الكتاب: دراسات في النحو المؤلف: صلاح الدين الزعبلاوي مصدر الكتاب: موقع اتحاد كتاب العرب   [الكتاب مرقم آليا] ---------- دراسات في النحو صلاح الدين الزعبلاوي الكتاب: دراسات في النحو المؤلف: صلاح الدين الزعبلاوي مصدر الكتاب: موقع اتحاد كتاب العرب   [الكتاب مرقم آليا] النحاة والقياس كان على أئمة اللغة أن يعوا اللغة المحكية عن العرب ممن يحتج بهم من الفصحاء ويوثق بهم من الرواة فيستوعبوها في لوح محفوظ ليؤدوها كما وعوْها، لا يفوتهم منها ذكر، أو يضيق عن ضبطها حفظ. في من يحتج لكل منهم: وقد اجتمعت كلمتهم على الاحتجاج بأشعار الجاهليين، وتلاقت آراؤهم وتضافرت على الاستشهاد بأشعار المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، وقد أسموا الجاهليين أصحاب الطبقة الأولى، والمخضرمين أصحاب الطبقة الثانية. أما الإسلاميون المتقدمون كجرير والفرزدق فالأكثرون على صحة الاستدلال بأشعارهم أيضاً، وقد أسموهم أصحاب الطبقة الثالثة. ولو أن من الأئمة من لحَّن الفرزدق وخطَّأ الكُميت وذا الرمة كأبي عمرو بن العلاء وابن أبي اسحاق الحضرمي والحسن البصري. وأما المولدون والمحدثون كبشار وأبي نواس، وهم أصحاب الطبقة الرابعة فقد أخذ الأكثرون بعدم الاعتداد بأشعارهم. قالوا إنما استشهد سيبويه والأخفش بشعر بشار اتقاء لهجوه. واتسع جار الله الزمخشري فرأى الاستشهاد بكلام من يوثق بعربيته كأبي تمام، قال: "وهذا وإن كان محدثاً لا يُستشهد بشعره في اللغة فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه". وترخَّص الرضي فحذا حذوه واستن بسنته، على ما فصَّله البغدادي في خزانته (1/6-7) . ونهج نهجهما أحمد شهاب الدين الخفاجي في شرح درّة الغوّاص إذ قال: "اجعل ما يقوله المتنبي بمنزلة ما يرويه". ويمم هذا السمت ابن السيد البطليوسي في الاقتضاب إذ أورد في الاستشهاد على صحة إضافة (آل) إلى الضمير قول المتنبي: والله يُسعد كلَّ يوم جدَّه ويزيد من أعدائه في آله وقال: "أبو الطيب وإن كان ممن لا يحتج به في اللغة، فإن في بيته هذا حجَّة من جهة أخرى، وذلك أن الناس عًنوا بانتقاد شعره، كان في عصره جماعة من اللغويين كابن خالويه وابن جني وغيرهما، وما رأيت منهم أحداً أنكر عليه إضافة آل إلى المضمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وكذلك جميع من تكلم في شعره من الكتَّاب والشعراء. كالواحدي وابن عبَّاد الحاتمي وابن وكيع، ولا أعلم لأحدٍ منهم اعتراضاً على هذا البيت". وليس غرضنا ها هنا أن نبسط الرأي من يحتج بأقوالهم، وإنما وطأنا بهذا لنقول انه كان على أئمة اللغة أن يجمعوا المحكية عن العرب من هؤلاء الفصحاء حرصاً على الإحاطة بها، وخوفاً على سلامتها من أن تعبث بها الأهواء ويتسرب إليها الفساد فتبعد عن نقاوتها وتنأى عن صفائها. استحكام بنيان اللغة: وأئمة اللغة لم يعوا اللغة المحكية حتى كان قد استحكم بنيانها واستوت كأكمل ما تكون اللغة، وأدق ما يكون نسجها في ملابسة اللفظ للمعنى. وقد أصبح الثلاثي وحدة الكلمة وجرت عليه صنوف من الاشتقاق والتصريف والتقليب دارت حول جامع معنوي، فاغتنت المادة اللغوية ثم اكتمل نماؤها بتولُّد الرباعي من الثلاثي وهكذا. وأضحت العربية ذات فقه خاص واضح واشتقاق ثابت مطَّرد. وقد سادت لغة قريش ما أسموه باللهجات الشمالية فكانت اللسان المبين الذي نزل به القرآن. بل كان القرآن حين اعتمد لغة قريش سبباً إلى الأخذ بالوضع اللغوي الأرقى فمهَّد السبيل للانتهاء باللغة إلى مستقرها الكامل. وقد اعتدّ القرآن آية البيان العربي فكان النبراس الذي يُستضاء به والإمام الذي يُنحى نحوه ويُتلى تلوه، فجروا على منهاجه واستنوا بسنته وطبعوا على غراره. تدوين اللغة المحكية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 ولا يظن ظان أن أئمة اللغة قد عمدوا إلى وعي اللغة المحكية وحفظها ساذجة وقمشها محطوبة، على حد تعبير ابن جني في الخصائص (2 /125) فهم قد تأتوا لهذه اللغة وتلطفوا في جمعها وضمها وملاءمة ذات بينها، كما هو خاص اللغة وسرها. فكان ثمة منهج الخليل في معجم العين، وقد أخذ أخذه ابن سيده في المحكم وابن دريد في الجمهرة. وكان منهج ابن فارس في كتابه مقاييس اللغة، وكان أسبق الأئمة إليه غير مدافع. وقد بدت اللغة بمنهجه هذا في أكمل صورة من التهذيب والتلاؤم والتصنيف، وقد ائتم بهديه الصاحب ابن عباد في المحيط فكان تلميذ ابن فارس، وجرى في محاكاته الزمخشري في أساسه. وثمة منهج الجوهري في صحاحه وقد تجلى فيه حذقه اللغوي وبراعته الصرفية، وحذا حذوه الصغاني في العباب وابن منظور في اللسان والفيروزابادي في القاموس.. استقراء اللغة والكشف عن نظمها: ثم أتى النحاة فاطلعوا على ما انتهى إليهم من كلام العرب. وقد كان عليهم أن يأخذوا بتأمله وتدبُّره، ويعمدوا إلى تقسيمه وتصنيفه، ويمضوا في تتبعه واستقرائه ذلك ليستشفوا النظم التي صيغت بها اللغة المحكية ويكشفوا عن سنن ما جرت به ألسنة العرب على السليقة وطاعت به قرائحهم على السجية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وهكذا عكف النحاة على اللغة ينعمون فيها النظر، يسبرون غورها ويعجمون عودها فاستبطنوا دخائلها واستجلوا غوامضها. أحصوا مسائلها واستقروا دقائقها. فما جرى من كلام العرب على سنن استنبطوا حكمه وحملوا غير المنقول على المنقول منه وجعلوه قياساً لنظائره. ومضوا يعللون هذا القياس ويسببونه. فإذا سُمع شيء يأباه قياسهم هذا اتسعوا له، وأخذوا به إذا اشتهر وشاع. فإذا ندر أغفلوه وأوجبوا فيه القياس، حملاً له على أمثاله، وتأصيلاً لما استنوه من حدود وقوانين. وقد عقب البغدادي فيما حكاه المزهر (1/37) على هذا فقال: "اعلم أن اللغوي شأنه أن ينقل ما نطقت به العرب ولا يتعداه. وأما النحوي فشأنه أن يتصرف فيما ينقله اللغوي ويقيس عليه". ما يتدارك من اللغة بالقياس: قال ابن جني في الخصائص (2/42) : "لكن القوم بحكمتهم وزنوا كلام العرب فوجدوه على ضربين: أحدهما ما لا بد من تقبله كهيئته، لا بوصية فيه ولا تنبيه عليه، نحو صحراء ودار وما تقدم، ومنه ما وجدوه يُتدارك بالقياس وتخف الكلفة في علمه على الناس فقننوه وفصَّلوه إذ قدروا على تداركه من هذا الوجه القريب، المغني عن المذهب الحزن البعيد". وأوضح ذلك فقال: كأن يسمع سامع ضؤل ولا يسمع مضارعه فإنه يقول فيه يضؤل، وإن لم يُسمع ذلك، ولا يحتاج إلى أن يتوقف إلى أن يسمعه. لأنه لو كان محتاجاً إلى ذلك لما كان لهذه الحدود والقوانين التي وضعها المتقدمون وعمل بها المتأخرون معنى يفاد ولا غرض ينتحيه الاعتماد، ولكان القوم قد جاؤوا بجميع المواضي والمضارعات وأسماء الفاعلين والمفعولين والمصادر وأسماء الأزمنة والأمكنة". البصرية وأصولهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الأصل الذي جرى عليه النحاة في استنباط أحكامهم أخذهم بالأكثر والأغلب، وترك ما عداه. ففي طبقات النحويين لأبي بكر الزبيدي (ت 379هـ) أن ابن نوفل روى عن أبيه أنه سأل أبا عمرو ابن العلاء (ت 154هـ) "أخبرني عما وضعت مما سميته عربية، أيدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال: لا. فقلت: كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة؟ فقال: أحمل على الأكثر، وأسمي ما خالفني لغات". رأس البصرية وأول من وضع أصول النحو: ويبدو عند التحقيق أن أول من وضع أصول النحو وقياسه هو عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي (ت 117هـ) . ذلك أن سيبويه قد سمى في كتابه من روى عنهم أصول النحو من الأئمة ولم يتجاوز الحضرمي إلى إمام قبله، فالحضرمي على هذا هو رأس البصرية. وقد حكى السيوطي في المزهر (2/246) : "وأبو الأسود الدؤلي أول من نقط المصحف.. قال أبو حاتم.. وأما فيما روينا عن الخليل فإنه ذكر أن أبرع أصحاب أبي الأسود عنبسة الفيل، وأن ميموناً الأقرن أخذ عنه" وأردف: ".. ثم توفي وليس في أصحابه أحد مثل عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي. وكان يقال عبد الله أعلم أهل البصرة وأنقلهم، ففرع النحو وقاسه وتكلم في الهمز حتى عمل كتاباً مما أملاه. وكان رئيس الناس وواحدهم". وهكذا كان الحضرمي أقدم من انتهج القياس وارتاح إليه وأخذ بالأكثر والأغلب. ففي طبقات الزبيدي (25) : (قال ابن سلاّم: عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي كان أول من بعج النحو ومدّ القياس وشرح العلل) . ونحو من ذلك ما جاء في نزهة الألباء (23) لأبي البركات كمال الدين بن الأنباري، إذ قال: (انه أول من علل النحو) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أما أبو الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو (69هـ) فلم تكن خطته تعدو (نقط المصحف) ، أي الاهتداء إلى ما اتخذ رمزاً للشكل في الرفع والنصب والجر صوناً للسان من اللحن. وليس هذا بالأمر اليسير الذي يُستهان بجدواه فيما عاد منه على اللغة من جزيل الفائدة وموفور العائدة فقد كان (الشكل) أرفق على العربية نفعاً وأرجى عاقبة من أي شيء آخر. وقد وفق الأستاذ أحمد أمين، رحمه الله، حين أشار في (ضحى الإسلام) إلى ذلك، وأيده فيه الأستاذ سعيد الأفغاني في كتابه (أصول النحو) حين قال: "والشكل أعود على حفظ النصوص من حدود النحو: ولعله أعظم خدمة قدمت للعربية حتى الآن". شكل المصحف وإعجامه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وقد أجمل الأستاذ محمد عبد العظيم الزرقاوي في كتابه (مناهل العرفان) الحديث عن ذلك من بعض كتب السلف كمراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي وتاريخ ابن عساكر، فقال: "واتفق المؤرخون على أن العرب في عهدهم الأول لم يكونوا يعرفون شكل الحروف والكلمات فضلاً عن أن يشكلوها ... ولكن حين دخلت الإسلام أمم جديدة.. بدأت العجمة تحيف على لغة القرآن. بل قيل ان أبا الأسود الدؤلي سمع قارئاً يقرأ قوله تعالى: (واعلموا أن الله بريء من المشركين ورسوله (فقرأها بجرّ اللام من كلمة رسوله، فأفزع هذا اللحن الشنيع أبا الأسود وقال: عز وجل الله أن يبرأ من رسوله. ثم ذهب إلى زياد والي البصرة وقال له: قد أجبتك إلى ما سألت، وكان زياد قد سأله أن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله، فتباطأ في الجواب حتى راعه هذا الحادث. وهنا جدّ جدّه وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وجعل علامة الكسرة نقطة أسفله، وجعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف، وجعل علامة السكون نقطتين ... ودامت الحال على هذا حتى جاء عبد الملك بن مروان فرأى بنافذ بصيرته أن يميِّز ذوات الحروف من بعضها وأن يتخذ سبيله إلى ذلك التمييز بالإعجام والنقط ... وهنالك اضطر أن يستبدل بالشكل الأول الذي هو النقط، شكلاً جديداً هو ما نعرفه اليوم من علامات الفتحة والكسرة والضمة والسكون ... ". وهكذا فقد تم نقط الحروف لتمييز بعضها من بعض، وهو ما يسمى بالإعجام، على ما هو المشهور، في عهد عبد الملك بن مروان، ونُدب له إمامان هما نصر بن عاصم الليثي (ت 90هـ) ويحيى بن يعمر العدواني (ت 129هـ) وقد تلمذا لأبي الأسود الدؤلي وتلقيا عنه وأحاطا بالأمر خُبراً ووسعاه علماً، فأعجما المصحف الشريف أول مرة ونقطا الحروف فكان لهذه الخطة في إزالة الإشكال واللبس في قراءة القرآن، أثر أي أثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وقيل إن نصراً قرأ القرآن على أبي الأسود، كما في نزهة الألباء لابن الأنباري ومعجم ياقوت، وكان أبو الأسود من القراء، وتلقى عن نصر أبو عمرو بن العلاء فُوفِّق في رسم النحو لما لم يوفق له أستاذه، وتلقى عن يحيى بن يعمر أبو اسحاق الحضرمي فأصاب في تأصيل النحو ما لم يصب شيخه. ومهما يكن من أمر فإن الدؤلي لم يعمد إلى تأصيل الأصول النحوية وتقعيد قواعدها ولو تعلق اسمه بالنحو شكلاً وموضوعاً على ما ذكر ابن الأنباري في نزهة الألباء والقفطي في إنباه الرواة، وكذلك تلميذاه نصر الليثي ويحيى العدواني ولم يكونا أوفر منه حظاً في هذا المضمار. فقد روى سيبويه في كتابه هذه الأصول عن الخليل والأخفش الأكبر وعن عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب وعن عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي لكنه لم يتجاوز الحضرمي إلى إمام قبله فلم يروِ عن أبي الأسود الدؤلي، أو عاصم الليثي أو يحيى العدواني. أئمة البصرية: خلف الحضرمي أئمة أخذوا بالأكثر والأغلب وعوَّلوا على القياس كعيسى بن عمر الثقفي (149هـ) فقد أسس أصول كتابه (الجامع) على الأكثر، وأسمى ما شذ عن الأكثر لغات، وكذا فعل في كتابه (الإكمال) وهما من مراجع كتاب سيبويه. وهكذا فعل أبو عمرو زبَّان بن العلاء (154هـ) كما تقدم، وهو أحد القراء السبعة، ويونس بن حبيب (182هـ) ، وقد أخذ عنه سيبويه خاصة أصول النحو، كما أخذ عنه الكسائي والفراء، وغيرهم، وكان إماماً في نقد الشعر وفي النحو واللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وخلف هذين الخليل بن أحمد الفراهيدي (175هـ) وهو بحق عميد النحاة، قال الزُّبيدي الإشبيلي الأندلسي في كتابه (مختصر كتاب العين) : "فهو الذي بسط النحو ومدّ أطنابه وسبَّب علله وفتق معانيه وأوضح الحِجاج فيه حتى بلغ أقصى حدوده. ثم لم يرض أن يؤلف فيه حرفاً أو يرسم فيه رسماً. واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقَّنه من دقائق نظره ونتائج فكره ولطائف حكمته، فحمل ذلك عنه وتقلده، وألَّف فيه الكتاب الذي أعجز من تقدم وامتنع على من تأخر بعده". وقال ابن الأنباري في نزهة الألباء: "وهو الذي بلغ الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو وتعليله". وقد شفَّت أعمال الخليل حقاً عن عبقرية نادرة إذ اختط للنحو نهجاً سليماً فكان فيه بعيد الغور فسيح الخطوة، وألَّف أول معجم في العربية وهو (كتاب العين) فكان معجماً فريداً رتب فيه المواد على الحروف بحسب مخارجها، وقد التزم نهجه الأزهري في تهذيبه وابن عباد في محيطه والقالي في بارعه. ورصد الخليل الأصوات اللغوية وصفاتها فكان له فيها رأي متقدم حصيف. وتعلق بموسيقا الشعر فانفرد بوضع العروض واتخذ لأوزان القصيد ستة عشر بحراً كشف فيها عن حذقٍ في الفن ولطافة في الحس. وقال السكاكي في (مفتاحه) في سبق الخليل هذا: "لا يظن أحد الفضول عندهم في هذا الباب من ضمّ زيادة.. فضلاً عن الإمام الخليل بن أحمد، ذلك البحر الزاخر مخترع هذا النوع، وعلى الأئمة المغترفين منه من العلماء المتقدمين/ 275". فلم يشارك الخليل في ميدان من ميادين العلم إلا كانت له القدم الفارعة فبدا فيه أسبق العلماء غير مدافع وأفضلهم غير معارض. وكان أبو محمد التوجي يقول: (اجتمعنا بمكة- أدباء كل أفق- فتذاكرنا أمر العلماء حتى جرى ذكر الخليل، فلم يبق أحد إلا قال: الخليل أذكى العرب، وهو مفتاح العلوم) (المزهر- 2/249) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وجاء الأخفش الأكبر أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد (177هـ) وقد روى عنه سيبويه ولم يذكر أحد أنه كان صاحب قياس أو تعليل، فإذا جاء باستدلال ذهني كان أدنى إلى خصوص اللغة، واتخذ وجهاً من وجوه الاعراب كان ألصق بسلامة المعنى. وجاء سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان (180هـ) فطلع على الملأ بكتابٍ فذ سديد المنهج، مطَّرد التنسيق، جامع، غزير المادة، يعوّل فيه على الأكثر والأغلب. ينهج طريق القياس والتعليل ويعلِّّم البحث فيهما كما يعلِّم النحو. وقد اختلف سيبويه إلى مجلس أستاذه الخليل في البصرة، وطلاب العلم فيه كثُر يزحم بعضهم بعضاً، وقد أقبل على أستاذه يطيل الاستماع إليه والتلقي عنه ويتلطف لما يعي فيتضلَّع منه ويستجلي غوامضه فيقلِّب فيه الرأي ويصرف الفكر، وقد لفت سيبويه نظر أستاذه بذكائه وفطنته فكان محل عنايته وموضع اختصاصه، وقد قال له يوماً (مرحباً بزائر لا يملّ) وما كان يقوله لسواه. استوفى سيبويه ما أملى عليه أستاذه رواية ورأياً وتعليقاً وشرحاً ففاضل ووازن وأحكم الرأي فأدى فأحسن التأدية. كان صادقاً فيما أداه. تلقى سيبويه أصول النحو عن (يونس بن حبيب) خاصة كما استوعبه عن الخليل. قال يونس حين قرأ كتابه سيبويه: "يجب أن يكون هذا الرجل قد صدق عن الخليل في جميع ما حكاه، كما صدق فيما حكاه عني". أخذ سيبويه بالأكثر والأغلب، فقاس عليه، دون القليل أو الشاذ، وقال في باب (أيّ) من كتابه (1/398) : "فلا ينبغي لك أن تقيس على الشاذ المنكر في القياس". وقال في باب (بناء الأفعال المتعدية- 2/214) : "فإنما هذا الأقل نوادر تحفظ عن العرب ولا يقاس عليها ولكن الأكثر يقاس عليه". وقال في باب (ما لحقته الزوائد من الأفعال المتعلة- 2/362) : "ولا ينكر أن يجعلوها معتلة في هذا الذي استثنينا لأن الاعتلال هو الكثير المطرد"، ونظير ذلك كثير في الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وجاء الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة (215هـ) ، وقد ارتحل إلى بغداد فأدناه الكسائي من مجلسه وعهد إليه بتأديب أولاده. وقد اختلفت آراء الأئمة في الأخفش الأوسط وتفرقت كلمتهم بل تضاربت مذاهبهم، لكن من الثابت أنه خالف البصرية في مسائل كثيرة ووافق الكوفية في شيء من الأصول كالاعتداد بالقراءات الشاذة والقياس على القليل فامتدحه الكوفية حتى اعتده بعضهم سيد علماء العربية. ولا شك أنه كان من كبار الحفاظ النقلة، ولو كان يتكسَّب بعلمه. وجاء قطرب محمد بن أحمد (206هـ) فاشتهر بكتابه (العلل في النحو) كما اشتهر بكتبه (الاشتقاق والأضداد ومعاني القرآن) ، وقد أخذ النحو عن سيبويه. ثم جاء المازني أبو عثمان (248هـ) واشتهر بكتابيه (علل النحو والتصريف) وكان يتخذ المذهب البصري وفتي به. قال: "دخلت بغداد فأُلقِيَت علي مسائل فكنت أجيب فيها على مذهبي ويخطئوني على مذاهبهم" أي الكوفيون. واستمر منهج النحو قائماً على النظر العقلي والاستدلال الذهني في المذهب البصري، على يد الإمام المبرد أبي العباس بن أبي يزيد (285هـ) لكنه غلا في التعليل والقياس بل نحا بهما نحو المنطق والفلسفة، على أنه لم يغادر ما كان عليه الأوائل من مراعاة المعنى. وقد أكثر الانتقال إلى بغداد، قاعدة الخلافة، من البصرة، فازدحم فيها مجلسه وعقدت بينه وبين ثعلب الإمام الكوفي مناظرات بدا فيها صاحب منطق وجدل، إلى بيان وإحاطة بكتاب سيبويه، ولو خالفه في مسائل كثيرة، وإلى حذق في فنون الأدب. وقد ألف (المقتضب والكامل) واعتد كتاب (الكامل) أحد كتب الأدب الرئيسة إلى جانب أدب الكاتب لابن قتيبة والبيان والتبيين للجاحظ والنوادر لأبي علي القالي البغدادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وتلمذ للمبرد الزجَّاج أبو اسحاق (311هـ) صاحب الاشتقاق والأمالي، وقد حاول أن يناظر أستاذه المبرد مرة فردت عليه حججه. قال الزجَّاج: "لما قدم المبرِّد بغداد جئت لأناظره وكنت أقرأ على أبي العباس ثعلب، فعزمت على اعناته. فلما فاتحتُه ألجمني بالحجة، وطالبني بالعلة، وألزمني إلزامات لم أهتد إليها" كما جاء في (نزهة الألباء/ 290) . وهكذا كان أستاذه الأول ثعلب إمام الكوفيين وأستاذه الثاني المبرّد. وقد أعجب الزجَّاج بالمبرّد فترك ثعلب إليه، وانتقلت إليه رياسة البصرية بعد المبرد. لكنه انفرد من المذهبين بآراء خاصة عُد بها مؤسس المذهب البغدادي. وتلمذ للمبرد ابن السراج أبو بكر (316هـ) وقد ألف (الأصول) . وانتهت إليه رياسة النحو بعد الزجَّاج وخالف البصريين في مسائل كثيرة. وقد صادق الفيلسوف الفارابي فكان قويّ الصلة به فتلمذ له في المنطق، كما تلمذ الفارابي لصاحبه في النحو. وأخذ عن هؤلاء أبو سعيد السيرافي (368هـ) وله شرح الكتاب. وقد أحاط بالمذهب البصري كما أحاط بالمذهب الكوفي، واستعان بالمنطق والحجاج، على دعم أصول النحو ولكن لم يتجاوز ذلك إلى الأخذ بأساليب المتكلمين والمناطقة فتصدى لمناظرة متى بن يونس القنائي، في مجلس الوزير أبي الفتح بن الفرات، ومن حوله أعلام الفكر كالخالدي وابن الإخشيد والكندي.. تصدى لابن يونس يدفع حججه ويدحض أدلته حين حاول هذا إخضاع هذه الأصول النحوية للحجاج العقلي. وقد نبَّه السيرافي على استبعاد المنطق وعلته النظرية، كما نبه على وجوب تعلق النحو باللفظ والمعنى جميعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وأخذ عن هؤلاء أبو الحسن بن عيسى الرماني (384هـ) وقد عرف بإلمامه بكثير من العلوم، فقد كان علَماً في علم الكلام، إذ كان متكلماً على طريقة المعتزلة، وكان علماً في النحو، وعلماً في الأدب، وفي علوم القرآن. فله شرح (معاني القرآن) للزجاج، وله (تفسير القرآن) وقد امتدحه الصاحب بن عباد وأثنى عليه. نحا الرماني نحو المنطق في التعليل فمزج النحو بالمنطق حتى قال أبو علي الفارسي: "إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان النحو ما نقوله فليس معه منه شيء"، فكان للرماني النحو المفلسف. وقد تلمذ له أبو حيَّان التوحيدي، في علم الكلام خاصة، فأشاد به فقال انه لم ير مثله قط علماً بالنحو وغزارة في الكلام وبصراً بالمقالات واستخراجاً للعويص وإيضاحاً للمشكل، مع تألُّه وتنزه ودين ويقين وفصاحة وفقاهة وعفافة ونظافة، كما ذكر ياقوت في معجمه. ثم تألق نجم أبي علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي (377هـ) وذاع صيته، وقد قصد بغداد حاضرة الخلافة ولم يناهز العشرين من عمره، فلقي بها من أعلام البصرية الزجَّاج أبا اسحاق والسرّاج أبا بكر تلميذي المبرّد، فاختلف إلى حلقتيهما وقرأ الكتاب عليهما. وقد نزع الفارسي إلى الزجاج خاصة فسلك طريقته في منهجه العلمي ووطئ مواقع قدمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 كان أبو علي شديد العناية بدراسة الأصوات، وما يتصل بفقه اللغة من تصريف واشتقاق، وقد أفصح عن ذلك جلياً تلميذه أبو الفتح عثمان بن جني، وكان شديد الاهتمام بالقياس، فقد ابتغى له كل سبب والتمس إليه كل مساغ وقلَّب فيه وجوه الرأي. وقد حبسه ذلك أن يمهر في الرواية اللغوية ويتمكن فيتوفر حظه منها، كما فعل أصحابه منذ عهد المبرد. فقد كان السيرافي أروى منه. قال أبو علي: "لأن أخطئ في مائة مسألة لغوية ولا أخطئ في واحدة قياسية" وقال: "لأن أخطئ في خمسين مسألة مما بابه الرواية أهون علي من أن أخطئ في مسألة واحدة قياسية". وكان كصاحبه الرماني علَماً في علم الكلام على طريقة المعتزلة. وعلت شهرته حتى قيل انه فاق المبرد. قال أبو طالب العبدي: "لم يكن بين أبي علي وبين سيبويه أحد أبصر بالنحو من أبي علي". واشتهر من مؤلفاته (الإيضاح في النحو) و (التكملة) و (مختصر عوامل الإعراب) . ومن أنبغ تلاميذ أبي علي أبو الفتح عثمان بن جني، وقد لقيه حين مرّ بجامع الموصل، فأعجب ابن جنّي بأستاذه وأكبره ولزمه بعد ذلك، وكان يقول: "أنا غلام أبي علي الفارسي في النحو" وقال في أبي علي: "وقد انتزع من علل النحو ثلث ما وقع منه لسائر النحويين". وخلف الفارسي أبو الفتح عثمان بن جني (392هـ) . وقد استفاضت شهرته فسبق أقرانه وشآهم فبلغ الذروة في الأصالة وبعد الغور. كان ابن جني يختلف إلى مسجد الموصل فيتلقى فيه مبادئ علوم العربية وقد تلمذ فيه لأحمد بن محمد الموصلي. ولم يكد يبلغ الخامسة عشرة حتى شوهد يتصدر حلقة المسجد، وكان يختلف إليه صغار طلبة العلم. وبينما هو كذلك إذا بأبي علي يلقاه في المسجد فيستوقفه نبوغ الصبي وحديثه وما انطوى عليه من فصاحة لسان وقوة منطق فيقول له: "تزببت يا بني وأنت حصرم". وقد قاد هذا ابن جني إلى أن يتلمذ لأبي علي ويستمر اتصاله به في صحبة علمية امتدت نحو أربعين عاماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 يخلف ابن جني أستاذه فيتصدر للتدريس في بغداد ويزدحم مجلسه بطلاب العلم فيصبح مرجعهم بعد أبي علي. أدرك ابن جني الشأو في البراعة والعمق في كل ما ألف من كتبه لا سيما سر صناعة الإعراب والخصائص والمحتسب وكان إماماً مقدماً في القياس يحث عليه ويرغب فيه ويرهف العزم على الأخذ به وبالتلطف والحجة. سلك ابن جني مسلك أستاذه أبي علي الفارسي وكان أعلق بأصول المنطق والفقه، وقد أداه النظر الثاقب والرأي النضيج إلى فرائد وطرائف في اللغة وفقهها. ماز العلة النحوية من الفقهية والكلامية وجعل اتكاء النحوية على رهافة الحس وبداهة الطبع، ورأى أنها ليست في سمت الكلامية لكنها أقرب إليها من الفقهية (الخصائص- علل العربية- ج1) . دافع ابن جني عن علل النحويين ورد على من اعتقد فسادها وادّعى ضعفها، وقد وفق في إنكار العلل الثواني وعلة العلل فارتضى منها ما جاء تتميماً للعلة الأولى وشرحاً لها.. وفي الجملة تناول ابن جني لغة العرب أصواتاً وحروفاً وبحث كيانها نشوءاً واستواء، بالحدس تارة والاستدلال الذهني تارة أخرى، وعالج أصول نحوها بالتلطف والحجة جميعاً متعمقاً متبسطاً (فلن تجد شيئاً مما علَّل به القوم وجوه الإعراب إلا والنفس تقبله والحس منطو على الاعتراف به.. وأن علل النحو إنما يفزع في التحاكم بها إلى بديهة الطبع) . وراز بنية ألفاظها صرفاً واشتقاقاً، وبحث قياسها وأوغل في البحث واتسع فيه. وكان له في كل ذلك القول المحكم والرأي النجيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ثم عُرف من أئمة القياس بعد أبي علي الفارسي وأبي الفتح ابن جني، جار الله أبو القاسم محمد بن عمر الزمخشري صاحب الكشاف والمفصَّل (538هـ) . وقد كان من كبار المعتزلة وبدا ذلك جلياً في اتخاذه المنطق أداة لتعليل أحكامه وسلماً لتسبيب قياسه، سواء في كشافه أو مفصَّله. وابن الشجري هبة الله أبو السعادات العلوي صاحب الأمالي (542هـ) وأبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن الأنباري (577هـ) وهو صاحب المصنفات النفيسة، لا سيما الإغراب في جدل الإعراب، والإنصاف في مسائل الخلاف (بين البصريين والكوفيين) ، ولمع الأدلة في أصول النحو، وأسرار العربية. وقد اقتاس في تأليفه بأصول الفقه كما اقتاس بأصول الجدل وعلم الكلام فأحكم النسب بين النحو وعلوم الفقه والكلام فيما نهج، ثم العكبري محب الدين أبو البقاء عبد الله بن الحسين (616هـ) صاحب اللباب وإعراب القرآن. وتفسيره. وقد ألَّف (مسائل الخلاف بين الكوفيين والبصريين) ، وقد جاءت نتف منه في كتب الخلف ككتاب الأشباه والنظائر في النحو للإمام جلال الدين السيوطي (911هـ) . الكوفية وأصولهم إذا كان البصريون قد عنوا بالقياس كما قدمنا وفصَّلنا ومضوا في ذلك وأوغلوا حتى تجاوزوا طبيعة اللغة وخصوصها، فقد كان للكوفيين أصولهم وقياسهم وعللهم، فهم لم يقتصروا على الوصف دون الاستدلال والاعتلال كما سيأتي تفصيله. رأس الكوفية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ولكن إذا كان الحضرمي (117هـ) هو رأس البصرية فمن هو رأس الكوفية؟ أقول اختلف في هذا فقيل ان بعض أئمة البصرة قد هجروها إلى الكوفة وأقاموا بها، وكان أشهر هؤلاء جعفر الرؤاسي محمد بن أبي سارة (190هـ) . عاش في البصرة وأخذ أصول النحو عن الإمام البصري عيسى بن عمر الثقفي ثم انتقل إلى الكوفة فكان أول من وضع كتاباً في النحو من أهل الكوفة. وإذا قال سيبويه في كتابه (قال الكوفي) فقد عنى الرؤاسي. وهكذا يمكن أن يعدّ الرؤاسي رأس الكوفية، ويكون المذهب الكوفي قد عرف بعد نحو قرن من المذهب البصري. وقد يضم إلى الرؤاسي عمه معاذ بن مسلم الهراء مبدع علم التصريف، وشيخ الكسائي والفراء، وقد عُمر طويلاً (189هـ) ، قال الفيروزابادي في البلغة: "أبو جعفر الرؤاسي أستاذ أهل الكوفة في العربية". أعلام الكوفية: وقد أخذ عن جعفر الرؤاسي وتلمذ له الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة (189هـ) وهو إمام الكوفية كما كان الخليل إمام البصرية. وقد أخذ عن الرؤاسي وتلمذ له الفراء أبو زكريا يحيى بن زياد (207هـ) وتلمذ للكسائي بعده بل احتذاه ونهج نهجه وغدا علم الكوفية. وقد كان الكسائي والفراء قطبا الكوفية، قد أخذا أصول النحو عن الإمام البصري يونس بن حبيب، وهكذا نهل الرؤاسي والكسائي والفراء جميعاً من معين البصرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 نهج الكسائي حدود المذهب الكوفي في التعويل على النقل خلافاً للبصرية في اعتمادها على النظر العقلي لكنه لم يهمل القياس على كل حال. وشايع الفراء الكسائي فيما استن من أصول فاستمسك بالرواية وأبى للنحوي أن ينهج نهج المتكلمين والمناطقة المتفلسفين. وكان القرآن مادته الأولى في روايته فبدا في تفسيره ألصق ما يكون بواقع اللغة أميناً على خصوصها وطبيعتها، وقد تجلى ذلك في كتابه الأول (معاني القرآن) إذ نهج فيه نهجاً جديداً نأى به عن الغيبيات ونكَّب عن اعتماد أي تقدير أو تأويل يضيق النص عن احتماله. ولا يعني هذا أن الفراء لم يُعن بتعليل أو قياس، فالذي أباه هو القياس على الشاهد الواحد، ونكب عن الأخذ بالقراءات الشاذة مخالفاً في ذلك من تقدمه من الكوفيين ووافق في ذلك البصريين. وجاء ثعلب أبو العباس أحمد بن يحيى (200-291هـ) فأقبل على كتب الفراء يقف على أغراضها ويحصي مسائلها ويوغل في بحثها. وما لبث أن يمم نهج الفراء مردداً لأقواله محتجاً بآرائه مخلصاً لنهجه، غير عابئ بالتعليل. وكان يقول (طلبتُ العربية واللغة في سنة ست عشرة ومائتين، وابتدأت بالنظر في حدود الفراء وسني ثماني عشرة سنة وبلغت خمساً وعشرين ولم يبق شيء من كتب الفراء في هذا الوقت إلا قد حفظته) . وقد تلمذ ثعلب لسلمة بن عاصم الضبي وكان هذا قد حضر مجلس الفراء وأعجب به أيما إعجاب فأغرى به ثعلباً، وكان سلمة يقول: "لولا الفراء لما كانت اللغة لأنه حصلها وضبطها، ولولا الفراء لسقطت العربية لأنها كانت تتنازع، ويدّعيها كل من أراد، ويتكلم الناس على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب" ولم يعرف عن ثعلب أنه حاول فلسفة اللغة أو منطقة النحو، كما حاول البصريون وخصمه منهم، وهو المبرد. ويعزى إلى ثعلب الفضل في إشاعة المذهب الكوفي والتبشير به، كما يُعزى إلى المبرد دعوته إلى البصرية وبراعته في الإغراء بها. الآخذون بما رجح لديهم من أصول البصرية والكوفية ومسائلهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وهناك أئمة لم ينهجوا نهج البصرية ويسلكوا طريقتها فيقتاسوا بها، أو ينهجوا سبل الكوفية ويأتموا بهديها فيتسموا بسمتها، وإنما أداهم البحث والتأمل والفحص إلى مواقاة كل منهما في بعض الأصول والمسائل ومخالفتهما لها في أخرى، ومن هؤلاء أبو القاسم عبد الرحمن بن اسحاق الزجاجي (337هـ) وقد أخذ أصول النحو عن الزجاج أبي اسحاق، والطبري أبي جعفر، وابن كيسان أبي الحسن، وابن الخياط أبي بكر، وأبي موسى الحامض، وابن السراج أبي بكر، وابن الأنباري أبي بكر وسواهم، ومنهم البصري ومنهم الكوفي، ومنهم من هو بينَ بين، فتلقى الزجاجي علم البصرة كما تلقى علم الكوفة وأعجب بالزجاج كما أعجب بأستاذه المبرد فكان إلى البصرية أميل، لكنه لم يتعصب لأحد المذهبين فيحاكي بغير دليل أو يتابع بغير حجة، فقد كان يقول بما يملي عليه علمه ويشهد به يقينه فيكون منه على بينة. وهكذا مزج الزجاجي نحو البصريين بنحو الكوفيين واستعار مصطلحات الجانبين، فبدا بغدادي النزعة. فجماعة البغداديين هؤلاء هم الأئمة الذين اتخذوا طريقتهم في اختيار الأجود من مسائل المذهبين على ما رأوه، كما فعل الزجاج في كتابه (إعراب القرآن ومعانيه) ولا يزال مخطوطاً، والزجاجي في كتابه (الإيضاح) . ولم يستنوا نهجاً فرداً دون نهج البصريين أو الكوفيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 عمد الزجاجي إلى التأليف فكان محكم الحدود، وعلى ذلك كتابه (الجُمل) وقد اتسم بالبيان والوضوح فجاء قريب المنال سهل الأسلوب متسني التحصيل. وقد اشتهر الكتاب وتعددت شروحه وشاعت. وثمة كتاب (الإيضاح في علل النحو) ، وقد بحث فيه القياس والعلل والخلاف بين البصريين والكوفيين، وجعل العلة تعليمية وقياسية وجدلية نظرية، وقصد بالتعليمية ما أريد به تعليم النحو كقولك رفع الفاعل لأنه فاعل ونصب المفعول لأنه مفعول، وقصد بالقياسية تعليل الحكم في حمل المقيس على المقيس عليه كقولك في (إن وأخواتها) انها نصبت الفعل لمشابهتها الفعل المتعدي ذا المفعول الواحد، فأشبه اسمها المنصوب المفعول به لفظاً، وأشبه خبرها المرفوع الفاعل لفظاً. أما العلة الجدلية النظرية فقد ذهب بها إلى ما وراء ذلك كسؤالك لِم رُفع الفاعل ونُصب المفعول؟ وجوابك رُفع الفاعل لأن الضم ثقيل ونُصب المفعول لأن الفتح خفيف، والمفعول كثير في كلام العرب فكان أولى بالخفة فاستحق الفتح، والفاعل قليل فهو أجدر بالضم، وإذا كان الزجاجي قد عني ببحث العلل فقد اهتم فيها غالباً بما أفاد أصول النحو واللغة كالعلة التعليمية والقياسية، ولم يُعن بالعلل الجدلية فيغلو فيها غلوّ الأنباري أبي البركات، ويمزج النحو بالمنطق. وإذا كان كتاب (الإيضاح) هذا نموذجاً بيناً لاتصال هذين العلمين، فقد كان اتصالاً لم تختلط فيه الحدود أو تلتبس فيه السمات. وقد كان ابن كيسان (299هـ) بصرياً كوفياً، وهو بالبصرية أعلق، وكان أبو موسى الحامض (305هـ) كوفياً بصرياً وهو إلى الكوفية أدنى.. القياس حدوده والحاجة إليه القياس هو حمل الفرع على الأصل لعلة جامعة بينهما بإعطاء المقيس حكم المقيس عليه. وقد تشعبت آراء الأئمة عامة في الأخذ به في مسائل كثيرة. فمنهم من اشتد فنهج له حدوداً ضيقة لا يعدوها، ومنهم من تعلق به وتخوّض فيه، فجرى فيه بغير عنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وإذا كان لا بد من التوجه إلى القياس ما سمحت به طرائق العربية فذلك أنه المعول عليه في نماء اللغة وارتقائها والسبيل إلى تسني ما تعسَّر فعزّ مناله من نادّها وشاردها لتكفي اللغة ما تُستكفى وتؤدي ما تُستأدى، مسايرة لشؤون العصر ومستحدثاته. وقد عبَّر عن ذلك الأستاذ محمد الخضر حسين، رحمه الله، في كتابه (دراسات في اللغة العربية) فقال: "والعلوم تتدفق تدفق السيل، ومقتضيات المدنية تتجدد تجدد النهار والليل. وكل من المعاني العلمية والمرافق الحيوية يحتاج إلى أسماء تلتئم مع سائر الألفاظ العربية التئام الدرر النقية في أسلاكها"، وقال: "فالقياس طريق يسهل به القيام على اللغة، ووسيلة تمكن الإنسان من النطق بآلاف من الكلم والجمل دون أن تقرع سمعه من قبل، أو يحتاج في الوثوق من صحة عربيتها إلى كتب اللغة أو الدواوين الجامعة لمنثور العرب ومنظومها". لكن ما نعنيه بالقياس هنا هو قياس التصريف والاشتقاق، وقياس النقل والمجاز وما يستتبع ذلك من تدرج المعاني. أما قياس النحو الذي يراد به الاستدلال الذهني لاستنباط القواعد وتعليلها، وهو مدار علم النحو عند الأئمة، فلا بد من التنكب عن الغلو فيه. ذلك أن في تحكيم المقاييس العقلية في كثير من مسائل ما يضيِّق واسعاً ويمنع سائغاً، بل يحظر صحيحاً فصيحاً. فطرائق العربية لا تقاس بمقاييس عقلية كما تقاس مسائل المنطق وقضايا الفلسفة وعلم الكلام. وليس الوجه أن يقال: "النحو كله قياس" كما قال أبو البركات ابن الأنباري في كتابه (لمع الأدلة/ 95) ، في الرد على من أنكر القياس، وأضاف: "إذا بطل أن يكون النحو رواية ونقلاً وجب أن يكون قياساً وعقلاً". فاعتقاد ما للقياس من شأن في نشأة النحو واستنباط أحكامه ورسم حدوده وتقعيد قواعده، لا يمنع من التنبيه على أن النحو ليس كله قياساً، وإنما هو قياس من جهة ورواية ونقل قد يستعصيان على القياس وينكبان عنه من جهة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ولا شك أن المستحب من القياس هو الذي اعتمد لوضع القاعدة واستنباط الحكم فأفاد في تهذيب اللغة وتشذيبها، والذي اتخذ لتعليل الظاهرة اللغوية فكان وسيلة إلى وعي نظم اللغة وتعليمها فاعتمد على ما أسموه (العلة التعليمية) و (العلة القياسية) . تصنيف العلل: فالعلة التعليمية، كما أسلفنا قبل، أن تقول هذا مرفوع لأنه فاعل، وذاك منصوب لأنه مفعول به. والعلة القياسية هي التي تقوم على اشتراك المقيس والمقيس عليه فيما تصوروا أنه علة موجبة للحكم فيهما. وقد تشعبت الآراء في تحديد العلة القياسية باختلاف وجهات النظر والاعتبار. فقد تتجاذب الحكم الواحد علتان أو أكثر فيبنى على قياسين أو أكثر كما يتأتى حكمان متضادان في المسألة الواحدة فتقتضيهما علتان مختلفتان فيبنى كل منهما على قياس. فمثال الأول (المبتدأ) فقد يعتل لرفعه بالابتداء، أو يعتل له بالخبر أو بما يعود عليه من ذكره. ومثال الثاني (ما) التميمية والحجازية، فقد اعتلوا لـ (ما) التميمية العاطلة بشبهها بـ (هل) في عدم اختصاصها بالدخول على الاسم أو الفعل، وإفادة كل منهما معنى في الكلام هو النفي في (ما) والاستفهام في (هل) ، فجرت (ما) في الإهمال مجرى (هل) . واعتلُّوا لـ (ما) الحجازية العاملة بشبهها بليس في نفي الحال والدخول على الجملة الاسمية فعملت عملها. وهكذا اعتل للإعمال والإهمال في مسألة واحدة، فكان كل منهما على قياس. ومن ثم ذهب كثير من المجددين في النحو إلى إنعام النظر في هذه العلل والعمل على الاهتداء إلى الأشمل منها في الحكم، والأظهر في التعليل والألصق بالعربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 والقياس الذي استند فيه إلى إحدى العلتين التعليمية والقياسية إنما يجانس طبيعة اللغة وخصوصها، دون القياس الذي اعتمد فيه على ما أسموه (العلة الجدلية النظرية) فنحا نحو الفلسفة واتسم بسمتها وغدا صناعة بل رياضة عقلية ونشاطاً ذهنياً فجعل التعليل أصلاً وغاية، لا وسيلة وحاجة، وبين القياسين من التفاوت والتباين، ما لا خفاء به ولا لبس. فإذا قلت (إنّ) تشبه الفعل لفظاً لأنها ثلاثية، ومعنى لأنها تفيد التأكيد، فإذا خففت ذهب شبه اللفظ فقل عملها، فقولك هذا تعليل جدلي نظري، ليس وراءه محصول. العناية بالمعنى: ولا شك أن المعوّل عليه من التعليل ما قرن فيه صحة الحكم النحوي بسلامة المعنى، وتحقيق المراد منه، دون التعلق بما تقتاد إليه براعة الصناعة ويؤدي إليه الافتنان بها، من الإغراب في الجدل والتأويل. فلا جرم أن النحو يتجاوز البحث في أواخر الكلم وعلامات الإعراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ذلك أن فضيلة الكلام في الأصل إنما ترجع إلى معناه قبل ألفاظه. قال ابن جني في الخصائص: (فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسَّنوها وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا غروبها وأرهفوها، فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه وتشريف، ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه وتزكيته) وإذا عدنا إلى الإمام عبد القاهر الجرجاني (471هـ) في كتابه (دلائل الإعجاز) ألفينا أنه يؤمن بأن نظم الحروف من الكلمة لا يتم بمراعاة معنى في النفس وإنما يجري بمجرد تواليها في النطق وضم بعضها إلى بعض، أما نظم الكلام في التعبير فإنه لا يتم بتواليه كيفما اتفق، وإنما يتم، باقتفاء آثار المعاني فيترتب على حسب ترتيبها في النفس. فالأصل إذاً أن تعمل الفكر فتتوخى الترتيب في المعاني، فإذا كان لك ذلك أتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها. ومتى فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف الفكر في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك فتتساوق بحكم أنها خدم للمعاني وتبع لها. وقد أكد الجرجاني هذا المعنى فقال: "فلا نرى كلاماً قد وصف بصحة نظام أو فساده، أو وصف بمزية أو فضل فيه، إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة، وذلك الفساد، وتلك المزية، وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدخل في أصل من أصوله ويتصل بباب من أبوابه". ومن ثم كان خطأ كثير من الأئمة في الغلو بالعناية اللفظية وقصر اهتمامهم على ضبط أواخر الكلم. ولا ريب أن صواب الرأي أن يُنهج في النحو نهج الجرجاني، وأن ينأى به إلى ذلك عن أي تعقيد ينبو عن روح اللغة، وأي تعليل يباعد بينه وبين غرضه. البصرية والكوفية والقياس قلنا إن البصريين قد عُنوا بالقياس ومضوا فيه وأوغلوا حتى تجاوز متأخروهم طبيعة اللغة وخصوصها، وان للكوفيين أصولهم وعللهم وقياسهم، وانهم لم يقتصروا على الوصف دون الاستدلال والاعتلال، فقد أخذ الكسائي بالقياس فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 إنما النحو قياس يُتبع وبه في كل أمر يُنتفع وأشيد بمنزلة الفراء في التعليل والقياس، وقد خالف الكسائي في كثير مما ذهب إليه ووافق البصرية في إنكار القياس على الشاهد الواحد وإنكار القراءات الشاذة. وكان يحتج بقراءة الكسائي وحمزة وابن مسعود، ولا يصد عن قراءة الأمصار الأخرى كقراءة أهل البصرة والمدينة ومكة والشام. نهج الكوفية: وهكذا اعتمد الكوفيون على السماع والقياس، كما فعل البصريون. وكان أوائلهم أعنى بالسماع منهم بالقياس وأشد حرصاً على الوصف منهم على التعليل، كما كان أوائل البصريين أنفسهم. وإذا كان الكوفيون لم يدركوا شأو البصريين في الأخذ بالقياس، وكانوا أدنى إلى القصد منهم إلى الإيغال في هذا المضمار فليس صحيحاً أنهم عولوا على كل مسموع كما يُفهم مما جاء في (الإنصاف في شرح مسائل الخلاف) وصاحبه أبو البركات وهو من أئمة البصرية. ولو صح أن الكوفيين يعملون بكل شاذ ويقيسون عليه، لما استقام لهم أصل أو حكم أو قياس. ولست أشايع أو أجاري الأستاذ أحمد أمين، رحمه الله، فيما جاء به في كتابه ضحى الإسلام (2/259) حين قال: "أما الكوفيون فلم يروا هذا المسلك ورأوا أن يحترموا كل ما جاء عن العرب ويجيزوا للناس أن يستعملوا استعمالهم، ولو كان الاستعمال لا ينطبق على القواعد العامة. بل يجعلون الشذوذ أساساً لوضع قاعدة عامة". أقول إني لأستكثر هذا القول ولو شد منه ما قال بعض الأئمة في الكسائي خاصة في هذا الصدد. قال ابن درستويه (347هـ) في (بغية الوعاة.. 