الكتاب: القول في علم النجوم للخطيب المؤلف: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي (المتوفى: 463هـ) درسه وحققه: الدكتور يوسف بن محمد السعيد الناشر: دار أطلس للنشر والتوزيع، الرياض الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 1999 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- القول في علم النجوم للخطيب الخطيب البغدادي الكتاب: القول في علم النجوم للخطيب المؤلف: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي (المتوفى: 463هـ) درسه وحققه: الدكتور يوسف بن محمد السعيد الناشر: دار أطلس للنشر والتوزيع، الرياض الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 1999 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ الإِمَامُ رِحْلَةُ زَمَانِهِ وَحَافِظُ عَصْرِهِ وَأَوَانِهِ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: سَأَلَ سَائِلٌ عَنِ النُّجُومِ: هَلِ الشُّرُوعُ فِيهِ مَحْمُودٌ أَمْ مَذْمُومٌ؟ وَأَنَا أَذْكُرُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ الْمُسْتَقِيمِ مَا تَيَسَّرَ بِتَوْفِيقِ مَوْلايَ الْكَرِيمِ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. فَأَقُولُ: إِنَّ عِلْمَ النُّجُومِ يَشْتَمِلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُبَاحٌ، وَتَعَلُّمُهُ فَضِيلَةٌ. وَالآخَرُ مَحْظُورٌ، وَالنَّظَرُ فِيهِ مَكْرُوهٌ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الأَوَّلُ: فَهُوَ الْعِلْمُ بِأَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ، وَمَنَاظِرِهَا، وَمَطَالِعِهَا، وَمَسَاقِطِهَا، وَسَيْرِهَا، وَالاهْتِدَاءُ بِهَا، وَانْتِقَالُ الْعَرَبِ عَنْ مِيَاهِهَا لأَوْقَاتِهَا، وَتَخَيُّرُهُمُ الأَزْمَانَ لِنِتَاجِ مَوَاشِيهَا، وَضِرَابِهِمُ الْفُحُولَ، وَمَعْرِفَتُهُمْ بِالأَمْطَارِ عَلَى اخْتِلافِهَا، وَاسْتِدْلالُهُمْ عَلَى مَحْمُودِهَا وَمَذْمُومِهَا، وَالتَّوَصُّلُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِالنُّجُومِ، وَمَعْرِفَةُ مَوَاقِيتِ الصَّلاةِ، وَسَاعَاتِ اللَّيْلِ بِظُهُورِهَا وَأُفُولِهَا. وَقَدْ جَاءَ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي الآثَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ أَخْيَارِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْخَالِفِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97] . وَجَاءَ فِي الآثَارِ مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عِيسَى بْنِ يَحْيَى الْبَلَدِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ الإِمَامُ، بِبَلَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الطَّائِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الْمَوْصِلِيُّ، قَالَ: ثنا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ أَبَانَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَحَبُّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ رِعَاءُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، الَّذِينَ يُحَبِّبُونَ عِبَادَ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَيُحَبِّبُونَ اللَّهَ إِلَى عِبَادِهِ» وَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وَقَالَ الأَزْهَرِيُّ: «إِنَّ خِيَارَ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ يُرَاعُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَالنُّجُومَ، وَالأَظَلَّةَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ قَالَ: «لَئِنْ شِئْتُمْ لأَقْسِمَنَّ أَنَّ أَحَبَّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ الَّذِينَ يُرَاعُونَ الشَّمْسَ، وَالْقَمَرَ، وَيُرَاعُونَ النُّجُومَ، وَالأَظَلَّةَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ، وَعَنْهُ أَيْضًا: «لَئِنْ شِئْتُمْ لأَقْسِمَنَّ لَكُمْ أَنَّ أَحَبَّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ رُعَاةُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» . وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، وَمِنَ النُّجُومِ مَا تَهْتَدُونَ بِهِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الظُّلُمَاتِ» . وَأَخْرَجَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «تَعَلَّمُوا مِنَ النُّجُومِ مَا تَهْتَدُونَ بِهِ فِي الْبَرِّ، وَالْبَحْرِ، ثُمَّ انْتَهُوا، وَتَعَلَّمُوا مِنَ الأَنْسَابِ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، وَتَعْرِفُونَ مَا يَحِلُّ لَكُمْ مِمَّا يُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ مِنَ الأَنْسَابِ، ثُمَّ انْتَهُوا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» . وَأَخْرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ: «لا بَأْسَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ مِنَ النُّجُومِ مَا يَهْتَدِي بِهِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَيَتَعَلَّمَ مَنَازِلَ الْقَمَرِ» . وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] ، فَقَالَ: هِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 مَنْزِلا يَنْزِلُهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ: أَرْبَعَةَ عَشْرَ مِنْهَا شَامِيَّةٌ، وَأَرْبَعَةَ عَشْرَ مِنْهَا يَمَانِيَّةٌ، فَأَوَّلُهَا الشَّرْطَيْنِ، وَالْبُطَيْنُ، وَالثُّرَيَّا، وَالدَّبَرَانُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وَالْهَقْعَةُ، وَالْهَنْعَةُ، وَالذِّرَاعُ، وَالنَّثْرَةُ، وَالطَّرْفُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وَالْجَبْهَةُ، وَالزُّبْرَةُ، وَالصَّرْفَةُ، وَالْعَوَّاءُ، وَالسِّمَاكُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وَهُوَ آخِرُ الشَّامِيَّةِ، وَالْغَفْرُ، وَالزُّبَانَا، وَالإِكْلِيلُ، وَالْقَلْبُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وَالشَّوْلَةُ، وَالنَّعَائِمُ، وَالْبَلْدَةُ، وَسَعْدُ الذَّابِحُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وَسَعْدُ بُلَعَ، وَسَعْدُ السُّعُودِ، وَسَعْدُ الأَخْبِيَةِ، وَمُقَدَّمُ الدَّلْوِ، وَمُؤَخَّرُ الدَّلْوِ، وَالْحُوتُ، وَهُوَ آخِرُ الثَّمَانِيَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وَالْعِشْرِينَ، فَإِذَا سَارَ هَذِهِ الثَّمَانِيَةَ وَعِشْرِينَ مَنْزِلا عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ". وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: " {الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان: 61] ، قَالَ: هِيَ هَذَا الاثْنَا عَشْرَ بُرْجًا: أَوَّلُهَا الْحَمْلُ، ثُمَّ الثَّوْرُ، ثُمَّ الْجَوْزَاءُ، ثُمَّ السَّرَطَانُ، ثُمَّ الأَسَدُ، ثُمَّ السُّنْبُلَةُ، ثُمَّ الْمِيزَانُ، ثُمَّ الْعَقْرَبُ، ثُمَّ الْقَوْسُ، ثُمَّ الْجَدْيُ، ثُمَّ الدَّلْوُ، ثُمَّ الْحُوتُ ". وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: " {بِالْخُنَّسِ {15} الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15-16] ، قَالَ: النُّجُومُ تَخْنَسُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 بِالنَّهَارِ، وَتَظْهَرُ بِاللَّيْلِ ". وَبِهَذَا السَّنَدِ، قَالَ: " هِيَ النُّجُومُ السَّبْعَةِ: زُحَلُ، وَبَهْرَامُ، وَعُطَارِدُ، وَالْمُشْتَرِي، وَالزُّهَرَةُ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ ". قَالَ: " خُنُوسُهَا: رُجُوعُهَا، وَكُنُوسُهَا: تَغَيُّبُهَا ". وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا طَلَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 النَّجْمُ، ارْتَفَعَتِ الْعَاهَةُ عَنْ أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ» وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَذْهَبَ الْعَاهَةُ» . قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا ذَهَابُ الْعَاهَةِ؟ . قَالَ: «طُلُوعُ الثُّرَيَّا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 قَالَ الشَّيْخُ: وَقَدْ أَكْثَرَ الْعَرَبُ فِي أَشْعَارِهِمْ أَشْيَاءَ مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ، فَقَالَ كُثَيِّرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَدَعْ عَنْكَ سُعْدَى إِنَّمَا تُسْعِفُ النَّوَى ... قِرَانَ الثُّرَيَّا مَرَّةً ثُمَّ تَافِلُ يُرِيدُ أَنَّ الثُّرَيَّا يُقَارِنُ الْهِلالَ لَيْلَةً مَرَّةً فِي السَّنَةِ، ثُمَّ تَغِيبُ، وَكَذَلِكَ سُعْدَى إِنَّمَا يُلاقِيهَا مَرَّةً فِي الْحَوْلِ. وَقَالَ آخَرٌ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 إِذَا مَا قَارَنَ الْقَمَرُ الثُّرَيَّا ... لِخَامِسَةٍ فَقَدْ ذَهَبَ الشِّتَاءُ وَالثُّرَيَّا تُقَارِنُ الْقَمَرَ لِخَمْسٍ تَخْلُو مِنَ الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ: عِنْدَ انْصِرَامِ الْبَرْدِ وَطِيبِ الزَّمَانِ، وَعِنْدَ انْصِرَامِ الْحَرِّ. وَقَالَ آخَرٌ: إِذَا مَا قَارَنَ الْقَمَرُ الثُّرَيَّا ... لِخَامِسَةٍ فَقَدْ ذَهَبَ الْمَصِيفُ وَقَالَ حَاتِمُ طَيٍّ: وَعَاذِلَةٍ هَبَّتْ بِلَيْلٍ تَلُومُنِي ... وَقَدْ غَابَ عَيُّوقُ الثُّرَيَّا فَعَرَّدَا وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي الاهْتِدَاءِ بِالنُّجُومِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 فَقُلْتُ اجْعَلِي ضَوْءَ الْفَرَاقِدِ كُلِّهَا ... يَمِينًا وَمِهْرَ النِّسْرِ عَنْ شِمَالِكِ وَقَالَ آخَرٌ: فَسِيرُوا بِقَلْبِ الْعَقْرَبِ الْيَوْمَ إِنَّهُ ... سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ بِالنُّحُوسِ وَبِالسَّعْدِ أَيْ: سِيرُوا عِنْدَ سُقُوطِ قَلْبِ الْعَقْرَبِ، وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ نَحْسٌ. وَقَالَ آخَرٌ: قَدْ جَاءَ سَعْدٌ مَوْعِدًا بِشَرِّهِ ... مُخَبِّرَةً جُنُودُهُ بِحَرِّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 يَعْنِي سَعْدَ الأَخْبِيَةِ، وَجُنُودُهُ: الْحَشَرَاتُ، وَهُوَ يَطْلَعُ فِي إِقْبَالِ الدِّفْءِ، فَيُبَشِّرُ الْهَوَامُ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا مَا كَانَ مُخْتَبِئًا، وَقِيلَ: سُمِّيَ سَعْدَ الأَخْبِيَةِ لِذَلِكَ. وَلِلْعَرَبِ أَسْجَاعٌ فِي طُلُوعِ النُّجُومِ تَدُلُّ عَلَى عِلْمٍ كَثِيرٍ. وَأَخْرَجَ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّاسِبِيِّ، قَالَ: قَالُوا يَعْنِي الْعَرَبَ: " إِذَا طَلَعَ الشَرْطَانِ، أَلْقَتِ الإِبِلُ أَوْبَارَهَا فِي الأَعْطَانِ، وَاعْتَدَلَ الزَّمَانُ، وَاخْضَرَّتِ الأَغْصَانُ، وَتَهَادَتِ الْجِيرَانُ. وَإِذَا طَلَعَ الْبُطَيْنُ، طَلَعَتِ الأَرْضُ بِكُلِّ زَيْنِ، وَاقْتُضِيَ الدَّيْنُ، وَحَسُنَ النَّبَاتُ فِي كُلِّ عَيْنٍ. وَإِذَا طَلَعَ النَّجْمُ، خِيفَ السَّقْمُ، وَتَرَى عَانَاتُ الْوَحْشِ فِي كَدَمٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وَإِذَا طَلَعَ الدَّبَرَانِ، بَاتَ الْفَقِيرُ بِكُلِّ مَكَانٍ، وَرَمَتْ بِأَنْفُسِهَا حَيْثُ شَاءَتِ الصِّبْيَانُ، وَكُرِهَتِ النِّيرَانُ. وَإِذَا طَلَعَتِ الْهَقْعَةُ، صَعِدَ النَّاسُ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَرَجَعُوا إِلَى النَّجْعَةِ، وَأَوْرَسَتِ الْفَقْعَةُ. وَإِذَا طَلَعَتِ الْهَنْعَةُ، أَحَبَّ النَّاسُ إِلَى الرِّيفِ الرَّجْعَةَ. وَإِذَا طَلَعَتِ النَّثْرَةُ، تَرَطَّبَتِ الْبُسْرَةُ، وَجَثَى الْفَحْلُ بَكْرَةً، وَلَمْ يُتْرَكْ فِي ذَاتِ دَرٍّ قَطْرَةٌ، وَأَوَتِ الْمَوَاشِي إِلَى الْحُجْرَةِ. وَإِذَا طَلَعَتِ الْعَوَّا، طَابَ الْخِبَا، وَانْكَنَسَتِ الظِّبَا، وَأَشْرَفَ عَلَى عَوْدِهِ الْحَرْبَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وَإِذَا طَلَعَ سُهَيْلٌ، فَلأُمِّ الْفَصِيلِ الْوَيْلُ. وَإِذَا طَلَعَ السِّمَاكُ، فَأَجِدْ حِذَاكَ، وَأَصْلِحْ خِبَاكَ، وَصَوِّبْ فِنَاكَ، يَعْنِي لِلْمَطَرِ. وَإِذَا طَلَعَ الْغَفْرُ، أَتَاكَ مِنَ الْبَرْدِ صَدْرٌ، وَقَامَ الشَّعْرُ، وَطَابَ أَكْلُ التَّمْرِ. وَإِذَا طَلَعَ الزُّبَانَا، فَأَعِدَّ لِكُلِّ ذِي مَاشِيَةٍ هَوَانَا، وَلِكُلِّ ذِي عِيَالٍ شَانَا، وَقَالُوا: كَانَ وَكَانَا، فَاحْتَلْ لأَهْلِكَ وَلا تَوَانَا، وَاحْذَرْ أَنْ تُرَى عُرْيَانَا. وَإِذَا طَلَعَ الإِكْلِيلُ، هَبَّتْ عَلَى الأَنْيُقِ الْفُحُولُ، وَشُمِّرَتِ الذُّيُولُ، وَخِيفَتِ السُّيُولُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وَإِذَا