهاية له، وما لانهاية له لا ينقضي، فيجب أن لا يخرج هذا المراد إلى الفعل، أو ينقضي دهر لا نهاية له، وذلك ممتنع. وهذا هو بعينه برهان المتكلمين الذي اعتمدوه في حدوث دورات الفلك. وأيضاً فإن الإرادة التي تتقدم المراد وتتعلق به بوقت مخصوص دون وقت، لا بد أن يحدث فيها في وقت إيجاد المراد عزم على الإيجاد لم يكن قبل ذلك الوقت، لأنه إن لم يكن في المريد في وقت الفعل قدر زائد على ما كانت عليه في الوقت الذي اقتضت الإرادة عدم الفعل، وإلا لم يكن وجود ذلك الفعل عنه في ذلك الوقت أولى من عدمه. وأيضاً كيف يتعين وقت للحادث من غير أن يتقدمه زمان ماض محدود الطرف، إلى ما في هذا كله من التشغيب والشكوك العويصة التي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 74 لا يخلص منها العلماء المهرة بعلم الكلام والحكمة، فضلاً عن العامة، ولو كلف الجمهور العلم من هذه الطرق لكان من باب تكليف ما لا يطاق. وأيضاً فإن الطرق التي سلك هؤلاء القوم في حدوث العالم قد جمعت هذين الوصفين معاً، أغني أن الجمهور ليس في طباعهم قبولها، ولا هي مع هذا برهانية، فليست تصلح لا للعلماء ولا للجمهور. ونحن ننبه ها هنا على ذلك بعض التنبيه، فنقول إن الطرق التي سلكوا في ذلك طريقان: أحدهما: وهو الأشهر الذي اعتمد عليها عامتهم ـ ينبني على ثلاث مقدمات هي بمنزلة الاصول لما يرومونه من إثبات حدوث العالم. إحداهما: أن الجواهر لا تنفك عن الأعراض، أي لا تخلو منها والثانية: أن الأعراض حادثة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 75 والثالثة: أن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث، أعني ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. فأما المقدمة الأولى، وهي القائلة: إن الجوهر لا يعرى من الأعراض، فإن عنوا الأجسام المشار إليها القائمة بذاتها فهي مقدمة صحيحة، وإن عنوا بالجوهر الجزء الذي لا يتجزأ وهو الذي يريدونه بالجوهر الفرد، ففيها شك ليس باليسير، وذلك أن وجود جوهر غير منقسم ليس معروفاً بنفسه، وفي وجوده أقاويل متضادة شديدة التعاند، وليس في قوة صنا عة الكلام تلخيص الحق منها، وإنما ذلك صناعة البرهان، وأهل هذه الصناعة قليل جداً، والدلائل التي يستعملها الأشعرية في إثباته خطا بية في الأكثر. وذلك أن استدلالهم المشهور في ذلك هو انهم يقولون: إن من المعلومات الأولى أن الفيل مثلاً إنما يقولون فيه: إنه أعظم من النملة من قبل زيادة أجزائه على أجزاء النملة وإذا كان ذلك كذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 76 فهو مؤلف من تلك الأجزاء، وليس هو واحداً بسيطاً، فإذا فسد الجسم فإليها ينحل، وإذا تركب فمنها يتركب. وهذا الغلط إنما دخل عليهم من شبه الكمية المنفصلة بالمتصلة، فظنوا أن ما يلزم في المنفصلة يلزم في المتصلة، وذلك إنما يصدق هذا في العدد، أعني أن نقول: إن عدداً أكثر من عدد من قبل كثرة الأجزاء الموجودة فيه، أعني الوحدات. وأما الكم المتصل فليس يصدق ذلك فيه. ولذلك نقول في الكم المتصل: أنه أعظم وأكبر، ولا نقول: اكثر. ونقول في العدد: إنه أكثر ولانقول: إنه أكبر. وعلى هذا القول فتكون الأشياء كلها أعداد، ولا يكون هناك عظم متصل أصلاً فتكون صناعة الهندسة هي صناعة العدد بعينها. ومن المعروف بنفسه أن كل عظم فإنه ينقسم بنصفين: أعني الأعظام الثلاثة، التي هي: الخط، والسطح، والجسم. وأيضاً فإن الكم المتصل هو الذي يمكن أن يفرض عليه في وسطه نهاية يلتقي عندها طرفا القسمين جميعاً، وليس يمكن ذلك في العدد. ولكن يعارض هذا أيضاً أن الجسم، وسائر أجزاء الكم المتصل، يقبل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 77 الانقسام، وكل منقسم فإما أن ينقسم إلى شيء منقسم، أو إلى شيء غير منقسم فإن انقسم إلى غير منقسم، فقد وجدنا الجزء الذي لا ينقسم، وإن انقسم إلى منقسم عاد السؤال في ذلك المنقسم: هل ينقسم إلى منقسم أو إلى غير منقسم؟ فإن انقسم إلى منقسم إلى غير النهاية، كانت في الشيء المتناهي أجزاء لا نهاية لها، ومن المعلومات الأولى أن أجزاء المتناهي متناهية. قلت: هذا الموضع هو الذي أوجب قول النظام ونحوه بالطفرة، وقول طائفة من المتفلسفة والمتكلمين بقبول انقسام إلى غيى نهاية بالقوة لا بالفعل. وقد أجاب عن هذا طائفة من نفاة الجزء بأن كل ما يوجد فهو يقبل القسمة، بمعنى امتياز شيء منه عن شيء، وهي القسمة العقلية المفروضة، لكن لا يلزم وجود ما لا يتناهى من الأجزاء، لأن الموجود إن قيل: إنه لا يقبل القسمة بالفعل لم تكن فيه أجزاء لا تتناهى، وإن قيل: إنه يقبلها بالفعل، فإذا صغرت أجزاؤه فإنها تستحيل وتفسد وتفني، كما تستحيل أجزاء الماء الصغار هواء، وإذا استحالت عند تناهي صغرها لم يلزم أن تكون باقية قاتلة لانقسامات لا تتناهى، ولا يلزم وجود أجزاء لا تتناهى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 78 قال: ومن الشكوك المعتاصة التي تلزمهم أن يسألوا إذا حدث الجزء الذي لا يتجزأ: ما القابل لنفس الحدوث؟ فإن الحوادث عرض من الأعراض، وإذا وجد الحادث فقد ارتفع الحدوث، فإن من أصولهم أن الأعراض لا تفارق الجواهر فيضطرهم الأمر إلى أن يضعوا الحدوث في موجود ما وبوجود ما. قلت من يقول: إن الإحداث هو نفس المحدث، والمخلوق هو نفس الخلق، والمفعول هو نفس الفعل، كما هو قول الأشعرية لا يسلم أن لحدوث عرض، ولا أن له محلاً، فضلاً عن أن يكون وجودياً، لكنه قد قدم إفساد هذا، وأنه لا بد للمفعول من فعل. وحينئذ فيقال: الإحداث قائم بالفاعل المحدث، وحدوث الحادث ليس عرضاً موجوداً قائماً بشيء غير إحداث المحدث. ويقال أيضاً: إن هذا ينبني على أن المعدوم شيء وأن الماهيات في الخارج زائد على وجودها، وكلاهما باطل. وبتقدير صحته فيكون الجواب: أن القابل للحدوث هو تلك الذوات والماهيات. لكن هذا الذي ذكره يتقرر بطريقة أصحابه المشهورة: أن الحادث الجزء: 9 ¦ الصفحة: 79 مسبوق بالإمكان لا بد له من محل، فلا بد للمحدث من محل. قال: وأيضاً فقد يسألون إن كان الموجود يكون عن عدم، فبم يتعلق فعل الفاعل ولا يتعلق عندهم بما وجد وفرغ من وجوده فقد ينبغي أن يتعلق بذات متوسطة بين العدم والوجود، وهذا الذي اضطر المعتزلة إلى أن قالت: أن في القدم ذاتاً ما. وهؤلاء أيضاً - يعني المعتزلة - يلزمهم أن يوجد ما ليس بموجود بالفعل. وكلتا الطائفتين يلزمهم أن يقولوا بوجود الخلاء. قلت هذا هو الشبهة المشهورة من أن فعل الفاعل وإحداث المحدث ونحو ذلك: إن قيل: يتعلق بالشيء وقت عدمه، لزم كونه موجوداً معدوماً. وإن قيل يتعلق به وقت وجوده، لزم تحصيل الحاصل ووجوده مرتين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 80 وجوابه أنه يتعلق به حين وجوده، بمعنى أنه هو الذي يجعله موجوداً، لا بمعنى أنه كان موجوداً بدونه، فجعله هو أيضاً موجوداً. قال: فهذه الشكوك - كما ترى - ليس في قوة صناعة الجدل حلها، فإذاً يجب أن لا يجعل هذا مبدأً لمعرفة الله تعالى، وخاصة الجمهور، فإن طريقة معرفة الله تعالى أصح من هذا وأوضح، على ما سنبين بعد من قولنا. قال: وأما المقدمة الثانية، وهي القائلة إن جميع الأعراض محدثة، فهي مقدمة مشكوك فيها، وخفاء هذا المعنى فيها كخفائه في الجسم. وذلك أنا شاهدنا بعض الأجسام محدثة وكذلك بعض الأعراض، فلا فرق في النقلة من الشاهد في كليهما إلى الغائب، فإن كان واجباً في الأعراض أن ينقل حكم الشاهد منها إلى الغائب - أعني أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 81 نحكم بالحدوث على ما لم نشاهده منها قياساً على ما شاهدنا - فقد يجب أن يفعل مثل ذلك في الأجسام، ونستغني عن الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام. وذلك أن الجسم السماوي - وهو المشكوك في إلحاقه بالشاهد - الشك في حدوث أعراضه كالشك في حدوثه نفسه، لأنه لم يحس حدوثه، لا هو ولا أعراضه. ولذلك ينبغي أن نجعل الفحص عنه من أمر حركته، وهي الطريق التي تقضي بالسالكين إلى معرفة الله تبارك وتعالى بيقين. قال: وهي طريق الخواص، وهي التي خص بها إبراهيم الخليل عليه السلام في قوله تعالى {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} لأن الشك كله إنما هو في الأجرام السماوية، وأكثر النظار إنما انتهوا إليها، واعتقدوا أنها آلهة. قلت: قول هذا وأمثاله: إن إبراهيم استدل بطريق الحركة، هو من جنس قول أهل الكلام الذين يذمهم أصحابه وسلف الأمة: إن إبراهيم استدل بطريق الحركة. لكن هو يزعم أن طريقة الخواص: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 82 طريقة أرسطو وأصحابه، حيث استدلوا بالحركة على أن حركة الفلك اختيارية، وأنه يتحرك للتشبه بجوهر غير متحرك. وأولئك المتكلمون يقولون: إن استدلال إبراهيم بالحركة لكون المتحرك يكون محدثاً، لامتناع وجود حركات لا نهائية لها. وكل من الطائفتين تفسد طريقة الأخرى، وتبين تناقضها بالأدلة العقلية. وحقيقة الأمر أن إبراهيم لم يسلك واحدة من الطريقين ولا احتج بالحركة، بل بالأفول الذي هو المغيب والاحتجاب، كما قد بسط في موضع آخر. فالآفل لا يستحق أن يعبد. ولهذا قال {إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني} وقال {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} وقومه كانوا مقرين بالرب تعالى، لكن كانوا مشركين به، فاستدل على ذم الشرك، لا على إثبات الصانع. ولو كان المقصود إثبات الصانع، لكانت قصة إبراهيم حجة عليهم لا لهم، فإنه من حين بزغ الكوكب والشمس والقمر، إلى أن أفلت كانت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 83 متحركة، ولم ينف عنها المحبة، ولا تبرأ منها كما تبرأ مما يشركون لما أفلت، فدل ذلك على أن حركتها لم تكن منافية لمقصود إبراهيم، بل نافاه أفولها. فصل . كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه فصل. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه قال ابن رشد: وأيضاً فإن الزمان من الأعراض، ويعسر تصور حدوثه، وذلك أن كل حادث فيجب أن يتقدمه العدم بالزمان، فإن تقدم عدم الشيء على الشيء لا يتصور إلا من قبل الزمان. وأيضاً فالمكان الذي يكون فيه العالم، إذا كان كل متكون، فالمكان سابق له، يعسر تصور حدوثه، لأنه إن كان خلاء -على رأي من يرى أن الخلاء هو المكان - احتاج أن يتقدم حدوثه، إن فرض حادثاً خلاء آخر. وإن كان المكان نهاية الجسم المحيط بالمتمكن - على الرأي الثاني - لزم أن يكون ذلك الجسم في مكان، فيحتاج ذلك الجسم إلى الجسم، ويمر الأمر إلى غير نهاية. وهذه كلها شكوك عويصة. وأدلتهم التي يرومون بها بيان إبطال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 84 قدم الأعراض إنما هي لازمة لمن يقول بقدم ما يحسن منها حادثاً. أعني من يضع أن جميع الأعراض غير حادثة. وذلك أنهم يقولون: إن الأعراض التي يظهر للحس أنها حادثة، إن لم تكن حادثة، فإما أن تكون منتقلة من محل إلى محل، وإما أن تكون كامنة في المحل الذي ظهرت فيه من قبل أن تظهر. ثم يبطلون هذين القسمين فيظنون أنهم قد بينوا أن جميع الأعراض حدوثه، ولا ما يشك في أمره، مثل الأعراض الموجودة في الأجرام السماوية من حركاتها وأشكالها وغير ذلك، فتؤول أدلتهم على حدوث جميع الأعراض إلى قياس الشاهد على الغائب، وهو دليل خطابي، إلا حيث النقلة معقولة بنفسها، وذلك عند التيقن باستواء طبيعة الشاهد والغائب وأما المقدمة الثالثة: وهي القائلة: إن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فهي مقدمة مشتركة الاسم. وذلك أنها يمكن أن تفهم على معنيين: أحدهما ما لا يخلو من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 85 جنس الحوادث ويخلو من آحادها، والثاني: ما لا يخلو من واحد منها مخصوص مشار إليه. كأنك قلت: ما لا يخلو من هذا السواد المشار إليه فهو مادي، فأما هذا المفهوم الثاني فهو صادق أعني ما لا يخلو من عرض ما يشار إليه. وذلك أن العرض الحادث يجب بالضرورة أن يكون الموضوع له حادثاً، لأنه إن كان قديماً فقد خلا من ذلك العرض، وقد كنا فرضناه لا يخلو، وهذا خلف لا يمكن. وأما المفهوم الأول، وهو الذي يريدونه فليس يلزم عنه حدوث المحل. أعني الذي لا يخلو من جنس الحوادث، لأنه يمكن أن يتصور المحل الواحد- أعني الجسم -تتعاقب عليه أعراض غير متناهية: إما متضاده، وإما غير متضاده. كأنك قلت: حركات لا نهاية لها، وحركات وسلوكيات لانهاية لها، كما يرى كثير من القدماء في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 86 العالم، أعني أنه يتكون واحد بعد واحد. ولهذا لما شعر المتأخرون من المتكلمين بوهاء هذه المقدمة رامو شدها وتقويتها، بأن بينوا - في زعمهم - أنه لا يمكن أن تتعاقب على محل واحد أعراض لا نهاية لها. وذلك أنهم زعموا أنه يجب على هذا الوضع أن لا يوجد في المحل منها عرض ما مشار إليه إلا وقد وجدت قبله أعراض لا نهاية لها، وذلك يؤدي إلى امتناع الموجود منها، أعني المشار إليه، لأنه يلزم ألا يوجد إلا بعد انقضاء ما لا نهاية له. ولما كان ما لا نهاية له لا ينقضي، وجب ألا يوجد المشار إليه، أعني المفروض موجوداً. مثال ذلك: أن الحركة الموجودة اليوم للجرم السماوي، إن كان قد وجد قبلها حركات لا نهاية لها، فقد كان يجب ألا يوجد ذلك. ومثلوا ذلك برجل قال لرجل: لا أعطيك هذا الدينار حتى أعطيك قبله دنانير لانهاية لها. قالوا: فليس يمكن أن يعطيه ذلك الدينار المشار إليه أبداً. قال: وهذا التمثيل ليس بصحيح، لأن في هذا التمثيل وضع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 87 مبدأ ونهاية ووضع ما بينهما غير متناه. لأن قوله وقع في زمان محدود، وإعطاءه إياه يقع في زمان محدود، فاشترط هو أن يعطيه الدينار في زمان يكون بينه وبين ذلك الزمان، الذي تكلم فيه، أزمنة لا نهاية لها، وهي التي يعطيه فيها دنانير لانهاية لها، وذلك مستحيل. فهذا التمثيل بين أمره لا يشبه المسألة الممثل بها. وأما قولهم: إن ما يوجد بعد وجود أشياء لا نهاية لها لا يمكن وجوده، فليس بصادق من جميع الوجوه. وذلك أن الأشياء التي بعضها قبل بعض توجد على نحوين: إما على جهة الدور، وإما على جهة الاستقامة. فالتي توجد على جهة الدور، الواجب فيها أن تكون غير متناهية، إلا أن يفرض فيها ما ينهيها. مثال ذلك: أنه إن كان شروق فقد كان غروب، وإن كان غروب فقد كان شروق، فإن كان شروق فقد كان شروق. وكذلك إن كان غيم فقد كان بخار صاعد من الأرض، وإن كان بخار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 88 صاعد من الأرض فقد ابتلت الأرض، وإن كان قد ابتلت الأرض فقد كان مطر، وإن كان مطر فقد كان غيم. وأما التي تكون على استقامة، مثل كون الإنسان من الإنسان، وذلك الإنسان من إنسان آخر، فإن هذا إن كان بالذات لم يصح أن يمر إلى غير نهاية، لأنه إذا لم يوجد الأول من الأسباب لم يوجد الآخر، وإن كان ذلك بالعرض، مثل أن يكون الإنسان بالحقيقة عن فاعل آخر غير الإنسان، الذي هو الإله وهو المصور له، ويكون الأب إنما منزلته منزلة الآلة من الصانع، فليس يمتنع إن وجد ذلك الفاعل يفعل فعلاً لا نهاية له بآلات غير متناهية متبدلة، أن يكون فعله لأشخاص الناس على الدوام بأشخاص لا نهاية لها، أعني أنه يفعل الأبناء بالآباء، وإليه الإشارة في قوله تعالى {أن اشكر لي ولوالديك} . قلت: مضمون هذا الكلام أن التسلسل في العلل ممتنع، لأن العلة يجب وجودها عند وجود المعلول. وأما في الشروط والآثار - مثل كون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 89 الوالد شرطا في وجود الولد، ومثل كون الغيم شرطا في وجود المطر - فلا يمتنع. وهذا فيه نزاع معروف، وقد ذكر في غير هذا الوضع. وليس في هذا ما ينفع الفلاسفة في قولهم بقدم الأفلاك، وإنما غايته إبطال ما يقوله من يقول بوجوب تناهي الحوادث. وقد تقدم غير مرة أن حجة الفلاسفة باطلة على تقدير النقيضين، فإنه إذا امتنع وجود ما لا يتناهى بطل قولهم، وإن جاز وجوده لم يمتنع أن يكون وجود الأفلاك متوقفاً على حوادث قبله، وكل حادث مشروط بما قبله، كما يقولون هم في الحوادث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها، ويقتضي أنه يلزم من قولهم أن لا يكون للحوادث فاعل، إذا كان كل حادث مشروطاً بحادث قبله. والعلة التامة المستلزمة لمعلولها يمتنع عندهم -وعند غيرهم - أن يحدث عنها شيء بوسط أو غير وسط، لأن ذلك يقتضي تأخر شيء من معلولاتها فلا تكون تامة، بل فيها إمكان ما بالقوة لم يخرج إلى الفعل، وهو نقيض قولهم. قال ابن رشد: وأيضاً فإن قولهم: إن الحركة المشار إليها لا تخرج إلا وقد انقضت قبلها حركات لانهاية لها، قول لا يسلمه الخصوم، فإن الخصوم: إنه لا ينقضي إلا ما له ابتداء، وما لا مبدأ له - كما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 90 نضعه نحن - فلا انقضاء له وبهذا ينكرون قولهم: إن ما وقع في الماضي فقد دخل في الوجود، لأن معنى: دخل في الوجود، أنه تناهى وجوده وكمل، ولا يتناهى إلا ما له ابتداء، فأما ما لم يبتدي فلا يدخل في الوجود. قلت: لفظ الانقضاء والقضاء قد يعنى به الكمال والتمام. كما قال تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} ، {فإذا قضيتم مناسككم} ويقال: قد انقضت هذه السنة، والمضي والزوال. فمعلوم أن الحوادث التي كانت قبلها قد انقضت ومضت وانتهت، بمعنى أنها لم يبق منها شيء. وعلى هذا فقول القائل: كل حركة لا تكون حتى يكون قبلها حركات لا نهاية لها، معناه: حتى توجد قبلها حركات لا ابتداء لها. ليس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 91 المراد: لا آخر لها، بل المراد: ليس لها ابتداء، وهذا صحيح، وهو أول المسألة. والمنازع يقول: إذا كانت الحركات لا أول لها، فالمعنى أنه قد مضى في الماضي ما لا ابتداء له، كما يقال: إنه سيوجد في المستقبل ما لا انتهاء له. وهذا هو قوله، فما الدليل على بطلان هذا؟ فهناك اشتراك واشتباه في الألفاظ والمعاني، إذا ميزت ظهر المعنى. ولفظ الدخول في الوجود قد يتناول ما كمل وجوده وما لم يكمل وجوده، ويتناول ما وجد معاً وما وجد متعاقباً. لكن قول القائل: إن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل، عند منازعه فرق لا تأثير له. فإن أدلته النافية لإمكان دوام ما لا يتناهى، كالمطابقة والشفع والوتر وغير ذلك، يتناول الأمرين، وهي باطلة في أحدهما، فيلزم بطلانها في الآخر، ومن اعتقد صحتها مطلقاً، ك أبي الهذيل والجهم، طردوها في الماضي والمستقبل، وهو خلاف دين المسلمين وغيرهم من أهل الملل. وهذا الذي يذكره هؤلاء المتفلسفة إنما يتوجه فيما مضى ولم يبق كالحركات، فأما النفوس الإنسانية المجتمعة، إذا قالوا بأنه الآن في الوجود منها ما لا يتناهى وهو مجتمع، وأن ذلك لا يزال يزيد، لم يكن ما ذكروه في الحركات متناولاً لهذا. ولهذا فر ابن رشد من ذلك إلى أن جعل النفوس واحدة بالذات، وشبهها بالضوء مع الشمس، والضوء عرض. وفساد هذا القول معلوم، وليس هذا موضع بسطه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 92 ولهذا قال ابن رشد هنا: وهذا كله ليس بيناً في هذا الموضع، وإنما سقناه ليعرف أن ما توهم القوم من هذه الأشياء أنه برهان فليس برهاناً، ولا هو من الأقاويل التي تليق بالجمهور، أعني التراهين البسيطة التي كلف الله تعالى بها الجميع من عباده الإيمان به. قال: فقد تبين لك من هذا أن هذه الطريقة ليست برهانية صناعية ولا شرعية. وأيضاً فإن خصماءهم لا يضعون قبل الدورة المشار إليها دورات لا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 93 نهاية لها، لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود، هو الذي يوجد أبداً شيء خارج عنه، أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائماً، فهم إنما يضعون أن قبل هذه الدورة المشار إليها دورة، وقبل تلك الدورة دورة، وذلك إلى غير نهاية على التعاقب على محل واحد أي متى وجدت دورة وجدت قبلها في المحل دورة وبعدها دورة، وأن هذا المرور إلى غير نهاية، كالحال في المستقبل، فإنما نقول: إن بعد هذه الدورة دورة وبعدها دورة وذلك إلى غير نهاية، ولا نقول: إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها، فيلزم عن هذا أن يكون بعد الدورة التي كانت اليوم بمدة عشرة آلاف سنة دورات لا نهاية لها، وبعد الدورة المشار إليها الآن، فيكون ما لا نهاية لها أعظم مما لا نهاية له وذلك محال، وكذلك الحال في الأدوار الماضية. وقولهم: إن الفرق بين ما مضى وبين ما يأتي: أن ما يأتي لم يدخل في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 94 الوجود بعد، وأن مضى قد أنصرم وانقضى، وما انصرم وانقضى فواجب أن يدخل في الوجود، فهو متناه - قول حق، إلا أن الوضع الذي يضعه خصماؤهم في الدورات ليس بهذه الصفة، وذلك أنه لم يكن هناك حركة، واجب أن تكون أولى يستحيل أن تكون قبلها حركة، فليس يجب أن يكون ها هنا جملة، هي أو لجملة دخلت في الوجود، ولا جزء منها هو أول جزء دخل في الوجود. والذي دخل منها في الوجود إنما هو شخص واحد أو أشخاص متناهية، إن كانت من الأشياء التي يوجد منها أكثر من شخص واحد. وذلك على جهة التعاقب على محل وحد. فمن أين-يلزم ليت شعري-إن كان الداخل منها في الوجود إنما هو واحد، وقبله واحد، أن يكون هاهنا جملة غير متناهية دخلت في الوجود معا؟. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 95 والأصل في هذا كله أن لا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده، وما انقضى وجوده ولا ينقضي إلا ما ابتدى وجوده، وإنما كان يلزم أن يدخل في الوجود ما لا نهاية له الماضي في الوجود، لو كان دخوله معا، أعني ما لا نهاية له، وأما الداخل فيه شخص فشخص على محل واحد، وكأنك قلت على الجسم الدوري وليس هناك أول، فليس يجب أن يكون ما دخل منها في الوجود منحصرا أو متناهيا، لأن المتناهي هو الذي يمكن يزاد عليه شيء، وأي جملة فرضناها متناهية فإنه يمكن أن يكون فيها جملة قبلها جملة أخرى. هذا هو حد ما لا نهاية له الجائز الوجود، أعنى أن يكون أبداً يوجد شيء خارج عنه، ويسألون: كما أن تقدير وجود الباري سبحانه وتعالى في الماضي غير متناه، وكما أن تقدير وجوده في المستقبل غير متناه ـوهذا معنى قولنا لم يزل ولا يزال: هل تقدر أفعاله في الماضي متناهية أو غير متناهية؟ . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 96 فإن قالوا: غير متناهية، كما هو في المستقبل، فقد اعترفوا بوجود ما لا نهاية له في الماضي، على الشرط الذي يوجد ما لا نهاية له، أعني أن لا يوجد معاً، وأن لا ينقطع المكان. وإن قالوا غير ذلك فقد أحالوا على الوجود الأزلي أن تكون أفعاله أزلية، يلزمهم ذلك في علمه بالحادثات وإرادته لها، فتكون معلوماته بالفعل متناهية، وكذا إرادته وبالقوة غير متناهية. أما في الماضي فمن قبل أنه لا يجوز عندهم أن تكون أفعال لا نهاية لها، وأما في المستقبل فمن قبل أن ما لا نهاية له إنما يوجد عنده بالقوة، وذلك شيء لا يقولونه. فإن قالوا: إرادته ومعلوماته غير متناهية بالفعل فقد سلموا دخول ما لا نهاية له بالفعل في الوجود. قال: وهذا كله تشويش لعقائد المتشرعين، وصد عن الغاية التي قصد بها تعريفهم هذه الأشياء، وهو أن يكونوا مصمين في هذه الأشياء أخياراً، فإن من ليس بمصمم العقيدة في هذه ليس بخير. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 97 قلت: قول القائل: هذا متناه أو غير متناه لفظ مجمل، يراد به ما لا يتناهى من أوله ولا من آخره، فلا يمكن أن يزال عليه، وهذا هو مراد ابن رشد بما لا يتناهى من أوله فقط، أو من آخرهس فقط، كالحوادث الماضية إذا قيل: لا تتناهى، فإنه لا نهاية له من جهة الابتداء، بمعنى أنه لا ابتداء لها، ولكن إذا قدر أنها انقضت اليوم فقد تناهت من هذا الطرف. قال ابن رشد: فخصماء هؤلاء المتكلمين لا يقولون: قيل هذه الدورة المعنية دورات لا نهاية لها بالمعنى الأول، أي ليس لها أول ولا آخر، بل يعترفون أنه حينئذ يكون للدورات آخر. وهذا عندهم هو الذي لا يتناهى بالمعنى الآخر وهو جائز عندهم. قال: لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود، هو الذي يوجد أبداً شيء خارج عنه، أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائماً. قال: فهم إنما يضعون أن قبل هذه الدورة المشار إليها دورة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 98 وقبل تلك الدورة دورة، إلى غير نهاية على التعاقب على محل واحد، كالحال في المستقبل، فإنا نقول: إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها، فيلزم أن يكون بعد هذه الدورة بمدة عشرة آلاف سنه دورات لانهاية لها، وبعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها، فيكون ما لا نهاية له أعظم مما لا نهاية له، وذلك محال. فمعنى ما لا نهاية له الذي جعل مقتضاه محالاً، هو الذي لا يقبل أن يزاد عليه، وهو ما لا أول له ولا آخر. وأما إذا قيل: وجد قبل هذه الدورة دورة، وقبلها دورة إلى غير نهاية، فهنا إنما نفيت النهاية عن الجانب الماضي دون المستقبل، فلا يطلق على الجملة أنها لا تتناهى، لأنها تناهت من أحد الجانبين، وإن كانت غير متناهنة من الجانب الآخر. فهو يسلم امتناع انقضاء وجود ما لا يتناهى في الماضي، إذا أريد به ما لا يتناهى من الجانبين. وما قدر متناهياً من أحدهما فلا يسلم امتناع أنقضائه، ولا يطلق عليه أنه لا يتناهى، بل هو عنده قد تناهى لأنه انقضى، والتناهي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 99 والانقضاء واحد. ولكن يقال فيه: إنه وجد شيئاً قبل شيء إلى غير نهاية، فتكون النهاية مسلوبة عن ابتدائه، لا عن الجانب الذي انتهى إليه. ويقال: لا يتناهى مقيداً لا مطلقاً كما قال: لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز وجودة، هو الذي يوجد أبداً شيء خارج عنه، أي يمكن أن يزاد عليه دائماً، فهذا يسميه ما لا نهاية له الجائز وجوده، وهو أن يكون خارجاً عنه شيء يمكن أن يزاد عليه دائماً، هو إنما يقبل الزيادة من الجهة التي تناهى منها، فهو متناه من احد الطرفين، غير متناه من الطرف الآخر. فلهذا جاز أن يقال: ليس هو مما لا يتناهى لتناهيه من جانب، ويجوز أن يقال: هو لا يتناهى لعدم تناهيه من الجانب الآخر. ولهذا نقول: إنه لا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده. وما انقضى _ ولا ينقضي إلا ما ابتدأ وجوده - لأنه إذا قدر أن الحوادث دائمة لم تزل ولا تزال فلم تنقض، وإنما يفرض الإنسان انقضاء الماضي فرضاً، وإنما المنقضي ما لم يبق فيه شيء. والحوادث إذا كانت مستمرة فما انقضت ولا انتهت، فما دخلت في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 100 الوجود. والذي وجد في الماضي فهو متناه ليس هو مما لا يتناهى، وإنما يكون قد دخل ما لا يتناهى إذا كان ممتنعا في الوجود، فيكون قد انقضى، مع كونه غير متناه، وهذا ممتنع. فأما ما يوجد شيئاً بعد شيء، وهو لم يزل ولا يزال، فهذا ليس يجب أن يكون ما دخل منه في الوجود منحصراً أو متناهياً لأنه لم ينقض، بل هو متواصل الوجود، والمنقضي عنده ما انقطع وجوده ولم يبق منه شيء، وليست الحوادث المستمرة كذلك. فلفظ انقضى وانتهى وانصرم ونحو ذلك معناها متقارب. فإذا قال المتكلم: الحوادث الماضية قد انقضت، فلو لم تكن متناهية للزم انقضاء ما لا نهاية له، كان هذا تلبيساً، فإنها إذا جعلت منقضية، فإنما انقضت من جهتنا لا من البداية، ومن هذه الجهة هي متناهية، وأما من جهة الابتداء فلا انتهاء لها ولا انقضاء، وما لا يتناهى هو ما لا ينقضي ولا ينصرم. فإذا قيل: انصرم وانقضى ما لا يتناهى، كان هذا تناقضياً بيناً. والحوادث الماضية ليس لها أول، فإذا قدر أنها انقضت فقد انتهت وانصرمت، فلا يطلق عليها أنها لا تتناهى، مع تقدير أنها منقضية، بل إذا قدر تناهيها فقد انقضت، وإن قدر استمرارها فلم تنقض. وما ذكره ابن رشد، كما أنه مبطل لقول من يقول بامتناع وجود ما لا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 101 يتناهى في الماضي والمستقبل -كما يقوله من يقوله من المتكلمين - فهو مبطل أيضاً لقول إخوانه من الفلاسفة، الذين يقولون بوجود ما لا يتناهى، ولا له أول ولا آخر في قديميين مختلفين، كما يقولونه: إن حركات كل واحد من الأفلاك لا تتناهى ولا لها بداية ولا نهاية، مع أن إحدى الحركات أكثر وأعظم من الأخرى. كما يقولون: إن القمر يتحرك في كل شهر مرة، والشمس في كل سنة مرة، والفلك المحيط في كل يوم مرة، فهو أعظم مقداراً وأسرع حركة من فلك الشمس القمر وغيرهما، فإنه محيط بالجميع، فهو أعظم، وهو يتحرك كل يوم الحركة الشرقية التي تحرك بها جميع الأفلاك، وليس في الأفلاك ما يتحرك كل يوم غيره، فتكون حركته أكبر وأكثر من حركة سائر الأفلاك: فلك الشمس والقمر وغيرهما، فإن الأيام أكثر عدداً من الشهور، والشهور أكثر عدداً من الأعوام. ونفس المتحرك كل يوم حركته أعظم مقداراً مما يتحرك في الشهر والعام، مع أن كلاً من هذه الحركات ليس لها أول ولا آخر عندهم، فيلزم من ذلك أن يكون ما لا يتناهى وليس له أول ولا آخر، كحركة فلك القمر والشمس، يقبل أن يزاد عليه أضعافاً مضاعفة، بل وجد ما هو بقدره أضعافاً مضاعفة، وهو حركة الفلك المحيط، فيكون ما لا يتناهى من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 الجانبين وليس له أول ولا آخر، أعظم مما لا يتناهى وليس له أول ولا آخر وأكبر منه، وهذا هو الذي بين ابن رشد وغيره من النظار أنه ممتنع. ولايلزم هذا أئمة أهل الملل قالوا: إن الرب يفعل أفعالاً، أو يقول كلمات لا نهاية لها، ليس لها أول ولا آخر. فإن هؤلاء يقولون: لا قديم إلا الله وحده، وما سواه محدث مخلوق، فلم يقم بغيرة ولا يصدرعن غيره ما لا يتناهى، وإنما ذلك له وحده، فلم يكن لغيره ما لا يتناهى من الطرفين، لا أقل مما له ولا أكثر. وذلك أن ابن رشد عنده ما لا يتناهى هو ما لا أول له ولا آخر، فما كان له منتهى ينتهي إليه محدود، فلا بد أن يكون له مبدأ محدود، فلا يتناهى شيء في النهاية إلا وله مبدأ محدود. ولهذا قال: وأيضاً فإن خصماءهم لا يضعون قبل الدورة المشار إليها دورات لا نهاية لها، لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبداً شيء خارج عنه، أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائماً إلى قوله: (إن الفرق بين ما مضى وبين ما يأتي: أن ما يأتي لم يدخل في الوجود بعد، وأن ما مضى قد انقضى وانصرم، وما انقضى ونصرم فواجب أن يدخل في الوجود فهو متناه، فهو قول حق ومراده الجزء: 9 ¦ الصفحة: 103 بذلك أن الذي ينقضي وينصرم هو ما له مبتدأ. وأما ما لا ابتداء له فلا انتهاء له ولا ينقضي ولا ينصرم ولهذا قال: إلا أن الوضع الذي يضعه خصماؤهم في الدورات ليس بهذه الصفة، وذلك أنه لم يكن هناك حركة، واجب أن تكون أولى بحيث يستحيل أن تكون قبلها حركة، فليس يجب أن يكون ها هنا جملة دخلت في الوجود، ولا جزء منها هو أول جزء دخل في الوجود. والذي دخل منها في الوجود إنما هو شخص واحد أو أشخاص متناهيه، إن كانت من الاشياء التي يوجد منها أكثر من شخص واحد. إلى قوله: فمن أين يلزم - ليت شعري - إن كان الداخل منها في الوجود إنما هو واحد وقبله واحد، أن يكون ها هنا جملة غير متناهية دخلت في الوجود معا. قال: والأصل في هذا كله ألا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده، وما انقضى، ولا ينقضي إلا ما ابتدأ وجوده. إلى قوله: لأن المتناهي هو الذي يمكن أن يزاد عليه شيء. وأي جمله فرضناها متناهية فإنه يمكن قبلها جملة أخرى. وهذا هو حد مالا يتناهى الجائز الوجود. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 104 وقد قال قبل ذلك: لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه، أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما. إلى قوله: ولا نقول: إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها، فيلزم من هذا أن يكون بغد الدورة التي كانت اليوم بمدة عشرة آلاف سنة دورات لا نهاية لها وبعد الدورة المشار إليها دورات لا نهاية لها فمن تدبر كلامه تبين له ما قلناه. قلت: فأما الكلام على إحاطة علم الله تعالى بالكليات والجزئيات وإرادته، فمذكور في غير هذا الموضع. وهذا الرجل قد أورد على هؤلاء هذا السؤال المعروف، وهو الذي أوقع أبا المعالي في قوله بالارسترسال، وأن العلم يحيط بأعيان الجواهر وأنواع الأعراض، ويسترسل على أعيان الأعراض. هذا ليس هو قول من يقول بأنه يتعلق بالكليات فإن ذلك لا يفرق بين الجواهر وأنواع أعراض وأعيانها. ومن علم أن الكليات لا تكون إلا كلية في الذهن، وأن كل موجود فإنه معين، والأفلاك معينة، والعقول والنفوس عندهم معينة، ونفسه المقدسة معينة، تبين له أن قول من يقول: يعلم الكليات، وأنه إنما يعلم الجزئيات الجزء: 9 ¦ الصفحة: 105 على وجه كلي، مضمون كلامه أنه لا يعلم نفسه ولا شيئا من الموجودات. وهذا وهم يقولون: إنه مبدع لها وسبب في وجودها، وأنا العلم بالسبب يقتضي العلم بالمسبب. فقولهم هذا يوجب علمه بنفسه وبكل موجود، وذلك يناقض هذا. وهذا مبسوط في موضعه. وهذا الرجل -أعني ابن رشد - أراد أن يجمع بين قولهم هذا وبين علمه بالجزئيات، فقال قولا فيه من الحيرة والتناقض ما هو مذكور في موضعه. والمقصود هنا ذكر ما ناقض به قول هؤلاء المتكلمين الذين يزعمون أن عقلياتهم تعارض الكتاب والسنة، وله أيضا من عقلياته، التي يزعم أنها تناقض ذلك في الباطن، ما هو مردود عليه بالعقل الصريح أيضا. لكن من عرف كلام بعض هؤلاء مع بعض، تبين له فساد كل ما يعارض به كل طائفة للنصوص النبوية، وأنه ما من معقول يدعى معارضته لذلك إلا وقد نقضه أهل المعقول بما يتبين فساده، {سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين} الصافات: 180 -182. قال ابن رشد: والأولى أن يقال لمن وصل من الجمهور إلى هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 106 القدر من التشكك: إن العالم ليس هو موجودا واحدا، وإنما هو أفعال لله متجددة ومتعاقبة، فيمكن في العقل أن تكون هذه الأفعال أزلية، ويمكن أن تكون محدثة، إلا أن الشرائع كلها قد وردت بأنها محدثة، فيجب التصديق بأحد الجائزين الذي ورد به الشرع، وأن يقال في علمه وإرادته: إنهما غير مكيفين ولا حادثين، ولا يلزم في العلم المكيف الحادث. فصل قال ابن رشد: وأما الطريقة الثانية فهي الطريقة التي استنبطها أبو المعالي في رسالته المعرفة بالنظامية ومبناها على مقدمتين: إحداهما أن العالم بجميع ما فيه جائر أن يكون على مقابل ما هو عليه حتى يكون من الجائز مثلاً أن يكون أصغر مما هو وأكبر مما هو عليه، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 107 أو يكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها، حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق، وفي النار أن تتحرك إلى أسفل، وفي الحركة الشرقية أن تكون غربية، وفي الغربية أن تكون شرقية. والمقدمة الثانية أن الجائز محدث وله محدث، أي فاعل محدث صيره بأحد الجائزين أولى منه بالجائز الآخر. قال: فأما المقدمة الأولى فهي خطابية في بادئ الرأي، وهي في بعض أجزاء العالم فظاهر كذبها بنفسها، مثل كون الإنسان موجوداً على خلقه غير هذه الخلقة التي هو عليها، وفي بعضه الأمر فيه مشكوك، مثل كون الحركة الشرقية غربية، والغربية شرقية ، إذ كان ذلك ليس معروفاً بنفسه، إذ كان يمكن أن يكون ذلك لعلة غير بينة الوجود بنفسها، أو تكون من العلل الخفية على الإنسان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 108 ويشبه أن يكون ما يعرض للإنسان في أول الأمر عند النظر في هذه الأشياء، شبيهاً بما يعرض لمن ينظر في أجزاء المصنوعات، من غير أن يكون من أهل تلك الصنايع. وذلك أن هذا الذي شأنه قد يسبق إلى ظنه أن كل ما في تلك المصنوعات - أو جلها - ممكن أن يكون على خلاف ما هي عليه ويوجد على ذلك المصنوع ذلك الفعل بعينه الذي صنع من أجله، أعني غايته، فلا يكون في ذلك المصنوع عند هذا موضع حكمة. وأما الصانع الذي يشارك الصانع في شيء من علم ذلك، فقد يرى أن الأمر بضد ذلك، وأنه ليس في المصنوع شيء إلا واجب ضروري، أو ليكون به المصنوع أتم وأفضل إن لم يكن ضرورياً فيه، وهذا هو معنى الصناعة. والظاهر أن المخلوقات شبيهة في هذا المعنى بالمصنوع، فسبحان الخلاق العظيم!. وهذه المقدمة من جهة أنها خطابية قد تصلح لإقناع الجميع، ومن جهة أنها كاذبة ومبطلة لحكمة الصانع، فلا تصلح لهم. وإنما صارت مبطلة للحكمة - لأن الحكمة ليست شيئاً أكثر من معرفة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 109 أسباب الشيء، وإذا لم يكن للشيء أسباب ضرورية تقتضي وجوده -على الصفة التي هو بها ذلك النوع موجوداً، فليس هنا معرفة يختص بها الحكيم الخالق دون غيرة، كما أنه لو لم تكن أسباب ضرورية في وجود الأمور المصنوعة، لم يكن هنالك صناعة أصلاً، ولا حكمة تنسب إلى الصانع دون من ليس بصانع. وأي حكمة كانت تكون في الإنسان، لو كانت جميع أفعاله وأعماله يمكن أن تتأتى بأي عضو اتفق، أو بغير عضو، حتى يكون الإبصار مثلاً يتأتى بالآذان كما بالعين، والشم بالعين كما يتأتى بالأنف. وهذا كله إبطال للحكمة وإبطال للمعنى الذي سمى به نفسه حكيماً تعالى وتقدست أسماؤه عن ذلك. قلت: مضمون هذا الكلام إثبات ما في الموجودات من الحكمة والغاية المناسبة لاختصاص كل منها بما خص به، وأن ارتباط بعض الأمور ببعض قد يكون شرطاً في الوجود، وقد يكون شرطاً في الكمال. وبإثبات هذا أخذ يطعن في حجة أبي المعالي وأمثاله، ممن لايثبت إلا مجرد المشيئة المحضة التي تخصص كلاً من المخلوقات بصفته وقدره. فإن هذا قول من أهل الكلام، كالأشعرية والظاهرية، وطائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة. وأما الجمهور من المسلمين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 110 وغيرهم، فإنهم - مع أنهم يثبتون مشيئة الله وإرادته - يثبتون أيضاً حكمته ورحمته. وهؤلاء المتفلسفة أنكروا على الأشعرية نفي الحكمة الغائية، وهم يلزمهم من التناقص ما هو أعظم من ذلك، فإنهم إذا أثبتوا الحكمة الغائية، كما هو قول جمهور المسلمين، فإنه يلزمهم أن يثبتوا المشيئة بطريق الأولى والأحرى، فإن من فعل المفعول لغاية يريدها كان مريداً للمفعول بطريق الأولى والأحرى. فإذا كانوا مع هذا ينكرون الفاعل المختار، ويقولون: إنه علة موجبة للمعلول بلا إردة، كان هذا في غاية التناقص. ما هو أعظم من ذلك، فإنهم إذا أثبتوا الحكمة الغائية، كما هو قول جمهور المسلمين، فإنه يلزمهم أن يثبتوا المشيئة بطريق الأولى والأحرى، فإن من فعل المفعول لغاية يريدها كان مريداً للمفعول بطريق الأولى والأحرى فإذا كانوا مع هذا ينكرون الفاعل المختار، ويقولون: إنه على موجبة للمعلول بلا إرادة، كان هذا في غاية التناقص. ومن سلك طريقة أبي المعالي في هذا الدليل، لايحتاج إلى أن ينفي الحكمة، بل يمكنه إذا أثبت الحكمة المرادة أن يثبت الإرادة بطريق الأولى. وحينئذ فالعالم بما فيه من تخصيصه ببعض الوجوه دون بعض، دال على مشيئة فاعله، وعلى حكمته أيضاً ورحمته المتضمنة لنفعه وإحسانه إلى خلقه. وإذا كان كذلك فقولنا: إن ما سوى هذا الوجه جائز يراد به أنه جائز ممكن من نفسه، وأن الرب قادر على غير هذا الوجه، كما هو قادر عليه. وذلك لا ينافي أن تكون المشيئة والحكمة خصصت بعض الممكنات المقدرات دون بعض. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 111 فهذه المقدمة التي ذكرها أبو المعالي مقدمة صحيحة لا ريب فيها، وإنما الشأن في تقرير المقدمة الثانية، وقد ذكر الكلام عليها في غير هذا الموضع، وهو أن التخصص للممكنات ببعض الوجوه دون بعض: هل يستلزم حدوثها أم لا؟ قال ابن رشد: وقد نجد ابن سينا يذعن إلى هذه المقدمة بوجه ما. وذلك أنه يرى أن كل موجود ما سوى الفاعل فهو إذا اعتبر بذاته ممكن وجائز، وأن هذه الجائزات صنفان: صنف هو جائز باعتبار فاعله. وصنف هو واجب باعتبار فاعله ممكن باعتبار ذاته، وأن الواجب بجميع الجهات هو الفاعل الأول. قال: وهذا قول في غاية السقوط، وذلك أن الممكن في ذابه وفي جوهره، ليس يمكن أن يكون ضرورياً من جهة فاعله، وإلا انقلبت طبيعة الممكن إلى طبيعة الضروري فإن قيل: إنما نعني بكونه ممكناً باعتبار ذاته أنه متى توهم فاعله وتفعاً ارتفع هو. قلنا: هذا الارتفاع مستحيل لازم عن مستحيل وهو ارتفاع السبب الفاعل، وليس هذا موضع الكلام في هذا الرجل، ولكن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 112 للحرص على الكلام معه في الأشياء التي اخترعها هذا الرجل استجزنا القول هنا معه. قلت: مراد ابن رشد أن المفعول لا يكون قديماً أزلياً فإن الضروري عنده وعند عامة العقلاء، حتى أرسطو وأتباعه، وحتى ابن سينا وأتباعه -وإن تناقصوا- هو القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه في الماضي والمستقبل. وهذا يمتنع أن يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم، بل هذا لا يكون إلا محدثاً، يمتنع أن ينقلب قديماً، فلهذا قال: الممكن يمتنع أن يكون ضرورياً. أما كون الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه، وهو المحدث، يصير واجب الوجود بغيره، فهذا لا ريب فيه، وما أظن ابن رشد ينازع في هذا ولكن من المتكلمين من ينازع في هذا. وهذا حق، وإن قاله ابن سينا، فليس كل ما يقوله ابن سينا هو باطلاً. بل هو مذهب أهل السنة أنه م شاء الله كان فوجب وجوده، وما لم يشأ لم يكن فامتنع وجوده. وهذا يوافق عليه جماهير الخلق، فإن هؤلاء يقولون: كل ما سوى الله ليس له من نفسه وجود. وهذا يعنون بكونه ممكناً، لا يعنون بذلك أنه يمكن أن لا يوجد، فهو واجب بغيره، غير واجب بنفسه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 113 ولهم نزاع فيما إذا عدم. هل يقولون: عدم لعدم موجبه أولا يعلل عدمه؟ بل ليس له من نفسه وجود، وإنما وجوده بفاعله. فإذا لم يفعله فاعل بقي على العدم المستمر. هذا فيه نزاع لفظي اعتباري. وتحقيق الأمر أن عدم علته مستلزم لعدمه، لا أن عدم علته فعل عدمه وأوجب عدمه، ولكن يلزم من عدم علته عدمه. فإن أريد بالعلة في عدمه، المؤثر في عدمه، فعدمه المستمر لا يحتاج إلى مؤثر. وإن أريد به المستلزم لعدمه، فلا ريب أن عدم علته مستلزم لعدمه. وهؤلاء يقولون: إن الجائزات صنفان: صنف هو جائز باعتبار فاعله، وصنف هو واجب باعتبار فاعله. بل الجائزات الموجوده كلها واجبة باعتبار فاعلها، وما لم يوجد من الجائزات، فهو جائز باعتبار يفسه، وهو ممتنع لغيره. فكما أن ما وجد من الممكنات فهو واجب لغيره لا لنفسه، فما لم يوجد منها، فهو ممتنع لغيره لا لنفسه، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما شاء أن يكون، فلا بد أن يكون، وليس هو واجباً بنفسه، ولا له من نفسه وجوده، بل الله مبدعه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 114 وما لم يشأ لم يكن، فإنه يمتنع وجود شيء بدون مشيئة الله تعالى، وإن كان الله قادراً عليه، وهو ممكن في نفسه، أي يمكن أن يخلقه الله، لوشاء الله خلقه. فهذا الباب كثير من النزاع فيه لفظي. وهم لا يعنون بكونه ممكناً باعتبار ذاته، أنه متى توهم فاعله مرتفعاً ارتفع هو. ولكن ابن سينا وأتباعه الذين يقولون: إن الفلك قديم أزلي، وهو مع هذا ممكن، يعنون ذلك. وأما عامة العقلاء فيعنون بذلك أنه لا يوجد بنفسه، وأنه باعتبار نفسه يمكن أن يوجد ويمكن ألا يوجد. وما كان كذلك فهو محدث. ولا ريب أنه مع هذا واجب بغيره حين وجوده لا قبل وجوده يمتنع ارتفاعه حين وجوده، لا متناع ارتفاع فاعله، ولا يمتنع ارتفاعه مطلقاً، إذا كان معدوماً فوجد، فارتفاعه مستحيل حين وجوده، لازم عن مستحيل. والذي ينكره جمهور العقلاء - ابن رشد وغيره - على ابن سينا ومن وافقه من المتأخرين، قولهم بأن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم قد يكون قديماً أزلياً واجباً بغيره، فهذا مما ينكره الجمهور وقد ذكر ابن رشد أنه مخالف لقول أرسطو ومتقدمي الفلاسفة. ولهذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 115 لزم ابن سينا وموافقيه من التناقض ما ذكر بعضه الرازي. وهم إذا حقق الكلام عليهم في الممكن فروا إلى إثبات الإمكان الاستقبالي، وهو أنه يمكن في هذا الموجود أن يعدم في المستقبل، وفي المعدوم العين أن يوجد في المستقبل، فيكون الممكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثاً. وهذا قول جمهور العقلاء. وكلامهم في الإلهيات وفي هذا الممكن القديم الأزلي مضطرب غاية الاضطراب، كما ذكره ابن رشد وغيره. وأما كلامهم فيه، في المنطق وغيره، فوافقوا فيه سلفهم، أرسطو واتباعه وسائر العقلاء، وصرحوا بأن الممكن الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا محدثاً مسبوقاً بعدم نفسه، وقسموا الممكن إلى أقسام كلها محدثة، وجعلوا قسيم الممكن العامي، هو الضروري الواجب وجوده، وهو القديم الأزلي، وصرحوا بأن ما كان قديماً أزلياً يمتنع أن يقال: إنه ممكن يقبل الوجود والعدم. وممن صرح بذلك ابن سينا وأتباعه لما تكلموا في الإلهيات الجزء: 9 ¦ الصفحة: 116 وأحدثوا مذهباً ركبوه من مذهب سلفهم- أرسطو وأتباعه-ومن مذهب أهل الكلام المعتزلة ونحوهم، وقسموا الوجود إلى واجب ممكن، كما قسمه المتكلمون إلى قديم وحادث 0 وهذا التقسيم ابتدعوه، لم يذهب إليه قدماء الفلاسفة، بل قدماؤهم قسموه إلى جوهر وتسعة أعراض، كما هو معروف في كتاب قاطبغورياس، وجعلوا العلة الأولى من مقولة الجوهر 0 وهؤلاء جعلوا هذه القسمة للممكن، وقالوا: الوجود إما واجب، وإما ممكن، والممكن لا بد له من واجب 0 فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين 0 وظنوا أن هذه الطريقة التي ابتدعوها في إثبات رب العالمين طريقة عظيمة، وأنها غاية عقول العقلاء، وهي من أفسد الطرق، لا تدل على إثبات مبدع للعالم البتة، فإنهم يحتاجون إلى حصر الوجود في القسمين ، ثم إلى بيان أن الممكن الذي جعلوه قسيم الواجب يستلزم ثبوت الواجب الذي ادعوه، وهذا ممتنع على طريقهم. فإنهم إذا قالوا: الموجود إما أن يقبل العدم، وإما أن لا يقبله، وما قبل العدم فهو الممكن، ولا بد له من واجب. قيل لهم: إن عنيتم بما يقبل العدم المحدث، كان مقتضى الحجة إثبات قديم محدث للمحدثات. وهذا حق، ولكن القديم عندكم قد يكون واجباً وقد يكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 117 ممكناً، فليس في هذا ما يدل على إثبات واجب. وإن قلتم: إن الممكن لا بد له من واجب. قيل لكم: فمعلوم أن المحدث لا بد له من فاعل. وأما ما جعلتموه قديماً أزلياً، وسميتموه ممكناً، فهذا لا يعلم أنه يفتقر إلى فاعل، بل عامة العقلاء يقولون: إنه يمتنع أن يكون لهذا فاعل. ولو قدر أن له فاعلاً، لكان هذا يعلم بنظر دقيق خفي، فلا يمكن أن يكون إثبات واجب الوجود موقوفاً على مثل هذه المقدمة. فإن قالوا: نحن قد قررنا أنه ممكن، ولا بد للمكن من واجب. قيل: أنتم جعلتموه ممكناً قديماً أزلياً، وهذا عند جمهور العقلاء جمع بين النقيضين، وهو ممتنع. والممتنع قد يلزمه حكم ممتنع. وإنما موجب دليلكم ثبوت قديم أزلي، وهذا حق0 والقديم الأزلي عندكم يمكن أن يكون واجباً، ويمكن أن يكون ممكناً. وهذا الممكن لم نعلم أنه يفتقر إلى واجب، فلا يلزم ثبوت الواجب الذي ادعيتموه، كما لم يلزم ثبوت الممكن الذي ادعيتموه. وإن قلتم: إذا قدر عدم هذا الممكن لزم ثبوت القسم الآخر، وهو الواجب، لانحصار الموجود في الواجب والممكن، كما بيناه. قيل لكم: كما لم يلزم ثبوت هذا الممكن، فلم يثبت نفيه، بل الشك حاصل وإن قدر انتفاؤه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 118 فإذا لم يثبت وجود ممكن بل واجب، لم يكن في هذا ما يدل على أن في الوجود ما هو ممكن، وأمكن أن يقال الوجود كله واجب، كما يقوله من يقول بوحدة الوجود ويقول: عين وجود ما يسمى ممكناً ومحدثاً هو عين وجود الواجب، فصار حقيقة قولكم إن الوجود كله إما واجب وإما ممكن، هو نوعان: قديم ومحدث. وهذا الكلام لا فائدة فيه، بل ليس فيه إلا ذكر التقسيم، والشك في وجود الواجب، أو إثبات واجب يعم المحدث والقديم، وهو باطل قطعاً، فليس فيه إلا الجزم بالباطل، أو الشك في الحق، أو يقولوا: إن الموجود يمكن أن يكون كله واجباً، ويمكن أن يكون ليس فيه واجب، بل هو إما محدث وإما قديم ممكن. ومعلوم أن كل القولين معلوم الفساد بالضرورة، وأن الوجود فيه حوادث كانت معدومة فوجدت، وهذه ممكنات، وأنه لا بد لها من قديم أزلي، والقديم الأزلي يجب وجوده، ويمتنع أن يكون ممكناً. وهذا يبين أن كل ما سوى الواجب المبدع فهو محدث كائن بعد أن لم يكن، وهذا كله يناقض ما قالوه. ولهذا يوجد في بحوث من سلك طريقهم، ك الرازي والآمدي، من البحوث المضطربة، في الواجب والممكن والعلة والمعلول، ما ليس هذا موضع بسطه، وقد تكلم عليه في غير هذا الموضع. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 119 فصل فإن قالوا: نحن إذ قلنا: الوجود: إما واجب، ذاته لا تقبل العدم، وإما ممكن يقبل العدم، وما كان قابلاً للعدم فلا بد له من واجب، لزم ثبوت الواجب على التقديرين، مع قطع النظر عن الممكن: هل يكون قديماً أم لا؟ بل نفس تصور هذه الحقيقة، وهو كونه يقبل العدم، فيلزم افتقاره إلى فاعل. قيل صحيح. لكن هذا التقسيم لا يستلزم ثبوت القسمين في الخارج، إن لم يبين ثبوت الممكن، ولكن يلزم ثبوت موجود لا يقبل العدم على التقديرين. وهذا لا يناقض قول القائل بأن الموجود واحد لا يقبل العدم، وإنما يبطل قول هؤلاء إذا بين أن في الوجود ما هو ممكن يقبل العدم. وليس في مجرد التقسيم ثبوت القسمين، وإنما يثبت القسمان إذا ثبت أن في الوجود ممكناً يقبل العدم، وهذا الممكن لا بد له من واجب. وحينئذ فيكون استدلالاً بوجود الممكن المعلوم إمكانه على القديم، وهذا استدلال بالمحدثات على القديم، لا استدلال بالوجود من حيث هو جود الواجب، كما ظن ابن سينا وأتباعه بأن الوجود من حيث هو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 120 وجود، إذا دل على وجود واجب، لم يناقض ذلك أن يكون الوجود كله واجباً فإذا قال أنا أبين بعد أن فيه محدثاً. قيل: إذا بين ذلك ثبت أن فيه قديماً، ويكون الدليل على ثبوت القديم وهو الحوادث. وهذه طريقة صحيحة، وهي تدل على إثبات قديم، لا على ثبوت واجب له مفعول قديم، لكن نفس الوجود يدل على كل تقدير ثم يقال: وليس الوجود كله واجباً قديماً، فإن نشهد حدوث المحدثات، والمحدث ليس بقديم، وليس بواجب الوجود وعدمه. ولا بممتع الوجود يجب عدمه، فإنه كان موجوداً تارة، ومعدوماً أخرى. فعلم أنه يمكن وجوده وعدمه. وما كان هكذا فلا بد له من فاعل قديم أزلي يمتنع عدمه، فثبت وجود الموجود القديم الأزلي من نفس الوجود ومن وجود المحدثات، وثبت من وجود المحدثات أنه ليس كل موجود قديماً ولا واجباً، بل ثبت انقسام الوجود إلى قديم واجب وإلى محدث ممكن بهذه الطريق، وهي طريق الحدوث، وطريق الإمكان الذي لا يناقض الحدوث بل يلازمه، فأما الإمكان الذي ابتدعوه، فلا يثبت هو بنفسه، ولا يثبت به شيء. ثم الكلام في تعيين القديم الواجب، وأن السماوات محدثه، له طرق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 121 متعددة ضرورية ونظرية، كما قد بسط في موضع آخر، وبين أن معرفة الصانع فطرية ضرورية: معرفته بعينه، وأن السماوات والأرض وما بينهما مخلوقه له، حادثه بعد أن لم تكن، وأن كل مولود يولد على الفطرة وأن الله خلق عباده حنفاء، ولكن شياطين الإنس والجن أفسدوا فطرة بعض الناس، فعرض لهم ما أزاحهم عن هذه الفطرة. ولهذا قالت الرسل: {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض} ولما قال فرعون لموسى على سبيل الإنكار، لما قال موسى: إني رسول من رب العالمين، قال: {وما رب العالمين} قال له موسى: {رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون *قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون} . ولما قال لموسى وهارون: {فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين} . قال ابن رشد: وأما المقدمة الثانية، وهي القائلة: إن الجائز الجزء: 9 ¦ الصفحة: 122 محدث، فهي مقدمة غير بينة بنفسها، وقد اختلف فيها العلماء. فأجاز أفلاطون أن يكون شيئاً جائزاً أزلياً، ومنعه أرسطوطاليس، وهو مطلب عويص، ولم يتبين حقيقته إلا لأهل صناعة البرهان، وهم العلماء الذين خصهم الله بعلمه، وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادتة وشهادة ملائكته. قلت: أما دعواه أن العلماء المذكورين في القرآن هم إخوته الفلاسفة أهل المنطق وأتباع اليونان فدعوى كاذبة، فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الذين أثنى الله عليهم بالتوحيد ليس هم من المشركين الذين يعبدون الكواكب والأوثان ويقولون بالسحر، ولا ممن يقول بقدم الأفلاك، ولا ممن يقول قولاً يستلزم أن تكون الحوادث حدثت بأنفسها ليس لها فاعل، ونعلم بالاضطرار أن العلم بالتوحيد ليس موقوفاً على ما انفرادوا به في المنطق من الكلام في الحد والقياس بما يخالفهم فيه أكثر الناس، كتفريقهم بين الذاتيات والعرضية اللازمة للماهية، وتفريقهم بين حقيقة الأعيان الموجودة التي هي ما هيتها، وبين نفس الوجود الذي هو الأمر الموجود، وأمثال ذلك. وهذا الذي ذكره من ينازع هذين، فإنه ينصر قول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 123 أرسطو طاليس، ويقول: إن الجائز وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثاً، وينكر على ابن سينا قوله بأن الجائز وجوده وعدمه يكون قديماً أزلياً، وحكايته لهذا عن أفلاطون، قد يقال: إنه لا يصح فيما يثبته قديماً من الجواهر العقلية، كالدهر والمادة والخلاء، فإنه يقول بأنها جواهر عقلية قديمة أزلية، لكن القول مع ذلك بأنها جائزة ممكنة، ونقل ذلك عنه فيه نظر. وأما الأفلاك فالمنقول عن أفلاطون وغيرة أنها محدثة، فإن أرسطو طاليس يقول بقدم الأفلاك والعقول والنفوس، وهي على اصطلاح هؤلاء ممكنة جائزة، وعلى أصله يكون أزلياً، وهم ينقلون: إن أول من قال من هؤلاء بقدم العالم هو أرسطو طاليس، وهو صاحب التعاليم. وأما القدماء كأفلاطون وغيرة، فلم يكونوا يقولون بقدم ذلك، وإن كانوا يقولون- أو كثير منهم -بقدم أمور أخرى قد يخلق منها شيء أخر، ويخلق من ذلك شيء آخر، إلى أن ينتهي الخلق إلى هذا العالم. فهذا قول قدمائهم، أو كثير منهم، وهو خير من قول أرسطو وأتباعه. قال ابن رشد: وأما أبو المعالي فإنه رام أن يبين هذه المقدمة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 124 بمقدمات: إحداها: أن الجائز لا بد له من مخصص يجعله بأحد الوصفين الجائزين أولى من الثاني والثانية: أن هذا المخصص لا يكون إلا مريداً والثالثة: أن الموجود على الإرادة حادث. ثم بين أن الجائز يكون عن الإرادة، أي عن فاعل مريد من قبل أن كل فعل فإما أن يكون عن الطبيعة، وإما عن الإرادة. والطبيعة ليس يكون عنها أحد الجائزين المتماثلين دون مماثلة. مثال ذلك أن السقمونيا ليس تدذب الصفراء التي في الجانب الأيمن من البدن دون التي في الأيسر. وأما الإرادة فهي التي تخصص الشيء دون مماثلة. ثم أضاف إلى هذه أن العالم يماثل كونه في الموضع الذي خلق فيه، من الجو الذي خلق فيه، يريد الخلاء، لكونه في غير ذلك الموضع من ذلك الخلاء، فأنتج ذلك أن العالم خلق عن إرادة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 125 قال: والمقدمة القائلة: إن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة، والقائلة إن العالم في حد يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها، ويلزم أيضاً عن وضعه هذا الخلاء أمر شنيع عندهم، وهو أن يكون قديماً، لأنه إن كان محدثاً احتاج إلى خلاء. قلت: أما تسليمه أن الإرادة تخص أحد المتماثلين، فيناقض ما قد ذكر أولاً من أنه لا بد من المفعول من حكمة اقتضت وجوده دون الآخر. والإرادة تتعلق بالمفعول لعلم المريد بما في المفعول من تلك الحكمة المطلوبة. ومن كان هذا قوله امتنع عنده تخصيص أحد المتماثلين بالإرادة، بل لا بد أن يختص أحدهما بأمر أوجب تعلق الإرادة به، وإلا فمع التساوي يمتنع أن يراد أحدهما على هذا القول. ومتى تسلم هذا أمكن أن يقال: إن مجرد اختيار الفاعل، وهي إرادته، خصت الوجود بدهر دون دهر مع التماثل، وبقدر دون قدر، وبوصف دون وصف. وأما منازعته في أن العالم في حد يحيط به، فهم لا يحتاجون أن يثبتوا أمراً واحداً وجودياً يكون العالم فيه، بل هم يقولون: إنا نعلم إمكان تيامنه وتياسره بالضرورة، وإن كان ما وراءه عدم محض، وتسمية ذلك موضعاً، كقول القائل: العالم في موضع. ولفظ الموضع والمكان والحيز يراد به أمر موجود وأمر معدوم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 126 قال ابن رشد: وأما المقدمة القائلة: إن الإرادة لا يكون عنها إلا مراد حادث فذلك شيء غير بين. وذلك أن الإرادة التي هي بالفعل، فهي مع فعل المراد نفسه، لأن الإرادة من المضاف. وقد تبين أنه إذا وجد أحد المضافين بالفعل، وجد الآخر بالفعل، مثل الأب والابن. وإذا وجد أحدهما بالقوة، وجد الآخر بالقوة، فإن كانت الإرادة التي هي بالفعل حادثة، فالمراد لا بد حادث، وإن كانت الإرادة التي بالفعل قديمة، فالمراد الذي بالفعل قديم. وأما الإرادة التي تتقدم المراد فهي الإرادة التي بالقوة، أعني التي لم يخرج مرادها إلى الفعل، إذا لم يقترن بتلك الإرادة الفعل الموجب لحدوث المراد. ولذلك هو بين أنها إذا خرج مرادها للفعل أنها على نحو من الوجود لم تكن عليه قبل خروج مرادها إلى الفعل، إذ كانت هي السبب في حدوث المراد بتوسط الفعل. فإذاً لو وضع المتكلمون أن الإرادة حادثة لوجب أن يكون المراد محدثاً ولابد. قال: والظاهر من الشرع أنه لم يتعمق هذا التعمق مع الجمهور الجزء: 9 ¦ الصفحة: 127 ولذلك لم يصرح لا بإرادة قديمة ولا حادثة، بل صرح بما الأظهر منه أن الإرادة موجدة موجودات حادثة. وذلك قوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} وإنما كان ذلك كذلك، لأن الجمهور لا يفهمون موجودات حادثة عن إرادة قديمة، بل الحق أن الشرع لم يصرح في الإرادة لا بحدوث ولا قدم، لكون هذا من المتشابهات في حق الأكثر، وليس بأيدي المتكلمين برهان قطعي على استحالة إرادة حادثة في موجود قديم. لأن الأصل الذي يعولون فيه على نفي قيام الإرادة الحادثة بمحل قديم هي المقدمة التي بينا وهنها، وهي أن ما لا يخلو عن الحوادث حادث، وسنبين هذا المعنى بياناً أتم عند القول في الإرادة قلت: الكلام في الإرادة وتعددها، أو وحده عينها، أو عمومها، أو خصوصها وقدمها، أو حدثها أوحدوث نوعها، أوعينها. وتنازع الناس في ذلك ليس هذا موضعه، وهي من أعظم محارات النظار. والقول فيها يشبه القول في الكلام ونحوه، لكن نفس تسليم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 128 الإرادة للمفعول يستلزم حدوثه، بل تسليم كون الشيء مفعولاً يستلزم حدوثه. فأما مفعول مراد أزلي لم يزل ولا يزال مقارناً لفاعله المريد له، الفاعل له بإرادة قديمة وفعل قديم، فهذا مما يعلم جمهور العقلاء بضرورة العقل. وحينئذ فبتقدير أن يكون الباري لم يزل مريداً لأن يفعل شيئاً بعد شيء، يكون كل ما سواه حادثاً كائناً بعد أن لم يكن، وتكون الإرادة قديمة، بمعنى أن نوعها قديم، وإن كان كل من المحدثات مراداً بإرادة حادثة. قال: فقد تبين لك من هذا كله أن الطرق المشهورة للأشعرية في السلوك إلى معرفة الله تعالى ليست طرقاً نظرية يقينية، ولا طرقاً شرعية يقينية. وذلك ظاهر لمن تأمل أجناس الأدلة المنبهة في الكتاب العزيز، على هذا المعنى، أعني معرفة وجود الصانع تعالى. وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين: أحدهما: أن تكون يقينية. والثاني: أن تكون بسيطة غير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 129 مركبة، أعني قليلة المقدمات، فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأول. قال ابن رشد: وأما الصوفية فطرقهم في النطر ليست طرقاً نظرية، أعني مركبة من مقدمات وأقيسة. وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية، وإقبالها بالفكرة على المطلوب. ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة ونحن نقول: إن هذه الطريقة، وإن سلمنا وجودها، فليست عامة للناس بما هم ناس. ولوكانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس، لبطلت طريقة النظر، ولكان وجودها في الإنسان عبثاً. مثل قوله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} البقرة: 282. ومثل قوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} العنكبوت: 69، ومثل قوله: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} الانفال: 29، إلى أشياء كثيرة يظن أنها عاضدة لهذا المعنى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 والقرآن كله دعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر، نعم لسنا ننكر أن إماته الشهوات قد تكون شرطاً في صحة النظر، لا أن إماته الشهوات هي التي تفيد المعرفة بذاتها، وإن كانت شرطاً فيها، كما أن الصحة شرط في العلم، وإن كانت ليست مفيدة له. ومن هذه الجهة دعا الشارع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ما حث، أعني على العمل، لا أنها كافية بنفسها، كما ظن القوم، بل إن كانت نافعة في النظرية، فعلى الوجه الذي بينا. وهذا بين عند من أنصف واعتبر الأمر بنفسه. قلت: العمل الذي أصله حب الله تعالى أمر الشرع به، لأنه مقصود في نفسه، وهو معين على حصول العلم النافع، كما أنه معين على حصول عمل آخر صالح، كما أن الشرع أمربالعلم بالله تعالى لأنه مقصود في نفسه، وهو معين على العمل الصالح وعلى علم آخر نافع. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 131 قال ابن رشد: وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى ويشبه أن تكون طرقهم شيئاً من جنس طرق الأشعرية. قلت: طريق المعتزلة هي الطريق التي ذكرها عن الأشعرية، وإنما أخذها من أخذها ولهذا لما كان الأشعري تارة يوافقهم، وتارة يوافق السلف والأئمة وأهل الحديث والسنة، ذم هذه الطريقة، كما تقدم ذكر كلامه في ذلك، فذمها وعابها موافقه للسلف والأئمة في ذلك. وابن رشد رأى ما رآه من كتب الأشعرية، فرأى اعتمادهم عليها، فذلك تكلم عليها. وأفضل متأخري المعتزلة هو أبو الحسين البصري، وعلى هذه الطريقة في كتبه كلها يعتمد، حتى في كتابه الذي سماه غرر الأدلة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 132 كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية قال في أوله: إنا ذاكرون الغرض بهذا الكتاب والمنفعة به، لكي إذا عرف الإنسان شرف تلك المنفعة وشرف الغرض، صبرت نفسه على تحمل المشاق في طلبها، والاجتهاد في تحصيلها. فنقول: إن الغرض به هو التوصل بالأدلة إلى معرفة الله تعالى، ومعرفة ما يجوز عليه وما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال، وصدق رسله، وصحة ما جاءوا به. قال: وظاهر أن المنفعة بذلك عظيمة شريفة من وجوه منها: أن من عرف هذه الأشياء بالأدلة أمن من أن يستزله غيره عنها. ومنها: أنه يمكنه أن يرد غيره عن الضلال إليها. ومنها أن يكون على ثقة مما يقدم عليه في معاده، غير خائف من أن يكون على ضلال يوديه إلى الهلاك. قال: وليس أحد يثق بصحة ما جاءت به الرسل إلا بعد المعرفة بصدقهم، ولا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات التي تميزهم عن غيرهم، وليس تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح، لكي يؤمن أن نصدق الكذابين، وليس يؤمن أنه لا يفعل القبيح إلا إذا عرف أنه عالم بقبحه، عالم باستغنائه عنه، ولا يعرف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 133 غناءه إلا بعد أن يعلم أنه غير جسم، ولا يعرف أنه غير جسم إلا إذا عرف أنه قديم، ولا يعلم أنه عالم بكل قبيح إلا إذا علم أنه عالم بكل شيء، ولا يعلمه كذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته، ولا يعلمه كذلك إلا إذا علم أنه عالم، ولا يعلم أنه يثيب ويعاقب إلا إذا علم أنه قادر حي، ولا يعرف موصوفاً بهذه الصفات إلا إذا عرفت ذاته، وإنما تعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله، لأنها غير مشاهدة ولا معروفة باضطرار، ولا طريق إليها إلا أفعاله، فيجب أن نتكلم في هذه الأشياء لنعلم صحة ما جاءت به الرسل ونمتثله، فنكون آمنين في المعاد. ثم قال: باب الدلالة على محدث الأجسام. الدلالة على محدث الأجسام والجواهر، هي أن الأجسام والجواهر محدثة، وكل محدث فله محدث، فللأجسام إذا محدث. قال: وهذا الكلام يشتمل على أصلين: أحدهما: قولنا: إن الجسم لم يسبق الحركات والسكنات المحدثة، والآخر: قولنا: وكل ما لم يسبق المحدث فهو محدث. فالأول يشتمل على ثلاث دعاو: إثبات الحركة والسكون، وأن الجسم ما سبقها، وأنها محدثان. والأصل الآخر لا يشتمل إلا على دعوى واحدة: وهو أن ما لم يسبق المحدث محدث، فصارت الدعاوى أربعاً، ونحن نبينها ليصح حدوث الجسم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 134 قلت: وهذه الدعاوى الأربع التي ذكرها أبو المعالي في أول الإرشاد، لكن جعل بدل الحركات والسكنات الأعراض، ولكنه لم يقرر حدوث الأعراض إلا بحدوث الأكوان، ولم يقرر ذلك إلا بالاجتماع والافتراق. وأما طريقة الحركة والسكون التي اعتمدتها المعتزلة، فهي التي يعتمدها الرازي، وهي أقوى مما سلكه الآمدي وغيرة، حيث سلكوا طريقة الأعراض مطلقاً، بناء على أن العرض لا يبقى زمانين، فإن هذه أضعف الطرق، وطريقة الحركة أقواها، وطريقة الاجتماع والافتراق بينهما، وهي طريقة أبي الحسن الأشعري وطريقة الكرامية وغيرهم، ممن يقول: إنه جسم. ثم إن أبا الحسين أحتج لهذه الدعاوى الأربع بنظير ما تقدم. قيل: فإن قيل: فما الدليل على أن الحركة غيرة؟ قيل: لو كان تحرك الجسم هو الجسم، لكان إذا بطل تحرك بطل الجسم، ولو كان تحرك الجسم هو الجسم لكانت الدلالة على حدث التحرك دلالة على حدث الجسم، فلو كان تحرك الجسم هو الجسم، لكان أسهل في الدلالة على حدث الجسم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 135 قلت: هذا ينبني على أن ما ليس هو الشيء فهو غيره، وهو قول المعتزلة. وأما الصفاتية فينازعونهم في هذا، ويقولون: الصفة لا يطلق عليها: إنها هي هو ولا إنها غيره، وأئمتهم لا يقولون: لاهي هو ولا هي غيره، لأن لفظ الغير مجمل. وكثير منهم يقولون: لا هي هو ولا هي غيره لكن الاستدلال يمشي بأن تكون الحركة ليست هي الجسم وهي حادثة، ويمشي بأن يقال: الغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود، والحركة تفارق الجسم بالوجود. فإنه قد يكون موجوداً ولا حركة له. لكن يقال: لانسلم أن كل جسم يجوز أن يفارقه نوع الحركة، بل قد تقارنه عين الحركة، وهم لايدعون أن الجسم مستلزم لعين الحركة والسكون بل لنوعها. قال أبو الحسين: والدلالة على استحالة سبق الجسم لجنس الحركة والسكون، وهي أنه لو سبقه لكان لا واقفاً ولا ماراً ولا حا صلاً في مكان، مع أنه جرم متحيز، والعلم باستحالة ذلك ضروري. قال: والدلالة على حدوث الحركة والسكون هي أن كل حركة وسكون يجوز عليهما العدم، والقديم لايجوز عليه العدم، وإنما قلنا: يجوز على السكنات والحركات، لأنه ما من جسم متحرك إلا ويمكن أن يسكن، أو يحول من حركة إلى حركة، كخروج الفلك من دورة إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 136 دورة، وما من جسم ساكن إلا ويمكننا أن نحركه: إما بجملته أو بأجزائه، كالأجسام العظام. وإنما قلنا: إن القديم لا يجوز عليه العدم، لأن القديم واجب الوجود في كل حال، وما وجب وجوده في كل حال استحال عدمه. وإنما قلنا: إنه واجب الوجود في كل حال، لأنه موجود فيما لم يزل، فإما أن يكون وجوده على طريق الجواز أو على طريق الوجوب، فلو كان موجوداً على طريق الجواز، لم يكن بالوجود أولى منه بالعدم لولا فاعل، ويستحيل أن يوجد القديم بالفاعل، لأن المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم، وليس للقديم حال عدم فيخرجه، فصح أن وجود القديم واجب، وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال، فصح أنه واجب الوجود في كل حال فاستحال عدمه. ثم قرر الأصل الثاني وهو المهم. قال: فإن قيل: ما أنكرتم أن الحوادث الماضية لا أول لها، ولا يلزم حدث الجسم إذا لم يتقدمها؟ قيل: إذا كان كل واحد من الحوادث له أول، استحال ألا يكون لجميعها أول، لأنها ليست سوى آحادها، كما يستحيل أن يكون كل واحد من الزنج أسود، ولا يكونوا كلهم سوداً، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 137 ولأن كل واحد قد سبقه عدمه، فلو كانت لا أول لها، لكان ما مضى ما أنفك من وجودها ولا من عدمها، ولا يفصل السابق من المسبوق. قلت: هذه المقدمة هي التي نازعهم فيها المنازعون كما تقدم ذكر بعض طعن الطاعنين فيها، في كلام الرازي وغيره. وهؤلاء يقولون: لا نسلم أنه إذا كان لكل واحد منها أول، أن يكون لجميعها أول، كما أن كل واحد منها له آخر، وليس لجميعها آخر. وكما أن كل واحد من العشرة عشر، وليس المجموع عشراً، وكل واحد من أعضاء الإنسان عضو، وليس المجموع في جميع المواضع، بل تارة يتصف المجموع بما يتصف به الأفراد، كما أنه إذا كان كل جزء من الجملة موجوداً فالجميع موجود، وإن كان كل جزء من المجموع ممكناً فالمجموع ممكن، وإذا كان كل جزء منها معدوماً، فالجميع معدوم، وتارة لا يكون كذلك كما تقدم. فلا بد من بيان أن مورد النزاع من أحد الصنفين، وإلا فدعوى ذلك هو أول المسألة، فدعوى ذلك مصادرة. وتمثيلهم بالزنج تمثيل بأم جزئي لايحصل به المقصود، إلا أن يعلم أن هذا مثل هذا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 138 ولهم عنه أجوبة: المنع، والمعارضة، والفرق. أما المنع: فيقولون: لا نسلم أن هذا مثل الزنج. وأما المعارضة: فيعارضون ذلك بعلمنا بأن كل حركة لها آخر، وكل حادث له آخر، وليس لكل الحركات والحوادث آخر، وأن كل عدد له نهاية، وليس للأعداد نهاية، وأن كل واحدة من الأخوات يباح التزويج بها، وليس الجمع بين الاخوات مباحاً، وكل واحد من أفراد العشرة واحد، وهو ثلث الثلاثة، وربع الأربعة، وليست العشرة ثلث الثلاثة، ولا ربع الأربعة، وأن كل واحد من أجزاء المركب هو مفرد بشرط المركب، ليس مفرداً بسيطا، وأن كل واحد من أجزاء الدائرة جزء دائرة، والدائرة ليست جزء دائرة، وأن كل واحد من أجزاء المطر قطرة، وليس المجموع قطرة، وليس المجموع قطرة، فإنه يفرق بين ما له مجموع يمكن أن يوصف بما وصفت به الأفراد، وبين ما ليس له مجموع يمكن وصفه بذلك. ولا ريب أنا إذا عرضنا على عقولنا أن كل زنجي فهو أسود، فإنا نعلم بالضرورة أن مجموع الزنج سود، وذلك لأن المجموع غير كل واحد واحد من الأفراد. فتارة يمكن وصفه بصفات الأفراد، كما نقول عن الحوادث المحدودة الطرفين: إن مجموعها حادث، كما أن كل واحد منها حادث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 139 وتارة لا يمكن وصفه بذلك اللفظ، بل بصيغة الجمع، فإن مجموع السودان لا يقال فيه بنفس اللفظ: أسود، ولا يقال، غير أسود، بل يقال: سود. وسود صيغة جمع، فهي بمعنى قولنا: كل زنجي أسود. وإذا لم يكن الحكم على المجموع هو بلفظه الحكم على الأفراد، كان نظير مثال الزنج. وأما إذا اتحد الحكم فقد يكون حكم المجموع فيه حكم الأفراد، وقد لا يكون. فالأول إذا قلنا: كل محدث فهو مخلوق أو فهو ممكن، أو: كل ممكن فهو مفتقر إلى غير ممكن، فإن ذلك يوجب أن يكون مجموع المحدث مخلوقا وممكنا، ومجموع الممكن مفتقرا إ لى غير ممكن، لأن هذا الحكم ثابت للجنس من حيث هو هو، فيلزم ثبوته حيث تحقق الجنس، والجنس يتحقق في المجموع، كتحققه في كل فرد فرد. فطبيعة المحدث تستلزم كونه مخلوقا ممكنا، وطبيعة الممكن إذا وجد تستلزم الافتقار إلى غير ممكن، والطبيعة لازمة للمجموع، فيستحيل وجود الطبيعة منفكة عن لازمها، فلا يكون مجموع الممكنات إلا مفتقرا إلى غيره، كما لا يكون كل فرد منها إلا مفتقرا إلى غيره، ولا يكون مجموع المخلوقات إلا حادثة وممكنة، كما لا يكون كل منها إلا حادثا ممكنا كذلك في المعنى. لكن من المجموع ما يكون اللفظ يتناول جنسه، كما يتناول الواحد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 140 منه، كلفظ المخلوق والمحدث والممكن، ومنه ما يكون لفظ الكثير فيه صيغة جمع لا يستعمل في الواحد منه. والزنج ليس لهم مجموع يحكم عليه بأنه أسود أو ليس بأسود، بل يقال: مجموعهم سود وذلك معنى قولك: كل واحد منهم أسود، ولكنه الأسود يتصف به المجموع من حيث هو مجموع، كما يتصف به كل واحد واحد. بخلاف اتصاف المجموع بكونه محدثا وممكنا ومفتقرا إلى غيره، فإن هذا الوصف يمكن ثبوته للمجموع من حيث هو مجموع، كما يثبت لكل فرد من أفراده. والحوادث إذا حكم على مجموعها بأن له أولا ليس له أول، فهو حكم على الجنس المجموع، فإن علم أن الجنس الحادث لا يكون دائما متصلا، بل لا يكون إلا بعد عدم، كما علم أن كل فرد فرد من أفراده كذلك، كان هذا نظير المحدث والممكن، لكن النزاع في هذا، فإنا إذا عرضنا على العقل المحدث عن عدم من حيث هو، مع قطع النظر عن أفراده ومجموعه: هل يكون مخلوقا ممكنا؟ جزم العقل بأن ما كان مخلوقا محدثا، فإن كونه محدثا، يستلزم كونه ممكنا، إذا لو لم يكن كذلك لزم كونه واجبا فلا يعدم، أو ممتنعاً فلا يوجد. والمحدث كان معدوما وصار موجودا، فطبيعته تنافي الوجوب والامتناع، لا فرق في ذلك بين الواحد والجنس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 141 وإذا عرضنا على العقل الحادث، مع قطع النظر عن أفراده وجنسه: هل يستلزم أن يكون منتهياً منقطعاً لن ابتداء، أو يستلزم ذلك، بل يمكن دوامه؟ لم تجد في العقل ما يقضي بأن جنس الحادث يجب أن يكون منتهياً له ابتداء. وهذا الباب من تدبره تبين له الفرق بين تسلسل المؤثرات الفاعلات أنه ممتنع، وبين تسلسل الآثار: أثراً بعد أثر، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود الفرق بين الزنجي وبين الحادث. ومما يوضح ذلك أنا إذا قلنا: كل زنجي أسود، لم يكن في الزنج ما ليس بأسود، لأن هذا النقي يناقص ذلك الإثبات، وصدق أحد المتناقضين اللذين لا يرتفعان يوجب كذب الآخر، فإنا إذا قلنا: بعض الزنج ليس بأسود، كان مناقضاً لقولنا: كل زنجي أسود، فإذا لم يكن في الزنج ما ليس بأسود، لزم أن يكون جميعهم سوداً، وأما إذا قلنا: كل حادث فله يلزم أن لا يكون في الحوادث ما ليس له أول، وهكذا عكس نقيضه، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 142 فيمتنع أن يكون جميع الزنج سوداً؟ هذا محل نزاع. فيقال: الفرق معلوم بين قولنا: جميع الحوادث لها أول، بمعنى: أن كل واحد منها له أول، وبين قولنا: إن جنس الحوادث لها أول، بمعنى: أن الحوادث منقطعة غير دائمة ولا مستمرة، ولا متسلسلة، فإن العقل يتصور أن كل واحد له أول وآخر، وهي مع ذلك دائمة مستمرة، فيمكنه الحكم بأن كل حادث له أول، كما أن كل زنجي أسود. وهو بعد ذلك لم يعلم: هل هي دائمة أم هي منقطعة؟ بل العلم بكون الحادث له أول، هو العلم بأنه مسبوق بعدم، وليس العلم بأن كل حادث هو مسبوق بعدم، هو العلم بأنه كان العدم مستمراً دائماً، حتى حدث جنس الحوادث، بل يمكن العقل أن يتصور أنه ما من حادث إلا وقبله حادث، وبعده حادث، وما من عدد إلا وبعده عدد. وهو يعلم أن كل حادث فله أول، وكل نقص فله آخر، وكل عدد فله حد ومنتهى، وإن لم يكن لجنس العدد حد ومنتهى. ومما يبين ذلك الفرق: أن كون الشخص أسود وأبيض صفة قائمة به في حال وجوده، فلا يمكن انتفاؤها عن الجنس الموجود، مع قولنا: إن كلاً منهم أسود. وأما أن كون الشيء حادثاً، أو مسبوقاً بعدم، أو موجوداً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 143 بعد أن لم يكن، أو له أول، فهو بمنزله كونه ماضياً وملحوقاً بعدم، ومعدوماً بعد ما كان. وهذا يقتضي أن كلاً من هذه الأمور ثابت لكل واحد من الحادث والمنقضي. أما كون جنس المنقضي انقطع، فلا يكون بعده منقض، أو كون جنس الحوادث منقطعاً، فلم يكن قبل الحوادث المعينة شيء حادث، هذا نوع آخر. والحكم على كل فرد فرد، غير الحكم على المجموع، من حيث هو مجموع في النفي والإثبات، ففي النفي نفرق بين قوله: لا تأكل هذا ولا هذا، ولا تأكل السمك وتشرب اللبن، إذا الأول نهى عن كل منهما، والثاني نهى عن جميعها. وكذلك إذا قال: ما ضربت لا هذا ولا هذا، أو لم أضربها، وعنى نفي ضربهما جميعاً. ولهذا تنازع الفقهاء فيمن حلف لا يفعل شيئاً ففعل بعضه، كما لو حلف: لا آكل الرغيف، فأكل بعضه. ولم يتنازعوا في أنه لو عنى أكل جميعه لم يحنث بأكل البعض. وهذا كما في قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} النساء: 23، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها وخالتها، فالجميع بينهما منهي عنه. فهذه وحدها مباحة وهذه وحدها مباحة، واجتماعهما ليس مباحاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 144 وكذلك كل واحد من الضدين مقدور ممكن، وليس الجمع بينهما مقدوراً ممكناً. وكذلك الجائع إذا حضرته أطعمة يكفيه كل منها، فكل منها مباح له أكله، ولا يباح له أكل المجموع حتى يبشم ويموت. وكذلك من قال لغيره: خذ عبداً من عبيدي، أو فرساً من خيلي، كل منها مباح له، وليس المجموع مباحاً له. فإذا قيل: كل من هذه مباح، لم يستلزم أن يكون المجموع مباحاً. والمقصود أن الأمور التي يتصف بها كل واحد من الأفراد ثلاثة أنواع: أحدها: ما لا يمكن تصوره في المجموع، فلا يقال: هو ثابت ولا منتف. والثاني: ما يمكن تصوره في المجموع، وهذا قد يكون ثابتاً كثبوت الافتقار إلى الفاعل في مجموع الممكنات والحادثات، وثبوت الحل في كل من الأجنبيات منفردة، وفي جمع أربع. وقد لا يكون ثابتاً كثبوت النهاية في أفراد الحوادث المنقضية لا في مجموعها، وثبوت الحل في كل من الأختين لا في مجموعهما. والفرق بين هذا وهذان أن الحكم الذي ثبت للأفراد، إن كان للمعنى الذي يوجد في المجموع ثبت له، وإن لم يكن لذلك المعنى لم يلزم ثبوته له، فيكون المحدث ممكناً أو مفتقراً إلى الفاعل ثبت لحقيقة الحدوث، وهذا ثابت للأفراد والمجموع. وكذلك افتقار الممكن إلى ما ليس ثبت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 145 لحقيقة الإمكان، فإن حقيقة الممكن هو الذي لا يوجد إلا بغيره لا بنفسه، وهذه الحقيقة لا تفرق بين الأفراد وبين المجموع. وأما كون الحادث له أول، أو الماضي له انتهاء، فهذا يعلم في كل حادث حادث، وماض ماض. وأما كون هذا الجنس كذلك، فالطبيعة تلزم كل واحد واحد، وليس في الخارج مجموع ثابت للحوادث والماضيات، حتى يقال: هل يحكم لذلك المجموع بحكم أفراده أم لا؟ فإن أفراده موجودة على التعاقب، وإذا قدر حوادث متعاقبة، لم يكن في العلم بهذا ما يوجب أن لا تكون دائمة. لكن إذا قدر إجتماع حوادث في آن واحد، أو كانت محدودة. قيل: إن هذا المجموع له ابتداء. وإذا قدر اجتماع أمور منقضية أو محدودة الآخر. قيل: لها انتهاء. وأما ما لا يمكن اجتماعه لا من هذا ولا من هذا، فليس وجوده مجتمعاً في الخارج، وإنما يجتمع أفراده في الذهن لا في الخارج. يبين ذلك أن ما لا يوجد إلا متعاقباً متتالياً، إذا قيل: إن كل واحد من أفراده يعقب فرداً آخر، لم يعلم من ذلك أنه كله يعقب شيئاً آخر، إذا لم يحكم على جنسه بأنه يعقب غير جنسه، وإنما حكمنا على أفراد الجنس بالتعاقب. وكذلك إذا قلنا: كل واحد من أفراده سبقه عدم، لم يحكم على الجنس بأنه سبقه عدم، كما حكمنا هناك على جنس المحدث بافتقاره إلى الفاعل، وعلى جنس الممكن بافتقاره إلى ما ليس بممكن، أو إلى الفاعل أو الواجب ونحو ذلك. والكلام على هذا مبسوط في موضعه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 146 والمقصود التنبيه على ما ذكره المنازعون لأبي الحسين وغيره من القائلين بأن جنس الحوادث ممتنع دوامها من أهل الإسلام والسنة والفلاسفة وغيرهم. وكذلك قوله: كل واحد قد سبقه عدم، فلو كانت لا أول لها لكان ما مضى ما أنفك من وجودها وعدمها، ولا ينفصل السابق من جنس المسبوق. فإنهم يقولون: كل واحد مسبوق بعدم نفسه لا بعدم جنسه، فإذا كان الجنس لا أول له، لم يلزم أن يقارنه عدمه، بل يقارن كل فرد من أفراده عدم غيره. وهم يسلمون عدم كل واحد واحد، كما يسلمون حدوثه، فإن حدوثه مستلزم لعدمه. لكنهم ينازعون في عدم الجنس وانتهائه وامتناع دوامه في الأزل، كما ينازعون في انتهائه وامتناع دوامه في الأبد. كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه وبالجملة: هذا الموضع هو من أعظم الأصول التي ينبني عليها دليل المعتزلة والجهمية ومن وافقهم على حدوث الأجسام. وتنبني عليه مسألة كلام الله تعالى وفعله وخلقه للسماوات والأرض، ثم استوائه على العرش وتكلمه بالقرآن وغيره من الكلام. وأئمة أهل الحديث والسنة، وطوائف من أهل النظر والكلام، مع أئمة الفلاسفة تنازعهم في هذا. ثم إنهم والدهرية من الفلاسفة اشتركوا في أصل تفرعت عنه مقالاتهم، وهو أن تسلسل الحوادث ودوامها يستلزم قدم العالم، بل قدم السماوات والأفلاك. فقال الفرقان إذا قدر حادث بعد حادث إلى غير نهاية، كان العالم قديماً، فتكون الأفلاك قديمة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 147 ثم إن الفلاسفة الدهرية، كابن سينا وأمثاله، قالوا: تسلسل الحوادث ودوامها واجب، لإن حدوث الحادث بدون سبب ممتنع، فيمتنع أن يكون جنسها حادثاً بلا سبب حادث. لكل حادث سبب حادث، كان الجنس قديماً، فيكون العالم قديماً. وأبو الحسين البصري، وأمثاله من المعتزلة، ونحوهم من أهل الكلام، قالوا: تسلسل الحوادث ممتنع، لأن كل حادث مسبوق بالعدم، فيكون الجنس مسبوقاً بالعدم، فيلزم حدوث كل ما لا يخلو عن الحوادث، والأجسام لاتخلو من الحوادث فتكون حادثة. ونفس الأصل الذي اشترك فيه الفريقان باطل، وهو أنه يلزم من إمكان تسلسل الحوادث قدم الأفلاك، أوقدم العالم، أوقدم شيء من العالم. والفلاسفة الدهرية أعظم إقراراً ببطلانه من المعتزلة، فإن تسلسل الحوادث ودوامها لا يقتضي قدم أعيان شيء منها، ولا قدم السماوات والأفلاك، ولا شيء من العالم. والفلاسفة يسلمون أن تسلسل الحوادث لايقتضي قدم شيء من أعيانها، وأن تسلسلها ممكن بل واجب. فيقال لهم: هب أن الحوادث لم تزل تحدث شيئاً بعد شيء، فمن أين لكم أن الأفلاك قديمة؟ وهلا جاز أن تكون حادثة بعد حوادث قبلها؟ بل يقال: هذا يبطل قولكم فإنها إذا كانت متسلسلة امتنعت أن تكون صادرة عن علة تامة موجبة، فإن العلة التامة لايتأخر عنها شيء من معلولها. والحوادث متأخرة، فيمتنع صدورها عن علة تامة بوسط أو بغير وسط. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 148 وهكذا يقول للمعتزلة منازعوهم، يقولون: أنتم موافقون لسائر المسلمين وأهل الملل على أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأنه خالق كل شيء، وأنه القديم، وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم. ومقصودكم بالأدلة بيان ذلك، فأي حاجة لكم إلى أن تسلموا للدهرية ما يستظهرون به عليكم؟ وإذا جاز أن يكون الله خلقها وأحدثها بأفعال أحدثها قبل ذلك، وكل حادث مسبوق بحادث، مع أن ما سوى الله مخلوق مصنوع مفطور، حصل مقصودكم. وإذا كان الله تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء، أو فاعلاً لما يشاء، لم يناقض هذا كون العالم مخلوقاً له، فتكون السماوات والأرض مخلوقة في ستة أيام، كما أخبرت بذلك الرسل، والله خالق كل شيء، وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم. ويقول لهم منازعوهم: أنتم أردتم إثبات حدوث العالم، وإثبات الصانع سبحانه بما جعلتموه شرطاً في حدوثه، بل وشرطاً في العلم بالصانع، فكان ما ذكرتموه مناقضاً لحدوث العالم، وللعلم بحدوثه، وللعلم بإثبات الصانع. وذلك أنكم ظننتم أنه لا يتم حدوث السماوات إلا بامتناع حوادث لا أول لها، وأن إحداث الله تعالى لشيء من مخلوقاته لا يمكن إلا إذا بقي من الأزل إلى حين أحداث المحدثات، لم يفعل شيئاً من الأفعال ولا الأقوال، بل ولا كان يمكنه عندكم الفعل الدائم، ولا أن تكون كلماته دائمة لا نهاية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 149 لها في الأزل، ثم حين أحداثها هو على ما كان عليه قبل ذلك، فحدث من غير تجدد شيء أصلاً. فلزمكم القول بترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وحدوث الحوادث بلا سبب، ولزمكم تعطيل الصانع سبحانه وجحده وسلبه القدرة التامة، حيث سلبتم قدرته على جنس الكلام والفعل في الأزل. وقلتم: يجب أن يكون كلامه حادثاً بعد أن لم يكن، بل أن يكون مخلوقاً في غيره، لا قائماً بذاته، أو أنه لايتكلم بمشيئته وقدرته. وقلتم: لا يمكنه أن يحدث شيئاً إن لم يمتنع دوام الفعل منه، فلا يكون قادراً متكلماً، إلا بشرط أن لا يكون كان قادراً فاعلاً متكلماً. وقلتم: لا يجوز وجود الحوادث إلا بشرط ألا يحدث لها سبب حادث، ولا يترجح أحد طرفي الممكن على الآخر إلا بشرط ألا يكون هناك سبب يقتضي الرجحان، فجعلتم شرط حدوث العالم وسائر أفعال الله وكلامه ما يكون نقيضه هو الشرط، وبدلتم الفضايا العقلية، كما حرفتم الكتب الإلهية. ومن هنا طمعت الفلاسفة فيكم، وزادوا في الكتب الإلهية تحريفاً وإلحاداً، وصار أصل الأصول عندكم _ الذي بنيتم عليه إثباتكم للصانع ولصفاته ولرسله، وبه كفرتم أو ضللتم من نازعكم من أهل القبلة، أتباع السلف والأئمة، ومن غير أهل القبلة - هو قولكم: إذا كان كل واحد من الحدوث له أول، استحال ألا يكون لمجموعها أول، لأنها ليست سوى آحادها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 150 والعقلاء يفرقون بصريح عقولهم بين الحكم والخبر والوصف لكل واحد واحد، وبين الحكم والخبر والوصف للمجموع في مواضع كثيرة. وأنتم تقولون بإثبات الجوهر الفرد، فكل واحد من أجزاء الجسم جوهر فرد عندكم، وليس الجسم جوهرا فرداً، بل المجموع من أفراد، وقد ثبت للمجموع من الأحكام ما لا يثبت للفرد. وبالعكس فمجموع الإنسان إنسان، وليس كل عضو منه إنسان. وكذلك كل من الشمس والقمر، والشجر والثمر، وغير ذلك من الأجسام المجتمعة، لها حكم ووصف لا يثبت لأجزائها. والإنسان حي سميع بصير متكلم، وليس كل واحد من أبعاضه كذلك. فلم يجب إذا كان النوع والمجموع دائماً باقياً، أن يكون كل من أفراده دائماً؟ والأمور المقدارية والعددية، كالكرات، والدوائر، والخطوط، والمثلثات، والمربعات، والألوف، والمئات، كلها يثبت لأجزائها من الحكم ما لا يثبت لمجموعها. وبالعكس فإذا وصف الشيء بأنه دائم، أو طويل، أو ممتد، لم يلزم أن يكون كل واحد من أجزائه أو أفراده كذلك. قال تعالى في الجنة: {أكلها دائم وظلها} الرعد: 35. ومعلوم أن كل جزء من أجزاء الأكل والظل يفني وينقضي، والجنس دائم لا يفنى ولا ينقضي، ولا توصف الأجزاء بما وصف به الكل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 151 قال تعالى: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} ص: 54، فأخبر عن الجنس أنه لا ينفد، وأن كل واحد من أجزائه ينفد. ويقال للزمان والحركات في الأجسام: إنها طويلة ممتدة، ولا يقال للصغير من أجزائها: إنه طويل ممتد، فيكون الرب لم يزل ممتلكاً إذا شاء، أولم يزل فاعلاً لما يشاء هو، بمعنى كونه لم يزل متكلماً فعالاً، وبمعنى دوام كلامه وفعاله، لا يستلزم أن كل واحد من الأفعال دائم لم يزل. فإن قلتم: الحادث من حيث هو حادث يقتضي أنه مسبوق بغيره، كما أن الممكن من حيث هو ممكن يقتضي الافتقار إلى غيره، والمحدث هو من حيث هو محدث يقتضي الاحتياج إلى غيره، فكما أن الممكنات - مفردها ومجموعها - يلزم أن تكون مفتقرة إلى الفاعل، وكذلك المحدثات، فكذلك الحوادث - مفردها ومجموعها - يقتضي أن تكون مسبوقة بالغير. وهذا من جنس قولهم: الحركة من حيث هي تقتضي كونها مسبوقة بالغير، لأن أجزاءها متعاقبة لا مجتمعة. قال لكم منازعوكم: هذا لفظ مجمل مشتبه. وعامة حججكم وحجج غيركم الباطلة مبناها على ألفاظ مجملة متشابهة، مع إلغاء الفارق، ويأخذون اللفظ المجمل المشتبه من غير تمييز لأحد معنييه عن الآخر. فبالاشتراك والاشتباه في الألفاظ والمعاني ضل كثير من الناس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 152 وذلك أن قولهم: الحادث - من حيث هو - يقتضي أنه مسبوق بغيره، أو الحركة - من حيث هي - تقتضي أن تكون مسبوقة بالغير. يقال لكم: الحادث المطلق لاوجود له إلا في الذهن لا في الخارج، وإنما في الخارج موجودات متعاقبة، ليس مجتمعة في وقت واحد، كما تجتمع الممكنات والمحدثات المحدودة، والموجودات والمعدومات، فليس في الخارج إلا حادث بعد حادث، فالحكم إما على كل فرد فرد، وإما على كل جملة محصورة، وإما على الجنس الدائم المتعاقب. فيقال لكم: أتريدون بذلك أن كل حادث فلا بد أن يكون مسبوقاً بغيره، أو أن الحوادث المحدودة لا بد أن تكون مسبوقة، أو أن الجنس لا بد أن يكون مسبوقاً؟ أما الأول والثاني فلا نزاع فيهما. وأما الثالث فيقال: أتريدون به أن الجنس مسبوق بعدمه، أم مسبوق بفاعله، بمعنى أنه لا بد من محدث؟ الثاني مسلم، والأول محل النزاع. وكذلك في الحركة: إن قلتم: إن الحركة المعينة مسبوقة بأخرى أو بعدم، فهذا لا نزاع فيه. وإن قلتم: إن نوعها مسبوق بالعدم، فهذا محل النزاع. وذلك أن معظم ما اعتمدوا عليه قولهم: الحركة من حيث هي حركة تتضمن المسبوقة بالغير، فإن الحركة تحول من حال إلى حال، فإحدى الحالتين سابقة للحال الأخرى، فلا تعقل حركة إلا مع سبق البعض على البعض، وكل ما كان مسبوقاً بغيره لم يكن أزلياً. فالحركة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 153 يمتنع أن تكون أزلية. فيقال لهم: قولكم: الحركة تستلزم المسبوقة بالغير سبق بعض أجزائها على بعض، وهو المعنى الذي دللتم عليه؟ أم تريدون أنها مسبوقة بالعدم، أم مسبوقة بالفاعل؟ أما الأول، وهو الذي دللتم عليه، فإنه يقتضي نقيض قولكم، وهو يقتضي أن الحركة لم يزل نوعها موجوداً، لأن كل ما هو حركة مسبوق بما هو حركة، وكل حال تحول إليه المتحرك فهو مسبوق بحال أخرى، وتلك الحال مسبوقة بأخرى، فكان ما ذكرتموه دليلاً على حدوث الحركة، كما أنه يدل عل حدوث أعيان الحركة وأجزائها، فهو يدل على دوام نوعها، وهو نقيض قولكم. فكان ما ذكرتموه حجة في محل النزاع إنما يدل على مواقع الإجماع، وهو في محل النزاع حجة عليكم لا لكم. وحينئذ فيقول المنازع: نحن نقول بموجب دليلكم، وهو حجة عليكم. وإن أردتم أن مسمى الحركة مسبوق بالعدم، فلم تذكروا على هذا دليلاً أصلاً، وهو مورد النزاع. وإن أردتم أنه مسبوق بالفاعل، فهذا أيضاً يراد به أن كل جزء منها مسبوق بالفاعل. ويراد به أن جنسها سبقه الفاعل سبقاً انفصالياً، وإن لم يقيموا دليلاً على هذا، فكان ما ذهبتم إليه لم تقيموا دليلاً عليه، وما أقمتم عليه دليلاً لا يدل على قولكم بل على نقيضه. ولذلك يقال لخصومهم الفلاسفة: أنتم لم تقيموا دليلاً عل قدم شيء من العالم، بل عامة ما أقمتموه من الأدلة يستلزم دوام الفاعلية، وهذا يدل على نقيض قولكم، فإنه يقتضي أنه لم يزل يفعل، والمفعول لا يكون إلا ما حدث عن عدمه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 154 وأما قدم شيء من العالم فلا دليل لكم عليه، بل دليلكم يدل على نقيضه، فإنه لو كان المفعول مقارناً للفاعل، لزم ألا يحدث في العالم شيء. والطائفتان جميعاً أصل قولها الكلام في الحركة، فهؤلاء يقولون: يمتنع أن تكون الحركة دائمة، فلا بد أن يكون جنس الحركة حادثاً عن غير سبب حادث. وهؤلاء يقولون بل جنس الحركة يمتنع أن يكون حادثاً، فيمتنع أن تحدث الحركة لا من حركة. والزمان مقدار الحركة، فيجب قدم نوعه. ثم قالوا: ولا حركة فوق حركة الفلك ولا قبلها إلا مقدار هذه الحركة، فتكون هذه الحركة وزمانها أزليين. فيقال لهم: من أين لكم أنه لا حركة قبل حركة الفلك ولا فوقها؟ وهل هذا إلا قول بلا علم، ونفي لما لم تعلموا نفيه، وتكذيب لما لم تحيطوا بعلمه ولما يأتيكم تأويله؟ ثم قولكم بأنه لا حركة إلا هذه الحركات، مع أنه لا أول لها ولا آخر، وهذا كذلك، وهذا أكثر من ذلك بأضعاف مضاعفة. قالوا: فالجسم يمتنع أن يتحرك حركة لا تتناهى، كما ذكر ذلك أرسطو، لأن الجسم ينقسم، فتكون حركة الجزء مثل حركة الكل لا تتناهى، وهذا ممتنع: يمتنع أن يكون الجزء مثل الكل. قيل لهم: بل هذا الذي ذكره أرسطو وتلقيتموه بالقبول، يدل على نقيض مقصوده ومقصودكم. فإن الجسم إذا قامت به حركة فحركة مجموع الجسم أكبر من حركة بعضه في المكان. وهذا غير ممتنع عند أحد من العقلاء، فليس حركة الجزء مثل حركة الكل، ولكن كلاهما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 155 لا يتناهى بعضه أكثر من بعض في الزمان، وما لا يتناهى لا يكون شيء أكبر منه. فهذا يدل على فساد قولكم. لأنكم تقولون: إن حركة المحيط أعظم من الحركة المختصة بفلك الشمس والقمر وغيرهما، وكلاهما لا يتناهى. فهذا الذي ذكرتموه في حركة الجسم الواحد يستلزم بطلان قولكم في حركة الجسمين، وأما الجسم الواحد فإن قولكم فيه ينبني على أنه يتبعض، وأن حركته متبعضة، حتى يقال: إن بعضه يساوي كله في عدم النهاية، وهذا ممتنع، بل هي حركة واحدة لا أول لها ولا آخر، ولا امتناع في ذلك. ويقال للمتكلمين: إن قلتم: إنه مسبوق بالمحرك، بمعنى أنه لا بد للحركة من محرك، فهذا أيضاً مسلم، لكن قولكم: إن المحرك لا يجوز أن يحرك شيئاً حتى تكون الحركة ممتنعة عليه أولاً، ثم تصير ممكنة من غير تجدد شيء، فتنقلب من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث سبب أصلاً، ولا يجوز أن يحدث شيئاً حتى يحدثه بلا سبب حادث أصلاً. هذا هو الذي ينازعكم فيه جمهور المسلمين وغيرهم، ويقولون لكم: لم ينزل الله قادرا على الفعل، والقدرة عليه مع امتناع المقدور جمع بين النقيضين، فإن القدرة على الشيء تستلزم إمكانه، فكل ما هو مقدور للرب تعالى، فلا بد أن يكون ممكنا لا ممتنعا. ويقولون: إذا قلتم: لم يكن قادرا على الفعل ثم صار قادرا، لأن الفعل لم يكن ممكنا ثم صار ممكنا، فما الموجب لهذا التجدد والتغير؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 156 فإن قلتم: حدث ذلك بلا سبب، كان هذا أعجب من قولكم الأول، إذا كان القادر بصير قادرا بعد أن لم يكن، من غير تجدد شيء أوجب قدرته. وإن قلتم ما ذكره أبو الحسين: المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم، فيمتنع وجوده في الأزل. قيل لكم: إن الفاعل لا يكون فاعلا حتى يحصل الشيء عن عدمه، فلا يكون الفعل نفسه، أو المفعول نفسه، قديما. لكن لم قلتم: إنه يشترط في الفعل المعين عدم غيره؟ ولم قلتم: إنه لا يكون فاعلا لهذه السموات والأرض، حتى لا يكون قبل ذلك فاعلا أصلا ولا يكون فاعلا حتى يكون جنس الفعل منه معدوما بل ممتنعا؟ فهذا غير واجب في المعقول، بل المعقول يعقل أنه حصل الشيء عن عدم. وإن كان قبل تحصيله حصل غيره عن عدم، وهم قد يقولون: كان في الأول قادرا على الفعل فيما لم يزل، وهذا كلام متناقض، فإنه في حال كونه قادرا لم يكن الفعل ممكنا له عندهم. فحقيقة قولهم: كان قادرا حين لم يكن قادرا، فإن القادر إنما يكون قادرا على ما يمكنه دون ما لا يمكنه، فإذا كان الفعل في الأزل - وهو الفعل الدائم، أي الذي يدوم جنسه - غير ممكن له مقدورا له، فلا يكون قادرا عليه. وهذا مما أنكره المسلمون على هؤلاء المتكلمين، وكان هذا من أسباب لعنة بعضهم على المنابر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 157 ويقال لهم: مقصودكم الأول نصر الإسلام والرد على مخالفيه، وليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا عن أحد من السابقين الأولين، والتابعين لهم بإحسان، هذا القول الذي أحدثتموه وجعلتموه أصل دين المسلمين. ليس فيه أن الرب لم يزل لا يفعل شيئا ، ولا يتكلم بشيء، ولا يمكنه ذلك، ثم إنه بعد تقدير أزمنة لا نهاية لها فعل وتكلم وإنه صار ممكناً من الفعل والكلام بعد أن لم يكن متمكناً، بل القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين يناقض ما ذكرتموه، فكان ما ابتدعتموه من الكلام الذي ادعيتم أنه أصل الدين مخالفاً للسمع والعقل، ثم إنه صار من تقلدكم ينقل عن المسلمين واليهود والنصارى أن هذا قولهم. ولا يعرف هذا القول عن أحد من الأنبياء ولا أصحابهم، بل المعروف عنهم يناقض ذلك، ولكن الثابت عند الأنبياء أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن، خلاف قول الفلاسفة الذين يقولون: إن الأفلاك، أو العقول، أو النفوس أو شيئاً غير ذلك مما سوى الله، قديم أزلي، لم يزل ولا يزل. ويقال: قول القائل: الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم، أتريد به الفاعل للشيء المشار إليه أنه لا يكون فاعلاً له إلا إذا حصله عن عدم؟ أم تريد به أنه لا يكون الفاعل في نفسه فاعلاً لشيء حتى تكون فاعليته ممتنعة، ثم صارت ممكنة؟ أما الأول فمسلم. والثاني ممنوع. وسبب ذلك الفرق بين الفعل ونوعه. فإذا لم يعقل فاعل لمعنى إلا بعد عدمه، لم يلزم ألا يعقل كون الفاعل فاعلاً إلا بعد أن لم يكن فاعلاً، بل العقل لا يعقل حدوث فاعلية بلا سبب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 158 تابع كلام أبي الحسين البصري قال أبو الحسين البصري: فإذا ثبت حدوث العالم فالدلالة على أن له محدثاً هي أنه لا يخلو أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث، أو كان يجب أن يحدث. فلو حدث مع وجوب أن يحدث، لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل، فلا يستقر حدوثه على حال، إذا كان حدوثه واجباً في نفسه، وإن حدث مع جواز ألا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث، لولا شيء اقتضى حدوثه، ويستدل على أنه عالم قادر، فصح قولنا. قال: واستدل شيوخنا على أن الأجسام تحتاج إلى محدث، بأن تصرفنا يحتاج إلى محدث لأجل أنه محدث، فحدوث كل محدث يحوجه إلى محدث، فإذا كانت الأجسام محدثة احتاجت إلى محدث، والدلالة على حاجة تصرفنا إلى محدث هو أنه لو حدث بنفسه من غير محدث لحدث 0 وإن كرهناه، أو كنا ممنوعين منه، فلما وقع بحسب قصدنا، وانتفى بحسب كراهتنا، علمنا أنه محتاج إلينا 0 قال: والدليل على أنه يحتاج إلينا لأجل حدوثه، أنه إما أن يحتاج إلينا لحدوثه أو لبقائه، أو لعدمه احتاج إلينا لبقائه لوجب ألا يبقى البناء إذا مات الباني 0 ولا يجوز أن يحتاج إلينا لعدمه، لأن تصرفنا كان معدوماً قبل وجودنا وقبل كوننا قادرين 0 فصح أنه يحتاج إلينا ليحدث، ولإن حدوثه هو المتجدد بحسب قصدنا وإرادتنا، وهو الذي لا يتجدد إذا كرهناه 0 فعلمنا أنه يحتاج إلينا لأجل حدوثه. تعليق ابن تيمية قلت: فهذا أصل أصول القوم الذي بنوا عليه دينهم الصحيح والفاسد فإن الإقرار بوجود الصانع تعالى، وأنه حي عالم قادر، ونبوة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 159 نبيه صلى الله عليه وسلم، حق لا ريب فيه وأما نفيهم صفات الرب تعالى، ودعواهم أنه لم يتكلم بكلام قائم به، ولا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، ونحو ذلك، فهو من دينهم الفاسد وهذه الطريقة هي التي سلكها ابن عقيل، إذا مال إلى شيء من أقوال المعتزلة، فإنه كان قد أخذ عن أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التبان، وكانا من أصحاب أبي الحسين البصري، ولهذا يوجد في كلامه نصر كلامهم تارة، وإبطاله أخرى، فإنه كان ذكياً كثير الكلام والتصنيف، فيوجد له من المقالات المتناقضة بحسب اختلاف حاله، كما يوجد لأبي حامد والرازي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم. وابن الجوزي يقتدي به فيما يدخل فيه من الكلام، مثل كلامه في منهاج الأصول، وفي كف التشبيه ونحو ذلك. ولهذا يوجد في كلام هؤلاء من نفي الصفات الخبرية، ومنعهم أن تسمى الآيات والأحاديث آيات الصفات وأحاديث الصفات، بل آيات الإضافات، ونصوص الإضافات، ونحو ذلك من الكلام الموافق لأقوال المعتزلة، ما يبين به أن الأشعري وأئمة أصحابه من المثبتين للصفات الخبرية ونحو ذلك، أقرب إلى السنة والسلف والأئمة، كأحمد بن حنبل وغيره، من كلام هؤلاء الذي مالوا في هذا إلى طريقة المعتزلة. وهذه الطريقة التي سلكها أبو الحسين في إثبات أن المحدث لا بد له من حادث، هي طريقة أبي المعالي وابن عقيل في كثير من كلامهم، وغيرهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 160 والقاضي أبو بكر يذكر ما يشبهها في الأصلين من استدلاله على افتقار المحدث إلى محدث بالتخصيص، والاستدلال على ذلك بالقياس. والأشعري أحسن استدلالاً منه، مع أنهم كلهم سلكوا سبيل المعتزلة في هذا الأصل، وسلموا كلامهم. وهي طريقة أثبتوا فيها الجلي بالخفي وأرادوا بها إيضاح الواضح، كمن يقرر القضايا البديهية بقضايا نظرية، يسندها إلى قضايا أخرى بديهية، وذلك العلم بأن المحدث لا بد له من محدث، أبين في العقل من العلم بأن ما جاز حدوثه، لم يكن بالحدوث أولى من ألا يحدث، لولا شيء اقتضى حدوثه، وبأن ما وجب حدوثه وجب في كل حال. فإن هذه القضايا وإن كانت حقاً، وهي ضرورية، فالعلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين منها، والعقل يضطر إلى التصديق بهذه أعظم مما يضطر إلى التصديق بتلك، وتصور طرفي هذه القضية أبده في العقل من تصور تلك، ولا تعرض هذه القضية وتلك على سليم الفطرة إلا صدق بهذه قبل تلك. وهذا كقول أبي المعالي، ومن وافقه على طريقة، إذا أثبت حدوث العالم: فالحادث جائز وجوده، وكل وقت صادفه كان من المجوزات تقدمه عليه بأوقات، ومن الممكنات استئخار وجوده عن وقته بساعات. فإذا وقع الوجود الجائز بدلاً عن استمرار العدم المجوز، قضت العقول ببداهتها بافتقاره إلى مخصص خصصه بالوقوع، وذلك - أرشدك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 161 الله - مستبين على ضرورة، لا حاجة فيه إلى سبر الغير والتمسك فيه بسبيل النظر. ثم إذا وضح اقتضاء الحادث مخصصاً على الجملة، فلا يخلو ذلك المخصص من أن يكون موجباً وقوع الحدوث، بمنزلة العلة الموجبة معلولها، وإما أن تكون طبيعة، كما صار إليه الطبائعيون، وباطلاً أن يكون جارياً مجرى العلل، فإن العلة توجب معلولها على الاقتران، فلو قدر المخصص علة لم يخل من أن تكون قديمة أو حادثة. فإن كانت قديمة فيجب أن يجب وجود العالم أزلاً، وذلك يفضي إلى القول بقدم العالم، وقد أقمنا الدلالة على حدثه. وإن كانت حادثة افتقرت إلى مخصص، ثم يتسلسل القول في مقتضى المقتضي. ومن زعم أن المخصص طبيعة، فقد أحال فيما قال، فإن الطبيعة عند مثبتها توجب أثرها إذا ارتفعت الموانع، فإن كانت الطبيعة قديمة، فلتقتض قدم العالم، وإن كانت حادثة فلتكن مفتقرة إلى مخصص. قال: وإذا بطل أن يكون مخصص العالم علة أو طبيعة موجبة بنفسها، لا على اختيار، فتعين بعد ذلك القطع بأن مخصص الحوادث فاعل لها على الاختيار، مخصص إيقاعها ببعض الصفات والأوقات. قلت: فهذه الطريقة هي من جنس طريقة أبي الحسين كما ترى وهي من جنس طريقة القاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل وغيرهم. ومعلوم لكل ذي فطرة سليمة أن العلم بأن الحادث لا بد له من محدث أبين من العلم بأن التخصص لا بد له من مخصص، فإنه ليس التخصص إلا نوعاً من الحوادث، فإنهم لا يريدون بذلك أن كل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 162 تخصيص، سواء كان محدثاً أو قديماً، لا بد له من مخصص فاعل له على الاختيار، فإن القديم يمتنع عندهم أن يكون له فاعل، فلم يبق إلا التخصص الحادث، فيكون المعنى أن كل تخصيص حادث لا بد له من مخصص فاعل مختار. والتخصص الحادث إما أن يكون مساوياً للحادث في العموم والخصوص، أو يكون أخص منه، فإن كان مساوياً له، كان هذا بمنزلة أن يقال: المفعول الحادث والمتجدد الحادث وما أشبه ذلك، وإن كان أخص منه كان استدلالاً على أن كل محدث لا بد له من محدث، لأن هذا النوع من الحادث لا بد له من محدث. ثم إن هذا النوع هو المطلوب إثباته بالدليل، فيكون استدلالاً على هذا النوع بالجنس، ثم استدلالاً على الجنس بذلك النوع، فيكون استدلالاً بالشيء على نفسه. لكن يقال من جهتهم: التخصص، وإن كان مساوياً للحدوث في العموم والخصوص، فجهة كونه تخصيصاً غير جهة كونه حدوثاً. وهم استدلوا بما فيه من التخصيص وإن كان مشروطاً بالحدوث، على أنه لا بد له من مخصص. فيقال: هذا صحيح. لكن عليه سؤالان: أحدهما أن جهة كونه حدوثاً أدل على المحدث من جهة دلالة كونه مخصصاً على المخصص. فإنه لو قال لهم قائل: لا نسلم أن التخصص لا بد له من مخصص، لم يكن لهم جواب إلا ما هو دون جوابهم، لمن قال: لا نسلم أن المحدث لا بد له من محدث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 163 وإذا كان قد قال: إن ما جاز تقدمه وتأخره، فإذا وقع وجوده بدلاً عن عدمه، قضت العقول ببدائهها بافتقاره إلى مخصص خصصه بالوقوع، فلأن يقال: ما حدث بعد أن لم يكن فإن العقول تقضي ببدائهها بافتقاره إلى محدث أحدثه، أولى وأحرى، فإن العلم بافتقاره المحدث إلى محدث أبين من العلم بافتقار المخصص إلى المخصص، وافتقار ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر إلى مرجح. السؤال الثاني: أن يقال لهؤلاء كلهم، ك أبي الحسين ومن وافقه: هذه المقدمة التي بنيتم عليها إثبات الصانع تعالى تناقضهم فيها، فإن حاصلها أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، أو لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح. فإن هؤلاء يقولون: إذا حدث مع جواز أن يحدث وأن لا يحدث، لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يكون. والآخرون يقولون إذا تخصص بوقت دون وقت مع تشابه الأوقات، أو بقدر دون قدر، لم يكن تخصيصه بأحدهما أولى من الآخر إلا بمخصص، والأول ينبني على أنه قد استوى بالنسبة إلى ذاته الحدوث وعدمه، فيفتقر إلى مرجح للحدوث. والثاني ينبني على أن الأزمنة والمقادير والصفات مستوية. فلا بد من مخصص يخصص أحدهما بالوقوع فيه، وكل هذا مبني على أن الأمرين المتساويين في الإمكان لا يترجح أحدهما إلا بمرجح، وهذا حق في نفسه، لكنهم نقضوه حيث قالوا: إن هذه المحدثات والتخصيصات تقع بلا سبب يقتضي حدوثها ولا اختصاصها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 164 فإنهم، وإن أثبتوا فاعلاً، لكن يقولون: إن نسبة قدرته وإرادته إلى جميع الممكنات سواء، وأنه حدثت الحوادث بلا سبب حادث أصلاً بل حال الفاعل قبل الفعل وحين الفعل سواء، ومعلوم أن هذا تصريح برجحان الممكن بلا مرجح تام. وهؤلاء يقولون: القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح. وهذا هو أصل قول القدرية، وهو أصل قول الجهمية الجبرية. القدرية أخرجوا به أفعال الحيوان أن تكون مخلوقة لله، وقالوا: إن العبد قادر مختار، فترجح الفعل على الترك بال مرجح. وقالوا: إن ما أنعم الله به على أهل الإيمان والطاعة مما يؤمنون به ويطيعون، هو مثل ما أنعم به على أهل الكفر والمعصية، فإن أرسل الرسل إلى الصنفين، وأقدر الصنفين، وأزاح علل الصنفين، وفعل كل ما يمكن من اللطف الذي يؤمن عنده الصنفان، بمنزلة من أعطى أبنيه مالاً بالسوية، ثم قالوا: إن المؤمن فعل الطاعة من غير نعمة خصه الله بها تعينه على الإيمان، والكافر فعل الكفر من غير سبب من الله. وهذا القول مخالف للشرع والعقل. فإن الله بين ما خص به المؤمنين من نعمة الإيمان في غير موضع، كقوله تعالى: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} والقدرية يقولون: إن هذا خطاب لجميع الخلق، وليس الأمر كذلك، بل هو خطاب للمؤمنين، كما قال: {أولئك هم الراشدون} الجزء: 9 ¦ الصفحة: 165 وكما قال قبل ذلك: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين * واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم} فهذا خطاب للمؤمنين لا لجميع الناس. وأيضاً فإن العبد إذا كان قادراً على الطاعة والمعصية، فلو لم يحدث سبب يوجب وقوع أحدهما دون الآخر للزم الترجيح بلا مرجح. وذلك السبب، إن كان من العبد، فالقول فيه كالقول في الفعل، فلا بد أن يكون السبب الحادث الموجب للترجيح من غير العبد، والسبب الذي به وقعت الطاعة نعمة من الله خص بها عبده المؤمن. ثم إن القدرية من المعتزلة وغيرهم بنوا على هذا أن الرب لم يكن يتكلم ولا يفعل، ثم خلق الكلام والمفعولات بغير سبب اقتضى الترجيح. وأما المثبتون للقدر، من الجهمية ونحوهم، فخالفوهم في فعل العبد، وقالوا إنه لا يترجح أحد مقدوريه على الآخر إلا بمرجح، ووافقوهم في فعل الله. ولهذا يوجد كلام الرازي - ونحوه من هؤلاء - متناقضاً في هذا الأصل، فإذا ناظروا القدرية استدلوا على أن القادر لا يرجح مقدوراً إلا بمرجح، وإذا أرادوا إثبات حدوث العالم، وردوا على الدهرية، بنوا ذلك على أن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وقالوا: إن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بغير مرجح يصح من القادر المختار، ولا يصح من العلة الموجبة، وادعوا الفرق بين الموجب بالذات وبين الفاعل بالإختيار في هذا الترجيح. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 166 وهذا حقيقة قول القدرية. لكن جهم نفسه نفى كون العبد قادراً، ونفى أن يكون له قدرة على فعل. وحينئذ إذا قال: إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح، لم ينتقض قوله بناءً على أصله الفاسد. والأشعري وغيره ممن يقول: إن العبد كاسب وله قدرة، ويقولون: ليس بفاعل حقيقة، ولا لقدرته تأثير في المقدور، إن حصل فرق معنوي بين قولهم وقول جهم، احتاجوا الى الفرق بين فعل الرب وفعل العبد، وإلا كانوا مثل جهم. وأما جمهور المثبتين للقدر، الذين يقولون: للعبد قدرة وفعل، وهذا قول السلف والأئمة، فعندهم أن العبد فاعل قادر مختار، وهو لا يرجح أحد مقدوريه على الآخر إلا لمرجح. والرازي يميل إلى قول هؤلاء، ويثبت للعبد قدرة وداعياً، وأن مجموعهما يستلزم وجود الفعل. فهؤلاء الطوائف من الكلابية والكرامية والأشعرية، ومن وافقهم من أهل الحديث. والفقه وغيرهم، وإن خالفوا المعتزلة بقدر، فهم يشاركونهم في الأصل الذي بنى أولئك قولهم في القدر عليه، وهم يناظرون الفلاسفة القائلين بالموجب بالذات، وأهل الطبع القائلين بأن فاعل العالم علة تامة أزلية تستلزم معلولها. وهذا القول أشد فساداً، فإن حقيقة القول هؤلاء أنه ليس لحوادث العالم محدث، كما أن حقيقة قول القدرية أنه ليس لفعل الحيوان محدث، فما قاله القدرية في فعل الحيوان، قاله هؤلاء في جميع حوادث العالم، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 167 لأن العلة التامة المستلزمة لمعلولها لا يصدر عنها حادث لا بوسط ولا بغير وسط. فهؤلاء شبهوا فعله بفعل الجمادات، مع تناقضهم وتقصيرهم في ما جعلوه فعل الجمادات. والقدرية شبهوا فعله بفعل الحيوانات، مع تناقضهم وتقصيرهم فيما جعلوه فعل الحيوانات. ثم المثبتين للقدر، من الكلابية وغيرهم، يخالفون المعتزلة في إثبات القدر، وفي بعض مسائل الصفات، ويجعلون المخصص هو الإرادة القديمة التي نسبتها إلى جميع المرادات سواء، وقالوا: إن من شأن الإرادة أن تخصص أحد المثلين عن الآخر بلا سبب، ولهذا بنوا أصولهم على أن التخصيص بأحد الوقتين لا بد له من مخصص. ثم كلام أبي الحسين وأمثاله أحذق من كلام هؤلاء من وجه، وأنقص من وجه، فإنه من حيث جعل نفس وجود الحدوث بدلاً عن العدم، مع جواز أن لا يحدث، دليلاً على المقتضي لحدوثه، كلامه أرجح من كلام من جعل الدليل هو التخصيص بوقت دون وقت، فإن نفس الحدوث فيه من التخصيص ما يستغنى به عن نسبة الحادث إلى الأوقات. وأما كونه أنقص، فإنه متناقص من وجه آخر. وذلك أنه قال: لو حدث مع وجوب أن يحدث، لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل، فلا يستقر حدوثه على حال، إذا كان حدوثه واجباً، فإنه بعد أن يتجاوز عن أن نفس الحدوث يستلزم المحدث. ولو قدر واجباً، يقال له: إذا قدرت الحدوث واجباً، فلم لا يجوز أن يكون حدوثه في حال أولى منه في حال أخرى، ويكون واجباً في تلك الحال دون غيرها؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 168 فإن قال: لأن الأحوال مستوية. قيل له: الأحوال مستوية سواء قدر أن الحدوث واجب أو جائز، فلا بد من مخصص سواء قدر الحدوث واجباً أو جائزاً. وإن قال: إن الواجب لا يختص بحال دون حال، خلاف الجائز. قيل: هذا حق فيما وجب بنفسه. لكن ليس العلم به بأبين من العلم يكون الحادث لا يحدث بنفسه. بل يحتاج ذلك إلى مزيد بيان وإيضاح أكثر من هذا، لأنه قد تقدم تقريره بأن القديم واجب الوجود في كل حال، فإنه موجود في الأزل، فلا يجوز أن يكون وجوده على طريق الجواز، ولا بالفعل، فتعيين أن يكون واجباً، ولم يقرر أن الواجب لا يختص بوقت دون وقت. فإن قال: هذا بين معروف بنفسه معلوم بالضرورة. قيل له: إذا عرضنا على عقول العقلاء: أن الواجب: هل يكون واجباً في وقت دون وقت؟ وأن الحادث: هل يحدث بنفسه كان ردهم لهذا الثاني أعظم من ردهم لذاك، فلا يقرر الأبين بالأخفى. وأيضاً فهذا أرجح من ذاك من وجه آخر. وذلك أن الفلاسفة الدهرية الإلهين من المتأخرين، ك ابن سينا وغيره، يقولون: إن الواجب قد يكون قديماً، وهو واجب بغيره. فالواجب بغيره عندهم قد لا يكون محدثاً، مع كونه مفتقراً إلى مخصص موجب. فإذا عرف افتقاره إلى موجب، لم يلزم على قولهم أن يكون له محدثاً، ولم يقل أحد من هؤلاء: إن المحدث يكون بغير محدث. ومن قال هذا، فإنه لا ينكر افتقار المخصص الجزء: 9 ¦ الصفحة: 169 إلى مخصص، فحينئذ فمن أقر بالمحدث أقر بالمخصص من غير عكس، وما دل على المحدث دل على المخصص بالاتفاق، وفي العكس نزاع. وأيضاً فلو نازعه منازع في أن ما وجب حدوثه يجوز أن يحدث في وقت دون وقت، وقال: هذا كما تقول أنت: إن القادر يخصه بوقت دون وقت، لاحتاج إلى جواب. فإن قال: القادر له أن يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح، كالجائع والهارب. قال له المعترض: فهذا الترجيح واجب أو جائز؟ فإن قال: واجب. قال: فلم اختص بوقت دون وقت؟ وإن قال: جائز. قال: فحدوثه مع جواز أن لا يحدث، يفتقر إلى ترجيح آخر، وإلا لم يكن بالحدوث أولى وإن قال: العلم بأن الواجب بنفسه لا يختص بزمان دون زمان ضروري. قال المعترض: والعلم بأن الحادث لا بد له من محدث علم ضروري. فإن زعم أن هذا ليس بضروري بل نظري، أمكن المعترض أن يقابله ويقول: العلم بأن الواجب لا يختص نظري لا ضروري. والمقصود هنا التنبيه على أصول هؤلاء التي هي عمدتهم، وعليها بنوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 170 دينهم الحق، وما أدخلوا فيه من البدع، وأن ذلك إما أن يكون باطلاً، وإما أن يكون حقاً طولوه بما لا ينفع، بل قد يضر، واستدلوا على الجلي بالخفي، بمنزلة من يحد الشيء بما هو أخفى منه. وإذا كانت الحدود والأدلة إنما يراد بها البيان والتعريف، والدلالة والإرشاد فإذا كان المعروف المعلوم في الفطرة، ويجعل خفياً يستدل عليه بما هو أخفى منه، أو يدفع ويذكر ما هو نقيضه ومخالفه، وكانت هذه طرق السلف والأئمة التي دل عليها الكتاب والسنة، وهي الطرق الفطرية العقلية اليقينية الموافقة للنصوص الإلهية -تبين أن من عارض تلك الطرق الشرعية - معقولها ومنقولها - بمثل هذه الطرق البدعية، بل عدل عنها إليها، كان في ضلال مبين، كما هو الواقع في الوجود، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} . وأما طريق شيوخ المعتزلة، التي ذكرها أبو الحسين وعدل عنها، فهي أبعد وأطول، والأسولة عليها أكثر، كما لا يخفى ذلك، مع أن هذه الطرق لم تتضمن كذباً ولا باطلاً، من جهة أنها إخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، أو من جهة أنها قضايا كاذبة، بل من جهة الاستدلال على الشيء بما هو أخفى منه، بخلاف كلامهم في الترجيح بل مرجح، والحدوث بلا سبب، وإبطال دوام الحوادث، فإن منازعيهم يقولون: كلامهم في ذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 171 من نوع الكذب الباطل، وإن لم يعتمدوا الكذب كسائر المقالات الباطلة. وهاتان الطريقتان، اللتان ذكرهما أبو الحسين عنه وعن شيوخه، هما اللتان اعتمد عليهما كثير من المثبتين للصفات، الذين استدلوا بطريقة الأعراض والحركات على حدوث الأجسام، كالقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى في المعتمد) ، وغيرهما، فإنهم سلكوا هذه الطريق فأثبتوا وجودها، وأن الأجسام لا تخلو عنها، وأنها لا تبقى زمانين، وأنها محدثة، وأن ما لا يخلو منها فهو محدث، لأن الحوادث لها أول، وأبطلوا وجود ما لا يتناهى مطلقاً، وذكروا النزاع في ذلك مع معمر والنظام وابن الراوندي وغيرهم، وأثبتوا ذلك بنظير ما تقدم من الحجيج، وقالوا: إن ما لا ينفك عن الحوادث فهو محدث، وقالوا: إذا ثبت أن ذلك محدث، فلا بد له من محدث أحداثه، وصانع صنعه، خلافاً للملحدة في نفي الصانع. قالوا: والدلالة عليه أن المحدث لو لم يتعلق بمحدث، لم تتعلق الكتابة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 172 بكتاب، ولا الضرب بضارب، لأن ذلك كله يتعذر، إذا استحالة محدث لا محدث له، كاستحالة كتابة لا كاتب لها، فلو جاز وجود محدث لا محدث له، لجاز محدث لا إحداث له، وذلك محال. وهؤلاء يقولون: المحدث عين الإحداث، فحقيقة قولهم وجود محدث لا إحداث له، وقد جعلوا هنا نفي هذا مقدمة معلومة يحتج بها. قالوا: وأيضاً فإنا نرى الحوادث يتقدم بعضها بعضاً، ويتأخر بعضها عن بعض، ولولا أن مقدماً قدم منها ما قدم، وأخر منها ما أخر، لم يكن ما تقدم منها أولى من أن يكون متأخرا، وما تأخر أولى من أن يكون متقدماً، فدل ذلك على أن لها مقدماً محدثاً لها قدم منها ما قدم، وأخر منها ما أخر. ثم لا يخلو ذلك الأمر من أن يكون نفس الحادثات، أو معنى فيه، أو نفسه ولا معنى فيه، أو لجاعل جعله، فيستحيل أن يكون ذلك لنفسه، لأن نفسه هو وجوده، والشيء لا يجوز أن يفعل نفسه، ولا يجوز أن يكون لذلك المعنى، لأن ذلك المعنى لا بد أن يكون موجوداً، إذ المعدوم ليس له تأثير في ذلك، وإذا كان موجوداً فلا يخلو من أن يكون قديماً أو محدثاً، فلا يجوز أن يكون قديماً، لأنه لو كان قديماً لوجب قدم الجسم المحدث، وذلك باطل. وإن كان محدثاً فلا بد أن يكون متقدماً أو متأخراً، فإن كان كذلك، مع جواز أن لا يكون متقدماً لقدم موجبه، فلا يكون كذلك إلا لمعنى آخر، وذلك المعنى لمعنى آخر إلى غير نهاية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 173 ولا يجوز أن يكون كذلك: لا لنفسه، ولا لمعنى، ولا لأمر، لأن ذلك يؤدي إلى أن لا يكون بالوجود في وقت أولى من عدمه وبقائه على عدمه، ولما علو أن اختصاصه بالوجود أولى من عدمه، بطل أن يكون إلا لأمر، وإذا بطلت هذه الأقسام، علم أن هذه الحوادث إنما اختصت في الوجود في أوقات معينة لجاعل جعله، وأراد تقديم أحدهما على الآخر، وتأخر بعضها عن بعض، فثبت ما قلناه. فهذا الذي ذكره القاضي أبو يعلى، ومن سلك هذه الطريقة كأبي محمد بن اللبان، وقبلهما القاضي أبو بكر، وغيرهم: هي من جنس ما تقدم. وهؤلاء غالبهم إذا ذكروا طريقتهم في حدوث الأجسام، بأن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، ذكروا ذلك مسلماً، كأنه بين، وإذا ذكروا مع ذلك أن الحوادث يجب تناهيها، وجعلوا ذلك بمنزلة المسلم أو المقدمة الضرورية، تسوية بين النوع وأشخاصه فيقولون مثلاً إذا أثبتوا حدوث الأعراض وأن الجسم مستلزم لها: الحوادث لها أول أبتدئت منه، خلافاً لابن الراوندي وغيره من الملحدة. والدلالة على ذلك علمنا بأن معنى المحدث أنه الموجود عن عدم، ومعنى الحوادث أنها موجودة عن عدم، فلو كان فيها ما لا أول له، لوجب أن يكون قديماً، وذلك فاسد لما بينا من إقامة الدلالة على حدوثها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 174 والجمع بين قولنا: حوادث، وأنه لا أول لها، مناقضة ظاهرة في اللفظ والمعنى، وذلك باطل. ثم يقولون: وإذا ثبت ما ذكرنا من ثبوت الأعراض وحدوثها، وأن الجواهر لم تخل منها ولم تسبقها، وجب أن تكون محدثة كهي، لأن الجواهر لا تخلو من أن تكون موجودة معها أو بعدها أو قبلها، فإذا بطل أن تكون الجواهر موجودة قبل الأعراض، وبطل أن توجد بعدها، وجب أن تكون موجودة معها، وثبت حدوثها كحدوث الأعراض. فهذا الذي يقوله هؤلاء، كالقاضيين ومن وافقهما على ذلك، وهذا لفظ القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى ونحوهما. والمعترض على ذلك يقول إن موضع المنع لم يقيموا عليه حجة، وإنما قالوا: معنى الحوادث أنها موجودة عن عدم، فلو كان فيها ما هو لا أول له، لوجب أن يكون قديماً، وهم لا يقولون فيها ما لا أول له، بل كل حادث له أول عندهم، وإنما يقولون: إن جنسها لا أول له بمعنى أنه لم يزل كل حادث قبله حادث وبعده حادث. وحينئذ فيقولون: إنه لا مناقضة بين قولنا: حوادث، وقولنا: لا أول لها، لأن معنى قولنا: حوادث، أن كل واحد واحد منها حادث منها حادث بعد أن لم يكن، ليس معناه أن جنسها حادث. والذي لا أول له هو الجنس عندهم، لا كل واحد واحد، فالذي أثبتوا له الحدوث، هو كل واحد واحد من الأعيان، وتلك لم يثبتوا لشيء منها قدماً، ولا قالوا: لا أول لشيء منها، والذي قالوا: لا أول له، بل هو قديم، هو النوع المتعاقب، وذلك لم يقولوا: إنه حادث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 175 ثم إن هؤلاء أيضاً بعد ذلك يقررون ما يدقونه من امتناع حوادث لا أول لها، في ضمن دعواهم امتناع وجود ما لا يتناهى، فيقعدون قاعدة، فبقولون: لا يجوز وجود موجودات لا نهاية لعددها، سواء كانت قديمة أو محدثة، خلافاً لمعمر والنظام وابن الراوندي وغيرهم من الملحدة، في قولهم: يجوز وجود ذوات محدثة لا نهاية لها، وخلافاً للفلاسفة في قولهم: يجوز وجود جواهر قديمة لا غاية لها 0 ثم يقولون: والدليل على ذلك أن كل جملة من الجمل لو ضممنا إليها خمسة أجزاء لعلم ضرورة أنها زادت، أو نقصت منه خمسة أجزاء لعلم ضرورة أنها قد نقصت. وإذا كان هذا كذلك وجب أن تكون متناهية، لجواز قبول الزيادة والنقصان استحال أن تكون متناهية، وإذا كان كذلك استحال وجود موجودات غير متناهية، قديمة كانت أو محدثة. وليس لأحد أن يقول يلزمكم على هذا أن تقولوا: إن معلومات الباري عز وجل أكثر من مقدوراته، لأن جميع مقدوراته معلومة، وله معلومات لا يصح أن تكون مقدورة، وهي ذاته تعالى، وسائر صفاته، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 176 وسائر الباقيات والمحالات التي لا يصح وجودها، لأن مقدورات الباري ومعلوماته على ضربين: موجودات ومعدومات، فالموجودات من المقدورات والمعومات كلها متناهية، والمعدومات منها غير متناهية، ولا يصح فيها الزيادة والنقصان. وإذا كان الأمر على ما ذكرناه، بطل ما قالوه. فهذا الذي يذكره مثل هؤلاء، كالقاضيين وابن اللبان أو غيرهم. وهذه الطريق هي طريق التطبيق، ومبناها على أن ما لا يتناهى لا يتفاضل، وعليها من الكلام والاعتراض ما قد ذكر في غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا التنبيه على طرق الناس في الأصول، التي يقول القائل: إنها تستلزم ما يخالف النصوص. كلام الجويني في "الإرشاد" عن امتناع حوادث لا أول لها كلام الجويني في الإرشاد عن امتناع حوادث لا أول لها ومنهم من يسلك في دعوى امتناع دوام الحوادث مسلك الضرورة، كما سلكه طوائف، منهم أبو المعالي في إرشاده الذي جعله إرشاداً إلى قواطع الأدلة، وجعل أصل الأصول، الذي بنى عليه جميع ما يذكره من أصول الدين، التي بها كفر أو بدع من خالفه هو دليل الأعراض المذكور، وسلك فيه مسلك من تقدمه من أهل الكلام، السالكين طريق المعتزلة في تقرير ذلك، وهو مبني على أربعة أركان: إثبات الأعراض، ثم إثبات حدوثها، ثم إثبات لزومها للجسم. قال والأصل الرابع يشتمل على إيضاح استحالة حوادث لا أول لها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 177 قال: والاعتناء بهذا الركن حتم، فإن إثبات العرض منه يزعزع جملة مذاهب الملحدة، فأصل مقالتهم أن العالم لم يزل على ما هو عليه، فلم تزل دورة الفلك قبل جورة إلى غير أول، ثم لم تزل الحوادث في عالم الكون والفساد تتعاقب كذلك إلى غير مفتتح، فكل ولد مسبوق بوالد، وكل زرع مسبوق ببذر، وكل بيضة مسبوقة بدجاجة، فنقول: موجب أصلكم يقضي بوجود حوادث لا نهاية لأعدادها، ولا غاية لآحادها، على التعاقب في الوجود، وذلك معلوم بطلانه بأوائل العقول، فإنا نفرض القول في الدورة التي نحن فيها، ونقول من أصل الملحدة أنه انقضى قبل الدورة التي نحن فيها دورات لا نهاية لها، وما انتفت عنه النهاية يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد، فإذا تصرمت الدورات التي قبل هذه الدورة أذن انقضاؤها بتناهيها، وهذا القدر كاف في غرضنا. تعليق ابن تيمية قلت: وهذه الحجة هي التي تقدم ذكر اعتراض كثير من النظار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 178 عليها، حتى أتباع أبي المعالي، كالرازي والآمدي والأرموي وغيرهم. وهم ينازعونه في قوله: إن بطلان ذلك معلوم بأوائل العقول، ويقولون: قد جوز ذلك طوائف متنوعة من العقلاء، الذين لم يتلقه بعضهم عن بعض من أهل الملل: المسلمين واليهود والنصارى، ومن الفلاسفة الأولين والآخرين وغيرهم، بل قد يقولون: إن هذا قول الأنبياء وأتباعهم، وفضلاء الطوائف، لا يريدون أن قدم العالم هو قول الأنبياء، بل يعلمون أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما أخبرت به الأنبياء، لكن يقولون: ما زال الله تعالى متكلماً، تكلم بما شاء، أو ما زال فاعلاً، يفعل بنفسه ما شاء، أو ما زال يفعل الحوادث شيئاً بعد شيء، أو نحو ذلك من المقالات، التي يقولون: إنها موافقة لقول الأنبياء صلوات الله عليهم، وأن أقوال الأنبياء لا تتم إلا بها. وأما قدم الأفلاك ودوامها، فهو قول طائفة قليلة، كأرسطو وأتباعه. وقد نقل أرباب المقالات أنه أول من قال بقدم ذلك من الفلاسفة، وأن الفلاسفة المتقدمين كانوا على خلاف قوله في ذلك، وقول أرسطو هذا وأتباعه، هو من أقوال الملاحدة المخالفين للرسل، فإن الأقوال التي تخالف ما علم من نصوص الأنبياء هي من أقوال الملاحدة، ومن عارض نصوص الأنبياء بعقله كان من الملاحدة. وما الأقوال التي قالها الرسل، أو قالت ما يستلزمها، ولم تقل نقيض ذلك، فهذه لا تضاف إلى الملاحدة، بل من عارض نصوص الأنبياء بمعقوله، وادعى تقديم عقله على أقوال الأنبياء، واستند في ذلك إلى أصل اختلف فيه العقلاء، ولم يوافقه عليه الأنبياء، كان أقرب إلى أقوال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 179 أهل الإلحاد، ولكن قد تشتبه على كثير من النظار، فينصرون ما يظنونه من أقوال الأنبياء بما يظنونه دليلاً عقلياً، ويكون الأمر في الحقيقة بالعكس، لا القول من أقوال الأنبياء، بل قد يكون مناقضاً لها، ولا الدليل دليلاً صحيحاً في العقل بل فاسداً، فيخطئون في العقل والسمع ويخالفونهما، ظانين أنهم موافقون للعقل والسمع، وآية ذلك مخالفتهم لصرائح نصوص الأنبياء، وما فطر الله عليه العقلاء. فمن خالف هذين كان مخالفاً للشرع والعقل، كما هو الواقع في كثير من نفاة الصفات والأفعال. والمقصود هنا أن المعترضين على ما ذكر في تناهي الحوادث، يقولون: لم يذكر على وجوب تناهيها دليلاً، فإن عمدته قوله: ما انتفت عنه النهاية يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد، فإذا تصرمت الحوادث أذن انقضاؤها بتناهيها. وهم يقولون لفظ الانتهاء لفظ مجمل: أتريد به الانتهاء، بمعنى أنه لا أول لها؟ أو الانتهاء بمعنى انقضاء ما مضى؟ أما الانتهاء بالمعنى الثاني، فإنهم لا ينازعون فيه، بل يسلمون أن ما انتهى فقد انتهى، لكن لا يسلمون أن الحوادث انتهت، بل يقولون: لم تزل ولا تزال، فإن الانتهاء انقطاعها وانصرامها ونفادها، وهي لم تنفد ولم تنقطع. وإن قيل: الماضي قد وجد بخلاف المستقبل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 180 قيل: وجود ما وجد مع دوامها لا يوجب انتهاؤه. فإن قيل: فنحن نقدر أنها انتهت وفرغت. قيل: إذا قدر تناهيها لزم تناهيها على هذا التقدير. وقيل: إن أريد بتناهيها أن ما مضى هو محدود بالحد الفاصل بين الماضي والمستقبل، وهذا انتهاء. قيل: هب أن هذا يسمى انتهاء، لكن على هذا التقدير فهي منتهية من هذا الطرف الذي انتهت إليه، لا من الطرف الأول الذي لا ابتداء له. وعلى هذا فهؤلاء لا ينازعون في الانتهاء بهذا المعنى، بل يقولون: كل ما مضى من الحوادث فقد انتهى وانقضى وانصرم وفرغ. وهذا هو الذي نفاه الله عن كلماته، وعن نعيم أهل الجنة. كما قال تعالى: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} [ص: 54] . وقال: {أكلها دائم وظلها} [الرعد: 35] وقال: {لا مقطوعة ولا ممنوعة} [الواقعة: 33] . وقال: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} [الكهف: 109] . وأما عدم الانتهاء، بمعنى أنه لا ابتداء لها، فلم يذكر دليلاً على امتناعه. فإن القائل إذا قال: ما انتفت عنه النهاية، بمعنى أنه لا ابتداء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 181 له، يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد، فإن الحوادث إذا انصرمت أذن انقضاؤها بتناهيها. قيل له: انقضاؤها يؤذن بتناهيها من آخرها، فالانتهاء والانصرام هنا معناهما واحد فكأن القائل قال: إذا انتهت فقد انتهت، وإذا انصرمت فقد انصرمت. وأما كون الانقضاء والانتهاء من الآخر يؤذن بأن لها مبدأ كان بعد أن لم يكن، فليس في الانتهاء ما يؤذن بحدوث الابتداء، بل هذا هو رأس المسألة، وليس الاطراد بالانتهاء هنا انقطاعها بالكلية حتى لا يوجد شيء منها، بل المراد انتهاء ما مضى منها، فإن ما انقطع بالكلية فعدم جنسه، يمكن أن يقال إن له مبتدأً، ولو كان قديم الجنس لم يعد، فإن ما وجب قدمه امتنع عدمه، سواء كان شخصاً أو نوعاً. وأما إذا أريد بالانتهاء انتهاء ما مضى مع دوام النوع في المستقبل، فليس في هذا الانتهاء ما يستلزم أن يكون أوله محدوداً. ومن المعلوم أن العقل إذا قدر حوادث متوالية لم تزل ولا تزال، كان يعلم أن كل واحد منها قد انصرم وانصرم ما قبله، مع أنه قد قدر دوام هذا النوع، كما يعلم أن كل واحد منها له أول، مع تقديره أنه لا أول لها، فعلم أن هذا التقدير ينافي انصرام ما انصرم، ولا حدوث ما حدث، وإذا لم يتناف هذا وهذا لم يكن ثبوت أحدهما دليلاً على انتفاء الآخر، فعلم أن ما ذكروه لا ينافي جواز دوام الحدوث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 182 وقد عارضهم المعترضون بالحوادث المستقبلة، وأوردوا سؤالهم. قالوا: فإن قيل: مقام أهل الجنان فيها مؤبد مسرمد، فإذا لم يبعد إثبات حوادث لا آخر لها، لم يبعد إثبات حوادث لا أول لها. قلنا: المستحيل أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى آحاداً على التوالي، وليس في توقع الوجود في الاستقبال والمآل قضاء بوجود ما لا يتناهى، ويستحيل أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري تعالى: ما لا يحصره عدد، ولا يحصيه أمد. والذي يحقق ذلك أن حقيقة الحادث ما له أول، وإثبات الحوادث مع نفي الأولية تناقض، وليس في حقيقة الحادث أن يكون له آخر. وقد أجاب المعترضون عن هذا الكلام بأن ما مضى دخل في الوجود ثم خرج، فليس هو الساعة داخلاً في الوجود، وما يستقبل سيدخل في الوجود ثم يخرج، فكلاهما في الحال ليس بداخل في الوجود، وكلاهما لا بد من دخوله في الوجود وخروجه منه، فقد استوى هذا وهذا، في الدخول والخروج، وفي العدم الآن. لكن دخول هذا وخروجه ماض، ودخول هذا وخروجه مستقبل، وليس في هذا الفرق ما يمنع اشتراكهما، فهما اشتركا فيه، لا سيما والمضي والاستقبال أمران إضافيان، فما من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 183 حادث إلا ولا بد أن يوصف بالمضي والاستقبال، فيوصف بالمضي باعتبار ما بعده، ويوصف بالاستقبال باعتبار ما قبله، فإذا نظر إلى حادث معين فما قبله ماض وما بعده مستقبل، وهكذا كل حادث. وإذا كانت الحوادث الدائمة كل منها يوصف بالمضي والاستقبال، لم يصح الفرق بينهما بذلك فإن من شرط الفرق اختصاص أحد النوعين به وتأثيره في الحكم الذي فرق بينهما فيه لأجله، وكلا الأمرين منتف هنا. والدليل الدال على انتفاء دوام الحدوث يتناول هذا كتناول هذا، فإما أن يصحا جميعاً وإما أن يبطلا جميعاً. ولهذا كان من طرد هذا الدليل، وهما إماما أهل الكلام نفاة الصفات: الجهم بن صفوان إمام الجهمية، وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة، كلاهما ينفي دوام الحدوث في المستقبل كما نفاه في الماضي. وإذا قال القائل: المستحيل أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى آحاداً على التعاقب. قيل له: فالمستقبلات تدخل في الوجود وهي لا تتناهى آحاداً على التعاقب، لكن لم تدخل بعد، وذاك دخل ثم خرج. وقوله: يستحيل أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري تعالى ما لا يحصره عدد ولا يحصيه أمد هو محل النزاع إذا قصره على الماضي، وإن كان اللفظ عاماً فهو خلاف ما سلمه، بل هؤلاء يقولون: يجب أن يدخل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 184 في الوجود من مقدورات الباري ما لا يتناهى وإلا لزم أن يكون الرب لم يكن قادراً ثم صار قادراً، أو بالعكس من غير حدوث أمر أوجب انتقاله من القدرة إلى العجز وبالعكس. وهذا فيه سلب للرب صفة الكمال، وإثبات التغير بلا سبب يقتضيه، وذلك مخالفة لصريح المعقول والمنقول. ولهذا كان ما أنكره المسلمون على هؤلاء قولهم: إن الرب في الأزل لم يكن قادراً ثم صار قادراً، وهو مما استحل به المسلمون لعنة بعض من أضيف إليه ذلك من أهل الكلام، لا سيما من يسلم أن الرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال، فإنه يجب أن يصفه بأنه لم يزل ولا يزال قادراً، والقدرة لا تكون إلا على ممكن، فلزم إمكان فعله فيما لم يزل ولا يزال. وقول القائل: من هؤلاء: أنه كان قادراً في الأزل على ما لم يزل، كلام متناقض. فإنه يقال لهم: حين كان قادراً: هل كان الفعل ممكناً؟ فلا بد أن يقولوا: لا، فإنه قولهم. فيقال لهم: كيف وصف بالقدرة مع امتناع شيء من المقدور؟ فعلم أنه مع امتناع الفعل يمتنع أن يقال إنه: قادر على الفعل. وأما قوله: إثبات الحوادث مع نفي الأولية تناقض. فيقولون: هو تناقض إذا نفى الأولية عن نفس ما له أول، وهو كل واحد واحد من الحوادث. أما إذا نفى الأولية عما لم تثبت له أولية، وهو نوع الحوادث، لم يتناقض كما تقدم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 185 ثم قالوا في الفرق بين الماضي والمستقبل ما قاله أبو المعالي. قال: وضرب المحصلون لذلك مثالين في الوجهين. قالوا: مثال إثبات حوادث لا أول لها قبل كل حادث قول القائل لمن يخاطبه: لا أعطيك درهماً إلا وأعطيك قبله ديناراً، ولا أعطيك ديناراً إلا وأعطيك قبله درهماً، فلا يتصور أن يعطي على حكم شرطه ديناراً ولا درهماً. ومثال ما ألزمونا أن يقول القائل: لا أعطيك ديناراً إلا وأعطيك بعده درهماً، ولا أعطيك درهماً إلا وأعطيك بعده ديناراً، فيتصور منه أن يجري على حكم الشرط. فيقول المعترضون: هذا التمثيل ليس مطابقاً لمسألتنا، فإن قوله: لا أعطيك حتى أعطيك نفي للمضارع المستقبل إذا وجد قبله ماض، فحق القياس الصحيح والاعتبار المستقيم أن يقال: ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله ديناراً، ولا أعطيتك ديناراً إلا أعطيتك قبله درهما فهذا إخبار أن كل ماض من الدراهم كان قبله دينار، وكل دينار كان قبله درهم، وهو نظير الحوادث الماضي التي قبل كل حادث منها حادث. كما أن قوله: لا أعطيك درهماً إلا أعطيك بعده ديناراً، أو لا ديناراً إلا وبعده درهم هو نظير الحوادث المستقبلة التي بعد كل حادث منها حادث، فإن أمكن أن يصدق في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 186 قوله في المستقبل، أمكن أن يصدق في قوله في الماضي، وإن امتنع صدقه في الماضي امتنع صدقه في المستقبل، إذ العقل لا يفرق بين هذا وهذا، ولكنه يفرق بين قوله: لا أعطيك حتى أعطيك وبين قوله: ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك. فإذا كان منتهى النظار هو القياس العقلي والإعتبار، وهم في القياس الذي جعلون أصل أصول الدين يقيسون الشيء بما يبين مفارقته إياه في عين الحكم الذي سووا بينهما فيه، علم أن ذلك قياس باطل. وهذا من أعظم أصولهم، أو أعظم أصولهم الذي بنوا عليها نفيهم لما نفوه من أفعال الرب وصفاته، وعارضوا بذلك ما أرسل به رسله من أنبائه وآياته. وقوله: لا أعطيك حتى أعطيك مثل قول: ما أعطيتك حتى أعطيتك. فهنا نفي الماضي حتى يوجد الماضي، وهناك نفي المستقبل حتى يوجد المستقبل. وكلاهما ممتنع، فإنه نفي للشيء حتى يوجد الشيء. وحقيقته الجمع بين النقيضين، حتى يجعل الشيء موجوداً معدوماً، كما لو قيل: لا يوجد هذا حتى يوجد هو نفسه، فيقتضي أن يكون وجوده قبل وجوده، بل في حال عدمه، فيكون قد جعل موجوداً حال كونه معدوماً، وهذا ممتنع بين الامتناع. بخلاف قوله: ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله، ولا أعطيك إلا أعطيك بعده فإنه إثبات بعد كل عطاء عطاء، وقبل كل عطاء عطاء، فهذا يتضمن إثبات بعد كل حادث مستقبل حادث مستقبل، وقبل كل حادث ماض حادث ماض، فأين هذا من هذا؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 187 وليتدبر العاقل القياس العقلي في هذا الباب، فإنهم قد سلموا أنه يجوز أن يكون بعد كل حادث مستقبل حادث مستقبل، كما إذا قال: لا أعطيك درهماً إلا وأعطيك بعده ديناراً. واتفقوا على أنه لا يجوز أن نقول لا أعطيك درهماً حتى أعطيك ديناراً وتنازعوا هل يجوز أن يكون قبل كل حادث ماض حادث ماض أم لا؟ فمنهم من منع ذلك، وقال: هذا مثل أن نقول: لا أعطيك درهماً حتى أعطيك ديناراً. ومنهم من جوز ذلك وقال: ليس هذا مثل هذا الممتنع، ولكن هذا نظير ذلك الجائز، وهو قوله: لا أعطيك درهماً إلا أعطيتك بعده ديناراً، فإن هذا معناه أن يكون بعد كل حادث حادث، وذاك معناه أن يكون قبل كل حادث حادث. وهذا المعنى هو هذا المعنى، لكن هذا قدم اللفظ بما بعد، وهناك قدم التلفظ بما قبل، وأما من جهة المعنى فلا فرق بينهما. قالوا: وأما الممتنع فنظيره أن نقول: ما أعطيتك إلا حتى أعطيتك فهذا نظير قوله: لا أعطيك حتى أعطيك، ليس نظيره: ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله. فهنا أصل متفق على جوازه، وأصل متفق على امتناعه، بل أصلان متفق على امتناعهما، وأصل متنازع فيه، هل هو نظير هذا الجائز، أو نظير الممتنعين؟ ولهذا كان الذين اتبعوا هؤلاء من المتأخرين، كالرازي والآمدي وغيرهما، قد يتبين لهم ضعف هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث الأجسام، ويترجح عندهم حجة من يقول بدوام فاعلية الباري تعالى، وهم يعلمون أن دين المسلمين واليهود والنصارى: أن الله خلق السموات الجزء: 9 ¦ الصفحة: 188 والأرض في ستة أيام، وأن الله خالق كل شيء، لكن قد لا يجمعون بين ذلك وبين دوام فاعلية الباري، لكنهم لم يبنوا على ثبوت الأفعال القائمة به المقدورة المرادة له، فيبقون دائرين بين مذهب الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم الأفلاك، معظمين لأرسطوا وأتباعه كابن سينا، وبين مذهب أهل الكلام القائلين بتناهي الحدوث، وربما رجحوا هذا تارة وهذا تارة، حتى قد يصير الأمر عندهم كأن دين المسلمين ودين الملاحدة عدلاً جهل، أو ربما مالوا أحياناً إلى دين الملاحدة، حتى قد يصنفون في الشرك والسحر، كعبادة الكواكب والأصنام. وأصل ذلك نفيهم لما يجب إثباته من فعل الرب تعالى، كما دل عليه المنقول والمعقول، فإن هؤلاء قد يثبتون أن الذين نفوا قيام الأمور الاختيارية بذات الله تعالى، وسموا ذلك نفي حلول الحوادث به، ليس لهم على ذلك حجة صحيحة: لا عقلية ولا سمعية، بل الذين نفوا ذلك من جميع الطوائف يلزمهم القول به. فإن كان هذا الأصل في المعقول، ولزومه للطوائف، ودلالة الشرع عليه، بهذه القوة، وبتقدير إبطاله يلزم ترجيح مذهب الملاحدة المبطلين شرعاً وعقلاً، على أقوال المرسلين الثابة شرعاً وعقلاً، أو تكافي المسلمين بين أهل الإيمان وأهل الإلحاد -تبين ما ترتب على إنكار ذلك من الضلال والفساد. ومصداق ذلك أن الرازي -مثلاً- إذا قرر في مثل نهاية العقول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 189 وأمثالها من كتبه الكلامية تناهي الحوادث، واستوعبت ما ذكره أهل الكلام في ذلك من الحجج، عارضه إخوانه المتكلمون فقدحوا فيها واحدة واحدة، ثم هو نفسه يقدح فيها في مواضع من كتبه، مثل المباحث المشرقية والمطالب العالية وغير ذلك، ويبين أن دوام فاعلية الرب مما يجب القول به، كما ذكره في المباحث المشرقية فإنه قال في بيان دوام فاعلية الباري: اعلم أنا بينا أن واجب الوجود لذاته، كما أنه واجب الوجود لذاته، فهو واجب الوجود من جميع جهاته. وإذا كان كذلك، وجب أن تدوم أفعاله بدوامه. وبينا أيضاً أن سبق العدم ليس بشرط في احتياج الفعل إلى الفاعل، وبينا في باب الزمان أن الزمان لا يمكن أن يكون له مبدأ زماني، وحللنا فيه الشكوك والشبه. قال: وأيضاً العالم غير ممتنع أن يكون دائم الوجود، وما لا يمتنع أن يكون دائم الوجود، يجب أن يكون دائم الوجود، فالعالم يجب أن يكون دائم الوجود. أما الصغرى فقد مضى تقريرها، وأما الكبرى فهي أن الذي لا يمتنع أن يكون موجوداً دائماً، لو كان جائز العدم لكان: إما أن يكون عدمه ممكناً دائماً، أو لا يكون دائماً، فإن لم يكن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 190 له إمكان العدم دائماً، كان ذلك الإمكان محدوداً، وإذا تعدى ذلك الحد، وجب فيه وجوده وامتنع عدمه، مع أن الأحوال واحدة، وهذا محال، يبقى أنه إن كان عدمه ممكناً، فهو ممكن العدم دائماً، وكل ما كان ممكناً فإنه إذا فرض موجوداً، أمكن أن يعرض منه كذب، وأما المحال فلا يعرض البتة، إذا فرض معدوماً، لكن فرض هذا العدم يعرض منه محال، وبيانه هو: أنا نفرض أن أحد طرفي الممكن، وهو الوجود الدائم، وجد وهو مع ذلك يقوى على عدم الصورة دائماً، فلا يمتنع أن يقع ذلك الممكن، فإن استحالة وقوعه لم يكن ذلك ممكناً، لكنه يستحيل مع فرض وجوده دائماً عدمه دائماً، وإلا لكان الشيء، في زمان غير متناه، معدوماً وموجوداً معاً، وهو محال. نعم يمكن فرض عدمه بعد وجوده، ولكن ذلك العدم غير دائم، بل هو عدم متجدد. وإذا كان هذا محالاً بالوضع ليس بكذب غير محال بل هو محال، فالحكم على ما يمكن وجوده دائماً بأنه جائز العدم محال، فإذاً وجوده واجب، وهو المطلوب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 191 تعليق ابن تيمية قلت: فهذه الحجة مضمونها أن الفعل يمكن أن يكون واجب الوجود، فيجب أن يكون دائم الوجود، لأنه لو لم يكن كذلك لكان ممكن الوجود والعدم. والمقصود هنا أنه يمكن دوام وجوده بغيره، فيجب دوام وجوده بغيره لا بنفسه، إذ لو لم يجب بنفسه ولا بغيره بل أمكن عدمه، لوجب أن يمكن عدمه دائماً، إذ إمكان عدمه في حال دون حال مع تساوي الأحوال محال، وإمكان عدمه دائماً ينافي وجوبه بنفسه أو بغيره في شيء من الأوقات، فإنه لو وجب موجوداً في حال بنفسه أو بغيره، لم يكن ممكن العدم في حال وجوبه، وهو إذا كان موجوداً كان بغيره فيكون واجباً بالغير، فإذا كان موجوداً امتنع -في حال وجوده- أن يمكن عدمه، فإذا قدر أنه ممكن العدم دائماً، بحيث لا يجب لا بنفسه ولا بغيره، امتنع أن يكون موجوداً في شيء من الأحوال. والتقدير أنه ممكن الوجود، بل ممكن دوام الوجود. وإمكان الوجود ينافي امتناع الوجود، فما أمكن وجوده دائماً امتنع عدمه. ونكته الحجة أن ما أمكن وجوده دائماً، يكون مع وجوده واجباً بغيره، فإن الممكن إن اقترن به ما يوجب وجوده، صار واجباً بغيره، وإن لم يقترن به ما يوجب وجوده، صار ممتنعاً لغيره، إذ الممكن لا يحصل إلا عند المرجح التام الذي يوجب وجوده، إذ لو لم يجب معه لكان ممكناً، وإذا كان ممكناً لم يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح. وهذا الموضع قد نازع فيه طوائف المعتزلة، وغيرهم من أهل الكلام. طائفة يقولون إن القادر يرجح أحد المقدورين المتماثلين بلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 192 مرجح أصلاً، كما يقول ذلك طوائف من الجهمية والمعتزلة، ومن اتبعهم من أصناف المتكلمين. وهؤلاء يقولون: عند وجود القدرة والداعي لا يجب الفعل، بل يكون جائز الوجود والعدم. وطائفة من المعتزلة الكرامية يقولون: بل عند وجود المرجح يكون الوجود راجحاً على العدم من غير وجود. وهذا قول محمود الخوارزمي، وابن الهيصم الكرامي وغيرهما. والقول الثالث: هو قول طوائف من أهل السنة والمعتزلة كأبي الحسين: أنه عند وجود القدرة التامة والداعي التام يجب وجود المقدور. والقول الذي اختاره محمود يقول أصحابه: إنه عند وجود المرجح يكون الممكن أولى بالوجود منه بالعدم، وإن لم ينته الترجيح إلى حد الوجوب. وجعلوا فعل القادر المختار من هذا الوجه. وبهذا يناظرون الناس في مسألة القدر، ويناظرون الفلاسفة في مسألة حدوث العالم. لكن الناس بينوا فساد قولهم، وذلك أنه إذا حصل مرجح، وكان مع وجوده يمكن وجود الممكن ويمكن عدمه، فلا بد من ترجيح لأحدهما على الآخر. فإن قيل: جانب الوجود: أقوى أو أضعف؟ قيل: قول القائل: أقوى، يريد به أنه مع هذه القوة يمكن وجوده وعدمه، أو لا بد من وجوده. فإن قال بالثاني: ثبت وجوبه عند المرجح. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 193 وإن قال بالأول، قيل له: فإن كان مع القوة يمكن وجوده وعدمه، فلا بد من ترجيح، وإلا كان الممكن نوعين أو له حالان: حال يحصل فيها بغير مرجح، وحال لا يحصل فيها إلا بمرجح. والممكن ليس له من نفسه وجود أصلاً، بل وجوده ممكن، ولا يحصل إلا بغيره، فكل ما وصف بهذه الحقيقة، يمتنع أن يوجد إلا بغيره، فما دام ممكناً لا يوجد إلا بغيره. وذلك الغير إذا كان يمكن أن يفعل، ويمكن أن لا يفعل، كان فعله ممكناً. والممكن لا يحصل إلا بغيره. وإذا قيل: الغير هو القادر، أو القادر المريد، أو نحو ذلك. قيل: مجرد القادر المريد، إذا كان معه وجود الفعل تارة وعدمه الأخرى، كان ممكناً، فلا بد له من مرجح، وإلا فإذا قدر استوىء الحال من كل وجه فلا يترجح، وإذا لم يكن ترجيح، لزم حصول الممكن بلا ترجيح مرجح، وهو ممتنع. وهذا الموضع هو الذي أنكره من أنكره من أئمة السنة والحديث، ومن أئمة الفلاسفة أيضاً، على من صار إليه من أهل الكلام: المعتزلة، والكلابية كالأشعرية، وطائفة من أصحاب أحمد وغيره من الأئمة. وهو أصل قول ابن كلاب في مسألة القرآن، الذي أنكره عليه الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة. وهو أصل شبهة الفلاسفة في مناظرتهم لهؤلاء في قدم العالم، وقد بسط في موضعه. وإذا كان الممكن نفسه إما واجباً بغيره، وإما ممتنعاً لغيره، فما كان يمكن دوام وجوده كان مع وجوده واجب الدوام بغيره، فيمتنع أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 194 يكون حينئذ ممكن العدم والحال هذه، مع كونه واجب الدوام بغيره، فيمتنع أن يكون حينئذ ممكن العدم والحال هذه، مع كونه واجب الدوام بغيره. فكل ما أمكن وجوده بغيره وأمكن دوامه، امتنع مع وجوده عدمه، وامتنع مع عدمه وجوده، فإنه إذا لم يدم وجوده، لزم أن لا يكون هناك ما يقتضي وجوده، أو ما يقتضي وجوده في حال دون حال، فإن ممكن الوجود إنما يعدم لعدم مقتضيه، فالعدم الدائم عدم فيه مقتضى الوجود على سبيل الدوام، والعدم الحادث عدم فيه مقتضى الوجود في تلك الحال. والمراد أنه عدم كمال المقتضى، لا أنه عدم كل شرط من شروط الاقتضاء، بل عدم بعض الشروط كاف في عدمه، وعدم المقتضى في حال دون حال، مع تماثل الأحوال، منتف، وعدمه دائماً يوجب أنه يمتنع وجوده دائماً، والتقدير أنه فرض إمكان وجوده دائماً. ومادة هذه الحجة مشاركة لمادة الحجة التي اعتمدوها في قدم العالم، وهي أن الحدوث بدون سبب الحدوث ممتنع، ووجود المقتضى التام في الأزل يستلزم وجود مقتضاه، فإن الأصل في ذلك أنه لا يتجدد شيء بدون سبب يقتضي التجدد. فالمنازع لهم من أهل الكلام، من المعتزلة والأشعرية ونحوهم، إما أن يقول: الفعل في الأزل ممتنع، كما قاله طوائف منهم. وإما أن يقول: هو ممكن لكن لم يحصل ما به يوجد، فكان عدمه لفوات شرط الاتحاد، إذ التقسيم العقلي يوجب أن يقال: الفعل في الأزل: إما ممكن وإما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 195 ممتنع، وإذا كان ممكناً، فإما أن يحصل مجموع ما به يوجد، وإما أن لا يحصل. فالتقدير الأول أنه ممتنع، لاستلزام تسلسل الحوادث. والثاني أنه وإن قدر إمكانه، لكن لم تتعلق به مشيئة الرب تعالى، أو قدرته، أو لم يحصل تعلق العلم بوجوده قبل ذلك الزمن، أو نحو ذلك مما لا يوجد الفعل إلا به. فمن قال: إن دوام الفعل ممتنع، فقد أبطلوا قوله، كما ذكر. ومن قال: إنه ممكن، لكن لم يوجد تمام شرطه. قالوا له: فهو قبل ذلك كان ممتنعاً، ثم صار ممكناً، بل موجوداً مع تساوي الحالين، فيلزم الترجيح بلا مرجح. وإذا قال: إنه ممكن وما به يحصل موجود. قالوا: فيلزم وجوده. ولما ذكر الرازي هذه الحجة قال: عمدة المنكرين لهذا امتناع حوادث لا أول لها، وقد مضى القول فيه في باب الزمان، فلا نطول بذكره تطويلاتهم الخارجة عن الأصول. كلام الرازي في "المباحث المشرقية" عن مسألة حدوث العالم وتعليق ابن تيمية كلام الرازي في المباحث المشرقية عن مسألة حدوث العالم وتعليق ابن تيمية والموضع الذي أحال فيه ذكر فيه الحجج التي احتج بها هو وغيره على حدوث الزمان، ولوازم ذلك من حدوث الحركة والجسم، وأبطل ذلك كله، فذكر ما احتج به المعتزلة والأشعرية، وما ذكره هو في الأربعين ونهاية العقول في مسألة حدوث العالم، وأبطل ذلك كله فركب لهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 196 سبع حجج: أولها: الحوادث الماضية تتطرق إليها الزيادة والنقصان، وما كان كذلك فبه بداية، فللحوادث الماضية بداية. بيان الأولى بأربعة أوجه. أحدها أن الحوادث الماضية إلى زمن الطوفان أقل من الحوادث إلى زماننا بمقدار ما بين الطوفان وزماننا. الثانية: أن الدورات الماضية إما أن تكون شفعاً أو وتراً، وكيفما كان فهو ناقص عن العدد الذي فوقه. الثالث: أن عودات القمر لا شك أنها أقل من عودات زحل والمشتري. الرابع: أن الدورات الماضية لو كانت غير متناهية لكانت الأبدان البشرية الماضية غير متناهية، فكانت النفوس البشرية غير متناهية، لامتناع التناسخ، فكانت النفوس البشرية الموجودة في زماننا غير متناهية، لوجوب بقاء الأنفس البشرية، لكن عدد النفوس الموجودة في زماننا غير متناهية، لوجوب بقاء الأنفس البشرية، لكن عدد النفوس الموجودة في زماننا قابل للزيادة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 197 والنقصان، فهو متناه. فالنفوس التي كانت موجودة في زمان الطوفان لا شك أنها أقل عدداً من عدد النفوس إلى زماننا، وكل عدد يقبل الزيادة والنقصان فهو متناه، فالنفوس الموجودة البشرية متناهية، ثم يستدل بتناهيها على تناهي الأبدان وتناهي الأبدان على تناهي الحركات والمتحركات، وتناهي كل العالم. قال: وأما بيان أن كل عدد يقبل الزيادة والنقصان فهو متناه، فقد زعموا أن العلم بذلك بديهي. قال: والحجة الثانية: لو كانت الحوادث الماضية غير متناهية، لتوقف حدوث الحادث اليومي على انقضاء ما لا نهاية له، وما يتوقف على انقضاء ما لا نهاية له استحال وجوده، وكان يلزم أن لا يوجد الحادث اليومي، فلما وجد علمنا أن الحوادث الماضية متناهية. قلت: وهذه هي التي ذكرها من ذكرها من شيوخ المعتزلة والشيعة، وقد ذكرها أبو المعالي وأمثاله من أئمة الكلام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 198 والثالثة: أن كل واحد واحد من الحوادث: إذا كان له أول، وجب أن يكون للكل أول، كما أن كل واحد واحد من الزنج لما كان أسود، وجب أن يكون الكل سوداً. قلت: وهذه حدة أبي الحسين البصري وأمثاله من المعتزلة. والرابعة: أن الحوادث الماضية قد انتهت إلينا، فلو كانت الحوادث الماضية بلا نهاية، لكان ما لا نهاية له متناهياً، وذلك محال. وأمثاله من المعتزلة. والرابعة: أن الحوادث الماضية قد انتهت إلينا، فلو كانت الحوادث الماضية بلا نهاية، لكان ما لا نهاية له متناهياً، وذلك محال. وهذا من جنس الثاني. والخامسة: أن الأزل إما أن يكون قد وجد فيه حادث أو لم يوجد. والأول محال، لأن ذلك الحادث يكون مسبوقاً بالعدم، والأزل لا يكون مسبوقاً بالعدم، وإن لم يوجد شيء من الحوادث في الأزل، فقد أشرنا إلى حالة ما كان شيء من الحوادث هناك موجوداً، فإذاً كل من الحوادث مسبوق بالعدم. السادسة: أن الأمور الماضية قد دخلت في الوجود، وما دخل في الوجود فقد حصره الوجود، وما حصره الوجود كان متناهياً، فالحوادث الماضية يجب أن تكون متناهية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 199 السابعة: أن كل واحد من الحوادث مسبوق بعدم لا أول له، فإذا فرضنا جسماً قديماً، وفرضنا حوادث لا أول لها، لزم أن لا يكون ذلك الجسم متقدماً، لا على وجود تلك الحوادث ولا على عدمها، ومحال أن يكون الشيء لا يتقدم أموراً، ولا يتقدم ما هو سابق على كل واحد واحد من تلك الأمور، فيصير حكم السابق والمسبوق في السبق والتقدم حكماً واحداً. ثم قال: قالت الفلاسفة: الجواب عما ذكروه أولاً من وجوه ثلاثة. الأول: المحكوم عليه بالزيادة والنقصان: إما كل الحوادث، وإما كل واحد واحد منهما، والأول محال، لأن الكل من حيث هو كل غير موجود لا في الخارج ولا في الذهن على ما بيناه في باب اللانهاية، وما لا يكون موجوداً امتنع أن يكون موصوفاً بالأوصاف الثبوتية، من الزيادة والنقصان وغيرهما، لما بينا في باب الوجود: أن ما لا يكون ثابتاً في نفسه، لا يمكن أن يكون موصوفاً بالأوصاف الثبوتية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 200 قلت: هذا كقولهم: الحركة غير موجودة، والصوت غير موجود. والكلام غير موجود. وهذا لفظ مجمل، فإن أريد بالموجود ما تقترن أجزاؤه في زمن واحد، فهذا غير موجود. وأما إن أريد ما هو أعم من ذلك، بحيث يدخل فيه ما يوجد شيئاً بعد شيء، فهذا كله موجود، وهو من حيث هو موجود شيئاً بعد شيء، لا موجود على سبيل الاقتران. الثاني: أنا بينا في باب تناهي الأجسام أن الشيء إذا كان متناهياً من جانب، وغير متناه من جانب آخر، فإذا انضم إلى الجانب المتناهي شيء، حتى ازداد هذا الجانب، فالزيادة إنما حصلت في الجانب المتناهي لا في الجانب الآخر، فلا يلزم أن يصير الجانب الآخر متناهياً، إلا أن يقال: إنا نفرض في الذهن انطباق الجانب المتناهي من الزائد على الجانب المتناهي من الناقص، فلا بد وأن يظهر التفاوت من الجانب الآخر. ولكن إذا سلمنا لهم صحة هذا التطبيق، فإنه لا يصح تطبيق طرف الزائد على طرف الناقص، إلا بوقوع فضلة عددية من الزائد، ومع ذلك فمن المحتمل أن يمتد الزائد مع الناقص أبداً، من غير أن ينقطع الناقص، بل يبقى أبداً مع الزائد بتلك الفضلة العددية. الثالث: معارضة ذلك بأمور أربعة: أولها: صحة حدوث الجزء: 9 ¦ الصفحة: 201 الحوادث من الأزل إلى الطوفان، أقل من صحتها من الأزل إلى زماننا هذا، مع أنه لا يلزم تناهي الصحة. وثانيها: صحة حدوث الحوادث من الطوفان إلى الأبد، أكثر من صحة حدوثها من الآن إلى الأبد، مع أنه لا يلزم تناهي هذه الصحة في جانب الأبد. وثالثهما: تضعيف الألف مراراً غير متناهية، أقل من تضعيف الألفين مراراً غير متناهية. ورابعها: معلومات الله أكثر من مقدوراته مع أن تلك غير متناهية. قال: والجواب عما ذكروه ثانياً-يعني الحجة الثانية- أنه إما أن يعني بالتوقف المذكور أن يكون أمران معدومان في وقت، وشرط وجود أحدهما في المستقبل أن يوجد المعدوم الآخر قبله، فإن كان الأمر على هذا، فقد وجدنا أمراً معدوماً، ومن شرط وجوده أن توجد أمور بغير نهاية في ترتيبها وكلها معدومة، فيبتدي في الوجود من وقت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 202 ما اعتبر هذا الاشتراط، فالذي يكون كذلك كان ممتنع الحدوث في الوجود، وأما أن يعني بهذا التوقف أنه لا يوجد هذا الحادث إلا وقد وجد قبله ما لا نهاية له، ثم ادعى أن التوقف بهذا المعنى محال، فهذا هو نفس المطلوب، فإن النزاع ما وقع إلا فيه. والجواب عما ذكروه ثالثاً أنه لا يلزم من ثبوت الأول لكل واحد، ثبوت الأول للكل، لأن من الجائز أن يكون حكم الكل مخالفاً لحكم الآحاد، لأن كل واحد من آحاد العشرة ليس بعشرة والكل عشرة، وكل واحد من الأجزاء ليس بكل، مع أن كلها كل، وكل واحد من الحوادث اليومية غير مستغرق لكل اليوم، مع أن مجموعها مستغرق لكل اليوم، بل نقول: إن الكل من حيث هو كل يستحيل أن يكون مساوياً لجزئه من حيث هو جزء، وإلا لم يكن أحدهما كلاً والآخر جزءاً. وأما المثال الواحد فلا يكفي، لأنا لا ندعي أن حكم الكلية يجب أن يكون مخالفاً لحكم الآحاد، حتى يضرنا المثال الواحد، بل نقول: إن ذلك التساوي قد يكون وقد لا يكون، والأمر فيه موقوف على البرهان. قال: والجواب عما ذكروه رابعاً أن انتهاء الحوادث إلينا يقتضي ثبوت النهاية لها من الجانب الذي يلينا، وثبوت النهاية من أحد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 203 الجانبين لا ينافي أن لا نهاية لها من الجانب الآخر، والدليل عليه الصحة، فإنه لا بداية لها، مع أنها قد تناهت إلينا، وكذلك حركات أهل الجنة لا نهاية لها، مع أنها في جانب البداية لها نهاية. قال: والجواب عما ما ذكروه خامساً وهو قولهم: الأزل هل وجد فيه حادث أم لا؟ فنقول الأزل ليس حالة معينة، بل هو عبارة عن نفي الأولية، فالحادث بالزمان الذي هو عبارة عن الشيء المسبوق بالعدم، يمتنع وقوعه في الأزل، فأما قولهم: لما لم يقع شيء من الحوادث في الأزل، فقد أشرنا إلى حالة لم يكن شيء من الحوادث هناك موجوداً، فنقول: قد بينا أن الأزل ليس وقتاً مخصوصاً، حتى يقال بأن ذلك الوقت قد خلا عن الحوادث بل الأزل عبارة عن نفي الأولية، فقولنا: الأزل لم يوجد فيه شيء من الحوادث، معناه: أن نفي الأولية لم يوجد فيه شيء من الحوادث، أي كل واحد من الحوادث مسبوق بالعدم، فلم قلتم: إنه لما كان واحد منها مسبوقاً بالعدم، وجب أن يكون الكل كذلك، فإن النزاع ما وقع إلا فيه. والذي يحسم مادة هذا الوهم معارضته بالصحة، فنقول: صحة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 204 حدوث الحوادث: هل كانت حاصلة في الأزل أم لا؟ فإن كانت حاصلة في الأزل أمكن حدوث حادث أزلي، وذلك محال، وإن لم تكن فللصحة مبدأ أول، وهو محال. ولما لم يكن هذا الكلام قادحاً في أن الصحة لا بداية لها، لم يكن قادحاً في هذه المسألة. قال: والجواب عما ذكروه سادساً، وهو أن ما دخل في الوجود فقد حصره الوجود، فهو أن المراد بالحصر أن يكون للشيء طرف، ونحن نسلم أن الحوادث محصورة من الجانب الذي يلينا، أما لم قلتم: إنه يلزم من ذلك أن تكون محصورة من الطرف الذي لا يلينا، ثم نعارض ذلك بصحة حدوث الحوادث؟ والجواب عما ذكره سابعاً من أنه لا يلزم أن لا ينفك الجسم عن حدوث الحوادث وعدمها، فنقول: إن عنيتم به أنه يكون موصوفاً بوجود كل الحوادث، ويكون موصوفاً بعدمها معاً، فذلك باطل، لأن الحوادث ليس لكلها وجود، حتى يكون الجسم موصوفاً بعدمها معاً، فذلك باطل، لأن الحوادث ليس لكلها وجود، حتى يكون الجسم موصوفاً به وإن عنيتم به أنه في كل واحد من الأزمان يكون موصوفاً بواحد من تلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 205 الحوادث، فهو في ذلك الوقت لا يكون موصوفاً بعدم ذلك الحادث، حتى يلزم التناقض، بل يكون موصوفاً بعدم سائر الحوادث، والتناقض إنما يلزم إذا كان الشيء موصوفاً بالحادث المعين، وبعدم ذلك الحادث معاً، فأما أن يكون في ذلك الوقت موصوفاً بوجوده وبعدم غيره، فأي تناقض فيه؟. قال: هذا جملة ما قيل في هذه المسألة. قلت: فهذا كلام الرازي في هذا، مع أنه من عادته في الكتاب المذكور الذي صنفه في الفلسفة، وهو أكبر كتبه في ذلك، إذا تمكن من القدح فيما يورده الفلاسفة، قدح فيه، كما قدح في قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، والشيء الواحد لا يكون قابلاً وفاعلاً، ونحو ذلك مما يتوجه له القدح فيه، وكما تقرر ما ذكره بزيادات وتكميلات لم يذكروها هم، إذا توجه له تقرير ذلك، فإنه بحسب ما يتوجه له من البحث والنظر. ولهذا كان تارة يعارض ما ذكره الفلاسفة بما يناقضه من كلام المتكلمين، كما يعارض من الكتب الكلامية ما يذكره المتكلمون بما يذكره في مناقضة الفلاسفة، ويرجح ما يترجح له في تلك الحال. وهو مع هذا ذكر هذه الحجج التي هي عمد القائلين بأن الحوادث لا تدوم، وعليها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 206 بنوا حدوث الجسم، وأبطلها كلها، وذكر أدلة أولئك في دوام فاعلية الرب تعالى ولم يبطلها. وقد ذكر أيضاً حجج هؤلاء في دوام الزمان بكلام طويل ليس هذا موضع بسطه. والمقصود هنا أن من يريد هذا وأمثاله من كلام هؤلاء، تبين له أن ما ذكره أئمتهم الأشعرية وشيوخ أئمتهم المعتزلة في هذا الباب، كان مما تبين لهم فساده، ثم مع هذا لا يمكنهم القدح في أدلة الفلاسفة، إن لم يقروا بما أنكروه من مدلول الكتاب والسنة الموافق لصريح المعقول، فحينئذ يمكنهم القول بالمعقولات الصريحة، ويتبين لهم أنها موافقة للمنقولات الصحيحة، وليس مما أمر الله به ورسوله، ولا مما يرتضيه عاقل، أن تقابل الحجج القوية بالمعاندة والجحد، بل قول الصدق والتزام العدل لازم عند جميع العقلاء. وأهل الإسلام والملل أحق بذلك من غيرهم، إذ هم -ولله الحمد- أكمل الناس عقلاً وأتمهم إدراكاً وأصحهم ديناً، وأشرفهم كتاباً، وأفضلهم نبياً، وأحسنهم شريعة. ومن المعلوم في دين الإسلام أن اليهود والنصارى خير من الفلاسفة الخارجين عن الملل، وأصح عقلاً وديناً، ولهذا كان خيار الصابئة من انتسب إلى ملة من الملل. وقد اتفق أئمة الدين على إقرار اليهود والنصارى بالجزية، وعلى حل ذبائحهم ونسائهم، وإن خالف في ذلك أهل البدع. وأما الفلاسفة فإما أن يكونوا من المشركين، وإما أن يكونوا من المجوس، وإما يكونوا من الصابئين، وإما أن يكونوا منتسبين إلى أهل الملل الثلاث. فمن كان من المشركين، كما يذكر عن الفلاسفة اليونان ونحوهم، أو من المجوس، كفلاسفة الفرس ونحوهم، فاليهود والنصارى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 207 خير منه، ولذلك هم خير من فلاسفة الصابئين والصابئون للعلماء فيهم طريقتان: إحداهما: أنهم هل يقرون بالجزية أم لا؟ على قولين. والثانية: إنه يفصل الأمر فيهم، فمن تدين بدين أهل الكتاب ألحق بهم، وإلا فلا، وهاتان الطريقتان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. والنزاع في إقرارهم الجزية هو على قول من لا يقبل الجزية إلا من المجوس وأهل الكتاب، كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين. وأما من يقر مشركي العجم بالجزية ك أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، فهؤلاء يتنازعون في حل ذبائحهم ونسائهم، ولذلك ينتازع في ذلك من يفرق بين الكتابي الذي دخل سلفه قبل النسخ والتبديل، وبين الذين دخلوا بعد النسخ والتبديل، كما هو قول الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد، بناءً على أن أهل الكتاب الاعتبار فيهم بنسبتهم، وهم من كان سلفهم مستمسكين به قبل النسخ والتبديل. لكن جمهور العلماء، ك مالك وأبي حنيفة وأحمد في المنصوص عنه، على أن الاعتبار بنفس الرجل لا ينسبه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة. والمقصود هنا أنه من رجح بعض أقوال الفلاسفة، التي يخالفون فيها أقوال أهل الملل، كان شراً ممن رجح بعض أقوال اليهود والنصارى على أقوال المسلمين. وإذا كانت الطريق التي سلكها أهل طريقة الأعراض والتركيب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 208 والاختصاص من أهل الكلام، يوجب أن يصلوا إلى حد يرجحون فيه طريقة الفلاسفة على طريقة سلفهم من أهل الكلام، علم بذلك أنهم جعلوا دين سلفهم المتكلمين أنقص من دين اليهود والنصارى بدرجتين إن كانوا مسلمين، وإن لم يكونوا مسلمين جعلوا قول الفلاسفة الملحدين خيراً من قول الأنبياء والمرسلين، فإنهم رجحوا كلام الفلاسفة على كلام سلفهم المتكلمين، مع اعتقادهم أن أقوال الفلاسفة المناقضة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم باطلة، وأن اليهود والنصارى خير من الفلاسفة، لزم الأول. وإن اعتقدوا أن قول الفلاسفة خير من قول سلفهم، وقول سلفهم هو قول الأنبياء، لزمهم أن يجعلوا قول الفلاسفة خيراً من قول الأنبياء، فإن طرودا قولهم لزمهم ترجيح اليهود والنصارى على سلفهم، أو ترجيح الفلاسفة على الأنبياء. وممن كان أقل علماً وإيماناً منهم مال إلى القول الثاني، ومن كان أعظم علماً وإيماناً كان ميله إلى الأول أهون عليه، فإن كفر لا حيلة فيه، اللهم إلا أن يسلكوا مسلك القرامطة الباطنية، فيدعون أن ما أظهرته الأنبياء من الأقوال والأفعال إنما هو للجهال والعامة دون الخاصة، وأن لهذه الأقوال والأعمال بواطن تخالف ما أظهروه. وحينئذ فهؤلاء شر الطوائف. هم شر من اليهود والنصارى، ومن الفلاسفة المشركين القدماء الذين لم تقم عليهم حجة بكتاب منزل ونبي مرسل، فإن أولئك، وإن كانوا ضالين، فهؤلاء شركوهم في الضلال، ولكن هؤلاء حصل من حجة الله عليهم بكتابه ورسوله، ومن كفرهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 209 الذين يستحقون العقوبة عليه، ما لم نعلمه من حال أولئك. وإن كان أولئك قد بلغهم نبوة بعض الأنبياء، وأرسل إليهم رسول، فليس هو مثل محمد صلى الله عليه وسلم، بل نعلم قطعاً أنهم لم يأتهم كتاب مثل القرآن، ولا رسول مثل محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شريعة كشريعته. وكل من علم حاله يعلم بالاضرار من دينه أنه أخبر أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأنه خالق كل شيء، وأن هذه الأفلاك ليست قديمة أزلية، فالقائل بذلك مناقض لأخباره وأخبار موسى وغيرهما من المرسلين، مناقضة لا يتمارى فيها من له معرفة بذلك، وأي هذين الوجهين اختاره السالك فما فيه مختار. وأصل هذا الضلال جهلهم بحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصرهم لما يظنونه جاء به بما يظنونه من المعقول، ومعارضتهم لما يعلم أنه جاء به بما يظنونه من المعقول، وتوهمهم تعارض صحيح المنقول وصريح المعقول، وهذا هو الكلام الذي عابه السلف والأئمة. وأما أهل المعرفة العالمون بالمعقول والمنقول، فلا يقولون في سلفهم ما هو من لوازم قولهم، كما أنهم لا يقولون في الأنبياء ذلك، بل يعلمون قطعاً أن كلام الأنبياء هو الحق وكل ما ناقضه من قول متفلسف أو متكلم أو غيرهما فباطل، وأنه لا يجوز أن يكون في العقل ما يناقض قول الأنبياء، ولا يجوز تعارض الأدلة العلمية السمعية والعقلية أبداً، ويعلمون أن جنس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 210 المتكلمين أقرب إلى المعقول والمنقول من جنس كلام الفلاسفة، وإن كان الفلاسفة قد يصيبون أحياناً. كما أن جنس المسلمين خير من جنس أهل الكتابين، وإن كان قد يوجد في أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة لا توجد في كثير من المنتسبين إلى الإسلام. كما قال تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما} [آل عمران: 75] . وهم يعلمون مع هذا أن كل من كان مؤمناً بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، على الوجه الذي يرضاه الله، فهو خير من كل كتابي. لكن من المظهرين للإسلام، من المنافقين، من يكون في الآخرة أشد عذاباً من بعض اليهود والنصارى، فإن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، والإسلام الظاهر يتناول المؤمن والمنافق، والسعداء في الآخرة هم المؤمنون دون المنافقين، والمنافقون، وإن أجريت عليهم في الدنيا أحكام الإسلام، فما لهم في الآخرة من خلاق. فصل. أهل الكلام أقرب إلى الإسلام من الفلاسفة فصل. أهل الكلام أقرب إلى الإسلام من الفلاسفة ونحن نبين هنا ما ننصر به أهل الكلام، الذين هم أقرب إلى الإسلام والسنة من هؤلاء الفلاسفة، وإن كانوا ضالين فيما خالفوا به السنة. وذلك من وجوه. الوجه الأول أن يقولوا لهؤلاء المتفلسفة: أنتم ادعيتم قدم العالم، بناءً على ما ذكرتموه من قدم الزمان، ووجود دوام فاعلية الله تعالى، ونحو ذلك، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 211 مما غايتكم فيه إثبات دوام الحوادث، إذ ليس في حججكم هذه وأمثالها، ما يدل على قدم شيء من العالم: لا السموات التي أخبر الله أنه خلقها والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا غير ذلك. فيقولون لهم: الحوادث إما أن تكون لها بداية كما قلنا، وإما أنه لا يجب ذلك كما قلتم. فإن كان الأول بطل قولكم، ولزم أن يكون للحوادث ابتداء، فبطل قولكم بأن حركات الأفلاك أزلية، وهو المطلوب. وإن كان الثاني، أمكن أ، يكون حدوث الفلك حركاته موقوفاً على حوادث قبل ذلك كالحوادث اليومية، وتلك الحوادث على حوادث أخرى. وهذا مطابق لما أخبرت به الرسل من أن الله سبحانه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان عرشه على الماء، ومطابق للأخبار المتضمنة أنها خلقها من الدخان والبخار الذي حصل من الماء، وذلك كله أسباب حادثة، ومطابق لما أخبر به الله من أنه خالق كل شيء، وليس في حججكم ما يناقض هذا. الوجه الثاني أن يقال: دوام فاعلية الرب تعالى ودوام الحوادث، يمكن معه أن تدوم الأفعال التي تقوم بالرب بمشيئته وقدرته، وتحدث شيئاً بعد شيء، وأن تحدث حوادث منفصلة شيئاً بعد شيء. وعلى كل من التقديرين فلا يكون شيء من العالم قديماً، فلم قلتم: إن الأمر ليس كذلك، وإن كان ما ذكرتموه صحيحاً؟ وإن كان باطلاً فهو أبعد وأبعد. فإن اعتذروا بأن واجب الوجود لا تقوم به الصفات والأفعال، كان الجواب من وجوه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 212 أحدها: أن قولكم في هذا أفسد من قولكم بدوام الحوادث، وحجتكم على ذلك في غاية الفساد. فإن قلتم: هؤلاء المنازعون لنا من المعتزلة والأشعرية وغيرهم يسلمون لنا هذا. قيل لهم: هؤلاء إنما سلموا لكم امتناع قيام الأفعال المرادة المقدورة بذاته، بناءً على امتناع قيام الحوادث به، وإنما منعوا ذلك، لأن ذلك يفضي إلى تعاقبها عليه، وإنما منعوا تعاقب الحوادث على القديم، لاعتقادهم امتناع حوادث لا أول لها. فإن كان هذا القول فاسداً، لم يكن لهم دليل على نفي ذلك. فيقولون لكم: هذا الدليل إن كان صحيحاً بطل قولكم، ولزم أن الحوادث لها ابتداء، وإن كان باطلاً بطل قولنا الذي بنينا عليه نفي الأفعال، وليس لكم على هذا التقدير أن تلزمونا بأن القديم لا تقوم به الحوادث بأنا إنما بنيناه على أصل يعتقدون فساده. غاية ما في هذا الباب أنكم تلزمونا التناقض، وتقولون: يلزمكم: إما القول بدوام الحوادث، وإما القول بجواز قيامها بالقديم. فنقول: إن كان القول بدوامها هو الحق قبلناه وتركنا ذلك، وكان في ذلك لنا مصلحتان: إحداهما: موافقة الأدلة العقلية التي ذكرتموها على ذلك. والثانية: موافقة النصوص الإلهية التي بدعنا بمخالفتها إخواننا المؤمنين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 213 والقول الذي يجمع لنا موافقة العقل والنقل خير من أن نوافقكم على قدم الأفلاك ونفي صفات الله تعالى، فإن في هذا من الكفر المخالف للشرع، والفساد المخالف للعقل ما يتبين لمن نظر فيه، لا سيما والفلاسفة لا يمنعون قيام الحوادث والصفات بالقديم الأزلي، ولا كون الجسم قديماً أزلياً، بل يوجبون ذلك كله، ولا دليل لهم على قدم جسم معين كالأفلاك ونحوها. الوجه الثالث أن يقال للفلاسفة: ما ذكرتموه من الأدلة العقلية الموجبة لدوام فاعلية الرب ودوام الحدوث يدل على نقيض قولكم لا على وفقه. فإن هذا يقتضى أن واجب الوجود لم يزل يفعل ويحدث الحوادث، وأنتم على قولكم يلزم ألا يكون أحدث شيئاً من الحوادث، وذلك لأن الموجب لهذه الحوادث المتعاقبة، إما أن يكون ثابتاً في الأزل أو لا. فإن كان الأول لزم وجود كل من الحوادث في الأزل، وهو محال، لأن الموجب التام لا يتخلف عنه موجبه ومقتضاه. وهم يقولون: إن واجب الوجود علة تامة لا يتخلف عنه شيء من معلوله، فإذا كانت هذه الحوادث المتعاقبة معلولة بوسط أو بغير وسط لزم مقارنتها له، لأن العلة التامة يقارنها معلولها، لا يتخلف عنها، وإذا امتنع أن يتخلف عنها معلولها، فما تأخر عنها فليس معلولاً لها، فيلزم أنه لم يحدث شيئاً من الحوادث: لا بوسط ولا بغير وسط. وقولهم بتسلسل الحوادث لا ينفعهم، والحال هذه، إذا جعلوه علة تامة مستلزمة لمعلولها، لأن التقدير على قولهم: إنه ليس له فعل قائم بذاته متجدد أصلاً: لا خلق ولا استواء ولا غير ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 214 ومعلوم أن الحوادث الحادثة هي مختلفة الأجناس، متعاقبة في الوجود، فالأجناس الحادثة المختلفة، إذا قدر أن حال الفاعل لها لم يزل على حال واحدة، لا يقوم به فعل ولا وصف، بل هو واحد بسيط، امتنع أن يختلف حاله في الإحداث، وأن يحدث شيئاً بعد أن لم يكن أحدثه، كما يقولون هم ذلك، ويجعلونه عمدتهم في قدم العالم، وامتناع أن تحدث عنه الأنواع المختلفة الحادثة شيئاً بعد شيء، وهو في نفسه لم يتجدد له حال ولا فعل، ولا حكم ولا وصف، ولا شيء من الأشياء؟ وهم أنكروا على المتكلمين نفاة الفعل الاختياري القائم به أن يحدث عنه شيء بلا سبب حادث، وقالوا: إن هذا مخالف لصريح العقل. فيقال لهم: الباطل بعض قولكم، وإذا كان حدوث بعض الحوادث عن هذا ممتنعاً، فحدوث الحوادث المختلفة دائماً عن علة تامة، لم يحدث فيها ولا منها شيء، أعظم امتناعاً من قول هؤلاء. وأيضاً فالحادث لا يحدث حتى يحصل الفعل التام المحدث له، والممكن لا يحصل حتى يحصل الموجب التام المرجح له، والموجب التام يستلزم موجبه ومقتضاه، فكل من الحوادث الممكنات ما حدث ووجد حتى حصل له الموجب التام، وذلك الموجب التام لا بد له من موجب تام، وهلم جراً. فيلزم أ، يحصل لكل من الحوادث موجبات تامة لا نهاية لها في آن واحد. وذلك تسلسل في العلل والمؤثرات، وهو باطل باتفاق العقلاء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 215 وإنما لزم ذلك لأن الحوادث يمتنع حدوثها عن العلة التامة القديمة، فإن العلة التامة القديمة لا يتخلف عنها معلولها، والمحدث يجب أن تكون علته تامة عند حدوثه. وهم يقولون بكلا القولين، فلزم من هذين القولين أن واجب الوجود لم يحدث شيئاً من الحوادث، وأن الحوادث لا محدث لها. ويلزم أيضاً وجود علل ومعلولات لا نهاية لها، وفاعلين لا نهاية لهم، وكل ذلك مما يعلمون هم وسائر العقلاء فساده، ولا مخلص لهم عن هذا إلا بأن يقولوا بأن واجب الوجود تقوم به الأفعال الاختيارية المقدورة له، وتقوم به الصفات. وإذا قالوا ذلك بطل قولهم بنفي الصفات ووجوب قدم الأفلاك. فعلم أن ما ذكروه من الحجج الصحيحة الدالة على دوام فاعلية الرب، ودوام الحدوث، يدل على نقيض قولهم في أفعال الرب تعالى وصفاته، وعلى ضد قولهم في قدم العالم، وتوحيد واجب الوجود، وهذا هو المطلوب، وقد بسط ما يتعلق بهذا الكلام في موضع آخر. والمقصود هنا التنبيه على أن كل ما تقيمه كل طائفة من الناس من الحجج العقلية التي لا مطعن فيها، فإنها إنما تدل على موافقة الكتب والسنة، وإبطال ما خالف ذلك من أقوال أهل البدع، متكلمهم ومتفلسفهم، والله سبحانه أعلم. ومما يوضح هذا أن عمدة الحجة المتقدمة في دوام فاعليته من جنس الحجة المتقدمة لمن منع حدوث الأفعال القائمة به، حيث قالوا: إن كل صفة تفرض لواجب الوجود فإن ذاته كافية في حصولها أو لا حصولها، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 216 وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل، وذلك يقتضي إمكانه، فيلزم من دوام حقيقته دوام تلك الصفة. وهكذا قال القائلون بقدم الفعل قالوا: ذاته إما أن تكون كافية فيه، وإما أن تكون متوقفة على غيره. فإن كانت كافية فيه، لزم قدم الفعل لوجود موجبه التام في الأزل، وإن لم تكن كافية فيه، لزم افتقاره إلى سبب منفصل، وذلك يقتضي إمكانه، وهذا هو الذي يعتمدون عليه. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن يقال: هذا يبطل قولكم ويرد عليكم في جميع الحوادث، فإن ذاته إن كانت كافية في حدوث الحوادث، لزم قدمها، وهو ممتنع. وإن لم تكن كافية، لزم توقف الحوادث على غير ذاته. ثم ذلك الشرط في حدوث الحوادث: إن كانت ذاته كافية فيه، لزم قدمه، وإلا فالقول فيه كالقول في الحادث المشروط. ومهما قدر من الممكنات أمكن أن يقال: حدوثه موقوف على حادث قبله، كما علم حدوثه من المحدثات. وإذا قالوا: مبدأ الحدوث هو حركة الفلك، والحركة لذاتها تتجدد شيئاً بعد شيء، وسبب ذلك تجدد التصورات والإرادات. قيل: هذا بعينه يبطل حجتكم، فإن هذا الذي هو كذاته يتجدد شيئاً بعد شيء، لو كان ذات واجب الوجود وحده كافية في وجوده، لزم مقارنته له في الأزل، وهو ممتنع. فعلم أن ذاته لا تكفي في وجود شيء منه، بل كل منه مشروط بما قبله، وذاته لا توجب شيئاً من الشروط. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 217 وإذا قيل: الذات أوجبت وجوده متعاقباً دائماً، لزم أن يكون الواحد البسيط القديم، الذي لا صفة له ولا فعل، يوجب لذاته أموراً منفصلة عنه متعاقبة مختلفة، سواء كان بواسطة لازمة له أو بغير واسطة. وهذا مع أنه باطل في ضرورة العقل، فإنه ينقض أصولهم في تناسب الموجب والموجب، ولزوم المعلول للعلة التامة، وأن الواجب علة تامة. ومن المعلوم بصريح العقل أن المعلول الموجب إذا كان حادثاً شيئاً فشيئاً، فلا بد من حدوث أمر في علته الموجبة اقتضت ذلك، وإلا فالعلة موجبة إذا كانت عند الحادث الثاني كما كانت عند الحادث الأول، كان تخصيصها للأول بالتقدم تخصيصاً بلا مخصص، وكان ترجيح الأول ترجيحاً الأول ترجيحاً بلا مرجح. وأيضاً فيمتنع أن تكون الحركات الحادثة شيئاً بعد شيء معلول علة تامة قديمة أزلية يقارنها معلولها، فإن العلة الأزلية التامة يقارنها معلولها، والحركات الحادثة شيئاً فشيئاً ليس شيء منها مقارناً للعلة، فامتنع أن يكون معلولاً لها. وهذا بخلاف ما إذا كان الفاعل يحدث أفعاله القائمة به شيئاً بعد شيء، فإن ذاته واجبة الوجود بنفسها، فلا يمتنع أن تكون مستلزمة لدوام الفعل. وأما المفعولات فكلها ممكنة، ليس فيها واجب بنفسه، فامتنع أن يكون فيها ما يوجب الفعل الدائم، بل ذلك مستند إلى الواجب بنفسه. الثاني: أن يقال: هذا إنما يصح فيما كان لازماً لنفسه في النفي والإثبات. أما ما كان موقوفاً على مشيئته وقدرته كأفعاله، فإنه يكون إذا شاءه الله، ولا يكون إذا لم يشأه. وهم لا يمكنهم إقامة الدليل على أنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 218 لا يتعلق بمشيئته وقدرته إلا ببيان أنه لازم لذاته، ولا يمكنهم بيان أنه لازم لذاته إلا بنفي مشيئته وقدرته، فلا تصح حجتهم. فإن قالوا: فتلك الأمور التي يقف عليها الفعل إن كانت قديمة لزم قدمه، وإلا فلا بد لحدوثها من سبب. قيل: هذا غايته أنه يجب التسلسل في الشروط والآثار، وذلك جائز عندكم. ثم نقول إن كان التسلسل في الشروط جائزاً بطل هذا السؤال، لجواز تسلسل الشروط، وإن كان ممتنعاً، بطل أيضاً، لوجوب كون جنس الحوادث مسبوقاً بالعدم. والثالث: أن يقال: أتعني بقولك: ذاته كافية: أنها مستلزمة لوجود اللازم في الأزل، أم هي كافية فيه وإن تأخر وجوده؟ فإنه عنيت الأول انتفض عليك بالمفعولات الحادثة، فإنه يلزمك إما قدمها وإما افتقاره إلى سبب منفصل، إذا كان ما لا تكفي فيه الذات مفتقراً إلى سبب منفصل. وإن عنيت الثاني كان حجة عليك إذا كان ما تكفي فيه الذات يمكن تأخره. الرابع: أن يقال: قولك: يفتقر إلى سبب منفصل: أتعني به سبباً يكون من فعل الله، أو سبباً لا يكون من فعله؟ أما الأول فلا يلزم افتقاره إلى غيره، فإنه إذا كان هو فاعل الأسباب، وفاعلها يحدث بها، فهو فاعل الجميع وليس مفتقراً في فعل إلى غيره، إلا أن يعنى به أنه لا يحصل أحد فعليه إلا بشرط فعله الآخر. وهذا ليس فيه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 219 افتقار إلى غيره. ومن سمى هذا افتقاراً إلى غيره، فهو بمنزلة من قال: إنه يفتقر إلى صفته. وقد ذكر غير مرة أن هذا بمنزلة قول القائل: إنه مفتقر إلى نفسه. وهذا إذا أطلق لا ينافي ما وجب له من الغنى بل هذا الغنى الذي لا يتصور غيره. وإن عنيت بالسبب ما لا يكون من فعله، لزمك أن كل ما لا تكفي الذات فيه، ولا هو لازم لها في الأزل، لا يوجد إلا بشريك مع الله ليس من مفعولاته. وهذا مع أنه باطل بالإجماع الذي توافقون عليه أهل الملل، فبطلانه معلوم بصريح العقل، كما تقدم بيان بطلانه. الخامس: أن يقال ما تعني بقولك: ذاته كافية في ذلك؟ أتعني به بالذات المجردة عن فعل يقوم بها؟ أم تعني به الذات الموصوفة بقيام الفعل بها؟ وأيهما عنيت بطل قولك. فإن عنيت الأول لزم أن تكون الذات المجردة عن الفعل القائم بها تفعل أموراً مختلفة متعاقبة، مع أن حالها مع فعل الشيء هو حالها مع فعل خلافه، ومع أن حالها بالنسبة إلى وجود المفعول وعدمه سواء، وهذا باطل. ثم يقال: إن جاز أن يكون هذا صحيحاً، جاز أن يكون حالها قبل الفعل وحين الفعل سواء. فيمكن قول القائل بأن الحوادث لها أول، وإن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 220 لم يجز أن يكون صحيحاً، بطل قولهم بأن الحوادث تصدر بواسطة أو بغير واسطة عن ذات لم يقم بها فعل. وإن عنيت الثاني، فالذات الموصوفة بقيام الفعل بها، إذا قيل: هي كافية في المفعولات لم يلزم قدم المفعولات، لأنها مشروطة بالفعل، ولا يلزم من ذلك افتقارها إلى غيرها، لأن فعلها الذي هو شرط في المفعولات من لوازم ذاتها، كما أن صفاتها من لوازم ذاتها. لكن قد يكون اللازم نوعاً، كالفعل المتعاقب، وقد يكون عيناً كالحياة التي لم تزل ولا تزال. وهذه الحجة هي التي يعتمد عليها أولوهم وآخروهم، لكن يصرفون ألفاظها ومعانيها. كلام السهرودي المقتول في "التلويحات" كلام السهرودي المقتول في التلويحات وذلك كقول السهروري المقتول في تلويحاته، فإنه قال: واجب الوجود لا يصدر عنه شيء بعد أن لم يكن، فإنه إن كان المرجح هو نفسه، أو على ما أخذ من صفاته، وهو دائم، فيجب دوام الترجيح، ودوام وجود المعلول، وإن لم يفعل ثم فعل، فلا بد من حدوث ما ينبغي في فعله، أو عدم ما لا ينبغي، ويعود الكلام إليه ولا يقف. فواجب الوجود لا تسنح له إرادة، وحال كل ما يتجدد حال ما لأجله التجدد في استدعاء مرجح حادث، وليس قبل جميع الوجود الجزء: 9 ¦ الصفحة: 221 وقت يتوقف عليه الفعل، ولا يمتاز في العدم البحث حال يكون الأولى به أن يصدر عنه شيء، أو بالشيء أن يحصل عنه، فلو حصل فيه شيء بعد أن لم يكن لتغيرت ذاته، ولتسلسل الحوادث فيها إلى غير النهاية وهو محال، ففعله دائم. الرد عليه من وجوه. الوجه الأول الرد عليه من وجوه. الوجه الأول وجواب هذا من وجوه. الوجه الأول أن يقال له: ما تعني بقولك: لا يصدر عنه بعد أن لم يكن؟ إن عنيت له أنه لا يصدر عنه شيء من أعيان الحوادث بعد أن لم يكن ذلك المحدث، فهذا باطل لوجهين: أحدهما: أن هذا خلاف قولكم وقول أهل الملل. فإن الحوادث متجددة شيئاً بعد شيء، سواء صدرت عنه بواسطة أو بغير واسطة. وإذا قلتم: الحركة هي السبب فيها، فكل جزء من أجزاء الحركة صادر عنه بعد أن لم يكن. الثاني: أن ما ذكرته من الحجة لا ينفي ذلك، فإن كون ذاته تقتضي دوام الترجيح، لا يوجب أن تقتضي دوام ترجيح كل ممكن ولا كل مفعول، بل يكفي أن توجب دوام ترجيح أمر ما، كما تقولون أنتم: إن الذي رجحه هو الأفلاك والعناصر، دون أعيان الحوادث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 222 وإن عنيت أنه لا يصدر عنه شيء بعد أن لم يكن شيء من الأشياء صادراً عنه، وهذا هو مراده. فيقال: غاية ما في هذا دوام فعله. وحينئذ فهذا لا يستلزم دوام المفعول المعين، لا الفلك ولا غيره بل يجوز تعاقب الأفعال القائمة به، وتعاقب المفعولات المحدثة شيئاً بعد شيء، على قولك، وتعاقبها جميعاً. وعلى التقديرات الثلاثة، فحدوث الأفلاك ممكن، فيبطل استدلالك على قدمها. الوجه الثاني أن يقال: حدوث الحوادث المنفصلة عنه شيئاً بعد شيء من غير فعل يقوم به: إما أن يكون ممكناً، وإما ألا يكون. فإن لم يكن ممكناً بطل قولكم، بأن سبب الحوادث هو حركات الفلك. وإن كان ممكناً أمكن حدوث حوادث متعاقبة، الفلك واحد منها. كما أخبرت بذلك الأنبياء، وهو قول قدماء الفلاسفة وأساطينهم. الوجه الثالث أن يقال: دوام حدوث الحوادث إما أن يكون ممتنعاً، أو ممكناً، كما ذكرت. فإن كان ممتنعاً لزم حدوث الأجسام وحركاتها، ودخل في ذلك الفلك وغيره. وإن كان ممكناً، لم يجب أن يكون الفلك دائماً، بل يجوز أن يكون حادثاً بعد حوادث قبله كما تقدم. الوجه الرابع أن يقال: قولكم: إما أن يكون المرجح نفسه، أو على ما أخذ من صفاته وهو دائم، فيجب دوام الترجيح، ودوام وجود المعلول. وإن لم يفعل، ثم فعل، فلا بد من حدوث ما ينبغي. لأهل الملل هنا جوابان: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 223 أحدهما: قول من يقول: إنه لم يزل يقوم به الفعل والكلام بقدرته ومشيئته، وعلى هذا فيمكن دوام الترجيح، ولا يجب قدم شيء من المفعولات، فضلاً عن قدم الأفلاك. والجواب الثاني: قول من يقول: يمتنع وجود المفعول في الأزل. وعلى هذا، فإذا قلت لهؤلاء: إذا قلتم: لم يفعل ثم فعل، فلا بد من حدوث ما ينبغي فعله، أو عدم ما لا ينبغي، ويعود الكلام إليه ولا يقف. قالوا: فعل واجب الوجود لما فعله من المفعولات المختلفة الحادثة: إما أن يجوز صدوره عنه من غير فعل قائم به، وإما ألا يجوز. فإن لم يجز ذلك بطل قولك. وإن جاز ذلك فحاله حين حدوث الطوفان كحاله حين إرسال محمد صلى الله عليه وسلم. وقد وجد منه في أحد الزمانين من المفعولات ما لا يوجد في الزمان الآخر، مع تماثل حاله بالنسبة إلى الزمانين. وإذا قيل: إن ذلك لأجل الحوادث المختلفة، كالحركات الفلكية، والاتصالات الكوكبية. قيل: الكلام في الحوادث التي أوجبت حدوث الطوفان، كالقول في الحوادث حين المبعث وغيره من الحوادث المختلفة. فإذا كان الفاعل حاله مماثل في جميع الأزمنة، واللوازم عنه كذلك، كان اختصاص أحد الزمانين بما يخالف الزمان الآخر ترجيحاً بلا مرجح. فإن كان ذلك جائزاً، جاز أن تحدث عنه الحوادث بعد أن لم تكن. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 224 وإذا نسبت الحوادث إلى الحركة الفلكية. قيل: إن كانت الحركة الدائمة متماثلة لزم تماثل الحوادث، وإن كان مختلفة كان قد اختص أحد الزمانين بما لم يوجد في الزمان الآخر. بل قد يقال: الفاعل إن قيل: إنه يلزمه مفعولات مختلفة دائمة متعاقبة من غير فعل يقوم به، ولا صفة له، كان كذلك أبعد في العقل من أن يقال: إنه فعل مفعولات مختلفة في وقت دون وقت، فإن هذا بعض ذاك، فكان المحذور الذي هو في هذا هو في ذاك وزيادة. الوجه الخامس أن يقال: قولك: وإن لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث ما ينبغي فعله، أو عدم ما لا ينبغي، ويعود الكلام إليه ولا يقف. غايته أنه يستلزم امتناع كونه صار فاعلاً بعد أن لم يكن، وهذا لازم لك. لكن نقول: لم قلت: إنه لم يزل يفعل شيئاً بعد شيء؟ فإن قلت: هذا يستلزم تسلسل الحوادث، وتسلسل الحوادث شيئاً بعد شيء جائز عندكم. فبتقدير أنه لا يزال يفعل شيئاً بعد شيء كان كل ما سواه حادثاً مع التسلسل الجائز، وذلك جائز عندك. وهو موجب دليلك. فإن كان باطلاً بطل مذهبك. وإن كان حقاً، فيقال: ما المانع أن يفعل ما لم يكن فاعلاً لحدوث حادث، وذلك موقوف على حادث آخر لا إلى نهاية، وتكون تلك الحوادث صادرة عنه؟ ثم يقال: إما أن يكون كل ما حدث يجوز حدوثه بلا فعل يقوم به، أو لا بد من فعل يقوم به. وعلى التقديرين لا يلزم صحة قولك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 225 فإن قلت: مقصودي أنه لم يزل فاعلاً وقد حصل، قيل: لا يلزم أن يكون فاعلاً لمعقول معين. بل ولا يلزم أن يكون هو الفاعل على قولك. فإنك تجوز حدوث جميع الحوادث من غير أمر يحدث فيه ومنه، وعندك يحدث الحادث المخالف لما قبله كالطوفان وغيره، من غير أن يحدث منه ما لم يكن حدث قبل ذلك، فأنت تجوز حدوث جميع الحوادث من غير أن يحدث منه شيء يخص حادثاً من الحوادث. الوجه السادس أن يقال: قولك: لو حصل منه شيء بعد أن لم يكن لتغيرت ذاته، وتسلسل الحوادث فيها إلى غير نهاية وهو محال، ففعله دائم. جوابه أن يقال: حصول الحوادث المنفصلة عنه إما أن يقف على حدوث شيء في ذاته، وإما أن لا يقف. فإن لم يقف بطل قولك: لو حصل شيء بعد أن لم يحصل لتغيرت ذاته، وتسلسلت فيها الحوادث. فإنك تجوز أن تحدث عنه جميع الحوادث من غير حدوث شيء في ذاته، فلا يكون حدوث الحوادث مستلزماً لحدوث شيء في ذاته. وإن كان حدوث الحوادث المنفصلة متوقفاً على حدوث شيء في ذاته، لم يكن في ذلك بمحذور، فإن حدوث الحوادث مشهودة، وأنت لم تذكر حجة على امتناع هذا المعنى، ولكن أحدث امتناعه مسلماً. وتسميتك لذلك تغيراً ليس بحجة عقلية، فإن لفظ التغير مشترك، وهنا لا يراد به الاستحالة، بل يراد به نفس الفعل أو التحول أو ما يشبه ذلك، وأنت لا دليل لك على انتفاء ذلك، بل أنت تجوز على القديم أن يكون متغيراً بهذا الاعتبار، وتجوز على القديم أن يكون محلاً للحوادث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 226 وتحقيق الكلام في هذا الموضع أن التسلسل هنا يراد به شيئان: أحدهما: التسلسل في الفعل مطلقاً. والثاني: التسلسل في فعل شيء معين. فالأول أن يراد به أنه لا يحدث شيئاً من الأشياء أصلاً حتى يحدث شيئاً، فتكون حقيقة الكلام أنه لا يخلق حتى يخلق، ولا يفعل حتى يفعل، ولا يحدث حتى يحدث، وهذا ممتنع بالضرورة. وهذا في حقيقة دور وليس بتسلسل، فإن معناه أنه لا يكون الشيء حتى يكون الشيء، فيلزم الجمع بين النقيضين، فإنه إذا لم يوجد حتى يوجد، لزم أن يكون معدوماً موجوداً. وأما إذا قيل: لا يفعل شيئاً إلا بشرط يقارنه، ولا يفعل ذلك الشرط إلا بشرط يقارنه، فهذا التسلسل في تمام التأثير، وليس بتسلسل أمور متعاقبة، وهذا هو التسلسل في تمام التأثير، والأول تسلسل في أصل التأثير، وكلاهما ممتنع. والأول هو الذي ينبغي أن يراد بقول القائل: إذا لم يفعل ثم فعل، فلا بد من حدوث شيء: إما قدرة، وإما إرادة، وإما علم، وإما أمر من الأمور. ثم القول في حدوث ذلك كالقول في حدوث الأول. فإن هذا الثاني أيضاً لا يحدث إلا بحدوث شيء يكون حادثاً معه، فإن ما كان من تمام التأثير فلا بد أن يكون موجوداً حين التأثير، لا يكفي وجوده قبله. وحينئذ فيمكن تصوير هذه الحجة على وجهين: أحدهما: أن يقال لا يحدث شيئاً حتى يحدث شيئاً، ولا يفعل شيئاً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 227 حتى يفعل شيئاً. فإن حدوث الحادث بلا سبب حادث ممتنع. والثاني: أن يقال: لا يحدث مفعولاً إلا بحدوث قدرة، أو إرادة، أو علم أو نحو ذلك. ولا يحدث ذلك إلا بحدوث ما يوجب حدوثه، فيلزم أن لا يحدث شيئاً، فإن هذا تسلسل في تمام التأثير. والتسلسل في تمام التأثير كالتسلسل في المؤثرين، فكما أنه يمتنع أن لا يكون مؤثراً إلا عن مؤثر، ولا يؤثر إلا عن مؤثر، وأنه يمتنع وجود علل ومعلولات لا نهاية لها، فلذلك يمتنع أن لا يتم كون الشيء علة أو فاعلاً إلا بوجود أمر، ولا يتم وجود ذلك التمام إلا بوجود تمام آخر، إلى غير غاية. فهذا أيضاً ممتنع باتفاق العقلاء. وأما إذا قيل لا يوجد الشيء حتى يوجد قبله شيء آخر، ولا يوجد ذلك الثاني حتى يوجد قبله شيء آخر، فهذا فيه النزاع المشهور، وهو تسلسل الآثار المعينة، لا تسلسل في أصل التأثير، فيجب تصور الفرق بين الأمرين. وقد صور السهروردي هذه الحجة في كتابه المسمى بـ حكمة الإشراق وهو الذي ذكر فيه خلاصة ما عنده، ولم يقلد فيه المشائين، بل بين فيه خطأهم في مواضع، وذكر فيه طريقة فلاسفة الفرس المجوس والهند. كما أن ابن سينا في كتابه المسمى بـ الحكمة المشرقية ذكر فيه بيان ما تبرهن عنده، وكذلك الرازي في المباحث المشرقية. كلام السهرودي المقتول في "حكمة الإشراق" كلام السهرودي المقتول في حكمة الإشراق فقال السهروردي: نور الأنوار والأنوار القاهرة يعني واجب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 228 الوجود والعقول: لا يحصل منهم شيء بعد أن لم يحصل، إلا على ما سنذكره، فإن كل ما لا يتوقف على غير شيء، إذا وجد ذلك الشيء، وجب أن يوجد، وإلا هو مما لا يتصور وجوده أو توقف على غيره، فما كان هو الذي يتوقف عليه، وقد فرض أن التوقف عليه، وهو محال. وكل ما سوى نور الأنوار لما كان منه، فلا يتوقف على غيره، كما يتوقف شيء من أفعالنا على وقت، أو زوال مانع، أو وجود شرط، فإن لهذه مدخلاً في أفعالنا، ولا وقت مع نور الأنوار متقدم على جميع ما عدا نور الأنوار، فإن نفس الوقت أيضاً من الأشياء التي هي غير نور الأنوار، فلما كان نور الأنوار، وجميع ما يفرضه الصفاتية صفة دائمة، فيدوم بدوامه ما فيه، لعدم توقفه على أمر منتظر، ولا يمكن في العدم البحث قرض تجدد، مع أن كل ما تجدد يعود الكلام إليه. فنور الأنوار والأنوار القاهرة: ظلالها وأضواؤها المجردة دائمة، وقد علمت أن الشعاع المحسوس هو من النير، لا النير من الشعاع، وكلما يدوم النير الأعظم يدوم الشعاع، مع أنه منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 229 ثم قال: كل هيئة أي عرض لا يتصور ثباتها هي الحركة، وكل ما لم يكن زماناً ثم حصل فهو حادث، وكل حادث إذا حدث شيء مما يتوقف عليه هو حادث، إذ لا يقتضي الحادث وجود نفسه، إذ لا بد من مرجح في جميع الممكنات، ثم مرجحه، إن دام مع جميع ما له مدخل في الترجيح، لدام الشيء، فلم يكن حادثاً، ولما كان حادثاً، فشيء مما يتوقف عليه هذا الحادث حادث. ويعود الكلام إلى ذلك الشيء، فلا بد من التسلسل، والسلسلة الغير المتناهية مجتمعة وجودها محال، فلا بد من سلسلة غير متناهية لا تجمع آحادها ولا تنقطع، وإلا يعود الكلام إلى أول حادث بعد الانقطاع، فينبغي أن يكون الوجود حادث متجدد لا ينقطع، وما يجب فيه لماهيته التجدد إنما هو الحركة. وذكر تمام الكلام في وجوب استمرار حركة دائمة، وأنها حركة الأفلاك. الرد عليه من وجوه. الوجه الأول الرد عليه من وجوه. الوجه الأول فيقال له عن هذا أجوبة: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 230 أن يقال: كل ما لا يتوقف على غير شيء إذا وجد ذلك الشيء وجب أن يوجد، إلى قوله: وما كان من نور الأنوار فلا يتوقف على غيره. إلى آخره. ما تعني بقولك: ما كان من نور الأنوار؟ تعني: الله، فلا يتوقف على غيره؟ أتعني به: أنه لا يتوقف على شيء منفصل عن الله؟ أم تعني به: لا يتوقف على فعل قائم بذات الرب يفعله بمشيئته وقدرته؟ أما الأول: فلا ينفعك، لأنه لا يلزم من كونه لا يتوقف على شيء منفصل عن الله، أن لا يتوقف على فعله الواقع بمشيئته وقدرته، وحينئذ فلا يلزم قدمه، بل إذا كان الفعل المراد المقدور حادثاً، فالمعلق به أولى أن يكون حادثاً، فإنه لا يكون قبله، وما لا يسبق الحوادث يجب أن يكون حادثاً. وإن قلت: إنه لا يتوقف على فعل الرب القائم بنفسه، فهذا محل النزاع. وأنت لم تذكر دليلاً على أن وجود الممكنات لا يتوقف على فعل الرب القائم بنفسه، بل الدليل يوجب توقف المعقولات على فعل الفاعل، وتوقف المعلول على اقتضاء العلة، والعلة شيء، واقتضاؤها المعلول شيء. وإذا كانت العلة مشروطة بما يقوم بها بالمشيئة والقدرة، لم يحصل المشروط قبل الشرط، وأنت لم تقم دليلاً إلى ثبوت علة مجردة خالية عن شرط، بل الدليل ينفي ذلك لأنه يلزم من قدم هذه العلة قدم معلولها، ومعلول معلولها، فإن العلة التامة لا يتأخر عنها شيء من معلولها، وحينئذ فلا يكون للحوادث فاعل أصلاً، وهذا من أبين الأمور المعلوم فسادها بالضرورة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 231 الوجه الثاني أن يقال: ما سوى الله هل يتوقف شيء منه على غيره، أم لا؟ فإن قلت بالثاني، لزم قدم جميع الممكنات الموجودة، حتى الحوادث، وهو مكابرة. وإن توقف منه شيء على غيره بطل قولك: ما سوى نور الأنوار لا يتوقف على غيره. وإيضاح ذلك: الوجه الثالث وهو أن يقال: إذا قدر الغير الذي هو شرط، هو من الله أيضاً، وتوقف أحد الفعلين على الآخر لم يكن في ذلك محذور. فإن الله جعل بعض الأشياء شرطاً في وجود بعض، غاية ما في هذا أن يقال: هذا يقتضي التسلسل. فيقال: وهذا عندك جائز، فلا يتعين قدم شيء من الأفلاك ولا غيرها. الوجه الرابع أن يقال: إن كان التسلسل باطلاً بطل مذهبك، وإن كان جائزاً بطلت حجتك. الوجه الخامس أن يقال أنت وقد أوجبت التسلسل في الحوادث بإيجاب حركة دائمة لا تنقطع، وقلت أيضاً: فلما كان نور الأنوار وجميع ما يفرضه الصفاتية صفة دائمة، فيدوم بدوامه ما منه لعدم توقفه على أمر منتظر. وإذا كان قولك وقول إخوانك يتضمن هذا وهذا، فيقال لكم: الحركة الدائمة إما أن تكون منه بواسطة أو بغير واسطة، وإما أن لا تكون منه، فإن لم تكن منه لزم حدوث الحوادث بدون واجب الوجود، وهذا هو القول بحدوث الحوادث بلا محدث، وإن كانت الحركة منه بواسطة أو بغير واسطة، وهو قولهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 232 فيقال: فحينئذ قد كان منه ما لا يدوم بدوامه، فإن كل جزء من أجزاء الحركة حادث، وعندكم أنه حدث عن تصور حادث وشوق حادث، فهذه أمور من واجب الوجود وليست دائمة بدوامه، فهذا ينقض قولكم: إن كل ما منه يدوم بدوامه. ثم أيضاً من المعلوم أن كل واحد من الحوادث منه بواسطة أو غير واسطة، وهو كان بعد أن لم يكن، ويعدم بعد أن كان فهو منه، وليس مقارناً له، ولا دائماً بدوامه. فعلم بذلك أنه لا يجب في كل ما كان منه أن يدوم بدوامه، فلا يجب في الفلك وغيره من الأعيان المشهودة أن تدوم بدوامه، وهو المطلوب. وإذا قال: الذي يدوم بدوامه هو جنس الأفعال والمفعولات أو جنس الحوادث شيء بعينه. قيل: فهذا يبطل حجتك على قدم شيء بعينه، ويناقض مذهبك في قدم شيء بعينه. كلام ابن سينا في الإشارات وقال ابن سينا: في إشاراته في ذكر هذه الحجة: تنبيه: وجود المعلول يتعلق بالعلة، من حيث هي على الحال التي بها تكون علة، من طبيعة أو إرادة أو غير ذلك أيضاً، من أمور يحتاج أن تكون من الخارج، ولها مدخل في تتميم كون العلة بالفعل، مثل الآلة: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 233 كحاجة النجار إلى القدوم، أو المادة: كحاجة النجار إلى الخشب، أو المعادن: كحاجة النشار إلى نشار آخر، أو وقت: كحاجة الآدمي إلى الصيف، أو الداعي: كحاجة الآكل إلى الجوع، أو زوال مانع: كحاجة الغسال إلى زوال الدجن. وعدم المعلول يتعلق بعدم كون العلة على الحالة التي هي بها علة بالفعل، سواء كان ذاتها موجوداً على غير تلك الحالة أو لم يكن موجوداً أصلاً، فإذا لم يكن شيء معوق من خارج، وكان الفاعل بذاته موجوداً، ولكن ليس لذاته علة، توقف وجود المعلول على وجود الحالة المذكورة، التي إذا وجدت كانت طبيعة، أو إرادة جازمة، أو غير ذلك -وجب وجود المعلول. وإن لم توجد وجب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 234 عدمه، وأيهما فرض أبداً كان ما بإزائه أبداً، أو وقتاً ما، كان وقتاً ما. وإذا جاز أن يكون شيء متشابه الحال في كل شيء، وله معلول، لم يبعد أن يجب عنه سروراً، فإن لم يسم هذا مفعولاً، بسبب أن لم يتقدمه عدم، فلا مضايقة في الأسماء بعد ظهور المعنى. تعليق ابن تيمية فيقال له: هذا كلام مقدر على شيء مضمونه: أن العلة التامة التي لا يقف اقتضاؤها على أمر منفصل عنها، يلزم من وجودها وجود معلولها بجلاء، بخلاف ما يتوقف اقتضاؤها على أمور منفصلة، كالآلة والمادة والداعي وغير ذلك، وأنه إذا فرض شيء متشابه الحال في كل شيء وله معلول، لم يبعد عنه سرمداً. لكن الشأن في تحقيق هذا المقدر، فإنه يقال لك: هذا غايته أن يكون إبطالاً لقول من يجعل الرب خالقاً للعالم، من غير حدوث سبب أصلاً. وهذا قول طائفة من أهل الكلام المنتسبين إلى الملل، وليس هذا قول أئمة أهل الملل وجمهورهم القائلين بأن الله خالق كل شيء، وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام. وإذا كان كذلك فهؤلاء يلزموك ويقولون: هذه العلة الموصوفة هل يجوز أن يصدر عنها -بوسط أو بغير وسط- أمور مختلفة حادثة أو لا يجوز؟ فإن لم تجوز ذلك بطل قولك، ولزم أن لا يكون للحوادث فاعل، وهو معدوم الفساد بالضرورة. وإن جوزت ذلك، قيل لك: فإذا كان الفاعل واحداً بسيطاً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 235 موجوداً، لا يتوقف فعله على شيء خارج عنه، فلم وجدت عنه المختلفات؟ ولم تأخرت عنه الحوادث؟ فما كان جوابك عن هذا، كان جواباً لهم عن الحوادث، وأولى. وأما من قال: إن الواجب بنفسه تقوم به الأفعال المتعلقة بقدرته ومشيئته. فيقولون: حدوث ما حدث يتوقف على تلك الأفعال موقوفة على ما قبلها، فإن التسلسل جائز عندك. ثم يقال: إما أن يكون التسلسل جائزاً، وإما أن لا يكون. فإن كان جائزاً، أمكن أن تتسلسل الأفعال التي يقف عليها وجود تلك المفعولات. وإن لم يكن جائزاً لزم حدوث جنس المحدثات، ويبطل القول بحوادث لا أول لها، وهو نقيض قولكم. وأيضاً قوله: إذا جاز أن يكون شيء متشابه الحال لا يخلو: إما أن يجوز أن تصدر عنه الأمور المختلفة الحادثة بوسط أو بغير وسط، وإما أن لا يجوز. فإن لم يجز ذلك لزم أن لا تكون هذه الحوادث صادرة عن علة بسيطة، لا بوسط ولا بغير وسط. وهذا يبطل قولهم. وحينئذ فإما أن يقال: إن هذه الحوادث لا محدث لها، وهو معلوم الفساد بالضرورة. وإما أن يقال: ليس المحدث مجرداً عن الصفات والأفعال، بل له صفات وأفعال، كما يقوله المسلمون، وهو الحق. وإن جاز أن تصدر المختلفات والمحدثات عن بسيط، أمكن أن يحدث عنه ما لم يكن حادثاً عنه، وحينئذ فلا يلزم أن يكون معلولاً له لازماً له. كلام الرازي في شرح الإشارات قال الرازي في شرح هذا الكلام. اعلم أن الغرض من هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 236 الفصل التنبيه على الحجة لا يزال القائلون بالقدم يتمسكون بها ويعولون عليها، وهي أن الأمور التي تتم بها مؤثرية الباري تعالى في العالم، إما أن تكون بأسرها أزلية، وإما أن لا تكون، والثاني باطل، إذ لو كان شيء منها حادثاً لافتقر حدوثه إلى المؤثر. والكلام في كونه مؤثراً في ذلك الآخر، كالكلام في الأول، فيلزم التسلسل وهو محال. فإذاً كل الأمور المعتبرة في مؤثرية الله تعالى في العالم أزلية. وأيضاً فمن الظاهر أن المؤثر متى حصل مستجمعاً جميع الأمور المعتبرة في المؤثرية، وجب أن يترتب الأثر عليه، لأنه إن جاز تخلف الأثر عنه، كان صدور الأثر عن العلة المستجمعة لجميع تلك الأمور المعتبرة في المؤثرية، ولا صدور عنها على السواء. ولو كان كذلك لما ترجح الصدور على أن لا صدور إلا بمرجح آخر. فلم تكن جميع الأمور المعتبرة في المؤثرية حاصلاً قبل حصول هذا الزائد، وكنا قد قد فرضنا أن الأمر كذلك، هذا خلف. قال: وإذا ثبتت المقدمتان لزم من قدم الباري قد أفعاله، هذا تحرير هذه الحجة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 237 قال: ولقائل أن يقول: هذا الكلام إنما يلزم في الموجب بالذات، أما الفاعل المختار فلا، لاحتمال أنه يقال: إنه كان في الأزل مريداً لإحداث العالم في وقت دون وقت، فإذا قالوا: فلم أراد إحداثه في ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده؟ كان الكلام فيه طويلاً، وهو مذكور في سائر كتبنا على الاستقصاء. تعليق ابن تيمية قلت: هذا الجواب الذي أجاب به هو جواب كثير من أهل الكلام، من المعتزلة والكرامية والأشعرية، ومن وافقهم من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم. وقد عرف الطعن في هذا الجواب، وأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح، وأن ما ذكر في القسم الأول هو حصول الموثرية التامة في الأزل مع تأخر الأثر، وأن مضمونه تخلف الشيء عن موجبه التام، كما قد بسط في موضعه. الجواب عن هذه الحجة بوجوه. الوجه الأول الجواب عن هذه الحجة بوجوه. الوجه الأول قوله: يلزم التسلسل وهو محال ليس كذلك، فإن التسلسل جائز عند من يقول بموجب هذه الحجة، فإن ذلك تسلسل في الآثار لا في المؤثرات، ولا يصح القول بموجبها إلا بذلك، فقولهم: التسلسل محال، باطل على أصلهم. وهذا الموضع مما يشتبه على كثير من الناس، فإن التسلسل في الآثار: تارة يعني به التسلسل في أعيان الآثار، مثل كونه فاعلاً لهذا بعد هذا، ولهذا بعد هذا، وأنه لا يفعل هذا إلا بعد هذا، ولا هذا إلا بعد هذا، وهلم جراً. فهذا التسلسل جائز عند الفلاسفة، وعند أئمة أهل الملل، أهل السنة والحديث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 238 وعلى هذا التقدير، فقول القائل، فقول القائل: الأمور التي تتم بها مؤثرية الباري في العالم: إما أن تكون بأسرها أزلية، وإما أن لا تكون. أتريد به التي يتم بها مؤثريته في كل واحد واحد من آحاد العالم؟ أو في جملة العالم؟ إن إردت الأول، لم تكن بأسرها أزلية، وكان حدوث كل واحد منها مفتقراً إلى حادث قبله. وهذا التسلسل جائز عندهم. وإن أردت الثاني، قيل لك: ليس جملة العالم متوقفاً على أمور معينة، حتى يرد عليها هذا التقسيم، بل بعض العالم يتوقف على أمور، وبعض آخر يتوقف على أمور أخرى، وكل بعض يتوقف على أمور حادثة، وتلك الأمور تتوقف على أمور أخرى، ويلزم من ذلك التسلسل في نوع الحادث، وهو جائز عندكم. وأما أن أريد بالتسلسل في الآثار، التسلسل في جنس التأثير، وهو أن يكون جنس التأثير متوقفاً على جنس التأثير، بحيث لا يحدث شيئاً حتى يحدث شيئاً، فهذا باطل لا ريب فيه، وهو تسلسل في تمام كون المؤثر مؤثراً، وهو من جنس التسلسل في المؤثر. لكن بطلان هذا يستلزم أنه لم يفعل بعد أن لم يكن فاعلاً لشيء، فيلزم دوام نوع الفاعلية لا دوام مفعول معين، وحينئذ فلا يدل على قدم شيء من العالم، وهذا بين لمن تدبره. ويراد بالتسلسل معنى ثالث، وهو أن فاعليته للحادث المعين، لا تحصل حتى يحصل تمام المؤثر لهذا الحادث المعين، فيلزم تسلسل الحوادث في الواحد، وهذا ممتنع أيضاً باتفاق العقلاء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 239 فهذا تسلسل في تمام تأثر المعنى، وذاك في أصل التأثير وكلاهما ممتنع باتفاق العقلاء. فتبين أن حججهم الهائلة، التي أرعبت قلوب النظار، ليس فيها ما يدل على قدم شيء من العالم البتة. فقولهم بقدم شيء من العالم: الأفلاك أو غيرها، قول بلا حجة أصلاً، بل هو قول باطل، كما بين في موضع آخر. نعم هذه الحجج إنما أرعبت قلوب أهل الكلام المبتدع المحدث في الإسلام، الذي هو كلام الجهمية والقدرية، ومن سلك سبيلهم من الأشعرية والكرامية، ومن تبعهم أو قلدهم من المتفقه وغيرهم، فما ذكره الفلاسفة إنما يبطل قول هؤلاء، الذي زعموا أن الرب لم يزل معطلاً عن أن يفعل بمشيئته أو يتكلم بمشيئته ثم يفعل أو يتكلم بمشيئته من غير حدوث شيء. وهذا القول مما اتفق سلف الأمة وأئمتها على بطلانه. فإذاً ليس معهم حجة عقلية تناقض نصوص الكتب والسنة، بل ولا مذهب السلف والأئمة، وهو المطلوب. وبما ذكرناه من الفرق بين التسلسل في أصل التأثير وتمامه، وبين التسلسل في الآثار، يظهر صحة الدليل، الذي احتج به غير واحد من أئمة السنة، على أن كلام الله غير مخلوق، مثل سفيان بن عيينة. وبيان ذلك: أنه إذا دل على أن الله لم يخلق شيئاً إلا بكن، فلو كانت كن مخلوقة، لزم أن يخلق بكن أخرى، وتلك الثانية بثالثة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 240 وذلك هو من التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء، فإنه تسلسل في أصل التأثير، فإنه لا يخلق شيئاً إلا بكن، فإذا لم يخلق كن لم يخلق شيئاً، ولو خلق كن لكان قد خلق بعض المخلوقات بغير كن، فيلزم الدور الممتنع، وهو المستلزم للجمع بين النقيضين، وهو أن تكون موجودة معدومة. وأيضاً فإذا قدر أنه خلق الأولى بالثانية، والثانية بالثالثة، وهلم جراً، فلا بد من وجود جميعها في آن واحد، فإن كل واحد منها شرط في الثانية، وهي من الأمور الوجودية المشروطة في التأثير، فلا بد أن تكون موجودة عند وجود الأثر، كالاستطاعة والقدرة، وحياة الفاعل، وعلمه، وسائر شروط الفعل، فإنها كلها لا بد من وجودها عند وجود الفعل. ولهذا اتفق أهل السنة المثبتون للقدر، على أن الاستطاعة لا بد أن تكون مع الفعل وتنازعوا في جواز وجودها قبله، ودوام وجودها إلى حين الفعل في حق المخلوق، على قولين. وأما في حق الخالق، فاتفقوا على بقائها ودوامها إلى حين الفعل. والصحيح الذي عليه السلف وأئمة الفقهاء، أنها تكون موجودة قبل الفعل، وتبقى إلى حين الفعل. ولهذا يجوز عندهم وجود الاستطاعة بدون الفعل، كما في حق العصاة، ولولا هذا لم يكن أحد ممن كفر وعصى الله، إلا غير مستطيع لطاعة الله، وهو خلاف الكتاب والسنة. قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] . وقال: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 241 وقال: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} [النساء: 91] . ومعلوم أنه ليس المنفي هنا استطاعة لا تكون إلا مع الفعل، فإنه قد يكون حينئذ معنى الكلام، فمن لم يفعل فعليه صيام شهرين متتابعين. وكذلك يكون الأمر بالتقوى لمن اتقى لا لمن لم يتق، وإيجاب الحج على من حج دون من لم يحج، وهذا باطل. فعلم أن المراد استطاعة توجد بدون الفعل، وما كانت موجودة بدون الفعل أمكن وجودها قبله بطريق الأولى. وقد بين في غير هذا الموضع أن تسلسل العلل والمعلولات ممتنع بصريح الفعل واتفاق العقلاء، وكذلك تسلسل الفعل والفاعلين، والخلق والخالقين، فيمتنع أن يكون للخالق خالق، وللخالق خالق إلى غير نهاية. ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا من وسوسة الشيطان، فقال في الحديث الصحيح: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته» .. وفي رواية أخرى: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليتعوذ بالله ولينته» . وكذلك إذا قيل: لا يخلق شيئاً إن لم يخلق كذا، ولا يخلق كذا إن لم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 242 يخلق كذا، كان هذا ممتنعاً، لأنه منع وجود الخالق بالكلية، حتى يوجد تمام كونه مؤثراً، وتمام كونه مؤثراً موقوف على تمام آخر، فيلزم ألا يوجد تمام كونه خالقاً، فيلزم ألا يخلق شيئاً قط. فإذا علم أنه لا يخلق شيئاً إلا بكن فلو كان كن مخلوقاً بكن أخرى وهلم جراً، كان كل واحدة من ذلك بها يصير خالقاً، ولم يوجد شيء من ذلك، فيمتنع أن يصير خالقاً. وهذا بخلاف ما إذا قيل: يخلق هذا بكن، وهذا قبله أو بعده بكن وهلم جراً، فإن هذا يقتضي أنه لا يوجد الثاني إلا بعد وجود الأول. والتوقف ها هنا على الشرط، هو فعله لهذا المعين، لا أصل الفعل، فلهذا كان في هذا نزاع مشهور، بخلاف الأول. ومعلوم أن الأدلة العقلية لا تدل على قدم شيء من العالم، وإنما غايتها أن تدل على دوام الفاعلية، وامتناع كونه فاعلاً بعد أن لم يكن. فإذا قالوا: التسلسل باطل، فإن عنوا به تسلسل الآثار، ووجود شيء بعد شيء فهذا خلاف قولهم، ولم يقيموا دليلاً على بطلانه. وإن أرادوا به التسلسل الخاص، وهو التسلسل في تمام كون الفاعل فاعلاً، فهذا مسلم أنه ممتنع، لكن امتناع لا يدل على فعله لشيء معين، بل على أصل الفعل، وهذا لا ينفعهم بل يضرهم. الوجه الثاني أن يقال: أما التسلسل في أصل الفاعلية فلا ينفعهم. وإنما فيه إبطال قول الجهمية والقدرية. وأما التسلسل في الأفعال المعينة، فإن كان جائزاً لم يصح احتجاجهم به، بل تبطل الحجة، وإن كان ممتنعاً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 243 لزم أن يكون للحوادث أول، فيبطل قول القائلين بقدم العالم. وإذا بطل هذا القول، بطلت حجته بالضرورة، فيلزم بطلان هذه الحجة على التقديرين، وذلك يقتضي أنها فاسدة في نفس الآمر. الوجه الثالث أن يقال: كل حادث من الحوادث المشهودة إما أن تكون مؤثريته حاصلة في الأزل، وإما ألا تكون. فإن كان الأول، لزم حصول الحوادث عن الموثر القديم، من غير تجدد شيء، وبطلت الحجة. وإن كان الثاني فحصول كمال المؤثرية فيه بعد أن لم تكن أمر حادث، فيقف كمال مؤثريته في هذا الكمال. وحينئذ فحال الفاعل إما أن يكون عند كمال التأثير في الحادث الثاني، كحاله عند كمال التأثير في الأول، وإما ألا يكون، فإن قدر الأول، لزم أن يحدث هذا الحادث الثاني، والذي بعده، والذي بعده، من غير حدوث سبب أوجب هذا الحدوث، لأن الذات الفاعلة حالها عند الأول كحالها عند الثاني والثالث، وحينئذ فإذا كانت عند الأول لا تفعل الثاني، فعند الثاني لا تفعل الثالث، لأنه لم يتجدد ما يوجب حدوثه. وأيضاً فالذات نفسها ليست موجباً تاماً في الأزل لشيء من الحوادث، وهي لم تزل على ما كانت عليه، فيلزم ألا تكون موجبة لشيء من الحوادث في الأبد، وإلا لزم الإحداث بلا سبب حادث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 244 وهؤلاء فروا من حدوث الحوادث بعد أن لم تكن بلا سبب، وادعوا دوام حدوثها بلا سبب، فكان الذي فروا إليه شراً من الذي فروا منه، كالمستجير من الرمضاء بالنار. وأما إن قيل: إن الفاعل نفسه تقوم به إرادات وأفعال توجب تخصيص كل وقت بما أحدثه فيه، كان هذا مبطلاً لحجتهم، إذ يمكن والحال هذه أن يحدث شيئاً بعد شيء مع دوام فاعليته، بل هذا مبطل لمذهبهم. فإن من تصور هذا الفاعل علم يقيناً امتناع مقارنة شيء من أفعاله ومفعولاته له، وعلم أن كل واحد من أفعاله ومفعولاته لا يكون إلا حادثاً، لا مساوقاً له أزلاً وأبداً. وإن كان هذا معلوماً في كل ما يقدر أنه فاعل، فهو فيما يقدر أنه فاعل بمشيئته وقدرته وأفعاله تقوم به، أظهر وأظهر. ثم يقال: إما أن يكون تسلسل كمال المؤثرات ممكناً، وإما أن يكون ممتنعاً، فإن كان ممتنعاً لزم حدوث كل ما سوى الله، وأنه لم يكن فاعلاً ثم صار فاعلاً، وهو مبطل لقولهم. وإن كان ممكناً لم يلزم إلا دوام كونه مؤثراً في شيء بعد شيء، وهذا لا حجة لهم فيه، بل هو مبطل لحجتهم ومذهبهم كما تقدم. والقول في الثاني كالقول في الأول، فيلزم التسلسل في الآثار. وإذا كان ذلك لازماً كان جائزاً بطريق الأولى، وإذا كان جائزاً بطل القول بأنه محال، فبطلت الحجة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 245 الوجه الرابع أن يقال: حدوث الحوادث من المؤثر القديم من غير تجدد شيء إما أن يكون جائزاً، وإما أن يكون ممتنعاً. فإن كان جائزاً بطلت المقدمة الثانية من الحجة. وإن كان ممتنعاً لزم حدوث ما به يتم التأثير في هذه الحوادث، إذ لو لم يحدث ما به يتم التأثير، لكانت قد حدثت عن المؤثر القديم من غير تجدد شيء، والتقدير أنه ممتنع. ثم القول في حدوث ذلك التمام، كالقول في حدوث أثره، ويلزم التسلسل في الآثار، وذلك يبطل القول بامتناع التسلسل مطلقاً. فإن كان هذا هو المراد في المقدمة، كما يريده طائفة ممن يصوغ هذه الحجة فهو ممتنع. وإن كان المراد به ما ينبغي أن يراد، وهو التسلسل في تمام أصل التأثير، فهذا إذا امتنع إنما يستلزم دوام كونه فاعلاً، لا فاعلاً لشيء معين، وذلك لا ينفعهم بل يضرهم، فيلزم فساد إحدى المقدمتين على تقدير أحد النقيضين، وفساد الأخرى على تقدير النقيض الآخر. ولا بد من ثبوت أحد النقيضين، فيلزم فساد إحدى المقدمتين قطعاً. فتفسد الحجة. الوجه الخامس أن نقول: قوله: وإذا ثبتت المقدمتان لزم من قدم الباري تعالى قدم أفعاله أتعني به جميع أفعاله، أو فعلاً ما من أفعاله، أم قدم نوع أفعاله؟. أما الأول فباطل قطعاً، لأنه خلاف المشاهدة. وأما الثاني فلا دليل في الحجة عليه، فإنها لا تدل على قدم شيء معين، لا فعل ولا مفعول. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 246 وأما الثالث فلا يفيد قدم السموات لجواز أن يكون هناك فعل قائم بالذات بعده فعل، أو مفعول بعد مفعول، أو كلاهما. وهذه الحجة قد ذكرها الآمدي، والأبهري، وغيرهما، وأجابوا عنها بالمعارضة بالحوادث اليومية. كلام الآمدي في "دقائق الحقائق" كلام الآمدي في دقائق الحقائق فقال الآمدي في دقائق الحقائق في الاحتجاج لهم: لو كان ما وجد عن الواجب بذاته محدثاً موجوداً بعد العدم، فهو لذاته: إما أن يكون واجباً، أو ممتنعاً، أو ممكناً. القول بالوجوب ممتنع، وإلا لما كان معدوماً. والقول بالامتناع ممتنع. وإلا لما وجد. فلم يبق إلا أن يكون ممكناً لذاته. وعند ذلك فحدوثه إن كان لا لمحدث ومرجح فقد ترجح أحد طرفي الممكن لا لمرجح، وهو محال. وإن كان لمحدث ومرجح فالمرجح إما قديم، أو حادث. فإن كان حادثاً فالكلام فيه كالكلام في الأول، والتسلسل والدور محال. فلم يبق إلا أن يكون المرجح قديماً أو منتهياً إلى مرجح قديم، والمرجح القديم إما أن يكون قد تحقق معه في القدم كل ما لا بد منه في الإيجاد، أو بقي شيء منتظر. فإن بقي شيء منتظر، فالكلام في حدوثه كالكلام في الأول، ويلزم في التسلسل أو الدور وهو ممتنع. وإن كان القسم الأول فيلزم من قدم العلة قدم المعلول. وكذلك الحكم فيما وجب عن الواجب بالواجب لذاته. وقال الآمدي في الجواب: إنه يلزم منها وجود شيء من الحوادث. إذ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 247 الكلام في كل حادث يفرض بالنسبة إلى علته، كالكلام في معلول واجب الوجود، وهو خلاف المعقول والمحسوس، وما هو الجواب فيما اعترف به من الحوادث فهو الجواب فيما نحن فيه، ولا بد من التفاتهم في ذلك إلى الإرادة النفسانية، وبيان انتفائها عن واجب الوجود. وقد عرف ما فيه. تعليق ابن تيمية قلت: قد يظنون أنهم يجيبون عن هذه المعارضة بأن الحوادث اليومية مشروطة بحدث بعد حادث، وهذا يقتضي التسلسل في الآثار، والتسلسل في الآثار عندهم ليس بمحال. وحقيقة قولهم: إن المرجح القديم هو دائم الترجيح، والحوادث المنفصلة عنه تحدث شيئاً بعد شيء. ثم قد يعينون ذلك بحركة الفلك، فيقولون: هي الحادثة شيئاً بعد شيء. ومن حذق منهم كابن سينا علم أن هذا جواب باطل، وأن حدوث حادث بعد حادث عن القديم من غير تجدد شيء ممتنع. فادعى ما هو أفسد من ذلك فقال: إن الحركة لا توجد شيئاً بعد شيء، وإنما هي شيء موجود دائماً، وأن ما يوجد شيئاً بعد شيء لا وجود له في الخارج، بل في الذهن. وهذه مكابرة بينة، قد بسط الكلام عليها في شرح الأصبهانية. وقد اعترف حذاقهم بأن حدوث الحوادث شيئاً بعد شيء عن ذات لا يقوم بها حادث مما تنكره العقول. وأما من اعترف منهم بقيام الأمور الاختيارية بذاته، فيقال لهم: هذا أدل على حدوث المفعولات. ويقال للطائفتين: إذا جوزتم ذلك، لم يكن لكم دليل على قدم شيء من العالم. فظهر بطلان حجتكم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 248 لكن هذا الجواب الذي عارض به هؤلاء لأولئك، لا يمكن أن يقال في أول الحوادث، لأنه ليس قبل أول الحوادث حادث يشترط في الحوادث المستقبلة. فهذا فرق هؤلاء الفلاسفة بين ما يثبتونه من الحوادث اليومية التي تشاهد، وما ينفونه من أن للحوادث أولاً ابتدأت منه، وبهذا يتبين بطلان قول الطائفتين: هؤلاء وهؤلاء، وأن كل طائفة أقامت برهاناً على بطلان قول الأخرى، لا على صحة قولها، إذ لا يلزم من بطلان أحد القولين صحة الآخر، إلا إذا انحصر الحق فيهما، وليس الأمر كذلك. كلام الآمدي في أبكار الأفكار وذكرها الآمدي أيضاً في كتابه أبكار الأفكار قال: وجوابها: أنها باطلة من جهة أن الحس والعيان والبرهان شاهد بوجود حوادث كائنة بعد ما لم تكن. وما ذكروه من الشبهة يلزم منه امتناع وجود الحوادث، والقول بامتناع وجود الحوادث ممتنع، وكل دليل لزم عنه الممتنع فهو باطل في نفسه. وبيان الملازمة هو أن ما ذكروه من الترديد والتقسيم في حدوث العالم بعينه لازم في حدوث كل حادث، وكل ما هو جواب لهم في حدوث الحوادث بعينه يكون جواباً في القول بحدوث العالم بجملته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 249 وهذا الذي ذكره يجيبون عنه بما تقدم، وهو أن هذه الحجة إنما كانت حجة على من يقول ببطلان التسلسل في الآثار من أهل الكلام، وأما نحن فنجوز التسلسل في الآثار، فتكون الحوادث موقوفة على حوادث قبلها لا إلى أول. وهذا الجواب منتف في جملة العالم، لأنه ليس قبله حادث نقف عليه عند الطائفتين. وحقيقة جوابهم أن التسلسل الذي نفوه في هذه الحجة، ليس هو التسلسل في الحوادث التي تحدث شيئاً بعد شيء، فإنها لا تدل على بطلان هذا، وهم لا يقولون ببطلانه، وإنما دلت على بطلان التسلسل في تمام كون الفاعل فاعلاً. ومن قال بكونه فاعلاً، لا يقول بتوقف فاعليته على غيره: لا حادث ولا غير حادث، فلا يلزمهم هذا. الجواب عن حجتهم من وجوه. الوجه الأول الجواب عن حجتهم من وجوه. الوجه الأول ونحن قد ذكرنا الأجوبة القاطعة لهذه الحجة في غير موضع من وجوه: أن يقال: إن كان التسلسل في الآثار ممتنعاً، لزم القول بأن للحوادث أولاً، وبطل المذهب فبطلت حجته، وإن كان ممكناً بطلت الحجة، لإمكان دوام كونه فاعلاً ليس بعد شيء، مع أن كل ما سواه مخلوق حادث. هذا إذا أريد بالتسلسل الممتنع تسلسل أصل الفاعلية، وأما إذا أريد تسلسل الآثار، فإنه يظهر بطلانها. الوجه الثاني أن يقال: غاية الحجة أنه لا بد لكل حادث أن يكون قبله حادث. وحينئذ فقد أخبرت الرسل أن الله خلق السموات والأرض وما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 250 بينهما في ستة أيام، وكان عرشه على الماء. وجمهور المسلمين وغيرهم على أن المخلوق ليس هو الخلق، بل الخلق قائم بذات الله فتكون السموات والأرض وما بينهما محدثة بحوادث قبلها، والحوادث محدثة بما يقوم بذات الله من مقدوراته ومراداته سبحانه وتعالى. الوجه الثالث أن يقال: إما أن تقولوا بأن كل ما صدر عن الواجب بذاته لازم لذاته، أو لازم للازم بذاته، أو منه ما ليس بلازم بذاته. فإن قلتم بالأول كان مكابرة للحس. ولم يقل بذلك أحد من الناس، وهو الذي أنكره المعارضون لهم، وجعلوه لازم حجتهم. وإن قالوا: إن منه ما ليس بلازم لواجب الوجود، ولا لازم للازمه، بل هو متأخر عنه. فيقال: فالسموات والأرض وما بينهما، الذي أخبرت به الرسل عن الله، أنه خلق ذلك في ستة أيام: لم لا يجوز أن تكون من الحوادث المتأخرة كغير ذلك من الحوادث؟ الوجه الرابع أن يقال: إذا كان العالم صادراً عن علة مستلزمة له، لا يتأخر عنها موجبها، لزم ألا يكون لشيء من الحوادث فاعل، لأن العلة التامة لا يتأخر عنها شيء من معلولها، فلا يكون شيء من الحوادث معلولاً لها، ولا لشيء من معلولاتها. فلزم أن تكون الحوادث لا فاعل لها، أو يكون فاعلها ليس هو، بل يكون فاعل كل محدث محدثاً، وهلم جراً، ويلزم تسلسل الفاعلين. وهذا مع اتفاق العقلاء على فساده، ففساده معلوم بالضرورة من وجوه كثيرة، كما بين في غير هذا الموضع. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 251 فصل ومنشأ ضلال هاتين الطائفتين هو نفي صفات الله وأفعاله القائمة بنفسه. فإنهم لما نفوا ذلك، ثم أرادوا إثبات صدور الممكنات عنه، مع ما يشاهدون من حدوثها، لم يبق هناك ما يصلح أن يكون هو المرجح لوجود الممكنات -إلا لما شوهد حدوثه منها- ولا لغير ذلك. وصارت المتفلسفة تحتج على هؤلاء المتكلمة بالحجج التي توجب تناقض قولهم، فيجيبوهم بما يتضمن الترجيح بلا مرجح، مثل إسنادهم الترجيح إلى القدرة أو الإرادة القديمة، التي لا اختصاص لها بوقت دون وقت. فيقول لهم أولئك: إسناد التخصيص والترجيح إلى مرجح، لا فرق بالنسبة إليه بين وقت دون وقت، وبين مفعول ومفعول، كإسناد التخصيص والترجيح إلى ترجح الذات المجردة عن الصفات. لكن كل ما تحتج به المتفلسفة يلزمهم نظيره، وما هو أشد فساداً منه، فإن قولهم أعظم تناقضاً من قول هؤلاء المتكلمين، وما من محذور يلزم أولئك، إلا ويلزم المتفلسفة ما هو مثله أو أعظم منه. فإنهم يسندون وجود الممكنات المختلفات، كالأفلاك والعناصر وما يسمونه العقول والنفوس، مع ما يتعاقب على ذلك من الحوادث المختلفات أيضاً، إلى ذات مجردة بسيطة لا صفة لها ولا فعل، ويقولون: إنها لم تزل ولا تزال مجردة عن الصفات والأفعال، وهي مع ذلك لا تزال تصدر عنها الأمور المختلفة والمحدثات المختلفة المتعاقبة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 252 وهذا مما يظهر فيه من الفساد والتناقض أعظم مما يظهر في قول أولئك. وإذا دفعوا ذلك بما يجعلونه صادراً عن الأول من اللازم لذاته، كالعقل الأول ولوازمه، لم يكن هذا دافعاً لما يلزم قولهم من الفساد. فإن ما كان لازماً لذاته مع وحدته، يقال فيه ما يقال فيه من امتناع صدور الأمور المختلفة والحوادث الدائمة عنه، ولهذا ينتهون إلى إثبات العقل الفعال، ويقولون: إنه صدر عنه فلك القمر ونفسه، والعناصر التي تحته، مع اختلاف أنواعها وصفاتها وأقدارها، وهو في نفسه بسيط، ثم يقولون: إنه بسبب حركات الأفلاك حصلت استعدادات مختلفة لما يفيض منه. والكلام في تلك الحركات المختلفة كالكلام في غيرها، فلا بد لهم من إسناد الأمور المختلفة الأنواع والأقدار والصفات، والحوادث المختلفة الأنواع والأقدار والصفات، إلى ذات بسيطة مجردة عن كل صفة وفعل يقوم بها، مستلزمة لكل ما يصدر عنها، وهذا فيه من التناقض والفساد أضعاف ما في قول أولئك. ومن سلم من الفلاسفة أن الرب تقوم به الصفات والأفعال الاختيارية، فهؤلاء حدوث كل ما سوى الله على قولهم أظهر، وقدم شيء من العالم على قولهم أبعد. ولهذا كان القائلون بهذا الأصل من الأساطين لا يعرف عنهم القول بقدم صورة الأفلاك، إذ أول من عرف عنه القول بقدم صورة الأفلاك هو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 253 أرسطو، لكن يحكى عن بعضهم القول بقدم المادة، وقد يريدون قدم جنسه لا قدم شيء معين، ومنهم من يقول بقدم شيء معين. وأما أبو البركات فإنه من المثبتين للصفات والأفعال القائمة بذاته، وهو لم يقم حجة على قدم شيء من العالم، وإنما أبطل قول من قال بأنه فعل بعد أن لم يفعل. والذي تقتضيه حججه العقلية الصحيحة وحجج سائر العقلاء، إنما هو موافق لما أخبرت به الرسل لا مخالف لها. وكأن القول الوسط لم يعرفه، كما لم يعرفه الرازي وأمثاله. ولو عرفوه لكان هو المتصور عندهم دون غيره، وإنما استطال ابن سينا، وأمثاله من الفلاسفة الدهرية، على أولئك بما وافقوهم عليه من نفي الصفات. ولهاذ تجد ابن سينا يذكر قول إخوانه وقول أولئك المتكلمين فقط. ومعلوم أن فساد أحد القولين لا يستلزم صحة القول الآخر، إلا أن تنحصر القسمة فيهما. فأما إذا أمكن أن يكون هناك قول ثالث هو الحق، لم يلزم من فساد أحد القولين صحة القول الآخر. وهذا مضمون ما ذكره في كتبه كلها، وما ذكره سائر هؤلاء الفلاسفة. كلام ابن سينا في الإشارات وتعليق ابن تيمية عليه وملخص ذلك ما ذكره في الإشارات، التي هي مصحف هؤلاء الفلاسفة. قال: أوهام وتنبيهات. قال قوم: إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه، لكن إذا تذكرت ما قيل في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 254 شرط واجب الوجود، لم تجد هذا المحسوس واجباً، وتلوت قوله تعالى: {لا أحب الأفلين} [الأنعام: 76] . فإن الهوى في حظيرة الإمكان أفول ما. قلت: هذا القول هو قول الدهرية المحضة من الفلاسفة وغيرهم، الذين ينكرون صدور العالم عن فاعل أو علة مستلزمة له، وهو الذي أظهر فرعون وغيره. وإليه يرجع عند التحقيق قول القائلين بوحدة الوجود من قدماء الفلاسفة. ومن هؤلاء الفلاسفة الذين يدعون التحقيق والتوحيد والمعرفة، كابن عربي وابن سبعين ونحوهما، فإن هؤلاء لا يثبتون موجودين متباينين أحدهما أبدع الآخر، بل كل وجود في الوجود فهو الوجود الواجب عندهم. ثم لما رأوا أن الموجودات فيها اختلاف وتفرق، وفيها ما حدث بعد وجوده، احتاجوا إلى أن يجمعوا بين كون الوجود واحداً بالعين، وبين ما يوجد فيه من التفرق والاختلاف، فتارة يقولون: الأعيان ثابتة في العدم، ووجود الحق فاض عليها، فيجمعون بين كون المعدوم شيئاً ثابتاً في العدم غنياً عن الله تعالى، كما قال ذلك من قاله من المعتزلة والشيعة، ويضمون إلى ذلك أن وجوده وجود الخالق تعالى. وهذا لم يقله أحد من أهل الملل، بل ولا من الفلاسفة الإلهيين. وهذا حقيقة قول ابن عربي. وتارة يجعلون الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، والأعيان هي الممكنات، كما يقوله صاحبه القونوي. وابن سينا وأتباعه يقولون الوجود الواجب هو المطلق بشرط الإطلاق عن كل أمر ثبوتي، وهذا أفسد من ذاك، فإن المطلق بشرط إطلاقه لا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 255 وجود له في الخارج، وبتقدير وجوده فهو يعم ما تحته عموم الجنس والعرض العام، والعالم بشرط سلبه عن كل أمر ثبوتي هو وجود مقيد بالعدم وسلب الوجود، هذا أبعد عن الوجود من المقيد بسلب الوجود والعدم، فإن ما قيد بانتفاء الوجود والعدم، أقرب إلى العدم والامتناع مما قيد بسلب الوجود والعدم. ومع هذا فهذا المطلق لا يوجد إلا بوجود الأعيان، لا يتصور أن يكون مبدعاً لها ولا علة لها، بل غايته أن يكون صفة لها أو جزءاً منها، فيكون الوجود الواجب صفة للمكنات أو جزءاً منها، وما كان جزءاً من الممكن أو صفة له أولى أن يكون ممكناً، فإما أن ينفوه أو يجعلوه محتاجاً إلى المخلوقات، والمخلوقات مستغنية عنه. وتارة يجعلونه مع الممكنات كالمادة في الصورة، أو الصورة في المادة، نحو ذلك مما يقوله ابن سبعين ونحوه. وتارة لا يثبتون شيئاً آخر، بل هو عين الموجودات، وهي أجزاء له وأبعاض، كما قد يقوله التلمساني وأمثاله، وهذا محض قول الدهرية المحضة، الذين يجعلون هذا المحسوس واجباً بنفسه. لكن طريقة ابن سينا وأتباعه في الرد عليه مبينة على أصله في توحيد واجب الوجود ونفي صفاته، وهي طريقة ضعيفة كما بين فسادها في غير هذا الموضع. فلا يمكن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالفلاسفة الإلهية الرد على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 256 أولئك الدهرية الطبيعية بمثل هذه الطريق، بل بيان كون المشاهدات ليس واجبة بنفسها، بل مفتقرة غلى غيرها، يمكن بوجوه كثيرة، كما قد بسط في موضعه، إذ المقصود هنا ذكر كلامه في أفعال الرب تعالى، وما ذكره في قدم العالم. قال: وقال آخرون: بل هذا الوجود المحسوس معلول، ثم افترقوا. فمنهم من زعم أن أصله وطينته غير معلولين، لكن صنعته معلولة. وهؤلاء فقد جعلوا في الوجود واجبين، وأنت خبير باستحالة ذلك. ومنهم من جعل واجب الوجود لضدين أو لعدة أشياء، وجعل غير ذلك من ذلك، هؤلاء في حكم الذي قبلهم. قلت: هؤلاء كالمجوس القائلين بأن له أصلان: النور والظلمة، وهما قديمان، فإن هذا أحد قوليهم، والآخر أن الظلمة محدثة. والقائلون بالقدماء الخمسة كديمقراطيس ومن اتبعه، كابن زكريا الطبيب الملحد، يقولون بقدم الباري والنفس والمادة والدهر والخلاء. فهؤلاء يجعلون الواجب أكثر من واحد، وهم مع هذا يقولون بأن أصله غير معلول، وطينته معلولة. وأما من جعل المبدع أكثر من اثنين فهذا لا يعرف. فقوله: منهم من زعم أن أصله وطينته معلولة يتناول هذا القول، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 257 كما يتناوله قول من جعل وجوب الوجود لعدة أشياء، وجعل غير ذلك من ذلك، وقد يحكى عن طائفة من القدماء أنهم قالوا: كانت أجزاء العالم مبثوثة، ثم إن الباري ألفها، لكن هؤلاء قد يقولون: إنها معلولة عن الواجب بنفسه، فإن هذا القول الذي قاله أئمة الفلاسفة وقدماؤهم وأساطينهم، وهو أن المادة العالم قديمة، وصنعته محدثة، لم يذكره ابن سينا، فإن هؤلاء لا يقولون: إن المادة غير معلولة، بل يقولون: هي مبدعة مفعولة للباري. وهذا القول الذي هو قول أئمة الفلاسفة وأساطينهم لم يتعرض لحكايته، ولا لرده وإبطاله، وليس في كلامه ما يبطله. وقد قالوا: إن أول من قال بقدم صنعة العالم من هؤلاء الفلاسفة هو أرسطو، فهذا كلامه في حكاية مذاهبهم. وأما رده الأقوال التي حكاها بامتناع وجود واجبين فهو بناء على نفي الصفات، وهو توحيده الذي قد علم فساده، وبين ذلك في غير هذا الموضع. ثم أخذ بعد ذلك في ذكر مقالة من قال بحدوث العالم من نفاة الأفعال القائمة به، ومن قال بقدمه، فلم يذكر إلا هذين القولين مع تلك الأقوال الثلاثة، فكان مجموع ما ذكره خمسة أقوال. كلام الرازي في شرح الإشارات قال الرازي في شرح ذلك: المسألة العاشرة في مذاهب أهل العلم في إمكان العالم وحدوثه ثم ذكر كلام ابن سينا، وقال في شرحه: أقول: أهل العالم فريقان: منهم من أثبت أكثر من واجب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 258 وجود واحد، ومنهم من لم يقل إلا بالواجب الواحد. أما الفريق الأول فقد تحزبوا إلى ثلاث فرق: أحدها: الذين زعموا أن هذا العالم المحسوس واجب لذاته، على ما هو عليه من الشكل والمقدار والهيئة. قال الشيخ: لكنك إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجباً. ثم استدل الرازي بما يدل على أن الأجسام ممكنة، وقد ذكرت هذه الأدلة وضعفها في غير هذا الموضع. ولهذا قال الرازي لما ذكرها: هذا مجموع ما يدل على أن الأجسام ممكنة، وقد عرفت ما في كل واحد منها. المقالة الثانية: أن العالم له ذات وصفات، فأما الذات فهي للأجسام، وهي واجبة لذواتها. ومنهم من قال: الذات هي الهيولى التي هي محل الجسمية، وهي واجبة لذاتها. فأما الصفات وهي الشكل والمقدار والتحيز والحركة والسكون، فكل ذلك من الممكنات. قال: وهذه المقالة أيضاً باطلة بالأدلة المذكورة على فساد المقدمة الأولى. قال: والمقالة الثالثة: أن هذا العالم ممكن الوجود بذاته وصفاته، لكن واجب الوجود مع ذلك أكثر من واحد. ثم هؤلاء أيضاً فرق: منهم من أثبت إلهين واجبين لذاتيهما، أحدهما خير، والآخر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 259 شرير. ومنهم من قال: خمسة أشياء واجبة لذواتها: الباري، والنفس، والهيولى، والدهر، والخلاء. قال: وفساد هذه الأقاويل وأشباهها إنما يظهر بالأدلة المذكورة على أن واجب الوجود يستحيل أن يكون أكثر من واحد. تعليق ابن تيمية قلت: فقد تداخلت المقالتان في كلامه، كما تداخل في كلام الآخر، وذلك أن من قال: الأجسام أو الهيولى التي هي محل الجسمية واجبة لذاتها وصفاتها ممكنة، فهو من جنس من قال بخمسة أشياء واجبة، إذ كلاهما يقول: إن الباري أحدث التأليف والصنعة، بخلاف من قال بإلهين: الخير والشر: فإنه يقول: كلاهما فاعل، وليس في هذه الأقوال قول من يجعل وجوب الوجود لعدة أشياء، وجعل ما سواها مفعولاً لها، كما يقوله القائلون بالأصلين: النور والظلمة من المجوس. لكن القائلون بقدم النفس يقولون: إنها أحبت الهيولى، ولم يمكن تخليصها منها إلا بإحداث العالم. والقائلون بقدم المادة فقط لا يقولون بذلك. والقائلون بقدم الهيولى أو بعض الأجسام أو نحو ذلك، لا يلزمهم أن يقولوا: إنها واجبة الوجود بنفسها، بل قد يقولون: إنها مبدعة مفعولة للواجب بنفسه. وهذا المشهور عن قدماء الفلاسفة. والرازي قد ذكر في شرح الإشارات من كتبه: أن هؤلاء يقولون إن الباري هو الواجب بذاته، وأن النفس وغيرها معلولة له. وذكر هنا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 260 عنهم: أنهم يصفون الجميع بوجوب الوجود، وهذا تناقض في نقل أقوالهم. ثم إبطال هذه الأقوال بناء على توحيدهم، الذي مضمونه نفي الصفات، لكون الواجب لا يكون إلا واحداً، قد عرف فساده. قال الرازي: فأما القائلون بأن واجب الوجود واحد، فقد اختلفوا على قولين: منهم من قال: إنه تعالى لم يكن في الأزل فاعلاً، ثم صار فيما لا يزال فاعلاً، وهم المليون بأسرهم. ومنهم من قال: أنه كان في الأزل فاعلاً، وهم أكثر الفلاسفة. قلت: القول الذي حكاه عن المليين بأسرهم هو قول طوائف من أهل الكلام المحدث منهم، الذين ذمهم السلف والأئمة، ولا يعرف هذا القول عن نبي مرسل، ولا أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين. لم يقل أحد من هؤلاء: إن الله لم يكن فاعلاً ثم صار فاعلاً، وإنما المعروف عنهم ما جاء به الكتاب والسنة، من أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، فكل ما سواه مخلوق حادث بعد أن لم يكن. وهذا هو الذي نطق به الكتاب والسنة، واتفق عليه أهل الملل. وكذلك نقله عن جمهور الفلاسفة: إن الله لم يزل فاعلاً، كلام مجمل، فجماهير الفلاسفة لا يقولون بقدم العالم. وأول من ظهر عنه منهم القول بقدمه هو أرسطو. ولا يلزم من قال: إنه لم يزل فاعلاً، أن يقول بقدم شيء من العالم، إذ يمكنه مع ذلك أن يقول: لم يزل فاعلاً لشيء بعد شيء، فكل ما سواه مخلوق محدث، وهو لم يزل فاعلاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 261 وقد أخبرت الرسل أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأن الله كان ولم يكن قبله شيء، وكان حينئذ عرشه على الماء، ثم كتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض. وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قول أحد من السلف، هذا القول الذي حكاه عن أهل الملل كلهم، بل صرح أئمة الإسلام بأن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، قادراً على ما يشاء، فاعلاً يقوم به الفعل الذي يشاؤه، بل وصرحوا أنه لم يزل فاعلاً، وأن الحي لا يكون إلا فعالاً، يقوم به الفعل. ولفظ بعضهم: أن الحي لا يكون متحركاً، وعبارة بعضهم: كان محسناً فيما لم يزل، عالماً بما لم يزل، إلى ما لم يزل. وعبارة بعضهم: كان غفوراً رحيماً، عزيزاً حكيماً، ولم يزل كذلك. فنقل الرازي لمقالة أهل الملل، كنقل ابن سينا لمقالات الفلاسفة. فكلا الرجلين لم يذكر في هذا المقام أقوال أئمة الفلاسفة المتقدمين الأساطين، ولا أقوال الأنبياء والمرسلين، ومن اتبعهم من الصحابة والتابعين، كأئمة المسلمين وعلماء الدين، بل هذه الخمسة الأقوال التي ذكرها هذان وأتباعهما، ليست قول هؤلاء، ولا قول هؤلاء. ولهذا كان جميع ما ذكروه، من الأقوال التي ينصرونها ويزيفونها، أقوالاً يظهر فسادها وتناقضها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 262 كلام ابن سينا في الإشارات قال ابن سينا: ومنهم من وافق على أن واجب الوجود واحد، ثم افترقوا، فقال فريق منهم: إنه لم يزل ولا وجود لشيء عنه، ثم ابتدأ وجود شيء عنه، ولولا هذا لكانت أحوال متجددة من أصناف شتى في الماضي لا نهاية لها، موجودة بالفعل، لأن كل واحد منهما وجد، فالكل وجد، فيكون لما لا نهاية له من أمور متعاقبة كلية منحصرة في الوجود. قالوا: وذلك محال، وإن لم تكن كلية حاصرة لأجزائها معاً، فإنها في حكم ذلك. وكيف يمكن أن تكون حال من هذه الأحوال توصف بأنها لا تكون إلا بعد ما لا نهاية لها، فيكون موقوفاً على ما لا نهاية له، فيقطع إليها ما لا نهاية له. ثم كل وقت يتجدد يزداد عدد تلك الأحوال، وكيف يزداد عدد ما لا نهاية له؟ ومن هؤلاء من قال: إن العالم وجد حين كان أصلح لوجوده، ومنهم من قال: لم يمكن وجوده إلا حين وجد. ومنهم من قال: لا يتعلق وجوده بحين وشيء آخر، بل بالفاعل، ولا يسأل عن لم؟. فهؤلاء هؤلاء. وبإزاء هؤلاء قوم من القائلين بوحدانية الأول، يقولون: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 263 إن واجب الوجود بذاته واجب الوجود في جميع صفاته، وأحواله الأولية، وإنه لن يتميز في العدم الصريح حال أولى به فيها ألا يوجد شيئاً، أو بالأشياء ألا توجد عنه أصلاً، وحال بخلافها ولا يجوز أن تسنح له إرادة متجددة إلا لداع، ولا أن تسنح جزافاً. وكذلك لا يجوز أن تسنح طبيعة أو غير ذلك بلا تجدد حال. وكيف تسنح إرادة لحال تجددت، وحال ما تجدد، كحال ما تمهد له التجدد فيتجدد؟ وإذا لم يكن تجدد كانت حال ما لم يتجدد شيء حالاً واحدة مستمرة على نهج واحد. وسواء جعلت التجدد لأمر تيسر أو لأمر زال مثلاً كحسن من الفعل وقتاً ما تيسر، أو وقت معين، أو غير ذلك مما عد، أو لقبح كان يكون له، أو كان قد زال، أو عائق أو غير ذلك كان فزال. قالوا: فإن كان الداعي إلى تعطيل واجب الوجود عن إفاضة الخير والوجود هو كون المعلول مسبوق العدم لا محالة، فهذا الداعي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 264 ضعيف قد انكشف لذي الإنصاف ضعفه، على أنه قائم في كل حال، وليس في حال أولى بإيجاب السبق من حال. وأما كون المعلول ممكن الوجود في نفسه، واجب الوجود لغيره، فليس يناقض كونه دائم الوجود بغيره، كما نبهت عليه. وأما كون غير المتناهي كلاً موجوداً، ككون كل واحد وقتاً ما موجوداً، فهو توهم خطأ، فليس إذا صح على كل واحد حكمه، صح على كل محصل، وإلا لكان يصح أن يقال: الكل من غير المتناهي يمكن أن يدخل في الوجود، لأن كل واحد يمكن أن يدخل في الوجود، فيحتمل الإمكان على الكل، كما يحمل على كل واحد. قالوا: ولم يزل غير المتناهي من الأحوال التي يذكرونها معدوماً إلا شيئاً بعد شيء، وغير المتناهي المعدوم قد يكون فيه أقل وأكثر. ولا يثلم ذلك كونها غير متناهية في العدم. وأما توقف الواحد منها على أن يوجد قبله ما لا نهاية له، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 265 واحتياج شيء منها إلى أن يقطع إليه ما لا نهاية له فهو قول كاذب. فإن معنى قولنا: توقف على كذا، هو أن الشيئين وصفا معاً بالعدم، والثاني لم يكن يصح وجوده إلا بعد وجود المعلول الأول، وكذلك الاحتياج. ثم لم يمكن البتة، ولا في وقت من الأوقات، يصح أن يقال: إن الأخير كان متوقفاً على وجود ما لا نهاية له، أو محتاجاً إلى أن يقطع إليه ما لا نهاية له، بل أي وقت فرضت وجدت بينه وبين كون الأخير أشياء متناهية، ففي جميع الأوقات هذه صفته، لا سيما والجميع عندكم وكل واحد واحد، فإن عنيتم بهذا التوقف أن هذا لم يوجد إلا بعد وجود أشياء كل واحد منها في وقت آخر لا يمكن أن يحصى عددها، وذلك محال، فهذا نفس المتنازع فيه، أنه ممكن أو غير ممكن، فكيف يكون مقدمة في إبطال نفسه؟ أبان يغير لفظها بتغير لا يتغير به المعنى؟ قالوا: فيجب من اعتبار ما نبهنا عليه أن يكون الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كوناً أولياً، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 266 وما يلزم من ذلك الاعتبار لزوماً ذاتياً، إلا ما يلزم من اختلافات تلزم عندها فيتبعها التغير، فهذه هي المذاهب وإليك الاعتبار بعقلك دون هواك، بعد أن تجعل واجب الوجود واحداً. شرح الرازي لكلام ابن سينا قلت: والرازي قد شرح هذا الكلام إلى أن وصل إلى آخره، وهو قوله: وإليك الاختيار بعقلك دون هواك، بعد أن تجعل واجب الوجود واحداً. وقال: فاعلم أن الغرض منه الوصية بالتصلب في مسألة التوحيد. ولكنه يكون كلاماً أجنبياً عن مسألة القدم والحدوث، وإن كان الغرض منه إنما هي المقدمة التي منها يظهر الحق في مسألة القدم والحدوث فهو ضعيف، لأن القول بوحدة واجب الوجود لا تأثير له في ذلك أصلاً، لأن القائلين بالقدم يقولون: ثبت إسناد الممكنات بأسرها إلى الواجب بذاته، فسواء كان الواجب واحداً أو أكثر من واحد، لزم من كونه واجباً دوام آثاره وأفعاله. وأما القائلون بالحدوث فلا يتعلق شيء من أدلتهم بالتوحيد والتتنية، فثبت أنه لا تعلق لمسألة القدم والحدوث بمسألة التوحيد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 267 تعليق ابن تيمية قلت: لقائل أن يقول: بل ابن سينا عرف أن قوله لا يتم إلا بما ادعاه من التوحيد الذي مضمونه نفي صفات الرب وأفعاله القائمة بنفسه، كما وافقه على ذلك من وافقه من المعتزلة، وبموافقتهم له على ذلك استطال عليهم، وظهر تناقض أقوالهم، وإن كان قوله أشد تناقضاً من وجه آخر. لكنه صار يحتج على بطلان قولهم بما اشتركوا هم وهو فيه من نفي صفات الله الذي هو أصل الجهمية. وهكذا هو الأمر. فإن حجة القائلين بقدم العالم، التي اعتمدها أرسطو طاليس وأتباعه، كالفارابي وابن سينا وأمثالهما، لا تتم إلا بنفي أفعال الرب القائمة بنفسه، بل وتبقى فاته، وإلا فإذا نوزعوا في هذا الأصل بطلت حجتهم، وإذا سلم لهم هذا الأصل صار لهم حجة على من سلمه لهم، كما أن عليهم حجة من جهة أخرى. ولهذا كان مآل القائلين بنفي أفعال الرب الاختيارية القائمة به في مسألة قدم العالم: إما إلى الحيرة والتوقف، وإما إلى المعاندة والسفسطة، فيكونون إما في الشك وإما في الإفك. ولهذا كان الرازي يظهر منه التوقف في هذه المسألة في منتهى بحثه ونظره، كما يظهر في المطالب العالية، أو يرجح هذا القول تارة، كما رجح القدم في المباحث المشرقية، وهذا تارة، كما يرجح الحدوث في الكتب الكلامية. وابن سينا وصى بالأصل المتضمن نفي صفات الرب وأفعاله القائمة به. ثم ذكر القولين في قدم العالم وحدوثه، مع ترجيحه القدم، مفوضاً إلى الناظر الاختيار، بعد أن يسلم الأصل الذي به يحتج على القائلين بالحدوث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 268 ونحن نبين إن شاء الله أن قوله، مع تسليم نفي الصفات والأفعال القائمة بالله، أشد فساداً وتناقضاً من قول القائلين بالحدوث، فإن كان في قول هؤلاء ما يناقض صريح العقل، ففي قول أصحابه من مناقضة المعقول الصريح ما هو أشد من ذلك. وذلك أنه إذا كانت الذات بسيطة ليس لها فعل يقوم بها أصلاً، بل كان امتناع صدور الأمور المختلفة، والحادثة عنها بوسط أو بغير وسط دائماً، أشد امتناعاً من صدور ذلك بعد أن لم يصدر، فإنه إن أمكن أن يحدث عنها حادث بلا سبب محدث منها، أمكن حدوث الحوادث عنها بعد أن لم تحدث، وإن لم يمكن كان حدوث الحوادث المختلفة عنها، بوسط أو غير وسط دائماً من غير فعل منها، هو أبعد في الامتناع من صدور المختلفات عنها بعد أن لم تصدر. ولهذا كان أرسطو طاليس مقدم هؤلاء لم يذكر علة فاعلة لحدوث الحركة، وإنما ذكر أن سبب الحوادث الحركة الفلكية وما يحدث عنها، وذكر لذلك علة غائية. فذكر أن كل متحرك فلا بد له من محرك يحركه، وجعل الأول يحرك الفلك، كما يحرك الإمام المقتدى به المشبه به للمأموم المقتدى المتشبه، وقد يشبه ذلك، كما يحرك المعشوق عاشقه. ومعلوم أن هذا التحريك ليس هو بفعل من المحرك، ولا قصد، وتلك الحركة حادثة بعد أن لم تكن، فنسأل عن الفاعل لتلك الأجسام الممكنة، فإن الممكن وإن كان قديماً لا بد له من فاعل، فما الفاعل لها؟ ونسأل عن العلة الفاعلة لتلك الحوادث، فإن المتحرك ممكن، فالمحرك إذا كان أموراً تحدث في ذاته، كما يقولونه في تصورات النفس الفلكية وشوقها، قيل لهم: فما المحدث لتلك التصورات والارادات شيئاً بعد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 269 شيء، وهي أمور ممكنة كانت بعد أن لم تكن، وهي قائمة بممكن هو مفتقر إلى غيره، ليس بواجب بنفسه. معلوم أن الحركة لا يكفي في حدوثها العلة الغائية، بل لا بد من العلة الفاعلية، ومعلوم أن افتقار الفعل إلى الفاعل، إن لم يكن مثل افتقاره إلى الغاية لم يكن دونها، بل العقل يعلم افتقار الفعل الحادث إلى الفاعل قبل علمه بافتقاره إلى الغاية. وأرسطو وأتباعه إنما زعموا افتقاره إلى الغاية المنفصلة عنه، ولم يذكروا احتياجه إلى الفاعل المنفصل عنه. ومعلوم أن الموجب لحدوث الحركة يحدثها شيئاً بعد شيء، فلا بد له من محدث منفصل، كما أنه لا بد له من غاية منفصلة بطريق الأولى، فإن جوز المجوز أن يكون هو المحدث لفعله، من غير افتقار إلى شيء منفصل مع كونه ممكناً، فلنجوز أن يكون هو غاية لنفسه من غير افتقار إلى شيء منفصل مع كونه ممكناً، وذلك ممتنع عندهم. وأيضاً فمن المعلوم أن الممكن الذي ليس له شيء من نفسه، بل ذاته، نفسها من غيره يمتنع أن يكون شيء من أفعاله من نفسه، بدون افتقاره في ذلك إلى غيره، كما يمتنع أن تكون صفاته وأبعاضه من نفسه، من غير افتقار في ذلك إلى غيره. فإن ما به يعلم أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون بنفسه موجوداً، يعلم أن سائر ما يحصل له من الصفات والأفعال لا تكون بنفسه، فإن ما لا يوجد بنفسه بل بغيره، كيف يكون موجداً لغيره بنفسه بدون غيره؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 270 والكلام في هذه المسألة من جنس الكلام في مسألة خلق أفعال العباد، فكلما نعلم أن الله خالق أفعال العباد نعلم أنه خالق حركات الفلك إذا قدر أنها اختيارية، وإن قدر أنها اختيارية كان الأمر أولى وأولى، فإن القدرية تنازع في الأول، لا تنازع في الثاني. وليس القائل أن يقول: إن هؤلاء الفلاسفة، كأرسطو وأتباعه، قد يسلكون في حركات الأفلاك الاختيارية مسلك القدرية، الذين لا يقولون: إن الله خالق أفعال العباد. لأنه يقال: أولاً: ليس هذا مذهبهم، بل عندهم أن أفعال الحيوان وغير ذلك من الممكنات صادرة عن واجب الوجود، وهذا هو الموجود في كتب الذين نقلوا مذهبهم، كابن سينا وأمثاله. وأيضاً فيقال لهم: إما تجوزوا على الحي أن يحدث الأفعال من غير سبب من خارج يقتضي حدوث تلك الأفعال، لست أعني من غير مقصور يحدث، بل من غير مقتض للفعل، وإما ألا تجوزوه. فإن لم تجوزوا على الحي ذلك، لزمكم أن الفلك الحي عندكم لا تحدث حركته إلا بسبب منفصل، يكون مقتضياً لفعل الحدوث، لا يكفي أن يكون ذلك متشبهاً به. ثم القول في حدوث اقتضاء ذلك المقتضى، كالقول في حدوث حركة الفلك، فيلزم أن يكون فوق الفلك سبب فاعل للحوادث، وذلك يبطل قولهم. فإنه ليس عندهم فوق الفلك حركة ولا فعل بوجه من الوجوه. وإن جوزوا على الحي أن يحدث الأفعال بغير سبب حادث من غيره، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 271 لم يمتنع حينئذ حدوث العالم من الحي بدون سبب حادث عن غيره. كلام ثابت بن قرة في تلخيص ما بعد الطبيعة وتعليق ابن تيمية عليه فذكر أرسطو طاليس في كتاب ما بعد الطبيعة وهو العلم الإلهي، الذي هو أصل حكمتهم، نهاية فلسفتهم، فيما حكاه عنه ثابت بن قرة، فإنه قال في كتاب تلخيص ما أتى به أرسطو طاليس فيما بعد الطبيعة: إن أرسطو طاليس يأتي في كتابه هذا بأقاويل فيها إغماض، يرمي فيها إلى غرض واحد، إذا وفى حقه من الشرح والبيان، قبل على هذه الجهة، مما جرى الأمر فيه على صناعة البرهان، سوى ما جرى من ذلك مجرى الإقناع. وقال: إنما عنون أرسطو كتابه هذا بما بعد الطبيعة، لأن قصده فيه: البحث عن جوهر غير متحرك، وغير قابل للشوق، إلى شيء خرج عن ذاته. وقال: إن الجوهر الجسماني كله الوجود مبتدأ لمتكون، إنما قوامه بطبيعته الخاصة به، وطبيعته الخاصة به إنما قوامها بصورته الخاصة به، وصورته الخاصة به المقومة لذاته، إنما قوامها بحركته الخاصة به، وكل متحرك بحركة خاصة به، فإنما يتحرك إلى تمام وتمام كل واحد من الأشياء ملائم لطبيعته، وموافق لها. وكل متحرك إلى ما لاءمه، ووافق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 272 طبيعته، فبالشوق والمحبة والتوق منه إليه يتحرك، والشيء المتشوق إليه، علة لحركة المتحرك إليه بالشوق، والشيء المشتاق معلول له من جهة تلك العلة، وفي تلك الحركة، وحركة كل واحد من الأجسام، فتنساق كلها، وترتفع إلى محرك أول لا يتحرك كما بين أرسطو ذلك في كتابه المعروف بـ السماع الطبيعي. لأنه وإن وجد بعضها يحرك بعضاً، فالمتحرك الأقصى متحرك عن محرك غير متحرك، والمحرك الأول علة الصورة المقومة لجوهر كل واحد من الأشياء المتحركة حركة خاصية، فقوام جوهر كل واحد من الأشياء المتحركة، ليس له في ذاته، لكنه من الشيء الذي هو السبب الأول في حركته. فيقال لهم: هب أن الحركة الإرادية لا تتصور إلا بمحبوب منفصل عنها، لكن إذا كان المتحرك ليس واجباً بنفسه، لا هو ولا حركته، فما الموجب له ولحركته؟ وأنتم لم تجعلوا المحرك الأول محركاً إلا من جهة كونه محبوباً معشوقاً، لا من جهة أنه فعل شيئاً أصلاً. قال ثابت: وكذلك ما يقول أرسطو طاليس: إن كل ما يتحرك فحركته بالشوق إلى شيء، والصورة الأولى فيما هو في الكون، وفيما هو موجود الحركة الخاصة به، فالمحرك الأول إذن هو المبدأ والعلة في وجود صور الجواهر الجسمانية كلها وبقائها، إذ كنا متى توهمنا ارتفاع وجود الحركة الطبيعية، وإن شئت أن تقول: القوي من كل واحد من الأجسام التي له، فسد جوهره لا محالة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 273 ثم ذكر سؤالاً وجواباً مضمونه: إن الجوهر الجسماني لا قوام له إلا بطبيعته التي قوامها بحركته الخاصة به. قال: فإن ظن أحد أن هذا الجوهر إذ قدرت صورته الطبيعية باطلة منه، انحل إلى شيء آخر أبسط منه، ليس في طبيعته حركة خاصة به، فيكون حينئذ في ذاته، لا معلول، لكن المركب فيه معلول. فأرسطو طاليس يقول: إن هذا الظن باطل محال، لأن ذلك البسيط إنما يوجد حينئذ في الوهم الفكري فقط. فأما في خاصة نفسه مفرداً، فلا وجود له بالحقيقة، لا قوام لذاته. وليس بهذا المعنى فقط يترك هذا الظن، لكنه يرى أنه يوجد في ذلك البسيط الذي ينحل إليه الجوهر الجسماني في الوهم، إذا توهمنا فساد صورته تلك، قبول صورة أخرى، فهو معلول في ذلك القبول من المحرك الأول. فإن ظن ظان أنه معلول من جهة ذلك القبول فقط، قلنا: فإن أنزلنا إزالة ذلك القبول نفسه من أنه قد بطل، وجب أن تبطل ذاته، يعني فتفسد وتنحل طبيعته التي بها هو حينئذ ما هو، إذ كانت ذاته تلك حينئذ إنما هي التي في طبيعتها القبول. فإن قيل أيضاً: إنها تنحل إلى شيء آخر كان الجواب فيه كما أجبنا في الانحلال الأول، وليس يمكن أن ينحل هذا دائماً إلى ما لا نهاية له. قال: فقد تبين من هذا أن كل جوهر جسماني معلول في جوهره، ووجوده، وبقائه للعلة التي هي المبدأ الأول بحركة الجميع. قلت: فهذا هو تقريرهم لوجود العلة الأولى، التي هي المبدأ الذي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 274 يسميه المتأخرون: واجب الوجود بذاته، وهي طريقة المتقدمين من المشائين. وأما الطريقة المشهورة عند المتأخرين: وهي الاستدلال بمطلق الوجود على الواجب، فهذه هي التي سلكها ابن سينا ومتبعوه، ثم هذه طريقة أرسطو وأتباعه المشائين: مضمونها أن كل جسم لا يتقوم إلا بطبيعته، ولا تتقوم طبيعته إلا بحركة إرادية، لا تتقوم تلك إلا بمحبوب معشوق لا يتحرك، ثم إن أرسطو أورد على نفسه سؤالاً بأنه يمكن تقدير بطلان طبيعة الجسم الخاصة وبطلان حركته، بانحلاله إلى شيء أبسط منه، فلا يكون المحرك علة لذاته، بل علة للتركيب فقط. وأجاب بأن البسيط إنما يوجد في الذهن لا في الخارج. وأجاب أتباعه بجواب ثان، وهو أنه يكون فيما انحل إليه قبول، والقبول حركة. وهذا الجواب ساقط، فإنه إذا قدر أن فيه قبولاً، لم يجب أن يكون ذلك حركة إرادية شوقية. وإذا لم تكن الحركة إرادية شوقية لم يستلزم وجود محبوب، بل يستلزم وجود فاعل مبدع. وهم لم يثبتوا ذلك. وكذلك تقدير أرسطو تقدير فاسد، فإنه إذا قدر أن الحركة لا تتم إلا بطبيعة تستلزم الحركة الإرادية، مع أن في تقدير هذا كلاماً ليس هذا موضع بسطه، لكن بتقدير أن هذا سلم له، فغاية ما في هذا أن يكون الجسم المتحرك بالإرادة مفتقراً إلى المعشوق الذي هو غايته وأنه لا يتم وجوده إلا به، فيكون وجوده شرطاً في وجوده، بأن يقال: لا قوام للجسم إلا بطبيعته، ولا قوام لطبيعته إلا بحركته، ولا قوام لحركته إلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 275 بالمحرك المنفصل الذي هو محبوب معشوق، فغاية ما في هذا أنه لابد من وجود محبوب معشوق، ولا يمكن وجود الجسم المتحرك إلا به، لكن مجرد المحبوب المنفصل لا يكفي في وجود الجسم الممكن الذي ليس بواجب بذاته، ولا في وجود طبيعته، ولا في وجود احتياجه إلى المبدع لذلك، ولا دليلاً على وجود المبدع لذلك كله، بل اكتفوا بوجود المعشوق المنفصل. وهذا مقام يتبين فيه جهل هؤلاء القوم وضلالهم، لكل من تدبر نصوص كلامهم الموجود في كتبهم، الذي ينقله أصحابه عنهم، فإنا نحن لا نعرف لغة اليونان، ولم ينقل ذلك عنهم بإسناد يعرف رجاله، ولكن هذا نقل أئمة أصحابهم الذين يعظمونهم ويذبون عنهم بكل طريق. وقد نقلوا ذلك إلينا وترجموه باللسان العربي، وذكروا أنهم بينوه وأوضحوه وقدروه وقربوه إلى أن تقبله العقول ولا ترده، فكيف إذا أخذ الكلام أولئك على وجهه؟ فإنه يتبين فيه من الجهل بالله، أعظم مما يتبين من كلام المحسنين له. ولا ريب أن الفلاسفة أتباع أرسطو يقل جهلهم ويعظم علمهم، بحسب ما اتفق لهم من الأسباب التي تصحح عقولهم وأنظارهم، فكل بالنبوات أعلم وإليها أقرب، كان عقله ونظره أصح. ولهذا يوجد لابن سينا من الكلام ما هو خير من كلام ثابت بن قرة ويوجد لأبي البركات صاحب المعتبر من الكلام ما هو خير من كلام ابن سينا. وكلام أرسطو نفسه دون كلام هؤلاء كلهم في الإلهيات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 276 ثم إنهم مع أنهم لم يذكروا المبدع للأجسام الممكنة المتحركة، اللهم إلا أن يكون هؤلاء قائلين بأن الأجسام الفلكية المتحركة واجبة الوجود بنفسها، وأنها مع ذلك مفتقرة إلى المحرك الأول. وهذا حقيقة قول أرسطو، فهذا أعظم في التناقض، فإنه إذا قدر إن الأجسام الفلكية واجبة الوجود بنفسها، وهي متحركة حركة تفتقر فيها إلى غيرها، كان واجب الوجود متحركاً مفتقراً في حركته إلى غيره. وحينئذ فكونه متحركاً لا يفتقر في حركته إلى غيره أولى، فإنهم حينئذ يكونون قد أثبتوا واجباً بنفسه لا يتحرك أصلاً، وواجباً بنفسه يفتقر في الحركة إلى محبوب غيره، لا قوام له إلا به. وحينئذ فإثبات واجب يتحرك لا يفتقر في الحركة إلى غيره، أولى بالإمكان من هذا، فإن كلاهما متحرك، لكن هذا يفتقر إلى غيره، وهذا مستغن عنه. هم قد جعلوا على هذا التقدير واجب الوجود بنفسه اثنين: واجباً لا يفتقر إلى غيره، وواجباً يفتقر إلى غيره. فإذا قدر واجباً يتحرك بنفسه لنفسه، من غير افتقار إلى غيره، كان أولى بالجواز، ولم يكن في ذاك محذور، إلا لزمهم فيما أثبتوه ما هو أشد منه، وسيأتي تمام كلامهم في ذلك، وقولهم: إن الجسم لا يجوز أن يتحرك بنفسه حركة لا نهاية لها. فهذا فصل، وهنا فصل ثان، وهو أنهم مع إثباتهم لكون الفعل معلولاً، إنما أثبتوه بكونه محتاجاً إلى معشوق يكون هو مبدأ الحركة الإرادية، من جهة كونه غاية لا فاعلاً، وليس في هذا ما يدل على أن الفلك له علة مبدعة فاعلة له، كما لا يخفى على عاقل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 277 ثم ادعوا أن ذلك المعشوق الذي هو العلة الغائية لا يجوز أن يكون متحركاً، ولا له حركة أصلاً. ومن هنا قالوا بقدم العالم، إذ كان حدوث المحدثات يقتضي حركة يحدث بها، فمنعوا حدوث الحوادث عن المعشوق الذي سموه المحرك الأول، لئلا يكون فيه تغير. وحدوث الحوادث عن علة لا تغير فيها ممتنع بصريح العقل. وكلامهم في ذلك في غاية التناقض. وهذا منتهى نظر القوم وعلمهم وحكمهم. فلما قال: فقد تبين من هذا أن كل جوهر إنساني معلول في جوهره ووجوده وبقائه للعلة التي هي المبدأ لحركة الجميع فهذا كلامهم. قلت وقد عرف أنه لم يبين، إن سلم له ما ذكره من المقدمات، إلا أنه لا بد للحركة من محرك، ولم يبين بعد أن المحرك لا يتحرك، ولا أن المحرك للأجسام أمر منفصل عنها. فقال في بيان ذلك: ولأنه ليس يلزم أن يكون كل عدم أقدم بالزمان من الوجود، فيما علة وجوده شيء غيره، ولا كل الأنظام أقدم من النظام، ولا كل بسيط أقدم من المركب، لأنه ليس كل ما كان تقدمه لغيره، فإن قوام غيره به وبسببه، أو وجود غيره عنه، وجب أن يكون متقدمه في الزمان، وكذلك ما يقول أرسطو طاليس: إن الأفضل في المبدأ الأول ما يوجد الأمر عليه، من أنه علة وجود كل موجود، وسبب بقاء كل باق منذ الأبد، من غير أن يكون إنما صار كذلك في زمان، وبعد أن لم يكن كذلك، إذ ليس موجود ولا شيء له بقاء إلا به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 278 وقال: وذلك أنه لم يزل، ولا وجود ولا قوام للفلك ولسائر الأجسام الطبيعية إلا بالمبدأ الأول، يعني المحرك الأول، إذ صورة كل واحد منها هي حركته الخاصة به، وحركته الخاصة به هي المقومة لجوهره، التي بارتفاعها يرتفع وجوده. فإذن المحرك الأول علة وجود هذه الحركة. قال: فهذا هو الأفضل من أن تكون العلة الأولى علة وجود العالم في زمان. فيقال له: أنت لم تذكر إلا أنه لا وجود للجسم المتحرك إلا بحركته، وهذا إذا سلم لك لم يدل على أنه مبدع وفاعل له أصلاً، بل ولا يثبت أن له غاية منفصلة عنه، بل ادعيت ذلك دعوى. نعم: إذا ثبت أن الحركة إرادية فلا بد لها من مراد، أما أن كون المراد منفصلاً عن المتحرك أو غير منفصل، فهذا يحتاج إلى دليل ثان ولم تبينه، ثم إذا بينته يلزم افتقار المتحركات إليه، وكونه شرطاً في وجودها لا يقتضي كونه مبدعاً لها وفاعلاً لها، إذ مجرد العلة الغائية من هذه الجهة، لا تكون هي الفاعلة المبدعة بالضرورة وواتفاق العقلاء، وهم لم يدعوا ذلك. لكن لو قال قائل غيرهم بجواز أن يكون الأول غاية وفاعلاً، قلنا: نعم، لكن هذا ينقض ما بنوه من حيث يكون فاعلاً للحوادث مبدعاً لها، وهم يأبون ذلك، حيث يكون فيه جهتان: جهة كونه مراداً محبوباً، وجهة كونه فاعلاً مبدعاً. وهذا إذا قيل: إنه حق، أفسد أصولهم ومذهبهم. والمسلمون لا ينكرون أن يكون الله رب كل شيء وإلهه، فهو من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 279 جهة كونه رباً هو الخالق المبدع الفاعل، ومن جهة كونه إلهاً هو المعبود المألوه المحبوب. لكن هذا القول الذي يقوله المسلمون ينقض قولهم ويبطله، فثبت بطلان قولهم على ما ذكروه، وعلى ما يقوله المسلمون. فتبين أن قوله: إن الأفضل في الأول ما يوجد الأمر عليه من أنه علة وجود كل موجود كلام مبني على محض الدعوى والكذب. أما الدعوى: فإنه ادعى أن المتحرك لا بد له من معشوق منفصل. وأما الكذب: فقوله: إن ذلك هو العلة في وجود المتحرك، وإنما هو مجرد شرط، وغايته أن يكون جزءاً من أجزاء العلة في وجوده. فهذا إذا سلمت المقدمات كلها، وهو أن الفلك يتحرك بالإرادة، وأن المتحرك بالإرادة لا وجود له إلا بحركته، وأن حركته لا بد لها من معشوق منفصل -لم يثبت إلا مجرد كون ذلك شرطاً في وجوده، لا علة تامة لوجوده، فكيف إذا قيل: إن المقدمات الثلاث باطلة، كما هو مذكور في موضعه؟ ثم قال: فهذا هو الأفضل من أن تكون العلة الأولى علة وجود هذا العالم في زمان. قال: وكان يجب من هذا أن الأشياء الموجودة لم يكن لها بتة وجود ثم أخرجت إلى الوجود، فيلزم من ذلك أن يكون لوجود العالم علة أخرى مشاركة للعلة الأولى فيه، أو فوق العلة الأولى، لأنه إن لم يكن للعلة الأولى في إخراج العالم إلى الوجود أمر من الأمور، ولا ها هنا علة تعين، أو تدعو العلة الأولى إلى إخراج العالم إلى الوجود غير ذاتها، ولا علة ترتبها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 280 وتعوقها، فليس لتأخر وجود العالم عن وجود ذات العلة الأولى سبب يوجبه، فكيف يمكن أن يتأخر وجود زماناً بلا نهاية، ثم يخرج إلى الوجود، كحال من كان نائماً فانتبه؟. فيقال لهؤلاء الذين مثلهم، كما قال عبد الله بن عمر، لما سأله بعض الناس عن المحرم يقتل البعوض: انظروا إلى هؤلاء يسألون عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم!. وكما يقال عن بعض الناس إنه كان يزني بامرأة وهو صائم، فقال لها: غطي وجهك فقد كره العلماء القبلة للصائم. وكما يقال عن بعض النصارى، إذ قال لبعض المسلمين: أنتم تقولون: إن راعياً هو رسول الله، فيقال له: أنتم تقولون: إن جنيناً في بطن أمه هو الله. ونظائر هذه الأمثال كثيرة، التي ينكر فيها الرجل شيئاً، وقد التزم ما هو أولى بالإنكار منه. فإن هؤلاء قالوا: إذا كان العالم محدثا بعد أن لم يكن، لزم افتقار العالم إلى شيء غير العلة الأولى. وهم لم يذكروا أن العلة الأولى أبدعت العالم أصلاً، بل قولهم مضمونه: إن العالم أبدعه غيرها، أو هو واجب آخر بنفسه ليس هو مبدع، ولكن هو محتاج إليها احتياج المحب إلى محبوبه. وهم لم يثبتوا هذا الاحتياج إلا بمقدمات، إذا حقق الأمر عليهم فيها ظهر جهلهم وتناقضهم. فغاية ما أثبتوه ليس فيه أن العالم إبداع الأول أصلاً، مع أنهم ينكرون على من جعله محدثاً للعالم، لكون الحادث يفتقر إلى سبب حادث، فهل يكون أعظم تناقضاً من مثل هذا القول؟! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 281 ثم يقال: الأجسام المتحركة: إما أن تكون -أو شيء منها- واجب الوجود بذاته، وإما ألا تكون ولا شيء منها واجب الوجود بذاته. فإن كان منها شيء واجب الوجود بذاته، بطل ما أثبتوه من أن الواجب بنفسه، وهو العلة الأولى، لا يمكن أن يتحرك، إذ كان على هذا التقدير قد قيل: إن شيئاً واجباً بنفسه هو متحرك. وعلى هذا التقدير فلا يبقى لهم طريق إلى إثبات محرك لا يتحرك إذا أمكن أن يكون الواجب بنفسه متحركاً. وإن لم يكن في الأجسام المتحركة ما هو واجب بنفسه، فقد ثبت أن الأفلاك المتحركة كلها ممكنة مفتقرة إلى واجب يكون فاعلاً مبدعاً لها، سواء قيل: إنها قديمة أو حادثة، فإن الممكن لا بد له من فاعل، سواء قيل بقدمه أو حدوثه، إذ كان لا يكون بنفسه. ولو قيل: إنه لا فاعل له ولا مبدع، كان واجباً بنفسه، فالشيء إما أن يكون وجوده بنفسه، وإما أن يكون وجوده بغيره. فالأول هو الممكن بنفسه، والثاني هو الواجب بنفسه. وقد نازعهم من نازعهم في أن الممكن لا يجوز أن يقارن وجود الواجب، بل لا بد من تأخره عنه. لكن ليس مقصودنا في هذا المقام منازعتهم في ذلك، بل نتكلم على تقدير ما يدعونه من أن الممكن يقارن وجوده وجود الواجب، مع كونه معلولاً موجباً له صادراً عنه، وهم يسمون الواجب علة ومبدعاً وفاعلاً، وقد يسمونه محدثاً، لكن هذه تسمية بعض من أظهر الإسلام منهم، لئلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 282 يخالف المسلمين في الظاهر، كما فعل ذلك ابن سينا وغيره. لكن بكل حال لا بد للمكن الذي لا يوجد بنفسه من موجب يوجبه، بل يوجب صفاته وحركاته، لا يكفي في وجوده مجرد وجوده محبوبه، بل لا بد من موجب لذاته وصفاته، بل وموجب لنفس حبه. ثم إذا قيل: إنه محب لشيء منفصل عنه، لزم احتياجه إلى المحبوب. وأما كون مجرد المحبوب هو المبدع له، الموجب لذاته وصفاته وأفعاله، من غير اقتضاء ولا إيجاب ولا إبداع من المحبوب، بل لمحض كونه محبوباً -فهذا مما يعرف ببديهة العقل فساده. وهم، وكل عاقل، يفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلة، فالمحبوب يقتضي ثبوت العلة الغائية، ولا بد من علة فاعلية، فإن جعلوا المحبوب هو العلة الفاعلية، لزم كونه مبدعاً له، وهو المطلوب، وحينئذ يخاطبون على هذا التقدير بما يبين فساد قولهم. وإن لم يجعلوه مبدعاً له لم يكن لهم دليل على إثبات علة فاعلة لوجود العالم. وقيل لهم: افتقار الممكن إلى مبدع له ولصفته ولحركته، أبين من افتقاره إلى محبوب له. قال ثابت بن قرة: وأرسطو طاليس ينكر هذا الرأي المجدد. والظن الذي يظنه كثير من الناس من أنه يلزم من رأى أرسطو: أن العالم أبدي، أن يكون غير معلول في جوهره لعلة خارجة عنه- ظن كاذب. فيقال له: الذين يظنون هذا يقولون: إن هذا لازم لأرسطو، لأنه لم يثبت أن العالم معلول بعلة فاعلة مبدعة له، وإن كان مقارناً لها. بل إنما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 283 أثبت بما ادعاه من المقدمات أنه لا بد من محبوب يتحرك لأجله، وليس مجرد كون الشيء محبوباً يوجب أن يكون علة فاعلة مبدعة لمحبة، فلهذا ألزموه ذلك. ثم هذا اللازم له: إن اعتقده وإن لم يعتقده يقتضي بطلان قوله، لأن إذا كان العالم واجباً بنفسه ليس له مبدع، مع كونه مفتقراً إلى محبوب له، كما يقوله أرسطو، لزم كون الواجب بنفسه مفتقراً إلى شيء منفصل عنه في بعض صفاته. وحينئذ فإذا قيل بأن الواجب المبدع للعالم مفتقر إلى شيء بعينه على إبداع العالم، لم يكن باطلاً على هذا القول الذي يلزم أرسطو. وأيضاً فعلى هذا التقدير إذا كان الواجب بنفسه متحركاً لغيره، فلأن يكون متحركاً لنفسه أولى وأحرى، وأرسطو أبطل كون الأول متحركاً بحجج تنقض مذهبه. قال ثابت: وأرسطو طاليس يقول: فإن كان الأمر كما يظن من رأى أن للعالم ابتداءً زمانيا، فما العلة التي أوجبت أو دعت إلى إخراج العالم إلى الوجود بعد أن لم يكن موجوداً زمانا بلا نهاية؟ وما هذه العلة الباعثة للعلة الأولى على ذلك؟ وما كانت العلة المرتبة؟. فيقال له: هذا كله يبين فساد قولك، فإنه يقال: إما أن يكون العالم واجب الوجود بنفسه، وإما أن يكون ممكناً. فإن كان واجباً بنفسه، فما العلة التي أوجبت أو دعت إلى إحداث ما فيه من الحوادث، وحركته المتحددة، وتحريكه لما يحركه؟ وما هذه العلة الباعثة للواجب بنفسه على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 284 ذلك؟ وما كانت العلة المرتبة له عن إحداث الحوادث المتأخرة؟ فإنه لا يزال تحدث فيه أمور بعد أمور، فما الموجب لتأخر هذه الحوادث بعد أن لم تكن حادثة؟ فأي شيء أجاب به عن ذلك كان جواباً له. فإن قال: ليستكمل الشروط التي بها تتم الحوادث فقد جوز أن يكون فعل الواجب الوجود لا يتم إلا بشروط تحدث، وحينئذ فيجوز أن يقال: إن الموجب لتأخر فعله للعالم لتتم شروط إحداثه للعالم، إذ كان فعل الواجب بنفسه، على هذا التقدير، قد يتوقف على الشروط التي بها يحدث. وإن قال: إن العالم ممكن. قيل له: فلا بد له من واجب فعله. وحينئذ فقد فعله على الوجه الذي هو عليه من تأخر الحوادث، فما الذي أوجب للفاعل أن يؤخر ما يحدث من الحوادث؟ وما الذي دعاه إلى إخراج الحوادث إلى الوجود بعد أن لم تكن؟ وما العلة الباعثة للفاعل إلى ذلك؟ وأيضاً فيقال لهم: إن كان ممكناً صادراً عن الواجب، فما الذي أوجب الأول أن يفعله؟ وما الذي دعاه إلى ذلك؟ فإن قالوا: مجرد ذاته المجردة أوجبت ذلك. قيل: فإذا كانت موجبة لما يصدر عنها، لا يقف شيء من فعلها على غير الذات المجردة، وجب اقتران كل ما صدر عنها بها، ووجب اقتران الصادر عن الصادر به، فحينئذ لا يتأخر شيء عن العالم، بل يكون كله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 285 بجميع أجزائه قديماً ملازماً للذات المجردة، وهو خلاف الحس والمشاهدة. وأيضاً فيقال له: فعل الأول إما أن يقف على داع، وإما أن لا يقف على داع. فإن وقف على داع، قيل لك: ما الداعي الموجب لإبداعه للعالم على ما هو عليه من الأمور المختلفة والحادثة؟ وإن لم يقف على داع جاز أن يحدث ما حدث بلا داع، ولم يجب أن يكون لفعله علة. قال ثابت: ويلزم أهل هذا الرأي أن يكون في المبدأ الأقصى الذي عنده يتناهى الأبد في ابتداء كل فعل ما هو بالقوة، وما بالقوة ليس يخرجه ما هو له بالقوة بغير علة داخلة عليه من خارج يصير معلولاً لها في تلك الجهة، لأنه إن كان ليس لإخراج ما هو له بالقوة إلى الفعل سبب غير ذاته، فيجب أن يكون وجوب ذلك الأمر بالفعل مع وجود تلك الذات المخرجة له، وذلك الشيء غير متأخر عن وجودها، وإن كان له سبب غير ذاته، فإذن تكون العلة الأولى والمبدأ الأول ليس بمبدأ أول على الحقيقة، لأنه يحتاج حينئذ إن كانت تلك حاله إلى مبدأ آخر. وأيضاً فيلزم جوهر العلة الأولى، وإن كان لها ما هو بالقوة حيناً لم يخرج إلى الفعل حيناً تغير. وهذا أمر قد أضرب عنه سائر القدماء، فينبغي أن يسلم لأرسطو طاليس أن العلة الأولى على غاية ما يمكن من التمام والكمال. وكما أنه ليس يمكن منه في مادة من المواد أن تؤخرها الطبيعة لحظة من غير أن يعمل منها أجود ما ينعمل من مثلها، ما لم يعتور ذلك شيء من خارج، كذلك يرى أرسطو طاليس أن الأمر واجب في جملة أمر العالم، أي في وجود جملته، إذ كان إمكانه لم يزل، والإمكان له بمنزلة المادة. الرد عليه من وجوه. الوجه الأول الرد عليه من وجوه. الوجه الأول فيقال له: جواب هذا من وجوه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 286 أن يقال: خروج ما بالقوة إلى الفعل: إما أن يفتقر إلى علة من خارج وإما أن لا يفتقر. فإن لم يفتقر بطل هذا الكلام. وإن افتقر، فإما أن يفتقر إلى علة خارجة فاعلة، أو علة غائية، أو كلاهما. والافتقار إلى علة غائية وحدها غير كاف، لأن ما بالقوة إذا لم يخرج إلى الفعل إلا بعلة من خارج، فلا بد أن يكون علة لوجود كونه فاعلاً، وإلا مجرد المحبوب بدون ما به يفعل المحب مطلوبه، لا يوجب وجود الفعل. ولهذا إذا كان المحب غير قادر على الفعل. لم يتحرك إلى المحبوب، وتحركه إلى المحبوب هو ممكن ليس بممتنع ولا واجب بنفسه، والممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح تام يستلزم وجود الممكن، فلا بد لفاعلية الممكن من مرجح تام الفاعلية، وذلك هو الفعل، إذ مجرد الغاية ليس مرجحاً تاماً. وإن افتقر خروج ما بالقوة إلى الفعل إلى علة من خارج، علة فاعلة أو علة فاعلة وغائية. قيل له: فحركة الجوهر الجسماني حينئذ يفتقر إلى فاعل خارج عنها. وحينئذ فذاك الفاعل لم يكن فاعلاً لتلك الفاعلية في الأزل، إذ لو كان كذلك لزم وجود جميع الحركات والحوادث في الأزل، لوجود فاعلها التام، فتعين أنه صار فاعلاً لتلك الحوادث بعد أن لم يكن فاعلاً. فيلزم حينئذ إذا جعل الممكن مفتقراً إلى علة خارجة، أن تكون العلة صارت علة لفاعليته بعد أن لم تكن علة. وهذا قد يستدل به على العلية مطلقاً، سواء جعلت فاعلية أو غائية. فإنه يقال: كل ما حدث من الحوادث فإنه يمتنع وجود علته التامة في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 287 الأزل، فإذن قد حدثت عليته -علية الفاعل والغاية- بعد أن لم تكن، فيجب أن يكون الأول قد صار علة فاعلية وغائية بعد أن لم يكن لكل ما يحدث على قلولكم، وهذا يبطل ما ذكرتموه فيه. ثم يقال: إذا كان هذا جائزاً فيه، جاز أن يكون حدوث الأفلاك لحدوث علية حدوثها، وأن تكون قبلها حوادث قائمة به أو منفصلة عنه متعاقبة، ليس فيها ما هو قديم بعينه. الوجه الثاني أن يقال: لم قلت: إن ما هو بالقوة لا يخرجه فاعله بغير علة منفصلة؟ قوله: لأنه إن لم يكن لإخراجه سبب غير ذاته فيجب أن يكون مقارناً للذات، وإن كان له سبب غير ذاته، لم تكن العلة الأولى مبدأ أولاً على الحقيقة. فيقال له: وأنت لم تجعل الأول مبدأً لوجود ما سواه، بمعني أنه فاعل له مبدع، وإنما جعلته مبدأً بمعنى أنه محبوب معشوق. ومجرد كونه محبوباً معشوقاً لا يوجب وجود المحب وذاته وصفاته وأفعاله. فليس الأول على ما ذكروه وحده مبدأ، بل ما ذكرته أبعد عن كونه مبدأً، لأن كونه فاعلاً يتوقف فعله على شيء من غير أقرب إلى كونه مبدأً، من كونه ليس إلا مجرد كونه محبوباً. الوجه الثالث أن يقال: ما تعني بقولك: إن كان ليس لإخراجه سبب غير ذاته؟ أتعني به ذاتاً مجردة عن فعل يقوم بها، أم ذاتاً موصوفة بفعل يقوم بها؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 288 فإن عنيت الأول، كان اللازم أن الذات المجردة عن الفعل ليست مبدأً أول، ولا علة أولى. وهم يلتزمون هذا، فإن الذات المجردة من الفعل لا حقيقة لها عندهم، وهم يمنعون أن يكون الأول كذلك. وإن عنيت الثاني، لم يلزم أن يكون المبدأ الأول بمبدأ أول، لأنه إذا كان مبدأً بما هو عليه من صفاته وأفعاله التي لا يحتاج فيها إلى غيره، كان هو المبدأ الأول من غير احتياج إلى غيره. الوجه الرابع أن يقال: العالم إن كان واجب الوجود بنفسه مع كونه مفتقراً إلى محبوب، كان واجب الوجود معلولاً من بعض الجهات، فجاز حينئذ أن يكون المحبوب الأول، مع وجوب وجوده بنفسه، من خارج ما به يصير فاعلاً، فإن العالم حينئذ واجب الوجود، وله من خارج ما به يصير فاعلاً. وإن كان ممكن الوجود بنفسه، لم يوجد إلا بمبدع فاعل يبدعه، فالإبداع فعل من المبدع وصنع وأنت لم تجعل الأول إلا محبوباً فقط. وأيضاً فإذا كان الأول فاعلاً مبدعاً للعالم، بما فيه من الأمور المختلفة المحدثة، امتنع أن يكون صانعاً بالفعل لها في الأزل، لأن ذلك يستلزم وجود كل من المحدثات في الأزل وهو مكابرة للحس. فيلزم أنه كان صانعاً بالقوة، ثم صار صانعاً بالفعل، من غير سبب خارج عنه، إذ الخارج عنه كله على هذا التقدير ممكن مفعول له، ففعله له لو توقف على تأثير فيه لزم الدور. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 289 ومن تدبر هذه الوجوه وما يناسبها، تبين له فساد قول هؤلاء في رب العالمين، وأن الحق ليس إلا ما جاء عن المرسلين بالعقل الصريح المبين. الرد على كلام آخر لثابت بن قرة من وجوه وأما قوله: وأيضاً فيلزم جوهر العلة الأولى تغير، وهذا أضرب عنه القدماء. فجوابه من وجوه. الوجه الأول أن صدور التغير عن غير المتغير إما أن يكون ممكناً، وإما أن يكون ممتنعاً. فإن كان ممكناً، بطلت هذه الحجة. ثم يجوز أن يقال: كان بحيث لا يصدر عنه شيء، ثم صدر عنه شيء من غير تغير، كما يقول ذلك كثير من أهل النظر. وإن كان ممتنعاً. قيل له: فالعالم المتغير: إما أن يكون صادراً عنه، وإما أن لا يكون. فإن كان صادراً عنه، لزم أن يكون متغيراً. وإن لم يكن صادراً عنه، فهو إما واجب بنفسه وإما ممكن. فإن كان واجباً بنفسه، وهو مع ذلك متغير، فقد لزم أن يكون الواجب بنفسه متغيراً. وإن كان ممكناً بنفسه، لزم أن يكون الممكن قد وجد بلا موجب. وهذا مع واتفاق العقلاء على فساده، فهو معلوم الفساد بالضرورة. ثم من جوز أن يوجد الممكن بلا فاعل، فلأن يجوز تغير الواجب أولى وأحرى، لأن هذا فيه مصير ما ليس بشيء شيئاً من غير فاعل، فلأن يصير شيئاً بفاعل متغير أولى وأحرى. الوجه الثاني قولك: هذا أمر أضرب عنه سائر القدماء لو كان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 290 هذا النقل حقاً لم ينفعك، لأنه لا حجة في إضراب من ليس بمعصوم. وأنت لو احتج عليك محتج بنصوص الأنبياء، وهو ممن يعتقد عصمتهم، وقد قام الدليل عنده على ذلك، لم تقبل حجته، فلأن لا يقبل منك قول قوم توافقه أنت على عدم عصمتهم أولى وأحرى. فكيف وهذا النقل ليس صحيحاً؟ بل كثير من القدماء ومن المتأخرين جوزوا أن تقوم بالأول أمور يشاؤها ويقدر عليها، بل صرحوا بأنه متحرك، وأنه تقوم به إرادات حادثة وعلوم حادثة وغير ذلك، كما تقدم. فإن لم يبطل قولهم بحجة عقلية لم يكن ما ذكرته حجة. الوجه الثالث أن يقال: ما تعني بالتغير؟ أتعني به استحالته كاستحالة الجسم من صورة إلى صورة؟ أو تعني به كونه يفعل ما لم يكن فاعلاً له؟ فإن عنيت الأول، منعت المقدمة الثانية. فإن المتحركات التي يخرج منها ما بالقوة إلى الفعل كالأفلاك، لا تستحيل صورتها بذلك. وإن عنيت الثاني، قيل لك: هذا لا يسمى تغيراً، أو لا نسميه تغيراً. وإذا سميته تغيراً، لم يكن في مجرد تسميتك له ولا تسميتنا له -إذا وافقناك على التسمية- ما يمنع جوازه. فإن مجرد الألفاظ لا تثبت بها المعاني العقلية، فلم قلت: إن هذا المعنى ممتنع؟ بل هذا هو نفس المتنازع فيه، لكن بدلت العبارة عنه. أفبأن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 291 بدلت العبارة عنه صادرت عليه وجعلته مقدمة في إثبات نفسه؟ ونحن لا نعني بالتغير إلا كونه يفعل ما لم يكن فاعلاً. الوجه الرابع أن يقال لك: نحن نشاهد حدوث الحوادث، وأنت تسمي ذلك إخراج ما بالقوة إلى الفعل، فلا بد حينئذ في حدوث الحوادث من إخراج ما بالقوة إلى الفعل، فمحدثها أخرج ما بالقوة إلى الفعل، والمحدث لإحداثه الذي جعله يخرج ما بالقوة إلى الفعل كذلك، وهلم جراً. فإن قدرت مع هذا محدثاً لفاعليته، غير مخرج ما بالقوة إلى الفعل، بطلت حجتك. وإن جعلت الأول أخرج ما بالقوة إلى الفعل، بطل أيضاً دليلك. وإن ادعيت أن بعض الفاعلين يخرج ما بالقوة إلى ما بالفعل دون الآخر، بطل دليلك، فهو باطل على كل تقدير. وذلك أنه يلزمه أحد أمرين، كلاهما يبطل قوله. فإنه إن أثبت فاعلاً يخرج ما بالقوة إلى الفعل، من غير سبب من خارج، أمكن أن يكون الأول كذلك، فبطل قوله. وإن لم يجوز أن يكون فاعلاً يخرج ما بالقوة إلى الفعل إلا بسبب من خارج، لزمه أن يكون كل فاعل للحوادث لم يحدث فاعليته إلا بسبب أخرج ما بالقوة إلى الفعل: فإن كان الأول كذلك، لزم التسلسل الممتنع. وإن لم يكن كذلك، كان الأول مخرجاً لما بالقوة إلى الفعل، من غير سبب من خارج، وذلك يبطل قوله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 292 قال: فينبغي أن يسلم لأرسطو طاليس أن العلة الأولى على غاية ما يمكن من التمام والكمال. الرد على كلام آخر لثابت بن قرة فيقال له: أولاً: أرسطو لم يثبت على أولى مبدعة للعالم، ولا فاعلة له، ولا علة فاعلة له. وإنما أثبت علة غائية له، ولم يقم على ذلك دليلاً. فهو مع أنه لم يذكر إلا جزء علة لم يقم عليه دليلاً. فأي تمام وكمال أثبته للعلة الأولى؟! وأما أهل الإثبات فيقولون: نحن نثبت للأول غاية ما يمكن من التمام والكمال، بما نثبته له من صفات الكمال وأفعاله سبحانه وتعالى، فنحن أحق بوصفه بالكمال، من وجوه لا تحصر. وإذا قال القائل: فلم تأخر ما تأخر من مفعولاته؟ قلنا: هو لازم على القولين، فلا يختص بجوابه. ثم يقال: الموجب لذلك ما تقول أنت في نظيره في تأخر الحوادث، مثل استجماع الشروط التي بها يصلح كون الحادث مفعولاً، أو بها يمكن كونه مفعولاً، فإن عدمه قبل ذلك قد يكون لعدم الإمكان، وقد يكون لعدم الحكمة الموجبة تأخره، إذ لا بد في الفعل من القدرة التامة والإرادة التامة المستلزمة للحكمة. وأما قوله: كما أنه ليس يمكن أن تؤخر الطبيعة فعلها في المادة القابلة إلا لعائق، فكذلك الأمر في العالم إذا كان إمكانه لم يزل. والإمكان له بمنزلة المادة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 293 فيقال: أولاً أنت لم تثبت له فعلاً ولا إبداعاً، بل الطبيعة عندك تفعل. والأول لم يثبت إلا كونه محبوباً للتشبه به، وأثبت ذلك بلا دليل. ويقال لك: ثانياً: إن كان مجرد الإمكان موجباً لكون الممكن مقارناً للواجب، لزم أن يكون كل ما يمكن وجوده أزلياً. وهذا مكابرة للحس والعقل. فإن قلت: إن بعض الممكنات توقف على شروط، أو يكون له مانع. قيل لك: فحينئذ ما المانع أن يكون إبداع الأول للعل متوقفاً على شروط، أو له مانع، مع كون الأول لم يزل يفعل أفعالاً قائمة بنفسه، أو مفعولات منفصلة عنه، كما يقوله أساطين أصحابك من الفلاسفة المتقدمين على أرسطو أو غيرهم؟ ويقال لك: ثالثاً: إن كان العالم واجباً لنفسه، فقد تأخر كثير من أفعاله، فيلزم أن يتأخر ما يتأخر من فعل الواجب بنفسه، وإن كان ممكناً بنفسه، ففاعله قد أخر كثيراً مما فيه من الأفعال. وعلى كل تقدير فقد تأخر عن الواجب بنفسه ما تأخر من مفعولاته، فعلم أنه لا يلزم مقارنة مفعولاته كلها له، وإذا جاز تأخر ما يتأخر من مفعولاته، فلم لا يجوز أن تكون الأفلاك من ذلك المتأخر؟ قال: إلا أن قوماً يرون أنه يجب من هذا -أعني من وجوب وجود العالم مع العلة الأولى- أن لا يكون صنع إرادي للعلة الأولى في وجود الجزء: 9 ¦ الصفحة: 294 العالم، كما لا صنع لها في وجود جوهرها، إذ كان وجود العالم غير ممكن تأخره عن وجود جوهر العلة الأولى، فيكون وجوده لازماً اتباعه لوجود العلة الأولى، فتكون العلة الأولى علة طبيعية للعالم ومتممة له، فيكون القياس في ذلك كالقياس فيما يفعله الفلك ويؤثره بطبيعته، إذ وجود ذلك مع وجود جوهر الفلك، لا سيما وأرسطو طاليس يقول: إن المحرك الأول هو علة حركة كل ما في الكون بالتشوق. فالأولى على ظاهر الأمر أن يكون الشيء المتشوق إليه تشوق بجهة طبيعته لا بإرادته، لأنه قد يمكن أن يكون المعشوق المتشوق إليه نائماً أو غير ذي إرادة، وهو يحرك المشتاق إليه والعاشق له، إلا أنه ينبغي أن يترك أمر العلة الأولى في جوهرها وسائر أمورها، على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه. فإذن ليس يؤثر جوهر هذه العلة أثراً ولا يفعل فعلاً منقلباً عن قصدها وإرادتها، ولا دون إرادتها، إذ ليس في هذه الذات نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج، ولا فوق جوهرها أمر تقتبس منه ازدياد في شيء من حاله، ولا يعرض لها أمر تحتاج إلى استدفاعه. فجوهرها إذن ليس فيه شوق إلى شيء، ولا منافرة لشيء، ولا قبول لتغيير، ولا لحدوث شأن متجدد له. فليس يوجد إذن أمر يحدث هذه الذات بالطبع وبغير إرادة، وليس يوجد إذن أمر يدعو هذه الذات في حال أو شأن، ليس هي المبدأ الأول له، والعلة فيه. وبالجملة فكل ما كان له ما هو الطبع على الجهة الطبيعية التي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 295 ينحوها، فإنه يلزم أن يوجد في جوهره شوق بالطبع إلى حال لا تملكها إرادته، والمشتاق معلول من جهة شوقه للشيء المشوق له، والشيء المشوق له مبدأ له في ذلك الشوق، ومن جهة أنه هو له علة تمامية من جهة من الجهات. وليس يليق هذا الأمر البتة بالمبدأ الأول، ولكنه مبدأ لكل طبيعة ولكل شوق ولكل حركة. فساد كلام آخر له من وجوه. الوجه الأول فساد كلام آخر له من وجوه. الوجه الأول هذا كلامه ولقائل أن يقول: هذا الكلام قد كشف فيه قوله ومذهبه، وقد تبين في ذلك من التناقض والفساد ما يطول ذكره بالوصف والتعداد. وذلك من وجوه: قول أرسطو: إن المحرك الأول هو علة كل ما في الكون بالتشوق، والمتشوق إليه إنما تشوق بجهة طبيعته لا إرادته، ولأنه قد يكون المعشوق المتشوق إليه نائما أو غير ذي إرادة، وهو يحرك المشتاق إليه والعاشق له، إلا أنه ينبغي أن يترك أمر العلة الأولى في جوهرها وسائر أمورها، على أفضل ما يمكن أن يوجد شيء عليه، فإذن ليس يؤثر أثراً، ولا يفعل فعلاً، لا عن إرادتها، ولا بدون إرادتها إلى آخر كلامه. فيقال له: قد صرحتم في كلامكم بأن الأول ليس له فعل بإرادة، ولا بدون إرادة، ولا تأثير في العالم أصلاً إلا من جهة كونه معشوقاً متشوقاً إليه، والمعشوق المتشوق إليه لا يجب أن يكون شاعراً بالعاشق، ولا مريداً له، ولا قادراً على فعل يفعله به، بل الجمادات تحب ويشتاق إليه، كما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 296 يشتاق الجائع إلى الطعام، والعطشان إلى الشراب، والبردان إلى الثياب، والضاحي في الشمس إلى الظلال. ثم إنكم مع هذا لم تذكروا على ذلك دليلاً صحيحاً، ولكن نحن نخاطبكم بما أقررتم به. فيقال: إذا كان بهذه المثابة، لم يكن علة للعالم، ولا مبدأ له، ولا فاعلاً له، ولا مؤثراً فيه أثراً، فبطل قولكم: إنه علة العلل، وإنه المبدأ الأول. قولكم: إنه علة طبيعية للعالم ومتممة له. غاية ما في الباب أن العالم يكون محتاجاً إليه، من كونه مشتاقاً إليه، والشيء المشتاق إليه لا يجب أن يكون هو المبدع المشتاق ولا الفاعل له، ولا يكون مؤثراً فيه، كما اعترفتم به، وكما هو معلوم لكل عاقل. فإن كون الشيء علة غائية، لا يستلزم أن يكون على فاعلية، لا سيما وإنما هو علية من جهة أن الفلك يحب التشبه به، فهذا مع ما فيه من جحد وجود واجب الوجود المبدع للعالم، فيه من تناقض قولكم ما قد تبين. وسنبين إن شاء الله فرقهم بين العلة الأولى وبين العالم القديم بأنه جسم، وأن الجسم لا تكون فيه قوة غير متناهية، وما ذكروه في ذلك. الوجه الثاني أن يقال: هذا القول الذي قلتموه يبطل حجتكم على قدم العالم أيضاً، فإنه إذا لم يكن مؤثراً في العالم وعلة له، ومبدأ ومحركاً له، إلا من جهة كونه محبوباً شائقاً معشوقاً، أمكن تأخر وجود العالم عن وجوده، فإن الشيء المشتاق إليه قد يتأخر عنه ما يشتاقه، والشيء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 297 المشتاق إليه هو مستلزم لوجود المشتاق، بل الأمر بالعكس فالمشتاق إليه غني عن المشتاق، والمشتاق محتاج إلى المشتاق إليه. وحينئذ فيكم وجود الأول المشتاق إليه، بدون وجود العالم المشتاق، ثم بعد هذا يوجد العالم المشتاق، ولا يقدح ذلك في كمال المشتاق إليه. فإن قلتم: فما الموجب لوجود العالم بعد هذا؟ قيل لكم: هو الموجب لوجوده قبل هذا على أصلكم، فإنكم لم تثبتوا للعالم مبدعاً فاعلاً، وحينئذ فلا فرق بين تقدم وجوده وبين تأخره، إلا أن تقولوا، إنه واجب الوجود بنفسه. وإذا قلتم: إن العالم مع احتياجه إلى المعشوق الغني عنه واجب الوجود بنفسه، كان قولكم أعظم تناقضاً. الوجه الثالث ونحن نبي ذلك بالوجه الثالث: فنقول: إذا أثبتم للعالم وعلته المعشوقة له، التي يجب التشبه بها، وتتحرك لاستخراج ما فيه من الأيون والأوضاع، لأن ذلك غاية التشبه بها. فإما أن تقولوا: هذا واجب الوجود بنفسه، أو تقولوا: إن أحدهما ممكن بنفسه، لا يوجد إلا بالواجب بنفسه. فإن قلتم بالأول، ثبت أن العالم المحتاج إلى محبوبه واجب الوجود بنفسه، مع كونه معلولاً من هذه الجهة، وكونه ذي إرادة وشوق، وكونه يؤثر آثاراً ويفعل أفعالاً بالإرادة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 298 وقد قلتم: إن هذا لو كان في الأول لكان نقصاً يحتاج فيه إلى تمام من خارج، فقد أثبتم في الواجب بنفسه نقصاً يحتاج فيه إلى تمام من الخارج، فإن كان هذا جائزاً في الواجب بنفسه، لم يمتنع هذا في الأول المعشوق، بل جاز مع وجوبه بنفسه أن يكون أيضاً عاشقاً مريداً مؤثراً فاعلاً، فيه على أصلكم نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج. وإذا كان هذا غير ممتنع في الواجب بنفسه، بطل ما ذكرتموه من امتناع ذلك عليه. وأيضاً فإذا جاز ذلك عليه، لم يكن أحدهما بكونه عاشقاً والآخر معشوقاً أولى من العكس، بل يمكن أن يكون كلاهما محباً للآخر مشتاقاً إليه. وبتقدير أن يكون هو المحب للعالم المريد له، يكون هو المحدث لما فيه من الحركات. ثم على هذا التقدير لا يجب أن تكون الأفلاك هي الواجبة بنفسها، بل يمكن أن يقال هناك واجب بنفسه غيرها، ثم إن أحد الواجبين أحدث الأفلاك لما حدث له من الشوق، كما تقولون فيما يحدث بحركة الفلك. وفي الجملة إذا قالوا: إن العالم واجب الوجود بنفسه، نقضوا كل ما ذكره في المبدأ الأول، ولم يكن لهم حجة على الطبيعية الذين ينكرون الأول. والطبيعة الذين يقولون: العالم واجب بنفسه، قولهم أفسد من قول هؤلاء الإلهيين منهم كلهم، كما قد بين فساد قولهم في غير هذا الموضع. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 299 لكن فساد أقوالهم يظهر من وجه آخر، من غير التزام صحة قول الإلهيين بل قول كلا الطائفتين باطل متناقض، يعلم بطلانه وتناقضه بصريح العقل. وإن قال هؤلاء الإلهيون: إن العالم ممكن الوجود بنفسه، فلا بد أن يكون هناك واجب، هو علة فاعلة له، لا يكفي في وجوده ما هو مشتاق إليه، فإن ما لا وجود له من نفسه، ليس له من نفسه لا صفة ولا شوق ولا حركة ولا شيء من الأشياء، فلا بد لكم من إثبات مبدع للممكن، قبل إثبات شوقه إلى غيره، ثم يبقى النظر بعد ذلك في قدمه وحدوثه نظراً ثانياً. الوجه الرابع أن يقال: قولهم أولاً: إن قوماً يرون أنه يجب من هذا، أي من وجوب وجود العالم مع العلة الأولى، ألا يكون صنع إرادي للعلة الأولى في وجود العالم، كما لا صنع لها في وجود جوهرها، إذا كان وجود العالم غير ممكن تأخره عن وجود العلة الأولى .... إلى آخره. فيقال لكم: إرادة العلة الأولى إما أن يستلزم تأخر فعلها للعالم أو يجوز مع ذلك تقدم فعلها للعالم، فإن كانت الإرادة تستلزم تأخر المراد، لزم تأخر العالم المشتاق صاحب الإرادة والشوق، فإن العالم عندكم قديم له إرادة وشوق قديم، فإن كان القديم لا يكون له شوق وإرادة بطل قولكم بقدم العالم، مع القول بشوقه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 300 وإن كان القديم يمكن أن يكون له إرادة وشوق، أمكن أن يكون الأول له إرادة وشوق مع قدمه، وأن يكون صانعاً للعالم صنعاً إرادياً، وهذا أيضاً يبطل قولكم. الوجه الخامس أن يقال: القديم: إما أن يجوز أن يكون له إرادة، وإما ألا يجوز. فإن لم يجز، امتنع كون العالم قديماً مريداً. وحينئذ فلا يبقى لكم حجة على إثبات المبدأ الأول، فإنكم إنما أثبتموه بأنه، معشوق للعالم المتحرك بالإرادة مع قدم العالم. فإذا امتنع كون القديم مريداً، لم يلزم أن يكون هناك معشوق قديم، فلا يبقى دليل على ثبوته. وإن جاز أن يكون القديم مريداً، جاز كون الأول مريداً، وبطل قولكم: إنه لا صنع إرادي للعلة الأولى. فأنتم بين أمرين: إما سلب الإرادة عن العالم القديم، وإما إثباتها للأول القديم. وأيهما قلتم بطل قولكم ببطل قولكم، وسنتكم إن شاء الله على فرقهم. الوجه السادس بل يقال في الوجه السادس: إنكم لو أثبتم الإرادة للأول القديم، وسلبتموها عن الفلك، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الملل، كان أقرب إلى المعقول من إثباتها للفلك، ونفيها عن العلة الأولى، فإن صريح العقل يعلم أن العلة والمبدأ الأول أولى أن يكون مريداً من المعلول الثاني، فإن الفعل إن لم يستلزم إرادة، لم تستلزم حركة الفلك إرادة، وإن استلزم إرادة، فالعلة الفاعلة أولى بالإرادة من المعلول المفعول. ألا ترى أن المعلولات قد تكون جامدة، كالعناصر والنباتات التي لا إرادة لها؟. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 301 يبين ذلك أن الحركات ثلاثة: الطبيعية والقسرية والإرادية. فالقسرية تابعة للقاسر، والطبيعية لا تكون إلا إذا خرج الجسم عن مركزه، فيميل بطبعه إلى مركزه، فكلاهما عارضة، وإنما الحركة الأصلية هي الإرادية. وإذا كان كذلك فالمعلول المفعول يحتاج إلى إرادة فاعلة، أعظم من حاجته إلى كونه هو مريداً، فإنه إذا كانت جميع الحركات مستندة إلى الإرادة، فمن المعلوم أن احتياجها إلى إرادة الفاعل، أعظم من احتياجها إلى إرادة المفعول. فإن قالوا: الفلك عندنا ليس بمعلول عن واجب مبدع، بل هو قديم واجب بنفسه. كان ما يلزمهم على هذا التقدير، مثل جعل الواجب بنفسه جسماً متحيزاً تحله الحوادث، مفتقراً إلى علة يتشبه بها، وسائر اللوازم أعظم مما فروا منه. الوجه السابع أن يقال: الممكن لا يوجد إلا بفاعل، ويمكن وجوده بدون كونه مشتاقاً، فوجوده مشروط بالفاعل له، ليس مشروطاً بكونه مشتاقاً، فكيف يجوز إثبات ما لا يحتاج الممكن في وجوده إليه، وإلغاء ما لا يكون موجوداً إلا بوجوده؟. الوجه الثامن أن يقال: قولكم: فتكون العلة الأولى علة طبيعية للعالم ومتممة له، ويكون القياس في ذلك كالقياس فيما يفعله الفلك، ويؤثره بطبيعته، أو وجود ذلك مع وجود جوهر الفلك، لا سيما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 302 وأرسطو يقول: إن المتحرك الأول إنما يحرك كل ما في الكون بالشوق، وهو شوق المتحرك إليه إلى آخره. فيقال: هذا كلام متهافت متناقض، وذلك أن ما يفعله الفلك ويؤثره بطبيعته، هو عندكم مريد له، مع أن وجوده مع وجود الفلك، وقد شبهتم فعل الأول بفعل الفلك، ثم قلتم إن الأول ليس له إرادة ولا تأثير، فهذا التمثيل يناقض هذا التفريق. الوجه التاسع أن يقال: الفلك إما أن يكون فاعلاً بالإرادة، وإما ألا يكون. فإن كان الأول، وهو قولكم: ووجود فعله مع وجوده، لزم أن يكون الفعل الإرادي يجوز مساوقته للفاعل، وألا يتأخر عنه. وهذا يبطل قلوكم: إنه يجب من وجوب الفلك مع العلة الأولى أن يكون لا صنع إرادي للعلة الأولى في وجود العالم فإنكم حينئذ أثبتم فاعلاً فعلاً إرادياً، مع كون فعله موجوداً معه. وأما قولكم: كما لا صنع لها في وجود جوهرها فهذا تمثيل ساقط إلى غاية، فإن الواجب بنفسه لا يكون فاعلاً لنفسه، وأما معلوله فلا بد أن يكون فاعلاً له. فكيف يقال: لا يفعل معلوله، كما لا يفعل نفسه؟ وإن لم يكن الفلك فاعلاً بالإرادة، بطل كونه مشتاقاً عاشقاً، وبطل ثبوت المبدأ الأول، وحينئذ فيبطل ما بنيتم عليه ثبوت الأول وقدم العالم. الوجه العاشر قولكم: ينبغي أن ينزل أمر العلة الأولى في جوهرها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 303 وسائر أمورها على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه كلام حق، لكن أنتم من أبعد الناس عنه، فإنكم جعلتم أمر العلة الأولى من أنقص ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه، بل جعلتموه أنقص من كل موجود شبيهاً بالمعدوم، فإن الموجودات أقسام: أعلاها الذي يفعل غيره ولا ينفعل عن غيره. وهذا هو الذي يجب أن يكون عليه المبدأ الأول. والقسم الثاني: الذي يفعل وينفعل، كالإنسان. وثالثها: الذي ينفعل ولا يفعل كالجماد. وأما ما لا يفعل وال ينفعل فهذا لا يكون إلا معدوماً. وأنتم جعلتم الأول لا يفعل شيئاً ولا ينفعل، فإنكم قد قلتم: إنه لا يؤثر أثراً ولا يفعل فعلاً، لا عن إرادة ولا دون الإرادة، وقلتم أيضاً، إنه لا ينفعل عن غيره، وهذا حال المعدوم. ووصفهم له بأنه معشوق لا يفيد، فإن المحبوب المعشوق من الموجودات لا بد أن يكون فاعلاً أو منفعلاً. وأما ما لا يفعل ولا ينفعل فلا يحب ولا يحب، ولا حقيقة له. فوصفتم الواجب الوجود المبدع لكل ما سواه بما هو أنقص من صفات سائر الموجودات، ولا يتصف به إلا المعدومات. الوجه الحادي عشر أنكم قلتم: إن المحرك الأول إنما يحرك الفلك، لكون الفلك مشتاقاً إليه أي إلى التشبه به. وقلتم: إن المشتاق إليه إنما تحرك بجهة طبعية لا إرادية، لأنه قد يمكن أن يكون المعشوق المتشوق إليه نائماً أو غير ذي إرادة، وهو يحرك المشتاق إليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 304 والعاشق له، إلا أنه ينبغي أن يترك أمر العلة الأولى في جوهرها وسائر أمورها على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه. وأردتم تنزيهه أن يشبه بالنائم ونحوه، وأنتم وصفتموه بدون صفة النائم. فإن المحبوب الذي لم يشعر بمحبه لنومه يمكن أن يتنبه فيشعر به، ويمكن أن يحب محبه. ومن المعلوم أن المحبوب الذي يمكن أن يعلم بمحبه، وأن يحبه، أكمل من النائم الذي لا يعلم به ولا يحبه. وأنتم قد قلتم: إنه لا يمكن أن يكون منه محبة لمحبه، ولا أثر، ولا فعل من الأفعال. وقال أرسطو وأكثركم: إنه لا شعور له بمحبة، بل قد يقولون: إنه لا شعور له بنفسه أيضاً. فهل هذا إلا وصف له بدون صفة النائم ونحوه من الناقصين؟! الوجه الثاني عشر أن يقال: إذا نزل أمر الأول على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه، فمن المعلوم أن الموجود إذا انقسم إلى حي وميت، فالحي أكمل من الميت، وإذا قسم إلى ما يقبل الاتصاف بالحياة والموت وما لا يقبل، فالذي يمكن اتصافه بذلك كالحيوان، أكمل ممن لا يمكن اتصافه بذلك كالجماد. وإذا قسم إلى عالم وجاهل، وما لا يقبل لا هذا ولا هذا، وقادر وعاجز، وما لا يقبل لا هذا ولا هذا، كان ما يقبل واحداً منهما، أكمل مما لا يقبل، وما كان عالماً قادراً أكمل مما كان جاهلاً عاجزاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 305 وإذا قسم إلى ما يكون فاعلاً بالإرادة، وما يفعل إرادة، وما لا يفعل لا بهذا ولا بهذا، كان ما يفعل بالإرادة أكمل مما يفعل بدون إرادة، وما يفعل بدون إرادة أكمل ممن لا فعل له، وأنتم جعلتموه لا يفعل لا بإرادة ولا بدون إرادة. الوجه الثالث عشر قولكم: فإذن لا يؤثر هذه العلة أثراً، ولا يفعل فعلاً منقلباً عن إرادتها وقصدها، ولا دون إرادتها، إذ ليس في هذه الذات نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج، ولا فوق جوهرها أمر يقتبس منه ازدياداً في شيء من حاله إلى آخره. فيقال لكم: إذا قدر ذات لها فعل وتأثير بالإرادة، وذات ليس لها فعل ولا تأثير، لا بإرادة ولا بدونها، شهد صريح العقل بأن الأول أكمل. ولهذا كان الحيوان أكمل من الجماد. وقلتم أنتم: إن حركة الفلك إرادية، وإن ذلك أكمل من أن تكون حركته غير إرادية. وإذا قدر مع هذا أن المتحرك بالإرادة محتاج إلى تمام من خارج، وهو متحرك لطلب ذلك التمام، فهو أكمل من الذي لا يقبل التمام كالجماد، فإذا كان الأول عندكم لا شعور له ولا إرادة ولا فعل بالإرادة ولا يمكن أن يكون له شيء من ذلك، كان المتحرك بالإرادة لطلب تمامه أكمل من هذا الناقص المسلوب صفات الكمال، الذي لا يمكن اتصافه به، فالعميان والعرجان والصم والبكم العمي أكمل من هذا الأول الذي فرضتموه، والفلك أكمل منه بكثير، وفيما ذكرتموه من التناقض وغاية الفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد. الوجه الرابع عشر أن يقال: العالم: إما أن يكون واجباً بنفسه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 306 وإما أن يكون ممكناً. فإن كان ممكناً، لم يوجد إلا بواجب يبدعه ويفعله، فيلزم أن يكون للأول فعل وتأثير، وذلك مناقض ما ذكرتموه. ثم إذا قدر من يفعل بإرادة ومن يفعل بلا إرادة، فالفاعل بالإرادة أكمل، فيلزم أن يكون فاعلاً له بالإرادة، حيث سلمتم أنه يجب أن ينزل أمره في جوهره وسائر أموره، على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه، وإن كان العالم واجب بنفسه، مع كونه عندكم مفتقراً إلى الأول، افتقار الشيء إلى من يتشبه به، ويحركه بالإرادة حركه يحصل بها تمامه -أمكن أن يكون واجب الوجود يتحرك حركة إرادية، يحتاج فيها إلى تمام من خارج. فثبت أنه على تقدير إمكان العالم بنفسه، ووجوبه بنفسه، يلزم أن يكون الواجب بنفسه له فعل وتأثير، وذلك ينقض ما ذكرتموه، وإن وصفه بذلك أولى من وصفه بكونه لا فعل له ولا إرادة ولا تأثير، ولا يمكن اتصافه بشيء من صفات الكمال. الوجه الخامس عشر أن يقال: أنتم فررتم من إثبات نوع من النقص له، فأثبتم له من النقائص ما يكون أنقص به من جميع الموجودات. فإنكم فررتم من كونه يفعل بإرادة وبغير إرادة، لأن ذلك بزعمكم يستلزم نقصاً يحتاج فيه إلى تمام من خارج. فيقال: إذا قدر أنه لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة، ولا فعل لا بإرادة ولا غير إرادة، ولا يؤثر شيئاً أصلاً، ولا يتأثر عن شيء -كان ما في الموجود أكمل منه، فهذا منتهى كل نقص، ومن كان فيه نقص يمكنه إتمامه من خارج، كان خيراً من العدم، ومن لا يمكنه إتمام نقصه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 307 الوجه السادس عشر أن يقال: ما هو النقص الذي نزهتموه عنه؟ فإن النقص لا يعقل إلا عدم كمال، أو وجود مناف لكمال. فعدم العلم والحياة والقدرة يسمى نقصاً، ووجود الصم والبكم والخرس المنافي لهذه الصفات يسمى نقصاً، ثم ما كان قابلاً للاتصاف بصفات الكمال، أكمل ممن لا يقبلها. فإذا كان عندكم لا متصفاً بها ولا قابلاً للاتصاف بها، كان هذا غاية ما يعقل من النقص، فما النقص الذي نزهتموه عنه؟ فإن قالوا: نزهنا عن طلب تمامه من خارج، فإن كون تمامه لا يحصل إلا بسبب من خارج نقص. فيقال لهم: هذا باطل من وجوه: أحدها: أن هذا إن كان نقصاً، فما وصفتموه به من النقائص أعظم من هذا وأكثر. الثاني: أن يقال: فكون تمامه ممكناً وهو طالب له، أكمل من كونه لا يقبل التمام ولا يطلبه. الثالث: ولم قلتم: إن هذا نقص؟ فإن النقص إنما يكون نقصاً إذا عدم ما ينبغي وجوده أو ما يمكن وجوده، فإذا قدر أمر لا يمكن وجوده في الأزل، أو لا يصلح وجوده في الأزل، فلم قلتم: إن عدم هذا نقص؟ الرابع: أن يقال: ظنكم أن تمامه يحتاج إلى سبب منفصل غلط، كما قد بسط في موضع آخر، فليس هو محتاجاً في شيء من أفعاله، فضلاً عن صفاته وذاته، إلى سبب خارج عنه. الوجه السابع عشر أن يقال: لم قلتم: إن الأول إذا كان فاعلاً مؤثراً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 308 بالإرادة، لزم أن يكون فيه نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج؟ فإن هذا إنما يلزم لو كان المحرك له شيئاً منفصلاً عنه. أما إذا لم يكن مبدأ فعله إلا منه، لم يلزم أن يكون محتاجاً إلى تمام من خارج. وأنتم لم تقيموا دليلاً على أن كل فاعل بالإرادة لا يكون مبدأ فعله إلا بسبب من خارج، بل ادعيتم هذا دعوى مجردة. ومن هنا يتبين فساد أصل كلامهم. فنقول في: الوجه الثامن عشر أنتم لما ذكرتم أن حركة الأفلاك إرادية قلتم: إن المتحرك بالإرادة لا يكون إلا بمحبوب منفصل عنه، ثم إنكم قلتم: الأول لا يتحرك بالإرادة، لئلا يكون له محبوب منفصل فنحتاج إليه، ولم تذكروا دليلاً على أن كل متحرك بالإرادة يجب أن يكون مفتقراً إلى محبوب منفصل، بل ذكرتم هذا دعوى مجردة بنيتم عليها إثبات الأول، وبنيتم عليها امتناع كون الأول مؤثراً ويفعل بإرادة أو غير إرادة، وإذا لم يفعل بإرادة ولا غير إرادة امتنع وجود الممكنات، فامتنعت حركتها بالإرادة، فامتنع احتياجها إلى معشوق، فبطل دليلكم على إثبات الأول، فكان نفس دعواكم التي بنيتم عليها إثبات الأول وسلب أفعاله، ولم تقيموا عليها دليلاً، هي بعينها تستلزم عدم دليلكم على ثبوت الأول، فتبين أنه ليس في كلامكم لا إثبات للأول، ولا نفي لشيء عنه. الوجه التاسع عشر أن يقال: لم قلتم: إن كل فاعل بالإرادة أو كل متحرك، بالإرادة يجب أن يكون محتاجاً إلى مراد منفصل عنه غني عنه؟ ولم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 309 تذكروا على هذا دليلاً. ويقال لكم: لم لا يجوز أن يكون هو المراد المحبوب، فيكون محباً لنفسه، فهو المحب وهو المحبوب؟ أو يكون مريداً محتاجاً لما هو مفعول له، فيكون هو مراده، فلا يكون في ذلك احتياجه إلى غيره؟ وأنتم تقولون ما هو موجود في كتبكم: إن الأول عاشق ومعشوق وعشق، ولذيذ وملتذ، ومبتهج ومبتهج به، فإذا جاز عندكم أن يكون محباً محبوباً، مريداً مراداً، فلم لا يجوز أن يكون إذا فعل بالمحبة والإرادة، هو المحبوب المراد؟ وعلى اصطلاحكم: هو العاشق المعشوق؟ وعلى هذا التقدير يبطل أصلاً كلامكم، ويمكن وصفه بصفات الكمال وبالأفعال الكاملة الإرادية، التي لا يفتقر فيها إلى غيره، ولا يكون فيه نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج. الوجه العشرون أنكم تقولون: إن العالي لا يفعل لأجل السافل، وإن حركة الفلك الإرادية لا يجوز أن تكون لأجل السفليات، لكن لزم حصول ما حصل عن حركته الإرادية بالقصد الثاني. وإنما مقصوده بحركته الإرادية التشبه بمحبوبه الأعلى. وإذا كان الأمر كذلك، فلم لا يجوز أن يكون الأول هو المريد والمراد، والمحبوب والمحب؟ وهو لا يريد شيئاً لأجل شيء سواه، ولكن محبته لنفسه وإرادته لها، استلزم وجود المفعولات، كما قلتموه فيما صدر عن الأفلاك. وإذا قيل: هو فاعل باختياره وإرادته، فعلاً يستلزم وجود المعلولات، كان كما قلتم مثل ذلك في حركة الفلك، فهذا القول جاز على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 310 أصولكم، وهو أحق بالجواز إن كانت أصولكم صحيحة -مما قلتموه فيه من وصفه بغاية النقص، فإذا وصفتموه بهذا كنتم قد وصفتموه بصفات الكمال، مع رعاية أصولكم التي اعتقدتم صحتها، ولم يكن في هذا محذور، إلا كان في نفيه من المحذور ما هو أعظم منه. الوجه الواحد والعشرون أن يقال: قولكم: فجوهرها ليس فيه شوق إلى شيء، ولا منافرة لشيء مضمونه أنها لا تحب شيئاً ولا تبغضه، فلم قلتم ذلك؟ فإن قلتم: إن المحب المبغض لا يحب إلا ما يحتاج إليه من غيره، ولا يبغض إلا ما يحتاج إلى دفعه عن نفسه. قيل لكم: ولم قلتم ذلك، والفلك عندكم يحب بل يعشق؟ وإذا كان يحب شيئاً فإنه يبغض زواله، ومع هذا فهو عندكم لا يخاف من شيء منفصل، ولا يحتاج إلى دفع ضرر عن نفسه، بل ولا يجوز عليه الفساد والانحلال، وهو مع هذا عاشق محب، طالب مشتاق، فلا يلزم من كونه مشتاقاً، أن يكون من يعرض له أمر يحتاج إلى استدفاعه. وأما كون الحب يوجب أن يكون فوقه جوهر آخر يقتبس منه، فهذا إنما يلزم إذا لم يكن قادراً على حصول محبوبه. فأما إذا قدر أنه ليس في ذلك حاجة إلى ما هو غني عنه، لم يكن في ذلك محذور. الوجه الثاني العشرون أن يقال: قولكم: فجوهرها إذن ليس فيه شوق إلى شيء، ولا منافرة لشيء، ولا قبول لتغيير، ولا لحدوث الجزء: 9 ¦ الصفحة: 311 شأن متجددة أمر لم يذكروا عليه حجة عقلية، إلا ما ذكرتموه من أن هذه الذات ليس فيها نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج، ولا فوقها ما تزداد منه، ولا يعرض لها ما يحتاج دفعه. فيقال لكم: الجوهر المتحرك أهو محتاج إلى شيء من خارج، وفوقه ما يزداد منه، ويعرض له ما يحتاج إليه في دفعه، أم ليس كذلك؟ فإن قلتم: إنه بهذه الصفة وهو متحرك، لم يكن في ثبوت هذه الصفات ما يمنع كون الموصوف متحركاً، فيجوز حينئذ على الأول أن يكون متحركاً قابلاً لقيام الأمور الاختيارية به، كما يقبله الجوهر المتحرك، إذ كان كلاهما مشتركاً في هذه الصفات. وإن قلتم: ليس كذلك، وإن الجوهر المتحرك يعرض له ما يدفعه عن نفسه. قيل لكم: ليس هذا قولكم: وبتقدير أن يعرض له، فليس فوقه ما يدفع هذا عنه، إذ عندكم ليس فوقه فاعل، إنما فوقه محبوب ليس بفاعل ولا مؤثر: لا بإرادة ولا بدون إرادة. وكذلك إن قلتم: إنه يحتاج إلى تمام من خارج، أو فوقه جوهر يقتبس منه زيادة. قيل لكم: فمن الذي يفيده الزيادة ويزيل عنه الحاجة غيره؟ فإن قلتم: الأول. فالأول عندكم ليس يؤثر أثراً، ولا يفعل فعلاً: لا عن إرادة ولا عن غير إرادة. وكونه محبوباً لا يقتضي أنه يفعل بالمحب فعلاً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 312 يزداد به، إذ كان الفاعل للحب في المحبوب المحرك له إلى المحبوب ليس نفس المحبوب، إذ كل عاقل يعلم أن الخبز إذا أحبه الجائع لم يفعل حركته ولا قصده، كذلك المعشوق الذي لا يشعر بعاشقه، ليس منه فعل ولا حركة يزيد بها المحب شيئاً، وإنما يضاف الفعل إليه كما يضاف إلى الجماد. كما يقال: أهلك الناس الدرهم والدينار. ويقال: قتلني حب المال. ويقال للذهب: قاتول. ويقال للدنيا: غرارة خداعة مكارة، ونحو ذلك مما يضاف إلى ما تحبه النفوس وتهواه، من غير فعل منه ولا قصد، فإنما يضاف الفعل إليه لأنه كان بسببه، لا أنه هو المحدث لذلك الفعل ولا الفاعل له، ولا المبدع له، وهذا متفق عليه بين العقلاء. وإذا كان كذلك فليس في الجوهر الجسماني الفلكي إلا من جنس ما جعلتموه في الأول، وهو غني كغنى الأول، ومع هذا فقد جاز عليه الحركة وقيام الحوادث به، فكذلك في الأول. وإذا جاز أن يقال: إن الفلك يتحرك بنفسه، فلم لا يجوز أن يقال: إنه يشتاق إلى نفسه. وإذا قيل: إن الأول هو محبوب مشتاق إليه، فلم لا يجوز أن يكون محباً لنفسه، وحركته من المحبة لنفسه؟ وإذا قلتم: إلى أي شيء يتحرك؟ قيل لكم: والفلك إلى شيء يتحرك؟ فإذا قلتم: لإخراج ما لا يمكن وجوده دفعةً عن الأيون والأوضاع. قيل لكم: ولم لا يجوز على هذا أن تقولوا: إن الأول يتحرك لإخراج الجزء: 9 ¦ الصفحة: 313 ما لا يمكن وجوده دفعةً من أحواله وشؤونه، ثم الحوادث المنفصلة تابعة لذلك كما قلتم مثل ذلك في الفلك؟ الوجه الثالث العشرون أن يقال: قولكم ليس فيه شوق إلى شيء ولا منافرة لشيء: أتريدون به أنه ليس فيه حب لشيء أصلاً: لا لنفسه ولا لغيره؟ ولا بغض لشيء من الأشياء؟ وسميتم الحب الباعث على الفعل شوقاً؟ أم تريدون به ليس فيه شوق إلى شيء مستغن عنه كما قلتموه في الفلك؟ فإن كان مرادكم الثاني: لم يضر هذا، مع أنكم لم تقيموا على هذا دليلاً. ولو قيل لكم: بل يجوز أن يكون مشتاقاً إلى غيره، وغيره مشتاق إليه -لم يمكنكم الجواب، لأنكم إن قلتم: إن الفلك ممكن بنفسه، لزم أن يكون الأول فاعلاً له، ولزم أن يكون كالفلك، وهو عندكم لا يفعل ولا يؤثر، وإن كان الفلك واجباً، كان الواجب موصوفاً بالشوق إلى غيره. وأيضاً فأنتم لم تذكروا دليلاً على ثبوته، فضلاً عن غناه، إذ دليلكم في ثبوته مبني على أن المتحرك بالإرادة لا تكون حركته إلا عن حب لغيره، وهذا لم تقيموا عليه دليلاً، وهو لا يتم حتى يمتنع كون الأول فاعلاً بالإرادة، فإذاً لا يمكنكم ثبوته حتى يمتنع كونه فاعلاً بالإرادة، ولا يمتنع كونه فاعلاًً بالإرادة حتى يعلم ثبوته، فإذاً لا يثبت لا هذا ولا هذا. وإن كان مرادكم الأول، فيقال لكم: من أين علمتم أنه لا يكون محباً لنفسه ولا لغيره؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 314 فإن قلتم: إن المحب لغيره ناقص يحتاج إلى الغير. كان جوابكم من أربعة أوجه: أحدها: أن يقال: لم لا يجوز أن يكون محباً لنفسه، ثم محبته لغيره تبعاً؟ كما تقولون في حب الفلك وإرادته بالقصد الأول والقصد الثاني. الثاني: أن يقال: فلم لا يجوز أن يكون محباً لغيره، الذي هو مفعول مصنوع له؟ وإذا كان مريداً كما هو مفعول مصنوع له، وهو ممكن، لم يكن في ذلك إرادته ومحبته إلا لمفعولاته ومبتدعاته، التي هي فقيرة إليه من كل وجه، فليس في هذا افتقار إلى شيء هو مستغن عنه بوجه من الوجوه. ومعلوم أن هذا خير من قولكم: إن الفلك لا يحتاج إليه إلا من جهة كونه محبوباً، فإن ذلك في إثبات فقر الفلك إليه من كل وجه، وهذا أبلغ في الكمال. الثالث: أن يقال: ولو فرض محباً لغيره مريداً لغيره، وذلك الغير أيضاً محتاج إليه، لكونه لا يقوم إلا به، كان غاية ما في هذا أن يكون قوام كل منهما بالآخر ومعلوم أن هذا، وإن كان المسلمون ينزهون الله عنه، فهو خير من قولكم المتضمن أن الفلك ليس له مبدع فاعل، مع كونه محتاجاً إلى محبوبه، لأن هذا يتضمن شيئين، كل منهما فاعل له، وأحدهما محب للآخر، أقرب إلى العدل والإمكان، إن كان ذلك ممكناً، وإلا فهو أقرب إلى الامتناع، لأن كلا القولين يتضمن إثبات شيئين لا فاعل لهما، وأحدهما يتضمن أن المحب أحدهما والآخر محبوب، والقول الثاني يتضمن أن كلاهما محب محبوب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 315 الوجه الرابع: أن يقال: المحب المريد لأمور منفصلة عنه، إذا كان قادراً عليها، وهو يفعلها بحسب محبته وإرادته من غير مانع. فلم قلتم: إن هذا نقص؟ أو ليس الموصوف بهذا أكمل من الذي لا يحب شيئاً ولا يريده ولا يقدر عليه؟ وإذا شبه الأول بالحيوان، كان الثاني مشبهاً بالجماد، والجماد أنقص. الوجه الرابع العشرون أن يقال: إذا قدر موجودان: أحدهما محب مريد يفعل ما يريده وهو قادر على ذلك، والثاني لا يحب شيئاً ولا يريده ولا يقدر على شيء محبوب مراد، لكن غيره يحبه -كان إجماع العقلاء أن الأول أكمل من الثاني، فإن الثاني شبيه بالخبز والماء واللباس، والمساكن التي يحبها الناس ويريدونها، والأول شبه بالناس الذين يحبون ذلك. ومعلوم أن الثاني أنقص من الأول، والأول أقرب إلى الكمال. فهؤلاء فروا بزعمهم مما توهموه نقصا، فوقعوا فيما هو أعظم نقصاً بلا ريب. وإيضاح هذا أن يقال: إذا قسمنا الموجودات إلى قسمين: حي وميت، وعالم وجاهل، وقادر وعاجز، وقادر على الفعل وغير قادر عليه، بل قادر على الفعل والحركة بإرادته ومحبته، ومن لا إرادة له ولا قدرة له، أو لا فعل له ولا حركة إلى ما يريده، ونحو ذلك- كان الأول هو الموصوف بصفات الكمال دون الثاني. وأما مجرد كون الشيء مراداً محبوبا، فليس بصفة كمال، إلا أن يكون محبوباً لنفسه مراداً لذاته. وهؤلاء سلبوا الرب جميع صفات الكمال، ووصفوه بالنقائص، ولم يثبتوا له شيئاً من الكمال، إلا مجرد كونه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 316 محبوباً، ولم يقيموا حجة على ذلك، ولا على أنه محبوب لنفسه، فكان ما وصفوه به غاية النقص، بل العدم. بقية كلام ثابت بن قرة ورد ابن تيمية عليه قال ثابت: فليس يوجد إذن أمر يجتذب هذه الذات بالطبع وبغير إرادة، وليس يوجد إذن أمر يدعو هذه الذات إلى حال أو شأن ليس هي المبدأ الأول له والعلة فيه. فيقال لهم: أولاً: لم تقيموا دليلاً على شيء من ذلك. فإنكم لم تجعلوها فاعلاً لشيء ولا مؤثراً فيه أصلاً، فليست مبدأً لشيء من الأشياء ولا علة له، إلا من كونها محبوبة فقط، وليس في هذه الجهة أنها تحدث شيئاً، ولا أنها تبدع شيئاً. وإذا كان كذلك فما المانع أن يكون غيرها جاذباً لها وداعياً لها إلى شيء؟ وما المانع أن تكون هي محبة لغيرها؟ وأنتم لم تذكروا على امتناع ذلك حجة أصلاً. والمسلمون، وغيرهم من أهل الملل، إذا نزهوا الله عن الحاجة إلى غيره، فهم يثبتون أنه رب غيره ومليكه وخالقه. وأنتم لم تثبتوا أنه رب كل ما سواه ومليكه وخالقه. وحينئذ فلا دليل لكم على انتفاء الحاجة عنه، لا سيما مع أنه يلزمكم أن تجعلوا العالم واجب الوجود بنفسه مع فقره إليه، فيكون الواجب بنفسه فقيراً إلى غيره، أو تجعلوه ممكناً لا بد له من فاعل، فيكون الأول مبدعاً فاعلاً لغيره، والفاعل، كما ذكروه، يستلزم أن يكون له فعل وإرادة، وهذا نقيض قولهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 317 ويقال لهم: ثانياً: لم لا يجوز أن يكون مفعولها المحتاج إليها هو الداعي الجاذب؟ وليس في هذا افتقار إلى ما هو مستغن عنها، وأنتم لم تقيموا دليلاً على انتفاء ذلك. ويقال لهم: ثالثاً: لم لا يجوز أن يكون هو المبدأ لما يفعله، والداعي منه لا من غيره، وهو المحب لنفسه؟ وقد ذكر أئمتكم في كتبهم أنه عاشق ومعشوق وعشق، ولذيذ وملتذ به. قال: وبالجملة فكل ما كان له ما هو بالطبع، على الجهة الطبيعية التي يمحوها، فإنه يلزم أن يوجد في جوهره شوق بالطبع، إلى حال لا تملكها إرادته، والمشتاق معلول من جهة شوقه للشيء المشوق إليه مبدأ له في ذلك الشوق، ومن جهة أي هو له علة تمامية من جهة من الجهات. وليس يليق هذا الأمر البتة بالمبدأ الأول. ولكنه مبدأ لكل طبيعة ولكل شوق ولكل حركة. فيقال له: الكلام على هذا من وجوه: الأول: قولكم: إن الأول مبدأ لكل طبيعة وكل شوق وكل حركة، كلام مناقض لما ذكرتموه، فإنكم لم تجعلوه إلا محبوباً فقط، لا فاعلاً مبدعاً، ولا علة فاعلة، ومجرد كون الشيء محبوباً لا يوجب أن يفعل شيئاً في غيره. وقد علم الفرق بين العلة الفاعلة والغائية. والثاني: قولكم: إن المشتاق إليه علة للمشتاق. فيقال لكم: ولم يمتنع أن يكون محباً لنفسه؟ فهو المحب المحبوب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 318 الثالث: أن يقال: ما المانع أن يكون محباً مريداً لما هو مفعول مصنوع له؟ وليس في هذا كونه معلولاً لغيره، لأن ذلك الغير هو معلوله من كل وجه، مفعول له بكل طريق، محتاج إليه بكل سبب. وليس في حب الشيء وإرادته لمثل ذلك نقص، بل هذا من الكمال. فإن من أراد ما هو مفعول له معلول له، وهو قادر على ذلك المراد المحبوب، كان هذا غاية الكمال، بخلاف من لا يفعل شيئاً منفصلاً عنه، ولا يريده، ولا يقدر عليه، بل ولا يفعل فعلاً قائماً بنفسه، بل هو كالجماد الذي ليس له صفة كمال، بل كالمعدوم. الرابع: قولكم: وليس يليق هذا البتة بالمبدأ الأول كلام بلا برهان، وأنتم تدعون البرهان والحجة -وقد ذكر هذا غيركم- لم ترضوا أن تجعلوا هذا خطابة، بل جعلتموه دون الخطابة، وأنتم تجعلونه عمدة في مثل هذا الأمر العظيم بلا حجة أصلاً، مع أنكم لم تثبتوا أن الأول مبدأ ولا فاعل أصلاً، إلا بجهة كونه محبوباً، مع أنكم لم تقيموا على ذلك دليلاً. الخامس: قوله: كل ما كان ما هو له بالطبع من الجهة التي ينحوها، فإنه يلزم أن يوجد في جوهره شوق بالطبع إلى حال لا تملكها إرادته. فيقال لهم: هذه قضية كلية لم يذكروا عليها دليلاً، وغاية ما يستدلون به أن يقولوا: وجدنا المتحركات بالإرادة كذلك الحيوان. فيقال لهم: وكذلك وجدتم ذلك ممكناً مفعولاً مصنوعاً، مفتقراً إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 319 فاعل مبدع، فقولوا: إن الأول ممكن مفعول مصنوع مفتقر إلى فاعل مبدع. فإن كان الدليل قد أثبت موجوداً واجباً بنفسه لا يفتقر إلى غيره، فإما أن يكون ذلك هو الفلك، أو أمراً فوق الفلك، فإن كان هو الفلك، وهو مشتاق إلى حال تملكها إرادته، بطل نفيكم لهذا عن الواجب بنفسه. وإن كان الواجب بنفسه أمراً فوق الفلك، كان هو الفاعل للفلك المبدع له. وحينئذ فالفلك وما فيه محتاج إليه من كل وجه، فليس في الوجود ما هو خارج عن ملكه، حتى يقال: إنه مشتاق إلى ما تملكه إرادته. السادس: أن هذا الكلام إنما يصح أن لو كان فيه الوجود ما لا تملكه إرادة الأول. فأما إذا كان كل ما سواه كائناً بإرادته ومشيئته، فليس في الوجود شيء لا تملكه إرادته. وأنتم لم تقيموا دليلاً على امتناع إرادته، وإذا كانت إرادته ممكنة على هذا الوجه، كما يقول المسلمون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن -لم يمنع أن يكون مريداً على هذا الوجه. السابع: أن يقال: كونه يفعل بالطبع، أو نحو ذلك، ليس من عبارة المسلمين. فإذا كانوا يسمون كل ما يفعل فعلاً قائماً بنفسه متحركاً بالطبع، لم ننازعهم في المعنى. لكن نقول: لم قلتم: إن من كان فاعلاً فعلاً يقوم به بإرادته مشتاق إلى حال لا يملكها؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 320 فإذا سميتم كل ما كان كذلك فاعلاً بالطبع، فلم قلتم: إن كل ما كان كذلك مشتاق إلى حال لا يملكها؟ فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه ثم قال ابن رشد: فإن قيل: فإذ قد تبين أن هذه الطرق كلها ليست واحدة منها هي الطريقة الشرعية التي دعا الشرع منها جميع الناس على اختلاف فطرهم إلى الإقرار بوجود الباري، فما هي الطريق الشرعية التي نبه الكتاب عليها وكان يعتمدها الصحابة؟ قلنا: الطرق الشرعية التي نبه الكتاب عليها، ودعا الكل من بابها، إذا استقرئ الكتاب، وجدت تنحصر في جنسين: أحدهما طرق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجله، وتسمى هذه دليل العناية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 321 والطريق الثانية: ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات، مثل اختراع الحياة في الجماد، والإدراكات الخمسة والعقل، ولنسم هذا دليل الاختراع. أما الطريق الأولى فتبنى على أصلين: أحدهما: أن جميع الموجودات التي ها هنا موافقة لوجود الإنسان. والأصل الثاني: أن هذه الموافقة هي ضرورة من قبل فاعل قاصد لذك مريد، إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق، فأما كونها موافقة لوجود الإنسان، فيحصل اليقين بذلك، بدليل موافقة الليل والنهار، والشمس والقمر، لوجود الإنسان، وكذلك موافقة الأزمنة الأربعة له، والمكان الذي هو فيه أيضاً وهو الأرض. وكذلك أيضاً يظهر موافقة كثير من الحيوان له، والنبات والجمادات، وجزيئات كثيرة: مثل الأمطار، والأنهار، والبحار، وما تحمله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 322 الأرض والماء والهواء والنار. وكذلك أيضاً تظهر العناية في أعضاء الإنسان وأعضاء الحيوان، أعني كونها موافقة لحياته ووجوده. وبالجملة فمعرفة منافع الموجودات داخلة في هذه الجنس. ولذلك وجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص عن صانع جميع الموجودات. قال: وأما دلالة الاختراع، فيدخل فيها وجود الحيوان كله، ووجود النبات، ووجود السموات. وهذه الطريقة تنبني على أصلين موجودين بالقوة في فطر جميع الناس. أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة، وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات. كما قال تعالى: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} الآية [الحج: 73] ، فإنا نرى أجساماً جمادية ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعاً أن ها هنا موجداً للحياة ومنعماً بها، وهو الله تبارك وتعالى. وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 323 بالعناية بما هو ها هنا، ومسخرة لنا، والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة. قلت: هذا يبين بأن حركات الأفلاك ليست من قبل أنفسها، بل من محرك منفصل عنها، حتى يكون ذلك المحرك لها هو الآمر المسخر. وهذا يتبين بوجوه مبسوطة في غير هذا الموضع، مثل أن يبين المحرك من جهة الفاعل والسبب، ومن جهة المقصود والغاية، أي أنها لا بد أن تقصد بحركاتها شيئاً منفصلاً عنها، مثل ما يقول المسلمون وغيرهم من أهل الملل: إنها عابدة لله تعالى، ويقول المتفلسفة -كأرسطو وأتباعه-: إنها تقصد التشبه بالإله على قدر الطاقة. وعلى القولين فتكون حركتها من جنس حركة المحب إلى محبوبه، والطالب إلى مطلوبه، وما كان له مراد منفصل عنه مستغن عنه -فهو محتاج إلى ما هو مستغن عنه، ومن احتاج إلى ما هو مستغن عنه لم يكن غنياً بنفسه، بل يكون مفتقراً إلى ما هو منفصل عنه، وهذا لا يكون واجب الوجود بنفسه، بل يكون ممكناً عبداً فقيراً محتاجاً، فتكون السموات مفتقرة ممكنة ليست بواجبة. والوجه الثاني: أن كل فلك فإنه يحركه غيره من الأفلاك المنفصلة عنه، فتكون حركته من غيره، والفلك المحيط بها المحرك لها لا يحرك ولا يؤثر في غيره، إلا بمعاونة غيره من الأمور المنفصلة عنه، فليس هو وحده المحرك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 324 لسائر أنواع حركاتها، بل يجب أن يكون المحرك غيره، والمتحركات المنفصلة عنه ليست منه وحده، بل منه ومن غيره، فليس فيها ما هو مستقل بالتحريك، وما كان مفتقراً إلى غيره لم يكن واجباً بنفسه. فلا بد من محرك منفصل عنها. ومثل أن يقال: ليس شيء منها مستقلاً بمصالح السفليات والآثار الحادثة فيها، بل إنما يحصل ذلك بأسباب منها اشتراكها، ومنها أمور موجودة في السفليات ليست من واحد منها، فكل واحد منها لا بد له من شريك معاون، له مانع يعوقه عن مقتضاه، فلا يتم أمره إلا بمشارك غني عنه، وانتفاء مانع معارض له، فيمتنع أن يكون مبدعاً لشريكه الغني عنه، ولمانعه المضاد له، وأن يكون ما يحصل من المصالح التي في العالم السفلي بمجرد قصده وفعله، فوجب أن يكون هناك ما يوجب فعله وحركته من غيره، وذلك هو الأمر والتسخير. لأن الحركة إن كانت قسرية فلها قاسر. وإن كانت طبيعية فالطبعية لا تكون إلا إذا خرجت بالعين من محلها، فهي مقسورة على الخروج. وإن كانت إرادية فالمريد لآثار لا يستقل بها ولا يحصل إلا بمشاركة غيره، ويمتنع بمعارضة غيره له فيها، هو مفتقر في مقصوده إلى غيره. ويمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه، لأن الواجب بنفسه لا يكون مفتقراً إلى غيره المستغني عنه بوجه من الوجوه، إذ لو افتقر إلى غيره بوجه من الوجوه، لم يكن من ذلك الوجه غنياً عن الغير، بل مفتقراً إليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 325 ولا يتم ذلك الوجه إلا بذلك الغير المستغني عنه. والمريد لأمر إذا لم يكن قادراً على تحصيل مراده كان عاجزاً، وكان فقيراً إلى ما به يحصل مراده والمفتقر إلى ما يعجز عنه لا يكون واجباً بنفسه، ولا يكون كماله حاصلاً به، بل بما هو مستغن عنه. فهذه الأمور وغيرها مما يستدل به على هذا المطلوب. قال: وأما الأصل الثاني فهو أن كل مخترع فله مخترع، فيصح من هذين الأصلين أن للوجود فاعلاً مخترعاً له. وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات، ولذلك كان واجباً على من أراد معرفة الله حق معرفته أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات، لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع. وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء} [الأعراف: 185] . وكذلك أيضاً من تتبع معنى الحكمة في موجود، أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق والغاية المقصودة به كان وقوفه على دليل العناية أتم. فهذان الدليلان هما دليلا الشرع. وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 326 سبحانه في الكتاب العزيز هي منحصرة في هذين الجنسين من الأدلة فذلك بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز في هذا المعنى. وذلك أن الآيات التي في الكتاب العزيز في هذا المعنى إذا تصفحت وجدت على ثلاثة أنواع: إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية، وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع، وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعاً. فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فقط، فمثل قوله تعالى: {ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا} [النبأ: 6-7] إلى قوله: {وجنات ألفافا} [النبأ: 16] . ومثل قوله تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا} [الفرقان: 61] ، إلى قوله: {أو أراد شكورا} [الفرقان: 62] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 327 ومثل قوله: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} الآيات [عبس: 24] . ومثل هذا كثير في القرآن. وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط، فمثل قوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق} [الطارق: 6] . ومثل قوله: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} [الغاشية: 17] الآية. ومثل قوله تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا} [الحج: 73] . ومن هذا قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا} [الأنعام: 79] ، إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى. وأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضاً، بل هي الأكثر، مثل قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 328 قبلكم} [البقرة: 21] ، إلى قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} [البقرة: 22] . وذلك أن قوله: {الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21] ، تنبيه على دلالة الاختراع، وقوله: {الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء} [البقرة: 22] ، تنبيه على دلالة العناية. ومثله قوله: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون} [يس: 33] . وقوله: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 191] . وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى يوجد فيها النوعان من الأدلة. قال: فهذه الطريق هي الصراط المستقيم، التي دعا الله الناس منه إلى معرفة وجوده، ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 329 وإلى هذا الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر الإشارة بقوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم} إلى قوله: {قالوا بلى شهدنا} [الأعراف: 172] . ولهذا يجب على كل من كان وكده طاعة الله تعالى، في الإيمان به وامتثال ما جاءت به رسله، أن يسلك هذه الطريقة، حتى يكون من العلماء الذي يشهدون لله بربوبيته، مع شهادته لنفسه وشهادة ملائكته له. كما قال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} [آل عمران: 18] . قال: ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين عليه هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44] . قلت: في هذه الآية وآية أخذ الميثاق من الكلام ما ليس هذا موضعه. وكذلك دعواه انحصار الطريق في هذين النوعين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 330 وقوله: إن في الآيات ما يدل على العناية دون الاختراع وغير ذلك -كلام ليس هذا موضعه، بل كل ما دل على العناية دل على الاختراع، ولكن المقصود هنا حكاية ما ذكره. قال: فقد بان من هذه الأدلة على وجود الصانع منحصرة في هذين الجنسين: دلالة العناية، ودلالة الاختراع. قال: وبين أن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما: طريقة الخواص، ويعنى بالخواص العلماء، وطريقة الجمهور. وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفضيل: أعني أن الجمهور يقتصرون من معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس. وأما العلماء فيزيدون إلى ما يدركون من هذه الأشياء بالحس ما يدرك بالبرهان، أعني من العناية والاختراع، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان، هو قريب من عشرة آلاف منفعة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 331 قال: وإذا كان هذا هكذا فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والفلسفية الحكمية، وهي التي جاءت بها الرسل، ونزلت بها الكتب، والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط، بل من قبل التعمق في معرفة الشيء الواجب بنفسه، فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات، مثالهم في النظر إلى المصنوعات، التي ليس عندهم علم بصنعها، فإنهم إنما يعرفون من أمرها أنها مصنوعات فقط، وأن لها صانعاً موجوداً. ومثلا العلماء في ذلك مثال من نظر إلى المصنوعات التي عنده ببعض صنعها وبوجه الحكمة فيها، ولا شك أن من حاله من العلم بالمصنوعات هذه الحال، فهو أعلم بالصانع من جهة ما هو صانع، من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط. وأما مثال الدهرية في هذا الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى، فمثال من أحس مصنوعات فلم يعرف أنها مصنوعات، بل ينسب ما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 332 رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته. قلت: فهذا الرجل مع أنه من أعيان الفلاسفة المعظمين لطريقتهم، المعتنين بطريقة الفلاسفة المشائين، كأرسطو وأتباعه، يبين أن الأدلة العقلية الدالة على إثبات الصانع مستغنية عما أحدثه المعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم، من طريقة الأعراض ونحوها، وأن الطرق الشرعية التي جاء بها القرآن هي طرق برهانية تفيد العلم للعامة وللخاصة، والخاصة عنده يدخل فيهم الفلاسفة، والطرق التي لأولئك، هي مع طولها وصعوبتها، لا تفيد العلم لا للعامة ولا للخاصة. هذا مع أنه يقدر القرآن قدره، ولم يستوعب أنواع الطرق التي في القرآن، فإن القرآن قد اشتمل على بيان المطالب الإلهية بأنواع من الطرق وأكمل الطرق، كما قد بسط في موضعه. والذي قاله من أن هذه الطرق المعتزلية، كطريقة الأعراض المبنية على امتناع حوادث لا أول لها، لم يبعث الرسول بدعوة الخلق إليها، ولا كان سلف الأمة يتوسلون بها إلى معرفة الله -هو أمر معلوم بالاضطرار لكل من كان عالماً بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه والسلف، ولكل من تدبر القرآن والحديث. وكل متكلم فاضل، كالأشعري وغيره، يعلم ذلك، كما تقدم كلام الأشعري. وأما كون هذه الطرق المعتزلية -كطريقة الأعراض والتركيب والاختصاص- هي برهانية أو ليست برهانية، وهي تفيد العلم أو لا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 333 تفيده، فهذا مما يعلم بنظر العقل الصريح، فمن كان ذكياً طالباً للحق، عرف الحق في ذلك. ولنا مقصودان: أحدهما: أن ما به يعلم ثبوت الصانع وصدق رسوله، لا يتوقف على هذه الطرق المعتزلية الجهمية. وهذه الطرق هي التي يقال: إنها عارضت الأدلة الشرعية، ويقال: إن القدح فيها قدح في أصل الشرع، فإذا تبين أنها ليست أصلاً للعلم بالشرع كما أنها ليست أصلاً لثبوته في نفسه بالاتفاق، بطل قول من يزعم أن القدح في هذه العقليات قدح في أصل الشرع، وهو المطلوب. والمقصود الثاني أن هذه العقليات المعارضات للشرع باطلة في نفسها، وإن لم نقل إنها أصل للعلم به، وقد ذكرنا من قدح فضلاء أهل الكلام والفلسفة فيها بالأدلة العقلية ما يحصل هذا المقصود. فمن كان له نظر ثاقب في هذه الأمور عرف حقيقة الأمر، ومن كان لا يفهم بعض الدقيق من كلامهم، كفاه أن يعلم أن هؤلاء النظار يقدح بعضهم في أدلة بعض، وأنهم لم يتفقوا على مقدمتين عقليتين، ولا مقدمات ولا مقدمة واحدة يمكن أن يستنتج منها دليل عقلي، يصلح لمعارضة أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن اتفقوا على مطلوب، كاتفاق طائفة من أهل الكلام وطائفة من أهل الفلسفة على نفي العلو مثلاً -فهؤلاء يثبتون ذلك وينفقون التجسيم بدليل الأعراض، والآخرون يطعنون في هذا الدليل ويثبتون فساده في العقل، وهؤلاء يثبتون ذلك بدليل نفي التركيب العقلي، وأولئك يثبتون فساد هؤلاء، فصار هذا بمنزلة من ادعى حقاً وأقام عليه بينتين، وعلى بينة تقدح في الأخرى، وتقول: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 334 إنها كاذبة فيما شهدت به، وتبدي ما يفسد شهادتها، وأنها غير صادقة، فلا يمكن ثبوت الحق بذلك، لأنا إن صدقنا كلاً منهما فيما شهدت به من الحق، وفي فسق أولئك الشهود لزم أن لا تقبل شهادة أولئك الشهود، فلا تقبل شهادة لا هؤلاء ولا هؤلاء، فلا يثبت الحق. وإن عينا إحدى البينتين بالقبول، أو قبلنا شهادتهما في الحق دون جرح الأخرى، كان تحكماً. مع أنه ما من مطلوب من المطالب إلا وقد تنازع فيه أهل الكلام والفلسفة جميعاً، فأهل الفلسفة متنازعون في الجهة وحلول الحوادث، وأهل الكلام متنازعون أيضاً في ذلك. والمثبتون من هؤلاء وهؤلاء يقدحون في أدلة النفاة بالقوادح العقلية. وأهل السنة، وإن كانوا يعرفون بعقولهم من المعاني الصحيحة نقيض ما يقول النفاة، فلا يعبرون عن صفات الله بعبارات مجملة مبتدعة، ولا يطلقون القول بأن الله جسم، وأنه تحله الحوادث، وأنه مركب، ولا نحو ذلك. ولا يطلقون من نفي ذلك ما يتناول نفي ما أثبته الرسول ودلت العقول عليه، بل يفسرون المجملات، ويوضحون المشكلات، ويبينون المحتملات، ويتبعون الآيات البينات، ويعلمون موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح. وهؤلاء المتفلسفة، مثل هذا الرجل وأمثاله، وإن وافقوا النفاة في الباطن في بعض ما نفوه، فهم معترفون بأن الشرع لم يرد بذلك، ومبطلون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 335 لأدلة إخوانهم النفاة، ثم يذكرون من أدلة النفي ما هو أضعف وأفسد مما ضعفوه وأفسدوه. ونحن نذكر كلامه في ذلك، وذلك أنه لما تكلم على الطريق العقلية الشرعية في إثبات الصانع، تكلم أيضاً على إثبات التوحيد والصفات الثبوتية والسلبية والأفعال.. فقال: القول في الوحدانية: فإن قيل: إذا كانت هذه الطريقة هي الطريقة الشرعية في معرفة وجود الصانع سبحانه، فما طريقة معرفة وحدانيته الشرعية أيضاً، وهو معرفة أنه لا إله إلا هو، فإن هذا النفي هو معنىً زائد على الإيجاب الذي تضمنته هذه الكلمة، والإيجاب قد ثبت من القول المتقدم، فبماذا يصح النفي؟ قلنا: أما نفي الألوهية عما سواه، فإن طريق الشرع في ذلك هي الطريق التي نص الله عليها في كتابه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 336 وذلك في ثلاث آيات: إحداها قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] . والثانية قوله: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون} [المؤمنون: 91] . والثالثة قوله: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] . فأما الآية الأولى فدلالتها مغروزة في الفطر بالطبع، وذلك أنه من المعلوم بنفسه أنه إذا كان ملكان كل واحد منهما فعله فعل صاحبه، أه ليس يمكن أن يكون عن تدبيرهما مدينة واحدة، لأنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد، فيجب ضرورة إن فعلا معاً أن تفسد المدينة الواحدة، إلا أن يكون أحدهما يفعل ويبقى الآخر عطلاً، وذلك منتف في صفة الإلهية، فإنه متى اجتمع فعلان من نوع واحد على محل واحد، فسد المحل ضرورة، أو تمانع الفعل، فإن الفعل الواحد لا يصدر إلا عن واحد. فهذا معنى قوله سبحانه: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 337 قلت: المعلوم بنفسه أنه لا يكون المفعول الواحد بعينه فعلاً لفاعلين على سبيل الاستقلال ولا التعاون، ولا يكون المعلول الواحد بالعين معلولاً لعلتين مستقلتين ولا متشاركتين، وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء بعد تصوره، فإنه إذا كان أحدهما مستقلاً به، لزم أن يحصل جميع المفعول المعلول به وحده، فلو قدر أن الآخر كذلك، للزم أن يكون كل منهما فعله كله وحده، وفعله له وحده ينفي أن يكون له شريك فيه، فضلاً عن آخر مستقل، فيلزم الجمع بين النقيضين: إثبات استقال أحدهما ونفي استقلاله، وإثبات تفرده به ونفي تفرده به، وهذا جمع بين النقيضين. ومن المعلوم بنفسه أن عين المفعول، الذي يفعله فاعل، لا يشركه فيه غيره، كما لا يستقل به، فإنه لو شرك فيه غيره، لم يكن مفعوله، بل كان بعضه مفعوله، وكان مفعولاً له ولغيره، فيمتنع وقوع الاشتراك فيما هو مفعول لواحد. ولهذا كان المعقول من الاشتراك هو التعاون، بأن يفعل كل منهما غير ما يفعله الآخر، كالمتعاونين على البناء: هذا ينقل اللبن، وهذا يضعه. أو على حمل الخشبة: هذا يحمل جانباً، وهذا يحمل جانباً. والمخلوقات جميعها يعاون بعضها بعضاً في الأفعال، فليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول ينفرد به، بل لا بد له من مشارك معاون مستغن عنه، ثم مع احتياجه إلى المشارك، له من يعارضه ويعوقه عن الفعل، فلا بد له من مانع يمنع التعارض المعوق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 338 وهذا في كل ما يقال إنه مؤثر واحد يصدر عنه وحده شيء أصلاً. فلا واحد يفعل وحده إلا الله سبحانه. وهذا مما يبين ضلال هؤلاء المتفلسفة القائلين بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. وجعلوا هذه قضية كلية ليدرجوا فيها واجب الوجود. ويقولوا: لم يصدر عنه إلا واحد بسيط، وهو ما يسمونه العقل. فإن هذا القول، وإن كان فساده معلوماً من وجوه كثيرة، لكن المقصود هنا أن هذه القضية الكلية لا تصدق في موضع واحد غير محل النزاع. ومحل النزاع علم فيه أن الفاعل واحد، لكن لم يعلم فيه أنه لا يفعل إلا واحداً. وأيضاً فالوحدانية التي يستحق الرب أن يوصف بها، ليست هي الوحدة التي يدعونها، فإن تلك الوحدة التي يدعونها لا تصدق إلا على الممتنع الذي لا يمكن وجوده إلا في الذهن لا في الخارج، إذ يثبتون وجوداً مطلقاً أو مشروطاً بسلب الأمور الثبوتية أو الثبوتية والعدمية. وهذا لا يكون إلا في الأذهان، كما قد قرروا ذلك في منطقهم، وهو معلوم بصريح العقل، وقد بين هذا في موضعه. والمقصود هنا أنهم لا يعلمون واحداً يصدر عنه شيء غير الله تعالى. فإذا قالوا: الشمس يصدر عنها الشعاع، فالشعاع لا يحصل إلا مع وجود جسم قابل له ينعكس عليه الشعاع، فصار لوجوده سببان: الشمس، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 339 والجسم المقابل لها. ثم له مانع، وهو الحجب التي تحول بين الشمس وبين ما يقبل الشعاع. وهكذا النور الخارج من السراج، ونحوه من النيران، لا يحصل إلا بالنار، وبجسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، وارتفاع الحجب الحائلة بينهما. وكذلك تسخين النار، وتبريد الماء، وما يحصل بالخبز والماء من شبع وري، وسائر الآثار الحاصلة بالأغذية والأدوية وغير ذلك، فإنه لا بد من النار، ومن جسم يقبل أثرها، وإلا فالياقوت والسمندل ونحو ذلك لا تحرقه النار. وكذلك الغذاء لا ينفع إلا بقوة قابلة لأثره في الجسم، وأمثال ذلك كثيرة. وكذلك الفاعل المختار كالإنسان، فإن حركته الحاصلة باختياره، لا تحصل إلا بقوة من أعضائه يحتاج إليها، وليس هو الفاعل لأعضائه ولا لقواها، فهو محتاج في فعله إلى أسباب خارجة عن قدرته، وقد يحصل في بدنه من العوائق ما يعوقه عن الحركة. هذا فعله في نفسه، فأما الأمور المنفصلة عنه التي يقال: إنها متولدة عن فعله، فمن الناس من يقول: ليست مفعولة له بحال، بل هي مفعولة لله تعالى، كما يقول ذلك كثير من متكلمي المثبتين للقدر. ومنهم من يقول. بل هو مفعول له على طريق التولد، كما يقوله من يقوله من المعتزلة ويحكى عن بعضهم: أنه قال: لا فاعل لها بحال. وحقيقة الأمر أن تلك قد اشترك فيها الإنسان والسبب المنفصل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 340 عنه، فإنه إذا ضرب بحجر فقد فعل الحذف، ووصول الحجر إلى منتهاه حصل بهذا السبب، وبسبب آخر من الحجر والهواء. وكذلك الشبع والري حصل بسبب أكله وشربه، الذي هو فعله، وبسبب ما في الطعام والشراب من قوة التغذية، وما في بدنه من قوة القبول لذلك، والله خالق هذا كله. وهذا مما يبين أنه ليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول أصلاً، فالقلب الذي هو ملك البدن، وإن كان منه تصدر الإرادات المحركة للأعضاء، فلا يستقبل بتحريك، إلا بمشاركة الأعضاء وقواها كما تقدم. وولاة الأمور، المدبرون للمدائن والجيوش، لا يستقل أحدهم بمفعول، إن لم يكن له من يعينه عليه، وإلا فقوله وعمله أعراض قائمة به لا تجاوزه، وكل ما يصدر خارجاً عنه فمتوقف على أسباب أخرى خارجة عن محل قدرته وفعله. وهذا كله مما يبين عجز كل مخلوق عن الاستقلال بمفعول ما، فلا يكون شيء من المخلوقات رباً لشيء من المخلوقات رباً لشيء من المخلوقات ربوبية مطلقة أصلاً، إذ رب الشيء من يربه مطلقاً من جميع جهاته، وليس هذا إلا لله رب العالمين. ولهذا منع في شريعتنا من إضافة الرب إلى المكلفين، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم: اسق ربك أطعم ربك» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 341 بخلاف إضافته إلى غير المكلفين، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن عوف الجشمي: «أرب إبل أنت أم رب شاء؟» وقولهم: رب الثوب والدار. فإنه ليس في هذه الإضافة ما يقتضي عبادة هذه الأمور لغير الله، فإن هذا لا يمكن فيها، فإن الله فطرها على أمر لا يتغير، بخلاف المكلفين، فإنهم يمكن أن يعبدوا غير الله، كما عبد المشركون به من الجن والإنس غيره، فمنع من الإضافة في حقهم تحقيقاً للتوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه. ولهذا لم يكن شيء يستلزم جود المفعولات إلا مشيئة الله وحده، فما شاء الله كان، وإن لم يشأ ذلك غيره، وما لم يشأ لا يكون، ولو شاءه جميع الخلق. فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه وإذا عرف أنه ليس في المخلوقات ما هو مستقل بمفعول ولا معلول، فليس في المخلوقات ما هو رب لغيره أصلاً، بل فعل كل مخلوق له فيه شريك، وقد يكون له مانع، وهذا مما يدل على إثبات الصانع تعالى ووحدانيته، كما نبه عليه في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أنه من المعلوم بنفسه أنه لا يكون اثنان مستقلين بفعل، ولا يكون مفعول واحد قد فعله كل من الاثنين، ولا يكون نفس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 342 مفعول الفاعل الواحد قد شاركه فيه غيره، فحيث حصلت المشاركة لم يكن هناك مفعول واحد لفاعل واحد، فإن الوحدة تناقض الشركة، ومفعولات المخلوقات لا بد فيها من الاشتراك، لكن لا يفعل أحد الشريكين نفس فعل الآخر، فلا تفعل اليد ما تفعله العين، ولا يفعل الدماغ ما يفعله القلب، وإن كان كل منها مفتقراً إلى غيره في فعله. فكذلك السفينة إذا كان فيها ربانان، أو كان للقرية رئيسان، أو للمدينة ملكان، لم يمكن أن يكون فعل هذا هو نفس فعل هذا، بل يفعل هذا شيئاً وهذا شيئاًن وما يفعله كل منهما لا يفعله الآخر. فلهذا قال هذا الرجل: إنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد، وقوله: من نوع واحد -إن كان زيادة إيضاح، وإلا فلا حاجة إليه، فإنه لا يمكن أن يكون عن فاعلين فعل واحد، سواء كان فعلهما نوعاً واحداً أو نوعين مختلفين، بل الامتناع هنا أظهر. وقوله: متى اجتمع فعلان من نوع واحد على محل واحد فسد المحل ضرورة، أو تمانع الفاعل، فإن الفعل الواحد لا يصدر إلا عن فاعل واحد فحقيقته أن يقال: بل يمتنع الفعل والحال هذه، فلا يمكن وقوعه حتى يقال: إن المحل يفسد أو لا يفسد. ولكن هو ظن -كما ظن من ظن من المتكلمين- أن الإله هو بمعنى الرب، وأن دلالة الآية على انتفاء إلهين إنما دلت به على انتفاء ربين فقط، وذلك يظهر بتقدير امتناع الفعل من ربين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 343 وسنبين إن شاء الله أن الآية دلت على ما هو أكمل وأعظم من هذا، وأن إثبات ربين للعالم لم يذهب إليه أحد من بني آدم، ولا أثبت أحد إلهين متماثلين، ولا متساويين في الصفات ولا في الأفعال، ولا أثبت أحد قديمين متماثلين، ولا واجبي الوجود متماثلين. ولكن الإشراك الذي وقع في العالم إنما وقع بجعل بعض المخلوقات مخلوقة لغير الله في الإلهية بعبادة غير الله تعالى، واتخاذ الوسائط ودعائها والتقرب إليها، كما فعل عباد الشمس والقمر والكواكب والأوثان، وعباد الأنبياء والملائكة أو تماثيلهم ونحو ذلك. فأما إثبات خالقين للعالم متماثلين فلم يذهب إليه أحد من الآدميين. وقد قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25] . وقال تعالى: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون} [المؤمنون: 84-89] . وقال: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106] . والرسل دعوا الخلق إلى توحيد الإلهية، وذلك متضمن لتوحيد الربوبية. كما قال كل منهم لقومه: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} [الأعراف: 59] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 344 وقال: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف: 45] . وقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25] . وقال: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36] . وإلا فمجرد توحيد الربوبية قد كان المشركون يقرون به، وذلك وحده لا ينفع. وهؤلاء الذين يريدون تقرير الربوبية من أهل الكلام والفلسفة، يظنون أن هذا هو غاية التوحيد، كما يظن ذلك من يظنه من الصوفية، الذين يظنون أن الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية. وهذا من أعظم ما وقع فيه هؤلاء وهؤلاء من الجهل بالتوحيد، الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب. فإن هذا التوحيد -الذي هو عندهم الغاية- قد كان مشركو العرب يقرون به، كما أخبر الله عنهم. ولكن كثير من الطوائف قصر فيه، مع إثباته لأصله، كالقدرية الذين يخرجون أفعال الحيوان عن قدرة الله ومشيئته وخلقه، ولازم قولهم حدوث محدثات كثيرة بلا محدث. وأما الفلاسفة القائلون بقدم العالم، فلازم قولهم أن الحوادث جميعها ليس لها فاعل. ثم هم يجعلون بعض مبدعات الرب هي الفاعلة لما سواه، كما يزعمون مثل ذلك في العقل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 345 ومشركو العرب كانوا خيراً في التوحيد من هؤلاء، فإن هؤلاء غايتهم أن يثبتوا أسباباً لبعض الموجودات. لكن الأسباب لا تستقل، بل تفتقر إلى مشارك، وانتفاء معارض، وقد يثبتون أسباباً وعللاً لا حقيقة لها، كالعقول التي يزعمون أنها أبدعت ما سواها. وأما المجوس الثنوية فهم أشهر الناس قولاً بإلهين، لكن القوم متفقون على أن الإله الخير المحمود هو النور الفاعل للخيرات، وأما الظلمة -التي هي فاعل الشرور- فلهم فيها قولان: أحدهما: أنه محدث حدث عن فكرة رديئة من النور. وعلى هذا فتكون الظلمة مفعولاً للنور. لكنهم جهال أرادوا تنزيه الرب عن فعل شر معين، فجعلوه فاعلاً لأصل الشر، ووصفوه بالفكرة الرديئة التي هي من أعظم النقائص، وجعلوها سبباً لحدوث أصل الشر. والقول الآخر قولهم: إن الظلمة قديمة كالنور. فهؤلاء أثبتوا قديمين، لكن لم يجعلوها متماثلين ولا مشتركين في الفعل، بل يمدحون أحدهما ويذمون الآخر. ولذلك من قال من الملاحدة كمحمد بن زكريا الرازي الطبيب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 346 وأمثاله الذين اتبعوا قول طائفة من الملاحدة الفلاسفة القائلين بالقدماء الخمسة التي هي: واجب الوجود، والنفس، والهيولى، والدهر، والخلاء، وأن سبب حدوث العالم أن النفس تعلقت بالهيولى، فلم يمكن واجب الوجود أن يخلصها منها حتى تمتزج بالعالم، فتذوق ما فيه من الشرور. وسبب قوله هذا القول أنه كان يقول بحدوث العالم، وطولب بسبب حدوثه، فأثبت نوعاً من الحركات سماها الحركة الفلتية، وشبهها بالريح والصوت الذي يخرج من الإنسان بغير اختياره، وجعل عشق النفس للهيولى من هذا الباب، وظهر الناس جهله في إلحاده، فإن هذه الحركة على أي وجه كانت حادثة بعد أن لم تكن، فيسأل عن سبب حدوثها، كما يسأل عن سب حدوث حركة أخرى، فلم يتخلص بهذا الجهل من السؤال. والمقصود أن كثيراً من أهل الشرك والضلال قد يضيف وجود بعض الممكنات، أو حدوث بعض الحوادث، إلى غير الله. وكل من قال هذا لزمه حدوث الحادث بلا سبب. وهم مع شركهم، وما يلزمهم من نوع تعطيل في الربوبية، لا يثبتون مع الله شريكاً مساوياً له في أفعاله ولا في صفاته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 347 وإما إثبات الأسباب التي لا تستقل بالأثر، بل تفتقر إلى مشارك معاون، وانتفاء معارض مانع، وجعلها مخلوقة لله -فهذا هو الواقع الذي أخبر به القرآن، ودل عليه العيان والبرهان. وهو من دلائل التوحيد وآياته، ليس من الشرك بسبيل، فإن ذلك مما يبين أنه ليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول من المفعولات. والمقصود هنا أن هؤلاء اعتقدوا أن قوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] ، إنما يدل على نفي الشركة في الربوبية، وهو أنه ليس للعالم خالقان، ثم صار كل منهما يذكر طريقاً في ذلك. فهذا الفيلسوف ابن رشد قرر هذا التوحيد كما تقدم. قال: وأما قوله تعالى: {إذا لذهب كل إله بما خلق} [المؤمنون: 91] ، فهذا رد منه على من يضع آلهة كثيرة مختلفة الأفعال، وذلك أنه يعقل في الآلهة المختلفة الأفعال، التي لا يكون بعضها مطيعاً لبعض، أن لا يكون عنها موجود واحد، بل موجودات كثيرة، فكان يكون العالم أكثر من واحد، وهو معنى قوله: {إذا لذهب كل إله بما خلق} [المؤمنون: 91] ، ولما كان العالم واحداً، وجب أن لا يكون موجوداً عن آلهة كثيرة متفننة الأفعال. قلت: لما قرر أولاً امتناع ربين فعلهما واحد، قرر امتناع أرباب تختلف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 348 أفعالهم، فإن اختلافهم الأفعال يمنع أن يكون المفعول واحداً والعالم واحداً. وكلامه في تفسير هذا الآية بهذا، من جنس كلامه في تفسير تلك الآية بذاك. قال: وأما قوله تعالى: {لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] ، فهي كالآية الأولى، أعني أنه برهان على امتناع إلهين فعلهما واحد. ومعنى هذه الآية: أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله قادرة على إيجاد العالم وخلقه، غير الإله الموجود، حتى تكون نسبته من هذا العالم نسبة الخالق له، لوجب أن يكون على العرش معه. فكان يوجد موجودان متماثلان ينتسبان إلى محل واحد نسبة واحدة، فإن المثلين لا ينتسبان إلى محل واحد نسبة واحدة، لأنه إذا اتحدت نسبته اتحد المنسوب، أعني أن يكونا بالمحل، وإن كان الأمر في نسبة الإله إلى العرش ضد هذه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 349 النسبة أعني أن العرش يقوم به، لا أنه يقوم بالعرش. ولذلك قال: {وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم} [البقرة: 255] . قلت: قد سلك في هذه الآية هذا المسلك الذي ذكره. والآية فيها قولان معروفان للمفسرين: أحدهما: أن قوله: {لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] ، أي بالتقرب إليه والعبادة والسؤال له. والثاني: بالممانعة والمغالبة. والأول هو الصحيح، فإنه قال: {لو كان معه آلهة كما يقولون} [الإسراء: 42] ، وهم لم يكونوا يقولون: إن آلهتهم تمانعه وتغالبه. بخلاف قوله: {وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] ، فهذا في الآلهة المنفية، ليس فيه أنها تعلوا على الله، وأن المشركين يقولون ذلك. وأيضاً فقوله: {لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] ، يدل على ذلك، فإنه قال تعالى: {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} [المزمل: 19] ، والمراد به اتخاذ السبيل إلى عبادته وطاعته، بخلاف العكس، فإنه قال: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} [النساء: 43] ، ولم يقل: إليهن سبيلاً. وأيضاً فاتخاذ السبيل إليه مأمور به، كقوله: {وابتغوا إليه الوسيلة} [المائدة: 35] ، وقوله: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 350 فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه} [الإسراء: 56-57] . فبين أن الذين يدعون من دون الله يطلبون إليه الوسيلة. فهذا مناسب لقوله: {لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] . وليس المقصود هنا بسط الكلام على ذلك، إذ المقصود بيان ما ذكره في طرق المعتزلة ومن سلك سبيلهم من الأشعرية. قال: فهذا هو الدليل الذي بالطبع والشرع في معرفة الوحدانية. وإنما الفرق بين الجمهور وبين العلماء في هذا الدليل أن العلماء يعلمون من اتحاد العالم وكون أجزائه بعضها من أجل بعض، بمنزلة الجسد الواحد، أكثر مما يعلمه الجمهور من ذلك. ولهذا المعنى الإشارة بقوله تعالى في آخر الآية: {سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا * تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا} [الإسراء: 43-44] . قال: وأما ما يتكلفه الأشعرية -يعني والمعتزلة- من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 351 الدليل الذي يستنبطونه من هذه الآية، وهو الذي يسمونه دليل التمانع، فشيء ليس يجري مجرى الأدلة الطبيعية ولا الشرعية. أما كونه ليس يجري مجرى الطبع، فلأن ما يقولون في ذلك ليس برهاناً، وأما كونه ليس شرعياً لا يجري مجرى الشرع، فإن الجمهور لا يقدرون على فهم ما يقولون من ذلك، فضلاً عن أن يقع لهم به إقناع، وذلك أنهم قالوا: لو كانا اثنين فأكثر لجاز أن يختلفا، وإذا اختلفا لم يخل ذلك من ثلاثة أقسام لا رابع لها: إما أن يتم مرداهما جميعاً، وإما أن لا يتم مراد أحدهما ويتم مراد الآخر، وإما أن لا يتم مراد واحد منهما. قالوا: ويستحيل أن لا يتم مراد واحد منهما، لأنه لو كان الأمر كذلك، لكان العالم لا موجوداً ولا معدوماً. ويستحيل أن يتم مرادهما جميعاً، لأنه كان يكون العالم موجوداً معدوماً معاً. فلم يبق إلا أن يتم مراد أحدهما، ويبطل مراد الآخر. والذي بطلت إرادته عاجز، والعاجز ليس بإله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 352 قال: ووجه الضعف في هذا الدليل أنه كما يجوز في العقل أن يختلفا، قياساً على المريدين في الشاهد، كذلك يجوز أن يتفقا، وهو الأليق بالإلهية من الاختلاف. وإذا اتفقا على صناعة العالم، كانا مثل الصانعين: اتفقا على صنع مصنوع ما. وإذا كان هذا هكذا، فلا بد أن يقال: إن أفعالهم -ولو اتفقا- كان تتعاوق لورودهما على محل واحد، إلا أن يقول قائل: ولعل هذا يفعل بعضاً والآخر بعضاً، أو لعلهما يفعلان على المداولة، إلا أنه هذا التشكيك لا يليق بالجمهور. والجواب في هذا لمن يشكك من الجدليين في هذا المعنى: أن الذي يقدر على اختراع البعض يقدر على اختراع الكل، فيعود الأمر إلى قدرتهما على كل شيء، فإما أن يتفقا وإما أن يختلفا، وكيفما كان يتعاوق الكل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 353 وأما التداول، فهو نقص في حق كل واحد منهما. والأشبه أن لو كانا اثنين أن يكون العالم اثنين. فإذاً العالم واحد، فالفاعل واحد. فإن الفعل الواحد إنما يوجد عن واحد، فإذا ليس ينبغي أن يفهم من قوله: {ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] ، من جهة اختلاف الأفعال فقط، بل من جهة اتفاقهما، فإن الأفعال المتفقة تتعاوق في ورودها على المحل الواحد، كما تتعاوق الأفعال المختلفة. قال: وهذا هو الفرق بين ما فهمناه نحن من الآية، وما فهمه المتكلمون، وإن كان قد يوجد في كلام أبي المعالي إشارة إلى هذا الذي قلناه. قلت: بل الذي ذكره النظار عن المتكلمين، الذي سموه دليل التمانع، برهان تام على مقصودهم. وهو امتناع صدور العالم عن اثنين وإن كان هذا هو توحيد الربوبية. والقرآن يبين توحدي الإلهية وتوحيد الربوبية. لكن المقصود هنا أن اعتراض هذا على دليل نظار المتكلمين هو اعتراض مشهور، قد ذكره غيره، وظنوا أنه اعتراض قادح في الدلالة، كما ذكر ذلك الآمدي وغيره. وحتى ظن بعض الناس أن التوحيد إنما يعرف بالسمع. وليس الأمر كما ظنه هؤلاء، بل هو برهان صحيح عقلي. كما قدره الجزء: 9 ¦ الصفحة: 354 فحول النظار، وكما بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع، وأفردت مصنفاً للتوحيد. وذلك أن هؤلاء النظار قالوا: إذا قدر ربان متماثلان فإنه يجوز اختلافهما، فيريد أحدهما أن يفعل ضد مراد الآخر، وحينئذ: إما أن يحصل مراد أحدهما، أو كلاهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما. والأقسام الثلاثة باطلة، فيلزم انتفاء الملزوم. أما الأول: فلأنه لو وجد مرادهما للزم اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء الواحد حياً ميتاً، متحركاً ساكناً، قادراً عاجزاً، إذا أراد أحدهما أحد الضدين وأراد الآخر الضد الآخر. وأما الثاني: فلأنه إذا لم يحصل مراد واحد منهما، لزم عجز كل منهما، وذلك يناقض الربوبية. وأيضاً فإذا كان المحل لا يخلو من أحدهما، لزم ارتفاع القسمين المتقابلين، كالحركة والسكون، والحياة والموت، فيما لا يخلو عن أحدهما. وإن نفذ مراد أحدهما دون الآخر، كان النافذ مراده هو الرب القادر، والآخر عاجزاً ليس برب، فلا يكونان متماثلين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 355 فلما قيل لهم: هذا إنما يلزم إذا اختلفت إرادتهما، فيجوز اتفاق إرادتهما. أجابوا بأنه إذا اتفقا في الآخرة امتنع أن يكون نفس ما فعله أحدهما نفس مفعول الآخر، فإن استقلال أحدهما بالفعل والمفعول، يمنع استقلال الآخر به، بل لا بد أن يكون مفعول هذا متميزاً عن مفعول هذا. وهذا معنى قوله تعالى: {إذا لذهب كل إله بما خلق} [المؤمنون: 91] . وهذا ممتنع، فإن العالم مرتبط بعضه ببعض ارتباطاً يوجب أن الفاعل هذا ليس هو مستغنياً عن فاعل الآخر، لا حتياج بعض أجزاء العالم إلى بعض. وأيضاً فلا بد أن يعلو بعضهم على بعض، فإن ما ذكرناه من جواز تمانعهما، إنما هو مبني على جواز اختلاف إرادتهما. وذلك أمر لازم من لوازم كون كل منهما قادراً، فإنهما إذا كانا قادرين، لزم جواز اختلاف الإرادة. وإن قدر أنه لا يجوز اختلاف الإرادة، بل يجب اتفاق الإرادة، كان ذلك أبلغ في دلالته على نفي قدرة كل واحد منهما، فإنه إذا لم يجز أن يريد أحدهما ويفعل إلا ما يريده لآخر ويفعله، لزم أن لا يكون واحد منهما قادراً، إلا إذا جعله الآخر قادراً، ولزم أن لا يقدر أحدهما إلا إذا لم يقدر الآخر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 356 وعلى التقديرين يلزم أن لا يكون واحد منهما قادراً، فإنه إذا لم يمكنه أن يريد ويفعل، إلا ما يريده الآخر ويفعله، والآخر كذلك، وليس فوقهما أحد يجعلهما قادرين مريدين، لم يكن هذا قادراً مريداً، حتى يكون الآخر قادراً مريداً. وحينئذ فإن كان كل منهما جعل الآخر قادراً مريداً، كان هذا دوراً قبلياً، وهو دور في الفاعلين والعلل. كما لو قيل: لا يوجد هذا حتى يوجده هذا، ولا يوجد هذا حتى يوجده الآخر، فإن هذا محال ممتنع في صريح العقل، ولم ينازع العقلاء في امتناع ذلك، وهذا يسمى الدور القبلي. بخلاف ما إذا قيل: لا يكون هذا إلا مع هذا، ولا هذا إلا مع هذا، كالأمور المتلازمة، فإن هذا يسمى الدور المعي الاقتراني. وذلك جائز، كما إذا قيل: ذات الرب لا تكون إلا مع صفاته اللازمة لها، وصفاته اللازمة لها لا تكون إلا مع ذاته، وقيل: لا تكون حياته إلا مع علمه، ولا علمه وحياته إلا مع قدرته، ونحو ذلك. فتبين أنه يمتنع أن تكون قدرة كل منهما مستفادة من قدرة الآخر. وإن قيل: بل كل منهما قادر مريد، من غير أن يستفيد أحدهما ذلك من الآخر. وهو دور معي لا قبلي، كان هذا أيضاً باطلاً. فإنه حينئذ يجب أن تكون قدرة كل منهما من لوازم ذاته، فلزم أن صانع العالم لا بد أن يكون قادراً، قدرة لا يحتاج فيها إلى غيره، بل تكون من لوازم ذاته، وهذا حق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 357 وحينئذ فإذا قدر ربان، لزم أن يكون كل منهما قادراً قدرة لازمة لذاته، لا يحتاج فيها إلى غيره، فيكون الفعل بتلك القدرة ممكناً، فيلزم أن يكون الرب قادراً متمكناً من الفعل بمجرد قدرته، لا يحتاج في ذلك إلى غيره. وحينئذ فيمتنع وجد ربين: كل منهما كذلك، لأنه إذا كان كل منهما قادراً بنفسه على الفعل، أمكنه أن يفعل دون الآخر، وأمكن الآخر أن يفعل دونه، وهذا ممتنع، فإنه إذا فعل أحدهما شيئاً، امتنع أن يكون الآخر فاعلاً له، أو شريكاً فيه، مع استقلال الأول بفعله، فيلزم عجز كل منهما عما يفعله الآخر، ويلزم أنه لا يمكنه الفعل إن لم يمكنه الآخر منه، فلا يفعله هو، فيلزم أن يكون كل منهما عاجزاً غير قادر على الفعل. وقد تبين أنه لا بد أن يكون كل منهما قادراً على الفعل، فيلزم الجمع بين النقيضين، ويلزم أيضاً أنه لا يكون هذا قادراً إلا إذ كان الآخر غير قادر، فيلزم أن يكون كل منهما قادراً غير قادر، وهذا جمع ثان بين النقيضين. فتبين أن الخالق لا بد أن يكون قادراً بنفسه على الاستقلال بالفعل. وهذا وحده برهان كاف. وحينئذ فلا بد أن يكون أحدهما أقدر من الآخر، فيلزم علو بعضهم على بعض. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 358 ولهذا بين الله تعالى في كتابه: أن كل واحد من ذهاب كل إله بما خلق، ومن علو بعضهم على بعض، برهان قاض بأنه ليس مع الله إله. كما قال تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] . فجعل هنا لازمين، كل منهما يدل على انتفاء الملزوم. أحدهما قوله: {إذا لذهب كل إله بما خلق} فإن الإله لا بد أن يكون قادراً مستقلاً بالقدرة على الفعل، لا يحتاج في كونه قادراً إلى غيره، كما تقدم من أنه لو كانت قدرة أحدهما يحتاج فيها إلى من يجعله قادراً، كان ذلك ممتنعاً. فإن الذي يجعله قادراً: إن كان مخلوقاً له، فهو الذي جعل المخلوق قادراً، فلو كان المخلوق هو الذي جعله قادراً، كان هذا دوراً ممتنعاً، كما يمتنع أن يكون المخلوق خالقاً للخالق. وإن كان قديماً واجباً بنفسه مثله. كان القول في قدرته كالقول في قدرة الآخر. فإن كانت قدرته من لوازم ذاته، لا يحتاج فيها إلى غيره، ثبت المدعى. وإن كان يحتاج فيها إلى غيره، لم يكن قادراً حتى يجعله ذلك الآخر قادراً، وهذا دور ممتنع، كما يمتنع أن لا يكون أحدهما موجوداً أو عالماً حتى يجعله الآخر موجوداً وعالماً، فإنه حينئذ يكون كونه موجوداً وقادراً وعالماً، مستفاداً من الآخر ومفعولاً له، فلا يكون هذا حتى يكونه هذا، ولا يكون هذا حتى يكونه هذا. فلا يكون هذا ولا هذا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 359 وهذا أعظم امتناعاً من أن يقال: لا يكون الشيء حتى يكون نفسه، فإنه ذلك يقتضي كون نفسه فاعلة لنفسه ومتقدمة عليها. وهذا وإن كان ممتنعاً في صريح العقل، فكونه فاعلاً لفاعل نفسه، ومتقدماً على المتقدم على نفسه، أبلغ في الامتناع. فإذا كان يمتنع أن لا يكون الواحد قادراً، حتى جعل نفسه قادراً، فكون كل منهما لا يكون قادراً، حتى يجعله الآخر قادراً -أولى بالامتناع. وذلك أنه لا يجعل نفسه قادراً حتى يكون هو قادراً، فيلزم أن يكون حينئذ قادراً غير قادر. وكذلك يلزم إذا لم يكن أحدهما قادراً ألا يجعل الآخر، أن يكون كل منهما قادراً غير قادر مرتين: حين جعل مجعوله قادراً، وحين جعله مجعوله قادراً. ولما كان هذا من المعالم البديهية الضرورية لمن تصوره، لم يحتج إلى تقرير، وإذا كان ذلك الإله لا بد أن يكون قادراً على الاستقلال بالفعل، فاستقلاله بالفعل يمنع أن يكون غيره فاعلاً له ومشاركاً له فيه، فيلزم أن ينفرد كل إله بما خلق، ولا يحتاج فيه إلى غيره. وحينئذ يلزم أن لا يحتاج مخلوق هذا إلى مخلوق هذا، لأن ذلك يوجب حاجة كل منهما إلى الآخر، وأنه لا يقدر أن يفعل إلا مع فعل الآخر، ويكون فعل كل منهما مستلزماً لفعل الآخر ملزوماً له، والملزوم لا يوجد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 360 بدون لازمه، فيلزم العجز عن الانفراد بالفعل، وذلك بنفي القدرة التي هي من لوازم الربوبية. وأما البرهان الثاني: وهو لزوم علو بعضهم على بعض، وذلك بمنع إلهية المغلوب فإنه يمتنع أن يقدر أحدهما على عين مقدور الآخر، لأن ذلك يستلزم أن يكون ما فعله أحدهما يقدر الآخر أن يفعله، مع كونه فعل الأول. ويمتنع أن يكون كل منهما لا يقدر إلا إذا مكنه الآخر وأقدره، فإن ذلك يستلزم أن لا يكون أحدهما قادراً، فيمتنع أن يكون كل منهما قادراً على الاستقلال، ويمتنع أن يكونا قادرين على مفعول واحد، فيلزم حينئذ أن لا يوجد مفعول واحد، لا بطريق استقلال أحدهما، ولا بطريق اشتراكهما فيه، وذلك يمنع أن يكون أحدهما قادراً. وكذلك يمتنع أن يكونا متماثلين في القدرة، فإنه إن أمكن كل منهما منع الآخر من الفعل، لزم امتناع الفعل، وانتفاء القدرة عن كل منهما. وإن لم يمكنه ذلك، لزم أن لا يكون قادراً على ما يقدر عليه الآخر، إذا لو كان قادراً عليه، لأمكنه فعله. وذلك ممتنع. وإذا لم يكن قادراً على ما يقدر عليه الآخر، لم تكن قدرته مثل قدرته، فإن المثلين هما اللذان يسد أحدهما مسد الآخر، ويقوم مقامه. وإذا امتنع تماثل القدرتين، وجب كون أحدهما أقدر من الآخر، وحينئذ فالأقدر الأقوى يغلب الأضعف. وهذا معنى قوله: {ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 361 فإن قيل: قد أوردوا هنا سؤالاً معروفاً، أورده الآمدي وغيره، وذكروا أنه لا جواب عنه. وهو أنه يجوز أن يكون كل منهما قادراً، بشرط أن لا يفعل الآخر معه. ولا يقدح ذلك في القدرة كما يكون هو قادراً على أحد الضدين، بشرط عدم الآخر. فإن اجتماع الضدين محال، فالقدرة على فعل أحدهما ينافي القدرة على فعل الآخر معه، ولا ينافي القدرة على فعل الآخر حال عدمه. بل كل من الضدين مقدور بشرط عدم الآخر، وهو مقدور على سبيل البدل، لا على سبيل الجمع، فكذلك يقال في القادرين: كل منهما قادر على الفعل المعين، حال عدم قدرة الآخر عليه. قيل: هذا تشبيه باطل. وذلك أن القادر على الضدين يفعل كل منهما بمشيئته. وإذا فعل أحدهما لم يكن عاجزاً عن فعل الآخر، لكنه قادر عليه إن اختاره والجمع بينهما ممتنع لذاته، ليس بشيء. وذلك لا ينافي القدرة بوجه من الوجوه، فإن الفاعل لأحد الضدين يختار هذا دون ذاك، فلم يكن عدمه إلا لكونه لم يرده، لا لأن غيره منعه منه. ولا أن قدرته عاجزة عنه إذا أراد أن يفعله، بخلاف القادر إذا قيل: إنه لا يمكنه الفعل إلا إذا أمكنه غيره، ولم يرد أن يفعل معه، ولو أراد الآخر أن يفعل ما فعله، لم يقدر أن يفعله هو، فإنه حينئذ لا يكون قادراً بنفسه، بل يكون غير قادراً حتى يمكنه الآخر، ويمتنع من أن يفعل ما يفعله. ومما يوضح هذا أن الخالق لا بد أن يكون قادراً، وأن يكون قادراً بنفسه، لا بقدرة استفادها من غيره، ويمتنع أن يكون معه آخر قادر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 362 بنفسه، فإن القادر لا بد أن يقدر أن يفعل وحده مفعولاً لا يشركه فيه غيره، فإنه إذا كان لا يقدر إن لم يعاونه غيره، لم يكن قادراً بنفسه، بل كان تمام قدرته من ذلك المعنى له. ويمتنع أن يكون كل منهما لا يكون قادراً إلا بإعانة الآخر، فإن هذا بدون إعانة الآخر ليس بقادر، وهذا بدون إعانة الآخر ليس بقادر، فليس واحد منهما قادراً بنفسه، ومن لم يكن قادراً بنفسه امتنع أن يجعل غيره قادراً، فإنه إذا لم يكن القادر قادراً بنفسه، امتنع أن يجعل غيره قادراً بطريق الأولى، فلو لم يكن الوجود من هو قادر بنفسه، بمعنى أنه قادر على أن يستقل بالفعل، فيفعل وحده من غير شريك ومعين، لم يكن في الوجود حادث، لامتناع وجود الحوادث بدون القادر بنفسه. والحوادث مشهودة دلت على وجود القادر بنفسه، ويمتنع أن يكون في الوجود قادران على الاستقلال بالفعل، بحيث يكون كل منهما مستقلاً بالفعل وحده، فإنه إذا قدر ذلك، فحال ما يفعل أحدهما الفعل، يمتنع أن يكون الآخر قادراً على ذلك الفعل بعينه، فاعلاً له وحده، فإنه إذا فعله أحدهما وحده، لم يكن له شريك، فضلاً عن أن يفعله غيره مستقلاً، فتبين أنه حال ما يكون الشيء مقدوراً لقادر مستقل، أو مفعولاً لفاعل مستقل، لا يكون مقدوراً ولا مفعولاً لآخر مستقل. فتبين أن ما يقدر عليه يفعله القادر المستقل، يمتنع أن يقدر عليه غيره ويفعله غيره، بل يكون هذا عاجزاً عما يفعله هذا، ولا يكون هذا قادراً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 363 إلا إذا مكنه الآخر وخلاه يفعله، فلا يكون واحد منهما قادراً حتى يجعله الآخر قادراً، فلا يكون واحد منهما قادراً. فتبين امتناع وجود قادرين مستقلين، وتبين امتناع وجود الفعل بدون قادر مستقل، أنه لا يكفي وجود قادر غير مستقل، ولا يجوز وجود قادرين مستقلين، فعلم أن القادر على الخلق واحد، لا يجوز أن يكون اثنان قادرين على الخلق، سواء اتفقا أو اختلفا، وهو المطلوب. وهذا أمر مستقر في فطر بني آدم وعقولهم، وإن تنوعت العبارات عنه، وإن كان قد يحتاج إذا تغيرت فطرة أحدهم باشتباه الألفاظ والمعاني إلى بسط وإيضاح، فإنهم يعلمون أنه لا يجتمع ملكان متساويان في القدرة والملك. إن لم يكن ملك هذا منفصلاً عن ملك هذا، وإلا فإذا كان أحدهما يتصرف فيما يتصرف فيه الآخر، امتنع أن يكون كل منهما قادراً مالكاً لما يقدر عليه الآخر ويملكه، لأنه يجب حينئذ أن يكون كل منهما قادراً على ما يقدر عليه الآخر، بل فاعلاً مدبراً لما يفعله الآخر ويدبره، وذلك ممتنع، فإن قدرة أحدهما على الشيء وفعله له، يمنع أن يكون الآخر قادراً عليه وفاعلاً له، إلا في حال عدم قدرة الآخر وفعله، فيمكن أن يفعله هذا إذا لم يفعله هذا، ويقدر أحدهما على فعله إذا لم يفعله الآخر. فأما حال فعل الآخر له، فيمتنع أن يكون الآخر فاعلاً له إذا أراد فعله، وإذا امتنع كون أحدهما فاعلاً له إذا أراده، امتنع كونه قادراً عليه، فإن كونه قادراً عليه، مع امتناع فعل له إذا أراده، جمع بين النقيضين، فإن القادر هو الذي يقدر على الشيء إذا أراد فعله، فإذا كان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 364 لا يقدر عليه إذا أراده، لم يكن قادراً عليه، فامتنع أن يكون الشيء قادراً على فعل ما يفعله غيره، حال كون الآخر فاعلاً له، ومفعول أحدهما مقدور له. فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه فصل. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه وإذا كان حينئذ يمتنع كون الآخر فاعلاً له، وذلك يمنع كونه قادراً عليه، امتنع أن يكونا قادرين على مقدور واحد في حال واحدة، وفاعلين لمفعول واحد في حال واحد، بل لا يقدر أحدهما على الفعل إلا إذا تركه الآخر يفعله، وسكت عن فعله استقلالاً ومشاركة، ولو أراد الآخر أن يفعله، كان الآخر غير قادراً على فعله، فصار المانع لأحدهما من القدرة على الفعل والاستقلال به، كون الآخر قادراً عليه فاعلاً له. وذلك يوجب بطلان الربين من وجوه: منها: أن الممنوع الذي منعه غيره لا يكون قادراً، بخلاف من لم يفعل الفعل لكونه هو لم يرده، فإن هذا لا يمنع قدرته على الآخر. فإذا كان الرجل قادراً على القيام والقعود فاختار أحدهما بدلاً عن الآخر، لم يكن عدم الآخر لعجزه عنه، بل لأنه لم يرده، وهو لا يريد اجتماعهما في حال واحدة، لأن ذلك ممتنع لنفسه، لا لكونه غير قادر، أو لكونه عاجزاً عنه، فإن الممتنع بذاته ليس بشيء يتصور وقوعه. ولهذا اتفق النظار على أنه ليس بشيء، فلا يدخل في قوله: {إن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 20] ، بخلاف من كان لا يقدر أن يفعل فعلاً لأن غيره فعله، فإنه حينئذ يكون غير قادر على أن يفعل مفعول ذلك ولو أراده. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 365 ولهذا كان أحد الملكين غير قادر على أن يكون ملكاً مع ملك غيره، بل إنما يكون ملكاً مع انتفاء ملك غيره. وأيضاً فإنه إذا كان أحدهما قادراً، ولم يمنعه أن يكون قادراً فاعلاً للفعل إلا كون الآخر قادراً عليه فاعلاً له، لزم أن يكون كل منهما ممنوعاً حال ما هو مانع، وقادراً حال ما هو غير قادر، فإن أحدهما حينئذ لا يمنعه من الفعل المعين كون الآخر قادراً عليه فاعلاً له، وذلك لا يكون قادراً فاعلاً، إلا إذا لم يكن ممنوعاً، ولا يكون ممنوعاً إلا إذا كان المانع قادراً، فيلزم ألا يكون هذا قادراً إلا إذا كان غير قادر، ولا ممنوعاً إلا إذا كان غير ممنوع، ولا فاعلاً إلا إذا كان غير فاعل، وذلك جمع بين النقيضين. وهذا كله بين في فطر الناس، فإنه يعلمون أن من كان أميراً أو متولياً على فعل، أو إماماً لقوم، أو قاعداً في مكان، لم يقدر غيره أن يكون أميراً، أو متولياً أو إماماً، أو فاعلاً، حال كون الآخر أميراً، أو متولياً، أو إماماً، أو قاعداً. فتبين أن القادر على الفعل لا يقدر حال فعل الآخر له، ولا حال قدرة الآخر عليه. أما قدرته حال فعل الآخر، فظاهر الامتناع. وأما حال قدرة الآخر، فلا يمكن أن يفعله، إلا إذا سكت الآخر عن فعله، وتركه وحده يفعل، وأما حال فعل الآخر فلا يكون قادراً. فتبين أن اجتماع قادرين بأنفسهما ممتنع لذاته في فطر جميع الناس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 366 وحينئذ فالقادر بنفسه هو واحد، فيجب أن يكون الإله العالي الغالب وما سواه مقهور مغلوب. وحينئذ فلا يكون الواحد قادراً إلا إذا كان الآخر غير قادر، فإن كلاً منهم قادر حال عدم قدرة الآخر، فلا يكون أحدهما قادراً إلا مع كون الآخر غير قادر، وكل منهما قدرته من لوازم ذاته إن كان قادراً، فيلزم من ذلك أن يكون كل منهما لا يزال قادراً غير قادر، فيلزم الجمع بين النقيضين. وكذلك إذا قيل: لا يكون أحدهما قادراً إلا إذا جعله الآخر قادراً، أو مكنه الآخر، وامتنع من منعه، فإنه يلزم ألا يكون واحد منهما قادراً للدور الممتنع، وهو قد جعل فاعلاً، فيلزم اجتماع النقيضين، فيلزم ألا يكون واحد منهما قادراً، مع وجوب كون الخالق قادراً، ويلزم أن يكون كلاً منهما غير قادر مع كونه قادراً. وهذا كله من الممتنع بصريح العقل، وهو لازم من إثبات ربين قديمين واجبين بأنفسهما، فدل على امتناع ذلك. وسواء قدر اتفاقهما على الفعل أو اختلافهما فيه، فنفس كونهما قديمين واجبين قادرين ممتنع، ونفس كونهما غير قادرين ممتنع، ونفس اجتماع القدرة وعدمها ممتنع، ونفس اتفاقهما على مفعول واحد يستقل به كل منهما ممتنع، ونفس الاشتراك بأن يفعل هذا بعضه وهذا بعضه ممتنع. وحينئذ فلا بد أن يكون أحدهما هو القادر أو الأقدار، فيعلو بعضهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 367 على بعض، ولا بد إذا كانا قادرين من أن يذهب كل إله بما خلق، فإن العالي هو الإله المعبود، فلا يكون معه إله، بل يكون ما يقال إنه إله مملوكه وعابده. وهم مقرون بذلك، لكن بين لهم فساد عبادة المخلوق والعابد لغيره. كما قال: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} [الإسراء: 42] . وقال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} [الإسراء: 56-57] . فإنه سبحانه ينهي عن الشرك الواقع، وهو اتخاذ ما سواه إلهاً، وإن كان المشركون مقرين بأنه إله مخلوق عابد للإله الأعظم ولهذا يقول: {لو كان معه آلهة كما يقولون} [الإسراء: 42] . وبين أيضاً امتناع أن يكون معه إله غني عنه بقوله: {ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] ، وبقوله: {لذهب كل إله بما خلق} [المؤمنون: 91] ، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، وقد ذكرها العلماء في كتبهم. وكذلك ما ذكره هذا الفيلسوف ذكره غير واحد من النظار، وذكروا أنه بتقدير الاتفاق يمتنع أن يكون مفعول أحدهما هو مفعول الآخر، والمفعول الواحد لا يكون مفعولاً لفاعلين باتفاق العقلاء. لكن التقدير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 368 الذي يحتاج إلى نفيه تقدير التعاون، كما ذكر من فعل هذا البعض وهذا البعض، وما ذكره من أن التداول نقص هو موجود في التبعيض، فإن الشريكين قد يتهابان بالمكان وقد يتهابان بالزمان. وهذا التقدير قد أبطلوه بوجوه: منها: أن هذا نقص في حق كل واحد منهما ينافي الإلهية. ومنها: أن كلاً منهما إن لم يكن قادراً على الاستقلال كان عاجزاً، وإن كان قادراً عليه -وهو لا يمكنه مع معاونة الآخر كان ممنوعاً من مقدوره، وهو مثل العجز وأشد. وكذلك إن لم يكن قادراً على خلاف مراد الآخر كان عاجزاً، وإن كان قادراً ولم يفعل إلا ما يوافق الآخر، فإن كان الفعل الآخر ممكناً لا مانع له من غيره أمكن تقديره، ويعود دليل التمنع، وإن لم يكن ممكناً، لزم تعجيزه، ومنعه بغيره. وبالجملة فالدلائل العقلية على هذا متعددة، وإن كان من الناس من يزعم أن دليل ذلك هو السمع، لكن هذا المطلوب الذي أثبتوه هو متفق عليه بين العقلاء. ومقصود القرآن توحيد الإلهية، وهو مستلزم لما ذكروه من غير عكس. ولهذا قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] ، فلم يقل: لو كان فيهما إلهان، بل المقدر آلهة غير الإله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 369 المعلوم أنه إله، فإنه لم ينازع أحد في أن الله إله حق، وإنما نازعوا هل يتخذ غيره إلهاً مع كونه مملوكاً له؟. ولهذا قال: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} [الروم: 28] . وقال تعالى: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] . وقال: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون * وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} [الزمر: 43-45] ، وقد بسط الكلام على هذا في موضعه. والمقصود هنا ما ذكره هذا. قال: ويدلك على أن الدليل الذي فهمه المتكلمون من الآية ليس هو الدليل الذي تضمنته الآية: أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم، غير المحال الذي أفضى إليه الدليل المذكور في الآية. وذلك أن المحال الذي أفضى إليه الدليل الذي زعموا أنه دليل الآية، هو أكثر من محال واحد، إذ قسموا الأمر إلى ثلاثة أقسام، وليس في الآية تقسيم. فدليلهم الذي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 370 استعملوه هو الذي يعرفه أهل المنطق بالشرطي المنفصل، ويعرفونه هم في صناعتهم بدليل السبر والتقسيم. والدليل الذي هو الآية هو الذي يعرف في صناعة المنطق بالشرطي المتصل، وهو غير المنفصل. ومن نظر فيه أدنى نظر في تلك الصناعة تبين له الفرق بين الدليلين. وأيضاً فإن المحالات التي أفضى إليها دليلهم غير المحال الذي أفضى إليه دليل الكتاب، وذلك أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم هو أن يكون العالم: إما لا موجوداً ولا معدوماً، وإما أن يكون موجوداً ومعدوماً، وإن أن يكون الإله عاجزاً مغلوباً. وهذه مستحيلات دائمة الاستحالة أكثر من واحد. والمحال الذي أفضى إليه دليل الكتاب ليس مستحيلاً على الدوام، وإنما علقت الاستحالة فيه في وقت مخصوص، وهو أن يوجد العالم فاسداً في وقت الوجود، فكأنه قال: (لو كان فيهما آلهة إلا الله) لوجد العالم فاسداً في الآن، ثم استثنى أنه غير فاسد، فوجب ألا يكون هناك إله إلا واحد. قلت: الفساد المذكور في الآية لم يوقت بوقت مخصوص، والفساد ليس هو امتناع الوجود الذي يقدر عند تمانع الفاعلين، إذا أراد أحدهما شيئاً وأراد الآخر نقيضه، ولا هو أيضاً امتناع الفعل الذي يقدر عن كون المفعول الواحد لفاعلين، فإن هذا كله يقتضي عدم الوجود. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 371 وأما الفساد فهو ضد الصلاح، كما قال تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} [البقرة: 11] . وقال تعالى: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} [الأعراف: 142] . وقال: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف: 56] . وقال: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [البقرة 205] . وقال: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} [المائدة: 32] . وقالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة: 30] . وقال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} [المائدة: 33] . وقال: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون} [المؤمنون 71] . وجماع الصلاح اللآدميين هو طاعة الله ورسوله، وهو فعل ما ينفعهم وترك ما يضرهم، والفساد بالعكس. فصلاح الشيء هو حصول كماله الذي به تحصل سعادته. وفساده بالعكس،. والخلق صلاحهم وسعادتهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 372 في أن يكون الله هو معبودهم، الذي تنتهي إليه محبتهم وإرادتهم، ويكون ذلك غاية الغايات، ونهاية النهايات. ولهذا كان كل عمل يعمل لغير الله لا ينفع صاحبه بل قد يضره، وكانت أعمال الذي كفروا: {كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء} [إبراهيم: 18] . قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] . فعبادته هي الغاية التي فيها صلاحهم، فإن الإنسان حارث همام. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء الحارث وهمام» والحارث هو الكاسب، والهمام هو الذي يكثر الهم، الذي هو أول الإرادة، فالإنسان متحرك بالإرادة، وكل مريد لا بد له من مراد. والذي يجب أن يكون هو المراد المقصود بالحركات هو الله، فصلاح النفوس وسعادتها وكمالها في ذلك، وهكذا العالم العلوي أيضاً. والحركات ثلاثة، طبيعية، وقسرية، وإرادية. لأن الحركة: إما أن يكون مبدأها من المتحرك، وإما من غيره. فما كان مبدؤها من غيره فهي القسرية الكرهية، وما كان مبدؤها من المتحرك، فإن كان على شعور منه فهي الإرادية، وإلا فهي الطبيعية. والطبيعية لا تعرف إلا إذا خرج المطبوع عن مركزه، كصعود الحجر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 373 والماء إلى فوق، ففي طبعه الهوي والنزول، فهي تابعة للقسرية، فكل من الطبيعية والقسرية تابعة لغيرها. فمبدأ الحركات كلها هي الإرادية، وكل إرادة لا يكون الله هو المراد المقصود بالقصد الأول بها، كانت ضارة لصاحبها مفسدة له، غير نافعة ولا مصلحة له. وليس ما يستحق أن يكون هو المحبوب لذاته، المراد لذاته، المطلوب لذاته، المعبود لذاته: إلا الله. كما أنه ليس ما هو بنفسه مبدع خالق إلا الله، فكما أنه لا رب غيره، فلا إله إلا هو، فليس في المخلوقات ما يستقل بإبداع شيء حتى يكون رباً له، ولكن ثم أسباب متعاونة ولها فاعل هو سببها. وكذلك ليس في المخلوقات ما هو مستحق لأن يكون المستقل بأن يكون هو المعبود المقصود المراد بجميع الأعمال، بل إذا استحق أن يحب ويراد، فإنما يراد لغيره، وله ما شاركه في أن يحب معه، وكلاهما يجب أن يحب لله، لا يحب واحد منهما لذاته، إذ ليست ذاته هي التي يحصل بها كمال النفوس وصلاحها وانتفاعها، إذا كانت هي الغاية المطلوبة. والله فطر عباده على ذلك، وهو أعظم من كونه فطرهم على حب الأغذية التي تصلحهم، فإذا تناولوا غيرها أفسدتهم، فإن ذلك وإن كان كذلك، ففي الممكن أن يجعل في غير ذلك ما يغذيهم. وأما كون الفطرة يمكن أن تصلح على عبادة غير الله، فهذا ممتنع لذاته كما يمتنع لذاته الجزء: 9 ¦ الصفحة: 374 أن يكون للعالم مبدع غير الله. قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} [الروم: 30] . وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟» . وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً» . والفطر تعرف هذا أعظم مما تعرف ما يلائمها من الطعام والشراب، لكن قد يحصل للفطرة نوع فساد، ففسد إدراكها، كما يفسد إدراكها إذا وجدت الحلو مراً، وهذا هو أعرف المعروف الذي أمر الله الرسل أن تأمر به، والشرك أنكر المنكر الذي أمرهم بالنهي عنه، والشرك لا يغفره الله، فإنه فساد لا يقبل الصلاح. ولهذا وجب التفريق بين الحب مع الله، والحب لله، فالأول شرك. والثاني إيمان. قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة: 165] ، فليس لأحد أن يحب شيئاً مع الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 375 وأما الحب لله، فقال تعالى: {أحب إليكم من الله ورسوله} [التوبة: 24] . وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواه، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار» . وفي الحديث: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، ومن أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان» . وهذا حقيقة قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} [الأنفال: 39] . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري، فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك» . فمكان الفعل الواحد ممتنع أن يكون من فاعلين مستقلين، فيمتنع أن يكون المرادين مستقلين بالإرادة، فإن كون هذا مستقلاً بكونه هو المراد المحبوب، يناقض كون الآخر كذلك، ومتى لم يكن المراد مستقلاً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 376 بالإرادة، لم يكن هو المراد، بل بعض المراد وما كان بعض المراد لم يحصل به صلاح النفوس، وهو المراد الذي لا يصلح المتحرك بالإرادة إلا به، فمن أراد غير الله بعلمه امتنع أن يكون الله مراده بعمله، ومن لم يكن الله هو مراده، لم يحصل صلاحه، بل كان الحاصل فساده بالشرك لا يغفر، بخلاف ما دونه. وأفضل الكلام قول: لا إله إلا الله. والإله هو الذي يستحق أن تألهه القلوب بالحب والتعظيم، والإجلال والإكرام، والخوف والرجاء، فهو بمعنى المألوه، وهو المعبود الذي يستحق أن يكون كذلك. ولكن أهل الكلام الذي ظنوا أن التوحيد هو مجرد توحيد الربوبية، فهو التصديق بأن الله وحده خالق الأشياء، اعتقدوا أن الإله بمعنى الآله: اسم فاعل، وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع، كما يقول الأشعري وغيره، ممن يجعلون أخص وصف الإله القدرة على الاختراع. ومن قال: إن أخص وصف الإله هو القدم، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، قال ما يناسب ذلك في الإلهية، وهكذا غيرهم، وقد بسط الكلام على هذا في موضعه. والمقصود هنا التنبيه على هذه الأمور، وأن هؤلاء غلطوا في معرفة حقيقة التوحيد، وفي الطرق التي بينها القرآن، فظنوا أنه مجرد اعتقاد أن العالم له صانع واحد. ومنهم من ضم إلى ذلك نفي الصفات أو بعضها، فجعل نفي ذلك داخلاً في مسمى التوحيد. وإدخال هذا في مسمى التوحيد ضلال عظيم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 377 وأما الأول، فلا ريب أنه من التوحيد الواجب، وهو الإقرار بأن خالق العالم واحد، لكنه هو بعض الواجب وليس هو الواجب الذي به يخرج الإنسان من الإشراك إلى التوحيد، بل المشركون الذي سماهم الله ورسوله مشركين، وأخبر الرسل أن الله لا يغفر لهم، كانوا مقرين بأن خالق كل شيء. فهذا أصل عظيم يجب على كل أحد أن يعرفه، فإنه به يعرف التوحيد، الذي هو رأس الدين وأصله. وهولاء قصروا في معرفة التوحيد، ثم أخذوا يثبتون ذلك بأدلة، وهي، وإن كانت صحيحة، فلم تنازع في هذا التوحيد أمة من الأمم، وليس الطرق المذكورة في القرآن هي طرقهم، كما أنه ليس مقصود القرآن هو مجرد ما عرفوه من التوحيد. قال ابن رشد: فقد تبين من هذا القول الطرق التي دعا الشرع من قبلها الناس إلى الإقرار بوجود الباري تعالى، ونفي الإلهية عما سواه، وهما المعنيان اللذان تضمنتها كلمة التوحيد: أعني لا إله إلا الله، فمن نطق بهذه الكلمة، وصدق بهذين المعنيين اللذين تضمنتهما بهذه الطرق التي وصفنا، فهو المسلم الحقيقي الذي عقيدته العقيدة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 378 الإسلامية، ومن لم تكن عقيدته مبنية على هذه الأدلة، وإن صدق بهذه الكلمة، فهو مسلم مع المسلم الحقيقي باشتراك الاسم. ثم تكلم على الصفات الثبوتية فقال: الفصل الثالث في الصفات: أما الأوصاف التي صرح الكتاب العزيز بوصف الصانع لوجود العالم بها، فهي أوصاف الكمال الموجودة للإنسان، وهي سبعة: العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. أما العلم فقد نبه الكتاب على وجه الدلالة عليه، في قوله تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] . ووجه الدلالة: أن المصنوع يدل من جهة الترتيب الذي في أجزائه، أعني كون صنع بعضها من أجل بعض، ومن جهة موافقة جميعها للمنفعة المقصودة لذلك المصنوع، أنه لم يحدث عن صانع هو طبيعة، وإنما وجدت عن صانع رتب ما قبل الغاية لأجل الغاية فوجب أن يكون عالماً به. مثال ذلك: إن الإنسان إذا نظر إلى البيت فأدرك أن الأساس إنما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 379 صنع من أجل الحائط وأن الحائط من أجل السقف -تبين أن البيت إنما وجد عن فاعل عالم بصناعة البناء، وهذه الصفة هي صفة قديمة، إذ كان لا يجوز عليه أن يتصف بها وقتاً ما. لكن ليس ينبغي أن نتعمق في هذا فنقول ما يقوله المتكلمون: إنه يعلم المحدث في وقت حدوثه بعلم قديم، فإنه يلزم على هذا أن يكون العلم بالمحدث في وقت وجوده وعدمه علماً واحداً. وهذا أمر غير معقول، إذ كان العلم واجباً أن يكون تابعاً للموجود. ولما كان الموجود تارة يوجد فعلاً، وتارة يوجد قوة، وجب أن يكون العلم بالوجودين مختلفاً، إذ كان في وقت وجوده بالقوة غير وقت وجوده بالفعل. وهذا -يعني قول المتكلمين- شيء لم يصرح الشرع به، بل الذي صرح به خلافه، وهو أنه يعلم المحدثات حين حدوثها. كما قال تعالى: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 380 فينبغي أن يوضع في الشرع أنه عالم بالشيء قبل أن يكون على أنه سيكون وعالم بالشيء إذا كان على أنه قد كان، وعالم بما تلف أنه تلف في وقت تلافه. وهذا هو الذي تقتضيه أصول الشرع. وإنما كان هكذا لأن الجمهور لا يفهمون من العالم في الشاهد غير هذا المعنى، وليس عند المتكلمين برهان يوجب أن يكون بغير هذه الصفة، إلا أنهم يقولون: إن العلم المتغير بتغير المعلومات الموجودات هو محدث، والباري تعالى لا يقوم به حادث، لأن ما ينفك عن الحوادث، زعموا أنه حادث. قال: والذي يقال للخواص: إن العلم القديم لا يشبه علم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 381 الإنسان المحدث، فالذي يدركه الإنسان من تغاير العلم المحدث بالماضي والمستقبل والحاضر هو شيء يخص العلم المحدث وأما العلم القديم فيجب فيه اتحاد هذه العلوم، لأن انتفاء العلم عنه بما يحدثه من هذه الموجودات الثلاثة محال، فقد وقع اليقين بعلمه سبحانه بها، وانتفى التكييف، إذ التكييف يوجب تشبيه العلم القديم بالمحدث. قلت: هذا الكلام من جنس ما حكاه عن المتكلمين، فإنه إذا اتحد في العلم القديم العلم بالماضي والحاضر والمستقبل، ولم يكن هذا مغايراً لهذا، كان العلم بالموجود حال وجوده وحال عدمه واحداً، وهذا مناقض لما تقدم من قوله، يجب أن يكون العلم بالموجودين مختلفاً. غاية ما في هذا الباب أن هذا الرجل يقول: إن عدم التغاير هو ثابت في العلم القديم دون المحدث. ولا ريب أن أولئك المتكلمين يقولون هذا، ولكن يقولون: ولو فرض بقاء العلم الحادث لكان حكمه حكم القديم، ويقولون: إن هذا من باب حدوث النسب والإضافات، التي لا توحب حدوث المنسوب المضاف، كالتيامن والتياسر. وهكذا هذا يقول: إنما تتجدد النسب والإضافات، وقد ذكر ذلك في مقالة له في العلم، لكن المتكلمون خير منه، لأنهم يقولون بعلمها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 382 بعد وجودها: إما بعلم زائد عند بعضهم، وإما بذلك الأول عند بعضهم. وأما هذا فلا يثبت إلا العلم الذي هو سبب وجودهما. كما سيأتي كلامه. وهذا عندهم حكم يعم الواجب والقديم. وهذا يقول: بل ذلك حكم يخص المحدث. وهو لم يأت على الفرق بحجة إلا مجرد الدعوى. وقد بين ذلك في كلام أفرده في مسألة العلم، وأراد أن ينتصر بذلك للفلاسفة الذين قيل عنهم: إنهم يقولون: إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي، فذكر أنهم يقولون: إنه يعلم الجزئيات، لكن على هذا الوجه. كلام ابن رشد في ضميمة في مسألة العلم القديم ورد ابن تيمية عليه فقال لمن راسله: لما فقتم بجودة ذهنكم، وكرم طبعكم، كثيراً ممن يتعاطى هذه العلوم، وانتهى نظركم السديد إلى أن وقفتم على الشك العارض في العلم القديم، مع كونه متعلقاً بالأشياء المحدثة، وجب علينا لمكان الحق، ولمكان إزالة الشك والشبهة عنكم، أن تحل هذا الشك بعد أن نقول في تقريره، فإن لم يعرف الربط لم يقدر على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 383 الحل والشك يلزم هكذا إن كانت الأشياء كلها في علم الله تعالى قبل أن تكون، فهل هي في علمه في حال كونها كما كانت عليه قبل أن توجد؟. فإن قلنا: إنها في علم الله تعالى في حال وجودها على غير ما كانت عليه في علمه قبل أن توجد، لزم أن يكون العلم القديم متغيراً، وأن تكون إذا خرجت من العدم إلى الوجود، فقد حدث هناك علم زائد، وذلك مستحيل على العلم القديم. وإن قلنا: إن العلم القديم فيها واحد في الحالين. قيل: فهل هي في نفسها -أعني الموجودات الحادثة قبل أن توجد- كما هي حين وجدت؟ فيجب أن يقال: ليست في نفسها قبل أن توجد كما هي حين وجدت، وإلا كان المعدوم والموجود واحداً. فإذا سلم الخصم هذا، قيل له: أفليس العلم الحقيقي هو معرفة الوجود على ما هو عليه؟. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 384 فإذا قال: نعم. قيل: فيجب على هذا إذا اختلف الشيء في نفسه، أن يكون العلم به يختلف، وإلا فقد علم على غير ما هو عليه، فإذاً يجب أحد الأمرين: إما أن يختلف العلم القديم في نفسه، أو تكون الحودث غير معلومة، وكلا الأمرين مستحيل عليه سبحانه. ويؤكد هذا الشك ما يظهر من حال الإنسان، أعني من تعلق علمه بالأشياء المعدومة على تقدير الوجود، وتعلق علمه بها إذا وجدت، فإنه من البين بنفسه أن العلمين يتغايران، وإلا كان جاهلاً بوجودهما في الوقت الذي وجدت فيه، وليس ينجي من هذا ما جرت به عادة المتكلمين في الجواب عن هذا، بأنه سبحانه يعلم الأشياء قبل كونها، على ما تكون عليه في كونها، من زمان ومكان، وغير ذلك من الصفة المختصة به بوجود موجود. فإنه يقال لهم: إذا وجدت فهل حدث هنالك تغير أو لم يحدث، وهو خروج الشيء من العدم إلى الوجود؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 385 فإن قالوا: لم يحدث، فقد كابروا. وإن قالوا: حدث هنالك تغير. قيل لهم: فهل حدوث هذا التغير معلوم للقديم أم لا؟ فيلزم الشك المتقدم. وبالجملة فيعسر أن ستصور أن العلم بالشيء قبل أن يوجد، وأن العلم به بعد أن وجد علم واحد بعينه. فهذا هو تقرير هذا الشك. قال: وقد رام الإمام أبو حامد الغزالي حل هذا الشك في كتابه الموسوم بـ تهافت الفلاسفة بشيء ليس فيه منتفع. وذلك أنه قال قولاً معناه هذا، وهو أنه زعم أن العلم والمعلوم من المضاف، وكما أنه قد يتغير أحد المتضايفين ولا يتغير هذا الآخر في نفسه، كذلك يشبه أن يعرض للأشياء في علم الله سبحانه وتعالى، أعني أن تتغير في أنفسها، ولا يتغير علمه سبحانه وتعالى بها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 386 ومثال ذلك في المضاف: أنه قد تكون الاسطوانة الواحدة يمنة زيد ثم تعود يسرته، وزيد بعد لم يتغير في نفسه. قال: وليس هذا بصادق، فإن الإضافة قد تغيرت في نفسها، وذلك أن الإضافة التي كانت يمنة قد عادت يسرة، وإنما الذي لم يتغير موضع الإضافة، أعني الحامل لها الذي هو زيد. وإن كان كذلك، وكان العلم هو نفس إضافة، فقد يجب أن يتغير عند تغير المعلوم كما تتغير الإضافة: إضافته الاسطوانة إلى زيد عند تغيرها في نفسها، وذلك أنها عادت يسرة بعد أن كانت يمنة. قال: والذي ينحل به هذا الشك عندنا، هو أن يعرف أن الحال في العلم القديم مع الموجود بخلاف الحال في العلم المحدث مع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 387 الموجود، وذلك أو وجد الموجود هو علة وسبب لعلمنا، والعلم القديم هو علة وسبب للموجود، فلو كان إذا وجد الموجود بعد أن لم يوجد فقد حدث في العلم القديم علم زائد كما يحدث ذلك في العلم المحدث، للزم أن يكون العلم القديم معلولاً للموجود لا علة له، فإذاً وجب أن لا يحدث هنالك تغير، كما يحدث في العلم المحدث. وأنما أتى هذا الغلط من قياس العلم القديم على العلم المحدث، وهو قياس الغائب على الشاهد، وقد عرف فساد هذا القياس. وكما لا يحدث في الفاعل تغير عند وجود مفعول له، أعني تغيراً لم يكن قبل ذلك، كذلك لا يحدث في العلم القديم تغير عند حدوث مفعوله عنه. فإذاً قد انحل هذا الشك، ولم يلزمنا أنه إذا لم يحدث هنالك تغير، أعني في العلم القديم، فليس يعلم الموجود في حين حدوثه على ما هو عليه، وإنما لزم أنه لا يعلمه بعلم محدث، بل لا يعلمه إلا بعلم قديم، كما ظن أنه لازم من ذلك القول، لأن حدوث التغير في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 388 العلم عندنا بتغير الموجود إنما هو شرط في العلم المعلول عن الموجود، وهو العلم المحدث. فإذاً العلم القديم إنما يتعلق بالموجود على صفة غير الصفة التي يتعلق بها العلم المحدث، لا أنه غير متعلق أصلاً، كما حكى عن الفلاسفة أنهم لموضع هذا الشك قالوا: إنه لا يعلم الجزئيات. ولي الأمر كما توهم عليهم، بل يرون أنه لا يعلم الجزئيات بالعلم المحدث الذي من شرطه الحدوث بحدوثها، ويعلمها بالعلم القديم الذي ليس من شرطه الحدوث بحدوثها، إذا كان علة لها لا معلولاً عنها، كالحال في العلم المحدث. وهذا هو غاية التنزيه الذي يجب أن يعترف به، فإنه إذاً قد اضطر البرهان إلى أنه عالم بالأشياء من جهة أن صدورها عنه، إنما هو من جهة أنه عالم، لا من جهة أنه موجود فقط، أو موجود بصفة كذا، بل من جهة أنه عالم. كما قال تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] . وقد اضطر البرهان إلى أنه غير عالم بها بعلم هو على صفة العلم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 389 بالمحدث، فواجب أن يكون هناك بالموجودات علم آخر لا يكيف، وهو العلم القديم. قال: وكيف يمكن أن يتصور أن المشائين من الحكماء يرون أن العلم القديم لا يحيط بالجزئيات، وهم يرون أنه سبب الإنذار في المنامات والوحي وغير ذلك من أنواع الإلهامات. قال: فهذا ما ظهر لنا في وجه هذا الشك، وهو أمر لا مرية فيه ولا شك. قلت: لقائل أن يقول: ليس فيما ذكره جواب، وذلك أن تفريقه بين العلم القديم والعلم المحدث، بأن ذلك سبب للوجود، وهذا سبب عنه -هو قول تقوله طائفة من الفلسفة، وقد عارضهم طائفة من المتكلمين، فزعموا أن ليس في العلم ما هو سبب لوجود الموجود، بل العلم يطابق المعلوم على ما هو عليه، فلا يكسبه صفة، ولا يكتسب عنه صفة. وأولئك يقولون: علمه فعل، وهؤلاء يمنعون ذلك. والتحقيق أن كلاً من العلمين: علم الخالق وعلم المخلوق، ينقسم إلى ما يكون له تأثير في وجود معلومه، وإلى ما لا يكون كذلك، فما لا يكون كذلك علم الله بنفسه سبحانه، فإن هذا العلم ليس سبباً لهذا الموجود، فلا يجوز إطلاق القول بأن ذلك العلم سبب للوجود مطلقاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 390 وكذلك علمنا بمخلوقات الله التي لا أثر لنا فيها كالسماوات. وأما الثاني فعلم الله بمخلوقاته، فإن خلق المخلوقات مشروط بالعلم بها. كما قال: {ألا يعلم من خلق} [الملك: 14] ، فالعلم بها شرط في وجودها، لكن ليس هو وحده العلة في وجودها، بل لا بد من القدرة والمشيئة. ومن هنا ضل هؤلاء المتفلسفة، فجعلوا مجرد العلم بنظام المخلوقات موجباً لوجوده، ولم يجعلوا للقدرة والمشيئة أثراً، مع أن تأثير القدرة والمشيئة في ذلك أظهر من تأثير العلم، مع أنهم متناقضون في ذلك، فإنهم قد يثبتون العناية والمشيئة تارة وينفوها تارة. وعلم العبد بما يريد فعله من أفعاله، هو أيضاً شرط في وجود المعلوم، فهذا العلم بهذا المحدث شرط في حصوله، والمعلوم تابع للعلم المحدث هنا، فليس وجود كل معلوم لنا هو علة وسبباً لعلمنا مطلقاً، بل يفرق في ذلك بين العلم النظري والعلم العملي، فبطل هذا الفرق. ثم يقال أيضاً: لا ريب أن الفاعل إذا أراد أن يفعل أمراً، فعلم ما يريد أن يفعل، لم يكن هذا هو العلم بأن سيكون، فإنه ليس كل من تصور ما يريد أن يفعل يعلم أن سيكون ما يريده، بل الواحد منا يتصور أشياء يريدها ولا يعلم أنها تكون، بل لا تكون، ثم إذا علم العالم أن الشيء سيكون ثم كان، علم أنه قد كان. فهنا في حقنا ثلاثة علوم، وهو إنما ذكر في حق الله العلم المشروط في الفعل، وهو الذي لا يكون المريد مريداً حتى يحصل ذلك، فإن الإرادة مشروطة بتصور المراد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 391 أما العلم بأن سيكون المراد، فهذا لا يثبت بمجرد ما ذكره، فإن هذا علم خبري، وذاك علم طلبي، ثم إذا ثبت هذا العلم جاء الشك، وهو أنه هل يكون هذا العلم هو نفس العلم بوقوعه إذا وقع أم لا؟ والمتكلمون تكلموا في هذين العلمين، وأرادوا جعل أحدهما هو الآخر، فكانوا أقرب إلى الصواب ممن جعل العلم بما يريده هو العلم بأن سيكون المراد، وذلك هو العلم بأن قد كان. فتبين أن طريقة المتكلمين أقل إشكالاً، وأقرب إلى الصواب. وأيضاً فيقال له: العالم بما يريد أن يفعل إذا فعله علم أنه سيكون، ثم علم أن قد كان، لم يخرج بذلك عن أن يكون العلم القديم شرطاً في وجود المعلوم، وهو من تمام علة وجوده، إذا كانت نفسه مستلزمة لعلمه بالموجود بشرط فعله لها، كما في سمعه وبصره، لم يكن شيء من أحواله معلولاً لغيره. فقوله: يلزم أن يكون العلم القديم معلولاً للوجود لا علة له -ليس بلازم. وأما ما ذكره من نفي التغير، فهو قد طعن في دليل المتكلمين على نفيه، ولم يذكر هو دليلاً على نفيه، فبقي نفيه له بلا حجة أصلاً، إلا قوله: يلزم أن يكون العلم القديم معلولاً للوجود لا علةً له، وليس هذا بصحيح، فإنه بتقدير تجدد علم ثان، لا يخرج العلم الذي به كان الفاعل فاعلاً عن أن يكون علة. وأيضاً فعلم الله لازم لذاته، وهو الذي فعل الموجودات. فإذا قيل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 392 إن ذاته أوجبت له هذا العلم، بشرط فعله ما فعل، لم يكن ذلك موجباً لافتقاره في العلم إلى غيره. وقوله: إنما أتى هذا من قياس الغائب على الشاهد. فيقال: جميع ما تذكره أنت وأصحابك والمتكلمون في هذا الباب، لا بد فيه من مقدمة كلية تتناول الغائب والشاهد، ولولا ما يوجد في الشاهد من ذلك، لما تصور من الغائب شيء أصلاً، فضلاً عن معرفة حكمه، فإن أبطلت هذا بطل جميع كلامكم. وأما قوله: كما لا يحدث في الفاعل تغير عند وجود مفعول له، كذلك في العلم عند حدوث مفعوله. فيقال له: أنت قد أبطلت دليل المتكلمين على هذا الأصل الذي قاسوا عليه، ولم تذكر لك عليه دليلاً، فإن أولئك بنوه على أن ما لا يسبق الحوادث حادث، وهذا ثبت بطلانه، فيجوز عندك أن تقوم الحوادث بالقديم، وإذا كان كذلك، لم يمتنع عندك أن يتجدد للفاعل القديم عند فعله حال من الأحوال، بل أنت قد بينت في غير موضع أنه لا يعقل صدور الحوادث عن المحدث بدون هذا. وأما قوله: لا يلزمنا إذا لم يحدث هناك تغير أن لا يعلم الموجود في حين حدوثه على ما هو عليه. فيقال: هذا لك ألزم منه للمتكلمين، لأنك ألزمتهم أن العلم بأن ما سيكون قد كان، ومعلوم أن العلم بما نريد أن نفعل، ليس هو العلم بأن سيكون، ولا بأن قد كان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 393 فإن نفيت علمه بأن ستكون الموجودات قبل وجودها، وعلمه بأن قد كانت بعد وجودها -كان هذا أعظم عليك. وإن جعلت ذلك هو نفس علمه بما يريد فعله، كان جعلهم العلم بالشيء قبل كونه واحداً أقرب إلى العقل. وأما قوله: حدوث التغير في العلم عندما يتغير الموجود، هو شرط في العلم المعلول عن الموجود، وهو المحدث. فيقال له: هذا ضعيف لوجهين: أحدهما: أن ما ذكرته من الدليل لا يفرق. الثاني: أنه يلزم علم العبد بما يريد أن يفعله، فإنه متقدم على المعلوم به الموجود، وهو متغير، فليس هو معلولاً عن الموجود، فتبين أن كونه سبباً في الوجود أو تابعاً له، لا يمنع ما ذكر من التغير. وعلم الرب تبارك وتعالى لا يجوز أن يكون مستفاداً من شيء من الموجودات، فإن علمه من لوازم ذاته، فعلم العبد يفتقر إلى سبب يحدثه، وإلى المعلوم، الذي هو الرب تعالى، أو بعض مخلوقاته، وعلم الرب لازم له، من جهة أن نفسه مستلزمة للعلم، والمعلوم: إما نفسه المقدسة، وإما معلوماته التي علمها قبل خلقها. وهذه المسألة: مسألة تعلق صفاته بالمخلوقات بعد وجودها، تعلق العلم والسمع والبصر ونحو ذلك، هي مسألة كبيرة. والناس متفقون على تجدد نسب وإضافات لا تقوم بذات الرب، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 394 وتنازعوا فيما يقوم بذات الرب، وهذا كما تنازعوا في الاستواء ونحوه: هل هو مفعول للرب يحدثه في المخلوقات من غير قيام أمر به؟ أم يقوم به أمر؟ على القولين فالكلابية والمعتزلة ينفون أن يقوم بالرب شيء من ذلك. وأكثر أهل الحديث، وكثير من أهل الكلام يجوزون ذلك. وأما النسب والإضافات فتتجدد باتفاقهم. وابن عقيل يسمي هذه النسب والإضافات الأحوال، ولعله سماها بذلك، كما يسمى غيره كونه عالماً وقادراً حالاً معللة بالعلم والقدرة، كما هي طريقة القاضي أبي بكر، ومن وافقه كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهما. وهؤلاء يقولون -تبعاً لأبي هاشم- إن الحال لا موجودة ولا معدومة، وكذلك هذه النسب والإضافات على قولهم. أو أن يكون ابن عقيل شبه ذلك بالأحوال التي يثبتها أبو هاشم، ويجعلها لا موجودةً ولا معدومةً، كذلك هذه النسب والإضافات. ولأهل الحديث والتفسير والكلام وغيرهم من الكلام في هذه المسألة ما هو معروف. ولهذا صار طائفة من أهل الكلام، كهشام بن الحكم، والجهم، وأبي الحسين البصري، والرازي، وغيرهم -إلى إثبات أمور متجددة. والكلام على هذا متعلق بما ذكره الله في القرآن في غير موضع. كقوله: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} [البقرة: 143] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 395 وقوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} [آل عمران: 142] . وقوله: {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء} [آل عمران: 140] . وقوله: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} [آل عمران: 165] إلى قوله: {فبإذن الله وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا} [آل عمران: 165-166] الآية. وقوله: {ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا} [الكهف: 12] . وقوله: {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} إلى قوله: {وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} [العنكبوت: 3-11] . وغير ذلك في كتاب الله. هذا مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها، على أن الله عالم بما سيكون قبل أن يكون. وقد نص الأئمة على أن من أنكر العلم القديم فهو كافر. ومن هؤلاء غلاة القدرية، الذين ينكرون علمه بأفعال العباد قبل أن يعملوها، والقائلون بالبداء من الرافضة ونحوهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 396 وإنما المسألة الدقيقة أنه عند وجود المسموع والمرئي والمعلوم، إذا سمعه ورآه علمه موجوداً فهل هذا عين ما كان موجوداً قبل وجود ذلك؟ أو هناك معنى زائد؟ وأما قول من قال من الفلاسفة: إنه لا يعلم إلا الكليات، فهذا من أخبث الأقوال وشرها، ولهذا لم يقل به أحد من طوائف الملة. وهؤلاء شر من المنكرين لعلم القديم، من القدرية وغيرهم. وأما ما ذكره من أن الفلاسفة لا يقولون: إنه لا يعلم الجزئيات، بل يرون أنه لا يعلمها بالعلم المحدث، وإنكاره أن يكون المشاؤون من الفلاسفة ينكرون علمه بجزيئات العالم، فهذا يدل على فرط تعصبه لهؤلاء الفلاسفة بالباطل، وعدم معرفته بحقيقة مذهبهم، فإنه دائماً يتعصب لأرسطو، صاحب التعاليم المنطقية والإلهية. وكلامه في مسألة العلم معروف مذكور في كتابه ما بعد الطبيعة، وقد ذكر بألفاظه أبو البركات صاحب المعتبر وغيره، ورد ذلك عليه أبو البركات، مع تعظيمه له. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 397 وأرسطو ينكر علم الرب بشيء من الحوادث مطلقاً. وكلامه في ذلك وحججه من أفسد الكلام كما سنذكره إن شاء الله. ولكن ابن سينا وأمثاله زعموا أنه إنما يعلم الكليات والجزئيات: يعلمها على وجه كلي. وهؤلاء فروا من وقوع التغير في علمه. وأما من قبل أرسطو من المشائين، فلا ريب أن في كلامهم ما هو خير وأقرب إلى الأنبياء من كلام أرسطو. ولهذا نقل عنهم أنهم كانوا يقولون بحدوث الأفلاك، وأن أرسطو أول من قال بقدمها من المشائين. وأما احتجاجه على إثبات علم الرب بالجزئيات بالإنذارات والمنامات، فاستدلال ضعيف، فإن ابن سينا وأمثاله يدعون أن ما يحصل للنفوس البشرية من العلم والإنذارات والمنامات، إنما هو فيض العقل الفعال والنفس الفلكية، وإذا أرادوا أن يجمعوا بين الشريعة والفلسفة، قالوا: إن النفس الفلكية هي اللوح المحفوظ، كما يوجد مثل ذلك في كلام أبي حامد في كتاب الإحياء والمضنون وغير ذلك من كتبه. وكما يوجد في كلام من سلك سبيله من الشيوخ المتفلسفة المتصوفة، يذكرون اللوح المحفوظ، ومرادهم به النفس الفلكية، ويدعون أن العارف قد يقرأ ما في اللوح المحفوظ ويعلم ما فيه. ومن علم دين الإسلام، الذي بعث الله به رسله، علم أن هذا من أبعد الأمور عن دين الإسلام، كما قد بسط في موضع آخر، إذ تنزيهه هنا للفلاسفة المشائين عن أن يكون هذا كلامهم، هو تعصب جسيم منه لهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 398 وهذا نظر سيء في نقل أقوال الناس، وليس تحقيق هذا من غرضنا هنا. والفلاسفة طوائف متفرقون لا يجمعهم قول ولا مذهب، بل هم مختلفون أكثر من إاتلاف فرق اليهود والنصارى والمجوس. وكلام المشائين في الإلهيات كلام قليل الفائدة، وكثير منه بلا حجة. والنقل المذكور موجود في كتب المتبعين لهم كابن سينا وأضرابه. وقد نظرت فيما نقل عنهم من الأقوال في العلم فوجدتها عدة مقالات، لكن من الناس من يحكي عنهم قولين أو ثلاثة، ومن الناس من لا يحكي إلا قولاً واحداً. وقد وجدت أربعة مقالات منقولة عنهم صريحاً في كتب متعددة. فنقل طائفة عنهم. ك الشهرستاني وغيره في العلم ثلاث مقالات. قالوا: ذهب قدماء الفلاسفة إلى أنه عالم بذاته فقط، ثم من ضرورة علمه بذاته يلزم منه الموجودات، وهي غير معلومة عنده، أي لا صورة لها عنده على التفصيل والإجمال وذهب قوم منهم إلى أنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات. وذهب قوم إلى أنه يعلم الكلي والجزئي جميعاً، على وجه لا يتطرق إلى علمه نقص وقصور. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 399 فهذا القول الثالث هو شبيه بالقول الذي اختاره ابن رشد. وأما القول الثاني والأول فهما اللذان حكاهما الغزالي عن الفلاسفة. قال: منهم من قال: لا يعلم إلا ذاته، ومنهم من يسلم أنه يعلم غير ذاته. قال: وهو الذي اختاره ابن سينا، فإنه زعم أنه يعلم الأشياء كلها بنوع كلي، لا يدخل تحت الزمان، ولا يعلم الجزئيات التي يوجب تجدد الإحاطة بها تغيراً في ذات العالم. وذكر الغزالي أنهم اتفقوا على أنه لا يعلم الجزئيات المنقسمة بانقسام الزمان إلى الكائن، وما كان، ويكون قال: فمن ذهب منهم إلى أنه لا يعلم إلا نفسه، لا يخفى فساد هذا من مذهبه، ومن ذهب منهم إلى أنه يعلم غيره، كما اختاره ابن سينا، فقد زعم أنه يعلم الأشياء علماً كلياً، لا يدخل تحت الزمان، ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن، ومع ذلك زعم أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي. قلت: ول أبي البركات صاحب المعتبر مقالة في العلم رد فيها على أرسطو. ونصر فيها أنه يعلم الكليات والجزئيات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 400 وما ذكره ابن رشد عنهم من أنهم يرون أن العلم سبب الإنذار بالجزئيات. فيقال: أما الفلسفة الموجودة في كتب ابن سينا وأمثاله، ففيها أن ذلك من العقل الفعال والنفس الفلكية، وعندهم ذلك هو المنذر بذلك، ويسمون ذلك اللوح المحفوظ، ومن ذلك ينزل عندهم الوحي على الأنبياء، ومن ذلك كلم موسى. وكثير من المتصوفة الذين سلكوا مسلكهم قد دخل ذلك في كلامهم. فإن كان فريق غير هؤلاء المتفلسفة يجعله ذلك من علم الله، فلا ريب أن من جعل الله منذراً لعباده بالجزئيات، لزم أن يكون عالماً بها، فإن الإعلام بالشيء فرع على العلم به، وهذا ما يثبت القول الثالث المحكي عنهم. وذكر أبو البركات في معتبره الأقوال الثلاثة: قول من قال: لا يعلم إلا ذاته، وذكره عن أرسطو، وذكر ألفاظه. وابن رشد هو يعظم أرسطو إلى الغاية، وهو من أعظم الفلاسفة عنده، فكيف ينفي هذا القول عنهم؟! وذكر أبو البركات قول ابن سينا، وذكر عنهم القول الثالث، وهو أنه يعرف ذاته وسائر مخلوقاته في سائر الأوقات، على اختلاف الحالات، مما هو كائن، وما هو آت. وهذا القول ينزع إلى قولين: أحدهما: القول الذي اختاره ابن رشد، الذي قربه من التغير، ولم يجب عنه، والثاني التزام هذا اللازم، وبيان أنه ليس بمحذور. وهذا قد اختاره أبو البركات، كما يختاره طوائف من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 401 المتكلمين كأبي الحسين والرازي وغيرهما، وكما هو معنى ما دل عليه الكتاب والسنة، وذكره أئمة السنة. فصارت الأقوال للفلاسفة في علم الله أربعة أقوال، بل خمسة، بل ستة، بل سبعة. وأكثر من ذلك القول الذي ذكره ابن سينا، والقول الذي اختاره ابن رشد، والقول الذي اختاره أبو البركات. وهذان القولان هما القولان اللذان يقولهما نظار المسلمين. وقول أرسطو وابن سينا، فلا يمكن أن يقولهما مسلم. ولهذا كان ذلك مما كفرهم به الغزالي وغيره، فضلاً عن أئمة المسلمين، ك مالك والشافعي وأحمد، فإنهم كفروا غلاة القدرية، الذين أنكروا علمه بالأفعال الجزئية قبل وجودها، فكيف من أنكر علمه بالجزئيات كلها قبل وجودها وبعد وجودها؟! ول السهروردي المقتول قول آخر سنحكيه بعد إن شاء الله. وكذلك ل الطوسي قول قريب منه، مضمونه أن العلم ليس صفة له، بل هو نفس المعلومات. كلام ابن ملكا في المعتبر عن مسألة عدم الله وتعليق ابن تيمية عليه قال أبو البركات: فأما معرفته وعلمه فقد اختلف فيه كثير من العلماء، من المحدثين والقدماء، يعني علماء النظار من الفلاسفة، لا يعني به أتباع الأنبياء. قال: فقال قوم منهم: إنه لا يعرف ولا يعلم سوى ذاته، وصفاته التي له بذاته. وقال آخرون: بل يعرف ذاته وسائر مخلوقاته، في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 402 سائر الأوقات، على اختلاف الحالات، فيما هو كائن، وفيما هو آت. وقال آخرون: بل يعرف ذاته بذاته، والصفات الكلية من مخلوقاته، والذات الدائمة الوجود من معلولاته، ولا يعرف الجزئيات، ولا يعلم الكليات الفاسدات المتغيرات المستحيلات، ولا شيئاً من الحوادث من الأفعال والذات. قال: واشتهر القول بين المتفلسفة من القدماء بالمذهب الأول، أعني تنزيه الذات فقط، وبين المحدثين القول الثالث: وهو معرفة الكليات. وضعفت بينهم حجج القائلين بمعرفة الجزئيات، لتدقيق النظر، وتقرير أصول لم تحرر، وافقهم عليها السامعون، فألزمهم بتصديقهم من حيث لا يشعرون. قال: ونحن الآن نقتص مذاهب الذين يقولون بأنه تعالى لا يعرف الجزئيات وحججهم، ثم نشرع في اعتبارها والنظر فيها، وفي مذهب القائلين بخلافها، ونجري على العادة في توفية كل مذهب حجته، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 403 مما قيل، ومما لم يقل، حتى ينتهي النظر إلى الحجة التي لا مرد لها، ولا حجة تبطلها، فنعرف الحق فيها. ثم قال: الفصل الرابع عشر: في شرح كلام من قال: إن الله لا يحيط علماً بالموجودات. قال أرسطو طاليس ما هذه حكايته فيما بعد الطبيعة: فأما على أية جهة هو المبدأ الأول، ففيه صعوبة. فإنه إن كان عقلاً وهو لا يعقل، كالعالم النائم، فهذا محال. وإن عقل أفترى عقله في الحقيقة لشيء غيره؟ وليس جوهره معقوله، لكن فيه قوة على ذلك، وبحسب هذا لا يكون جوهراً، فإن كان هذا الجوهر بهذه الصفة، أعني أنه عقل، فليس يخلو أن يكون عاقلاً لذاته أو لشيء آخر. فإن كان عاقلاً لشيء آخر، فلا يخلو أن يكون عقله دائماً لشيء واحد أو لأشياء كثيرة. فإن كان معقوله لأشياء كثيرة، فمعقوله على هذا منفصل، عنه فيكون كماله إذن لا في أن يعقل ذاته، لكن في عقل شيء آخر، أي شيء كان. إلا أنه من المحال أن يكون كماله بعقل غيره، إذ كان جوهراً في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 404 الغاية من الإلهية والكرامة والعقل، فلا يتغير. والتغير فيه انتقال إلى الأنقص، وهذا هو حركة ما، فيكون هذا العقل ليس عقلاً بالفعل، لكن بالقوة. وإن كان هكذا، فلا محالة أنه يلزمه الكلال والتعب في إيصال للمعقولات، ومن بعد فإنه يصير فاضلاً بغيره، كالعقل في المعقولات، فيكون ذلك العقل في نفسه ناقصاً، ويكمل بمعقولاته. وإن كان هذا هكذا، فيجب أن يهرب من هذا الاعتقاد، وإن لا يبصر بعض الأشياء أفضل من أن يبصرها، فكمال ذلك العقل، إذ كان أفضل الكمالات، يجب أن يكون بذاته لها، فإنها أفضل الموجودات وأكملها وأشرف المعقولات. وهذا يوجد هكذا دائماً، دون تعرف أو حسن أو رأي أو فكر. فهذا ظاهر جداً، فإنه إن كان معقول هذا العقل غيره، فإما أن يكون شيئاً واحداً دائماً، أو يكون علمه بما يعلمه واحداً بعد آخر. وهذه الأمور بالهيولى غير الصورة، فأما في الأمور العقلية، فطبيعة الأمر وكونه معقولاً شيء واحد، فليس العقل فيها شيئاً غير المعقول. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 405 وبالجملة فجميع الأشياء العرية عن الهيولى، فمعنى العقل والمعقول فيها واحد. قلت: وقد صنف أبو البركات مقالة في العلم ذكر فيها نحو ما ذكره في المعتبر وقال: هذا القول هو الذي نقل عن أرسطو طاليس في مقالة اللام من كتابه المعروف بـ ما بعد الطبيعة، وقد تداولته العقلاء، وتصرفت فيه العقول، وأكثر فيه المفسرون. والغرض منه ظاهر، وهو إجلال المبدأ الأول عن أن يكون له كمال بغيره، فيكون بذاته ناقصاً بالقياس إلى ذلك الكمال، وتكون له غيرية بإدراك الأبصار، وتغير بإدراك المتغيرات، وتعب باتصال إدراكها وازدحامها، وخروجه من القوة إلى الفعل فيفعلها. قال: وإذا كان هذا مفهوم الكلام قد لاح عن كثب، فلا حاجة إلى التطويل. وهذا قول إذا تتبع بطريقة النظر المحض، لم يثبت له قدم فيه وساق كلامه عليه. قال أبو البركات في المعتبر: وقد كان أرسطو قال قبل هذا ما قصد به أن ينفي عنه أن تتجدد له الأحوال، ويمنع به تغيره من حال إلى حال، حتى يحكم بذلك في العلوم والمعارف. قال: وليس يمكن في العلة الأولى أن تنفعل، وجميع هذه هي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 406 حركات توجد بآخرة بعد الحركة المكانية، وجميع هذه هي بينة على هيئة على هذه الصفة. ثم ذكر عبارة ابن سينا في هذه المسألة كما سنذكره. وكلام أرسطو فيه أربعة أمور: أحدها: أن العلم بالغير يوجب كونه كاملاً بغيره، فأن لا يبصر بعض الأشياء أولى من أن يبصرها. الثاني: أن علمه بالمتغيرات يوجب تعبه وكلاله. الثالث: أن هذا نوع من الحركة يستلزم تقدم الحركة المكانية. الرابع: أن علمه الأشياء نوع حركة يوجب كثرة العلوم، فيكون هو لها كالهيولى للصورة. ومدار الحجج على أن العلم يوجب الكثرة والتغير والاستكمال بالمعلوم. قال أبو البركات: الفصل الخامس عشر: في اعتبار الحجج المنقولة عن أرسطو طاليس: أما قول أرسطو بأن تعقله للغير كمال يوجب له نقصاً باعتبار لا كونه، فيرد بأن يقال فيه على طريق الجدال الذي يلزمه الإذعان له، وهو أن يقال: إنك تعرفه مبدأ أولاً، وخالق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 407 الكل، فنقول في خلقه مثلما قلت في تعقله. فإن قلت: الخلق لزم عن ذاته. قلنا: والتعقل لزم عن ذاته. وإن قلت: إن ذلك يمنعه عنه، حتى لا يجعل له به كمالاً، أعني كونه يعقل الأشياء. قلنا: فامنع هذا أيضاً، أعني كونه يخلق الأشياء، حتى لا يكون له به كمال، فيما لا يخلق لا يكون خالق المخلوقات ومبدأً أول لها، كما أنه بما لا يعقل لا يكون عاقل المعقولات، ولو بما لا يعقل واحداً منها، مثلما لا يخلق واحداً منها، فإن الذي لزم في علم المعلوم، يلزم مثله في خلق المخلوقات أو إبداع المبدع، فإنه بقياس لا وجوده عنه ليس بخالق ولا مبدع، فإن لم يوجب هذا نقصاً، لم يوجب ذاك. وإن أوجب ذاك، فقد أوجب هذا، وإجلاله عن ذلك، كإجلاله عن هذا، وقدرته على هذا، كقدرته على ذاك، فلم نزهته عن ذاك، ولم تنزهه عن هذا؟ ولم خشيت عليه التعب في أن يعقل، ولم تخشه عليه في أن يفعل؟. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 408 قال: فهذا جواب كاف في رده على مذهب المجادلة. قلت: قوله على مذهب المجادلة -يعني المعارضة والنقض- التي تبطل حجة المستدل، وتبين أنها فاسدة وإن لم يعلم حلها، وذلك أن ما ذكره في العلم يلزم مثله بطريق الأولى في الفعل، فإنه من المعلوم بصريح العقل أن كون الشيء مفعولاً دون كونه معلوماً، فإن المفعولات دون الفاعل، وليس كل معلوم دون العالم، فالإنسان يعلم ما هو أكمل منه، ولا يفعل ما هو أكمل منه. فالمفعول يجب أن يكون دون الفاعل، ويجب أن يكون الفاعل أكمل من المفعول، ولا يجب مثل ذلك في العالم والمعلوم، بل يجوز أن يعلم العالم ما هو أكمل منه، وما لا يفتقر إليه بوجه من الوجوه. وأما مفعوله فهو مفتقر إليه. فإذا لم يكن كون الأشياء مفعولة له، مما يوجب نقصاً له وكمالاً بها، فأن لا يوجب كونها معلومة له نقصاً له وكمالاً بها بطريق الأولى، إذ كونها مفعولة أنقص لها من كونها معلومة له، فإذا كانت فاعليته لا تتم إلا بها، ولم يكن ذلك نقصاً، فأن لا تكون عالميته التي لا يتم إلا بها نقصاً بطريق الأولى. وذلك من وجوه: أحدها: أن كونها مفعولة أنقص لها من كونها معلومة. الثاني: أن لزوم الفعل له أولى بأن يجعل نقصاً من لزوم العلم له. الثالث: أن استلزام الفاعلية المفعول أولى من استلزم العالمية لوجود الجزء: 9 ¦ الصفحة: 409 المعلوم، فإن العالم قد يعلم المعلوم معدوماً، ويعلمه ممتنعاً، ويعلمه قبل وجوده. وأما الفعل فلا يكون إلا لما يوجد بالفعل، لا لما يكون معدوماً مع وجود الفعل. وحينئذ فتوقف كونه فاعلاً على وجودها أولى من توقف كونه عالماً على وجودها. الرابع: أنه إذا قيل: فعله لها لا يوجب احتياجه إليها، بل هي المحتاجة إليه من كل وجه، وكماله بفعله الذي هو من ذاته لا منها. قيل: وعلمه بها لا يوجب حاجته إليها بوجه، بل العالم أغنى عن المعلوم من الفاعل إلى المفعول، إذ لا يعقل في الشاهد فاعل إلا وهو محتاج إلى فعل، بل ومفعوله، ويوجد عالم لا يفتقر إلى معلوماته، بل ولا إلى علمه بكثير من المعلومات، وإن كان علمه بها صفة كمال، وجوده أكمل منه. وإذا قدر أن بعض الأفعال لا يحتاج إليه بل هو صفة كمال. قيل: الفعل الاختياري لا يكون إلا بإرادة، وحاجة الإنسان إلى وجود كل مراد مطلقاً، أعظم من حاجته إلى العلم بما يعلمه مطلقاً، تعلق النفوس بمراداتها، أعظم من تعلقها بمعلوماتها. ولهذا يقول بعض الناس ويحكونه عن علي: قيمة كل امرئ ما يحسن ولا يصح هذا عن علي. ويقول أهل المعرفة: قيمة كل امرئ ما يطلب. فكمال النفوس ونقصها بمرادها، أعظم من كمالها ونقصها بمعلومها. بل نفس العلم بأي معلوم كان لا يوجب لها نقصاً، وأما إرادة بعض الجزء: 9 ¦ الصفحة: 410 الأشياء فيوجب لها نقصاً، فإذا كان فعله لكل ما في الوجود لا يوجب له نقصاً، فكيف بعلمه بذلك؟ وإذا كان فعله لها لا يوجب كونه محتاجاً إليها مستكملاً بها، فكيف يوجب ذلك علمه بها؟ ونحن نعلم أن كون الفاعل لا يفعل بعض الأشياء أكمل من فعلها، وأما كونه لا يعلمها، فلا يعقل كونه نقصاً، إلا إذا اقترن بالعلم ما يذم، لا أن نفس العلم يذم، فإذا كان فعله لبعض الموجودات ليس أكمل من فعله لها كلها، ولم يكن أن لا يفعلها أكمل من أن يفعلها، فكيف يكون أن لا يبصرها أفضل من أن يبصرها؟ وإذ قيل: هو فاعل لبعضها بتوسط بعض. قيل: كيفما قدرت وجود الفعل ونفي كونه نقصاً، كان تقدير وجود العلم ونفي كونه نقصاً أولى وأحرى. فإن قلت: فعله للمفعول الأول لازم لذاته وهلم جراً، ولا يكون نقصاً. قيل: إن قدر أن هناك معلولاً أول يلزمه، فإن علمه بنفسه إذا كان يستلزم علمه بالمعلول الأول ولوازمه، لم يكن نقصاً بطريق الأولى. وإذا قيل: إن في التعقلات تعباً. قيل: من لم يتعب بالفعل، فأن لا يتعب بالعلم بطري الأولى، فكيف يعقل فاعل يفعل دائماً ولا يتعب بالفعل؟ فأن لا يتعب بالعلم بطريق الأولى. فكيف يعقل فاعل يفعل دائماً ولا يتعب بالفعل، ولكن يتعب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 411 بعلمه بالمفعول مع كونه عقلاً؟ والعقل الذي هو العلم أولى به من الفعل. وهم يعلمون -وكل عاقل- أن نفس الإنسان لا يتعب بالعلم، كما يتعب بالفعل. وكذلك بدنه إذا قدر فعل لا يكون استحالة وتغيراً، فلأن يقدر علم به لا يكون استحالة وتغيراً بطريق الأولى. وإذا قدر فعل لا يوجب حركة مكانية، فالعلم به أن لا يوجب ذلك أولى وأحرى. ففي الجملة كل ما توهم المتوهم أنه نقص في العلم، مثل كونه استكمالاً بالغير، أو كونه تغيراً، أو كونه متعباً، مثله في فعل ذلك لغير المعلوم بطريق الأولى. وإذا كان الفعل لا نقص فيه بل هو كمال، فكذلك للعلم وللغير المذكور، هو مفعوله ومخلوقه الذي هو أبدعه. فإذا قيل: إن كماله به، فليس كماله إلا بنفسه، إذ هو المبدع له، فلم تفتقر نفسه إلى غير نفسه، ونحن نعقل أن ما هو غني عنا علمنا به أكمل من أن لا نعلمه وإن كان غنياً عنا، فلو قدر أن في الوجود ما ليس مفعولاً له، كان أن يعلمه أكمل من أن لا يعلمه، فكيف إذا كان هو مفعوله؟ وهل يقال: إن من علم الأشياء بعلوم متجددة، بل علمها بعد وجودها، أنقص ممن لا يعلمها بحال، فكيف يكون من لا يعلمها قبل وجودها وبعد وجودها؟ ولو سمى مسم العلم بالمتغيرات تغيراً وحركة واستكمالاً بالغير، ومهما سماه من ذلك، فإذا قيس من يعلم الإشياء إلى من لا يعلمها، كان الأول أكمل بكل حال. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 412 ولهذا كان الإنسان القابل للعلم أكمل من الجماد، وإن كان في علمه من التغير والحركة ما ليس في الجماد. وأيضاً فمن يكون حياً حساساً يقدر على الحركة، أكمل ممن لا يكون كذلك. وكلما كانت صفات الكمال أكمل، كان الموصوف أكمل، فإن الإنسان أكمل من الحيوان البهيم، والحيوان أكمل من الجماد، وإن قدر أن علمه وفعله مستلزم للحركة، بل للحركة المكانية، فهو أكمل ممن لا علم له ولا يتحرك بإرادته، فالمتحرك بإرادته أكمل ممن لا يمكنه الحركة البتة. هذا هو المعقول في الموجودات. وكلما تدبر الإنسان، ونظر في الأدلة المعقولة، تبين له أن ما ذكره عن أرسطو من الحجج لنفي العلم من أفسد الحجج، بل هي الغاية في الفساد، وهي مبنية على مقدمتين. ما ذكره ابن ملكا عن أرسطو من الحجج لنفي العلم باطل من وجوه إحداهما: إن العلم يستلزم أموراً. والثانية: أنه يجب نفي تلك الأمور لكونها نقصاً. وهذا باطل من وجوه: منها: المعارضة بما تقدم. ومنها: أن نفي العلم أعظم نقصاً من تلك اللوازم، فلو قدر أنها تتضمن ما يسمونه نقصاً، لكان ما يتضمنه نفي العلم من النقص أعظم، فلا يجوز التزام أعظم النقصين حذراً من أدناهما، إذا قدر أن كلاهما قد جعله هؤلاء نقصاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 413 ومنها: أن ما ذكره من المقدمة الأولى اللزومية مما ينازعهم فيه كثير من الناس. ومنها: أن كون تلك اللوازم نقصاً مما ينازع فيه كثير من الناس. ومنها: أنه يستفصل عن الحدود المذكورة في المقدمتين، فإنها ألفاظ مجملة، وحينئذ فلا بد من منع الملزوم، أو انتفاء اللازم، فإما أن لا يسلم ما ذكروه عن اللزوم، وإما أن لا يسلم ما ذكروه من انتفاء اللازم. ومنها: بيان أن لوازم العلم كلها كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه. ومنها: أن ما ذكره مبني على وجوب ثبوت الكلام للرب تعالى وتنزيهه عن النقص، وهذا حق كما قررناه في غير موضع، وبينا أن الكمال الممكن وجوده، الذي لا نقص فيه بوجه، يجب إثباته لله تعالى، وأن العلم من أعظم الكمالات الذي لا نقص فيه بوجه، وقد وجد العلم في الوجود، فثبوته له أولى من ثبوته لغيره، وأن العلم من حيث هو علم لا يستلزم نقصاً أصلاً، ولكن النفوس الظالمة إذا علمت بعض الأشياء فقد تستعين بالعلم على الظلم، والنفوس الجاهلة به إذا عرفت بعض الحقائق، فقد يضرها معرفة تلك الحقائق، فيحصل الضرر لما في النفوس من الشر. أما المقدس المنزه عن كل عيب، فعلمه من تمام كماله، وهو مما يحمد به ويثنى به عليه، لا يستلزم الذم والنقص بوجه من الوجوه، فكيف إذا علم وجود العالم وامتناع وجوده بدون العلم وامتناع كونه فاعلاً لشيء إلا مع علمه به؟ إلى غير ذلك من الدلائل البرهانية المثبتة لوجوب كونه تعالى عليماً بكل شيء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 414 لكن نحن في هذا المقام في أبطال شبه النفاة، لا في بيان حجج المثبتين. وما ذكره أبو البركات في المعارضة بالفعل في غاية الحسن، فإن من لا يلزمه تعب ولا نقص في خلق المخلوقات، فأن لا يلزمه ذلك في علمه بها أولى وأحرى. وهذا مما يبين أن قول اليهود، الذين وصفوه بالتعب لما خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأنه استراح بعد ذلك -أقرب إلى المعقول من قول أرسطو وأتباعه، الذين يقولون: لو كان عالماً بهذا لتعب، لكن هذه المعارضة مبنية على أنه علة فاعلة للعالم، سواء قيل: إنه فاعل له بالإرادة، أو موجب له بذاته بلا إرادة. وكونه مبدأً للعالم هو مما اتفق عليه الأمم من الأولين والآخرين، ووافقهم على ذلك أئمة أتباع المشائين، كابن سينا وأمثاله. وأما أرسطو فليس في كلامه إلا أنه علة غائية، بمعنى أن الفلك يتحرك للتشبه به، ليس فيه أنه مبدع للعالم. وهذا، وإن كان في غاية الجهل والكفر، فكلامه في علمه مني على هذا. وإبطال كلامه في العلم ممكن، مع تقدير هذا الأصل الفاسد أيضاً من وجوه. فإن حقيقة قول أرسطو وأتباعه: إن الرب ليس بخالق ولا عالم. وأول ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1-5] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 415 وكذلك قوله: {سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى} [الأعلى: 1-3] . وقوله موسى لفرعون: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] ، وأمثال ذلك. وهؤلاء عندهم لم يخلق شيئاً، ولم يعلم أحداً، بل هو في نفسه ليس بعالم، فكيف يعلم غيره ويهديه؟ بقية كلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية عليه قال أبو البركات: فأما الجواب النظري البرهاني، فهو أن نقول: ليس كماله بفعله، بل فعله بكماله وعن كماله، ومن فعله عقله، فعقله عن كماله الذاتي، الذي لا وجه لتصور النقص فيه ولا القول به، فإن النقص في ذات المبدأ الأول غير متصور لأنه واحد، والنقص إنما يتصور في موضع الزيادة والنقصان، والزيادة والنقصان معاً إنما هي من صفات الكثرة والغيرية، حيث تتصور في الكثرة قلة، وفي الزيادة نقصان، كل واحد بقياس الآخر. فأما حيث لا كثرة ولا غيرية بل وحدة محضة، فلا يتصور نقص. وكيف والنقص من الصفات الإضافية، حيث يقال: نقص كذا، كما يقال: زاد كذا؟ فالنقص المتصور في الذات الأحدية، أي نقص يكون؟ ونقص ماذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 416 يكون؟ وكيف يتصور؟ لا أقول: كيف يقال؟ فإن القائل قد يقول ما لا يتصوره، لكن العالم لا يعلم ما لا يتصوره إثباتاً ولا نفياً. فإن قيل: إن النقص ها هنا متصور بقياس ذاته، وهو أن لا يعقل كذا لولا كذا المعقول، أي لا يعقل لولا المعقول. قلنا: إن الكمال الذي له ليس هو بأن يعقل كل موجود، بل كونه بحيث يعقل كل موجود، فإن كان المعقول موجوداً عقله، وإن فرض غير موجود، لزمه فرض أن لا يعقله، لا لأنه لا يعقله، أي لا يقدر على عقله، بل النقص من جانب العدم المفروض، فكماله وقدرته له بذاته، ويلزم عنهما ما له بالقياس إلى موجوداته، فما كمل بإيجاد مخلوقاته، بل وجدت مخلوقاته عن كماله. وليس هذا القول في المبدأ الأول فقط، بل وفينا أيضاً، فإنا لسنا نكمل بكل معقول، بل إنما كمالنا بقدرتنا على أن نعقله وإنما نكمل بما نعقله بالفعل، حيث نعقل بالفعل معقولات أشرف منا، وذلك نوع آخر من الكمال، فإن العقل له بذاته الكمال، الذي هو قدرته على أن يعقل، وله بأن يعقل، وذلك أمر له من ذاته: عقل بالفعل أم لم يعقل. وله كمال عرضي إضافي اكتسابي، بما يعقل معقولات هي أشرف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 417 منه، وذلك ليس للأول، إذ ليس أشرف منه في الموجودات، حتى يشرف ويكمل بعقله له، وليس إذا ارتفع هذا عنها ارتفع ذاك، فإن ذاك هو الأول، والذي بالذات -أعني كونه بحيث يعقل، وقدرته على أن يعقل -فهو كماله الذاتي الذي به شرف وجل وعلا عما لا يعقل. والآخر هو الثاني. والذي بالعرض، أعني كماله بمعقولاته وشرفه بها، فإن كوننا بحيث نعقل ما نعقله، شرف لنا وكمال، بالقياس إلى ما ليس له ذلك. وكثير من المعقولات التي نعقلها لا نشرف بها، وليس الشرف الحاصل من الفعل، هو الشرف الذي بالقدرة، فإن الذي بالقدرة قبل الفعل ومعه وبعده، والذي بالفعل يحصل مع الفعل وبه وبعده، ولا يكون قبله، فما شرف الله بمخلوقاته، بل خلق بشرفه، أعني: ما خلق فشرف، بل شرف فخلق، وكذلك ما علم فكمل، بل كمل فعلم. قلت: ملخص هذا أن الكمال هو الذي يجب له أزلاً وأبداً، وهو لازم لا يتجدد منه شيء، وهو كونه بحيث يفعل ويعقل، لا نفس وجود الفعل المعين والعلم المعين، وهذا هو القدرة على الفعل والعقل، وهذا له بذاته لا يتوقف على شيء من الموجودات. ولهذا قال: إن النقص غير متصور في الذات الواحدة، فإن النقص يستلزم التعدد، ولا تعدد هناك. لكن قد يقال على هذا: إنه، وإن كان الذات واحدة، فإذا كانت الصفات متعددة، كالقدرة والعلم، أمكن تقدير أحدهما دون الآخر، فالكمال هو بوجود الجميع، والنقص معقول بعدم بعض ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 418 لكن ما قاله لازم لمن ينفي الصفات من الجهمية والفلاسفة، ويقدر ذاتاً لا صفة لها، أو وجوداً مطلقاً لا يختص بأمر، فهذا لا يعقل فيه كمال ولا نقص. وأرسطو من نفاة الصفات، وقد قدر أنه يكمل تارة ولا يكمل أخرى، وجعل أحد الأمرين أكمل له من الآخر. وأصحاب أرسطو يقولون: هذا إنما يمكن تقديره في الأمور الإضافية والسلبية. فيقال لهم: أما الإضافات فإنها تتجدد عندكم. فإن قلتم: إنها كمال. لزم أن يتجدد له الكمال، وهو خلاف أصلكم. وإن قلتم: ليست بكمال. بطل تقدير الكمال لامتناع تقدير النقصان. ولكن قد يقال: تقدير النقصان في الواحد المسلوب الصفات غير متصور، كما قال أبو البركات. لكن يمكن تقدير كمال منتظر ونفيه، وهو الذي نفاه أرسطو. وأبو البركات جعل الكمال في نفس القدرة اللازمة له، لا فيما ينتظر. لكن أبو البركات من مثبتة الصفات، فما ذكره، وهو أن عدم إمكان النقص في الواحد من كل وجه، تقريراً لامتناع النقص عليه، وامتناعه بوجه كماله، فيكون فعله عن كماله. الرد على أرسطو من وجوه أخرى غير ما ذكره ابن ملكا. الوجه الأول الرد على أرسطو من وجوه أخرى غير ما ذكره ابن ملكا. الوجه الأول ويقال: يمكن الجواب عن شبهة أرسطو من وجوه أخر غير ما ذكره أبو البركات. أن يقال: العلم لازم لذاته أزلاً وأبداً، ليس شيئاً متجدداً، فلا يحتاج أن يقال: كماله في أن يقدر على العقل، كما قال أبو البركات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 419 بل نفس العقل، الذي هو العلم في لغة المسلمين، أمر لازم لذاته، كما قال أبو البركات في القدرة. وحينئذ فليس كماله بغيره، بل بعلمه الذي هو من لوازم ذاته، الذل لم يزل ولا يزال، كما أن كماله بقدرته كذلك. وكون العلم متعلقاً بغيره، مثل كون القدرة متعلقة بغيره. وكما أن القدرة صفة كمال، لا يقدح فيها أنه لا بد لها من مقدور، فالعلم كذلك وأولى، لأنه يتعلق بنفسه ويتعلق بغيره، والقدرة لا تكون قدرةً إلا على غيره. الوجه الثاني أن ما ذكرناه من أن الأعيان الذين يتعلق بهم العلم والقدرة هم مخلوقاته، الذين لم يشركه أحد في خلقهم، وهم كلهم محتاجون إليه لا إلى غيره، فما في الوجود إلا نفسه ومخلوقاته، التي لا وجود لها إلا بنفسه، فلم يكن تعلق صفاته بمخلوقاته، بأعظم من تعلق ذاته بهم، وكما أن تعلق ذاته بهم هو من كماله لا من نقصه، فتعلق علمه وقدرته بهم كذلك، ومعلوم أن وجود ذاته دون لوازم ذاته ممتنع باتفاق العقلاء، فيمتنع عند المسلمين وجوده بدون علمه وقدرته. وجماهير المسلمين يقولون: إن إرادته من لوازم ذاته، سواء قالوا: إنها واحدة بالعين أو متعددة. وإذا كانت إرادته من لوازم ذاته، فيمتنع وجوده بدون وجود مراداته، التي هي مخلوقاته، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والمتفلسفة يقولون: إن وجوده بدون وجود معلولاته ممتنع، ومع هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 420 فلم يكن كونه ملزوماً لغيره نقصاً، فكيف يكون كون علمه ملزوماً للمعلوم نقصاً، مع أنه هو خالق المعلومات؟ الوجه الثالث جواب من يقول: إنه يعلم الأشياء كلها بعلم قديم أزلي، وأنه لا يتجدد عند تجدد المعلومات إلا تعلق العلم بها، كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام، ومن اتبعهم من الفقهاء، فهؤلاء يقولون: إن العلم لا يقف على شيء أصلاً، بل هو حاصل أزلاً وأبداً على وجه واحد. الوجه الرابع جواب من يقول: إنه يعلم الشيء موجوداً بعد أن علمه معدوماً، وأن هذا الثاني فيه زيادة على الأول، فهؤلاء يقولون: لم يحصل المعلوم والعلم الثاني إلا بقدرته ومشيئته، فما استفاد شيئاً من غيره، ولا كمل بغير نفسه. ويقولون: إن ما لا يكون إلا بمشيئته وقدرته، يمتنع وجوده في الأزل، ووجوده بقدرته ومشيئته أكمل من عدم وجوده، فوجوده على هذه الحال هو غاية الكمال، وعدم هذا الكمال هو النقص الذي يجب تنزيهه عنه، فإنه كمال ممكن الوجود لا نقص فيه، وكل ما كان كذلك كان واجباً له، إذ لو لم يكن واجباً له، لكان: إما ممتنعاً -وهو خلاف الفرض- أو ممكناً، وحينئذ فالمقتضى له هو ذاته بلوازمها، وقد وجد ذلك، فيجب وجوده، وإلا فيكون ممتنعاً. وهو خلاف الفرض. وبهذين الجوابين يزول ما يقدح به كلام أبو البركات، حيث جعل العقل بالفعل ليس كمالاً، وإنما الكمال في القدرة عليه، ولم يجعل الكمال إلا في عقل الأفضل لا الأدنى، فإن هذا مما نازع فيه. ويقال: ما كان كمالاً، إذا كان بالقوة فهو إذا صار بالفعل أكمل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 421 وأكمل، فكيف تكون القدرة على الفعل والعقل للأشياء الخسيسة كمالاً؟ ولا يكون خروج القوة في الفعل، ونفس فعلها وعقلها كمالاً؟ ولكن يقال: ما كان يمتنع وجوده أزلياً، ولا يمكن أن يوجد إلا حادثاً، ليس الكمال إلا في إحداثه، ولا في فعله في الأزل، وإذا قدر أن علمه موجود لا يمكن تحققه إلا بعد وجوده، كان أن يعلم موجوداً بعد وجوده، أكمل من أن لا يعلم موجوداً، وإن علم أنه سيوجد. وأما قول أبي البركات: ما كمل بفعله وعقله، بل فعل وعقل بكماله فهو صحيح، إذا أريد بالكمال ما هو أزلي للذات، لا يمكن تجدد شيء من أفراده، كما لا يتجدد نوعه. وأما إذا أريد بالكمال ما يتضمن جميع ما يمكن وجوده من الكمال على الوجه الذي يمكن. فيقال: كماله بنفسه وذاته، ونفسه تتضمن ما يقوم به من صفاته وأفعاله، فلم يكمل بشيء مباين له. وما كان داخلاً في مسمى اسمه فليس هو مبايناً له، ولا يطلق القول عليه بأنه مغاير له. وحينئذ فكماله بذلك مثل كماله بذاته وصفاته اللازمة، وما كان حدوثه حيث تقتضي الحكمة حدوثه على الوجه الممكن، فهو كمال في ذلك الوقت، لا كمال في غيره، وذلك إنما حصل بنفسه ولها، لم يحصل بغيره ولا لغيره. وعلى هذا فإذا قيل: لو عقل لكمل له. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 422 يقال: إن أردت بقولك: كمل به، إن ذلك بغير أعطاه الكمال، فذلك باطل. وإن أردت أنه لولا ذلك الغير لما وجد العلم به، فيقال: نعم. وهذا لا يضر لوجوه. أحدها: أنه هو الذي أوجد ذلك الغير، وبقدرته ومشيئته وجد وهو ولوازمه، فلم يكن ما حصل له حاصلاً إلا به وحده. الثاني: أنه لو قدر موجوداً بغيره، لكان أن يعلمه أكمل من أن لا يعلمه. الثالث: إذا كان العلم بالغير مشروطاً بالغير، ولولا الغير لما حصل، والغير حاصل على التقديرين: علم أو لم يعلم، فوجود الغير -مع فوت الكمال الذي يمكن معه- هو النقص، إذ النقص هو فوت ما يمكن وجوده، لا ما لا يمكن، والعلم صفة كمال، والعلم بكل شيء ممكن، فوجود هذا كمال، وعدمه نقص. عود لكلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية قال أبو البركات: فأما القول بإيجاب الغيرية فيه، بإدراك الأغيار، والكثرة بكثرة المدركات -فجوابه المحقق: أنه لا يتكثر بذلك تكثراً في ذاته، بل في إضافاته ومناسباته، وتلك مما لا تعيد الكثرة على هويته وذاته ولا الوحدة التي أوجبت له وجوب وجوده بذاته. ومبدئيته الأولى التي بها عرفناه، وبحسبها أوجبنا له ما أوجبنا، وسلبنا عنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 423 ما سلبنا، هي وحدة مدركاته ونسبته وإضافاته، بل إنما هي وحدة حقيقيته وذاته وهويته. ولا تعتقدن أن الوحدة المقولة في صفات واجب الوجود بذاته، قيلت على طريق التنزيه، بل لزمت بالبرهان عن مبدئيته الأولى، ووجوب وجوده بذاته، والذي لزم عن ذلك لم يلزم إلا في حقيقته وذاته، لا في مدركاته ومضافاته، فأما أن يتغير بإدراك المتغيرات، فذلك أمر إضافي، لا معنى في نفس الذات، وذلك مما لا تبطله الحجة، ولم يمنعه برهان، ونفيه من طريق التنزيه والإجلال لا وجه له، بل التنزيه من هذا التنزيه والإجلال من هذا الإجلال أولى. قلت: أرسطو إنما اعتمد على نفي التغير إذا علم شيئاً بعد شيء، فأما كثرة المعلومات مع قدم العلم فلم يتعرض له، وكأنه عنده غير ممكن. قال أبو البركات: فأما الذي قيل في منع التغير مطلقاً، حتى يمنع التغير في المعارف والعلوم، فهو غير لازم في التغير مطلقاً، بل هو غير لازم البتة، وإن لزم كان لزومه في بعض تغيرات الأجسام، مثل الحرارة والبرودة، في بعض الأوقات، لا في كل حال ووقت، ولا يلزم مثل ذلك في النفوس التي تخصها المعرفة والعلم دون الأجسام، فإنه يقول: إن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 424 كل تغير وانفعال فإنه يلزم أن يتحرك قبل ذلك المتغير حركة مكانية. قال أبو البركات: وهذا محال، فإن النفوس تتجدد لها المعارف والعلوم، من غير أن تتحرك في المكان على رأيه، فإنه لا يعتقد فيها أنها تكون في مكان البتة، فكيف أن تتحرك فيه؟ وإنما ذلك للأجسام في بعض الذوات والأحوال، كالتسخن والتبرد، ولا يلزم فيها أبداً، فإن الحجر الكبير يسخن ولا يصعد، ويبرد ولا يهبط، بل ولا يتحرك من مكانه، وإنما ذلك مما يصعد بالبخار من الماء، ويدخن من الأرض من الأجزاء التي هي كالهباء، دون غيرها من الأحجار الكبار الصلبة، التي تحمى حتى تصير بحيث تحرق وهي في مكانها لا تتحرك. والماء يسخن سخونة كثيرة وهو في مكانه لا يتبخر، وإنما تتبخر منه بعض الأجزاء، ثم تكون الحركة المكانية بعد الاستحالة لا قبلها، كما قال: إن جميع هذه هي حركات توجد بأخرة بعد الحركة المكانية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 425 وفيما عدا ذلك فقد يسود الجسم ويبين، وهو في مكانه لم يتحرك، ولا يتحرك قبل الاستحالة ولا بعدها، فما لزم هذا في كل جسم، بل في بعض الأجسام، ولا في كل حال ووقت، بل في بعض الأحوال والأوقات، ولا كان ذلك على طريق التقدم كما قال، بل على طريق التبع. ولو لزم في التغيرات الجسمانية لما لزم في التغيرات النفسانية، ولو لزم في التغيرات النفسانية أيضاً، لما لزم انتقال الحكم فيه إلى المتغيرات في المعارف والعلوم، والعزائم والإرادات. فالحكم الجزئي لا يلزم كلياً، ولا يتعدى من البعض إلى البعض، وإلا لكانت الأشياء كلها على حال واحدة. وهو قدم هذا على كلامه في العلم، حتى يجري عليه الحكم في المعرفة والعلم، فاعتبر بهذا، فإن استقصى لهذا القول البحث أمكن أن يرجع إلى أصل، ويصح على وجه، لكنه مع ذلك لا ينتصر به القول، الذي أبطلوا به معرفة الله وعلمه بالحوادث. فأما الأصل الذي يرجع إليه باستقصاء النظر في التأويل له، فهو أن يقال: إن الشيء إذا تسخن بعد برده، أو تبرد بعد سخونة، وتبيض الجزء: 9 ¦ الصفحة: 426 بعد سواد، وتسود بعد بياض، بسبب يقرب منه بعد بعد يؤثر فيه، ذلك إما بحركته إلى السبب، وإما بحركة السبب إليه، فإن الماء يسخن بعد ما كان بارداً بحرارة النار مثلاً التي يقرب منها، إما بحركة النار إليه، أو بحركته هو إليها. كذلك المبيض بعد اسوداده، يتحرك إلى المسود، أو يتحرك المسود إليه، فتتقدم الحركة المكانية بهذا البيان سائر الحركات، وتتقدم الدورية المستمرة الدائمة، على المستقيمة المنقطعة ذات البداية والنهاية المحدودتين، فهكذا يصح أن يقال: تتقدم الحركة الدورية على سائر الحركات والتغيرات، فيصح ذلك في الأجسام الداخلة تحت الكون والفساد، بالتغيرات المحدودة في التكيفيات المبصرة والملموسة، والأشكال والمقادير وما يتبعها ويتعلق بها، فأما في النفوس والعقول، وفي الله تعالى، فلا يلزم شيء من ذلك بهذا البيان. قال: وأعجب من هذا قوله بأنه يتعب، حيث قال: وإذا كان هذا هكذا لا محالة إنه يلزمه الكلال والتعب من اتصال المعقولات، وهو القائل في كتاب السماء إنها لا تتعب بدوام حركتها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 427 المتصلة، لأن طبعها لا يخالف إرادتها، فجعل علة التعب هناك مخالفة الطبيعة للإرادة، وها هنا كثرة الأفعال واتصالها، وكثرة الخروج من القوة إلى الفعل. والقوة قوتان: استعداد، وقدرة. والاستعداد إذا كمل بالخروج إلى الفعل صار قدرة، ثم عن القدرة تصدر الأفعال، والتي بمعنى الاستعداد نقص يفتقر إلى كمال، والأخرى كمال تصدر عنه الأفعال. فهذه القوة من قبيل القدرة الدائمة القارة على حد لا ينقص ولا يزيد، وليست بمعنى الاستعداد الذي يخرج إلى الكمال. ولو كانت من هذا القبيل لما جاز أن يحكم عليها بالتعب الكلال، بل باللذة والكمال، فإن ما بالقوة يشتاق إلى كماله الذي بالفعل، ومن قبله تكون اللذة والسعادة. والكلال والتعب إنما يعرضان لنا لا من جهة اتصال أفعالنا، ولا من جهة ازدحامها، بل من جهة تحريك أعضائنا وأرواحنا بتقبلنا وتفكرنا، حركةً تخالف مقتضى الطبيعة التي في جوهرنا، كما نفاه عن السماء. وليس ذلك في جهة الخلاف، فإن القوى المتقاومة قد تتقاوم مدة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 428 فلا يعرض لها تعب، كما لو فرضت مغناطيس علق حديداً زماناً، فإنه لا يتعب ولا تضعف تلك القوة الجاذبة، ولا يبطل ذلك التعلق ما لم يتجدد أمر من خارج، بل لأن الحركة تحل جوهر الروح منا، أعني من أعضائنا، لتركيبها من لطيف وكثيف. واللطيف عرضة للانحلال، والحركة تسبب ذلك له، فإذا انحلت الروح التي بها تعلق القوة المحركة، ضعفت القوة المحركة فينا، وعجزت فيها تعباً وكلالاً. وذلك إنما ارتفع عن السماء لارتفاع التركيب والانحلال، لا لأن الطبيعة لا تضاد الإرادة فيها أو تضادها، فإن ذلك هو سبب بعيد للتعب والكلال، والقريب هو ما ذكرناه. فإذا ارتفع عن السماء لذلك، فلم بالحري أن يرتفع عن سماء السماء، وبسيط البسائط الوحداني الذات؟ قال: فأما قوله: فإن لا يبصر بعض الأشياء أفضل من أن يبصرها -فهو أشبه ما قاله من الحجج، وأقربها إلى التروج والقبول قبل التأمل، وإنما ذلك يكون بالقياس إلينا على ضيق وسعنا وزماننا، فيصح أن يقال: إن اشتغالنا بإبصار الأفضل أولى منه بالأخس، فأما إذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 429 كان الوسع بحيث لا يشغل فيه إدراك الأخس، ولا يعوق عن إدراك الأفضل، فلا. ثم هذا الخسيس إنما هو خسيس بالقياس إلينا أيضاً وفي أشياء مباينة لطباعنا، منافرة لحواسنا، لا على الإطلاق. وبالقياس إلى كل خساس، فإن طعم العذرة في فم الخنزير، كطعم العسل في فم الإنسان، وإذا نظرت إلى الكل لم تجد فيه خسيساً تعر معرفته أو يضر علمه، أو يكون لا إدراكه أولى من إدراكه، لا في الروحانيات ولا في الجسمانيات، لا في السماويات ولا في الأرضيات، كيف وما في الأرض وتحت السماء ليس غير الاستقصات الكائنة، وما يتولد عنها بامتزاجها! وليس في الممتزج منها سواها إلا قوىً سماوية، وما منها ما يضر إدراكه أو تعر معرفته، اللهم إلا لشخص ينافيه ويضاده لا على الإطلاق، ومن علا عن المضادة والمباينة، فلا يكون ذلك بالقياس إلا مكروهاً. فالله تعالى وملائكته أجل من أن ينالهم الأذى بضد أو مباين، من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 430 لون أو طعم أو رائحة، فكيف وما في الوجود إلا ما صدر عنه تعالى، ومما عنه، وهو عنه الحقيقة؟ فما لا يأنف منه أن يخلقه ويوجده، لا يأنف منه أن يدركه، وما لم يعره في أن فعله لا يعره في أن علمه، ولا له كيفية تناسبه، من لون أو طعم أو رائحة فيؤثرها، وأخرى تباينه فيكرهها فلم ننتفع الآن بالقضية المشنعة، أعني القائلة: فأن لا يبصر بعض الأشياء أفضل من أن يبصرها. ثم الإبصار، إن كان عن عجز وضيق وسع، فليس بأفضل من الإبصار، وإن كان من نوع الالتفات والتقزز، فذلك من المنافي والمؤذي، وقد قلنا فيه. قال: وأما قوله: فكمال ذلك العقل، إذ كان أفضل الكمالات، يجب أن يكون بذاته، فإنها أفضل الموجودات وأكملها، وأشرف المعقولات -فقول صادق صحيح، على الوجه الذي قلناه، لا على الوجه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 431 الذي يقصده من أن كماله بفعله الذي هو بعقل ذاته، إذ قد سلم أن ذاته في غاية الكمال والشرف والجلال، فليس كمالها بفعل من الأفعال: لا بعقل ذاته، ولا بعقل غيرها، بل تعقلها لذاتها فعل شريف كامل، صدر عن شرف الذات وكمالها، فكان كمال الفعل لكمال الذات، لا كمال الذات لكمال الفعل، وقد سبق هذا. قال: وأما قوله: وهذا يوجد هكذا دائماً، من دون تعرف أو حس أو رأي أو تفكر -فهذا ظاهر جداً، فإن الإدراك والتعقل التام للأمر القديم الدائم، من العاقل التام القديم الدائم، تام قديم دائم لا محالة. وقوله: فإنه إن كان معقول هذا العقل غيره، فإما أن يكون شيئاً واحداً دائماً، وإما أن يكون علمه بما يعلمه واحداً بعد آخر -فجوابه أن يعقل ذاته ويعقل غيره، فيعقل الدائمات دائماً، ويعقل المتجددات عقلاً قديماً دائماً، من حيث قدمها النوعي والمادي، والذي من جهة العلل الفاعلية والغائية، فتعقلها في تغيرها، على وفق تغيرها. ولا يكون ذلك التغير فيه، بل فيها، وهو يعقلها كلها على ما هي عليه، كما نعقل نحن بعضها فنعلم عينها وأنها ستكون، ومساوقتها وأنها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 432 كائنة، ومعدومها بعد كونه، وأنه كان لا يضيق وسعه عن ذلك، ولا يتغير به، ولا ينتقص، ولا يكمل، بل هو له كما يشاء، وعلى وفق قدرته وإرادته في خلقه، لا يمتنع ذلك بحجة، لا من جهة التعجيز، لأنه مردود بدليل الخلق. فقدرته على الخلق دليل قدرته على العلم، إذ هو خالق الكل، والخلق أكبر في القدرة من العلم. وإذا لم يصح التعجيز في الخلق، فهو بأن لا يصح في العلم أولى وأحرى، وكيف وأكثرهم يقولون: إن علم الله هو قدرته، وقدرته وسعت كل شيء خلقاً، فلا عجب أن يسع كل شيء علماً؟ ولا بدليل التنزيه، فإنه لا تعره ولا تضره معرفته بشيء من خلقه، ولا ضد له فيه ولا مباين، وليس به كماله، بل هو بكماله على ما قيل. هذا، مع أن في الجواب مساعدة ما، وإلا فلو فرضنا أن له به كمالاً على ما قيل، لم يكن له في ذلك نقص، لأن الكل منه وعنه، وكماله بما منه وعنه، فهو كماله بذاته في الحقيقة. والقول بأنه لولا أشياء غيره لم يكن بحال كذا من الكمال، إنما كان يكون له وجه، لو كانت تلك الأمور ليست منه وعنه، فأما وهي منه فلا يضر، لأنه كأنه قال: لولاه -أعني لولا ذاته- لم يكن بحال كذا، لأن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 433 الرفع في الفرض إنما يقع من جهة العلة الأولى، التي لا يرتفع المعلول إلا بارتفاعها. قلت: فهذا من كلام أبي البركات على قول أرسطو، وهو أقرب إلى تحرير النقل وجودة البحث في هذا الباب من ابن رشد، وابن رشد أقرب إلى جودة القول في ذلك من ابن سينا، مع غلوه في تعظيم أرسطو وشيعته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 434 فصل. باقي كلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية فصل. باقي كلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية قال أبو البركات بعد أن فرغ من حكاية حجة أرسطو: فأما قول التابعين في هذه المسألة، والمشيدين لما قيل فيها، والمستفيدين بحججها وبراهينها، فأقصى ما وقفنا عليه منه، وأجمعه لما تبدد في غيره، وهو ما قال الشيخ الرئيس، وهذه عبارته. نقل ابن ملكا لكلام ابن سينا في النجاة قال: وليس يجوز أن يكون واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء، وإلا فذاته إما متقومة بما تعقل فيكون متقوماً بالأشياء، وإما عارض لها أن تعقل، فلا تكون واجبة الوجود من كل جهة، وذلك محال. إذ لا يكون لولا أمور من خارج لم يكن هو بحال ويكون له الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 حال لا تلزم عن ذاته بل عن غيره، فيكون لغيره فيه تأثير والأصول السالفة تبطل هذا، ولأنه كما سنبين مبدأ كل موجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له، وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها والكائنة الفاسدة بأنواعها أولا، ويتوسط ذلك بأشخاصها. قال: ولا يجوز أن يكون عاقلاً لهذه المتغيرات مع تغيرها حتى يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة، وتارة أنها معدومة غير موجودة، ولكل واحد من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 الأمرين صورة عقلية على حدة، ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية، فيكون واجب الوجود متغير الذات. قال: ثم الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة، وبما يتبعها مما لا يتشخص، فلم تعقل بما هي فاسدة، وإن أدركت بما هي مقارنة للمادة وعوارض المادة لم تكن معقولة، بل محسوسة أو متخيلة. قال: ونحن قد بينا في كتب أخرى أن كل صورة محسوسة وكل صورة خيالية، فإنما ندركها بآلة متجزئة، وكما أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له، فكذلك إثبات كثير من التعلقات، بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو كلي، ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض، وهذا من العجائب. قلت: تقسيم ابن سينا صفاته إلى مقومة للذات وعرضية، بناءً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 على أصلهم الفاسد في المنطق: من أن الصفات اللازمة للموصوف تنقسم إلى ما تكون مقومة للذات داخلة فيها، يقولون: هي أجزاء للذات سابقة لها سبقاً عقلياً، وإلى ما تكون خارجة عن الذات عارضة لها بعد تحققها، وإن كانت لازمة لها بوسط أو بغير وسط. وهذا التقسيم قد بين فساده في غير هذا الموضع، وبين أن الصفات اللازمة للموصوف لا يجوز تقسيمها إلى هذين القسمين، ولا يجوز جعل الذات مركبة من أحد الصنفين دون الآخر، بل لا يجوز جعل الذات مركبة أصلاً منها، إلا أن يعنى بالتركيب اتصاف الذات بها وقيامها بالذات، أو لزوم الذات لها، ونحو ذلك مما تشترك فيه جميع الصفات اللازمة للموصوف. فأما جعل بعضها داخلاً في حقيقة الموصوف الثابتة في الخارج، وبعضها خارج عن حقيقته الثابتة في الخارج -فكلام في غاية الفساد، وغايتهم أن يجعلوا ذلك تركباً مما يتصوره المتصور من صفات الموصوف، وهذا أمر يزيد وينقص، ويدخل في المتصور ويخرج منه بحسب تصور المتصور، لا بحسب الحقيقة الثابتة في الخارج، وإن ادعوا أن الحقيقة من حيث هي هي مركبة من ذلك، وأن تلك الحقيقة لا تحقق لها إلا في الأذهان لا في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 الأعيان، كما يقوله من يقوله منهم، كان هذا من أدل الأشياء على فساد قولهم وضلالهم في تصورهم. قال أبو البركات: فهذا ما قاله الشيخ الرئيس. قال: فقوله: إنه إذا عقل الأشياء من الأشياء كان على أحد وجهين: أحدهما: أن تتقوم ذاته بما تعقل، أو يكون عارضاً لها أن تعقل، وأنه على كلا الوجهين لا يكون واجب الوجود من جميع جهاته. جوابه: أما في التقويم فالفرض فيه محال، لأن العاقل لا يتقوم بما يعقله، لأن يعقل هو يفعل، ويفعل: إنما يكون بعد أن توجد بعدية بالذات، فكيف يتقوم الوجود بما هو بعد الوجود بالذات؟. وأما كونها عارضاً لها أن تعقل، وإلزامه منه أنه لا يكون واجب الوجود من جميع جهاته، فكأنه من مدح الشعراء، أو من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 كلام محسني الألفاظ بالتخيلات من الخطب والمدائح، وإلا فما معنى: من جميع جهاته؟ فإن كونه مبدأ أولاً، بل كونه مبدأ مطلقاً يلزم فيه ما لزم في هذا، وهو أنه: إما أن يتقوم بكونه مبدأً أولاً، أو يكون ذلك عارضاً له، فلا يكون واجد الوجود من جميع جهاته، أي لا يكون واجب الوجود في كونه مبدأ أولاً لزيد وعمرو وغيرهما من الموجودات. والذي ألزمنا البرهان أنه واجب الوجود بذاته، فأما هذا من جميع جهاته إن كان من جهات وجوده فذلك، وأما في إضافاته ومناسباته فلا، إذ بطل بما قيل. قلت: وهذا الذي قاله أبو البركات رداً على ابن سينا قد صرح به ابن سينا في موضع آخر يناقض ما قاله هنا، فإنه قال في كتابه المسمى بـ الشفاء في مسألة العلم: ولا تبالي أن تكون ذاته مأخوذة مع إضافة ما ممكنة الوجود، فإنها من حيث هي علة لوجود زيد، ليست بواجبة الوجود، بل من حيث ذاتها. وهذا يوافق ما قاله أبو البركات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 قال أبو البركات: فإما أن لا يكون مبدأ أولاً، وإما أن لا يكون واجب الوجود من جميع جهاته، أعني من جهة إضافاته إلى ما وجوده بعد وجوده بالذات. وأما قوله: لولا أمور من خارج لم يكن هو بحال كذا، فكذلك لولا المخلوقات لم يكن مبدأً أولاً، لكن ليس ذلك بمحال، وقد رد على طريقي المساعدة والمخالفة. وأما قوله: وتكون له حال لا تلزم عن ذاته، بل عن غيره، فقول باطل، وذلك أن العلم إضافة لزمت عن ذاته بالنسبة إلى مخلوقاته، ومخلوقاته لزمت عن ذاته، ولازم لازم الذات لازم الذات، فما لزمت عن غيره كما قيل. ولو لزمت لما لزم المحال، وإلا فبأي حجة تلزم؟. وهم فلم يوردوا على ذلك حجة، بل أوردوه كالبين بنفسه، وليس ببين، بل مردود وباطل على ما قيل. وأما قوله: فيكون لغيره فيه تأثير، أما في وجوده ووجوب وجوده فلا، وأما في إضافته ونسبه، فأي أصول أبطلته ما بطل ولا يبطل، وإنما تمت المغالطة بلفظ التأثير حيث يتوهمه السامع متأثراً مستحيلاً، وليس العلم استحالة على ما علمت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 وأما قوله: ولأنه كما سنبين مبدأ كل موجود، فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له، وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها، والكائنة الفاسدة بأنواعها أولاً وبتوسط ذلك لأشخاصها -فهو حق وغير مردود، فإنه يعقل ويدرك، على كل وجه من وجوه العقل، وجهة من جهات الإدراك، فهو سميع بصير، وبالجملة مدرك عالم حكيم، مقدر مدبر، يسع كل شيء علماً: غيباً وشهادة، قبل، ومع، وبعد. وأما قوله: ولا يجوز أن يكون عاقلاً لهذه المتغيرات مع تغيرها، حتى يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة، وتارة أنها معدومة غير موجودة، ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة، ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية، فيكون واجب الوجود متغير الذات -فقد أجبنا عنه في جواب كلام أرسطو طاليس ولم يبعد، فتحسن إعادته. وأما قوله: ثم الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة، وبما يتبعها مما لا يتشخص، فلم تعقل بما هي فاسدة، وإن أدركت بما هي مقارنة للمادة وعوارض المادة لم تكن معقولة، بل محسوسة أو متخيلة- ففيه الكلام. وقد سلف في علم النفس، وما رد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 عليه في قوله: إن الصور الجسمانية والأشكال الوضعية لا تدركها إلا قوة جسمانية. وأعاد أبو البركات مناقضته في ذلك. قلت: ما ذكره أبو البركات من أن العاقل لا يتقوم بما يعقله، وأن فرض ذلك محال، لأن كونه يعقل تابع لذاته، وهو بعده بعدية بالذات، فكيف يتقوم الوجود بما هو بعد الوجود بالذات؟ فهذا كلام صحيح، وهو مطرد في جميع الصفات اللازمة للموصوف: أن ذاته لا تتقوم بشيء منها، ولا تكون صفة الموصوف جزءاً مقوماً متقدماً عليه بالذات، إذا كانت الصفة تابعة للموصوف، فهي إلى أن تكون بعده بالذات أولى من أن تكون قبله بالذات. فإن قدر أن هنا ترتيباً عقلياً تكون فيه الصفة الذاتية قبل الموصوف أو بعده، فإنها لا تكون إلا بعده. وإن قيل: لا ترتيب هنا أصلاً، بل كلاهما ملازم للآخر مقترن به. لم يتقدم أحدهما الآخر، وليس بينهما ترتيب عقلي، كما ليس بينهما ترتيب زماني، فليس أحدهما قبل الآخر، بل الموصوف وصفته اللازمة له موجودان معاً، لم يسبق أحدهما الآخر، سواء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 قدر أن الموصوف قديم أزلي واجب بنفسه، وصفته لازمة له، أو قدر أنه محدث مخلوق وصفته لازمة له. وقد تكلمنا على هذا لما تكلمنا على ما ذكروه في المنطق من الفرق بين الصفة الذاتية المقومة الداخلة في الماهية، والصفة اللازمة للماهية، والصفة التي يزعمون أنها لازمة لوجودها، وكلاهما خارج عن الماهية. وذكرنا ما ذكروه من الفرق بين اللازم الداخل، واللازم الخارج، واعترافهم بانتفاء ما ذكروه من الفرق، واعتراض بعضهم على بعض في هذا المقام، وبيان أن ما ذكروه من الفرق لا يعود إلى فرق حقيقي موجود في الخارج، ولا معقول في الذهن، إلا إذا جعل الذاتي ما هو لازم للذات المفروضة في الذهن. فأما إذا تصورنا شيئاً وعبرنا عنه، فمن الصفات ما هو داخل في معلومنا ومذكورنا بالذات، ومنه ما هو داخل بالعرض، وهو اللازم الخارج. وهذا كما يقولونه في دلالة المطابقة والتضمن والالتزام، فدلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على جميع المعنى الذي عناه المتكلم. ودلالة التضمن دلالة اللفظ على ما هو داخل في ذلك المعنى، ودلالة الالتزام دلالة اللفظ على ما هو لازم لذلك المعنى خارج عن مفهوم اللفظ. فدلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على جميع هذه الماهية التي عناها المتكلم بلفظه، وهو دلالة على تمام الماهية. وذلك المدلول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 عليه بالمطابقة هو مقول في جواب ما هو، إذا قيل ما هو بحسب الاسم. وإذا سئل عما هو المراد بهذا اللفظ، ذكر مجموع ما دل عليه بالمطابقة، فالمدلول فهو خارج عن حقيقته، عرض لازم له، فهذا تقسيم معقول، ولكنه يعود إلى قصد المتكلم ومراده باللفظ. وأما كون الموجود في الخارج تنقسم صفاته اللازمة له التي لا يكون موجوداً إلا بها: إلى ما هو داخل في حقيقته مقوم لها متقدم عليها بالذات، وإلى ما تكون خارجة عن حقيقته عرضى لها، فهذا باطل عند جماهير العقلاء من متكلمي أهل الإسلام وغيرهم. وقد بينا فساد ذلك في مواضع، وكذلك بين فساده غير واحد من أهل الكلام والفلاسفة، وتكلمنا على ما ذكره ابن سينا في الإشارات وغيرها، وبينا تناقضه وتناقض غيره في الفرق بين الذاتيات والعرضيات اللازمة إذا جعلا لازمين للحقائق الموجودة في الخارج، وما ذكره في مسألة العلم مبني على ذلك الأصل الفاسد، حيث قال: لو كان واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء، لكانت ذاته: إما متقومة بما تعقل، فيكون متقوماً بالأشياء، وإما عارضاً لها أن تعقل، فلا تكون واجبة الوجود من جميع الجهات. كلام ابن سينا باطل من وجوه. الوجه الأول كلام ابن سينا باطل من وجوه. الوجه الأول ثم نقول: هذا الكلام باطل من وجوه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 ما ذكرناه من نفي تقوم شيء بصفته. الوجه الثاني أن يقال: إذا قدر تقوم الموصوف بصفته، فهو متقوم بنفس علمه بالأشياء، أو بنفس الأشياء المعلومة. والثاني باطل وهو إنما ذكر الثاني حيث قال: فذاته متقومة بما يعقل. وهذا باطل، فإنا إذا قدرنا العالم متقوماً بعلمه، فليس المقوم له المعلوم، إنما المقوم له علمه بالمعلوم، والمعلوم قد يكون منفصلاً عنه، فلا يكون قائماً به، فضلاً عن كونه لازماً له: لا ذاتياً ولا عرضياً، فكيف يكون مقوماً له؟. وإن قال قائل: يعني بالتقوم أنه لولا المعلوم لما كان العلم. قيل له: هذا ليس مراده، ولو كان مراده لكان باطلاً، لأنه على هذا التقدير لا يكون العلم إلا مقوماً، فلا يقال: إما أن يكون مقوماً، وإما أن يكون عارضاً. وهو قد جعل هذا أحد القسمين. وأيضاً فإنه على هذا التقدير يكون هذا سؤال الاستكمال بالمعلوم الذي ذكره أرسطو، وقد عرف جوابه من عدة أوجه. أحدها: أن ذلك الغير هو مفعوله، فلم يحتج إلى غيره بوجه من الوجوه. الثاني: أنه لو قدر وجود موجود مستغن عنه، كان أن يعلمه أكمل من أن لا يعلمه، فإن العلم صفة كمال، والملك والبشر إذا علموا ما هو مستغن عنهم، كان أكمل لهم من أن لا يعلموه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 الثالث: أنه لو قدر موجود غيره واجب بنفسه، أو موجود عن ذلك الواجب بنفسه، وذات العالم هي التي اقتضت العلم به -لكان هذا كمالاً له على هذا التقدير، لم يكن هذا مما ينفيه وجوب وجوده. الرابع: أن هذا وإن قدر أنه استكمال بالغير، فلا دليل لهم على نفيه، لا من جهة الوجوب، ولا من جهة استحقاق الكمال. ولا من غير ذلك، بل الأدلة تقتضي ثبوته. الوجه الثالث عن شبهة ابن سينا أن يقال: قوله: ليس يجوز أن يعقل الأشياء من الأشياء، وإلا فذاته إما متقومة بما تعقل، فيكون متقوماً بالأشياء، وإما عارضاً لها أن تقعل، فلا تكون واجبة الوجود من كل وجه. يقال له: قولك: يعقل الأشياء من الأشياء أتريد به أن الأشياء تجعله عاقلاً، فتعلمه العلم بها؟ أم تريد أن علمه بالأشياء لا يكون إلا مع تحقق المعلوم؟ أم تعني به أن علمه بالأشياء يكون بعد وجود المعلوم؟. أما الأول فلا يقوله مسلم، بل المسلمون متفقون على أن الله مستغن عما سواه في علمه بالأشياء في غير ذلك، بل هو المعلم لكل من علم سواه من علمه. وقد قال تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة: 255] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 وقال: {علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 4-5] . وقال: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] . وقال: {الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى} [الأعلى: 2-3] . وقال: {الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان} [الرحمن: 1-4] . وقال: {وعلمك ما لم تكن تعلم} [النساء: 113] . وقال: {وعلمناه من لدنا علما} [الكهف: 65] . وقال: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب} [البقرة: 282] . وقال: {وعلم آدم الأسماء كلها} إلى قول الملائكة: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} [البقرة: 31-32] . وقال: {تعلمونهن مما علمكم الله} [المائدة: 4] . وإن أراد بعقله الأشياء من الأشياء: أنه لا يكون عالماً إلا مع تحقق معلوم بعلم، فهذا حق. لكن لا يمكن ثبوت إلا كذلك، وإلا فإذا قدر علم لا يطابق معلومه كان جهلاً لا علماً وحينئذ الأمر إلى سؤال الاستكمال، وقد تقدم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 وإن أراد بذلك أنه يعلم الأشياء بعد وجودها، فلا ريب أنه يعلم ما يكون قبل أن يكون، ثم إذا كان: فهل يتجدد له علم آخر؟ أم علمه به معدوماً هو علمه به موجوداً؟ هذا فيه نزاع بين النظار، وأي القولين كان صحيحاً حصل به الجواب. وإذا قال قائل: القول الأول هو الذي يدل عليه صريح المعقول، والثاني باطل، والإشكال يلزم على الأول. قيل له: وإذا كان هو الذي يدل عليه صريح المعقول، فهو الذي يدل عليه صحيح المنقول، وعليه دل القرآن في أكثر من عشرة مواضع، وهو الذي جاءت به الآثار عن السلف. وما أورد عليه من الإشكال، فهو باطل كما قد بين في موضعه. الوجه الرابع أن يقال: قوله: إما متقومة بما يعقل وإما عارض لها إن يعقل. يقال له: بعد أن ذكرنا أن هذا التقسيم باطل، أي تقسيم الصفة اللازمة إلى مقوم وعارض باطل، وأن علمه لازم لذاته. هب أن الأمر كذلك، فلم قلت: إن العلم لا يكون ذاتياً على اصطلاحكم؟. فإذا قال: يلزم من ذلك أن يكون مركباً من الصفات الذاتية والمركب مفتقر إلى جزئه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 قيل: هذا أصل حجتكم على نفي الصفات، وقد بين فساده من غير وجه. وهذه الحجة لا تختص العلم، بل ينفون بها جميع الصفات، وهي من أفسد الحجج، كما قد بين غير مرة، وإن كانت قد أشكلت على طوائف من النظار، وقادتهم إلى أقوال من أقوال أهل النار، وقد تبين فسادها من جهة أن هذا ليس بتركيب في الحقيقة، بل هو اتصاف ذات بصفات لازمة لها، وأن لفظ الجزء ليس المراد به اجتماع بعد افتراق، ولا إمكان افتراق ولا انفصال شيء من شيء، وإنما المراد به ثبوت معان متعددة، وهذا مورد النزاع، ولا دليل على نفيه، بل على ثبوته. ولفظ الافتقار يراد به التلازم، وهو هنا حق لا محذور فيه. ويراد به افتقار المعلول غلى علة فاعلة، وهو باطل. وإذا أريد به افتقار الصفة إلى محلها، ويسمونه هم افتقار المعلول إلى علة قابلة، فهذا لا محذور فيه. ولفظ الغيرين يراد به المتباينان، وهو هنا ممتنع. ويراد به ما يمكن العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر، وهو حق. وثبوت هذا الغير لا بد منه. الوجه الخامس أن يقال: هب أن هذه الصفة عرضية باصطلاحكم. فيقال له: إذا كان العلم لازماً لذاته، أو لوجود لذاته، إن قدر أن الوجود زائد على الذات، لم يكن ثبوت لوازمه مفتقراً إلى غيره، فلم يكن هذا منافياً لوجوب الموجود من جميع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 جهاته، فإن المحذور إنما يحصل لو كان حصول العلم ليس من لوازم ذاته، بل حصل بسبب غيره، فيكون ثبوت الصفة مفتقراً إلى ذلك الغير. أما إذا كان علمه من لوازم ذاته، كان واجباً بوجود ذاته. وهم يقولون: هو واجب بذاته، مع كونه مستلزماً للمفعولات المنفصلة، ولم يقدح كونها لازمة له في وجوب ذاته، فإن لا يقدح لزوم علمه له بطريق الأولى والأحرى. الوجه السادس أن يقال: لنظار المسلمين في علم الرب قولان: أحدهما: أن علمه واحد بالعين، يعلم به جميع المعلومات أزلاً وأبداً. وعلى هذا التقدير فهو واجب الوجود بصفاته أزلاً وأبداً فليس علمه متوقفاً على وجود شيء من المعلومات، بل إذا وجدت تعلقت المعلومات به. لكن قد يقول أكثر العقلاء من الفلاسفة وغيرهم، إن هذا لا يمكن، بل علمه بهذا غير علمه بهذا. فيقال: القول الثاني: إن علمه واحد بالنوع، وإنه يتعدد بتعدد المعلومات، وعلى هذا القول فهل يكون علمه بأن قد كان الشيء هو نفس علمه بأن سيكون؟ على قولين. ومن النظار من قال: العلم إضافة محضة، وأن ذات الرب مقتضية لها بشرط المضاف. وسنبين إن شاء الله ما هو الصواب في هذا الباب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 وعلى كل تقدير فذاته هي الموجبة لكونه عالماً، لا أن شيئاً من الموجودات جعله عالماً، وإن كان العلم بأن قد كان، مشروطاً بوجود المعلوم، كما أن رؤيته وسمعه مشروط بوجود المرئي والمسموع، فذاك لا يمنع وجوب وجوده بنفسه أزلاً وأبداً، ولكن عروض هذا السمع والرؤية والعلم بأن قد كان، نظير عروض الإضافات له، وقد ثبت بصريح العقل واتفاق العقلاء وجوب تجدد الإضافات له. وإذا قيل: الإضافة ليست وجودية، والعلم والسمع والبصر أمور وجودية. كان الجواب على هذا القول إلغاء هذا الفرق، كما قد قرر في موضعه. ومعلوم أن كون الرب بكل شيء عليماً، هو أظهر في الأدلة الشرعية والعقلية من كونه لا تقوم به الأمور المتجددة، فلو قدر أن لهذا أدلة تعارض تلك، وكان ثبوت العلم مستلزماً لثبوت الأمور المتجددة للزوم القول بثبوت العلم، فإن ثبوت العلم حق، ولازم الحق حق، فكيف إذا كان ما يمنع الأمور المتجددة إنما هو من أضعف الأدلة؟ أما المتفلسفة فلا يمكنهم أن يقولوا: قيام الحوادث به يستلزم حدوثه، فإن القديم عندهم تحله الحوادث. وإنما ظن من ظن منهم أن قيام ذلك يمنع وجوب وجوده، وهو غلط ظاهر، فإنه لا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 يمنع وجوب وجوده المعلوم الذي قام عليه الدليل، وإنما يمنع ما يختلف في وجوب الوجود، حيث ظنوا أن واجب الوجود لا يفعل شيئاً باختياره، ولا يقوم به شيء باختياره وذلك خطأ محض. الوجه السابع ويظهر هذا بالوجه السابع وهو أن يقال: قول القائل: أنه واجب الوجود من جميع جهاته -إذا أريد به: أنه لا يقبل العدم بوجه من الوجوه، فهذا حق، فإنه لا يقبل العدم بوجه من الوجوه. وإن أراد به أن كل ما ثبت له من الأحوال فهو واجب الوجود، بمعنى أنه نفسه مقتض لذلك، لا يحتاج في ثبوته له إلى غيره، فهذا أيضاً حق. فإن كل ما ثبت للرب تعالى من الصفات والأفعال، فلا يحتاج فيه إلى غيره، بل هو الموجب لذلك، لكن ما كان لا يمكن وجوده إلا باختياره من الأفعال ولوازم الأفعال، فهذا يمتنع كونه بعينه أزلياً، بل يجب تأخره، سواء قيل: إنه عالم بذاته. أو قيل: إنه منفصل عنه. وهو الموجب له عند وجوده، لا موجب له في غيره. وإن قيل: واجب الوجود من جميع جهاته، بمعنى أنه لا يجوز أن يتأخر عنه شيء مما يضاف إليه، بل كل ذلك يجب أن يكون أزلياً -فهذا باطل لا دليل عليه، بل الدليل يدل على نقيضه، فإنا نشاهد المحدثات دائماً وهي حادثة عنه، سواء قيل: إنها حدثت بواسطة أو بلا واسطة، وحدوثها يستلزم حدوث ما به صارت محدثة، وإلا فإذا قدر حال الذات قبلها وبعدها سواء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 قيل: حدوث الحوادث ترجيح بلا مرجح، وإذا أمكن أن يحدث من غير تجدد أمر يقوم بالفاعل، بل نفس الخلق يكون نسبة وإضافة، أمكن أن لا يتجدد إلا تعلق العلم القديم بالمعلوم، ولا يتجدد إلا نسبة وإضافة بقدر ذلك. الوجه الثامن وهو أن يقال: لا ريب في تجدد المفعولات شيئاً بعد شيء، فليس كونه محدثاً للحادث المعين بالفعل أمراً لازماً لذاته، بل صار محدثاً له بعد أن لم يكن، وهذا خروج لهذه الفاعلية عن القوة إلى الفعل. فإما أن يكون كونه فاعلاً إضافة محضة، ولم يقم بذاته فعل يكون به فاعلاً، كما يقوله من يقول: الخلق هو المخلوق. وإما أن يقال: بل كونه فاعلاً أمر وجودي يقوم بنفسه، والخلق غير المخلوق، كما هو قول الجمهور من أهل السنة وغيرهم. فإن قيل بالأول، فمعلوم أنه إذا قيل: إن كونه فاعلاً أمر إضافي، أمكن أن يقال: كونه عالماً أمر إضافي. ثم للناس على هذا التقدير في الفاعلية قولان: منهم من يقول المكونات حادثة بتكوين قديم، وإما عند وجود المكون فلا يحدث شيء. ومنهم من يقول: ليست الفاعلية إلا إضافة محضة أزلاً وأبداً. فعلى هذا القول يمكن أن يقال في العلم كذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 وعلى الآخر يمكن أن يقال: بل العلم قديم العين، ولكن تتجدد له الإضافات، كما يقوله ابن كلاب. وهؤلاء جعلوا العلم ثابتاً في الأزل دون التكوين، فإذا ثبت أن كونه فاعلاً لا يقتضي تكويناً قائماً بذاته، مع تجدد التكوينات الإضافية. فهؤلاء إذا أثبتوا علماً قديماً، وقالوا بتجدد تعلقاته، كانوا أبعد عن الامتناع. وأما من جعل الفاعلية أمراً قائماً بالفاعل، وقال: إنه يتجدد عند تجدد المفعولات، فإنه إذا قال بتجدد عالمية بعد وجود المعلوم، مع قوله: إنه علم ما سيكون قبل أن يكون، كان اقتضاء ذاته لهذه العالمية كاقتضائها لتلك الفاعلية، وإذا كان واجب الوجود مع تلك الفاعلية فكذلك مع هذه العالمية. الوجه التاسع أنه إذا قدر واجب الوجود يقدر على الأفعال الحادثة شيئاً فشيئاً، وقدر آخر لا يمكنه إحداث شيء -قضى صريح العقل أن من أمكنه الإحداث شيئاً بعد شيء، هو أكمل ممن لا يمكنه إحداث شيء. وإذا قال القائل: هذا كان فيه شيء بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا شيئاً فشيئاً، وذاك كله بالفعل ليس فيه شيء بالقوة. قيل له: كل ما لهذا بالفعل هو للآخر، فإن ذاته وصفاته التي يمكن قدمها لازمة له. وأما الحوادث التي لا يمكن وجودها إلا شيئاً فشيئاً، فهذا يمتنع أن تكون بالفعل قديمة أزلية، فلا تكون بالفعل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 في الأزل، بل لا يمكن أن تكون إلا بالقوة، ثم تخرج إلى الفعل بحسب الإمكان شيئاً فشيئاً. وإذا لم يمتز من قدر عدم هذه له بوصف كمال بل المتصف بها أكمل. كان نفى هذه عن واجب الوجود نفي صفة كمال لا إثبات كمال له. وهؤلاء النفاة المعطلة من الجهمية والمتفلسفة والباطنية يظنون أن ما نفوه عن الرب هو كمال له وهو تعظيم له، وذلك من جهلهم بل إثبات ما نفوه هو الكمال الذي يكون مثبته معظماً للرب. ولكن هم في ذلك نظير إخوانهم من معطلة النبوات، الذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، وقالوا: الله أعظم من أن يرسل رسولاً من البشر. قال تعالى: {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} [يونس: 2] . أو لم يعلموا أن إرسال رسول من البشر يبلغهم رسالات ربهم ويهديهم إلى صراط مستقيم، أبلغ في قدرة الرب ورحمته بعباده، وإحسانه إليهم، وأعظم إثباته للكمال من كون ذلك عنه ممكن له ومن امتناعه عن فعله؟. وكذلك كونه يخلق الأشياء شيء بعد شيء أبلغ من كونه لا يمكنه إحداث شيء، بل عند كثير من الناس -أو أكثرهم- كونه يخلق أكمل من كونه لا يخلق. كما قال تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} [النحل: 17] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 وحينئذ فإذا قيل: جنس الفعل لازم، وإنما الحادث أعيانه. كان أن يقال: جنس العلم لازم بطريق الأولى والأحرى. بل إذا قيل: جنس الخلق حادث. أمكن أن يقال: نفس العلم لازم، سواء قيل بحدوث شيء معين عند وجود المعلومات، أم لا. فذاك أبعد عن منافاة وجوب الوجود، من كونه فاعلاً لما لم يكن فاعلاً له. الوجه العاشر قوله: إذ يكون لولا أمور من خارج، لم يكن هو بحال. يقال له: الضمير في هو: إن كان عائداً إلى الله، كان معنى الكلام: لولا تلك الأمور الخارجة لم يكن هو تقدير ارتفاع اللازم يوجب ارتفاع الملزوم، لكن ارتفاع اللازم محال. وهم يقولون لو ارتفع المعلول لارتفعت العلة، فليس في هذا محذور. وإن كان الضمير عائداً إلى العلم، أي: لولا المعلوم لم يكن العلم، فهذا أولى أن لا يكون ممتنعاً. وإنما حصلت الشبهة أن قول القائل: لولا أمور من خارج لم يكن هو، يحتمل شيئين: أحدهما أن تلك الأمور فاعلة له أو جزء من الفاعل، أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 25 هو محتاج إليها بوجه من الوجوه، وهذا باطل. والثاني: أن تكون تلك الأمور لازمة لإرادته اللازمة له، أو لغير ذلك من لوازم اللوازم. وعلى هذا فهي المخلوقة المحتاجة إليه من كل وجه. فإذا قيل: لولا تلك الأمور لم يكن. كان معناه أنه إذا قدر ارتفاعها لزم ارتفاع ملزومها، وهذا فرض محال. الوجه الحادي عشر قوله: ويكون له حال لا يلزم عن ذاته بل عن غيره، فيكون لغير فيه تأثير الأمور السالفة تبطل هذا. فيقال: ذلك الحال إذا قدر تجدده بعد الحادث، فإنه لا يلزم عن نفسه، فإن العلم أو غيره مما يقوم بنفسه إنما هو لازم عن ذاته لا عن غيره. لكن لزومه عن نفسه قد يقال: إنه يكون عند إحداثه لتلك المحدثات، على قول من يقول بذلك. وأي محذور في هذا؟ فإن هذا لا ينافي وجوب وجوده بنفسه. هذا لو كان ذلك الغير مخلوقاً لغيره، فكيف وهو مخلوق له؟ فكلاهما لازم عنه ما قام به وما انفصل عنه، وليس لغيره فيه تأثير، إذ كانت نفسه هي الموجبة للجميع. ولا ريب أن العباد يدعون الله فيجيبهم، ويطيعونه فيرضى عنهم، ويعصونه فيغضب عليهم، ويفرح بتوبة التائب، كما دلت على ذلك النصوص. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 26 وهو سبحانه الخالق لكل ما سواه، فليس في الوجود ما يؤثر فيه سبحانه. وهذا على مذهب أهل السنة المثبتين للقدر، القائلين بأنه خالق كل شيء. وأما على قول القدرية، الذين يقولون بحدوث حوادث بدون خلقه وإرادته، فإنهم، وإن كانوا ضالين، فهؤلاء الفلاسفة النفاة لعلمه أضل منهم. وهم على قولين: منهم من يقول بتجدد أحوال له، ومنهم من ينفي ذلك. فمن أثبت ذلك قال لهؤلاء -كما قال لهم أبو البركات - فما الدليل على أنه لا يحصل به حال من الأحوال بسبب هؤلاء؟ ولم قلتم: إن ذلك ينافي وجوب وجوده؟. وهؤلاء يقولون: أفعال العباد توجب له داعياً إلى الثواب والعقاب. الوجه الثاني عشر قوله: وكما أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له، فكذلك إثبات كثير من التعلقات. فيقال له: إن أردت بالأفاعيل ما وجد، فليس في إثبات فعله للموجودات نقص له. كيف، وهو فاعل لها بالاتفاق؟ سواء كان فاعلاً لبعضها بوسط أو بغير وسط. وإذا كان فاعلاً لها على وجه التفصيل، فيجب أن يكون عالماً بها على وجه التفصيل. ومعلوم أنه إذا لم يلحقه بفعلها نقص، فأن لا يلحقه بعلمها نقص بطريق الأولى. فإن علم العالم بما لا يفعله لا نقص فيه، وإن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 كان المعلوم خسيساً، فكيف علمه بما فعله؟ وإذا كانت لا توجد إلا مفصلة معينة، فيجب أن يعلم كذلك، وإلا لم يعلم على ما هي عليه. وإن عنى بقوله: إن كثيراً من الأفاعيل لواجب الوجود نقص ما لم يفعله فقياس هذا أن يقول: علمه بما لم يفعله نقص، وليس الكلام فيه. الوجه الثالث عشر أن يقال: أهل الأرض من المسلمين وغيرهم لهم في تنزيه الرب عن بعض الأفعال قولان مشهوران. فطائفة تقول: ليس في فعله لشيء من الممكنات نقص، والظلم لا حقيقة له إلا ما هو ممتنع، بل كل ممكن ففعله جائز عليه، وإن لم يفعله فلعدم مشيئته له، لا لكونه نقصاً. وهذا قول الجهمية والأشعرية، وطوائف من الفقهاء أصحاب المذاهب الأربعة، وأهل الحديث والصوفية، وغيرهم. وعلى هذا لا يسلم هؤلاء أن إثبات شيء من الأفعال لواجب الوجود نقص، وإذا منعوا هذا في الفعل، ففي العلم أولى وأحرى. والقول الثاني: قول من يقول: بل هو منزه عن بعض الأفعال المقدورة. وهذا قول أكثر الناس من المثبتين للقدر، كالكرامية، وغيرهم من المعتزلة، وغيرهم نفاة القدر. وهو قول كثير من أهل المذاهب الأربعة، وأهل الحديث، والصوفية والعامة وغيرهم. وعلى هذا القول فلا نسلم أن ما ينزه عن أن يفعله يجب أن يتنزه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 عن علمه به، فإن العلم يتعلق بالواجب والممكن، والممتنع والموجود والمعدوم، وأما الفعل فلا يتعلق إلا بما يراد، ولا يراد إلا ما هو ممكن في نفسه، وما تكون إرادته حكمةً على قول هؤلاء. ومعلوم أن الواحد من الناس يحمد بأنه لا يفعل القبيح، ولا يحمد بأن لا يعلمه، ويعلم حسن فعله ويعلم قبحه، ولم يقل أحد قط: إن علمنا بقصص المكذبين للرسل وما فعلوه من السيئات نقص، كما أن تلك الأفعال نقص، بل المعرفة بالخير والشر من صفات الكمال. وإن قيل: مراده أن العلم يلزم منه التغير أو التكثر. فيقال له: معلوم أن هذا اللازم لفعله المتكثرات والمتغيرات ألزم، فإن فعله للمتكثرات والمتغيرات يلزم منه قيام معان في ذاته، فليس ذلك نقصاً، ولا يكون في علمه بها مع هذه اللوازم نقص. وإن قيل: بل فعله للمتغيرات والمتكثرات لا يلزم منه قيام معان متكثرة متغيرة في ذاته. فيقال: إن كان هذا حقاً، فعلمه بها أولى أن لا يلزم منه قيام معان متكثرة متغيرة، فإنه من المعلوم بصريح العقل أن اقتضاء الأفعال المتكثرة والمتغيرة للتعدد والتجدد في الذات الفاعلة، أولى من اقتضاء المعلومات المتكثرة والمتغيرة للتعدد والتجدد في الذات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 العالمة، فإن كل عاقل لفعل محكم عالم به، وليس كل علام به فاعلاً له. وهؤلاء، وإن كانوا قد قالوا في فعله أقوالاً باطلة، لظنهم أنه لا يصدر عنه ابتداءً إلا واحد بشرط، فقد لزمهم أن يجعلوا كل شيء مفعول له بوسط أو بغير وسط، فكان الواجب أن يقولوا: إنه علام بكل شيء جرى، كما هو فاعل لكل شيء جرى، إذ الكليات لا توجد في الأعيان إلا جزئية معينة. الوجه الرابع عشر قوله: بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو كلي، ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض، وهذا من العجائب. فيقال: إن عنيت أنه لا يعزب عنه من حيث هو كلي، فهل في هذا ما يقتضي أنه يعلم شيئاً من الجزئيات؟ فإن العلم بالكلي من حيث هو كلي، لا يوجب علماً بشيء من المعينات الموجودة، فمن علم أن كل إنسان حيوان، لم يوجب ذلك أن يعلم إنساناً بعينه، ولا شيئاً من تعيناته، ولا عدد الأناسي، بل ولا يعلم حيواناً بعينه. وإن عنيت أنه لا يعزب عنه شيء من المعينات، فهذا مع قولك: إنما يعقلها على وجه كلي، باطل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 وقد قال قبل هذا: إن الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة، وبما يتبعها مما لا يتشخص، فلم تعقل بما هي فاسدة، وإن أدركت بما هي مقارنة للمادة وعوارض المادة، لم تكن معقولة، بل محسوسة أو متخيلة. فقد ذكر أنها إذا عقلت بالماهية المجردة وما يتبعها، فلم تعقل عينها المعينة، وإن عقلت معينة فهي محسوسة لا معقولة، فالمعينات عنده لا تكون إلا محسوسة لا معقولة، وعنده لا توصف بالحس، فكيف يقول: إنه لا يعزب شيء شخصي مع قوله: إنه لا يعلم شيئاً عن المشخصات المتغيرة؟. الوجه الخامس عشر أنه قال: فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له، وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها، والكائنة الفاسدة بأنواعها أولاً، ويتوسط ذلك في أشخاصها. فقد أثبت هنا أنه يعلم الموجودات التامة بأعيانها، وذلك كالأفلاك والكواكب، مع ما يثبتونه من العقول والنفوس. ثم قال: وإن عقلت الفاسدات بما هي مقارنة للمادة وعوارض المادة، لم تكن معقولة، بل محسوسة أو متخيلة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 وقد قال: إنه يعقلها بأعيانها. فسمى العلم بالأجسام المعينة تارة عقلاً، وتارة قال: هو حس أو تخيل، ليس بعقل. وأثبت أنه يعلمها تارة، ونفى ذلك أخرى، لكونه حساً لا عقلاً. وليس الكلام هنا في إدراكها متغيرة أو غير متغيرة، بل في إدراك الأجسام المعينة هل يعلمها معينة أم لا؟ وهل ذلك عقل أو حس؟ فقد أثبت أنه يعقلها، وعلل غيرها بعلة تقتضي أنه لا يعقلها، وهذا تناقض بين. ولا ريب أن كلامه هنا إنما ينفي كونه يعلمها متغيرة، لئلا يكون متغير الذات. ثم يعلل ذلك بأنه لا يعلم الحسيات. لكنه في موضع آخر قال: إن كل صورة محسوسة وكل صورة خيالية فإنما يدركها المدرك بآله متجزئة، وإن مدرك الجزئيات لا يكون عقلاً بل قوة جسمانية. وهنا قد ذكر أن واجب الوجود الجسمانيات التامة بأعيانها، فيلزم أحد الأمرين. إما أنه جسم يدركها بقوة جسمانية، وإما أنه لا يدركها كما قاله أرسطو. وإما أن تكون الأجسام تدرك بقوة غير جمسانية، كما قاله أبو البركات، وقد ناقضه أبو البركات في هذا الفصل، وسنذكر إن شاء الله كلامهما. فكلام ابن سينا في العلم متناقض، فإنه يثبت أنه يعلم الموجودات التامة بأعيانها، وهذا يناقض جميع ما ذكره في نفي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 العلم، أو حصول التغير. ولم يذكر على نفي كونه عالماً بالجزئيات إلا حصول التغير. وأما التعدد فقد التزمه. الوجه السادس عشر فيقال: الوجه السادس عشر: أن يقال: ابن سينا يثبت علمه بأعيان الباقيات مع كثرتها، كما سنذكر لفظه إن شاء الله. وما ذكره من الحجة على نفي علمه بالمتغيرات، مثل كونه إما متقوم وإما عارض لها أن تعقل فلا تكون واجبة الوجود من كل جهة. وقوله: تكون حال لا يلزم عن ذاته بل عن غيره، ونحو ذلك -يلزم من العلم بأعيان الباقيات وأنواع المتغيرات، كما يلزم في المتغيرات، وإنما يختص بالمتغيرات بحدوث شيء آخر، وذاك ليس عنده ما ينفيه بخصوصه، فإنه يجوز في القديم أن تحله الحوادث، وإنما منع حلول الحوادث به لكونه يمنع قيام الصفات، أو أن يقول بما ذكر عن أرسطو من أن ذلك يوجب تعبه وكلاله، وكل ذلك فضيحة من الفضائح، ما يظن بأضعف الناس عقلاً أن يقول بمثل ذلك. ولولا أن هذا نقل أصحابهم عنهم في كتبهم المتواترة عنهم عندهم، لاستبعد الإنسان أن يقول معروف بالعقل مثل هذا الهذيان. وهذه ألفاظ ابن سينا في الإشارات بعد أن قرر بطلان قول من يقول باتحاد العاقل والمعقول: فيظهر لك من هذا أن كل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 ما يعقل بأنه ذات موجودة، تتقرر فيها القضايا العقلية تقرير شيء في شيء آخر. قال: تنبيه: الصورة العقلية قد يجوز، بوجه ما، أن تستفاد من الصور الخارجية. مثلاً كما تستفيد صورة السماء من السماء. وقد يجوز أن تسبق الصورة الأولى إلى القوة العاقلة، ثم يصير لها وجود من خارج مثلما تعقل شكلاً ثم تجعله موجوداً. ويجب أن يكون بما يعقل واجب الوجود من الكل على الوجه الثاني. ثم قال: تنبيه: كل واحد من الوجهين قد يجوز أن يحصل من سبب عقلي متصور لوجود الصورة في الأعيان أو غير موجودها بعد، في جوهر قابل للصور المعقولة. ويجوز أن يكون للجوهر العقلي من ذاته لا من غيره. ولولا ذلك لذهبت العقول المفارقة إلى غير النهاية. وواجب الوجود يجب أن يكون له ذلك من ذاته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 قلت: فقد بين أن علم الرب هو من نفسه لا من غيره، وأن علمه بالمعقولات ليس مستفاداً بها بل علمه بها سبب لوجودها، وحينئذ فلا يكون علمه مفتقراً إلى معلومه، بل معلومه مفتقراً إلى علمه، سواء كان المعلوم متغيراً أو غير متغير. ثم قال: إشارة: واجب الوجود يجب أن يعقل ذاته بذاته على ما حقق، ويعقل ما بعده، من حيث هو علة لما بعده ومنه وجوده، ويعقل سائر الأشياء من حيث حدثها في سلسلة الترتيب النازل من عنده طولاً وعرضاً. ثم قال: إشارة: إدراك الأول للأشياء من ذاته في ذاته، هو أفضل أنحاء كون الشيء مدركاً ومدركاً، ويتلوه إدراك الجواهر العقلية اللازمة للأول بإشراق الأول، ولما بعده منه من ذاته، وبعدهما الإدراكات النفسانية التي هي نقش ورسم، عن طابع عقلي متبدد المبادئ والمناسب. ثم قال: وهم وتنبيه: ولعلك تقول: إن كانت المعقولات لا تتحد بالعاقل، ولا بعضها مع بعض، لما ذكرت. ثم سلمت أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 الواجب الوجود يعقل كل شيء، فليس واحداً حقاً، بل هناك كثرة فنقول: إنه لما كان تعقل ذاته بذاته، لم يلزم قيوميته عقلاً بذاته لذاته أن يعقل الكثرة، جاءت الكثرة لازمة متأخرة، لا داخلة في الذات مقومة بها، وجاءت أيضاً على ترتيب وكثرة اللوازم من الذات مباينة، أو غير مباينة، لا تثلم الوحدة. والأول تعرض له كثرة لوازم إضافية وغير إضافية، وكثرة سلوب، وبسبب ذلك كثرة أسماء، لكن لا تأثير لذلك في وحدانية ذاته. قلت: فقال: هذا الكلام صريح في ثبوت صفات الله قائمة به ليس إضافية ولا سلوب، كما قال: تعرض له كثرة لوازم إضافية وغير إضافية وكثرة سلوب. وهذا مما اعترف به الشارحون لكلامه، المنتصرون له وغير المنتصرين. كلام الرازي في "شرح الإشارات" كلام الرازي في شرح الإشارات قال الرازي في شرحه: أقول هذا سؤال جيد، وتقديره: أنك إذا قلت: الله يعلم جميع الماهيات، والعلم عبارة عن حصول صورة المعلوم عند العالم، فقد حصل في ذاته صور المعلومات بأسرها، ثم زعمت أن العالم لا يتحد بالعلم، فلزم أن تكون ذات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 الله محلاً لتلك الصورة الكثيرة، الغير المتناهية. قال: وحاصل جوابه أنه التزم ذلك، وبين أنه لا يلزم منه محذور، لأن الدلالة إنما دلت على تنزيه ذات الله عن الكثرة. فأما أنه لا يكون في لوازمه كثرة، فذلك مما لم يثبت بالدلالة أصلاً. وقد بينا أن علمه بالأشياء من لوازم علمه بذاته، فتكون الكثرة الحاصلة بسبب علمه بالأشياء كثرة في لوازم ذاته، وكثرة اللوازم لا توجب الكثرة في الملزوم، فإن الوحدة التي هي أبعد الأشياء عن طبائع الكثرة، يلزمها لوازم غير متناهية، من كونها نصفاً للإثنين، وثلثاً للثلاثة. وربعاً للأربعة، وهلم جراً، إلى ما لا نهاية له. ثم قال بعد ذلك: فالأول تعرض له كثرة لوازم إضافية وغير إضافية وكثرة سلوب، وبسبب ذلك كثرة أسماء، لكن لا تأثير لذلك في وحدانيته ذاته. قال الرازي: وأقول: إن هذا الكلام يدل على رجوع الشيخ عن مذهب الفلاسفة في مسألتين من أمهات المسائل: أحدهما: أن المشهور من قولهم إن البسيط لا يكون قابلاً وفاعلاً. وهنا اعترف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 بأن المؤثر في تلك الصور العقلية ذاته، والقابل لها أيضاً ذاته. فالبسيط هناك فاعل وقابل. وثانيتهما: أن المشهور من مذهبهم أنه ليس لله من الصفات إلا السلوب والإضافات. وهاهنا اعترف أن لله كثرة لوازم إضافية وغير إضافية، وكثرة سلوب، فأثبت لله صفات ثبوتية غير إضافية، وكيف يمكنه أن لا يعرف بذلك؟ وعنده أن الله عالم بالماهيات، والعلم بالأشياء عنده عبارة عن حصول صورة في العالم، وتلك الصورة ليست مجرد إضافات، لأن مذهبه أن الصورة الحاصلة عند العقل مساوية لماهية المعقول، والمساوي للجواهر والكميات والكيفيات في تمام ماهيتها كيف يكون مجرد إضافات؟ فظهر أن الفلاسفة لا يمكنهم ادعاء تنزه الله عن الصفات الحقيقية. كلام الآمدي وكذلك الآمدي قال: واعلم أن من أثبت لواجب الوجود من الفلاسفة علماً، وفسر العلم بانطباع صورة المعلوم في النفس، فقد أثبت لواجب الوجود صفة وجودية زائدة على ذاته، وناقض أصله في نفي الصفات الوجودية الزائدة لذات واجب الوجود الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 ضرورة، لأن انطباع صورة المعلوم في النفس أمر وجودي زائد على الذات. كلام الطوسي في "شرح الإشارات" كلام الطوسي في شرح الإشارات ثم إن الطوسي في شرحه قرر ما ذكره الرازي وزاد عليه، هذا مع كثرة مناقضته للرازي وحرصه على ذلك وعلى نصر ابن سينا، ومع هذا فلما شرح هذا الفصل قال: تقرير الوهم أن يقال: إنك ذكرت أن المعقولات لا تتحد بالعاقل، ولا بعضها ببعض، بل هي صور متباينة منفردة في جوهر العاقل، وذكرت أن الأول الواجب يعقل كل شيء، فإذن معقولاته صور متباينة متقررة في ذاته. ويلزمك على ذلك أن لا تكون ذات الأول الواجب واحداً حقاً. بل تكون مشتملة على كثرة. قال: وتقرير التنبيه أن يقال: إن الأول لما عقل ذاته بذاته، وكانت ذاته علة للكثرة، لزمه تعقل الكثرة بسبب تعقله لذاته بذاته، فتعقله للكثرة لازم معلوم له، فصور الكثرة، التي هي معقولاته، هي معلولاته ولوازمه، مترتبة ترتب المعلولات، فهي متأخرة عن حقيقة ذاته تأخر المعلول عن العلة. وذاته ليست بمتقومة بها، ولا بغيرها، بل هي واحدة. وتكثر اللوازم والمعلولات لا ينافي وحدة علمها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 الملزومة إياها، سواء كانت تلك اللوازم متقررة في ذات العلة أو مباينة لها، فإذن تقرر الكثرة المعلولة في ذات الواحد القائم بذاته، المتقدم عليها بالعلية والوجود، لا يقتضي تكثره. والحاصل أن الواجب واحد، ووحدته لا تزول بكثرة الصور المعقولة المقررة فيه. قال: فهذا تقرير التنبيه. وباقي الفصل ظاهر. قال: ولا شك في أن القول بتقرر لوازم الأول في ذاته قول بكون الشيء الواحد فاعلاً وقابلاً معاً، وقول بكون الأول موصوفاً بصفات غير إضافية ولا سلبية على ما ذكره الفاضل الشارح. يعني الرازي. وقول بكونه محلاً لمعلولاته الممكنة المتكثرة، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وقول بأن معلوله الأول غير مباين لذاته، وبأنه تعالى لا يوجد شيئاً مما يباينه بذاته، بل بتوسط الأمور الحالة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 40 فيه، إلى غير ذلك مما يخالف الظاهر من مذاهب الحكماء والقدماء، القائلين بنفي العلم عنه تعالى. وأفلاطن القائل بقيام الصور المعقولة بذاتها، والمشاؤون القائلون باتحاد العاقل بالمعقول، إنما ارتكبوا تلك المحالات حذراً من التزام هذه المعاني. قال: ولولا أني اشترطت على نفسي في صدر هذه المقالات أني لا أتعرض لذكر ما أعتمده فيما أجده مخالفاً لما أعتقده لبينت وجه التقصي عن هذه المضايق وغيرها بياناً شافياً لكن الشرط أملك. ومع ذلك فلا أجد في نفسي رخصة أن لا أشير في هذا الموضع إلى شيء من ذلك أصلاً، فأشرت إليه إشارة خفيفة، يلوح الحق منها لمن هو ميسر لذلك. قال: فأقول: العاقل، كما لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته التي بها هو هو. فلا يحتاج أيضاً في إدراك ما يصدر عن ذاته لذاته إلى صورة غير صورة ذلك الصادر التي بها هو هو. واعتبر في نفسك: أنك تعقل شيئاً بصورة تتصورها أو تستحضرها، فهي صادرة عنك، لا بانفرادك مطلقاً، بل بمشاركة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 41 ما من غيرك، ومع ذلك فأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها، بل كما تعقل ذلك الشيء بها، كذلك تعقلها أيضاً بنفسها، من غير أن تتضاعف الصور فيك. بل ربما تتضاعف اعتباراتك المتعلقة بذاتك وبتلك الصورة فقط على سبيل التركب. وإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك لك هذه الحال، فما ظنك بحال العاقل مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه؟. قال: ولا تظنن أن كونك محلاً لتلك الصورة شرط في تعقلك إياها، فإنك تعقل ذاتك، مع كونك لست بمحل لها، بل إنما كان كونك محلاً لتلك الصورة، شرطاً في حصول تلك الصورة، الذي هو شرط تعقلك إياها، فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر، غير الحلول فيك، حصل التعقل من غير حلول فيك. ومعلوم أن حصول الشيء لفاعله في كونه حصولاً لغيره، ليس دون حصول الشيء لقابله، فإذن المعلولات الذاتية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 للعاقل الفاعل لذاته، حاصلة من غير أن تحل فيه، فهو عاقل إياها، من غير أن تكون هي حالة فيه. وإذ تقدم هذا فأقول: قد علمت أن الأول عاقل لذاته، من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود، إلا في اعتبار المعتبرين على ما مر. وحكمت بأن عقله لذاته علة لعقله لمعلوله الأول، فإذا حكمت بكون العلتين: أعني ذاته، وعقله لذاته، شيئاً واحداً في الوجود من غير تغاير، فاحكم بكون المعلولين أيضاً: أعني المعلول الأول وعقل الأول له، شيئاً واحداً في الوجود من غير تغاير يقتضي كون أحدهما مبايناً للأول، والثاني متقرراً فيه. وكما حكمت بكون التغاير في العلتين اعتباراً محضاً، فاحكم بكونه في المعلولين كذلك. فإذن وجود المعلول الأول هو نفس تعقل الأول إياه، من غير احتياج إلى صورة مستأنفة تحل ذات الأول تعالى عن ذلك. ثم لما كانت الجواهر العقلية تعقل ما ليس بمعلولات لها، بحصول صور فيها، وهي تعقل الأول الواجب، ولا موجود إلا وهو معلول للأول الواجب، كانت جميع صور الموجودات الكلية والجزئية على ما هي عليه في الوجود حاصلة فيها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 43 والأول الواجب يعقل تلك الجواهر مع تلك الصور، لا بصور غيرها، بل بأعيان تلك الجواهر والصور، وكذلك الوجود على ما هو عليه، فإذن لا يعزب عنه مثقال ذرة، من غير لزوم محال من المحالات المذكورة. قال: فهذا أصل إن حققته وبسطته انكشفت لك كيفية إحاطته تعالى بجميع الأشياء الكلية والجزئية، إن شاء الله تعالى. و {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [المائدة: 54] . ولولا أن تلخيص هذا البحث على هذا الوجه الشافي يستدعي كلاماً بسيطاً، لا يليق أن نورد أمثاله على سبيل الحشو، لذكرت ما فيه كفاية، لكن الاقتصار هنا على هذا الإيماء أولى. الرد على كلام الطوسي من وجوه قلت: فليتدبر العاقل الذي هداه الله تعالى وفهمه ما جاءت به الرسل، وما قاله غيرهم، كلام هذا الذي هو رئيس طائفته في وقته، وما قرر به كلام سلفه الملحدين في علم الله تعالى، لما كان ابن سينا -وهو أفضل متأخريهم- قد قال في ذلك بعض الحق الذي يقتضيه العقل الصريح، مع موافقته للنقل الصحيح، فأراد هذا الطوسي أن يرد ما قاله ابن سينا من الحق انتصاراً لطائفته الملاحدة، فقال في الكلام الذي عظم قدره وتبجح به، ما يظهر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 44 لمن فهمه أنه من أفسد أقوال الآدميين، وأشبه الأشياء بأقوال المجانين. ولا ريب أن هذه عقول كادها باريها، لما ألحدت في صفات الله تعالى، وأرادت نصر التعطيل، وقعت في هذا الجهل الطويل. فجعل نفس الحقائق، المعلومة الموجودة المباينة للعالم، هي نفس علم العالم بها، ولا ريب أن هذا أفسد من قول من جعل العلم نفس العالم، كما يقوله طائفة من النفاة، كابن رشد ونحوه وقول أبي الهذيل خير منه. ولا ريب أن من جعل نفس المخلوقات نفس علم الخالق بها. فقد أتى من السفسطة بما هو من أعظم الأشياء فرية على الخالق تعالى وعلى مخلوقاته، وما هو من أظهر الأقوال فساداً عند كل من تدبره. والحمد لله الذي جعل أقوال الملحدين يظهر فسادها لكل ذي عقل، كما علم إلحادهم كل ذي دين، هذا مع تعظيم أتباعهم لهم، ونسبتهم لهذا ونحوه إلى التحقيق في المعارف الحكمية، والعلوم الإلهية. ثم إن هذه اللوازم الظاهرة لفساد بناها على مقدمة ستسلفها ممن سلمها له من أشباهه. وأقرب الأشياء شبهاً بهذا القول، قول أهل الوحدة، الذين يقولون: وجود المخلوق عين وجود الخالق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 45 فإن أولئك جعلوا الوجودين وجوداً واحداً، وهذا جعل نفس علم الخالق ووجود المخلوق شيئاً واحداً، فتلك وحدة في وجوده، وهذه وحدة في علمه، مع وجود المخلوقات. ولا ريب أن قول النصارى بالاتحاد والحلول، أقرب إلى المعقول من قول هؤلاء، فإن أولئك يجعلون الكلمة. التي هي عندهم جوهر قد تجدد له اتحاد بالمسيح، وهؤلاء جعلوا نفس علمه اللازم له، الذي لم يزل ولا يزال، هو نفس المخلوقات كلها. ونحن نبين فساد مقدماته التي استسلفها، وفساد نتائجه التي استنتجها. أما قوله: العاقل، كما لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته التي بها هو هو. فلا يحتاج أيضاً في إدراك ما يصدر عن ذاته بذاته إلى صورة غير صورة تلك الصادر التي بها هو هو. الوجه الأول فيقال: كلا المقدمتين ممنوع، فلا نسلم أنه لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته، ولا نسلم أنه إذا كان كذلك لا يحتاج في إدراك ما يصدر عنه إلى صورة غير صورة الصادرة عنه. والمقدمة الأولى له فيها سلف، وعليها بنى طائفة من الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين، كالسهروردي المقتول، كلامهم في مسألة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 46 العلم، وإن كان جماهير العقلاء من بني آدم يقولون: إن فساد هذا معلوم بالضرورة. حتى قال الرازي: وأعلم أنه لولا ولوع الناس بكل كلام هائل لا يخلصون حقيقته، لما احتيج إلى الكلام على قولهم: إن الشيء الأحدى الذات عقل وعاقل ومعقول، من غير تعدد صفاته. وأما هذه الثانية فما علمت له فيها سلفاً. فنقول في الأولى التي ذهب إليها بعض سلفه، لم قلت: إن العالم إذا علم نفسه، لم يكن علمه بنفسه إلا مجرد نفسه؟ وما الدليل على ذلك؟ وهل هذه إلا مجرد الدعوى؟ ثم إنها دعوى معلومة الفساد بالضرورة وبالأدلة، فإن الإنسان حاله قبل أن يعرف نفسه، خلاف حاله إذا عرفها: يعلم أنه حصل له علم لم يكن، مع أن نفسه لم تزل، ويعلم أنه إذا قال: علمت نفسي، كان في هذا زائد على قوله: كانت نفسي. وإذا قال: علمي بنفسي موجود، علم أن هذا زائد على قوله: نفسي موجودة. وقوله: علمت نفسي، كقوله: أحببت نفسي، وظلمت نفسي، ورأيت نفسي، فهل يكون حبه لها وظلمه لها ورؤيته لها هو ذاتها؟!. الوجه الثاني ومن الأقوال المشهورة عند الناس: من عرف نفسه عرف ربه، فلو كانت معرفته بنفسه هو نفسه، لكان كل أحد عارفاً بنفسه وبربه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 ثم إن العاقل يتبين له كل وقت من أحوال نفسه، ما لم يكن متبيناً له قبل ذلك، فيزداد عقلاً ومعرفة وتبيناً لنفسه. ويجد ذلك فيه وجوداً ضرورياً، كما يجد علومه الضرورية، فكيف يكون علمه بنفسه ليس فيه زيادة على مجرد نفسه، التي كانت قبل العلم بها؟. وقول القائل: العاقل لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته التي بها هو. يقال له: من المعلوم بالضرورة أن إدراك ذاته ليس هو عين ذاته، بل إذا قدر ذاته بدون إدراكها، وقدر ذاته مع إدراكها، كان إدراكها قدراً زائداً على ذاته بدون إدراكها، وهذا الإدراك غير الذات الخلية عن إدراك، فهذا معلوم بالحس والضرورة. ثم إن كان القائل ممن يقول: الإدراك هو انطباع صورة المعقول في العاقل، أو يقول: الإدراك هو نفس تلك الصورة، أو هو إدراك تلك الصورة، أو يقول: ليس هناك صورة، بل الإدراك علم بالمدرك بلا صورة، أو يقول: هو نسبة بين المدرك والمدرك بلا صورة، فأي قول في هذه الأقوال قاله، فلا بد له أن يجعل الإدراك ليس هو المدرك، فليس العلم هو نفس المعلوم، كما أنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 48 ليس هو العالم، بل يعقل بالضرورة الفرق بين العالم والمعلوم والعلم، كما يعقل الفرق بين المريد والمراد والإرادة، والمرئي والرائي والرؤية، والمسموع والسامع والسمع، والمحبوب والمحب والمحبة. لكن إن كان الواحد هو العالم والمعلوم، والمحب والمحبوب، بحيث يقال: إنه يعرف نفسه، ويحب نفسه، فهنا، مع كونها العالم والمعلوم، والمحب والمحبوب، فليس علمها بنفسها وحبها نفسها هو ذات نفسها، بل يمكن تقديرها غير عالمه بنفسها ولا محبة لنفسها، ويمكن تقديرها مع علمها وحبها. ويعلم أنه مع تقديرها الوجود، هناك أمر موجود زائد على تقدير العدم، هذا مع أن جهة كونه عالماً غير جهة كونه معلوماً، وإن كانت الذات واحدة. وأما نفس العلم فليس هو لا ذات العالم ولا ذات المعلوم. وقول القائل: الشيء لا يضاف إلى نفسه، كلام مجمل. فإن عنى به أنه لا يضاف في اللفظ، فهذا ليس بحثاً عقلياً، مع أنه ممنوع، فإنه قال: نفسه وذاته، وليس الكلام في هذه. وإن أراد بذلك ما نحن فيه، وهو أن ذاته لا تتعلق بها الصفات الثبوتية الإضافية، كالعلم والحب والظلم، فلا يكون عالماً بنفسه ولا محباً لها، ولا ظالماً لها- فهذا مكابرة. ثم لو قدر أن إدراكه لذاته ليس فيه صورة عقلية غير صورة ذاته التي بها هو، فلم قلت: إنه يلزم مثل ذلك في إدراك كل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 49 شيء؟ والذين فرقوا قالوا: ذاته لا تضاف إلى ذاته، وهذا الفرق منتف فيما سواهما. قالوا: ليس بينه وبين ذاته واسطة أقرب من ذاته إلى ذاته وهذا منتف فيما سوى ذاته. وقالوا: العلم هو العالم وليس هو المعلوم، فعلمه بذاته هو نفس ذاته، بخلاف علمه بغيره. وبالجملة فهم قد ذكروا فروقاً، إن كانت صحيحة بطل الجمع، وإن كانت باطلة منع الحكم في الأصل. أما كون الحكم في الأصل يوجد مسلماً، مع قياس العلم بما سواه على العلم بنفسه، في أن كل عالم بمعلوم هو نفس المعلوم، وليس هناك علم زائد على المعلوم- فهذا مردود بصريح العقل، ومجرد تصوره التام كاف في العلم بفساده. الوجه الثالث أن يقال: قوله: فلا يحتاج في إدراك ما يصدر عن ذاته بذاته، إلى صورة غير صورة ذلك الصادر، التي بها هو هو قضية معلومة الفساد بالضرورة، فإن الإنسان يجد من نفسه أنه إذا أراد أن تصدر عنه صورة خارجية، من قول أو فعل، فإنه يتصور في ذهنه ما يريد أن يظهره قبل أن يظهره، ويميز بين الصورة التي في ذهنه، وبين ما يظهره بقوله وفعله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 50 والفلاسفة، مع سائر العقلاء، متفقون على هذا، ويقولون: أول الفعلة آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك، ويقولون: العلة الغائية هي أول في التصور آخر في الوجود. وجمهور العقلاء يقولون: السابق هو تصور العلة الغائية وإرادتها. وأما ابن سينا ونحوه من الفلاسفة فيقولون: بل نفس العلة هي السابقة في الذهن. ويقولون: العلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية. وجمهور العقلاء لا يجعلونها علة فاعلية، بل يقولون: تصور الفاعل لها، وإرادته لها، به صار فاعلاً، فلولا تصور الغاية والإرادة لها لما كان فاعلاً، فتصورها وإرادتها شرط في كون الفاعل فاعلاً، وهي مقدمة في التصور والإرادة، وإن تأخرت في الوجود. ففي الجملة العاقل الفاعل فعلاً باختياره، يتصور ما يريد أن يفعله في نفسه، ثم يوجده في الخارج، فتلك الصورة الموجودة في الخارج بفعله، ليست هي الصورة المعقولة في ذهنه، كمن أراد أن يصنع شكلاً مثلثاً أو مربعاً، أو يصنف خطبة، أو يبني داراً، أو يغرس شجراً أو يسافر إلى مدينة، فإنه يتصور ما يريده ابتداءً، فتكون له صورة عقلية في نفسه، قبل صورته التي توجد في الخارج، وهو معنى قولهم: أول البغية آخر الدرك، أي أول ما تبغيه فتريده وتطلبه، هو آخر ما تدركه وتناله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 51 وهذا العلم، هو العلم الفعلي المشروط في الفعل، وعلم الرب عندهم فعلي، فكيف يكون نفس علمه به، هو نفس المعلوم الذي أبدعه في الخارج؟ وهل يقول هذا من يتصور ما يقول؟. الوجه الرابع قوله: واعتبر من نفسك أنك تعقل شيئاً بصورة تتصورها أو تستحضرها، فهي صادرة عنك، لا بانفرادك مطلقاً، بل بمشاركة ما من غيرك، ومع ذلك فأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها، بل، كما تعقل ذلك الشيء بها، كذلك تعقلها بنفسها، من غير أن تتضاعف الصور فيك. إلى قوله: وإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك هذه الحال، فما ظنك بحال العاقل، مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه؟. فيقال له: هذا تلبيس لا يروج إلا على جاهل أو متجاهل، فإن هنا أمرين: أحدهما: الشيء الموجود في الخارج، وهذا هو الذي يقال: إن تعقله ارتسام صورته في العالم. والثاني: نفس الصورة العلمية التي في العاقل المطابقة لهذا المعلوم، فهذه الصورة لم يقل أحد: إنها تفتقر إلى صورة أخرى، فإن هذه هي العلم. وهم قالوا: إن العلم صورة مطابقة للمعلوم. والعلم من حيث هو علم لا يجب أن تكون له صورة غير نفسه في العقل تطابقه، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 52 اللهم إلا إذا قيل: إن ذلك العلم صار معلوماً، فتكون له صورة من حيث هو معلوم، لا من حيث هو علم. وقوله: إنك تعقل شيئاً بصورة تتصورها وتستحضرها، فهي صادرة عنك، وأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها، بل كما تعقل ذلك الشيء بها، كذلك تعقلها أيضاً بنفسها. فيقال: قوله: صادرة عنك إنما تعرف فيما يفعله الإنسان. أما حصول الصورة العلمية في نفسه، فهذا قد يكون ضرورياً حصل بغير فعل منه، وإن كان نظرياً فهو ضروري بعد وجود سببه. ولهذا من يقول: المتولدات ليست مكتسبة، يجعل جمهورهم العلوم كلها ضرورية، كما قال أبو المعالي: والمختار عندنا أن العلوم كلها ضرورية. وحينئذ فلا تكون تلك الصورة العقلية صادرة عنه، بل هي حاصلة في ذاته بغير اختياره. وعلم الرب القديم اللازم لذاته، كعلمه بنفسه، لا يقال: إنه صادر عنه ولا مفعول له، بل هو كحياته. ولكن ما يتجدد من سمع وبصر وعلم بالكائن كائناً، فهذا من أثبته فإنه يمكن أن يجعله صادراً عنه. وأما علمه بالأشياء التي يريد أن يفعلها قبل فعلها، فهذا للناس فيه كلام بحسب تنازعهم في هذا الأصل. وعلى كل قول، وبكل تقدير، ليست صورة المعلوم التي خلقها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 53 وأبدعها هي نفس علمه به، وإذا سمي العلم صورة عقلية، فليس هذا هو ذاك. وإذا قيل: إن عقل العاقل للصورة الموجودة، لا يكون إلا بصورة عقلية، لم نقل: إن الصورة العقلية لها صورة أخرى. ولكن للناس هنا نزاع. وهو أن العلم بالعلم هل يحصل بالعلم أم لا بد من علم ثان؟ وكذلك العلم الثاني هل يفتقر إلى ثالث؟ فمن أثبت ذاك بطلت الحجة على قوله. ومن نفي ذاك، قال: العلم يعلم به غيره، فلأن يعلم هو بنفسه بطريق الأولى، كالنور الذي يرى به غيره، ويرى هو بنفسه، فلا يلزم إذا احتاج ما ليس بعلم إلى صورة عقلية، أن يحتاج نفس العلم إلى صورة عقلية غير العلم، بل من علم شيئاً علماً تاماً، علم أنه عالم. ومن نصر القول الأول يقول: قد يعلم المعلوم ويذهل عن كونه عالماً به. فإن قيل: هذا لا يتصور في حق الله تعالى، فإنه يعلم المخلوقات، ويعلم أنه عالم بها، فإذا كان العلم بكونه عالماً، ليس هو العلم بالمعلوم المنفصل، لزم وجود علوم لا تتناهى. وهذا هو الذي احتج به الطوسي. فيقال: علمه بنفسه يوجب كونه عالماً بصفاتها، ومن صفاتها كونه عالماً بهذا وهذا، فعلمه بنفسه يتضمن العلم بكونه عالماً بالمعلومات، وهذا العلم ليس هو العلم بالمعلومات المخلوقات، لكن هو مستلزم له، فعلمه تعالى بنفسه مستلزم للعلم بجميع صفاته، يمتنع وجود أحدهما دون الآخر، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 54 فليس هناك علمان متباينان، بخلاف علمه ومخلوقه المعلوم، فإن هذا مباين لهذا. والعلم محله نفسه المقدسة، والمخلوق ليس بمباين له، فكيف يكون هو إياه؟ وهو سبحانه يعلم الشيء قبل وجوده، فيكون العلم به موجوداً، والمعلوم لم يوجد بعد. وهذا بخلاف علمه، وعلمه بعلمه. فإنه يمتنع وجود أحدهما دون الآخر، فيمكن أن يقال: علمه بنفسه يتضمن العلم بعلمه، فلا يوجد بدونه، كما يوجد علمه بالمخلوقات قبل وجود المخلوق. الوجه الخامس قوله: بل ربما تتضاعف اعتباراتك المتعلقة بذاتك، وبتلك الصورة فقط، على سبيل التركب. فيقال: تضاعف هذا الاعتبار هو الذي يريده من يقول بتضاعف الصور، فإن مقصودهم أن العلم بالعلم بالشيء ليس هو العلم بالشيء. ثم كون العلم صورة المعلوم في العالم، أو إدراك الصورة، أو إدراكه بلا صورة، أو نسبة، أو غير ذلك- نزاع في حقيقة العلم. والمقصود هنا أن علم العالم بالمعلوم ليس هو المعلوم، وهو يريد أن يقرر أن العلم بالمعلوم عين المعلوم، كما أن العلم بالعلم بالمعلوم هو نفس العلم المعلوم. وجوابه إما بالمنع، وإما بالفرق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 فإن كان العلم بالعلم زائداً على العلم، منع الحكم في الأصل. وإن لم يكن زائداً، فالفرق حاصل. وهو يريد التسوية بين العلم بالعلم وبين العلم بالمعلوم. ونقول: إذا كان ذاك المعلوم هو نفس العلم، فكل معلوم نفس العلم. وكلا المقدمتين ممنوعة، ولقد قرر أنه لم تنحل هذه الشبهة، فنحن نعلم علماً ضرورياً أن هذا سفسطة، وأن من جعل نفس المعلوم الموجود المخلوق، هو نفس علم العالم به، فهو مكابر جاحد للخالق. الوجه السادس قوله: ولا تظنن أن كونك محلاً لتلك الصورة شرط في تعقلك إياها، فإنك تعقل ذاتك مع أنك لست بمحل لها، بل إنسا كان كونك محلاً لتلك الصورة شرطاً في حصول تلك الصورة لك، الذي هو شرط في تعقلك إياها، فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر، غير الحلول فيك، حصل التعقل من غير حلول. فيقال: هنا صورتان: الصورة الموجودة في الخارج، والصورة المعقولة المطابقة لتلك المسماة بالعلم. فإن أريد أن كونه محلاً للصورة العقلية. ليس شرطاً في تعقل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 56 الصورة العقلية. فهذا باطل. فإن تعقلها لا يكون إلا بحصولها له، والصورة العقلية لا تحصل له إلا إذا قامت به، بل الصورة العقلية لا تكون إلا حالة في الإنسان، لا تكون حاصلة له بدون الحلول أبداً. وكذلك كل عالم لا بد أن يكون العلم قائماً به، وحصول العلم للعالم بدون قيامه به ممتنع، فإن العلم لا يقوم بنفسه، ولو قدر قيامه بنفسه لم تختص به ذات دون ذات، فلا تكون الذات عالمة علماً، إن لم يكن ذلك العلم قائماً بها. وهذا مما رد به على جهم حيث قال: إن الرب عالم بعلم لا يقوم به، لامتناع قيام الصفات به. كما رد به على البصريين من المعتزلة قولهم: مريد بإرادة لا تقوم به. وقول هذا الطوسي شر من قول جهم، فإن جهماً، وإن قال: إنه عالم بعلم لا يقوم به- فالعلم عنده ليس هو المعلوم. وهذا يجعله عالماً بعلم منفصل عنه، ويجعل العلم هو المعلوم. فإن حقيقة قول النفاة للصفات من الفلاسفة، من جنس قول النفاة لها من الجهمية، فيشتركان في التعطيل، ويفترقان في مسائل الحدوث والقدم. ولهذا وصى ابن سينا بملازمة قول النفاة للصفات، فإن القول بالحدوث ممتنع على أصلهم، فالنفي حجة له عليهم، بخلاف مثبتة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 57 الصفات، فإن فساد قول الدهرية على قولهم ظاهر. وإن أراد أن تعقل الموجود في الخارج ليس مشروطاً بحصول الصورة العقلية، فقد اعترف هو بثبوت الصورة العقلية، وادعى أنها صورة المفعول. ثم نقول: مقصودنا لا يتوقف إلا على إثبات علم قائم بالعالم، سواء سمي صورة عقلية أو لم يسم، فعقل الوجود في الخارج لا يكون إلا إذا قام بالعاقل عقل له، وذلك العقل ليس هو العقل الموجود في الخارج المباين للعاقل. وإذا سمي ذلك العقل صورة عقلية، وقيل: إن التعقل ليس مشروطاً بها، كان معناه أن وجود العلم ليس مشروطاً بوجود العلم. ومعلوم أن الشيء لا يثبت بدون لازمه، فكيف يثبت الشيء مع انتفائه؟ وهل هذا إلا جمع بين النقيضين: وجوده وعدمه؟ وحينئذ فكون العالم محلاً للعلم شرط في حصول العلم، فإن حصول العلم للعالم بدون اتصافه به وقيامه به ممتنع. فلا يكون العقل، الذي هو العلم، حاصلاً للعاقل، إلا إذا كان العاقل، الذي هو العالم، محلاً لذلك العقل الذي هو العلم، كما أن المحب لا يكون محباً، إلا إذا كانت المحبة قائمة به، وكذلك في الإرادة والكلام وسائر الصفات. وهذا أصل مطرد لأهل السنة: أن الصفة إذا قامت بمحل، عاد حكمها على ذلك المحل، ولم يتصف بتلك الصفة غير ذلك المحل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 58 ولهذا قالوا: لو كان كلام الله مخلوقاً، لكان المتكلم به هو المحل الذي خلق فيه. وطرد أئمتهم وجمهورهم هذا في الصفات الفعلية. وآخرون، كالأشعري ونحوه، فرقوا بينهما فرقاً، كانوا به متناقضين عند جمهور الناس من المثبتة والنفاة. وأما من يقول: عالم لا بعلم يقوم به، ومريد لا بإرادة تقوم به، ومتكلم لا بكلام يقوم به- فهذا كلام الجهمية النفاة، ومن وافقهم من المعتزلة. وهذا الطوسي وأمثاله هم الجهمية النفاة المتفلسفة الملاحدة. وهو في التعطيل شر من المعتزلة وغيرهم. وكذلك ابن سينا وأمثاله هم من أتباع الملاحدة النفاة. وكان هذا الطوسي من أعوان الملاحدة الذين بالألموت، ثم صار من أعوان المشركين الترك، لما استولوا على البلاد. وكذلك ابن سينا، وقد ذكر سيرته، فيما ذكره عنه أصحابه، فذكر أن أباه كان بلخياً وأنه تزوج بقرية من قرى بخارى، في أيام نوح بن منصور، بامرأة منها فولد بها، وأنهم انتقلوا إلى بخارى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 59 قال: وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين ومقدمهم، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم. وكذلك أخي. وكانا ربما تذاكروا ذلك بينهم، وأنا أسمعهم، وأدرك ما يقولونه، وابتدأوا يدعونني إليه، ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة وحساب الهند. ثم جاء إلى بخارى أبو عبد الله الناتلي، وكان يدعي الفلسفة، وأنزله أبي دارنا. رجاء تعلمي منه. ثم ذكر قراءته عليه المنطق وإقليدس والمجسطي. ومعلوم عند كل من عرف دين الإسلام أن المصريين -بني عبيد الباطنية- كالحاكم وأمثاله، الذين هم سادة أهل بيته، من أعظم الناس نفاقاً وإلحاداً في الإسلام، وأبعد الناس عن الرسول صلى الله عليه وسلم نسباً وديناً، بل وأبعد الناس عن صريح المعقول وصحيح المنقول، فليس لهم سمع ولا عقل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 60 وقولهم في الصفات صريح قول جهم، بل وشراً منه، وزادوا عليه من التكذيب بالحق والبعث والشرائع ما لم يقله الجهم، تلقياً عن سلفهم الدهرية، وأخذوا ما نطق به الرسول في الإيمان بالله واليوم الآخر والشرائع، فجعلوا لها بواطن يعلم علماء المسلمين بالاضطرار أنها مخالفة لدين الرسول صلى الله عليه وسلم. فأصحاب الإشارات، هم من جنس هؤلاء، لكن يتفاوتون في التكذيب والإلحاد. وأما قوله: فإنك تعقل ذاتك ولست بمحل لها. فيقال: ليس من شرط الموجود المعلوم أن يكون هو نفسه حالاً في العالم، بل أن يكون العلم به حالاً في العالم، ومن عرف نفسه فلابد أن يقوم في نفسه علم بنفسه، فيكون العلم بنفسه حالاً في نفسه، لا أن تكون نفسه حالة في نفسه، ولكن هو يريد أن يسوي بين العلم والمعلوم، فيجعل ما لا يشترط في المعلوم لا يشترط في العلم، ويجعل العلم نفس المعلوم، وهذا باطل كما تقدم. الوجه السابع قوله: بل إنما كان كونك محلاً لتلك الصورة، شرطاً في حصول تلك الصورة لك، الذي هو شرط في تعقلك إياها، فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر غير الحلول فيك، حصل التعقل من غير حلول فيك. هذا كلام متناقض، فإن كونه محلاً لتلك الصورة: إذا كان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 61 شرطاً في حصول تلك الصورة، امتنع وجود المشروط بدون شرطه فلا تحصل الصورة له إلا بحلولها فيه، لأن الحلول شرط فيها، فدعواه بعد هذا أنه يمكن حصولها له بدون الحلول، جمع بين النقيضين. وكان ينبغي أن يقول: إنما كان كونك محلاً للصورة سبباً في حصولها لك، والحصول يحصل بهذا السبب تارة وبغيره أخرى. ومع هذا فلو قال ذلك كان باطلاً أيضاً، لكن هو يعلم أن هذا الحلول شرط في تعقل العبد، وإنما يدعي أنه ليس بشرط في علم الرب. الوجه الثامن أن يقال: حصول العلم للعالم بدون قيامه به ممتنع، فإذا كانت الصورة العقلية هي العلم، أو كان العلم مستلزماً لها لا يوجد إلا بوجودها لكونها شرطاً فيه، امتنع حصول العلم، وحصول الصورة العقلية، التي هي العلم، أو شرطه أو لازمه، للعالم بدون حلولها فيه، كما يمتنع مثل ذلك في سائر صفات الحي، فيمتنع أن يحصل له علم أو قدرة، أو حب أو بغض، أو رضى أو سخط، أو فرح أو ألم أو لذة، أو غير ذلك من صفات الحي، بدون حلول ذلك في الحي، ولا يحصل ذلك له إلا بحلوله فيه، لا مع وجوده مبايناً له. الوجه التاسع أن يقال: مراده بالصورة الحاصلة بلا حلول: إن كان هو مجرد الصورة الموجودة، وهو لم يرد ذلك، كان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 62 حقيقته أن العلم يحصل بمجرد وجود المعلوم، فلا يكون هنا علم قائم بالعالم ولا صورة عقلية، وهذا مع ظهور فساده، فهو يسلم بطلانه، في العبد، ويقول: إن كونه محلاً لتلك الصورة، شرط في حصول تلك الصورة، الذي هو شرط في تعقله إياها، فيجعل الحلول شرطاً في الحصول، الذي هو شرط في التعقل، ويثبت الصورة العقلية القائمة بقلب الإنسان، فيمتنع أن يريد بالصورة الحاصلة بلا حلول، الصورة العقلية الحاصلة للإنسان. وإن أراد بذلك الصورة الموجودة، فلا ريب أنها تحصل من غير حلول، بل الحلول فيها ممتنع. لكن يقال: ليس في مجرد حصولها للإنسان، ما يوجب أن يكون الإنسان عاقلاً لها، إذا لم يكن في نفسه علم بها، بل الحصول الخالي عما يقوم بالعالم من العلم، ليس معه علم ضرورة، فإن ادعى حصول الصورة العقلية بلا حلول فيمتنع، وإن ادعى حصول الصورة الموجودة بلا حلول فهو ممكن، لكن وجود العلم بمجرد ذلك من غير شعور يقوم بالشاعر بها ممتنع. وهذا أمر معلوم بالضرورة واتفاق العقلاء، لكن هؤلاء القوم يدعون أن علم الله بالأشياء بلا علم يقوم به، ويسمونه عاقلاً، ويفرقون بين عقل وعقل، مع جعل العقل جنساً واحداً، وهو تناقض بين، وقول بلا علم، بل مما يعلم بطلانه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 63 الوجه العاشر أن يقال: قوله: فإذا حصلت تلك الصورة بوجه آخر غير الحلول فيك، حصل التعقل من غير حلول فيك. ومعلوم أن حصول الشيء لفاعله، في كونه حصولاً لغيره، ليس دون حصول الشيء لقابله. فيقال: حصول الشيء لغيره بدون حلول فيه لفظ مجمل. قد يراد به حصوله في ملكه، وقد يراد به حصوله عنده وفي يده. وقد يراد به حصوله لينتفع به بوجه معاوناً له ومشاركاً. فإنه يقال لك: هذا المال، وهذه الدار، وهذا المملوك. ويقال: حصل لك هذا لتستعيره أو تستأجره. وقد يقال: حصلت لك هذه المرأة لتتزوجها، وهذا الرفيق أو الشريك لترافقه وتشاركه، وحصل لك هذا المعلم لتتعلم منه، وحصل لك هذا العدو في يديك وقبضتك، وأمثال ذلك. ومعلوم أنه ليس في هذه الأنواع من الحصول، ما يوجب أن يكون هذا الحصول موجباً للعلم بدون شعور يقوم بالعالم، بل إن لم يقم بالحي شعور قائم بنفسه بما حصل له، وإلا لم يكن شاعراً بها. والشعور أول درجات العلم والعقل، فمن لم يكن شاعراً بالشيء كيف يكون عالماً به وعاقلاً له؟. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 64 فقوله: إذا حصلت تلك الصورة بوجه غير الحلول فيك، حصل التعقل من غير حلول فيك. كلام لا دليل عليه، وهو باطل. ويكفيه المنع المجرد، وهو أن يقال: لا نسلم أن الحصول الخالي عن حلول، يكون تعقلاً من غير حلول، أو يوجب التعقل من غير حلول. ونعني بالحلول ما بيناه من حلول نفس الشعور بالشاعر، سواء كان هناك صورة عقلية أو لم يكن، فكيف وقد رأينا الحصول من غير شعور لا يكون علماً في عامة أنواع الحصول؟. الوجه الحادي عشر قوله: ومعلوم أن حصول الشيء لفاعله في كونه حصولاً لغيره، ليس دون حصول الشيء لقابله، فإذن المعلولات الذاتية للعاقل الفاعل لذاته، حاصلة من غير أن تحل فيه، فهو عاقل إياها من غير أن تكون هي حالة فيه. يقال له: لا ريب أن كونها مفعولة مخلوقة فيه، مغاير لكونها قائمة به، لكن يجب أن نعرف أنه لم يقل عاقل: إن العلم بالمخلوقات يقتضي حلول المخلوقات بذات الخالق، كما أن خلقه لها نفس إبداع ذواتها، فلم يقل عاقل: إن الذي هو مخلوق مفعول، هو نفس الذي هو حال مقبول، حتى نفرق بينهما، بأن أحدهما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 65 حصول للفاعل، والآخر حصول للقابل، بل الحاصل للفاعل هو نفس الأشياء المخلوقة، كالسماوات والأرض وما بينهما. وأما القبول القائم بالقابل، فهو العلم بها، الذي يسمونه صورة عقلية، لا نفسها الموجودة. ولا يقول عاقل يتصور ما يقول: إن العلم حصول نفس الموجودات في العالم، فإن كل عاقل يعلم أنه إذا علم النار والشمس والقمر، لم تكن هذه الحقائق في نفسه، وإن قدر أن أحداً قال ذلك، أو قال: إن الحاصل في نفسه مثل حقائقها الموجودة في الخارج في الحد والحقيقة، حتى يقول: إن من علم الشمس صار في نفسه شمساً مساوية في الحد والحقيقة للشمس التي في السماء، ومن علم النار حصل في نفسه نار مساوية في الحقيقة للنار التي تحرق فهذا القول ظاهر الفساد. وإنما الذي قد يقال: إنه تحصل صورة عقلية تطابق تلك الحقيقة، مطابقة ما في النفس لما في الخارج. ولهذا يمثلون ذلك بمطابقة الوجه لما في المرآة. فنقول: حصول الصورة العلمية في العالم، كحصول الصورة المرئية في المرآة، أو في الماء، ونحو ذلك. ومعلوم أنه لم تحل في المرآة والماء نفس الشمس والوجه، ولا ما يساويهما في الحد والحقيقة، ولكن صورة تحكيهما، وليست هذه الصورة كالصورة التي تحصل في الشمع والطين من طبع الخاتم والرسم، فإن تلك عرض منقوش حل في جسم يشبه الآخر، بخلاف ما في المرآة فإنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 66 عرض، والشمس والوجه جسم، وكذلك العلم الذي في القلب، والمعلوم القائم بنفسه، كالسماء والأرض جواهر، فليس هذا مثل هذا. وبالجملة فنحن ليس غرضنا في هذا المقام إلا إثبات قيام العلم بالعالم، فإنه أمر موضع الكلام فيه، إذ كل أحد يميز بين شعوره بالشيء، وعدم شعوره به. أما كون ذلك بانطباع صورة عقلية مطابقة أو مشابهة، أو غير ذلك- فليس هذا موضع الكلام فيه، إذ المقصود هنا أن ذلك العلم هو المسمى بالصورة العقلية، وهو حال في العالم. وليس هذا هو الصورة الموجودة في الخارج، ولا فاعل هذا فاعل ذاك، ولا قابل هذا هو قابل ذاك، فإن العلم بقلبه -قلب العالم- فهو صفة قائمة بالعالم، وفاعله هو ما أحدثه فيه. وعلم الله القديم اللازم لذاته قائم به، وليس له فاعل، وإن كان له موصوف به يسمى محلاً ويسمى قابلاً. وأما الصورة الموجودة في الخارج، فالله سبحانه خالقها. والإنسان قد يكون له فعل في بعض الصور، ومحلها -إن كانت عرضاً- الجسم الذي قامت به، كما أن محل الصياغة هو الذهب والفضة، ومحل النجارة هو الخشب، ومحل صورة الدرهم والدينار والخاتم هو الذهب والفضة، ومحل الخياطة الثوب، ومحل النساجة الغزل، وأمثال ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 67 فقول القائل: حصول الشيء لفاعله غير حصوله لقابله يقتضي أن الشيء الحاصل للفاعل، هو الشيء الحاصل للقابل، وإنما اختلف الحصولان. وليس كذلك، فإن حصول الشيء لفاعله هو حصول نفسه المخلوقة الموجودة، كحصول العالمين لرب العالمين، فإن كل المخلوقات حاصلة له، حصول المفعول لفاعله، بل حصولاً لا يماثله فيه أحد، فإن أحداً لا يخلق كخلقه. وأما حصول المقبول لقابله. فإنما المراد به هنا حصول العلم بهذه المخلوقات للعالم بها، فإن العلم يحصل له حصول المقبول لقابله، لا يراد به أنها نفسها حصلت له حصول المقبول لقابله، بحيث حلت فيه، وكان محلاً لها، فهذا هذا. الوجه الثاني عشر أن يقال: وإذا كان هذا الحصول غير هذا الحصول، فأي مقصود يحصل لك بذلك؟ وأي دليل في ذلك على أن المعلولات -التي هي المخلوقات- إذا كانت حاصلة للخالق الذي خلقها، من غير أن يقوم به شعور بها أصلاً، بل ذاته مع عدم العلم بها، كذاته مع وجود العلم بها، فيكون عالماً بها من غير حلول شيء فيه؟. وقوله: فهو عاقل إياها، من غير أن تكون حالةً فيه. يقال له: لم يشترط أحد حلول ذواتها فيه، فإن كان هذا الشخص رد قول من أدخل فيه ما يماثلها في الحد والحقيقة، فنحن نساعده على ذلك، ولا حاجة إلى ما ذكره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 68 ولم يقل أحد من المسلمين: إن الله لا يعلم المخلوقات، حتى تحل في ذاته، أو يحل في ذاته ما هو مماثل في الحقيقة لهذه المخلوقات. فإن كان في سلفه الملاحدة من قال نحو هذا، فدونه وإياه. وأما سلفنا المسلمون فلم يقل أحد منهم شيئاً من هذا. وإن أراد بقوله: من غير أن تكون حالة فيه من غير أن يقوم به علم بها، بل يكون حال ذاته مع العلم بها، كحالها إذا قدر عدم العلم بها، فهذا باطل معلوم الفساد بالضرورة، وإذا أثبت علماً بجميع المخلوقات، يتصف به الرب، غير المخلوقات المعلومة، حصل المقصود في هذا المقام، ويبقى المقام في تفصيل ذلك له مقام آخر. الوجه الثالث عشر قوله: وإذ تقدم هذا، فأقول: قد علمت أن الأول عاقل لذاته، من غير تغاير بين ذاته، وبين عقله لذاته في الوجود، لا في اعتبار المعتبرين على ما مر، وحكمت بأن عقله لذاته علة لعقله المعلول الأول. فإذا حكمت بكون العلتين: أعني ذاته، وعقله لذاته، شيئاً واحداً في الوجود من غير تغاير، فاحكم بكون المعلولين أيضاً: أعني المعلول الأول وعقل الأول له، شيئاً واحداً في الوجود من غير تغاير يقتضي كون أحدهما مبايناً للأول، والثاني متقرراً فيه. وكما حكمت بكون التغاير في العلتين اعتباراً محضاً، فاحكم بكونه في المعلولين كذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 69 فيقال: كلا المقدمتين ممنوعة باطلة: التلازمية والاستثنائية، المشبه والمشبه به، الأصل والفرع. أما قوله: حكمت بكون ذاته وعقله لذاته شيئاً واحداً في الوجود فهذا لم يحكم به أحد من مثبتة الصفات، الذين هم سلف الأمة وأئمتها وجماهيرها، على تنوع أصنافهم، فلم يقل منهم أحد: إن علمه بنفسه هو عين نفسه، وإنما يحكي ما يشبه هذا عن المعطلة الجهمية من أهل الكلام والفلسفة، كابن رشد ونحوه، بل علمه بنفسه في كونه ليس هو نفسه، كعلمه بسائر المعلومات، فليس العلم نفس العالم عند أحد من أهل الإثبات للصفات. ولكن هل يقال: إنه غيره؟ هذا فيه نزاع لفظي. منهم من يقول: إن علمه غيره. ومنهم من يقول: لا هو هو، ولا هو غيره. ومنهم من يقول: لا نقول: لا هو هو، ولا هو غيره فأنفيهما جميعاً، بل أقول: ليس هو إياه منفرداً، وأقول: ليس هو غيره مفرداً. ولا أجمع بينهما فأقول: لا هو هو، ولا هو غيره. وأما السلف والأئمة، كـ أحمد بن حنبل وغيره، فلم يقولوا شيئاً من ذلك، بل امتنعوا من إطلاق القول بأنه غيره، كما لم يطلقوا أنه هو، ولم يقولوا: إنه لا هو هو، ولا غيره، فينفوهما جميعاً: لا مجتمعين ولا منفردين، بل منعوا من إطلاق لفظ الغير، لأن لفظ الغير مجمل، يراد به المباين، ويراد به ما ليس هو إياه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 70 والجهمي إذا سأل أحدهم عن القرآن: أهو الله أو غيره؟ فإن قال: هو غيره. قال: كل ما هو غير الله مخلوق. ولهذا لما سألوا الإمام أحمد في المحنة عن القرآن: أهو الله أو غيره؟ وإذا كان غيره كان مخلوقاً- عارضهم بالعلم فسكتوا. وقد تكلم على لفظ الغير في الرد على الجهمية. والقول الذي قبله قول الأشعري وطائفة، والذي قبلهما قول القاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى وطائفة، والأول قول الكرامية وطائفة. ومما يدل على قول الأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك» . وثبت عنه الحلف بعزة الله، والحلف بقوله: لعمر الله، فلو كان الحلف بصفاته حلفاً بغير الله لم يجز، فعلم أن الحالف بهما لم يحلف بغير الله، ولكن هو حالف بالله بطريق اللزوم، لأن الحلف بالصفة اللازمة، حلف بالموصوف سبحانه وتعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 71 وقول القائل: الصفات زائدة على الذات ليس كقوله: صفات الله زائدة على الله، لأن مسمى اسم الله يدخل في صفاته، فإذا قال: الله دخل فيه صفاته، فإذا قال: هي غيره أوهم مباينةً لله لم تدخل في اسمه. وأما لفظ الذات فقد يراد بها الذات التي يقدر أنها مجردة عن الصفات، والصفات زائدة على لفظ الذات. ولفظ الغيرين يراد بهما ما جاز مفارقة أحدهما الآخر، وعلى هذا فالصفة ليست مغايرة للموصوف. ويراد بهما ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر، وعلى هذا فالصفة غير الموصوف، والعلم غير العالم. وهذا هو لغة هؤلاء فنخاطبهم بلغتهم. فإذا قال: الأول عاقل لذاته، من غير تغاير بين ذاته، وبين عقله لذاته في الوجود. قيل: هذا ممنوع، بل عقله لذاته ليس هو ذاته، بل هو مفهوم مغاير لمفهوم الذات، وإن كانا متلازمين. واعتبار المعتبرين: إن كان مطابقاً للحقيقة، وإلا كان خطأً. وكون الشيء لا يتميز عن الشيء من وجه، لا يقتضي أنه لا يتميز عنه من وجه آخر، فالطعم لا يتميز عن اللون باللمس، ولكن يتميز أحدهما عن الآخر بالرؤية والذوق، فلو قدرنا عدم القوة المميزة لم يمتنع الامتياز في نفس الأمر. وكذلك إذا قدرنا صفة لازمة لموصوفها، لم نشعر بأحدهما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 72 منفكاً عن الآخر، لم يدل ذلك على أنهما شيء واحد في نفس الأمر. وكذلك الصفات العامة والخاصة في الموصوف الواحد، مثل كون الإنسان حيواناً وناطقاً، وكون الجسم جسماً ونباتاً، وكون اللون سواداً وبياضاً، وإن لم يتميز هذا من هذا ببعض أنواع الإدراك، فإنه يتميز بنوع آخر. الوجه الرابع عشر قوله: وحكمت بأن عقله لذاته علة لعقله لمعلوله الأول، فإذا حكمت بكون العلتين: أعني ذاته وعقله لذاته، شيئاً واحداً في الوجود من غير تغاير، فاحكم بكون المعلولين شيئاً واحداً. فيقال: أما كون ذاته علة، فمعناه أنها مبدعة فاعلة لمفعولها. وأما كون عقله لذاته علة لعقله، فليس معناه أن عقل ذاته أبدع عقل مفعوله، بل معناه أن عقله لذاته مستلزم لعقله لمفعوله، فإن كونه فاعلاً له من لوازم ذاته، والعلم التام بالملزوم يقتضي العلم بلوازمه، فكونه هنا علة بمعنى كونه ملزوماً، وهناك بمعنى كونه فاعلاً. ولفظ العلة فيه اشتراك كثير بحسب اصطلاحات الناس، ينبغي لمن خاطب به أن يعرف مقصود المخاطب به. فقد رأيت من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 73 غلط الناس بسبب اشتراك هذا اللفظ، لتعدد الاصطلاحات فيه، ما لا يمكن إحصاؤه ها هنا. وإذا كان كذلك، لم يلزم من كون ذاته الفاعلة وعلمه بنفسه شيئاً واحداً -إذا قدر أن الأمر كذلك- أن يكون مخلوقه المباين له، وعلمه بهذا المخلوق، شيئاً واحداً، لأن المخلوق مباين له، وعلم الخالق صفة للخالق قائمة به، فلم يكن العلم قائماً بالمخلوق، كما كان عقله لذاته قائما بذاته. وهناك إنما جعل من جعل عقله عين ذاته، لكون العلم هو العالم عندهم، لا لكون العلم هو المعلوم عندهم. لكن هناك كان ذات العلم والمعلوم واحدة، ولم يبق إلا العلم، وعندهم العلم ليس بزائد على الذات، فقالوا: ذاته وعقله لذاته شيء واحد. وأما هنا: فالعالم مباين للمعلوم، والعلم صفة للعالم قائمة به، ليس صفة للمعلوم قائمة به، فلم يكن جعل المخلوق الذي يسمونه المعلول الأول، وعلم الخالق به، شيئاً واحداً. الوجه الخامس عشر أن يقال بأن العلم بالمخلوق ليس هو المخلوق علم ضروري، لا يمكن دفعه بالشبهات، بل القدح فيه سفسطة. فإن كان من لوازم هذا كون علمه بنفسه ليس هو نفسه، فلازم الحق حق، والتزام هذا هو من التزام كون المخلوق هو نفس علم الخالق، وإن لم يكن من لوازم هذا كون علمه بنفسه هو نفسه، فقد بطلت الحجة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 74 وهذا بين جداً إذا تصور الإنسان نتيجة مقدماته. وهو قوله: فإذن وجود المعلول الأول هو نفس تعقل الأول إياه. فهل يقول هذا من يتصور ما يقول؟ ويقول مع ذلك: إن الله أبدع شيئاً من الأشياء، فيقول: إن نفس مبدعه المفعول المصنوع المخلوق المباين له هو نفس علمه. وطرد هذا أن تكون السموات والأرض هي نفس علمه بالسموات والأرض، والإنسان هو علم الله بالإنسان. والإنسان مولود كان في بطن أمه، فيكون علم الله مولوداً كان في بطن أمه. فهل قالت النصارى مثل هذا القول الباطل؟!. الوجه السادس عشر قوله: فإذن وجود المعلول الأول هو نفس تعقل الأول إياه، من غير احتياج إلى صورة مستأنفة تحل ذات الأول، تعالى عن ذلك. فيقال له: ليس كل أحد يقول: إنه يحتاج إلى صورة مستأنفة، بل من يقول: إنه يعلم الأشياء قبل وقوعها، وأن علمه بها بعد الوجود هو ذلك الأول، لا يقول: إنه تكون هناك صورة مستأنفة. فهؤلاء لا يلزمهم ما ذكرت. فإن قلت: قول هؤلاء ضعيف، لأن العلم بأن الشيء سيكون، ليس هو العلم بأن قد كان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 75 قلت لك: معلوم أن قولك: إن نفس علم الخالق هو نفس المخلوق، أشد امتناعاً في العقل من هذا، فعجل العلم بأن سيكون هو العلم بأن قد كان، إن كان باطلاً، فهو أقرب إلى العقل من جعل العلم نفس المخلوق. وإذا كان أقرب إلى العقل، كان التزامه -إن كان تجدد العلم محذوراً- أولى من التزام ذاك، وإن لم يكن محذوراً، التزم ذاك. الوجه السابع عشر أن يقال: لم قلت إن استئناف علم يحل ذات الأول بعد وجود المخلوق محال؟. وقولك: إنه يتعالى عن ذلك، فلا ريب أنه يتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. ومنازعك يقول: إنك أنت الظالم المفتري على الله، الذي سلبته صفات الكمال، ووصفته بصفة الجهل، وقلت فيه المحال، وألحدت في أسمائه وآياته إلحاد طائفتك الضلال. وأما أهل الإثبات فوصفوه بصفات الكمال، ووافقوا صريح المنقول عن الأنبياء والمرسلين، وما فطر الله عليه عباده أجمعين، وما دلت عليه صرائح عقول الآدميين، ووصفوا ربهم بأنه يسمع كلامهم، ويرى أعيانهم، ويسمع سرهم ونجواهم. وأنت وصفت رب العالمين بنقيض ذلك، ولم تجعل له علماً سوى المخلوقات. والمخلوقات ليست علماً باتفاق أهل الفطر السليمات، فتعالى الملك الحق عن قولك، وقول أمثالك المفترين الملحدين، أعداء الأنبياء، شياطين الإنس، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 76 وأنت فليس لك دليل أصلاً ينفي ذلك، فإن قيام ما يتعلق بمشيئته وقدرته بذاته، لا دليل لك على نفيه، إلا ما تنفي به الصفات، كما نفيت العلم. ومعلوم أن هذا من أفسد أقوال الآدميين. وغاية ما تقوله أنت وأصحابك: إن ذلك يستلزم التكثر والتغير، وهما لفظان مجملان، فذاك لا يستلزم تكثر الآلهة، بل الرب إله واحد، وإنما يستلزم تكثر علمه وكلماته، وهذا حق، وهو من أعظم كمالاته. وأما التغير، فليس المراد به استحالته، وإنما المراد أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، ويحدث الحوادث بقدرته ومشيئته. ومعلوم أن من كان قادراً على أن يفعل بمشيئته وقدرته ما شاء كان، أكمل ممن لا يقدر على فعل يختاره يفعل به المخلوقات، ولا كلام يتكلم به بمشيئته، ولا يرضى على من أطاعه، ولا يغضب على من عصاه. وهم يعلمون أن الفعل الاختياري القائم بالفاعل صفة كمال، بل الحركة عندهم صفة كمال، فبأي دليل ينفون ذلك، مع تجويزهم حوادث لا أول لها، بل إيجابهم لذلك؟. الوجه الثامن عشر قوله: ثم لما كانت الجواهر العقلية تعقل ما ليس بمعلولات لها، بحصول صور فيها، وهي تعقل الأول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 77 الواجب، ولا موجود إلا وهو معلول للأول الواجب، كانت جميع صور الموجودات الكلية والجزئية على ما هي عليه في الوجود حاصلة فيها. فيقال: مضمون هذا الكلام أن الجواهر العقلية لما عقلت الأول، لزم أن تعقل كل شيء، لأن ما سواه معلول له، وأن تكون جميع صور الوجود حاصلة فيها. وفي هذا الكلام من الباطل أنواع: منها أن يقال: ومن أين لكم أن مخلوق الرب يعلمه علماً تاماً، بحيث لا يخفى عليه من أحوال الرب شيء؟ بل يعلم الرب، كما يعلم نفسه، حتى يكون علمه بالرب متضمناً للعلم بكل موجود؟ وما الدليل على هذا، والكتب الإلهية والدلائل العقلية تناقض ذلك؟. قال تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة: 255] . وقال عن الملائكة: {لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} [البقرة: 32] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 78 وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 26-28] . وقال: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض} [الأعراف: 187] : أي خفي علمها على أهل السماوات والأرض. وقال تعالى: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها} [طه: 15] ، أي أخفيها من نفسي، فكيف أطلعكم عليها؟. وقال: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} [النمل: 65] . وقال عن الملائكة: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} [مريم: 64] . وقال: {إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما} [طه: 98] ، إلى قوله: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا * يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما} [طه: 108-110] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 79 ومنها أن الأول الواجب لم يثبتوا له علماً محققاً بجزئيات المخلوقات، بل ولا بكلياتها، فكيف يستفاد من العلم بنفسه العلم بتفاصيلها، وهو عندهم لا يعلم تفاصيلها؟ فإذا لم يستفد العلم بتفاصيلها إلا من العلم به لكونه مبدأً امتنع ذلك. ومنها أن يقال: حصول جميع صور الموجودات الجزئية والكلية على ما هي عليه: إن كان صفة الكمال، فالرب أحق بها من مخلوقاته. وإن كان صفة نقص، فلا موجب لوصف العقول بها. فإن قلتم: أثبتناها للعقول لتعلم جميع الأشياء. قيل: إن كان العلم بجميع الأشياء يمكن بدون حصول صورها في العالم، أمكن ذلك في العقل، كما أمكن في الأول. وإن لم يمكن ذلك، وجب إثباتها للأول، وكان أحق بذلك من مفعوله. فإن الأول إذا كان علمه بالمخلوق نفس المخلوق، كان علم العقل به يفيده العلم بالمخلوق، من غير قيام صورة المخلوق عنده، بل يكفيه ارتسام صورة المخلوق. ومنها: أن يقال: إذا كان العقل المعلول إنما يستفيد علمه بالموجودات من علمه بالأول، وهي ليست متصورة في ذات الأول، فكيف يتصور في ذات العقل ما لم يتصور في ذات معلومة؟ وكيف يكون الفرع أكمل من أصله؟. فإن قيل: علمه بالأول ومعلولاته يوجب الارتسام، فاستفاد ذلك من علمه بوجوده، لا من علمه بعلمه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 80 قيل: إذا كان هذا صفة كمال، فالأول أحق به، وإن كان نقصاً وجب تنزيه العقل عنه. الوجه التاسع عشر قوله: والأول الواجب يعقل تلك الجواهر مع تلك الصور، لا بصور غيرها، بل بأعيان تلك الجواهر والصور، وكذلك الوجود على ما هو عليه، فإذن لا يعزب عنه مثقال ذرة، من غير لزوم محال من المحالات المذكورة. فيقال له: ما هي الصورة التي يعقلها مع الجواهر؟ أهي صورة عقلية قائمة به؟ فهذا عندك باطل، وليس عندك إلا الموجودات. أم صور أخرى منفصلة عنه مقارنة للموجودات، فيكون علمه بها خارجاً عن ذاته مقارناً لها؟ وهذا أيضاً باطل كما تقدم. أم تعني بالصور الماهيات التي تدعي أنت وسلفك أنها ماهيات غير مجعولة مقارنة للموجودات؟ فتلك لم تذكرها، وكيف نعلمها وهي عندك غير مجعولة له، حتى يكون جعله لها يوجب العلم بها كما ذكرت؟ ولم يرد شيئاً من ذلك، وإنما أراد بالصور: الصور العقلية القائمة بالجواهر، أي تعقل الجواهر، وتعقل عقلها للموجودات. ومن جملة عقلها للموجودات عقلها له، فهو يعلم علمها له ولكل شيء، وهو نفسه ليس له علم عنده إلا وجود المخلوقات. فهل هذا القول إلا من أعظم الأقوال فساداً في العقل والدين؟. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 81 ثم قوله: يعقل تلك الجواهر بأعيان تلك الجواهر من العجب، فإنه ليس عنده موجود إلا تلك الجواهر، فما العقل الذي يكون به؟ أهو عقل يتصف به؟ فعنده لا يتصف بعقل يقوم به، بل عقله نفس مخلوقاته. فحقيقة قوله: إنه يعقل تلك الجواهر التي هي عقله، وهي معقوله، ليس له عقل يقوم به. الوجه العشرون أن يقال: حقيقة القول هذا الرجل، هو قول غلاة النفاة للعلم من سلفه، وهو أن الخالق تعالى لا يعلم شيئاً: لا نفسه ولا غيره، فإن العلم لا يكون إلا بقيام صفة به، وإذا كان قيام الصفات به ممتنعاً عندهم، امتنع كونه عالماً بنفسه وبغيره فهذا حقيقة ما قاله. وأما كون المخلوقات هي العلم، فكلام لا حقيقة له، وإن كان يظن من يجهل معناه أن فيه إثباتاً لعلم الله، فمن تصوره حق التصور علم أنه ليس فيه إثبات لعلم الله، وعلم بذلك أن ابن سينا وابن رشد وأبا البركات ونحوهم من الفلاسفة أقرب إلى صحيح المنقول وصريح المعقول، من النفاة الملحدين الذين قالوا في علم الله مثل هذا الافتراء. ومعلوم أنه إنما دعاهم إلى ذلك القول بنفي الصفات، والأحوال الاختيارية التي تقوم بذات الله، وظنهم أن ذلك مستلزم للكثرة التي يجب نفيها، ومستلزم لتغير الأحوال الذي يجب نفيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 82 ونفي هذين هو الذي أوقع نفاة العلم في نفيه، فإنهم رأوا إثبات العلم لا يمكن إلا مع إثبات الصفات اللازمة والأحوال العارضة، وظنوا وجوب نفي هذين. وإذا كان العلم مستلزماً لهذين، فلازم الحق حق، لا سيما ومهما قدر من توهم تنزيه وتعظيم في نفي لوازم العلم -لأن ثبوت العلم مستلزم ما يظن نقصاً من تجسيم وحلول حوادث وغير ذلك- فنفي العلم فيه من النقص والعيب ما هو أحق بتنزيه عنه من لوازم العلم، ونفي ما يناقض العلم هو أولى بالنفي، من نفي لوازم العلم. والأدلة العقلية الصريحة، مع النقلية الصحيحة، إنما تدل على إثبات العلم ولوازمه، لا يدل شيء منها على نقيض ذلك، بل كل ما يظن من لوازم العلم أنه منفي بدليل العقل، يوجب ثبوته لا نفيه، ولكن هم استسلفوا مقدمات باطلة ظنوها عقلية، واحتاجوا إلى القول بلوازمها، فألجأهم ذلك إلى الأقوال الباطلة المخالفة لصريح العقول وصحيح المنقول، مع أنها من أعظم الفرية على رب العالمين، وأعظم الجهل بما هو عليه سبحانه من نعوت الكمال. دع ما في ذلك من تكذيب رسله، والإلحاد في أسمائه وآياته. والمقدمات الفاسدة التي بنوا عليها أقوالهم هي نفيهم صفاته سبحانه، وظنهم أنه لا تقوم به المعاني، وإن كانت قديمة النوع أو العين، ولهذا كان من تكلم منهم مع التزام هذا الأصل، فكلامه ظاهر البطلان، مع ما فيه من التناقض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 83 وقد تكلم في ذلك السهروردي المقتول صاحب التلويحات وحكمة الإشراق وغيرهما، مع تألهه على طريقتهم، ومع أنه في حكمة الإشراق سلك طريقاً لم يقلد فيها المشائين، بل بين فساد أقوالهم فيها في مواضع، وكان كلامه في مواضع متعددة خيراً من كلامهم، وإن كانت سمة الإلحاد تتناولهم كلهم. فالمقصود بيان الحق، وإذا كان بعضهم ينازع بعضاً ويرد عليه، وكان أحدهما أقرب إلى الحق في ذلك الموضع من الآخر، كان بيان رد بعضهم على بعض بما قاله من الباطل مما يؤيد الله به الحق. فرد عليهم دعواهم أن العقول عشرة. وهؤلاء المتأخرون يقولون: إنها الملائكة بلسان أهل الملل، ويسميها صاحب حكمة الإشراق الأنوار، ويقول: إن قدماء الفلاسفة وفلاسفة الفرس والهند يقولون: هي كثيرة أكثر مما أثبته المشاؤون، مع أنا قد بينا في غير هذا الموضع أن ما أثبته المشاؤون من العقول لا حقيقة له في الخارج البتة، وإنما الحق ما أثبته الله ورسوله من الملائكة التي أخبرت بها الأنبياء، ودلت عليها الدلائل العقلية. والمقصود هنا مسألة العلم. كلام السهرودي في حكمة الإشراق قال السهروردي: فصل لما تبين أن الإبصار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 84 ليس من شرطه انطباع شبح أو خروج شيء، بل كفى عدم الحجاب بين الباصر والمبصر، فنور الأنوار ظاهر لذاته فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، لا يحجبه شيء عن شيء، فعلمه وبصره واحد، ونوره قدرته، إذ النور مباين لذاته. قال: والمشاؤون وأتباعهم قالوا: علم واجب الوجود ليس بزائد عليه، بل هو عدم غيبته من ذاته المجردة عن المادة. وقالوا: وجود الأشياء عن علمه بها. قال: فيقال لهم: إن علم لزم من العلم شيء، فيقدم العلم على الأشياء وعلى عدم الغيبة، فإن عدم الغيبة عن الأشياء يكون بعد تحققها، فكما أن معلوله غير ذاته فالعلم بمعلوله غير العلم بذاته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 85 قال: وأما ما يقال: إن علمه بلازمه منطو في علمه بذاته، فكلام لاطائل تحته، فإن علمه سلبي عنده، فكيف يندرج العلم بالأشياء في السلب؟ والتجرد عن المادة سلبي، وعدم الغيبة أيضاً سلبي، فإن عدم الغيبة لا يجوز أن يعني به الحضور، إذ الشيء لا يحضر عند ذاته، فإن الذي حضر غير من يكون عنده الحضور، فلا يقال إلا في شيئين -بل أعم، فكيف يندرج العلم بالغير في السلب؟ ثم الضاحكية غير الإنسانية، فالعلم بها غير العلم بالإنسانية، والضاحكية علمها عندنا ما انطوى في الإنسانية، فإنها ما دلت مطابقةً أو تضمناً عليها، بل دلالةً خارجية، فإذاً الضاحكية التي احتجنا في العلم بها غلى صورة أخرى، ودون تلك الصورة إنما هي معلومة لنا بالقوة. قال: وما ضربوه من المثال في الفرق بين العلم التفصيلي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 86 بمسائل، وبين العلم بالقوة بها، كمسائل ذكرت، فوجد الإنسان من نفسه ملكةً وقدرة على الجواب لهذه المسائل المذكورة فهذه القوة أقرب مما كانت قبل السؤال، فإن القوة مراتب، ولا يكون عالماً بجواب كل واحدة على الخصوص ما لم يكن عنده صورة كل واحد، وواجب الوجود منزه عن هذه الأشياء. ثم إذا كان ج غير باء فسلب باء كيف يكون علماً بهما، وعنايةً بكيفية ما يجب أن يكونا عليه من النظام، وإن كان علمه بالأشياء هو العلم المتقدم؟. قال: فإذاً الحق في العلم هو قاعدة الإشراق، وهو أن علمه بذاته هو كونه نوراً لذاته وظاهراً لذاته، وعلمه بالأشياء كونها ظاهرةً له، إما أنفسها أو متعلقاتها التي هي مواضع الشعور الجزء: 10 ¦ الصفحة: 87 المستمر للمدبرات العلوية. وذلك إضافة، وعدم الحجاب سلبي. قال: والذي يدل على أن هذا القدر كاف، هو أن الإبصار إنما كان بمجرد إضافة ظهور الشيء للمبصر. مع عدم الحجاب. فإضافته إلى كل ظاهر له إبصار إدراك له، وتعدد الإضافات العقلية لا يوجب تكثراً في ذاته. قال: وأما العناية فلا حاصل لها. الرد عليه فيقال: قد بين هو بطلان قولهم، وما أختاره هو أيضاً باطل، فإن قوله: علمه بذاته كونه نوراً لذاته وظاهراً لذاته، علمه بالأشياء كونها ظاهرة له، وذلك إضافة، وعدم الحجاب أمر سلبي. يقال له: هذا الذي أبنته من الظهور والإضافة ورفع الحجاب هو عدم محض، أو يتضمن أمراً ثبوتياً، فإن كان عدماً محضاً لم يكن هناك علم أصلاً، فإنا نعلم بصريح العقل أن علم العالم بالمعلومات ليس عدماً محضاً، بل نعلم أن قولنا: لا يعلم هو العدم، فنعلم أن نفي العلم عدم، وإثباته وجود. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 88 ومما يبين ذلك أن ثبوت العلم ونفيه يتناقضان، فإن كان ثبوته عدماً، فنفيه ثبوت، فيلزم إذا قيل: لا يعلم أن نكون أثبتنا شيئاً. ومعلوم أن هذا قلب للحقائق. وأما قوله: والذي يدل على أن هذا القدر كاف، هو أن الإبصار إنما كان بمجرد إضافة ظهور الشيء للمبصر، مع عدم الحجاب. فيقال: إن ادعيت أن الإبصار الذي هو ظهور المبصر للبصر إضافة هي عدم محض، كان القول في هذه المقدمة كالقول في الدعوى. فإن الإنسان يحس من نفسه عند الرؤية أمراً وجودياً مخالفاً لحالة عدم الرؤية، كما يجد من نفسه ذلك في العلم. فدعوى كون الرؤية أمراً عدمياً، مثل دعوى كون العلم أمراً عدمياً، ومضمون الأمرين أن الحس والعقل أمر عدمي، وأن مشاهدة المحسوسات والعلم بالمعقولات أمر عدمي. ومعلوم أن من لم يشهد شيئاً ولم يعلمه، فقد عدم الرؤية والعلم، فإن كان بعد الرؤية والعلم لم يحصل له إلا عدم، فلا فرق بين أن يرى ويعلم، وبين أن لا يرى ولا يعلم. وهذا تسوية بين الأعمى والبصير، العالم والجاهل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 89 وأصدق الكلام كلام الله الذي قال: {وما يستوي الأعمى والبصير} [فاطر: 19] وقال: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9] . ومعلوم بصرائح المعقول أن البصير أكمل من الأعمى، والعالم أكمل من الجاهل. ومعلم هؤلاء أرسطو زعم أنه سبحانه أن لا يعلم ولا يبصر أفضل في حقه من أن يعلم ويبصر. وهؤلاء الذي خالفوا معلمهم واستقبحوا له هذا القول، وأثبتوا له أمراً حال الرؤية والعلم يمتاز به عن حاله إذا لم ير ولم يعلم، فذاك فضل الجاهل الأعمى على العالم المبصر، وهؤلاء يلزمهم التسوية بينهما. وأيضاً فيقال له: قولك: علمه بذاته كونه نوراً لذاته، وظاهراً لذاته، وعلمه بالأشياء كونها ظاهرة له إن أردت بقولك: كونه نوراً لذاته، وظاهراً لذاته أي كونه مرئياً لذاته، ومعلوماً لذاته -كان حقيقة الكلام: علمه بذاته كونه معلوماً لذاته. وهذا أمر معلوم، ليس فيه قدر زائد على ما دل عليه قولنا: هو عالم بذاته. وإن أردت بذلك: أن علمه بذاته كونه في نفسه بحيث يظهر لذاته نوراً يتجلى لذاته -كان المعنى. أن علمه بذاته معناه: أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 90 ذاته متصفة بما يجب لأجله أن يظهر لذاته، فهي متصفة بما يوجب أن تكون معلومة له ظاهرة. وكذلك إن أردت أنها متصفة بما يوجب أن تكون عالمة ظاهراً لها غيرها. وكذلك إن فسر بما يوجب كونها عالمة معلومة، فسواء فسر ذلك بنفس كونه عالماً أو معلوماً أو مجموعهما، أو رائياً أو مجموعهما، إنما يوجب أحد هذه الأمور الستة. فهذا كله لا يمنع كون العلم صفة ثبوتية، ولا يقتضي أن العلم مجرد نسبة عدمية، بل إذا فسره بمجرد أمر عدمي، كان هذا بمنزلة القول الذي رده، وهو قولهم: إنه ليس بزائد عليه، بل هو عدم غيبته عن ذاته المجردة عن المادة، فإذا كان يجعل الظهور الذي أثتبه أمراً عدمياً، فهو بمعنى عدم الغيبة الذي أثبتوه. وأكثر ما يقال إنهم جعلوا العلم نفس عدم الغيبة، وأنا أجعله نسبة تستلزم عدم الغيبة، فهم فسروه بعدم الغيبة، وأنا أفسره بالنسبة. فيقال له: هذه النسبة: إن لم تكن موجودة فهي من جنس عدم الغيبة. ويقال للجميع: عدم الغيبة يكون معه علم بنفسه، أو مجرد عدم الغيبة عن نفسه هو العلم؟. فإذا قالوا بالأول، أصابوا، وهو قول الرسل. وإن قالوا: بل نفس عدم الغيبة هو نفص العلم، كان هذا معلوم البطلان، فإنه ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 91 من موجود من الموجودات إلا وليس هو غائباً عن نفسه، مع كونه كثير منها ليس عالماً بنفسه، فعلم أن حقيقة العلم أمر مغاير لحقيقة عدم الغيبة. وإن قالوا: إنما قلنا: هو عدم غيبته عن ذاته المجردة قيل: الجواب من وجوه: أحدها: أن حقيقةالعلم: إن كان هو عدم الغيبة لم يختلف ذلك بمعلوم ومعلوم. فإن العلم يتعلق بكل معلوم، وكل شيء يمكن أن يكون معلوماً، وهو غير غائب عن ذاته، فيجب أن يكون كل شيء معلوماً لنفسه، ويكون علمه بنفسه أولى من علم غيره به، لكون عدم غيبته عن نفسه أولى من عدم غيبته عن غيره. الثاني: أن الشيء كما لا يغيب عن نفسه قد لا يغيب عن غيره، فإن كان العلم عدم الغيبة، فكل ما كان حاضراً لشيء يجب أن يكون عالماً به. الثالث: أن يقال: عدم غيبته عن ذاته المجردة، ما تعنون بقولكم: المجردة؟ إن أردتم ذاته المعقولة أو المعلومة، أو التي يمكن أن تعقل أو تعلم، ونحو ذلك من العبارات الدالة على كونه عالماً أو معلوماً، أو يمكن كونه عالماً أو معلوماً ... كان معنى الكلام: أنه عدم الغيبة عن ذاته التي هي عالمة أو معلومة أو يمكن أن تكون كذلك. ومعلوم أن هذا أيضاً عدم، فكل ما كانت ذاته عالمة ومعلومة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 92 إذا لم تغب ذاته عن ذاته، كان عالماً بها. وأما إن أمكن أحدهما دون الآخر لم يجب ذلك، وإن أمكنا معاً، فعدم الغيبة يستلزم العلم، وعدم الغيبة مستلزم للعلم، لا أنه نفس العلم. وإن قال: أعني بالمجردة أنها ليست جسماً ولا مدبرة لجسم. فيقال: أولاً: هذا بناء على ثبوت مجردات بهذا الوصف. وجمهور العقلاء ينكرون هذا -حتى من يعظم هؤلاء الفلاسفة المشائين: أرسطو وأتباعه، لما تأملوا كلامهم في العقول والنفوس وجدوه باطلاً -إما أن يقولوا: ليس قائماً بنفسه إلاالجسم، كما يقوله ابن حزم وغيره. وإما أن يقولوا: الفرق بين النفس والعقل، ليس إلا فرقاً عارضاً، كنفس الإنسان، التي هي حال مقارنتها للبدن: نفس، وحال مفارقتها: عقل، كما يقوله أبو البركات وغيره. وإما أن يقولوا: هذه العقول، التي يثبتها هؤلاء المتفلسفة، لا تزيد على العقل، الذي هو عرض قائم بعاقل. وإثبات عقل، هو قائم بنفسه ليس جسماً، هو باطل. وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر. والمقصود أن لفظ التجريد فيه إجمال. وإذا فسروه فقد يفسرونه بما يعلم بطلانه، أو بما لا دليل على صحته. الوجه الرابع: أن يقال: هب أنه ثبت التجريد بالمعنى الذي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 93 يدعونه، لكن شعور الشيء بنفسه ليس مشروطاً بكونه مجرداً، ولا مجرد كونه مجرداً موجب للعلم بنفسه، فإنه إن قدر أن المجرد ليس بحي، لم يكن شاعراً، فضلاً عن أن يعلم أنه عالم. وإذا قيل: كل مجرد حي. قيل: فلا بد أن يقال هذا بالدليل، فإن هذا ليس معلوماً بنفسه. وأيضاً فكل حي شاعر، سواء قيل: إنه مجرد، أو قيل: إنه ليس بمجرد. فبدن الإنسان يشعر بأمور كثيرة، مع كونه جسماً غير مجرد عن المادة على اصطلاحهم. وأما ما اعترض به على قولهم: إن وجوده بالأشياء عن علمه بها، وأن هذا يوجب كون الأشياء معلومة له قبل وجودها، فتكون ثابتة في علمه، وهي أشياء في علمه، فيلزم كون علمه أمراً ثبوتياً، ويلزم التعدد في علمه -فاعتراض متوجه. وكذلك إذا فسروا العلم بعدم الغيبة عنها، فعدم الغيبة لا يكون إلا بعد تحققها، فيلزم أن يكون عالماً بها بعد تحققها، وأن ذلك مغاير لعلمه بها قبل وجودها، فإن ذلك العلم سبب وجودها بخلاف الثاني. وكذلك قوله: كما أن معلوله غير ذاته، فالعلم به غير العلم بذاته. وهذا لازم، لأنهم إنما نفوا كون العلم ثبوتياً لما يستلزم من تكثر العلوم وتغيرها، إذ كان العلم بهذا غير العلم بهذا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 94 وإذا قالوا: إنه يعلم معلوله، ويعلم نفسه، لزم أن يكون هذا العلم ليس هذا العلم. وأما قولهم: إن علمه بالمعلول يندرج في علمه بالعلة، فقد رده بأمور: أحدها: أن العلم عندهم سلبي، وكذلك التجرد عن المادة، وكذلك عدم الغيبة. والسلب لا يتضمن العلم بالأشياء، وهذا الذي قاله صحيح، مع ما تقدم من أن ذلك السبب ليس هو علماً، فلا هو علم، ولا متضمن لعلم. وإذا قدر أن ذلك السلب علم، كان تقديراً باطلاً. وحينئذ فهل يقال: إنه يتضمن غيره من السلوب. هذا مما قد ينازعونه فيه. ولكن له أن يقول: إن السلب إنما يتضمن غيره غذا كان أعم منه. وليس هنا سلب عام ليتضمن سلباً خاصاً، بل السلب عندهم نفي معنى زائد على نفسه، أو نفي المادة عنه، أو نفي الغيبة عنه، وكل هذا سلب خاص لا يتضمن سلباً عاماً. الأمر الثاني: أنه قد بين لهم أن المندرج في غيره هو ما يدل عليه بالتضمن لا بالالتزام، فالدال على غيره بالالتزام لا بالتضمن لا يكون مشتملاً عليه، ولا يكون الثاني مندرجاً فيه. ومثل ذلك اللوازم الخارجة عن الماهية على أصلهم، كالضاحكية. فإن الإنسانية ما انطوت على الضاحكية ولا انطوى علم الضاحكية في علم الإنسانية، فإنها ما دلت عليها مطابقةً ولا تضمناً، بل دلالة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 95 خارجية، فإن هذه اللوازم التي احتجنا في العلم بها غلى صورة أخرى، إنما هي معلومة لنا بالقوة لا بالفعل. فإذا جعلوا علمه بمفعولاته كذلك، لزم أن يكون عالماً بها بالقوة لا بالفعل. وهم قد يضربون لقولهم مثالاً، وهو العلم بالأشياء جملة، مع العلم بها تفصيلاً، فإن العلم بالمفصل يندرج في العلم بالمجمل. وإن كان العلم بالمجمل متضمن تلك التفاصيل، وشبهوا ذلك بمن سئل عن مسائل، فقد يستحضر العلم بجوابها مفصلاً، وقد يجد من نفسه علماً بجوابها مجملاً، لم يستحضر العلم بجوابها مفصلاً، وقد يجل من نفسه علماً بجوابها مجملاً، لم يستحضر تفصيله فيما بعد، فأجاب بأن هذا علم بالقوة، والقوة مراتب، فهو بعد السؤال حصل له من القوة على الجواب، أعظم مما كان حاصلاً قبله. وأما العلم بجواب كل مسألة بخصوصها، فلا يحصل إن لم يكن عنده صورة العلم بجواب كل واحدة. ثم ادعى الأصل الذي شاركهم فيه وهو قوله: وواجب الوجود منزه عن ذلك بناءً على أنه عندهم لا تقوم به المعاني والصفات المتعددة ومن هذا الأصل منشأ ضلالهم. قال: وإذا كان أحد الشيئين غير الآخر، فكيف يكون سلب أحدهما علماً بهما، وعناية بكيفية ما يجب أن يكونا عليه من النظام؟ وذلك أنهم يقولون: هو وجود مجرد عن المادة، والمجردات غير الماديات، فكيف يكون سلب المادة علماً بالمجرد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 96 والمادة، وعناية بكيفية ما يجب أن يكونا عليه من النظام؟ كيف وهم يقولون: إنه وجود مشروط بسلب كلام ثبوتي، فهو وجود بسلب كل ما يعرف من الحقائق، وتلك الحقائق مغايرة له، فكيف يكون سلبها عنه علماً به وبها؟ وعناية بكيفية ما يجب أن تكون الحقائق معه عليه؟. فحقيقة قولهم: إنهم جعلوا العلم به، والعلم بكل واحد واحد من المخلوقات، وعنايته بالمخلوقات المتضمنة لإرادته وحكمته، التي باعتبارها انتظمت المخلوقات -جعلوا هذا كله أمراً سلبياً، وهو التجرد، أو عدم الغيبة، أو العقل الذي ليس بمعنىً زائد على ذاته، وهو عندهم وجود مقيد بسلب جميع الحقائق عنه، وهذا مما يعلم بصريح العقل بطلانه في الخارج. فإن الموجودين لا يكون المميز بينهما عدماً محضاً، ولو قدر ثبوت هذا لكان كل موجود خيراً منه، لأنه امتاز بوصف ثبوتي. ومن قال من متأخريهم: له وجود خاص غير هذا الوجود، فلم يعرف حقيقة قولهم. فإن الوجود الخاص إن امتاز بأمر وجودي، فليس هو قولهم. وإن لم يميز إلا بالسلب، فيكون هذا هو الموجود، قد شارك الموجودات في مسمى الوجود، وامتاز عنه بالسلب، فتكون سائر الموجودات خيراً منه، لو كان له وجود. وبيان بطلان أقوالهم النافية للصفات يطول، وإنما القصد هنا إبطال بعضهم لقول بعض، فإن هذا يؤنس نفوساً كثيرة، قد تتوهم أنه ليس الأمر كذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 97 فصل. تابع كلام ابن سينا في مسألة علم الله تعالى فصل. تابع كلام ابن سينا في مسألة علم الله تعالى قال ابن سينا في تمام مسألة العلم: ونحن قد بينا في كتب أخرى أن كل صورة لمحسوس، وكل صورة خيالية، فإنما ندركها بآلة متجزئة. فيقال له: هذا إن كان حقاً، فهو منتقض على أصلك بعلمه بالأفلاك والكواكب، فإنها محسوسة، وعندك أنه يعلمها بأعيانها. وقد قال في بيان أن كل صورة لمحسوس وكل صورة خيالية، فإنما ندركها بآلة متجزئة، وأن مدرك الجزئيات لا يكون عقلاً بل قوة جسمانية: أما المدرك من الصور الجزئية، كما تدركه الحواس الظاهرة على هيئة غير تامة التجريد والتعرية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 98 عن المادة ولا نجرده أصلاً عن علائق المادة. فالأمر فيه واضح سهل. وذلك لأن هذه الصور إنما تدرك ما دامت المواد موجودة حاضرة، والجمس الحاضر الموجود إنما يكون موجوداً حاضراً عند جسم. وليس يكون حاضراً عند ما ليس بجسم، فإنه لا نسبة له غلى قوة تفرده من جهة الحضور والغيبة،، فإن الشيء الذي ليس في مكان لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده، والغيبة عنه، بل الحضور لا يقع إلا مع وضع وقرب أو بعد للحاضر عند المحضور، وهذا لا يمكن إذا كان الحاضر جسماً، إلا أن يكون المحضور جسماً او في المحضور، وهذا لا يمكن إذا كان الحاضر جسماً، إلا أن يكون المحضور جسماً أو في جسم. قال: وأما المدرك للصور الجزئية على تجريد تام من المادة، وعدم تجريد البتة من العلائق كالخيال، فهو لا يتخيل إلا أن ترتسم الصورة الخيالية فيه في جسم ارتساماً مشتركاً بينه وبين الجسم. قال: ولتفرض الصورة المرتسمة في الخيال: صورة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 99 زيد على شكله وتخطيطه، ووضع أعضائه بعضها عند بعض، فنقول: إن تلك الأجزاء والجهات من أعضائه يجب أن ترتسم في جسم، وتختلف جهات تلك الصورة في جهات ذلك الجسم وأجزاؤها في أجزائه. قال: ولننقل صورة زيد غلى صورة مربع. ثم فرض مربعين متساويين من كل جهة، وقرر أنه لا يمتاز أحدهما عن الآخر إلا بمحله. معارضة ابن ملكا لابن سينا وقد اعترض عليه أبو البركات بما مضمونه أن الأجسام المرئية والمتخيلة كثيرة، ومحل ذلك في الجسم لا يكون أكثر من مجموع جسم الإنسان، وجسم الإنسان لا يسع مقادير هذه الأجسام. قال أبو البركات: أول المعارضة أن نناقض فنقول وندعي نقيض المسألة المصدر بها، وهو أن مدرك الجزئيات فينا من المبصرات والمسموعات وسائر المحسوسات ليس بقوة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 100 جسمانية ... وإذا ثبت في هذه التي هي الأظهر، صار بطلانه في النقيض الأخفى والأضعف يقيناً. قال: وذلك أن القوة الجسمانية فينا لا يكون محلها أكبر من جسم الإنسان الواحد بجملته. وقد قالوا: إنه جزء صغير من أجزائه، حيث جعلوا محل القوة الخيالية جزءاً من جوهر الدماغ، الذي في البطن المقدم من الرأس، أو جزءاً من الروح الدماغي، وهو الذي يختص بهذا الجزء منه. ونحن فندرك من المتخيلات ونتصور من الموجودات الجزئية أشياء كثيرة محفوظة في أذهاننا وملحوظة، بها يكون الواحد منها أضعافاً كثيرة لجسمنا بأسره، فكيف للجزء المذكورة من بعض أجزائه. قال: وهو فقد طلب في احتجاحه الأخير جسماً يتخيل به السواد والبياض، ليثبت كلاً منهما في جزء منه، غير الجزء الذي أثبت فيه الآخر، فكيف أعرض عن المقدار؟ ونحن إنما ندرك الألوان في الأجسام مع مقاديرها، حتى غذا رأيناها مرة أخرى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 101 على قدر مخالف عرفنا أنها زادت أو نقصت، فلو لم نكن أدركنا المقدار الأول لما حفظناه، ولو لم نحفظه لم نعرف الزيادة والنقصان. هذا في شخص واحد في تمثله وتخيله، فكيف في أشخاص كثيرة جداً نحفظها بأشكالها وصورها، ومقاديرها وأوضاعها، لا تسعها خزانة من خزائن تسع عدة من أشخاص الناس؟ بل ولا بلدة من أكبر البلدان؟ فإن من جملة ما نحفظه في ذلك صورة بلدة مع مقدارها الكبير، وأوضاع أجزائها، حتى لو صغرت أو كبرت عن ذلك، شعرنا بموضع الزيادة والنقصان مقيساً إلى ما استثبتناه وحفظناه. قال: ففي هذا كفاية لمن تأمله بذهن سليم ونظر ثابت. قال: وأما ما قاله من أن المدرك بالحواس الظاهرة فالأمر فيه سهل واضح، لأن هذه الصورة إنما تدرك ما دامت المواد حاضرة موجودة، والجسم الحاضر الموجود إنما يكون حاضراً موجوداً عند جسم، وليس يكون حاضراً عند ما ليس بجسم، فإنه لا نسبة للجسم إلى قوة مفردة من جهة الحضور والغيبة، فإن الشيء الذي ليس في مكان، لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده، والغيبة عنه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 102 قال: وأعجب ما في هذا القول استسهاله، أذ قال: إن الأمر فيه واضح سهل، ولو كان هذا القول حقاً على ما قيل، لبطلت علائق النفوس الناطقة بالأبدان، فإنها ينسب إليها بفي، ومع، وعند، ومقارنة، ومفارقة، وغيبة، وحضور، كما ينسب المدرك غلى مدركه. ثم لو كان هذا حقاً، لما أدركنا بعقولنا معنى شيء مما ندركه بحواسنا البتة، فإن رأيه هو أن البصر يرفع صورة المبصر غلى الخيال، وهو جسماني، فالعقل إن أدركها في الخيال فقد أدركها جسمانية أيضاً، وإن إدركها قوة جسمانية في الخيال، نقلها إلى قوة أخرى، فأدركها العقل فيها -كان القول كذلك أيضاً، ولو كانت الوسائط ما كانت، إذ كان أو لما يلقاها إما أن يلقاها في قوة جسمانية، فيكون حكمها حكم الأولى، وإما أن يلقاها في قوة مجردة، فحكمها حكم العقل. فإن قيل: إن العقل لا يدركها في القوة الجسمانية، بل يرفعها إليه، وينتزعها منه، أو يجردها، فكل تلك العبارات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 103 المقولة تقتضي لقاءً من الرافع للمرفوع إليه، وحضوراً من المرفوع عند الرافع، وكذلك من المنتزع عند المنتزع منه، والمجرد عند المجرد عنه. فلولا نسبة لقاء وحضور، وما شئت سمه للنفس إلى البدن، لما كان آلة لها، وإلى المدركات لما أدركها، ولو لم يدركها لما عقلها كليةً ولا جزئية، وكيف والشيء المدرك واحد في معناه، والكلية تعرض له بعد كونه مدركاً باعتبار ونسبة وإضافة، بالمشابهة والمماثلة إلى كثيرين، وهو هو بعينه؟ وإذا اعتبر من حيث هو لم يكن كلياً ولا جزئياً، وإنما يدرك من حيث هو موجود، لا من حيث هو كلي ولا جزئي، وتعرض له الكلية والجزئية في الذهن بعد إدراكه، فمدرك الكلي هو مدرك الجزئي لا محالة، لأن الكلي هو الجزئي في ذاته ومعناه، لا في نسبه وإضافاته التي صار بها كلياً وجزئياً. تعليق ابن تيمية فيقال: ما ذكره أبو البركات يدل على تناقض ابن سينا، حيث زعم أنه ما ليس في مكان، لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده، والغيبة عنه، وذكر أن الأمر في ذلك واضح سهل، فإن هذا مناقض لقوله: إن النفس ليست جسماً، مع أن الجسم حاضر عندها، لكن هذا التناقض يدل على بطلان أحد قوليه: إما قوله: إن النفس ليس جسماً، وإما قوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 104 ما ليس في مكان لا يكون للمكان إليه نسبة في الحضور عنده والغيبة عنه. ولا يلزم من ذلك أن تكون هذه القضية هي الكاذبة، بل قد تكون الكاذبة قوله: إن النفس ليس إلا جسماً. ونظير هذا التناقض قوله: إن واجب الوجود يعقل من ذاته ما هو مبدأ له، وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها، فيعقل الموجودات التامة بأعيانها، والكائنة الفاسدة بأنواعها ويتوسط ذلك أشخاصها، فإنه إذا كان واجب الوجود يعقل الأفلاك بأعيانها وهي أجسام، وقد قال: إن الجسم لا يرتسم إلا في جسم لزم أن يكون جسماً. ومع قوله: ما ليس في مكان لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده، والغيبة عنده. ومع قوله: الجسم الحاضر الموجود، إنما يكون حاضراً موجوداً عند جسم، وليس يكون حاضراً عند ما ليس بجسم. فهذه الأقوال إذا ضم بعضها إلى بعض، لزم أن يكون واجب الوجود على قوله جسماً، وأن تكون النفس على أقواله أيضاً جسماً. وما ذكره أبو البركات إنما هو إلزام لابن سينا بطريق المناقضة، وليس فيه ما يدل على بطلان ما ذكره من الإدراك، وإنما احتج أبو البركات على بطلان ذلك بأن المدركات كبار، والمدرك إذا كان جسماً أو قوة في جسم فهو صغير لا يسعها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 105 وهذه حجة ضعيفة، فإن القائلين بارتسام المدرك في المدرك لا يقولون: إن المرتسم فيه مساو في المقدار للموجود في الخارج، كما أنهم لا يقولون: إن المرتسم حقيقته مساوية لحقيقة الموجود في الخارج. وإنما هذا من جنس اعتراض الرازي عليهم، بأنه لو كان من أدرك النار وجب أن يسخن، ومن أدرك الثلج وجب أن يبرد، ومن أدرك الرحى وجب أن يدور، ونحو ذلك مما لا يقوله عاقل. ولهذا صاروا يتعجبون، بل يسخرون ممن يورد عليهم مثل هذا، وهم يشبهون تمثل المدركات في المدرك بتمثل المرئيات في المرآة. ومعلوم أن ما في المرآة ليس مماثلاً في الحقيقة والمقدار للموجود في الخارج. أما حقيقته، فلأن غايته أن يكون عرضاً في المرآة، والمرئي الخارج يكون جسماً موجوداً، كالسماء والشمس والإنسان، وغير ذلك مما يرى في المرآة. وكذلك الإدراك، فإنه عرض قائم بالمدرك. والمدرك نفسه يكون عيناً قائمة بنفسها، سواء كان مرئياً أو معلوماً بالقلب. وأما قدره، فلأن مقدار المرئي يختلف باختلاف المرآة، فإذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 106 كانت كبيرة رئي كبيراً، وإذا كانت صغيرة رئي صغيراً، وهو على التقديرين يشبه الصورة الموجودة في الخارج. فكذلك إذا قيل: إن المدرك يتمثل في المدرك، لم يلزم أن يكون قدره في المدرك مثل قدره في نفسه. ولهذا يقال: للشيء وجود في الأعيان، وفي الأذهان، وفي اللسان، وفي البنان، ووجود عيني، وعلمي ولفظي، ورسمي. ومعلوم أن مطابقة العلمي للعيني، هي مطابقة العلم للمعلوم، ليس كمطابقة الموجود في الخارج لمماثله الموجود في الخارج. فإن هذا لا يقوله عاقل، بل العاقل يجد تفرقة ضرورية بين ما تمثله في نفسه، وبين الحقائق الموجودة في الخارج. ومن أظهر ذلك الخيال، فإنه يتخيل ما رآه بعد مغيبه عنه، وفي حال تغميض عينيه ونومه، ويعلم قطعاً أنه خياله ومثاله، وأنه مشابه له، ويعلم قطعاً أن ذلك المثال في الباطن لا في الخارج، سواء قيل: إنه منطبع في النفس، أو في جزء من البدن، أو فيهما، وسواء قيل: إن النفس تدركه، أو قيل: إن المدرك له هو البدن. فعلى كل تقدير يعلم الناس فرقاً ضرورياً بين حقيقة ذلك المثال، وبين حقيقة الموجود في الخارج، وأنه لا يماثله: لا في ذاته، ولا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 107 صفاته، ولا مقداره، ولكن يشابهه ويحكيه نوع مشابهة وحكاية، والمشابهة من وجه لا تقتضي المماثلة في الذات والصفات والمقدار. وهذا المثال الإدراكي لا يمتنع في اجتماع ما هما ضدان في الخارج، بل يجتمع فيه مثال السواد والبياض، ويجتمع فيه المثلان كالسوادين، ويجتمع فيه مثال وجود الشيء وعدمه، فيجتمع فيه تقدير الوجود والعدم، لا يمتنع فيه اجتماع مثالي النقيضين، كما امتنع اجتماع النقيضين في الخارج، ويتمثل فيه الموجود والمعدوم والممتنع، وما له وجود في الخارج، وما ليس وجود في الخارج. فهو أوسع بهذا الاعتبار من الوجود الخارجي. لكن تلك الأمور مثل خيالية، ليست حقائق موجوده في أنفسها. وقد يشتبه على بعض الناس ما يتخيله فيه، فيظنه موجوداً في الخارج، وطائفة من فلاسفة الصوفية، كابن عربي، يسمي هذا أرض الحقيقة، ويذكر فيه من العوالم وأنواعها وأقدارها ما يطول وصفه. وذلك أن الخيال لا حد له، بل تخيلات النفوس لما ليس له وجود في الخارج، أعظم من أن تحصر. فهؤلاء الضالون قالوا: هذا أرض الحقيقة، وهو عالم الخيال. وقد يشتبه على بعضهم فيظنه في الخارج، ويتخيل لهم فيه مدائن ورجال عوالم، كما يتخيل للنائم. ويتخيل لأحدهم أنه صار إلهاً ونبياً، أو أنه المهدي، أو خاتم الأولياء، غلى غير ذلك مما يطول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 108 وصفه، ويعرض للممرورين وغيرهم من التخيلات الباطلة ما يطول وصفه. ومن قال من المتفلسفة: إن النفس ليست جسماً، وأنكر معاد البدن، فمنهم من يقول: إن من النفوس من يتعلق بجزء من الفلك، فيتخيل فيه ما يتنعم فيه تنعماً خيالياً، وأن ذلك يقوم مقام اللذة الحسية، وقد يقال: إنه أعظم منها، كما ذكر ذلك ابن سينا. فقول هؤلاء من جنس حقيقة أولئك الذي جعلوا عالم الخيال هو أرض الحقيقة. ونحن لا ننكر وجود الخيالات، فإن هذا لا ينكره عاقل، لكن ننكر تعظيمها وتسويتها بالذات الحقيقية، أو أن ما وعد الله به عباده المؤمنين من هذا الجنس. والمقصود هنا أن الصور الخيالية لا ينكرها أحد، ولا يقول أحد: إنها مماثلة في الحقيقة والصفات والمقدار للموجودات في الأعيان، سواء كانت تلك الخيالات هو خيال تلك الموجودات أو غيرها. فقد تبين أن ما ذكره ابن سينا وغيره من الفلاسفة وقرروه بالأدلة العقلية، ليس منافياً لعلم الله بالجزئيات، بل فيه ما هو دليل على ذلك. ولكن غاية ما فيه تناقضهم، حيث يثبتون الشيء دون لوازمه، كما أثبت ابن سينا علمه بأعيان الموجودات التامة، وبأنواع المتغيرات دون التغير في العلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 109 وأدلته الصحيحة توجب علمه بالمتغيرات، وأنه يعلم الكليات والجزئيات، كما سنذكر ألفاظه. وكذلك أبو البركات أثبت علمه بالكليات والجزئيات والمتغيرات، لكنه قال في القدر وفي علمه بما لا يتناهى قولاً منكراً، سنذكره إن شاء الله. وكل من قال في مسألة العلم قولاً يخالف النصوص النبوية، من أهل الكلام والفلسفة، فلا بد أن يكون قوله مناقضاً لأصوله الصحيحة، مخالفاً لصريح المعقول. ولهذا كثر اضطراب هؤلاء في مسألة العلم. فصل. عود لكلام ابن سينا في مسألة علم الله تعالى فصل. عود لكلام ابن سينا في مسألة علم الله تعالى قد تقدم ما ذكرناه من أقوال ابن سينا في تقرير أنه سبحانه عالم بمفعولاته، حيث قال: واجب الوجود يجب أن يعقل ذاته بذاته على ما حقق، ويعقل ما بعده، من حيث هو علة لما بعده، ومنه وجوده، ويعقل سائر الأشياء من حيث وجوبها في سلسلة الترتيب النازل من عنده طولاً وعرضاً. فقد ذكر هنا أن علمه بنفسه يستلزم علمه بمفعولاته، وأما تقرير كونه عالماً بنفسه، فسيجيء إن شاء الله تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 110 كلام الطوسي في شرح كلام ابن سينا قال الطوسي في شرح هذا الفصل: لما تقرر أن علم الأول تعالى فعلي ذاتي، أشار إلى إحاطته بجميع الموجودات. فذكر أنه يعقل ذاته بذاته، لكونه عاقلاً لذاته، معقولاً لذاته، على ما تحقق قبل ذلك، ويعقل ما بعده، يعني المعلول الأول، من حيث هو علة لما بعده. والعلم التام بالعلة التامة يقتضي العلم بالمعلول، فإن العلم بالعلة التامة لا يتم من غير العلم بكونها مستلزمة لجميع ما يلزمها لذاتها. وهذا العلم يتضمن العلم بلوازمها، التي منها معلولاتها الواجبة بوجوبها. ويعقل سائر الأشياء التي بعد المعلول الأول، من حيث وقوعها في سلسلة المعلولية النازلة من عنده، إما طولاً: كسلسلة المعلومات المترتبة المنتهية إليه في ذلك الترتيب. أو عرضاً: كسلسلة الحوادث التي لا تنتهي في ذلك الترتيب إليه، لكنها تنتهي إليه من جهة كون الجميع ممكنة محتاجة إليه، وهو احتياج عرضي، تتساوى جميع آحاد السلسلة فيه، بالنسبة إليه تعالى. قلت: أما قوله: لما تقرر أن علم الأول تعالى فعلي إشارة إلى إحاطته بجميع الموجودات، فذكر أنه يعقل ذاته بذاته ويعقل ما بعده. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 111 فيقال: علمه بذاته لا يمكن أن يكون فعلياً، وإنما يكون فعلياً علمه بخلقه. فإن علمه له تأثير في فعل خلقه، وليس له تأثير في وجود نفسه، وهذا مما لا ينازع فيه عاقل فهمه، ولعله ما أراد إلا هذا. فإن القدرية من أهل الكلام يقولون: العلم تابع للمعلوم، مطابق له، لا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة. وكثير من المتفلسفة يقولون: علم الرب فعلي، وقد يجعلون نفس علمه إبداعه. وقد بسطنا الكلام على هذا في موضع آخر، وبينا أن العلم نوعان: علم العالم بما يريد أن يفعله، فهذا علم فعلي، هو شرط في وجود المعلوم، إذ وجود المعلوم بدونه ممتنع. ومذهب أهل السنة أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، فعلمه فعلي لجميع المخلوقات بهذا الاعتبار، لا باعتبار أن مجرد العلم هو الإبداع، من غير قدرة وإرادة، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة، فإن هذا باطل، كما قد بين في موضعه. والقدرية عندهم أن الله يخلق أفعال العباد، فعلمه بها علم بأمر أجنبي منه، فلهذا لا يجعلون علمه بالمخلوقات فعلياً، لكن علمه بمخلوقاته لا ينازعون فيه. وأما علم العالم بما ليس علمه به شرطاً في وجوده، كعلمنا بالله وملائكته وأنبيائه وسمواته وأرضه، فهذا علم تابع للمعلوم، مطابق له، ليس فعلياً بوجه من الوجوه. وعلم الرب بنفسه من هذا الباب. لكن إذا سمي علمياً انفعالياً فلا بأس، فإنه علم حادث. وأما علم الرب تعالى فإنه من لوازم نفسه المقدسة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 112 لم يحدث، فليس انفعالياً بهذا الاعتبار، لكنه مطابق للمعلوم موافق له، فعلمه تابع لنفسه، ومخلوقاته تابعة لعلمه. والمقصود هنا أنه إذا كان عالماً بنفسه لزم أن يكون عالماً بخلقه، وهذه قضية صحيحة، ويمكن تقريرها بطرق: أحدها: أنه لا يكون عالماً بنفسه علماً تاماً إلا إذا كان عالماً بلوازمها، والخلق من لوازم مشيئته، التي هي من لوازم نفسه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومشيئته من لوازم نفسه. والفلاسفة يعبرون عن أصلهم بقولهم: إنه علة تامة، والعلم بالعلة التامة يقتضي العلم بالمعلول. ومن سلم منهم أنه يفعل باختياره وسماه مع ذلك علة فالنزاع معه لفظي، والمعنى صحيح، فإنه حينئذ مع قدرته على الشيء إذا شاءه وجب وجوده، فما شاء كان، فهو بمشيئته وقدرته موجب لوجود ما شاءه، والعلم بالموجب التام يوجب العلم بموجبه. وأما من لم يسلم أنه يفعل باختياره، فهذا القول باطل من جهة نفيه لاختياره، لا من جهة أن كونه فاعلاً يوجب العلم بالمفعول، فإذا قدر أنه فاعل على هذا الوجه، كان علمه بنفسه يوجب علمه بمفعولاته، لأن العلم بالموجب التام يوجب العلم بالموجب. ففي الجملة لا يكون عالماً بنفسه إن لم يكن عالماً بلوازمها، وقدرته وإرادته من لوازمها، ومراده من لوازم الإرادة. فالمفعولات لازمة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 113 للإرادة اللازمة لذاته، ولازم اللازم لازم. ومجرد النظر إلى كونه مستلزماً لمفعوله يوجب العلم. مع قطع النظر عن توسط الإرادة، لكن هي ثابتة في نفس الأمر، وإن لم يستحضر المستدل ثبوتها. وهذا الدليل يستقيم على أصول أهل السنة الذين يقولون: إرادته من صفاته التي هي من لوازم ذاته. وأما القدرية الذين ينكرون قيام إرادة به فينفونها، أو يقولون: أحدث إرادة لا في محل، فهؤلاء لا يسلكون هذه الطريق. وهذا الدليل مأخوذ من معنى قوله: {ألا يعلم من خلق} [الملك: 14] . ودلالة الآية تقرر بطريق ثان، وهو أن يقال: خلق الخالق مشروط بتصوره للمخلوق قبل أن يخلقه، فإن الخلق إنما يخلق بالإرادة، والإرادة مشروطة بالعلم، فإرادة ما لا يشعر به محال. وإذا كان إنما يخلق بإرادته، وإنما يريد ما يصوره، لزم من ذلك أن يعلم كل ما خلقه. وهذه الطريقة هي طريقة مشهورة لنظار المسلمين، والقرآن قد دل عليها، والعقل الصريح يدرك صحتها، وطرد هذه الدلالة على أصول أهل السنة أن من سوى الله لا يخلق شيئاً، لأنه لا يحيط علماً بجزيئات أفعاله، فلا يكون خالقاً لها، وإن كان شاعراً بها من بعض الوجوه، ومريداً لها من بعض الوجوه، فهو فاعل لها من ذلك الوجه. وهذه الطريقة هي الطريقة التي سلكها الأشعري في كون العبد ليس خالقاً لفعل نفسه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 114 قال: لو كان خالقاً لها لكان محيطاً بتفاصيلها، واللازم منتف. لكن الأشعري وطائفة فرضوا الكلام في العاقل الذي يفعل مع الغفلة. وطائفة أخرى قالوا: لا يحتاج إلى فرض في العاقل، بل كل فاعل من الآدميين لا يحيط علماً بتفاصيل أفعاله، لكنه يشعر بها من حيث الجملة. ولهذا كان العبد لا يريد شيئاً إلا بعد شعوره به، فهو يتصور المراد تصوراً مجملاً، وإن لم يكن مفصلاً. وهذا مما علم به الناس أن الفاعل المريد لا بد أن يتصور المراد. وإن لم تكن إرادتهم مثل إرادة الرب، ولا علمهم كعلمه، كما أنهم يعلمون أن العبد فاعل لأفعاله وإن لم يكن خالقاً لها. وهذا القول الوسط، وهو إثبات كون الرب خالقاً لكل شيء، ومع كون أفعال العباد مخلوقة له، ومع كونها أفعالاً للعباد أيضاً، وأن قدرة العباد لها تأثير فيه، كتأثير الأسباب في مسبباتها، وأن الله خالق كل شيء بما خلقه من الأسباب، وليس شيء من الأسباب مستقلاً بالفعل، بل هو محتاج إلى أسباب أخر تعاونه، وإلى دفع موانع تعارضه، ولا تستقل إلا مشيئة الله تعالى، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاء الله كان وإن لم يشأ العباد، وما لم يشأ لم يكن ولو شاء العباد. وهذا الذي عليه سلف الأمة وأئمتها وجمهورها. وليس المقصود هنا الكلام في مسائل القدر، وإنما المقصود الكلام في تحقيق علم الله. الطريق الثالث الذي به نعلم أن علمه بنفسه يوجب علمه بمخلوقاته، أن يقال: كل ما كان من صفات الرب وأفعاله، فليس هو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 115 موقوفاً على شيء سواه، فلا شريك له بوجه من الوجوه، فهو نفسه موجب تام لجميع صفاته، وهو بصفاته موجب لجميع مفعولاته، فإذا كان عالماً بنفسه، لم يكن أن يكون عالماً بذاته دون صفاته، فإن ذلك ليس علماً بنفسه، فإن الذات المجردة عن الصفات ليست ذاته، ولا وجود لها، وإذا علم صفاته لزم من ذلك علمه بأفعاله، وإلا لم يكن عالماً بصفاته، لأنه إذا علم أنه خالق للعالم، لم يعلم كونه خالقه، إن لم يعلم العالم، وإلا فالعلم بكونه خالقاً للعالم، مع عدم العلم بالعالم، بمنزلة كونه خالقاً للعالم بدون وجود العالم، وهذا ممتنع فذاك ممتنع. ولو قدر نفي الصفات فالعلم بكونه خالقاً للعالم يوجب العلم بالعالم. وهم يعبرون عن ذلك بكونه علةً ومبدأً، ونحو ذلك من العبارات التي يشترك فيها هم والمسلمون. وكونه مبدعاً وفاعلاً، فالعلم بنفسه يوجب العلم بكونه فاعلاً، وإلا لم يكن عالماً بنفسه. والعلم بكونه فاعلاً يوجب العلم بالمفعول، كما أن يحقق ذاته تحقق كونه فاعلاً، لأن وجود ذاته الفاعلة للعالم، بدون كونها فاعلة ممتنع، ووجود فعلها بدون العالم ممتنع. وكون الفعل قديم العين أو النوع أو حادثهما مسألة أخرى، وكون العلم قديماً أو حادثاً، واحداً أو متعدداً، فالمقصود هنا إثبات أنه عالم بكل موجود، إذ كل موجود مفعوله، وهذا يتناول علمه بكل موجود، وكل موجود جزئي، فهو يقتضي علمه بكل جزئي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 116 قال تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور * ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 13-14] . وقد استدل طوائف من أهل السنة بهذه الآية على أنه خالق أقوال العباد وما في صدورهم. وهذه الآية تدل على كونه عالماً بالجزئيات من طرق: أحدها: من جهة كون الخلق يستلزم العلم بالمخلوق. والثاني: من جهة كونه في نفسه لطيفاً خبيراً، وذلك يوجب علمه بدقيق الأشياء وحفيها. ثم يقال: اللطيف الخبير علمه بنفسه أولى من علمه بغيره، وعلمه بنفسه، مستلزم لعلمه بلوازم ذاته، كما تقدم. فقد تضمن الآية هذه الطرق الثلاثة. اعتراض الرازي على ابن سينا وقد اعترض الرازي على ما قرره ابن سينا، من كون علمه بذاته يستلزم علمه بمفعولاته. فقال في شرحه: كنا قد بينا في الأبواب السالفة أنه علام بذاته وبسائر المعلومات، والآن نريد أن نبحث عن كيفية حصول تلك العالمية له فنقول: قد بينا قبل هذا الفصل أن علمه بالأشياء لا بد وأن يكون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 117 حاصلاً له لذاته. فنقول: إنه يجب أن يعلم ذاته بذاته، ثم إذا علم ذاته، فذاته علة لما بعده، يجب أن يعلم من ذاته كونه علة لما بعده، فإذا علم ذاته علم لا محالة معلوله. ثم يلزم من علمه بمعلوله، علمه بسائر المعلولات النازلة من عنده طولاً وعرضاً. وأما طولاً فكالعقول التي كل واحد منها علة للعقل الذي تحته، وأما عرضاً فكما إذا صدر شيئان أو أكثر عن علة واحدة، كما يقال: إنه يصدر عن كل عقل: عقل، ونفس، وفلك، معاً. قال: ولقائل أن يقول: لم قلتم: إن علمه بذاته يقتضي علمه بمعلوله؟ بيناه: أنكم إما أن تقولوا: إن علمه بذاته من حيث إنها تلك الذات المخصوصة علة لعمله بمعلوله، أو تقولوا إن علمه بذاته، من حيث إنها علة لذلك المعلول، يقتضي وجوده بذلك المعلول، والأول ممنوع، فلم قلتم: إن علمه بذاته المخصوصة -التي من جملة لواحقها واعتباراتها كونها علة لذلك المعلول- الجزء: 10 ¦ الصفحة: 118 يقتضي العلم بذلك المعلول؟. وظاهر أن هذه المقدمة ليست بدهية، بل لا بد فيها من الدلالة، وأنتم ما ذكرتم الدلالة عليها. وأما الثاني فباطل، لأن علمه بأن ذاته علة للشيء الفلاني، علم بإضافة مخصوصة بين ذاته وبين ذلك الشيء، والعلم بإضافة أمر إلى أمر مسبوق بالعلم بكل واحد من المضافين، فلو كان العلم بذلك المعلول مستفاداً من العلم بتلك الإضافة، لزم الدور، وأنه محال. تعليق ابن تيمية قلت: فيقال في الجواب عما ذكره الرازي. قوله: إن قلتم: إن علمه بذاته من حيث إنها تلك الذات المخصوصة علة لعلمه بمعلومه، فهو ممنوع، وهذه المقدمة ليست بدهية فلا بد لها من الدليل. فيقال: هي بعد التصور التام بديهية، وبدون التصور التام تفتقر إلى بيان. وذلك لأن العلم بذاته المخصوصة، لا يكون علماً بها إلا مع العلم بلوازمها التي تلزم الذات بنفسها، ولا تفتقر في لزومها إلى سبب منفصل، فإن هذه اللوازم هي عند نظار المسلمين كلها صفات ذاتية، فإنهم لا يفرقون في الصفات اللازمة للموصوف بين الذاتي المقوم والعرضي الخارج، بل الجميع عندهم ذاتي، بمعنى أنه لازم لذات الموصوف، لا تتحقق الذات إلا بتحققه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 119 وأما كون بعض الصفات داخلة في الذات، وبعضها خارجاً، فإن أريد بذلك أن بعضها داخل فيما يتصور الذهن وينطق به اللسان، فهذا حق. ولكن يعود الدخول والخروج إلى ما يدخل في علمه وكلامه، وما يخرج عن ذلك. وإن أريد بذلك أن نفس الموجود في الخارج: بعض صفاته اللازمة داخل في حقيقته، وبعضها خارج عنه، فهذا باطل، كما قد بسط. وأما على طريقة المنطقيين، فالصفات اللازمة: إما ذاتية يتعذر معرفة الموصوف بدونها، وإما لازمة لماهيته، أو لازمة لوجوده، وهذه اللوازم لا بد لها من لازم بغير وسط، لئلا يلزم التسلسل، كما قرر ذلك ابن سينا في الإشارات، واللازم بوسط هو اللازم بتوسط دليل، لا بتوسط علة مبنية له، فجميع اللوازم للذات بغير توسط شيء في الخارج. هذا مراده. وإن أريد بذلك أن من اللوازم شيئاً يلزم توسط في الخارج، فذلك الوسط لازم لآخر بنفسه، فلا بد على كل تقدير من لازم بنفسه، وللازم لازم، وهلم جراً. وحينئذ فإذا عرف نفسه، التي لها لوازم لا توجد إلا بها، فيلزم من معرفته بها معرفته بلوازمها، كما يلزم من وجودها وجود لوازمها، وإلا لم تكن المعرفة معرفة بها، فكما أن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 120 فالمعرفة به بدون معرفة لازمة ممتنعة، وإنما تقع الشبهة في هذا الموضع، لظن الظان أن التصور الناقص معرفة به، وليس كذلك، فإن الشعور مراتب، وقد يشعر الإنسان بالشيء ولا يشعر بغالب لوازمه، ثم قد يشعر ببعض اللوازم دون بعض. ونحن لا نعرف شيئاً من الأشياء على الوجه التام، بل لو علمنا شيئاً على الوجه التام، لعلمنا لوازمه ولوازم لوازمه، فلا يكون علمنا بشيء من الأشياء مماثلاً لعلم الرب. ولهذا لما تكلم الناس في دلالة المطابقة والتضمن والالتزام، فاعتبر بعضهم اللزوم مطلقاً، واعتبر بعضهم اللزوم الذهني، قالوا: لأن اللزوم الخارجي لا نهاية له، لأن للازم لازماً، وللازم لازماً فلفظ البيت إذا جل على الحيطان والأرض والسقف بالمطابقة، وعلى بعض ذلك بالتضمن، فهو مستلزم للأساس، ولأساس الأساس وللصانع، ولأب الصانع، ولأب أبيه، ولصانع الآلات، وأمور أخر، فيجب اعتبار اللزوم الذهني. فيقال لهم: اللزوم الذهني ليس له ضابط، فإنه قد يخطر لهذا من اللوازم، ما لا يخطر لهذا. فإن قلتم: كل ما خطر للمستمع لزومه، فقد دل اللفظ عليه باللزوم، وإلا فلا. قيل لهم: فحينئذ يخطر له لزوم هذا، ثم لزوم هذا ويلزم ما ذكرتم من التسلسل، فلا فرق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 121 وحينئذ فالتحقيق أن كلا اللزومين معتبر، فاللزوم الخارجي ثابت في نفس الأمر. وأما معرفة المستمع به فموقوف على شعوره باللزوم، فمهما شعر به من اللوازم، استدل عليه باللزوم. وليس لذلك حد، بل كل ملزوم فهو دليل على لازمه لمن شعر بالتلازم. وهذا هو الدليل، فالدليل أبداً مستلزم للمدلول من غير عكس، وليس المراد بدلالة الالتزام أن المتكلم قصد أن يدل المستمع بها، فإن هذا لا ضابط له، بل المراد أن المستمع يستدل هو بثبوت معنى اللفظ على ثبوت لوازمه، وهي دلالة عقلية، تابعة للدلالة الإرادية، وجعلت من دلالة اللفظ لأنه دل على التلازم، بتوسط دلالته على الملزوم. وفي الجملة، فكل دليل في الوجود هو ملزوم للمدلول عليه، ولا يكون الدليل إلا ملزوماً، ولا يكون ملزوم إلا دليلاً، فكون الشيء دليلاً وملزوماً أمران متلازمان، وسواء سمي ذلك برهانا أو حجة أو أمارة أو غير ذلك. وأما كونه علة، فأخص من كونه دليلاً، فكل علة فهي دليل على المعلول، وليس كل دليل علة. ولهذا كان قياس الدلالة أعم من قياس العلة، وإن كان قياس العلة أشرف، لأنه يفيد السبب العلمي والعيني، وقياس الدلالة إنما يفيد السبب العلمي. ولهذا يعظمون برهان اللمية على برهان الإنية، ويقولون: برهان لم أشرف من برهان إن. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 122 فمن كان علمه أكمل العلوم، وقد علم علة كل موجود، كيف لا يكون عالماً بأكمل دليل يدل على كل موجود؟. ولو قدر أن الواحد منا يعلم الرب على ما هو عليه، لكان عليماً بكل شيء، لكن قوانا تعجز عن ذلك. وأما هو سبحانه فهو يعلم نفسه، وهي ملزمة لكل موجود، وخالقة لكل شيء، وموجبة بمشيئتها وقدرتها لكل شيء، وبلغتهم: هي علة لكل شيء. وهو سبحانه الدليل والبرهان على كل شيء من هذه الجهة، ومن جهة أنه يدل عباده بإعلامه وهدايته وكلامه، فإذا كان هو سبحانه عالماً بنفسه، المستلزمة لك شيء، التي هي دليل على كل شيء، وموجبة لكل شيء، وباصطلاحهم: علة لكل شيء -وجب أن يكون عالماً بكل شيء، وإلا لم يكن عالماً بنفسه، بل كان عالماً ببعض أحوال نفسه، والتقدير أنه عالم بنفسه. ثم يقال: الموجب لعلمه بنفسه، يوجب علمه بجميع أحوال نفسه، كما سيأتي تقريره. ويمتنع أن يخص علمه ببعض أحوال نفسه، إذ لا موجب للتخصيص، بل الموجب للتعميم قائم. وإذا كان عالماً بجميع أحوال نفسه، وجب ضرورة أن يعلم لوازمها. واعلم أن المقصود هنا: أن علمه بنفسه يستلزم علمه بخلقه، ويمتنع وجوده بدونه، كما يستلزم العلم بالدليل على الوجه التام العلم بالمدلول عليه، ويمتنع وجوده دونه. وأما كون العلم بنفسه أوجب ذلك، وكان علة في وجوده -فهذا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 123 وإن كان المتفلسف قد يقوله، فلا حاجة بنا إليه، بل لا يجوز أن يقال ذلك، كما لا يجوز أن يقال: علمه بالدليل سبب لعلمه بالمدلول على، فإن علمه سبحانه ليس باستدلالي، بحيث يستفيد العلم بهذا من العلم بهذا، سواء كان الدليل علة، أو لم يكن. بل هذا مما يطعن به في كلام بعض هؤلاء المتفلسفة، الذين جعلوا علمه من هذا الباب، فإن علمه سبحانه من لوازم نفسه، ونفسه المقدسة مستوجبة للعلم بكل شيء. كما دل عليه قوله تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] ، فإنه في نفسه لطيف خبير، يمتنع أن يخفى عليه شيء. لكن المقصود هنا أن علمه بنفسه مستلزم لعلمه بخلقه، فيمتنع أن يكون عالماً بنفسه علماً تاماً بدون علمه بخلقه. وحينئذ فنحن نستدل بعلمه بنفسه على أنه عالم بخلقه، كما نستدل بكل ملزوم على لازمه، وإن كان هو سبحانه لا يحتاج إلى شيء من الاستدلالات. ولهذا كان من القضايا الصادقة قول القائل: العلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب، أي العلم بالسبب التام، وهو العلة التامة، فإذا علمنا أن الخشبة وقع فيها نار لا تطفأ، علمنا أنها تحترق. وهو سبحانه رب كل شيء ومليكه، وهو بمشيئته وقدرته موجب لكل موجود. فعلمه بنفسه يستلزم علمه بمخلوقاته، أعظم من استلزام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 124 علم كل عالم بكل علة لكل معلول، فإنه ما من علة تفرض لمعلول، وموجب مقدر لموجب، إلا وهو سبحانه في فعله وإيجابه، أكمل من ذلك في إيجابه واقتضائه. وما من عالم يفرض علمه بعلة، إلا وعلم الرب بنفسه أكمل من علم كل عالم بتلك العلة، فإن علم كل حي بنفسه، أكمل من علمه بغيره، فكيف بعلم رب العالمين بنفسه؟!. وحينئذ فالعلم بهذا الدليل يستلزم العلم بمدلوله، أعظم من استلزام كل علم بكل دليل لكل مدلول، وعلمه بنفسه بكون هذا الموجب، أو العلة أو المبدأ أو السبب، يوجب العلم بموجبه ومعلوله، أكمل من علم كل عالم بكل موجب وعلة. وكلما تدبر العاقل هذه المعاني ولوازمها، تبين له أن كون علمه بنفسه يستلزم علمه بمخلوقه عند التصور التام هي من أعظم البديهيات، وعند النظر والاستدلال هي من أعظم القضايا التي تقوم عليها الأدلة النظرية. ومما يبين ذلك أنه إذا كان عالماً بنفسه، فإن قيل: هو يفعل المخلوقات ولا يشعر بأنه يفعل، فهذا يمتنع أن يكون شاعراً بنفسه، فإنه ما من عالم بنفسه يقدر أنه يفعل شيئاً، إلا ولا بد أن يعلم أنه يفعله، بل لا بد أن يتصور مفعوله مع غفلته عن نفسه، فكيف مع علمه بنفسه؟. فهو يجب أن يعلم مفعوله من جهة علمه بنفسه، ومن جهة أنه يفعله بإرادته، كما تقدم التنبيه على الطريقين، بل العالم بنفسه لو حصل لنفسه حال من غيره لعلم به، وإلا لم يكن عالماً بها، فكيف إذا كانت فاعلة؟!. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 125 وأما قول الرازي على التقدير الثاني: إن قلتم: إن علمه بذاته، من حيث إنها علة لذلك المعلول، يقتضي علمه بذلك المعلول، لأن علمه بأن ذاته علة للشيء الفلاني، علم بإضافة مخصوصة بين ذاته وبين ذلك الشيء، والعلم بالإضافة مسبوق بالعلم بالمضافين، فلو كان المعلول مستفاداً من العلم بتلك الإضافة، لزم الدور. فيقال له: العلم بالإضافة مشروط بالعلم بالمضافين، ولا يجب أن يكون العلم بالمضافين متقدماً عليه تقدماً زمانياً، بل لا يكون عالماً بالإضافة، إلا مع تصور المضاف والمضاف إليه. ثم إذا كان المضاف هو العلة للمضاف إليه، أمكن أن يكون العلم بها، من جهة إنها علة لذلك المعلول، مستلزماً للعلم بذلك المعلول. والعلم بأنها علة للمعلول يتضمن ثلاثة أشياء: العلم بها، وهي المضاف الذي هو علة، والعلم بالمعلول، وهو المضاف الذي هو معلول. والعلم بالعلية، وهي الإضافة. والثلاثة متلازمة، لا يجب أن يتقدم بعضها على بعض بالزمان، ولا نقول: إن العلم ببعضها يستفاد من العلم ببعض، كما ذكره. فإن الرب لا يحتاج أن يستدل بشيء من معلوماته على بعض، وإنما يحتاج إلى ذلك من لا يكون عالماً بالمدلول، حتى يدله عليه الدلي. وأما هو فعلمه من لوازم نفسه المقدسة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 126 ولكن المقصود أن علمه بنفسه وبمخلوقاته متلازمان، يمتنع ثبوت العلم بنفسه دون العلم بخلقه، كما يمتنع ثبوت العلم بخلقه بدون العلم بنفسه. والرازي لعله رد ما قد يضاف إلى ابن سينا وحزبه، من أن علمه بنفسه هو الذي أوجب علمه بخلقه، وكان ذلك العلم علة لهذا العلم، كعلمنا نحن بالدليل الذي يوجب حكمنا بالمدلول عليه. وما ذكره يدل على فساد قول هؤلاء، فإنه إذا قيل: إن علمه بكونه علة للمعلول، هو الموجب لعلمه بالمعلول، لزم الدور، كما ذكر، فإنه لا يعلم كونه علة للمعلول، حتى يعلم المعلول، كما ذكره من أن العلم بالإضافة مشروط بالعلم بالمضافين، فلا تعلم أن هذا علة لذاك، حتى تعلم هذا وذاك، فلو كان علمك بذاك، مستفاداً من علمك بهذه الإضافة، لزم الدور. ونحن قد بينا فساد هذا، وقلنا: المراد إن علمه بهذا يستلزم علمه بهذا، أي يمتنع تحقق هذا العلم بدون هذا العلم، وإن لم يكن أحدهما هو العلة للآخر. كما يمتنع تحقق إرادته دون علمه، وعلمه دون قدرته، وسائر صفاته المتلازمة، ويمتنع تحقق ذاته دون صفاته، وصفاته دون ذاته، فكل منها يستلزم الآخر، فيستدل بثبوت واحد منها على ثبوت سائرها، إذا عرف بلازمها، وإن لم يجعل هذا هو العلة في وجود هذا. ونحن مقصودنا بيان ما دل على أن الله بكل شيء عليم، وبيان ما ذكره ابن سينا، وغيره من الفلاسفة والمتكلمين، مما يدل على ذلك، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 127 وإن كان قد يكون فيما يقوله الواحد من هؤلاء باطل، وقد يكون قصر في بيان الحق، وقد يجتمع الأمران. فنحن نستدل بعلمه بذاته، على أنه لا بد أن يعلم مخلوقاته، لما بينهما من التلازم، الدال على أن ثبوت أحدهما يستلزم ثبوت الآخر، لا نحتاج أن نجعل علمه بهذا هو الموجب لهذا. فإن قيل: فبتقدير أن لا يكون موجباً، فليس معكم ما يدل على أن علمه بذاته يستلزم علمه بمخلوقاته، كما أنا إذا قدرنا أن علم أحدنا بالملزوم ليس موجباً لعلمه باللازم، لم يكن معنا ما يدل على أنه عالم باللازم. قيل: بل كون أحد العلمين مستلزماً للآخر ثابت، وإن لم يكن أحدهما موجباً للآخر، فإن الملزوم أعم من أن يكون علة أو غير علة. وإذا قدر أنه ليس علة، لم يمتنع أن يكون ملزوماً. وإذا كان في بعض الناس ملزوماً وعلة، لم يجب أن يكون في كل عالم ملزوماً وعلة، إلا إذا لم يكن للعالم طريق إلى العلم باللازم، سوى عمله بعلته. وهذا باطل في حق الله، ولا يمكن دعواه، فلا يمكن أحداً أن يدعي أن الله لا يمكن أن يعلم شيئاً من الموجودات إلا لعلمه بعلته، إذ لا دليل على هذا النفي. وإذا قدر أن ذاته مستلزمة لنفسها أن تعلم كل شيء لا يخفى عليها شيء، أوجب ذلك أن لعلم كل شيء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 128 وإن قدر أنه غير مفعول له، كما يعلم المعدومات والممتنعات التي ليست مفعولة، وكما يعلم المقدرات. كقوله: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] ، وقوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] . وإن كان وجود إله غيره ممتنعاً، فعلمه سبحانه بما يعلمه، ليس من شرطه كونه مفعولاً له، بل كونه مفعولاً له، دليل على أنه يعلمه والدليل لا ينعكس. وكذلك علمه بنفسه مستلزم لعلمه بمخلوقاته، وإن لم يكن علمه بنفسه علة لعلمه بمخلوقاته. فينبغي تدبر هذه المعاني الشريفة، فإنه يبين كثرة الطرق البرهانية الدالة على علمه سبحانه، بخلاف من يقول: لا يمكننا إثبات علمه إلا بطريق الإرادة ونحو ذلك. وهكذا كلما كان الناس أحوج إلى معرفة الشيء، فإن الله يوسع عليهم دلائل معرفته، كدلائل معرفة نفسه، ودلائل نبوة رسوله، ودلائل ثبوت قدرته وعلمه، وغير ذلك، فإنها دلائل كثيرة قطعية، وإن كان من الناس من قد يضيق عليه ما وسعه الله على من هداه، كما أن من الناس من يعرض له شك وسفسطة في بعض الحسيات والعقليات، التي لا يشك فيها جماهير الناس. والمقصود هنا أنا نحن أخرجنا الله من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً فنفتقر في حصول العلم لنا إلى أسباب غير أنفسنا. ومن الأشياء ما نعلمها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 129 بمشاعرنا بلا دليل، ومنها ما نفتقر في العلم به إلى دليل، فلا نكون عالمين به حتى نعلم الدليل، الذي يستلزم في علمنا به علمنا بالمدلول عليه. والرب تعالى علمه من لوازم نفسه المقدسة، وكذلك قدرته، لم يستفد شيئاً من صفاته المقدسة من غيره، ولم يحتج إلى سواه بوجه من الوجوه، بل هو الغني عن كل ما سواه. وإذا قدر أن علمه بالملزوم شرط في علمه باللازم، كما أن وجود الملزوم شرط في وجود اللازم، وإبداعه للملزوم شرط في إبداعه للازم، كما أن خلقه للأب من حيث هو أب شرط من خلق الابن، فالابن لا يكون ابناً إن لم يكن له أب، فلا بد في خلق الابن من خلق الأب قبله. فهو سبحانه خالق الملزوم واللازم، وعالم بالملزوم واللازم، وكل ما سواه هو مما خلقه بمشيئته وقدرته، فليس مفتقراً في شيء من الأمور إلى شيء سواه. وقول القائل: علمه بهذا شرط في علمه بهذا معناه أنه لا يوجد علمه بهذا، إلا مع وجود علمه بهذا، ليس المراد به: أنه يكون العلم بأحدهما متقدماً موجوداً، مع عدم العلم الآخر، فإن الشرط لا يجب أن يتقدم المشروط، بل لا بد من وجوده معه بخلاف العلة. فإذا قيل: ليس علمه بهذا علة لهذا، وإنه لم يستفد علمه بهذا من علمه بهذا، ولا استدل على هذا بهذا، لم يكن في هذا نفي كون أحد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 130 العلمين شرطاً في الآخر، أي ملزوماً له، بل ولا نفي كون كل منهما شرطاً في الآخر وملازماً له، كما أن العلم والقدرة أو الإرادة، كل منهما لا يوجد إلا مع الآخر، وهو ملازم له، فوجوده شرط في وجوده بهذا الاعتبار، وإن لم يكن أحدهما علة لوجود الآخر. وكذلك علمه بنفسه المقدسة، هو مستلزم لعلمه بمخلوقاته، وشرط في علمه بها، فلا يكون عالماً بمخلوقاته، إلا وهو عالم بنفسه، وإن لم يكن علمه بنفسه هو العلة لعلمه بمخلوقاته، ولم يكن هو محتاجاً أن يستدل بعلمه بنفسه على علمه بمخلوقاته، بل نفس ذاته المقدسة اقتضت العلم بهذا وبهذا. وإن كان أحد الأمرين شرطاً في الآخر، فكونه شرطاً في الآخر، غير كونه علة، فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط، والعلة يجب تقدمها على المعلول. والشرط لا يوجب المشروط، والعلة توجب المعلول. فما علمه من مخلوقاته، فعلمه به مشروط بعلمه بنفسه، ويلزم من علمه بنفسه علمه به، ويلزم من علمه به علمه لنفسه، وإن لم يكن أحد العلمين يجب أن يقدم على الآخر، ولا يكون هو العلة في وجود الآخر، ولا يحتاج أن يستدل بأحد المعلومين على الآخر. فلهذا كان علمه بأنه خالق يستلزم العلم بالمخلوقات من وجهين: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 131 من جهة أن علمه بأنه خالق لا يكون إلا مع علمه بالمخلوقات، لأن العلم بالإضافة يتضمن العلم بالمتضايفين. ومن جهة أنه عالم بنفسه علماً تاماً. وكونه خالقاً من صفات نفسه، فلا يكون عالماً بنفسه علماً تاماً، إلا مع علمه بأنه خالق، ولا يكون عالماً بأنه خالق، إلا مع علمه بالمخلوقات. ومما ينبغي أن يعرف أن كلاً من المتلازمين يلزم من وجوده وجود الآخر، فكل منهما يصلح في حقنا أن نستدل به على الآخر، فنستدل على هذا بذاك تارة، ونستدل بذاك على هذا تارة. إما أن نستدل على المجهول منهما بالمعلوم، أو نستدل بالمعلوم على المعلوم، لبيان أنه دليل عليه أيضاً، ولتقوية العلم، ولحصوله في النفس تارة بهذا الدليل، وتارة بهذا، إذا عزب عنها علمه بالآخر، فإن النفس قد تعلم الشيء ثم يعزب عنها، فإذا كثرت الأدلة، كان كل منها يقتضي العلم به، إذا قدر عزوب غيره من الأدلة. ولهذا جاز تعدد الأدلة الكثيرة على المدلول الواحد، وكل ما يصلح أن يستدل به على غيره، فإن علم الرب به يستلزم علمه بالمدلول عليه، لامتناع العلم التام بالملزوم. بدون العلم باللازم، وإن كان هو سبحانه لا يحتاج أن يستدل بالعلم بأحدهما على العلم بالآخر، فهذا هذا. ومرادنا بيان ما يذكره الناس من الدلالة على الحق، فإن قصروا في بيان الدليل تممناه، وإن قالوا بخلاف موجبه من وجه آخر أبطلناه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 132 وهذه حال ابن سينا وأمثاله في تقرير علم الله تعالى، فإن كلامه في العلم فيه تقصير عظيم من وجهين: من جهة تقصيره في بيان ما ذكره من الحق، ومن جهة ما ذكره من الباطل، فإنه ذكر حقاً، وذكر ما يستدل به عليه، لكنه لم يعرف البيان حقه، من جهة أنه لم يعط الدليل حقه في التزام ما يلزمه، ومن جهة أن بعض المقدمات قد تقصر في بيانها، وإلا فالمادة التي سلكها في الدلالة مادة جيدة مستقيمة، إذا أعطيت حقها كانت مما تبين أن الله بكل شيء عليم من الجزئيات والكليات. ولهذا كان الذين قدحوا في دلالة ابن سينا، كالغزالي والشهرستاني والرازي، إنما يقدحون بكونه لم يقرر مقدماته، أو بكونه لم يقل بموجبها، ولم يلتزم لوازمها، بل تناقض، فيوردون عليه سؤال الممانعة والمعارضة: المنع لكونه لم يقرره، والمعارضة لكونه ناقض موجبها. وهذان السؤالان إذا توجها، فإنما يدلان على قصور ابن سينا، لا على قصور مادة الدليل الذي استدل به، بل هو من أحسن المواد، وهو مما يعلم به أن الله بكل شيء عليم: بالكليات والجزئيات. ونحن نذكر من كلامهم ما يبين ما ذكرناه. كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة وتعليق ابن تيمية عليه قال الغزالي: مسألة في تعجيز من يرى منهم أن الأول يعلم غيره، ويعلم الأجناس والأنواع بنوع كلي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 133 فنقول: أما المسلمون -يعني المتكلمين الذي هم يذبون عنده عن المسلمين- لما انحصر عندهم الموجود في حادث وقديم، ولم يكن عندهم قديم إلا الله وصفاته، وكان ما عداه حادثاً من جهته بإرادته، حصلت عندهم مقدمة ضرورية في علمه، فإن المراد بالضرورة لا بد أن يكون معلوماً للمريد، فبنوا عليه أن الكل معلوم له، لأن الكل مراد له وحادث بإرادته، ولا كائن إلا وهو حادث بإرادته، ولم يبق إلا ذاته. ومهما ثبت أنه مريد عالم بما أراده، فهو حي بالضرورة، وكل حي يعرف غيره، فهو بأن يعرف ذاته أولى، فصار الكل عندهم معلوماً لله، وعرفوه بهذا الطريق، بعد أن بان لهم أنه مريد لإحداث العالم. فأما أنتم إذا زعمتم أن العالم قديم لم يحدث بإرادته، فمن أين عرفتم أنه يعرف غير ذاته، فلا بد من الدليل عليه. قال: وحاصل ما ذكره ابن سينا في تحقيق ذلك، في أدراج كلامه، يرجع إلى فنين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 134 قلت: ما ذكره الغزالي من الاستدلال بالإحداث على العلم، طريق صحيح يوصل إلى تقرير أنه بكل شيء عليم. لكن الطرق إلى ذلك كثيرة متعددة، لم تنحصر في هذه الطريق، لا سيما إذا أريد تقرير حدوث العالم بحدوث الأجسام، وامتناع حوادث لا أول لها، كما سلكه. فإن هذه الطريق مبتدعة في الإسلام باتفاق علماء الإسلام، وهي باطلة عند أئمة الإسلام وجمهور العقلاء، والعلم بكون الرب مريداً لا يقف على هذه الطريق، بل ولا على العلم بحدوث الأجسام، بل يكفي في ذلك مجرد العلم بأنه فاعل، حتى أن كثيراً من الفلاسفة القائلين بقدم العالم، يقول: إنه مريد، وإنه عالم بالجزئيات، كما ذهب إلى ذلك من ذهب إليه من الفلاسفة، وهو الذي نصره أبو البركات، فهؤلاء يثبتون العلم بطريق الإرادة. وأما المسلمون، الذين يقولون: إن كل ما سوى الله مخلوق، فأئمتهم وجمهورهم لا يثبتون ذلك بامتناع حوادث لا أول لها، كما سلكه الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم، بل هذا من الكلام المذموم عند السلف والأئمة. وأيضاً فالرب إذا عرف أنه علام بمخلوقاته، لأنه خلقهم بإرادته، علم أنه إذا كان عالماً بكل ما سواه، فعلمه بنفسه أولى، فإن هذه المقدمة لا تحتاج إلى توسيط كونه حياً، وإن كان ذلك طريقاً صحيحاً، وإن كانت الحياة شرطاً في كونه عالماً، لكن ليس كل ما كان شرطاً في الوجود، كان العلم به شرطاً في الاستدلال، فإنه من علم أن الله يعلم كل ما سواه، ثم نظر: هل يعلم نفسه أم لا؟ علم أن علمه بنفسه أولى من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 135 علمه بكل ما سواه، قبل أن يستشعر أنه حي، وأن كل حي يعرف غيره، فهو بأن يعرف نفسه أولى. بل إذا كانت هذه القضية بينة، وهو أن كل حي عرف غيره، فهو بأن يعرف ذاته أولى، قضية بينة بنفسها، فهي بينة وإن لم يذكر فيها كونه حياً، إذ علم الإنسان بهذه الأولوية غير مشروط بهذا، وإن كانت الحياة شرطاً في كل علم. كما أنا إذا علمنا أنه مريد، علمنا أنه عالم بما أراده، وإن لم يخطر بقلوبنا أنه حي، وإن كانت الحياة شرطاً في العلم والإرادة، فالعلم باستلزام علمه بغيره لعلمه بنفسه، لا يقف على العلم بهذه المقدمة، وإن كانت هذه المقدمة تفيد هذا المطلوب أيضاً. وأيضاً فعلم المسلمين بأن الله بكل شيء عليم، له طرق غير الاستدلال بالإرادة، كما هو مذكور في موضعه. والمقصود كلامه على ما ذكره ابن سينا. قال: وحاصل ما ذكره يرجع إلى فنين: الأول: أنه عقل محض، وكل ما هو عقل محض فجميع المعقولات مكشوفة له. إلى أن قال: وإن عنيت بأنه عقل: أنه يعقل نفسه، فربما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 136 يسلم لك إخوانك من الفلاسفة ذلك، ولكن يرجع حاصله إلى أن ما يعقل نفسه يعقل غيره. فيقال: ولم ادعيت هذا، وليس ذلك بضروري، وقد انفرد به ابن سينا عن سائر الفلاسفة، فكيف تدعيه ضرورياً؟ وإن كان نظرياً فما البرهان عليه؟. إلى أن قال: الفن الثاني: قوله: إنا وإن لم نقل: إن الأول مريد للإحداث، ولا إن الكل حادث حدوثاً زمانياً، فإنا نقول: إنه فعله وقد وجد منه، إلا أنه لم يزل بصفة الفاعلية، فلم يزل فاعلاً، فلا نفارق غيرنا إلا في هذا المقدار، وأما في أصل الفعل فلا. وإذا وجب كون الفاعل عالماً -بالاتفاق- بفعله، فالكل عندنا من فعله. قال أبو حامد: والجواب من وجهين: أحدهما: أن الفعل قسمان: إرادي: كفعل الحيوان والإنسان. وطبيعي: كفعل الشمس في الإضاءة، والنار في التسخين، والماء في التبريد. وإنما يلزم العلم بالفعل في الفعل الإرادي، كما في الصناعات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 137 البشرية. فأما في الفعل الطبيعي فلا. وعندكم أن الله فعل العالم بطريق اللزوم عن ذاته بالطبع والاضطرار، لا بطريق الإرادة والاختيار، بل لزم الكل ذاته، كما يلزم النور الشمس. وكما لا قدرة للشمس على كف النور، ولا النار على كف التسخين، فلا قدرة للأول على الكف عن أفعاله، تعالى عن قولهم علواً كبيراً. قال: وهذا النمط، وإن تجوز بتسميته فعلاً، فلا يقتضي علماً للفاعل أصلاً. فإن قيل: بين الأمرين فرق، وهو أن صدور الكل عن ذاته بسبب علمه بالكل، فتمثل النظام الكلي هو سبب فيضان الكل، ولا مبدأ له سوى العلم بالكل، والعلم بالكل عين ذاته، فلو لم يكن له علم بالكل لما وجد منه الكل، بخلاف النور من الشمس. قلنا: وفي هذا خالفك إخوانك، فإنهم قالوا: ذاته ذات يلزم منها وجود الكل على ترتيبه بالطبع والاضطرار، لا من حيث هو عالم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 138 بها، فما المحيل لهذا المذهب مهما وافقتهم على نفي الإرادة؟. وكما لم يشترط علم الشمس بالنور للزوم النور، بل يتبعها النور ضرورة، فليقدر ذلك في الأول، ولا مانع منه. الوجه الثاني: هو أنه إن سلم أن صدور الشيء من الفاعل، يقتضي العلم أيضاً بالصادر، فعندهم فعل الله واحد، وهو المعلول الأول، الذي هو عقل بيسط، فينبغي أن لا يكون عالماً إلا به، والمعلول الأول يكون أيضاً عالماً بما صدر منه فقط، فإن الكل لم يوجد من الله دفعة. بل بالوسط والتولد واللزوم، فالذي يصدر مما يصدر منه لم ينبغ أن يكون معلوماً له، ولم يصدر منه إلا شيء واحد، بل هذا لا يلزم في الفعل الإرادي، فكيف في الطبيعي؟ فإن حركة الحجر من فوق جبل قد تكون بتحريك إرادي يوجب العلم بأصل الحركة، ولا يوجب العلم بما يتولد منه بوساطته، من مصادمته وكسر غيره، فهذا أيضاً لا جواب له عنه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 139 قال: فإن قيل: فلو قضينا بأنه لا يعرف إلا نفسه، لكان ذلك في غاية الشناعة، فإن غيره يعرف نفسه ويعرفه ويعرف غيره، فكيف يكون في الشرف فوقه؟ وكيف يكون المعلول أشرف من العلة؟. قلنا: فهذه الشناعة لازمة من مقال الفلاسفة في نفي الإرادة ونفي حدوث العالم، فيجب ارتكابها كما ارتكبت سائر الفلاسفة له، ولا بد من ترك الفلسفة والإعتراف بأن العالم حادث بالإرادة. ثم يقال: بم تنكرون ... إلى آخره. قلت: ما ذكره أبو حامد من منازعة إخوانه الفلاسفة، في أن العلم بنفسه يستلزم العلم بمفعولاته، تقدم بيانه له. وكون ابن سينا خالفهم في هذا، هو من محاسنه وفضائله، التي علم فيها ببعض الحق، والحجة معه عليهم، كما أن أبا البركات كان أكثر إحساناً منه في هذا الباب. فكل من أعطى الأدلة حقها، وعرف من الحق ما لم يعرفه غيره، كان ذلك مما يفضل به ويمدح، وهو لم يقل: إن عقله لنفسه مستلزم لغيره، بل قال: يستلزم عقله لمفعولاته، كما تقدم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 140 والأصول العقلية التي يوافقونه على صحتها، توجب موافقتهم له في هذا الموضع، كما تقدم. هذا لو كان الفلاسفة ينفون الإرادة، وليس كذلك. بل بينهم من يصرح بثبوتها، وهو القول الذي نصره أبو البركات منهم. كلام ابن رشد في تهافت التهافت وتعليق ابن تيمية عليه ومنهم من يحكي إثبات الإرادة عنهم مطلقاً، كما اختاره ابن رشد عنهم، فإنه قال في تهافت التهافت: استفتح أبو حامد هذا الفصل بأن حكى عن الفلاسفة شيئاً شنيعاً، وهو أن الباري ليس له إرادة، لا في الحادث، ولا في الكل، لكون فعله صادراً عن ذاته ضرورة، كصدور الضوء من الشمس. ثم يحكي عنهم أنهم قالوا: من كونه فاعلاً يلزم أن يكون عالماً. قال: والفلاسفة ليس ينفون الإرادة عن الباري تعالى، ولا يثبتون له الإرادة البشرية، لأن البشرية إنما هي لوجود نقص في المريد، وانفعال عن المراد. فإذا وجد المراد له تم النقص، وارتفع ذلك الانفعال المسمى إرادة. وإنما يثبتون له من معنى الإرادة أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 141 الأفعال الصادرة عنه هي صادرة عن علم، وكل ما صدر عن علم وحكمة، فهو صادر بإرادة الفاعل، لا ضرورياً طبيعياً، إذ ليس عن طبيعة العلم صدور الفعل عنه، كما حكى هو عن الفلاسفة، لأنا إذا قلنا: يعلم الضدين، لزم أن يصدر عن الضدان معاً، وذلك محال. فصدور أحد الضدين عنه، يدل على صفة زائدة على العلم، وهي الإرادة. وهكذا ينبغي أن يفهم ثبوت الإرادة في الأول عند الفلاسفة، فهو عندهم: عالم مريد عن علمه ضرورة. وقال ابن رشد أيضاً: وأما قول أبي حامد: إن الفعل قسمان: إما طبيعي وإما إرادي -فباطل. بل فعله عند الفلاسفة: لا طبيعي بوجه من الوجوه، ولا إرادي بإطلاق. بل إرادي منزه عن النقص الموجود في إرادة الإنسان. وكذلك اسم الإرادة مقول عليهما باشتراك الاسم. كما أن اسم العلم كذلك على العلمين: القديم والحادث، فإن الإرادة في الحيوان والإنسان انفعال لاحق له عن المراد، فهي معلولة عنه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 142 هذا هو المفهوم من إرادة الإنسان، والباري سبحانه منزه عن أن يكون فيه صفة معلولة، فلا يفهم من معنى الإرادة إلا صدور الفعل مقترناً بالعلم، وأن العلم، كما قلناه، يتعلق بالضدين، ففي العلم الأول، بوجه ما، علم بالضدين، ففعله أحد الضدين دليل على أن هنا صفة أخرى، وهي التي تسمى إرادة. قلت: ابن رشد يتعصب للفلاسفة، فحكايته عنهم أنهم يقولون: إنه مريد، كحكايته عنهم إنهم يقولون: إنه عالم بالمخلوقات. ولا ريب أن كلاهما قول طائفة منهم. وأما نقل ذلك عن جملتهم، أو المشائين جملة، فغلط ظاهر. ولكن الذي انتصر لثبوت هذا وهذا انتصاراً ظاهراً أبو البركات ونحوه، وابن رشد وهو إثبات ذلك دونه، وابن سينا دونهما. ولا ريب أن كلام أرسطو في الإلهيات كلام قليل، وفيه خطأ كثير، بخلاف كلامه في الطبيعيات فإنه كثير، وصوابه فيه كثير. وهؤلاء المتأخرون وسعوا القول في الإلهيات، وكان صوابهم فيها أكثر من صواب أوليهم لما اتصل إليهم من كلام أهل الملل وأتباع الرسل، وعقول هؤلاء وأنظارهم في الإلهيات، فإن بين كلام هؤلاء في الإلهيات وكلام أرسطو وأمثاله تفاوتاً كثيراً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 143 والمقصود أن ما ذكره أبو حامد من أنه إنما يلزم العلم بالفعل في الفعل الإرادي فكلام صحيح، وهذا يدل على أن الفعل إذا كان إرادياً، لزم كون الفاعل عالماً بفعله، فنستدل بكونه مريداً على كونه عالماً، وهو استدلال صحيح، ويقتضي أنه إذا قدر نفي اللازم، وهو العلم، انتفت الإرادة، وهو أيضاً صحيح. وكذلك ما ذكره من أن العلم لا يلزم إلا في الفعل الإرادي، لا في الفعل الطبيعي الذي ليس بإرادي، فإذا قدر فعل ليس بإرادي، لم يلزم كون الفاعل عالماً، هو كلام صحيح. وعلى هذا فإذا قدر أن الفاعل عالم، لزم أن يكون الفعل إرادياً، لأن الفعل الإرادي مستلزم للعلم، وغير الإرادي مستلزم لنفيه، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، وإذا ثبت الملزوم ثبت اللازم. فالإرادة ملزومة للعلم، والعلم لازم لها، ونفي الإرادة ملزوم لنفي العلم، ونفي العلم ملزوم لنفي الإرادة. فإذا قدر ثبوت العلم، لزم انتفاء نقيضه، وهو نفي العلم، ولازم نقيضه، وهو انتفاء الإرادة، وإذا انتفى هذا الانتفاء، ثبت نقيضه، وهو الإرادة. وإيضاحه أن العلم لازم للإرادة، كما ذكروا أن كل مريد فهو عالم، فما ليس بعالم ليس بمريد، وهذا الذي يسمونه عكس النقيض، فإن العلم لازم للإرادة، فإذا انتفى هذا اللازم، وهو العلم، انتفى الملزوم، وهو الإرادة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 144 وذكروا أن الفعل الذي ليس بإرادي مستلزم لنفي العلم، فإذا انتفت الإرادة في الفعل، لزم نفي العلم، فإذا انتفى هذا اللازم، وهو نفي العلم، انتفى ملزومه وهو انتفاء الإرادة، فحصلت الإرادة، فصار يلزم من ثبوت العلم في الفعل ثبوت الإرادة، ومن نفيه نفيها، ومن ثبوتها ثبوته، ومن انتفائها انتفاؤه. وهذا بين، إذ كان كل فعل بالإرادة فمعه العلم. ولك فعل ليس بإرادة فلا علم معه، فينعكس كل منهما عكس النقيض. فيقال: كل ما ليس معه علم فليس معه إرادة، وكل ما معه علم فمعه إرادة، فهذا يفيد أنه يلزم في الفعل من ثبوت كل واحد من العلم والإرادة ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه، وهذا حق، وهو يدل على فساد قول من أثبت العلم ونفى الإرادة، وهم بعض الفلاسفة وبعض المعتزلة. ولكن ليس في هذا ما يدل على فساد الطريق التي سلكها ابن سينا في إثبات العلم، فإنه إذا استدل على كونه عالماً بمخلوقاته: بأن الفاعل يجب أن يكون عالماً بفعله، وبأن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها- كان دليلاً صحيحاً، كما تقدم تقريره، وإن لم يذكر في الدليل كونه فاعلاً بالإرادة، فإن هذا شرط في كونه فاعلاً، كما أن كونه حياً شرط في كونه فاعلاً، وكما أن كونه عالماً شرط في كونه مريداً. والدليل قد يدل على ثبوت المشروط قبل أن يعلم شرطه، ثم بعد ذلك قد يعلم بشرطه وقد لا يعلم، كما يدل الدليل على كونه فاعلاً بالاختيار، وشرط الفاعل بالاختيار أن يكون عالماً. ثم إذا علم أنه فاعل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 145 بالإرادة علم بعد ذلك أنه عالم، وقد يعلم العالم أنه مريد ولا يخطر بقلبه أنه عالم، فليس كما من علم من البشر شيئاً علم لوازمه، لقصور علم البشر، بخلاف علم الخالق الذي علمه تام، فلا يعلم الملزوم إلا ويعلم لازمه كما تقدم. وإذا كان كذلك، فالصواب في هذا الباب أن يقرر ما ذكره ابن سينا، من الطريق الدال على كونه عالماً بالمخلوقات، فإنها طريق صحيحة لا تتوقف على ما ذكروه. ولكن يقال له: هذه الطريق تستلزم كونه مريداً، فإثباتك لفاعل عالم بمفعولاته بدون الإرادة تناقض. وموجب الدليل شيء، وفساد الدليل شيء آخر. فمطالبته بموجب دليله الصحيح هو الصواب، دون القدح في دليله الصحيح. وأما ما ذكره عن إخوانه المنازعين له في العلم، حيث قالوا: ذاته ذات يلزم منها وجود الكل بالطبع والاضطرار، لا من حيث إنه عالم بها. وقوله: فما المحيل لهذا المذهب، مهما وافقهم على نفي الإرادة؟. فيقال له: المحيل لهذا المذهب ما تقدم من أن علمه بنفسه يوجب علمه بمخلوقاته. والكلام في هذا المقام بعد تقرير أنه عالم نفسه. فمن قال: إنه عالم بنفسه دون مخلوقاته، كان قوله باطلاً. وأما تقرير كونه عالماً بنفسه، فهذا مذكور في موضعه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 146 وبهذا يظهر الجواب عن الفاعل بالطبع، كالنار والماء، فإن ذاك إنما قيل: ليس بعالم بفعله، لكونه ليس عالماً بنفسه. ولم يقل عاقل: إن ذلك الفاعل عالم بنفسه دون فعله، كما لم يقل عاقل: إنه عالم بفعله دون نفسه، إذ كان العلم بكل منهما يستلزم العلم بالآخر. وأما تمثيل ذلك بنور الشمس، فعنه جوابان. أحدهما: أن الشمس علة تامة فاعلة للنور. بل هي شرط في فيضانه، وفيضانه مشروط بوجود جسم ينعكس عليه شعاعها، والأول سبحانه هو وحدة مبدع لكل ما سواه. الثاني: أن الشمس إن قيل: إنها عالمة بنفسها، وقيل مع ذلك: إنها مبدعة للشعاع، لم نسلم أنها لا تعلم الشعاع، لكن الشأن في تينك المقدمتين. وأما قوله: مهما وافقهم لازم له. فيقال: بل الصواب أن يقال: إثباتك العلم مع نفي الإرادة تناقض يلزمه منه خطؤك: إما في إثبات العلم وإما في نفي الإرادة. وحينئذ فيقال: هؤلاء نفوا العلم والإرادة، وأنت أثبت العلم دون الإرادة، وهما متلازمان، فيلزم خطؤك: إما في إثبات العلم، وإما في نفي الإرادة. وحينئذ فيقول: أدلتي المذكورة على ثبوت العلم صحيحة توجب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 147 ثبوت العلم، وإذا كان ذلك مستلزماً للإرادة، كان خطئي في نفي الإرادة، فهذا هو الصواب، دون أن يقال: كما وافقتهم على الخطأ في نفي الإرادة، فوافقهم على الخطأ في نفي العلم. وأما قوله في الوجه الثاني: إن فعل الله واحد، وهو المعلول الأول فينبغي أن لا يكون عالماً إلا به. فيقال: إذا ثبت أن علمه بنفسه يستلزم علمه بمفعولاته، وجميع الممكنات مفعولة، لزم أن يعلمها كلها. وأما قولهم: إنه أول ما أبدع العقل الأول، فكلامهم في هذا خطأ في بيان فعله، لا خطأ في إثبات وجوب كونه عالماً بمفعولاته، ولا ريب أن قولهم في صدور الأفعال منه خطأ، لكن لا يلزم من الخطأ في ذلك الخطأ فيما به قررت كونه عالماً بمفعولاته. ثم يقال: ولا يلزم أيضاً على أصلهم أنه لا يعلم إلا العقل الأول، بل يلزم علمه بكل شيء. وذلك لأنهم تارة يقولون: صدر عنه عقل، وبتوسطه عقل ونفس وفلك، وتارة يجعلون الثاني صادراً عن الأول، وتارة يجعلون الأول شرطاً، وتارة يجعلونه مبدعاً للثاني. ومنهم من يقول بلزوم جملة الفلك له. وعلى كل تقدير فلا ريب أن علمه بالملزوم علماً تاماً يستلزم علمه باللازم. وكذلك العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بالمعلول، كما تقدم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 148 فأقصى ما يقدر أن الأول كان علة للثاني، فإذا كان عالماً بالأول علماً تاماً، لزم أن يعلم لوازمه، التي منها علمه بفعله للثاني، كما تقدم. فعلى كل تقدير لا يكون قول من سلبه العلم خيراً من قول من أثبته. وبهذا أجابه ابن رشد، فقال: الجواب عن هذا أن الفاعل الذي هو في غاية العلم يعلم ما صدر عما صدر منه، وما صدر من ذلك الصادر، إلى آخر ما صدر. فإن كان الأول في غاية العلم، فيجب أن يكون عالماً بكل ما صدر عنه، بوساطة أو بغير وساطة. وليس يلزم منه أن يكون علمه من جنس علمنا، لأن علمنا ناقص ومتأخر عن المعلوم. ومن فر من شناعة القول بأنه لا يعلم إلا نفسك، فهو معذور في هذا الفرار. وقوله: إن هذه الشناعة لازمة في مقال الفلاسفة في نفي الإرادة ونفي حدث العالم، فيجب ارتكابهما كما ارتكب سائر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 149 الفلاسفة. ولا بد من ترك الفلسفة، والاعتراف بأن العالم حادث بالإرادة. فيقال: إذا كان هذا لازماً لمن نفي الإرادة والحدوث، فيجب إثبات الإرادة والحدوث. فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، لا يجب إذا ترك بعض الحق أن يترك سائره، بل يجب الاعتراف به كله، وإلا فالاعتراف ببعضه خير من جحده كله. وقد تقدم تحقيق الأمر في تلازم العلم والإرادة. قال أبو حامد: ثم يقال: بم تنكر على من قال من الفلاسفة: إن ذلك يعني العلم ليس بزيادة شرف، فإن العلم إنما احتاج إليه غيره ليستفيد كمالاً، فإنه في ذاته قاصر، فشرف بالمعقولات إما ليطلع على مصالحه في العواقب في الدنيا والآخرة، وإما لتكمل ذاته المظلمة الناقضة، وكذلك سائر المخلوقات. وأما ذات الله فمستغنيه عن التكميل، بل لو قدر له علم يكمل به، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 150 لكانت ذاته من حيث ذاته ناقصة. وهذا كما قلت في السمع والبصر، وفي العلم بالجزئيات الداخلة تحت الزمان، فإنك وافقت سائر الفلاسفة على أن الله منزه عنه، وأن المتغيرات الداخلة في الزمان، المنقسمة إلى ما كان ويكون لا يعرفها الأول، لأن ذلك يوجب تغيراً في ذاته وتأثيراً. ولم يكن في سلب ذلك عنه نقصان، بل هو كمال، وإنما النقصان من الحواس والحاجة إليها، ولولا نقصان الآدمي لما احتاج إلى حواس لتحرسه عما يتعرض للتغير به. وكذلك العلم بالحوادث الجزئية: زعمتم أنه نقصان، فإذا كنا نعرف الحوادث كلها، وندرك المحسوسات كلها، والأول لا يعرف شيئاً من الجزئيات، ولا يدرك شيئاً من المحسوسات، ولا يكون ذلك نقصاناً، فالعلم بالكليات العقلية أيضاً يجوز أن يثبت لغيره، ولا يثبت له، ولا يكون فيه نقصان، وهذا لا مخرج عنه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 151 فيقال: هذا الكلام متوجه على سبيل الإلزام والمعارضة، يظهر به تناقض من أثبت له علماً بمعلوم دون آخر، كابن سينا وأمثاله، فإنه يلزمه فيما أثبته نظير ما فر منه فيما نفاه، فإن كان ذلك حقاً، فيلزم أن لا يعلم شيئاً ولا نفسه، وإن لم يكن حقاً، فيلزم أن يعلم كل شيء. ولا ريب أن هذا هو الصواب، فهو يقول لهم: إن العلم: إن كان صفة كمال وشرف، فمعلوم أن علمه بكل شيء أكمل من علمه ببعض الأشياء، وإن لم يكن صفة كمال، فلا يثبت شيء منه. واستشهد على ذلك بأنكم نفيتم عنه السمع والبصر والعلم بالمتغيرات، فإن كان نفي ذلك نقصاً، فقد وصفتموه بالنقص، وإن لم يكن نقصاً، لم يكن نفي غيره نقصاً. وابن سينا يفرق بين علمه بالثابتات، وبين علمه بالمتغيرات، لئلا يلزم تغيره بتغير العلم. وقد بين أبو حامد بعد هذا أنه لا محذور في علمه بالمتغيرات، بل يلزمه إثبات العلم بذلك، فإثبات العلم مطلقاً هو الواجب دون نفيه، وكل ما لزم من إثبات العلم، فلا محذور فيه أصلاً، بل غايته ترجع إلى مسألة نفي الصفات والأفعال والاختيارات، فليس لهم في نفي العلم إلا ما ينشأ عن هذين السلبين. وقد بين فساد قول النفاة للصفات والأمور القائمة بذاته الاختياريات. وإذا كان علمه سبحانه بكل شيء مستلزماً لثبوت هذين الأصلين، كان ذلك مما يدل على صحتهما، كما دل على ذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 152 سائر الأدلة الشرعية والعقلية، فإن ثبوت العلم بكل شيء، مما هو معلوم بالاضطرار من دين المرسلين، ومما هو ثابت بقواطع البراهين. فإذا كان مستلزماً لإبطال هذين الأصلين، اللذين هما من البدع التي أحدثها الجهمية، كان هذا من الأدلة الدالة على اتفاق الحق وتناسبه، وتصديق ما جاء به الرسول، وموافقته لصريح العقل، وأنه لا اختلاف فيما جاء من عند الله، بخلاف الأقوال المخالفة لذلك، فإنها كلها متناقضة. وتدبر حجج النفاة، فإنها كلها من أسقط الحجج، كالقول الذي يقوله بعض الفلاسفة: إن العلم ليس بزيادة شرف، فلا يكون من يعلم أشرف ممن لا يعلم، ويقول: إنه إذا كان عالماً فقد جعل ناقصاً بذاته مستكملاً بغيره. أما الأول فمن القضايا البديهية المستقرة في الفطر: أن الذي يعلم أكمل من الذي لا يعلم، كما أن الذي يقدر أكمل من الذي لا يقدر. ولهذا يذكر سبحانه هذه القضية بخطاب استفهام الإنكار الذي يبين أنها مستقرة في الفطر، وأن النافي لها قال قولاً منكراً في الفطرة. كقوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9] ، فإنه يدل على أنه لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، ويدل على أن التسوية منكرة في الفطر، تنكر على من سوى بينهما. كقوله تعالى: {قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين} [الأنعام: 143] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 153 وقوله: {قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59] . وقوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32] . وقوله: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} [الأنعام: 148] . وكذلك قوله: {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم} [النحل: 75-76] . وقوله: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} [النحل: 17] . وقوله: {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى} [يونس: 35] . وكما أنه سبحانه في القرآن يبين أن العالم القادر الذي يخلق ويأمر بالعدل أكمل من غيره، وأن هذا التفضيل مستقر في الفطر، والتسوية من منكرات العقول التي تنكرها القلوب بفطرتها، وهي من المقدمات البديهية المستقرة فيها، فكذلك يبين أن العادم لصفات الكمال ناقص، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 154 لا يمكن أن يكون رباً ولا معبوداً، ويبين أن العلم بذلك فطري مستقر في القلوب. كقوله تعالى عن الخليل: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} [مريم: 42] . وقوله تعالى: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين} [الأعراف: 148] . وقوله: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} [طه: 89] . وقوله: {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون} [النحل: 20-21] . وقوله: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] . وقوله عن الخليل: {أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 95-96] . وقوله أيضاً: {هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون} [الشعراء: 72-73] . وقوله: {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} [الأنبياء: 66-67] . وأمثال ذلك كثير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 155 والمقصود هنا أن كون العلم صفة كمال، وكون العالم أكمل من الذي لا يعلم، كون عدم العلم نقصاً- هو من أبين القضايا البديهية المستقرة في فطر بني آدم. وأما قول القائل: إن العلم إنما احتاج إليه غير الله ليستفيد كمالاً: إما ليطلع على مصالحه، وإما لتكميل ذاته المظلمة. فيقال له: هذا بعينه دليل على أن الذوات لا تكمل إلا بالعلم، من جهة أنها لا تقدر أن تفعل ما تصلح إلا به، ومن جهة أنها بدونه مظلمة. والرب فاعل لكل شيء، وفاعل لكل فاعل، فهو أحق بأن يكون عالماً من كل فاعل، وذاته أكمل الذوات، فهي أحق بأن يكون لها غاية الكمال، وأن تكون برية من كل نص. وقول القائل: ذات الله مستغنية عن التكميل. كلمة حق، فإنه مستغنية عن أن يكملها أحد سواها، لكن ما هي ذات الله المستغنية عن التكميل: أهي ذات مسلوبة العلم وغيره من صفات الكمال، فلا تعلم ولا تسمع ولا تبصر؟ أم هي الذات المتصفة بهذه الصفات؟. أما الأول، فلا حقيقة لتلك الذات ولا وجود لها، فضلاً عن أن يقال: ذات الله، فإن ذاتاً لا تتصف بشيء من الصفات، إنما تعقل في الأذهان لا في الأعيان، وذاتاً لا تتصف بصفات الكمال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 156 ليست خالق المخلوقات ولا وجود لها، ولو قدر وجودها فهي من أنقص الذوات، بل كل حيوان أكمل منها، فإنا نعلم بصريح المعقول أن الحي أكمل مما ليس بحي، والعالم أكمل مما ليس بعالم، والقادر أكمل مما ليس بقادر. وقول القائل: لو قدر له ما يكمل به لكانت ذاته من حيث ذاته ناقصة قول باطل من وجوه. أحدها: أن ذاته المجردة عن الصفات لا حقيقة لها، أو نقول: لا نعلم ثبوتها، أو نعلم أن الذات المجردة عن الكمال معدومة. ولفظ ذات لفظ مولد، وهو تأنيث ذو، ومعنى ذات: أي ذات علم، وذات قدرة، وذات حياة. فتقدير ذات بلا صفات، تقدير المضاف المستلزم للإضافة بدون الإضافة. ولهذا أنكر طائفة من أهل العربية كابن برهان والجوليقي النطق بهذا اللفظ، وقالوا: هذا مؤنث، والرب لا يجري عليه إسم مؤنث، ولكن الذين أطلقوه عنوا به نفسا ذات علم، أو حقيقة ذات علم. وفي الجملة فتقدير الذات ذاتاً مجردة عن الصفات، هو الذي أوقعه في هذه الخيالات الفاسدة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 157 وقوله: الذات من حيث ذاته: إن أراد به أن الذات من حيث هي لا صفة لها، فهذه لا وجود لها، فصلاً عن أن تكون كاملة. وإن أراد من حيث حقيقتها الموجودة، فهي من تلك الجهة لا تكون إلا متصفة بصفات الكمال. قوله: وهذا كما قلت في السمع والبصر والعلم بالجزئيات الداخلة تحت الزمان، فإنك وافقت سائر الفلاسفة على أن الله منزه عنه إلى قوله: وهذا لا مخرج منه. فيقال: لا ريب أنه لا مخرج لابن سينا من هذا الإلزام، فإنه إذا لم يكن عنده عدم العلم بالجزئيات نقصاً، كذلك عدم العلم بالكليات. وإن قال: عدم علمه بها كمال، أمكن منازعوه أن يقولوا: نفي علمه بالثابتات كمال. وإذا قال: أنا نفيت عنه، لأن إثباته يفضي إلى التغير. قالوا له: ونحن نفينا ذاك لأنه يفضي إلى التكثر. فإذا قال: ذاك التكثر ليس بممتنع. قيل له: وهذا التغير ليس بممتنع. وذاك أنه جعل التكثر في الإضافات، فإن كان هذا حقاً، أمكن أن يقال بالتغير في نفس الإضافات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 158 وذلك أنه إن قال: إن نفس العلم إضافة، فالتكثر والتجدد في العلم إضافة. وإن قال: بل هو صفة مضافة، والتكثر في المعلوم لا في العلم، بل يعلم بعلم واحد جميع المعلومات، كما يقوله ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما. قيل له: والتغير في المعلوم لا في العلم، لأن العلم واحد لا يتعدد، فضلاً عن أن يتغير. وإن قال: هذا باطل، فإن العلم بأن سيكون الشيء، ليس هو العلم بأن قال قد كان. قيل له: وكذلك العلم بالسماء، ليس هو العلم بالأرض. وأنت تقول أبلغ من ذلك، تقول: ليس العلم إلا العالم، بل تقول: العلم والعالم شيء واحد. ومعلوم أن هذا القول أبعد عن المعقول، من قول من قال: العلم بالمعلومات شيء واحد. فإن هذا يقول: إن العلم ليس هو العالم ولا هو المعلوم، بل هو صفة للعالم. ولا ريب أن ابن سينا يتناقض في هذه المواضع. فتارة يجعل العلم زائداً على الذات العالمة، وتارة لا يقول بذلك. أبت كلام ابن سينا في الإشارات ورد ابن تيمية عليه فإنه قال: لما رد على من قال باتحاد العاقل بالمعقول: فيظهر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 159 لك من هذا أن كل ما يعقل، فإنه ذات موجود، تتقرر فيها الجلايا العقلية، تقرير شيء في شيء آخر فصرح بأنه يتقرر في ذات العاقل الجلايا العقلية تقرير شيء في شيء آخر، وهذا خلاف قول: العاقل والمعقول والعقل شيء واحد. والمقصود قبول ما يقوله من الحق، وهو ما أثبته من كون الرب عالماً بالأعيان الثابتة، وبيان صحة حجته على ذلك. وأما ما نفاه من علمه بالجزئيات، فحجته على نفيه ضعيفة. وقد بين أبو حامد وأبو البركات وغيرهما، أنه يلزمهم القول بعلمه بالجزئيات، وبينوا فساد ما نفوا به ذلك. قال ابن سينا: إشارة: الأشياء الجزئية قد تعقل كما تعقل الكليات، من حيث تجب بأسبابها، منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه يتخصص به، كالكسوف الجزئي، فإنه قد يعقل وقوعه بسبب توافق أسبابه الجزئية وإحاطة العقل بها، ويعقلها كما يعقل الجزئيات، وذلك غير الإدراك الجزئي الزماني لها، الذي يحكم أنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 160 وقع الآن، وهو قبله، أو يقع بعده، بل مثل أن نعقل أن كسوفاً جزئياً يعرض عند حصول القمر، وهو جزئي ما، وقت كذا، وهو جزئي ما في مقابلة كذا. ثم ربما وقع ذلك الكسوف، ولم يكن عند العاقل الأول إحاطة بأنه وقع، أو لم يقع. وإن كان معقولاً له على النحو الأول، لأن هذا إدراك آخر جزئي، يحدث مع حدوث المدرك، ويزول مع زواله. وذلك الأول يكون ثابتاً الدهر كله، وإن كان علماً بجزئي، وهو أن العاقل يعقل أن بين كون القمر في موضع كذا، وبين كونه في موضع كذا، يكون كسوف معين في وقت من زمان أول الحالين محدود. عقله ذلك أمر ثابت قبل الكسوف ومعه وبعده. هذا لفظه. قلت: وهذا الذي ذكره إنما يتأتى في الأمور الدائمة عنده، كالشمس والقمر والكواكب والأفلاك، فإنه يعلمها بأعيانه، فإنها دائمة. وأما الأمور المتجددة، مثل حركاتها، ومثل الكسوف والخسوف، والإهلال والإبدار، ومثل أشخاص الناس والحيوان، فهذه لا يتصور أن يعقلها إلا على وجه كلي، مثل أن يعلم أنه في كل شهر يحصل إهلال وإبدار، وفي كل سنة يحصل صيف وشتاء. فأما العلم بإهلال معين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 161 وإبدار معين وكسوف معين، فهذا جزئي حادث كائن بعد أن لم يكن زائل بعد ما كان، فإن علمه بعينه لزم ما حذروه من التغير في علمه، فإنه إذا علمه قبل وجوده، علمه معدوماً سيوجد، ثم إذا وجد علمه موجوداً. ثم إذا زال علمه معدوماً قد كان، وهذا الذي فروا منه. ولو علم الجزئيات بأعيانها بعلم ثابت، لزم وجود ما لا نهاية له من المعقولات دائماً في ذاته. وأما قوله: مثل أن يعقل أن كسوفاً جزئياً يعرض عند حصول القمر، وهو جزئي وقت كذا، وهو جزئي في مقابلة كذا، ثم ربما وقع ذاك الكسوف ولم يكن عند العاقل الأول إحاطة بأنه وقع أو لم يقع، وإن كان معقولاً له على النحو الأول، لأن هذا إدراك آخر جزئي، يحدث مع حدوث المدرك، ويزول مع زواله، وذلك الأول يكون ثابتاً الدهر كله، وإن كان عالماً بجزئي. فيقال: هذا الكسوف المعلوم أهو كسوف واحد بالعين أم بالنوع؟ فالأول أن يعلم أن الشمس تكسف في برج الحمل في السنة الفلانية سنة الطوفان. والثاني أن يعقل أنها كلها إن حصلت في برج كذا على وجه كذا كسفت. فإن قيل: إنه كسوف معين، فهذا إذا كان عقله ثابتاً أبداً، يكون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 162 قد عقل قبل وجوده. وحينئذ يكون معدوماً لا موجوداً، والعلم بأنه موجود جهل، والعلم بأن سيوجد هو الذي فروا منه. وإن قالوا: نعلم أنه إذا حصل الشيء المعين الجزئي حصل الكسوف، وإن لم نعلم متى يحصل ذاك. قيل: فمثل هذا لا يكون إلا إذا كان المعلوم كلياً، وهو أن نعلم أنه إذا حصل ذلك الأمر المعين على الوجه المعين حصل الكسوف، وهذا العلم كلي لا جزئي. ففي الجملة الجزئي لا يكون جزئياً إلا إذا انحصر شخصه ومنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وهذا إذا لم يكن أمراً ثابتاً، بل أمراً حادثاً، فلا يعلم على وجهه إن لم يعلم وقته المعين. وحينئذ فيكون العلم به قبل وقته، وإلا فإذا علم أنه متى حصل كذا على وجه كذا حصل الكسوف، فهذا كلي. وإن علم أنه لا بد أن يحصل، فإنه كلي من حيث الزمان، فإن تصوره لا يمنع اشتراك الأزمنة فيه، فلم يعلم إلا على وجه كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. وقولهم مع هذا: إنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض، مغالطة بل لم يعلم شيئاً من الأمور المعينة الحادثة البتة، بل هو عازب عنه، لا يدري أكان أم لم يكن، فإن نفس تصور الكلي من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 163 حيث هو كلي، لا يفيد تصور المعينات، والوجود ليس فيه إلا المعينات، فلا يكون تصور شيئاً من المعينات الحادثة. lأمر أمر كلام الطوسي في شرح الإشارات ورد ابن تيمية عليه وقد بين ذلك شارحو كلامه فقال الطوسي: يريد التفرقة بين إدراك الجزئيات على وجه كلي لا يمكن أن يتغير، وبين إدراكها على وجه جزئي يتغير بتغيرها، ليبين أن الأول تعالى، بل كل عاقل، فهو إنما يدرك الجزئيات من حيث هو عاقل على الوجه الأول دون الثاني. وإدراكها على الوجه الثاني لا يحصل إلا بالإحسان أو التخيل، أو ما يجري مجراهما من الآلات الجسمانية. قال: وقبل تقرير ذلك نقول: كلية الإدراك وجزئيته تتعلقان بكلية التصورات الواقعة فيه وجزئيتها. فلا تدخل التصديقات في ذلك يعني بذلك أن التصديق إنما يكون كلياً أو جزئياً باعتبار ما فيه من التصور: هل هو جزئي أو كلي؟. قال: فإن قولنا: هذا الإنسان يقول هذا القول في هذا الوقت، جزئي. وقولنا: الإنسان يقول القول في وقت، كلي. ولم يتغير فيهما إلا حال الإنسان، والقول، والوقت، والجزئية بالكلية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 164 ولقائل أن يقول: بل نفس النسبة لا تكون جزئية وكلية، فإنه إذا قيل: هذا الإنسان يقول هذا القول في هذا الوقت كان الجميع جزئياً. وإذا قيل: يقول أقوالاً حسنة، أو يقول هذا القول دائماً، كان الثاني كلياً، فإن تصوره لا يمنع من وقوع الشركة فيه. فإن قلت: المحمول، الذي هو خير المبتدأ عن أحدهما، قول معين، وفي الآخر قول مطلق، فالجزئية والكلية إنما وقعا في التصورين. قيل إن أريد ذلك لم يكن لنا تصديق غير التصورات، فلا حاجة إلى نفي الكلية عنه. ولكن المعروف أن هذا القول هو الخبر المحمول على المبتدأ المخبر به عنه، وهو قول معين جزئي، ونسبته إليه هو التصديق المغاير للتصورين، فإن التصديق يراد به الجملة كلها، فيكون التصور بعضه بعينه، ويراد به النسبة الحكمية، فيكون التصور شرطاً فيه. وإذا أريد به هذا فنسبة القول المعين إلى المعين تصديق، فإن عنيت النسبة من جميع الوجوه، بحيث يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها، فهي جزئية، وإن لم يمنع ذلك فهي كلية. مثل كونه يقوله دائماً، أو الإخبار عنه بأنه يقوله في وقت ما، فإن هذا لا يمنع كونه يقوله في هذا الوقت وفي غيره، بل لا يمنع أن يقوله بالعربية وبالعجمية، فهو كلي بالنسبة إلى العربية والعجمية. وبالجملة فما لم يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فهو كلي، سواء كان احتمال الشركة لدخوله أشخاصاً أو أزمنة أو أمكنة أو لغات أو غير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 165 ذلك من الأمور، وهذا مما يبين أنه من لم يقل أن الرب يعلم الجزئيات، فإنه يلزمه أن لا يعلم شيئاً من الموجودات، فإنه ما من موجود إلا وهو متميز عن غيره بحيث يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. ولهذا لم يمنع ابن سينا كونه يعلم الجزيئات الثابتة الدائمة على أصله، كالسموات والنجوم، وإنما منع علمه بالمتغيرات، فراراً من قيام الحوادث به، مع أن أساطين من أساطين الفلاسفة، ومن وافقهم من المتأخرين، يقولون: إنه تقوم به الحوادث، ولا حجة له على نفي ذلك أصلاً، إلا ما ينفي به قيام الصفات، وإثباته للعلم يستلزم إثبات الصفات كما تقدم بيانه، فعلم أن إثباته للعلم بالكليات دون الجزئيات في غاية التناقض. قال الطوسي: وكل جزئي يتعلق به حكم فله طبيعة توجد في شخصه، وما تصير تلك الطبيعة جزئية لا يدركها العقل، ولا يتناولها البرهان والحد، بسبب انضياف معنى الإشارة الحسية إليها، وما يجري مجراها من المخصصات، التي لا سبيل إلى إدراكها إلا بالحس وما يجري مجراه، فإن أخذت تلك الطبيعة مجردة عن تلك المخصصات، صارت كلية يدركها العقل، ويتناولها البرهان والحد، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 166 وكان الحكم المتعلق بها -حين كونها جزئية- باقياً بحاله، اللهم إلا أن يكون الحكم متعلقاً بالأمور المخصصة من حيث هي مخصصة. قال: وإذا ثبت هذا فنقول: كل من أدرك علل الكائنات، من حيث إنها طبائع. يعني طبائع كلية وأدراك أحوالها الجزئية وأحكامها، كتلاقيها وتباينها، وتماسها وتباعدها، وتركبها وتحللها، من حيث هي متعلقة بتلك الطبائع، وأدرك الأمور التي تحدث: معها وبعدها وقبلها، من حيث يكون الجميع واقعاً في أوقات يتحدد بعضها ببعض، على وجه لا يفوقه شيء أصلاً، فقد حصل عنده صورة العالم منطبقة على جميع كلياته وجزئياته الثابتة، والمتجددة المنصرفة، الخاصة بوقت دون وقت، كما عليه الوجود، غير مغادر إياها بشيء، وتكون تلك الصورة بعينها منطبقة على عوالم أخر، لو حصلت في الوجود، مثل هذا العالم بعينه، فتكون صورة كلية منطبقة على الجزئيات الحادثة في أزمنتها، غير متغيرة بتغيرها. هكذا يكون إدراك الجزئيات على الوجه الكلي. فيقال: فعلى هذا التقدير لا يكون الرب عالماً بشيء من هذه الأمور الجزء: 10 ¦ الصفحة: 167 الموجودة، ولا فاعلاً لها، إذا كان علمه بها هو إبداعه لها، فإن العلم بالجزئيات، على هذا الوجه الكلي، لا يتضمن العلم بشيء من المعينات، ولا يكفي هذا العلم في وجودها، فضلاً عن أن يكون هو إيجادها. فإنا إذا علمنا أن بني آدم لا بد أن تحصل لهم شهوة الأكل فيأكلون، وإذا أكلوا فلا بد أن تحصل لهم فضلة فيتغوطون، ولا بد أن تحصل لهم شهوة النكاح فيجامعون، ولا بد أن يحصل إنزال وحبل، فتحبل النساء ويلدن، ولا بد أن يموتوا -كان هذا علماً كلياً يتضمن أنه لا بد من وجود أكل وتخل، ونكاح وإنزال، وحبل وولادة وموت، بحيث لو قيل: إن في الآدميين من لا يموت، أو من لا يأكل ويشرب وينام ونحو ذلك- كان ذلك العلم الكلي مناقضاً لهذا القول. ولو قيل: إنه لم يبق من ينكح ويحبل، ويلد ويموت، كان ذلك العلم الكلي دافعاً لهذا القول، كما إذا علمنا أن نبياً لا يخبر إلا بالصدق، وعلمنا أنه أخبر بأخبار لا نعرف أعيانها -علمنا أنها كلها صادقة، ولم يكن في مجرد هذا العلم الكلي علم شيء منها. وإذا علمنا أن كل دليل شرعي دل على الإيجاب أو التحريم، وجب إثبات موجبه من الإيجاب أو التحريم، كان هذا علماً كلياً، ولم يكن فيه علم بشيء من أعيان الأدلة الشرعية، ولا بالأحكام المعينة الشرعية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 168 وإذا علمنا أن الإهلال لا يكون إلا في أول الشهر، والإبدار لا يكون إلا في وسطه، وأن كسوف الشمس لا يكون إلا عند الإجتماع قبل الإهلال، وخسوف القمر لا يكون إلا في الليالي البيض في الإبدار -لم يكن في مجرد هذا العلم ما يوجب أن يعلم: هل الهلال طالع في هذا الوقت أم لا؟ وهل هو مبدر أم لا؟ وهل هو خسوف أم كسوف أم لا؟ وكذلك إذا علمنا أن الشمس تدور ما بين رأس السرطان والجدي، لا يصعد هذا غاية صعودها، وهذا غاية هبوطها، وفي صعودها يكون الصيف، وفي هبوطها يكون الشتاء، ونحن لا نعلم هل هذا الوقت صيف أو شتاء، وهل هي صاعدة أو هابطة -لم يكن في هذا العلم الكلي ما يفيد معرفة ما وجد في الخارج من أحوالها، لكن فيه أنها لا تخرج عن هذا القانون الكلي، وهكذا سائر العلوم الكلية. لكن العلم بجميع حوادث الوجود على الوجه الكلي، أعم من العلم ببعض حوادثه. ومع ذلك فليس في ذلك علم بشيء من الموجودات الحادثة. وأيضاً فمجرد هذا العلم الكلي لا يكفي في وجود المعينات، فالمعين لا يوجد إلا بتصور معين وإرادة معينة، وإلا فمن أراد أن يكرم الأبرار، ويعاقب الفجار، ويقبل شهادة العدول، ويرد شهادة أهل الزور، وهو لا يعرف أعيان هؤلاء وهؤلاء -لم يمكنه فعل شيء من ذلك الأمر الكلي الذي عزم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 169 ومن أراد أن يأكل طعاماً، ويلبس ثوباً، وليس له قصد من طعام بعينه، وثوب بعينه، إن لم يحصل له طعام معين، وثوب معين، بحيث تكون له إرادة معينة وتصور معين -امتنع أن يأكل ويلبس، لكن قد يكون قصده للمعين، هو لكونه هو الميسور المقدرور عليه، ولو حصل غيره لقام مقامه، ليس له إرادة في أحدهما دون الآخر، إلا لكونه هو الذي تيسر وقدر عليه، فهنا يكون سبب تعين الإرادة هي القدرة. وكذلك من قصده أن يعطي الزكاة للأنواع الكلية التي ذكرها الله في كتابه، وليس له غرض في شخص بعينه، فهو يعطي من علم أنه منهم، ومن أمكنه أعطاه. ومن أراد شخصاً معيناً، فلا يتعين حتى يحصل له تصور معين وإرادة معينة، لكن التعين يكون لأجل علمه المعين وقدرته المعينة، لا لكون إرادته الأولى دعته إلى أداء الزكاة وصرفها في الأنواع المذكورة في القرآن -فكانت إرادته لمعين. وكذلك من قصده أن يتطهر كما أمره الله، فهو يقصد الطهارة بماء، أي ماء كان، وهذه إرادة كلية، ثم لا يمكنه أن يتطهر إلا بماء معين، يتصور تصوراً معيناً، ويريد التطهر به إرادة معينة. وكذلك من قصده أن يعتق رقبة وجبت عليه في كفارة، وكذلك من غرضه أن يزوج وليته من كفو، ومن قصده أن يشتري طعاماً من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 170 شخص، وكذلك من غرضه أن يستفتي من يفتيه بحكم الله، ومن غرضه أن يحاكم خصمه إلى من يحكم بينهما بالحق، وأمثال ذلك. فهؤلاء قصدهم ابتدأ أمراً مطلقاً كلياً، ليس غرضهم شخصاً بعينه، لكن لا يحصل مقصودهم إلا إذا قصدوا شيئاً معيناً، وإلا فما دامت ليس معهم إلا الإرادة المطلقة، لا يفعلون شيئاً، إذ المطلق لا وجود له في الأعيان، فلا يمكن وجود كلي في الخارج مع كونه كلياً قط، فمن لم يعلم إلا الكليات، لم يمكنه أن يفعل شيئاً قط، ولا يكون عالماً بشيء من الموجودات، فإن الموجودات في الخارج ليس فيها كلي. فعلى قول هؤلاء لم يعلم الله شيئاً من الموجودات، بل ولا فعل شيئاً من الموجودات. وهذا أمر قطعي لا حيلة فيه، كلما تدبره العاقل تبين له فساد هذا القول. وما استثناه ابن سينا من كونه يعلم الموجودات الثابتة بأعيانها، لا يصح استثناؤها، فإن تلك أيضاً حادثة على القول الحق، ويلحقها التغير كما يلحق غيرها، فيجب أذا لم يعلم إلا الكليات أن لا يعلمها، وعلى قول أولهم إنها أزلية أبدية، فهي مستلزمة للتغيرات، أما الأجسام فإنها لا تزال متحركة، وأما المعقول فلا حقيقة لها، وبتقدير ثبوتها فإنها علل الأجسام المتغيرة عندهم. وقد تقدم أصله: أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول، فالعلم بالعلل إنما يوجب العلم بمعلولها، والعلة أوجبت معلولات جزئية متغيرة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 171 فيجب أن يعلم عليتها على هذا الوجه. وحينئذ فيلزم أن يعلم المتغيرات متغيرة، لا يكون علمها على وجه كلي كما ذكروه. ومما يوضح هذا أن الشرائع جاءت بالأحكام الكلية، مثل إيجاب الزكوات، وتحريم البنات والأخوات، ولا يمكن أمر أحد بما أمره الله به، ونهيه عما نهاه الله عنه، إن لم يعلم دخوله في تلك الأنواع الكلية، وإلا فمجرد العلم بها، لا يمكن معه فعل مأمور ولا ترك محظور، إلا بعلم معين، بأن هذا المأمور داخل فيما أمر الله به، وهذا المحظور داخل فيما نهى الله عنه. وهذا الذي يسمى تحقيق المناط. إذا تبين هذا، فقول القائل: كل من أدرك علل الكائنات، من حيث إنها طبائع إلى آخره. يقال له: أتريد أنه أدركها كلية، مثل أن يدرك أن في العالم حاراً وبارداً، وأنهما يلتقيان على وجه كذا؟ أو تريد أنها إدراك الطبائع الموجودة المعينة؟. فإن أردت الأول، لم يكن في العلم بذلك علم بشيء من الموجودات. وإن أردت الثاني، فإنه يلزم من العلم بها، العلم بلوازمها، كما تقدم من أن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها، فيلزم من ذلك أن يعلم جميع معلولاتها ولوازمها. وليس في المعينات إلا ما هو معلولها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 172 ولوازمها، فيلزم العلم بكل شيء جزئي على سبيل التعيين، ويلزم العلم بطوله وعرضه وعمقه وقدره، سواء كان من الكل المتصل أو المنفصل. ولهذا كان قول المرسلين: إن الله أحصى كل شيء عدداً، فهو يعلم أوزان الجبال، ودورات الزمان، وأمواج البحار، وقطرات المطر، وأنفاس بني آدم: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] . يبين هذا أنه قد تقدم أن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها، وهي الموجب، والرب سبحانه هو موجب بمشيئته وقدرته لكل ما يشاؤه. وهم يسمونه علة، وهو إنما يوجد شيئاً معيناً، لا يوجد شيئاً كلياً، إذ الخارج ليس فيه شيء كلي، فيجب أن يكون عالماً بكل شيء جزئي، كما انه خالق لكل شيء جزئي. وإن كان له علم عام كلي بالأمور الكلية، فلا منافاة بين هذا وهذا، بل مخلوقه له بالكلي والجزئيات، فالخالق أولى بذلك. وقوله: إن إدراكها على هذا الوجه إنما يحصل بالإحساس أو التخيل. فيقال لهم: لا ريب أن الله سميع بصير، يسمع ويرى، سبحانه وتعالى. وقد روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {إلا لنعلم من يتبع الرسول} [البقرة: 143] ، ونحو ذلك. قال: إلا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 173 لنرى. ففسر العلم المقرون بالوجود بالرؤية، فإن المعدوم لا يرى، بخلاف الموجود، وإن كانت الرؤية تتضمن علماً آخر. وقال الطوسي في شرح كلام ابن سينا: قوله: الأشياء الجزئية قد تعقل، كما تعقل الكليات، إشارة إلى إدراكها من حيث هي طبائع مجردة عن المخصصات المذكورة، وقيدها بقوله: من حيث تجب بأسبابها ليكون الإدراك لتلك الأشياء، مع كونه كلياً يقينياً، غير ظني. ثم قال: منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه: أي منسوبة إلى مبدأ، طبيعته النوعية موجودة في شخصه ذلك، لا أنها غير موجودة في غير ذلك الشخص، بل مع تجويز أنها موجودة في غيره. والمراد أن تلك الأشياء إنما تجب بأسبابها، من حيث هي طبائع أيضاً. ثم قال: تتخصص به أي تتخصص تلك الجزيئات بطبيعة ذلك المبدأ، وإنما نسبها إلى مبدأ كذلك، لأن الجزئي، من حيث هو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 174 جزئي، لا يكون معلولاً لطبيعة غير جزئية، ولا الطبيعة علة له من حيث هو كذلك. قال: وقوله: إن العاقل لأن بين كون القمر في موضع كذا إلى آخره، معناه: أن من يعقل أن بين كون القمر في أول الحمل مثلاً، وبين كونه في أول الثور يكون كسوف معين في وقت محدود من زمانه كونه في أول الحمل، كالوقت الذي سار فيه القمر من أول الحمل عشر درجات، فإنما يكون تعقل ذلك العاقل لهذه الأمور أمراً ثابتاً قبل وقت الكسوف ومعه وبعده. فيقال له: هذا الذي تصور هذا الكسوف تصور أنه يكون في عام معين، أو تصوره مطلقاً، كتصوره أنه إذا كان في عشر درجات من الحمل، مع أمور أخرى، يكون كسوف. فإن كان الأول، فذاك كسوف جزئي معين. وتصوره يكون قبله ومعه وبعده. وإن كان الثاني، فهذا يكون محققاً تارة، ومقدراً أخرى. أما المقدور، فأن يعلم أنه كلما حصل القمر في موضع كذا، والشمس في موضع كذا، حال القمر بين نور الشمس وبين الناس فانكسفت. ولكن هذا ليس فيه علم بوقوعه لا مطلقاً ولا معيناً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 175 والثاني أن يعلم أنه لا بد أن تقع هذه المحاذاة بين الأرض والقمر والشمس، وإنما تقع إذا كان كذا. فهذا علم كلي، لا يعلم به شيء من الكسوف الموجود. ثم يقال: والعلم بهذا ممتنع، إن لم يعلم الكسوفات الجزئية. وذلك أن أسباب الكسوفات حركات أجسام معينة في أوقات محدودة. والعلم بمجموع ذلك يوجب العلم بكل كسوف جزئي، والعلم به قبل وقوعه ومع وقوعه وبعد وقوعه، فلا يتصور مع العلم بأسباب الحوادث، أن يعلم علم كلي، إلا وتعلم الجزيئات الواقعة، وإلا فلا يكون العلم بجميع الأسباب حاصلاً. ولهذا لما كنا لا نعلم عامة الأسباب لم نعلم ما يكون، وإذا علمنا أسباب شيء، علمنا وقوعه قبل وقوعه ومعه وبعده، كمن علم أنه سيبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يبعث إذا كانت أمور، فإذا علم أنها لم تكن، علم أنه لم يبعث، وإن علم أنها كانت، علم أنه بعث. وكثير مما يتكلم فيه الناس من مقدمة المعرفة، يكونون قد علموا جزء السبب، ولم يعلموا تمام السبب، ولا علموا مانعه، فيصيبون أحياناً، ويكون خطأهم أكثر من صوابهم، لأن ما فاتهم من العلم بتمام السبب والموانع أكثر مما علموه. وقد تقدم قول ابن سينا: قد تعقل الكليات من حيث تجب بأسبابها منسوبة إلى مبدأ نوعه من يخصه يتخصص به. وقد قال في شرحه: أي تتخصص تلك الجزيئات بطبيعة ذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 176 المبدأ، وإنما نسبها إلى مبدأ كذلك، لأن الجزئي من حيث هو جزئي لا يكون معلولاً لطبيعة غير جزئية. فيقال: هذا الكلام بين في أنها لا تعقل على هذا الوجه إلا جزئية لا كلية، لأنها إذا عقلت من حيث يجب بسببها المعين الجزئي، لزم أن تعقل جزئية. وأما إذا عقلت من حيث تجب بسبب كلي عقلت كلية، لكن رب العالمين هو واحد معين، ليس أمراً مطلقاً كلياً، فهو يعلم نفسه علماً معيناً، يمنع من وقوع الشركة فيه، لا يعلمها علماً كلياً، لا يمنع من وقوع الشركة فيه. وحينئذ فيعلم كل ما صدر عنه على هذا الوجه، وقوله: انحصر نوعه في شخصه دليل على ذلك. وقول الطوسي: قوله: منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه أي منسوبة إلى مبدأ طبيعته النوعية موجودة في شخصه، ذلك لأنها غير موجودة في غير ذلك الشخص، بل مع تجويز أنها موجودة في غيره، إنما تستقيم في طبائع المخلوقات. وأما الخالق تعالى فلا يجوز أن تكون صفته ثابتة لغيره. والكلام إنما هو في أن علمه بنفسه يوجب العلم بالمخلوقات، وبه تجب الممكنات، وليس في الأسباب ما يوجب شيئاً من الممكنات، إلا وهو سبحانه وتعالى، وكل ما سواه فإنما يوجب بشركة من غيره، وهو سبحانه لا شريك له. ثم كيف يتخصص بالمبدأ إن لم يكن مختصاً، كما تقدم؟. ففي الجملة كل حجة يذكرونها هم أو غيرهم -على علمه بشيء من الأشياء، يدل على علمه بالجزئيات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 177 وقول القائل: إنه يعلم الكليات دون الجزئيات، كلام متناقض، يستلزم أنه لم يخلق شيئاً ولا يعلم شيئاً من الموجودات. وقوله مع ذلك إنه: لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، تلبيس منه، كقولهم: العالم محدث، يريدون به أنه معلول مع قدمه، وإلا فكل ذرة من ذرات المحدثات عازبة عنه عندهم. وكونها تجب وصف كلي باق أزلاً وأبداً، لا يوجب العلم بها كما ذكروه. ومضمون كلامه أنه يعلم ولا يعلم، فهو كلام متناقض. ثم الأدلة الدالة على علمه تستلزم علمه بالجزئيات، وليس لابن سينا ما يبطل ذلك، إلا كون ذلك يفضي إلى تغير العلم، لكونه يعلم أن سيكون الشيء، ثم يعلم أنه قد كان، وهذا إن أبطله من جهة أنه نقص في العلم فهو باطل، فإن هذا هو علم للشيء على ما هو عليه، فإنه علمه معدوماً لما كان موجوداً، وعلم أنه سيوجد، ثم لما وجد علمه موجوداً، ثم إذا عدم بعد ذلك علم أن قد كان ثم عدم. فهذا هو العلم المطابق للمعلوم، وما سوى ذلك فهو جهل لا علم وإن أنكره من جهة أنه يحدث تحول العلم بتحول المعلوم، وأن ذلك تغير -فقد عرف قول المانعين من هذا الأصل، وأنه في غاية الضعف والفساد، مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول، لا سيما ومن منع ذلك، من الجهمية ومن اتبعهم، إنما منعوه لاعتقادهم أن ذلك ينافي القدم. وابن سينا وإخوانه يجوزون قيام الحوادث بالقديم، فلا حجة لابن سينا وأتباعه في منعه، إلا حجتهم في نفي الصفات. وإثبات العلم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 178 بالمعلومات المفصلة الثابتة بأعيانها، مستلزم لثبوت الصفات كما تقدم بيانه وإقرار أصحابه بذلك، وحينئذ فلا حجة لهم في نفي ذلك أصلاً. والله تعالى قد أخبر في كتابه بعلمه بما سيكون، كالأمور التي أخبر بها قبل كونها، فعلم أنه يعلم الأشياء قبل وجودها، وأخبر أنه إذا وجدت علمها أيضاً. كقوله: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} [البقرة: 143] . وفي القرآن من هذا بضعة عشر موضعاً. وقد روي عن ابن عباس وغيره: إلا لنرى. وقال طائفة من المفسرين: إلا لنعلمه موجوداً. رد الغزالي على الفلاسفة في تهافت الفلاسفة وتعليق ابن تيمية ونحن نذكر كلام أبي حامد عليهم قال: مسألة في إبطال قولهم: إن الله -تعالى عن قولهم- لا يعلم الجزيئات المنقسمة بانقسام الزمان إلى الكائن وما كان ويكون. قال: وقد اتفقوا على ذلك. قلت: يعني اتفاق من عرف قوله منهم، وهم الذين ذكرهم ابن سينا، وإلا فأبوا البركات قد حكى عنهم قولين، واختار هو أنه يعلم الجزئيات. قال أبو حامد: فإن من ذهب منهم إلى أنه لا يعلم إلا نفسه، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 179 فلا يخفى هذا من مذهبه. ومن ذهب منهم إلى أنه يعلم غيره، وهو الذي اختاره ابن سينا، فقد زعم أنه يعلم الأشياء علماً كلياً، لا يدخل تحت الزمان، ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن، ومع ذلك زعم أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي. فلا بد أولاً من فهم مذهبهم، ثم الاشتغال بالاعتراض، ونبين هذا بمثال، وهو أن الشمس مثلاً تنكسف بعد أن لم تكن منكسفة ثم تنجلي، فتحصل له ثلاثة أحوال: أعني للكسوف حال هو فيها معدوم منتظر الوجود، أي سيكون. وحال هو فيها موجود، أي هو كائن. وحال ثالثة هو فيها معدوم، ولكنه كان من قبل. ولنا بإزاء هذه الأحوال ثلاثة علوم مختلفة، فإنا نعلم أولاً: أن الكسوف معدوم وسيكون، وثانياً: أنه كائن، وثالثاً: أنه كان، وليس كائناً الآن. وهذه العلوم الثلاثة متعددة ومختلفة، وتعاقبها على المحل يوجب تغير الذات العالمة، فإنه لو علم بعد الانجلاء أن الكسوف موجود الآن كما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 180 كان قبل، كان جهلاً لا علماً. ولو علم عند وجوده أنه معدوم كان جاهلاً، فبعض هذه لا يقوم مقام بعض. فزعموا أن الله تعالى لا يختلف حاله في هذه الأحوال الثلاثة، فإنه يؤدي إلى التغير، وما لم يختلف حاله لم يتصور أن يعلم هذه الأمور الثلاثة، فإن العلم يتبع المعلوم، فإذا تغير المعلوم تغير العلم، وإذا تغير العلم فقد تغير العالم لا محالة، والتغير على الله محال. ومع هذا زعم أنه يعلم الكسوف، وجميع صفاته وعوارضه، ولكن علماً يتصف به في الأزل والأبد، لا يختلف. مثل أن يعلم مثلاً أن الشمس موجودة، وأن القمر موجود، وأنهما حصلا منه بوساطة الملائكة التي سموها باصطلاحهم عقولاً مجردة، ويعلم أنها تتحرك حركات دورية ويعلم أن بين فلكيهما تقاطعاً على نقطتين: هما الرأس والذنب، وأنهما يجتمعان في بعض الأحوال في العقدتين فتنكسف الشمس، إذ يحول جرم القمر بينها وبين أعين الناظرين، وتستتر الشمس عن الأعين، وأنه إذا جاوز العقدة مثلاً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 181 بمقدار كذا، وهو سنة مثلاً، فإنه تنكسف مثلاً، وأن ذلك الانكساف يكون في جميعها أو ثلثها أو نصفها، وإنه يمكث ساعة أو ساعتين، وهكذا إلى جميع أحوال الكسوف وعوارضه، فلا يعزب عن علمه شيء. ولكن علمه بهذا قبل الكسوف، وحال الكسوف، وبعد الانجلاء، على وتيرة واحدة، لا يختلف ولا يوجب تغيراً في ذاته، وكذا علمه بجميع الحوادث، فإنها إنما تحدث بأسباب، وتلك الأسباب لها أسباب أخرى، إلى أن تنتهي إلى الحركة الدورية السماوية، وسبب الحركة الدورية نفس السماوات. وسبب تحريك النفس الشوق إلى التشبه بالله والملائكة المقربين، والكل معلوم له، أي ينكشف له انكشافاً واحداً متناسباً، لا يؤثر فيه الزمان. ومع هذا فحال الكسوف لا يقال: إنه يعلم أن الكسوف موجود الآن، ولا يعلم بعده أنه انجلى الآن، وكل ما يجب في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 182 معرفته الإضافة إلى الزمان، فلا يتصور أن يعلمه، لأنه يوجب التغير. وهذا فيما ينقسم بالزمان. وكذا مذهبهم فيما ينقسم بالمادة والمكان، كأشخاص الناس والحيوانات، فإنهم يقولون: لا يعلم عوارض زيد وعمرو وخالد، وإنما يعلم الإنسان المطلق بعلم كلي، ويعلم عوارضه وخواصه، وأنه ينبغي أن يكون بدنه مركباً من أعضاء: بعضها للبطش، وبعضها للمشي، وبعضها للإدراك، وبعضها زوج، وبعضها فرد، وأن قواه ينبغي أن تكون مبثوثة في أجزائه، وهلم جراً، إلى كل صفة في داخل الآدمي وباطنه، وكل ما هو من لواحقه وصفاته ولوازمه، حتى لا يعزب عن علمه شيء، ويعلمه كلياً. فأما شخص زيد، فإنما يتميز عن شخص عمرو للحس لا للعقل، فإن عماد التمييز الإشارة إلى جهة معينة، والعقل يعقل الجهة المطلقة الكلية، والمكان الكلي. فأما قولنا: هذا وهذا، فهو إشارة إلى نسبة حاصلة لذلك المحسوس إلى الحاس، بكونه منه على قرب أو بعد أو جهة معينة، وذلك يستحيل في حقه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 183 قال الغزالي: وهذه قاعدة اعتقدوها واستأصلوا بها الشرائع بالكلية، إذ مضمونها أن زيداً مثلاً، لو أطاع الله أو عصاه، لم يكن الله عالماً بما يتجدد من أحواله، لأنه لا يعرف زيداً بعينه، فإنه شخص، وأفعاله حادثة بعد أن لم تكن، وإذا لم يعرف الشخص لم يعرف أحواله وأفعاله، بل لا يعلم كفر زيد ولا إسلامه، وإنما يعلم كفر الإنسان وإسلامه مطلقاً كلياً، لا مخصوصاً بالأشخاص، بل يلزم أن يقال: تحدى محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة. وهو لم يعرف في تلك الحال أنه تحدى بها، وكذلك الحال مع كل نبي معين، وإنه إنما يعلم أن من الناس من يتحدى بالنبوة، وأن صفة أولئك كذا وكذا. فأما النبي المعين بشخصه فلا يعرفه، فإن ذلك يعرف بالحس، والأحوال الصادرة منه لا يعرفها، لأنها أحوال تنقسم بانقسام الزمان من شخص معين، ويوجب إدراكها على اختلافها تغيراً. قال: فهذا ما أردنا أن نذكر من نقل مذهبهم أولاً، ومن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 184 تفهمه ثانياً، ثم نبين ما فيه من القبائح اللازمة عليه ثالثاً. قلت: قبائح مذهبهم أعظم وأكثر مما ذكره أبو حامد من وجوه كثيرة. ومضمون حجتهم أن علم الرب بأحوال عباده يستلزم تنوع علمه بهم لتنوع المعلوم، وأن ذلك تغير يمتنع على الله، ولم يقيموا على امتناع مثل هذا المعنى حجة صحيحة: لا شرعية ولا عقلية. ولفظ التغير فيه إجمال، كما ذكرناه في غير هذا الموضع. والتغير الممتنع ما يكون فيه استحالة تتضمن نقصاً. وأما ما ذكره من كون العلم يطابق المعلوم، فيتنوع بتنوع حاله فهو صفة كمال، وإلا كان العلم جهلاً. وأما إذا سموا هذا تغيراً وادعوا أن ما دخل في هذا الاسم وجب نفيه، فهو كتسميتهم إثبات الصفات تركيباً، ودعواهم أن ما يدخل في ذلك يجب نفيه. والحجج العقلية إنما تعتبر فيها المعاني لا الألفاظ. والحجج السمعية يعتبر فيها كلام المعصوم. وليس في كلام الله ورسوله، ولا الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ما ينفي هذا المعنى الذي سموه تركيباً وتغيراً، بل النصوص المتواترة التي جاءت بها الأنبياء عن الله، كلها تدل على إثبات ما نفوه من هذه المعاني، ولو لم يكن إلا إثبات علمه بكل شيء علماً مفصلاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 185 وهذا القرآن فيه من إخبار الله بالأمور المفصلة عن الشخص المعين، وكلامه المعين، وفعله المعين، وثوابه وعقابه المعين، مثل قصة آدم، ونوح، وهود، وصالح، وموسى، وغيرهم. ما يبين أنهم من أعظم الناس تكذيباً لرسل الله تعالى. وكذلك أخباره عن أحوال محمد صلى الله عليه وسلم، وما جرى ببدر، وأحد، والأحزاب، والخندق، والحديبية، وغير ذلك من الأمور الجزئية أقوالاً وأفعالاً. وأخباره أنه يعلم السر وأخفى، وأنه عليم بذات الصدور، وأنه يعلم ما تنقص الأرض من الموتى وعنده كتاب حفيظ، وأنه يعلم ما في السموات والأرض، وأن ذلك في كتاب. وأنه ما: {تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] . وأنه يعلم ما: {تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار*عالم الغيب والشهادة} [الرعد: 8-9] . وأنه: {عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام} [لقمان: 34] . وأنه: {قضى أجلا وأجل مسمى عنده} [الأنعام: 2] . وأنه: {يعلم ما يسرون وما يعلنون} [النحل: 23] . وأنه: {أعلم بما يقولون} [طه: 104] . إلى أمثال ذلك مما يطول ذكره في كتاب الله تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 186 ثم من أعظم الضلال والجهل أن ينفي النافي علم رب العالمين. بمخلوقه، لكون ذلك يستلزم ما يسمونه تغيراً وحلول حوادث. ثم نفي هذا المعنى لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، وإنما يوافقهم عليه الجهمية. ومن تلقاه عن الجهمية من الكلابية ونحوهم، فلا يقر بنفي ذلك إلا من هو من أهل الكلام المبتدع المذموم المحدث في الإسلام، ومن تلقاه عنهم جهلاً بحقيقته ولوازمه. وإذا كان علم الرب مستلزماً لهذا، كان هذا من أعظم البراهين على ثبوته، وخطأ من نفاه شرعاً وعقلاً، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الرسول إثبات العلم بكل شيء من الأعيان. فإذا تبين بصريح العقل أن ذلك يستلزم قيام هذه المعاني بالرب، لزم القول بذلك، كيف والقرآن قد دل على أنه يعلم الشيء بعد كونه، مع علمه بأن سيكون، في بعض عشرة آية، وقد ثبت بالدلائل اليقينية أنه يعلم كل ما فعله، وأنه بكل شيء عليم. وهو مقتضى حجتهم. وأما زعمهم مع هذا أنه يعلم الكسوف، وجميع صفاته وعوارضه. فيقال لهم: إن كان لا يعلم إلا كسوفاً كلياً، لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، فهو لم يعلم شيئاً من الكسوفات الموجودة. وإن علم الكسوف الموجود، فكل منها جزئي فلا يتصور أن يعلم الكسوف، إلا مع علمه بالكسوفات الجزئية. كلام ابن سينا باطل من وجوه. الوجه الأول كلام ابن سينا باطل من وجوه. الوجه الأول وهذا الذي قاله باطل من وجوه: من جهة دعواه أنه مع علمه بالعلة التامة لوجود كل موجود، لا يعلم شيئاً من المعلولات الحادثة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 187 وإنما يعلم أمراً كلياً لم يحدث، ولا علة لوجوده، فإن الكليات لا يوجد شيء منها إلا معيناً، فالعلة الموجبة له لا توجب إلا معيناً جزئياً، فمن لم يعلمه معيناً جزئياً، لم يعلم معلول العلة التامة. الوجه الثاني من جهة دعواه أنه إذا علم الكسوف على الوجه الكلي، علم جميع صفاته وعوارضه، وعلى هذا فيعلم وجود الإنسان علماً كلياً، مع علمه بجميع صفاته وعوارضه، وهذا باطل. فإن الصفات والعوارض التي يتصف بها الإنسان وتعرض له، لا يشترك فيها الإنسان، بل ما من إنسان إلا وله صفات وعوارض لا يشركه فيها غيره، كالسحنة والنغمة، فلا يشرك اثنان في سحنة ولا نغمة. وهذا من دلائل ربوبيته، وأنه بكل شيء عليم، فيمتنع أن يعلم جميع ما يتصف به الإنسان ويعرض له علماً كلياً، وكثير من ذلك، بل أكثره، علم يختص بالواحد من الناس، جزئي لا يشركه فيه غيره، وإن كان الناس يشتركون في أن لهذا رأساً، ولهذا رأساً، ولهذا قلباً وكبداً، ولهذا قلباً وكبداً، ولهذا وجهاً، ولهذا وجهاً، فما من شيئين من ذلك يستويان من كل وجه، بل لكل من ذلك صفة تخصه. فكيف يتصور أن يعلم تلك الخصائص من لا يعلم إلا الكليات المشتركة التي لا اختصاص فيها؟. الوجه الثالث أن هذه الجهات الحادثة من لوازم العلل التي يعلمها علماً تاماً. فكيف يتصور مع علمه بالعلة التامة علماً تاماً، أن لا يعلم لوازمها؟! وكل حادث بعينه هو من لوازمها، فأحد الأمرين لازم: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 188 إما أن العلم بالعلة التامة لا يستلزم العلم بالمعلول، وإلا فلا يكون عالماً علماً تاماً بالعلة التامة. وكلا المقدمتين يسلمون صحتها، فكيف يجوز أن يسلم هاتين المقدمتين، اللتين يقوم عليهما البرهان اليقيني، من ينازع في نتيجتهما اللازمة عنهما بالضرورة؟! وهل هذا إلا جهل بموجب البرهان القياسي في ذلك الذي هم دائماً يقررونه مادة وصورة؟!. الوجه الرابع أنهم يقولون: إن جميع الحوادث مستندة إلى حركة النفس الفلكية. ويقولون: إن النفس الفلكية تعلم جزيئات حركات الفلك. بل ادعى ابن سينا ومن اتبعه أنها تعلم جميع الحوادث لعلمها بأسبابها، لأن سببها هو الحركة الفلكية، والنفس الفلكية تعلم ذلك، فتعلم المعلولات المسببة عنها. وزعموا أن هذه النفس هي اللوح المحفوظ، التي أخبرت به الأنبياء، وأن المكاشفات التي تحصل في النوم واليقظة للأنبياء وغيرهم، هي لاتصال نفوسهم بهذه النفس الفلكية. وأبو حامد ذكر هذا المعنى موافقة لهم في طائفة من كتبه، واتبعه على ذلك طائفة من المتصوفة، وصاروا يدعون الأخذ من اللوح المحفوظ. ومنهم من يعرف مرادهم باللوح المحفوظ، ومنهم من لا يعرف ذلك، كما وقع ذلك في كلام غير واحد من متأخري الصوفية أتباع أبي حامد والمتفلسفة. هذا مع أن حركة الفلك ليست هي العلة التامة في حدوث الحوادث، بل يفيض من العقل الفعال ما يفيض من الصور، عند استعداد القوابل بحسب الحركة الفلكية. فهل ما يقوله هؤلاء في علم الرب وعلم النفس الفلكية التي ادعوا أنها اللوح المحفوظ إلا من أعظم الأقوال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 189 تناقضاً؟! حيث جعلوا ما هو بزعمهم جزءاً لسبب للحوادث. فادعوا أن العلم به يوجب العلم بجميع الحوادث الجزئية، ثم العلة التامة عندهم لكل شيء من حادث وغيره، قالوا: إن العلم التام به لا يوجب العلم بكل حادث، وهم في النفس الفلكية محتاجون بعد إثباتها إلى كون حركة الفلك سبباً لحدوث شيء. وهذا إذا سلم أو قامت عليه حجة لا يمكن أن يدعى أنه علة تامة باتفاقهم، مع اتفاق أهل الملل. فكيف يجعلون العلم بما ليس بعلة تامة للحوادث موجباً للعلم بجزئياتها؟ ويقولون: العلم التام بما هو علة لها لا يوجب العلم بها؟. ثم إذا كانت حركة الفلك صادرة عن الرب بوسط أو بغير وسط، وهو يعلم نفسه ويعلم مفعولاته ولوازمها ولوزام لوازمها، وذلك كله من مفعولاته بوسط أو بغير وسط، فإما أن يعلمها مفصلة معينة، أو لا يعلمها مفصلة. فإن علمها مفصلة، علم لوازمها، فعلم جميع الحوادث مفصلة معينة. وإن لم يعلمها مفصلة، فلا ريب أن علمه بحركات الفلك أولى من علم النفس الفلكية بكل ما يحدث في الأرض. فإن هذه أكثر اختلافاً من حركات الفلك. فالعلم بتلك أقرب إلى العلم الكلي، وهو سبحانه أكمل في خلقه لها، ولو بواسطة من إحداث النفس الفلكية لحوادث الأرض. ثم علم النفس الفلكية بالحركات: إما كمال وإما نقص، فإن كان نقصاً فينبغي تنزيه العالم العلوي منه، وإن كان كمالاً فخالقها أحق بذلك منها. ثم تلك الحركات وتصورات النفس وإرادتها جميعها مفعولة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 190 للرب ومعلولة له على اصطلاحهم، وهو الخالق لها. والعلم بالعلة التامة يوجب العلم بالمعلول، فيجب علمه بها، وإذا علمها وهي سبب الحوادث-وجب علمه بالحوادث. ودعواهم مع عدم علمه بالجزئيات أنه يعلم كل صفة في داخل الآدمي وباطنه، وكل ما هو من لواحقه وصفاته ولوازمه، حتى لا يعزب عن علمه شيء، ويعلمه كلياً-دعوى اثنان في أمر موجود في الخارج، بل ولا يتماثل شيئان من كل وجه، وإن كانا يتشابهان من بعض الوجوه. فالعلم بما يتشابه فيه الناس علم ببعض صفاتهم الكلية، ليس ذلك علماً بجميع صفات كل واحد منهم، ولا صفة كل واحد وعوارضه تماثل الآخر من كل وجه، حتى يكون العلم بالقدر المشترك علماً كلياً يتناولهما، بل لكل واحد خصائص لا يشاركه فيها غيره. والعلم بالقدر المشترك لا يتناول شيئاً من تلك الخصائص. والإنسان الموجود إنما كان هو الإنسان الموجود بخصائصه، لا بالقدر المشترك بينه وبين غيره. بل ذلك القدر المشترك إنما يكون في العلم، لا يكون في الوجود. فمن لم يعلم إلا الكلي -وهو القدر المشترك- لم يعلم شيئاً من الموجودات البتة. وإنما ننتفع نحن بالعلم الكلي في الأمور الجزء: 10 ¦ الصفحة: 191 الموجودة، إذا أدرجنا الموجودات في الأمر الكلي، كما في علم الشرع والطب وغير ذلك. فعلم الطبيب بأن السقمونيا تستخرج الصفراء، وأن الدم يستخرج بالفصد والحجامة، لا يوجب علماً بما ينتفع به الناس، إن لم يعلم أن هذا به صفراء، وهذا قد زاد به الدم. فإذا علم المعينات مع الكليات انتفع بعلمه، وأمكن أن يكون له تأثير في الوجود، ويصير علماً فعلياً، أي هو شرط في الفعل. فأما العلم الكلي بدون العلم بالجزيئات التي يفعلها الفاعل، فلا يكون علماً فعلياً، ولا يؤثر في وجود شيء ولا في فعله. وبهذا يتبين أن قولهم: إن علم الرب تعالى فعلي، مع إخراج الجزئيات الموجودة عنه تناقض يعرفه من تصور القولين. وعامة أقوال القوم متناقضة، لكن ضلالهم في مسألة العلم عظيم جداً، وهو من أقبح الكفر وأعظمه منافاة لصريح المعقول، وما فطر الله عليه عباده. وقوله: إن شخص زيد إنما يتميز عن شخص عمرو للحس لا للعقل، فإن عماد التمييز الإشارة إلى جهة معينة، والعقل يعقل الجهة المطلقة الكلية والمكان الكلي. فأما قولنا: هذا وهذا، فهو إشارة إلى نسبة حاصلة لذلك المحسوس إلى الحاس، بكونه منه على قرب أو بعد أو جهة معينة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 192 فيقال لهم: من الذي فرق في حق الخالق تعالى بين الحس والعقل حتى وصفه بالعقل دون الحس؟ فإن كنتم تحتجون بالمعقولات التي تعرفونها، فهي تبطل هذا الفرق. وإن كنتم تعتصمون بالشرع، فهو لم يطلق عليه اسم العقل ولا الحس، لكن قال: لفظ العلم والسمع والبصر، وبين أنه بكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، والسمع والبصر هو مما يريدونه بلفظ الحس. فإن قلتم: أن علمه بالجزئيات المشخصة لا يمكن إلا مع رؤيته لها. فلا محذور في إثبات رؤيته لكل مخلوق. وإذا قلتم: هذه المحسوسات في جهة، والإحساس بها يقتضي كونها بجهة من الحاس على قرب أو بعد. فهذا يناسب قولكم: إن ماليس في مكان ليس له نسبة إلى المكان. وحينئذ فيقال: أنتم تعلمون أن النفس لها تعلق للشعور والتدبير بالبدن الجزئي. فإن ذلك يستلزم أن يكون الذي يحس البدن جسماً، فالنفس جسم، وتدبير رب العالمين لمخلوقاته أعظم من تدبير النفس للبدن. فإن النفس ليست مستقلة بتدبيره، بل لها شركاء في قوى طبيعة وأسباب خارجية. وأما رب العالمين فلا شريك له في تدبير مخلوقاته، فيكون علمه بهم ورؤيته لهم أعظم من علم النفس ببدنها وإدراكها له، سواء سمي هذا وهذا حساً أو لم يسم. وما شاركتم فيه الجهمية من النفي لا ينفعكم، وإنما تنفعكم الأدلة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 193 الصحيحة أو الشرعية. وقد قدمنا غير مرة أنه ليس لكم دليل ينفي ما سميتموه تركيباً عن واجب الوجود، ولا ما ينفي الصفات، حتى أن الغزالي، مع نفيه لكون الرب جسماً، بين أنه لا دليل لكم على ذلك. وأنتم تقولون: لا دليل لنفاة المتكلمين على نفي ذلك، كما قد حكي ذلك عن الفريقين في موضعه، وبين ما ذكر في حجج الفريقين من الفساد العقلي والابتداع الشرعي. وأيضاً فإذا كان لا يعلم إلا الأمور الكلية الأزلية الأبدية التي لا تقبل التغير، فيجب أن لا يعلم أحداً من الأنبياء والرسل، ولا شيئاً مما أمروا به الناس، فإنه ليس شيء من ذلك أزلياً أبدياً، بل يجب أن لا يعرف وجود بني آدم ولا غيرهم من الحيوانات، إلا إذا ثبت أن وجود لك لازم لوجود الأفلاك. ومعلوم أنهم ليس لهم دليل على قدم نوع من المركبات، لا الإنسان ولا غيره من الحيوانات، وإن اعتقدوا قدم الأفلاك فإن حدوث الحوادث السفلية هو عن حركات الأفلاك. والحركات متنوعة، وتحدث فيها أشكال غريبة، فيجوز أن يكون حدوث ما حدث من الأنواع بسبب بعض الأشكال التي حدثت، ولهذا يجوز عندهم تحول المعمور من الربع الشمالي إلى الجنوبي، وغير ذلك من التغيرات العظيمة، ويجب أن لا يكون له علم بالطوفانات العامة، كطوفان نوح وغيره، لأنه من هذا الباب، بل يجب أن لا يكون عالماً بشيء من أحوال الأفلاك وغيرها، ما لم يثبت أن ذلك بعينه قديم أزلي. وهم لا دليل لهم على قدم شيء من العالم، وإنما حججهم تدل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 194 على قدم نوع فعله، لا على قدم شيء بعينه من المفعولات، وقد قامت الأدلة على أن كل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وإن قيل: إنه لم يزل متكلماً فاعلاً. وعلى هذا التقدير فلا يكون عالماً بشيء من مخلوقاته، إذ كلها حادثة، وهم لا يعلمون شيئاً من المحدثات، ويجب أن لا يكون عالماً بما يتكلم به وما يفعله، مع قيام الدليل على أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، بل ولازم هذا القول أنه لم يفعل شيئاً، فإنه لا يفعل إلا بمشيئته، ولا يشاء إلا مع علمه بما يشاؤه، فإذا قدر أنه لم يعلم الفعل المعين والمفعول المعين، لزم أنه لم يفعل شيئاً، ولزم أن كل من فعل بقدرته ومشيئته كان أكمل منه، لأنه فعل بعلم وقدرة ومشيئة، وهذا في صريح العقل أكمل ممن لا يفعل شيئاً، أو ممن يفعل بلا قدرة ولا مشيئة ولا علم. وأيضاً فإنما يجوز أن يعلم المفعولات على وجه كلي أزلي أبدي لا يتغير، أن لو كانت المخلوقات مخلوقة على هذا الوجه، ولو كان كذلك لزم أن لا يكون في العالم شيء من الحوادث، لأن حدوث الحادث بعد أن لم يكن إنما يكون عن حدوث تمام علته، وحدوث تمام العلة لا بد له من سبب حادث، وهو تمام علته التامة، حتى ينتهي الأمر إليه تعالى، فلا بد أن يحدث ما يكون تمام العلة التامة لحدوث الحوادث، فإن قدر أنه لم يعلم إلا الأمر القديم الأزلي الأبدي، امتنع أن يحدث شيئاً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 195 لوجهين: أحدهما: أن الحادث لا يحدث عن قديم أزلي أبدي بدون حادث. وهذا أصلهم الذي يقولون به. ثم نقول: إن جاز حدوث الحادث عن القديم، جاز أن يفعل بعد أن لم يكن فاعلاً، ولزم حينئذ علمه بالمحدثات. وإن لم يجز ذلك امتنع أن يحدث عن العلة القديمة التامة شيء من الحوادث، فلا يحدث في العالم شيء. وإذا بطل كون العالم مخلوقاً عن علة أزلية لم يحدث عنها، لزم أن الحوادث حدثت عند كمال الموجب لحدوثها، وذلك بحدوث تمام الموجب لحدوثه، وذلك يرجع إلى أمور قائمة به متعلقة بمشيئته وقدرته، وحينئذ فيجب علمه بها، لأنه من لوازم نفسه، ولامتناع وجودها بدون العلم بها. وأيضاً فلأن الحوادث إنما هي صادرة عنه، سواء صدرت بوسط أو بغير وسط، فإن لم يكن عالماً بها على الوجه الذي حدثت عليه، لم يكن عالماً بعلتها التامة المستلزمة لحدوثها، لأن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بالمعلول، فإذا قدر عدم العلم بالمعلول، لزم عدم العلم بالعلة التامة، وإذا امتنع العلم بالعلة التامة، لزم أن ينتفي العلم بعلة العلة، حتى يلزم عدم علمه التام بنفسه. وإذا قدر عالماً بنفسه، لزم علمه بكل حادث على الوجه الذي حدث عليه، ولزم علمه بكل جزئي، لأنه هو الفاعل له على هذا الوجه، وإن كان بطريق اللزوم، فإن علمه بالملزوم كفعله للملزوم، والعلم التام بالملزوم يوجب العلم بلوازمه، كما تقدم بيانه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 196 كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن صفة الإرادة ورد ابن تيمية عليه قال ابن رشد: وأما صفة الإرادة فظاهر اتصافه بها، إذ كان من شرط صدور الشيء عن الفاعل العالم أن يكون مريداً له، وكذلك من شرطه أن يكون قادراً. فأما أن يقال: إنه مريد للأمور المحدثة بإرادة قديمة فبدعة، وشيء لا يعقله العلماء، ولا يقنع الجمهور، الذين بلغوا رتبة الجدل، بل ينبغي أن يقال: إنه مريد لكون الشيء في وقت كونه، وغير مريد لكونه في غير وقت كونه، كما قال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40] ، فإنه ليس عند الجمهور شيء يضطرهم إلى أن يقولوا: إنه مريد للمحدثات بإرادة قديمة، إلا ما توهمه المتكلمون من أن الذي تقوم به الحوادث حادث. وقد تبين من قولنا: إن الحوادث التي توجب الحدوث للمحل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 197 الذي تقوم به، هي الحوادث التي تغير جوهر الشيء، وأما تحقيق إرادة الإله فمن علم الخواص الخاص بهم، فهؤلاء أرادوا أن يفهموا الناس من الإرادة معنى غير المفهوم من معنى الإرادة المعروفة المفهومة، التي صرح بها الشرع، وهو معنى لا يفهمه الجمهور، ولا تكيفه العقول، وجعلوا ذلك أصلاً من أصول الشريعة، وكفروا من لم يقل به. وإنما طور العلماء في هذا المقام أن يقوم البرهان عندهم أن هناك إرادة غير مكيفة لا يقال عنها: إنها إرادة قديمة يلزم عنها حادث، ولا إرادة حادثة، مثل التي في الشاهد، بل هي إرادة العقول الإنسانية مقصرة عن تكييفها، كما هي مقصرة عن تكييف سائر الصفات التي وصف بها نفسه، لأنها متى كيفت أشبهت الصفات المكيفة المحدثة، فوجب أن يصدق بجميعها بالدلائل البرهانية بلا كيف. قلت: أما كونها إرادة ليست مثل إرادة الخلق، فهذا لا بد منه فيها وفي سائر الصفات. هذا لا يختص بالإرادة، كما أن الرب نفسه ليس كمثله شيء، فصفاته كذاته. لكن مجرد نفي هذا لا ينازعه فيه أحد، ومضمون كلامه الوقف عن الكلام في قدمها وحدوثها، لا بيان حل الشبهة، كما فعل في مسألة العلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 198 والفلاسفة الدهرية حائرون في هذا الموضع. ومن يتكلم فيها تناقض كلامه، لفساد الأصل الذي يبنون عليه، وهو صدور الحوادث عن علة موجبة لمعلولها بوسط أو بغير وسط، فإن هذا ممتنع، بل هو جمع بين النقيضين، لأن العلة التامة لا يتخلف عنها شيء من موجبها، ولا موجب موجبها، والحوادث متأخرة، فلا يكون من موجبها ولا موجب موجبها، فجعلها من موجبها أو موجب موجبها تناقض. فإذا كانوا حائرين في أصل صدور الحوادث عنه، فكيف في إرادته لها وعلمه بها؟. وما ذكره من أن نفاة المتكلمين لا دليل عندهم إلا ما ذكر من أن الذي تقوم به الحوادث حادث، وما ذكره من إبطال دليلهم على ذلك، هو له ألزم. فإن الفلاسفة يقيموا على ذلك دليلاً بحال، إلا ما ينفي الصفات مطلقاً. وقولهم في ذلك باطل متناقض إلى الغاية، كما قد بين في موضعه. وكلامه يتضمن إثبات الصفات. فإذا كان من أصلهم أن القديم قد يقوم به الحادث، مع أنه تقوم الصفات بالواجب القديم، كان ما ألزمه لنفاة المتكلمين له ألزم. قال: فإن قيل: فصفة الكلام من أين تثبت له؟ قلنا: تثبت له من قيام الصفة العلم به، وصفة القدرة على الاختراع. فإن الكلام ليس شيئاً أكثر من أن يفعل المتكلم فعلاً يدل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 199 عند المخاطب على العلم الذي في نفسه، ويصير المخاطب بحيث ينكشف له ذلك العلم الذي في نفسه. وذلك فعل من جملة أفعال الفاعل. قلت: الكلام ليس هو من نفس التكليم، فليس كل متكلم مخاطباً لغيره، والنظر أولاً في إثبات كونه متكلماً، ثم في إثبات كونه مكلماً لغيره، وما ذكره إنما هو في إثبات كونه مكلماً لغيره. ثم إنه لم يذكر إلا مجرد الإعلام والإفهام والدلالة بأي طريق كان. وما يسمى إعلاماً وإفهاماً. ويسمى تكليماً مع الإطلاق أو التقييد درجات. كما قال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] ، فالتكلم من وراء حجاب كما كلم موسى، وبإرسال ملك كما أرسل جبريل بالقرآن، أعظم من مجرد الإيحاء. كما قال: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7] . وقال: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} [المائدة: 111] . ولا ريب أن الدلالة على مراتب: أحدها: أن يدل الدليل بغير شعور منه ولا قصد، فهذا الذي يسمى لسان الحال، وكل ما يسمى دليلاً فيسمى بهذا الإعتبار شاهداً ومعرفاً وقائلاً، كما قال: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 200 امتلأ الحوض وقال قطني قطني رويداً قد ملأت بطني وقالت: انساع بطنه. وقال الحائط للوتد: لم تشقني؟. ولا يجوز أن يجعل تكليم الله من هذا الباب عند المسلمين، وقد يجعل تكليمه من هذا الباب من يقول: إنه لا يعلم الجزئيات. والدرجة الثانية: أن يكون الدال عالماً بالمدلول عليه، لكنه لم يقصد إفهام مخاطب، ولكن حاله دل المستدل على ما علمه، كالأصوات التي تدل بالطبع، مثل البكاء والضحك ونحوهما، فإنها تدل على ما يعلمه المرء من نفسه، مثل الحزن والفرح وكذلك صفرة الوجل وحمرة الخجل تدل على ما يعلمه المرء من فزعه وحيائه، وإن لم يقصد الإعلام بذلك. ومن هذا الباب قول الشاعر: تحدثني العينان ما القلب كاتم ... ولا خير في الشحناء والنظر الشزر وقول الآخر: والعين تعلم من عيني محدثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها ومن هذا الباب قوله تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول} [محمد: 30] ، فهو يعلم من السيماء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 201 ومن لحن القول ما لم يقصدوا الإعلام به. وتكليم الله عند المسلمين لا يجوز أن يكون من هذا الباب، اللهم إلا عند القدرية، الذين يقولون: إن ما يحدث من علم العبد قد يحدث بدون إرادة الله. والدرجة الثالثة: الدلالة التي يقصدها الدال: فمنها: الإعلام بغير خطاب مسموع، كمن يعلم لغيره علامات تدله على ما يريد، وكإشارة الأخرس، ونحو ذلك. فالله تعالى قد يعلم عباده بأنواع كثيرة من الدلائل والإعلام. وهذا هو الذي أثبته المذكور. ولكن لازم هذا أن يكون كل من علم علماً فقد كلمه الله، فإنه قد نصب دليلاً أيعرفه بذلك، والله عالم به، وهو مريد لما وقع. ولهذا قال: وقد يكون من تكليم الله ما يلقيه إلى العلماء بواسطة البراهين لكن من الناس من يستشعر أن الله هداه إلى ذلك وعلمه إياه، بما نصبه من الأدلة. ومن الناس من قد يعرض عن ذلك، ولا ينظر إلا إلى ما دله، وقد يقع بنفس الإنسان من ذلك مالا يعرف عليه دليلاً معيناً. ومعلوم أن جعل كلام الله ليس إلا من هذا النوع خطأ، بل هذا النوع ليس هو الإيحاء المذكور في القرآن، فإن ذاك إيحاء بما يؤمر به. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 202 كما قال تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} [المائدة: 111] . وقال: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7] . بل إيحاء النحل ليس مقتصراً على هذا، فإن ذاك أيضاً إيحاء بما يريد أن يفعل، وهذا ليس فيه إلا مجرد الإعلام. والتكليم للغير قد يكون مجرد إخبار له وإعلام، وقد يكون طلباً منه لفعل أو لترك: إما لمصلحته، وإما لمجرد إرادة الأمر. وهذا النوع من التكلم مستلزم للأول، والأول لا يستلزم هذا، فليس كل من أعلم بشيء أمر بشيء، وكل من أمر بشيء فقد أعلم بالمأمور به، وهو لم يذكر إلا مجرد الإعلام، فاقتصر على أدنى نوعي التعليم في آخر درجات التكليم. وهذا الذي ذكره غاية ما يثبته القائلون بقدم العالم من المتفلسفة والصابئة ونحوهم. والذين يقولون: إن الله يتكلم بكلام مخلوق يخلقه في غيره، خير من هؤلاء. وهذا الدرجة أرفع من درجة مجرد الإعلام مع قصده العلم، لأن هذا إعلام بكلام منظوم مسموع، وهذا أبلغ من إعلام بمجرد ما يقع في النفس، فإذا كان من لم يثبت لله كلاماً إلا كلاماً مخلوقاً في غيره، مع أنه حروف منظومة، من أضل الناس عند سلف الأمة وأئمتها، فكيف من لم يثبت إلا مجرد الإعلام؟!. وأهل السنة لا ينازعون في أن مثل هذا الإعلام واقع من جهة الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 203 تعالى، ولكن يقولون: ليس كلامه وتكليمه هو هذا فقط، بل هذا يحصل لعموم الخلق. وأما تكليمه من وراء حجاب، أو بإرسال رسول، فهذا مخصوص بالأنبياء. وهؤلاء المتفلسفة يجعلون النبوة من جنس ما يحصل لعلماء الفلاسفة الكاملين عندهم. ومن هذا صار كثير من متصوفة الفلاسفة يطمعون في النبوة، أو فيما هو أعلى منها عندهم، كما حدثونا عن السهروردي المقتول أنه كان يقول: لا أموت حتى يقال لي: قم فأنذر. وكذلك ابن سبعين كان يقول: لقد زرب ابن آمنة حيث قال: لا نبي بعدي. وابن عربي صاحب الفتوحات المكية كان يتكلم في خاتم الأولياء، ويقول: إنه أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وإن الأنبياء جميعهم يستفيدون العلم بالله من جهة هذا المسمى بخاتم الأولياء، والعلم بالله عندهم هو القول بوحدة الوجود، كما قد عرف من قول هؤلاء ويقول: مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 204 ويقول: إن خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول. وهذا على أصل هؤلاء الفلاسفة الملاحدة، الذين يجعلون الملائكة ما يتمثل في نفس النبي من الصور الخيالية النورانية، وكلام الله ما يحصل في نفسه من ذلك. فالنبي عندهم يأخذ عن هذه الأمثلة الخيالية في نفسه الدالة على العلم العقلي، والولي يأخذ العلم العقلي المجرد. ولهذا يجعلون تكليم الله لأحدهم أفضل من تكليمه لموسى بن عمران، لأن موسى كلم عندهم بحجاب الحرف والصوف، أي بخطاب كان في نفسه، ليس خارجاً عن نفسه. ويقول بعضهم كلم من سماء عقله، وأحدهم يكلم بدون هذا الحجاب، وهو إلهامه المعاني المجردة في نفسه. وصاحب خلع النعلين وأمثاله يسلكون هذا المسلك. وهؤلاء أخذوا من مشكاة الأنوار التي بناها واضعها على قانون الفلاسفة، وجعل تكليم الله لموسى من جنس ما يلهمه النفوس من العلوم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 205 ولما كان ابن رشد هذا يعتقد في الباطن ما يعتقده من مقالات المتفلسفة، كانت غايته فيما أثبته من كلام الله، هو من جنس الإعلام العام، الذي يشترك فيه نوع الإنسان. ولهذا كانت اليهود والنصارى أعظم إيماناً بالله وأنبيائه ودينه وبالآخرة من الفلاسفة، لكن في اليهود والنصارى من يسلك مسلك هؤلاء المتفلسفة، فيجتمع فيه الضلالان. واليهود والنصارى آمنوا ببعض ما أنزل الله وكفروا ببعض. كما قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا} [النساء: 150-151] . لكن أولئك آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض، وهؤلاء المتفلسفة قد يقرون بجميع الأنبياء والكتب، لكن هم في إيمانهم بجنس الأنبياء والكتب، يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، فخيارهم يؤمنون بدرجة من درجات إعلام الله وإيحائه إلى عباده، كما ذكر ابن سينا وابن رشد وأمثالهما، ولا يؤمنون بما فوق ذلك. وكذلك فيما أخبرت به الرسل من الغيب: يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. وكذلك فيما أمروا به، فهم يؤمنون ببعض نوع الرسالة ويكفرون ببعض. ولهذا قد يكون اليهود والنصارى خيراً منهم، وقد يكون خيارهم أقرب إلى الإسلام من اليهود والنصارى من بعض الوجوه، ويكونون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 206 من هذا الوجه خيراً من اليهود والنصارى. ومعلوم أن المنافقين الداخلين في الإسلام فيهم من هو شر من اليهود والنصارى، وفيهم من يكون نفاقه أخف من كفر اليهود والنصارى. تابع كلام ابن رشد عن صفة الكلام ورد ابن تيمية عليه قال ابن رشد: وإذا كان المخلوق الذي ليس بفاعل حقيقي -أعني الإنسان- يقدر على هذا الفعل من جهة ما هو عالم قادر، فإنه بالحري أن يكون ذلك واجباً في الفاعل الحقيقي. قال: ولهذا الفعل شرط آخر في الشاهد، وهو أن يكون بواسطة، وهو اللفظ. وإذا كان هذا هكذا، وجب أن يكون الفعل من الله تعالى، في نفس من اصطفى من عباده، بواسطة ما، إلا أنه ليس يجب أن يكون لفظاً، ولا بد مخلوقاً له، بل قد يكون بواسطة ملك، وقدي كون وحياً، أي يغير لفظ يخلقه، بل يفعل فعلاً في السامع ينكشف له به ذلك المعنى. وقد يكون بواسطة لفظ يخلقه الله في سمع المستمع المختص بكلامه. وإلى هذه الأطوار الثلاثة الإشارة بقوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 207 وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] . فالوحي هو وقوع ذلك المعنى في نفس الموحى إليه بغير واسطة لفظ يخلقه، بل بانكشاف ذلك المعنى له بفعل يفعله في نفس المخاطب. كما قال تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 9-10] . وقوله: {من وراء حجاب} هو الكلام الذي يكون بواسطة ألفاظ يخلقها في سمع الذي اصطفاه بكلامه، وهذا هو كلام حقيقي، وهو الذي خص الله به موسى، ولذلك قال: {وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 164] . وأما قوله: {أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه} [الشورى: 51] ، فهذا هو القسم الثالث، وهو الذي يكون بواسطة الملك. قال: وقد يكون من كلام الله ما يلقيه إلى العلماء، والذين هم ورثة الأنبياء، بواسطة البراهين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 208 قلت: هذا كله على أصله إخوانه الفلاسفة كما تقدم. وهؤلاء في الحقيقة لم يثبتوا لله كلاماً ولا تكليماً هو أمر ونهي، وإنما أثبتوا مجرد العلم والإعلام. وقوله: ولهذا الفعل شرط في الشاهد -وهو اللفظ- فيجب أن يكون من الله بواسطة، وهو الملك، أو جعل العبد عالماً بذلك، أو لفظ يخلقه في سمع المستمع فهذا شر من قول المعتزلة، الذين يقولون: كلام الله مخلوق. كلام ابن رشد السابق خطأ من عدة وجوه وهو متضمن لعدة وجوه من الخطأ: منها: أن الملك إذا كان واسطة رسول إلى من أرسل إليه، كما أن البشر أيضاً رسول، ومثل هذه الواسطة قد تكون من العبد أيضاً، فإنه قد يرسل رسولاً، كما يكتب كتاباً، والرسول مبلغ لكلام المرسل، فلا بد من إثبات كلام يبلغه الرسول. والرسول قد يبلغ لفظ المرسل، وقد يبلغ معناه بعبارة أخرى، وقد يفهم مراده بطريق آخر فيبلغه عنه، فهذا كله يقع في البشر، كما يقع تكليم بعضهم لبعض باللفظ، فلا يجعل هذا من الله نوعاً من الأنواع القائمة مقام اللفظ من البشر، فإن البشر تجمع بين النوعين: بين اللفظ وبين هذا، فكان الواجب أن يجعل هذا من الله قائماً مقام الإرسال من البشر، لا مقام اللفظ. وأيضاً فإن الأقسام الثلاثة التي ذكرها لا تقوم مقام اللفظ من البشر. أما إحداث الفهم في العبد، فهذا مفعول من مفعولات الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 209 كسائر مفعولاته، فجعل العبد يعلم بمنزلة جعله يسمع ويبصر، ويقدر ويعمل. ومعلوم أن هذا لا يقدر عليه غير الله، وهو مع هذا متناول لجميع الحيوان. قال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى* الذي خلق فسوى* والذي قدر فهدى} [الأعلى: 1-3] . وقال موسى: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] . فهل يكون كل من جعله الله يعلم ما لم يكن يعلم يكون قد كلمه الله؟ وأيضاً فهذا ليس نظير خطاب الإنسان بلفظه، ولا هذا واسطة في هذا التكليم، بل هذا هو نفس الواسطة. وهو يثبت أمرين: أحدهما: فعل من الله هو التكليم. والثاني واسطة أخرى غير الفعل. وذلك لا يصلح لأمرين: أحدهما: أن الفعل غير المفعول، كما أقر بذلك غير مرة. وهنا لا يثبت لله فعلاً غير ما حدث في نفس الملهم. الثاني: أنه ليس هناك واسطة غير هذا الحادث، فنفس كون العبد يعلم هو التكليم عنده، وهو مفعول الحق. وإذا قدر قبل هذا العلم خلق استعداد في العبد، وإثبات شروط، وإزالة موانع، فتلك هي شروط العلم، كالنظر والاستدلال فيما يحصل بذلك. وأما قوله: بواسطة لفظ يخلقه الله في سمع المستمع المختص بكلامه. فيقال له: هذا اللفظ: إن كان موجوداً في شيء خارج عن المستمع، فهو قول المعتزلة، الذين يقولون: إن الله كلم موسى بكلام مخلوق في غيره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 210 وهو لم يرد هذا، بل قوله وقول أصحابه شر من هذا. وإن أراد ما هو مدلول لفظه وقول أصحابه، وهو أنه خلق لفظاً في نفس موسى سمعه موسى من غير أن يكون له وجود في الخارج، فهذا من جنس ما يسمعه النائم في نفس من الأصوات، وما يقع لأرباب الرياضيات من الأصوات التي يسمعونها في أنفسهم. ولا ريب أن إحداث المعاني العقلية المجردة في نفس الإنسان أكمل من إحداث هذه في نفسه، فيكون تكليمه لموسى أنقص من إيحائه إلى سائر النبيين، والله قد فضل موسى بالتكليم، وعلم ذلك بالضرورة من دين المسلمين واليهود والنصارى. قال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا* ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 163-164] . وقال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله} [البقرة: 253] . وقال: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} إلى قوله: {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} [الأعراف: 143-144] . وقال: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا} [مريم: 52] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 211 وقال: {فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} [القصص: 30] . وقال: {هل أتاك حديث موسى * إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} [النازعات: 15-16] . وما ذكروه من حدوث أصوات في نفس الإنسان يسمعها: إما يقظة وإما مناماً، يحصل لآحاد الناس في كثير من الأوقات، وسمع الإنسان للهواتف في نفسه أكثر من أن يحصى، فإن كان تكليم موسى من هذا الجنس، فآحاد الناس شركاؤه في هذا، فكيف بالأنبياء، فكيف بالمرسلين؟!. ومعلوم أن الله خص موسى بالتكليم تخصيصاً لم يشركه فيه: لا نوح، ولا إبراهيم، ولا عيسى، ولا نحوهم من النبيين. وقوله: إن ذلك الكلام الذي يكون بواسطة ألفاظ يخلقها في سمع الذي اصطفاه بكلامه، وهذا هو كلام حقيقي، وهو الذي خص به موسى كلام باطل، فإن هذا ليس بالتكليم الحقيقي الذي خص به موسى، بل ليس هو التكليم الحقيقي عند أحد من الأمم. ولا يعقل أحد في التكليم هذا، وإنما هذا من جنس المنامات، وغايته أن يكون من جنس الإيحاء. والإنسان قد يرى في منامه أن الله خاطبه بكلام كثير يسمعه، فإن كان هذا كلام حقيقي لله، فما أكثر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 212 الكلام الحقيقي لله، وما أكثر تكليمه بكلام حقيقي لآحاد الناس! كما كلم موسى بن عمران النجي المقرب المخصوص بالتكليم. وأيضاً قوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب} [الشورى: 51] ، يقتضي أن التكليم من وراء حجاب نوع غير الوحي، وأن المكلم بذلك محجوب أن يرى الله، لأن التكليم المسموع قد يكون مع رؤية المستمع للمتكلم، وقد يكون مع كونه محجوباً عنه، بخلاف الوحي، فإنه يقع في قلبه، فلا يحتاج أن يجعل نوعين. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان» ، فلو كان الكلام المسموع هو شيئاً قائماً بالمستمع، لا وجود له في الخارج، لكان من جنس الوحي الذي لا يحسن أن يقال معه: من وراء حجاب، فإن صاحب هذا لم يسمع شيئاً منفصلاً عنه، يمكن مشاهدة المتكلم به تارة، وحجب المستمع عنه أخرى. والكلام على هذا مبسوط في موضعه. والمقصود هنا التنبيه على ما تعرف به الأقوال الموافقة للقرآن والمخالفة له، فإن هذا الباب خاض فيه طوائف من الناس. وأكثر الناس يسمعون كلام هذا وهذا، ولا يعرفون حقائق الأقوال ومراتبها في القرب من الحق والبعد منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 213 تابع كلام ابن رشد عن صفة الكلام ورد ابن تيمية عليه قال ابن رشد: وقد يكون من كلام الله ما يلقيه إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بواسطة البراهين، وبهذه الجهة صح عند العلماء أن القرآن كلام الله. أعني أن القرآن تضمن براهين عجزت العقول البشرية عنها، فوجب أن يكون فاعلها هو الله. وفاعل البرهان عند الناظر فيه مقطوع عنده أن فاعل ذلك متكلم. قلت: هذا بناه على ما تقدم من أن التكليم ليس إلا مجرد الإعلام، فما علمه العالم بالدليل هو من هذا النمط وهذا مما يبين ضلاله، فإنه من المعلوم بالإضرار أن تكليم الله لأنبيائه بالوحي الذي يخصهم أمر لا يحصل للعلماء، ما ذكره في القرآن مضمونه أن القرآن فيه من البراهين ما تعجز عنه العقول، فوجب أن يكون مفعولاً لله على زعمه. وهو، والمعتزلة، يقولون: إنه مفعول أحدثه في شيء منفصل عن الرسول وعن جبريل، وهؤلاء عندهم لا يكون إحداثه إلا في نفس الرسول أو جبريل، عند من يسلم أن جبريل ملك منفصل عن النبي قائم بنفسه، وهذا لا يقوله إلا من قرب إلى الإسلام منهم، وأئمتهم لا يقولون ذلك، ولا يعرفون جبريل إلا ما في نفس النبي من الخيال أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 214 العقل الفعال. فقول المعتزلة خير من قول هؤلاء بكثير. ويقال له: القرآن إذا تضمن براهين عجزت العقول عنها، فمن أين وجب أن يكون مفعولاً لله؟ وما المانع من أن يكون كلاماً يتكلم الله به؟ هذا لا مانع منه إلا ما يقوله نفاة الصفات، وأنتم قولكم في إثباتها ونفيها متناقض، تثبتونها تارة وتنفونها أخرى، ولا دليل لكم على النفي إلا ما قد عرف فساده، والأدلة اليقينية توجب إثباتها، أو ما يقوله من ينفي أفعاله، وما يقوم به من الأمور التي يختارها ويقدر عليها، كالتكليم مثلاً، وأنتم قد بينتم فساد هذه الحجة التي استدل بها نفاة ذلك. قال: فقد تبين لك أن القرآن -الذي هو كلام الله- قديم، وأن اللفظ الدال عليه مخلوق له سبحانه وتعالى لا للبشر. فيقال له: ليس فيما ذكرته ما يقتضي أن القرآن -الذي هو كلام الله- قديم، فإن غاية ما ذكرته أن يكون القديم هو العلم، والقرآن ليس هو مجرد العلم: لا حروفه ولا معانيه. أما حروفه، فظاهر. وأما معانيه، فإن معاني الكلام نوعان: إنشاء وإخبار. فأما الإنشاء ففيه الأمر والنهي، المتضمن للطلب أو للإرادة، التي بمعنى المحبة. ونحو ذلك. وأما الخبر فهل معناه من جنس العلم، أو حقيقة أخرى غير العلم؟ ففيه قولان معروفان. فإذا لم يكن في كلامك ما يمكن أن يكون قديماً غير العلم، لم يكن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 215 معنى القرآن عندك قديماً، ولكن بعض معناه. ثم الكلام في تعدد هذه المعاني واتحادها، وتعدد العلم والإرادة واتحاد ذلك لم يتكلم هو فيه، وقد ذكر في غير هذا الموضع. وكذلك يقال له: ليس فيما ذكرته أن اللفظ الدال عليه مخلوق له سبحانه لا لبشر، فإنك لم تذكر إلا مجرد دعوى: أنه يسمع ألفاظاً في نفسه، ولم تقم دليلاً على ذلك. ولو قدر أن مثال ذلك يسمى كلام الله، كان قول القائل: إن القرآن من هذا الباب -دعوى تفتقر إلى دليل، وهو لم يذكر دليلاً على ذلك، ولا دليل له إلا ما قد اعترف هو بضعفه، كدليل ابن سينا على نفي الصفات، ودليل المعتزلة والأشعرية على أن ما لم يسبق الحوادث فهو حادث، أو دليل المعتزلة على نفي الصفات، وهو أضعف من ذلك. فهذا مجموع ما ذكره، هو وأمثاله في كتبهم، وهي ترجع إلى دليل الحوادث والتعدد والاختصاص، ليس لهم رابع. ثم يقال له: بتقدير تسليم ما قدمته، قولك في القرآن باطل، وذلك لأنه لا يمكنك أن تقول فيه ما قلته في تكليم موسى، فإن موسى كلمه الله تكليماً، فزعمت أنت وأمثالك من الملاحدة أن معنى ذلك خلق كلام مسموع في مسامع موسى، كما زعم المعتزلة - الذين هم خير منكم - أن ذلك كلام مسموع خلقه في جسم من الأجسام فسمعه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 216 موسى، وأما القرآن فنزل به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكلم الله به محمداً بلا واسطة. وإذا كان جبريل نزل به من الله، وأنتم تقولون ليس هنا جبريل منفصل عن النبي، وإنما جبريل ما يتخيل في نفسه من الصور النورانية التي تخاطبه، وحينئذ فيكون من خلق في نفسه هذه الأصوات ابتداءً قد كلمه الله تكليماً، ومن خلقت فيه بواسطة هذه الصورة نزل جبريل بها، فيكون ما يحصل لآحاد الناس من الأصوات التي يسمعها في نفسه أعظم من القرآن، وهي بأن تكون كلام الله أحق من القرآن، وتكون التوراة أعظم من القرآن. وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين أن جبريل ملك حي متكلم، كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، ليس هو مجرد ما يتخيل في نفسه. قال تعالى: {إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين} إلى قوله: {ولقد رآه بالأفق المبين} [التكوير: 19-23] ، فأخبر أنه رسول كريم، ذو قوة عند ذي العرش، وأنه مطاع هناك أمين. ومن المعلوم أن ما في نفوس البشر من الصور لا يوصف بهذا وقال تعالى: {علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * الجزء: 10 ¦ الصفحة: 217 ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم: 5-18] ، فأخبر أن معلمه معلم شديد القوى، وأنه ذو مرة. والناس قد تنازعوا في المرئي مرتين، فقال ابن مسعود وعائشة وغيرهما: هو جبريل، رآه على صورته التي خلق عليها مرتين، كما ثبت ذلك في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس وغيره: رأى ربه بفؤاده مرتين. ومن المعلوم أنه إذا كان المرئي جبريل، وأنه الذي رآه عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأموى، وأنه استوى وهو بالأفق الأعلى -امتنع أن يكون جبريل ما في نفسه. وإن كان المرئي هو الله، فهو أعظم. ومن هؤلاء من يقول: جبريل هو العقل الفعال، ويقول: ليس بضنين: أي ببخيل، لأنه فياض. وهذا جهل، لأن قراءة الأكثرين: بظنين، أي بمتهم. وهو المناسب، أي ما هو بمتهم على ما غاب عنا، بل هو أمين في إخباره بالغيب. وإذا قيل: ضنين، بمعنى بخيل، كان ذلك وصفاً له بأنه لا ينجل بعلم الغيب، بل يبين الحق. ولهذا قال: على الغيب بظنين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 218 وما يزعمونه من العقل الفعال هو عندهم تفيض منه جميع الأمور المشاهدة، فليس هنا غيب وشهادة. ثم من المعلوم بالاضرار من دين المسلمين أن جبريل لم يبدع الأرض والجبال، والهواء والسحاب، والحيوان والمعدن والنبات. وهم يزعمون أن هذا العقل الفعال أبدع كل ما تحت فلك القمر. وقد بسط الكلام على هذا، وبين أن الملائكة التي وصفها الله في كتابه لا يصح أن تكون هي ما يذكرونه من العقول والنفوس بوجوه كثيرة. قال: وبهذا باين لفظ القرآن الألفاظ التي ينطق بها في غير القرآن، أعني أن هذه الألفاظ هي فعل لنا بإذن الله. وألفاظ القرآن هي خلق الله، ومن لم يفهم هذا على هذا الوجه لم يفهم هذه الصورة، ولا فهم كيف يقال في القرآن: إنه كلام الله. فيقال له: كلا ما يحدثه الله تعالى في نفوس الآدميين من الحروف والأصوات التي يتخيلونها في المنام واليقظة، هي على قولكم بمنزلة القرآن في أنها خلق الله. ومن المعلوم أن الألفاظ التي يؤلفها الفضلاء خير من أكثر الألفاظ التي يتخيلها أكثر الناس في المنام واليقظة، فأي فضيلة للقرآن بهذا الإعتبار؟!. قال: ومن نظر إلى اللفظ دون المعنى، قال: إن القرآن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 219 مخلوق. ومن نظر إلى المعنى الذي يدل عليه اللفظ، قال: إنه غير مخلوق. والحق هو الجمع بينهما. قال: والأشعرية قد نفوا أن يكون المتكلم فعل الكلام، لأنهم تخيلوا أنهم إذا سلم، هذا الأصل، وجب أن يعترفوا أن الله فاعل لكلامه، ولما اعتقدوا أن المتكلم هو الذي يقوم الكلام بذاته، ظنوا أنه يلزمهم عن هذين الأصلين أن يكون الله فاعلاً للكلام في ذاته، فتكون ذاته محلاً للحوادث، فقالوا: المتكلم ليس فاعلاً للكلام، وإنما هي صفة قديمة لذاته كالعلم وغير ذلك، وهذا يصدق على كلام النفس، ويكذب على الكلام الذي يدل على ما في النفس، وهو اللفظ. والمعتزلة لما ظنوا أن الكلام هو ما فعله المتكلم، قالوا: إن الكلام هو اللفظ فقط. ولهذا قال هؤلاء: إن اللفظ مخلوق. واللفظ عند هؤلاء من حيث هو فعل، فليس من شرطه أن يقوم بفاعله، والأشعرية تتمسك بأن من شرطه أن يقوم بالمتكلم، وهذا صحيح في الشاهد في الكلامين معاً: أعني كلام النفس، واللفظ الدال عليه. وأما في الخالق فكلام النفس هو الذي قام به، فأما الدال عليه فلم يقم به سبحانه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 220 والأشعرية لما شرطت بإطلاق أن يكون الكلام قائماً بالمتكلم، أنكرت أن يكون المتكلم فاعلاً للكلام على الإطلاق، والمعتزلة لما شرطت أن يكون المتكلم فاعلاً للكلام بإطلاق أنكروا كلام النفس. وفي قول كل واحدة من الطائفتين جزء من الحق وجزء من الباطل، على ما لاح لك من قولنا. فيقال له: ليس فيما ذكرته قول الأشعرية ولا قول المعتزلة ولا جمعاً بينهما وبل هو قول المتفلسفة والصابئة، الذين هم شر من اليهود والنصارى. وذلك أن المعتزلة، وإن قالت: إن الكلام مفعول للرب، فإنها لا تجعلها محدثاً في نفس المتكلم، بل يقولون: إنه مفعول في جسم منفصل عن المستمع، وهو آية من آيات الله التي يخلقها، ومن قال بقولك كفرته المعتزلة. وأما الأشعرية فهم، وإن قالوا: إنه معنى قائم بنفس المتكلم، فلا يجعلونه مجرد العلم، بل الكلام عندهم صفة ليست هي العلم ولا الإرادة، والكلام يكون خبراً ويكون أمراً. والناس وإن خالفوهم في هذا المعنى، وقالوا لا يعقل إلا العلم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 221 والإرادة، وضايقوهم في جعل المعنى الواحد يكون أمراً وخبراً، حتى احتاج بعضهم إلى أن جعل الكلام كله بمعنى الخبر، والخبر مع المخبر كالعلم مع المعلوم، وقد يضطرون إلى أن يفسروا معنى الخبر بالعلم لعدم الفرق -فهذه لوازم المذهب الذي قد يستدل بها، إن كانت لازمة، على فساده، وليس كل من قال قولاً يلتزم بوازمه. والناس لهم في الكلام ثلاثة أقوال: هل هو اسم اللفظ والمعنى جميعاً؟ كما هو قول الأكثرين، أم للفظ فقد بشرط دلالته على المعنى؟ كقول المعتزلة وكثير من غيرهم، أو للمعنى المدلول عليه باللفظ، كقول الكلابية؟ ومن متأخريهم من جعله مشتركاً بينهما اشتراكاً لفظياً. وأما المتكلم ففيه أيضاً ثلاثة أقوال: أحدها: أنه من فعل الكلام، ولو في غيره، كما يقوله المعتزلة. والثاني: من قام به الكلام، وإن لم يفعله، ولم يكن مقدوراً مراداً له، كما يقوله الكلابيه. والثالث: من جمع الوصفين، فقام به الكلام وكان قادراً عليه. ولا ريب أن جمهور الأمم يقولون: لا يكون متكلماً إلا من قام به الكلام، كما لا يكون متحركاً إلا من قامت به الحركة، ولا عالماً إلا من قام به العلم، ونحو ذلك. لكن الكلابية اعتقدوا أنه لا تقوم به الحوادث، فامتنع لهذا عندهم أن يكون الكلام مقدوراً له مراداً. قالوا: لأن المقدور المراد حادث لا يكون صفة لازمة له. وأنت قد بينت فساد هذا الأصل، فكان يلزمك على أصلك أن تجوز قيام ذلك به، فإنه لا دليل لك على نفيه، إلا ما تنفى به سائر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 222 الصفات. وأنت تعترف بأن حدوث الحوادث بدون ذلك مما يتعرى ويتعذر بعقله. وكذلك ما ذكرته عن المعتزلة من أن اللفظ عندهم فعل، وليس من شرطه أن يقوم بفاعله، وأنت مقر بالفرق بين الفعل والمفعول، وأنه لا يعقل مفعول بدون فعل. وهذا مما أوردته على أبي حامد في تهافت التهافت، وقلت: إن حدوث العالم بدون إحداث يكون هو فعل والحادث هو المفعول محال. وقد أبطلت أصل المعتزلة في أن ما تقوم به الحوادث فهو حادث، فكان يلزمك أن تثبت فعلاً قائماً بالفاعل: إما قديماً، وإما حادثاً، ويكون الكلام قائماً بالمتكلم، وهو فعل له. فكيف وأنت وأصحابك لم تثبتوا كلاماً لله إلا ما كان في نفوس البشر؟ فالمعتزلة خير منكم. وإذا قلت: نحن نثبت المعنى أنه قديم بخلاف المعتزلة. قيل لك: المعتزلة أيضاً تقر بأن الله عليم بكل شيء، أعظم مما تقرون أنتم به. والمعتزلة لا تنكر هذا المعنى، وهم، وإن كانوا متناقضين في إثبات الصفات ونفيها، فلا ريب أن قولهم أقرب إلى إثبات الصفات من قول أصحابك. فما جعلته أنت قديماً يمكنهم جعله قديماً. وأعظم ما شنع الناس به في الصفات على المعتزلة قول رئيسهم أبي الهذيل، قوله: إن الله عالم بعلم هو ذاته. وليست ذاته علماً. وأنت تقول: إن العلم هو العالم، بل تقولون: إن العلم والعالم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 223 والمعلوم، والعشق والعاشق والمعشوق، والعقل والعاقل والمعقول -شيء واحد. فقولكم أشد نفياً وتناقضاً من قولهم، وهم إلى إطلاق القول بأن معنى القرآن قديم ولفظه مخلوق أقرب منكم، فما في قولهم من باطل إلا وفي قولكم أفسد منه، ولا في قولكم حق إلا وفي قولهم أكمل منه. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن صفتي السمع والبصر ورد ابن تيمية قال ابن رشد: وأما صفة السمع والبصر فإنما أثبتهما الشرع لله تبارك وتعالى من قبل أن السمع والبصر يختصان بمعان مدركة في الموجودات، ليس يدركها العقل. ولما كان الصانع من شرطه أن يكون مدركاً لكل ما في المصنوع، وجب أن يكون له هذان الإدراكان، فواجب أن يكون عالماً بمدركان البصر، وعالماً بمدركات السمع، إذ هي مصنوعات له، وهذه كلها منبهة على وجودها للخالق سبحانه في الشرع، من جهة تنبيهه على وجوب العلم به. وبالجملة، فما يدل عليه اسم الإله واسم المعبود يقتضي أن يكون مدركاً لجميع الإدراكات، لأنه من العبث أن يعبد الإنسان ما لا يدرك أنه عابد له. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 224 كما قال تعالى: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} [مريم: 42] . وقال: {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم} [الأنبياء: 66] . فهذا القدر، مما يوصف الله به ويسمى به، هو القدر الذي قصد الشرع أن يعلمه الجمهور، لا غير ذلك. قلت: السمع والبصر ليسا مجرد علم بالمسموع والمرئي، وإن استلزما ذلك، على ما هو المعروف من قول أئمة السنة. والقصد الذي عرفه الشرع أكثر من هذه الصفات. ولكن لما أراد صاحب هذا الكلام أن يبين الطرق الشرعية لإثبات ما أثبته المتكلمون من الصفات، تبعهم في هذا. رد ابن رشد على أقوال الأشاعرة والمعتزلة في مسألة الصفات ورد ابن تيمية قال: ومن البدع التي حدثت في هذا الباب سؤال في الصفات: هل هي الذات أو زائدة على الذات؟ ثم هل هي صفة نفسية أو صفة معنوية؟. ويعني بالنفسية التي توصف بها الذات لنفسها، لا لقيام معنى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 225 فيها زائد على الذات، مثل قولنا: واحد قديم. والمعنوية التي توصف بها الذات لقيام معنى فيها، فإن الأشعرية يقولون: إن هذه الصفات هي صفات معنوية، وإنها زائدة على الذات، فيقولون: إنه عالم بعلم زائد على ذاته، وحي بحياة زائدة على ذاته، كالحال في الشاهد. ويلزمهم على هذا أن يكون الخالق جسماً، لأنه يكون هناك صفة وموصوف، وحامل ومحمول، وهذه هي حال الجسم. وذلك أن الذات لا بد أن يقولوا: إنها قائمة بذاتها، والصفات قائمة بها، أو يقولوا: إن كل واحد منها قائم بنفسه، أو يقولوا: إن الذات تقوم بالصفات، فإن قالوا: إن كل واحد منهما قائم بنفسه، فالآلهة كثيرة. وهذا قول النصارى الذين زعموا أن الأقاليم ثلاثة: أقنوم الوجود والحياة والعلم. وقد قال تعالى في هؤلاء: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 72] ، وإن قالوا: أحدهما قائم بنفسه، والآخر قائم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 226 به، فقد أوجبوا أن يكون جوهراً وعرضاً، لأن الجوهر هو القائم بذاته، والعرض هو القائم بغيره، والمؤلف من جوهر وعرض جسم ضرورة. وكذلك قول المعتزلة في هذا الجواب. أن الذات والصفات شيء واحد هو أمر بعيد من المعارف الأول، بل يظن أنه مضاد لها، وذلك أنه يظن أن من المعارف الأول أن العلم يجب أن يكون غير العالم، وأنه ليس يجوز أن يكون العلم هو العالم، إلا لو جاز أن يكون أحد المتضايفين، مثل أن يكون الأب والابن معاً واحداً بعينه، فهذا تعليم بعيد عن أفهام الجمهور، والتصريح به بدعة، وهو أن يضلل الجمهور أحرى منه أن يرشدهم. وليس عند المعتزلة برهان على وجوب هذا في الأول سبحانه، إذ ليس عندهم برهان، ولا عند المتكلمين على الجسمية أو نفي الجسمية عنه برهان، فإن نفي الجسمية عنه انبنى على وجوب الحدوث للجسم بما هو جسم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 227 وقال: وقد بينا في صدر هذا الكتاب أنه ليس عندهم برهان على ذلك، وأن الذين عندهم برهان على ذلك هم العلماء. ومن هذا الموضع زل النصارى، وذلك أنهم اعتقدوا كثرة الأوصاف، واعتقدوا أنها جواهر لا قائمة بغيرها، بل قائمة بنفسها كالذات، واعتقدوا أن الصفات التي بهذه الحال هما صفتان: العلم، والحياة. قالوا: فالإله واحد من جهة، ثلاثة من جهة، يريدون أنه ثلاثة من جهة أنه موجود وحي وعالم، وواحد من جهة أن مجموعها شيء واحد. فهنا ثلاثة مذاهب: مذهب من رأى أنه نفس الذات ولا كثرة هنالك. مذهب من رأى الكثرة، وهؤلاء قسمان: منهم من جعل الكثرة كثرةً قائمةً بذاتها. ومنهم من جعلها كثرةً قائمةً بغيرها. وهذا كله بعيد عن مقصد الشرع. وإذا كان هذا هكذا، فالذي ينبغي أن يعلم الجمهور من أمر هذه الصفات هو ما صرح به الشرع فقط، وهو الاعتراف بوجودها دون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 228 تفصيل الأمر فيها، فإنه ليس يمكن عند الجمهور أن يحصل في هذا يقين أصلاً. وأعني هنا بالجمهور كل من لم يعن بالصنائع البرهانية. وسواء كان قد حصلت له صناعة الكلام أو لم تحصل له، فإنه ليس في قوة صناعة الكلام الوقوف على هذا القدر من المعرفة، إذ أعلى مراتب صناعة الكلام أن يكون حكمة جدلية لا برهانية، وليس في قوة صناعة الجدل الوقوف على الحق في هذا. فقد تبين من هذا القول القدر الذي صرح به للجمهور من المعرفة في هذا، والطرق التي سلكت بهم في ذلك، وأن الطرق التي سلكوا بالناس في هذه الأشياء، وزعموا أنها من أصل الشرع، ليست من أصل الشرع، بل هي مسكوت عنها في الشرع. قلت: مقصود بهذا الكلام يبين أن طرق إخوانه الفلاسفة في نفي الصفات هي البرهانية، دون طرق غيرهم. وليس الأمر كما زعمه، بل ما سلكه إخونه في نفي الصفات أضعف بكثير مما سلكه المعتزلة، مع أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 229 كليهما فاسد، كما قد بين في موضعه. وقول القائل: إن الشرع لم يصرح بإثبات الصفات من أبين الخطأ، فإن الله تعالى قال: {ولا يحيطون بشيء من علمه} [البقرة: 255] . وقال: {أنزله بعلمه} [النساء: 166] . وقال: {فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} [هود: 14] . وقال: {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} [فاطر: 11] ، [فصلت: 47] في موضعين. وقال: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات: 58] . وقال: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} [فصلت: 15] . وقال: {والسماء بنيناها بأيد} [الذاريات: 47] . وفي الحديث الصحيح: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك» . وقال تعالى عن الملائكة: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما} [غافر: 7] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 230 وقال: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156] . وقال: {وسع كل شيء علما} [طه: 98] ، وقال: {ولتصنع على عيني} [طه: 39] ، وأمثال ذلك في الكتاب والسنة كثير. ومن المعلوم بالضرورة أن العلم ليس هو نفس العالم، والمضاف هنا ليس هو المضاف إليه، وأن أسماء الله الحسنى، مثل: العليم، والحي، والقدير، والرحيم، ونحو ذلك- هي، وإن كانت أسماء لله تدل على نفسه المقدسة، فليس ما دل عليه الحي من الحيوة، هو ما دل عليه عليم من العلم، وما دل عليه قدير من القدرة، وما دل عليه رحيم من الرحة. فمن قال: إن هذه الأسماء الحسنى لا تدل على هذه المعاني، فهو مكابر للغة التي نزل بها القرآن، فإن الأسماء التي تسميها النحاة: اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المعدولة عنها كفعيل وغيره -هي أسماء مشتقة تتضمن المصادر، بخلاف: رجل، وفرس. ومن جعل العالم لا يدل على علم، والقادر لا يدل على القدرة، فهو بمنزلة من قال: المصلي لا يدل على الصلاة، والقائم لا يدل على القيام، والصائم لا يدل على الصيام، وأمثال ذلك. وأما سؤال السائل: إن هذه الصفات: هل هي الذات أو غيرها؟ وهل هي الذات أو زائدة عليها؟. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 231 فالجواب المرضي عند الأئمة: أن لا يطلق القول بأنها هي الذات ولا بأنها غيرها، ولا بأنها الذات ولا بأنها زائدة عليها، ولا ينفي الأمران، فيقال: لا هي الذات ولا غيرها، حتى يكون قسماً ثالثاً، ليست هي الذات ولا هي غيرها. فإن هذا يقوله طائفة من متكلمة الصفاتية، من أصحاب أحمد وغيره، كما يقوله من يقوله من أصحاب الأشعري. والصوب المنصوص عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة: أنه لا يطلق لا هذا ولا هذا، لأن لفظ الغير فيه إجمال واشتراك. فقد يراد بالغيرين ما جاز مفارقة أحدهما أحأالآخر، أو مباينته له، فلا تكون الصفة اللازمة للموصوف غيراً له. وقد يراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر، فيكون غيراً له. وكذلك لفظ: الزيادة على الذات، فإن الذات يراد بها الذات المجردة عن الصفات، فالصفات زائدة على هذا الذات. لكن هذه الذات عند أهل الإثبات لا حقيقة لها في الخارج، وإنما تقدر في الذهن تقديراً، وإنما يعتقد ثبوتها في الخارج نفاة الصفات. فالمثبتون إذا قالوا: الصفات زائدة على الذات، لم يقولوا: إن في الخارج ذاتاً مجردة تزاد عليها الصفات، بل أثبتوا الصفات زائدة على ما أثبته النفاة، فزادوا عليها في الإثبات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 232 وقد يراد بالذات نفس الله سبحانه، وصفاته داخلة في مسمى أسمائه، ليست زائدة على مسمى أسمائه الحسنى. ولا يمكن وجود ذات غيره مجردة عن الصفات، حتى يقال: إن صفاته زائدة عليها، فضلاً عن وجوده سبحانه مجرداً عن صفات الكمال كلها. وصفاته اللازمة له كلها نفسية، بمعنى أنها داخلة في مسمى أسمائه، لا يفتقر إلى أمور مباينة له، وهي لازمة لنفسه لا يوجد بدونها، ولا يمكن وجوده منفكاً عنها. وإذا قيل: هو عالم بعلم، قادر بقدرة، فليس هناك حقيقة قائمة بنفسها يمكن وجودها بدون العلم والقدرة، بل لا يمكن أن تكون إلا عالمةً قادرة، وإن كنا نحن قد نعلم وجودها قبل أن نعلم أنها عالمة. وما ذكره من التمثيل بالواحد والقديم فيه نزاع، فإن الصفاتية متنازعون في القديم والباقي: هل هو قديم باق ببقاء، كما يقوله ابن كلاب؟ أو قديم بنفسه باق ببقاء، كما يقوله الأشعري، ومن وافقه كأبي علي بن أبي موسى؟ أو قديم بنفسه باق بنفسه، كما يقوله القاضي أبو بكر ومن وافقه، كالقاضي أبي يعلى؟. وأما أن الأشعرية يقولون في العلم ونحوه: إن هذه الصفات هي صفات معنوية، وإنها زائدة على الذات. فيقال: مقصودهم في الأصل إثبات هذه الصفات، وإبطال قول: من قال عالم بلا علم، وقادر بلا قدرة. أو قال: إن ذاته علم وقدرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 233 والأشعرية هم في إثبات هذه الصفات، مع سائر أهل السنة، والجماعة، لم ينازعهم في إثبات الصفات إلا من هو -عند السلف والأئمة- من أعظم الناس ضلالاً، كالجهمية والمعتزلة. وإذا قالوا: هو عالم بالعلم، وقادر بالقدرة، لم يريدوا بذلك أن هنا ذاتاً منفصلة عنه، صار بها عالماً قادراً، كما يظنه بعض الغالطين عليهم، فإن هذا لم يقله أحد من عقلاء بني آدم فيما نعلم، ولكن بعضهم، وهم مثبتة الحال، كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما، يقولون: إن له صفة هي العلم أوجبت كونه عالماً، وكونه عالماً حال معللة بالعلم. وأما جمهورهم، وهم نفاة الحال، فيقولون: علمه هو كونه عالماً، وقدرته هو كونه قادراً، ليس هناك أمران، ولا علة ولا معلول. وهذا قول الأكثرين: الأشعري وغيره. والمنازع لهم من المعتزلة والفلاسفة يقر بما يوجب موافقتهم، فإنهم يقرون بأن كونه عالماً ليس هو كونه قادراً. وهذا معنى العلم والقدرة عند أولئك، كما قد بسط في موضعه. فالنفاة للصفات، من المعتزلة وغيرهم، يقولون: إنه عالم وإنه قادر. ومنهم من يثبت العالمية والقادرية، ويسمي ذلك حالاً. وهذا يستلزم عند التحقيق قول مثبتة الصفات. وكذلك الفلاسفة قولهم يستلزم قول مثبتة الصفات، وإن نفوها تناقضوا. وأما إطلاق المطلق لفظ الزيادة على الذات، فقد تقدم أن هذا الإطلاق كإطلاق المطلق: أن الصفات لا هي الذات ولا هي غيرها. وهذا يطلقه هؤلاء وغيرهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 234 وأئمة السلف، وابن كلاب، وأمثاله من أئمة الأشعرية، لا يطلقون لا هذا ولا هذا. وكانوا إذا قالا للسلف: القرآن هو الله أو غير الله؟ لم يطلق الأئمة لا هذا ولا هذا، لما في إطلاق كل منهما من إبهام معنى فاسد، وليس ذلك إثباتاً لقسم ثالث، ليس هو الموصوف ولا غيره، بل يفصل اللفظ المجمل، كما فعل السلف نظير ذلك في لفظ الحيز وأمثاله. وأما قولهم: يلزم الأشعرية على هذا أن يكون الخالق جسماً، لأنه يكون هناك صفة وموصوف، وحامل ومحمول. فيقال له: وهكذا يلزم من قال: إنها عالم قادر. ومن قال: إنه يعلم ويقدر. فمن أثبت لله الأسماء الحسنى وأحكامها، لزمه ما يلزم من أثبت الصفات. فالاسم المشتق يدل على المصدر وعلى الفعل، وخبر المخبر بذلك وحكمه يقتضي ثبوت ذلك في نفس الأمر. ويقال له: كل ما تلزم به الأشعرية وأمثالهم في إثبات الصفات، يلزمونك إياها في كل ما نفيته. فإذا قلت: الموصوف بالصفة لا يكون إلا جسماً. قالوا: والمسمى بالحي العالم القادر لا يكون إلا جسماً، والمخبر عنه بأنه يعلم ويقدر لا يكون إلا جسماً، والموصوف يقول القائل: هو عالم قادر لا يكون إلا جسماً. فإن أمكنك أن تثبت هذا لغير جسم، أمكنهم ذلك. وإن لم يمكنهم لم يمكنك. فهذا السؤال لازم لجميع الناس كما يلزم الأشعرية وغيرهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 235 وأيضاً فهذا إلزام جدلي لا علمي. وذلك أن نفاة الجسم من أهل الكلام، كالمعتزلة والأشعرية، يقولون: إنما نفيناه للدليل الدال على حدوث الجسم، وأنت قد بينت أنه دليل باطل، ونحن أثبتنا الصفات مع ذلك. فإذا قلت: الجمع بينهما خطأ، فإن إثبات الصفات يستلزم التجسيم. قالوا لك: ليس خطؤنا في إثبات الصفات بأولى من خطأنا في نفي التجسيم. بل أنت تقول: إنا مخطئون في نفي التجسيم. ولم تقم دليلاً على خطأنا في نفي الصفات. فإن كنا مخطئين في نفي التجسيم عيناً، لزم إثبات الصفات بلا محذور. وإن قدر الخطأ في أحدهما بغير تعيين، لم يتعين الخطأ في نفي الصفات إلا بدليل. وأيضاً فأنت تقول: إن الشرع لم يصرح بنفي التجسيم، وإن التصريح به بدعة. والشرع قد صرح بإثبات الصفات، فكيف تعيبنا بإثبات ما أثبته الشرع، لكونه مستلزماً لإثبات ما لم ينفه الشرع؟. ومن المعلوم أن الشرع إذا أثبت شيئاً له لوازم، لم يكن إثبات ذلك بدعة. وتلك اللوازم، إن كانت ثابتة في نفس الأمر، فلازم الحق حق. وإن لم تكن لازمة، فلا محذور. فإن قيل: أنا أقيم دليلاً عقلياً على نفي الجسم غير دليلكم. كان لهم عن ذلك أجوبة: أحدها: أن يقولوا: فأنت قد أثبت أنه عالم قادر، فإن أمكنك مع ذلك أن تقول: إنه ليس بجسم، أمكنا أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 236 نقول: عالم بعلم، قادر بقدرة، وليس بجسم. وإن لم يمكنك هذا استوينا نحن وأنت. ففي الجملة ورود هذا السؤال علينا ورود واحد. الثاني: أن يقولوا: دليلنا على نفي الجسم أقوى من دليلك، كما بين ذلك الغزالي وغيره، وبينوا أن الفلاسفة عاجزون على إقامة الدليل على أنه ليس بجسم. الثالث: أن يقولوا: أدلة إثبات الصفات أقوى من أدلة نفي الجسم، فإن أمكن الجمع بينهما، وإلا لم يجز نفي ما هو معلوم ثابت، خوفاً من لزوم ما ليس دليل انتفائه كدليل ثبوت ذلك، فكيف إذا كانت أدلة النفي باطلة، وأدلة الإثبات للصفات ولوازمها حق لا محيد عنه؟. وأما التقسيم الذي ذكرته، فلا ريب أن أهل الإثبات لا يقولون: إن الصفات قائمة بنفسها، بل هي قائمة بالموصوف. وأما ما ذكره عن النصارى، فليس هذا موضع بسطه، فإن قول النصارى مضطرب متناقض، فإنهم لا يثبتون ثلاثة جواهر قائمة بأنفسها، ولا يجعلون الأقانيم كالصفة من كل وجه، فإنهم يقولون: المتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة، فإن جعلوا الكلمة هي الذات الموصوفة، لزم أن يكون المسيح هو الأب، وهم ينكرون ذلك. وإن جعلوه صفة الذات لزمهم أن لا يكون المسيح إلهاً خالقاً رازقاً، لأن الصفة ليست إلهاً خالقاً رازقاً. وأيضاً فالصفة لا تفارق الموصوف. وهم يقولون: المسيح إله حق، من إله حق، من جوهر أبيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 237 وأما استدلاله بقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 72] ، فهذا يسلكه طائفة من الناس، ويقولون قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17] ، إشارة إلى أحد أقوالهم الثلاثة، وهو قول اليعاقبة القائلين بأن اللاهوت والناسوت صارا جوهراً واحداً، كالماء واللبن. وقوله: {وقالت النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30] ، إشارة إلى قول الملكية. وقوله: {ثالث ثلاثة} إشارة إلى قول النسطورية الذين يقولون بالحلول، وهو قولهم بالأقانيم الثلاثة. وليس الأمر كما قال هؤلاء، بل ما ذكره الله تعالى هو قول النصارى جملة. فإنهم يقولون: إنه الله باعتبار، وإنه ابن الله باعتبار آخر. وقوله: {إن الله ثالث ثلاثة} بدليل: المراد به قوله: {يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116] ، فعبدوا معه المسيح وأمه، فصار ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار. وأما قوله عن الأشعرية: إذا قالوا الموصوف قائم بنفسه، والصفة قائمة به، فقد أوجبوا جوهراً وعرضاً -فهذا من جنس إلزامه لهم أن يكون جسماً. فيقولون له: هذا يلزمك إذا قلت: هو حي عالم قادر، فإن الحي العالم القادر قائم بذاته، فإن كان كل قائم بذاته جوهراً، فهو جوهر، وإلا بطل إلزامك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 238 وإيضاً فلو لو يوصف بذلك، لكان في نفس الأمر إما قائماً بنفسه، وإما قائماً بغيره، إذ فرض موجود ليس قائماً بنفسه ولا بغيره ممتنع. فإن كان كل قائم بنفسه ولا بغيره ممتنع فإن كان كل قائم بنفسه هو جوهر، لزمك أن يكون جوهراً. ثم يقال: من المعلوم أن للناس في مسمى الجوهر والعرض اصطلاحات. منهم من يسمى كل قائم بنفسه جوهراً، كما يقول ذلك طوائف من المسلمين والنصارى والفلاسفة. وهؤلاء يسمونه جوهراً. ومنهم من لا يطلق الجوهر إلا على المتحيز، ويقول: إنه ليس بمتحيز، فلا يكون جوهراً، كما يقول ذلك من يقوله من متكلمي المسلمين واليهود والفلاسفة. ومن الفلاسفة من يقول بإثبات جواهر غير متحيزة، لكن يقول: الجوهر هو ما إذا وجد وجد لا في موضوع، وهذا لا يصلح إلا لما يجوز وجوده، لا لما يجب وجوده. وبالجملة فالنزاع في هذا الباب لفظي، ليس هو معنى عقلياً. والشريعة لم تتعرض لهذا الاسم وأمثاله، لا بنفي ولا بإثبات، فليس له في الشريعة ذكر، حتى يحتاج أن ينظر في معناه. والنظر العقلي إنما يكون في المعاني لا في مجرد الاصطلاحات، فلم يبق فيه بحث علمي: لا شرعي ولا عقلي. وهذا لم يذكر دليلاً عقلياً على نفي الجوهر، فصار قد ألزمهم لوازم، ولم يذكر دليلاً على بطلانها. فيجيبونه بالجواب المركب، وهو أن هذا إما أن يكون لازماً لإثبات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 239 الصفات، أو ليس بلازم. فإن لم يكن لازماً، بطلت المقدمة الأولى. وإن كان لازماً، منعت المقدمة الثانية، فإن لازم الحق حق.. وليس التزام مسمى هذا الاسم أبعد في الشرع والعقل من نفي الصفات، بل نفي الصفات أبعد في الشرع والنقل من إثبات مسمى هذا الاسم، فلا يجوز التزام نفي الصفات، الذي فيه مناقضة الأدلة الشرعية والعقلية، حذراً من التزام مسمى هذا الاسم، الذي لا يقوم على نفيه من الدليل شيء من أدلة إثبات الصفات، مع أنه لم يذكر على ذلك دليلاً أصلاً، وهو قد بين فساد أدلة النفاة لذلك من أهل الكلام. وأما قول القائل: الذات والصفات شيء واحد فإن أراد به أن الصفات ليست مباينة للموصوف، فصحيح. وإن أراد أن نفس الذات هي نفس الصفات، فهذه مكابرة. وهذا القائل. وإخوانه، يقولون بذلك، وقد صرح هو بأن العلم نفس العالم، وهذا غاية المناقضة لصريح المعقول. وقوله: إنه بعيد من المعارف الأول، أنه ليس يجوز أن يكون العلم هو العالم فهذا قاله بناءً على ما يراه أن هذا حق في نفس الأمر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 240 والصواب أن هذا ممتنع في صريح العقل، معلوم علماً يقينياً أن العلم ليس هو نفس العالم، ومن قال هذا فقد أتى بغاية السفسطة، وجحد العلم الضروري. وأما قوله: ليس عند المعتزلة برهان على وجوب هذا في الأول -وهو أن تكون الذات والصفات شيئاً واحداً- ولا عند المتكلمين برهان على نفي الجسمية، وإنما برهان ذلك عند العلماء الذين هم الفلاسفة عنده. فيقال: لا ريب عند كل من له عقل أن ما يذكره الفلاسفة في نفي ذلك أفسد في العقل الصريح مما يذكره المتكلمون. وأنت قد أفسدت طريقة ابن سينا، ولم تعتمد في ذلك إلا على إثبات النفس، وهو أنها ليست بجسم، فيلزم أن يكون الباري كذلك. ومن المعلوم أن الأدلة النافية لهذا عن النفس: إن كانت صحيحة، فهي على نفي ذلك عن الرب أولى، وإن لم تكن صحيحة بطل قولك. ومن المعلوم أن أدلة نفي الجسم عن النفس أضعف بكثير من نفي ذلك عن واجب الوجود. فكيف يكون الأضعف حجة على الأقوى؟!. وقد تكلم على فساد. ما ذكروه في النفس في غير هذا الموضع. وأما ما ذكره من أنه لا يمكن أن يكون بهذا النفي يقين إلا عند من عني بالصناعة البرهانية -يعني طريقته الفلسفية- وقوله: إن صناعة الكلام جدلية لا برهانية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 241 فهذا كما يقال في المثل السائر: رمتني بدائها وانسلت، ولا يستريب عاقل نظر في كلام الفلاسفة في الإلهيات، ونظر في كلام أي صنف قدر من أصناف اليهود والنصارى فضلاً عن أصناف المتكلمين من المسلمين، أن ما يقوله هؤلاء في الإلهيات أكمل وأصح في العقل مما يقوله المتفلسفة، وأن ما يقولونه في الإلهيات قليل جداً، وهو مع قلته فأدلة المتكلمين خير من أدلتهم بكثير. وهذه طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود وصفاته، لا تفيده إلا ما لا نزاع فيه، وهو وجود واجب الوجود. وأما كونه مغايراً للأفلاك، فإنما بناه على نفي الصفات، وهو مع فساده فدليلهم على نفيه أضعف من دليل المعتزلة. فهم مع مشاركتهم للمعتزلة في النفي، لا يستدلون إلا بما هو أضعف من دليلهم. وأما هذا الرجل فإنه تارة يأخذ طريقة متلقاة من الشرع، وتارة طريقة متلقاة عن المتكلمين، وتارة يقول ما يظن أنه قول الفلاسفة، لم يحك عن الفلاسفة في الإلهيات طريقة إقناعية، فضلاً عن طريقة برهانية. وإذا قدر أنه عنى بالبرهان القياس العقلي المنطقي، فمن المعلوم أن صورة القياس لا تفيد العلم بمواده. والبرهان إنما يكون برهانه بمواده اليقينية، وإلا فصورته أمر سهل بقدر عليه عامة الناس. وأهل الكلام لا ينازعون في الصورة الصحيحة. وهب أن الإنسان عنده ميزان، فإذا لم يكن معه ما يزن به، كان من معه مال لم يزنه، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 242 أعني من هذا. هذا بتقدير أن يكون ما ذكروه في المنطق صحيحاً، فكيف وفيه من الفساد والتناقض ما هو مذكور في موضعه؟. كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن التنزيه ورد ابن تيمية عليه قال: الفصل الرابع: في معرفة التنزيه. قال: وإذ قد تقرر من هذه المناهج التي سلكها الشرع في تعليم الناس: أولاً: وجود الباري سبحانه، والطرق التي سلكها في نفي الشريك عنه ثانياً، والتي سلكها ثالثاً في معرفة صفاته، والقدر الذي صرح به من ذلك في جنس جنس من هذه الأجناس، وهو القدر الذي إذا زيد فيه أو نقص أو حرف أو أول، لم تحصل به السعادة المشتركة للجميع، فقد بقي علينا أن نعرف أية الطرق التي سلكها بالناس في تنزيه الخالق سبحانه عن النقائص، ومقدار ما صرح به من ذلك، والسبب الذي من قبله اقتصر بهم على ذلك المقدار. ثم نذكر بعد ذلك الطرق التي سلك بالناس في معرفة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 243 أفعاله، والقدر الذي سلك بهم من ذلك، فإذا تم لنا ذلك فقد استوفينا غرضنا الذي قصدناه. قال: فنقول: أما معرفة هذا الجنس الذي هو التنزيه والتقديس، فقد صرح به أيضاً في غير ما آية من الكتاب العزيز، فأبينها في ذلك وأتمها قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] ، وقوله: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} [النحل: 17] . والآية الأولى هي نتيجة هذه والثانية برهان، أعني أن قوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} [النحل: 17] ، هو برهان قوله: {ليس كمثله شيء} وذلك أنه من المغروز في فطر الجميع أن الخالق يجب أن يكون: إما على غير صفة الذي لا يخلق شيئاً، أو على صفة غير شبيهة بصفة الذي لا يخلق شيئاً، وإلا كان من يخلق ليس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 244 بخالق فإذا أضيف إلى هذا الأصل أن المخلوق ليس بخالق يلزم من ذلك أن تكون صفات المخلوق: إما منتفية عن الخالق، أو موجودة فيه على غير الجهة التي هي عليها في المخلوق. قلت: صفات النقص يجب تنزيهه عنها مطلقاً، وصفات الكمال تثبت له على وجه لا يماثله فيها مخلوق. قال: وإنما قلنا على غير الجهة، لأن من الصفات التي في الخالق صفات استدللنا على وجودها بالصفات التي هي لأشرف المخلوقات هنا، وهو الإنسان، مثل إثبات العلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام وغير ذلك. قال: وهذا معنى قوله عليه السلام: إن الله خلق آدم على صورته. قال: وإذا تقرر أن الشرع قد صرح بنفس المماثلة بين الخالق والمخلوق، وصرح بالبرهان الموجب لذلك، وكان نفي المماثلة يفهم منه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 245 شيئان: أحدهما: أن يعدم الخالق كثيراً من صفات المخلوق، والثاني: أن توجد فيه صفات المخلوق على وجه أتم وأفضل بما لا يتناهى في العقل، فلينظر ما صرح به الشرع من هذين الصنفين، وما سكت عنه، وما السبب الحكمي في سكوته. قلت: ونفي المماثلة قد يتضمن إثبات صفات الكمال للخالق، لا يثبت للمخلوق منها شيء، فكما أن في صفات المخلوق ما لا يثبت للخالق، فكذلك في صفات الخالق ما لا يثبت للمخلوق. لكن هذا الضرب لا يمكن الناس معرفته في الدنيا، فلهذا لم يذكر. قال: فنقول: أما ما صرح به الشرع من نفي صفات المخلوق عنه، فما كان ظاهراً من أمره أنه من صفات النقائص، فمنها الموت، كما قال تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58] . ومنها النوم وما دونه مما يقتضي الغفلة والسهو عن الإدراكات والحفظ للموجودات، وذلك مصرح به في قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255] . ومنها النسيان والخطأ، كما قال تعالى: {لا يضل ربي ولا ينسى} [طه: 52] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 246 والوقوف على انتقاء هذه النقائض هو قريب من العلم الضروري. وذلك أن ما كان قريباً من هذه من العلم الضروري، فهو الذي صرح الشرع بنفيه عنه سبحانه وتعالى، وأما ما كان بعيداً من المعارف الأولى الضرورية، فإنما نبه عليه بأن عرف أنه من علم الأقل من الناس، كما قال في غير ما آية من الكتاب العزيز: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 30] : مثل قوله: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} [غافر: 57] . ومثل قوله: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 30] . قال: فإن قيل: فما الدليل على انتفاء هذه النقائض عنه، أعني: الدليل الشرعي؟ قلنا: الدليل عليه ما يظهر من أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 247 الموجودات محفوظة لا يتخللها اختلال ولا فساد، ولو كان الخالق يدركه خطأ أو غفلة، أو سهو أو نسيان لاختلت الموجودات. وقد نبه سبحانه على هذا المعنى في غير ما آية من كتابه. فقال تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده} [فاطر: 41] ، قال تعالى: {ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم} [البقرة: 255] . قال: فإن قيل: فما تقولون في صفة الجسمية: هل هي من الصفات التي صرح الشرع بنفيها عن الخالق تعالى؟ أم هي من المسكوت عنها؟ أو أنه لم يصرح بنفيها ولا إثباتها، ولكن صرح بأمور تلزم -يعني الجسمية في بادي الرأي منها- فنقول: إنه من البين من أمر هذه الصفة أنها من الصفات المسكوت عنها، وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها، وذلك أن الشرع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 248 قد صرح بالوجه واليدين في غير آية من كتابه، وهذه الآيات قد توهم أن الجسمية هي له من الصفات التي فضل فيها الخالق المخلوق، كما فضله في صفة القدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات، التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق، إلا أنها في الخالق أتم وجوداً. ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقد في الخالق أنه جسم لا يشبه الأجسام، وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن تبعهم. وهؤلاء أيضاً قد ضلوا إذ صرحوا بما ليس حقاً في نفسه، وما يوهم أيضاً التشابه بين الخالق والمخلوق. وإنما صرح الشرع بأشياء توهمها لا يصر، فتوهمها من كان من الناس لا يقدر أن يتصور موجوداً ليس بجسم، ولا أيضاً إذا سمع تلك الأشياء خيف عليه أن يتطرق ذهنه إلى القول بالجسمية. وهذه هي حال جمهور الناس، لأن الذين يتطرق لهم من ذلك إثبات الجسمية هم قليل من الناس، وهؤلاء ففرضهم الوقوف على الدلائل التي توجب نفي الجسمية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 249 قلت: ولقائل أن يقول: أما قوله: صار كثير من أهل الإسلام يقولون: إنه جسم لا يشبه الأجسام فهذا صحيح. وأما قوله: وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن اتبعهم. فيقال له: ليس في الحنابلة من أطلق لفظ الجسم، لكن نفاة الصفاة يسمون كل من أثبتها مجسماً بطريق اللزوم، إذا كانوا يقولون: إن الصفة لا تقوم إلا بجسم، وذلك لأنهم اصطلحوا في معنى الجسم على غير المعنى المعروف في اللغة، فإن الجسم في اللغة هو البدن، وهؤلاء يسمون كل ما يشار إليه جسماً، فلزم -على قولهم- أن يكون ما جاء به الكتاب والسنة، وما فطر الله عليه عباده، وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها تجسيماً. وهذا لا يختص طائفة: لا الحنابلة ولا غيرهم، بل يطلقون لفظ المجسمة والمشبهة على أتباع السلف كلهم، حتى يقولوا في كتبهم: ومنهم طائفة يقال لهم المالكية ينتسبون إلى مالك بن أنس، ومنهم طائفة يقال لهم الشافعية ينتسبون إلى الشافعي. لكن لما جرت محنة الجهمية نفاة الصفات وسموا من أثبتها مجسماً في عهد الإمام أحمد، وقالوا: إن القرآن مخلوق، وحقيقة ذلك أن الله لم يتكلم بشيء، وقالوا: إنه لا يرى، ونحو ذلك -قام أحمد بن حنبل من إظهار السنة والصفات، وإثبات ما جاء في الكتاب والسنة من هذا الباب بما لم يحتج إليه غيره من الأئمة، وظهر ذلك في جميع أهل السنة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 250 والحديث من جميع الطوائف، وصاروا متفقين على تعظيم أحمد وجعله إماماً للسنة، فصار يظهر في أصحابه من الإثبات ما لا يظهر في غيرهم، بسبب كثرة نصوصهم في هذا الباب. والنفاة يسمون المثبتة مجسمة ومشبهة. وصاحب هذا الكتاب يجعل مثبتة الصفات -من الأشعرية ونحوهم- مشبهة، وأنه يلزمهم التركيب، والتركيب أصل للتجسيم. كلام ابن رشد في تهافت التهافت في نفي الصفات ورد ابن تيمية عليه مثل قوله في كتابه الذي سماه تهافت التهافت فإنه قال: وأيضاً فالذي يلزم الأشعرية للتجسيم من المحال أكثر من الذي يلزم مقدماتهم، التي منها صاروا إلى التجسيم، وذلك أنه إن كان مبدأ الموجودات ذاتاً ذات حياة وعلم وقدرة وإرادة، وكانت هذه الصفات زائدة على الذات، وتلك الذات غير جسمانية، فليس بين النفس وهذا الموجود فرق، إلا أن النفس هي في جسم، وهذا الموجود هو نفس ليس في جسم، وما كان بهذه الصفة فهو ضرورة مركب من ذات وصفات، وكل مركب فهو محتاج ضرورة إلى مركب، إذ ليس يمكن أن يوجد شيء مركب في ذاته، كما أنه ليس يمكن أن يوجد متكون من ذاته، لأن التكوين -الذي هو فعل المكون- ليس هو شيئاً غير تركيب المتكون، والمكون ليس شيئاً غير المركب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 251 وبالجملة فكما أن لكل مفعول فاعلاً، كذلك لكل مركب مركباً فاعلاً، لأن التركيب شرط في وجود المركب ولا يمكن أن يكون الشيء هو علة في شرط وجوده، لأنه كان يلزم أن يكون الشيء علة نفسه. ولذلك كانت المعتزلة في وضعهم هذه الصفات في المبدأ الأول -راجعة إلى الذات، لا زائدة عليها، على نحو ما يوجد عليه كثير من الصفات الذاتية لكثير من الموجودات، مثل كون الشيء موجوداً وواحداً وألياً وغير ذلك- أقرب إلى الحق من الأشعرية. قال: ومذهب الفلاسفة في المبدأ الأول هو قريب من مذهب المعتزلة. فيقال له: قولك: ليس بين النفس وبين هذا الموجود فرق، إلا من جهة أنها في جسم خطأ محض. وذلك أن اتفاق الشيئين في بعض الصفات لا يوجب تماثلهما في الحقيقة، إذ لو كان كذلك لكانت المختلفات متماثلات، فإن السواد مخالف للبياض، وهو يشاركه في كون كل منهما لوناً وعرضاً وقائماً بغيره. وأيضاً فمحققو الفلاسفة توافق على أن الأجسام ليست متماثلة، مع اشتراكها في التحيز، وقبول الأعراض، وغير ذلك من الأحكام. والحيوان الصغير الحي، مثل البعوض والبق والذباب، ليس مثلاً للإنسان ولا للملك ولا للجني، وإن كان كل منهما حياً قادراً شاعراً متحركاً بالإرادة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 252 والفلك عندهم حي ناطق، وليس مثل بدن الإنسان، الذي هو حي ناطق. وقوله: هذا على الضرورة مركب من ذات وصفات. إن أراد به أن ذات موصوفة بصفات لازمة لها، فهذا حق، وهم لا يسمون هذا تركيباً، فإذا سماه تركيباً لم تكن هذه التسمية حجة له على ما نفاه، لأن الذي نفاه بالدليل هو ما كان مركباً، وهو الذي جعله غيره مركباً، أو ما كان متركباً بنفسه، أي كانت أجزاؤه متفرقة فتركبت، بحيث يصير مركباً بعد أن لم يكن. ومعلوم أن ما تركب بعد افتراقه، لم يكن تركبه بنفسه، كما ذكره في المتكون، فإن ما تكون بعد أن لم يكن متكوناً، لم يكن تكونه بنفسه. وكما قال: كما أن لكل مفعول فعلاً، فإن لكل مركب مركباً فهذا إنما يعقل فيما ركبه غيره، أو ما كان مفرقاً فركب، كما أن المفعول لا يعقل أن له فاعلاً، إلا إذا فعله غيره، أو كان حادثاً، فلا بد للحادث من محدث. أما ما كان واجباً بنفسه قديماً أزلياً مستلزماً لصفات لازمة له، فهذا لم يركبه أحد، ولا كان مفترقاً فتركب. فمن أين يجب أن يحتاج هذا إلى مركب؟ وكيف يصح تمثيل هذا بالمتكون والمفعول اللذين كل منهما محتاج إلى غيره، بل هو حادث يفتقر إلى محدث؟. وليس المعنى الذي سماه مركباً إلا موصوفاً بصفة لازمة له، فلو قال: كل متصف فلا بد له من واصف، أي ممن يجعل الصفة قائمة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 253 بمحلها، ما كان مبطلاً، فإن المتصف بالصفة إذا كان قديماً أزلياً واجباً بنفسه، كيف يجب هذا فيه؟ ثم هؤلاء الفلاسفة يقولون: إن الأفلاك قديمة أزلية. وهذا الرجل لا يسميها مركبة، ويبطل قول من يقول: هي مركبة من الهيولى والصورة، وقول من يقول: هي ممكنة، ومع هذا فهي جسم قائم به صفات وحركات. فإذا كانت هذه لم تحتج عنده إلى ما يحتاج إليه المتكون، فكيف يحتاج إلى ذلك ما هو واجب بنفسه؟. وقوله: لأن التركيب شرط في وجود المركب معناه أن لزوم الصفة للموصوف، أو أن التلازم الذي بين الأمور المتعددة في الواجب، شرط في وجودها، وهذا صحيح. لكن الشرط لا يجب أن يتقدم المشروط، بل تجوز مقارنته له، وإذا كان الواجب الوجود واجباً بنفسه المتضمنة لصفاته، وكل من صفاته لا يوجد إلا مع الأخرى، ولا توجد الذات إلا بالصفات، ولا الصفات إلا بالذات كان هذا هو حقيقة الاشتراط، ولم يلزم من ذلك أن يكون المتصف بهذه الصفات هو علة فاعلة لما هو من لوازم وجوده، ولما لا يوجد إلا معه، وهو الشرط في وجوده. وإن عنى بالعلة أعم من ذلك، حتى جعل الشرط علة، كان حقيقة قوله: لا يكون الشيء شرطاً في شرط وجوده. وهذا ليس بصحيح، بل يجوز أن يكون كل من الشيئين شرطاً في وجود الآخر، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 254 وإن لم يكن علة فاعلة للآخر. وهذا هو الدور المعي الاقتراني، وهو جائز، بخلاف الدور المعي القبلي، فإنه ممتنع. وهذا موجود في عامة الأمور، فالأمور المتلازمة كل منها شرط في الآخر، فكل من الشرطين شرط في وجوده. وغاية ذلك أن يكون الشيء شرطاً في وجود نفسه، أي لا توجد نفسه إلا إذا وجدت نفسه. وهذا كلام صحيح، بخلاف ما إذا كانت نفسه فاعلة لنفسه. فإن هذا ممتنع، فكل واحد من الأبوة والبنوة شرط في وجود الآخر. وكل واحد من العلو والسفل شرط في وجود الآخر. وكل واحد من التحيز والمتحيز شرط في الآخر. وكل واحد من الماء والنار وطبيعته الخاصة به شرط في الآخر، ونظائر هذا كثيرة. فكون إحدى الصفتين مشروطة بالأخرى، والذات مشروطة بصفاتها اللازمة، والصفات مشروطة بالذات، بحيث يمتنع تحقق شيء من ذلك إلا مع تحقق الآخر، وبحيث يلزم من ثبوت كل من ذلك ثبوت الآخر، هو معنى كون كل من ذلك شرطاً في الآخر، وهو شرط في شرط نفسه ووجوده. وهؤلاء من أصول ضلالهم ما في لفظ العلة من الإجمال، فإن لفظ العلة كثيراً ما يريدون به ما لا يكون الشيء إلا به، فتدخل في ذلك العلة الفاعلة، والقابلة، والمادة، والصورة. وكثيراً ما يريدون بذلك الفاعل فقط. وهو المفهوم من لفظ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 255 العلة. وبحوثهم في مسألة واجب الوجود عامتها مبنية على هذا التلبيس، فإن الممكن الذي لا يوجد إلا بموجد يوجده، لا بد له من واجب يكون موجوداً بنفسه، لا بموجد أوجده. فهذا هو معنى واجب الوجود الذي دلت عليه الممكنات، وهم يريدون أن يجعلوه وجوداً مطلقاً ليس له نعت ولا صفة ولا حقيقة غير الوجود المطلق، لأن الوجود الواجب يكون معلولاً لتلك الحقيقة، فلا يكون واجباً. ولفظ المعلول مجمل، فإنهم يوهمون أنه يكون مفعولاً لها، وهي علة فاعلة له. ومعلوم أن هذا ممتنع في الوجود الواجب، لكن الحقيقة الواجبة إذا قدر أن لها وجوداً يقوم بها، لم يلزم في ذلك الوجود إلا أن يكون له محل، وهو الحقيقة التي يقوم بها الوجود، وذلك الذي يسمونه العلة القابلة. ومعلوم أن الدليل إنما أثبت موجوداً ليس له موجد، لم يثبت دليلهم موجوداً لا يكون وجوده قائماً بحقيقة، إن كان من الوجود ما هو قائم بحقيقة. وهذا على قول من يقول: وجود كل شيء زائد على حقيقته، كما يقول ذلك طائفة من متكلمي المعتزلة وغيرهم، وإلا فالصواب عند أهل السنة والجماعة أن وجود كل شيء -وهو الوجود الذي في الخارج- هو عين حقيقته الموجودة في الخارج، فكل موجود فله حقيقة مختصة به في الخارج عن الذهن، والوجود الذي يشار إليه في الخارج هو تلك الحقيقة نفسها، لا وجود آخر قائم بها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 256 فإذا قال أهل السنة: إن وجود الخالق عين حقيقته، أرادوا به إبطال قول أبي هاشم ومن وافقه من المعتزلة، ولم يريدوا بذلك قول ابن سينا وإخوانه من الفلاسفة: إن الواجب وجود مطلق بشرط الإطلاق، أو مطلق لا بشرط، فإن هذا القول أعظم فساداً من قول أبي هاشم بكثير. بل هذا القول يعلم من تصوره بصريح العقل أن ما ذكروه يكون في الأذهان لا في الأعيان. والمطلق بشرط الإطلاق قد سلموا في منطقهم أنه لا يكون إلا في الأذهان، والمطلق لا بشرط يسلمون أنه لا يوجد في الخارج مجرداً عن الأعيان. وقد تقدم ما ذكره هو من أنه ألزم الأشعرية أن يكونوا مجسمة، والحنابلة فيهم ما في بقية الطوائف، منهم من هو على طريقة الإمام أحمد وأمثاله من الأئمة، لا يطلقون هذا اللفظ على الله لا نفياً ولا إثباتاً، بل يقولون: إن إثباته بدعة، كما أن نفيه بدعة. ومما أنكر أحمد وغيره على الجهمية نفي هذا اللفظ، وامتنع من الموافقة على نفيه، كما هو ممتنع عن إطلاق إثباته. كذلك جرى في مناظرته لأبي عيسى برغوث وغيره من نفاة الصفات في مسألة القرآن، في محنته المشهورة، لما ألزمه بأن القول بأن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 257 القرآن غير مخلوق مستلزم أن يكون الله جسماً، فأجابه أحمد بأنه لا يدري ما يريد القائل بهذا القول فلا يوافقه عليه، بل يعلم أنه أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. وذلك أن أهل الكلام الذين تنازعوا في إثبات الجسم ونفيه، كالهشامية والكرامية ونحوهم ممن أثبته، وكالجهمية والمعتزلة ونحوهم ممن نفاه، قد يدخل كل منهم في ذلك ما يخالف النصوص، فمن المثبتة من يدخل في ذلك ما يجب تنزيه الله عنه من صفات النقص ومن مماثلته بالمخلوقات. والنفاة يدخلون في ذلك ما أثبته الله لنفسه من صفات الكمال. ومن الحنابلة من يصرح بنفيه، كـ أبي الحسن التميمي وأهل بيته، والقاضي أبي يعلى وأتباعه، وغيرهم ممن سلك مسلك ابن كلاب والأشعري في ذلك. ومنهم من يسلك مسلك المعتزلة كانتـ ابن عقيل، وصدقة بن الحسين، وابن الجوزي، وغيرهم. والذين لا يثبتونه أو ينفونه يصرح كثير منهم بتكفير المجسمة، فمنهم من يقول: من قال: هو جسم فقد كفر، ومن قال: ليس بجسم فقد ابتدع. ومنهم من يصوب من قال: ليس بجسم، ويكفر من يقول بالتجسيم. وقد حكى الأشعري في المقالات النفي عن أهل السنة والحديث، كما حكي عنهم أشياء بموجب ما اعتقده هو من مذهبهم. والسلف والأئمة وأهل الحديث والسنة المحضة من جميع الطوائف لا يصفون الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله. والألفاظ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 258 المجملة المبتدعة لا يثبتونها ولا ينفونها إلا بتبيان معانيها، فما كان من معانيها موافقاً للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان مخالفاً لذلك نفوه، فلا يطلقون: هو جسم ولا جوهر، ولا يقولون: ليس بجسم ولا جوهر، كما لا يطلقون إثبات لفظ الحيز ولا ينفونه. وأما قول هذا القائل: فتوهمها من كان من الناس لا يقدر أن يتصور موجوداً ليس بجسم، ولا أيضاً خيف عليه أن يتطرق ذهنه إلى القول بالجسمية، وهذه هي حال جمهور الناس. فهذا كلام متناقض، فإنه إذا كان أكثر الناس لا يقدرون أن يتصوروا موجوداً ليس بجسم، فإنهم قطعاً تتطرق أذهانهم - عند سماع هذه الأمور- إلى إثبات الجسمية. فقوله بعد ذلك: إن الذين يتطرق إلى أذهانهم من ذلك إثبات الجسمية قليل من الناس يناقض ما تقدم. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة ورد ابن تيمية قال: وقد كان الواجب عندي في هذه الصفة قبل أن تصرح الفرق الضالة بإثباتها يجرى فيها على منهاج الشرع، ولا يصرح فيها بنفي ولا إثبات، ويجاب من سأل عن ذلك من الجمهور بقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 259 وينهى عن هذا السؤال. وذلك لثلاثة معان: أحدها: أن إدراك هذا المعنى -أعني أنه ليس بجسم الذي هو الحق، ليس قريباً من المعروف بنفسه برتبة واحدة، ولا رتبتين، ولا ثلاث. وأنت تتبين ذلك من الطرق التي سلكها المتكلمون في ذلك، فإنهم قالوا: إن الدليل على أنه ليس بجسم: أنه قد تبين أن كل جسم محدث، وإذا سئلوا عن الطريق التي يوقف منها على أن كل جسم محدث، سلكوا في ذلك الطريق التي ذكرنا من حدوث الأعراض، وأنا ما لا يعرى عن الحوادث حادث، وقد تبين لك من قولنا أن هذه الطريقة ليس برهانية، ولو كانت برهانية لما كان في طباع الغالب من الجمهور أن يصلوا إليها، فإن ما يضعه هؤلاء القوم من أنه سبحانه ذات وصفات زائدة على الذات، يوجبون بذلك أنه جسم، أكثر مما ينفون عنه الجسمية بدليل انتفاء الحدوث عنه، فهذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 260 هو السبب الأول في أن لم يصرح الشرع بأنه ليس بجسم بين. قال: فلذلك أضرب الإمام المهدي عن هذا الدليل، إذ كان لا يرضى الخواص ولا يقنع الجمهور، وسلك طريقاً عجيباً مشتركاً للصنفين جميعاً. وهذا من خواصه في العلم، لا يعلم أحد ممن سلكه قبل ذلك، وهو طريق إثبات المثلية بين الأجسام، التي هي المساواة في جميع الخواص، فخاصة في تماثل قوتها في التناهي، أعني كل جسم قوته متناهية، وفي تماثلها في التركيب، وذلك أن من هاتين الجهتين افتقرت الأجسام إلى الفاعل. أما افتقارها من جهة التركيب، فلأن كل مركب جائز، وكل جائز مفتقر إلى الفاعل. وأما افتقارها إلى الفاعل من جهة تناهي قوتها، فلأن كل متناهي القوة، إن لم يقدر الفاعل الموت له تناهت قوته وفسد، ولم يمكن فيه أن يبقى طرفة عين. وهو معنى قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، فأنى بهذا الترياق الأعظم لهذا الداء العضال!. قلت: ولقائل أن يقول: إن كان هذا المعلوم حقاً، فيمتنع أنه لم يعلمه أحد قبل ابن التومرت ممن هو أعلم بالله وأفضل منه. وإذا كانت تلك الطريق باطلة، وهذا هو الطريق ولم يسلكه غيره، فلا يعلمه أحد قبله. وهكذا كل من سلك طريقاً في النفي زعم أنه لم يسلكه غيره، فإنه يوجب أن ذلك لم يعلم قبله، فلا يكون من تقدم من خيار هذه الأمة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 261 معتقدين لهذا النفي، ولو كان حقاً لاعتقدوه، فما ذكره من المدح يعود بنقيض مقصوده. وأيضاً فيقال: القول بتماثل الأجسام والاستدلال بذلك طريق معروفة سلكها المعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم. والأشعري في كتاب الإبانة يقتضي كلامه أنه خالفهم فيها، فليست طريقاً غريبة. وأيضاً فإنه لم يذكر دليلاً على تماثلها أصلاً. وأما ما ذكره من التركيب وتناهي القوة، فإن صح كان دليلاً بنفسه. فإنه سبحانه غني عن كل ما سواه، فلا يجوز أن يفتقر إلى فاعل بالضرورة باتفاق العقلاء. وأيضاً فإنه لم يذكر دليلاً على تركيب الجسم وتناهي قوته. والمنازع ينفي كلاً من الأمرين، كما قد ذكر في موضعه. وأعجب من ذلك تفسير قوله: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، بهذا المعنى، فإن فساد هذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان. قال: وأما السبب الثاني، فهو أن الجمهور يرون أن الموجود هو المتخيل والمحسوس، وأن ما ليس بمتخيل ولا محسوس فهو عدم. فإذا قيل لهم: إن ها هنا موجوداً ليس بجسم ارتفع عنهم التخيل، فصار عندهم من قبيل المعدوم، ولا سيما إذا قيل: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا أسفل. ولهذا اعتقدت الطائفة التي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 262 أثبتت الجسمية في الطائفة التي نفتها عنه سبحانه أنه ملشية واعتقدت التي نفتها في المثبتة أنها مكثرة. قال: وأما السبب الثالث فهو أنه إذا صرح بنفي الجسمية، عرضت من الشرع شكوك كثيرة مما يقال في المعاد وغير ذلك. فمنها ما يعرض من ذلك في الرؤية التي جاءت بها السنة الثابتة، وذلك أن الذين صرحوا بنفيها -أعني الجسمية- فرقتان: المعتزلة والأشعرية. فأما المعتزلة فدعاهم هذا الاعتقاد إلى نفي الرؤية. وأما الأشعرية فأرادوا أن يجمعوا بين الأمرين، فعسر ذلك عليهم، ولجأوا في الجمع إلى أقاويل سوفسطائية سنرشد إلى الوهن الذي فيها عند الكلام في الرؤية. ومنها أنه يوجب انتفاء الجهة في بادي الرأي عن الخالق سبحانه أنه ليس بجسم، فترجع الشريعة متشابهة. وذلك أن بعث الأنبياء انبنى على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 263 أن الوحي نازل عليهم من السماء، وعلى ذلك انبنت شريعتنا هذه، أعني أن الكتاب العزيز نزل من السماء. كما قال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} [الدخان: 3] ، وانبنى نزول الوحي من السماء على أن الله في السماء. وكذلك كون الملائكة تنزل من السماء وتصعد إليها، كما قال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10] ، وقال تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4] . وبالجملة جميع الأشياء التي تلزم القائلين بنفي الجهة، على ما سنذكره بعد عند التكلم في الجهة. ومنها أنه إذا صرح بنفي الجسمية وجب التصريح بنفي الحركة، وإذا صرح بنفي هذا عسر تصور ما جاء في صفة الحشر من أن الباري سبحانه يطلع إلى أهل الحشر، وأنه الذي يلي حسابهم كما قال تبارك وتعالى: {وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر: 22] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 264 وكذلك يصعب تأويل حديث النزول المشهور، وإن كان التأويل أقرب إليه منه إلى أمر الحشر، مع أن ما جاء في الحشر متواتر في الشرع. فيجب أن لا يصرح للجمهور بما يؤول عندهم إلى إبطال هذه الظواهر، فإن تأثيرها في نفوس الجمهور إنما هو إذا حملت على ظاهرها. وأما إذا أولت، فإنه يعود الأمر فيها إلى أحد أمرين: إما أن يسلط التأويل على هذه وأشباه هذه في الشريعة، فتموت الشريعة كلها، وتبطل الحكمة المقصودة منها. وإما أن يقال في هذه كلها: إنها من المتشابهات، فيعود الشرع كله من المتشابه، مع أنك إذا اعتبرت الدلائل التي احتج بها المؤولون لهذه الأشياء كلها تجدها غير برهانية، بل الظواهر الشرعية أقنع منها، أعني أن التصديق بها أكثر. وأنت تتبين ذلك من قولنا في البرهان الله تعالى بنوا عليه نفي الجسمية، وكذلك تتبين ذلك في البرهان الذي بنوا عليه نفي الجهة، على ما سنقوله بعد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 265 قال: وقد يدلك على أن الشرع لم يقصد التصريح بنفي هذه الصفة للجمهور، أنه لمكان انتفاء هذه الصفة عن النفس، أعني الجسمية، لم يصرح الشرع للجمهور بما هي النفس، فقال في الكتاب العزيز: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85] ، وذلك أنه يعسر قيام البرهان عند الجمهور على وجود موجود قائم بذاته ليس بجسم، ولو كان انتفاء هذه الصفة مما يقف عليه الجمهور لاكتفى بذلك الخليل في محاجة الكافر حين قال له: {ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت} [البقرة: 258] الآية، لأنه كان يكتفي بأن يقول له: أنت جسم، والله تعالى ليس بجسم، لأن كل جسم محدث، كما يقول الأشعرية. وكذلك كان يكتفي بذلك موسى عليه السلام عند محاجة فرعون في دعوى الإلهية. وكذلك كان يكتفي المصطفى صلى الله عليه وسلم في أمر الدجال في إرشاد المؤمنين إلى كذب ما يدعيه من الربوبية من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 266 أنه جسم والله تعالى ليس بجسم. بل قال عليه السلام: إن ربكم ليس بأعور، واكتفى بالدلالة على كذبه بوجود هذه الصفة الناقصة. التي ينتفي عند كل أحد وجودها ببديهة العقل في الباري سبحانه. وكذلك كان يكتفي بنفي الجسمية في عجل بني إسرائيل. فهذه كلها -كما تراه- بدع حادثة في الإسلام، هي السبب فيما عرض فيه من الفرق التي أنبأ المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه ستفترق أمته إليها. فإن قال قائل: فإذا لم يصرح الشرع للجمهور بأنه جسم ولا بأنه غير جسم، فما عسى أن يجابوا في جواب ما هو؟ فإن هذا السؤال طبيعي للإنسان، وليس يقدر أن ينفك عنه. ولذلك ليس يقنع الجمهور أن يقال لهم في موجود وقع الاعتراف به: لا ماهية له، لأن ما لا ماهية له لا ذات له. قلنا: الواجب في ذلك أن يجابوا بجواب الشرع، فيقال لهم: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 267 إنه نور، فإنه الوصف الذي وصف الله به نفسه في كتابه، على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته، فقال تعالى: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره} الآية [النور: 35] ، وبهذا الوصف وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه فإذا جاء أنه قيل له عليه السلام: هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه. وفي حديث الإسراء أنه لما قرب صلى الله عليه وسلم من سدرة المنتهى غشي السدرة من النور ما حجب بصره من النظر إليها أو إليه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 268 وفي كتاب مسلم: إن لله حجاباً من نور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره. قال: وفي بعض روايات الحديث: سبعين حجاباً من نور. فينبغي أن يعلم أن هذا المثال هو شديد المناسبة للخالق سبحانه لأنه يجتمع فيه أنه محسوس تعجز الأبصار عن إدراكه، وكذلك الإفهام، مع أنه ليس بجسم، والموجود عند الجمهور إنما هو المحسوس، والمعدوم عندهم هو غير المحسوس. والنور لما كان هو أشرف المحسوسات، وجب أن يمثل لهم به أشرف الموجودات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 269 فيقال: هذا الرجل يرى رأي ابن سينا ونحوه من المتفلسفة والباطنية، الذين يقولون: إن الرسل أظهرت للناس في الإيمان بالله واليوم الآخر خلاف ما هو الأمر عليه في نفسه، لينتفع الجمهور بذلك، إذ كانت الحقيقة لو أظهرت لهم لما فهم منها إلا التعطيل، فخيلوا ومثلوا لهم ما يناسب الحقيقة نوع مناسبة، على وجه ينتفعون به. وأبو حامد في مواضع يرى هذا الرأي، ونهيه عن التأويل في إلجام العوام والتفرقة بين الإيمان والزندقة مبني على هذا الأصل، وهؤلاء يرون إقرار النصوص على ظواهرها هو المصلحة التي يجب حمل الناس عليها، مع اعتقادهم أن الأنبياء لم يبينوا الحق، ولم يورثوا علماً ينبغي للعلماء معرفته، وإنما المورث عندهم للعلم الحقيقي هم الجهمية والدهرية، ونحوهم من حزب التعطيل والجحود. وما ذكره هذا في النور أخذه من مشكاة أبي حامد وقد دخل معهم في هذا طوائف ممن راج عليهم هذا الإلحاد في أسماء الله وآياته، من أعيان الفقهاء والعباد. وكل من اعتقد نفي ما أثبته الرسول حصل في نوع من الإلحاد بحسب ذلك، وهؤلاء كثيرون في المتأخرين، قليلون في السلف. ومن تدبر كلام كثير من مفسري القرآن، وشارحي الحديث، ومصنفي العقائد النافية والكلام، وجد فيه من هذا ما يتبين له به حقيقة الأمر. وقوله في النور: إنه محسوس تعجز الأبصار عن إدراكه وكذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 270 الأفهام، مع أنه ليس بجسم تناقض من وجهين: أحدهما: أن المحسوس الذي يحسه الناس ليس إلا جسماً أو عرضاً في جسم. والثاني: أن النور الذي يعرفونه ليس إلا جسماً أو عرضاً في جسم، وذلك كنور المصابيح ونحوها. فإنه إما أن يراد به نفس النور الخارج من ذبالة المصباح فذلك نار، والنار جسم. وإما أن يراد به ما يصير على ما يلاقيه من الأرض والجدران والهواء من الضوء، فذلك عرض قائم بغيره. وكذلك الشمس والقمر، إن أريد بالنور نفس ذات واحد منهما، كقوله: {جعل الشمس ضياء والقمر نورا} [يونس: 5] ، فالقمر جسم. وإن أريد بالنور ما على الأرض والهواء من ضوء ذلك، فذلك عرض، فلا يعرف الناس نوراً إلا هذا وهذا. وأيضاً فإذا كان السؤال بما هو طبيعي للإنسان لا يقدر أن ينفك عنه، ولا يقنع الإقناع في جواب هذا السؤال بعد الاعتراف بوجود المسؤول عنه، بأن يقال: لا ماهية له لأن ما لا ماهية له لا ذات له، فلا يقع الإقناع بجواب ليس مطابقاً للحقيقة. وبتقدير أن لا يكون هو في نفسه نوراً، يكون الجواب غير مطابق للحقيقة. وحينئذ فالجواب المطابق للحق، مع الإعراض عن ذكر الحقيقة، أحسن من هذا، كما تقوله طائفة من الناس في جواب موسى لفرعون لما سأله بقوله: {وما رب العالمين * قال رب السماوات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 271 والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} [الشعراء 23-24] . قالوا: لما سأله عن الماهية، والمسؤول عنه لا ماهية له، عدل إلى ما يصلح الجواب به. فقول هؤلاء، مع أنه خطأ، أقرب من أن يجاب عن الماهية بما ليس مطابقاً للحق. وإنما كان قول هؤلاء خطأ، لأن فرعون لم يسأل موسى سؤال مستفهم طالب للعلم بماهية المسؤول عنه، حتى يجاب جواب المستفهم السائل، كما ذكره الناس في جواب السؤال بما هو. ولكن هذا استفهام إنكار ونفي وجحود للمسؤول عنه، فإن فرعون كان مظهراً لجحد الصانع. ولهذا قال: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38] ، وقال: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] ، وقال: {يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا} [غافر: 36-37] ، تكلم بما هو جحد ونفي وإنكار لمسمى رب العالمين. فقال: {وما رب العالمين} [الشعراء: 23] . كما لو ادعى على أحد مدع أن هذا ولدك أو شريكك في المال، أو أعطاك هذا المال، ونحو ذلك. فقال: من هو ولدي؟ ومن هو شريكي؟ ومن هو الذي أعطاني؟ فإنه يقول ذلك على سبيل الإنكار والجحد، لا على سبيل الاستعلام والاستفهام. فإذا كان منكراً للحق أجيب بما يقيم الحجة عليه، فيقال له: هذا الذي ولدته امرأتك فلانة، أو الذي اشتريت أنت وهو المال الفلاني، أو هو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 272 الذي أقررت له بذلك، وأشهدت به عليك فلاناً وفلاناً، ونحو ذلك. ولهذا أجابه موسى بما فيه تقرير لما أنكره وتثبيت له، فقال: {رب السماوات والأرض وما بينهما} [الشعراء: 24] ، وقال {ربكم ورب آبائكم الأولين} [الشعراء: 26] ، وذلك لأن العلم بثبوت هذا الرب أمر مستقر في الفطر، مغروز في القلوب. يبين هذا أن السؤال عن ماهية الشيء الثابتة في الخارج يكون بعد الاعتراف بوجوده. أما ما يكون مجحوداً منتفياً في نفس الأمر، فلا ماهية له في الخارج حتى يسأل عنها، ولكن قد يسأل المسؤول عن تصوير ما يقوله، وإن لم تكن له حقيقته في الخارج. أما إذا ادعى شيئاً في الخارج، والمدعي ينكر وجوده، فإنه لا يطلب منه أن يعرفه ماهية ما لا حقيقة له، بل يسأله على طريق إنكار ذلك، لا على طريق الاستعلام عن ذلك. وإذا كان المسؤول عنه مما لا وجود له طولب بتمييزه وتعريفه، حتى يبين له أنه لا وجود له، وأنك تدعي ثبوت ما ليس بثابت، كما يقال لمن يدعي أن هنا جبلاً من ياقوت أو بحراً من زئبق، أين هو؟ وكيف هو؟ وكما يقال لمن يدعي وجود المنتظر المعصوم الداخل إلى سرداب سامراً: بماذا يعرف؟ وكم كان عمره حين دخل؟ وماذا الذي يمنعه من الظهور؟ ونحو ذلك من المسائل التي يبين بها عدم المسؤول عنه، أو عدم ما أثبته المسؤول له. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 273 وهذا في القرآن كثير، كقوله تعالى: {ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها} [الأعراف: 195] . وقوله تعالى: {قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} [يونس: 18] . وقوله: {أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى} [النجم: 19-21] ومنه قولهم: {أهذا الذي بعث الله رسولا} [الفرقان: 41] . وقول الكفار: {أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون * أو آباؤنا الأولون} [الصافات: 16-17] . وإذا كان المسؤول عنه موجوداً، كان الجواب بما يدل على وجوده. فلهذا أجاب موسى للمنكرين بما يدل على إثبات الصانع سبحانه، فإن افتقار السماوات والأرض وما بينهما، والمشرق والمغرب، والموجودين وآثارهم، إلى الصانع، واستقرار ذلك في فطرهم -أمر لا يمكن إنكاره إلا عناداً. كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} [النمل: 14] . وذكر موسى عليه السلام السماوات والأرض، والليل والنهار، والأولين والآخرين، فذكر الأعلى والأسفل، والمتيامن والمتياسر، والمتقدم والمتأخر. وهذه هي الجهات الست للإنسان، وذكر التقدم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 274 والتأخر بالزمان، بعد أن ذكر التقدم والتأخر بالمكان، فإن المكان دخل في السماوات والأرض، والمشرق والمغرب. وذكر موسى خلق الإنسان، بعد أن ذكر الخلق العام. كما في قوله: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق} [العلق: 1-2] . وكما في قوله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53] . فإذا كان المسؤول عنه بما هو، لا بد أن تكون له ذات هي ماهيته، كان الجواب عنها بما يمكن من التعريف، فإن أمكن أن يعرف بعينه قيل: هذا هو، أو هو فلان ابن فلان، ونحو ذلك مما يميزه عند السائل، ويوجب معرفته بعينه بالإحساس، لكن معرفة عينه لم تحصل هنا بمجرد كلام المتكلم، بل بالإحساس به، وإن لم يمكن معرفته بعينه عرف بنظيره، ولا يكون له نظير من كل وجه، فإنه لو كان نظير من كل وجه، لم يكن المجهول إلا عينه. وإذا كان المطلوب معرفة عينه لم يحصل الجواب بالنظير، وإنما يعرف بالنظير نوعه، فلا يجاب بالنظير، إلا إذا كان السؤال عن معرفة نوعه. وحينئذ فتحصل المعرفة به بحسب مماثلة ذلك النظير له، لأجل القدر المشترك الذي بين المتماثلين. كمن سئل عن الخمر، فقال: شراب مسكر فلا بد أن يكون السائل يعرف الشرب ويعرف السكر، ولكن لم يعرف نوع سكر الخمر، بل عرف مثلاً سكر الغضب والعشق والحزن، وعرف زوال العقل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 275 بالجنون والبنج، فلو سأل عن السكر، قيل له: لذة مع زوال الحزن. فقولنا: لذة، يخرج سكر الغضب والحزن، فإنه ألم، بخلاف سكر العشق. ولكن ليس هذا مثل هذا، فلا يمكن تعريفه ذلك إلا بالقدر المشترك بين هذه اللذة وسائر اللذات، وبالقدر المشترك بين زوال العقل بهذا السبب وغيره من الأسباب. ثم إذا انضم إلى ذلك أنه شراب يميز المسؤول عنه عن غيره. ولهذا كان حقيقة الأمر أن الحدود المقولة في جواب ما هو إنما يحصل التمييز بين المحدود وغيره. وأما نفس تصور حقيقته، فذاك لا يحصل بالقول والكلام، لا على وجه التحديد ولا غيره، بل بإدراك النفس المحدودة. فالسائل إذ سأل عن الرب ما هو، أمكن أن يجاب بأجوبة تميزه عما سواه سبحانه، بحيث لا يشركه غيره في الجواب، ويمكن أن يذكر من الأمور المشتركة بحسب إدراك السائل ما يحصل به من المعرفة ما يشاء الله. وأما معرفة كنه الذات، فذاك لا يمكن بمجرد الكلام، ليس لأنه لا كنه لها، لكن لأن تعريف كنه الأمور لا يمكن بمجرد العبارات. فإذا قيل: هو نور، لم يمنع هذا أن تكون حقيقته نوراً. كما إذا قيل: هو حي، أو عالم أو قادر، أو موجود. لكن ليس هو مثل شيء من الأنوار المخلوقة، كما أنه ليس مثل شيء من الأحياء العالمين المخلوقين، ولا شيء من الموجودات المخلوقة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 276 ولكن لولا القدر المشترك لما كان في الكلام فائدة. ثم القدر المميز يحصل بالإضافة، فيعلم أنه نور ليس كالأنوار، موجود ليس كالموجودين، حي لا كالأحياء. وهذا الجواب هو جواب أهل التحقيق من المثبتين الذين ينفون علم العباد بماهيته وكيفيته، ويقولون: لا تجري ماهيته في مقال، ولا تخطر كيفيته ببال. ويقولون: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. ويقولون: حجب الخلق عن معرفة ماهيته، ونحو ذلك. وأما من نفى ثبوت هذه الأمور في نفس الأمر، فقال: لا ماهية له فتجري في مقال، ولا كيفية له فتخطر ببال. كما يقول ذلك من يقول من المعتزلة، ومن اتبعهم من الأشعرية، وغيرهم من أصحاب الفقهاء الأربعة- فهؤلاء هم الذين خرجوا عن الجواب الطبيعي، وأرادوا تغيير الفطرة الإنسانية، كما غيروا النصوص الشرعية. وإنما الكمال بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة. والرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها، لا بتغيير الفطرة وتحويلها. ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يجاب عن سؤال السائل بما هو، بما يجاب إذا سئل عن الأنواع، فإن الله لا مثل له سبحانه. وإذا كان المخلوق الذي انحصر نوعه في شخصه، كالشمس مثلاً لا يمكن ذلك فيها، فالخالق سبحانه أولى بذلك. وإذا كان تعريف عين الشيء لا يمكن إلا بمعرفته أو معرفة نظيره، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 277 والله لا نظير له، امتنع أن يعرف إلا بما تعرف به الأعيان من المعارف الخاصة بالمعروف باطناً وظاهراً، كما يهدي إليه به عباده المؤمنين من الإيمان به في الدنيا، وكما يتجلى لهم في الدار الآخرة. وهذه المعرفة تطابق ما سمعوه، مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فيتطابق الإيمان والقرآن، ويتوافق البرهان والعيان. والله سبحانه فطر عباده على الإقرار به فطرة تختص به، ليست كلية مشتركة بينه وبين غيره، كما جعل في الإبصار قوة ترى بها الشمس بخصوصها، لا تعرف الشمس معرفة مشتركة. كما يقال في حدها: كوكب يطلع نهاراً. بل معرفة الناس للشمس أعظم من معرفتهم لغيرها من أعيان الكواكب ولنوع الكواكب، لو كانت الشمس من نوع الكواكب، فكيف إذا لم تكن من نوعها؟. ولهذا كانت الدلائل على الخالق آيات له. والآية تختص بما في آية عليه، ليست قياساً كلياً يدل على معنى مشترك عام، بل تدل على معين موجود متميز عن غيره. والأدلة القياسية الكلية التي يخصها باسم البرهان أهل المنطق ونحوهم، لا تدل إلا على أمر كلي. كقولنا: الإنسان محدث، وكل محدث فله محدث: ينتظم قضيتين كليتين. فقول القائل: الإنسان محدث، يعم كل إنسان، وعلمه بحدوث الإنسان المعين كعلمه بحدوث الإنسان الآخر، ليس علمه بهذه القضية الكلية أكمل من علمه بالواحد المعين، إلا أنه قد يجهل الإنسان حكم المعين، فيستدل عليه بنظيره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 278 وكذلك قول القائل: كل محدث فله محدث، فما من محدث يعلم حدوثه إلا وهو يعلم أنه له محدثاً، كما أنه يعلم أن المحدث الآخر محدثاً، ثم إذا علم أن للمحدث محدثاً، فهذا علم مطلق كلي، ليس فيه معرفة بمعين، وليس هذا معرفة بالله تعالى. وأما الآية فهي مختصة به، لا يشركه فيها غيره، فالإنسان، وغيره من الآيات تدل على عينه نفسه، لا تدل على نوع مطلق، إذ الدليل مستلزم للمدلول، وهذه الأدلة مستلزمة لعينه لافتقارها إليه، ليست مستلزمة لأمر مطلق كلي، إذا المطلق الكلي لا وجود له في الخارج. لكن المستدل قد لا يعلم ابتداء استلزامها لنفسه، بل يعرف المشترك أولاً، ثم المختص ثانياً، كمن يرى شخصاً من بعيد، فيعلم أنه جسم، ثم يراه متحركاً إليه، فيعلم أنه حيوان، ثم يراه منتصباً، فيعلم أنه إنسان، ثم يراه فيعلم أنه زيد مثلاً، فكان علمه بعينه بحسب أدلته. والرب تعالى متميز عن غيره بجميع خصائصه. والناس تكلموا في أخص وصفه. فقال من قال من المعتزلة: هو القدم. وقال الأشعري وغيره: هو القدرة على الاختراع. وقال من قال من الفلاسفة: هو وجوب الوجود. والتحقيق أن كل وصف من هذه الأوصاف فهو من خواصه. ومن خواصه أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، وأنه الرحمن الرحيم. وكل اسم لا يسمى به غيره: كالله، والقديم الأزلي، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، ونحو ذلك -فمعناه من خصائصه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 279 والاسم الذي يسمى به غيره، وهو عند الإطلاق ينصرف إليه: كالملك، والعزيز، والحليم- يختص بكماله وإطلاقه، فلا يشركه في ذلك غيره. والاسم الذي يسمى به غيره ولا ينصرف إطلاقه إليه: كالموجود، والمتكلم، والمريد - يختص أيضاً بكماله، وإن لم يختص بإطلاقه. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة ورد ابن تيمية ومن المعلوم أن الأسماء التي يختص بها بكل حال، أو عند الإطلاق، أو تنصرف إليه بالنية يجب أن يعلم المتكلم بها اختصاصه بها، وإلا لم يخصه بها، وتخصيصه بها مستلزم لمعرفة ما يختص به ويمتاز به غيره، فلا بد أن يكون في القلوب من المعرفة ما تختص به، ويمتاز به عن غيره. وهذه المعرفة لا تكون بقياس كلي مدلوله معنى كلي، إذ الكلي لا تخصيص فيه، بل قد يحصل عن قياسين، مثل أن يعلم أن كل محدث له محدث، وأن المحدث للمحدثات ليس هو شيئاً من هذا العالم، ولا يكون اثنين، فيعلم أنه واحد خارج عن العالم، ومع هذا فإشارة القلوب إلى عينه خارجة عن موجب قياس الكلي. وهكذا سائر المعلومات لا يمكن أن تعلم بمجرد القياس الكلي غير معينة في الخارج، وقد بسط الكلام على هذا في موضعه. ولهذا إذا ذكر الله توجهت القلوب إليه سبحانه، لما في الفطرة من معرفته أبلغ مما توجه إلى معين غيره إذا ذكر. فإذا قيل: الشمس -أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 280 الهلال- توجهت القلوب إلى ما عرفته من ذلك. وتوجهها إلى ما عرفته من الخالق أكمل. وهذا أمر مغروز فيها، وقد فطرت عليه. وآياته دوال وشواهد، وهي كما قال تعالى: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} [ق: 7] ، فهي تبصر الجاهل، وتذكر الغافل. قال ابن رشد: وههنا سبب آخر وجب أن يسمى به نوراً. وذلك أن حال وجوده من عقول العلماء الراسخين في العلم عند النظر إليه بالعقل هي حال الإبصار عند النظر إلى الشمس، بل حال عيون الخفافيش، فكان هذا الصنف لائقاً عند الصنفين من الناس. قلت: ولقائل أن يقول: هذا الكلام يناسب حال أهل الحيرة والضلال، الذين حارت عقولهم فيه فلم تعرفه، كما يحار البصر في الشمس فلا يراها، فقد مثله بالنور عند الجمهور، لكونه هو الذي يرى، وعند العلماء لكونه لا يرى، فاقتضى هذا أن الجمهور لهم به معرفة، وأن العلماء لا يعرفونه. وهذا حقيقة كلام هؤلاء، فإنهم يجعلون ما أظهره الله من أسمائه وصفاته لتعريف الجمهور، إذ لا يمكن إلا ذلك. وهو عندهم في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 281 الباطن ليس كذلك، بل موصوف بالسلوب التي لا يحصل منها إلا الجهل والحيرة والضلالة. ومنتهاهم أن يثبتوا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له إلا في الذهن لا في الخارج. وهذا منتهى هؤلاء المتفلسفة، ومن سلك سبيلهم من المتصوفة: أهل الوحدة والحلول والاتحاد، ومن ضاهاهم من أصناف أهل الإلحاد. وأصل ضلال هؤلاء أنهم لم يثبتوا وجوداً للرب مبايناً للمخلوقات، متميزاً عنها، بل اعتقدوا أن هذا منتف، لكونه يقتضي ما هو منتف عندهم من التحيز والجهة. قال: وأيضاً فإن الله تبارك وتعالى، لما كان سبب الموجودات وسبب إدراكنا لها، وكان النور مع الألوان هذه صفته، أعني أنه سبب وجود الألوان بالفعل وسبب رؤيتنا لها، فبالحق ما سمى الله نفسه نوراً. وإذا قيل: إنه نور، لم يعرض شك في الرؤية التي جاءت في المعاد. قلت: هذا الرجل سلك مسلك صاحب مشكاة الأنوار، فإن ذلك الكتاب موضوع على قواعد هؤلاء المتفلسفة. وابن رشد هذا يمدح الجزء: 10 ¦ الصفحة: 282 كلامه في مشكاة الأنوار وما كان مثله مما وافق فيه الفلاسفة. والمسلمون يقدحون في كلامه الذي وافق فيه الفلاسفة، ويمدحون من كلامه ما وافق فيه المسلمين وناقض به الفلاسفة، فما يمدحه به أهل العلم والإيمان، يذمه به هذا وأمثاله، وينشد: يوماً يمان إذا ما جئت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدنان وما يمدحه به أهل العلم والإيمان، يذمه به هؤلاء، وقد ذكر في مشكاة الأنوار ما يناسب ما ذكره هذا في النور. ومن هنا دخل الملحدون من الاتحادية، الذين قالوا بوحدة الوجود، وقالوا: إن الخلق مجال ومظاهر، لأن وجود الحق ظهر فيها وتجلى، فجعلوا نفس وجوده هو نفس ظهوره وتجليه. ومن المعلوم أن الشيء يكون موجوداً في نفسه ثم يظهر ويتجلى تارة، ويحتجب أخرى، سواء كان تجليه لوجود سبب الرؤية في الرائي، كالأعمى إذا صار بصيراً، أو لزوال المانع في الظاهر، كالحجب المانعة. أو لهما جميعاً. وهؤلاء جعلوا وجود الحق في المخلوقات، هو نفس ظهوره وتجليه فيها. وسموها مجالي ومظاهر، وذلك أن حقيقة قولهم: إنه ليس موجوداً في الخارج، ولكنهم يظنون أنهم يعتقدونه موجوداً في الخارج، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 283 فإذا شاهدوا الوجود الساري في الكائنات، ظهر لهم هذا الوجود وهم يظنونه الله، فسموها مظاهر ومجالي، لأنها أظهرت لهم ما ظنوا أنه الله. ولو أنهم جعلوها آيات أظهرت لهم وبينت ما دلت عليه من وجوه، وعلمه وقدرته ورحمته وحكمته، مع علمهم بأن وجوده مباين لوجودها -لكانوا مهتدين. وما ذكره هذا الرجل موافقاً فيه لصاحب المشكاة أن النور سبب وجود الألوان، وسبب إدراكنا لها، كما أن الله سبب وجود الموجودات، وسبب معرفتنا بها -ليس بمستقيم، فإن الألوان موجودة في نفسها، سواء أدركناها أو لم ندركها، وهي في نفسها مستغنية عن النور، ولكن النور شرط في إدراكنا لها، لا في وجودها. وليس المخلوق مع الخالق كذلك، بل الخالق هو المبدع لأعيان الموجودات، وليس هو معها كالشرط مع المشروط، ونحو ذلك مما يقتضيه كلام هذا الرجل في تهافت التهافت وكلام أمثاله من هؤلاء المتفلسفة الاتحادية وغيرهم، الذين يجعلونه مع الموجودات كالمادة مع الصورة، وكالصورة مع المادة، كالكلي مع الجزئي، كالجنس مع النوع، أو النوع مع الشخص، ونحو ذلك من التمثلات التي يقتضي أنه مفتقر إليها، وهي مفتقرة إليه، وكل منهما مع الآخر، كالشرط مع المشروط، كما قد صرح بذلك صاحب الفصوص وغيره. بل هو سبحانه الغني بنفسه عن كل ما سواه من كل وجه، وكل ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 284 سواه مفتقر إليه من كل وجه، وليس شيء أفقر إلى شيء من المخلوق إلى الخالق، ولا شيء أغنى عن شيء من الخالق عن المخلوق، ولا يشبه فقر الخلق إليه وغناه عنهم شيء من أنواع الفقر والغنى. وإذا قلنا: كالمفعول مع الفاعل، والمصنوع مع الصانع، والمبدع مع المبدع، أو كالمعلول مع العلة، والموجب مع الموجب، ونحو ذلك -فكل ذلك تقريب فيه قصور وتقصير منا، إذ ليس في الموجودات ما هو مع غيره كالمخلوق مع الخالق، ولا في الوجود مفعول له فاعل واحد له يستغني به، ولا معلول له علة واحدة تستغني به في الوجود. بل كل ما في الوجود مما يظن أنه مفعول أو معلول لشيء من المخلوقات، فإن غايته إذا كان فاعلاً وعلةً، أن يكون محتاجاً إليه من وجه دون وجه. وهو محتاج إلى غيره من وجه آخر، وهو فاعل وعلة له من وجه دون وجه. وأما أن يكون في الموجودات ما هو مفتقر إلى فاعل أو علة، كافتقار المخلوقات إلى الخالق فلا. وهذا من أسباب ضلال هؤلاء، فإنهم ضلوا في قياسهم الخالق، الذي ليس كمثله شيء، على المخلوقات، فيجعلون حال المخلوقات معه، كحال مفعولات العباد معهم، لا سيما وفيهم من يكون قوله شراً من ذلك. ومن هذا الباب قول من جعل المعدوم شيئاً ثابتاً في الخارج، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 285 مستغنياً عن الخالق، ومن جعل الماهيات غير الأعيان الموجودة، فإذا ضم إلى أحد هذين القولين أن يجعل الوجود واحداً، والوجود الواجب هو الممكن -لزم أن يكون كل من وجود الأعيان وثبوتها مفتقراً إلى الآخر، وأن يكون الوجود الواجب مفتقراً إلى الذوات المستغنية عنه، كما يقوله صاحب الفصوص. أو أن يكون وجود الأعيان، الذي هو الوجود الواجب عند هؤلاء، مفتقراً إلى الماهيات المستغنية عنه، كما يقوله آخرون منهم. ويقول ابن سبعين وأمثاله: هو في كل شيء بصورة ذلك الشيء، فهو في الماء ماء، وفي النار نور، وفي الحلو حلو، وفي المر مر. وقد وقع نوع من الحلول والاتحاد في كلام غير واحد من شيوخ الصوفية. ولهذا كان الأئمة منهم، ك الجنيد وأمثاله، يتكلمون بالمباينة، كقول الجنيد: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم. وفي كلام الشاذلي، والحرالي، بل وابن برجان، بل وأبي طالب وغيرهم من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 286 ذلك ما يعرفه من فهم حقيقة الحق، وفهم مقاصد الخلق. ولهذا كان الناس يصفون السالمية بالحلول، فإن أبا طالب من أصحاب أبي الحسن ابن سالم، صاحب سهل بن عبد الله التستري. والناس في هذه المسألة على أربعة أقوال: منهم من يقول بالحلول والاتحاد فقط، كقول صاحب الفصوص وأمثاله. ومنهم من يثبت العلو ونوعاً من الحلول، وهو الذي يضاف إلى السالمية، أو بعضهم. وفي كلام أبي طالب وغيره ما قد يقال: إنه يدل على ذلك. ومنهم من لا يثبت لا مباينة ولا حلولاً ولا اتحاداً، كقول المعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم. والقول الرابع إثبات مباينة الخلق للمخلوق بلا حلول. وهذا قول سلف الأمة وأئمتها. وكل من وقع بنوع من الحلول لزم افتقار الخالق إلى غيره واستغناء غيره عنه، فإن الحال في غيره إن لم يكن محتاجاً إليه بوجه من الوجوه امتنع الحلول، سواء قيل: إن الحال قائم بنفسه أو بغيره. فإن قال الحلولي: أنا أثبت حلولاً لا كحلول الأجسام ولا الأعراض، وحينئذ فلا يلزم افتقاره فيه إلى غيره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 287 قيل: هذا لا حقيقة له، وهو كقول من قال: أثبت قيامه بغيره من غير احتياج إلى ذلك المحل الذي من شأنه أن يقوم ما قام فيه، لأن قيامه بالغير ليس كقيام الأجسام والأعراض، وأثبته في غيره لا مماساً له ولا مبايناً له. لكن هذا الجواب يصح من أهل السنة الذين ينكرون وجود موجود لا مباين للعالم ولا داخل فيه. وأما من أثبت هذا، فإنه لا يمكنه إبطال قول الحلولية، فإنهم يقولون: كما أثبت موجوداً لا داخل العالم ولا خارجه فأثبته حالاً في الموجودات من غير أن يكون مفتقراً إليها. فإذا قال: هذا لا يعقل. قيل: وذاك لا يعقل، بلا تصديق العقل بوجود موجود في العالم غير مفتقر إليه، أقرب من تصديقه بوجود موجود لا داخل العالم ولا مباين له. ولهذا كان انقياد القلوب إلى قول الحلولية أقرب من انقيادهم إلى قول نفاة الأمرين. وجمهور الجهمية وعبادهم وصوفيتهم إنما يتكلمون بالحلول. وإلا فالنفي العام لا تقبله غالب العقول، وإنما يقوله من يقوله من متكلمتهم. وهؤلاء يخضعون لأرباب الأحوال والعبادات والمعارف من الجهمية الحلولية، ولا يمكنهم الإنكار عليهم بحجة ظاهرة، ويد مبسوطة، بل إما أن يكونوا مقصرين معهم في الحجة، وإما أن يكونوا مقهورين معهم بالحال والعبادة والمعرفة، لأن أولئك في قلوبهم تأله ووجد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 288 وذوق، وهؤلاء بطالون قساة القلوب، لأن القلب لا يتوجه بالقصد والعبادة إلى العدم والنفي، وإنما يتوجه إلى أمر موجود. ولهذا كانت الجهمية النفاة داخلين في نوع من الشرك، إذ كل معطل مشرك، وليس كل مشرك معطلاً. والجهمية قولهم مستلزم للتعطيل، ففيهم شرك. وقد يكون الشرك فيمن ليس منهم، إذ إخلاص الدين لله مستلزم لإثباته، وليس إثباته مستلزماً للإخلاص، فمن أثبت شيئاً من الحقائق مستغنياً عن الله كاستغناء الألوان في أنفسها عن النور، أمكنه أن يقول: هو بالنسبة إلى تلك الأمور كالنور بالنسبة إلى اللون، إذ قد تظهر به تلك الأمور، كما ظهر اللون لنا بالنور. قال ابن رشد: فقد تبين لك من هذا القول الاعتقاد الأول الذي في هذه الشريعة، في هذه الصفة، يعني الجسمية، وما حدث في ذلك من البدعة. قال: وإنما سكت الشرع عن هذه الصفة لأنه لا يعترف بموجود في الغائب أنه ليس بجسم إلا من أدرك برهاناً: أن في الشاهد موجوداً بهذه الصفة، وهي النفس. ولما كان الوقوف على معرفة هذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 289 المعنى من النفس مما لا يمكن الجمهور، لم يمكن فيهم أن يعقلوا وجود موجود ليس بجسم. فلما حجبوا عن معرفة النفس، علمنا أنهم حجبوا عن معرفة هذا المعنى من الباري تعالى. قلت: ولقائل أن يقول: هو قد بين فساد طرق نفاة الجسم من المتكلمين، وكذلك بين فساد طريقة ابن سينا وغيره من الفلاسفة، وذكر أنه لا يمكن الاعتراف بوجود موجود في الغائب ليس بجسم، إلا من علم بالبرهان أن النفس ليست بجسم. وحينئذ فيقال له: هذا أضعف من كلام المتكلمين ومن كلام الفلاسفة من وجهين: أحدهما: أن الأدلة الدالة على كون النفس ليست الجسم الإصطلاحي، وهو ما يمكن الإشارة إليه، وكونها لا توصف بحركة ولا سكون، ولا تقرب من شيء ولا تبعد عنه، ولا تصعد ولا تعرج ولا تهبط، ونحو ذلك مما يقوله فيها هؤلاء الفلاسفة -أضعف من أدلة نفي ذلك عن الباري، فإذا كانت تلك فاسدة فهذه أولى. والثاني: أن يقال: هب أنه يثبت أن النفس لا يمكن الإشارة إليها، أو أن المخلوقات ما لا يمكن الإشارة إليها، فمن أين يجب أن يكون الخالق كذلك؟ غاية ما يثبت به: أن العقل لا يحيل ذلك، لكن عدم استحالته في العقل لا يقتضي ثبوته في نفس الأمر، بل ولا إمكانه في نفس الأمر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 290 فإذا لم يكن ثم دليل عقلي ينفي الجسمية عن الباري، كما قد بينته، لم يكن في نفي ذلك عن النفس دليل على أن الباري كذلك، اللهم إلا أن يثبت أن هذا الجنس أشرف من غيره. فيقال: الباري أحق بصفة الكمال من النفس، لكن كون الشيء لا يشار إليه أمر سلبي، والسلب المحض ليس صفة مدح ولا كمال، إلا أن يتضمن أمراً وجودياً. وليس في كون الشيء لا يشار إليه ما يستلزم أمراً وجودياً، كما أنه ليس في كونه لا يرى ما يستلزم أمراً وجودياً، كما أن نفي الرؤية عن بعض المخلوقات لا يستلزم نفيها عن الباري تعالى. وأيضاً فيقال: من المعلوم أن اتصاف الموصوف بكونه حياً عليماً قديراً، أكمل من اتصافه بكونه لا يشار إليه. ثم أنتم تفرون من إثبات صفات الكمال للرب في نفس الأمر، لما في ذلك من التشبيه، فإذا شبهتموه بالمخلوق فيما دون صفات الكمال من الصفات السلبية، كان هذا أقرب إلى التشبيه الباطل ووصفه بالنقائص، ولكن هذه سنة معلومة للجهمية: يسلبون عن ربهم صفات الكمال فراراً من التشبيه بالكامل من الموجودات، ويصفون بالسلوب المتضمنة صفات النقص التي يشبهونه فيها بالجمادات والمعدومات والممتنعات، فإن العدم علم لا يشار إليه، كما أنه لا يرى، وكل ما يوصف به العدم المحض لم يكن كمالاً، بل هو إلى النقص أقرب. وأما ما ذكره من سكوت الشريعة عن النفس. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 291 فيقال له: الكتاب -والسنة- مملوء بإثبات صفات النفس الدالة على أنه يشار إليها، وأنها بحكم اصطلاحهم -جسم، فإنه أخبر بقبضها ورجوعها وصعودها، ودخولها في عباده، ودخولها جنته، ودخولها البدن وخروجها منه، وعروجها إلى السماء، وأنها في حواصل طير خضر، وأمثال ذلك من الصفات التي تقولون أنتم: إنها لا تكون إلا لجسم. وأما لفظ الجسم فهو في اللغة بمعنى البدن، أو بمعنى غلظه وكثافته. كما قال: {وزاده بسطة في العلم والجسم} [البقرة: 247] . وقال: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} [المنافقون: 4] . ويقال: لهذا الثوب جسم أي غلظ وكثافة. وهذه المعاني منتفية عن الروح، فلم يصلح أن يعبر عنها في لغة العرب بلفظ الجسم، بل الناس يقولون: الجسم والروح، فيجعلون مسمى الأجسام غير مسمى الأرواح. وإذا كان من الأعيان القائمة بنفسها الموصوفة بالصعود والعروج، والدخول والخروج، ونحو ذلك مما لا يسمى في اللغة جسماً، لم يجب أن يسمى كل ما قام بنفسه جسماً في لغتهم. وأما في اصطلاحكم، فالجسم عندكم هو ما أمكن الإشارة إليه. وما وصف بصعود أو هبوط فهو عندكم جسم، وما قامت به الصفات فهو عندكم جسم. فعلى اصطلاحكم يجب أن تكون الروح جسماً، وليس في عدم إخبار الشارع بذلك حجة لكم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 292 والناس قد تنازعوا في قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح} [الإسراء: 85] : هل المراد به روح ابن آدم، أو ملك من الملائكة، أو غير ذلك؟ على قولين مشهورين. وبتقدير أن يكون المراد روح الإنسان، فالنص لم يخبر بكيفيتها، لأن الإخبار بالكيفية إنما يكون فيما له نظير يماثله، وليست الروح من جنس ما نشهده من الأعيان، فلا يمكن تعريفنا بكيفيتها، وإن كانت لها كيفية في نفسها. ثم يقال لهذا الذي أحال على ما قالوه في النفس: من المعلوم أن أعظم برهان لهم في أن النفس ليست جسماً: قولهم: إن العلم يحل فيها، فلو كانت جسماً لا تقسم الحال فيها بانقسامها، فإن الجسم منقسم، والعلم لا ينقسم ولا بعض له. وقد يفرضون ذلك في العلم بما لا ينقسم، كالعلم بالكليات والمجردات وواجب الوجود. والعلم بالمعلوم الواحد لا ينقسم، إذ العلم يتبع المعلوم، فإذا لم يكن المعلوم منقسماً، لم يكن العلم منقسماً، فلم يكن محل العلم منقسماً، فلا يكون جسماً. هذا أعظم ما عندهم من البراهين. وقد اضطرب الناس في جوابه، كما قد بسط في غير هذا الموضع. لكن نقول هنا: جوابه من وجوه: أحدها: أن يقال: قيام العلم بالنفس كقيام الحياة والقدرة والإرادة، والحب والبغض، وسائر الأعراض المشروطة بالحياة. وهم يسلمون أن هذه الصفات تقوم بالجسم، فما كان جواباً عن قيام هذه الصفات بالنفس، كان جواباً عن قيام العلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 293 الثاني: ما عارضهم به صاحب التهافت وغيره. وقالوا: هذا باطل عليكم بالقوة الوهمية التي تدرك في المحسوس ما ليس بمحسوس، كإدراك القوة التي في الشاة عداوة الذئب، فإنها في حكم شيء واحد لا يتصور تقسيمه، إذ ليس للعداوة بعض حتى يقدر إدراك بعضه وزوال بعضه، وقد حصل إدراكها في قوة جسمانية عندكم، فإن نفس البهائم منطبعة في الأجسام لا تبقى بعد الموت، وقد اتفقوا عليه، فإن أمكنهم أن يتكلفوا تقدير الانقسام في المدركات بالحواس الخمس، وبالحس المشترك، وبالقوة الحافظة للصور، فلا يمكنهم تقدير الانقسام في هذه المعاني التي ليس من شرطها أن تكون في مادة. وأورد على نفسه سؤالاً، فقال: هذه مناقضة في العقليات، إذ العقليات لا تنتقض، فإنه مهما لم يقدروا على الشك في المقدمتين، وهو أن العلم الواحد لا ينقسم، وأن ما لا ينقسم لا يقوم بجسم منقسم -لم يمكنهم الشك في النتيجة. وأجاب بأن المقصود بيان تهافتهم وتناقضهم وقد حصل، إذ انتقض أحد الأمرين: إما ما ذكروه في النفس الناطقة، أو ما ذكروه في القوة الوهمية. الجواب الثالث: أن يقال: ما تعنون بقولكم: العلم لا ينقسم، ومحله إذا كان جسماً ينقسم؟ إن عنيتم بالانقسام إمكان تغريقه، فلم قلتم: إن كل جسم يمكن تغريقه؟ وبتقدير أن يكون ممكناً في نفسه، فلم قلتم: إنه إذا قسم لا تبقى النفس نفساً ولا روحاً، وإن بقيت أجزاؤها متفرقة؟. وكذلك يقال في العلم والقدرة والحياة وسائر الأعراض القائمة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 294 بالنفس: هي لا تبقى بعد تفرق النفس، فقيامها بالنفس مشروط ببقاء النفس. فإذا قدر أنه فرقت لم تكن باقية، فلا تقوم بها الأعراض، وهذا كقيام الأعراض بالبدن، فإن قيام الحياة والحس والحركة ببعض البدن، قد يكون مشروطاً بقيامه بالبعض الآخر، فإذا قطعت بعض الأوصال فارقت الحياة والقدرة والحس لمحل آخر. فما المانع من أن يكون قيام العلم وغيره من الأعراض مشروطاً بأن لا تفرق ولا تفسد إن كانت قابلة للتفريق؟. الجواب الرابع: قولكم: العلم الواحد بالمعلوم الواحد الذي لا ينقسم: ما تعنون بالمعلوم الواحد الذي لا ينقسم؟ إن عنيتم به العقول المجردة، فتلك إثباتها فرع على إثبات النفس. وكذلك واجب الوجود قد قلتم: إنه لا يمكن نفي ذلك عنه، إلا بعد نفي ذلك عن الجسم، فلو نفي ذلك عن النفس بناء على نفيه عنه، لزم الدور. وهب أن منكم من لا يقول ذلك، فالمنازع لا يسلم ثبوت شيء من الموجودات على الوجه الذي تدعونه من أنه لا يشار إليه ولا إلى محله. وأما الكليات فتلك ليس لها في الخارج معلوم ثابت لا ينقسم، وإنما هذا على زعم من يضن أن الكليات موجودة كلية في الخارج، وهو معلوم الفساد بالضرورة، وهو من أصول ضلالهم في المنطق والإلهيات. وإنما هي في الذهن. والكلي هو العام، واللفظ العام والمعنى العام يقوم بالجسم، كما يقوم اللفظ العام باللسان، وكما يقوم الشك المطلق والجسم المطلق واللون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 295 المطلق في الخيال. وهذه كليات، وأفرادها موجودة في الخارج وهي تقوم بالجسم عندهم. الجواب الخامس: أن يقال: سريان العرض في محله بحسب محله. ومن المحال أن يقبل التفريق وتتفرق أعراضه مع بقائها، كما أن السواد والبياض القائم بالجسم يتفرق بتفرق محله، كالنور إذا قطع. ومن المحال ما إذا فرق زالت أعراضه. كالأشكال القائمة بالمشكل، فإذا فرق زال ذلك الشكل، فالاستدارة والتثليث والتربيع القائم بالجسم لا يبقى إذا فرق فأخرج عن ذلك الشكل إلى غيره. وقد تكون الحياة والحس والحركة الإرادية، والعلم والقدرة، وغير ذلك مشروطاً بالشكل الخاص، أو غير ذلك من الأعراض. ومن المحال ما لا يعقل تفريقه. ومن قال: إن النفس جسم لا يلتزم إمكان تفريقها، وأنها مركبة من الجواهر المفردة، أو من المادة والصورة، إلا إذا كان من القائلين بذلك. وقد عرف أن جمهور الناس لا يقولون لا بهذا ولا بهذا، بل كثير من الطوائف النظار - أو أكثرهم - كالهشامية، والنجارية، والضرارية، والكلابية، وطائفة من الكرامية. وإنما ادعى أنها مركبة من الجواهر المفردة من ادعاء من المعتزلة والأشعرية، ومن وافقهم من الكرامية وغيرهم. وأما القول بتركبة من المادة والصورة، فقول بعض الفلاسفة. فهؤلاء إذا قالوا: إن النفس ليست جسماً، فقد أصابوا من وجه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 296 وأخطأوا من وجه. أصابوا من حيث نفوا عنها هذا التركب والتبعيض والانقسام، وأخطأوا من حيث ادعوا ثبوت ذلك في كل ما يشار إليه، وكل ما يمكن الإحساس به ورؤيته. فإنهم لما زعموا أن كل ما يمكن الإشارة الحسية إليه فهو جسم، وكل جسم فهو مركب بهذا الاعتبار- لزمهم أن تكون النفس بحيث لا يشار إليها إشارة حسية. ومن المعلوم أن بدنها جسم معين محسوس، وأنها هي التي ترى المعينات وتشمها وتذوقها وتسمعها بتوسط البدن، فإذا كانت يشار إلى المعينات المحسوسة إشارة حسية تميز بها بين محسوس ومحسوس، وتتعلق ببدن معين مخصوص- لم تكن نسبتها إلى جميع الأبدان والأجسام واحدة. وإذا قيل: هي تتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصريف. قيل: المدبر المصرف لغيره: إن كان تدبيره بعينه، فلا بد من إحساسه. وإما إن كان يدبره تدبيراً مطلقاً كلياً، مثلما يأمر الإنسان أتباعه أو أجناده بأمر عام، من غير قصد شخص معين منهم- فهذا لا يفتقر إلى الإحساس بآحادهم. أما إذا أمر واحداً بعينه، فلا بد من امتيازه عن غيره. وتمييز الأعيان بعضها عن بعض إنما هو بالحس الباطن أو الظاهر، ليس بمجرد العقل الكلي. فإذا كانت تشير إلى المعينات من الأجسام المحسوسة، أشارت إليها الأجسام المعينة، فإن الإشارة الحسية مشتركة، فما أشير إليه إشارة حسية، أمكن أن يشير إشارة حسية، وما لا فلا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 297 يبين هذا أن البدن والنفس يؤثر كل منها في الآخر، والنفس إذا أحبت ورضيت وفرحت وحزنت، أثر ذلك في البدن، والبدن إذا سخن أو برد، أو جاع أو شبع، أثر ذلك في النفس، فالتأثير مشترك. وإذا كان البدن جسماً معيناً يؤثر فيها دون غيرها من الأنفس، فلا بد أن يشير إليها ويعينها دون غيرها من الأنفس، وإشارة البدن لا تكون إلا إشارة حسية. والكلام على هذا مبسوط في موضعه. قال ابن رشد: وأما ما حصله الإمام المهدي يعني محمد بن التومرت الذي ادعى أنه المهدي المبشر به، وأقام الملك المعروف بملك الموحدين، وكان كثير من مصنفي العلم في مملكة أتباعه يراعون ذكره وأقواله، حتى يذكروا اسمه بعد اسم النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه دعا الناس إلى أقواله بالسيف، واستحل دماء من خالفه فيما ذكره من التوحيد وإمامته وغير ذلك، وكأصول التوحيد الذي هو توحيد الجهمية نفاة الصفات، وكان يقول بالوجود المطلق، وعلى منواله نسج ابن سبعين وأمثاله في التوحيد. عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة ورد ابن تيمية قال ابن رشد: وأما ما حصله الإمام المهدي من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 298 التصريح بنفي الجسمية، فهو الواجب بحسب زمانه، وذلك أن الناس لما اجترأوا على الشرع، وسألوا عما لم يسأل عنه الصحابة، وهل هو جسم أم ليس بجسم؟ إذ هذا السؤال موجود في فطر الناس بالطبع، واشتهر هذا السؤال وفشا في الناس، وكان السبب فيه سؤال من دعي إلى الدخول في الإسلام من سائر الأمم الذين اعتادوا النظر، لم يكن بد لأهل الإسلام من الجواب في ذلك فأجاب بعضهم في ذلك بجواب خطأ، وهو أنه جسم، وأجاب بعضهم بأنه ليس بجسم، وهو الجواب الصواب، وكثر الاختلاف بينهم ووقع الشك والحيرة، وكفر بعضهم بعضا. قال: ولما كانت خاصة الإمام المهدي رفع الاختلاف بين الناس، أتى مقرراً لنفي الجسمية عنه سبحانه، كفر المثبت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 299 للجسمية، وهو شيء جرى من فعله في الشرع في وقته -وبحسب الناس الذين وجد فيهم- مجرى التتميم والتبيين، والله يختص بفضله من يشاء. قلت: ولقائل أن يقول: في هذا الكلام من المداهنة والمصانعة لأتباع ابن التومرت ما لا يخفى. والمقصود العلمي أن يقال: هذا باطل من وجوه: أحدها: أنه قد أسلم على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من الأمم، ودعي إلى الإسلام من أصناف الأمم، من لا يوجد بعدهم مثلهم في الحذق والنظر، فإن الصحابة دعوا أكمل الأمم: العرب، والعبرانيين، والروم، والفرس، ومن دخل في هؤلاء من القبط والنبط، وفتحوا أوسط الأرض، وكل من دعي -أو أسلم- بعد هؤلاء، كالترك، والديلم، والبرير، والحبشة، وغيرهم، فإنهم دون هؤلاء في الفضل. ومن المعلوم أن فلسفة اليونان والهند ونحوهم كانت موجودة إذ ذاك كوجودها اليوم وأكثر، إذ كانت اليونان موجودين قبل مبعث المسيح، وكان أرسطوا وملكه الإسكندر بن فليبس قبل المسيح بنحو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 300 ثلاثمائة سنة، وآخر ملوكهم بطليموس، الذي دخل النصارى عليهم. ثم من نظر في أخبار الأمم الذين لم يكن لهم كتاب كالروم واليونان ونحوهم، علم أن النصارى أكمل منهم في الإلهيات، وأفضل وأعلم منهم وأعقل، وإنما كان يكون حذق تلك الأمم في غير العلوم الإلهية، كالطب والحساب والهيئة ونحو ذلك. وأعظم اشتغالهم بالهيئة إنما كان لأجل الشرك والسحر ودعوة الكواكب والأوثان من دون الله، فإنهم يقولون: إنهم يستخرجون قوى الأفلاك ويمزجون بين القوة الفعالة السماوية والقوى المنفعلة الأرضية. ولهذا يوجد في بلادهم من الطلاسم ونحوها ما هو معروف بأرض مصر والشام والجزيرة وغيرها. فدعوى المدعي أن الناس احتاجوا، فيمن يدعونه إلى الإسلام، إلى تغيير الأصول الشرعية، التي لم يحتج الصحابة إلى تغييرها -دعوى باطلة. الوجه الثاني: أن يقال: القرآن فيه بيان الوجوب عن هذا السؤال، وسائر ما يسأل عنه، لكن يريد الذي يجيب بما في القرآن والسنة أن يعرف معاني القرآن والسنة، ويعرف معاني كلام السائل، فإن الناس لهم عبارات يعبرون بها عن معانيهم غير العبارات التي في الكتاب والسنة، كما لأمة لسان غير لسان العرب. فالمجيب بما جاء به الرسول يحتاج إلى أن يعرف معنى العبارتين: العبارة التي خاطب بها الرسول، والعبارة التي وقع بها السؤال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 301 ثم هذه العبارات قد تكون غريبة غير معناها، وقد لا يكون معناها مغيراً، وقد لا تكون غريبة. فلفظ الهيولى ونحوها من كلام الفلاسفة ليس غريباً في لغتهم، معناه مثل معنى المحل والموضع ونحو ذلك. ولفظ العقل والمادة ونحوهما في كلامهم غير معناه عن معناه في لغة العرب، فإنهم يعنون بالعقل جوهراً قائماً بنفسه. والعقل في لغة العرب عرض هو علم أو عمل بالعلم، وغريزة تقتضي ذلك. والمادة من جنس الهيولى عندهم. وكذلك لفظ الجسم والجوهر والعرض والتحيز والانقسام والتركيب: معانيها في اصطلاح النظار غير معانيها في لغة العرب. لكن هذه الألفاظ لم تستعمل في القرآن في الأمور الإلهية. وكذلك غير طائفة من أهل الكلام والفلسفة لفظ التوحيد والإيمان والسنة والشريعة ونحو ذلك من الألفاظ المستعملة في الأمور الإلهية. والمقصود هنا أن السائل إذا سأل عن الأمور الدينية بألفاظ ليست مأثورة عن الرسول في ذلك، مثل سؤاله بلفظ: الجهة، والحيز، والجسم، والجوهر، والمركب، والمنقسم، ونحو ذلك- نظرنا إلى معنى لفظه، فأثبتنا المعنى الذي أثبته الله ونفينا المعنى الذي نفاه الله. ثم إن كان التعبير عن ذلك بعبارته سائغاً في الشرع، وإلا عبر بعبارة تسوغ في الشرع. وإذا كانت عبارته تحتمل حقاً وباطلاً، منع من إطلاقها نفياً وإثباتاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 302 ولفظ الجسم والجوهر ونحوهما من هذا الباب. فإذا قال السائل: هل الله جسم أم ليس بجسم؟ لم نقل: إن جواب هذا السؤال ليس في الكتاب والسنة، مع قول القائل: إن هذا السؤال موجود في فطر الناس بالطبع. والله تعالى يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3] . وقال: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} [التوبة: 115] . وقال: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} [النحل: 89] . وقال: {ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} [يوسف: 111] . وقال: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 123-126] . وقال: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 3] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 303 وقال: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] . وقال: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} [المائدة: 15-16] . وقال: {الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} [إبراهيم: 1] . وقال: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} [العنكبوت: 51] . وقال: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} [الأعراف: 157] . ومثل هذا في القرآن كثير، مما يبين الله فيه أن كتابه مبين للدين كله، موضح لسبيل الهدى، كاف لمن اتبعه، لا يحتاج معه إلى غيره، يجب اتباعه دون اتباع غيره من السبل. وقد «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» . وكان يقول: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 304 بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» ، وفي لفظ: «وكل محدثة بدعة» . وكان يقول: «تركتكم على البيضاء: ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» . وكان يقول: «ما أمركم الله بشيء إلا أمرتكم به، ولا نهاكم الله عن شيء إلا نهيتكم عنه» . وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً. ومثل هذا كثير. فكيف يكون هذا- مع هذا البيان والهدى - ليس فيما جاء به جواب عن هذه المسألة، ولا بيان الحق فيها من الباطل، والهدى من الضلال؟! بل كيف يمكن أن يسكت عن بيان الأمر، ولو لم يسأله الناس؟!. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 305 واعتقاد الحق واجب فيها: إما على العامة والخاصة، وإما على الخاصة دون الأمة، لا سيما مع كثرة النصوص المشعرة بأحد قسمي السؤال. وإنما يقول: إن جواب هذا السؤال وأمثاله ليس في الكتاب والسنة، الذين يعرضون عن طلب الهدى من الكتاب والسنة، ثم يتكلم كل منهم برأيه ما يخالف الكتاب والسنة، ثم يتأول آيات الكتاب على مقتضى رأيه، فيجعل أحدهم ما وضعه برأيه هو أصول الدين الذي يجب اتباعه، ويتأول القرآن والسنة على وفق ذلك، فيتفرقون ويختلفون. كما قال فيهم الإمام أحمد: هم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب. ولو اعتصموا بالكتاب والسنة لاتفقوا، كما اتفق أهل السنة والحديث. فإن أئمة السنة والحديث لم يختلفوا في شيء من أصول دينهم. ولهذا لم يقل أحد منهم: إن الله جسم، ولا قال: إن الله ليس بجسم، بل أنكروا النفي لما ابتدعته الجهمية، من المعتزلة وغيرهم، وأنكروا ما نفته الجهمية من الصفات، مع إنكارهم على من شبه صفاته بصفات خلقه، مع أن إنكارهم كان على الجهمية المعطلة أعظم منه على المشبهة، لأن مرض التعطيل أعظم من مرض التشبيه. كما قيل: المعطل يعبد عدماً، والمشبه يعبد صنماً. ومن يعبد إلهاً موجوداً موصوفاً بما يعتقده هو من صفات الكمال، وإن كان مخطئاً في ذلك، خير ممن لا يعبد شيئاً، أو يعبد من لا يوصف إلا بالسلوب والإضافات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 306 ونفاة الصفات، وإن كانوا لا يعتقدون أن ذلك متضمن لنفي الذات، لكنه لازم لهم لا محالة، لكنهم متناقضون. ولهذا لا يوجد فيهم إلا من فيه نوع من الشرك، ولا بد من ذلك لنقص توحيدهم الذي به يتخلصون من الشرك. والمقصود أن يقال: جواب هذا السؤال في الشريعة. وذلك أن يقال: إن الله قد بين ما هو ثابت له من الصفات وما هو منزه عنه، وأثبت لنفسه صفات الكمال، ونفى عنه صفات النقص. فيقال لمن سأل بلفظ الجسم: ما تعني بقولك؟ أتعني بذلك أنه من جنس شيء من المخلوقات؟ فإن عنيت ذلك فالله تعالى قد بين في كتابه أنه لا مثل له، ولا كفو له، ولا ند له، وقال: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} [النحل: 17] . فالقرآن يدل على أن الله لا يماثله شيء: لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله: فإن كنت تريد بلفظ الجسم ما يتضمن مماثلة الله لشيء من المخلوقات، فالله منزه عن ذلك، وجوابك في القرآن والسنة. وإذا كان الله ليس من جنس الماء والهواء، ولا الروح المنفوخة فينا، ولا من جنس الملائكة، ولا الأفلاك، فلأن لا يكون من جنس بدن الإنسان ولحمه وعصبه وعظامه، ويده ورجله ووجهه، وغير ذلك من أعضائه وأبعاضه، أولى وأحرى. فهذا الضرب ونحوه، مما قد يسمى تشبيهاً وتجسيماً، كله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 307 منتف في كتاب الله، وليس في كتاب الله آية واحد تدل، لا نصاً ولا ظاهراً، على إثبات شيء من ذلك لله، فإن الله إنما أثبت له صفات مضافةً إليه. كقوله: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة: 255] و: {إن الله هو الرزاق ذو القوة} [الذاريات: 58] . و: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص: 75] ، {ويبقى وجه ربك} [الرحمن: 27] ، {والسماوات مطويات بيمينه} [الزمر: 67] ، كما قال: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة: 116] . ومعلوم أن نفس الله، التي هي ذاته المقدسة الموصوفة بصفات الكمال، ليست مثل نفس أحد من المخلوقين. وقد ذهب طائفة من المنتسبين إلى السنة، من أهل الحديث وغيرهم، وفيهم طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، إلى أن النفس صفة من الصفات. والصواب أنها ليست صفة، بل نفس الله هي ذاته سبحانه، والموصوفة بصفاته سبحانه، وذلك لأنه بإضافته إليه قطع المشاركة. فكذلك لما أضاف إليه علمه وقوته، ووجهه ويديه، وغير ذلك، قطع بإضافته إليه المشاركة. فامتنع أن شيئاً من ذلك من جنس صفات المخلوقين، كما امتنع أن تكون ذاته من جنس ذوات المخلوقين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 308 ولهذا اتفق السلف والأئمة على الإنكار على المشبهة، الذين يقولون: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي. وإن عنيت بلفظ الجسم الموصوف بالصفات، القائم بنفسه، المباين لغيره، الذي يمكن أن يشار إليه، وترفع إليه الأيدي -فلا ريب أن القرآن قد أخبر أن الله له العلم والقوة والرحمة، والوجه واليدان، وغير ذلك، وأخبر أنه إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه، وأنه: {خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش} [الفرقان: 59] ، وأنه: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4] . فالقرآن مملوء من بيان علوه على خلقه، والصعود إليه، والنزول منه، ومن عنده، وإثبات علمه ورحمته، وغير ذلك من صفاته. وإذا سميت ما هو كذلك جسماً، وسئلت: هل هم جسم؟ كان الجواب أن المعنى الذي سئلت عنه وأردته بهذا اللفظ قد بينه الله وأثبته في كتابه. وأما إطلاق لفظ الجسم على الله، فهو كإطلاق الفلاسفة لفظ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 309 العقل ونحو ذلك. وهذه العبارات في لغة العرب تتضمن معاني ناقصة ينزه الله عنها. فالعقل هو المصدر الذي هو عرض، والله سبحانه منزه عن ما هو فوق ذلك، بل نفس تسميته عاقلاً ليس معروفاً في شرع المسلمين. فقد تبين أن ما يعني بلفظ الجسم من تمثيل الله بخلقه ووصفه بالنقائص، فقد بين الله في كتابه أنه منزه عنه، وما يعني به من إثبات أنه قائم بنفسه، مباين لخلقه، عال عليهم، يرفعون إليه أيديهم عند الدعاء، ويعرج إليه بنبيه ليلة الإسراء -موصوف بصفات الكمال، منزه عما يستلزم العدم والإبطال- فقد بين الله في كتابه إثباته لنفسه، فلا يقال: إنه ليس في القرآن جواب هذا السؤال. فإذا قال القائل بعد هذا: الجسم هو المؤلف أو المركب، فلا يكون جسماً، ونحو ذلك. قيل له: لا ريب أن الله سبحانه غني عن كل ما سواه، لا يجوز أن يقال: إنه مفتقر إلى غيره في شيء فضلاً عن أن يقال: ركبه مركب، أو ألفه مؤلف. والله قد أخبر في القرآن بمعناه. وكذلك لا يجوز أن نظن أنه كان مفرقاً فاجتمع، أو أنه يتفرق، أو نحو ذلك مما ينافي صمديته وكماله في وقت من الأوقات. وإذا قال قائل: الجسم هو القائم بنفسه، أو المشار إليه، فيكون جسماً. قيل له: لا ريب أن الله قائم بنفسه، وأنه ترفع الأيدي إليه، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 310 ويشار إليه. كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة بإصبعه إليه وجعل يقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد. وقال: إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً. وقال: إشارة الرجل بإصبعه في الصلاة مقمعة للشيطان. وهو إشارة إلى التوحيد. ويقال لذلك: أنت تقول: الجسم هو المركب، وهذا يقول: هو القائم بنفسه، وأنتما متفقان على أن الله تعالى لا يتفرق ولا يركبه أحد، وعلى أنه قائم بنفسه، فإن تنازعتما في كونه فوق العرش، وأن القرآن نزل منه، والملائكة تعرج إليه -فالصواب مع المثبت، وإن تنازعتما في كون استوائه على العرش مثل استواء المخلوق، أو في كونه مفتقراً إلى العرش، ونحو ذلك مما يتضمن وصفه بالنقص أو تمثيله بالخلق- فالصواب مع النافي. وكذلك إن تنازعتم في إثبات علمه ورحتمه وقوته، فالصواب مع المثبت. وإن تنازعتم في أنه: هل صفاته ذوات قائمة بنفسها، كما قد يحكى عن النصارى، فالصواب مع النافي. فإن قال القائل: الأجسام المتماثلة، فإذا قلنا: هو جسم، لزم أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 311 يكون مثلاً لغيره، بخلاف ما إذا قيل: حي وحي، وعليم وعليم، وقدير وقدير، فإذا هذا اتفاق في الصفات لا يقتضي التماثل في الذوات، فمن قال: هو جسم لا كالأجسام -كان مشبهاً، بخلاف من قال: حي لا كالأحياء. وهذا السؤال يقوله من يقوله من أصحاب الأشعري، ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد. فيقال: إذا كان المخاطب لك ينفي أن يكون مماثلاً لغيره، وينفي التشبيه كما ننفيه، وأنت وهو قد تنازعتم في مسمى اسم من الأسماء: هل هو مماثل لغيره أو لا؟ كان ذلك نزاعاً لفظياً ونزاعاً عقلياً، ليس ذلك نزاعاً في أمر ديني، ولو تركوا الكلام في هذا، لم يضر ذلك الدين شيئاً، ويمكن كلاً منهما أن يعبر مقصوده الديني بما لا نزاع فيه، فيبقى هذا التمثيل بألفاظ ومعان لا نزاع فيها، ويثبت هذا قيام الرب بنفسه، ومباينته لخلقه، وعلوه على عرشه، بألفاظ ومعان لا نزاع فيها، من غير احتياج واحد منهما إلى التكلم بلفظ الجسم نفياً ولا إثباتاً. فإن قلتم: نزاعنا في شيء آخر، وهو أن يسمى جسماً: هل هو مركب من الجواهر المفردة؟ أو من المادة والصورة؟ أم هو واحد لا تركيب فيه؟ فمن قال بالأول لم يجز أن يسميه جسماً. ومن قال بالثاني سماه جسماً. قيل: هذا نزاع لا يتعلق بالدين، فإن اللفظ إنما يكون البحث عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 312 معناه من الدين الواجب إذا جاء في الكتاب والسنة وكلام أهل الإجماع. فإن معرفة مراد الله ومراد رسوله ومراد أهل الإجماع واجب، لأن قول الله ورسوله وقول أهل الإجماع قول معصوم عن الخطأ يجب اتباعه. فاللفظ الوارد في ذلك إن لم يعرف معناه لم يعرف ما أرادوا، ولهذا كان الواجب أن كل لفظ جاء في كلام المعصوم وجب علينا التصديق به، وإن لم يعرف معناه. وما جاء في كلام غير المعصوم لم يجب علينا إثباته ولا نفيه حتى يعرف معناه. فإن كان مما أثبته المعصوم أثبتناه، وإن كان مما نفاه نفيناه. ولفظ الجسم في حق الله، وفي الأدلة الدالة عليه، لم يرد في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا كلام أحد من السلف والأئمة. فما منهم أحد قال: إن الله جسم، أو جوهر، أو ليس بجسم ولا جوهر. ولا قال: إنه لا يعرف إلا بطريقة الأجسام والأعراض، بل ولا استدل أحد منهم على معرفة الله بشيء من هذه الطرق: لا طريقة التركيب ولا طريقة الأعراض والحوادث، ولا طريقة الاختصاص. وإذا كان كذلك، فالمتنازعون في مسمى الجسم، متنازعون في أمر ليس من الدين: لا من أحكامه، ولا دلائله. وهكذا نزاعهم في مسمى العرض، وأمثال ذلك. بخلاف نزاعهم في إثبات المعنى المراد بلفظ الجسم ونفيه. فإن هذا يتعلق بالدين، فما كان من الدين فقد بينه الله في كتابه وسنة رسوله، بخلاف ما لم يكن كذلك. فإن قيل: فلا بد من فصل النزاع بين كل اثنين في الدين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 313 قيل: فصل النزاع قد يكون بوجهين: أحدهما: نهي كل منهما عن منازعة الآخر بهذا، إذ هو نزاع فيما لا فائدة فيه. كما لو تنازع اثنان في لون كلب أصحاب الكهف، ومقدار السفينة، والبعض من البقرة الذي أمر الله بالضرب به، إن قدر أنه كان معيناً، مع أن ظاهر القرآن يدل على أنه مطلق لا معين، وفي أمثال ذلك من الأمور التي لا فائدة فيها، وقد لا يكون إلى معرفتها سبيل -فمثل هذا ينهي كل منهم عن منازعة الآخر فيه، بل ينهي عن أن يقول ما لا يعلم. والثاني أن يفصل النزاع ببيان الخطأ من الصواب. وحينئذ فإذا فصل النزاع بين المتنازعين في الجسم، قيل: النزاع على وجهين: لفظي، ومعنوي. فإن كنتم تتنازعون في مسمى الجسم في اللغة، فليس مسماه ما قلته أنت من أن كل قائم بنفسه أو مشار إليه يسمى جسماً، ولا ما قلته أنت من أن الجسم في اللغة هو المركب من أجزاء، فإن الهواء أو نحوه عنده مركب، والعرب لا تسميه جسماً، وهو مشار إليه قائم بنفسه، والعرب لا تسميه جسماً. فقول كل واحد منكما غير موافق للغة العرب. وغايته أن يكون اصطلاحاً منكم على معنى، كسائر الألفاظ الاصطلاحية، فيكون نزاعهم كتنازع الفقهاء في لفظ الفرض هل هو مرادف للواجب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 314 أو أوكد منه؟ ولفظ السنة هل يدخل فيه الواجب أو لا يدخل؟ ومثل هذه المنازعات اللفظية الكثيرة. وهذه بمنزلة اللغات والعادات في العبادات، قد تحمد أو تذم بحسب الشرع تارة وبحسب اللغة أخرى، وقد لا تحمد ولا تذم. وإن كان نزاعكم في معنى عقلي، وهو أن العين التي اتفقتم على تسميتها جسماً بحسب اصطلاحكم، وهي ما يشار إليه بقول أحدكما: إنها مركبة من أجزاء مفردة، أو المادة والصورة، والآخر ينكر ذلك -فهذا يمكن فصل النزاع بينكم، إذا كان النزاع معنوياً، بالأدلة العقلية تارة، وبغيرها أخرى. ولكن مثل هذه المسائل لا يحتاج إليها الدين، كما لا يحتاج إلى مسائل الهيئة والتشريح، وإن كان العلم بها مما ينتفع به في الدين، كما ينتفع بالحساب والطب، وكما ينتفع بمسائل النحو واللغة، ونحو ذلك. ومن هذا الباب ما ذكره من تماثل الأجسام، وتناهي قواها، وأنها مركبة مفتقرة إلى مركب -فإن هذه المسائل مما تنازع فيها العقلاء، مع اتفاق المسلمين على أن الله ليس له مثل ولا تنتهي قوته، وأنه غير مفتقر إلى غيره. فالمعنى الذي يرده النافي بلفظ الجسم يوافقه المثبت عليه. وإذا تنازعوا بعد هذا لم يكن نزاعهم إلا لفظياً، وليس لإطلاق لفظ واحد منهما أصل في الشرع: لا هذا ولا هذا. فالشرع لم يسكت عن المعنى الذي يجب نفيه، الذي ينفيه النافي بلفظ الجسم، بل نفاه الشرع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 315 فلا يقال: إن الشرع سكت عما يحتاج إلى معرفته من معنى الجسم نفياً وإثباتاً. ثم إذا كان المعنى الذي يريده النافي يمكنه نفيه بالشرع وبالعقل، بدون إطلاقه لفظ متنازع في أحكام معناه، كان نفي ذلك المعنى بما ينفيه من الأدلة الشرعية والعقلية، التي لا يمكن النزاع فيها، هو المشروع، دون بقية معان متنازع فيها هي طويلة متعبة بلا نزاع، وقد تكون مع ذلك باطلة. ومن المعلوم أن من ترك سلك الطريق المستقيم الذي يوصله إلى مكة، وسلك طريقاً بعيدة لغير مصلحة راجحة، كان تاركاً لما يؤمر به، فاعلاً لما لا فائدة فيه، أو ما ينهى عنه، إذا كانت تلك الطريق موصلة إلى المقصود. فأما مع الاسترابة في كونها موصلة أو مهلكة، فإنه لا يجوز سلوكها. وهذه الطرق التي يسلكها نفاة الجسم وأمثالهم، أحسن أحوالها أن تكون عوجاً طويلة، قد تهلك، وقد توصل، إذ لو كانت مستقيمة موصلة، لم يعدل عنها السلف، فكيف إذا تيقن أنها مهلكة؟!. ولا ريب أن الذين يعارضون الكتاب والسنة إنما يعارضونها بطرق هؤلاء، فهم يعرضون عن كتاب الله في أول سلوكهم، ويعارضونه في منتهى سلوكهم. وقال قال تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 316 يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 123-124] . فقد بين ان حذاق الفلاسفة أيضاً يثبتون أن التصديق بما جاء به الشارع لا يتوقف على شيء من الطرق الكلامية المحدثة، ولا شيء من طرقهم الفلسفية. وإنما غايتهم أن يقولوا: إن الطرق الفلسفية تفيد علماً لبعض الناس، ليس مما يجب ولا يستحب لجمهور الناس، وأن ذلك العلم الخاص يخالف بعض الظاهر المعروف عند الجمهور. ونحن نقبل من كلامهم ما أقاموا عليه الحجة الصحيحة، سواء كانت شرعية أو عقلية. فأما إذا قالوا ما نعلم بطلانه رددناه. وقد نبهنا على أن قولهم فيما يدعون الاختصاص به من علم الباطن، أضعف بكثير من قول من بينوا فساد قوله من المعتزلة والأشعرية. وقد تبين لك أن الطوائف التي في كلامها ما يعارضون به كلام الشارع من العقليات، سواء عارضوا به في الظاهر والباطن، كل منهم يقول جمهور العقلاء: إن عقلياته تلك باطلة ويبينون فساد عقلياته بالعقليات الصحيحة الصريحة التي لا يمكن ردها. وهذا مما ينصر الله به رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا، فإن الله تعالى إذا أقام لكل طائفة تعارض الرسول من جنسها من يبين فساد قولها المعارض له، ويكشف جهلها وتناقضها -كان بمنزلة أن يقيم لكل طائفة تزيد محاربته من جنسها من يحاربها بالسلاح. ثم المؤمن المجاهد يمكنه جهاد هؤلاء، كما يمكنه جهاد هؤلاء، ويمكنه أن يستعين بما فعلته الجزء: 10 ¦ الصفحة: 317 كل طائفة بالأخرى، فإذا أغارت طائفة على أخرى وهزمتها، أتاها من الناحية الأخرى ففتح بلادها، وإن كان هو لم يستعن بأولئك ابتداء، لكن الله يسر بما فيه الهدى والنصر لعباده المؤمنين، وكفى بربك هادياً ونصيراً. وهذا آخر الكتاب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً. فرغ من نسخه العبد الفقير إلى رحمة ربه القدير، يوسف بن عبد الله بن محمد بن يوسف بن عبد المنعم بن نعمة بن سلطان بن سرور المقدسي، يوم السبت، أذان العصر ... ثامن عشر المحرم، سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، ببستان الأعز. رحم الله كاتبه، ولمن قرا فيه، ودعا له بالمغفرة، ولجميع المسلمين، وصلى الله على النبي محمد وآله. بلغ مقابلة بحسب الإمكان على نسخه قوبلت على أصل المصنف رضي الله عنه، وهي المنقول منها، وتكلمت مقابلة جميع الكتاب بحمد الله وعونه، بعد أذان العصر، يوم السبت ثامن عشر المحرم، سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، أحسن الله خاتمتها، في خير وعافية، بمنه وكرمه. وكان ذلك بالمكان الذي فرغ من نسخه فيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 318 أنهي جميع هذا الكتاب نظراً من أوله إلى آخره ... في مجالس عديدة، وأزمان مديدة، مطالعة تحقيق، وبحث وتدقيق، كان آخرها في أواخر شعبان المبارك، من شهور سنة خمسين وسبعمائة. قال وكتبه عبد العزيز بن يحيى بن عبد المنعم بن محمد بن روح المضوي المدني، نفعه الله بالعلم، وزينه بالتقى والحلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 319