2/164) : "كان الكسائي يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلاً ويقيس عليه فأفسد بذلك النحو". وقصارى ما في الأمر أن الكوفيين إذا اعتمدوا مسموعاً وقاسوا عليه فقد اعتدّوه لغة يحسن الأخذ بها لأنها لغة قوم من العرب لا يرقى الشك إلى فصاحتها ولو قلَّت، لكنهم لا يعوّلون على كل مسموع فقد تخيَّر الكسائي والفراء من فصيح الشعر شواهد ليست أدنى منزلة من شواهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 سيبويه، ولها من طابع الفصاحة وميسم البداوة ما لا خفاء به، وقد شاعت فيما ألَّفه المتأخرون من النحاة. قال الدكتور مهدي المخزومي في كلامه على الكوفيين: "إذا سمعوا لفظاً في شعر أو نادر كلام جعلوه أصلاً وبوَّبوا عليه كأنهم يشعرون بأن ما يقوله الأعرابي أو الأعرابية إنما يمثل بيئة لغوية لا يصح إغفالها، حرصاً منهم على أن تكون الأصول خاضعة في شكلها النهائي للأمثلة المستعملة المسموعة، بإمعانهم في التتبع اللغوي، واستبعادهم أساليب المنطق ومجافاتهم التأويلات التي يخالفها الظاهر" (ص/450-451) . وقوله مستقيم، لكن الكوفيين إذا اعتمدوا مسموعاً فقد وثقوا بفصاحته، فهم أغنى بالاستعمال منهم بالقياس. والكوفية قد تجيز استعمالاً يند عن قواعد البصرية ويشرد عليها، ولكنها لا تقر استعمالاً يخرج عن قواعدها هي. وقد يكون في ضوابط البصرية ما يمنع مسموعاً، وفي ضوابط الكوفية ما لا يعافه أو يضيق عنه. ومثال هذا أن البصريين قد منعوا العطف على الضمير المجرور إلا أن يعاد الجار، لأن اتصال الجار بالضمير أشد من اتصال الفعل بالفاعل، فيقال مررت بك وبزيد ولا يقال مررت بك وزيد. وخالفهم في ذلك الكوفيون فأجازوا العطف ها هنا، أعيد الجار أو لم يعد، وأوردوا على ذلك النصوص القاطعة. ومنها قوله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ((النساء/1) بعطف (الأرحام، على الضمير المجرور في (به) ، كما جاء في بعض القراءات السبع، وقد جاء في الأصل بالنصب معطوفاً على اسم الله. وردّ البصريون حجة الكوفيين في جر الأرحام عطفاً على الضمير وقالوا إنما جُر بواو القسم لا بواو العطف، أو جُر بباء القسم مقدرة، وحجة البصريين في الوجهين متكلفة ضعيفة، وقد ورد النهي عن الحلف بالأرحام. وقد جاء العطف على الضمير المجرور كثيراً في الشعر، قال الشاعر: اليومَ قُرّبت تهجونا وتشتمنا فاذهب وما بك والأيام من عجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وجاء في التنزيل: (وصدٌّ عن سبيل الله وكُفْرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله ((البقرة/ 217) بجر المسجد، فقيل إنه جُر لأنه معطوف على الضمير المجرور، وردَّه البصريون، وقدروا الآية: (وكفرٌ به وصدٌّ عن المسجد الحرام (وعلقوا المجرور بعامل محذوف دل عليه الصد. الموازنة بين المذهبين: فمذهب الكوفية أكثر تشعباً وأوسع رواية، ومذهب البصرية أوسع قياساً وأضيق رواية على أن اتساع القياس البصري المبني على العلل العقلية قد يمنع السائغ ويضيق عن المسموع، كما رأينا. وهذا ما دعا المتأخرين من النحاة ألا يجروا على منهاجهم أو يأخذوا أخذهم. فقد حكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه رد بعض القراءات القرآنية لخروجها عن قراءة الجمهور، وكذلك فعل المازني أبو عثمان والمبرد أبو العباس والزجاج أبو اسحاق. وقد نزع المتأخرون إلى مخالفتهم فارتضوا القراءات جميعاً واقتاسوا بها، واتخذوا منها موضعاً لاستقرائهم واستنباط أصولهم، شاعت لغتها أم لم تشع ولا ريب أن في صحة القياس على ما ترد به الآيات الكريمة ثراء لأساليب القول في اللغة فوق ثرائها، وإغناء لمذاهب الكلام فوق اتساعها وتشعبها واستيعابها. وآي القرآن، بأي قراءة قرئت محصنة من نظر الناقد والمعترض، مرتفعة عن مقام المتعقب والمستدرك. أما اعتذارهم بأن العرب لم تقصد إلى القياس على الشاذ منها بحسب مذهبهم النحوي، فليس بشيء. وما دامت القراءات كلها على اختلافها كلام الله فمن قرأ حرفاً من هذه الحروف فقد أصاب شاكلة الصواب أياً كان ذلك الحرف، ولا يجوز منع أحد من القراءة بأي حرف، ذلك أن الوجوه التي أنزل الله بها القرآن تنتظم كل وجه قرأ به النبي (وأقرأه أصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 قال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط (2/363) : "والقراءات لا تجيء على ما علمه البصريون ونقلوه" وقال (4/271) : "هؤلاء النحاة يسيئون الظن بالقراءة ولا يجوز لهم ذلك" وقال (4/271) : "ولسنا متعبدين بأقوال نحاة البصرة وإنما نتبع الدليل". وقال أبو عمرو الداني في جامع البيان: "وأئمة القراء لا تعتمد في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقبس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل. والرواية إذا ثبتت لا يردها قياس عربية ولا فشوّ لغة". وقال الشيخ عبد العظيم الزرقاني في كتابه (مناهل العرفان/ 415) : "فإذا ثبتت قرآنية القرآن بالرواية المقبولة، كان القرآن هو الحكم على علماء النحو وما قعَّدوا من قواعد، ووجب أن يرجعوا هم بقواعدهم إليه، لا أن نرجع نحن بالقرآن إلى قواعدهم المخالفة نحكِّمها فيه، وإلا كان ذلك عكساً للآية، وإهمالاً للأصل في وجوب الرعاية". وهكذا تحلل ابن مالك وابن هشام فيما اجتهدا فيه، من حدود البصرية في كثير من الأحيان، ولو تهيأ للنحو من الأئمة من استنوا بهذه السنة ونهجوا هذا السبيل فتمنعوا على المتابعة والمشابهة، وفازوا من التعبد بمذهب مخصوص، ونجوا مما لا تحتمله طبيعة اللغة أو يأباه خصوصها من الجدل، وعنوا بنحو الكوفية كلما أوغلت البصرية في التعليل فتنكبت الجادة، وعولوا على القرآن وآثروا ما جاء فيه على كل مروي، أقول لو تهيأ للنحو أمثال هؤلاء لكان خطة سديدة سوية في التجديد والإحياء. القياس والسماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 القاعدة عند النحاة أنه إذا ورد السماع بطل القياس. قال ابن جني في الخصائص (1/103- ط/1913م) : "واعلم أن الشيء إذا اطرد في الاستعمال وشذ عن القياس، فلا بد من اتباع السماع الوارد به فيه نفسه". وقال (1/131) : "واعلم أنك إذا أداك القياس إلى شيء، ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشيء آخر على قياس غيره، فدع ما كنت عليه، إلى ما هم عليه..". فما مرد التعويل على السماع في الأصل؟ أقول لا شك أن مرد التعويل على السماع في الأصل هو الحرص على ضبط اللغة وضمان سلامتها، مذ كان يعمل الأئمة على حصرها وتدوينها. ولكن مهما اشتد الداعي إلى العناية بالسماع وتعلقه والكلف به والتمكن منه، فينبغي ألا يكون الحرص عليه حائلاً دون ما يمكن أن يلتمس فيه علة جامعة فيبنى عليه قياس، في كل ما تدعو إليه حاجة التعبير والاصطلاح فتأذن به طرائق النقل والمجاز وسبل التصريف والاشتقاق. وهذا ما أخذ به مجمع اللغة العربية القاهري وإذا كان ابن فارس لم يجز قياساً لم يقسه الأوائل ولا قولاً لم يقله العرب، رعاية للأصل وتعلقاً به وحياطة له، فقد يتفق أن يقتاد الاستقراء إلى قياس لم ينبه عليه الأئمة، أو يتفق أن تتجاوز ملكة الأدباء المتمكنين هذا الحد بعفو الخاطر إذا ألجأت إلى ذلك حاجة في الاستعمال، أو دفعت إليه قوة الأداء فتصطفي اللفظ الذي يقع موقعه المرتجى ويصير إلى مستقره المطمئن. والقريحة المطبوعة إنما تتدفق بمثله قصد إحكام الأداء، ولو خالف الأصل المعروف. فانظر إلى ما قال أبو محمد عبد الله بن سنان الخفاجي المتوفى (466هـ) ، في كتابه (سر الفصاحة/ 62) : "وقد يكون التأليف المختار في اللفظة على جهة الاشتقاق، فيحسن أيضاً كل ذلك". وأوضح مذهبه فقال: "ومثال لذلك مما يختار قول أبي القاسم الحسين بن علي المغربي في بعض رسائله: ورعوا هشيماً تأنفت روضه، فإن تأنفت، كلمة لاخفاء بحسنها لوقوعها الموقع الذي ذكرته". وليس في اللغة: تأنفت، ولعل المغربي قد تصور تنزه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 فأتى بتأنَّف، طبعاً وسلاسة. قال ابن القوطية في كتابه (الأفعال) : "وأنفت من الشيء أنفاً وأنفة: غضبت، وأيضاً تنزهت عنه". وأورد الخفاجي مثالاً آخر فقال: "وكذلك قول أبي الطيب المتنبي: إذا سارت الأحداج فوق نباته تفاوح مسك الغانيات ورنده فإن تفاوح كلمة في نهاية الحسن. وقد قيل ان أبا الطيب أول من نطق بها على هذا المثال، وأن وزير كافور الأخشيدي سمع شاعراً نظمها بعد أبي الطيب، فقال: أخذتموها". وهكذا حُكي عن المغربي قوله (تأنف) وعن المتنبي قوله (تفاوح) ، ولم يسمعا أو يكونا على قياس معروف لكنهما وقعا موقعهما المختار في الأداء، ولم يخرجا في الاشتقاق عما ألف عن العرب قوله في أفعال أخرى. أفليس يتأتى أن يدخل هذان اللفظان في قياس لو ابتغينا لصيغتيهما مثل هذا القياس، ببحث وتلطف واستقراء. فالسماعي قد يصير قياساً إذا استخرجت له بالاستقراء قاعدة يعرف بها. وإلا كان قيداً يحجر اللغة عن التوالد والانبساط ويقصر خطاها عن الاستجابة والمؤاتاة. ولا خفاء بأن سبل التصريف وضوابط الاشتقاق لا يشوبها من سرف التعليل في ذكر الأسباب ومسبباتها ما يشوب القياس في قواعد النحو. ومن ثم لم يفضِ التعويل عليها إلى شيء مما آل إليه الانحراف في قياس النحو وتعليله، من النأي باللغة عن خصوصها وتحيف طبيعتها والانزواء بها عن سبيل المعاني إلى الافتنان بصناعة الإعراب، حتى انقبض الأعراب عن أن يكون دليل المعاني وسبيل الإبانة والإفصاح. ولكن ما الحكم عند النحاة إذا اجتمع في اللفظة أو المسألة سماع وقياس؟ ما الحكم إذا سمع في اللفظة أو المسألة استعمال على غير قياس فهل يمتنع الأخذ فيه بالقياس إلى جانب السماع؟. أقول لا يكاد الأئمة يجمعون في ذلك على رأي، وقد تباينت مذاهبهم فكان لكل جماعة منهم وجهة في كل مسألة. مثال ذلك ما اتخذه الأئمة من أقيسة لمصادر الثلاثي، بناء على الأكثر والأغلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 قال الأشمولي في شرحه على الألفية (3/122) : "فَعل بفتح الفاء وإسكان العين هو قياس مصدر المتعدي من ذي ثلاثة سواء كان مفتوح العين كردّ رداً وأكل أكلاً وضرب ضرباً، أو مكسورها كفهم فهماً وأمن أمناً وشرب شرباً ولقم لقماً" وأردف: "والمراد بالقياس هنا أنه إذا ورد شيء ولم يعلم كيف تكلموا بمصدره فإنك تقيسه على هذا، لا أنك تقيس مع وجود السماع، قال ذلك سيبويه والأخفش" وعقَّب على ذلك الإمام الصبان فقال: "ومذهب الفراء إلى أنه يجوز القياس عليه، وإن سُمع غيره". وحكى السيوطي في الهمع فقال: "لا تدرك مصادر الأفعال الثلاثية إلا بالسماع، فلا يقاس على فعل ولو عدم السماع". وهكذا تشعبت آراء الأئمة في مصدر الثلاثي إلى مذاهب ثلاثة مذهب يمنع القياس ولو لم يكن سماع، وآخر يأخذ بالقياس ولو كان سماع، وعليه الإمام الزمخشري، وثالث لا يأخذ بالقياس حتى يمتنع السماع. وقد أجازوا للشاعر غالباً أن يقيس، ولكن في ضرورة. ومثال آخر هو جمع التكسير فإذا سمع لمفرد جمع على غير قياس امتنع النطق بقياسه، إلا أن يأتي به شاعر في ضرورة، هذا هو الأكثر.. قال ابن جني (1/132) : "وأعددت ما كان قياسك أدّاك إليه لشاعر مولد أو لساجع أو لضرورة لأنه على قياس كلامهم، بذلك وصَّى أبو الحسن". وقد سُمع عن العرب (استصوب واستحوذ) والقياس أن يأتيا بالإعلال على (استصاب واستحاذ) فهل أخذ الأئمة بهذا القياس إلى جانب السماع. أقول ذهب جماعة إلى صحة (استحاذ واستصاب) لأن العرب لم تأت باستفعل بغير إعلال من فعل ثلاثي إلا نطقت به معتلاً، أو لأن الأكثر كذلك، ومن هؤلاء سيبويه، وهكذا فعلوا في مسائل كثيرة، لكن ذلك لم يطرد عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وقد جاء في اللسان (مادة بدا) : (إذا أمكن في الشيء المنسوب أن يكون قياساً وشاذاً، كان حمله على القياس أولى، لأن القياس أشيع وأوسع) . وجاء عن بعض العلماء قولهم: إذا عارض في النسب القياس السماع، جاز القياس والسماع، فلك على هذا أن تقول ثقفي وثقيفي. القياس والظاهرية الظاهرية مذهب فقهي دعا إليه في القرن الثالث الهجري أبو سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني (202-270هـ) . وهو إمام أهل الظاهر في المشرق. وقد جاء مذهبه رداً على أصحاب القياس الذين جعلوا (القياس) رابع الأصول المعروفة في الفقه، وهي الكتاب والسنة والإجماع. أنكر داود القياس جملة، وجعل أصول الأحكام الكتاب والسنة والإجماع وحدها دون القياس والاجتهاد فخالف بذلك ما مضى عليه عمل الصحابة. وقد اشتد في الأخذ بحرفية النصوص ومنع التقليد وجعل لكل فاهم للعربية أن يتكلم في الدين بظاهر القرآن والسنة. وقد شاع مذهبه هذا في الأندلس، وتولى الدعوة إليه والاحتجاج له والمنافحة عنه في القرن الخامس الهجري الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي (384-456هـ) ، وقد تلقى أصول الفقه الظاهري على أستاذه أبي الخيار مسعود بن سليمان بن مفلت (426هـ) فرأى الاعتماد على الكتاب والسنة والإجماع وخالف مدرسة الرأي في رفضه القياس وإنكاره التقليد، معتقداً أن القرآن إنما يجب أن يُحمل على ظاهره، ولا يحال عن ظاهره البتة، اللهم إلا أن يأتي نص أو إجماع أو ضرورة حس على أن شيئاً منه ليس على ظاهره، وأنه نقل من ظاهره إلى معنى آخر. فالانقياد حينئذ واجب لما يوحيه ذلك النص والإجماع والضرورة. وقد جاء تفصيل ذلك في كتب ابن حزم الأندلسي لا سيما كتاب (ابطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل) وكتاب (مسائل أصول الفقه) وكتاب (كشف الالتباس ما بين الظاهرية وأصحاب القياس) . القياس وابن مضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 عاش ابن مضاء أحمد بن عبد الرحمن في القرن السادس الهجري (512-592هـ) فبدا أنه اتخذ مذهبه في أصول النحو على مثال مذهبه الظاهري في أصول الفقه، فأنكر القياس كما أنكرته الظاهرية وعوّل على النص كما عولت، ذلك في كتابه الشهير (الرد على النحاة) . وليس هذا بدعاً إذا عرفنا أن ابن مضاء كان قاضي القضاة في دولة الموحدين، وقد كان هؤلاء أصحاب رسالة تدعو إلى العودة إلى أصول الدين في الكتاب والسنة، قبل أن يكونوا أصحاب سياسة، وكان مؤسس دولتهم أبا عبد الله بن تومرت الملقب بالمهدي. وأن يعقوب بن يوسف خليفة الموحدين يومئذ، وهو علم من أعلام الفقه، قد أمر بحرق كتب المذاهب الأربعة وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث، كما أمر سلطان المرابطين علي بن تاشفين يوماً بإحراق كتاب الإمام الغزالي (إحياء علوم الدين) . قال الدكتور شوقي ضيف في كتابه (المدخل إلى الرد على النحاة) : (إن العصر الذي ألف فيه كتاب الرد على النحاة كان عصر ثورة على المشرق وأوضاعه، في الفقه وفروعه. وقد كانت دولة الموحدين، منذ أول الأمر، تدعو إلى هذه الثورة، حتى إذا كان يعقوب رأيناه يأمر بحرق كتب المذاهب الأربعة، يريد أن يرد فقه المشرق على المشرق. وقد تبعه ابن مضاء القرطبي قاضي القضاة في دولته فألف كتاب- الرد على النحاة- يريد أن يرد به نحو المشرق. أو بعبارة أدق يريد أن يرد بعض أصول النحو، وأن يخلصه من كثرة الفروع فيه وكثرة التأويل، مستناً في ذلك بسنة أميره يعقوب، إذ كان يُعجب مثله، على ما يظهر، بمذهب الظاهرية، فذهب يحاول تطبيقه على النحو) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ولا بد لنا حين نذكر يعقوب بن يوسف هذا، الذي لقب بالمنصور، من أن ننعى عليه أمراً أتى فيه سوأة ليست بأيسر السوآت، وأن نحمد له أمراً جليلاً ركب مراقيه واضطلع بأعبائه فكان فيه بعيد الهمة نافذ العزم. أما أمره المنعي عليه فهو موقفه من السلطان الأيوبي صلاح الدين يوم بعث إليه هذا، وقد فاز ببيت المقدس ودانت له مصر وبلاد الشام جميعاً وشمالي العراق (ت 589هـ) ، بعث إليه ينشد محالفته لمحاربة ملوك أوربة، فاكرم يعقوب وفادة الرسول لكنه لم يجبه إلى ما سأل أو ينزل على مقترحه فيلبي مبتغاه، قالوا كان ذلك لإنكار يعقوب أن يلقبه صلاح الدين في خطابه بسلطان الموحدين ولا يدعوه بأمير المؤمنين (رواية ابن خلكان- 2/432) . وأما أمره المحمود له فهو نصره المبين بعد ذلك في موقعة الأرك (591هـ) في الأندلس، فقد كان ذلك نصراً للعرب ضعضعوا به أركان أعدائهم وزلزلوا أقدامهم وكادوا فيه يقضون على مملكة قشتالة. ولكن هل أنكر ابن مضاء العلة والقياس جملة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 أقول ليس ثمة إمام قد عاف العلة والقياس جملة، بصرياً كان أم كوفياً، وإنما اختلف نصيب كل إمام من الاقتباس بهما وفوراً أو نزوراً، إذ يتسنى من ذلك في أصول النحو ما لا يتسنى في أصول الفقه. ذلك أن في علل النحو من فسحة النظر ما لا تتسع له علل الفقه أحياناً كثيرة، كأن يكون البحث في علة مناسك الحج وترتيبها، وفرائض الصلاة وعدد ركعاتها فنجد مرد وجوبها إلى ثبوت الأمر بها بحكم الشريعة، أي بالنص، ولا نظير لذلك في النحو. قال ابن جني في الخصائص (/52-ط/1913م) : "فأول ذلك أنا لسنا ندّعي أن علل العربية في سمت العلل الكلامية البتة. بل ندعي أنها أقرب إليها من العلل الفقهية" وهو يفرق بين الإجماع في اللغة والإجماع في الفقه، فيرى الإجماع في اللغة غير ملزم للمعارض، على حين يلزمه الإجماع في الفقه البتة. لكن على الإمام في اللغة إذا شاء مخالفة الجماعة والخروج عما اتفقت عليه كلمة اللغويين واتحدت أن (يناهض هؤلاء إتقاناً ويثابتهم عرفاناً ولا يخلد إلى سانح خاطره ولا إلى نزوة من نزوات تفكره، فإذا فعل ذلك سُدد رأيه وشُيع خاطره- الخصائص: 1/197) . ثار ابن مضاء على النحاة وعاف مذهبهم في (العامل) لغلوهم في التعليل واستبعد الجدل النظري والحجاج الفلسفي وكل ما ينأى باللغة عن طبيعتها وينحرف عن خصوصها، وليس هو أول من انتهج هذا النهج وذهب هذا المذهب. ذلك أنه قد عوّل على النص وأغفل القياس من هذه الجهة، لكنه قد أخذ ولا شك بنمط من القياس. فهو قد أقر (العلة) وأبى (علَّة العلَّة) أو العلل الثواني والثوالث، كما أنكرها ابن جني وعافها الزجاجي نفسه. وإقرار (العلة) يدعو إلى البحث عن العلة الجامعة والتماس القياس الذي لا بد منه، وإلا فكيف يمكن أن تنهض لغة لا يعمل قياس في رسم ضوابطها وشرح حدودها، ويمهد لها سبيل التوليد والنماء ومذاهب الاتساع والارتقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ذهب الدكتور طه حسين، رحمه الله، إلى أن ابن مضاء (لم يفكر بالإصلاح بمقدار ما فكر في هدم النحو) كما جاء في مجلة المجمع القاهري (ج/4) ، وخالفه الدكتور مازن المبارك في كتابه (النحو العربي) فقال: "أما رأي الدكتور طه حسين فهو مجحف في حق ابن مضاء، وبعيد عن جادة العدل. ثم هو قبل ذلك كله حكم غريب. أو لم يناد ابن مضاء بما ينادي به- إحياء النحو- اليوم من إلغاء نظرية العامل واعتبار حركات الإعراب دلائل على المعاني، فكيف يكون هداماً أكثر منه مصلحاً في رأي من يرى في محاولة الأستاذ إبراهيم مصطفى إحياء للنحو ويصر على أن تحمل هذا الاسم؟ ". أقول عاب ابن مضاء ما كان للنحاة من أصول، ولم يقم أصولاً جديدة تحل محلها وتغني مُغناها.. والذي فعله أنه نهج السبيل لاتخاذ هذه الأصول ووجه الفكر لبلوغ القصد وتحقيق الغاية، بل شرع في اعتماد هذه الأصول فقال (107) : "فإن قيل أنت قد أبطلت أن يكون في الكلام عامل ومعمول، فأرنا كيف يتأتى ذلك مع الوصول إلى غاية النحو؟ قلت أورد هذا في أبواب تدل على ما سواها.. وقد شرعت في كتاب يشتمل على أبواب النحو كلها فإن قضى الله بإكماله.. وإلا فيستدل بهذه الأبواب على غيرها". ولكن أين كتابه الذي حاول به اعتماد هذه الأصول كما يقول الدكتور محمد خير الحلواني في كتابه (أصول النحو العربي) ؟ النحو عند المتأخرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 تألق النحو أول ما تألق في البصرة قبل أكثر من اثني عشر قرناً ثم تبعتها الكوفة بعد أن تلمذت لها فكان لها سماتها ورواسمها. وقد مدتا بغداد بمعينها فبزغ في النحو نجم بغداد وهبت رياحها. ثم حذت مصر هذا الحذو فتلمذت للعراق وبعثت بوافديها إليها منذ أواخر القرن الثاني للهجرة، ومن هؤلاء آل المصادري وأولهم الوليد بن محمد التميمي المصادري الذي لقي الخليل في البصرة وأخذ عنه، وابنه أبو الحسن محمد بن الوليد الذي انتسخ كتاب سيبويه في بغداد، وقابل ما انتسخ بما احتفظ به المبرد من الكتاب، وعاد بالنسخة إلى مصر ليقرئها طلابه. ووفد أبو العباس المصادري ابن أبي الحسن إلى بغداد ليلقى بها أبا اسحاق الزجاج في أواخر القرن الثالث الهجري وأخذ عنه، وخلفه أخوه أبو القاسم في إقراء كتاب سيبويه وكان دون أخيه في العلم. وتبع هؤلاء أبو علي الدنيوري (ت 289) وقد أقام بمصر زمناً ثم قصد البصرة فلقي بها المازني وأخذ عنه كتاب سيبويه، ثم قصد بغداد وتلمذ لثعلب فأخذ عنه نحو الكوفية ثم مال إلى المبرد فسحر ببيانه، وعاد بعد هذه الرحلة إلى مصر ليذيع فيها نحو البصريين ويشيعه.. ابن هشام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وقد استمر المصريون يتلمذون لشيوخهم في العراق ويشرحون كتبهم حتى ظهر فيهم ابن هشام أبو محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف، وكان مصري المولد والنشأة (708-761هـ) وقد قرع صيته الأسماع وفشا ذكره على الألسنة حتى قيل انه كان أنحى علماء عصره. عرف ابن هشام بكتابه الشهير (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) وهو كتاب جليل جامع غزير المادة، انتحى المؤلف في تأليفه نهجاً جديداً، قال ابن خلدون في مقدمته: "وصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها، استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصلة، وتكلم على الحروف والمفردات والجمل، وحذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابها، وسمَّاه بالمغني في الإعراب. وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظمت سائرها، فوقفنا منه على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة ووفور بضاعته منها". أقول إذا قيس نهج ابن هشام في ترتيب الكلام على الأدوات إلى ما عرف في عصره من ذلك عُدّ ذلك نهجاً فريداً. لكنه لو قرن منها ما تشابه في الدلالة والعمل بدل أن يضم ما تدانى أوائله منها في اللفظ لكان ذلك أولى بعصرنا. كان ابن هشام عالماً في النحو واللغة والأدب، كما كان عالماً في الفقه، ولم يعرف أنه مال في النحو إلى مذهب خاص، فقد أخذ بالقياس والعلة النحوية وكان يختار في كل مسألة ما رجح لديه فيها. ولم يخضع النحو لأصول الفقه كما اعتاد بعض النحويين في عصره. ولم يلزم الإجماع النحوي كما فعل الفقهاء في أصولهم، وتمسك به المتأخرون من النحاة كالسيوطي وأبي البقاء العكبري. وله جملة من الكتب منها الاعراب عن قواعد الأعراب وشذور الذهب وشرحه وقطر الندى وشرحه ... السيوطي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 واشتهر من متأخري المصريين الإمام جلال الدين السيوطي (489-911) . ولد بأسيوط وتولى التدريس والفتيا وتفرغ للتأليف فأغنى المكتبة العربية وبلغت مؤلفاته المئات في علوم القرآن والحديث والفقه والعربية. ومن كتبه في العربية (الاقتراح في أصول النحو) وقد جمع فيه ما تفرق في مصادر كثيرة ورتبه في الأبواب والفصول والتراجم ترتيب أصول الفقه، كما قال ونهج في تأليفه نهج الفقيه فوقف عند الإجماع، ولم يفته، على كل حال أن يخص العلل النحوية ببحث مشبع وشرح مسهب. ثم كتاب (الأشباه والنظائر) وهو كتاب غزير المادة جزيل المباحث، وقد قال في خطبته: "قصدت أن أسلك بالعربية سبيل الفقه فيما صنفه المتأخرون فيه وألَّفوه من كتب الأشباه والنظائر". وقد اهتم فيه ببسط الآراء النظرية والعلل الجدلية. ثم كتاب (همع الهوامع في جمع الجوامع) وقد عُني فيه بالشواهد وأكثر من النقول وأجمل فيه ما تناثر في أمهات الكتب النحوية. وأظهر ما في كتب الإمام السيوطي على ضخامتها الجمع والترتيب والتبويب مع استيعاب للأصول وإحاطة بالفروع واستقصاء للمسائل، وقد دل بذلك على سعة اطلاعه ودقة إحصائه مع أمانة في النقل ورد للرأي إلى أصحابه. نحاة الأندلس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 كان نحاة الأندلس يقتفون في الغالب أثر نحاة المشرق ويأتمون بهديهم ويتعلقون بهم تعلق الفرع بالأصل ويتطلعون إليهم تطلع التلميذ إلى أستاذه. وكثيراً ما كان يرتحل علماء الأندلس إلى المشرق لينهلوا من موارده ويعودوا إلى موطنهم ليقرئوا ما قرؤوه. ومن هؤلاء عبد الملك بن حبيب ومنذر بن سعيد البلوطي وابن الفرضي وأبو الوليد الباجي. وقد كان يحدث العكس فقد دأب حكام الأندلس على استقدام كبار علماء المشرق في اللغة والأدب. ومن أظهر من وفد إلى الأندلس من هؤلاء أبو علي القالي صاحب كتاب الأمالي (288-356هـ) . فقد ولد بأرمينية ونشأ فيها وقصد بغداد ينهل فيها اللغة والأدب ثم يمم شطر الغرب أقصى الغرب ليتولى التدريس في الأندلس. وقد أفاد المغرب من موقعه بين المشرق والأندلس فكان محط العلماء الوافدين إلى الأندلس والآيبين إلى المشرق، وكثيرون هم الذين تعلقوا بالمغرب فجعلوها وطناً لهم. وقد شهدت الأندلس كثيراً من أهل اللغة كأبي موسى الهروي وقد كان لغوياً فقيهاً، ارتحل إلى المشرق فلقي مالكاً من الفقهاء والأصمعي وأبا زيد الأنصاري من علماء اللغة. كما ارتحل جودي بن عثمان الموزوري فعاد بنحو الكوفيين، ولقي من أعلامهم الكسائي والفراء. وقام ثابت بن عبد العزيز السرقسطي وابنه قاسم بزيارة المشرق فحملا إلى الأندلس معجم العين للخليل بن أحمد، وقد قام باختصاره من علماء الأندلس أبو بكر الزبيدي (379هـ) . وقد تجلت محاكاة الأندلسيين للمشرقيين في كثير مما ألفوا. وهذا العقد الفريد ومؤلفه الأندلسي ابن عبد ربه، فقد قال الصاحب بن عباد حين ظفر بالكتاب: (هذه بضاعتنا ردت إليها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وقد أخذ ابن بسام على جماعته هذه المحاكاة فقال: "إن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة رجوع الحديث إلى قتاده، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب أو طنّ بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنماً وتلوا ذلك كتاباً محكماً فغاظني منهم ذلك- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة 1 /2" وقد استمرت الحال على هذا المنوال حتى القرن الخامس الهجري، حين شاع في الأندلس مذهب الظاهرية في أصول الفقه، وكان قد نشأ في المشرق خلال القرن الثالث الهجري وإمامه أبو سليمان الأصفهاني. قام المذهب على رفض القياس وإنكار التقليد، وتولى الدعوة إليه والاحتجاج له في الأندلس الإمام أبو محمد علي بن سعيد بن حزم الأندلسي (348-456) . وكان ابن حزم هذا يتمنى لو كان مشرقياً حين يقول: أنا الشمس في جو العلوم منيرة ولكن عيبي أن مطلعي الغرب وتلا ذلك نبوغ ابن مضاء في القرن السادس الهجري، وقد اتخذ مذهبه في أصول النحو على مثال مذهبه الظاهري في أصول الفقه، فأنكر القياس وعوّل على النص في كتابه (الرد على النحاة) كما تقدم تفصيل ذلك، وكان عصره عصر الثورة على المشرق ومذاهبه. ابن مالك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ومن أشهر نحاة الأندلس المبتكرين في القرن السابع الهجري الإمام محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني ولد في بلدة جيان بالأندلس وقرأ العربية على ثابت بن محمد جيان الكلاعي، كما قرأها على ابن يعيش شارح (المفصل) . وقد انتقل إلى دمشق وتوفي فيها. (601-672هـ) وابن مالك هذا هو صاحب الألفية المشهورة باسمه، وقد كثر شرّاحها وكان من أبرز هؤلاء ابنه بدر الدين محمد بن مالك (686هـ) ، وقد عُرف بحذقه للمنطق فجاء شرحه مشوباً بالنهج المنطقي، فاختط ذلك لسائر شراح الألفية وحملهم على جادته. وإذا كان نحاة الأندلس قد نادوا بصحة استنباط القواعد اعتماداً على الحديث النبوي منذ دعا إلى ذلك الإمام ابن حزم الأندلسي في القرن السادس وتبعه في ذلك السهيلي وابن خروف، فقد كان ابن مالك أكثرهم حماسة لهذا الرأي وأشدهم استمساكاً به، وقد جرى على الاستشهاد بالحديث في كثير من الأحكام التي خالف فيها الجمهور وقد كان من أنصار هذا المذهب الجوهري وابن جني وابن فارس وابن سيده وابن بري. وهو لم يمل إلى بصرية أو كوفية وإنما اختار في كل مسألة ما هداه إليه اجتهاده بالحجة. أبو حيان: وقد تألق بعد ذلك نجم أبي حيان الأندلسي الغرناطي المولد والمنشأ (654-754هـ) وله من الكتب سفره الضخم في التفسير وهو (البحر المحيط) ، وله (شرح التسهيل) ومختصره (ارتشاف الضراب) وإذا كان أبو حيان قد بدا ذا أسلوب منطقي في تعريفه للحدود وتحليلها فقد ابتعد عن الغلو في التعليل. وإذا كان قد استمسك بالنص وعاف من التأويل ما كان متكلفاً فإنه لم يدع القياس بل عول عليه في أحكامه. وقد حمله استمساكه بالنص على اهتمامه بالقراءات القرآنية جميعاً واشتغاله بها، وعاب على النحاة ترددهم في التعويل عليها وقال: "ولسنا متعبدين بأقوال نحاة البصرة- البحر المحيط- 4/271"، كما عاب عليهم المفاضلة فيما بينها (2/265) وقال: "القراءات لا تجيء على ما علمه البصريون ونقلوه- 2/263". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ولا يمكن الحديث، على كل حال، عن نحو أندلسي بسمات خاصة ورواسم فريدة، على إحاطة النحاة الأندلسيين وجدوى ما رفدوا به النحو من جدة في البحث والاجتهاد فإنهم لم يتفردوا فيه بخط عام يميزه من نحو المشرق عامة بعد ابن مضاء. *** يتبين بهذا كله أنه لا بد من التعويل على القياس، والأخذ بالعلة والاقتصار منها على ما دعوه بالعلة التعليمية والعلة القياسية، فلا نغلو في التعليل ونمضي فيه حتى نخضع اللغة لأصول المنطق والفلسفة ونهج الجدل والحجاج، فننأى بها عن خصوصها وطبيعتها. قال الزجاجي في (إيضاح علل النحو) : "قد عرّفناك أن الأشياء تستحق المرتبة والتقديم والتأخير على ضروب فنحكم لكل واحد بما يستحقه، وإن كانت لم توجد إلا مجتمعة. فنقول ان الجسم الأسود قبل السواد، ونحن لم نر الجسم خالياً من السواد الذي هو فيه، ولا رأينا السواد قط عارياً عن الجسم، بل لا يجوز رؤيته لأن المرئيات إنما هي الأجسام الملونة، ولا ندرك الألوان خالية من الأجسام..". فما حاجة النحو إلى جدل لفظي لا درك فيه، وبحث فلسفي لا غناء له في صنعة نحو أو بيان. وقال نحوي في تعليل أن (هل) إما أن تباشر الفعل كقولك: (هل قدم زيد) أو تباشر اسماً لا يقع في تعليل حيِّزه فعل. تقول: (هل زيد قادم) ولا تقول: (هل زيد قدم) ، قال: (إن هل إذا لم تر الفعل في حيِّزها حنت إليه لسابق الألفة فلم ترض حينئذ إلا بمعانقته) فما حاجة النحو إلى مثل هذا العبث والتخييل وهل يجديه ذلك نفعاً أو يسوق إليه بياناً أو يوجب له حسناً؟ ولا مناص من أن يفسح للسماع ويوسع له، ولو خالف القياس، فقد يستدعيه الاستعمال وتقتضيه حاجة التعبير. ذلك أن كثيراً من الشاذ المتأول إنما يثبت الأصل الذي انزوى عنه وينبه على أن مجانبته لهذا الأصل وانفراده عنه بالحكم، إنما كان لداع في التعبير أوجبه الاستعمال، على ألا يعتمد هذا الشاذ لترسى فيه قدم قياس يبطل الأصل الثابت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 مثال ذلك مجيء السماع بجمع المصيبة على المصائب والقياس المصيبات، فقد كان ذلك لعلة رعوها. ذلك أنهم أنزلوا (المصيبة) وهي صفة في الأصل منزلة الأسماء، فحملهم ذلك أن يجمعوها جمع الأسماء على (مصائب) . وهكذا جاء السماع بجمع (المسن) على صيغة اسم الفاعل، من الآدميين أو غيرهم، على (المسان) بفتح الميم وتشديد النون. وذلك لعلة موجبة، فقد اشتهر استعمال (المُسِن) منقطعاً عن موصوفه فأنزل منزلة الأسماء فكان من شأن ذلك تكسيره تكسيرها. ونحو ذلك جمعهم مخزية على مخاز ومدينة على مداين ومدائن ومطيحة على مطاوح والمصحف على المصاحف والموسى على المواسي. وهكذا (الخضراء) فهي في الأصل صفة للبقلة لكنها استعملت استعمال الأسماء، فقيل (ليس في الخضراوات صدقة) أي في البقول فجمعت جمع الأسماء دون الصفات. وكذلك القول في (نكباء ونكباوات) وهي الريح التي تنكبت عن الرياح الأربع، وفي (دكاء ودكاوات) للأرض إذا انبسطت فأشبهت الرابية. والقياس في استفعل) إذا اعتلت عينه أن يُعل أي يقلب حرف علته (واواً أو ياء) ألفاً. نقول استجاب واستمات واستكان، وشذ قولهم: (استجوب) لأنهم أرادوا أن ينبهوا على اشتقاقه من (الجواب) كما اشتق (استتيس واستفيل) من التيس والفيل. وقالوا: (أغيم) من الغيم و (أعوه) من العاهة. وقالوا في (مفعلة) المشتقة من الاسم: شراب مطيبة بفتح الياء ودواء مبولة بفتح الواو، أي يدعو إلى الطيب والبول، وأرض مفيأة ومثورة يكثر بها الثور والفيء. ولو اشتقت (مفعلة) من الفعل لجاءت بالإعلال أي قلب حرف علتها (الواو أو الياء) ألفاً كالمقالة والمقامة والمنامة والمنارة والمثابة، وهو الأصل والقياس، ذلك فرقاً بين مفعلة الاسمية ومفعلة الفعلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ولا معدل عن أن ننأى بالنحو أن يكون علماً يعرف به أحوال الكلم أعراباً وبناء فيقتصر البحث فيه على أواخر الكلمات ويشوبه من جفاف القواعد ما لا يترقرق فيه ماء بيان أو تشرق به ديباجة كلام. فالقريب المختار أن يكون علم النحو قسم علم المعاني فيغدو كل تتمة الآخر. قال ابن كمال باشا في رسالته: (ويشارك النحوي صاحب المعاني في البحث عن المركبات إلا أن النحوي يبحث عنها من جهة هيئتها التركيبية صحة وفساداً، ودلالة تلك الهيئات على معانيها الوضعية على وجه السداد، وصاحب المعاني يبحث عنها من جهة حسن النظم المعبر عنه بالفصاحة في التركيب وقبحه.. فما يبحث عنه في علم النحو من جهة الصحة والفساد، يبحث عنه في علم المعاني من جهة الحسن والقبح، وهذا معنى كون علم المعاني تمام علم النحو) . ونختتم فصلنا هذا بما جاء به الإمام السيد في شرح المفتاح، إذ قال: "البحث في اللغة اما عن المفردات من حيث جواهرها وموادها وهيأتها، فعلم اللغة، أو من حيث صورها وهيأتها فقط فعلم الصرف، أو من حيث انتساب بعضها إلى بعض بالأصالة والفرعية فعلم الاشتقاق، وأما عن المركبات فباعتبار هيأتها التركيبية وتأديتها لمعانيها الأصلية فعلم النحو، وأما باعتبار تأديتها لمعان مغايرة لأصل المعنى فعلم المعاني، وأما باعتبار كيفية تلك الإفادة في مراتب الوضوح فعلم البيان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 النحاة والمفعُولات لاشك في أنّ على الباحثين أنْ يكشفوا عما يقع من هفوات العلماء ويتفق من زلاتهم، وأن يتداركوا ما فاتهم بحثه فأغفلوه، وهل يُعقب السكوت عن الخطأ إلا جهلاً أو تُلقح المشايعة فيه إلا شرَّاً. على أن عليهم أن يأخذوا فيما يبحثون بسبب وثيق، فلا يخطئوا السبيل إلى الحق ولا ينوا عن مزاولة الصبر واستنفاذ الوسع في التماسه. وأن يحسنوا التحقيق والتثبت فيما يعيبون فلا يعجلوا بالحكم قبل استيفاء الحجة فيتجه من نقدهم غض أو انتهاك لمن حبسوا أنفسهم على اللغة فصدقت نياتهم في تحري الصواب وابتغاء الحق. من ذلك ما شُغف به الدكتور مصطفى جواد، عضو المجمع العلمي العراقي، رحمه الله، من تتبع للنحاة، فيما تناوله من مباحث لغوية بارعة في كتابه (دراسات في فلسفة النحو والصرف) . وإذا كان له في هذا المضمار طرائف تبعث على النظر وفرائد تُغري بالتأمل والتدبر فإن له منازع تشف عن حيف لفضل هؤلاء وانتقاص لعظم شأنهم فيما قدّموه، وعلوّ مرتبتهم فيما أسلفوه. فكيف يدرك النقد غَرضه إذا صار أمره إلى أن تحيَّف على الحق فلم يعلق منه بسبب، ومال عن القصد فلم يحظَ منه بطائل. أسماء المفعولات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 عقد الدكتور جواد في كتابه الذي أشرنا إليه فصلاً فيما أسماه (أسماء المفعولات فحاول التفريق بين المفعول المطلق من جهة، وبين سائر المفعولات كالمفعول به والمفعول فيه والمفعول لأجله والمفعول معه، من جهة أخرى. فالمفعول المطلق هو المفعول الحقيقي، أما ماعداه فليس مفعولاً حقيقياً في واقع الأمر وجوهره، فالمفعول به هو (المفعول به فِعلٌ) أي الذي فُعلٌ. والمفعول فيه هو (المفعول فيه فِعلٌ) . وإذ آثرنا شرح ما عتاه والكشف عنه والتمثيل له قلنا: إذا قلت: ضربت ضرباً فقد أحدثت الضرب فعلاً، في (ضرباً) مفعول حقيقي. أما إذا قلنا: ضربت الباب، فأنت لم تحدث الباب الذي أسميته مفعولاً، وإنما أحدثت الضربَ بالباب. وكذلك قولك: أكلت في السوق، فأنك لم تُحدث السوق في قولك هذا، والسوق هو المفعول، وإنما أوقعت الأكل فيه. ونظير هذا قولك سعيت طلباً للرزق فإنك لم توقع الطلب وقد جعلته مفعولاً وإنما أوقعت سعَيك من أجل الطلب، وهكذا. المفعول المطلق عند الدكتور جواد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ذكر الدكتور جواد أن المفعول الحقيقي قد سُمِّيَ (مطلقاً) لخلوِّه من كل قيد، على حين قيد كل مفعول سواه بصلة من الصلات، فـ (به) و (فيه) و (لأجله) و (معه) هي هذه الصلات، وما أتى به الأستاذ جواد منسَّق سديد، واضح القصد، بين الدلالة والغرض، وقد بسط رأيه هذا، وأردف (وإذا كان تطبيق الرأي على واقع العربية صحيحاً، لم يجز لمعترض أن يقول لي: هذا لم يقل به العلماء. فالقواعد النحوية لم تنشأ مجموعة ولم يبتدعها الجمهور في زمن واحد، بل نشأت بالتدريج، وابتدعها نحويون مختلفون في أزمان مختلفة باستقراء كلام العرب وما جاء على مثال كلامهم..) وتابع حديثه فقال (ومن أثبت من علماء النحو المجتهدين رأيه بالدليل المبين، فإنه من الخطل والحسد والبلادة أن يقال له: هذا لم يقل به أحد غيرك، فهو مجتهد، وبالاجتهاد تمت تلك الجمهرة من القواعد ... وإنما يجوز للمعترض أن يبطله باستدلال آخر يدعمه بالبراهين النيِّرة والشواهد الكافية) . وأقوال الأستاذ هذه، محكمة أيضاً، ماثلة الأغراض، لا قلق فيها ولا اضطراب، وهو في ذلك دقيق البحث، بعيد البحث، بعيد الغور، سليم الحجة. ولكن ما الذي يعنيه ظاهر رأيه هذا وواضح قوله في الكشف عنه، ألا يعنيان أن النحاة قد أغفلوا ذلك وتجاوزوه. فلم يفطنوا له أن يلتفتوا إليه، وأنه قد استدرك عليهم ما فاتهم وغاب عنهم فلو يحفلوا به أو يأبهوا له؟ ومؤدى ذلك أنه تفرد بما ساقه من الآراء والأدلة فأتى بما تُفتح العين على مثله، ونزع إلى ما لم يُسبق إلى شيء منه. فهل خفي على النحاة حقاً أن يميزوا (المفعول المطلق) من سائر المفعولات، وأن يخصُّوه بحكم، أو يفردوه بوصف وحال؟ المفعول المطلق عند النحاة إن ما قاله الأستاذ جواد في التفريق بين (المفعول المطلق) وسائر المفعولات، قد قاله النحاة جملة وتفصيلاً، بل مَضَوا في شرحه وتبيانه وأفاضوا في الحديث عنه وأسهبوا، وبسطوا القول فيه بسطاً. ما ذهب إليه ابن هشام في هذه المسألة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قال ابن هشام في إعراب قول تعالى (واعملوا صالحاً ـ المؤمنون / 23 (على ما حكاه السيوطي في الأشباه والنظائر (4 / 41) : (إن صالحاً ليس مفعولاً به، بل هو إمّا نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، كما يقول أكثر المعربين في أمثاله، وإما حال كما هو المنقول عن سيبويه، ويكون التقدير واعملوه صالحاً، والضمير للمصدر ... ) وتابع قوله: (وبيان ذلك أمور أحدها أن الفعل المتعدي هو الذي يكون له مفعول به. والمفعول به هو محل فعل الفاعل، وإن شئت قلت: الذي يقع عليه فعل الفاعل.. وهذا المفعول به هو الذي بنَى النحاة له اسم مفعول كمضروب ومأكول ومشروب. فزيد المضروب والخبز المأكول والماء المشروب، هي محل تلك الأفعال، وليست مفعولة، وإنما هي مفعول بها، ومن ضرورة قولنا مفعول به أن يكون المفعول غيره. ومعنى قول النحاة مفعول به: أنه مفعول به شيء من الأحداث، والمفعول هو ذلك الحدث الواقع به، وهو المصدر، وسماه النحاة مفعولاً مطلقاً، بمعنى أن سواه من المفاعيل مفعول مقيد. فإنك تقول: مفعول به، ومفعول فيه، ومفعول له، ومفعول معه، وليس فيها مفعول نفسه إلى المصدر فهو المفعول المطلق، أي المجرد عن القيود، وهو الصادر عن الفاعل نفس فُعله ... ) . ثم قال: (ولك فعل لم يُبن منه اسم مفعول لم يُقل عنه إنه متعد، بل هو لازم، وإن كان له مفعول حقيقي وهو ... المفعول المطلق فهو مصدر وليس مفعولاً به ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 واستطرد ابن هشام في إيضاحه فقال: (وأما سيبويه، رحمه الله، وهو إمام الصنعة فأطلق على المفعول به أنه مفعول، ولم أرَ في كلامه (مفعول به) لأنه قال: باب الفاعل الذي لم يتعده فعله إلى مفعول، وباب الفاعل الذي تعداه فعله إلى مفعول. وذكر في الأول ذهب وجلس، وفي الثاني: ضرب عبد الله زيداً) . أقول: إن إمام الصنعة لم يَفُته أن يقول للمفعول به (مفعول به) ، وإذا كان قد أطلق (المفعول) على (المفعول به) في تسمية الباب اختصاراً، فيما ذكره ابن هشام، فقد صرح به في الشرح، وإذ قال (1 / 14) : (وذلك قولك ضَرَب عبد الله زيداً، فعبد الله ارتفع ها هنا ... وانتصب زيد لأنه مفعول به تعدى إليه فعل الفاعل..) وإطلاق (المفعول) على (المفعول به) اختصاراً وتخفيفاً، على جهة الاصطلاح، مستفيض في كلام النحاة عامة. وقد أشار إلى ذلك ابن هشام نفسه، في مغنى اللبيب، إذ قال (2 / 177) : (وجرى اصطلاحهم على أنه إذا قيل مفعول وأطلق، لم يرد إلا المفعول به، لما كان أكثر المفاعيل دوراً في الكلام، خففوا اسمه) وأردف (وإنما كان حق ذلك ألا يصدق، إلا على المفعول المطلق، ولكنهم لا يطلقون على ذلك المفعول ألا مقيداً بقيد الإطلاق) . تسمية المفعول المطلق بالحقيقي عند ابن هشام: وختم ابن هشام كلامه فقال: (وتسمية الأول، أي المفعول المطلق، مفعولاً حقيقة وتسمية الثاني مفعولاً اصطلاحاً، أو على حذف الجار والمجرور، وإرادة أنه مفعول به) وأردف (ولا يرد على عبارة سيبويه شيء مما ذكرناه في تسمية معنى المصدر فعلاً حقيقياً، ولا في تسمية المصدر مفعولاً مطلقاً..) . معارضة ما جاء به الدكتور جواد بما تقدم من كلام ابن هشام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 أقول يتبين بما قدمناه من كلام ابن هشام أن الأستاذ جواد لم يصب فيما جاء به طريفاً، أو يُضف فيما تناوله جديداً، وإن طلبت كلامه والتمسته فيما بسطه ابن هشام ذلك على نفسه وهداك إلى موضعه. فهو لم يزد على أن أورد صدراً مما أسهب ابن هشام بل النحاة في تفصيله وبسط أطرافه. ومن العجب العاجب أن الأستاد قد عدد مراجعه التي استقى منه فصول كتابه أو عوَّل عليها فيما عرض له من مباحث فجعل (الأشباه والنظائر) في عدادها. فكيف يصرح بجدّة بحثه وسبقه إليه وتفرده به، وقد حكينا ما حكيناه من تفصيل المسألة فيما جاء به هذا الكتاب من كلام ابن هشام؟ وما الذي قدمه الأستاذ هذا في توفير حق النحاة فيما بسطوه من أصول هذا العلم ومسائله، وتقرير فضلهم فيما اهتدوا إليه من دقائقه وفرائده بالتلطف والتدبر، يقلبون وجوه الرأي ويصرفون الفكر ويوالون البحث ويستفرغون الوسع، في كل ما عرض لهم من أحكام اللغة، وهو أمر أظهر وأيسر وأعرف من أن يؤتى بمثالٍ له، وشاهد عليه. كلام ابن هشام في شذور الذهب: قد أوضح ابن هشام رأيه في (التفريق بين المفعول المطلق وسائر المفاعيل) في كتابه (شذور الذهب) ، فقال: وسمي مطلقاً لأنه يقع عليه اسم المفعول بلا قيد: تقول ضربت ضرباً فالضرب مفعول لأنه نفس الشَّيْءِ الذي فعلته، بخلاف قولك: ضربت زيداً، فإن زيداً ليس الشيء الذي فعلته، ولكنك فعلت به فعلاً، وهو الضرب، فلذلك سمي مفعولاً به، وكذلك سائر المفاعيل..) . كلام ابن يعيش في شرح المفصل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ليس ابن هشام فريداً فيما ذهب إليه من تمييز المفعول المطلق بحد، أو تخصيصه بتعريف ووصفه بالحقيقي. فقد قال ابن يعيش في شرح المفصل: (أعلم أن المصدر هو المفعول الحقيقي لأن الفاعل يحدثه ويخرجه من العدم إلى الوجود، وصيغة الفعل تدل عليه، والأفعال كلها متعدية إليه. وليس كذلك غيره من المفعولين..) . وقال أيضاً: (فإذا قلت قام زيد وفعل زيد قياماً، وليس كانا في المعنى سواء، ألا ترى أن القائل إذا قال من فعل هذا القيام فتقول زيد فعله، والمفعول به ليس كذلك. ألا ترى أنك إذا قلت ضربت زيداً لم يصح تعبيره بأن تقول: فعلت زيداً، لأن زيداً ليس مما تفعله أنت، وإنما أحللت الضرب به) . كلام الرضيّ في شرح الكافية لابن الحاجب: قال الرضي في شرح الكافية: (.. قدم المفعول المطلق لأنه المفعول الحقيقي الذي أوجده فاعل الفعل المذكور وفَعلَه.. أما المفعول به نحو ضربت زيداً، والمفعول فيه نحو ضربت يوم الجمعة، فليسا مما فعله فاعل الفعل المذكور وأوجده، وكذا المفعول معه..) . وكذلك فَعَل الجامي في شرح الكافية أيضاً، إذ قال (المفعول المطلق سمي به لصحته إطلاق صيغة المفعول عليه من غير تقييده بالباء أو في أو مع أو اللام، بخلاف المفاعيل الأربعة الباقية، فإنه لا يصح إطلاق صيغة المفعول عليها إلى يعد تقييدها بواحدة منها فيقال: المفعول به أو فيه أو معه أو له، وهو أي المفعول المطلق اسم ما فعله فاعل فعل ... ) . ما جاء في بعض المظان الأخرى: وقد جاء في شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك: (وسمِّي مفعولاً مطلقاً لصدق ـ المفعول ـ عليه، غير مقيد بحرف جر ونحوه، بخلاف غيره من المفعولات فإنه لا يقع على اسم المفعول إلا مقيداً كالمفعول به والمفعول فيه والمفعول معه والمفعول له) . وقال الشيخ خالد الأزهري في شرح الأزهرية: (المفعول المطلق، أي الذي يصدق عليه قولنا مفعول صدقاً، غير مقيد بحرف جار أو ظرف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وقال الشيخ حسن العطار، في تعليقه عليه: (وإنما سمي المصدر، مفعولاً مطلقاً لأنه المفعول حقيقة، وإطلاقهم على المفعول به إنه مفعول بغير تقييد، عرف اصطلاحي. وإلا فزيداً من ضربت زيداً ليس بمفعول لك حقيقة، بل المفعول لك: الضرب، إما زيد فمفعول به الضرب ... ) . ونظائر هذا وذاك في معظم الأمهات اللغوية. عودة إلى كلام الدكتور جواد، والتعليق عليه: وقال الأستاذ جواد في فصل آخر: (ولم يبق من المفاعيل ما نسميه مفعولاً حقيقياً أصلياً إلا المفعول المطلق، لأن قولك فتحت الباب فتحاً يدل على أنك أحدثت الفتح وفعلته وأتيته، فهو مفعول حقيقي أصلي، لا حاجة به إلى القيد اللفظي من قيود المفاعيل الأخرى: به ومعه ولأجله وفيه، وقد وصفه النحاة بذلك) . أقول ما دام النحاة قد وصفوا المصدر بأنه المفعول المطلق، وأضافوا أنه الحقيقي، وقد رأيت كيف فصّلوا القول في الداعي لهذا الوصف، والعلة لهذه التسمية، والموجب للفصل بينه وبين سائر المفعولات من هذه الجهة، فأين موضع السبق والتفرد، ومحل الطرافة والطراءة والبداهة فيما استرسل فيه الأستاذ وأسهب؟ ‍! التعدية الحقيقية والتعدية اللفظية عند الدكتور جواد. ومما نحن بسبيله كلام الدكتور جواد على التعدية الحقيقية واللفظية، فقد ذهب إلى أن من الأفعال المتعدية ما يتعدى حقيقة، ومنها ما يتعدى لفظاً، إذ قال: (فالتعدي الحقيقي هو صدور الفعل من الفاعل ووقوعه على غيره. أعني الفاعل يصدر فعله من نفسه على غيره الذي هو المفعول به. فإذا قلت أكلت الطعام.. فالطعام مفعول به بتعد حقيقي، وقولهم سَفِه نفسَه وغَبِن رأيه ورشِدَ أمره، إنما هي متعدية تعدياً لفظياً، وذلك بدلالة جواز قولك سفهت نفسه وغبن رأيه ورشد أمره.. برفع هذه الأسماء على الفاعلية، فمن المحال أن يكون المفعول به الحقيقي فاعلاً ومفعولاً في جملة واحدة) . قال هذا ولم يحاول تعريف ما أسماه بالمفعول اللفظي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ولنستوف ما ذكره الأستاذ في كتابه (دراسات في فلسفة النحو والصرف) حول هذه التعدية، لننتهي من ذلك إلى الكشف والتحقيق. قال الأستاذ في موضع آخر: (تكلمنا سابقاً على التعدية اللفظية والتعدية الحقيقية، والمفعول به اللفظي والمفعول به الحقيقي. وذكرنا من الأدلة ما هو واضح كلِّ ذي عقل سليم، عالم بهذا العلم. وذكرنا أن ذلك مما لم يعرفه علماء النحو لأنهم لم يفكروا فيه، وإنما كان وكدهم أن يعينوا المنصوب ويميزوه من غيره، لأن المهم عندهم الإعراب الذي به تضبط صحة الكلام، وبه يعرف اللحن والخطأ فيه) . وقال: (وقد أضفنا صفة الأصلي المفعول المطلق لئلا يلتبس بالمفعول به الحقيقي، وإن كان مقيداً بالجار والمجرور. فالمفعول به الحقيقي هو مفعول لفظي كائناً ما كان بالنسبة إلى المفعول المطلق) . ثم تطرق الأستاذ من هذا إلى الخلاف بينه وبين الشيخ رؤوف جمال الدين، فقال: (وقد ادعى الشيخ رؤوف في مناقشاته أن النحوي المشهور بأبي الفتح عثمان بن جني تكلم على المفعول الحقيقي الأصلي والمفعول اللفظي ... وهجم بعد ذلك على كلام ابن جني على العامل المعنوي والعامل اللفظي ... وأين الكلام على العامل اللفظي والعامل المعنوي من الكلام على المفعول به والمفعول المطلق..) . ما حدّ المفعول الحقيقي والمفعول اللفظي المفعول به عند النحاة هو ما يقع عليه فعل الفاعل، كما ذكر ابن الحاجب في كافيته، والأقرب في حده، كما ذكر الإمام الرضي في شرحه، أن يقال هو ما يصح أن يعبر عنه باسم مفعول غير مقيد، مصوغ من فعله، فإذا قلت (أكلت الطعام) كما مثل الأستاذ جواد، فالطعام مفعول به لأن فعل الآكل قد وقع عليه فعلاً، وحده أنك تصوغ من (أكل) اسم مفعول غير مقيد تعبر به عن (الطعام) فتقول (الطعام مأكول) ، فمأكول اسم مفعول غير مقيد بجار. فـ (أكل) فعل متعد لأنه يباشر مفعوله، وقد وقع حدثه عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فإذا قلت (مررت بخالد) فخالد ليس مفعولاً به، لأنه ليس محلاً للحدث إذ لم يتجاوز فيه الفعل فاعله إلى غيره، فلا مساغ للتعبير عنه باسم مفعول غير مقيد. فأنت لا تقول في وصفه (خالد ممرور) وإنما تقول (خالد ممرور به) فتصفه باسم مفعول مقيد بجار. فـ (مرَّ) فعل لازم لأن الحدث فيه لم يتجاوز فاعله، وإنما يتوصل إلى صلته بحرف الجر. وإذا كنت قد استدللت بقولك (الطعام مأكول) بأن (أكل) فعل متعد، فقد استدللت بامتناع قولك (خالد ممرور) بأن (مَرَّ) فعل غير متعد. على أن هناك أفعالاً لازمة غير متعدية قد حذف الجار من صلتها فباشرت ما حقه أن يكون مجروراً ونصبته على الاتساع، فيما أسموه (الحذف والإيصال) فما القول في منصوبها هذا؟ إنه ليس مفعولاً به لأن الفعل لم يتجاوز به فاعله ليقع عليه في الأصل. فإذا حذف فيه الجار اتساعاً فهو على تقدير وجوده، لأن المعنى عليه، كما يقول ابن يعيش في شرح المفصَّل. فهو منصوب ولكنه على نية الجر، وقد سمّاه الأستاذ جواد المفعول به اللفظي. فالمفعول به اللفظي عنده، هو الاسم الذي يباشره الفعل اللازم دون أن يقع عليه فعل الفاعل، بحذف الجار منه اتساعاً. فإذا قلت (جئت فلاناً) ففلان عند الأستاذ، مفعول به لفظي لأن الفعل قد باشره دون أن يقع عليه حدثه، بعد أن حذف الجار منه، على الاتساع. وقد يكون للفعل مفعول به على الأصل يباشره ويقع عليه فعله، إلى جانب ما أسماه الأستاذ بالمفعول به اللفظي كقولك (كلتك الطعام) على نية الجر، فهو المفعول به اللفظي، لأن الكلام على تقدير (كلت لك الطعام) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وإذا كان العرب قد حذفوا الجار على الاتساع سماعاً، في الفعل اللازم، أي الذي يتعدى بالحرف عامة، فاسمي هذا (الحذف والإيصال) كقولك (جئت فلاناً) ، فإنهم حذفوا الجار على الاتساع أيضاً قبل الأمكنة المختصة، خاصة، واسمي هذا عند كثرة النحاة (نزع الخافض) كقولك (جئت البيت) فما قول النحاة فيما نصب بعد حذف الجار منه على الاتساع، هنا وهناك، والأمر فيهما سواء؟ قال الأستاذ جواد: (تكلمنا سابقاً على التعدية اللفظية والتعدية الحقيقية، والمفعول به اللفظي والمفعول به الحقيقي.. وذكرنا من ذلك ما لم يعرفه علماء النحو لأنهم لم يفكروا فيه، وإنما كان وكدهم أن يعينوا المنصوب ويميزوه..) . فهل غفل النحاة حقاً وشُغلوا عن فارق ما بين المفعول به الذي يباشره الفعل المتعدي أصلاً لوقوع فعل الفاعل عليه، والاسم المنصوب الذي لا يباشره الفعل اللازم إلا بعد حذف الجار اتساعاً لانتفاء وقوع فعل الفاعل عليه؟ هل عرف النحاة المفعول الحقيقي والمفعول اللفظي؟ إذا كان الأستاذ جواد قد أتى بالأدلة على سداد التفريق جملة بين المفعولين المذكورين، فإن علينا، كما يبدو، أن نستظهر بالحجج على أنه كان فيما شرح وبسط وأفاض، أدنى إلى الاحتذاء منه إلى الابتداء، وأن النحاة قد تطرقوا إلى بحث الخلاف بين هذين الموضعين وعرضوا له وأوسعوه بحثاً ودرساً، وأن في دعوى الأستاذ إجحافاً بحق هؤلاء وانتهاكاً. سيبويه والتعدية اللفظية والمعنوية: هذا إمام الصناعة سيبويه قد عرض في كتابه (1 / 108) لما ٍأسماه (استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى) فذكر أن العرب تتسع في الكلام فتوجز وتختصر بالحذف فتستعمل الفعل في اللفظ دون المعنى. ومما مثل به لذلك قول عامر بن الطفيل: (ولأبغينَّكم قَنا وعُوارضا) . فأصل الكلام (ولأبغينَّكم بقنا ... ) قال سيبويه: (ولكنه حذف وأوصل الفعل) . فالضمير المتصل في (أبغينكم) منصوب على الأصل بوقوع فعل الفاعل عليه فهو مفعول به حقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 أما (قَنا) فليس منصوباً على الأصل، إذ ليس الفعل هاهنا مما يتجاوز فاعله إلى سواه بالإضافة إلى (قَنا) لينصبه ويوقع حدثه عليه. وهو لم يعمل، إلى ذلك، في المعنى، وإنما عمل في اللفظ، لأن المعنى على الجرّ واللفظ على النصب. قال سيبويه في تعليل استعمال الفعل في اللفظ دون المعنى (1 / 82) : (لأن قنا وعُوارض مكانان، وإنما يريد بقنا وعوارض، ولكن الشاعر شبهه بدخلت البيت) . قال الشارح: (الشاهد فيها نصب قنا وعوارض على إسقاط الجرّ ضرورة. لأنهما مكانان مختصان لا ينتصبان انتصاب الظرف وهما بمنزلة ذهبت الشام) . أقول لو عمل الفعل في المعنى لقيل (لأبغينَّكم بقنا) لكنه عمل في اللفظ فقال (لأبغينكم قنا) . فسيبويه إذاً قد جعل عمل الفعل بنصب الاسم بعد حذف الجارّ اتساعاً، عملاً في اللفظ لا في المعنى، من حيث كان على تقدير وجود الجارّ، والمعنى على هذا، كما يقول ابن يعيش. أم الأستاذ جواد فقد جعل (تعدية) الفعل بعد حذف الجار اتساعاً في مثل قولك (سَفِه نفسَه) تعدية باللفظ أيضاً، فهذا كلامه: (وقولهم سَفِه نفسَه وغبن رأيه ورشد أمره ... إنما هي متعدية لفظياً) . وإذا كان سيبويه قد رأى أن عمل الفعل فيما أورده عمل في اللفظ لا في المعنى، أفلا يوحي كلامه هذا بأن أدنى شيء يسمى به ما نصب بعد حذف الجار (المفعول في اللفظ) و (المفعول اللفظي) ، أو ليس هذا ما فعله الدكتور جواد؟ وقد يسأل سائل لماذا ذكر سيبويه أن الفعل، فيما نحن بسبيله، قد عمل في اللفظ ولم يقل إن الفعل قد تعدى إلى اللفظ كما فعل جواد؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 أقول في الجواب عن أن الأفعال التي مثل بها سيبويه لازمة حيناً متعدية حيناً آخر، فإذا قيل (تعدى) أوجب في الأصل أن يكون الفعل متعدياً، وإذا قال (عمل) فإنه قد شمل بقوله اللازم والمتعدي على السواء. وهكذا فإن الفعل فيما حكاه سيبويه هاهنا، لا يمكن أن يتجاوز فاعله إلى غيره من حيث الأصل ليتعدى، وإنما يمكن أن يعمل، وقد عمل في اللفظ بعد حذف الجار، وقد كان يعمل في المعنى، لو لم يحذف. فالمنصوب بعد حذف الجار ليس مفعولاً به البتة. أما الأستاذ جواد فقد جاء بـ (سفِه) على أنه فعل لا يتعدى، فكيف يتأتى أن يكون له في الأصل مفعول به لفظياً كان أو حقيقياً، وإنما يمكن أن يقال إنه يعمل في اللفظ دون المعنى. فإذا قلت (سفِه نفسَه) فقد عمل في اللفظ، وإذا قلت (سفِه في نفسه) على الأصل، فقد عمل في المعنى. ولكن هل في أمثلة سيبويه ما يصح أن يكون مفعولاً به في اللفظ؟ أقول قد أورد سيبويه قول تعالى (واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها يوسف / 82 (وقال: (إنما يريد أهل القرية، فاختصر وعمل الفعل في القرية، كما كان عاملاً في الأهل لو كان هاهنا) ، فـ (اسأل) قد عمل في (القرية) وتعدى إليها، ولكن في اللفظ، لأن المسؤول هو أهل للقرية لا القرية، ولو قيل (واسأل أهل القرية) لكان عمل الفعل في (أهل) وتعدّيه إليها، على المعنى والأصل، (القرية) إذاً مفعول به للفعل المتعدي، باللفظ. و (أهل) لو قيلت لكانت مفعولاً به على المعنى والأصل. ومما مثل به سيبويه لاستعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى قول ساعدة (كما عَسَل الطريق الثعلبُ) وكثرة النحاة على أن نصب (الطريق) وهو من الظروف المختصة إنما كان اتساعاً، على نزع الخافض. أما سيبويه فقد رأى أن (عَسَل) قد عمل في اللفظ، لا في المعنى، فمنصوبه وهو الطريق منصوب في اللفظ لا في المعنى أيضاً، لأنه على نية الجر، ولو قيل (عَسَل في الطريق الثعلبُ) لكان عمل الفعل في المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الرضي والتمييز بين المفعول به، والملحق بالمفعول به: قد ميز الرضي، في شرح الكافية بين ما ينصب بفعل يباشر المفعول فيقع حدثه عليه، كما فعل جواد، وبين ما ينصب بفعل لا يباشر المفعول لقصوره عن تجاوز فاعله إلى سواه، وإنما يعمل فيه نصباً بعد حذف الجار، على الاتساع، فسمى الأول مفعولاً به وجعل حده أن يوصف باسم مفعول يصاغ من فعله، غير مقيد بجار كما مرَّ، وسمى الآخر ملحقاً بالمفعول به. فإذا قلت (جئت فلاناً) ففلان مجيء إليه، فهو ملحق بالمفعول به. ومن أمثلة الرضى (بَغَيت زيداً شراً) فـ (زيداً) ليس مفعولاً به، لقولك في الأصل (بَغَيت لزيد الشر) ، فزيد مبغي له، فهو ملحق بالمفعول به، أما الشر فمفعول به لوقوع فعل الفاعل عليه، لأن الشر هو المبغي دون زيد. وقد ساق الرضي قول القائل (كلت زيداً طعاماً) كما أورده الدكتور جواد. فزيد مكيل له فهو ملحق بالمفعول به عند الرضي، ومفعول به لفظي عند جواد، لأن الأصل كلت لزيد طعاماً) . أما المفعول به فهو الطعام لوقوع فعل الفاعل عليه عند الرضي لأنه هو المكيل دون زيد. وقد أسماه جواد المفعول به الحقيقي، وأتى فيه بما تشبه كلام الرضي. وقد تجنب الرضي نفسه، كما رأينا، أن يسمي (منصوباً) لم يتعدَّ إليه الفعل لقصوره عن تجاوز فاعله (مفعولاً به) خلافاً لجواد، فقال: إنه ملحق بالمفعول به. كيف ماز النحاة النصب بإسقاط الجار من النصب بفعل متعد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ماز النحاة ما نصب بفعل لازم بحذف الجار فقالوا إنه منصوب (بنزع الخافض) أو إسقاطه، كما مرَّ. وجعل جماعة ما كان من الأفعال على هذا النحو قسماً على حدة. فهناك فعل متعد بنفسه وهو ما أسموه بالمتعدي، وفعل متعد بالحرف، وهو ما دعوه باللازم أو القاصر. فإذا حذف الجار من هذا، على الاتساع، جاء المجرور منصوباً فأشبه المنصوب بفعل متعد، وليس هو كذلك وهو ما نحن بسبيله. قال ابن يعيش في شرح المفصل حول قول القائل (أمرتك الخير) بنصب الخير، وهو من الأفعال التي تنصب بحذف الجار وأصله (أمرتك بالخير) قال: (لأن الفعل لا يتعدى إلا بحرف الجر، فإذا ظهر حرف الجر كان الأصل، وإذا لم يذكر كان على تقدير وجوده واللفظ به، لأن المعنى عليه، واللفظ محوج إليه) . وقال ابن الأنباري في كتابه (أسرار العربية / 180) : (وذهب الأكثر أن ـ دخلت ـ فعل لازم. وقد كان الأصل فيه أن يُستعمل مع حرف الجر، إلا أنه حذف حرف الجر اتساعاً على ما بينا، وهذا هو الصحيح) . ونحن إذا أردنا إيضاح قولهم (منصوب على نزع الخافض) أو (منصوب على الحذف والإيصال) قلنا إن الاسم الذي ينصب بإسقاط الجار ليس مفعولاً به، إذ امتنع أن يقع عليه فعل الفاعل، على حد ابن الحاجب، أو يوصف باسم مفعول تام صيغ من فعله، على حد الرضي. فالأصل فيه هو الجر، وإذا طرأ عليه، بالاتساع، ما أبدل من جره نصباً باللفظ فقد ظل على معنى الجر، كما أوضح ابن يعيش. ولذا قال سيبويه أن الفعل هاهنا قد عمل في اللفظ لا في المعنى، فهو منصوب لفظاً، مجرور معنى. معارضة ما تقدم من كلام النحاة بما جاء به الدكتور جواد في المسألة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أقول إذا عارضنا ما بسطناه من أقوال النحاة في التمييز بين المنصوب بمباشرة الفعل إياه ووقوع حدثه عليه، والمنصوب بحذف الجار، بما تقدم من كلام جواد، تبين لنا مبلغ ما أخطأ به صاحبنا بل ما أسرف به على نفسه، حين أنكر على هؤلاء ما محصوه واستجلوا غوامضه، وما تقصوه واستقروا دقائقه في هذا الباب. وإلا فهل يصح أن يسترسل فيقول في غير تحفظ أو احتياط: (إن ذلك مما لم يعرفه علماء النحو لأنهم لم يفكروا فيه، وإنما كان وكدهم أن يعينوا المنصوب ويميزوه من غيره، لأن المهم عندهم الإعراب..) ؟ أفليس في قوله هذا انتهاك وأجحاف، بل غض وتفريط؟ (سَفِه نَفسَه) ودعوى جواد بإغفال النحاة الكشف عن حقيقته جاء في التنزيل العزيز ( ... إلاَّ من سَفِه نفسَه ـ البقرة / 130 (فخرَّجه كثرة النحاة على أن (سَفِه) فِعل لازم، و (نفسه) منصوب لفظاً، على معنى الجر. فأخذ هذا الدكتور جواد وقال: (نفسه) : مفعول به لفظي لا حقيقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وقد طال كلام الأيمة على (سفِه نفسَه) لا ليبينوا أن (نفسَه) في الآية قد جاء على النصب، كما ذهب إليه جواد، فهذا واضح لكل ذي عينين، ولكن ليذكروا علة هذا النصب والمعنى الذي استوجبه واقتضاه. وقد ساقوا في هذا وجوهاً كثيرة؛ منها أنه منصوب على حذف الجار، كما أسلفنا، أو منصوب لأنه مفعول به حقاً فسفه فعل متعد كجهل، ومعنى الآية (إلا من جهل نفسه) ومنها أنه منصوب على التفسير أي التمييز، وأنكره البصريون لاشتراطهم التنكر فيه، أو أنه على تضمين (سَفِهَ) اللازم معنى فعل متعد. وقد جاء كل هذا في التهذيب للأزهري. وأضاف أبو حيان في سفره الضخم البحر المحيط فقال (أو أنه شبيه بالمفعول به) . قال صاحب المصباح: (وسفُه يسفُه بالضم، فإن ضمن معنى التعدي كسر، وقيل سفِه زيدٌ رأيه بالنصب، والأصل سفه رأي زيد، لكن لما أسند الفعل إلى الشخص نُصبَ ما كان فاعلاً، ومثله ضقت به ذرعاً ورشدت أمرَك، والأصل ضاق به ذرعُه ورشد أمرُه. ونصبه قيل على التمييز ولا معرفة في معنى النكرة، وقيل على التشبيه بالمفعول، وقيل على نزع الخافض، والأصل رشدت في أمرك لأن التمييز عند البصريين، لا يكون إلا نكرة محضة) . فما الذي يعنيه كل هذا ويُعرب عنه؟ أليس يسفر عن أن النحاة قد توفروا على بحث هذه الأفعال، وعكفوا على تدبرها والتلطف في الكشف عن تصرفها، وأن آراءهم قد اختلفت اختلاف ما تصوّروه من تشعب معانيها، وأنه عناهم من أمرها فوق ما عنى الأستاذ جواداً، ولو أنهم لم يقصروا اهتمامهم على تحول المعنى، وإنما غادروه إلى ما اتخذوه من أساليب الصناعة في تمثل الكثير من وجوه إعرابها وصور تخريجها؟ ويقول الأستاذ جواد (وقولهم سفِه نفسَه وغَبنَ رأيه ورشد أمره، إنما هي متعدية تعدياً لفظياً، وذلك بدلالة جواز قولك: سَفَهت نفسُه وغبنَ رأيه ورشد أمره، برفع هذه الأسماء على الفاعلية، فمن المحال أن يكون المفعول به الحقيقي فاعلاً ومفعولاً في جملة واحدة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 أقول ليس الإشكال في الأمر أن تقول على اللزوم: (سَفَهت نفسُه) أو (سَفِه في نفسه) ، ثم تقول على التعدي: (سفه نفسه) ، ويستقيم الوجهان، إذ يصح أن يكون الفعل لازماً في لغة، ومتعدياً في لغة أخرى، وليس هما في جملة واحدة، بل كلٌ في جملة على حدة. وليس الإشكال في الأمر أن تعدل بـ (سفهت نفسُه) إلى (سَفه نفسَه) باللفظ والمعنى جميعاً، لأن عدو لك هذا قد آل بـ (نفسه) إلى أن يكون مفعولاً به على وجه، أو تمييزاً على وجه آخر قال الجوهري في الصحاح (وقولهم سفه نفسه وغبن رأيه.. كان الأصل سفهت نفس زيد … فلمّا حوِّل الفعل إلى الرجل انتصب ما بعده بوقوع الفعل عليه، لأنه صار في معنى سفّه نفسه بالتشديد، هذا قول البصريين والكسائي … وقال الفرّاء، لما حُوِّل الفعل من النفس إلى صاحبها خرج ما بعده مفسِّراً ليدل على أن السفَهَ فيه، وكان حكمه أن يكون سَفِه زيد نفساً، لأن المفسَر لا يكون إلا نكرة، ولكنه ترك على إضافته ونصب كنصب النكرة تشبيهاً بها..) . أقول بل الإشكال في الأمر أن تعدل بـ (سَفهت نفسُه) أو (سَفه في نفسِه) إلى (سَفه نفسَه) باللفظ دون المعنى، وهو ما نحن بسبيل بحثه وتحريره، فـ (نفسَه) هاهنا إما مفعول باللفظ، أي منصوب على إسقاط الخافض، أو ملحق بالمفعول به، أو شبيه به، وليس مفعولاً به على كل حال. وفيما تقدم من قول الجوهري (لأنه صار في معنى سفَّه نفسه بالتشديد، هذا قول البصريين) نظر، ذلك أن معنى (سفه نفسَه) عند البصريين: (سفَّه نفسه) بالتشديد أو (سفه في نفسِه) بالتخفيف، على ما جاء في شرح الكافية للرضي. (ألبس فلاناً جبَّة) وقول جواد فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 اختتم الدكتور جواد كلامه على المفعول به الحقيقي، واللفظي بمثال آخر. على أنه لم يأتِ هنا بمفعول عُدِل به عن الجر إلى النصب، وهو على معنى الجر، كما فعل أول مرة، وإنما أتى بمفعول عمل فيه الفعل نصباً لكنه لم يجر على معناه فلم يقع حدثه الواحد، فاسماه (المفعول اللفظي) أيضاً. وقد أشار إلى أنه إذا تعدد المفعول به للفعل الواحد، فالمفعول به الحقيقي واحد. قال الأستاذ: (لأن فلسفة التعدي لا تجيز وجود مفعولين مختلفين لفعل واحد، والمفعول الثاني والمفعول الثالث، هما من المفاعيل اللفظية، لا الحقيقية، كما ذكرنا) . وعاد، كما هو شأنه، يؤكد أن ذلك لم يخطر على بال أو يسنح في فكر، إذا أردف: (وهو بحث لم يطرقه علماء النحو من قبل) . وفي الجواب عن هذا أقول إن النحاة لم يذكروا الذي ذكره الأستاذ بألفاظه، لكنهم عنوه وقصدوه صراحة، فيما أثر عنهم وخلَّف في مطولاتهم. قال الأستاذ جواد (نحو ألبس فلاناً جبَّة، واستدفع الله السوء، فالمفعول به الحقيقي، فيهما هو المفعول به الأول، إن كان ترتيبهما أصلياً. ففلان ولفظ الجلالة مفعولان حقيقيان لوقوع الإلباس، لا اللبس، على فلان جبة، ولوقوع الاستدفاع لا الدفاع، على لفظ الجلالة. ألا ترى أنك تقول: لبس فلان جبة، ودفع الله السوء، فهما فاعلان في الأصل، ولهما مفعولان حقيقيان. فلما دخل على أفعالهما ما ينسخ عنهما الفاعلية، بقيت لهما المفعولية، فهي حقيقية لهما لفظية لغيرهما) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ولنأخذ المثال الأول: (ألبس فلاناً جبَّة) ففلان هو المفعول به الحقيقي، وجبة هو اللفظي، على حد تعبير الأستاذ. وقد أورد الإمام الرضي نظيراً لهذا المثال فقال (كسوت زيداً جبة) (وجعل زيداً) المفعول به الظاهر لفعل (كسا) ، لأن زيداً هو (المكسوّ) ، وإنما هو (المكتسى) ، و (جبَّة) على هذا مفعول فعل هو مطاوع لـ (كسا) ، وهو (اكتسى) . وإذا كان (جبة) ليس مفعولاً لـ (كسا) في المعنى، لأن فعل الفاعل لم يقع عليه، فماذا يكون إذاً بالإضافة إليه؟ لم يبق إلا أن تقول إنه مفعول (كسا) في اللفظ دون المعنى، لأن المعنى على (اكتسى) ، وهو الفعل المقدر. ذلك أن الرضي قد جعل ضابط (المفعول به) ، في الأصل، أن يوصف باسم المفعول المصوغ من فعله دون قيد، لهذا اعتدَّ المفعول في قولك (قربت زيداً وجئت زيداً وبعت زيداً.. وأمثالها) ملحقاً بالمفعول به، لأنه على حذف الجار في الأصل. فإذا أردت وصف (زيد) فيها قلت (مقروب منه ومجيء إليه ومبيع منه) لا (مقروب ومجيء ومبيع) . فإذا عرفت هذا فانظر إلى ما قاله الرضي: (باب كسوت وأعطيت متعد إلى مفعولين حقيقة، لكن أولهما مفعول هذا الفعل الظاهر، إذ زيد في قولك: كسوت زيداً جبة، وأعطيت زيداً جبَّة، مكسو ومعطى. وثانيهما مفعول مطاوع هذا الفعل، إذ الجبة مكتساة ومعطاة أي مأخوذة..) فما الذي يعنيه هذا؟ ألا يعني أن فعل الفاعل قد وقع على المفعول الأول وهو (زيد) ، وأن الثاني قد وقع عليه حدث الفعل المطاوع في المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وقد اتخذ الرضي ضابطه في تمييزه المفعول به فقال: (إذ زيد في قولك كسوت زيداً جبة وأعطيت زيداً جبة، مكسو ومعطى) أي المفعول به لـ (كسا وأعطى) لوقوع فعل الكسوة وإلا عطاء عليه، دون الاكتساء والعطاء. أو ليس هذا ما أراده الأستاذ جواد حين قال (لوقوع الإلباس لا اللبس على فلان) ؟ أما (جبَّة) وهو المفعول الثاني فقد وقع عليه حدث الفعل المطاوع في المعنى دون الفعل الأصلي. قال الرضي: (إذ الجبَّة مكتساةٌ ومعطوة أي مأخوذة) فهو إذاً في معناه مفعول به (لاكتسى وعطا) دون (كسا وأعطى) لوقوع فعل الاكتساء والعطاء عليه، دون فعل (الكسوة والإعطاء) . وإذا كان المفعول الثاني وهو (جبَّة) مفعولاً به في المعنى للفعل المطاوع فهو، إذاً مفعول في اللفظ للفعل الظاهر لأنه هو الذي عمل فيه، لفظاً لا معنى. أفرأيت أن النحاة قد بحثوا ما بحثه جواد ولو لم يوردوا ألفاظه ويتخذوا مصطلحاته. هل ورد اصطلاح (المفعول به لفظاً) صراحة عند النحاة؟ وما الذي عنَوه بهذه التسمية أقول قد ورد عنهم ذلك، لكنهم عَنَوا به شيئاً آخر. أنهم أرادوا بهذه التسمية مفعولاً به قد ثبتت له المفعولية معنى بوقوع الفعل عليه، ولفظاً بنصبه، خلافاً لم ذهب إليه جواد. فقد جاء في كتاب (شرح البناء) لمحمد الكفوي، في الكلام على أفعال المشاركة أن قولك (ضارب زيد عمراً) دل (صريحاً) على صدور الضرب من زيد على وجه (الغالبية) ووقوعه على عمرو، كما دل (ضمناً) على صدوره من عمرو على وجه (المغلوبية) ووقوعه على زيد. فيكون كل واحد منهما فاعلاً ومفعولاً، لكن (الغالب) يكون فاعلاً (لفظاً) ، والمفعول به مفعول به (لفظاً) ، وبالعكس معنى لا لفظاً (ص / 16) . وهذا يعني أن جماعة من النحاة ذهبوا في (ضارب زيداً عمراً) إلى اعتداد (زيد) فاعلاً لفظاً (أي لفظاً ومعنى) ، واعتداد (عمرو) مفعولاً به (لفظاً) ، أي (لفظاً ومعنى) وجعل (زيد) مفعولاً به معنى أو ضمناً، و (عمرو) فاعلاً معنى أو ضمناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 والذي أصارهم إلى هذه التسمية أنهم لا يعتدون الفاعل فاعلاً ما لم يكن فاعلاً بمعناه، والمفعول به مفعولاً به ما لم يكن مفعولاً به بمعناه أيضاً. فإذا قالوا هو فاعل لفظاً فقد قصدوا أنه فاعل معنى ولفظاً، أو قالوا هو مفعول به لفظاً عنوا أنه مفعول به معنى ولفظاً. أما إذا كان الاسم فاعلاً معنى أو ضمناً ولم يرفع، أو مفعولاً به معنى أو ضمناً ولم ينصب، فقد وصفوه بالفاعل معنى أو ضمناً، والمفعول به معنى أو ضمناً، ويبدو الاصطلاح معاكساً لما عوّل عليه جواد. إحجاف جواد بحق ابن جني بقي أن نشير إلى أن الأستاذ جواداً لم يجحف بحق النحاة بعامة وحسب، بل ندد بابن جني بخاصة وتنقصه بكلام لم يرزق حظه من التثبت فلم يخل من استطالة واجتراء. ونحن لا نقول أن اتباع الأيمة في مثل هذا الباب أسوغ وأسلم، لأنهم (أهل هذا الشأن وأرباب هذه الصناعة) . ولكننا نرى أن حسن الظن بهؤلاء وبأمثال ابن جني من أصحاب التحقيق، قبل التصدي لتخطئتهم أليق وأجدى، وأن تَبَيّنَ كلامِهم واستشفافَ مراميه ومغازيه، قبل التسويء عليهم أجدى وأحجى وأعدل. فقد رأيت فيما فصلناه أن النحاة قد أتوا، فيما عرض له الأستاذ جواد، بما أتى به وسبقوه إليه بالنص واللفظ بعضاً، وبالمعنى والقصد، دون الاصطلاح، بعضاً آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 قال الأستاذ جواد في كلامه على ابن جني: (قال ابن جني: ألا تراك إذا قلت ضَرَب سعيدٌ جعفراً، فإن ضرب لم تعمل في الحقيقة شيئاً، وهل نحصِّل من قولك ضَرَب إلى على اللفظ بالضاد والراء والباء، على صورة فَعَل، فهذا هو الصوت. والصوتُ مما لا يجوز أن يكون منسوباً إليه الفعل) وعلَّق جواد على كلام ابن جني هذا بقوله: (وكان ابن جني واسع الخيال يتلعب بالكلام تلعباً، فنقول له: إذا كان الفعل ضرب مكتوباً أو ملفوظاً، وقد نصب جعفراً، فهل هو صوت؟ فلولا وجود ضَرَب لم تنصب جعفراً، فضرب إذن هو سبب نصبه. أما أن سعيداً هو الذي ضرب جعفراً فلا ينكره أحد، ولكن بيان ذلك احتاج إلى ذكر العمل الذي هو ترجمان الحركات.. فنسب الضرب إلى ضرب، ونسب ضَرَب إلى فاعل فَعَله، فالفاعل وُجد بوجود الفعل، ووُجد الفعلُ بوجود الفاعل، وإنما كانت نسبة الضرب إلى الفعل لأنه نتيجة له ومن جنسه، ولأنه قد يستغنى عن الفاعل فيقال: ضُرب جفعر، ولا يستغنى عن الفعل البتة) . تفسير ابن جني للعامل اللفظي والمعنوي: أقول قد عقد ابن جني في كتابه الخصائص (1 / 114) باباً على ما اسماه (مقاييس العربية) وذكر أنها ضربان لفظي ومعنوي. وقد قصد بهذا ما قاله النحاة في بحث العامل من أنه عامل لفظي وعامل معنوي. فالعامل، كما في الأمهات، ما أوجب إعراب الكلمة أي جعل آخرها على وجه مخصوص، وما يتقوم به المعنى الذي يستوجب هذا الإعراب. فإذا كان العامل يتمثل بـ (اللفظ) كالفعل في قولك (قام زيد) فقد اسمي لفظاً، وإذا كان لا يتمثل باللفظ كمعنى الابتداء في قولك (زيد كريم) أو وقوع فعل المضارع موقع الاسم في قولك (مررت بامرأة تبكي) أي باكية، فقد اسمي معنوياً، وأكثر البصريين على أن العامل المعنوي لا يكون في غير هذين الموضعين، وقد أضاف الكوفيون ما أسموه بـ (الخلاف) فاعتدّوا عامل النصب في الظرف إذا كان خبراً، وفي الفعل المضارع بعد فاء السببية أو واو المعية، عاملاً معنوياً أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 يعرض ابن جني لتسمية العامل ويوضح ما عناه النحاة بقولهم (لفظي) فيقول: ليس العامل اللفظي ما عمل بلفظه، فـ (ضرب) في قولك (ضرب سعيد جعفراً) عامل لفظي، لكنه لا يعمل بلفظه، وإنما يعمل بمعناه، واللفظ مصاحب لهذا المعنى. فـ (ضَرَب) الحاصلة بلفظك (الضادَ والراء والباء) على صورة (فَعَل) لم تعمل في الحقيقة شيئاً لأنك إذا قصدت بها اللفظ كان الصوتَ، ولا شأن للصوت في العمل. ويتحصل من هذا أن (ضَرَب) التي تعمل إنما تعمل، في واقع الأمر، بمعناها لا بلفظها، ولو أسميت عاملاً لفظياً، لأن مراد النحاة من قولهم (العامل اللفظي) العامل الذي يصحبه اللفظ، و (العامل المعنوي) العامل الذي لا يصحبه اللفظ، وكلام ابن جني هذا واضح، ظاهر الاستقامة. وقد أبرز النحاة هذا القصد حين قالوا (العامل، لفظياً كان أو معنوياً، ما به يتقوَّم، أي يحصلُ المعنى المقتضي للإعراب، ففي (جاءني زيدٌ) جاء عامل، إذ به حصل معنى الفاعلية في زيد.. وفي (رأيت زيداً) رأيت: عامل، إذ به حصل معنى المفعولية في زيد.. وفي (مررت بزيد) الباء: عامل إذ به حصل معنى الإضافة في زيد، كما جاء في شرح الكافية للجامي. وهكذا اسمي العامل في الجمل الثلاث لفظياً لأنه تمثل بألفاظ (جاء ورأى والباء) . لكن هذا العامل لم يعمل بلفظه وإنما عمل بمعناه. أي بما أحدثه من أثر معناه في المعمول حتى أصبح هذا فاعلاً أو مفعولاً به أو غير ذلك. نظرية العامل في النحو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ولسنا هنا بسبيل نقد (نظرية العامل) . فقد جاء في العدد الثالث من مجلة اللسان العربي للعام (1965) للميلاد (ص / 143) : (ابن جني هو أول من أنكر العامل في كتابه الخصائص حيث قال: وأما في الحقيقة ومحصول الحديث فالحركات من الرفع والنصب والجر والجزم، إنما هي للمتكلم نفسه، لا لشيء غيره.. ثم قال: إن ضَرَب انتهت بمجرد النطق بها، فلا يمكن أن تكون عاملاً في زيد أو عمرو … وذهب ابن مضاء قاضي قضاة قرطبة في عهد الموحدين على هذا النحو في كتابه الرد على النحاة) . وهو وجيه، وإنما نحن بصدد بيان ما عناه النحاة بقولهم لفظي ومعنوي، وما أراده ابن جني في الكشف عما قصدوا إليه، أو يجب أن يقصدوا إليه، في هذه التسمية. فالإعراب أثر يجلبه العامل، وهو لفظي ومعنوي، فاللفظي الذي يتمثل باللفظ مذكوراً أو مقدراً، والمعنوي الذي لا يمثله اللفظ. ونذكر هنا ما قام بين أبي عبد الله الجرمي وأبي زياد الفراء حين سأل هذا عن (زيدٌ منطلقٌ) لِمَ رُفع زيدٌ؟ فقال الجرمي: رُفع بالابتداء، وقال الفراء: فأظهرْه، قال: هو معنى لا يظهر، قال فمثِّله، قال: لا يمثَّل. قال الفرّاء: ما رأيت كاليوم عاملاً لا يظهر ولا يتمثل. وأصحاب الفرّاء يرفعون المبتدأ بالخبر خلافاً للبصريين الذين يرفعون بمعنى الابتداء، أي بعامل معنوي لا يظهر ولا يتمثل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 قال ابن جني: (وإنما قال النحويون: عامل لفظي وعامل معنوي ليُروك أن بعض العمل يأتي مسبباً عن لفظ يصحبه، كمررت بزيد، وليت عمراً قائم، وبعضه يأتي عارياً من مصاحبة لفظ يتعلق به كرفع المبتدأ بالابتداء، ورفع الفعل بوقوعه موقع الاسم) ، وأكد ذلك بقوله (اعلم أن القياس اللفظي إذا تأملته، لم تجده عارياً من اشتمال المعنى عليه) . ونظير ذلك كلام الشيخ أمين السفرجلاني في القطوف الدانية، إذ قال (العامل اللفظي ما يكون للسان فيه حظ.. والعامل المعنوي ما لا يكون للسان فيه حظ..) . والكلام في كل ذلك واضح مبين. فأين هذا من رد الأستاذ جواد وقوله: (فالعامل وجد بوجود الفعل، ووجد بوجود الفاعل، وإنما كانت نسبة الضرب إلى الفعل لأنه نتيجة له، ومن جنسه..) ؟ بل أين هذا الذي بسطه ابن جني وأوضحناه من قول الأستاذ: (وكان ابن جني واسع الخيال يتلَّعب بالكلام تلعباً) ؟ النُحَاة وحُروفُ الجَرّ ـــ صلاح الدين الزعبلاوي هذا بحث طريف، حاجة الكتَّاب إليه ماسة ملحة، وهم إذا أصابوا فيه خطأ وظفروا منه بطائل وتعلقوا بسبب وثيق، كان لهم من ذلك مادة قوية في ممارسة الكتابة وإتقانها، وعون وظهير في تصريف المعاني وتوجيه دلالاتها، وسوقها متناسقة متناظمة، دون لبس أو خلل. وقد جاء للمتقدمين وكثير من المحدثين المتأخرين من هذا النمط ما لا يدافع في حسنه. وإذا هم أخلُّوا بالأصل المعوَّل عليه في استعمال هذه الحروف وعبثوا بضوابطها فجروا على غير العرف العربي في تصريفها أسخفوا بالكتابة وانحطُّوا بها إلى ركاكة العامة، فطال الخطب في ذلك وعسر واستوسع الوهي وكثر، وكان لنا منه أمثلة غثة باردة هي أشبه شيء بالثياب المتداعية كلما حيصت من جانب تهتكت من آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ولابد في بلوغ الغاية في هذا المطلب من أعمال الفكر وتدقيق النظر، وبذل الطوق في تحصيل ما يتصل بجوانب البحث، إذ لا مجال لتحقيق المراد منه بأهون سعي وأقرب طلب. وليس القائل في هذا بعلمه واجتهاده كالقائل بظنه وتقليده. وقد عقدت في كتابي (مسالك القول في النقد اللغوي) فصلاً سابغاً أفضت فيه بعض الإفاضة في استيفاء طرف من الأصول في هذا الباب، ورأيت أن أتدارك هنا ما جمعت يدي عليه من دقائق، فيما اتفق لي بعد ذلك من تحقيق، واعترض من تمحيص واستقراء. ولو شئت لأوردت منه شيئاً كثيراً تضيق عنه هذه الأوراق. ضوابط في استعمال الحروف: قال أبو نزار المعروف بملك النحاة، على ما حكاه الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر (3 / 176) ، وأبو نزار هذا الإمام بارع من فقهاء الشافعية، ذو نظم ونثر، له مصنفات في النحو والصرف والقراءات والفقه والأصول وديوان شعر (مولده ببغداد ووفاته في دمشق 568 هـ) قال: (إن الفعل قد يتعدى بعدة من حروف الجر على مقدار المعنى اللغوي المراد من وقوع الفعل، لأن هذه المعاني كامنة في الفعل، وإنما يثيرها ويظهرها حروف الجر) وأردف (وذلك أنك إذا قلت خرجت فأردت أن تبين ابتداء خروجك قلت خرجت من الدار، فإن أردت أن تبين أن خروجك مقارن لاستعلائك قلت خرجت على الدابة، فإن أردت المجاوزة للمكان قلت خرجت عن الدار، وإن أردت الصحبة قلت خرجت بسلاحي فقد وضح بهذا أنه ليس يلزم في كل ألا يتعدى إلا بحرف واحد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فثبت بهذا أن الفعل يصرّف في وجوه عدة بقدر من حروف الجر أطرد تصريفها فيها. وقد أحاطت كتب اللغة بوجوده تصريف كل حرف فاستعمل فيها، على جهة القياس والاطراد. تقول في تصريف (أجاب) : (أجبت في الكتاب، وبالكتاب، وأجبت عنك، وعلى ورقة بيضاء، ولأمر مهم، وعن الأسئلة، من أولها إلى آخرها) . كما أحاطت المعجمات بتصريف الأفعال في معانيها فنصَّت على تعديتها بحروف لا يتحكم بها قياس ظاهر، كقولك (أعنتك على عدوك، وتدربت على العمل، وحزنت عليه وغضبت، وحسدتك على كذا، وتوفرت على صاحبي، وارتحت إليه، واعتذرت إليه، وأنست به ورغبت على كذا، وتوفرت على صاحبي، وارتحت إليه، واعتذرت إليه، وأنست به ورغبت فيه) وهكذا. فإذا جمعت القياس في استعمال هذه الحروف على ما نصت عليه كتب اللغة عامة، إلى السماع فيما نصت عليه المعجمات خاصة، أقول إذا ضممت يدك على هذا وذاك، كان لابد من أن تلحظ أن تصريف الفعل بحرف من الحروف إنما يفرده بمعنى لا يؤديه تصريفه حرف آخر، وإن داناه أحياناً، لأن لكل حرف وجهة اختص بها دون سواه. لكل حرف وجهة خاصة: يقول أبو البقاء الكفوي في كلياته فيما نحن بسبيله (الفعل المتعدي بالحروف المتعددة لابد من أن يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر، وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف. فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق نحو رغبت فيه وعنه، وعدلت إليه وعنه، وملت إليه وعنه، وسعيت إليه وبه. وإن تقارب معاني الأدوات عسر الفرق، نحو قصدت إليه وله، وهديت إلى كذا ولكذا. فالنحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر. أما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال، وهذه طريقة إمام الصناعة: سيبويه) . وأبو البقاء من تعلم تبسطاً في العربية واستبحاراً وإيغالاً في البحث، وسعة إطلاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ويفسر ما جاء به أبو البقاء من تمايز وجهات الحروف ولو تدانى بعضها وتعاقب على معنى، قول البيضاوي في تفسير قوله تعالى ?قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق، قل الله يهدي للحق ـ يونس / 35?:) وهدى كما يتعدى بالى لتضمينه معنى الانتهاء، يُعدَّى باللام للدلالة على أن المنتهى غاية الهداية، وأنها لم توجه نحوه على سبيل الاتفاق، ولذا عُدّي بها ما أسند إلى الله) . والموضع الذي عُديت فيه الهداية باللام في التنزيل هو ما صح أن يكون المهدي إليه فيه غاية الهداية حقاً، كالإيمان، والتي هي أقوم. ونور الله، والحق، وهكذا.. اللام وإلى: فالقريب المختار، بل الأصل على هذا، هو التفريق في الأداء بين (اللام وإلى) ، وإذا كان بعض الأئمة قد قال بتعاقبهما حيناً، كما فعل الأخفش والزجاج والزمخشري وأبو حيَّان، أو ذهب إلى تعاقبهما قياساً، كما فعل الإمام المالقي فذلك لتقاربهما وتماثلهما في كثير من المواضع. قال المالقي في كتابه (رصف المباني في شرح حروف المعاني) . (والموضع الخامس أن تكون اللام بمعنى إلى، وذلك قياس، لأن إلى يقرب معناها من اللام، وكذلك لفظها) ، ثم استدرك فقال: (وإن كان بينهما فرق من حيث أن إلى لانتهاء الغاية، واللام عارية عنها) وأردف: (فاستعمال أحدهما في موضع الآخر جائز) وأنت تعلم أن إغناء أحد الحرفين عن الآخر لا يعني أنهما على معنى. وهذا ما حمل أبا البقاء أن يقول: (ثم أن فعل الهداية، متى عُدّي بالى تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة فأتى بحرف الغاية. ومتى عُدّي باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب) . القول في تعدية (اعتذر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الاعتذار كما لا يخفى هو الإتيان بالعذر وطلب قبوله. قال صاحب المفردات: (واعتذرت إليه أتيت بعذر) ، والعذر كما جاء في اللسان، (الحجة التي تعتذر بها) أي تحتج. ففي الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني (اعتذر وتعذر إذا احتج) ، فإذا أنت أدليت بعذرك إلى صاحبك وطلبت قبول العذر قلت (اعتذرت إلى فلان) . ولا تستطيع أن تقول (اعتذرت عن فلان) حتى يكون اعتذارك نيابة عنه. قال المرزوقي في شرح الحماسة (117) : (حتى أن بعضهم اعتذر عمن مات على فراشه فقال: أبا قُرَّانَ مِتِّ على مِثالِ) بحمدٍ من سنِانِكَ لا بذمِّ والمثال: الفراش. أما إذا أردت الكشف عن سبب اعتذارك وما حملك عليه، فأنت تقول (اعتذرت إليه تقصيري) هذا هو الأصل، وعليه نص المعاجم، ولكن هل تقول (اعتذرت إليه عن تقصيري) ؟ أقول ما دمت تقصد بقولك (عن تقصيري) ذكر (سبب الاعتذار وعلَّته) وما حملك عليه، فالكلام سائغ مستقيم. وقد مرّت به المعاجم وجرت عليه ألسنة الأيمة. قال الفيومي في المصباح: (واعتذار إلي: طلب قبول معذرته، واعتذر عن فعله، أظهر عذره) . وجاء في الإفصاح، والإفصاح خلاصة المخصص لابن سيده وبعض المظان المعتمدة (العذر ما أدليت به من حجة لإسقاط الملامة.. عذر فلاناً فيما صنع يعذره عذراً ومعذرة، وأعذره: رفع اللوم عنه، واعتذر إليه: طلب قبوله معذرته، واعتذر عن فعله ومنه: أظهر عذره / 255) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أما استعمال الآيمة له فقول ابن جني في الخصائص (1 / 415) : (ويؤكده لك أننا نعتذر لهم عن مجيئهم بلفظ المنصوب في التثنية على لفظ المجرور) ، أي نعتذر عن فعلهم هذا. وكذلك قول المرزوقي في شرح الحماسة (126) : (كالاعتذار عن الأخذ بالفضل عليهم، وترك الصفح عنهم) . وما جاء في المثل السائر لنصر الله بن الأثير الجرزي (463) : (فإن هذا من أحسن ما يجيء في باب الاعتذار عن الذنب) . ما جاء في اللسان (في عسق) : (هذا قول ابن سيده، والعجب من كونه لم يعتذر عن سائر كلماته) . وقد كرر هذا فقال: (ومن الممكن أن يكون ابن سيده، رحمه الله، ترك الاعتذار عن كلماته.. وعن لفظة: شانني ... واعتذر عن لفظة عَسِقني) . واتفق في الأشباه والنظائر ـ 4 / 16) من كلام الإمام جمال الدين بن هشام الأنصاري ما عدَّى به (اعتذر) بـ (عن) غير مرة ونحو هذا كثير في كلامهم. مواضع استعمال (عن) : ولكن لِمَ كان النص في المعاجم على تعدية الفعل بـ (من) غالباً دون (عن) ؟ فأنت تقول (قد تسبب هذا عن هذا) . قال الفيومي: (وهذا مسبب عن هذا) وقد تكرر ذلك في كلام ابن جني في الخصائص (3 / 160) ، كما تقول (اعتللت بمرضي عن غيابي، أي احتججت بهذه العلة. قال الفيومي (واعتلَّ إذا تمسك بحجة، ذكر بمعناه الفارابي) . وقال ابن جني (3 / 206) : (واعتل لهذا القول بأن ما قبلها ساكن) . قال الأستاذ محمد علي النجار في كتابه (لغويات / 142) ، (لقد استعملت العلة أيضاً في العذر، ويعتذر به الإنسان عن لوم يوجه إليه في التقصير في بعض الأمر) . وقال: (ومما يؤنس لما نحن فيه أنه ورد الاعتلال في ذكر العلة، ويقول الفارابي، على ما في المصباح: اعتلّ إذا تمسك بحجته، وقال أبو قيس بن الأسلت: وتعتلّ عن إتيانهن فتعذر وتكرمها جاراتها فيزرنها ولكنها منهن تحيا وتخفر وليس بها أن تستهين بجارة فقوله: تعتل عن إتيانهن أي تعتذر بذكر وجه تخلفها عن زيارتهن فظهر أن التعلل في معنى ذكر العلَّة، له وجهه الصحيح) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وقد ذكر النحاة من معاني (عن) المطردة: (التعليل) ، قاله صاحب المغنى (1 / 127) ومثَّل له بقول تعالى ?وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة ـ التوبة / 115?. وفي الهمع للسيوطي (2 / 29) ما في المغنى. وفي شروح الألفية وغيرها من الأمهات نحو من ذلك وانظر إلى ما جاء في أمالي المرتضى حول تخريج قوله تعالى ?فخرعليهم السقف من فوقهم ـ النحل / 26? قال المرتضى (1 / 351) : (قيل في ذلك أجوبة أولها أن يكون على معنى عن فيكون ـ فخر عنهم السقف من فوقهم ـ أي خرّ عن كفرهم وجحودهم بالله تعالى وآياته، كما يقول القائل: اشتكى فلان عن دواء شربه، وعلى دواء شربه، فيكون على وعن، بمعنى من أجل الدواء) !. وإذا صح هذا فلِمَ لا نقول (اعتذرت إليه لغيابي) واللام فيه للتعليل أيضاً؟ والجواب عن ذلك: نقوله، وقد أجريت اللام في مجراها ووضعت موضعها، والكلام صحيح لا شَين فيه. ففي محاضرات الأدباء للراغب (450) : (المعتذر لتركه الصلاة) ومعناه (المعتذر بسبب تركه الصلاة) . وقد تكرر ذلك في المحاضرات فجاء فيه (286) : (المعتذر للقصر) و (الممدوح بالخفة والمعتذر للنحافة) ، وعلى هذا القول (اعتذرت لغيابي يوم الجمعة) . وهو مستقيم. المانعون لقول القائل (اعتذر عن التقصير) : منع الدكتور مصطفى جواد عضو المجمع العلمي العراقي، رحمه الله في كتابه (دراسات في فلسفة النحو) قول القائل (اعتذر عن التقصير والذنب) وجعل صوابه (من التقصير والذنب) ، وأتى بشواهد من نصوص المعاجم وكلام الأيمة، بمجئ التعدية بـ (من) . وقال: (وإنما تستعمل عن مع اعتذر ومصدره لإفادة معنى النيابة، يقال: اعتذر زيد عن عمرو من الذنب الذي جناه أو من تقصيره..) . أما ما جاء في المصباح (واعتذر عن فعله: أظهرعذره) فقد ذهب جواد إلى أنه محرّف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 أقول في الجواب عن ذلك أن صاحب المصباح لم ينفرد بهذه التعدية كما رأيت، وليس ثمة ما يوجب الارتياب بنصه، وأما قول جواد (وإنما تستعمل عن لإفادة معنى النيابة) فهو صحيح، ولكن إذا دخلت (عن) على (من وجب عليه الاعتذار) لا على (سبب الاعتذار وعلته) وهذا واضح وقد أشرنا إليه. المجيزون لقول القائل (اعتذر عن التقصير) : جاء في المعجم الوسيط، معجم المجمع القاهري: (ويقال اعتذار من ذنبه وعن فعله) ، فهل أراد أن يخص الذنب بـ (من) ، والفعل بـ (عن) ؟ أقول إذا أراد ذلك فلا وجه له البتة، وإذا لم يعنِ ذلك فما الذي حمله على أن يحكي بالحرف عبارة الجوهري (الاعتذار من الذنب) ويضم إليها عبارة المصباح (واعتذر عن فعله) فيجمع بينهما ويوهم أن (من) في استعمال الفعل غير (عن) ؟ وقد كان الأمثل أن يطبع على غرار الإفصاح فيقول (واعتذر عن فعله ومنه) أو (واعتذر من ذنبه وعنه) . وعرض الأستاذ محمد العدناني لتعدية (اعتذر) في معجمه (الأخطاء اللغوية الشائعة) فأقر تعدية الفعل بمن وعن لذكر العلة، لكنه عطف الأمر على (إنابة حرف مكان حرف) وليس ثمة (إنابة) ، وإنما أجري كل حرف من الحرفين المذكورين في مجراه ووضع موضعه. ثم أنكر قول القائل (يعذُر) بالضم كينصُر، وجعل صوابه (يعذر) بالكسر كيضرب، قال (ويقولون: يعذُر فلا صديقه فيما صنع، بالضم، والصواب يعذر صديقه بالكسر..) . أقول: جاء الفعل على (يعذر) كيضرب، وعلى (يعذُر) كينصُر. قال ابن سيده في المخصص (13 / 81) : (عذرته أعذُره عذراً ومعذرة بالفتح حكاها سيبويه..) فضم الذال في (أعذُره) وكسرها: وقال ابن منظور في اللسان (وعذره يعذُره فيما صنع عذراً..) فأتت الذال في المضارع الفعل مضمومة ومكسورة أيضاً. فقول الكتاب (يعذُره) بالضم صحيح كما رأيت ولا وجه فيه للتخطئة. تعدية (اعتذر) بعلى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 أقول إذا كان (اعتذر) قد جاء بمعنى (احتجَّ) كما ذكره الهمذاني في الألفاظ الكتابية فقال (اعتذر وتعذر إذا احتجّ) وكان (العذر) كـ (الحجة) على ما جاء في اللسان (العذر: الحجة التي تعتذر بها) فقد اتفق أن عدَّي (اعتذر) بـ (على) كما يُعدى (احتجّ) فأنت تقول: (اعتذرت على فلان بعذر) كما تقول (احتججت عليه بحجة) فانظر إلى قول منصور بن مشحاج: فما اعتذرتْ إبلي عليه ولا نفسي ومختبطٍ قد جاء، أو ذي قَرابةٍ قال المرزوقي في شرح الحماسة (1675) : (فلا نفسي احتجزت عنه بمنع ولا إبلي اعتذرت عليه بعذر، كأن عذر الإبل تأخرُها عن مباءتها، أو ذكر وقوع آفة فيها أو تسلط جدب عليها، واحتجاز النفس: بُخلها بها وإقامة المعاذير الكاذبة دونها وما يجري هذا المجرى) . وأصل الاختباط في الورق تقول اختبطت الورق إذا نفضته من الشجر، وكما يستعار الورق فيُكنَّى به عن المال يستعار الخبط فيكنَّى به عن طلبه. القول في تعديه (كشَف) قال الدكتور مصطفى جواد في كتابه (دراسات في فلسفة النحو والصرف..) ينتقد على كاتب بعض كلامه: (وكشف كنوزها.. ونظامها البديع، وقد أراد الكشف عن كنوزها. ومن العجب أنه قال قبيل ذلك: وكشف فيه عن سعة إطلاع، فسوَّى بين كشف عنه وكشفه) . أقول أراد الأستاذ جواد أن (كشفه) غير (كشف عنه) . فالكشف إنما يكون (للساتر) وهو الغطاء أو ما يقوم مقامه، فالغطاء هو المكشوف. أما المكشوف عنه فهو (المستور) أو ما ينوب منابه. قال (والأصل كشف الغطاء أو الستار أو الحجاب) وأردف (والجملة) الثانية ـ أي كشف عنه ـ أريد بها إزاحة ما يستُر، عن الشيء المستور حسب) ، فما صواب المسألة؟ الأصل في معنى (كشف عنه) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 لا خفاء بأن الأصل في الكشف هو إزاحة الغطاء أو الستار ورفعه عن المستور. تقول (كشف الخمار عن الوجه) و (كشف الغطاء عما وراءه) . قال صاحب العين (الكشف رفعك عن الشيء ما يواريه ويغطيه) . فتعدية الفعل إلى (الغطاء) أو (الحجاب) إنما يكون نفسه، وإلى (المستور أو المحجوب) بـ (عن) . وقد يطبق الغطاء على الإنسان فيغمره ويثقل عليه ويشتد، كالهم إذا غشي الإنسان فاحتواه، بل عظم عليه وشق، فتقول فيه: (جلوت الهمَّ عنه وسرّيته، بل كشفت عنه السوء أو الضر أو العذاب، وعلى هذا الحدآي التنزيل: ?لئن كشفت عنا الرجز ـ الأعراف / 133? و?فلما كشفنا عنه ضرّه ـ يونس / 12? و?كشفنا عنهم العذاب يونس / 38?. وقد يُلمٌ بالإنسان ما يحجب عنه النظر كشاغل من غمرة فيذهب ببصره كل مذهب، وقد فُسِّر به قوله تعالى: ?لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرُك اليوم حديد ـ ق / 22?. قال الإمام البيضاوي: (الغطاء الحاجب لأمور المعاد وهو الغفلة والانهماك.. وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى كنت في غفلة من أمور الديانة، فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي القرآن، وبصرك اليوم حديد ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون) . ومما قيل على حد (كشف الغطاء) قول أبي علي المرزوقي في شرح الحماسة (1060) : (ثم كشفت الغمة وأثبتَّ الحجة بكلام فصيح لا يلتبس) أي رفعت الغمة عنه وأزحتها) وقوله (1091) : (فتركت بعدها دواهي وخطوباً عظيمة هي في أغطيتها لم تظهر ولم يكشف عنها) ، أي لم يكشف عنها غطاؤها، وقوله (1093) : (فتذكر معايبهم وتكشف عن مستور مخازيهم ومجهول مقابحهم ومساويهم) أي تكشف عنها ما كان يحجبها، وقوله (760) : (تندمٌ على ما قصَّر فيه من النظر والفحص والكشف عن عقبى الأمر) . وقول الخفاجي صاحب سرّ الفصاحة (31) : (وذلك أليق بالمتكلمين الذين هم أصحاب التحقيق، والكشف عن أسرار المعلومات وغوامض الأشياء) أي كشف الغطاء عما طُوي عن فهم الناس. الأصل في معنى (كشفه) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أقول إذا اتفق قول صاحب العين (الكشف رفعك عن الشيء ما يواريه ويغطيه) كما حكاه ابن سيده في المخصص (13 / 144) ، فقد أردف: (وكشفت الأمر أكشفه كشفاً: أظهرته) . وحكى ابن سيده عن أبي زيد أيضاً (جلوت الأمر وجلَّيته وجلَّيت عنه: كشفته وأظهرته، وقد انجلى وتجلَّى) . وقال ابن منظور في اللسان: (وكشف الأمر يكشفه كشفاً: أظهره) . وهذا يعني أن للفعل منحى آخر يتعدى فيه بنفسه إلى (المجهول أو المخفي) ، تقول: (كشفت الأمر إذا جلوته وأظهرته) . فإذا كان (كشفت الغطاء عن المجهول) هو الأصل، فكيف تفرُع عليه هذا؟. أقول: الأصل قولك (كشفت الحجاب عن المجهول) ، ولك أن تقول: (كشفت حجاب المجهول) ، فإذا عرفت أن (الحجاب) يلازم (المجهول) ، واعتذرت بهذا فاستغنيت عنه بذكر (المجهول) حذفت المضاف فقلت (كشفت المجهول إذا أظهرته. وأكثر ما يكون الاستغناء عن (الحجاب) أي المضاف ها هنا، إذا كان الحاجب دون المجهول هو الغموض والخفاء والجهل والضياع، فيكون معنى كشف المجهول هو الاهتداء إليه وإظهاره. وحذف المضاف في القرآن والشعر، وفصيح الكلام في عدد الرمل سعة، أستغفر الله وربما حذفت العرب المضاف بعد المضاف مكرراً أنساً بالحال ودلالة على موضوع الكلام، كما قال أبو الفتح (المحتسب ـ 1 / 188) فعلى هذا القول ابن جني في المحتسب (1 / 239) : (وكشفت هذا الموضع يوماً لبعض ما كان له مذهب في المشاغبة) . وقول جُرَيبة الفقعسي: من العار أوجُههم كالحُمم هم كشفوا عيبَة العائبين قال المرزوقي في شرح الحماسة (774) : (وقولهم هم كشفوا عيبة العائبين ... أي أظهروا من عيب من كان يطلب عيبهم، ما كان خافياً.. فكأنهم كشفوا عيابهم المنطوية على عيوبهم فأسودّت وجوههم بما غشيها من العار، حتى صارت كالحُمم) . والعيبة هنا موطن العيوب ومودعه. وانظر إلى قول أبي الحجناء: (شرح الحماسة / 923) ولا يكشف الفتيان غير التجارب وجرَّبتُ ما جربت منه فسّرني أي يكشف دخيلتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وهذا قول المرزوقي (520) : (وهذا المعنى قد كشَف غيرهُ) أي أظهره وجلاه. وقول الخفاجي صاحب سر الفصاحة (30) : (ويكشف هذا المعنى للمتأمل أن العرب) وقوله (وكشف هذا.. ما أريد) وقوله (71) : (فالعلم بها واضح وكشفهاجلي) . فلا بأس بعد هذا بأن تقول: (كشفت كنوزها.. ونظامها البديع) إذا اهتديت إلى هذه الكنوز فأظهرتها، وإلى هذا النظام فجلوته؟ ولا وجه لطعن جوادٍ على قائله بأن الغطاء هو المكشوف، وأن المستور هو المكشوف عنه. ذلك بأن قول الأيمة صريح بأن كشف الأمر: إظهاره وجلاؤه، وإذا ذهبت تخرِّجه على الأصل قلت: إن الكنوز ها هنا هي المجهول، وأنت تكشف حجاب المجهول، على الأصل، وتكشف المجهول أي الكنوز على حذف المضاف كما مر بك. وقد بسط ـ الدكتور جواد رأيه الذي ذكرنا، في كتاب آخر له، هو (قل ولا تقل) فمنع قول القائل (كشفت الأمر الخفي) أول الأمر. ثم عدل عن التلحين إلى الإيثار فقال: (فالفصيح أن يقال الكشف عن الأمر الخفي) وكان قد بدأ قوله (قل كشفت عن الأمر الخفي خفاءه، ولا تقل: كشفت الأمر الخفي) . أقول لا وجه، بل لا مساغ البتة لما ذهب إليه الأستاذ، وإلا فما معنى قول الأيمة بل إطباقهم على أنك (إذا كشفت الأمر) فقد أظهرته، أو يخرج الأمر عن أن يكون (أمراً) إذا كان خفياً؟ وإذا كان لا يصح أن يكون المكشوف غير غطاء وحجاب أو خفاء أو قناع، كما ذهب إليه جواد، فكيف أطرد عن الفصحاء الأثبات قولهم (كشف فلان عورة جاره) ؟ فانظر إلى قول الجاحظ في كتابه (حجج النبوة) : (ولو كان كل كشف هتكاً، وكل امتحان تجسساً، لكان القاضي أهتك الناس لسرٍ وأشد الناس كشفاً لعورة) ، وقوله: (لا من طريق الاعتساف، ولا من طريق كشف العورة) فليس المكشوف فيه كما رأيت، غطاء، أو ما يشاكله أو يغني مُغناة. فرق ما بين كشفه وكشف عنه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أقول لا شك أن استعمال (عن) على الأصل أدل على أبرز ما قام دون (المجهول) من حجاب حائل، واتفق من غطاء ساتر، كما هو حال (الكنوز) حين تخفى وتخبأ وتطوى، لذا كان قولك (كشفت عن الكنوز) أليق بالمراد. وهذا ما أوحى به المرزوقي حين قال: (فتذكر معايبهم وتكشف عن مستور مخازيهم ومجهول مقابحهم ومساويهم) ، وما أراده إذ قال: (من النظر والفحص والكشف عن عقبى الأمر) فمهَّد للكشف بالنظر والفحص وما أفصح عنه بقوله (1136) : " وما يظهر من معادن الذهب صبيحة مطرة تكشف عن عروق الذهب". بل هذا ما قصده الخفاجي بقوله (وذلك أليق بالمتكلمين أصحاب التحقيق والكشف عن أسرار المعلومات وغوامض الأشياء، إذ لو لم يكن هؤلاء أصحاب تدبر وتأمل وتحقيق ما ظفروا بالكشف عن هذه الأسرار والغوامض. خلاصة القول في تعدية (كشف) : والخلاصة أنك تقول على الأصل كشفت الغطاء عن المستور، فإذا حذفت المفعول لظهوره قلت كشفت عن المستور، ويغلب هذا حين يكون المستور خفياً. كما تقول كشفت غطاء المستور فإذا حذفت المضاف قلت كشفت المستور، ولا يشترط في هذا أن يكون المستور خفياً. ولكن هل تقول كشفت عن الغطاء وتريد أنك كشفت عن الغطاء ما واراه، أي انصرفت عنه إلى ما وراءه؟ أقول الأصل أن تقول مثلاً: كشفت المرأة وجهها، فإذا اعتادت أن تخفيه قلت كشفت المرأة عن وجهها وتقول كشفت المرأة قناعها عن وجه مضيء، على الأصل، وكشفت عن قناعها وجهاً مضيئاً إذا أظهرت وجهها المضيء، فتكون (عن) هنا (للمجاوزة) ، أي كشفت الوجه المضيء منصرفة عن القناع إلى ما واراه أو ما وراءه. وقد جاء في رسائل الجاحظ (رسالته في الشارب والمشروب، ورسالته في بني أمية) : (كشفت عن القناع) . وفي مقدمة المرزوقي في شرح الحماسة قوله (والكشف عن قناع المعنى بلفظ هو في الاختيار أولى / 6) . القول في تعدية (قسم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 أخذ الدكتور مصطفى جواد على الشيخ رؤوف جمال الدين قوله: (الفعل ينقسم إلى قسمين متعدٍ ولازم) ، وجعل صوابه (ينقسم على قسمين..) فقال في كتابه (دراسات في فلسفة النحو والصرف..) : (فمن استعمل من النحويين ـ قسم إلى كذا ـ بدلاً من ـ قسم على كذا ـ فهو محجوج بما ذكره هو نفسه من معاني إلى، وبما استعمله الفصحاء كالجاحظ وغيره) . وقد استظهر الأستاذ بعبارة الجاحظ في كتابه (الحيوان) : (وبعض الناس يقسم الجن على قسمين) ، وقول ابن حزم الأندلسي في نسب الأنصار (زيد بطن ضخم ينقسم على بطون) ، ووقل أبي علي الأنصاري في بعض كتبه (كنفس قُسِّمت على جسمين) . أقول لم يزد الأستاذ فيما قرر وجزم، على أن سَرد ما سرد، ولم يورد على قوله البيِّنه ليكون رأيه هو الأسدّ وحكمه هو الأحجى. بل لم يفصح عما ذكر النحاة من معاني (إلى) . ولك ما عمد إليه أنه حكى ما اتفق للجاحظ وابن حزم وأبي علي الأنصاري أن قالوه فأجروا فيه تعدية الفعل بـ (على) . ونحن لو حكينا من كلام الأيمة الفحول ما عدّوا فيه الفعل بـ (إلى) لما أقنعه سفر بجملته، فما صواب المسألة ووجه الكلام فيما نزع إليه الأستاذ؟. تعدية (قسم) وما اشتق منه بعدّة من حروف الجر، منها على وإلى: قال ابن منظور في اللسان: (القسم مصدر قسم الشيء يقسمه قَسماً فانقسم.. وقسَّمه جزّأه، وهي القسمة. والقسم بالكسر النصيب والحظ والجمع الأقسام) . وقال (والقسام بالتشديد الذي يقسِّم الدور والأرض بين الشركاء فيها) ، وقال: (والقسامة بالضم الصدَقة لأنها تقسم على الضعفاء) . وقال الراغب في مفرداته: (القسم الإفراز يقال قسمته كذا قسماً وقِسمة، وقسمةُ الميراث وقسمة الغنيمة تفريقهما على أربابهما) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 والذي يتبين من هذا أنك إذا أردت أن (تقسم) المال مثلاً على جماعة فتجعل لكل فرد نصيباً قلت: (قسمت المال بين هؤلاء) أو (قسمت المال على هؤلاء) . أي فرّقته بينهم. قال الجاحظ في كتابه (حجج النبوّة) : (يجعل فضله مقسَّماً بين جميع الأولياء) . وقال في كتابه (التربيع والتدوير) : (أو الدول بينهما مقسومة وعليهما موقوفة) . وقال فيه: (وزعم آخرون أن الخير والشر عليهما مقسومان) وقد تقول (قسَّمته فيهم) . ففي محاضرات الأدباء للراغب (3 / 294) : في الناس طُراًُ لتمَّ الحسن في الناس) . لو قسَّم الله جزءاً من محاسنه وقال عروة بن الورد: وأحسو قَراح الماء والماء بارد أقسِّم جسمي في جسومٍ كثيرة قال ابن السكيت: (قوله: أقسَّم جسمي، الجسم ها هنا طعامه، يقول أقسم ما أريد أن أطعمه في محاويج قومي، ومن يلزمني حقه والضيفان. وأحسو قراح الماء، والماء القَراح الذي لا يخالطه لبن ولا غيره، والماء البارد أي في الشتاء / 52) . على أن لك أن تعدّي الفعل بـ (إلى) أيضاً إذا أردت معناها، كأن تروم بيان الأجزاء التي انتهت إليها القسمة. فانظر إلى قول الإمام أبي حيان في البحر المحيط: (وافتراق الناس إلى ثلاث فرق) . ولو أحللت (الانقسام) محل (الافتراق) لكان الكلام (وانقسام الناس إلى ثلاثة أقسام) . وتأويله: أنهم قد انتهوا في افتراقهم أو انقسامهم إلى ثلاث شعب. و (إلى) ها هنا لانتهاء الغاية، وهو رأس معانيها وملاكه، فإذا قلت (قسمت كتابي إلى ثلاثة أبواب) أردت أن الكتاب قد انتهى بهذه القسمة أو صار إلى هذه الأبواب الثلاثة، وكله صحيح على تأويله وبابه. وانظر إلى ما قاله ثعلب في تفسير قوله تعالى ?انطلقوا إلى ظلٍ ذي ثلاث شعب ـ المرسلات / 30?: (يقال أن النار يوم القيامة تنفرق ثلاث فرق، فكلما ذهبوا أن يخرجوا إلى موضع ردتهم..) على ما جاء في التاج، وقد جاء ذلك في اللسان فزاد في روايته (إلى) أي (تنفرق إلى ثلاث فرق) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وإذا قلت (قسمت الكتاب قسمين) أو (شطرين) . كان انتصاب (قسمين) على المصدر. ولك أن تنصبه حالاً مقدراً فيه (قسمت الكتاب متفرقاً) . فإذا صح هذا وأمكن مثل هذا التقدير، قلت: قسمت الكتاب إلى قسمين) على معنى (قسمته متفرقاً إلى قسمين) . فانظر إلى قول المرزوقي في شرح الحماسة (826) حول قول الشاعر (قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا) : (وانتصب شطرين على المصدر كأنه قال قسمنا الدهر قسمين. ويجوز أن يكون حالاً على معنى قسمناه مختلفاً فوقع الاسم موقع الصفة لما تضمن معناه، كما تقول طرحت متاعي بعضه فوق بعض كأنك قلت متفرقاً، والمراد جعلنا أوقات الدهر بيننا وبين أعدائنا مقسومة قسمين) . وتأمل قول المرزوقي في شرح الحماسة (1191) حول بيت يزيد بن الحكم: والناسُ مبتَنيانِ محمود البنايةِ أو ذميمُ : (ومعنى البيت أن أفعال عقلاء الناس لا تخلو من أن تكون مما يُستحق به حمدٌ أو ذمٌ، فهم يبنون مبانيهم ويؤسسون مكاسبهم على أحد هذين الركنين، وذلك لأن الأفعال تابعة للأغراض، وغرض العاقل إليهما ينقسم) . فتأويل قوله هذا أن غرض العاقل ينتهي في قسمته أو يصير إليهما، أي إلى هذين الركنين. وأردف المرزقي: (فانظر ماذا تجلب على نفسك ما تبتغيه من فعلك وتدخره من كسبك) . وقال على هذا الغرار (1316) : (وإذا تأملت حوادث الدهر وجدتها لا تنقسم إلا إلى قسمته، لأنها لا تخلو أن تكون محبوبة أو مكروهة، أو واقعة أو منتظرة، أو مخوفة أو مرجوة) . وهذا قول ابن جني في سر الصناعة (1 / 69) : (وللحروف انقسام آخر إلى الشدّة والرخاوة وما بينهما) ، وقوله (1 / 71) : (وللحروف قسمة أخرى إلى الأصل والزيادة) . وقوله في الخصائص (3 / 67) : (وذلك كأن تقسم نحو مروان إلى ما يحتمل حاله من التمثيل له فتقول: لا يخلو من أن يكون فَعلان أو مفعالا أو فعوالا) . ونحو ذلك قول صاحب سر الفصاحة (24) : (وللحروف انقسام إلى الصحة والاعتلال والزيادة والسكون والحركة وغير ذلك) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أقول: ومن هنا إطباق العلماء والنحاة والكتاب قديماً على هذه التعدية. فقد جاء في مقدمة كتاب كليلة ودمنة (وينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض: أحدها ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم..) قال هذا لأن الكتاب في الأصل جملة مسائل تُبحث وأغراض تُشرح وقال الجاحظ في بعض رسائله (الخاصة: (وقد تنقسم المودة إلى ثلاث منازل: منها ما يكون عن اهتزاز الأريحية وطبع الحرية..) ، وقال صاحب الكليات أبو البقاء (411) : (لسان العرب ينقسم إلى ما لا يقاس ... وإلى ما يطرد فيه القياس، وأن ما يجري فيه قياس مقرون بالسماع) . الأصل في تعدية (قسم) بعلى: والأصل في استعمال (على) مع الفعل ها هنا، أن يكون (المقسوم) غير (المقسوم) عليه كما في قولك (قسمت الغنيمة على أربابها) أو (قسمت الصدقة على الضعفاء) . فالغنيمة غير الأرباب والصدقة غير الضغفاء. ومن ذلك قول المرزوقي في مقدمة شرح الحماسة (وكان اللفظ مقسوماً على رتب المعاني، قد جُعل الأخصّ للأخص، والأخسّ للأخس) . والأصل في أعمال (إلى) إن يكون (المقسوم إليه) هو (المقسوم) نفسه، كما في قولك (انقسم الناس إلى ثلاثة أصناف) ، أي انتهوا في القسمة أو آلوا إلى هذه الأصناف. ولكن يصح أن تحلّ (على) محل (إلى) فتقول (قسمت كتابي على ثلاثة أبواب) أي فرقت ما فيه وجزّأته ثلاثة أجزاء فجعلت كل جزء من الأجزاء في باب من الأبواب وخصصته به، كأن الباب غير الكتاب. ولا يصحّ أن تحل (إلى) محل (على) في مثل قولك (قسمت الميراث على الورثة) لأن فحواه أنك قسمت الميراث أنصبَة كعدد الوارثين وجعلت لكل نصيبه، ولا يمكن أن تؤدي (إلى) هذا المؤدى لأنها لمجرد الإشارة إلى ما آلت إليه القسمة من أجزاء، فاستعمال (على) هو المراد من قسمة الميراث دون (إلى) وهو ألصق بالمعنى وأوفى بالغرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وهكذا ما مرَّ بك من قول الجاحظ (كنفس قُسمت على جسمين) فإن معناه (كنفس شُطرت بين جسمين) فكان لكل جسم من هذه النفس شطر ونصيب. وهذا موضع (على) لا موضع (إلى) ، ولو قلت: (كنفس قسِّمت إلى قسمين) لم يستقم المعنى الذي أردت. متى تصح تعدية (قسم) بإلى، ومتى تصح بعلى: كلما صح قولك (قسمت الشيء قسمين أو ثلاثة) وهو أصل التعبير، على حدّ ما جاء في الحديث (ستفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة) ، جاز قولك (قسمته إلى قسمين أو ثلاثة) أو (قسمته على قسمين أو ثلاثة) . وكلما ساغ أن تقول (قسمت الشيء بينهما، أو بين هذه الأشياء أو بين هؤلاء) كقول علي عليه السلام في نهج البلاغة (2 / 185) (فقسم بينهم معايشهم) وهو أصل التعبير عن هذا المعنى، استقام قولك (قسمت الشيء عليهما أو على هذه الأشياء أو على هؤلاء) ولم يُغنِ قولك (قسمت الشيء إليهما أو إليها أو إليهم) . شواهد تبرز الغرض من تعدية الأفعال بإلى، كما عدّي (قسم) : من أمثلة ما عُدِّي بـ (إلى) لانتهاء الغاية، كما عُدَّي (قسم) ، أي لانتهاء فاعل الفعل أو ما ينوب منابه إلى غاية، تعدية (سهَّل وأبدل وقلب وتقلَّب وانقلب وانفصل..) . تقول (سهَّل الشيء إلى كذا) أي سهله فانتهى بالتسهيل إليه، و (أبدله إلى كذا) أي أبدله فانتهى بالإبدال إليه، كما كان (قسمه إلى كذا) بمعنى (قسمه فانتهى بالقسمة إلى كذا..) . قال صاحب المصباح في مقدمته (وإن وقعت الهمزة عيناً وانكسر ما قبلها جعلت مكان الياء لأنها ـ تسهِّل إليها ـ نحو البئر والذئب) . وقال ابن جني (2 / 9) : (وأبدل إلى الهمز حرفاً لاحظّ في الهمز له، بضدِّ ما يجب لأنه لو التقت همزتان عن وجوب صنعة للزم تغيير إحداهما) ، وأردف (فكيف يقلب إلى الهمز قلباً ساذجاً عن غير صنعة ما لاحظ له من الهمز) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وقال ابن جني في سر صناعة الإعراب (3 / 231) : (قد قدمنا في كتابنا الخصائص صدراً صالحاً من ـ تقلب الأصل الواحد والمادة إلى صور مختلفة يخطمُها ـ يريد ينتظمها ويقودها ـ كلها معنى واحد، ووسمناه بباب الاشتقاق الأكبر) . وجاء في نهج البلاغة (2 / 58) وليكن من أبناء الآخرة فإنه منها قَدِم، واليها ينقلب) . ولا ننسَ أن (انقلب) قد عُدَّي بإلى غير مرة، في أي الذكر الحكيم، حين جاء بمعنى (رجع) . وجاء في محاضرات الأدباء للراغب (3 / 211) : (وكتب الصابئ عن عز الدولة إلى أبي تغلب، وقد نقل ابنته إليه: قد وجهت الوديعة، وإنما نقلت من وطن إلى سكن، ومن مغرس إلى مغرس. وهي مني انفصلت إليك وثمرة من جني قلبي حصلت لديك) . وهو جليّ بيِّن. القول في معنى (تعرَّض له) مذهب جواد في استعمال (تعرّض له) وحجته: قطع الدكتور مصطفى جواد في كتابه (قل ولا تقل) أن قولك (تعرَّض له) ينمّ على رغبة الفاعل في الفعل، والمفعول إن وجد، فيمتنع على هذا أن تقول (تعرّض فلان للتعذيب) أو نحو ذلك، إذ لا يستقيم أن يكون المتعرّض راغباً في (التعذيب) أو ما يشاكله من معاناة ومقاساة، وأن صواب التعبير أن تقول (عُرِّض للتعذيب) . قال الأستاذ جواد: (وإن من الأغلاط ما ارتكبه أدباء كبراء كالدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد وتابعهما عليه مقلدوهما غير عالمين بها لأنهما قدوتهم وموضع ثقتهم. فالفعل الشائع اليوم في أقوال الكتَّاب: تعرَّض، والخطأ في استعماله إنما ظهر في كتاب الأيام، ففي الصفحة.. منه قول الكاتب وكان ذكاؤه واضحاً وإتقانه للغة بيِّناً. وحسن تصرفه فيه لا يتعرض للشك.. وفي الصفحة.. قوله: وكان الأزهر قد تعرض لألوان مختلفة من النظام) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وقد استشهد بما جاء في المقاييس لأحمد بن فارس: (تعرض لي بما أكره..) والصحاح ومختاره: (وتعرّض لفلان: تصدّى له..) والمصباح: (وتعرّض للمعروف وتعرّضه يتعدَّى بنفسه وبالحرف إذا تصدّى لذكره) ، واللسان: (انطلق فلأن يتعرّض بجَمَله للسوق إذا عرضه على البيع.. والعرب تقول: عرض لي الشيء وأعرض وتعرض واعترض بمعنى واحد) . القول فيما أتى به جواد من نصوص وشواهد: أقول ليس فيما بسط الأستاذ جواد من النصوص والشواهد ما يوجب أن يكون (المتعرّض) راغباً فيما تعرّض له، لكنه يكون طالباً له مبتغياً إياه، وقد يطلب المرء شيئاً ولا يرغب فيه. وإذا كان (تعرض له كتصدَّى) فالطلب والابتغاء شرط في التعرّض. ومن هذا قولك (تعرضت لمعروفه) إذا طلبته. ولكنه قيل أيضاً (تعرَّض فلان للتلف) و (تعرّض للخزي) و (تعرض للهلاك) كما ثبت اطراده عن الفصحاء فما وجهه؟. أقول: (تعرض) كما قال ابن منظور كـ (عَرَضَ واعترض) . فالأصل ألاَّ تتعرض للتلف أو تعرض له أو تعترضه، وإنما الوجه أن يتعرّض لك فيبتغيك، أو يعرض لك أو يعترضك. فإذا قلت (تعرض للمكروه) أو (للتعذيب) فهو كما يبدو، على القلب، لا على الأصل، لأنه بمعنى تعرَّض لك المكروه أو التعذيب مجازاً، فأصبحت له عُرضة وغرضاً. وقد اتفق بهذا أن يكون المتعرض مبتغياً في اللفظ، وهو المتبغى والهدف في المعنى، وأن يكون (تعرض له) كـ (عُرِّض له) . وحين بدا للأستاذ جواد هذا ودلّ عليه نص صريح نكر النص وعاف الدليل، وقال (وقد تركت نصاً واحداً ورد في الصحاح ومختاره يخالف واقع اللغة، وإني ذاكره بعد إيراد شواهد واقع اللغة، أي استعمال تعرض في كتب الأدب وكتب التاريخ) . أما نص الصحاح ومختاره فهو (وعرضت فلاناً لكذا فتعرّض هو له) أي غدا هدفاً له. وثمة نص آخر أتى به الأستاذ جواد، على أنه حجة له، وهو حجة عليه. قال ابن منظور: (والعرب تقول عرض لي الشيء وأعرض وتعرَّض واعترض بمعنى واحد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فإذا كان (تعرّض له) كـ (أعرض له) ، فما الذي يعنيه قولك، على المجاز، (أعرض فلان للمكروه) ؟ إنه يعني أنه أبدى (عرضه) بالضم للمكروه فأمكنه منه، كأعور الشيء إذا أبدى عورته. فالمعرض أو المعور هو الذي أمكن آخر من عُرضه بالضم أو عورته فغدا له هدفاً وغرضاً. ففي الأساس: (أعرض لك الصيد فأرمه، وهو مُعرض لك) وفيه (وقد أعور لك الصيدُ وأعورك: أمكنك) فغدا هدفاً لك. هذا إذا كان الشيء هو المعرض أو المعور، فإذا كان المرء كما مثلنا هو المعرض أو المعور غدا هو الغرض والهدف. فقولك? أعرض فلان للمكروه) معناه أمكن المكروه من نفسه وكذا المتعرض فقولك (تعرض فلان للتلف) مثلاً مؤداه أنه أمكن التلف من نفسه فغدا غرضاً له. وهذا ما عناه الكتَّاب حين جرت أقلامهم به، ونطقت ألسنة الأيمة على منهاجه وطبعت على غراره. أمثلة من كلام الفصحاء تشهد بصحة ما أنكره جواد: وهذه طائفة من أقوال أصحاب البيان وفصحاء القوم تشهد بأن ما ذكره الأستاذ جواد، على أنه مخالف لواقع اللغة، إنما هو من طرائق اللغة وأساليب، بل تقيم الدليل على سداد ما ذهبنا إليه وتنسخ عنه كل شك. فقد جاء في نهج البلاغة (2 / 151) : (فكم خصكم بنعمة، وتدارككم برحمة. أعورتم له فستركم، وتعرضتم لأخذه فأمهلكم) . قال الشارح: (أعورتم له أي ظهرت عوراتكم وعيوبكم، وتعرَّضتم لأخذه أي يأخذكم بالعقاب) . ففحواه إذاً: أبديتم عوراتكم فستركم وعرّضتم أنفسكم لعقابه فأمهلكم) . وفي كليلة ودمنة: (فإذا اجتمع عليه هذان الصنِّفان فقد تعرَّض للهلاك ـ باب الأسد وابن آوى) وفيه (والرجل الأرمد العين إذا استقبل بها الريح، تعرّض لأن تزداد رمداً ـ باب الملك والطائر) وقال أبو حيان التوحيدي في كتابه (أخلاق الوزيرين) : (والله، للخروج من الطارف والتليد أسهل من التعرّض لهذا القول والصبر عليه وقلة الاكتراث به / 90) قال هذا، في اليزيدي هجاه شاعرٌ هجاء مرّاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وقال المرزوقي في شرح الحماسة (789) : (حتى كان يترك السفر واكتساب الأحدوثة بما يُمتهن فيه، ويتعرض من أجله للتلف) . قال فيه (738) : (أما تخافون أن يحق عليكم العذاب إذا استهنتم بالوعيد.. وتعرضتم لسخط الله عز وجل، في تجاوز مأموره) . وقال (80) : (وأما قتلٌ، وهو بالحرِّ أجدر من التعرض لما يُخزيه ويُكسبه الذل) . وقال (816) : (وابتذاله النفس وتعرضه للحتف) ، والحتف: الهلاك. وقال ابن جني في الخصائص (470) : (وإنما وجب أن يرتَّب هذا العمل هذا الترتيب من قبل أنك لمَّا كرهت الواو هنا لما تتعرض له من الكسرة والياء) ، وقال في المحتسب (1 / 179) : (والفضلة متعرّضة للحذف والبذلة) . وقال فيه (1 / 243) : (إن الفَعلة واحدة من جنسها، والواحد مُعرَّض للتثنية والجمع) ، أفرأيت كيف جعل (متعرضة) من تعرّض له. كـ (معرَّضة) من عُرِّض له، فأنزلهما في المعنى منزلة واحدة. خلاصة القول في معنى (تعرّض له) : فاستبان بما تقدم أن (تعرض له) كـ (عُرّض له) أو (أعرض له) ، من قولك عرّضته لكذا فتعرض له، فيكون (تعرّض) هذا من قبيل (تفعل) الذي يدل على المطاوعة نحو حذَّرته فتحذر ونبّهته فتبَّنبَّه وعزَّيته فتعزّى، وقد أنكره الأستاذ جواد بلا بيِّنه وأباه بلا سلطان. ويأتي (تعرَّض له) بهذا المعنى كلما ابتغاك الشيء فجعلك غرضاً له، نحو قولك (تركت السفر الطويل مخافة التعرض للمرض) . أما إذا ابتغيت الشيء وعزمت على طلبه كان (تعرّض له) كـ (تصدّى له) . ويكون (تعرض) هذا من قبيل (تفعَّل) الذي يدل على تكلف الفاعل بإصرار كتتبع وتقصَّي وتحرَّى، وذلك كقولك (ينبغي للمرء أن يتعرض لأسباب المرض فيعالجها ويحاول أن يتَّقيها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وليست المفارقة أن تأتي صيغة (تفعَّل) للتكلف حيناً والمطاوعة حيناً آخر، ولكن المفارقة أن يجتمع لفعل واحد بهذه الصيغة وهو (تعرَّض) ، التكلف والمطاوعة جميعاً. والذي عندي أن الأصل فيه التكلف وهو المعنى الغالب لتفعل. أما المطاوعة فقد كانت فرعاً عليه. فالأصل ألا تتعرض للتلف إذا عنيت به أنك أبديت عُرضك له وأمكنته منه، وإنما الوجه أن يتعرض لك أن يبتغيك ويعرض لك ويعترضك،، فإذا قلت (تعرضت للتلف) وأردت المعنى الأول فهو على القلب لا على الأصل. وشبيه بهذا ما مثل به المبرّد للقلب من كلام العرب في كتابه (الكامل) وهو قولهم (المرأة تنوء بها عجيزتها) أي تثقلها، وقولهم (وهي تنوء بعجيزتها) أي تنهض بها مثقلة. على أنه إذا كان الأصل ألاَّ يبتغي المرء ما يتفق منه معاناة أو نصب أو يتعرض فيتصدّى لما يجلب عليه العناء والشقاء، فقد يطلب المرء المشقة نفسها، بل يركب أكتاف الشدائد ليحقق بذلك غاية ويبلغِ مُنية. فانظر إلى قول الجاحظ في كتاب الحيوان حول ما قاسى من نصب وعانى من صعد ولقي من برحٍ في تأليف كتابه واستتمام فصوله، (لأني كنت لا أفرغ فيه إلى تلفظ الأشعار وتتبع الأمثال واستخراج الآي من القرآن، والحجج من الرواية، مع تفرّق هذه الأمور في الكتب، وتباعد ما بين الأشكال. فإن وجدت فيه خللا من اضطراب لفظ ومن سوء تأليف.. فلا تنكر بعد أن صورت عندك حالي التي ابتدأت عليها كتابي، ولولا ما أرجو من عون الله على إتمامه.. لما تعرضت لهذا المكروه) . فليس التعرض ها هنا على معنى إبداء عُرضه للمكروه وتعريض صفحته له لتلقِّي أثره واحتمال بوائقه، وإنما هو على معنى التصدي والابتغاء. وعندي أن من هذا القبيل قول زاهر التيمي: للموت غير مُعرِّد حيَّاد ومحشُّ حربٍ مُقدِم متعرّض خوف الردى وقعاقع الإيعاد كالليث لا يَثنيه عن إقدامه خوف المنية نجدةُ الأنجاد مذِلْ بمهجته إذا ما كذّبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 قال المرزوقي (683) : (يريد أنه يقدم ولا يُحجم ... هو في بأسه وإقدامه مثل الليث لا يصرفه عن الوجه الذي يؤمه، والأمر الذي يُهمه ما يستشعره الجبان من خوف الموت وقعقعة الوعيد) ، وأردف (وقوله: مَذل بمهجته، كأنه يطول تعرّضه للشدائد ويدوم ابتذاله لما يجب صونه من كرائم النفس، فعل من ضجر بمهجته فاستقتل واستطاب الموت فتعجل. ويقال مَذِل بسرّه: إذا باح به) . القول في تعدية (تعرض) هل يكون بـ (إلى) كما كان باللام؟ جاء في كتاب (تذكرة الكاتب) للأستاذ أسعد خليل داغر، رحمه الله: (ويعدّون الفعل تعرض بإلى فيقولون ـ لم يفكروا أن يتعرضوا إلى أحد ـ وهو بهذا المعنى إنما يتعدى باللام تقول- تعرض له وطلبه) . فأنكر بذلك تعدية (تعرّض) بإلى، وليس هذا صحيحاً. فإذا قلت (تعرّض إلى فلان) فقد قصدت أن تعرّضك إنما تناول فلاناً بطلبه وابتغائه. وإذا قلت (تعرّض لفلان) فقد أردت أن تعرضك بالطلب والابتغاء إنما انتهى وصار إليه. فقد جاء في كتاب لطائف اللطف لأبي منصور النيسابوري الثعالبي المتوفى (429 هـ) : (معن بن زائدة تعرض إليه رجل فقال: احملني أيها الأمير، فقال: أعطوه جملاً وفرساً وبغلاً وحماراً وجارية، وقال: لو علمت أن الله تعالى خلق مركوباً سوى ما ذكرناه لأمرنا لك به) . فقال (تعرض إليه رجل) وعدّى الفعل بإلى خلافاً لما ذهب إليه الأستاذ داغر. ونحو من ذلك ما جاء في النهاية لابن الأثير: (وفي حديث الوليد بن يزيد عبد الملك: أفقر بعد مسلمة الصيد لمن رمى أي أمكن الصيد من فقاره لراميه. أراد أن عمه مسلمة كان كثير الغزو يحمي بيضة الإسلام ويتولى سداد الثغور، فلما مات اختل ذلك وأمكن الإسلام لمن يتعرض إليه، فقال: أفقرك الصيد، فارمه أي أمكنك من نفسه ـ مادة فقر) . القول في تعدية (أجاب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ومما نحن على سمته تعدية (أجاب) ومصدره (الإجابة) واسم مصدره (الجواب) . ففي شرح مجمع الأمثال (يقال أجاب إجابة وجابة وجواباً وجيبة) . وتعدية الفعل في الأصل تكون بـ (عن) ، فاستعمال الفعل بـ (على) دون (عن) لحن إذا أريد بـ (على) ما يُراد بـ (عن) من الإجابة عن السؤال أو ما يقوم مقامه. لكن تصرَّف الفعل ب، (عن) لا يمنع تعديته بغيره من الحروف الجارّة التي حُدَّت معانيها المطَّردة في الأمهات، إذا اتسعت لها معاني الفعل. فأنت تقول مثلاً (أجبت في الكتاب) على الظرفية، و (بالكتاب) على الاستعانة والظرفية أيضاً، و (أجبت عنه) على البدلية، و (على ورقة بيضاء) على الاستعلاء الحسِّي، و (أجبت لأمر مهم) على التعليل، و (أجبت عن الأسئلة من أولها إلى آخرها) على ابتداء الغاية وانتهائها. وإذا أردت بالفعل أو مصدره أن يترتب على أمر من الأمور أو يُبنى عليه فعدولك بالتعدية إلى (على) سائغ مستقيم، كقولك (وإنما أجبتكم عن أسئلتكم، على ما جاء في كتابكم) أو (إنما جوابي عن أسئلتكم، على ما جاء في كتابكم) . وتحذف إن شئت (عن أسئلتكم) لظهور الغرض، استغناء بما في الكتاب من ترتب الجواب الذي يقتضي (على) إذا أردت أن ينصرف الذهن إلى هذا فتقول: وإنما أجبتكم، على ما جاء في كتابكم،) و (إنما جوابي، على ما جاء فيه) فيكون كلامك صحيحاً، إذا انتويت فيه هذه الجهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 فانظر إلى ما جاء في أمالي المرتضى (1 / 490) : (فإن قيل كيف يجوز أن يقول: السجن أحب إلي مما يدعونني إليه يوسف / 33، وهو لا يحب ما دعونه جملة ... قلنا قد تستعمل هذه اللفظة في مثل هذا الموضع، وإن لم يكن في معناها اشتراك، على الحقيقة. وإنما يسوغ ذلك على أحد الوجهين دون الآخر، من حيث كان المخيَّر بين الشيئين لا يخيَّر بينهما إلا وهما مرادان أو مما يصح أن يريدهما ... والمجيب على هذا، متى قال كذا أحبّ إليّ من كذا، كان مجيباً على ما يقتضيه موضوع التخيير، وإن لم يكن الأمران يشتركان في تناول محبته) . فتقدير قوله (والمجيب على هذا متى قال ... ) والمجيب بناء على هذا متى قال، وقوله (كان مجيباً على ما يقتضيه..) كان مجيباً جواباً مترتباً على ما يقتضيه.. وقد جاء في الأشباه والنظائر (3 / 257) : (فتقول الجواب عليه من وجهين) أي الجواب المترتب عليه، إنما يكون من وجهين. وجاء في الخصائص لابن جني (2 / 266) : (ومن ذلك قولك في جواب من قال لك: الحسن أو الحسين أفضل، أم ابن الحنفية؟ الحسن، أو قولك الحسين، وهذا تطوع من المجيب بما لا يلزم.. ذلك أن جوابه على ظاهر سؤاله، أن يقول له: أحدهما. ألا ترى أنه لما قال له: الحسن أو الحسين أفضل أم ابن الحنفية، فكأنه قال أحدهما أفضل أم ابن الحنفية؟ فجوابه، على ظاهر سؤاله، أن يقول أحدهما) . فما تعليل قوله (جوابه على ظاهر سؤاله) أقول أنه على تقدير. جوابه المبني على ظاهر سؤاله. وقد أردف ابن جني: (ونظير قوله في الجواب على اللفظ..) أي في الجواب المحمول على اللفظ، و (على) في كل ذلك للاستعلاء مجازاً. تعدية (أجاب) بعن وعلى ومعناه مع كل منهما: ومن هنا كان الطعن على تعدية (أجاب) بغير (عن) دون تدبر معناه وما هو عليه من تقدير الكلام، مجازفة في القول، وحكم لا تناط به ثقة ولا يُخلد إليه بيقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ونحو من ذلك قول الدكتور مصطفى جواد في كتابه (وهذا جواب على الكتاب. وذلك لأن المسموع عن العرب، والمذكور في كتب العربية: أجاب عن السؤال، لا أجاب عليه، ولأن معنى الفعل، أجاب، يستوجب استعمال ـ أجاب، يستوجب استعمال ـ عن ـ لإفادة الإزاحة والكشف والإبانة والقطع والخرق، ولا يصلح معه استعمال ـ على ـ التي هي للظرفية الاستعلائية. قال ابن مكرم الأنصاري: الإجابة رجع للكلام، تقول فيه: أجابه عن سؤاله، وقد أجاب إجابة وإجاباً وجواباً وجابة) . كما كان إطلاق القول في جواز استعمال (أجاب على) محل (أجاب عن) غير صحيح، وعلى نحو من هذا ما جاء به الأستاذ صبحي البصَّام فيما استدركه على كتاب (قل ولا تقل) ، قال: (قلت يجوز أن تقول أجاب عن السؤال، وهو أصل، وأن تقول: أجاب على السؤال، وفي السؤال، وكلاهما فرع. وأنا باسط الكلام على ذلك ها هنا بعض البسط) ، ثم أتى بشواهد من كلام البلغاء، فيها تعدية (أجاب) بعن، وشواهد أخرى فيها تعديته بعلى، وذهب إلى أن (على) قد حلَّت فيها محلّ (عن) وأدت معناها، كما حلَّت (على) محل (عن) في قولك (رضي عليه) و (رمى على القوس) و (ذهب عليَّ) مما اعتاد النحاة أن يذكروه في الأمثلة التي أدَّت فيها (على) مؤدى (عن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 أقول المعنى المطرد لعلى هو الاستعلاء حسَّاً نحو قوله تعالى ?وعليها وعلى الفلك تحملون ـ المؤمنون / 22? أو معنى نحو قوله تعالى ?فضَّلنا بعضهم على بعض ـ البقرة / 253?. أما ما ذكره النحاة من المواضع التي فيها (على) محل (عن) فينبغي أن تقصر على الأمثلة المحكية وما شابهها، ولو جاز استعمال (على) لكل المعاني المذكورة، في كل موضع، لصح قولك (نبت على فلان) . بمعنى قولك نُبتُ عنه) ، وهذا محال. في كل موضع، لصح قولك (نبت على فلان) . بمعنى قولك نُبتُ عنه) ، وهذا محال. فانظر إلى ما جاء في المغني لابن هشام (على أن البصريين ومن تابعهم يرون في الأماكن التي ادّعيت فيها النيابة أن الحرف باق على معناه، وأن العامل ضُمِّن معنى عامل يتعدّى بذلك الحرف لأن التجوز في الفعل أسهل منه في الحرف ـ 2 / 173) وفي (الهمع) للإمام السيوطي (والبصريون قالوا لو كان لعلى هذه المعاني لوقعت موقع هذه الحروف فكنت تقول وُليِّت عليه أنه عنه. وكتبت على القلم أي به، وجاء زيد على عمرو أي معه، والدرهم على الصندوق أي فيه، وأخذت على الكيس أي منه) وأردف: (وأوِّلوا ما تقدم على الضمين ونحوه فضمِّن تتلو معنى تقول، ورضي معنى عطف ... واكتالوا معنى حكموا في الكيل..) . ذلك أن للفعل مع كل حروف وجهة خاصة قد تداني وجهته مع حرف آخر، لكنها لا تطابقها ولا تواقعها. وهذا ما أكده أبو نزار ملك النحاة حين قال: (إن الفعل يتعدى بعدة من حروف الجر على مقدار المعنى اللغوي المراد من وقوع الفعل، لأن هذه المعاني كامنة في الفعل وإنما يثيرها ويظهرها حروف الجر) وأردف (وذلك إذا قلت خرجت فأردت أن تبين ابتداء خروجك قلت خرجت من الدار، فإن أردت أن تبين أن خروجك مقارن لاستعلائك قلت خرجت على الدابة، فإن أردت المجاوزة للمكان قلت خرجت عن الدار ... ) فأتى لكل حرف بمعناه الذي خُصّ به، وأوضح هذا صاحب الكليات فقال (الفعل المتعدّي بالحروف المتعدية لابد أن يكون له مع كل حرف معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 زائد على معنى الحرف الآخر، وهذا بحسب اختلاف الحروف. فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق..) وأردف (وإن تقارب معاني الأدوات عسر الفرق نحو قصدت إليه وله وهديت إلى كذا ولكذا، فالنحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، أما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره..) . فقد يغنى قولك (أجاب على) عن قولك (أجاب عنه) حيناً لكن إغناء أحد الحرفين عن الآخر لا يعني البتة أنهما على معنى واحد، كما بسطنا الكلام عليه في أمثلتنا السابقة. وفي كتاب الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري (قال المحققون من أهل العربية أن حروف الجر لا تتعاقب حتى قال ابن درستويه: في جواز تعاقبها أبطال حقيقة اللغة وإفساد الحكمة فيها والقول بخلاف ما يوجبه العقل والقياس) . بعض ما تعدَّى بعن وعلى ومعناه مع كل منهما: تقول (سكتّ عن الكلام) إذا امتنعت منه و (سكتّ عن الأمر) إذا أغفلته وتجاوزت وتغاضيت عنه مجازاً، لكنك إذا قلت (سكتّ عليه) فقد أردت شيئاً آخر. قال الشاعر: تمام العمى طول السكوت على الجهل ليس العمى طول السؤال وإنما أقول قد ضُمِّن السكوت هنا معنى الصبر، وبينهما اشتراك في المعنى. فإذا قلت (سكتّ على الجهل) كان معناه: سكتّ عن الجهل صابراً عليه. وتقول (نمت عنه) إذا نمت حقاً كما جاء في الحديث (تنام عن العجين) فإذا أردت المجاز فيه كان معناه غفلت عنه. ففي نهج البلاغة (1 / 78) : (لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون) لكنك تقول (نمت عليه) كما جاء في نهج البلاغة (3 / 78) (ينام الرجل على الثكل ولا ينام على الحَربَ) . قال الرضي (ومعنى ذلك أنه يصبر على قتل الأولاد ولا يصبر على سلب الأموال) ، والحرب بالتحريك سلب الأموال. وتقول (خرج عن القانون) إذا حاد عنه و (خرج على القانون) إذا تمرد عليه وتصدى لمخالفته، كقولك (خرج على السلطان أو الإمام أو الخليفة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وتقول (نبا عنه) إذا حاد ورجع و (نبا عليه) إذا اشتد عليه ولم ينقَدْ، ذلك نحو ما جاء في نهج البلاغة (3 / 101) : (يرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء) . وهكذا قولك (شرد عنه وعليه) و (نشز عنه وعليه) و (صبر عنه وعليه) . وقصاري ما هناك أنه قد صح بما قدمنا أنه لا يجزيك في اختيار الحرف لتصريف الفعل العودة إلى المعجمات لتقع على الحرف الذي خُصّ به الفعل في معنى من المعاني، أو إلى كتب اللغة لتقف على المعاني المطَّردة لكل حرف، بل لابد أن تحظى بنصيب من الدراية وتضرب بسهم من الفقه، بمطالعة كتب الأدب نثره وشعره وطول مدارستها، فلاشك في أنها ستطلعك على ما يُطرفك في هذا الباب، وتسبق بك إلى الحكم على ما يفضي إليه الفعل من معنى مع كل حرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ما جاء على مَفعلة هذا بحث طريف إذا أنت طلبته حفزتك الحاجة إلى أن تنقب عنه في الأُمهات من المظان، وتستعين بالصبر في كل ما تزاوله أو تراوده من أمره. وأول ما يلزمك أن تتقصى القول فيه فتضم أطرافه وتجمع متفرقه، فتوسع له في قلبك وتجعله منك على بال. ثم تتعهد هذا بنظرك فتتعرف قرابة ما بينه وبين شبيهه. فإذا فعلت ذلك كنت على جادة الطريق فتسنى لك كثير مما يسعفك في هذا المجال، وجم مما يغنيك في هذا الباب. وأفضل ما يمكن أن نمهد به، لإيضاح ما جاء على مفعلة ، وتعرّف وجوهه، أن نقسم الكلام فيه إلى مفعلة الفعل، ومفعلة الاسم. ونقصد بمفعلة الفعل كل ما جاء على هذه الصيغة متصلاً بالفعل كالمصدر واسم المكان. ونعني بمفعلة الاسم ما جاء على هذه الزنة، غير مبني على الفعل، كمفعلة الدالة على كثر الأعيان، ومفعلة التي يراد بها الاسم خاصة. مفعلة الفعل: المصدر الميمييعد المصدر الميمي من مفعلة الفعل المفتوحة العين، إذا لحقت به التاء. ذلك أن المصدر الميمي تفتح عينه أبداً ما لم يكن من المثال الواوي الصحيح اللام، الذي تحذف فاء مضارعه، فإنه تكسر عينه. فإذا لحقت به التاء كان كالموعظة والموهبة بكسر العين. فمن مفعلة المفتوحة العين: المسألة والمسرة والمودة والمحبة والمهمة من سأل وسرّ وودَ وحب وهمّ. ومنها المشارة والمقالة والمخافة والمهابة والمساءة من شار وقال وخاف وهاب وساء. ومفعلة هذه متصلة بالفعل مبنية عليه. وربما أتت مكسورة العين على غير قياس كمغفرة ومحمدة ومعرفة ومقدرة ومعذرة ومرجعة ومرثية بياء مخففة، أو مضمومة العين كمكرمة ومأدبة، فيبنى الكسر هاهنا على الشذوذ، كما يبنى الضم على الندور. قال الشيخ أحمد الحملاوي في كتابه (شذا العرف في فن الصرف) : (ويصاغ المصدر الميمي من الثلاثي، على وزن مفعل بفتح العين وسكون الفاء نحو منصر ومضرب، ما لم يكن مثالاً صحيح اللام وتحذف فاؤه في المضارع كوعد، فإنه يكون على زنة مفعل بكسر العين كموعد وموضع. وشذ من الأول المرجع والمصير والمعرفة والمقدرة، والقياس فيها الفتح، وقد ورد الثلاثة الأولى بالكسر، والآخر مثلثاً. فالشذوذ في حالتي الكسر والضم) . وهو خلاصة ما جاء في المصباح مبسوطاً مفصلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وقد قيل بندرة مفعُلة بالضم، إذ ليس له مفعُل بغير تاء في الأصل. قال سيبويه في الكتاب (2/ 247) : (وأما ما كان يفعُل منه مضموماً فهو بمنزلة ما كان يفعَل مفتوحاً ولم يبنوه على مثال يفعُل لأنه ليس في الكلام مفعُل. فلما لم يكن إلى ذلك سبيل وكان مصيره إلى إحدى الحركتين ألزموه أخصهما، وذلك قولك قتل يقتل وهذا المقتَل، وقالوا يقوم وهذا المقام، وقالوا أكره مقال الناس وملامهم. وقالوا الملامة والمقالة فأنثوا. وقالوا المدعاة والمأدَبة إنما يريدون الدعاء إلى الطعام) . وقال الجوهري في صحاحه (قال الكسائي: المكرُم والمكرُمة، قال ولم يجئ على مفعُل للمذكر إلا حرفان نادران لا يقاس عليهما: مكرُم ومعون. قال الفراء هو جمع لمكرُمة ومعونة. وعندي أن مفعُل ليس من أبنية الكلام) . وقال ابن جني في المحتسب (1/144) : (وأما –إلى ميسُرة – فغريب، ذلك أنه ليس في الأسماء شيء على مفعُل بغير تاء) . مفعلة الفعل: اسم المكان ومن مفعلة الفعل اسم المكان إذا لحقت به التاء. والأصل في اسم المكان أن يكون على مفعل بفتح الميم والعين، وسكون ما بينهما، إذا كان المضارع مضموم العين، أو مفتوحها، أو معتل اللام مطلقاً، كمنصَر ومذهَب ومرقى ومسقى ومرضى ومقام ومخاف وموقى، وعلى مفعل بكسر العين إذا كانت عين مضارعة مكسورة، أو كان مثالاً مطلقاً في غير معتل اللام، كمجلس ومبيع وموعد وميسر وموجِل وقيل إن صحت الواو في المضارع، كوجل يوجَل فهو من القياس الأول، كما أوجزَه الحملاوي. وهكذا تكون مفعلة هاهنا بفتح العين أو بكسرها. وذلك كمثابة ومحارة ومدرسة ومدبغة ومصبغة ومزرعة بفتح العين من ثاب وحار ودرس ودبغ وصبغ وزرع. وكمتيهة ومضلة ومنزلة ومحلة بالكسر، من تاه وضلّ ونزل وحل. وربما جاء بالكسر ما كان قياسه الفتح إذ قالوا المظنة بالفتح على القياس، وبالكسر على غيره. كما جاء العكس فقالوا المضلة بالكسر على القياس، وبالفتح على غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 هذا وقد قاد كثرة ما جاء على مفعلة من أسماء المكان، قاد مجمع اللغة العربية بالقاهرة، إلى الأخذ بقياسه، إذ جاء في مجلة المجمع (2/188) : (بناء على ما رجعت إليه اللجنة من كتاب سيبويه، وما ورد من الأمثلة التي بلغت ستة وعشرين ومائة، وما أقره المجمع من قياسية صيغة مفعلة للمكان الذي يكثر فيه الشيء، تجيز اللجنة قياس ما لم يرد عن العرب، على ما ورد من لحوق التاء باسم المكان من مصدر الفعل الثلاثي) . مفعلة الاسم: مفعلة الأعيان وأما مفعلة الاسم فهي مفعلة التي صيغت لكثرة الأعيان أو خصتّ بمسمى غير اسم المكان أو المصدر. فقد قالوا في مفعلة الأعيان مما جاء على ثلاثة أحرف: مأسدة ومسبعة للأرض التي تكثر فيها الأسود والسباع. كما قالوا معقرة من العقرب ومثعلة من الثعلب، لما زادت أحرفه على ثلاثة وهو ثلاثي الأصول. ومفعلة هذه لا تتصل بالفعل كما اتصلت مفعلة المصدر واسم المكان، وإنما تبنى على اسم عين كالأسد والسبع والعقرب