طَلَعَ الْقَلْبُ، هَرَّ الْعِشَارُ مِثْلَ الْكَلْبِ، وَصَارَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ فِي غَمٍّ وَكَرْبِ. وَإِذَا طَلَعَتِ الشَّوْلَةُ، أَتَاكَ الشِّتَاءُ بِصَوْلَةٍ، وَكَانَتْ لِلضُّعَفَاءِ جَوْلَةٌ، وَاشْتَدَّ عَلَى الْعِيَالِ الْعَوْلَةُ، وَأَعْجَلَتِ الشَّيْخَ الْبَوْلَةُ. وَإِذَا طَلَعَتِ الْبَلْدَةُ، فَشَتِ الرِّعْدَةُ، وَأَصَابَ النَّاسَ مِنَ الْبَرْدِ شِدَّةٌ، وَأَحَبُّوا عِنْدَ النَّارِ الْقِعْدَةَ ". وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي هَذَا الْوَقْتِ: وَأَوْقَدَتِ الشِّعْرَى مَعَ اللَّيْلِ نَارَهَا ... وَأَضْحَتْ مُحُولا جِلْدُهَا يَتَوَسَّفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وَأَصْبَحَ مُبْيَضَّ السَّقِيعِ كَأَنَّهُ ... عَلَى سَرَوَاتِ النِّيبِ قُطْنٌ مُنَدَّفٌ قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَهُمْ مِنَ الأَسْجَاعِ فِي هَذَا الضَّرْبِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا، وَلَهُمْ أَيْضًا أَسْجَاعٌ فِي تَقْدِيرِ مُكْثِ الْهِلالِ وَالْقَمَرِ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ إِلَى عَشْرٍ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ السَّرِيِّ الزَّجَّاجِ، قَالَ: " وَلِلْعَرَبِ فِي تَقْدِيرِ الْهِلالِ، وَالْقَمَرِ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةٍ إِلَى عَشْرٍ شَيْءٌ يَسْجَعُونَ فِيهِ، وَيُبَيِّنُونَ مِقْدَارَ مُكْثِ الْقَمَرِ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي التَّمْثِيلِ، فَيَقُولُونَ: الْهِلالُ ابْنُ لَيْلَةٍ، رَضَاعُ سُخَيْلَةٍ، حَلَّ أَهْلُهَا بِرُمَيْلَةٍ، أَيْ قَدْرُ مُكْثِهِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وَبَعْضُهُمْ، يَقُولُ: عَتَمَةُ سُخَيْلَةٍ، أَيْ: إِبْطَاءُ سُخَيْلَةٍ فِي الرَّضَاعِ. وَإِنَّمَا قَالُوا: حَلَّ أَهْلُهَا بِرُمَيْلَةٍ، لأَنَّ لَبَنَ أُمِّهَا يَقِلُّ، فَيَقِلُّ رَضَاعُهَا. وَابْنُ لَيْلَتَيْنِ، حَدِيثُ أَمَتَيْنِ، كَذِبٌ وَمَيْنٌ، أَيْ مُكْثُهُ قَلِيلٌ وَحَدِيثُهُمَا كَذِبٌ، فَهُوَ غَيْرُ مُتَّصِلٍ. وَابْنُ ثَلاثٍ قَلِيلُ اللَّبَاثِ. وَقِيلَ: حَدِيثُ قَيْنَاتٍ، غَيْرُ جَدِّ مُؤْتَلِفَاتٍ. وَابْنُ أَرْبَعٍ، عَتَمَةُ رُبَعٍ، لا جَائِعٍ وَلا مُرْضَعٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الرُّبَعُ: مَا نَتَجَ فِي الرَّبِيعِ، وَهُوَ أَقْوَى مِمَّا يُنْتَحُ فِي الصَّيْفِ. وَابْنُ خَمْسٍ، عَشَاءُ خَلِفَاتٍ قُعْسٍ. وَالْخَلِفَاتُ: جَمْعُ خَلِفَةٍ، وَهُنَّ الْحَوَامِلُ، وَجَمَعَهُنَّ الْمَخَاضُ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُنَّ قُعْسًا جَمْعُ قَعْسَاءَ، لأَنَّهَا إِذَا حَمَلَتْ شَمَخَتْ بِآنَافِهَا، وَرَفَعَتْ رُؤُوسَهَا، وَخَرَجَتْ صُدُورُهَا، وَتَشَذَّرَتْ فَيَقِلُّ أَكْلُهَا. وَابْنُ سِتٍّ، سِرْ وَبِتْ. وَقِيلَ: تَحَدَّثْ وَبِتْ، لأَنَّ الْقَمَرَ يَمْكُثُ نَحْوَ ثَلاثَةِ أَسْبَاعٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَقَالُوا: ابْنُ سَبْعٍ، حَدِيثُ جَمْعٍ. وَقِيلَ: ابْنُ سَبْعٍ، دُلْجَةُ الضَّبُعِ، لأَنَّ ابْنَ السَّبُعِ يَغِيبُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَحَرَّكُ الضَّبُعُ، لأَنَّهَا تَدْلُجُ، وَإِنَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 قِيلَ: حَدِيثُ جَمْعٍ، لأَنَّهُ يُمْكِنُ فِيهِ حَدِيثُ الْجَمَاعَةِ. وَابْنُ ثَمَانٍ، قَمَرٌ إِضْحِيَانَ. وَإِضْحِيَانُ: أَيْ بَيِّنٌ. وَابْنُ تِسْعٍ، يُلْتَقَطُ فِيهِ الْجِزْعُ. وَقَالُوا: انْقَطَعَ الشِّسْعُ، وَإِنَّمَا قِيلَ: انْقَطَعَ الشِّسْعُ، لِطُولِ الْمُكْثِ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ. وَابْنُ عَشْرٍ، مُحْنَقُ الْفَجْرِ. وَقَالُوا: يُؤَدِّيكَ إِلَى الْفَجْرِ. وَتَرَكَتِ الْعَرَبُ أَنْ تُمَثِّلَ مَا بَعْدَ هَذَا، لِقُرْبِهِ مِنَ الْفَجْرِ، لأَنَّهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 قَدْ وَصَفُوا اللَّيَالِيَ بِجُمْلَتِهَا إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ ". وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي يَحْيَى مُحَمَّدِ بْنِ كُنَاسَةَ الأَسَدِيِّ صَاحِبِ النُّجُومِ، وَقَالَ: " كَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي الشَّهْرَ عَشْرَةَ أَسْمَاءٍ، لِكُلِّ ثَلاثَةٍ مِنْهَا اسْمٌ، فَتُسَمِّي أَوَّلَهَا الْغُرَرَ، ثُمَّ النُّفَلَ، ثُمَّ الدُّرَعَ، ثُمَّ الْعُشَرَ، ثُمَّ الْبِيضَ، ثُمَّ الظُّلُمَ، ثُمَّ الْحُنْدُسَ، ثُمَّ الدَّآدِئَ، ثُمَّ الْمُحَاقَ، ثُمَّ الْفَلْتَةَ. فَأَمَّا الْغُرَرُ، فَإِنَّ غُرَّةَ كُلَّ شَيْءٍ فِي أَوَّلِهِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ الْغُرَرَ شِبْهَ الْفَرْضِ عَلَيْهَا، لا تَتْرُكَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وَأَمَّا النُّفَلُ، فَكَانَتْ تَصُومُ شِبْهَ النَّافِلَةِ، إِنْ شَاءَتْ تَصُومُ، وَإِنْ شَاءَتْ تَتْرُكُهُ. وَأَمَّا الدُّرَعُ، فَتَقُولُ: قَدْ تَدَرَّعَتِ الأَرْضُ الْقَمَرَ، أَيْ: صَارَ الْقَمَرُ عَلَى الأَرْضِ كَثِيرًا. وَأَمَّا الْعُشَرُ: فَتَقُولُ: عَشَرٌ، وَأَحَدَ عَشَرَ، وَاثْنَا عَشَرَ. وَأَمَّا الْبِيضُ، فَتَعْنِي اتِّصَالَ الْقَمَرِ مَعَ الشَّمْسِ. وَأَمَّا الظُّلُمُ، فَحِينَ يَذْهَبُ الْقَمَرُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ. وَأَمَّا الْحُنْدُسُ، فَتَعْنِي بِهَا أَشَدَّ ظُلْمَةٍ مِنَ الظُّلُمِ. وَأَمَّا الدَّآدِئُ، فَحِينَ يَنْقُصُ الْهِلالُ، يَقُولُ: قَدْ وَقَعَ الدَّاءُ فِيهِ. وَأَمَّا الْمُحَاقُ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ وَقَدْ رَأَى رَجُلا يَحْتَجِمُ فِي الْمُحَاقِ: «أَمَا إِنَّهُ لَنْ يَنْفَعَهُ» . وَأَمَّا الْفَلْتَةُ، فَإِنَّ الشَّهْرَ لَيْسَ يَتِمُّ أَبَدًا ثَلاثِينَ، فَإِذَا تَمَّ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الْحِينِ، سَمَّتْهُ الْعَرَبُ فَلْتَةَ ". قَالَ الشَّيْخُ: " وَالْعَرَبُ تَبْذُرُ فِيهَا بَيْنَ طُلُوعِ سُهَيْلٍ إِلَى سُقُوطِ الْغَفْرِ، فَأَوَّلُ طُلُوعِ سُهَيْلٍ فِي آذَارَ، وَآخِرُهُ عِنْدَ سُقُوطِ الْفَرْغِ الْمُؤَخَّرِ، هُوَ أَوَّلُ الْوَسْمِيِّ، وَيُحْضِرُونَ الْمِيَاهَ عِنْدَ طُلُوعِ الثُّرَيَّا إِلَى طُلُوعِ الشِّعْرَى، وَأَوَّلُ نِتَاجِ الشَّاءِ عِنْدَهُمْ مَعَ طُلُوعِ الْهَرَّارَيْنِ، وَهُمَا النَّسْرُ الْوَاقِعُ، وَقَلْبُ الْعَقْرَبِ، وَيَكُونُ طُلُوعُهُمَا مَعًا، وَهُوَ نِتَاجٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ وَقِلَّةِ الْكَلأِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: مَا نُتِجَ بَعْدَ سُقُوطِ الْغَفْرِ، فَهُوَ ضَعِيفٌ، لِشِدَّةِ الْحَرِّ، وَهَيْجِ الأَرْضِ، ثُمَّ يُدْرِكُهُ الشِّتَاءُ وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَلا يَقْوَى ". وَقَالُوا: لا يَطْلُعُ السِّمَاكُ إِلا غَازِرًا ذَنَبَهُ فِي بَرْدٍ. وَنَوْءُ الزُّبْرَةِ لا يَخْلُو مِنْ مَطَرٍ أَوْ قَرٍّ. وَقَالُوا: مَا نَاءَ الدَّبَرَانُ وَالْبُطَيْنُ فَكَانَ فِي نَوْئِهِمَا مَطَرٌ إِلا أَجْدَبَ ذَلِكَ الْعَامُ، وَلا اجْتَمَعَ مَطَرُ الثُّرَيَّا فِي الْوَسْمِيِّ، وَمَطَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الْجَبْهَةِ فِي الرَّبِيعِ إِلا كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ كَثِيرَ الْحَيَاةِ، تَامَّ الْخِصْبِ ". فَالْعَرَبُ تَعْرِفُ أَوْقَاتَ الْمَطَرِ وَالرِّيَاحِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِمَطَالِعِ النَّجْمِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ فَضِيلَةٌ بَيِّنَةٌ، وَإِذَا رَأَوُا السَّحَابَ عَرَفُوا: هَلْ هِيَ ذَاتُ مَطَرٍ أَمْ لا؟ وَهَلْ مَطَرُهَا كَثِيرٌ أَوْ غَيْرُ كَثِيرٍ؟ وَهَلْ هِيَ مِمَّا قَدْ أَهْرَاقَ مَاءَهُ أَوْ مَاؤُهُ فِيهَا؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ. قَالَ عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِذَا نَشَأَتِ السَّمَاءُ بَحَرِيَّةً ثُمَّ تَشَاءَمَتْ، فَتِلْكَ عَيْنٌ» ، أَوْ قَالَ: «عَامُ غَدِيقَةٍ» يَعْنِي مَطَرًا كَثِيرًا وَأَخْرَجَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِسَنَدِهِ بِطَرِيقَيْنِ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا مَعَ أَصْحَابِهِ، إِذْ نَشَأَتْ سَحَابَهٌ، فَقَالَ: «كَيْفَ تَرَوْنَ قَوَاعِدَهَا؟» قَالُوا: مَا أَحْسَنَهَا، وَأَشَدَّ تَمَكُّنَهَا! ، قَالَ: «فَكَيْفَ تَرَوْنَ رَحَاهَا؟» قَالُوا: مَا أَحْسَنَهَا وَأَشَدَّ اسْتِدَارَتَهَا! ، فَقَالَ: «كَيْفَ تَرَوْنَ بَوَاسِقَهَا؟» ، قَالُوا: مَا أَحْسَنَهَا وَأَشَدَّ اسْتِقَامَتَهَا! فَقَالَ: «كَيْفَ تَرَوْنَ جَوْنَهُ؟» ، قَالُوا: مَا أَحْسَنَهُ وَأَشَدَّ سَوَادَهُ! ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَا» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ مِنْكَ! قَالَ: «وَمَا يَمْنَعُنِي، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنَ بِلِسَانِي، لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ؟ !» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ تَفْسِيرُ الْكَلامِ: " قَوَاعِدُهَا: أَسَافِلُهَا. وَرَحَاهَا: وَسَطُهَا، وَمُعْظَمُهَا. وَبَوَاسِقُهُ: أَعَالِيهَا. وَإِذَا اسْتَطَارَ الْبَرْقُ مِنْ أَعَالِيهَا إِلَى أَسَافِلِهَا، فَهُوَ الَّذِي لا يُشَكُّ فِي مَطَرِهِ. وَالْخَفْوُ: أَضْعَفُ مَا يَكُونُ مِنَ الْبَرْقِ. وَالْوَمِيضُ: نَحْوُ التَّبَسُّمِ الْخَفِيِّ، يُقَالُ: وَمَضَ، وَأَوْمَضَ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ السَّرِيِّ الزَّجَّاجِ، قَالَ: ثنا وَغَيْرُهُ، قال مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ النَّحْوِي ُّ: " خَرَجَ أَعْرَابِيٌّ ضَرِيرٌ فِي بِغَاءِ إِبِلٍ لَهُ ضَلَّتْ، وَمَعَهُ بِنْتٌ لَهُ تَقُودُهُ، فَمَرَّا بِوَادٍ مُعْشِبٍ، فَقَالَتْ: يَا أَبَةِ، مَا رَأَيْتُ مَرْتَعَ أَبِلٍ كَهَذَا؟ ، فَقَالَ: إِنْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِبِلَنَا سَرَحْنَا فِيهِ، فَلَمْ يَلْبَثَا أَنْ وَجَدَاهَا، فَأَرْسَلا فِيهِ، فَجَعَلَتْ تَخْضَمُ أَطْوَلَهُ وَأَقْصَرَهُ، فَبَيْنَا هُمَا كَذَلِكَ، قَالَتِ ابْنَتُهُ: يَا أَبَةِ، إِنِّي أَخَافُ الْمَطَرَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 قَالَ: وَمَا الَّذِي تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: أَرَى سَحَابًا دَوَانِي وَسَحَابًا بَوَانِي. فَقَالَ: ارْعَيْ، لا بَأْسَ عَلَيْكِ. فَرَعَتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَةِ، إِنِّي أَخَافُ الْمَطَرَ. قَالَ: وَمَا الَّذِي تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: أَرَاهَا كَبُطُونِ الأُتُنِ الْقُمْرِ فِي الْمَرَابِضِ الْغُبْرِ. قَالَ: ارْعَيْ، لا بَأْسَ عَلَيْكِ. فَرَعَتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَةِ، إِنِّي أَخَافُ الْمَطَرَ. قَالَ: وَمَا الَّذِي تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: أَرَى سَحَابًا دُونَ سَحَابٍ، كَأَنَّهُ نَعَامٌ يَعْلَقُ بِأَرْجُلِهِ. قَالَ: ارْعَيْ، لا بَأْسَ عَلَيْكِ. فَرَعَتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَةِ، إِنِّي أَخَافُ الْمَطَرَ! قَالَ: وَمَا الَّذِي تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: سَحَابًا أَكَادُ أَرْفَعُهُ بِيَدِي. قَالَ: ارْعَيْ، لا بَأْسَ عَلَيْكِ. فَرَعَتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَةِ، إِنِّي وَاللَّهِ أَخَافُ الْمَطَرَ! قَالَ: مَا الَّذِي تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: أَرَاهَا قَدِ اسْلَنْطَحَتْ وَانْتَصَبَتْ. قَالَ: وَيْحَكِ، فَانْجِي بِنَا، وَلا أَظُنُّكِ نَاجِيَةً، فَلَمْ يَبْلُغَا آخِرَ الْوَادِي حَتَّى سَالَ أَوَّلُهُ " قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى اسْلَنْطَحَتْ: انْبَسَطَتْ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا، كُلُّهُ مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ، هُوَ الْعِلْمُ الصَّادِقُ النَّافِعُ، وَبِهِ يَكُونُ الاهْتِدَاءُ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَالنَّجَاةُ مِنْ حَيْرَةِ الضَّلالِ، فَكَمْ مِنْ قَوْمٍ أَشْفَى بِهِمْ ذَلِكَ عَلَى