والثعلب. وقالوا من ذلك مثورة من الثور، ومطارة من الطير، وملازة من اللوز، ومجازة من الجوز. وقد أقرَّ مجمع اللغة العربية بالقاهرة قياس مفعلة للمكان الذي يكثر فيه الشيء، وجعل صوغه من أسماء الأعيان دون أسماء المعاني. فقد جاء في مجلة المجمع (2/35) : (تصاغ قياساً من أسماء الأعيان الثلاثية الأصول للمكان الذي تكثر فيه هذه الأعيان، سواء أكانت من الحيوان أم من النبات أم من الجماد) . ومما يسند هذا القياس قول الإمام مظهر الدين صاحب شرح المفصل المسمى المكمل ونصه (اعلم أنهم إذا أرادوا أن يذكروا كثرة حصول شيء بمكان وضعوا له مفعلة بفتح الميم والعين مع لزوم التاء إياها. وهذا قياس مطرد في كل اسم ثلاثي) . وكذا قول ابن سيده في المخصص (16/174) : (ومكان موعلة كثير الوعول، ومغدرة كثير الغدر وهي الوعول المسنة، مطرد عند أبي الحسن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ومما يمكن حمله على إجازة القياس قول سيبويه في الكتاب (2/249) : (هذا باب ما يكون مفعلة لازمة لها الهاء والفتحة، وذلك إذا أردت أن تكثر الشيء بالمكان، وذلك قولك أرض مسبعة ومأسدة ومذأبة. وليس في كل شيء يقال، إلا أن تقيس شيئاً وتعلم أن العرب لم تتكلم به) . قال الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه القياس: (الظاهر من عبارة سيبويه إجازة القياس على ما تكلم به العرب من هذه الصيغة) . وكلام الشيخ هو الوجه. فقد أشار سيبويه بكلامه هذا إلى أن العرب لم تقل في كل شيء مفعلة للتعبير عن كثرته في المكان، إلا أن تقيس ما لم تتكلم به على ما تكلمت به، فتكون لك مفعلة في كل شيء. ولو أبى سيبويه القياس في هذا لما قال (إلا أن تقيس) . وإذا قالت العرب مما جاءت أحرفه على ثلاثة مأسدة ومسبعة فقد قالت مما زادت أحرفه على ثلاثة لكنه ثلاثي الأصول (مبطخة) للأرض التي يكثر فيها البطيخ. وعلى ذلك ما جاء في الكتاب (2/249) : (ومن قال ثعالة قال مثعلة، ومحيأة ومفعاة: فيها أفاع وحيات، ومقثأة من القثاء) . قال الجوهري في صحاحه: (وأما قولهم أرض مثعلة فهو من ثعالة. ويجوز أيضاً أن يكون من ثعلب، كما قالوا معقرة لأرض كثيرة العقارب) . فقولك مثعلة من ثعلب مبني على أن هذا ثلاثي الأصول، كذلك معقرة من عقرب. قال صاحب التاج: (أرض معقرة كأنه رد العقرب إلى ثلاثة أحرف، ثم بنى عليه) . هذا وقد استعار العرب للمكان الذي يكثر فيه الشيء مما كان رباعي الأصول صيغة اسم الفاعل. فقد قال الرضي في شرح الشافية (1/188) : (ولم يأتوا بمثل هذا من الراعي فما فوقه نحو الضفدع والثعلب، بل استغنوا عنه بقولهم كثير الثعالب، أو تقول مكان مثعلب ومعقرب ومضفدع ومطحلب بكسر اللام الأولى على أنها اسم فاعل. قال لبيد: يممن أحداثاً بلبنى أو أجا: مُضفدِعات كلها مُطحلِبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 على أن سيبويه قد أورد الصيغة على اسم المفعول، بفتح اللام. فقد جاء في الكتاب (2/249) : (ولم يجيئوا بنظير هذا –أي مفعلة- فيما جاوز ثلاثة أصول نحو الضفدع والثعلب، كراهية أن يثقل عليهم، ولأنهم قد يستغنون بأن يقولوا كثيرة الثعالب ونحو ذلك وإنما اختصوا بها بنات الثلاثة لخفتها. ولو قلت من بنات الأربعة على قولك مأسدة لفلت: مثعلبة، لأن ما جاوز الثلاثة يكون نظير المفعل منه بمنزلة المفعول، وقالوا: أرض مُثعلَبة ومُعقرَبة) . هذا وأكثر نصوص المعاجم على كسر اللام، كما جاء في الصحاح والمصباح. قال الجوهري: (وأرض مثعلبة بكسر اللام ذات ثعالب) . وقال الفيومي (وأرض معقربة اسم فاعل، ذات عقارب، كما يُقال مثعلبة ومضفدعة ونحو ذلك) . أما صاحب القاموس فقد قال (وأرض مثعلة: كثيرتها) . وقال (وأرض معقربة ومعقرة: كثيرتها) قال الشيخ محمد الخضر حسين عضو المجمع القاهري في مجلة المجمع (2/53) : (وذكرهما صاحب القاموس ولم يقيدهما بفتح أو كسر فاحتمل كلامه الروايتين) . والصحيح أن صاحب القاموس قد عنى الكسر دون الفتح. إذ جاء عقب قوله (وأرض معقربة ومعقرة كثيرتها) ، قولُه: (والمعقرب بفتح الراء المعوج المعطوف) . فدل هذا أنه أراد بما سبق ذكره الكسر. قال صاحب التاج في شرح ما جاء في القاموس (والمعقرب بفتح الراء.. ولا يخفى أن هذا الضبط الأخير يقيد ويفيد أن الذي سبق بكسر الراء كما هو عادته في كثير من عباراته) . هذا وأردف الشيخ الخضر كلامه فقال (ورجح الدماميني في شرح التسهيل رواية سيبويه فقال: ينبغي أن يقرأ بالفتح، فإن سيبويه أثبت من غيره، وإن كان أبو زيد أستاذه قد حكى الكسر) . أقول لا بُدَّ من الأخذ بالروايتين الكسر والفتح، على كل حال. المَعلَمَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 أسمى الأب أنستاس ماري الكرملي (دائرة المعارف) بـ (المعلمة) على صيغة المفعلة فأخذ عليه الدكتور مصطفى جواد في كتابه (المباحث اللغوية في العراق) أن المعلمة من الصيغ التي تدل على المكان الذي يكثر فيه الشيء.. ومفعلة هذه اشتقها العرب للأشياء الجماد وأشباهها، لا للمعنويات والمجردات، وأنها للمخلوقات دون المصنوعات فرد الأب الكرملي أن المعلمة قد تكون بكسر الميم كـ (مِعلمَة) ، فقال الدكتور جواد: (المقلمة للأقلام مادية، وكسر الميم من المعلمة، ذكَرنا فيه أنه مخالف لروح اللغة العربية أيضاً، لأن اسم الآلة للماديات أيضاً) . ثم قال: (وكان عليه أن يستشهد بالمِظنة فهي أقرب إلى المعنويات، لكنها لم تستعمل قديماً لغير الماديات. قال الجوهري في الصحاح: ومظِنَّة الشيء أي موضعه ومألفه الذي يظن كونه فيه، والجمع المظان أهـ. فهم قد اشتقوا المظنة من فعل معنوي، ولكنهم استعملوها للأشياء المادية على الأصل. أما دائرة المعارف فهي عندي الاسم الصحيح) . فما صواب المسألة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 المسألة عندي أن المفعلة بفتح العين التي جعلها العرب لأسماء العين دون أسماء المعاني، هي المفعلة التي صيغت للموضع الذي يكثر فيه الشيء الذي هو اسم عين. أما المفعلة التي هي اسم مكان قد لحقت به التاء، بفتح العين أو كسرها، فلا مانع البتة أن تكون للمعاني، لأنها اسم مكان للحدث أياً كان. فالمعلمة بفتح الميم واللام اسم مكان صيغ من مصدر الفعل. وقد لحقت به التاء كالمدرسة. قال صاحب المصباح (ودرست العلم درساً من باب قتل ودراسة قرأته، والمدرسة بفتح الميم موضع الدرس) . فالمعلمة قياساً موضع العلم أو وعاؤه كالمدرسة موضع الدرس. وقد بنيت على علم كما بنيت المدرسة على درس. والمظنة نفسها اسم مكان لحقت به التاء أيضاً وليست هي مفعلة المكان الذي يكثر فيه الشيء أو مفعلة الأعيان. لذلك صحّ أن تكون للمعنى. ويؤيد كونها كذلك كلام الجوهري الذي استشهد به الناقد. وإذا كان الجوهري قد أورد المظنة بكسر الظاء ومن حقها الفتح لأنها اسم مكان من ظن يظن كنصر ينصر، فذلك أنها قد أتت هنا على غير قياس كما أتى المسكن والمطلع بالكسر، والفتح الذي هو القياس جائز فيها جميعاً. قال الزمخشري في المفصل (وقد يدخل على بعضها-أي أسماء المكان- تاء التأنيث كالمزلة والمظنة) . فقال ابن يعيش في شرحه (وقد أنثوا هذه الأسماء كأنهم أرادوا البقعة فقالوا المزلة لموضع الزلل، وكسروه لأن المضارع منه مكسور. وقالوا المظنة لموضع الظن ومألفه، وهو مفتوح لأن من ظن يظن بالضم) وقال ابن الأثير في النهاية حول حديث (طلبت الدنيا من مظان حلالها) : (المظان جمع مظنة بكسر الظاء، وهي موضع الشيء، مفعلة من الظن بمعنى العلم. وكان القياس فيه فتح الظاء، وإنما كسرت لأجل الهاء.. أي التاء، من أسماء المكان، اتفق فيه الكسر ولو كان قياسه الفتح. وقد يتفق فيه الفتح وقياسه الكسر. فالمزلة بالكسر اسم مكان من زلّ يزلّ زللاً، وقد جاء فيه الفتح أيضاً. والمضلة اسم مكان من ضل يضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ضلالاً، وقد جاء بالكسر لمناسبة المضارع، وصحّ فيه الفتح أيضاً. أما قول الدكتور جواد: (إنهم اشتقوا المظنة من فعل معنوي ولكنهم استعملوها للأشياء المادية على الأصل) فغريب. ذلك أنه استظهر بقول الجوهري (مظنة الشيء موضعه ومألفه الذي يُظن كونه فيه، والجمع المظان) . وليس في كلام الجوهري ما يشير إلى أن المظنة قد خُصت بما هو مادي محسوس. فانظر إلى ما رواه الجوهريّ من قول النابغة: فإن يك عامر قد قال جهلاً فإن مظنة الجهل الشباب إذ جعل الشاعر الشباب موضعاً لما يغلب فيه الجهل. والجهل اسم معنى لا اسم ذات. وقال الزمخشري في الأساس: (وهو مظنة للخير، وهو من مظانه) . والخير اسم معنى لا ذات أيضاً. وقد مرَّ بك ما جاء في الحديث (طلبت الدنيا من مظان حلالها) ، وليس الحلال اسم ذات. والخلاصة أن الفارق بيِّن بين مفعلة الذي يبنى على اسم العين، ويدل على مكان كثرته، وهو بفتح العين أبداً، وبين مفعلة الذي يبنى على المصدر أو فعله، ويدل على مكان الحدث، وهو بالفتح أو بالكسر. ولا يمنع مفعلة الذي يدل على مكان الحدث أن يتضمن تكرار وقوع الحدث أو المبالغة فيه. قال صاحب الكليات (411) : (وقد تدخل على بعض أسماء المكان تاء التأنيث، إما للمبالغة أو لإرادة البقعة. وذلك مقصور على السماع، نحو المظنة والمقبرة) . مفعلة الاسم: مفعلة اسم المصدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ويدخل في مفعلة الاسم ما لم يجر على الفعل من المصادر، وهو ما أسموه اسم المصدر، ومن ذلك (المشورة) من الإشارة، و (المثوبة) من الثواب، فقد جاء في اللسان (وقال الليث: المشورة مفعلة اشتقّ من الإشارة ويقال مشورة) ومشورة هذه بضم الشين وسكون الواو، ومشورة الأولى بإسكان الشين وفتح الواو. وقال صاحب المصباح: (واستشرته راجعته لأرى رأيه فيه فأشار عليّ بكذا: أراني ما عنده فيه المصلحة، فكانت إشارة حسنة، والاسم المشورة وفيها لغتان: سكون الشيء وفتح الواو: والثانية بضم الشين وسكون الواو، وزان معونة) . وإذا كان بعض الأئمة قد ذهب إلى أن المشورة من شور الدابة أو شور العسل، فإنهم لم يقصدوا إلى أنه مصدر لـ (شرت العسل أشوره شوراً ومشارة) . وقد ذكر صاحب المصباح (والاسم المشورة وفيها لغتان) ، ثم أردف: (وهي من أشار الدابة إذا عرضها في المشوار. ويقال من شرت العسل، وشبه حسن النصيحة بشرب العسل) . أقول لو كان المشورة مصدر شار لقيل (شار العسل شوراً ومشارة ومشورة) . قال صاحب المفردات (والمشورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم شرت العسل أي اتخذته من موضعه واستخرجته منه) . فإذا كان المصدر من حيث لفظه، هو الجاري على فعله كالأفعال من أفعل، والتفعيل من فعَّل، والانفعال من انفعل، فإن اسم المصدر يخالفه في عدم جريانه على الفعل الذي يجري عليه المصدر. هذا وقد فرّق الشيخ ظاهر خير الله الشويري في رسالته (المفعلة) بين المشورة بضم الشين والمشورة بإسكانها، فجعل الأول اسماً، والثاني من مبالغة المصدر. وحقيقة الأمر أن كلا اللفظين اسم مصدر، وقد جاءا بمعنى، فالمشورة بالضم مفعلة بضم العين، وقد نقلت حركتها إلى ما قبلها بالإعلال، أما المشورة بإسكان الشين فهي مفعلة بفتح العين، وقد جاء بالتصحيح ولم يعلّ، وسنبين علة عدم التصحيح فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أما المثوبة فهي اسم مصدر كالثواب. قال ابن الأثير في النهاية (يقال أثابه يثيبه إثابة، والاسم الثواب) . وقال الجوهري: (والثواب جزاء الطاعة وكذلك المثوبة) . وقد جاءت بضم الثاء وإسكان الواو على مفعلة بضم العين في الأصل، كما جاء بإسكان الثاء وفتح الواو على مفعلة بفتح العين. ففي التنزيل (لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون (البقرة/ 104. قال الإمام البيضاوي (وقرئ لمثوبة بإسكان الثاء كمشورة) . هذا وقد تنزل المشورة أو المثوبة منزلة المصدر حيناً، لكنهما اسمان للمصدر لعدم جريانهما على الفعل، وهو ما يعنينا في هذا المقام. مفعلة الاسم: اسم الموضع واسم الأداة ومما جاء من مفعلة الاسم، ما سمي به الموضع أو الأداة، ولم يبن على الفعل. فقد جاء (المفيأة) وليس هو مصدراً، ولا اسم مكان، وإنما هو اسم لموضع التفيؤ كما ذكر الرضي، إذ قال في شرح الشافية (1/183) : (والمشرقة والمفيأة، من ذوات الزوائد، إذ هما موضعان للتشرق والتفيؤ) . وقال في موضع آخر (وكذا المشرقة اسم موضع خاص، لا لكل موضع يتشرق فيه من الأرض، وكذا المقنأة والمفيأة) . وقد أتت المفيأة بضم الياء، كما أتت بالفتح، على ما حكاه الأزهري عن الليث، فيما أورده ابن منظور في اللسان، وكذلك المقنأة. وجاء (المضربة) بفتح الراء وكسرها لآلة الضرب وأداته على غير قياس. قالوا إنها جعلت اسماً لهذا المسمى، ولم يذهب بها مذهب الفعل. قال سيبويه في الكتاب (2/ 248) : (مضربة السيف جعلوه اسماً للحديدة. وبعض العرب يقول مضربة كما يقول مقبرة ومشربة، فالكسر من مضربة كالضم من مقبرة. وقال الرضي في شرح الشافية: (والظاهر هو أن مضربة السيف آلة الضرب، لا موضعه، غيُرت عمّا هو قياس بناء الآلة، لكونها غير مذهوب بها مذهب الفعل) . مفعلة الاسم: مفعلة السبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 يلحق بمفعلة الاسم مفعلة السبب، وهي المفعلة الدالة على إفادة السبب أو الباعث على الأمر أو الداعي إليه. وقد جاء في الحديث: [الولد مجبنة مبخلة) . قال صاحب النهاية: (وهو مفعلة من البخل ومظنة له، أي يحمل أبويه على البخل ويدعوهما إليه فيبخلان بالمال لأجله) . وجاء في كتاب النوادر لأبي مسحل الأعرابي (364) : (من أقوال العرب: الولد مجبنة مبخلة ومحزنة) . وفي المخصص لابن سيده (16/174) : (أبو عبيد في الحديث: الولد مجبنة مجهلة مبخلة) . فما الحكم في مجبنة ومبخلة ومجهلة ومحزنة؟ أتعتد مصادر قد أتت على مفعلة؟ أقول الحق أنها مفعلة السبب، وليست مفعلة المصادر. ذلك أنك لو أنزلت المصادر منزلتها في الحديث فقلت: الولد جبن وبخل وحزن، أفكان هذا يغني مغناه ويؤدي مؤداه، وأنت تقصد به ما بيناه من أن الولد يحمل على الجبن والبخل والحزن، ويدعو إليها ويبعث عليها، وليس هو الحزن والبخل والجبن؟ فالمبخلة من (البخل) لا من (بخل) . فانظر إلى ما جاء في خزانة الأدب للبغدادي (1/336) : (ومخبثة بفتح الميم من الخبث. يقال خبث الشيء خبثاً من باب قرب، خلاف طاب. والاسم الخباثة. ومفعلة صيغة سبب الفعل، والحامل عليه، والداعي إليه، كقوله (: [الولد مجبنة مبخلة] ، أي سبب يجعل والده جباناً، لم يشهد الحروب، ليربيه. ويجعله بخيلاً يجمع المال ويتركه لولده من بعده. ومثله كثير في العربية. ولم يتكلم التصريف على هذه الصيغة. قال الخطيب التبريزي في شرح المعلقة: يقال طعام مطيبَة للنفس، ومخبَثَة لها، وشراب مبوَلَة) . جدوى التفريق بين مفعلة الفعل ومفعلة الاسم رب معترض يقول: وما جدوى القول أن هذه مفعلة الفعل لأنها اتصلت به وبنيت عليه، وإن هذه مفعلة الاسم لأنها جاءت على خلاف ذلك. أقول إن القسمة تفيد في إيضاح دلالة المفعلة من جهة، كما تفيد في الحكم بوجوب إعلال ما جاء منها معتل العين أو جواز تصحيحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ذلك أن العلماء قد اشترطوا للإعلال في أمثاله، موازنة الفعل. واعتدوا (مفعلاً) بالفتح من هذا القبيل، لأنه على وزن (يفعَل) . وكذلك (مُفعل) بضم الميم فهو على وزن (يُفعل) . ولهذا قالوا المقام والمقام بفتح الميم وضمها، بالإعلال. وأصلها المقوم بفتح الميم والواو، والمقوم بضم الميم وفتح الواو. وقد أعلاَّ بنقل حركة المعتل إلى الساكن الصحيح قبله، وقلبه حرفاً يجانس هذه الحركة. ونظير ذلك (المقامة والمقامة) بفتح الميم الأولى وضمها. وأما المفعل بفتح الميم وكسر العين، فقد أعلَّ كما أعلّ (يفعل) بكسر العين، كقولك المسير والمعيشة، وكذلك المفعل بضم العين كيفعل بضمها، وهكذا. على أنهم لم يروا مفعلاً بكسر الميم وفتح العين موازناً للفعل، لأن أصله مفعال، وهذا غير موازن للفعل. لذلك قالوا مخيطِ بكسر الميم وفتح الياء ومخياط بكسر الميم، بالتصحيح فيهما. وكذلك لو لحقت بهما التاء. وانظر إلى ما قاله سيبويه في الكتاب (2/364) : (وتجري مفعل بفتح الميم والعين مجرى بفعل فيهما، فتعتل كما اعتل فعلهما الذي هو على مثالها.. كما قالوا مخافة فأجروها مجرى يخاف ويهاب.. وذلك قولهم مقام ومقال ومثابة ومنارة.. وكذلك مفعل بفتح الميم وكسر العين، يجري مجرى يفعل بكسر العين. وذلك قولك المبيض والمسير. وكذلك قولك مفعلة بفتح الميم وضم العين، وذلك المعونة والمشورة والمثوبة. يدلك على أنها ليست بمفعولة أن المصدر لا يكون مفعولة وأما مفعُلة بفتح الميم وضم العين من بنات الياء فإنما يجيء على مثال مفعلة بكسر العين.. فمعيشة يصلح أن تكون مفعُلة بضم العين ومفعلة بكسرها. وأما مُفعَل منهما بضم الميم وفتح العين فهو على يُفعل بضم الياء وفتح العين، وذلك قولهم مقام ومباع بضم الميم فيهما..) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وقد خرج عن الأصل فلم يعلّ كثير من الألفاظ على هذه الزنة. قال الرضي في شرح الشافية (3/104) : (وقد شذّ مما وجب إعلاله قياساً: المشورة والمصيدة، بفتح الميم وحرف العلة فيهما وسكون ما بينهما، وقولهم الفكاهة مقودة، بفتح الميم والواو وسكون القاف، إلى الأذى) . فهل ثمّة تفسير لما حُمل على الشذوذ في هذا الباب؟ المفعلة وإعلال عينها قال المبرّد فيما حكاه الرضي في شرح الشافية (3/105) : (المزيد فيه الموازن للفعل إنما يعلّ إذا أفاد معنى الفعل كالمقام بفتح الميم فإنه موضع يقام فيه، وكذا المُقام بضم الميم، موضع يفعل فيه الإقامة) . فالمبرّد قد أضاف إلى شرط موازنة الفعل في وجوب الإعلال، أن يتصل (مفعل) بالفعل ويشتقّ منه ويفيد معناه. فقد اعتدّ الرضي (مدين ومريم) شاذين لأنهما لم يُعلا، واعتدهما المبرد على القياس لأنهما لم يتصلا بالفعل فيشتقا منه ويفيدا معناه. قال الأستاذ أحمد الحملاوي في (شذا العرف في فن الصرف) : (وأما مدين ومريم فشاذان، والقياس مدان ومرام، وعند المبرد لا شذوذ لأنه يشترط في مفعل أن يكون من الأسماء المتصلة بالأفعال) . وسترى أن ما حمله الرضي على الشذوذ كـ (المشورة والمصيدة والمقودة) بإسكان الشين والصاد والقاف، ليس من الألفاظ المتصلة بالأفعال، ولذا كان فيها التصحيح وقد أشار الرضي نفسه إلى شرط الاتصال بالفعل هذا فقال في شرح الشافية (1/170) : (والأسماء المتصلة بالأفعال تابعة لها في الإعلال) . فكل ما اتصل من (مفعلة) بالفعل كالمصدر واسم المكان فأفاد معناه وجب فيه الإعلال، كما وجب في فعله، وكل ما لم يبن على الفعل ليؤدي معناه لم يجب فيه الإعلال فجاز فيه التصحيح. ولكن ما مفعله التي لا تتصل بالفعل فيجوز فيها التصحيح؟ المفعلة وتصحيح عينها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 يجوز تصحيح العين في مفعلة المعتلة العين إذا كانت مفعلة الأعيان التي تدل على كثرة الشيء في المكان، ومفعلة الاسم التي خصت بمسمى فلم تجر على فعل، ومفعلة السبب الدالة على إفادة السبب أو الباعث على الأمر أو الداعي إليه. فإذا كان شرط وجوب الإعلال فيما اعتلت عينه من مفعلة أن يتصل بالفعل ويُبنى عليه كالمصدر واسم المكان واسم الزمان ليعلّ إعلاله، فإن ما كان من مفعلة على خلاف ذلك كمفعلة الأعيان ومفعلة الاسم ومفعلة السبب، لم يجب فيه الإعلال لفوات شرطه، فجاز فيه التصحيح. مفعلة الأعيان بين التصحيح والإعلال تبين بالاستقراء أن ما جاء معتل العين من (مفعلة) الأعيان، قد أعلّ حيناً وصحح حيناً آخر. فقد قالوا مما أعلوه (متانة ومخانة ومتاتة) للمكان الذي يكثر فيه التين والخوخ والتوت. وقالوا مما صححوه (مثورة) بفتح الواو للمكان الذي يكثر فيه الثور. وهم لم يتجنبوا اللبس فيما أوردوه فعلاً، فقد حكوا (مجازة) للمكان الذي يكثر فيه الجوز، والمجازة اسم مكان لحقت به التاء من (جاز) أيضاً. وكان ما أعل من مفعلة الأعيان كان على توهم أنه اسم مكان متصل بالفعل. قال صاحب اللسان: (وأرض ملازة فيها أشجار اللوز) و (أرض مجازة فيها أشجار الجوز) ، ونظيره كثير. وقد استبعد الشيخ ظاهر خير الله الشويري صاحب رسالة (المفعلة) المتانة للأرض التي يكثر فيها التين، وجعل الصواب (المتينة) بفتح الياء، على التصحيح قال (وقول بعضهم في المتينة متانة ذهول) . أقول قد حكت الأمهات المتانة كما حكت الملازة والمجازة، ولا يجوز حمل ذلك كله على الذهول. ويؤيد ما ذهبنا إليه أنه إذا كان الاتصال بالفعل شرطاً لوجوب الإعلال، فإن فواته في مثل المتانة والملازة والمجازة يتيح التصحيح ولا يمنع الإعلال، وقد رأيت أن الاستقراء يشهد بهذا ويدعمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 هذا ولا شك أن الأليق والأجدر بمفعلة الأعيان هذه إذا اعتلت بها العين أن تصحح لتدل على أصل مبناها فتقول (ملوزة ومجوزة ومتينة) بإسكان اللام والجيم والتاء، للمكان الذي يكثر فيها اللوز والجوز والتين، كما قالوا (مثورة) للمكان الذي يكثر فيه الثور، وهو أنفى للبس وأدل على الأصل. فلو قيل (أرض مفالة) بالإعلال أشكل المقصود منه. فإذا قلت أرض مفولة بإسكان الفاء أو أرض مفيلة بإسكان الفاء أيضاً، على التصحيح علمت أن الأول من الفول، والثاني من الفيل، دون لبس. مفعلة السبب والتصحيح وقد جاء من مفعلة السبب (مقودة ومبولة ومنومة ومطيبة) بإسكان القاف والباء والنون والطاء وفتح ما بعدها، فكانت على التصحيح. وعلة ذلك أنها لم تبن على الأفعال، فقد قصد بها ما يبعث على (القود والبول والنوم والطيب) فهي مشتقة من هذه، لا من الفعل. ولكن هل جاء من مفعلة السبب ما أعلت عينه؟ أقول جاء مقودة في قولهم (الفكاهة مقودة إلى الأذى) فكانت على التصحيح لأنها مفعلة السبب، فإذا أعلت أصبحت (مقادة) . وجاء (منومة) في قولهم (كثرة الأكل منومة) فكانت على التصحيح لأنها مفعلة السبب. فإذا أعلت أصبحت (منامة) . والمنامة في الأصل اسم مكان لحقت به التاء، ثم استعير لثوب النوم. قال الجوهري في الصحاح (المنامة ثوب ينام فيه، وهو القطيفة. وربما سموا الدكان منامة) . وفي حديث علي عليه السلام: (دخل رسول الله (وأنا على المنامة) قال صاحب النهاية (هي هاهنا الدكان التي ينام عليها. وفي غير هذا القطيفة، والميم الأولى زائدة) . فالمنامة إذن للموضع الذي ينام فيه أو عليه، أو جعلت للثوب الذي يُنام فيه وقياس اسم المكان أن يعل إعلال الفعل لأنه مبني عليه. فالمتيهة للمكان الذي يتاه فيه، والمحارة للمكان الذي يحار فيه، والمخاضة للذي يخاض فيه، وقد جاءت على الإعلال جميعاً، خلافاً لمفعلة السبب. ومن ثم كان الأصل في هذه التصحيح دون الإعلال. مفعلة الاسم والتصحيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ومما جاء على مفعلة بالتصحيح: المفيأة، وليس هو مصدراً ولا اسم مكان، وإنما هو اسم خاص لموضع التفيؤ، كما ذكر الرضي. فقد قال في شرح الشافية (1/183) : (والمشرقة والمقيأة من ذوات الزوائد، إذ هما موضعان للتشرق والتفيؤ فيشذان عن هذا الوجه أيضاً. ولهذا لم تعل المفيأة، أو لأنه لم يذهب بها مذهب الفعل كما يجيء) . وقال في موضع آخر: (وكذا المشرقة اسم موضع خاص، لا لكل موضع يتشرق فيه من الأرض. وكذا المقنأة والمقيأة) . وختم كلامه في هذا الباب فقال: (لكن كل ما ثبت اختصاصه ببعض الأشياء، دون بعض، وخروجه عن طريقة الفعل، فهو العذر في خروجه عن القياس، كما ذكرنا) . وفي الإصلاح لابن السكيت أن المشرقة بفتح الراد وضمها وأضاف الفراء الكسر، وأن المقنأة بفتح النون وضمها كالمفيأة. أقول وكذا الحكم فيما قال الرضي بشذوذه لأنه جاء على التصحيح، فالعذر فيه أنه ليس على طريقة الفعل ليعل إعلاله. قال الرضيّ في شرح الشافية (3/104) : (وقد شذّ مما وجب إعلاله قياساً، المشورة والمصيدة بفتح الميم، وقولهم الفكاهة مقودة إلى الأذى) . فـ (المشورة) بإسكان الشين اسم وليست مصدراً، وكذلك (المثوبة) بإسكان الثاء، وهما اسمان لم يجريا على الفعل. وقد جاء في شرح درة الغواص لشهاب الدين الخفاجي (قال ابن بري أصل مثوبة بفتح فضم، مثوبة بفتح فسكون فضم، على وزن مفعلة بضم العين، وقد قرأ بها مجاهد. وضم الشين والثاء فيهما –أي في المشورة والمثوبة- هو القياس. وقد حكى أهل اللغة فيهما الإسكان أيضاً تنبيهاً على أصله قولان أحدهما على وزن مفعولة وأصلها مثووبة.. وهو من المصادر التي جاءت على وزن مفعول.. والثاني أنها مفعلة بضم الواو، نقلت ضمتها لما قبلها.. ويقال مثوبة بسكون الثاء وفتح الواو، وكان من حقها الإعلال وأن يقال مثابة كمقامة، إلا أنهم صححوها كما صححوا الإعلال.. وقيل مثوبة كمشورة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وخلاصة الأمر أن الحريري صاحب درة الغواص أنكر المشورة بإسكان الشين وفتح الواو والراء، فجاء رد الخفاجي فأثبت المشورة بفتح الواو والمشورة بإسكانها، والمثوبة بفتح الواو والمثوبة بإسكانها. وقد اعتد ابن بري أن الأصل فيهما هو مفعلة بضم العين أي مثوبة ومشورة بإسكان الثاء والشين وضم الواو، فاستثقل الضم على الواو ونقل إلى ما قبل وأسكنت الواو. فضم الثاء والشين هو القياس، وإسكانهما هو الشذوذ. على أن المثوبة المضمومة الثاء ووزنها مفعلة بضم العين، خرّجت على زنة أخرى هي مفعولة وقيل إنها بهذا التخريج مصدر وقد أنكره سيبويه كما رأيت. وأكثر الأئمة أنها اسم على مفعلة بضم العين، أما مثوبة بإسكان الثاء وفتح الواو، وقد جاءت على التصحيح ولم تعل، فإنها اسم لا محالة. المفعلة بين الإعلال والتصحيح تبين مما تقدم جميعاً أن الأصل في مفعلة المعتلة العين هو الإعلال، كمشورة ومثوبة بضم الشين والثاء فيهما، على مفعلة بضم العين، أو مثابة ومشارة بفتحهما، على مفعلة بفتح العين. وقد أعلّ الأول بنقل حركة الواو إلى ما قبلها، وأعلّ الثاني بنقل حركة الواو ثم قلبها ألفاً لتجانس الفتح قبلها. أما ما أتوا به من مفعلة بفتح العين على غير الإعلال كمشورة ومثوبة بإسكان الشين والثاء فيهما فقد خرجوا به عن بابه، ونبهوا بذلك على أصله. وهذا الذي أبقوه على التصحيح تنبيهاً على أصله هو ما لم يتصل بالفعل كالمشورة والمثوبة بإسكان الشين والثاء وكالمطيبة والمبولة والمقودة بإسكان الطاء والباء والقاف، وهي من مفعلة السبب، وكالمثورة بإسكان الثاء من الثور، وهي من مفعلة الأعيان، كالمفيأة من مفعلة الاسم. أما ما جرى من مفعلة على الفعل كالمصادر وأسماء المكان والزمان فلا بد فيها من الإعلال. العدول بمفعلة عن الإعلال إلى التصحيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 قلنا إن العدول بمفعلة المعتلة العين من الإعلال إلى التصحيح مرده إلى بناء مفعلة. فإذا بنيت على اسم جاز فيها التصحيح، وإذا بنيت على فعل فلا مناص فيها من الإعلال. وذهب الشيخ ظاهر خير الله الشويري في (رسالة المفعلة) إلى أن المشورة بإسكان الشين قد أتت على التصحيح (دفعاً للالتباس بالمشارة) ، وأنها مصدر أريد به المبالغة. أقول لو كانت المشورة بإسكان الشين مصدراً لوجب فيها الإعلال لا محالة لاتصالها بالفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ولم أر من نص على أنها مصدر البتة. وهم لم يراعوا في مسألة الإعلال بمفعلة الامتناع عن اللبس. فقد أورودوا المجازة للمكان الذي يكثر فيه الجوز بالإعلال كالملازة للمكان الذي يكثر فيه اللوز، ولم يخشوا اللبس بين المجازة هذه والمجازة اسم المكان من جاز، وقد لحقت به التاء. قال الزمخشري (وأرض مجازة كثيرة الجوز) ، وقال في موضع آخر وهو مجاز القوم ومجازتهم وعبرنا مجازة النهر، وهي الجسر بل هذه هي المشارة التي مثل بها الشيخ ظاهر الشويري. فالمشارة هي الأرض التي تُجتنى أي تُزرع، فهي اسم مكان لحقت به التاء، والمشارة مصدر من قولك شرت العسل شوراً ومشاراً ومشارة إذا اجتنبته. فقد جاء (المشارة) اسم المكان والمصدر بالإعلال على القياس، ولم يصححوا واحداً منهما لمنع اللبس بينهما. ومن ثم كان الأصل في مفعلة المعتلة العين أن تعل. وقد أوجبوا ذلك فيما اتصل منها بالفعل كالمصدر واسم المكان والزمان، ولم يوجبوه فيما لم يتصل منها بالفعل كالمشورة والمثوبة والمطيبة والمقودة والمنومة بإسكان الفاء فيها، وفتح ما بعدها، وقد جاءت مصححة. فالمثوبة بإسكان الثاء مصححة لبنائها على اسم. فإذا أعلت كانت (المثابة) والمثابة اسم مكان لحقت به التاء فهو من ثاب إذا رجع. قال صاحب المصباح (وثاب يثوب ثوباً وثؤوباً إذا رجع. وقد قيل للمكان الذي يرجع إليه الناس مثابة) وقال صاحب النهاية (المثابات جمع مثابة، وهي المنزل لأن أهله يثوبون إليه: يرجعون. ومنه قوله تعالى: (وإذا جعلنا البيت مثابة للناس) أي مرجعاً ومجمعاً (أما المثوبة بضم الثاء فقد أتت بالإعلال أيضاً لكنها على مفعلة بضم العين. المَصيَدة بإسكان الصاد وفتح الياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 جاء في الصحاح (المصيد والمصيدة) بكسر فسكون ففتح، فيكون على مفعل ومفعلة بكسر الميم وفتح العين. وما كان على هذه الزنة فقياسه التصحيح. وقد جاء (المصيدة) بفتح فكسر كالمعيشة، وهو على الإعلال البتة لأنه على مفعلة بكسر العين. وأما المصيدة بإسكان الصاد وفتح الياء فقد جاءت على التصحيح كما ذكر الرضي، ولكن ما سر تصحيحها خلافاً للأصل؟ المصيدة بإسكان الصاد وفتح الياء ليست موضعاً. لأن الموضع يصاغ من صاد يصيد على مفعل بكسر العين فيكون المصيد بكسر الصاد. وهو ليس من المصادر أيضاً لأن المصدر منه على مفعل بفتح العين أي المصاد بالإعلال. قال ابن السكيت في إصلاح المنطق (247) : (وإذا كان الفعل من ذوات الثلاثة من نحو كال يكيل وأشباهه فإن الاسم منه –أي اسم المكان أو الزمان- مكسور، والمصدر مفتوح. ومن ذلك مال يميل مميلاً وممالاً، يذهب بالكسر إلى الأسماء وبالفتح إلى المصدر. ولو فتحتهما جميعاً أو كسرتهما في المصدر والاسم لجاز. تقول العرب المعاش والمعيش والمعاب والمعيب والمسار والمسير) . فالمصيدة بإسكان الصاد وفتح الياء ليست مصدراً، ولو كانت كذلك لأعلت كالمعاش والمعاب والمسار على الأصل فما هي إذاً؟ قال صاحب اللسان: (المصيدة بفتح فكسر، والمصيدة بكسر فسكون ففتح، والمصيدة بفتح فسكون ففتح، كله: التي يصاد بها. وهي من بنات الياء المعتلة، وجمعها مصايد) فتبين بهذا أن المصيدة بإسكان الصاد وفتح الياء، اسم جُعل لما يصاد به، وجاء المصيد بإسكان الصاد وفتح الياء أيضاً بالتذكير، وقد صيغ على التصحيح ولم يجريا على الفعل. ولو جريا على الفعل واشتقا اشتقاق اسم الآلة لكانا على المصيدة والمصيد بكسر فسكون ففتح، فجاءا على التصحيح أيضاً، لأن زنة اسم الآلة لا تعل. فسرُّ التصحيح في المصيدة بفتح فسكون بناؤها على الاسم وعدم جريانها على الفعل. ولو أعلت لقيل المصادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وإذا كان المصيدة بفتح الياء قد أتت شاذة من حيث خروجها عن الإعلال، وقد قال الرضي بشذوذها، فإنها مقيسة لفوات ما يوجب الإعلال وهو الاتصال بالفعل. ما عدل به عن الإعلال عامة نحا الشيخ ظاهر خير الله إلى ما نحونا إليه عامة، ولو تباين ما خلص إليه وما اعتمدناه. وهو لم يعوّل على ما قاله الأئمة في هذا الباب أو يستظهر بما نصوا عليه. قال الشيخ في رسالته: (جاء ماء مسوَدةِ، والمأيمة والمشيخة والمضيعة دون إعلال. وذلك لأن المشتقات الجوفاء ما كان منها مبنياً من فعل على المعنى المصدري يعلّ بحسب القواعد. وما كان منها مبنياً من اسم غير مصدر لإفادة معنى آخر مع إفادة المصدر لا يعل. ولذلك يعُل أراحه يريحه، واستجابه يستجيبه، لأنهما من الراحة والإجابة، ولا يعل أروح اللحم مثلاً يُروِح، واستجوبه يستجوبه لأنهما من الرائحة والجواب. ومن ثم لم يعل المَسوَدة لأنها مبنية من السواد بضم السين وهو داء للغنم. والمأيمة من الأيم، والمشيخة من الشيخ، والمضيعة بفتح الياء من الضيعة بفتح فسكون، وأما من الضياع فهي مضيعة بفتح فكسر. يقال تركه بدار مضيعة بفتح فكسر، وأصلها مضيعة بكسر الياء فأعلت بالنقل. ومن ثم إذا بنيت المفعلة من الثوم والفول والنيل والتين، يقال فيها: مثومة ومفولة ومثيلة ومتينة، بفتح فسكون، وفول بعضهم متانة عن عدم تحقيق) . وإن لنا في شرح ما قاله الشيخ والتعليق عليه ما يلي: الأول: إن شرط الاتصال بالفعل في (مفعلة) إنما جعل لما يجب فيه الإعلال، فإذا تخلف هذا الشرط، جاز التصحيح ولم يجب، كما بينا فيما تقدم نصاً وشاهداً. فما سُمع من مفعلة المعتلة العين بالإعلال كـ (متانة ومتاتة ومجازة وملازة) ، وهي من التين والتوت والجوز واللوز، يُتقبل ويعمل به، ولو كان المختار هو التصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الثاني: إن (المأيمة) بفتح فسكون ففتح، من مفعلة السبب. ففي الأساس (الحرب مأيمة ميتمة) أي تؤول بالنساء إلى أن يصبحن أيامى، والأولاد يتامى. وقد أشار الشيخ إلى هذا في موضع آخر. وفي المخصص لابن سيده (16/174) : (أبو عبيد: في الحديث الولد مجبنة مجهلة مبخلة. والحرب مأيمة وميتمة) أي يقتل فيها الرجال فتئيم النساء، ويُتيم الأولاد. الثالث: جاء في القاموس والصحاح أن المشيخة بإسكان الشين من جموع الشيخ. وفي المصباح (والمشيخة اسم جمع للشيخ وجمعها مشايخ) . وقد ورد في الأساس والقاموس بالإعلال بكسر الشين، وبالتصحيح بإسكانها. فالمشيخة بفتح الياء مفعلة جاءت على التصحيح فما سرّ تصحيحها؟ قال الشيخ في موضع آخر (وقد استفيد من صنيع القاموس أنه يصح في المشيخة اعتباران: كونها من مفعلة السبب، أي الفعل أو الصفة التي توصل إلى الشيخية، فتكون بفتح العين، وكونها من مفعلة التأثر والانفعال كما يجيء فتكون بكسر العين) . فهو قد علل تصحيح المشيخة المفتوحة الياء بأنها مفعلة السبب. أقول لو صحّ هذا لقيل مثلاً (المصائب مشيخة) أي تؤول بصاحبها إلى الشيخوخة، كما قيل (كثرة الأكل منومة) بفتح الواو، أي تؤول بالأكل إلى النوم وتحمل عليه. ولم يسمع المشيخة بهذا المعنى. وإنما قيل (هم مشيخة) أي شيوخ فأين هذا المعنى من ذاك. فعلة تصحيح المشيخة بفتح الياء أنها اسم لم يبنَ على فعل كمصدر أو اسم مكان، وكل اسم على هذا جاز فيه التصحيح. أما تخريج قولهم (هم مشيخة) وليست مشيخة من الجموع في الأصل، فقد يكون (هم أهل مشيخة) والحذف هاهنا مجاز. فالمشيخة اسم من الشيخوخة. وأما قولهم (هم ميتمة) والميتمة كما مر مفعلة للسبب، فيمكن أن يكون مجازاً أيضاً، لذكر السبب وهو الميتمة وإرادة المسبب، بفتح الباء المشددة الأولى، وهو (الأيتام) ، كما في قولك: رعينا غيثاً: أي نباتاً سببه الغيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الرابع: قول الشيخ: (ولا يُعل أروح اللحم يُروحُ، واستجوبه يستوجبه، لأنهما من الراحة والإجابة) ، لا يمكن أن يجري على إطلاقه. وعندي أن كل ما صحح فقد أريد به الدلالة على اسم يتصل به. فاسودت المرأة بمعنى ولدت غلاماً أسود لوحظ فيه سواد الولد فاتصل به، وأخوصت النخلة من الخوص بضم الخاء وهو ورق النخل، وأشوكت النخلة من الشرك، وأحول الغلام إذا أتى عليه الحول بفتح الحاء، وأعوه القوم بفتح الواو إذا أصابت ما شيتهم عاهة، وأغيمت السماء بفتح الياء إذا غشيها الغيم، وأغيل فلان ولده بفتح الياء من الغيل بفتح الغين. على أنه قيل أعاه بالإعلال بمعنى أعوه، وأغام بمعنى أغيم وأغال بمعنى أغيل وأساد بمعنى أسود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الخامس: ماء مسودة بفتح فسكون ففتح هو مفعلة للسبب، أي يؤول بصاحبه إلى السواد بضم السين، والسواد اسم الداء. والكلام في هذا واضح. أما المضيعة بإسكان الضاد وفتح الياء فقد جعلها الشيخ من الضيعة، على حين جعل المضيعة بكسر الضاد وسكون الياء من الضياع. ومذهبه في هذا غريب. ذلك أن الضيعة والضياع سيان ففي اللسان (والضيعة في الأصل المرة من الضياع، والضيعة والضياع: الإهمال) . والضاد فيها جميعاً بالفتح. وفي اللسان أيضاً (ضاع الشيء ضيعة وضياعاً) . فما الفرق إذاً بين (المضيعة) بكسر الضاد، و (المضيعة) بإسكان الضاد وفتح الياء؟ الذي عليه الأمهات أن المضيعة بالكسر مفعلة من الضياع؟ أي أنها اسم منه. ولذا قيل (هو بدار مضيعة) بكسر الضاد أي بدار ضياع، كما ذكر التاج وقد اعتقد الأستاذ عبد الرحمن تاج، عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة (المضيعة) بكسر الضاد اسم مكان لحقت به التاء، كما جاء في مجلة المجمع القاهري للدورة الثالثة والثلاثين. وعندي أن قولهم (بدار مضيعة) بكسر الضاد. يمنع أن يكون مضيعة هذه اسم مكان. وقد فسّر التاج (دار مضيعة) بـ (دار ضياع) وقال صاحب النهاية (مضيعة: مفعلة من الضياع وقد قيل تركهم بيعة بفتح الضاد، ومضيعة: بكسر الضاد) كما أورده المرزوقي في شرح الحماسة (75) . فيكون الباء للظرفية المجازية، والضيعة اسم معنى كالضياع، وقد عطف المضيعة بكسر الضاد عليها فلم يبقَ في المضيعة هذه محل لاسم مكان. أما المضيعة بإسكان الضاد وفتح الياء، فهو مفعلة للسبب، كما يتبين من قولهم (بلدكم منساة العلم ومضيعة العالم) على ما جاء في الأساس. ومعناه أن بلدكم يؤول بالعلم إلى النسيان، وبالعالم إلى الضياع، وهو يدعو إلى ذلك ويبعث عليه فيكون سبباً له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 على أنه جاء في التاج (ويقال هو بدار مضيعة كمعيشة، وعليه اقتصر الجوهري، ومضيعة مثل مهلكة، أي بدار ضياع، مفعلة من الضياع، وهو الإطراح والهوان) . ويدل هذا أن من الأئمة من جعل (المضيعة) بكسر الضاد و (المضيعة) بإسكانها، سواء فعطف الأخيرة على الأولى، خلافاً للجوهري، فقد جاء في اللسان (وتركهم بضيعة ومضيعة بكسر الضاد، ومضيعة بإسكان الضاد) . والأرجح عندي أن (المضيعة) بإسكان الضاد مفعلة للسبب. وإذا كان قد جاء عطفها على المضيعة بكسر الضاد في حكاية، فإنه لم يجئء في حكاية الجوهري، والجوهري كما يقول ابن بري: أنحى اللغويين. وليس يمتنع على كل حال أن تأتي (المضيعة) بالإسكان على حالين في الأصل. فقد جاء (المأدبة) بفتح الدال بمعنى الطعام أو الدعوة، لكنه فسر في حديث (أن القرآن مأدبة الله فتعلموا مأدبته ما استطعتم) بأنها مفعلة من الأدب. قال المرتضى في أماليه (1/754) : (وقال غيره: المأدبة بفتح الدال مفعلة من الأدب، ومعناه أن الله تعالى أنزل القرآن أدباً للخلق وتقويماً لهم) . أي أنه أنزل القرآن من أجل تأديبهم وتقويمهم. وفي الكامل للمبرد (2/73) إشارة إلى جواز هذا التخريج إذ قال (وكلاهما في العربية جائز) . مجمع اللغة العربية القاهري ومفعلة ومما يجدر بنا ذكره والتنبيه عليه أن مجمع اللغة العربية القاهري، قد أقر قياس مفعلة الأعيان، ولم يكشف عن رأيه في معتل العين منها، هل يجري فيه الإعلال، كما يجري فيما اتصل بالفعل من مصدر أو اسم مكان أو زمان. وقد تنبه لهذا الأستاذ عباس حسن عضو المجمع فقال: المجمع لم يبن رأيه في ذلك فكان قراره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 (القاعدة في صوغ مفعلة مما وسطه حرف علة، هي الإعلال فيقال في مثل توت، وخوخ وتين: متاتة ومخاخة ومتانة. لكن وردت ألفاظ كثيرة بالتصحيح لا الإعلال مثل مثوبة ومشورة ومصيدة ومبولة، بفتح الواو وإسكان ما قبلها. ويرى النحاة أن الاحتفاظ بالأصل يلجأ إليه أحياناً. ولا شك أن بقاء الكلمة من غير إعلال أبين في الدلالة على المعنى. والإعلال في هذا الباب غير مستحكم. وقد نقل عن أبي زيد النحوي إجازة التصحيح في أفعل واستفعل.. وإذا أجيز التصحيح في الأفعال، فالإجازة في الأسماء مقبولة، لأن الأسماء في هذا الباب محمولة على الأفعال) . وأنت ترى أنك إذا حاولت الاعتماد على هذا القرار المتردد فاتك الانتهاء منه إلى يقين. فكلّ جائز، ولا تمييز بين مفعلة وأخرى. قال الأستاذ عباس حسن: (وإني ألحظ في هذا القرار غموضاً وتعارضاً يتطلب التجلية والتوفيق. والقرار ينص على أن القاعدة هي الإعلال، لكنه يعود بعد ذلك فيقول: وردت ألفاظ كثيرة في اللغة بالتصحيح لا بالإعلال، فما مراد الكثرة؟ وما المراد من قول التقرير إذا أجيز التصحيح في الأفعال، فالإجازة في الأسماء مقبولة: فهل اطرد التصحيح في الأفعال حتى يحمل عليه الأسماء فيه..) وينتهي الأستاذ حسن إلى القول: (ويدور بخلدي أن القرار لو اقتصر على سرد القاعدة التي جاءت في صدره وزاد عليها إباحة التصحيح في حالة واحدة، وهي أن يخفى معنى الكلمة بالإعلال أو يلتبس بغيره. ولا نجاة من الخفاء واللبس، إلا بالتصحيح. لو فعل هذا لكان سليماً من الغموض، بعيداً من التعارض، مسايراً بعض المذاهب اللغوية) فما الرأي في هذا كله؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 أقول لا وجه لما جاء في قرار المجمع من إطلاق إجازة التصحيح في كل ما اعتلت عينه من مفعلة، وكسر قاعدة انتظمت صياغة ما لا يحصى من الألفاظ بالإعلال. بل لا وجه لاعتماد قول من أباح التصحيح في أفعل واستفعل، وإغفال ما يضبط صوغ ما لا يعد ولا يحصى من الأفعال. ولو أُجيز إفساد قاعدة بما شذّ عنها لأبطلت القواعد جميعاً. ولم يعدل الأئمة عن الإعلال إلى التصحيح، إلا عللوه فكان ذلك إرساء للأصل وتوكيداً للقاعدة. فانظر إلى ما جاء في كتاب التصريف لابن جني: (وما صحّ من ذلك لأنه في معنى ما تجب صحته قولهم عوِر وحوِلَ، صحّ لأنه في معنى أعور وأحول. وكذلك صَيِدَ البعير يصح لأنه في معنى أصيد. وكذلك اعتونوا واعتوروا واهتوشوا واجتوروا، لأنه في معنى ما لا بد من صحته لسكون ما قبله، وهو تعاونوا وتعاوروا وتهاوشوا وتجاوروا، فجعل التصحيح أمارة للمعنى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وعندي أن ما جاء فيه التصحيح قد أتوا به كذلك لأمر انتووه. ذلك أن كل ما صحح قد أريد به الدلالة على اسم يتصل به، كما رأيت. فقد جاء التصحيح مثلاً فيما يبنى من استفعل على الاسم خاصة كاستتيست الشاة واستنوق الجمل واستفيل. قال الرضي (وأبو زيد جوّز التصحيح في باب الأفعال والاستفعال مطلقاً قياساً، إذا لم يكن لهما فعل ثلاثي) . كما جاء التصحيح في استفعل وأفعل إذا أريد بهما الاسم لتأكيد معناه، كاستحوذ من الحوذ أو الاحواذ، واستصوب من الصوب أو الصواب واستجوب من الجواب.. ونظير ذلك أُغيل من الغيل، وأغيم من الغيم، وأعوه من العاهة، وأقول من القول، وأخوص وأشوك. وجاء في كتاب الصرف للإمام بدر الدين محمود بن أحمد العيني المتوفى (855 هـ) : (وقوله لا يعل مثل ما أقوله لأنه تعجب، وهو شبه الأسماء في عدم تصرفه، يعني لا يتصرف لفظ التعجب إلى المضارع والأمر والنهي، فلما شابه الاسم صححت واوه وياؤه، كما صححت واو دلو وياء ظبي. ولا يعل أيضاً قولك أغيلت المرأة إذا أرضعت ولدها في حال حملها، واستحوذ أي استولى وغلب، وكذلك استصوب، أي وجد الشيء صواباً، واستروح أي وجد الرائحة والراحة، وأطيب أي جعلت الشيء طيباً، وذلك حتى يدللن على الأصل..) . أما تعليق إجازة التصحيح على خوف اللبس، كما ذهب إليه الأستاذ عباس حسن، فلا مساغ لقبوله على إطلاقه، بلا حد ولا ضابط، في كل مفعلة. والرأي عندي أن يكون الأصل عامة هو الإعلال في كل ما بني من مفعلة على الفعل، إذا كان معتل العين، كمصدر أو اسم مكان أو زمان، كما قرر النحاة، ودل عليه الاستقراء. وأن يجاز التصحيح فيما جاء على خلافه غير متصل بالفعل، لأن الإعلال ليس شرطاً فيه، كما رأيت. ثم يوجب التصحيح في هذا وحده، كلما خيف اللبس، وفي هذا بيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 جمع المصادر اتسعت في المصدر ودلالته وجمعه، أقوال النحاة، وتشعبت في ذلك مذاهبهم، فدعت الضرورة في قليل من كلام النحاة، إلى النظر والتدبير، وفي كثير منه إلى التبيين والإيضاح. قال صاحب المصباح، في (قصد) حول ما اشترطه النحاة لجمع المصدر: وبعض الفقهاء جمع القصد على قصود، وقال النحاة المصدر المؤكد لا يثنى ولا يجمع لأنه جنس، والجنس يدل بلفظه على ما دل عليه الجمع. فإن كان المصدر عدداً كالضربات أو نوعاُ كالعلوم والأعمال، جاز ذلك لأنها وحدات وأنواع جمعت، فتقول ضربت ضربين، وعملت علمين، فيثنى لاختلاف النوعين، لأن ضرباً يخالف ضرباً في كثرته وقلته، وعلماً يخالف علماً، في معلومة ومتعلقه كعلم الفقه وعلم النحو. كما تقول عندي تمور، لذا اختلفت الأنواع.. وكذلك الظن يجمع على ظنون لاختلاف أنواعه، لأن ظناً يكون خيراً وظناً يكون شراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وقال ابن جني في صدد اعتلاله لاختيار سيبويه لفظ (الكلم) على (الكلام) في قوله (هذا باب ما الكلمُ من العربية) ، قال ابن جني في الخصائص (1 / 23) : (وذلك أن الكلام اسم من كلم بمنزلة السلام من سلم، وهما بمعنى التكليم والتسليم، وهما المصدران الجاريان على كلَّم وسلَّم. فلما كان الكلام مصدراً يصلح لما يصلح له الجنس، ولا يختص بالعدد دون غيره، عدل عنه إلى الكلم الذي هو جمع كلمة، بمنزلة سلِمَة وسلِم.. ذلك أنه أراد تفسير ثلاثة أشياء مخصوصة، وهي الاسم والفعل والحرف، فجاء بما يخص الجمع وهو الكلم، وترك ما لا يخص وهو الكلام. فأما قول مزاحم العقيلي.. الكلام الطرائف، فوصفه بالجمع، فإنما ذلك وصف على المعنى) . وقال (1 / 25) : (وهذا طريق المصدر لما كان جنساً لفعله، ألا ترى أنه إذا قام قومة واحدة فقد كان منه قيام، وإذا قام قومتين فقد كان منه قيام، وإذا قام مائة قومة فقد كان منه قيام. فالكلام إذاً إنما هو جنس للجمل التوام مفردها ومثناها ومجموعها. كما أن القيام جنس للقومات مفردها ومثناها ومجموعها. فنظير القومة الواحدة من القيام، الجملة الواحدة من الكلام، وهذا جلي) هذا وقد سمى سيبويه (المصدر) فعلاً وحدثاً. فما وجه الرأي في هذا كله؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 أقول المصدر جنس لفعله كما ذكر ابن جني، فهو يدل إذاً على الحدث من حيث تعلقه بفاعله، ولكن على وجه العموم والإبهام. فإذا صح هذا فالمصدر لا يثنى ولا يجمع، لا لأنه يتناول الجنس والجنس يدل على القليل والكثير فحسب، بل لدلالته على الحدث المتعلق بفاعله من حيث هو حدث أيضاً، قال صاحب الكليات (325) : (وعدم تثنيته وجمعه، أي المصدر، لا لكونه اسم جنس، بل لكونه دالاً على الماهية، من حيث هي هي، وإلا كان الأصل في اسم الجنس ألا يثنى ولا يجمع، ولم يقل به أحد) ! أقول ليس الأمر على ما ذكره أبو البقاء الكفوي، ذلك أن الأصل اسم الجنس ألا يجمع لأنه يدل على القليل والكثير، لكنه إذا جمع فقد عُدل بدلالته هذه. فالتمراسم جنس، فإذا جمعته على (تمور) فذلك لاختلاف أنواعه، وبذلك يكون قد جُذب من الجنس ودلالته العامة وشموله، إلى النوع ودلالته المحددة وخصوصه، فأمكن جمعه قال صاحب المصباح (لأن الجنس لا يجمع في الحقيقة، وإنما تجمع أصنافه. والجمع يكون في الأعيان كالزيدين، وفي أسماء الجنس إذا اختلفت أنواعها كالأرطاب والأعناب والألبان واللحوم، وفي المعاني المختلفة كالعلوم والظنون) . فالمصدر إذا حدّ بما ذكرناه فلا سبيل إلى جمعه البتة سماعاً أو قياساً، لكنه إذا عُدل به عما وضع له، كأن يخرج به عن دلالته الجنسية، أو حدثه المتعلق بالفاعل، جاز جمعه في الأصل، قياساً على الأسماء عامة. وسترى أن كل ما جمعوه من المصادر وتأولوا له بالسماع واختلاف الأنواع، هو من قبيل ما خرجوا به عن جنسه أو حدثه العام الصادر عن الفاعل. فليس جمعه إذاً على الشذوذ أو الندرة كما ذهب بعضهم، وإنما لما زال عنه عارض المنع من الجمع عاد له حكمه الذي يقتضيه حال الأسماء في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فكلام الأئمة مثلاً على أن مصدر الوحدة ومصدر الهيئة يثنيان ويجمعان. وأنت إذا قلت (جلت جولة) و (مشيت مشية الفزع) لم تر في (الجولة والمِشية) ما يدل على جنس الفعل عامة بعد أن حُد بالوحدة أو خُص بالهيئة، ولو دلّ على الحدثَ. فلا شذوذ على هذا في اطراد جمعهما. قال ابن جني (فنظير القومة الواحدة من القيام، الجملة الواحدة من الكلام، وهذا جليّ) . وكلام الأئمة على أن (العقول والألباب والحلوم والعلوم والظنون) مصادر قد جمعت لاختلاف الأنواع. وهي على التحقيق أسماء ليس لها من مصدريتها إلا اللفظ. ذلك أنه قال عُدل بها عما للمصدر من دلالة على جنس الفعل وحدثه المتعلق بالفاعل. قال صاحب المصباح (ثم أطلق العقل الذي هو مصدر على الحجا واللب) . وقال صاحب المفردات (والعقل يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم) . وقال ابن القوطية: (ولبَّ لُباً ولبابة: عقل) . فدل هذا على أن (اللبَّ) في الأصل مصدر. وقال صاحب المفردات (اللب العقل الخالص من الشوائب، سمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من معانيه كاللباب واللب من الشيء) . فدل هذا على أن (اللب) قد حيد به عن مصدريته إلى مجرد الاسمية. وقال ابن القوطية: (حلمُ حلماً عَقَل) . وقال ابن منظور (الحلمِ بالكسر الأناة والعقل وجمعه أحلام وحلوم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وروى ابن منظور عن صاحب المحكم أن (الظن) يكون اسماً ومصدراً وأن الذي جُمع على (الظنون) هو الاسم لا المصدر. وأشار إلى نحو من هذا صاحب المصباح حين قال: (الجمع يكون في الأعيان كالزيدين ... وفي المعاني المختلفة كالعلوم والظنون) فنبه بهذا على أن العلم والظن إذا جمعا فقد عريا من الحدث وجنسه، إذ أصبحا محض اسمين للمعنى. فـ (العلم) مصدر (عَلم) هذا هو الأصل لكنه ليس مصدراً حين يجمع، وهذا ما أراد الشيخ مصطفى الغلاييني أن يلحظه في كتابه (جامع الدروس العربية 2 / 414) حيث قال: (فالمصدر قد يراد به الاسم، لا حدوث الفعل، كما تقول العلم نور، فإن لم يرد به الحدث فلا يعمل) . لبس شيء مما جُمع، وأصله المصدر، باقياً على مصدريته أقول ليس شيء مما جُمع كالعقول والألباب والحلوم والعلوم والظنون، قد أريد به الحدث البتة. فليس هو مصدراً بحال من الأحوال، وإن كان أصله كذلك. قال صاحب المصباح في الاعتلال لجمع (العلم) : (إن ضرباً يخالف ضرباً في كثرته، وعلماً يخالف علماً في معلومه ومتعلقه، كعلم الفقه وعلم النحو) . والصحيح أنه ليس في (العلم) من قولك (علم الفقه وعلم النحو) ما يدل على الحدث. بل ليس فيه ما يصدق على الجنس أيضاً. ومن ثم جاز جمعه جمع الأسماء. وكل ما جمعته من ذلك فقد جذبته إلى الاسمية وخرجت به عن المصدرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 قال الجرجاني فيما حكاه المصباح (ولا يجمع المبهم إلا إذا أريد به الفرق بين النوع والجنس، وأغلب ما يكون فيما ينجذب إلى الاسمية نحو العلم والظن، ولا يطرد) .والغلبة التي أشار إليها الجرجاني قياس لا ينكسر. وتصحيح قوله أن كل ما جمع فقد انجذب إلى الاسمية. وعلى ذلك قول صاحب المصباح: (وإن لم يُسمع عللوا أن المصدرباق على مصدريته) وليس قول الأئمة فيما جمع أنه مصدر إلا على الاعتداد بالأصل. وإلا فليس المصدر مصدراً بلفظه وحسب، وإنما هو مصدر بدلالته، ودلالته التي تتناول جنس الفعل وحدثه العام المبهم الصادر عن فاعله، فإذا تخلفت عنه الدلالة، تخلف معها ما تقتضيه من امتناع جمعه، فجُمع. التضاعف والأثناء: وانظر إلى ما قاله ابن يعيش في قول الزمخشري من خطبة المفصل: (ثم إنهم في تضاعيف ذلك يجحدون فضلها) ، قال: "التضاعيف جمع تضعيف، وهو مصدر ضعفته إذا أردت مثله أو أكثر) . وقال (وإنما جمع، والمصدر لا يثنى ولا يجمع، لأنه أراد أنواعاً من التضعيف مختلفة، كما يقال العلوم والأشغال) . فانظر كيف جعل (التضعيف) مصدراً فذكر بهذا حاله الأولى، على شهرته في انفكاكه عنها، وغلبة اسم الذات عليه. فالتضاعيف هي الغضون والأثناء. قال صاحب الأساس (وكل شيء ثني بعضه على بعض أطواقاً، فكل طاق من ذلك ثني، بكسر الثاء، حتى يقال أثناء الحية لمطاويها) . وقال الجوهري (والثني واحد أثناء الشيء، أي تضاعيفه ... والثني من الوادي والجبل منعطفه، وثني الحبل ما ثنيت) . وقال المرزوقي في شرح ديوان الحماسة (514) : (ويقال ثنيت الشيء ثنياً ثم يسمى المثني ثنياً، بكسر الثاء، وما ثني به هو أيضاً ثنياً) . هذا وإذا قلنا إن المصدر قد ينتهي به الاستعمال إلى الاسم، اسم الذات أو اسم المعنى، فلابد من التنبيه على أن اسم الذات في الأصل أعرق في النشوء وأسبق، من المصدر الدال على حدث الفعل وجنسه، من حيث التوالد اللغوي وتكامله. الأصوات والصلوات والزكوات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 والصوت مصدر صات يصوت كالقول مصدر قال يقول. فإذا جمع على أصوات كان اسماً. ومن النحاة من يقول إنه مصدر لكنه يردف أنه خرج بالتسمية عن حكم المصادر. قال ابن سيده في المخصص (13 / 85 ـ 86) : (إذا كانت الصلاة مصدراً وقع على الجميع والمفرد على لفظ واحد كقوله: صوت الحمير، فإذا اختلف جاز أن يجمع لاختلاف ضروبه، كما قال جلّ وعزّ: إن أنكر الأصوات) . وأضاف: وإذا جمعت المصادر نحو قوله: إن أنكر الأصوات، فإنك تجمع ما صار بالتسمية، كالخارج عن حكم المصادر، أجدر.. فهذا قول من جمع نحو قوله حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) . أقول الصوت هنا هو ما يحدثه الشيء إذا صات وجمعه أصوات أي أنه الأثِر الذي حصل بالحدث ومن ثم كان اسماً خارجاً عن حكم المصدر. وإذا قلت (له صوتٌ صوتَ حمام) فصوتٌ الأول ليس هو حدث الفعل بل أثره المسموع، ومن ثم كان العمل في (صوت) الثاني لفعل مقدر، لا لـ (صوت) الأول. وكذا (الصلاة) إذا جمعته على (الصلوات) . قال ابن سيده (فالتسمية به مما يقوي الجمع فيه، إذا عُني به الركعات لأنها جارية مجرى الأسماء) . أي أن (الصلاة) إذا كانت مصدراً بمعنى (الدعاء) فقد سميت بها الركعات أو العبادة المخصوصة فأنزلت منزلة الأسماء فجمعت. وهكذا الزكاةَ حين جمعت على (الزكوات) في نهج البلاغة (2 / 173) : (كما حرس الله عباده بالصلوات والزكوات) . ولا يخفى أن (الصلاة والزكاة) من الألفاظ الإسلامية التي اكتسبت معاني اشتقت من أصول معانيها. ففي كتاب الزينة للشيخ أبي حاتم الرازي (المتوفى 322 هـ) : (فالإسلام هو اسم لم يكن قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أسماء مثل الأذان والصلاة والركوع والسجود، لم تعرفها العرب إلا على غير هذه الأصول. فكانوا يعرفون الصلاة أنها الدعاة، قال الأعشى في صفة الخمر: لها حارس ما يبرح الدهر بينها فإن ذبحت صلى عليها وزمزما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أي دعا لها) وأصل الذبح الشق، ويقال ذبحت الدن أي بزلته، والدن الوعاء الذي ترقد فيه الخمر. وزمزم بمعنى ترنم. وجاء في كتاب الزينة أيضاً: (الزكاة هو من النموّ والزيادة يقال زكا الزرع إذا نما وطال وزاد. ويكون من الطهارة. قال تعالى (قد أفلح من زكاها (أي طهرها على أن الصلاة على التحقيق اسم مصدر، والأصل صلى تصلية وكذلك الزكاة. قال صاحب الكليات (223) : (الصلاة اسم مصدر، أي الثناء الكامل، وكلاهما مستعملان، بخلاف الصلاة بمعنى أداة الأركان فإن مصدرها لم يستعمل.. ويقال صليت صلاة ولا يقال صليت تصلية) . على أن اسم المصدر هنا قد حل محل المصدر واستُغني به عنه. المصادر المؤكدة: جاء كلام الأئمة على أن المصدر المؤكد لا يجمع، وهو صحيح على ما انتحيناه، فالمصدر في قولك قمت قياماً وجلست جلوساً، قد ماثل فعله من حيث دلالته على الحدث وجنسه دون تحديد، فهو باق على مصدريته، دال على جنس فعله وإبهامه. قال صاحب الهمع (1 / 186) : (المصدر نوعان مبهم، وهو ما يساوي معنى عامله من غير زيادة كقمت قياماً وجلست جلوساً، وهو لمجرد التأكيد، ومن ثم لا يثنى ولا يجمع، لأنه بمنزلة تكرير الفعل فعومل معاملته في عدم التثنية والجمع) . أما الحكم بقصوره عن العمل فذلك أنه قد أتى مؤكداً لعامله، لا نائباً عنه كالمصدر المضاف المبين للنوع في نحو قولك (ضربت فلاناً ضرب زيد أخاه) أي ضرباً مثل ضرب زيد أخاه، كما جاء في حاشية الصبان على الأشموني (2 / 103) و (ضرب) على هذا قد عمل رفعاً في فاعله المضاف إليه، ونصباً في مفعوله، خلافاً للمصدر المؤكد لعامله. المصادر المنتهية بالتاء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وكلام الأئمة على جمع المصادر المنتهية بالتاء. قال العلامة: (ياسين) في حاشية التصريح: (إن المصدر لا يثنى ولا يجمع ما لم يكن بالتاء. وسترى أن ما انتهى بالتاء من المصادر قد جمع حملاً على الاسمية أيضاً، وقد تأولوا له باختلاف الأنواع فدلوا بذلك على خروجه عن جنس فعله قال ابن الأثير في (النهاية) : (التحيات جمع تحية، قيل أراد بها السلام. يقال: حياك الله أي سلم عليك. وقيل التحية الملك، وقيل البقاء. وإنما جمع التيحة لأن ملوك الأرض يحيَّون بتحيات مختلفة. فيقال لبعضهم: أبيت اللعن، ولبعضهم: أنعم صباحاً، ولبعضهم: اسلم كثيراً، ولبعضهم: عش ألف سنة، فقيل للمسلمين قولوا: التحيات لله، أي الألفاظ التي تدل على السلام والملك والبقاء، هي لله تعالى) . فانظر إليه كيف اعتل لجمع المصدر باختلاف أنواع التحيات فأخرجه عن جنسه، ثم أشار إلى دلالته على لفظ السلام والملك والبقاء، فأخرجه عن حدثه. و (النية) التي تجمع على (النيات) اسم لا مصدر. قال صاحب المصباح: (والنية: الأمر والوجه الذي تنويه) . وقد جمعوا (النُهية) على (النُهى) . قال ابن سيده في المخصص (15 / 140) (والنُّهى مقصور العقل يكون واحداً وجمعاً، واحدته نُهية. قال الفارسي: النُهى لا يخلو أن يكون مصدراً أو جمعاً كالظُلَم. وقوله تعالى: (لأولى النهي (، يقوي أنه جمع لإضافة الجمع إليه) . والنُهية اسم مصدر وقد جمع على النُهى كما رأيت، واسم المصدر كالمصدر في جواز جمعه أو امتناعه. وجاء في الكليات (327) : (ويجوز جمع المصادر وتثنيتها إذا كان في آخرها تاء التأنيث كالتلاوات والتلاوتين) . وليست التلاوة المجموعة مصدراً، كالتلاوة في قوله تعالى (يتلونه حق تلاوته (. هل يجوز الخروج بالمصدر إلى الاسمية وجمعه كلما دعت الحاجة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 يتبين بما تقدم أن المصدر لا يجمع ما بقي على دلالته من حيث حدثه وجنسه، فإذا انفك عنها سقط عنه مقتضاها، وهو عدم الجمع. على أن بيت القصيد هاهنا هل يسوغ التصرف في المصدر كلما مست إليه الحاجة ودعت الضرورة، فيُخرج به عن مصدريته ويُجمع على إرادة الاسمية؟. أكثر نصوص الأئمة على الوقوف بهذه الإرادة عند حد السماع، عدا ما انتهى من المصادر بالتاء. فليس لك. على هذا. أن تجمع وتقول أردت بالمصدر الاسمية، إذا أدّاك التعبير إليه، إلا أن يكون العرب قد فعلوِه فنقل عنهم، وهو الحكم الذي يرجع إليه، ويقتاس به عند الأكثرين. ولكن ألا يخالف هذا، العرفَ اللغوي من وجوه؟ قال صاحب المصباح فيما أسلفنا: (فإن كان المصدر عدداً كالضربات أو نوعاً كالعلوم والأعمال، جاز ذلك لأنها وحدات وأنواع جمعت) . وأضاف: (وقال الجرجاني: لا يُجمع المبهم إلا إذا أريد به الفرق بين النوع والجنس. وأغلب ما يكون فيما ينجذب إلى الاسمية نحو العلم والظن) . ولا تكاد تحسب بهذا أنهما آخذان بالقياس حتى يستدرك الجرجاني فيقول: (ولا يطرد، ألا تراهم لم يقولوا في قتل وسلب ونهب: قتول وسلوب ونهوب) . ويستدرك الفيومي فيقول (وقال غيره لا يجمع ـ الوعد ـ لأنه مصدر، فدل كلامهم على أن جمع المصدر موقوف على السماع، فإن سمع الجمع عللوا باختلاف الأنواع، وإن لم يسمع عللوا بأنه مصدر باق على مصدريته، وعلى هذا فجمع القصد موقوف على السماع) . القول بقياس جمع المصدر إذا أريد به الاسم ذهب بعض الأئمة إلى الأخذ بقياس جمع المصدر إذا أريد به الاسم، جرياً على ما استن به العرب أنفسهم حين جمعوا (العلوم والظنون والحلوم والعقول والأعمال والأشغال..) . قال صاحب الهمع (1 / 186) : (أما النوع ففيه قولان: أحدهما يثنى ويجمع، وعليه ابن مالك، قياساً على ما سُمع منه كالعقول والألبان والحلوم، والثاني: لا، وعليه الشلوبين قياساً للأنواع على آحاد، فإنها لا تثنى ولا تجمع لاختلافها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وقال في جمع المصدر (2 / 183) : (ولم تطرد فيه قاعدة بحيث تكون مقيسة في جمع ذلك الاسم، فإنه إذ ذاك يجمع جمع ما كان أشبه به. مثال الأول أن يسمى بضرب، فإنه لم يجمع وهو مصدر فجمع وهو مسمى به على أفعُل في القلِّة فتقول أضرب ككلب وأكلب، وضروب في الكثرة ككعب وكعوب) . وهذا يعني أنك إذا سميت بمصدر جمعته على ما يجمع به ما هو نظيره من الأسماء. قال الشيخ مصطفى الغلاييني في كتابه (جامع دروس اللغة العربية (2 / 199) : (والمفيد عدداً يثنى ويجمع بلا خلاف، والمفيد نوعاً فالحق أنه يثنى ويجمع قياساً على ما سمع منه كالعقول والألباب والحلوم وغيرها) . تصرف الأئمة في جمع المصدر كلما دعت حاجة التعبير إلى إنزاله منزلة الاسم على أن المانعين من القياس في جمع المصدر لم يثبتوا على المنع فيما تناولته أقلامهم وذاع في مصنفاتهم. فقد جمعوا من المصادر ما لم يرد بجمعه سماع، وعللوا لذلك باختلاف الأنواع، وجمعهم هذا وتعليلهم دليلان على انصراف الأئمة إلى القياس غالباً لاشتداد الداعي إليه. أما قول صاحب المصباح (ألا تراهم لم يقولوا في قتل وسلب ونهب، قتول وسلوب ونهوب) فجوابه أنهم لو احتاجوا إلى ذلك في معنياتهم ومتصرف أفكارهم لقالوه وأثبتوه. قال الإمام الرضي في شرح الكافية (2 / 187) : (ومنه قولك الإكرامات والتخريجات، والانطلاقات ونحوها، لأن والواحد إكرامة وتخريجة وانطلاقة بناء الوحدة، لا إكرام وتخريج. وجمع المجرد أكاريم وتخاريج عند اختلاف الأنواع. فالإكرامات كالضربات والقتلات، والأكاريم كالضروب والقتول. ولذا يقال ثلاث إكرامات وتخريجات بتجريد العدد من التاء، وثلاثة أكاريم وتخاريج إذا قصدت ثلاثة أنواع من الإكرام..) وهكذا جمع قتلاً على قتول خلافاً لما تصوره صاحب المصباح. أما قصره جمع إكرام على أكاريم دون إكرامات، لعدم انتهائه بالتاء، فسترى أن الأئمة قد تجاوزوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 هذا وسنورد عليك مما جرت به أقلام الأئمة، قياساً على ما سمع عن العرب، ما يدل دلالة سديدة واضحة على أن التصرف في المصادر لا يمكن أن يحده سماع. وإن اللغة تقتضيه اقتضاء كلما احتيج إلى تجديد المعاني وتوليدها وتصريفها حيثما اتجه الفكر، وأن أصولها، إلى ذلك، لا تأباه ولا تعافه، بحاال من الأحوال. فأنت إذا تقصيت ما كتبوه واستقريته وجدت أن أحدهم لم يتورع عن جمع المصدر إذا نوى فيه الاسمية، ولو لم يرد النص بسماع جمعه. فالعرب قد جمعت من المصادر ما احتاجت إلى إرادة الاسمية فيه لحاجة في التعبير، وتصرفت فيما اضطرت أن تخرج به عن دلالته، وليس هذا مما يمثل أو يمكن أن يحصره سماع أو تحده رواية. قال صاحب المصباح: (واستعمل العيب اسماً وجمع على عيوب) . وقال: (ثم استعمل النسب وهو المصدر في مطلق الوصلة بالقرابة، فيقال بينهما نسب أي قرابة، وجمعه أنساب) . وقال: (وفرض الله الأحكام فرضاً أوجبها. فالفرض المفروض، جمعه فروض، مثل فلس وفلوس) . وقال: (الغيم السحاب الواحدة غيمة, وهو مصدر في الأصل من غامت السماء من باب سار، إذا أطبق بها السحاب) . وقال: (والشق بالفتح انفراج في الشيء، وهو مصدر في الأصل، والجمع شقوق) . وقال: (والجمع أيضاً الجماعة تسمية بالمصدر ويجمع على جموع مثل فلس وفلوس) . وقال في (لفظ) : (واستعمل المصدر اسماً وجمع على ألفاظ كفرخ وأفراخ) . قال: (والمكس الجباية، وهو مصدر من باب ضرب أيضاً، فاعله مكَّاس، ثم سمي المأخوذ مكساً تسمية بالمصدر، وجمع على مكوس مثل فلس، وفلوس) . وقال: (والبعث الجيش تسمية بالمصدر، والجمع بعوث) . وقال: (ووقف أيضاً تسمية المصدر والجمع أوقاف) . وقال: (ثم أطلق الرهن على المرهون، وجمعه رهون مثل فلس وفلوس) . وقال: (وسمي ما يصاد صيداً، إما فعل بمعنى مفعول، وإما تسمية بالمصدر، والجمع صيود) . وقال: (ووهمت وهماً، وقع في خلَدي، والجمع أوهام) . وقال ابن منظور: (والفتح افتتاح دار الحرب وجمعه فتوح) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وقال: (والوضع أيضاً الموضوع، سمي بالمصدر ... والجمع أوضاع) . وقد ورد (النص) عنهم مصدراً منقولاً إلى الاسمية بمعنى المنصوص، فجمع على نصوص، ثم أسمي به الكتاب والسنة، وأصل معناه الرفع أو الإظهار. قال صاحب الكليات: (ثم نقل في الاصطلاح إلى الكتاب والسنة، وإلى ما لا يحتمل إلا معنى واحداً) . وقال الجوهري: (الغم واحد الغموم، تقول منه غمه فاغتم) . والغم مصدر، قال الجوهري: (وليلة غم أي غامة، وصف بالمصدر، كما تقول ماء غور) . وفي المخصص (12 / 132) : (قال ابن جني: لام الفضاء واو، لقولهم فضا يفضو فُضوا وفضاء، والفاضي الواسع، وأفضى إلى الشيء صار في فضائه وفرجته، وجمعه أفضية) . وقال الجوهري: (وفرقت الشيء تفريقاً وتفرقة فانفرق، وافترق وتفرق، وأخذت حقي منه بالتفاريق) . ونظائر ما ذكرناه لك، مما جمعته العرب من المصادر حملاً على الاسمية، أو جمع قياساً على ما جمعوه، لا يحصيه عد. طرف مما جمعه الأئمة من المصادر حملاً على الاسمية يتبين بالاستقراء أن كثرة الأئمة قد جروا على جمع مصادر ما فوق الثلاثي فأكثروا منه، وترددوا في جمع مصادر الثلاثي فأقلوا منه. فهم جمعوا استعمالاً على استعمالات واختراعاً على اختراعات واحتمالاً على احتمالات واعتقاداً على اعتقادات واحتجاجاً على احتجاجات، كما جمعوا تقريراً على تقريرات وتحديداً على تحديدات، وإلزاماً على إلزامات والتزاماً على التزامات وتدقيقاً على تدقيقات وإلحاقاً على إلحاقات، واعتماداً على اعتمادات، وانتقالاً على انتقالات وتصحيفاً على تصحيفات وتنبيهاً على تنبيهات وتنزيلاً على تنزيلات وتأويلاً على تأويلات وتفريعاً على تفريعات وتصرفاً على تصرفات وترخيصاً على ترخيصات واختياراً على اختيارات وابتداءً على ابتداءات وإشكالاً على إشكالات وإعراباً على إعرابات وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 كما جمعوا تركيباً على تراكيب وتقليباً على تقاليب وتعليلاً على تعاليل وتكبيراً على تكابير وتصغيراً على تصاغير وتصنيفاً على تصانيف وتأليفاً على تآليف. وتفعيلاً على تفاعيل وتقسيماً على تقاسيم وتعبيراً على تعابير وتصريفاً على تصاريف وتفسيراً على تفاسير. شاع ذلك في مؤلفات الأئمة شيوعاً متعالماً، كما هو الحال في كلام ابن جني في خصائصه والقاضي الجرجاني في وساطته والخفاجي في سر الفصاحة والزمخشري في أساسه. بل الجاحظ في بعض رسائله. فقد جاء مثلاً في (التربيع والتدوير) : (وعادته كطبيعته وآخره كأوله، تحكي اختياراته التوفيق ومذاهبه التسديد /217) . وهكذا ابن هشام في مغنيه والسيوطي ومن حكى عنهم في مزهره وهمعه. والصبان في حاشيته على الأشموني، والأشموني في شرح الألفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وانظر إلى ما قاله ابن منظور في التعليق على ذلك (وقول ابن جني المضاف والمضاف إليه عندهم وفي كثير من تنزيلاتهم كالاسم الواحد.. إنما جمع تنزيلاً هنا لأنه أراد للمضاف والمضاف إليه تنزيلات في وجوه كثيرة، منزلة الاسم الواحد.. فكنى بالتنزيلات عن الوجوه المختلفة. ألا ترى أن المصدر لا وجه له إلا تشعب الأنواع وكثرتها. مع أن ابن جني تسمَّح بهذا تسمَّح تحضر وتحذق، فأما على مذهب العرب فلا وجه له، إلا ما قلناه) . أقول إن ما فعله ابن جني وتسمَّح به قد جرى عليه العرب أنفسهم، كما بسطنا القول فيه. ولابد لمثل هذا التسمح، مادام تسمح تحذق وتحضر، أن يتسع نطاقه وتمتد آفاقه، ما مسَّت إليه الحاجة في التعبير. وإذا كان الأئمة قد استسهلوا فيما جمعوه من مصادر ما فوق الثلاثي، جمعه السلامة أو منتهى الجموع فلظهور القياس فيه. وقد استحبوا جمع المصادر بالتاء، فيما لم يسمع جمعه عن العرب، وقد ضمنوا سلامة صيغته. وأكثروا من جمع ما ساغ جمعه على صيغه منتهى الجموع، فلا يعترضهم شك في تعرف واحده. وقد جمع الرضي في شرح الكافية (2 / 187) إكراماً على أكاريم وخص إكرامات بجمع إكرامة. وجمع صاحب المصباح (في رهب) إفساداً على إفسادات، كما جمع التاج السبكي في شرح المنهاج، على ما حكاه المزهر (1 / 175) ، إنشاء على إنشاءات. وأقل الأئمة من جمع مصادر الثلاثي، لاختلاف صيغ جمعه، على وفرة ما نقل منه عن العرب كما رأيت، لكنهم جمعوا من مصادره ما يقتاد النظر إلى الأخذ به، كما اتفق لابن جني، وهو من تعلم في حذقه لفقه اللغة وعلومها واستقرائه لدقائقها وتمحيصه لدخائلها. طرف مما جمعه ابن جني من مصادر الثلاثي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 جمع ابن جني (قصداً) على (قصود) حين انتوى فيه الاسمية، فقد قال في الخصائص: (1 / 427) (فإن قلت فما تنكر أن يكون ذلك شيئاً طبعوا عليه وأجيئوا إليه، من غير اعتقاد منهم لعلله، ولا لقصد من قصوده التي تنسبها إليهم في قوانينه وأغراضه) . وقال (1 / 255) : (وتضطر إلى معرفته من أغراضها وقصودها) ، وقال: (وغير ذلك من الأحوال الشاهدة بالقصود) . وهكذا جمع (الحذف) وهو مصدر (حذف) على (حذوف) فقال (1 / 88) : (ألا ترى إلى ما في القرآن وفصيح الكلام من كثرة الحذوف، كحذف المضاف وحذف الموصوف) . وعلى ذلك جمعه (حملاً) بفتح الحاء على (حمول) ، قال (1 / 222) : (ثم قالوا علباوان حملا بالزيادة على حمراوان، ثم قالوا كساوان تشبيهاً له بعلباوان. ثم قالوا قرّاوان حملا له على كساوان، على ما تقدم. وسبب هذه (الحمول) والإضافات والإلحاقات، كثرة هذه اللغة وسعتها وغلبة حاجة أهلها إلى التصرف فيها) . ومثله جمع (الفصل) خلاف (الوصل) ، على فصول. قال ابن جني (1 / 334) : (وأنشدنا وأيضاً فقد والشك بيَّن لي عناءٌ بِوَشكِ فراقهم صُردٌ يصيح أراد فقد بيَّن لي صرد يصيح بوشك فراقهم، والشك عناء.. فقد ترى إلى ما فيه من ـ الفصول ـ التي لا وجه لها ولا لشيء منها) . وكذا (الوصل) فقد جمعه ابن جني على (وصول) . فقد جاء في اللسان (قال ابن جني: فقول الأخفش يلزم بعد الروي الوصل، لا يريد به أنه لابد مع كل روي أن يتبعه الوصل.. وجمعه ابن جني على وصول، وقياسه ألا يجمع) ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وجمع ابن جني (الغلط) على (أغلاط) فقال (1 / 48) : (فكان يروي من أغلاط الناس منذ ذاك إلى أن شاع واستمر فساد هذا الشأن مشهوراً ظاهراً) . ولعله أول من جمع الغلط على أغلاط. وقد جمعه كذلك صاحب القاموس في خطبته فقال: (واختصصت كتاب الجوهري من الكتب اللغوية مع ما في غالبها من الأوهام الواضحة والأغلاط الفاضحة، لتدواله واشتهاره بخصوصه، واعتماد المدرسين على نقوله ونصوص) ورواه عنه صاحب المزهر (1 / 63) وقال صاحب التاج (ويجمع الغلط على أغلاط) ، وربما استند في ذلك إلى ابن جني. وغريب على هذا قول الدكتور مصطفى جواد عضو المجمع العراقي في كتابه (المباحث اللغوية في العراق / 128) : (ولم نجد للفصحاء استعمال الأغلاط جمعاً، وإن كان مقيساً ومستعملاً عند غير اللغويين من المتأخرين، ومنه كتاب ـ أغلاطي ـ لصفي الدين الحلي الشاعر المشهور) . أقول إن الفصحاء قد قالوا (الأغلاط) كما رأيت، واستعمله اللغويون المتقدمون قبل سواهم. وقد جمع ابن جني (الغلط) على (غلاط) أيضاً. قال ابن منظور: (والغلط في الحساب وكل شيء، والغلت لا يكون إلا في الحساب. قال ابن سيده: ورأيت ابن جني قد جمعه على غلاط، ولا أدري ما وجه ذلك؟ (. أقول قد أجبت عن ذلك في كتابي (أخطاؤنا في الصحف والدواوين) الصادر عام 1939، على ما بدا لي، فقلت (ووجه ذلك عندي أن ابن جني، لما وضع ـ الغلط ـ وهو مصدر، موضع الاسم، وجعل بمنزلة ـ المغلوط فيه ـ جمعه جمع قلة على ـ أغلاط ـ وجمع كثرة على ـ غلاط ـ على ما هو القياس. قال سيبويه ـ 2 / 177 ـ وما كان على ثلاثة أحرف وكان فعلاً فإنك إذا كسرته لأدنى العدد بنيته على أفعال، وذلك قولك جمل وأجمال وجبل وأجبال، وأسد وآساد، فإذا جاوزوا به أدنى العدد فإنه يجيء على فعال وفعول. فأما الفعال فنحو جمال وحبال، وأما الفعول فنحو أسود وذكور، والفعال في هذا أكثر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 هذا وانظر إلى ما جاء في (الوعد) والوعد مصدر في الأصل، لكنه استعمل استعمال الأسماء فينبغي أن يحمل عليها في الجمع فيقال (الوعود) . قال صاحب الصحاح (ولا يجمع الوعد) ، وقال الأزهري على ما حكاه ابن منظور (الوعد العدة يكون مصدراً واسماً، فأما العدة فتجمع على عدات، والوعد لا يجمع) ، ونحو ذلك ما قاله صاحب المفردات (والعدة من الوعد ويجمع على عدات، والوعد مصدر لا يجمع) . واستدرك ابن منظور فقال (والوعد من المصادر المجموعة، قالوا: الوعود، حكاه ابن جني) أقول بل جمعه ابن جني كما هو شأنه فيما أنزله من المصادر منزلة الأسماء. ما جمعه الزمخشري الوجل بفتح الجيم مصدر. قال ابن القوطية (ووجل وجلاً: خاف) . وقال صاحب المفردات: (الوجل استشعار الخوف يقال وجل يوجل فهو وجل. قال: وجلت قلوبهم..) . ولم أر جمعه في الصحاح أو المفردات أو المصباح أو المختار أو اللسان أو القاموس أو التاج ولكن جاء في الأساس (وفي قلبه وجل، وفي قلوبهم أوجال) ! توجيه ما جمع من المصادر: يتبين بما أسلفنا أن ما وقع لفحول الأئمة من جمع المصادر كثير فاش. والذي دفعهم إلى ذلك وبعثهم عليه ما تمثل لهم من صور ذهنية متجددة أجيئوا إلى التعبير عنها. وليس ما اعتمدوا هاهنا خروجاً عن قواعد اللغة بل بناء على أصولها، وتصرف قد خرّج على طرائقها. والتصرف بالمصدر على هذا النحو أشهر من أن تكثر عليه الأمثلة، وهو من الظهور على ما ترى. وقد نهج مجمع اللغة العربية بالقاهرة هذا النهج حين قال: (يجوز جمع المصدر عندما تختلف أنواعه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 والمصدر إذا جمع حين يدل على الوحدة والهيئة والنوع فلأنه قد افتقد جنس فعله وإذا جمع حين يجتذب إلى الاسم اسم ذات كان أو اسم معنى، فلأنه افتقد حدث فعله، أما إذا اجتمع للمصدر حدث فعله وجنسه فقد صح فيه ما أورد صاحب الموهر حين قال (1 / 120) : (ومما يحسن مفرداً ويقبح مجموعاً، المصادر كلها) . ولا يظن ظان أن لنا أن نريد الاسمية في أي مصدر فنجمعه، وإنما ذلك مرهون بضرورة التعبير والحاجة إليه. صحة جمع بيان على بيانات وأبنية: جرى نقاش حول صحة جمع بيان على بيانات في الدورة السابعة والثلاثين لمجمع اللغة العربية بالقاهرة. فقال الأستاذ عباس حسن، عضو المجمع: (المصدر من حيث هو مصدر لا يجوز جمعه، إلا إذا كان عددياً أو نوعياً. وهنا لا دليل على التعدد. ولو سلمنا أنه متعدد الأنواع لكان المانع من جمعه جمع المؤنث السالم أنه لا يدخل تحت نوع مما يجمع هذا الجمع.) وأنت ترى أن الأستاذ قد أبى جمع (بيان) على (بيانات) لسببين: الأول أنه لا دليل على تعدد المصدر فيجمع، والثاني: أنه لا سند لجواز جمعه جمع مؤنث سالماً، إذا صح جمعه. أقول في الجواب عن ذلك: فيما يراد به هنا ليس مصدراً، وإنما هو اسم، وهو القول الذي تسوقه لإعلان أمر أو إيضاحه والكشف عن إشكال فيه. أو هو (ما يتم به بيان الأمر والكشف عن غامضه) . فهو بذا قد فقد دلالته على الحدث وجنسه، على السواء، فعاد له حكم الجمع الذي حالت دونه هذه الدلالة. فإذا قيل إنه مصدر فاعتداداً بالأصل. وقد يستعمل (البيان) دالاً على حدثه دون جنسه فيجمع لاختلاف نوعه. وجاء في النص الذي اختلف في صحته (الأحكام والبيانات) فامتنع الأعضاء من جمع (البيان) وأقروا جمع (الحكم) فما الذي أداهم إلى هذا التفريق؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 أصارهم إلى هذا أن العرب قد عدلت بـ (الحكم) عن مصدريته (عن حدثه أو جنسه) أو عنهما جميعاً، فجمعته على (أحكام) حين عنت به (ما يُشرع أو يسن أو يحكم به) فارتضوا ذلك وأقروه. فقد جاء في نهج البلاغة (2 / 77) : (وبين الأحكام المفصولة) . وجاء فيه (3 / 47) : (وشرائع الإسلام وأحكامه) . وقال صاحب المصباح (وفرض الله الأحكام فرضاً أوجبها) . وامتنع المجمعيون في المجمع القاهري من جمع (البيان) حين اعتقدوا أن العرب لم تجمعه. وهي لم تجمعه فعلاً لأنها لم تحتج إلى الخروج به عن مصدريته إذ لم تلجئها إليه حاجة في التعبير. ومن الحق أن يقيسوا جمع (البيان) على (الحكم) كما فعل الأئمة في جمع استعمال واختراع واحتمال واعتقاد واحتجاج، على استعمالات واختراعات واحتمالات واعتقادات واحتجاجات، إلى آخر ما جمعوه على مثال هذا الجمع مما ذكرناه. وهذا (البلاغ) كالبيان. وقد جمعه الإمام عبد الرحمن ابن عيسى الهمذاني (المتوفى 322 هـ) صاحب الألفاظ الكتابية في مقدمة كتابه هذا، إذ قال في مقدمته: (وانضاف إلى ذلك قوة من الصواب وصفاء من الطبع ومادة من الأدب، وعلم بطرق البلاغات، ومعرفة رسوم الرسائل..) . بل رأيت الجاحظ قد جمعه في بعض كتبه (كتاب حجج النبوة) إذ قال (والناس موكلون بالخطابات مولعون بالبلاغات) وجاء في الصحاح (والبلاغات كالوشايات) والوشاية ما أبلغ إلى السلطان من حديث الناس، سعياً بها، ولم يخص الجاحظ أو الهمذاني البلاغ بهذا المعنى. ولا ننس أن البلاغ اسم من التبليغ كالبيان اسم من التبين، ففي الصحاح (وكذلك التبليغ والاسم منه البلاغ) . ويردان مصدرين أيضاً. وقد جمع العرب (القضاء) على أقضية كما جمعوا (الحكم) على أحكام، وكلاهما في الأصل مصدر. والقضاء لغة: الحكم كما في المصباح والنهاية وتعريفات الجرجاني. وقد جمعوه على أقضية حين عدلوا به عن مصدريته. قال صاحب الأساس (وعدل في قضائه وقضيته وأقضيته، وقضاء الله ترد له أقضية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وقال الأستاذ عباس حسن (وهنا ـ أي في البيان ـ لا دليل على التعدد، ولو سلمنا أنه متعدد الأنواع لكان المانع من جمعه جمع المؤنث السالم، أنه لا يدخل تحت نوع مما يجمع هذا الجمع..) . أقول إن أعضاء المجمع القاهري قد أقروا بتعدد أنواع البيان. قال الدكتور إبراهيم مدكور: (المسألة هي وجود أنواع من البيان) . وقال الدكتور طه حسين (يمكن أن نقول أنواع من البيان) وانتهوا من النقاش إلى هذا التعبير (مختلف أنواع البيان والأحكام) . وكان الوجه أن يقولوا (مختلف أنواع البيان والحكم) أو (مختلف البيانات أو الأبينة والأحكام) . وما داموا قد أقروا أنواعاً من (البيان) فما الذي منعهم من جمعه، كما فعل الأئمة. قال صاحب المصباح: (فإن كان المصدر عدداً كالضربات أو نوعاً كالعلوم والأعمال، جاز ذلك لأنها وحدات وأنواع..) وأردف (لأن ضرباً يخالف ضرباً في كثرته وقلته، وعلماً يخالف علماً في معلومه ومتعلقه) . أو ليس (للبيان) نوعٌ يختلف في مضمونه ومتعلقه، عن بيان آخر. قال ابن سيده في المخصص (13 / 85) : (إذا كانت الصلاة مصدراً وقع على الجمع والمفرد بلفظ واحد كقوله: لصوت الحمير، فإذا اختلف جاز أن يجمع لاختلاف ضروبه..) . ألم تختلف ضروب البيان وقد قال المناقشون (مختلف أنواع البيان) ؟ قال الرضي في شرح الكافية (2 / 187) : (وثلاثة أكاريم وتخاريج، إذا قصدت ثلاثة أنواع من الإكرام) . هذا ما أحسب إلا أن الأئمة قد جمعت (البيان) بعد أن انتهت فيه إلى أنواع متعددة، كبيان التقرير وبيان التغيير وبيان التبديل إلى غير ذلك مما ذكره الشريف الجرجاني في تعريفاته. فقد جاء في شرح المنار في أصول الفقه لابن ملك (فصل في بيان أقسام البيانات (234) وقد عدد فيه أنواع البيان فقال إنها بيان التقرير وبيان التفسير وبيان التغيير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وقد قطع أعضاء المجمع القاهري بأن (البيان) مصدر، وهو كذلك في الأصل، إذا كان من (بان) على أنه قد يكون اسم مصدر، إذا حمل على (أبان) أو (بيَّن) . قال صاحب المصباح: (وأبان إبانة وبيَّن وتبين واستبان، كلها بمعنى الوضوح والانكشاف، والاسم: البيان، وجميعها يستعمل لازماً ومتعدياً، إلا الثلاثي فلا يكون إلا لازماً) . فإذا كان (البيان) اسم المصدر من (التبيين) كان كالعذاب اسماً من التعذيب. وقد جمع الأئمة (العذاب) حين انتهوا به إلى الاسمية، على (أعذبة) واسم المصدر كالمصدر في امتناعه على الجمع من حيث الأصل كما ستراه. ففي التنزيل (يضاعف لها العذاب ضعفين ـ الأحزاب / 30 (قال ابن منظور: (قال أبو عبيد: معناه تجعل الواحد ثلاثة أي تعذب ثلاثة أعذبة) . وعندي أن جمع (البيان) يكون بالتاء تصحيحاً، كما يكون على (أبينة) تكسيراً. أما جمعه بالتاء تصحيحاً، فقد نحا نحوه الأئمة بما جمعوه من نظائره، وأفتى بعضهم بجمع ما لم يسمع عن العرب بالتاء. فقد جاء في كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني، حول الاحتجاج لصحة جمع (بوق) على (بوقات) : (وقال المحتج عنه إن أصل الجمع التأنيث، ولذلك جاء ما جاء منه بالتاء، وإن كان في الأصل مذكراً، قال فمن جمع اسماً لم يجد عن العرب جمعه فأجراه على الأصل، لم يسغ الرد عليه، ولم يجز أن ينسب إلى الخطأ لأجله (332) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 أما جمع البيان على (أبينة) فكما جمع (القضاء) على أقضية، وكما جمع (الفضاء) على أفضية، وهو مصدر سمي به، فقد جاء في المخصص لابن سيده (15 / 132) : (قال ابن جني: لام الفضاء واو لقولهم فضا يفضو فضّواً وفضاء، والفاضي الواسع. وأفضى إلى شيء صار في فضائه وفرجته وجمعه أفضية) . وجمع (العذاب) على أعذبة. والعذاب كالبيان اسم مصدر. ونحو ذلك (الجواز) وهو مصدر (جاز يجوز) لكنه استعمل لما يجاز به. وهو صك المسافر، فجمع على (أجوزة) . قال صاحب الأساس (وخذ جوازك وخذوا أجوزتكم، وهو صك المسافر لئلا يتعرض له) ، وفعال في الأسماء، يجمع قياساً على أفعلة، إذا كان مذكراً. وقد أقر مجمع اللغة العربية بالقاهرة جمع (نشاط) على (أنشطة) إذ قال: (يشيع استعمال هذا اللفظ مراداً به الدلالة على جملة الأعمال المتنوعة التي يمارسها المرء أو الجماعة في الحياة العامة من رياضية واجتماعية وثقافية. وقد يؤخذ على هذا الاستعمال أن الأنشطة جمع نشاط. وهو مصدر. والأصل في المصدر ألا يُثنى ولا يُجمع لأنه يدل على القليل والكثير. ثم إن جمعه في حالة جوازه على صيغة أفعلة غير مسموع ... أجيز هذا اللفظ على أساسين: الأول أن جمهرة علماء اللغة يجيزون على صيغة أفعلة غير مسموع أنواعه، والنشاط متعدد الأنواع، والثاني أن جمهرة علماء الصرف يجيزون جمع فعال على أفعلة جمع قلة) . ولست أدري ما معنى قول المجمع أن (النشاط) مصدر، وقد أريد به الدلالة على جملة الأعمال المتنوعة.. كما قال. بل ما معنى أن جمعه في حالة جوازه على صيغة أفعلة غير مسموع. وقد رأيت أن العرب قد جمعت ما عدلت به من المصادر إلى الاسمية، وكان على فعال، على أفعلة كقضاء وأقضية وفضاء وأفضية وجواز وأجوزة. وليس هذا وحسب بل أقر المجمع القاهري جمع (نشاط) على (نشاطات) في جملة ما أقر جمعه من الأسماء بالألف والتاء كالجواز والحساب والخطاب.. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فاتضح مما ذكرناه أن الأئمة حين منعت جمع المصدر نصاً ثم استباحت جمعه بأقلامها فعلاً، بل درجت عليه كلما ألجأتها إليه حاجة في التعبير أو ضرورة في التسمية والاصطلاح، أقول إذا أنصت الأئمة على منع الجمع ثم استجازته فإنها لم تنقض ما نصت عليه، ذلك أن جمعته من المصادر كالذي يحكي جمعه منها، قد عُدل به إلى الاسمية. فإذا استحق ظاهره المنع فقد استوجبت حقيقة حاله الرخصة والجواز كما رأيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 المفاعلة عِند النّحاة المفاعلة مصدر من مصادر (فاعل) ، تقول فاعل يفاعل مفاعلة كقاتل يقاتل مقاتلة، وهو المصدر القياسي بالإجماع، ولفاعل مصادر أخرى هي: الفعال بكسر أوله، وهو كثير في الاستعمال، تقول يقاتل قتالاً، ولا يطرد. وهو يندر فيما أوله الياء، تقول ياسر يياسر مياسرة ولا تقول يساراً، وقد سمع هذا في (ياوم) ، تقول: ياوم يياوم مياومة ويواما. وجاء في الهمع للإمام السيوطي (2/167) : "ولفاعل فِعال بكسر الفاء وتخفيف العين، ومفاعلة كقاتل قتالاً ومقاتلة. ويلزم مفاعلة فيما فاؤه ياء كياسر مياسرة، وندر فيه فِعال كياوم يواماً" وفي شرح الشافية للرضي: "ولا يجيء فعال فيما فاؤه ياء للاستثقال فلا يقال يسار في ياسر".والفيعال بالياء مصدر فاعل، وهو قليل في الاستعمال، فقد ذهب سيبويه إلى أن الأصل في (فعال) بالكسر والتخفيف هو (الفيعال) بالياء، إذ قال: أنهم حذفوا الياء التي جاء بها أهل اليمن، وعللوا تقديم (الفعال) بالكسر والتخفيف، على (الفيعال) بالياء، بكثرة استعماله. وذهب آخرون أن الأصل هو (الفعال) بالكسر والتخفيف لأن حروف الفعل، أي الفعل الماضي، ثابتة فيه، وأن (الفيعال) بالياء هو الفرع لأن الياء قد حصلت بإشباع كسرة الفاء، وهو المختار عند الزمخشري صاحب الكشاف، وأن الفيعال بالياء لغة اليمن وحدهم والفعال بلا ياء لغة سواهم. على أن الفعال والفيعال لا يطردان على كل حال. قال ابن سيده في المخصص (14-185/186) : "واللازم عند سيبويه في مصدر فاعلت المفاعلة، وقد يد عون الفيعال والفعال في مصدره، ولا يدعون مفاعلة. وقالوا جالسته مجالسة وقاعدته مقاعدة ولم يسمع جلاساً ولا جيلاساً، ولا قيعاداً ولا قعاداً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 والمصدر الرابع لفاعل بعد المفاعلة والفعال هو الفِعَّال بكسر الفاء وتشديد العين، وموزون ذلك من (قاتل) قاتله مقاتلة وقتالاً وقيتالاً بالياء وقتالاً بتشديد التاء. وجاء من ذلك (المراء) بكسر الميم وتشديد الراء تقول ماريته مماراة ومراء بالتخفيف وميراء بالياء كما جاء مراء بالتشديد ذكر هذا في شرح البناء للكفوي حكاية عن التفتازاني في تأسيسه. على أنه شاذ في المفاعلة. وجاء (كذاب) بكسر أوله وتشديد ثانيه في التنزيل فلم يحمل على المكاذبة بسبب شذوذه فيها. قال تعالى: (وكذبوا بآياتنا كِذّاباً ((النبأ/ 28) فقال الجوهري في الصحاح: "وقوله تعالى كذاباً أحد مصادر فعَّل بالتشديد". وقال الإمام البيضاوي: وكذبوا بآياتنا كذاباً: تكذيباً. وفعَّال بكسر أوله وتشديد ثانيه بمعنى تفعيل مطَّرد، شائع في كلام الفصحاء". وجاء في التنزيل (لا يسمعون فيها لغوياً ولا كِذّاباً ((النبأ/ 35) فقال الراغب في مفرداته "ولا كذاباً، الكذاب بتشديد الذال التكذيب". وجاء في شرح الشافية للرضي: "وجاء كذّاب هذا وإن لم يكن مطرداً كالتفعيل، لكنه هو القياس، كما مر في شرح الكافية. قال سيبويه: أصل تفعيل فعَّال جعلوا التاء في أوله عوضاً من الحرف الزائد، وجعلوا الياء بمنزلة ألف الافعال، فغيروا آخره كما غيروا أوله.. ولم يجئ فِعّال بكسر أوله وتشديد ثانيه في غير المصدر إلا مبدلاً من أول مضعفه ياء نحو قيراط ودينار وديوان. وأما المصدر فإنه لم يبدل فيه ليكون كالفعل. وفعَّال بكسر أوّله وتشديد ثانيه في مصدر فِعَّل بالتشديد، وفيعال بالياء وفِعال بالكسر والتخفيف في فاعل، وتفعال في تفعل بالتشديد، وإن كانت قياساً لكنها صارت مسموعة لا يقاس على ما جاء منها –58-59". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 ويستنبط مما تقدم أن (المفاعلة) هو المصدر القياسي لفاعَلَ. وإذا عرفنا أن مصدر غير الثلاثي مشتق من الماضي باتفاق البصريين والكوفيين، فالمشتق من الشيء بالاشتقاق الصغير يشتق إما بزيادة الحركة أو الحرف، فمصدر (فاعل) مشتق من ماضيه بزيادة الميم في الأول، لتقارب الميم والفاء مخرجاً، كما يقول النحاة، وبزيادة التاء في الآخر لشيوعها في كثير من المصادر كعدة واستقامة. ولكن ما الذي تعنيه المفاعلة؟ الذي تعنيه (المفاعلة) غالباً، كما قرره النحاة، هو (المشاركة) ، ولكن ما الذي تعنيه هذه المشاركة؟ أقول ذكر الإمام الرضي في شرح الشافية أمثلة مختلفة للمفاعلة التي تعني المشاركة منها أن تكون المفاعلة للمشاركة فعلاً وهو يريد بالمشاركة هنا أن يقع التشارك بين اثنين، بحيث يوقع أحدهما بالآخر فعلاً فيقابله هذا بمثل هذا الفعل، كقولك (ضارب زيد عمراً) أو شاتمه أو قاتله. وقد اشترط لذلك أن يكون (المفاعل) بفتح العين، أي الذي شورك في الضرب وهو (عمرو) هو المفعول في أصل الفعل الثلاثي من قولك (ضرب زيد عمراً) فيكون الفعل قد اكتفى بعد تحوله إلى صيغة (فاعلَ) بأن أفاد المشاركة على الوجه المذكور، ولم يتجاوز في تعديه المفعول الواحد الذي كان يتعدى إليه. ومثل ضاربت فلاناً شافهته وفاوهته وخاطبته وواجهته وفاوضته وباثثته وذاكرته وثافنته وقاولته.