الْهَلاكِ، فَأَنْجَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالاسْتِدْلالِ بِنَجْمٍ أَمُّوهُ وَوَجْهٍ قَصَدُوهُ، وَبِهِ يُعْرَفُ وَقْتُ النِّتَاجِ، وَوَقْتُ تَأْبِيرِ النَّخْلِ، وَوَقْتُ بَيْعِ الثَّمْرَةِ، وَإِقْبَالُ الْخَيْرِ وَإِدْبَارِهِ، وَأَمَارَاتُ الْخِصْبِ وَالْجَدَبِ، وَعَلامَاتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 السَّحَائِبِ الْمَاطِرَةِ وَالسَّحَائِبِ الْمُخْلِفَةِ، وَالْبُرُوقِ الصَّادِقَةِ وَالْكَاذِبَةِ، وَبِهِ يَنْتَقِلُونَ عَنِ الْمَحَاضِرِ إِلَى الْمِيَاهِ، وَعَنِ الْمِيَاهِ إِلَى الْمَحَاضِرِ، وَلَيْسَ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي أَنَا ذَاكِرُهَا. فَأَخْرَجَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي تَكْذِيبًا بِالْقَدَرِ، وَصِدْقًا بِالنُّجُومِ» وَبِطَرِيقٍ آخَرَ إِلَى هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ الْحَوْشَبِيُّ لَقِيتُهُ وَأَنَا شَابٌّ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، وَقَالَ لِي: إِنْ لَمْ تَكُنْ قَدَرِيًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وَلا مُرْجِيًّا حَدَّثْتُكَ، وَإِلا لَمْ أُحَدِّثْكَ، فَقُلْتُ: مَا فِيَّ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي خَصْلَتَيْنِ: تَكْذِيبًا بِالْقَدَرِ، وَتَصْدِيقًا بِالنُّجُومِ ". وَقَالَ: أَخَذَ يَزِيدُ بِعَرَضِ شَيْبَتِهِ، وَقَالَ: آمَنَّا بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَأَخْرَجَ عَنْ جُنَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلاثٌ مِنْ فِعَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الْجَاهِلِيَّةِ لا يَدَعُهُنَّ أَهْلُ الإِسْلامِ: اسْتِنَاءَةٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَطَعْنٌ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيْتِ " وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ فِي أُمَّتِي أَرْبَعًا مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَيْسُوا بِتَارِكِيهِنَّ: الْفَخْرُ فِي الأَنْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَحْسَابِ، وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيْتِ " لأَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَأَخْرَجَ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطِّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي حَتَّى خَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا خَرَجْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 نَظَرَ إِلَيْهَا، وَقَالَ: " هَذِهِ جَزِيرَةٌ قَدْ بَرِئَتْ مِنَ الشِّرْكِ، مَا لَمْ تُضِلُّهُمُ النُّجُومُ. قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ تُضِلُّهُمُ النُّجُومُ؟ قَالَ: يَقُولُونَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْغَيْثُ: مُطِرْنَا بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا ". وَأَخْرَجَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَصْبَحَ، قَالَ: " أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ رَبُّكُمُ اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ إِلا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ، فَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَحَمِدَنِي عَلَى سُقْيَايَ، فَقَدْ آمَنَ بِي وَكَفَرَ بِالْكَوَاكِبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَقَدْ آمَنَ بِالْكَوَاكِبِ وَكَفَرَنِي، وَكَفَرَ نِعْمَتِي ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا جَاءَ التَّغْلِيظُ فِي هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَطَرَ الَّذِي جَاءَ عِنْدَ سُقُوطِ النَّجْمِ هُوَ فِعْلُ النَّجْمِ، وَلا يَجْعَلُونَهُ سُقْيًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ وَافَقَ سُقُوطَ النَّجْمِ. وَأَمَّا مَنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَجَعَلَهُ وَقْتًا كَمَوَاقِيتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وَالدَّلِيلُ عَلَى حُسْنِ ذَلِكَ وَجَوَازِهِ: " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ اسْتَسْقَى بِالنَّاسِ بِالْمُصَلَّى نَادَى الْعَبَّاسَ: كَمْ بَقِيَ مِنْ نَوْءِ الثُّرَيَّا؟ ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ بِهَا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَعْتَرِضُ فِي الأُفُقِ سَبْعًا بَعْدَ وُقُوعِهَا، فَوَاللَّهِ مَا مَضَتْ تِلْكَ السَّبْعُ حَتَّى غِيثَ النَّاسُ ". قَدْ مَضَى الْكَلامُ فِي الضَّرْبِ الأَوَّلِ مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ وَهُوَ الْمُبَاحُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَحْظُورُ، فَهُوَ مَا يَدَّعِيهِ الْمُنَجِّمُونَ مِنَ الأَحْكَامِ، وَلَيْسَ أَشَدُّ إِتْعَابًا لِلْفِكْرِ، وَإِنْصَابًا لِلْبَدَنِ، وَإِضْلالا لِلْفَهْمِ مِنْهُ، فَإِذَا أَنْفَدَ النَّاظِرُ فِيهِ عُمُرَهُ بِإِسْهَارِ اللَّيْلِ، وَشَغَلَ الْقَلْبَ عَنِ الْمَطْعَمِ، وَالْمَشْرَبِ، وَاللَّذَّاتِ، وَالْعَمَلِ لِلدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَتَبَاعَدَ مِنَ اللَّهِ، وَرَسُولِهِ، وَمِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَرَمَاهُ النَّاسُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ بِالْكُفْرِ وَالزَّنْدَقَةِ، كَانَ عُرْفُهُ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ، وَزُبْدَتُهُ الَّتِي مَخَضَ عَنْهَا عِلْمَ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مَتَى يَكُونُ؟ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يُحْدَثُ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؟ وَمِقْدَارُ مَا يَكْسَفُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَوَقْتُ الانْجِلاءِ؟ وَهَذَا عِلْمٌ لا يَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، وَإِنَّمَا الْكُسُوفُ شَيْءٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِمَسِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَيَكُونُ بِاجْتِمَاعِهِمَا أَوْ تَقَابُلِهِمَا، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ وَقْتَ الْكُسُوفِ حِينَ يَكُونُ مِنْ عَيْبٍ وَلا نَقْصٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَيْبُ فِي الْجَهْلِ بِمَا تَعْلَمُهُ الْعَرَبُ مِنْ أَمْرِ النُّجُومِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ، فَإِنِ اسْتَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ، وَأَطْمَعَهُ فِي الْقَضَاءِ وَالأَحْكَامِ، وَاعْتَقَدَ فِي الْكُسُوفِ أَنَّهُ لِمَوْتِ أَحَدٍ أَوْ حَيَاتِهِ أَوْ حُلُولِ حَادِثَةٍ وَوُقُوعِ جَائِحَةٍ، فَقَدْ عَقِلَهُ الشَّيْطَانُ بِالْغُرُورِ، وَقَطَعَ أَسْبَابَهُ مِنَ الدِّينِ، لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِالْغَيْبِ دُونَ أَنْبِيَائِهِ وَمَلائِكَتِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 إِلا مَا أَطْلَعَهُمْ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: إِنَّمَا انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلاةِ» . وَأَخْرَجَ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبَّادٍ الْعَبْدِيِّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، قَالَ: شَهِدْتُ خُطْبَةً لِسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، فَذَكَرَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 أَنَّهُ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ كُسُوفَ الشَّمْسِ وَكُسُوفَ هَذَا الْقَمَرِ، وَزَوَالَ هَذِهِ النُّجُومِ عَنْ مَوَضِعِهَا لِمَوْتِ رِجَالٍ عُظَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، وَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا، وَلَكِنَّهَا هِيَ آيَاتُ اللَّهِ يَعْتَبِرُ بِهَا عِبَادُهُ، لِيَنْظُرَ مَنْ يُحْدِثُ لَهُ مِنْهُمْ تَوْبَةً» قَالَ الشَّيْخُ: إِنْ سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ حَدِيثِ، عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي، فَأَرَانِي الْقَمَرَ، فَقَالَ: «اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، فَإِنَّهُ الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ» . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا: أَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، تَعَوَّذِي بِاللَّهِ مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ» . وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْقَمَرُ غَاسِقًا، لأَنَّهُ يَكْسَفُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 فَيَغْسَقُ، أَيْ يَسْوَدُّ، وَيُظْلَمُ. الْغَسَقُ: الظُّلْمَةُ. وَوُقُوبُهُ: دُخُولُهُ إِمَّا فِي حَالِ الْكُسُوفِ، وَإِمَّا فِي شَيْءٍ يَسْتُرُهُ، وَيُكْسَفُ نُورُهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَعَوَّذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، لأَنَّ أَهْلَ الْفَسَادِ يَنْتَشِرُونَ فِي الظُّلْمَةِ، وَيَتَمَكَّنُونَ فِيهَا مِمَّا لا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الضِّيَاءِ، فَيَقْدُمُونَ عَلَى الْعَظَائِمِ، وَيَجْتَرِئُونَ عَلَى انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ، فَأَضَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلَ أَهْلِ الْفَسَادِ فِي تِلْكَ الْحَالِ إِلَى الْقَمَرِ، لأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الْفِعْلِ: كُسُوفُهُ، كَمَا يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ سَبَبًا لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ كَانَ النَّظَرُ فِي أَحْكَامِ النُّجُومِ يُفُيدُ عِلْمًا صَحِيحًا، لَمْ يَجُزْ لَنَا اسْتِعْمَالُهُ، لأَنَّ شَرِيعَتَنَا قَدْ حَظَرَتْهُ وَنَهَتْ عَنْهُ، فَلا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ الدُّخُولُ فِيهِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ وَقَدْ حَظَرَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا دُونَهُ مِنْ تَعْلِيقِ الْخَرَزِ، وَالْحَلَقِ لِلْمَنْفَعَةِ بِهَا. وَأَخْرَجَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي عَضُدِ رَجُلٍ حَلْقَةً مِنْ صُفْرٍ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» فَقَالَ: مِنَ الْوَاهِنَةِ. قَالَ: «انْبُذْهَا عَنْكَ، فَإِنَّهَا لا تُزِيدُكَ إِلا وَهْنًا، لَوْ مِتَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وَهِيَ عَلَيْكَ وُكِّلْتَ إِلَيْهَا» . وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي قِلابَةَ، قَالَ: «قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّمِيمَةَ مِنْ قِلادَةِ الصَّبِيِّ» . قَالَ: وَهُوَ الشَّيْءُ يُحْرِزُ فِي عُنُقِ الصَّبِيِّ مِنَ الْعَيْنِ، وَقَطَعَهَا مِنْ عُنُقِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَالَ الشَّيْخُ: فَقَدْ وَرَدَ هَذَا التَّغْلِيطُ فِي تَعْلِيقِ حَلْقَةٍ وَنَحْوِهَا، فَكَيْفَ فِي خِدْمَةِ كَوْكَبٍ وَطَاعَةِ مُنَجِّمٍ؟ ! فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ هُبُوبِ بَعْضِ الرِّيَاحِ: «هَبَّتْ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُنَافِقِينَ» . وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخُ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: رُحْنَا مِنَ الْمُرَيْسِيعِ قَبْلَ الزَّوَالِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وَكَانَ الْجُهْدُ بِنَا يَوْمَنَا وَلَيْلَتَنَا، وَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَسَرَّحَ النَّاسُ ظَهْرَهُمْ، فَأَخَذَتْهُمْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، حَتَّى أَشْفَقَ النَّاسُ مِنْهَا، وَسَأَلُوا عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «لِمَوْتِ مُنَافِقٍ عَظِيمِ النِّفَاقِ بِالْمَدِينَةِ، فَلِذَلِكَ عَصَفَتِ الرِّيحُ» . فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى عَرَّفَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِذَا هَبَّتْ رِيحٌ فِي يَوْمِ كَذَا، فَاعْلَمْ أَنِّي أُمِيتُ فُلانًا، وَكَفَيتُكَ أَمْرَهُ، فَيَكُونُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْتَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ وَضَعَ عَلَى النُّجُومِ عَلامَاتٍ وَدِلالاتٍ أَنَّهَا إِذَا نَزَّلَتْ بَعْضَ الْبُرُوجِ، دَلَّتْ عَلَى كَذَا؟ قُلْنَا: لا يُنْكَرُ هَذَا لَوْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا وَلَمْ يَأْتِ الْخَبَرُ بِذَلِكَ، فَإِنَّا لا نُجَوِّزُهُ، وَلا نُجَوِّزُ إِلا مَا جَوَّزَتْهُ الشَّرِيعَةُ، أَوِ اجْتَمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى تَجْوِيزِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 مَطْلَبُ ذِكْرِ الأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ فِي النَّهْيِ عَنِ النَّظَرِ فِي أَحْكَامِ النُّجُومِ وَأُخْرِجَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لا تَسْأَلُوا عَنِ النُّجُومِ، وَلا تُفَسِّرُوا الْقُرْآنَ بِرَأْيِكُمْ، وَلا تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي، فَإِنَّ ذَلِكَ الإِيمَانُ الْمَحْضُ» . وَأُخْرِجَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّظَرِ فِي النُّجُومِ، وَأَمَرَنِي بِإِسْبَاغِ الطُّهُورِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وَبِطَرِيقٍ آخَرَ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَلِيُّ، أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْكَ، وَلا تَأْكُلِ الصَّدَقَةَ، وَلا تُنْزِ الْحَمِيرَ عَلَى الْخَيْلِ، وَلا تُجَالِسْ أَصْحَابَ النُّجُومِ» . وَأُخْرِجَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّظَرِ فِي النُّجُومِ» . وَأَخْرَجَ بِطَرِيقٍ آخَرَ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنِ النَّظَرِ فِي النُّجُومِ» . وَأَخْرَجَ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِطُرِقٍ شَتَّى، أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّظَرِ فِي النُّجُومِ» . وَأَخْرَجَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّظَرِ فِي النُّجُومِ» . وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَتِ النُّجُومُ فَأَمْسِكُوا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وَأَخْرَجَ بِطُرُقٍ أُخَرَ عَنْهُ مِثْلَهُ. وَعَنِ الأَعْمَشِ مِثْلَهُ سَوَاءٌ. قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالإِمْسَاكِ عَنِ النُّجُومِ الْكَفَّ عَمَّا يَقُولُ الْمُنَجِّمُونَ فِيهَا، مِنْ أَنَّهَا فَاعِلَةٌ مُدَبِّرَةٌ، وَأَنَّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 تُسْعِدُ وَتُنْحِسُ، وَأَنَّ مَا يَكُونُ فِي الْعَالَمِ مِنْ حَادِثٍ فَهُوَ بِحَرَكَاتِ النُّجُومِ، فَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ بِالإِمْسَاكِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنْ يُقَالَ فِيهَا: إِنَّهَا كَمَا جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ، وَالْبَحْرِ، وَيُعْرَفُ بِالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ عَدَدُ السِّنِينَ وَالْحِسَابُ، وَإِنَّ فِيهَا دَلالَةً عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ. وَأَخْرَجَ بِطُرِقٍ عَدِيدَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ، فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ، مَا زَادَ زَادَ، وَمَا زَادَ زَادَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 إِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَضَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمَ النُّجُومِ إِلَى السِّحْرِ؟ فَالْجَوَابُ: لأَنَّهُمَا وَقَعَا مِنَ التَّمْوِيهِ، وَالْخِدَاعِ، وَالأَبَاطِيلِ مَوْقِعًا وَاحِدًا، إِذِ النُّجُومُ لا فِعْلَ لَهَا فِي خَيْرٍ وَلا شَرٍّ، وَإِنَّمَا اللَّهُ تَعَالَى الْفَاعِلُ عِنْدَ حَرَكَتِهَا، وَكَذَلِكَ السِّحْرُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْمَلَكَيْنِ مَعَ مَنْ أَخَذَ السِّحْرَ عَنْهُمَا: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] ، فَأَعْلَمَنَا أَنَّ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 عَنْ فِعْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَيْسَ بِوَاقِعٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ، أَيْ: بِإِرَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ الأَحْمَرِ، أَنَّ مُسَافِرَ بْنَ عَوْفٍ، قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ انْصَرَفَ مِنَ الأَنْبَارِ إِلَى أَهْلِ النَّهْرَوَانِ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا تَسِرْ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، وَسِرْ فِي ثَلاثِ سَاعَاتٍ يمْضِينَ مِنَ النَّهَارِ. قَالَ عَلِيٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلِمَ؟ قَالَ: لأَنَّكَ إِنْ سِرْتَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ أَصَابَكَ أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ بَلاءٌ، وَضُرٌّ شَدِيدٌ، وَإِنْ سِرْتَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي أَمَرْتُكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 بِهَا، ظَفَرْتَ، وَظَهَرْتَ، وَأَصَبْتَ مَا طَلَبْتَ. فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا كَانَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنجِّمٌ، وَلا لَنَا مِنْ بَعْدِهِ، هَلْ تَعْلَمُ مَا فِي بَطْنِ فَرَسِي هَذِهِ؟ قَالَ: إِنْ حَسَبْتُ عَلِمْتُ. قَالَ: مَنْ صَدَّقَكَ بِهَذَا الْقَوْلِ كَذَّبَ الْقُرْآنَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان: 34] . مَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَّعِي عِلْمَ مَا ادَّعَيْتَ عِلْمَهُ، تَزْعُمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي تُصِيبُ السُّوءَ مَنْ سَارَ فِيهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَنْ صَدَّقَكَ بِهَذَا الْقَوْلِ اسْتَغْنَى عَنِ اللَّهِ فِي صَرْفِ الْمَكْرُوهِ عَنْهُ، وَيَنْبَغِي لِلْمُقِيمِ بِأَمْرِكِ أَنْ يُوَلِيَكَ الْحَمْدَ دُونَ اللَّهِ رَبِّهِ، لأَنَّكَ أَنْتَ بِزَعْمِكَ هَدَيْتَهُ إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 تُنْجِي مِنَ السُّوءِ مَنْ سَافَرَ فِيهَا، فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهَذَا الْقَوْلِ لَمْ آمَنْ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ كَمَنِ اتَّخَذَ دُونَ اللَّهِ نِدًّا أَوْ ضِدًّا، اللَّهُمَّ لا طَائِرَ إِلا طَائِرُكَ، وَلا خَيْرَ إِلا خَيْرُكَ، وَلا إِلَهَ غَيْرُكَ. نُكَذِّبُكَ، وَنُخَالِفُكَ، وَنَسِيرُ فِي السَّاعَةِ الَّتِي تَنْهَانَا عَنْهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُمْ وَتَعَلُّمَ هَذِهِ النُّجُومِ إِلا مَا تَهْتَدُونَ بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، إِنَّمَا الْمُنَجِّمُ كَالْكَافِرِ، وَالْكَافِرُ فِي النَّارِ، وَالْمُنَجِّمُ كَالسَّاحِرِ، وَالسَّاحِرُ كَالْكَافِرِ، وَالْكَافِرُ فِي النَّارِ، وَاللَّهِ لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، وَتَعْمَلُ بِهَا، لأُخَلِّدَنَّكَ فِي الْحَبْسِ مَا بَقِيتَ وَبَقِيتُ، وَلأَحْرِمَنَّكَ الْعَطَاءَ مَا كَانَ لِي سُلْطَانٌ، ثُمَّ سَارَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي نَهَاهُ عَنْهَا، فَلَقِيَ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ، فَقَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ سِرْنَا فِي السَّاعَةِ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا، فَظَفَرْنَا وَظَهَرْنَا، لَقَالَ قَائِلٌ: سَارَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 فِي السَّاعَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الْمُنَجِّمُ. مَا كَانَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَجِّمٌ، وَلا لَنَا مِنْ بَعْدِهِ، فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا بِلادَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَسَائِرَ الْبِلْدَانِ. أَيُّهَا النَّاسُ تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَثِقُوا بِهِ، فَإِنَّهُ يَكْفِي مِمَّنْ سِوَاهُ ". وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، أَنَّ الرَّبِيعَ بْنَ سَبْرَةَ الْجُهَنِي حَدَّثَهُ، قَالَ: " لَمَّا غَزَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى الشَّامِ خَرَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نُدْلِجَ نَظَرْتُ فَإِذَا الْقَمَرُ فِي الدَّبَرَانَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَذْكُرَ لِعُمَرَ ذَلِكَ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ ذِكْرَ النُّجُومِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا حَفْصٍ، انْظُرْ إِلَى الْقَمَرِ مَا أَحْسَنَ اسْتِوَاءِهِ اللَّيْلَةَ! فَنَظَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فَإِذَا هُوَ فِي الدَّبَرَانِ، قَالَ: قَدْ عَرَفْتُ مَا تُرِيدُ يَا ابْنَ سَبْرَةَ، تَقُولُ: إِنَّ الْقَمَرَ بِالدَّبَرَانِ، وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَخْرُجُ بِالشَّمْسِ وَلا بِالْقَمَرِ، وَلَكِنْ نَخْرُجُ بِاللَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ". قَالَ الشَّيْخُ: كَذَا كَانَ الْحَدِيثُ فِي أَصْلِ الْحِيرِيِّ، وَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ عِنْدِي سَمَاعُ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَعَلَّ الرَّبِيعَ رَوَاهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: " {وَأَنْهَارًا وَسُبُلا} [النحل: 15] ، قَالَ: طُرُقًا، {وَعَلامَاتٍ} [النحل: 16] ، قَالَ: هِيَ النُّجُومُ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلاثِ خِصَالٍ: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَجَعَلَهَا نَهْتَدِي بِهَا، وَجَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينَ، فَمَنْ تَعَاطَى فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَدْ أَخْطَأَ حَظَّهُ، وَقَالَ رَأْيَهُ، وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 مَا لا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَإِنَّ أُنَاسًا جَهَلَةً بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ أَحْدَثُوا فِي هَذِهِ النُّجُومِ كِهَانَةً: مَنْ أَعْرَسَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا، كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ سَافَرَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا، كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَعَمْرِي مَا مِنَ النُّجُومِ نَجْمٌ إِلا يُولَدُ بِهِ الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ، وَالأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ، وَالْحَسَنُ وَالذَّمِيمُ، قَالَ: وَمَا عِلْمُ هَذَا النَّجْمِ وَهَذِهِ الدَّابَّةِ وَهَذَا الطَّيْرِ بِشَيْءٍ مِنَ الْغَيْبِ، وَقَضَى اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ: {لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65] . وَلَعَمْرِي لَوْ أَنَّ أَحَدًا عَلِمَ الْغَيْبَ لَعَلِمَهُ آدَمُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ، فَأَكَلَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شَاءَ، وَنَهَاهُ عَنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَا زَالَ بِهِ الْبَلاءُ حَتَّى وَقَعَ بِمَا نُهِيَ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ يَعْلَمُ الْغَيْبَ لَعَلِمَهُ الْجِنُّ حِينَ مَاتَ نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَلَبِثَ الْجِنُّ يَعْمَلُونَ لَهُ حَوْلا فِي أَشَدِّ الْعَذَابِ وَأَشَدِّ الْهَوَانِ لا يَشْعُرُونَ بِمَوْتِهِ، وَمَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ، وَهِيَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: تَبَيَّنَتِ الإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ. قَالَ: قَدْ كَانَتْ تَقُولُ قَبْلَ ذَلِكَ: إِنَّا نَعْلَمُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فَابْتَلاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَ مَوْتَ سُلَيْمَانَ لِلْجِنِّ وَالإِنْسِ عِبْرَةً ". وَأَخْرَجَ عَنِ الأَصْمَعِيِّ، عَنْ مُبَارَكٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَن ِ: " طَلَعَ سُهَيْلٌ، وَبَرَدَ اللَّيْلُ، فَتَكَرَّهَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّكَ مِمَّنْ تُرَاعِي سُهَيْلا، إِنَّ سُهَيْلا لا يَأْتِي بِبَرْدٍ وَلا يَنْصَرِفُ بِحَرٍّ " وَرُبَّمَا أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْبَصْرِيِّ، وَأَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 النَّرْسِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَينُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّصِيبِيُّ، قَالُوا: ثنا أَبُو الْقَاسِمِ مُوسَى بْنُ عِيسَى السَّرَّاجُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: ثنا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلا عِكْرِمَةُ عَنْ حِسَابِ النُّجُومِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يُخْبِرَهُ، قَالَ عِكْرِمَةُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُول ُ: «عِلْمٌ عَجَزَ النَّاسُ عَنْهُ وَدِدْتُ أَنْ عَلِمْتَهُ» قَالَ الشَّيْخُ: وَالَّذِي سَأَلَهُ عِكْرِمَةُ عَنْهُ إِنَّمَا كَانَ مِنَ الضَّرْبِ الأَوَّلِ الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تَخْتَصُّ بِهِ، فَظَنَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ مَحْظُورٌ لَمَّا سَمِعَ التَّغْلِيظَ الْوَارِدَ فِي عِلْمِ النُّجُومِ، وَحَسِبَ أَنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: مَا قَدَّمَنَا ذِكْرَهُ مِنْ رُوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ. وَيُوَضِّحُهُ أَيْضًا مَا رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ قَوْمًا يَنْظُرُونَ فِي النُّجُومِ، وَيَحْسِبُونَ أَبْرَاجًا، وَمَا أَرَى لِلَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ خَلاقٍ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وَأَخْرَجَ عَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ لابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْصِنِي. قَالَ: «أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهَ، وَإِيَّاكَ وَعِلْمَ النُّجُومِ، فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْكِهَانَةِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا بِخَيْرٍ، فَيُكِبَّكَ اللَّهُ عَلَى وَجْهِكَ فِي جَهَنَّمَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْفَرَ بِهِمْ هَذَا الدِّينَ، وَإِيَّاكَ وَالْكَلامَ فِي الْقَدَرِ، فَإِنَّهُ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ اثْنَانِ إِلا أَثِمَا، أَوْ أَثِمَ أَحَدُهُمَا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 قَالَ الشَّيْخُ: فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ عِلْمَ النُّجُومِ شُعْبَةٌ مِنَ السِّحْرِ» ، وَقَالَ: هُوَ أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْكِهَانَةِ، وَكِلا الأَمْرَيْنِ أَعْنِي السِّحْرَ وَالنُّجُومَ، عَظِيمٌ أَمْرُهُمَا، فَظِيعٌ شَأْنُهُمَا وَالْكِهَانَةُ مِنْ عُلُومِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ، فَتُلْقِيَهُ إِلَى أَوْلِيَائِهَا مِنَ الْكَهَنَةِ، فَأَبْطَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالإِسْلامِ، وَحَرَسَ السَّمَاوَاتِ بِالنُّجُومِ وَالشُّهُبِ، وَمَنَعَ الشَّيَاطِينَ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمَعِ. وَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ سَاحِرًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وَأَخْرَجَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْكُهَّانُ قَدْ كَانُوا يُحَدِّثُونَ بِشَيْءٍ، فَيَكُونُ حَقًّا. قَالَ: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ، فَيَقْذِفُهَا فِي أُذِنِ وَلِيِّهِ، فَيُزِيدُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كِذْبَةٍ» . قَالَ الشَّيْخُ: إِنَّمَا يَدْخُلُ الشَّبَهُ عَلَى النَّاسِ فِي أَمْرِ الْمُنَجِّمِينَ مِنْ قَبِيلِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْمُنَجِّمَ يُصِيبُ فِي مَسْأَلَةٍ تَقْعُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، كَالْجَنِينِ الَّذِي لا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، أَوِ الْمَرِيضِ الَّذِي لا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَصِحَّ أَوْ يَمُوتَ، وَالْغَائِبِ الَّذِي لا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَانٍ أَوْ يَؤُوبَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وَمِنْ شَأْنِ النَّاسِ أَنْ يَحْفَظُوا الصَّوَابَ لِلْعُجْبِ بِهِ وَالشَّغَفِ، وَيَتَنَاسَوْنَ الْخَطَأَ، لأَنَّهُ الأَصْلُ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ، وَالأَمْرُ الَّذِي لا يُنْكِرُونَهُ، وَمَنْ ذَا الَّذِي يَتَحَدَّثُ بِأَنَّهُ سَأَلَ الْمُنَجِّمَ فَأَخْطَأَ؟ ! وَإِنَّمَا التَّحَدُّثُ بِأَنَّهُ سَأَلَهُ فَأَصَابَ. وَالصَّوَابُ فِي الْمَسْأَلَةِ إِذَا كَانَتْ بَيْنَ أَمْرَينِ قَدْ يَقَعُ أَحْيَانًا لِلْمَعْتُوهِ وَالطِّفْلِ، فَضْلا عَنِ المُتَلَطِّفِ الرَّفِيقِ، وَالْقَوْلُ فِي إِصَابَةِ الْمُنَجِّمِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ فِي الطَّيْرَةِ: تَعَلَّمْ أَنَّهُ لا طَيْرَ إِلا ... عَلَى مُتَطَيِّرٍ وَهِيَ الثُّبُورُ بَلْ شَيْءٌ يُوَافِقُ بَعْضَ شَيْءٍ ... أَحَايِينًا وَبَاطِلُهُ كَثِيرُ وَإِنْ وُجِدَ لِمَنْ يَدَّعِي الأَحْكَامَ إِصَابَةٌ فِي شَيْءٍ، فَخَطَؤُهُ أَضْعَافُهُ، وَلا تَبْلُغُ إِصَابَتُهُ عُشْرَ مِعْشَارِهِ، وَتَكُونُ الإِصَابَةُ اتِّفَاقًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 كَمَا يَظُنُّ الظَّانُّ الْمُنَافِي لِلْعِلْمِ الْمُقَارِنِ لِلْجَهْلِ الشَّيْءَ فَيَكُونُ عَلَى ظَنِّهِ، وَيُخْطِئُ فِيمَا هُوَ مَعْلُومٌ أَكْثَرَ عُمُرِهِ، وَلا يُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ إِصَابَةٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، وَيُرْجَعُ إِلَيْهَا، بَلْ إِذَا تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الإِصَابَةُ فِي قَوْلِهِ، وَكَثُرَ الصِّدْقُ فِي لَفْظِهِ وَالصِّحَّةُ فِي حُكْمِهِ، وَلَمْ يُخْرَمْ مِنْهُ إِلا الأَقَلُّ حِينَئِذٍ سَلِمَتْ لَهُ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ، وَشُهِدَ لَهُ بِهَذِهِ الْمُعْجِزَةِ، وَلا فَرْقَ بَيْنَ الْمُنَجِّمِ وَالْكَاهِنِ إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الإِخْبَارَ بِالْغُيُوبِ، وَكَيْفَ يُسَلَّمُ لِلْمُنَجِّمِينَ مَا يَدَّعُونَهُ وَأَحَدُهُمْ عَلَى التَّحْقِيقِ مَا يَعْرِفُ مَا حَدَثَ فِي مَنْزِلِهِ وَلا مَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، بَلْ لا يَعْرِفُ مَا يُصْلِحُهُ فِي نَفْسِهِ، وَيُؤْثِرُ عَنْهُ أَنْ يُخْبِرَ بِالْغَيْبِ الَّذِي لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ أَحَدًا، وَلَمْ يَسْتَوْدِعْهُ بَشَرًا إِلا لِرَسُولٍ يَرْتَضِيهُ أَوْ نَبِيٍّ يَصْطَفِيهُ. وَأَخْرَجَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِنِسَاءٍ مِنَ الأَنْصَارِ فِي عُرْسٍ وَهُنَّ يُغَنِّينَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وَأَهْدَى لَهَا كَبْشًا تَنَحْنَحَ فِي الْمِرْبَدِ ... وَزَوْجُكِ فِي النَّادِي وَيَعْلَمُ مَا فِي غَدِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلا اللَّهُ تَعَالَى» . وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلا اللَّهُ: لا يَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ إِلا اللَّهُ، وَلا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلا يَعْلَمُ مَا غَدٍ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ أَحَدٌ إِلا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ". قَالَ: وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِمِثْلِ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْحَدِيثُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الْغَيْثَ} [لقمان: 34] ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمَ هَذِهِ الأَشْيَاءِ وَفِي خَلْقِهِ مَنْ يَعْلَمُهَا كَعِلْمِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي خَلْقِهِ مَنْ يَعْلَمُهَا كَعِلْمِهِ مَا كَانَ لِوَصْفِهِ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ بِهَا مَوْقِعٌ يَخْتَصُّ بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، لِمُشَارَكَةِ خَلْقِهِ فِيهَا، وَلا إِفَادَةَ لِلْمُتَصَفِّحِ قَرَاءَتَهَا، وَإِذَا اشْتَرَكَ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ فِي شَيْءٍ، فَكَيْفَ يَتَبَيَّنُ الْقَادِرُ مِنْهُمَا وَالْعَاجِزُ فِيهِمَا عَلَى أَوْضَاعِ الْمُنَجِّمِينَ وَهُمْ قَدْ شَارَكُوا رَبَّ الْعَالَمِينَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي عِلْمِ هَذِهِ الأُمُورِ؟ لأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُخْبِرُ أَنَّ طُوفَانَ نَارٍ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ يَحُدُّهُ يَأْتِي عَلَى الْخَلْقِ يَنْتَثِرُ لَهُ الْكَوَاكِبُ، فَالْمُظْهِرُ لِلتَّمَسُّكِ بِالشَّرْعِ مِنْهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ الْقِيَامَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَتَكَلَّمُونَ أَيْضًا فِي الْغَيْثِ وَفِي تَحَاوِيلِ السِّنِينَ، وَيَحْكُمُونَ عَلَى الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ طَالِعٍ يُؤْخَذُ لِلْوَقْتِ أَوْ كَانَ أُخِذَ لِسُقُوطِ النُّطْفَةِ، فَيَقُولُونَ ذَكَرٌ هُوَ أَوْ أُنْثَى، وَمَتَى تُلْقِيهِ أُمُّهُ، وَيَتَحَقَّقُونَ بِحُكْمِهِمْ مُدَّةَ عُمُرِهِ وَمَا يَكُونُ حِرْفَتُهُ، وَأَيُّ شَيْءٍ يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ كَسْبِهِ، وَأَيْنَ يَكُونُ مَنِيَّتُهُ. وَلَوْ صَحَّ أَنَّ أَقْوَالَ الْمُنَجِّمِينَ فِي الْقَطْعِ عَلَى الآجَالِ صَحِيحَةٌ غَيْرُ سَقِيمَةٍ، وَفِي الأَرْزَاقِ وَالاكْتِسَابِ صَادِقَةٌ غَيْرُ كَاذِبَةٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 لاحْتَرَسَ الْعِبَادُ مِنْ مَالِكِهِمْ، وَجَازَتْ عَلَيْهِ حِيَلُهُمْ، وَأَفْسَدَ إِرَادَتَهُ مَكْرُهُمْ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ فِي ذَلِكَ، فَأَخْرَجَهُ الشَّيْخُ بِسَنَدِهِ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَحْكَامَ النُّجُومِ لا يَصْلُحُ تَعَاطِي عِلْمِهَا لِذِي عَقْلٍ وَلا دِينٍ، لأَنَّهُ لا سَبِيلَ إِلَى اتِّصَالِ الصَّوَابِ فِيهَا، وَالَّذِي يُشْبِهُ الصَّوَابَ فَإِنَّمَا يَتَهَيَّأُ بِالاتِّفَاقِ، وَكَيْفَ الْعَاقِلُ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ يُكَذَبَ مَرَّةً، وَيُصْدَقَ أُخْرَى؟ وَإِنَّمَا عُمُرُ الإِنْسَانِ كَالْبِضَاعَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَلا يُنْفِقَهَا إِلا فِي عِلْمٍ يَزْدَادُ بِالإِنْفَاقِ، فَبُعْدًا مِنْ بَاطِلٍ، وَقُرْبًا مِنْ حَقٍّ، وَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ لا يُخْطِئَ النَّاظِرُ فِي أَحْكَامِ النُّجُومِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ تَنْغِيصٌ لِلْعَيْشِ، وَتَكْدِيرٌ لِصَفْوِهِ، وَتَضْيِيقٌ لِمُنْفَسَحِ الآمَالِ الَّتِي بِهَا قَرَّتِ الأَنْفُسُ، وَعُمِرَتِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَفِ مَا يُرْجَى مِنَ الْخَيْرِ مَا يُتَوَقَّعُ مِنَ الشَّرِّ، لأَنَّ بَعْضًا لَوْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمُوتُ إِلَى سَنَةٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْءٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 يَكْتَسِبُهُ مِنْ دُنْيَاهُ، وَلا صِحَّةٍ يَمْتَنِعُ بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا لا يُشْبِهُ تَفَضُّلَ اللَّهِ، وَإِحْسَانَهُ، وَرَأْفَتَهُ بِخَلْقِهِ، وَلَوْ أَنَّ النَّاظِرَ فِيهَا عَلِمَ أَنَّهُ لا يَمُوتُ مِائَةَ سَنَةٍ، وَأَنَّهُ يَمْلِكُ فِيهَا مَا مَلَكَ قَارُونُ، وَيَكُونُ عَلَى غَايَةِ الصِّحَّةِ، لَبَطَرَ، وَمَا انْتَهَى عَنْ لَذَّةٍ وَلا فَاحِشَةٍ، وَلا تَوَرَّعَ عَنْ مُحَرَّمٍ، وَلا اتَّقَى حَتْفًا هَاجِمًا، وَلا زَوَالا مِنْ نِعْمَةٍ، اتِّكَالا عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ عُمُرِهِ وَحَالِهِ، وَلَفَسَدَتِ الدُّنْيَا بِذَلِكَ، فَسَادُهَا بِإِهْمَالِ النَّاسِ، لَوْ تَرَكُوا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَلأَكَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَعَلَّ أَحَدَهُمْ أَنْ يُؤَخِّرَ التَّوْبَةَ إِلَى يَوْمٍ أَوْ سَاعَةٍ أَوْ سَنَةٍ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَيَتَحَاذَقَ عَلَى رَبِّهِ، وَيْدُخَلَ الْجَنَّةَ بِتَوْبَتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا فِي حِكْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَوَابِ تَدْبِيرِهِ، فَلا شَكَّ أَنَّ الْخَيْرَ فِيمَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَنَا مِنْ طَيِّ عِلْمِ ذَلِكَ عَنَّا، وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى جَمِيلِ صُنْعِهِ وَلَطِيفِ إِحْسَانِهِ» . وَأَخْرَجَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: " هَلْ لِعِلْمِ النُّجُومِ أَصْلٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، يُقَالُ لَهُ: يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ: إِنَّا لا نُؤْمِنُ لَكَ حَتَّى تُعِلِّمَنَا بِدُوَّ الْخَلْقِ وَآجَالَهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى غَمَامَةٍ، فَأَمْطَرَتْهُمْ، وَاسْتَنْقَعَ عَلَى الْجَبَلِ مَاءٌ صَافٍ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وَالنُّجُومِ أَنْ تَجْرِيَ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ أَنْ يَرْتَقِيَ هُوَ وَقَوْمُهُ عَلَى الْجَبَلِ، فَارْتَقَوُا الْجَبَلَ، فَقَامُوا عَلَى الْمَاءِ حَتَّى عَرَفُوا بُدُوَّ الْخَلْقِ وَآجَالَهُ بِمَجَارِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَسَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَعْلَمُ مَتَى يَمُوتُ وَمَتَى يَمْرَضُ، وَمَنْ ذَا الَّذِي يُولَدُ لَهُ، وَمَنْ ذَا الَّذِي لا يُولَدُ لَهُ، قَالَ: فَبَقُوا كَذَلِكَ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ قَاتَلَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، فَأَخْرَجُوا إِلَى دَاوُدَ فِي الْقِتَالِ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ، وَمَنْ حَضَرَ أَجَلُهُ خَلَّفُوهُ فِي بُيُوتِهِمْ، فَكَانَ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ دَاوُدَ، وَلا يُقْتَلُ مِنْ هَؤُلاءِ أَحَدٌ، فَقَالَ دَاوُدُ: يَا رَبِّ، أُقَاتِلُ عَلَى طَاعَتِكَ، وَيُقَاتِلُ هَؤُلاءِ عَلَى مَعْصِيَتِكَ، فَيُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِي، وَلا يُقْتَلُ مِنْ هَؤُلاءِ أَحَدٌ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنِّي كُنْتُ عَلَّمْتُهُمْ بُدُوَّ الْخَلْقِ وَآجَالَهُ، وَإِنَّمَا أَخْرَجُوا إِلَيْكَ مَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ أَجَلُهُ، وَمَنْ حَضَرَ أَجَلُهُ خَلَّفُوهُ فِي بُيُوتِهِمْ، فَمِنْ ثُمَّ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِكَ، وَلا يُقْتَلُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. قَالَ دَاوُدُ: يَا رَبِّ، عَلَى مَاذَا عَلَّمْتَهُمْ؟ قَالَ: عَلَى مَجَارِي الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالنُّجُومِ، وَسَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. قَالَ: فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَحُبِسَتِ الشَّمْسُ عَلَيْهِمْ، فَزَادَ فِي النَّهَارِ، فَاخْتَلَطَتِ الزِّيَادَةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَلَمْ يَعْرِفُوا قَدْرَ الزِّيَادَةِ، فَاخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ حِسَابُهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 قَالَ عَلِيٌ: فَمِنْ ثُمَّ كُرِهَ النَّظَرُ فِي النُّجُومِ ". قَالَ الشَّيْخُ: فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ وَاحِدٍ مَجْهُولٍ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ عِلْمِ الْقَوْمِ بِأَوْقَاتِ آجَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَحَبْسُ اللَّهِ تَعَالَى الشَّمْسَ عَلَى دَاوُدَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لأَنَّ فِي رُوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تُحْبَسْ عَلَى أَحَدٍ، إِلا عَلَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ لَيَالِيَ سَارَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ» . وَأَمَّا بِطُولِ عِلْمِ النُّجُومِ الْمُتَعَلِّقِ بِالأَحْكَامِ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَمِمَّا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: «لَمَّا تَجَهَّزَ الْمُعْتَصِمُ لِغَزْوِ عَمُّورِيَّةَ حَكَمَ الْمُنَجِّمُونَ عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنَّهُ لا يَرْجِعُ مِنْ غَزْوِهِ، فَإِنْ رَجَعَ كَانَ مَعْلُولا خَائِبًا، لأَنَّهُ خَرَجَ فِي وَقْتِ نَحْسٍ، فَكَانَ مِنْ فَتْحِهِ الْعَظِيمِ وَظَفَرِهِ مَا لَمْ يَخْفَ» . حَتَّى وَصَفَ ذَلِكَ أَبُو تَمَّامٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الطَّائِيُّ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي أَوَّلُهَا: " السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الْكُتُبِ فَقَالَ: وَالْعِلْمُ فِي شُهُبِ الأَرْمَاحِ لامِعَةٌ ... بَيْنَ الْخَمِيسَيْنِ لا فِي السَبْعَةِ الشُّهُبِ أَيْنَ الرُّوَايَةُ أَمْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَا ... صَاغُوهُ مِنْ زُخْرُفٍ فِيهَا وَمِنْ كَذِبِ تَخَرُّصًا وَأَحَادِيثًا مُلَفَّقَةً ... لَيْسَتْ بِنَبْعٍ إِذَا عُدَّتْ وَلا غُرُبِ عَجَائِبًا زَعَمُوا الأَيَّامَ مُجْفِلَةً ... عَنْهُنَّ فِي صَفَرِ الأَصْفَارِ أَوْ رَجَبِ وَخَوَّفُوا النَّاسَ مِنْ دَهْيَاءَ مُظْلِمَةٍ ... إِذَا بَدَا الْكَوْكَبُ الْغَرْبِيُّ ذُو الذَّنَبِ وَصَيَّرُوا الأَبْرَاجَ الْعُلْيَا مَرْتَبَةً مَا كَانَ مُنْقَلِبًا أَوْ غَيْرَ مُنْقَلِبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 يَقْضُونَ بِالأَمْرِ عَنْهَا وَهِيَ غَافِلَةٌ ... مَا دَارَ فِي فَلَكٍ مِنْهَا وَفِي قُطُبِ لَوْ بَيَّنَتْ قَطُّ أَمْرًا قَبْلَ مَوْقِعِهِ ... لَمْ يَخْفَ مَا حَلَّ بِالأَوْثَانِ وَالصُّلُبِ ". وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي الطَّيِّبِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكَاتِبِ لِمُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ الضَّبِّيِّ: « إِنَّ النُّجُومَ الَّتِي تَسْرِي بِهَا الْعَرَبُ ... زُرْقُ الأَسِنَّةِ وَالْهِنْدِيَّةُ الْقُضُبُ الْبِيضُ وَالسُّمْرُ أَمْضَى فِي مَطَالِعِهَا ... مِنَ النُّجُومِ وَأَسْدُ الْحَرْبِ تُجْتَنَبُ لأَنَّهَا أَنْجُمٌ شُهْبٌ إِذَا نَجَمَتْ ... ضَلَّتْ هُنَاكَ لَدَيْهَا الأَنْجُمُ الشُّهُبُ كَفَاكَ بِالسَّيْفِ نَجْمًا لَيْسَ يُسْعِدُهُ ... رَأْسٌ فَيُنْجِيَهُ فِي حَالَةٍ ذَنَبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 مَا لِلْكَوَاكِبِ مِنْ صُنْعٍ وَمِنْ عَمَلٍ ... إِلا التَّخَرُّصُ مِنْ قَوْمٍ بِهَا اكْتَسَبُوا إِنَّ النُّجُومَ غُفُولٌ فِي أَمَاكِنِهَا ... عَمَّا تَدُورُ بِهِ الأَيَّامُ وَالْحُقَبُ فَكَيْفَ تُحَدِّثُ فِيمَا بَيْنَنَا عُقُبًا ... مِنَ الزَّمَانِ وَفِيمَا بَيْنَهَا عُقُبُ أَمْ كَيْفَ يَقْضِي عَلَى مَا لا نُشَاهِدُهُ ... مِنْهَا وَمَا هِيَ عَنْهُ نُزَّحٌ غُيُبُ مَا فِي النُّجُومِ لِذِي لُبٍّ وَمَعْرِفَةٍ ... مُمَيَّزٌ وَطَرٌ يَوْمًا وَلا إِرَبُ لَوْ أنَّهَا فَعَلَتْ شَيْئًا إِذَا رَفَعَتْ ... عَنْهَا الْمَنَاحِسُ إِذْ ذَاكَ الَّذِي يَجِبُ فَالْبَعْضُ يَكْسِفُ مِنْهَا الْبَعْضَ مُعْتَرِضًا ... فَآفِلٌ مَرَّةً عَنْهَا وَمُنْقَلِبُ حَصِّلْ عَلَى الْمُدَّعِي عِلْمًا بِغَامِضِهَا ... فَإِنَّ مَحْصُولَهُ التَّمْوِيهُ وَالْكَذِبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا مَاذَا يَحِلُّ بِهِ ... لَمْ يَدْرِ مِنْ غَيْرِهِ مَا بَعْدُ يَكْتَسِبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 إِنَّ الَّذِي ابْتَدَعَ الأَشْيَاءَ دَبَّرَهَا ... فِي الْخَلْقِ لا فَلَكٌ يَدْرِي وَلا قُطْبُ» . وَأَخْرَجَ عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ قَيْصَرَ، سَأَلَ قُسَّ بْنَ سَاعِدَةَ، قَالَ: " أَخْبِرْنِي هَلْ نَظَرْتَ فِي النُّجُومِ؟ قَالَ: نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ، نَظَرْتُ فِيمَا يُرَادُ بِهِ الْهِدَايَةُ، وَلَمْ أَنْظُرْ فِيمَا يُرَادُ بِهِ الْكِهَانَةُ، وَقَدْ قُلْتُ فِي النُّجُومِ أَبْيَاتًا مِنَ الشِّعْرِ، فَأَنْشَأَ: عِلْمُ النُّجُومِ عَلَى الْعُقُولِ وَبَالُ ... وَطِلابُ شَيْءٍ لا يُنَالُ ضَلالُ مَاذَا طِلابُكَ عِلْمَ شَيْءٍ غُيِّبَتْ ... مِنْ دُونِهِ الْخَضْرَاءُ لَيْسَ يُنَالُ هَيْهَاتَ مَا أَحَدٌ بِغَامِضِ فِطْنَةٍ ... يَدْرِي كَمِ الأَرْزَاقُ وَالآجَالُ إِلا الَّذِي مِنْ فَوقِ عَرْشٍ رَبُّنَا ... لِوَجْهِهِ الإِكْرَامُ وَالإِجْلالُ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَارِيِّ أَنَّهُ أَنْشَدَ: " أَيُّهَا الْمُعْتَزِي إِلَى التَّنْجِيمِ ... تُهْتَ فِي غَمْرَةِ الْجَهُولِ الأَثِيمِ أَتَعْلَمُ النُّجُومُ تَحْكُمُ فِي الْغَيْبِ ... بِحُكْمٍ يَرُدُّ حُكْمَ الْحَكِيمِ كَيْفَ تَدْرِي النُّجُومُ أَمْ كَيْفَ تُنْبِي ... بِقَضَاءٍ مُغَيَّبٍ مَكْتُومِ وَهِيَ لا تَعْلَمُ النُّحُوسَ إِذَا مَا ... أَدْرَكَتْهَا مِنْ أَيِّمَا إِقْلِيمِ لا وَمَنْ ظِلْتُ أَرْتَجِي مِنْهُ عَفْوًا ... عَنْ ذُنُوبِي وَفُرْجَةِ الْهُمُومِ مَا عَلَى الأَرْضِ مَنْ يُطِيقُ مِنَ الْخَلْقِ ... دِفَاعَ الْمُكَوَّنِ الْمَحْتُومِ فَكِلِ الأَمْرَ إِنْ عَقِلْتَ إِلَى اللَّهِ ... وَلا تَغْتَرِرْ بِلَبْسِ النُّجُومِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: أَنْبَأَ أَبُو عِمَارَةَ التِّنِّيسِيُّ، قَالَ: أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: ذَكَرَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْكِنْدِيُّ فِي كِتَابِ الأَدْوَارِ مَا أَقَامَ بِهِ لِلْمُنَجِّمِينَ عُذْرًا لأَغْلاطِهِمْ، فَحَطَّ بِذَلِكَ مِنْ أَقْدَارِهِم ْ: " أَنَّ عُلَمَاءَ الْهِنْدِ كَانُوا أَحْذَقَ النَّاسِ بِهَذَا الْعِلْمِ، وَأَصْدَقَهُمْ فِي الْحُكْمِ، وَأَنَّهُ نَشَأَ فِيهِمْ أَوْلادُهُمْ، فَأَحَبُّوا إِفَادَتَهُمْ عِلْمَهُمْ، فَوَاظَبُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ طُولُ الْمُوَاظَبَةِ مِنَ الْعِلْمِ لِغُمُوضِهِ إِلا بُعْدًا، وَمِنْ فَهْمٍ إِلا جَهْلا وَصَدًّا، فَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنْ يَخْتَصِرُوا مِنْ عِلْمِهِمْ جُزْءًا يُلْقُونَهُ إِلَيْهِمْ لِيَقْرُبَ فِهْمُهُ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَصَرُوهُ، وَصَنَّفُوهُ كِتَابَيْنِ: الأَرجهير، وَتَفْسِيرُهُ جُزْءٌ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ عِلْمِهِمْ، وَالْمِجَسْطِيَّ، وَأَلْقَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِمْ فَقَبِلَتْهُ أَفْهَامُهُمْ، وَقَوِيَتْ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 تَعَلُّمِهِ طِبَاعُهُمْ، وَهَلَكَ الْمُخْتَصِرُونَ، وَأَسَنَّ الْمُتَعَلِّمُونَ، وَنَشَأَ فِيهِمْ شَبَابٌ وَغِلْمَانٌ أَحَبُّوا لَهُمْ مِثْلَ مَا أَحَبَّ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، فَجَذَبُوهُمْ إِلَى التَّعْلِيمِ، فَاسْتَغْلَقَ بَابُهُ عَلَيْهِمْ، وَدَقَّ مَا كَانَ اخْتُصِرَ عَلَى عُقُولِهِمْ، فَلَمْ يَفْهَمُوهُ، وَلا تَعَلَّمُوهُ، فَقَالَ الْمُسِنُّونَ: قَدْ عَرَضَ لِهَؤُلاءِ مِنْ قِلَّةِ الْفَهْمِ مَا يُخَافُ مَعَهُ دُثُورُ هَذَا الْعِلْمِ، وَقَدْ كَانَ عُلَمَاؤُنَا اخْتَصَرُوا لَنَا مِنْ عِلْمِهِمْ مَا قَدْ صَعُبَ الْيَوْمَ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَصِرُوا لِهَؤُلاءِ أَيْضًا مِثْلَ مَا اخْتُصِرَ لَنَا، فَاخْتَصَرُوا مِنَ الأرجهير جُزْءًا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ، وَصَنَّفُوهُ كِتَابًا يُدْعَى الأَرْكَنْدُ وَتَفْسِيرُهُ: الْمُسَهَّلُ، وَأَلْقَوْهُ عَلَيْهِمْ، فَقَبِلُوهُ، وَتَعَلَّمُوهُ، وَأَحَاطَتْ بِهِ أَفْهَامُهُمْ، وَأَدْرَكَتْهُ أَذْهَانُهُمْ، ثُمَّ اخْتُصِرَ مِنَ الْمِجَسْطِيِّ وَمِنْ هَذِينِ الْكِتَابَيْنِ أَعْنِي الأَرْكَنْدَ، اخْتُصِرَتِ الزِّيجَاتُ الَّتِي بِأَيْدِيهِمُ الْيَوْمَ ". قَالَ يَعْقُوبُ: فَمَا ظَنُّكَ بِعِلْمٍ اخْتُصِرَ مِنْهُ جُزْءٌ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ، وَمِنْ جُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مَا يَبْقَى مِنَ الإِصَابَةِ فِيهِ؟ ! قَالَ الشَّيْخُ: فَأَوْرَدَ هَذَا كَمَا تَرَى لِلاعْتِذَارِ مِنْ بُعْدِ إِصَابَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الْمُنَجِّمِينَ، وَكَثْرَةِ أَغْلاطِهِمِ وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ مَا نَعْلَمُ أَلَهَا صِحَّةٌ أَمْ لا؟ وَإِلا اشْتَبَهَ بِطُولِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ بِأَنَّ الزِّيجَاتِ قَدِ اخْتُصِرَتْ مِنْ مُخْتَصَرِ الْمُخْتَصَرِ، وَإِنَّ اخْتِصَارَهَا مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءٍ كَثِيرَةٍ، مَا أُنْكِرَ قَوْلُهُ، لِمُشَابَهَتِهِ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَلَوْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ يَعْقُوبُ مِنْ ذَهَابِ مَا ذَهَبَ مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ وَاخْتِلالِهِ، لَكَانَ تَرْكُهُ وَالإِعْرَاضُ عَنْهُ أَوْلَى مِنِ اسْتِعْمَالِهِ وَأَخْرَجَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: " كَانَتْ أَرْضٌ بَيْنَ أَبِي وَبَيْنَ رَجُلٍ، فَأَرَادَ قِسْمَتَهَا، وَكَانَ الرَّجُلُ صَاحِبَ نُجُومٍ، فَنَظَرَ إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي فِيهَا السُّعُودُ، فَخَرَجَ فِيهَا، وَنَظَرَ إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي فِيهَا النُّحُوسُ، فَبَعَثَ إِلَى أَبِي، فَلَمَّا اقْتَسَمَا الأَرْضَ، خَرَجَ خَيْرُ السَّهْمَيْنِ لأَبِي، فَجَعَلَ صَاحِبُ النُّجُومِ يَتَعَجَّبُ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: مَا لَكَ؟ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: فَهَلا أَدُلُّكَ عَلَى خَيْرٍ مِمَّا صَنَعْتَ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 إِذَا أَصْبَحْتَ، فَتَصَدَّقْ بِصَدَقَةٍ، يَذْهَبْ عَنْكَ نَحْسُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ، فَتَصَدَّقْ بِصَدَقَةٍ، يَذْهَبْ عَنْكَ نَحْسُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ ". وَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ الْحَكَمِ بْنِ سَلامٍ الْمِصْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ، يَقُولُ: رَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْبَرَارِي كِتَابًا، وَكَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ اللِّسَانَ، فَدَبَّرْتُهُ فَإِذَا فِيهِ: يُدَبِّرُ بِالنُّجُومِ وَلَيْسَ يَدْرِي ... وَرَبُّ الْعَرْشِ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ وَأَخْرَجَ عَنِ الأَصْمَعِيِّ، قَالَ: قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 أَحْمَدَ: " بَلِّغَا عَنِّي الْمُنَجِّمَ أَنِّي ... كَافِرٌ بِالَّذِي قَضَتْهُ الْكَوَاكِبْ مُؤْمِنٌ أَنَّ مَا يَكُونُ وَمَا كَانَ ... قَضَاءٌ مِنَ الْمُهَيْمِنِ وَاجِبْ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا لِلْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ: أَبْلِغَا عَنِّي الْمُنَجِّمَ أَنِّي كَافِرٌ ... بِالَّذِي قَضَتْهُ الْكَوَاكِبْ عَالِمٌ أَنَّ مَا يَكُونُ وَمَا كَانَ ... قَضَاءٌ مِنَ الْمُهَيْمِنِ وَاجِبْ مُوقِنٌ أَنَّ مَنْ تَكَهَّنَ أَوْ نَجَّمَ ... كُلُّ عَلَى الْمَقَادِيرِ كَاذِبْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الأَنْبَارِيُّ: الْبَيْتُ الثَّالِثُ أَنْشَدَنِيهِ أَبِي بِغَيْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 هَذَا الإِسْنَادِ وَأَخْرَجَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو خَلِيفَةَ، قَالَ: وَقَفَ بَعْضُ الْمُنَجِّمِينَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الأَصَمِّ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ أَغْدُو عَلَى الاسْتِخَارَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنْتَ تَغْدُو عَلَى الطَّالِعِ، وَأَصْبَحْتُ أَرْجُو اللَّهَ، وَأَنْتَ تَرْجُو الْمُشْتَرِيَ، وَأَصْبَحْتُ أَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْتَ تَخَافُ زُحَلَ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: قِيلَ لأَبِي مُحَمَّدٍ الْبَافِيِّ " إِنَّ مُنَجِّمًا لَقِيَ رَجُلا مُسْلِمًا، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَقَالَ: أَصْبَحْتُ أَرْجُو اللَّهَ، وَأَخَافُهُ، وَأَصْبَحْتَ أَنْتَ تَرْجُو الْمُشْتَرِيَ، وَتَخَافُ زُحَلَ، فَنَظَمَهُ الْبَافِيُّ شِعْرًا، وَأَنْشَدَنَاهُ: أَصْبَحْتُ لا أَرْجُو وَلا أَخْشَى سِوَى الْجَبَّارِ ... فِي الدُّنْيَا وَيَوْمِ الْمَحْشَرِ وَأَرَاكَ تَخْشَى مَا يُقَدَّرُ أَنَّهُ ... يَأْتِي بِهِ زُحَلٌ وَتَرْجُو الْمُشْتَرِي شَتَّانَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ فَالْتَزِمْ ... طُرْقَ النَّجَاةِ وَخَلِّ طُرْقَ الْمُنْكَرِ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وَأَخْرَجَ عَنِ الْبَافِيِّ لَهُ: وَكُنْتُ إِنْ بَكَّرْتُ فِي حَاجَةٍ ... أُطَالِعُ التَّقْوِيمَ وَالزِّيجَا فَأَصْبَحَ الزِّيجُ كَتَصْحِيفِهِ ... وَأَصْبَحَ التَّقْوِيمُ تَعْوِيجَا وَأَخْرَجَ عَنْ مَنْصُورٍ الْفَقِيهِ لَهُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 مَنْ كَانَ يَخْشَى زُحَلا ... أَوْ كَانَ يَرْجُو الْمُشْتَرِي فَإِنَّنِي مِنْهُ وَإِنْ ... كَانَ أَبِي الأَدْنَى بَرِي وَأَخْرَجَ عَنْ مَنْصُورٍ الْفَقِيهِ أَيْضًا لَهُ: إِذَا كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ النُّجُومَ ... تَضُرُّ وَتَنْفَعُ مَنْ تَحْتَهَا فَلا تُنْكِرَنْ عَلَى مَنْ يَقُولُ ... بِأَنَّكَ بِاللَّهِ أَشْرَكْتَهَا وَلِمَنْصُورٍ أَيْضًا فِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُ بِغَيْرِ هَذَا الإِسْنَادِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 لَيْسَ لِلنَّجْمِ إِلَى ضُرٍّم ... وَلا نَفْعٍ سَبِيلْ إِنَّمَا النَّجْمُ عَلَى الأَوْقَاتِ ... وَالشَّمْسِ دَلِيلْ أَنْشَدَنِي أَبُو النَّجِيبِ عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الأُرْمَوِيُّ، قَالَ: أَنْشَدَنِي مَعْرُوفُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُذَكَّرُ لابْنِ عَبَّادٍ الصَّاحِبِ: «خَوَّفَنِي مُنَجِّمٌ أَخُو خَبَلْ تَرَاجُعَ الْمِرِّيخِ فِي بُرْجِ الْحَمَلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 فَقُلْتُ دَعْنِي مِنْ أَبَاطِيلِ الْحِيَلْ الْمُشْتَرِي عِنْدِي سَوَاءٌ وَزُحَلْ أَدْفَعُهُ بِخَالِقِي عَزَّ وَجَلُّ» حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، أنا أَبُو عِمَارَةَ التِّنِّيسِيُّ، أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: أُنْشِدْتُ لِبَعْضِهِمْ: « إِذَا مَا أَرَادَ اللَّهُ تَضْيِيعَ قِطْعَةٍ ... عَلَى جَاهِلٍ صَارَتْ بِكَفِّ مُنَجِّمِ وَإِلا فَمَا يُغْنِي الْمُنَجِّمَ زِيجُهُ ... وَتَقْوِيمُهُ عَنْ حَدِّ وَلِيٍّ مُقْوِمِ لَعَمْرُكَ مَا يُبْرِيكَ مِنْ دَاءِ عِلَّةٍ ... طَبِيبٌ بِهِ دَاءٌ كَذَلِكَ فَافْهَمِ وَلَكِنَّ تَعْلِيلَ النُّفُوسِ تَوَهُّمٌ ... وَلَيْسَ يَشِينُ الْمَرْءَ مِثْلُ التَّوَهُّمِ رَأَيْتُ الْبَلايَا وَالْمَنَايَا خَفِيَّةً ... إِذَا خَفِيَ الشَّيْءُ الْخَفِيُّ فَسَلِّمِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَنْشَدَنِي لِلْبَيْنِيِّ: بَاكَرَنِي عَنْ نُجُومٍ يَسْأَلُ ... يَنْتَظِرُ السَّعْدَ حِينَ يَتَّصِلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي بَرِيَّتِهِ ... لا ينفع المشتري وَلا زُحَلْ سَأَجْعَلُ الْيَأْسَ مِنْهُمَا أَمَلِي ... وَالْيَأْسُ مِنْ مِثْلِ ذَا الْوَرَى أَمَلْ مُتَّكِلا فِي الَّذِي أَرُومُ عَلَى ... مَنْ كُلُّ خَلْقٍ عَلَيْهِ يَتَّكِلْ " أَنْشَدَنِي أَبُو النَّجِيبِ الأُرْمَوِيُّ، قَالَ: أَنْشَدَنِي أَبُو النَّصْرِ البَّارِقِيُّ، بِسَهْرَوَرْدَ، لأَبِي فِرَاسِ بْنِ حَمْدَانَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 «يَا مُعْجَبًا بِنُجُومِهِ ... لا النَّحْسُ مِنْكَ وَلا السَّعَادَةْ اللَّهُ ينقص ما يشاء ... ومنه إتمام الزيادة دع ما تريد لما يريد ... فإن لله الإرادة» أنشدنا أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفيروز أبادي الفقيه لنفسه حكيم يرى أَنَّ النُّجُومَ حَقِيقَةٌ ... وَيَذْهَبُ فِي أَحْكَامِهَا كُلَّ مَذْهَبِ يُخَبِّرُ عَنْ أَفْلاكِهَا وَبُرُوجِهَا ... وَمَا عِنْدَهُ عِلْمٌ بِمَا فِي الْمُغَيَّبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وَأَخْرَجَ عَنْ فَضْلِ بْنِ مَرْوَانَ يَقُولُ: " عِلْمَانِ نَظَرْتُ فِيهِمَا، أَمْعَنْتُ النَّظَرَ، فَلَمْ أَرَهُمَا يَصِحَّانِ: النُّجُومُ، وَالسِّحْرُ ". وَهَذَا كَلامٌ لِبَعْضِ الْمُتقَدِّمِينَ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْمُنَجِّمِينَ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: يُقَالُ لِلْمُنَجِّمِ: أَخْبِرْنِي عَمَّا ادَّعَيْتَهُ مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ، وَكَثْرَةِ شَوَاهِدِهِ وَبَرَاهِينِهِ، لَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ خَالَفَكَ فِيهِ مُخَالِفُونَ؟ وَطَعَنَ عَلَيْكَ طَاعِنُونَ؟ فَأَقَلُّهُمْ عَلَيْكَ اعْتِرَاضًا، وَأَسْهَلُهُمْ فِيكَ أَمْرًا: مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ قِيَاسَكَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، وَنَظَرَكَ نَظَرٌ مَدْخُولٌ، وَأَنَّكَ لا تَرْجِعُ مِنْ ذَلِكَ إِلا إِلَى ظَنٍّ وَحِسْبَانٍ، وَأَكْثَرُ مَا تَقُولُهُ مِنْهُ، فَإِنَّمَا تَقُولُهُ بِالْحَدْسِ وَالتَّبْخِيتِ، وَأَنَّكَ فِي أَكْثَرِهِ كَصَاحِبِ الزَّوْجِ وَالْفَرْدِ، أَوْ كَالْمُتَخَرِّصِ الْمُدَّعِي عِلْمَ عِلْمِ الْغَيْبِ. وَيَسْتَدِلُّ قَائِلُ هَذَا بِكَثْرَةِ خَطَئِكَ فِي قَضَايَاكَ وَقَوْلِكَ لِلشَّيْءِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 إِنَّهُ يَكُونُ، وَلا يَكُونُ، وَللشَّيْءِ إِنَّهُ لا يَكُونُ، فَيَكُونُ، وَفِي تَوْقِيتِكَ لِلشَّيْءِ وَقْتًا قَرِيبًا، فَيَكُونُ بَعِيدًا، وَرُبَّمَا بَاعَدْتَهُ، فَيَكُونُ قَرِيبًا، وَيُخْبِرُ عَنْ مِقْدَارِ الشَّيْءِ الْكَائِنِ، فَيَتَضَعَّفُ أَضْعَافًا، وَرُبَّمَا يَنْقُصُ نُقْصَانًا كَثِيرًا، وَيَمْتَحِنُكَ الْمُمْتَحِنُ، فَيَقُولُ: بِمَ تَقْضِي عَلَيَّ: أَقُومُ أَمْ أَقْعُدُ، فَإِنْ قُلْتَ تَقُومُ: قَعَدْتُ، وَإِنْ قُلْتَ: تَقْعُدُ قُمْتُ. فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا لَطِيفٌ لا يَضْبِطُهُ الْحِسَابُ، وَلا يُحَصِّلُهُ الْقَضَاءُ. قَالَ لَكَ: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ أَمْرَ النُّجُومِ كُلَّهُ لَطِيفٌ لا يَضْبِطُهُ الْحِسَابُ، وَلا يُحَصِّلُهُ الْقَضَاءُ، وَلا يَصِحُّ فِيهِ، وَكَذَا إِنْ قُلْتَ: إِنَّ هَذَا لا يَكُونُ إِلا مِنْ غَلَطِ الْحَاسِبِ وَالْمُنَجِّمِ، قَالَ لَكَ خَصْمُكَ: فَلَعَلَّ أَوَّلَ هَذَا وَآخِرَهُ غَلَطٌ، وَأَنْتَ لا تَعْلَمُ. فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ الَّذِي يُؤَمِّنُنِي مِنَ الْغَلَطِ فِي الْكُلِّ، وَالَّذِي يَدُلُّنِي عَلَى أَنَّ فِيهِ الأَمْرَ الْجَلِيلَ الْمَفْهُومَ: أَنِّي قَدْ أَجِدُ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ صَحِيحًا، وَإِنِّي إِذَا تَحَفَّظْتُ فِي الْحِسَابِ وَالْحُكْمِ، أَصَبْتُ، وَلَمْ أُخْطِ، رَجَعَ خَصْمُكَ إِلَى أَنْ يَقُولَ: فَهَكَذَا أَصْحَابُ الْحَدَسِ وَالتَّبْخِيتِ وَالتَّخْلِيطِ، وَالنَّاظِرُونَ فِي الأَكْتَافِ قَدْ يُصِيبُونَ كَثِيرًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: لَوْ تَحَفَّظْتُ لَمْ أُخْطِ، وَكَذَا صَاحِبُ الزُّكَانِ قَدْ يُصِيبُ بِأَكْثَرَ مِنْ صَوَابِكَ، وَيُجِيبُ بِأَوْضَحَ مِنْ جَوَابِكَ، وَهَذَا الرَّاجِزُ يَأْتِي بِالأَمْرِ الْعَجِيبِ، وَالصَّوَابِ الْكَثِيرِ، وَيُخْبِرُ عَنِ الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ، وَعَمَّا كَانَ وَيَكُونُ فِي الأَوْقَاتِ الْيَسِيرَةِ وَالْمُدَدِ الْقَرِيبَةِ، وَلا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَخْذِكَ الارْتِفَاعَ وَتَعَرُّفِكَ الْوَقْتَ، وَإِحْصَائِكَ السَّاعَاتِ، وَإِقَامَتِكَ الطَّالِعَ وَالأَوْتَارَ، وَتَقَوُّمِكَ الْكَوَاكِبَ، وَمَعْرِفَتِكَ بِالاتِّصَالِ وَالانْصِرَافِ وَمَطَارِحِ الشُّعَاعِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، مَعَ أَشْيَاءَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِكَ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا عِنْدَ خَصْمِكَ أَكْثَرُ مِنْكَ صَوَابًا، وَأَخْصَرُ جَوَابًا، وَأَقَلُّ تَرْدَادًا وَتَوَقُّفًا، وَأَمْضَى عَزِيمَةً، وَأَنْفَذُ بَصِيرَةً، مَعَ غِنَاهُمْ عَنْ آلاتِكَ، وَكَثْرَةِ مُقَدِّمَاتِكَ، وَلَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ تُحَسِّنَ أَمْرَ نَفْسِكَ، وَتَلْتَمِسَ لَهَا الْمَعَاذِيرَ عِنْدَ خَصْمِكَ، وَإِنَّمَا الشَّأَنُ: فِي أَنْ تَصْدَعَ بِالْحُجَّةِ، وَتَأْتِيَ بِالْبَيِّنَةِ الْوَاضِحَةِ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَشْرَكُكَ فِي صِنَاعَتِكَ يَزْعُمُ أَنَّ عِلْمَ النُّجُومِ لا يَثْبَتُ فِي الْقِيَاسِ، وَلا يَصِحُّ عِنْدَ الاحْتِجَاجِ، وَأَصْلُهُ: أَوْضَاعٌ مُسْتَحْسَنَةٌ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وَأُمُورٌ اصْطِلاحِيَّةٌ، قَالَ: وَإِلا فَبِأَيِّ قِيَاسٍ أَوْجَبَ قِسْمَةَ الْبُرُوجِ الاثْنَيْ عَشَرَ عَلَى الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، وَكَيْفَ صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ الْخَمْسَةِ بَيْتَانِ بَيْتَانِ، وَلِلنَّيِّرَيْنِ بَيْتٌ بَيْتٌ، وَبِأَيَّةِ حُجَّةٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَدْيُ وَالدَّلْوُ بَيْتَيْ زُحَلَ دُونَ سَائِرِ الْبُيُوتِ الاثْنَيْ عَشَرَ، وَلِمَ صَارَ الْقَوْسُ وَالْحُوتُ بَيْتَيِ الْمُشْتَرِي دُونَ غَيْرِهِمَا؟ ! وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمِرِّيخِ وَالشَّمْسِ، وَالزُّهَرَةِ، وَعُطَارِدِ، وَالْقَمَرِ، وَمَا الَّذِي أَوْجَبَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ شُرُفُ الشَّمْسِ: الْحَمْلَ، وَهُبُوطُهَا فِي الْمِيزَانِ دُونَ أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ بِخِلافِ ذَلِكَ، وَدُونَ أَنْ يَكُونَ شُرُفُهَا: الأَسَدَ الَّذِي زَعَمْتُمْ أَنَّهُ بَيْتُهَا، وَيَكُونُ هُبُوطَهَا هُوَ الدَّلْوُ الَّذِي زَعَمْتُمْ أَنَّهُ بَيْتُ وَبَالِهَا، وَيَجْرِي الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَبُيُوتِهَا وَإِشْرَافِهَا، وَمَوَاضِعِ هُبُوطِهَا وَمُثَلَّثَاتِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قِسْتُمُوا لِهَا هَذَا الْمَجْرَى، وَلِمَ بَدَأْتُمْ بِزُحَلَ فِي الْقِسْمَةِ؟ وَلِمَ حِينَ بَدَأْتُمْ بِهِ أَعْطَيْتُمُوهُ بَيْتَيْنِ بَيْتَيْنِ دُونَ ثَلاثَةٍ، وَدُونَ وَاحِدٍ؟ ! فَإِنْ قُلْتُمْ: بَدَأْنَا بِالزُّحَلِ، لأَنَّهُ أَعْلَى فَلَكًا مِنْ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَأَوْسَعُ دَائِرَةً، وَأَثْقَلُ سَيْرًا، وَأَقْوَى أَمْرًا. قُلْنَا: وَلِمَ بَدَأْتُمْ بِهِ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَدُونَ أَنْ تَبْدَأُوا بِالشَّمْسِ الَّتِي هِيَ عِنْدَكُمْ قَيِّمَةُ الْكَوَاكِبِ، وَبِهَا يَسْتَقِيمُ، وَبِهَا تَرْجِعُ، وَتَسْتَوْلِي عَلَى النُّجُومِ، فَتُحْرِقُهَا، وَتَذْهَبُ بِقُوَاهَا، وَبِطُلُوعِهَا يَكُونُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 النَّهَارُ، وَبِمَغِيبِهَا يَأْتِي اللَّيْلُ، وَهِيَ سِرَاجُ الْعَالَمِ، وَضَوْءُهُ، وَأَحْرَى أَنُّكُمْ بَدَأْتُمْ بِهَا فِي الإِشْرَاقِ، فَهَلا بَدَأْتُمْ بِهَا فِي الْبُيُوتِ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إِنَّا نَبْدَأُ بِالشَّمْسِ فِي الْقِسْمَةِ لِهَذِهِ الأُمُورِ الَّتِي وُصِفَتْ، قِيلَ لَهُ: وَلِمَ بَدَأْتُمْ بِهَا قَبْلَ زُحَلَ، وَالزُّحَلُ عِنْدَكُمْ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا؟ ثُمَّ يُقَالُ: وَأَيُّ قِيَاسٍ أَوْجَبَ قِسْمَةَ الْحُدُودِ؟ أَعَلَى مَا قَسَّمَهَا عَلَيْهِ الْمِصْرِيُّونَ وَأَهْلُ بَابِلَ؟ أَوْ عَلَى مَا قَسَّمَهَا عَلَيْهِ بَطْلَيْمُوسُ مَعَ تَفَاوِتِ اخْتِلافِهِمَا؟ أَوَ لَيْسَ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا الْخِلافِ يَتَحَيَّرُ النَّاظِرُ فِي عُلُومِ النُّجُومِ؟ أَوْ يَيَأْسُ مِنْ إِدْرَاكِ عِلْمِهَا وَمِنْ أَنْ يَهْجِمَ مِنْهَا عَلَى حَقِيقَةٍ لاسِيَّمَا مَعَ عِظَمِ حَاجَةِ الْمُنَجِّمِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُدُودِ وَتَحْصِيلِهَا، وَقَدْ رَأَيْتُمْ أَهْلَ مِصْرَ لَمَّا قَسَّمُوا الْحُدُودَ لِلْمُشْتَرِي مِنْ أَوَّلِ الْحَمْلِ سِتَّ دَرَجَاتٍ، وَلِلزُّهَرَةِ سِتًّا، وَلِعُطَارِدَ وَالْمِرِّيخِ خَمْسًا، وَخَالَفَهُمْ بَطْلَيْمُوسُ فِي ذَلِكَ، فَجَعَلَ لِلزُّهَرَةِ ثَمَانِيَ دَرَجَاتٍ، وَلِعُطَارِدَ سِتًّا، وِلِلْمُشْتَرِي ثَمَانِيًا، وَلِزُحَلَ خَمْسًا، وَلِلْمِرِّيخَ ثَلاثًا، وَخَالَفَهُمْ بَطْلَيْمُوسُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلا فِي حَدِّ الزُّهَرَةِ، فَجَعَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 لِعُطَارِدَ سَبْعَ دَرَجَاتٍ، وُلِلْمُشْتَرِي سَبْعًا، وَلِزُحَلَ سِتًّا، وَلِلْمِرِّيخِ دَرَجَتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ خَالَفَهُمْ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ وَقِسْمَتِهَا، ثُمَّ خَالَفَهُمْ أَيْضًا فِي أَنْ قَدَّمَ بَعْضَ مَا أَخَّرُوا، وَأَخَّرَ بَعْضَ مَا قَدَّمُوا، وَهَذَا أَشَدُّ فِي الْخِلافِ، وَأَضَرُّ بِالْعَمَلِ مِنْ زِيَادَةِ دَرَجَةٍ وَدَرَجَتَيْنِ فِي دَرَجِ الْحُدُودِ، وَنُقْصَانِ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْهَا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَبَعْضُهُمْ يُقَدِّمُ زُحَلَ عَلَى عُطَارِدَ بِالنَّهَارِ، وَيُقَدِّمُ عُطَارِدَ عَلَى زُحَلَ بِاللَّيْلِ، وَغَيْرُهُمْ يَعْكِسُ ذَلِكَ، فَالْمِصْرِيُّونَ يَعْمَلُونَ عَلَى حُدُودِهِمْ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا أَصَحُّ، وَبَطْلَيْمُوسُ وَأَصْحَابُهُ يَعْمَلُونَ عَلَى حُدُودِهِمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا أَصَحُّ، وَيَزْعُمُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاءِ أَنَّهُ يَجِدُ صِحَّةَ ذَلِكَ عِنْدَ الامْتِحَانِ وَالاعْتِبَارِ حِسًّا وَضَرُورَةً مَعَ هَذَا الاخْتِلافِ الْمَوْصُوفِ. ثُمَّ هَا أَنْتُمْ أَنْفُسِكُمْ قَدِ اخْتَلَفْتُمْ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ هَذَا وَأَجَلُّ أَمْرًا، وَهُوَ اخْتِلافُكُمْ فِي تَقْوِيمِ الْكَوَاكِبِ بِالزِّيجَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَبَعْضُهُمْ يُقَوِّمُهَا بِزِيجِ بَطْلَيْمُوسَ، وَبَعْضُهُمْ يُقَوِّمُهَا بِ «السِّنْدِ هِنْدَ» وَبَعْضُهُمْ يُقَوِّمُهَا بِالْمُمْتَحِنِ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الزِّيجَاتُ اخْتَلَفَ الْحِسَابُ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الْحِسَابُ اخْتَلَفَتْ مَوَاقِعُ الْكَوَاكِبِ فِي الْبُرُوجِ عِنْدَ الْحِسَابِ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ مَوَاقِعُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 اخْتَلَفَتْ دَلائِلُهَا، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ دَلائِلُهَا اخْتَلَفَ الْقَضَاءُ عَلَيْهَا وَالْحُكْمُ فِيهَا، وَإِذَا اخْتَلَفَ الْقَضَاءُ عَلَيْهَا وَالْحُكْمُ فِيهَا، وَقَعَ الْخَطَأُ وَالْكَذِبُ لا مَحَالَةَ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ قَضَيَّتَكُمْ فِي أَوَّلِ مَا يَتْلُونَ بِهِ مِنْ أَمْرِهَا، فَكَيْفَ بِكُمْ إِذَا تَرَقَّبْتُمْ هَذِهِ الدَّرَجَةَ إِلَى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ وَمَا بَعْدَهَا، وَإِذَا مَرَّ عَلَى غَلْطَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ مَا، وَعَلَى مَا أَصِلُ مِنَ الْخَطَأِ مَفَرٌّ مَا، وَلاسِيَّمَا إِذَا حَكَمَ فِي الْمَوَالِيدِ، وَالأَعْمَارِ، وَفِي أُمُورِ الْمُلُوكِ، وَالدُّوَلِ، وَالْحُرُوبِ، وَالأُمُورِ الْعِظَامِ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَعْضُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُوَ مِنْ عَظِيمِ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْخَطَأُ وَالْفَسَادُ، سِوَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ صُورَةِ الْفَلَكِ، وَشَكْلِهِ، وَحَرَكَتِهِ، وَصُورَةِ كَوْاكَبِهِ، وَأَشْكَالِهَا، وَحَرَكَاتِهَا: أَبِأَنْفُسِهَا تَتَحَرَّكُ أَمْ بِأَفْلاكِهَا؟ فَبَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهَا تَتَحَرَّكُ عَلَى الْفَلَكِ، وَبَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ مِسْمَارِ مُثَلَّثٍ فِي كُرَةٍ، وَأَنَّ حَرَكَةَ الْكَوْكَبِ إِنَّمَا هِيَ بِحَرَكَةِ فَلَكِهِ، وَقَدْ قَالُوا فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ أَيْضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وَبَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ الأَفْلاكَ عَلَى هَيْئَةِ الأَطْوَاقِ، وَشَبَّهُوهَا بِذَاتِ الْحِلَقِ، وَبَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهَا عَلَى هَيْئَةِ الْكُرَةِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ شَكْلَ الأَفْلاكِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا شَكْلُ الْفَلَكِ الأَعْظَمِ، وَبَعْضُهُمْ يَزْعُمُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَعَلَى نَحْوٍ مِنْهُ: اخْتِلافُهُمْ فِي أَلْوَانِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، وَأَلْوَانِ الْبُرُوجِ الاثْنَيْ عَشَرَ، وَمَقَادِيرِ أَجْرَامِهَا، وَاخْتِلافُهُمُ فِي شَكْلِ الأَرْضِ وَصُورَتِهَا، وَجَوَاهِرِهَا، وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ دَلِيلٌ سِوَى أَقَاوِيلِ أَسْلافِهِمْ، وَغَيْرَ مَا رَسَمُوهُ فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الدَّعَاوَى وَالانْتِحَالِ لِلإِصَابَةِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ قَاطِعَةٍ، وَلا حُجَّةٍ وَاجِبَةٍ، فَهُمْ فِي غَمْرَةٍ يَعْمَهُونَ، وَفِي حِيرَةٍ يَتَرَدَّدُونَ. قَالَ الشَّيْخُ: لَوْ لَمْ يَزْهَدِ النَّاسُ فِي النَّظَرِ فِي عِلْمِ النُّجُومِ إِلا مَا تَرَى مِنْ إِكْذَابِ الْعَاقِلِ، وَإِنْجَاحِ الأَحْمَقِ، وَخَيْبَةِ السَّاعِي، وَظَفَرِ الْقَاعِدِ، وَمَا نُشَاهِدُهُ دَائِمًا مِنِ اتِّفَاقَاتِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 مِمَّا لَمْ تُورِدْهَا الْخَوَاطِرُ، وَلَمْ تَشْعُرْ بِهَا النُّفُوسُ فِي اجْتِلابِ مَا يَسُرُّ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّ لأَقْنَعَ وَكَفَى، وَأَوْجَبَ التَّسْلِيمَ لِلْقَضَاءِ وَالْعِلْمَ بِأَنَّ الأُمُورَ صَادِرَةٌ عِنْ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، وَأَنَّهُ الْمُدَبِّرُ لِخَلْقِهِ، الْحَكِيمُ فِي فِعْلِهِ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] . أنا أَبُو الْقَاسِمِ رِضْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّيْنَوَرِيُّ، قَالَ: أَنْشَدَنِي أَبُو الْحَاتِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الشَّاهِدُ، بِالرَّيِّ، قَالَ: أَنْشَدَنِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ الصُّوفِيُّ، قَالَ: أَنْشَدَنِي عَلِيُّ بْنُ يَعْقُوبَ، بِدِمِشْقَ، قَالَ: أَنْشَدَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ، لِنَفْسِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 لَوْ كَانَتِ الأَرْزَاقُ مَقْسُومَةً ... بِقَدْرِ مَا يَسْتَوْجِبُ الْعَبْدُ لَكَانَ مَنْ يُخْدَمُ مُسْتَخْدَمًا ... وَغَابَ نَحْسٌ وَبَدَا سَعْدُ وَاعْتَذَرَ الدَّهْرُ إِلَى أَهْلِهِ ... وَانْتَقَشَ السُّؤدَدُ وَالْمَجْدُ لَكِنَّهَا تَجْرِي عَلَى سَمْتِهَا ... كَمَا يُرِيدُ الْوَاحِدُ الْفَرْدُ " وَإِلَى الْقَاسِمِ الْمُحْسِنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْمُعَلَّى، وَأَظُنُّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: لَسْتُ أَدْرِي وَلا الْمُنَجِّمُ يَدْرِي ... مَا يُرِيدُ الْقَضَاءُ بِالإِنْسَانِ غَيْرَ أَنِّي أَقُولُ قَوْلَ مُحِقٍّ ... وَأَرَى الْغَيْبَ فِيهِ مِثْلَ الْعِيَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 إِنَّ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا قَابَلَتْهُ ... بِمَيْلٍ عَوَاقِبُ الإِحْسَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229