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وزاد الإمام محمد الكفوي في كتابه (شرح البناء) في شرح المثال، فقال ان قولك (ضارب زيد عمراً) قد دل صريحاً على صدور الضرب من زيد على وجه (الغالبية) ووقوعه على عمرو. كما دل ضمناً على صدوره من عمرو على وجه (المغلوبية) ووقوعه على زيد، فيكون كل منهما فاعلاً ومفعولاً. لكن الغالب يكون فاعلاً والمفعول مفعولاً لفظاً، وبالعكس معنى. وهكذا ذهب الكفوي إلى اعتداد (زيد) فاعلاً لفظاً (أي لفظاً ومعنى) واعتداد عمرو مفعولاً لفظاً (أي لفظاً معنى) ، وإلى جعل (زيد) مفعولاً معنى أو ضمناً، و (عمرو) فاعلاً معنى أو ضمناً. ويأتي الرضي بمثال آخر هو (جاذبت فلاناً الثوب) ، وأصله (جذبت الثوبَ) ، فيقول انه ليس من قبيل المشاركة في (المضاربة) . ذلك أن (المضارَب) بفتح الراء، وهو (عمرو) هو المفعول في الفعل الثلاثي من قولك (ضرب زيد عمراً) ، وهكذا ظل للمضاربة مفعول واحد، أما (المجاذَب) بفتح الذال فليس هو المفعول في الفعل الثلاثي من قولك (جذبت الثوبَ) فقد ضمت المشاركة هاهنا إلى المفعول الأصلي وهو (الثوب) مفعولاً آخر هو (فلان) فأصبح للمجاذبة مفعولان. وقد حصل التشارك في الجذب هنا ولكن بين المتكلم وفلان، فهما قد تنافسا في جذب الثوب. ونظير ذلك (نازعت فلاناً الحديث) أي جذابته إياه. إذ ليست المشاركة فيه كالمشاركة في المضاربة، ذلك أن (المنازع) هنا بفتح الزاي، وهو (فلان) ليس هو المفعول في الفعل الثلاثي من قولك (نزعت الحديث) ، وهو (الحديث) . فقد جرى التشارك في النزع هنا بين المتكلم وفلان أيضاً فهما قد تنافسا في نزع الحديث. ويتبين مما تقدم أنه إذا كانت المشاركة في المضاربة قد أفادت إيقاع أصل الفعل من المتضاربين أحدهما على الآخر، فإن المشاركة في المجاذبة والمنازعة قد أفادت منافسة المتجاذبين والمتنازعين في إيقاع الفعل على مفعول آخر هو الثوب أو الحديث. والأصول الثلاثية لأفعال المشاركة هنا متعدية وهي ضرب وجذب ونزع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وثمّة أفعال للمشاركة اشتقت من ثلاثي لازم. كقولك (ساير) ذلك أنه من (سار) ، تقول (سايرته في البرية) ، والمسايرة هنا مشاركة قد وقع الفعل فيها من اثنين، لكنه لم يقع من أحدهما على الآخر. فالمساير بكسر الياء لم يوقع أصل الفعل على المساير بفتح الياء، كما لم يوقع جاذب أصل فعله على المجاذَب بفتح الذال. ومثال آخر جاء به الرضي هو (كارمت فلاناً) أو (شاعرت فلاناً) ، وفعلهما من الثلاثي المجرد لازم. وقد أشبهت المشاركة هنا مشاركة المضاربة لأن (المفاعل) فيهما بكسر العين قد أوقع أصل الفعل على (المفاعَل) بفتح العين كالمضارب، بكسر الراء، الذي أوقع فعل الضرب على المضارب بفتح الراء، خلافاً لما ذكر في (المجاذب والمساير) بكسر الياء فإنهما لم يوقعا أصل الفعل على (المجاذب والمساير) بفتح الياء. وليس كل ما جاء على (فاعلَ) هو من أفعال المشاركة. فقد بقي من أمثلة الرضي في (المفاعلة) مثال، هو من أقوال عليّ (رضي الله عنه) ، قال الرضي: "وقد يكون ما زاد من المفعول في باب المفاعلة هو المعامَل بفتح الميم، بأصل الفعل، لا على وجه المشاركة، كما في قول علي، رضي الله عنه، كاشفتك الغطاءات، وقولك عاودته وراجعته..". فقد اتفق في (المكاشفة) ، على ما يقول الرضي، أن يكون ما زاد من المفعول في باب المفاعلة هو (المعامَل) بفتح الميم في أصل الفعل، وأن تكون المفاعلة على غير وجه مشاركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 فأنت تقول (كاشفتك العظات) كما ورد النص في نهج البلاغة (2/241) ، وتقديره (كاشفتك بالعظات) ، وأصله في الفعل الثلاثي، (كشفت لك العظات) . فالذي زاد من المفعول بتحويل (كشف) إلى (كاشف) هو (ضمير المخاطب) أي الكاف، ولا مشاركة للمخاطب في الكشف، خلافاً لقولك (جاذبتك الثوب) فالمفعول المزيد في المفاعلة، (وهو ضمير المخاطب) مشارك في الجذب. وهكذا (عاودتك في كذا) و (راجعتك في كذا) فإن المخاطب ليس مشاركاً في العود أو الرجوع. ولا يخفي أن (عاودتك وراجعتك) من أفعال الموالاة والمداومة، ففي المصباح (يعاودها أي يرجع إليها مرة بعد مرة) ، وقال (راجعته: عاودته) . فمكاشفتك فلاناً بكذا موالاة الكشف له ومعاودة فلان ومراجعته موالاة العود والرجوع إليه حيناً بعد حين. قال ابن أبي حديد في شرح قول الإمام علي (ولقد كاشفتك العظات وآذنتك على سواء) : "والعظات جمع عظة، وهو منصوب على نزع الخافض" أي أن تقديره (كاشفتك بالعظات) ، وأردف: "وروي العظات بالرفع، على أنه فاعل، أي كاشفتك العظات وآذنتك أي أعلمتك، وعلى سواء: أي على عدل وإنصاف". فمكاشفتك فلاناً موالاة الكشف له. ما جاء من المفاعلة لغير المشاركة: ومما جاء به الرضي من المفاعلة في غير معنى المشاركة قولك (ضاعفته) بمعنى (ضعَّفته) بالتشديد أي كثَّرت أضعافه، وسافرت بمعنى سفرت أي خرجت إلى السفر. قال الرضي: "ولا بد في سافرت من المبالغة"، وعندي أن في (المسافرة) معنى الموالاة كالمعاودة والمراجعة، أي أن (سافر) بمعنى سفر عن المكان مسافة بعد مسافة. وذهب الراغب في مفرداته مذهباً آخر فقال: "وسافر خُصّ بالمفاعلة اعتباراً بأن الإنسان قد سفر عن المكان، والمكان سفر عنه" ذلك أن (سفر) بمعنى خرج للارتحال أي بعُد. والمختار أن تكون (المدافعة) أيضاً موالاة في الدفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وللمفاعلة في غير معنى المشاركة منحى آخر هو الصيرورة كعافاك الله إذا صيَّرك ذا عافية. قال الرضي: "وقد يجيء بمعنى جعل الشيء ذا أصله كأفعل وفعَّل بالتشديد نحو راعنا سمعك أي اجعله ذا رعاية لنا كأرعنا، وصاعر خدّه جعله ذا صعر، وعافاك الله أي جعلك ذا عافية، وعاقبت فلاناً أي جعلته ذا عقوبة، وأكثر ما تجيء هذه الأبواب الثلاثة متعدية". ويمكن أن تحمل (المباركة) على باب الصيرورة، فبارك الله لك في هذا أي جعله مباركاً. ولا بد في كل مفاعلة إذا كانت بمعنى أصلها الثلاثي من أن تحمل معنى زائداً على الأصل، لزيادة لفظها كجاوز بمعنى جاز. فجاز الطريق لزم جوزه أي وسطه، كما في المفردات، قال الجوهري "جاز الموضع سلكه وسار فيه"، أما جاوز الطريق فمعناه تجاوز جوزه أي وسطه، كما ذهب إليه الراغب. وبقي أن نذكر للمفاعلة، في غير المشاركة، معنى شائعاً في الاستعمال لم يشر إليه الرضي، وقد ألح عليه بعض الأئمة، فقد جاء في كتاب (البناء في علم التصريف) لمحمد الكفوي: "وذكر الكشاف في بعض شروحه أن في هذا الباب معنى آخر كثير الاستعمال، وهو أن يكون من أحد الطرفين صدور أصل الفعل، ومن الطرف الآخر ما يقابله، بناء على جعل ما يقابله قائماً مقامه، كقولك بايع زيد عمراً، فإن الصادر عن أحدهما البيع، ومن الآخر الشراء". أي أن معنى قولك (بايع زيد عمراً) صدور أصل الفعل وهو البيع، من زيد، وصدور ما يترتب عليه في مقابلة ذلك وهو الشراء، من عمرو. ونحو ذلك يترتب عليه في مقابلة ذلك من الآخر وهو الأخذ والتناول. ومن ذلك (المعاطاة) ففي اللسان (المعاطاة: المناولة) فعاطاه الشيء معاطاة وعطاء بكسر العين ناوله إياه فتعاطاه أي تناوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وقد جاء في التنزيل (قاتلهم الله أنى يؤفكون ((التوبة/ 31) ولا تصح في مثل هذه المقاتلة مشاركة أو مقابلة. ففي (قاتل) هنا نسبة أصل الفعل إلى الفاعل حقيقة بلا اقتضاء مشاركة، كما في تلخيص الأساس لعلي بن عثمان. فقاتلهم الله دعاء بمعنى أهلكهم، والأصل في (فاعلَ) إذ جاء بمعنى (فعلَ) أن تكون نسبة أصل الفعل إلى الفاعل بطريق المجاز لا الحقيقة. قال علي بن عثمان: "فثبت التغاير بينهما على ما في بعض شروح الشافية". بعض ما جاء على فِعال بالكسر مصدراً لفاعل فعال بالكسر ليس بالضرورة مصدراً لفاعَل فقد يكون اسماً غير مصدر مفرداً أو جمعاً، وقد يكون مصدراً لفعل أيضاً. ويلتبس الأمر حيناً، فيما جاء منه معتل العين، أهو مصدر لهذا أم مصدر لذلك. فثمة (لاذ به) مثلاً بمعنى لجأ إليه واستتر به واختص ومصدره (اللوذ) بفتح فسكون. وجاء (لاوذ) على فاعلَ أيضاً. وسمع (اللواذ واللياذ) بكسر اللام فيهما، على (فعال) بالكسر، فأيهما مصدر (لاذ) الثلاثي، أو مصدر (لاوذ) المزيد؟ وجاء قام وقاوم وسمع من مصادرهما القوام والقيام بكسر القاف، فأيهما مصدر الثلاثي أو مصدر المزيد؟ جاء في الصحاح "لاذ به لجأ إليه وعاذبه، وبابه قال، ولياذاً أيضاً بالكسر". فتبين بهذا أن مصدر لاذ هو اللوذ كالقول، وهو اللياذ أيضاً بكسر أوله. وفي الصحاح: "ولاوذ القوم ملاوذة ولواذاً أي لاذ بعضهم ببعض. ومنه قوله تعالى: (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً ((النور/36) ، وأردف: "ولو كان لاذ لقال لياذاً"، أي أن اللواذ في الآية مصدر لاوذ، ولو كان مصدر لاذ لكان اللياذ. فاللياذ مصدر لاذ الثلاثي، واللواذ مصدر لاوذ على فاعل. وأكد ذلك الراغب في مفرداته فقال: "ولو كان من لاذ يلوذ لقيل لياذاً، إلا أن اللواذ هو فعال من لاوذ، واللياذ من لاذ". فلماذا قلبت الواو ياء في اللياذ مصدر الثلاثي ولم تقلب في اللواذ مصدر لاوذ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أقول القاعدة أن الواو تقلب ياء إذا وقعت حشواً بين كسرة وألف زائدة، في المصدر الأجوف الذي أعلَّت عين فعله. ومن ذلك لاذ وصام وعاد، فإن عين الفعل فيها أعلّ، وجاءت الواو في مصادرها حشواً بين كسرة وألف، ولذا قيل لاذ لياذاً وصام صياماً وعاد عياداً. على حين صحت العين في (لاوذ) ولذا قيل لاوذ لواذاً. وهكذا تقول جاور جواراً وعاود عواداً. وقد جاء في إعراب القرآن لأبي البقاء عبد الله العكبري: "لواذاً في قوله تعالى: (يتسللون منكم لواذاً أو يتسللون تسللاً (، وإنما صحت الواو في لواذاً مع انكسار ما قبلها لأنها تصح في الفعل الذي هو لاوذ، ولو كان مصدر لاذ لكان لياذاً مثل صام صياماً". وهكذا (قام) وأصله (قوَم) بفتحتين، كما كان (لاذ) أصله (لَوذَ) بفتحتين، ما دام قد أعلَ فمن حق مصدره أن يُعل فيقال (قام قياماً) وأصل الياء في (قيام) واو. ففي الأفعال لابن القوطية: "قام إلى الشيء قوماً وقياماً نهض إليه". أما (قاوم) فمصدره المقاومة والقوام بالكسر، إذ لم يعلّ فعله ليعلّ مصدره. وقوام الشيء بالكسر أيضاً عماده الذي يقوم به، وقوام الأمر ملاكه. ولم تعلّ الواو هنا وكذلك في سواك وسواء بكسر أولهما لانتفاء المصدرية. وقد جاء في الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني (في باب الاعتصام) : "ولاذ به لواذاً ولياذاً. قال ابن خالويه: هذا غلط والصواب أن تقول لاذ به لياذاً ولاوذبه لواذاً. ومنه قول القرآن الجليل: (يتسللون منكم لواذاً فليحذر (. فالأول مثل قام قياماً والثاني مثل قاوم قواماً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وقد شذ في هذا الباب (نار) تقول نارت الظبية تنور نواراً بكسر النون أي نفرت. ففي الأفعال لابن القوطية: "نار الشيء نياراً فأنار: أضاء" وقد جاء هذا على القياس، لكنه قال كذلك: "نار نوراً بالفتح ونواراً بالكسر: نفر"، فأتى به على غير قياس. ومثل ذلك في الصحاح. قال الجوهري: "نُرت من الشيء أنور نوراً بالفتح ونواراً بالكسر". وجاء في اللسان "النوار المصدر" بنون مفتوحة "والنوار الاسم" بنون مكسورة، وفيه تحريف والصواب ما جاء في التاج "والنوار بالكسر المصدر وبالفتح الاسم" كما يدل عليه نصوص المعاجم، ومنها الأفعال لابن القوطية والصحاح، وسياق كلامها. كما شذّ شار الدابة شواراً بالكسر إذا راضها. ففي القاموس: "شار العسل شوراً وشياراً استخرجه من الوقبة" فجاء هذا على القياس. والوقبة النقرة في الصخر والكوة فيها العسل. لكنه جاء: شار الدابة شواراً وشياراً بكسر الشين فيهما إذا راضها، فجاء هذا على غير قياس. ففي اللسان: "شارها شوراً بالفتح وشواراً بالكسر.. راضها أو ركبها عند العرض على مشتريها" وفي التاج مثل ذلك. ولا نظن لنار إذا نفر وشار إذا راض ثالثاً. ونختم هذا الباب بما جاء في الهمع للإمام السيوطي (2/221) : "تبدل الياء بعد كسرة من واو هي عين مصدر لفعل معل العين موزون بفعال، نحو قام قياماً وعاد عياداً، بخلاف عين غير المصدر كصوان وسواك والمصدر المفتوح أوله كرواح أو المضمون كقوار أو المكسور الذي لم تعلّ عين فعله كلاوذ لواذاً وعاود عواداً..". ما القول في (آجر) بالمدّ، هل هو (فاعَل) أو أفعَلَ) ؟ أقول (آجر) بالمدّ أما (أفعَلَ) واسم الفاعل منه (مؤجر) ومصدره (الإيجار) على (إفعال) ، وإما (فاعلَ) فاسم الفاعل منه (مؤاجر) كمقاتل والمصدر (المؤاجرة) كالمقاتلة. وليس منه (اجار) كقتال، فمصدر المفاعلة من (فاعلَ) قياس، أما مصدر (الفعال) بالكسر، فهو سماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 قال الأستاذ محمد العدناني في معجمه (الأخطاء الشائعة) : "ويخطئون من يقول أجَّره الدار فهو مؤجِّر بتشديد الجيم، ويقولون: إن الصواب هو أجَره الدار فهو مؤجر، لأن المعاجم كلها تقول أن الفعل هو: أجر إيجاراً، لا أجَّر تأجيراً". والغريب أن يذكر الأستاذ العدناني في معجمه (أجر) بلا مد على (فعَل) ويجعل اسم الفاعل منه على (مفعل) بضم أوله وكسر ما قبل آخره، أي مؤجر، والمصدر منه على (إفعال) أي إيجار. ولست أدري أي ناقد يقول: "أجره الدار بلا مد فهو مؤجر" فيهدم كل ما قيل في القياس عن صوغ اسم الفاعل من الثلاثي، بل أي معجم يمكن أن ينص على (أجر) بلا مدّ، مصدره (الإيجار) فينقض كل ما أبرمه الأئمة حول مصادر الفعل الثلاثي؟ إلا أن يكون في النص تحريف قد اتفق لمعجم فلا يعقل أن يشمل كل معجم، فكيف يصرف الأستاذ قوله: "إن المعاجم كلها تقول إن الفعل أجر إيجاراً..". وأغرب مما ذكرنا وأذهب في العجب قول الأستاذ العدناني: "وهناك الفعل آجر بالمد بمعنى أجر ولكن اسم الفاعل منه هو مؤجر أيضاً، لا مؤاجر حسب القاعدة"! فانظر إلى قوله (أيضاً) فكيف يكون (مؤجر) اسم فاعل لـ (أجر وآجر) معاً؟ فالمؤجر اسم فاعل من (آجر) إذا كان على (أفعل) ، وليس هو اسم فاعل من (أجر) على (فعل) بحال من الأحوال، لأن الفاعل من هذا هو (أجر) ، وإذا كان على (فاعلَ) فاسم الفاعل (مؤاجر) ، فأي قاعدة هذه قد أوجبت أن يكون الفاعل من (أجر) على (مؤجر) سواء كانت زنته على (فاعلَ) أو (أفعلَ) ؟ وإذا كان الأستاذ قد قصد أن (آجر) بالمد على (أفعل) دون (فاعل) لأنه كذلك في (آجرت الدار) على ما ذهب إليه الزمخشري، كما سيأتي إيضاحه، فلماذا لم يُبن ولم يُفصح، وأنى للقارئ أن يهتدي إلى ما يقوم في نفس الأستاذ، وما يقع في خلده؟. التصحيف في نسخ المعاجم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 بقي أن نقول أن الخطأ الذي حكاه الأستاذ العدناني بقوله (أجره فهو مؤجر) قد يكون أتى به من عثار المصباح: (واختصر الأزهري على أجرته فهو مؤجر) . على أن هذا التصحيف قد تداركه المحقق في نسخة أخرى للمصباح طبعت سنة (1342هـ) ، إذ جاء فيها (واقتصر الأزهري على آجرته فهو مؤجر) . ومثل هذا التصحيف قد عرض في التهذيب. قال الأزهري (ج/11) : "فأجرته أوجره إيجاراً فهو مؤجر" والصواب (آجرته أوجره إيجاراً..) بالمد، وهو واضح، لا يذهب على القارئ المتأمل. وإلا فيكف يكون (فَعَلَ) في عبارة التهذيب، مضارعه (يُفعل) بضم حرف المضارعة كيكرم أو يكون مصدره (الإفعال) ؟ واتفق نظير ذلك في القاموس، في مادة (وجب) . قال الفيروز آبادي: "وأوجب لك البيع مواجبة ووجاباً" وهو تصحيف، والأصل فيه (واجب) لا (أوجب) لأن (أوجب) مصدره الإيجاب، لا المواجبة والوجاب. وقد حكى القاموس ما حكاه عن اللحياني، وعبارة اللحياني في (المحكم) محكمة، وهي: "وقد أوجب البيع واستوجبه، وواجب البيع مواجبة ووجاباً". وقد أشار إليه تصحيف القاموس المحشي فقال: "هذا التصريف لا يُعرف في الدواوين ولا تقتضيه قواعد، فإن مصدر أوجب الإيجاب، والمواجبة والوجاب مقيسان في واجبه". وقد اعتذر صاحب التاج من تصحيف القاموس، فقال: "إن المصنف، أي صاحب القاموس، لم يغفل.. لكنه أجحف بكلام اللحياني".. وقد عجب من مثل هذا الاعتذار صاحب الجاسوس على القاموس، فقال: "وهو اعتذار غريب، فإن الإحجاف هو عين الغفلة". وإذا عدنا إلى اللسان ألفينا فيه التصحيف نفسه إذ جاء فيه: "وأوجب البيع مواجبة ووجاباً". وذكر صاحب الجاسوس أن اللسان قد أورده صحيحاً، فلعل بعض نسخ اللسان قد عريت من هذا التصحيف. القول في (آجر) متى يكون (أفعل) ومتى يكون (فاعل) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 في المعاجم: (أجرت الدار) من الثلاثي فإنا آجر بالمد والدار مأجورة والمصدر الأجر. وثمَّة (آجرت الدار) بالمد من المزيد، وهو إما من (أفعل) فأنا مؤجر بالكسر والدار مؤجرة بالفتح، والمصدر الإيجار، وإما من (فاعل) فأنا مؤاجر بكسر الجيم والدار مؤاجرة بفتحها، والمصدر المؤاجرة. قال صاحب المصباح: "وآجرت الدار والعبد" فأتى به من (فعَلَ) . وقال: "وآجرت الدار والعبد من أفعل، لا من فاعل، ومنهم من يقول آجرت الدار على فاعل فيقول آجرته مؤاجرة". وقال صاحب الكليات أبو البقاء الكفوي: "واختلفت في قولهم آجرت الدار أو الدابة بمعنى أكريتها، هل هو أفعل أو فاعل، والحق أنه بهذا المعنى مشترك بينهما لأنه جاء فيه لغتان، إحداهما فاعلَ ومضارِعه يؤاجر، والأخرى أفعل ومضارعه يؤجر، وجاء له مصدران: فالمؤاجرة مصدر فاعَلَ والإيجار مصدر أفعل". وأضاف المصباح فقال: "ويتعدى إلى مفعولين فيقال آجرت زيداً الدار، وآجرت الدار زيداً على القلب، مثل أعطيت زيداً درهماً وأعطيت درهماً زيداً، ويقال آجرت من زيد الدار، للتوكيد، كما يقال بعت زيداً الدار وبعت من زيد الدار". والمملوك كالدار والعبد فقد جاء في اللسان: "وأجر المملوك يأجره فهو مأجور، وآجره بالمد يؤجره إيجاراً ومؤاجرة". وقال ابن القطاع في كتاب الأفعال: "أجره الله أجراً وآجره يؤجره، والمملوك والأجير أعطيتهما أجرهما كذلك. وآجره يؤاجره، فصار صورة أفعل وفاعل واحدة – ص/21". ولم تفرق المعاجم بين الأجير والدار عامة فلم تخص أحدهما بأفعل أو فاعل، وقد أطلق صاحب المتن للأجير الإيجار والمؤاجرة جميعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وذهب جماعة إلى التخصيص فخصُّوا (الدار) بالإفعال أي الإيجار وعدوا الفعل إلى اثنين، وخصوا (الأجير) بالمفاعلة أي المؤاجرة وعدّوه إلى واحد. قال الزمخشري في الأساس: "وآجرني فلان داره فاستأجرتها وهو مؤجر ولا تقل مؤاجر فإنه خطأ قبيح، وليس هذا فاعل ولكن أفعل، وإنما الذي هو فاعل قولك آجر الأجير مؤاجرة كقولك شاهره وعاومه، وكما يقال عامله وعاقده". وحكى ذلك صاحب المصباح فقال: "قال الزمخشري وآجرت الدار على أفعلت فأنا مؤجر ولا يقال مؤاجر فهو خطأ، ويقال آجرته مؤاجرة مثل عاملته معاملة وعاقدته معاقدة، ولأن ما كان من فاعل في معنى المعاملة كالمشاركة والمزارعة إنما يتعدى لمفعول واحد، ومؤاجرة الأجير من ذلك، فآجرت الدار والعبد من أفعل لا من فاعل.. ويتعدى إلى مفعولين فيقال آجرت زيداً الدار وآجرت الدار زيداً". وحكى ذلك صاحب الكليات أبو البقاء الكفوي فقال: "والمفهوم من – الأساس – وغيره اختصاص آجرت الدابة بباب أفعل، واختصاص آجرت الأجير بباب فاعل. واسم الفاعل من الأول مؤجر بالكسر، واسم المفعول مؤجر بالفتح. ومن الثاني اسم الفاعل مؤاجر بالكسر واسم المفعول مؤاجر بالفتح". خلاصة الرأي في الإيجار والمؤاجرة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 يتبين مما تقدم اختلاف الرأي في ذلك إذ ذهبت جماعة إلى جواز استعمال الإيجار والمؤاجرة للدار وآخرون إلى جواز استعمالهما للأجير. وفرّق بعضهم فخص الإيجار بالدار والمؤاجرة بالأجير، كما فعل الزمخشري وأيده الرضي في شرح الكافية. وحجة أولئك السماع وحجة هؤلاء أن المفاعلة في الأصل (مشاركة ومقابلة) في إيقاع أصل الفعل، فهي تقتضي أن يكون كل من طرفيها أهلاً لإيقاع الفعل كالمضاربة ومثلها المعاملة والمعاقدة والمزارعة، فالمؤاجرة للأجير معاملة ومعاقدة، وليست كذلك للدار، فالدار إذاً أولى بالإيجار منها بالمؤاجرة. والرأي في هذا جزل نضيج، لا سيما وأن ما جاء من المفاعلة بمعنى الأفعال قد خصّ بمعنى زائد ولم يذكر للمؤاجرة التي سمعت بمعنى الإيجار معنى زائد. فنحن إذا عوّلنا على القياس أخذنا بمذهب الزمخشري ومن معه، وإذا عولنا على السماع أخذنا باستعمال الصيغتين لكل منهما، ويبقى اتباع القياس أليق بالمعنى. أجَّرت الدار بالتشديد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 أما (أجَّرت الدار) بالتشديد فليس فيه نص معتمد، إذ ورد في (أجَّر) بالتشديد "أجَّرت الطين إذا جعلته آجراً". وقد منع الأستاذ أسعد خليل داغر في تذكرته والأستاذ العدناني في معجمه (الأخطاء الشائعة) استعمال (أجَّره الدار) بالتشديد بمعنى أجره أو آجره. قال الأستاذ داغر: "ويقولون أجَّرني الدار بالتشديد وهو خطأ صوابه أجرني إيجاراً أي أكراني.. فهو مؤجر وأنا مستأجر. أما أجَّر فلم ترد إلا بمعنى صنع الآجر. يقال أجَّر الرجل أي طبخ الطين آجراً.." والصواب ما ذهب إليه. وقد أساغ الشيخ إبراهيم اليازجي (أجَّره الدار) بالتشديد فقال في رسالته (لغة الجرائد) : "ويقولون أجَّر المنزل تأجيراً أي اكتراه، وهو عكس المعنى لأن التأجير يكون من المالك، تقول أجَّرته المنزل فاستأجره". وقد أكد ما ذهب إليه في مجلة الضياء (1/612) على ما حكاه الأب البولسي في كتابه (مغالط الكتاب ومناهج الصواب) إذ عاب في المجلة قول القائل (أجَّر الدار) بالتشديد بمعنى استأجرها، وقال: "والصواب أجَّره الدار أي أكراه إياه فاستأجرها أي اكتراها". وقد أورد المعجم الكبير الذي ألف بإشراف مجمع اللغة العربية بالقاهرة (أجَّره) . بالتشديد، لكنه أشار إلى أنه (مولَّد) ، كما أشار الشيخ العلايلي في معجمه إلى أنه من اللهجات العامية الشائعة. ما القول في (آمن) بالمد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 ويقول الكتاب حيناً (ومنهم من لا يؤمنون بهذا القول) فيأتون بآمن على فاعل، وليس في العربية آمن كفاعل، وإنما هو عامي، فآمن يؤمن كأفعل يُفعل فهو مُفعل. تقول أمن البلد إذا اطمأن فهو آمن. فإذا عدّيته بالتضعيف فقلت (أمَّنته) بتشديد الميم، ومنه ما جاء في الحديث (آمنوا السبل) أي اجعلوها آمنة، والسبُل بضمتين جمع سبيل. وأنت تعدّيه بزيادة الهمزة فتقول آمنته إيماناً خلاف أخفته. ومنه قوله تعالى: (وآمنهم من خوف (. وفي اللسان: "آمن فلان العدو إيماناً فأمن يأمن، والعدو مؤمَن" بفتح ما قبل آخره. وفي اللسان "واستأمنني فلان فآمنته أومنه إيماناً". وهكذا قولك (آمنت بالله إيماناً) فهو أفعل إفعالاً. وانظر إلى ما جاء في المخصص لابن سيده (13/83) : "الإيمان التصديق وقد آمن وزنه أفعل ولا يكون فاعل. قال الفارسي: لا تخلو الألف في آمن من أن تكون زائدة أو منقلبة، وليس في القسمة أن تكون أصلاً، فلا يجوز أن تكون زائدة لأنها لو كانت كذلك لكانت فاعل، ولو كان فاعل لكان مضارعه يفاعل مثل يقاتل ويضارب في مضارع قاتل وضارب، فلما كان مضارع آمن يؤمن دلّ ذلك على أنها غير زائدة. وإذا لم تكن زائدة كانت منقلبة، وإذا كانت منقلبة لم يخلُ انقلابها من أن يكون عن الياء أو الواو أو عن الهمزة، فلا يجوز أن تكون منقلبة عن الواو لأنها في موضع سكون، وإذا كانت في موضع سكون وجب تصحيحها ولم يجز انقلابها. ويمثل هذه الدلالة لا يجوز أن تكون منقلبة عن الياء. فإذا لم يجز انقلابها عن الواو ولا عن الياء ثبت أنها منقلبة عن الهمزة. وإنما انقلبت عنها ألفاً لوقوعها ساكنة بعد حرف مفتوح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فكما أنها إذا خففت في رأس وفاس وياس انقلبت ألفاً لسكونها وانفتاح ما قبلها كذلك قلبت في نحو: آمن وآجر وآتى، وفي الأسماء نحو: آذر وآخر وآدم. إلا أن الانقلاب ها هنا لزمها لاجتماع الهمزتين، والهمزتان إذا اجتمعتا في كلمة لزم الثانية فيهما القلب بحسب الحركة التي قبلها إذا كانت ساكنة نحو آمن، أومن، أيذَن، أيتمان". يقول أبو علي الفارسي أن الألف التي تلي الهمزة في (آمن) ليست زائدة لأنها لو كانت كذلك لكان (آمن) على فاعل، ولم يسمع. وهي ليست منقلبة عن واو أو ياء لأن هذين إنما ينقلبان إلى الألف إذا تحركا والموضع موضع سكون. قال ابن جني في كتاب التصريف: "فأما الواو والياء فمتى تحركتا وانفتح ما قبلهما قلبتا ألفاً.. نحو قام وباع وأصلهما قوَم وبَيع. وكذلك طال وخاف وهاب والأصل طول بالضم وخوف بالكسر وهيبَ بالكسر، فأبدلتا ألفين لما ذكرنا". فلا يبقى إلا أن تكون قد انقلبت عن همزة، وإنما تقلب الهمزة ألفاً إذا سكنت. قال ابن جني: "متى سكنت الهمزة وانفتح ما قبلها فتخفيفها وإبدالها جميعاً أن تصيِّرها ألفاً في اللفظ، فالتخفيف في قولك في رأس راس، وفي فأس فاس، وفي اقرأ اقرا وفي اهدأ اهدا. والبدل في قولك آدم وآمن والأصل أأدم وأ أمن فأبدلت الهمزة الثانية ألفاً لاجتماع الهمزتين وسكون الثانية وانفتاح ما قبلها". القول في (آنس) ويقول الكتاب حيناً (هو يؤانس من فلان ميلاً إليه) أي شعر منه بميل، فيأتون بالفعل من صيغة فاعل، على ما يوهم لفظ ماضيه، لأنه بعد الإعلال يصير آنس بالمد. وإنما هو أفعل لا فاعل لان أصله أأنس بهمزتين، فالصواب في مضارعه يؤنس مثال يكرم. هذا ما أورده الشيخ إبراهيم اليازجي في رسالته (لغة الجرائد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 والقول عندي أن ما سمع هو قولهم (أنست به أنَسا) بفتحتين ضد توحشت و (أنست إليه) إذا سكنت إليه واطمأنت. ومنه (الأنس) بالضم خلاف الوحشة. ومنه الأنيس أيضاً. ويأتي متعديه على (آنسه إيناساً) . ففي الصحاح: "والإيناس خلاف الإيحاش" فدل بهذا على أنه (آنسه) بهذا المعنى كأفعله. وقال: "والأنيس المؤانس" فدل به على أن (آنسه) كفاعله بالمعنى نفسه. أما قولك (آنست الشيء بالمد بمعنى أبصرته وعلمته، كما في الأفعال لابن القوطية، وسمعته كما في الصحاح، فليس فيه إلا الإيناس. ذلك أنه من أفعله يفعله إفعالاً ومنه قوله تعالى: (إني آنست ناراً لعلِّي آتيكم منها يقبس ((طه/ 10) وقوله تعالى: (فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً ((النساء/ 5) . قال الإمام البيضاوي في تفسير قوله تعالى: (إني آنست ناراً (وقيل الإيناس إبصار ما يؤنس به"، فأتى بالإيناس إشارة إلى أن المصدر هو الإفعال. وجاء في الحديث: "ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إيناسها" قال ابن الأثير في النهاية: "أي أنها يئست مما كانت تعرفه وتدركه من استراق السمع" فأورد الإيناس بمعنى المعرفة والعلم. القول في آسى وآخى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 آسى على فاعلَ وأصله أاسى بهمزة مفتوحة بعدها ألف (فاعلَ) ، ومضارعه (يؤاسي) بضم أوله على يُفاعل. وكذلك (آخى) فإن مضارعه يؤاخي، والمصدر المؤاساة والمؤاخاة. وقد شاع على الألسنة قولهم (المواساة) بالواو بدلاً من الهمزة، فمنع ذلك بعضهم. قال صاحب الصحاح "وآسيته بمالي مؤاساة أي جعلته أسوتي فيه، وواسيته لغة ضعيفة فيه". وقال أيضاً: "وقد آزيته إذا حاذيته ولا تقل وازيته" وجاء في درة الغواص للحريري أبي القاسم: "وأما إياس فهو عند المحققين مصدر أسته أعطيته والاسم منه الأوس الذي اشتقت منه المواساة" فأتى بالمواساة بالواو، وعقب عليه الخفاجي أحمد شهاب الدين شارح الدرة فقال: "وقوله اشتقوا منه المواساة فيه أن مادة أوس من الأجوف والمواساة معتلة اللام فهما أصلان مختلفان. وأيضاً المواساة بالواو وإن جوّزت على قلة خطأ عند المصنف والصواب المؤاساة بالهمزة". أقول أجاز ابن جني قولك (أواسيه) بالواو في كتابه الخصائص (1/187) فقال: "آسيت الرجل فأنا أواسيه وآخيته فأنا أواخيه" وعلل ذلك فقال: "اجتمعت الهمزتان فقلبت الثانية واواً لانضمام ما قبلها.. أصله أآسٍوك، بهمزة مضمومة بعدها مد، وسين مكسورة بعدها واو مضمومة، لأنه أفاعلُك من الأسوة، فقلبت الواو ياء لوقوعها طرفاً بعد الكسرة، وكذلك أواخيك وأصله أآخِوُك بكسر الخاء وضم الواو من الأخوة" وأردف: "وأما.. تغيير الهمزة بقلبها واواً فالقول فيه أنه اجتمعت في كلمة واحدة همزتان غير عينين، الأولى منهما مضمومة والثانية مفتوحة، وكلتاهما حشو غير طرف، فاستثقل ذلك فقلبت الثانية على حركة ما قبلها وهي الضمة واواً..". ومن ثم ترى أن في قولك (المواساة) بالواو وجهاً صالحاً ومذهباً متقبلاً، وجرى ذلك في شعر معتمد، كما جرى في كلام الفصحاء. ففي شرح الحماسة للمرزوقي (ص/ 404) : "قال محمد بن عبد الله الأزدي: ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه لترجعه يوماً إليّ الرواجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 قوله أواسيه أي أجعله أسوة نفسي فأقاسمه مالي وملكي. يقول: لكن أتناسى ذنوبه وهفواته وأتغابى جرائمه وزلاته، وأحسنُ التأتي في أثناء ذلك لمواساته". أقول أورد الشاعر الأزدي (أواسيه) بالواو لأنها لغة اليمن، وقد جروا على ذلك، وأقره المرزوقي واستحسنه. وجاء في المصباح: "ويجوز إبدال الهمزة واواً في لغة اليمن فيقال أواسيه". وجاءت (المواساة) بالواو في الحديث. قال ابن الأثير في النهاية: "وقد تكرر ذكر الأسوة والمواساة في الحديث، والأسوة بكسر الهمزة وضمها القدوة، والمواساة المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق، وأصلها الهمزة فقلبت واواً تخفيفاً". فالمواساة في الأمر تعني المساواة فيه، وهي ترد من ثَمَّ، في ما يسرّ وما يحزن على السواء. فقد جاء في لطائف اللطف لأبي منصور النيسابوري الثعالبي قول علي بن الجهم "إن واسيناكم ساويناكم" وقال دعبل الخزاعي: إنّ أولى البرايا أن تواسيه عند المسرّة من واساك في الحَزَن القول في تعدية المفاعلة لا شك أن الأصل فيما جاء من المفاعلة للمشاركة فعلاً، وأصله الثلاثي لازم، أن يتعدى إلى مفعول واحد كجالسه وكارمه وماشاه وجاراه وسايره وفاخره ونازله من جلس وكرم وسهر ومشى وجرى وسار وفخر ونزل، وقد ذهب ابن هشام في مغني اللبيب (2/113) في باب الأمور التي يتعدى بها الفعل القاصر، إلى أن ألف المفاعلة من هذه الأمور، إذ قال: "الأمور التي يتعدى بها الفعل القاصر أحدها همزة أفعل نحو (أذهبتم طيباتكم (.. الآية. الثانية: ألف المفاعلة تقول في جلس زيد ومشى وسار جالست زيداً وماشيته وسايرته.." ويغلب هذا أيضاً فيما كان فعله الثلاثي متعدياً إلى واحد، إذ تتعدى المفاعلة فيه إلى مفعول واحد أيضاً كضاربه وقاتله وشاركه وصارعه من ضربه وقتله وشركه وصرعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وقد تتعدى المفاعلة إلى اثنين ويكون أصلها الثلاثي متعدياً إلى واحد كما يجري في المفاعلة التي يوقع فيها كل من الطرفين أصل الفعل على مفعول، بدلاً من أن يوقع كل منهما أصل الفعل على صاحبه. ومن ذلك (نازعته الأمر) . ففي نهج البلاغة: "وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي – 2/103" وفي الأساس (نازعه الكلام) . ومنه (ناقشته الحساب) . فعن عائشة رضي الله عنها: "من نوقش الحساب عُذِّب" وهو من ناقشه الحساب، وقد حكاه الزمخشري في الأساس. ومنه (قاسمه الأمر) . ففي الصحاح: "قاسمه المال وتقاسماه واقتسماه بينهما". ومنه (جاذبه الحديث) . ففي الصحاح: "وجاذبته الشيء إذا نازعته". وفي الأساس "وجاذبه الثوب وتجاذبوه". ومنه (شاطره الربح) ، ففي الصحاح: "وشاطرت فلاناً مالي إذا ناصفته". ومنه (نافسه الأمر) . قال الشاعر: وإن قريشاً مهلك من أطاعها تنافس دنيا قد أحم انصرامها فقول الشاعر (تنافس دنيا) على معنى (تنافس في دنيا) كما في اللسان. فصح بذلك (نافسه دنيا) كنافسه في دنيا. وجاء (تنافسوه) ففي اللسان: "وتنافسنا ذلك الأمر وتنافسنا فيه". وفي الحديث: أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم". على أن من هذه المفاعلة التي تتعدى إلى اثنين ما أصله الثلاثي لازم. ومن ذلك (ساقطه الحديث) . ففي الإفصاح: "ساقطه الحديث سقاطاً ومساقطة إذا سقط منك إليك ومنك إليه". الحذف والإيصال في المفاعلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 قصد النحاة بالحذف والإيصال حذف الجار وإيصال العامل إلى المجرور ليباشره، دون ما حاجة إلى صلة من حرف فإذا كان الفعل العامل يباشر مفعولاً واحداً ويصل إلى متعلقه بجار ثم حذف الجار، أصبح يباشر مفعولاً آخر إلى مفعوله الأول. وقد مثلوا لذلك بقوله تعالى: (واختار موسى قومه سبعين رجلاً (- الأعراف/154 فقد قيل أن الأصل فيه (اختار موسى من قومه سبعين رجلاً) ثم حذف الجار فانتصب (قومه) وأصبح الفعل متعدياً إلى مفعولين، بعد أن كان متعدياً إلى واحد. وقالوا أن ذلك موقوف على السماع إذ يقتصر فيه على المسموع، عند الأكثرين. ومنه قولهم (استغفر الله ذنباً) والأصل فيه (من ذنب) ، وقولهم (أمرتك الخيرَ) والأصل فيه (أمرتك بالخير) . قال سيبويه في الكتاب: "وليس استغفر الله ذنباً، وأمرتك الخير، كثيراً في كلامهم جميعاً، وإنما يتكلم به بعض العرب. وليس كل ما كان متعدياً من الفعل بحرف جر جاز حذفه، إلا ما كان مسموعاً". وقال أين يعيش في شرح المفصل (8/51) : "وهذا الحذف وإن كان ليس بقياس، ولكن لا بد من قبوله لأنك إنما تنطق به وتحتذي في جميع ذلك، أمثلتهم، ولا تقيس عليه". فهل في أفعال المفاعلة ما يتعدى إلى مفعولين بحذف الجار، وأصله التعدي إلى مفعول واحد؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 أقول مر بنا قولهم (ناقشه الحساب) فإنك تقول فيه (ناقشه في الحساب) أيضاً، وهما بمعنى. ففي الأساس: "وناقشه الحساب وفي الحساب"، فإذا كان الأصل هاهنا تعدية المفاعلة إلى مفعول واحد، وأنها عدِّيت إلى اثنين بحذف الجار، فقد صح بذلك أن قولك (ناقشه الحساب) من قبيل الحذف والإيصال. ومما يدلك على أن الأصل فيه التعدية إلى واحد اكتفاء بعض المعاجم بالقول "وناقشته مناقشة استقصيت في حسابه"، دون التصريح بتعديته إلى المفعول الثاني، كما فعل صاحب المصباح. وقد ابتدأ الصحاح بالقول: "والمناقشة الاستقصاء في الحساب" ثم أورد الحديث "من نوقش الحساب عُذب"، فدل به على جواز تعديته إلى اثنين. ولا ننس أن الأصل في المفاعلة التي هي للمشاركة عامة أن تتعدى إلى واحد. كما مرّ بنا قولهم (نافسه الأمر) و (نافسه فيه) وأن الأصل نافسه فيه، وهما بمعنى، فثبت بهذا أنه على الحذف والإيصال. وثمة (نازعه الأمر) و (نازعه فيه) ، وليسا هما بمعنى عند التحقيق. فنازعه الأمر على معنى مجاذبة الشيء، وإذا جاذب خالد صاحبه شيئاً فقد حاول كل جذب الشيء إليه، وكذلك نازعه الأمر. ولا تقتضي المجاذبة هنا أو المنازعة مخاصمة أو عداوة بالضرورة. فانظر إلى قول الزمخشري في الأساس "ونازعه الكلام.. والفرس ينازع فارسه العنان، ونازعني بنانه: صافحني" فليس في أي صورة من هذه الصور مخاصمة أو معاداة. وفي النهاية: "ومنه الحديث: مالي أُنازع القرآن أي أجاذب في قراءته كأنهم جهروا بالقراءة خلفه فشغلوه" أي أنه نازعهم قراءة القرآن حين جهروا به فجاذبوه القراءة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 فإذا عرفنا أن (نزع) في الأصل بمعنى (جذب) . قال الزمخشري في الأساس: "نزع من يده: جذبه وانتزعه.. ونزع الدلو من البئر.. ونازعه الثوب: جاذبه". أقول إذا عرفنا أن (نزع) بمعنى جذب أصلاً فقد اتضح بهذا أن (نازعه الكلام) بتعدية المفاعلة إلى مفعولين، هو الأصل كجاذبه إياه. فقد جاء في الأساس "ونازعه الكلام" كما جاء فيه "وتجاذبوا أطراف الكلام". وفي الصحاح: "وجاذبته الشيء إذا نازعته إياه" فهما بمعنى. وكذلك تنازعوه كتجاذبوه وتبادلوه وتقاسموه. ففي الأساس: "وتنازعوا الكأس تعاطوها". وجاء في كتاب كليلة ودمنة (في باب عرض الكتاب) : "ويكون مثل أصغر الأخوة الثلاثة الذين خلَّف لهم أبوهم المال الكثير، فتنازعوه بينهم، فأما الكبيران فإنهما أسرعا في إتلافه وإنفاقه في غير وجهه.. وأما الصغير فإنه عندما نظر إلى ما صار إليه أخواه.. أقبل على نفسه يشاورها..". فقوله (تنازعوه بينهم) بمعنى تناولوه وتقاسموه. أما (نازعه فيه) فإن له شأناً آخر. قال صاحب الأساس: "نازعته في كذا: خاصمته، منازعة ونزاعاً" فنازعه فيه على معنى خاصمه فيه وقد يتجاوز هذا المعنى إلى عاداه. وهذا المعنى مجاز من معنى المجاذبة الذي هو الأصل. فقولك (نازعه الأمر) جاء على الأصل، فليس هو إذاً على الحذف والإيصال. أما (نازعه فيه) فقد جاء على معنى (المخاصمة أو المعاداة) فحمل عليها حين ضُمِّن معناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وقد عاب النقاد قول الكتاب (وإني لأشاركك أحزانك) بحذف الجار وتعدية (المشاركة) إلى مفعولين حملاً على (المشاطرة) فهل هذا صحيح؟ أقول إن حذف الجار هنا من قبيل الحذف والإيصال إذا صح، لكنه ليس صحيحاً لأن حذف الجار سماع وليس قياساً، كما تقدم، فليس حمل المشاركة على المشاطرة سائغاً أو مستقيماً، فإذا أخذت به كنت آخذاً بفاسد. فقولك: (شاركت في كذا) يعني أنك شريك فيه، تقول أنا شريكك فيما عراك من هذه النائبة وفيما نالك وفيما ضربك وفيما دهاك، كما قال الهمذاني في ألفاظه الكتابية. وتقول بمعناه: أشاركك فيما عراك ونابك وفيما ضربك ودهاك. قال الشاعر: إذا أنت لم تشرك رفيقك في الذي يكون قليلاً لم تشاركه في الفضل وهو من أبيات ديوان الحماسة. ولكن جاء في المقامة الشيرازية لأبي الفضل بديع الزمان الهمذاني: "قد أرضعتك ثدي حرّته، وشاركتك عنان عصمته"، فهل يعوّل على هذا في تعدية المشاركة إلى مفعولين إذا صح أنه نص معتمد؟ أقول لا يعوّل على هذا، وقد يكون الهمذاني قد دُفع إليه قصد المزاوجة بين (ثدي حرّته) و (عنان عصمته) وإحكام السجع، وقد أجاز الأئمة للشاعر والساجع ما لم يجيزوه للناثر. قال ابن جني: "فإن صح عندك أن العرب لم ينطق بقياسك أنت، كنت على ما أجمعوا عليه البتة" وأردف: "وأعددت ما كان قياسك أدّاك إليه لشاعر مولّد أو لساجع أو لضرورة، لأنه على قياس كلامهم، بذلك وصَّى أبو الحسن – الخصائص – 1/132". وقال الإمام ابن بري في كتابه (اللباب في الرد على ابن الخشاب) منتصراً لأبي محمد القاسم الحريري صاحب المقامات: "اعلم أن للسجع ضرورة الشعر وأن له وزناً أيضاً هي ضرورة الوزن في الشعر، في الزيادة والنقصان والإبدال.." الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ومرّ بنا (قاسمه الأمر) . ففي اللسان: "وقاسمته المال أخذت منه قسمك وأخذ قسمه. وقسيمك الذي يقاسمك أرضاً أو داراً أو مالاً بينك وبينه.. وهذا قسيم هذا شطره" فقد أشار إلى أن (القسيم) قد يكون بمعنى المقاسم وأوضحه فقال: "وقسيم فعيل بمعنى مقاسم مفاعل كالسمير والجليس والزميل" وقد يكون بمعنى المقسوم، كما هو جلي في قوله "وهذا قسيم هذا شطره" فالفعيل هنا بمعنى المفعول. وقد تضمن النص تعدّي (المقاسمة) إلى مفعولين، قال الشاعر: أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي وقالت امرأة من بني شيبان: وقالوا ماجداً منكم فقلنا كذاك الرمح يكلف بالكريم بعين أباغَ قاسمنا المنايا فكان قسيمها خير القسيم قال المرزوقي في شرح الحماسة: "وكأنه كان للمنايا نصيب فيهم فقاسمتهم على نصيبها، فوقع إليها خير النصيب. والمعنى اختارت منهم الأمثل فالأمثل وغادرت الفلّ منهم والمسترذل. وقوله: قسيم، في معنى مقسوم، وقد يكون القسيم المقاسم.." وأردف: "وقاسم يقتضي مفعولاً آخر كأنه قال قاسمنا المنايا الناس أو الأصحاب. وقوله قسيمها كقولك نصيبها، وخير القسيم خير الأنصباء – 882". فقد أوضح المرزوقي أن قول الشاعر (قاسمنا المنايا) إنما جاء على حذف المفعول الثاني، لأن الأصل (قاسمنا المنايا الناس أو الأصحاب) . أما قول المرزوقي (فقاسمتهم على نصيبها) أي قاسمت المنايا الناس على نصيبها، فلا ينقض ما قلنا من تعدي (المقاسمة) إلى مفعولين. فعبر بقوله (قاسمتَهم على نصيبها) أن المقاسمة قد جرت بين المنايا والناس على نصيبها، فقد ساق (المقاسمة) على أنها معاقدة في القسمة قد جرت على هذا النصيب فأغنى ذلك عن نصب المفعول. وقال الشاعر: وقاسمني دهري بني بشطره فلما تفضَّى شطره عاد في شطري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فقال المرزوقي: "ومعنى بشطره كأن الدهر ادّعى أنه قسيمه في بنيه وأن له منهم الشطر وهو النصف، فقاسمه على ذلك، فلما استوفى حظه أقبل يأخذ من نصيبه الذي كان أقر له به وساهمه عليه". فقد رأيت أن المرزوقي قد عاد إلى استعمال (قاسمه عليه) وأشار من جانب خفي إلى العقد الذي تصوره بين الشاعر ودهره حول اقتسام البنين بقوله: "فلما استوفى حظه أقبل يأخذ من نصيبه الذي كان قد أقر له به، وساهمه عليه". وتقول (قارع القوم على كذا وتقارعوا واقترعوا) إذا قاسموا وتقاسموا واقتسموا بالقرعة، أي تعاقدوا فاتفقوا على تعيين أسهمهم وأنصبائهم بالقرعة. وقد تكون المقاسمة وجهاً من وجوه المقارعة والمساهمة. وهل يصح قولك (قاسمه في كذا) ؟ أقول إنما يصح (قاسمه في كذا) على حذف المفعول أيضاً، إذا كان في الكلام ما يغني عن ذكره. فانظر إلى ما جاء في مقدمة كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه لأبي الحسن القاضي الجرجاني: "وما عقوق الوالد البرّ، وقطيعة الأخ المشفق، بأشنع ذكراً، ولا أقبح وسماً من عقوق من ناسيك إلى أكرم آبائك، وشاركك في أفخر أنسابك، وقاسمك في أزين أوصافك، ومتّ إليك بما هو حظك من الترف وذريعتك إلى الفخر..". فقوله (وقاسمك في أزين أوصافك) إنما يصح على حذف المفعول، كأن يكون تقدير الكلام (وقامسك نصيبك أو حظك في أزين أوصافك) . أما (ساهمة) فالأصل في معناه (قارعه) . ففي اللسان "استهم الرجلان تقارعا، وساهم القوم فسهمهم سهماً قارعهم فقرعهم، واستهموا اقترعوا وتساهموا تقارعوا". وإذا كان من معاني المقارعة المضاربة بالسلاح، فإن منها المغالبة في القرعة، والقرعة بالضم السهم والنصيب، وإلقاء القرعة عمل يتعين به سهم الإنسان ونصيبه. وتقول من ذلك أسهمت لنفسي في كذا إذا جعلت لها نصيباً فيه، كما في الأفعال لابن القوطبة، فأسهمت في كذا إذا شاركت. وهكذا انتهت (المساهمة) إلى معنى المشاركة. قال زهير بن أبي سلمى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 أيا ثابت ساهمت في الحزم أهله فرأيك محمود وعهدك دائم وقد أنكر بعضهم ذلك ومنهم أحمد العوامري عضو المجمع القاهري ومحمد محمود البزم الشاعر اللغوي الدمشقي، رحمهما الله قال الأستاذ البزم في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق: "ساهمت بمعنى قارعت، وهي قريبة بمعناها مردودة بلزومها، وهي متعدية عدد شهري تموز وآب سنة 944/368". أقول إذا قال الكتَّاب (ساهمت في كذا) فليس هو على اللزوم، وإنما هو على حذف المفعول لظهور معناه. وإنك لتقول (ساهمت في كذا) كما تقول شاركت في كذا، والقاعدة أن المحذوف من اللفظ إذا دلت الدلالة عليه كان بمنزلة الملفوظ، كما يقول ابن جني في الخصائص. ومعنى المشاركة في المساهمة قائم، على كل حال، كما رأيت، وعليه النصوص وكلام الفصحاء. ففي النهاية لابن الأثير (مادة شدد) : "يريد أن القوي من الغزاة يساهم الضعيف فيما يكسبه من الغنيمة" وفيها أيضاً (مادة أسا) : "والمواساة المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق". وجاء في كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي: "وقد ساهمتك في جمع ما وقرته في أذني من ألوان الشكوى، بالجزع والترجع والاستفظاع والتوجع". وقال ابن منظور في مقدمة معجمه (لسان العرب) : "فاستخرت الله سبحانه وتعالى في جمع هذا الكتاب المبارك الذي لا يساهم في سعة فضله ولا يشارك". وفي مقدمة كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه لأبي الحسن القاضي الجرجاني قوله: "وأهل النقص رجلان: رجل أتاه التقصير من قبَله وقعد به عن الكمال اختياره، فهو يساهم الفضلاء بطبعه ويحنو على الفضل بقدر سهمه، وآخر رأى النقص ممتزجاً بخلقته..". أما (التساهم) فقد جاء بمعنى التقاسم. قال الحكم الحُضري: تساهم ثوباها ففي الدرع رأدة وفي المرط لفَّاوان ردفهما عبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 قال المرزوقي في شرح الحماسة (ص/ 1317) : "تساهم تقاسم، ولذلك قيل سُهمة فلان بالضمة من هذا كذا، أي قسمته ونصيبه.. وانقسم جسم هذه المرأة بين درعها وإزارها، ففي درعها بدن ناعم وخصر دقيق، وفي مرطها فخذان غليظان عليهما ردف ضخم. والرأدة الناعمة واللفَّاء الكثيرة اللحم". أراد الشاعر أن ثوبي المرأة قد تساهما أو تقاسما جسمها، فكان نصيب الدرع منهما بدناً ناعماً وخصراً دقيقاً، وكان نصيب المرط منهما، وهو الكساء من صوف أو خَزّ، فخذين مكتنزين ردفهما ضخم سمين. وقد أورد الزمخشري في الأساس هذا البيت فقال: "وتساهموا الشيء تقاسموه". وقال ابن جني في الخصائص (1/68) : "وهو كتاب يتساهم ذوو النظر من المتكلمين والفقهاء و.. التأمل له". وجاء في اللسان (مادة عدد) : "تساهموه بينهم". على أن في قولك (ساهمه في كذا) إذا شاركه و (تساهماه) إذا تقاسماه نظراً، ذلك أنه إذا كان (فاعلَ) متعدياً إلى مفعول واحد نحو (ضاربه) ، جاء (تفاعل) لازماً بلا مفعول صريح نحو (تضاربا) . وإذا كان متعدياً إلى مفعولين نحو (جاذبته الثوب) ، جاء (تفاعل) بمفعول واحد، نحو (تجاذبا الثوب) . فكيف أتى (ساهمته في كذا) متعدياً إلى مفعول واحد، وجاء (تساهماه) متعدياً إلى مفعول واحد أيضاً؟ والأصل أن يأتي (تساهماه) بمفعول واحد من (ساهمه الشيء) بمفعولين، كما جاء تقاسماه من قاسمه الشيء، ولم يسمع (ساهمه الشيء) ، وإنما هو (ساهمه في الشيء) ! وسبب ذلك وعلته عندي أن (المساهمة) ليست أصلاً في معنى المشاركة وإنما تدرج معناها إليها، وكذلك (التساهم) ليس أصلاً في معنى التقاسم وإنما تدرج معناه إليه. ولو كان (التساهم) بمعناه هذا وهو التقاسم أصلاً لكانت (المساهمة) بمعنى المقاسمة، وليست كذلك، وإنما هي المشاركة، فتأمَّل. ولكن هل تقول (ساهمته في كذا) بمعنى شاركته فيه (فتساهمنا فيه) إذا اشتركنا فيه أو تشاركنا؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أقول جاء في (كتاب فضل هاشم على عبد شمس) للجاحظ، في حديثه عن حلف الفضول: "فكان هذا الحلف في بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزى وبني زهرة وبني تيم بن مرة. تعاقدوا في دار عبد اله بن جُدعان في شهر حرام قياماً يتماسحون بأكفهم صعداً ليكونُنّ مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه، ما بلّ بحرٌ صوفه. وفي التآسي في المعاش والتساهم بالمال"، فعدّى التساهم كما يتعدّى التآسي. ففي القاموس "وآساه بماله مواساة أتاله منه" أي أشركه فيه. فالتآسي في المعاش الاشتراك فيه، وكذلك التساهم بالمال. فانظر إلى ما جاء في النهاية لابن الأثير: "والمواساة المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق". وإذا كانت المواساة مشاركة ومساهمة في المعاش، فالتآسي والتساهم اشتراك فيه. وقد حضر الرسول (هذا الحلف وقال فيه: "لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت". *** وبعد فهذا ما اتفق لنا من البحث في باب المفاعلة من أفعال المشاركة، إن من حيث بنيته اللفظية أم من حيث استعماله في وجوه التعبير المختلفة، مما يلتبس على الكتاب موضعه. ولم نخلد في ذلك إلى سانح خاطر أو نزوة فكر بل عمدنا إلى النظر والمقابلة والموازنة التماساً للصواب وتحريراً للمراد، وحرصاً على ألا يغمض منه شيء على القراء أو يستر عنهم، وتوطئة لانقياد ما تصعب منه وإمكان ما امتنع. ونرجو ألا يكون قد قصرّ سعينا عن تحري الحق في هذا السبيل، وإن عزّ مطلبه واشتد إدراكه. وحسبنا أننا دللنا على منهاج البحث وأرينا موضوعه ليعرف وجه مطلبه والوقوع عليه فتخف الكلفة في الكشف عن غامضه، ومن الله العون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 النحاة ومصادر الأفعال ما عُرّف به المصدر: المصدر هو اللفظ الدال على حدث الفعل المجرد من الزمان، متضمناً أحرف فعله، فهو يدل على الحدث من حيث تعلقه بفاعله ولكن على وجه العموم والإبهام، غير مقيد بزمن. والفعل كذلك موضوع للحدث ولمن يقوم به ذلك الحدث على وجه الإبهام، كما يقول صاحب الكليات أبو البقاء الكفوي، ولكن في زمن معين. فالحدث والزمان كلاهما يفهمان من لفظ الفعل لأن كل واحد منهما جزء مدلوله بخلاف المصدر فإن المفهوم من لفظه الحدث وحده. قال ابن جني في الخصائص (1/25- ط/1913) : "وهذا طريق المصدر لما كان جنساً لفعله، ألا ترى أنه إذا قام قومة واحدة فقد كان منه قيام، وإذا قام قومتين فقد كان منه قيام، وإذا قام مائة قومة فقد كان منه قيام. فالكلام إذاً إنما هو جنس للجمل التوام مفردها ومثناها ومجموعها، كما أن القيام جنس للقومات مفردها ومثناها ومجموعها. فنظير القومة الواحدة من القيام، الجملة الواحدة من الكلام، وهذا جلي". المصدر واسم المصدر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فالمصدر من حيث المعنى، يدل على الحدث من حيث تعلقه بفاعله. قال الرضي في شرح الكافية: "الحدث إن اعتبر صدوره عن الفاعل ووقوعه على المفعول سُمي مصدراً، وإذا لم يعتبر من هذه الحيثية سمي اسم مصدر". وقال ابن القيم في بدائع الفنون: "وأما الفرق المعنوي بين المصدر واسم المصدر فهو أن المصدر دال على الحدث وفاعله. فإذا قلت تكليم وتسليم وتعليم ونحو ذلك، دل على الحدث ومن قام به، فيدل التسليم على السلام والمسلِّم، وكذلك التكليم والتعليم. وأما اسم المصدر فإنما يدل على الحدث وحده فالسلام والكلام لا يدل لفظهما على مسلّم ومكلّم بخلاف التسليم والتكليم، فاسم المصدر جردوه لمجرد الدلالة على الحدث". وهكذا فإن المصدر يدل على معنى الفعل من حيث تعلقه بفاعل أو مفعول، واسم المصدر يدل على الفعل دون النظر إلى تعلقه بفاعل أو مفعول، قال صاحب الكليات (823) : "وقيل المصدر موضوع للحدث من حيث اعتبار تعلقه بالمنسوب إليه على وجه الإبهام. ولهذا يقتضي الفاعل والمفعول، ويحتاج إلى تعيينهما في استعماله. واسم المصدر موضوع لنفس الحدث من حيث هو، بلا اعتبار تعلقه بالمنسوب إليه في الموضوع له، وإن كان له تعلق في الواقع، ولذلك لا يقتضي الفاعل والمفعول، ولا يحتاج إلى تعيينهما". خصوص اسم المصدر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 والمصدر من حيث اللفظ، هو الجاري على فعله متضمناً أحرف هذا الفعل. قال ابن القيم في (بدائع الفنون) : "إن المصدر هو الجاري على فعله الذي هو قياسه كالأفعال من أفعل والتفعيل من فعَّل والانفعال من انفعل والتفعل من تفعل. وأما السلام والكلام فليسا بجاريين على فعليهما، ولو جريا عليه لقيل تسليم وتكليم". ويدل هذا على أن المصدر ما ساوت حروفه حروف فعله لفظاً كجرى جرياً، أو تقديراً كجادل جدالاً فقد خلا الجدال من ألف جادل لفظاً لا تقديراً، أو معوضاً مما حذف كوعد عدة فقد خلا (عدة) من واو (وعد) ولكن عوّض منها التاء. أو زادت حروفه كقاتل مقاتلة وأعلم إعلاماً. أما اسم المصدر من حيث لفظه فهو ما نقصت أحرفه عن أحرف فعله كالصلح اسم مصدر للمصالحة، والوضوء اسم مصدر للتوضؤ، فهما خاليان لفظاً وتقديراً من بعض ما في فعليهما. ويكون (المصدر الميمي) بهذا الاعتبار مصدراً، كقال مقالاً وأكرم مُكرماً، خلافاً لمن اعتدّه من أسماء المصادر. قال ابن هشام في شرح شذور الذهب: "اسم المصدر وهو يطلق على ثلاثة أمور: أحدها ما يعمل اتفاقاً، وهو ما بدئ بميم زائدة لغير المفاعلة كالمضرب والمقتل وذلك لأنه مصدر في الحقيقة، ويسمى المصدر الميمي، وإنما سموه أحياناً اسم مصدر تجوزاً.. والثاني ما لا يعمل اتفاقاً وهو ما كان من أسماء الأحداث علماً كسبحان علَماً للستبيح وفجارِ وحمادِ علَمين للفجرة والمحمدة. والثالث ما اختلف في أعماله، وهو ما كان اسماً لغير الحدث فاستعمل له كالكلام فإنه في الأصل اسم للملفوظ به من الكلمات ثم نقل إلى معنى التكليم والثواب فإنه في الأصل اسم لما يُثاب به العمال ثم نقل إلى معنى الإثابة، وهذا النوع ذهب الكوفيون والبغداديون إلى جواز إعماله.." الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ولاسم المصدر خصوص آخر ذكره ابن هشام في شرح شذور الذهب، كما تقدم، ذلك أنه اسم للحدث من جهة واسم للعين من جهة أخرى، ولا يعنينا أيهما الأصل اسم الحدث أو اسم العين. فقد ذكر الرضي في شرح الكافية أن اسم المصدر هو اسم العين المنقول إلى الحدث إذ قال: "اسم المصدر هو اسم العين يستعمل بمعنى المصدر كقوله: أكفراً بعد ردّ الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا أي إعطائك.. والعطاء في الأصل لما يعطى". فذهب الرضي بهذا إلى أنه ليس ثمة اسم مصدر دال على الحدث إلا واسم العين أصل له. وأكد صاحب المصباح أن (الكلام) ، اسماً للعين، هو الأصل، وأنه، اسماً للحدث، هو الفرع، فقال: "كلَّمته تكليماً والاسم الكلام.. والكلام في أصل اللغة عبارة عن أصوات متتابعة لمعنى مفهوم. وفي اصطلاح النحاة هو اسم لما تركب من مسند ومسند إليه، وليس هو فعل المتكلم. وربما حصل ذلك نحو: عجبت من كلامك زيداً". فالكلام الذي هو فعل التكليم هو الفرع. وإذا كان ما ذهب إليه صاحب المصباح من أن (الكلام) في أصل اللغة، هو أصوات متتابعة لمعنى مفهوم، يعني أن اسم المصدر الذي هو موضوع (الحدث) هو الفرع، والدال على (العين) هو الأصل، فإن في طبيعة نشوء اللغة وتوالد معانيها، ما يؤيد هذا المذهب ويدعمه، ولو أن مدار البحث لدى النحاة حيناً أن اسم المصدر في الأصل هو اسما لجنس المراد به الحدث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 أقول على ذلك جرى الأوائل من النحاة. فقد أشار ابن جني (ت 392هـ) في الخصائص (1/23) إلى أن الكلام هو موضوع الحدث حين قال: "وذلك أن الكلام اسم من كلَّم بمنزلة السلام من سلَّم، وهما بمعنى التكليم والتسليم، وهما المصدران الجاريان على كلَّم وسلَّم". فما دام الكلام كالتكليم من حيث معناه فإنه اسم للحدث. كما أنه أشار إلى أنه اسم عين حين قال (1/30) : "إن الكلام إنما هو في لغة العرب عبارة عن الألفاظ القائمة برؤوسها المستغنية عن غيرها وهي التي يسميها، أهل هذه الصناعة، الجمل على اختلاف تركيبها". وهكذا فعل أبو محمد عبد الله الخفاجي (ت 466هـ) في سر الفصاحة. فقد نبه أن (الكلام) اسم للحدث حين قال (24) : "الكلام اسم عام يقع على القليل والكثير، وذكر السيرافي أنه مصدر، والصحيح أنه اسم مصدر، والمصدر التكليم، قال الله تعالى: (وكلم الله موسى تكليماً (. فما دام الكلام اسماً للتكليم فهو اسم للحدث، كما نبه على أنه اسم عين حين قال (41) : "الكلام هو الصوت الواقع على بعض الوجوه". الأسماء المصدرية: ويخرج عن المصدر واسمه أسماء مصدرية أشبهت المصادر بجريانها على أحرف الفعل لفظاً، وخالفت المصادر وأسماءها بخلوها من الحدث معنى. وذكروا من ذلك الطهور بفتح أوله وهو اسم لما يُتطهر به، والوضوء بالفتح للماء يُتوضأ به، وكذلك الوقود والولوع والقبول بالفتح، وبالضم المصدر. وقال آخرون الطهور والوضوء بالفتح اسمان ومصدران كالوقود والولوع والقبول بالفتح، فإذا كانا بالضم فهما مصدران البتة (الكامل للمبرد- 2/77، وأمالي المرتضى- 1/397، والنهاية لابن الأثير- مادة طهر، والمصباح- مادة وضؤ) . وجاء (الغسل) بالضم لما يُغسل به، وهو بالفتح مصدر، قال آخرون الغسل بالضم اسم ومصدر، فإذا كان بالفتح فهو المصدر البتة (الصحاح والأفعال لابن القوطية والمصباح) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وجاء (النقل) بالفتح مصدراً، وجاء بالفتح والكسر والضم لما يتنقل به على الشراب (الصحاح، وليس لابن خالويه، وبحر العوّام لابن الحنبلي الحلبي) . فهذه أسماء مصدرية ساوت المصادر في حروفها ولفظها أو ساوتها في حروفها وقاربتها في لفظها، وقد أريد بها اسم الذات ولم يُرد بها الحدث. قال السيوطي في الأشباه والنظائر (2/185) : "وقد يقولون مصدر واسم مصدر في الشيئين المتقاربين لفظاً، أحدهما للفعل والآخر للآلة التي يستعمل بها الفعل، كالطهور بالضم والطهور بالفتح والأكل بالفتح والأكل بالضم. فالطهور بالضم المصدر والطهور بالفتح اسم لما يتطهر به. والأكل بالفتح المصدر والأكل بالضم لما يؤكل". وقد يراد بالاسم المصدري هذا اسم المعنى دون اسم الذات فيكون اسماً للحال التي تحصل بالمصدر. فقد جاء في الفروق لإسماعيل الحقي (132/133) : "الفرق بين المصدر والحاصل بالمصدر أن المصدر نفس الإيقاع الذي هو أمر معنوي، والحاصل بالمصدر هو الأثر الذي يحصل بالإيقاع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وقال صاحب الجاسوس على القاموس (195) : "والفرق بين المصدر والاسم أن المصدر يتضمن معنى الفعل فينصب مثله، والاسم هو الحال التي حصلت من الفعل. مثال ذلك الغَسل بالفتح والغُسل بالضم. تقول قد بالغت في غسلك هذا الثوب فتنصب الثوب. فإذا أردت الحال قلت: لست أرى في هذا الثوب غسلاً بالضم، هذا ما ظهر لي". أي أن الغسل بالفتح هو المصدر الدال على حدث الفعل، والغسل بالضم هو الحال أو الأثر الحاصل من حدث الفعل. قال ابن القوطية في الأفعال: "غسَل الشيء غسلاً بالفتح، والغُسل بالضم ما يُغتسل به، وهو أيضاً تمام الطهارة". فقد جاء الغُسل بالضم، وهو اسم مصدري، بمعنيين فهو ما يُغتسل به أي الماء فهو اسم للذات، وهو تمام الطهارة فهو اسم للمعنى. وقد لمح ذلك صاحب المصباح حين قال: "وقيل الغُسل بالضم هو الماء الذي يُتطهر به، وقال ابن القوطية: والغسل بالضم تمام الطهارة"، لكنه أردف "وهو اسم من الاغتسال". أقول الغسل بالضم هو اسم للغسل بالفتح أي اسم للحال الحاصل به، فهو اسم للمعنى، وقوله "اسم من الاغتسال" قد يوهم أنه اسم للحدث. ومن الأسماء المصدرية المعبرة عن أسماء المعاني الخالية من الحدث (الطُّهر) بالضم قال صاحب المصباح "طهر الشيء من بابي قتل وقرُب والاسم بالضم.. ومنه قيل للحالة المناقضة للحيض طهراً بالضم والجمع أطهار، مثل قفل وأقفال" فالطهرُ بالضم اسم معنى خال من الحدث كالغُسل بالضم، وقد جمع الغُسل كذلك على أغسال كما في المصباح. ومنها (الولاية) فالغالب أنه بالكسر للاسم دون الحدث، وبالفتح للحدث والمصدر. ومنهم من جعل الكسر والفتح لغتين في المصدر (الصحاح والإصلاح لابن السكيت ومفردات الراغب والمصباح والكليات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وثمة (النصرة) بالضم فقد جاءت اسماً، والمصدر (النصر) بالفتح. قال الجوهري في صحاحه "نصره الله على عدوه ينصره نصراً والاسم النُصرة بالضم" وكذلك قال ابن سيده في محكمه والفيومي في مصباحه، ومنهم من جعل (النصرة) مصدراً كالنصر. ففي مفردات الراغب: "ونصرة الله للعبد ظاهرة ونصرة العبد لله هو نصرته لعباده والقيام بحفظ حدوده ورعاية عهوده واعتناق أحكامه واجتناب نهيه" فجاء به مصدراً. وكذلك فعل الزمخشري، ففي أساس البلاغة: "نصره الله تعالى على عدوه ومن عدوه نصراً ونصرة". وأكد ذلك صاحب التاج فقال: "نصر المظلوم نصراً ونصوراً ونصرة بالضم، وهذه عن الزمخشري". وجاء فيه: "ونصره منه نصراً ونصرة بالضم نجَّاه وخلَّصه. وفي البصائر: ونصرة الله لنا ظاهرة ونصرتنا لله هو نصرتنا لعباده والقيام بحفظ حدوده ورعاية عهوده وامتثال أوامره واجتناب نواهيه". أقول ما دام (النصرة) بالضم قد حلَّت في كلامهم محل (النصر) فهي اسم للحدث على كل حال، سواء سميت مصدراً أو اسماً. وعندي أن (النصرة) مصدر لانطوائه على الحدث دون الأسماء المصدرية الخالية منها. ويؤكد مصدريته جريانه على فعله وكونه اسماً للحدث دون سواه، وأسماء المصدر غير جارية على أفعالها، وهي للحدث تارة ولغيره أخرى. و (فُعلة) بالضم ليس غريباً في مصادر الثلاثي، ومن ذلك (البُغية) بالضم، ففي القاموس "بغيته أبغيه بُغاء وبُغية بضم الباء فيهما وبغية بالكسر ... والبغية بالضم والكسر ما ابتغى". وكذلك (القدرة) بالضم ففي الأفعال لابن القوطية: "وقدر الله على كل شيء قدرة ملكه وقهره، وقدر الرزق ضيَّقه.."، وفيه أيضاً: "وكدُر الماء والشيء كدراً وكُدرة وكدورة، وكلف الرجل كلَفاً وكُلفة.."، والغالب في (فُعلة) بالضم أنه مصدر الفعل اللازم، أو اسم بمعنى المفعول كنخبة ونكتة. جمع المصادر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 تقدم أن المصدر جنس لفعله، كما ذكر ابن جني، ذلك أنه يدل على الحدث من حيث تعلقه بفاعله على وجه العموم والإبهام. وما دام الأمر كذلك فالمصدر لا يثنى ولا يجمع لا لأنه يتناول الجنس وحسب، والجنس يدل على القليل والكثير، بل لأنه يدل على الحدث المتعلق بفاعله من حيث هو حدث أيضاً. قال أبو البقاء في الكليات (325) : "وعدم تثنيته وجمعه- أي المصدر- لا لكونه اسم جنس، بل لكونه دالاً على الماهية من حيث هي هي، وإلا كان الأصل في اسم الجنس لا يثنى ولا يجمع، ولم يقل به أحد". أقول ما أظن الأمر كما ذكر أبو البقاء، ذلك أن الأصل في اسم الجنس ألا يجمع لأنه يدل على القليل والكثير، فإذا جمع فقد عُدل به عن دلالته. فالتمر اسم جنس، فإذا جمعته على (تمور) فقد دللت بالتمر الذي هو واحد التمور، على نوع من أنواعه، وبهذا يكون قد جُذب من الجنس ودلالته العامة وشموله، إلى النوع ودلالته المحددة وخصوصه. وانظر إلى قول أبي البقاء نفسه، في الكليات: "اسم الجنس، وإن كان يتناول آحاد مدلوله، إلا أنه لا يدل على اختلاف فاعله ولا على تنوع مدلوله، ولهذا جمع العمل في قوله تعالى: الأخسرين أعمالاً، ليدل على الأمرين" فدلَّ بذلك على أن الذي جمع هو النوع والصنف لا الجنس الجامع. قال صاحب المصباح: "لأن الجنس لا يجمع في الحقيقة، وإنما تجمع أصنافه، والجمع يكون في الأعيان كالزيدين، وفي أسماء الأجناس إذا اختلفت أنواعها كالأرطاب والأعناب والألبان واللحوم، وفي المعاني الحقيقية المختلفة كالعلوم والظنون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وبحث الشيخ بدر الدين محمد بن عبد الله بن مالك وهو ولد ابن مالك صاحب الألفية، الأسماء الدالة على الجمع فذكر منها الجمع واسم الجمع واسم الجنس. قال الشيخ بدر الدين شارح الألفية: "الاسم الدال على أكثر من اثنين بشهادة التأمل، إما أن يكون موضوعاً للآحاد المجتمعة دالاً عليها دلالة تكرار الواحد بالعطف، وإما أن يكون موضوعاً لمجموع الآحاد دالاً عليها دلالة المفرد على جملة أجزاء مسمَّاة، وإما أن يكون موضوعاً للحقيقة ملغى فيه اعتبار الفردية، إلا أن الواحد ينتفي بنفيه، فالموضوع للآحاد المجتمعة هو الجمع، سواء كان له من لفظه واحد مستعمل كرجال وأسود أو لم يكن كأبابيل. والموضوع لمجموع الآحاد هو اسم الجمع سواء كان له واحد من لفظه كركب وصحب، أو لم يكن كقوم ورهط، والموضوع للحقيقة بالمعنى المذكور هو اسم الجنس، وهو غالباً فيما يفرق بينه وبين واحده بالتاء كتمر وتمرة، وعكسه كمأة وجبأة" أي أن الكمأة واحدها كمء على غير قياس، وكذلك الجبأة واحدها الجبء. وقصارى ما هناك أن المصدر إذا حُدّ بما ذكرنا فلا سبيل إلى جمعه سماعاً أو قياساً، فإذا عُدل به عن دلالته الجنسية أو حدثه المتعلق بفاعله جاز جمعه في الأصل قياساً على الأسماء عامة. وكل ما جمعوه من المصادر وتأولوا لجمعه بالسماع واختلاف الأنواع قد خرجوا به عن جنسه أو حدثه العام الصادر عن العامل، فزال بذلك المانع من جمعه وعاد إليه حكم الأسماء في جمعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فكلام الأئمة مثلاً على أن (العقول والألباب والعلوم والظنون) مصادر قد جمعت لاختلاف أنواعها، وهي على التحقيق مصادر عُدل بها إلى الاسمية فلم يبق لها من مصدريتها إلا اللفظ، ذلك أنها فقدت دلالة المصدر من حيث كونه جنساً لفعله وحدثه المتعلق بالفاعل. قال صاحب المصباح: "ثم أطلق العقل الذي هو مصدر على الحجا واللب" فغدا بهذا القوة المتهيئة لقبول العلم، كما قال صاحب المفردات، أو هو قوة للنفس الناطقة، أو هو ما يعقل به حقائق الأشياء، كما في التعريفات للجرجاني. وهكذا (اللب) فهو مصدر في الأصل، تقول: (لبَّ بمعنى عقل) ثم سُلخ عنه، حين جُمع على الألباب، دلالته المصدرية. قال صاحب المفردات: "اللب العقل الخالص من الشوائب"، وكذا (الحلم) بالكسر فهو مصدر بمعنى الأناة وقد أنزل منزلة العقل المجرد من مصدريته فجمع على أحلام وحلوم. أما (الظن) فقد حكى ابن منظور عن صاحب المحكم أنه يكون اسماً ومصدراً، وأن الذي جمع هو الاسم. وهكذا (العلم) إذا قصد به المعرفة المتصلة بموضوع، كقولك (علم النحو وعلم الفقه) فهو يجمع على علوم، وهو لا يدل على الحدث. قال أبو البقاء في الكليات: "واستعمال العلم بمعنى المعلوم شائع وواقع في الأحاديث كقول (وتعلموا العلم، فإن العلم هنا بمعنى المعلوم". قال الشيخ مصطفى الغلاييني في (جامع دروس اللغة العربية- 2/414) : "فالمصدر الذي يراد به الاسم لا حدوث الفعل كما تقول: العلم نور، فإن لم يرد به الحدث فلا يعمل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ولما كان الأمر على ما بيناه فليس شيء مما جمع وأصله المصدر باقياً على مصدريته. فكل ما جمع فقد جذب إلى الاسمية وخُرج به عن المصدرية. وإذا كان صاحب المصباح قد حكى عن الجرجاني قوله: "ولا يجمع المبهم إلا إذا أريد به الفرق بين النوع والجنس، وأغلب ما يكون فيما ينجذب إلى الاسمية نحو العلم والظن، ولا يطرد"، فإن الغلبة التي أشير إليها هي قياس لا ينكسر. فإذا قال الأئمة فيما جمع أنه مصدر فقد أرادوا أن ينبهوا على أصله الذي كان له قبل الجمع. وهكذا تصرّف الأئمة في جمع ما كان أصله المصدر ثم دعت حاجة التعبير إلى إنزاله منزلة الاسم فجمعوه. ما جمعه الأئمة من المصادر حملاً على الاسمية: جرى الأئمة على جمع مصادر ما فوق الثلاثي فأكثروا منه، وترددوا في جمع مصادر الثلاثي فأقلوا منه. فهم جمعوا استعمالاً واختراعاً واحتمالاً واعتقاداً واحتجاجاً واعتماداً وانتقالاً وإلزاماً واختياراً وابتداء. على استعمالات واختراعات واحتمالات واعتقادات.. كل ذلك بالألف والتاء، كما جمعوا تقريراً وتحديداً وتدقيقاً وتصحيفاً وتنبيهاً وتنزيلاً وتأويلاً وترخيصاً وتعريفاً فقالوا تقريرات وتحديدات وتدقيقات وتصحيفات وتنبيهات ... بالألف والتاء، وجمعوا إلحاقاً وأشكالاً وإعراباً وإلزاماً على الحاقات واشكالات وإعرابات وإلزامات بالألف والتاء أيضاً، كما جمعوا تصرفاً على تصرفات ... لكنهم جمعوا تركيباً وتقليباً وتعليلاً وتكبيراً وتصغيراً وتصنيفاً وتأليفاً وتفعيلاً وتقسيماً وتعبيراً وتصريفاً وتفسيراً على تراكيب وتقاليب وتعاليل وتكابير وتصاغير وتصانيف ... جمع تكسير، شاع ذلك في مؤلفات الأئمة شيوعاً متعالماً، كالإمام ابن جني في خصائصه والقاضي الجرجاني في وساطته والخفاجي في سر الفصاحة والزمخشري في كشافه وأساسه، بل الجاحظ في بعض رسائله، فقد جاء في (التربيع والتدوير/ 217) : "وعادته كطبيعته، وآخره كأوله، تحكي اختياراته التوفيق ومذاهبه التسديد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وهكذا ابن هشام في مغنيه والسيوطي ومن حكى عنهم في مزهره والأشباه والنظائر وفي همعه، والصبان في حاشيته على الأشموني، والأشموني في شرح الألفية.. وإذا كان الأئمة قد استساغوا الجمع في مصادر ما فوق الثلاثي فجمعوه جمع سلامة، فقد ضمنوا بجمع السلامة صيغة مفردة، كما ضمنوا في جمع منتهى الجموع تعرّف واحده، وإذا كانوا قد ترددوا في جمع مصادر الثلاثي فذلك لاختلاف صيغ جمعه، على وفرة ما نقل عن العرب من جمع مصادر الثلاثي. قال ابن منظور في (مادة نزل) : "وقول ابن جني المضاف والمضاف إليه عندهم وفي كثير من تنزيلاتهم كالاسم الواحد.. إنما جمع تنزيلاً هنا لأنه أراد للمضاف والمضاف إليه تنزيلات في وجوه كثيرة، منزلة الاسم الواحد، فكنَّى بالتنزيلات عن الوجوه المختلفة. ألا ترى أن المصدر لا وجه له إلا تشعب الأنواع وكثرتها. مع أن ابن جني تسمَّح بهذا تسمَّح تحضر وتحذق، فأما على مذهب العرب، فلا وجه له، إلا ما قلناه". أقول إن ما فعله ابن جني وتسمَّح به قد جرى عليه العرب أنفسهم، ولا به لمثل هذا التسمح ما دام تسمَّح تحضر وتحذق أن يتسع نطاقه وتمتد آفاقه مع الزمن ما مسَّت إليه حاجة التعبير. قال الجوهري: "والثني واحد أثناء الشيء أي تضاعيفه.. والثني من الوادي والجبل منعطفه وثني الجبل ما ثنيت" فحكى عن العرب جمع (تضعيف) وهو مصدر، على (تضاعيف) وجاء هذا الجمع في خطبة (المفصَّل) للزمخشري فقال: "ثم إنهم في تضاعيف ذلك يحمدون فضلها" قال ابن يعيش شارح المفصَّل: "التضاعيف جمع تضعيف هو جمع ضعَّف إذا أردت مثله أو أكثر" وأردف: "وإنما جمع، والمصدر لا يثنى ولا يجمع، لأنه أراد أنواعاً من التضعيف مختلفة، كما يقال العلوم والأشغال". القياس في جمع المصدر: فالصحيح على هذا أن يؤخذ بقياس جمع المصدر كلما مسَّت إليه حاجة الاستعمال بإنزال المصدر منزلة الاسم، جرياً على ما استنه العرب واقتاسوا به. وقد قال بذلك بعض الأئمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 قال صاحب الهمع (1/186) : "أما النوع ففيه قولان: أحدهما أنه يثنى ويجمع وعليه ابن مالك قياساً على ما سَمع منه كالعقول والألباب والحلوم". وإذا كان بعض الأئمة قد استدركوا فقالوا: "ولا يطرد، ألا تراهم لم يقولوا في قتل وسلب ونهب قتول وسلوب ونهوب" كما جاء في المصباح (مادة قصد) حكاية عن الإمام الجرجاني، وأضاف: "وقال غيره لا يجمع الوعد لأنه مصدر فدلّ كلامهم على أن جمع المصدر موقوف على السماع".أقول: إذا كان بعض الأئمة قد قال بهذا، فالجواب عنه أن العرب لو احتاجوا إلى إنزال (القتل) أو (النهب) أو (السلب) منزلة الاسم لجمعوه على قتول ونهوب وسلوب، كما تجمع الأسماء. قال ابن يعيش في شرح المفصل: ".. فعلى هذا لو سميت بالمصدر نحو ضرب وقتل لكان القياس في جمعه أن تقول في القلة ضرب وأضرب وقتل وأقتل قياساً على أفلس وأكعب وألعب". وقال صاحب الهمع في (جمع المصدر- 2/183) : "ولم تطرد فيه قاعدة بحيث تكون مقيسة في جمع ذلك الاسم: فإنه إذ ذاك يجمع جمع ما كان أشبه به، مثال الأول أن يسمَّى بضرب فإنه لم يجمع وهو مصدر فجمع مسمّى به على أفعل في القلة فتقول أضرب ككلب وأكلب، وضروب في الكثرة ككعب وكعوب". وقد جاء نحو ذلك في شرح الكافية للرضى (2/187) فمثل له بالضروب والقتول. وهكذا جمع (قتلا) حين أنزل منزلة الاسم على (قتول) . فتبين بذلك أنك إذا سميت بالمصدر جمعته على ما يجمع به نظيره من الأسماء. ونظائر ما ذكرناه، مما جمعته العرب من المصادر حملاً على الاسمية أو جمع قياساً على ما جمعوه، لا يحصيه عد. ما جمعه ابن جني من مصادر الفعل الثلاثي وما جمعه الزمخشري: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فهذا ابن جني فقد جمع من المصادر (قصداً) على (قصود) حين انتوى فيه الاسمية، ففي الخصائص (1/427) : "من غير اعتقاد لعلله ولا لقصد من قصوده". وقد تكرر منه هذا الجمع. وجمع (الحذف) على حذوف في قوله (1/88) : "ألا ترى ما في القرآن وفصيح الكلام من كثرة الحذوف، فحذف المضاف وحذف الموصوف". وجمع (الحمل) على حمول، فقال (1/222) : "ثم قالوا كساوان تشبيهاً له بعلباوان. ثم قالوا قرّاوان حملاً على كساوان ... وسبب هذه الحمول والإضافات والإلحاقات كثرة هذه اللغة وسعتها وغلبة حاجة أهلها إلى التصرف فيها". وهكذا جمع (الفصل) خلاف (الوصل) على فصول (1/334) ، و (الوصل) على وصول (اللسان- وصل) و (الغلط) على أغلاط (1/48) ، كما جمعه على (غلاط) (اللسان- غلط) . بل جمع (الوعد) وهو مصدر في الأصل، على وعود. فقد أنكر الجوهري جمع (الوعد) لمصدريته وكذا فعل الأزهري، والأصبهاني في المفردات. واستدرك ابن منظور في اللسان فقال: "والوعد من المصادر المجموعة، حكاه ابن جني"، أقول لعل الأظهر أنه جمعه ابن جني كما هو شأنه فيما أنزله منزلة الأسماء من المصادر. وجمع الزمخشري (الوَجَل) بفتحتين، وهو الخوف، على (أوجال) كما في أساس البلاغة. جمع البيان والبلاغ والعذاب: وتردد المجمعيون في مجمع اللغة العربية بالقاهرة في جمع (البيان) فقال الأستاذ عباس حسن عضو المجمع القاهري: "المصدر من حيث هو مصدر لا يجوز جمعه إلا إذا كان عددياً أو نوعياً، وهنا لا دليل على التعدد. ولو سلمنا أنه متعدد الأنواع لكان المانع من جمعه جمع المؤنث السالم أنه لا يدخل تحت نوع مما يُجمع هذا الجمع". وهكذا أنكر الأستاذ عباس حسن جمع (بيان) على (بيانات) لسببين، الأول: أنه لا دليل على تعدده، والثاني: أنه لا سند لجواز جمعه جمع مؤنث سالماً، إذا صح جمعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 والجواب على ذلك أن (البيان) بمعناه الذي أرادوا ليس مصدراً، وإنما هو اسم: لما يتم به بيان الأمر والكشف عن غامضه. وما دام قد عدم حدثه وجنسه فقد جذب إلى الاسمية فساغ جمعه. والبيان بالمعنى المذكور متعدد كبيان التقرير والتغيير والتبديل على ما ذكره الجرجاني في تعريفاته. وقد جمع (البيان) في شرح المنار في أصول الفقه لابن ملك فقال: "فصل في بيان أقسام البيانات/234" وجعل هذه الأقسام بيان التقرير والتفسير والتغيير. وأفتى صاحب الوساطة القاضي الجرجاني (ص/ 332) فقال: "إن أصل الجمع التأنيث.. فمن جمع اسماً لم يجد عن العرب جمعه فأجراه على الأصل، أي بالألف والتاء، لم يسغ الرد عليه، ولم يجز أن ينسبه إلى الخطأ لأجلها" وعلى هذا جرى الأئمة. فقد جمع الصحاح (البلاغ) على البلاغات، وكذلك فعل الجاحظ في كتاب (حجج النبوة) ، والهمذاني في خطبة كتابه (الألفاظ الكتابية) ، فسقط بذلك اعتراض المعترض، ويصح عندي جمع (البيان) كذلك على (أبينة) كما جمع العذاب على (أعذبة) . قال ابن منظور: "قال أبو عبيد في قوله تعالى: يضاعف لها العذاب ضعفين- الأحزاب/ 30، معناه تجعل الواحد ثلاثة، أي تعذب ثلاثة أعذبة". والبيان والعذاب اسمان للمصدر الأول من التبيين والثاني من التعذيب، واسم المصدر كالمصدر في امتناعه على الجمع من حيث الأصل، ما لم ينزل منزلة الاسم. جمع ما انتهى بالتاء من المصادر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ومما صرح الأئمة بجواز جمعه من المصادر باطراد ما انتهى منها بالتاء. فقد ذكر العلامة ياسين في (حاشية التصريح) : "المصدر لا يثنى ولا يجمع ما لم يكن بالتاء". وسترى أن ما انتهى بالتاء من المصادر إنما جمع حملاً على الاسمية، ولو تأولوا له باختلاف الأنواع. قال ابن الأثير في (النهاية) : "التحيات جمع تحية قيل أراد بها السلام. وإنما جمع التحية لأن ملوك الأرض يحيَّون بتحيات مختلفة.. فقيل للمسلمين قولوا التحيات لله أي الألفاظ التي تدل على السلام والملك والبقاء هي لله تعالى". وواضح أن (التحية) التي جمعت قد خرجت عن حدثها بل جنسها فأضحت اسماً من الأسماء. وهكذا (النية) ففي المصباح: "والنية الأمر والوجه الذي تنويه". ويدخل فيما تقدم مصدر الوحدة ومصدر الهيئة فإنهما يثنيان ويجمعان. وعلة ذلك على ما انتحيناه أنك إذا قلت (جلت جولة) لم يبق في قولك (جولة) دلالة على جنس الفعل الذي يدل على القليل والكثير، بحكم قولك (جلت جولات) . وهكذا قولك (مشيت مشية الفزع) فقد خُصت (المشية) بنوع من (المشي) فخرجت به عن جنس الفعل ولو دل على حدثه. ومما صرح الأئمة بامتناع جمعه البتة (المصدر المؤكد) . قال صاحب الهمع (1/186) : "المصدر نوعان مبهم، وهو ما يساوي معنى عامله من غير زيادة كقمت قياماً وجلست جلوساً، وهو لمجرد التأكيد، ومن ثم لا يثنى ولا يجمع". فالمصدر في قولك (قمت قياماً وجلست جلوساً) قد ماثل فعله من حيث دلالته على الحدث وجنسه دون تحديد، فهو باق على مصدريته. إعمال المصدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 شرط إعمال المصدر عمل فعله، تعدياً ولزوماً، بقاؤه على مصدريته بدلالته على حدثه وجنسه، ذلك ليستقيم نيابته عن فعله أو حلول الفعل المصحوب بأن أو ما المصدريتين، محله. مثال ذلك قولك: (يعجبني قيامك بما يجب عليك) وقولك: (يعجبني أن تقوم بفعل الخير) أو (يعجبني ما تقوم الآن بفعل الخير) . فإذا دل على الوحدة لم يعمل. قال الأشموني (3/105) : "فالموحد بالتاء أي تاء الوحدة لم يعمل" فإذا قلت: (ضربت ضربة الرجل) فالرجل منصوب بالفعل لا بضربة، وكذا قولك: (ضربت ضربتين الرجل) فالمصدر المبني للعدد لا يعمل لتحديده، فإذا كانت التاء في أصل بناء المصدر كالرحمة والرغبة والرهبة عمل المصدر. قال أبو البقاء في الكليات: "المصدر المحدد بتاء التأنيث لا يعمل إلا في قليل من كلامهم. ولو كان مبنياً على التاء عمل في قوله: فلولا رجاء النصر منك ورهبة عقابك قد كانوا لنا بالموارد فأعمل رهبة لكونه مبنياً على التاء أي لكون التاء في أصل بناء المصدر. والمصدر المؤكد لا يعمل، على إبهامه ودلالته على الحدث وجنسه، لأنه إنما أتى ليؤكد عامله وهو الفعل. فإذا قلت: (علَّمت التلميذ تعليماً المسألة) فالمسألة منصوبة بالفعل لأنه هو العامل في الأصل. فإذا قلت: (ضربت فلاناً ضرب زيد أخاه) أي ضرباً مثل ضرب زيد أخاه، كما جاء في حاشية الصبان على الأشموني (3/103) فقد صح عمل المصدر (ضَرْب) المضاف إلى زيد رفعاً في فاعله المضاف إليه ونصباً في مفعوله، لأنه لم يأت مؤكداً لعامله، وإنما أتى مبيناً لنوعه. إعمال المصدر المجموع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 والأئمة على خلاف في إعمال المصدر المجموع، فمنهم من حكم بمنعه واختاره أبو حيان. ذلك أن المصدر لا يجمع حتى يكون قد فقد مصدريته فعدم جنسه أو حدثه ومتى افتقد مصدريته امتنع عمله. ومنهم من أجازه واختاره ابن مالك إذ ذهب إلى أن المصدر يجمع حيناً فيقصد به مجرد تكرير الفعل ويبقى على حدثه وجنسه فيعمل. قال صاحب الهمع (2/92) : "وجوّزه قوم- أي عمل المصدر- في الجمع المكسر واختاره ابن مالك، قال لأنه وإن زالت معه الصيغة الأصلية فالمعنى معها باق، ويتضاعف بالجمعية لأن جمع الشيء بمنزلة ذكره متكرراً بعطف، وقد سُمِع.. قال أبو حيان والمختار المنع وتأويل ما ورد من ذلك على النصب بمضمر..". وهكذا أقر ابن مالك جمع المصدر الذي لم يعر من حدثه وجنسه وإعماله، وهو نادر في الاستعمال، ومما جاء في ذلك قول: كم جرَّبوه فما زادت تجاربهم أبا قدامة إلا المجد والفَنَعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 والفنَع زيادة المال، ومسك ذو فنَع ذكيّ الرائحة. وقد جاء (أبا) منصوباً بتجارب وحاول ابن جني أن يجعله مفعولاً لـ (زادت) لكنه قال: "والوجه أنه انتصب بتجاربهم لأنها العامل الأقرب". وقد حكى ذلك السيوطي في (الأشباه والنظائر) فقال: "وقد يجوز أن يكون أبا قدامة منصوباً بزادت، أي فما زادت أبا قدامة تجاربهم إياه إلا المجد. والوجه أن تنصبه بتجاربهم لأنها العامل الأقرب، ولأنه لو أراد إعمال الأول لكان حرياً أن يعمل الثاني أيضاً ... ". على أن في إعمال (التجارب) نظراً على كل حال. ذلك أن العرب قد جرت على استعمال (التجربة) اسماً. ففي المصباح: "قال الأزهري جربت الشيء تجريباً اخترته مرة بعد أخرى والاسم التجربة والجمع التجارب". فالتجربة في الأصل مصدر كالتجريب لكنه قد عُدل به عن مصدريته فأنزل منزلة الأسماء فجمع على (تجارب) ، فقولك (فلان ذو تجربة) كقولك (فلان ذو خبرة) . وفي الأساس "ورجل مجرِّب: ذو تجارب". ولا يمنع هذا من استعمال (التجربة) بمعنى (التجريب) مصدراً على الأصل، كقولك (إن تجربتك فلاناً قد كشفت خصاله) . فالتجربة هنا مصدر باق على مصدريته عامل عمل فعله. ويبقى الإشكال، على كل حال، في جواز جمعه على هذا الحد. ومما نحن فيه قول الشاعر: وعدتَّ وكان الخلف منك سجية مواعيد عرقوب أخاه بيثرب فقد انتصب فيه (أخاه) بمواعيد، جمع المصدر. فمواعيد مفعول مطلق لوعَد وعرقوب مضاف إليه، ومحلَّه الرفع بالفاعلية لمواعيد، وأخاه مفعول مواعيد. السماع والقياس في مصادر الثلاثي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الأكثرون على أن مصادر الثلاثي موقوفة على السماع. وقد ذهب جماعة إلى امتناع القياس فيها، ولو لم يكن سماع. فقد حكى السيوطي في الهمع: "لا تدرك مصادر الأفعال الثلاثية إلا بالسماع، فلا يقاس على فعلٍ ولو عدم السماع". وأجاز آخرون القياس حين يفتقد السماع. فقد قال الأشموني في شرحه على الألفية (3/122) : "والمراد بالقياس هنا أنه إذا ورد شيء ولم يعلم كيف تكلموا بمصدره فإنك تقيسه على هذا..". على أن من الأئمة من أخذ فيها بالقياس ولو كان ثمة سماع كالفراء والزمخشري. قال الصبان في حاشيته على الأشموني (3/122) : ومذهب الفراء إلى أنه يجوز القياس عليه وإن سُمع غيره". وجاء في (المطلوب شرح المقصود/ 1-21 و22) : "مصادر الثلاثي سماعية عند سيبويه، وأما الزمخشري فيرى أنها قياسية لكثرتها". وقال أبو البقاء في الكليات: "القول بأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس ليس بصحيح، بل لها مصادر منقاسة ذكرها النحويون". أما القياس الذي ذكره النحويون لمصادر الثلاثي فقد أوجزه محمد بن أبي بكر الرازي في خطبة معجمه (مختار الصحاح) فقال: "اعلم أن الأصل والقياس الغالب في أوزان مصادر الأفعال الثلاثية أن فعَلَ متى كان مفتوح العين كان مصدره على وزن فعل بسكون العين إن كان متعدياً، وعلى وزن فُعول بضمتين إن كان الفعل لازماً. مثاله من الباب الأول: نصَر نصراً، قعد قعوداً. ومن الباب الثاني: ضرب ضرباً، جلس جلوساً. ومن الباب الثالث: قطع قطعاً، خضع خضوعاً. ومتى كان فَعِل مكسور العين ويفعل مفتوح العين كان مصدره على وزن فعل بسكون العين أيضاً، إن كان الفعل متعدياً، وعلى وزن فعل بفتحتين، إن كان لازماً. مثاله: فهِمَ فهماً، طَرِب طرباً. ومتى كان فعُل مضموم العين كان مصدره على وزن فعالة بالفتح أو فُعولة بالضم أو فعِل بكسر الفاء وفتح العين، وفعالة بالفتح هي الغالب. مثاله ظرُف ظرافة، سهُل سُهولة، عظُم عِظَماً، هذا هو القياس في الكل." الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 خلاف النقاد في مصادر بعض الأفعال ومعانيها أنكر كثير من النقاد أن يكون (الصمود) مصدراً لـ (صَمَد) لازماً، وأن يكون (الثبات) معنى له. ومن هؤلاء الدكتور مصطفى جواد، عضو المجمع العلمي العراقي، رحمه الله، إذ قال في كتابه (المباحث اللغوية في العراق) : "فهذا الصمود الذي استعمل. بمعنى الثبات والمقاومة لا يزال على سوء استعماله، لأنه حركة وتقدم، لا ثبات واستقرار. ثم إن العرب لم تعرف الصمود مصدراً، وإنما المصدر الصمد كالقصد وزناً ومعنى.. فالصمد إن كان قد استعمل في حروب العرب للقصد والسير إلى العدو، فكيف يستعمل للثبات والقرار، هذا استعمال للكلم في عكس معانيه، وهو خطأ محض لا يسوّغه مرور الزمان أبداً". وقد عاد جواد إلى بحثه هذا في كتابه (قل ولا تقل) ولم يخرج في الجملة عما ذكره في كتابه الأول. وتقصَّى البحث في هذا الأستاذ محمد العدناني أيضاً وبسط في معجمه (الأخطاء اللغوية الشائعة) رأي جواد، وأكثر من الأدلة واستفرغ ما أتت به المعاجم في (صمد) ومصدره، وخلص إلى مخالفة جواد فأنكر أن يكون معنى (الصمد) مقصوراً على (الحركة) ، وإلى مشايعته فأنكر أن يكون (الصمود) مصدراً للفعل لانفراد المعجم الوسيط بذكره، فما صواب المسألة؟ الرأي عندي أن (الصمد) قد انطوى على معان متجاذبة متداعية. فهو التوجه والطلب، وهو العزم والتحفز للوثوب، وقد يخص بالمضي في استقامة واستواء دون ميل، والقرينة كفيلة بإبراز المعنى الغالب الذي أريد بالفعل، والمسرى الذي سلكه فنزع إليه. معنى (صمد) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ففي المعاجم صمَد كقصَد وزناً ومعنى، تقول صمَدته كقصدته متعدياً، وصَمدت له وإليه كقصدت له وإليه لازماً، فإذا صمَدت فلاناً فقد يممته وطلبته، وإذا صمَدت له وإليه فقد توجهت نحوه وتقدمت إليه تبتغيه، هذا هو الأصل. فإذا كان المصمود أو المصمود إليه (الله تعالى) وهو ذو القوة ومحل الثقة والاعتماد، وقد طلبه الصامد ليستعين به ويفوض أمره إليه، فـ (الصمد) هو التوجه والاعتزام. ذلك أن الصامد يتوجه إلى الله يبتغيه ويلوذ به ويعتزم تسليم الأمر إليه. يقول الجوهري في الصحاح: "وصمده يصمده صمداً أي قصده، والصمَد السيد لأنه يُصمد إليه في الحوائج". ويشف (القصد) عما عنيناه بالصمد، كما ستراه. ويقول ابن القوطية في كتابه الأفعال: "صمدتُ إلى الله صَمداً وصموداً، وأصمدت، لجأتُ". وفي معنى اللجوء توجه إلى المصمود إليه، واعتزام تسليم الأمر إليه. ويقول الزمخشري في الأساس: "صمَده قصَده، وصمَد صمد هذا الأمر اعتمده، وسيدٌ صمَد ومصمود، والله الصمَد، عن الحسن: أُصمدت إليه الأمور فلا يقضي فيها غيره". ونحو ذلك في المصباح والأبدال والكليات. فأنت تصمد إلى الله بحاجتك وتعتمده فهو السيد المصمود المقصود بالحوائج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وإذا قلت (صمدت للعدو) ، وهو ما نحن بسبيل الكشف عن معناه، فليس (الصمد) فيه التوجه والمضي إلى العدو وحسب، وإنما هو اعتزام قتاله والتحفز للوثوب عليه أيضاً. ففي حديث معاذ بن الجموح في قتل أبي جهل، وقد رواه ابن الأثير في النهاية: "فصمدت له حتى أمكنتني منه غرة" قال ابن الأثير: أي ثبتّ له وقصدته وانتظرت غفلته". وفي القصد الذي فُسر به الصمد ما أشرنا إليه من معاني التوجه والطلب، ومن العزم على القتال. والتهيؤ للوثوب كما سنبسطه لك. وأنت إذا قلت في تفسير (فصمدت له حتى أمكنتني منه غرة) : مضيت إليه حتى أمكنتني منه غفلة، ضعف المعنى وتخلف، وإذا قلت في تفسيره: مضيت إلى العدو أبتغيه معتزماً قتاله متحفزاً للوثوب عليه، حتى أمكنتني منه غفلة فرميته، وضح المعنى وحسن ودق، قال الدكتور جواد: "فكيف يثبت له ويقصده بفعل واحد، وكيف تجمع الحركة والسكون أو الركون والحركة في فعل واحد؟ ". أقول إن ابن الأثير قد أضاف (ثبَتُ له) ليزيد في إيضاح المعنى. فإن نص الحديث: "فصمدت له حتى أمكنتني منه غرة" أي استمر صمدي له حتى كان ذلك. كأن تقول: (وطئت الوعثاء حتى ذللت الصعاب) أفكنت تخطئ لو قلت في تفسيره (استمر وطئي للوعثاء حتى ذلَّلت الصعاب؟ فالثبات الذي أضافه ابن الأثير تأكيد لهذا الاستمرار الذي دلت عليه القرينة. أما قول الدكتور جواد (كيف تجتمع الحركة والسكون) فعجب حقاً! فمن قال له إن الثبات أو الاستمرار الذي شفَّت عنه العبارة هو السكون؟ وهل يعني قولك: (ثبت فلان في الحرب) أو (ثبت فلان قبالة خصمه) أنه سكن وجمد فلم يتزحزح أو يُبدِ حراكاً؟ فالثبات في هذا الموضع هو ثبات القلب في القتال ومداومته العزم على المواثبة. أفليست الحرب جولات من كر وفر؟ فكيف يسكن الشجاع فيها والجولان حركة مستمرة، أفيصبح أن يكون ثبات الشجاع سكون جسمه وجمود حركته، أو ثبوت أصله في الأرض كرسو السفينة في سيف البحر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 والغريب أن الأستاذ عز الدين علم الدين، عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، محقق كتاب الابدال لأبي الطيب اللغوي قد أخذ برأي جواد في المسألة، وذيّل قول أبي الطيب (صمدت فلاناً أصمده صمداً..) ، فقال: "ومن أغلاط الكتاب استعمال صمد بمعنى ثبت والصمد حركة والثبات سكون فهما ضدان". أقول: الصمد في المعركة حركة بلا شك والثبات الذي شف عنه تأكيد لاستمرار الصمد ومواصلة النضال، لا دعوة لسكون الجسم وجمود الحركة. وهكذا القول في حديث علي (رض) : "فصمداً صمداً حتى ينجلي عمود الحق" فإن معناه كما يتضح: استمروا في الصمد واثبتوا عليه حتى يتبين عمود الحق. وقد أورد الأستاذ جواد في هذا تفسير الأستاذ ابن أبي الحديد إذ قال: "صمدت لفلان قصدت له" وهو صحيح مستقيم لكنه شرح مقتضب معجمي ونحن نورد فيه شرح الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد إذ قال: "الصمد القصد. وتقول صمده وصمد له وصمد إليه من باب ضرب ونصر، أي فاثبتوا على قصدكم". فقول علي (رض) : (صمداً صمداً) دعوة إلى استمرار الصمد والثبات عليه، وتفسيره: اثبتوا على الصمد واستمروا فيه حتى ينجلي عمود الحق ويسطع نوره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وقد حكى اللسان والتاج رواية أخرى لتفسير ابن الأثير في حديث معاذ. قال ابن منظور: "أي وثبتُ له وقصدته فانتظرت غفلته" بدلاً من "أي ثبتّ له"، أفلا يعني هذا أن في الصمد للعدو معنى الوثوب عليه والتحفز لقتاله. وذكر التاج ما ذكره اللسان، وقال في موضع آخر: "الصماد بالكسر الجلاد والضِّراب من صامده". وفي التهذيب للأزهري: "ويقال ناقة مصماد وهي الباقية على القُرّ والجدب الدائمة الرسِل، ونوق مصامد ومصاميد". أفليس في هذا ما يشير إلى أن (الصمد) يعني المجالدة والمصابرة، فالناقة المصماد هي التي امتحنت بالبرد والجدب فكان بها طاقة بملاقاتهما، فهي تمضي في إعطاء لبنها، على ما تلقاه وتعانيه من برد ومحل ويبس. وتقول (الصَّمَد من المصماد من الميامين المصاميد) على معنى المجاهدة والمغالبة. ومن معاني (الصمد) الصلابة كما ذكر ابن فارس في المقاييس إذ قال: "الصاد والميم والدال أصلان أحدهما القصد والآخر الصلابة في الشيء". والذي عناه ابن فارس بالصلابة، في الأصل، صلابة المكان، إذ قال: "الأصل الآخر الصمد، وهو كل مكان صلب"، وفي التاج: "الصمد: المكان المرتفع الغليظ من الأرض"، ولا يبعد هذا من معنى المصامدة التي تعني المجالدة. مصدر (صمَد) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ولكن ما القول في مصدر الفعل أهو الصمد أم الصمود؟ أقول أنكر الدكتور جواد أن يكون (الصمود) مصدراً للفعل، بل سخر ممن رأى هذا الرأي. والصحيح أن (الصمود) مصدر للفعل اللازم كالصمد. قال ابن القوطية في كتابه الأفعال، وهو الإمام المحقق: "صمدت إلى الله صمداً وصموداً، وأصمدت، لجأت" وأردف: "وصمدت الشيء صمد أقصدته" فخص (الصمود) بالفعل اللازم، وجعل (الصمد) للازم والمتعدي. والغريب أن جواداً قد جعل (الصمد) هو المصدر دون الصمود، لأمر يتصل بدلالته، فذهب إلى أن ما كان معناه الحركة دون السكون فمصدره (الفَعل) بسكون العين. قال جواد: "والظاهر أن هذا الذي ابتدع الصمود حسبه بمعنى الثبات، فأطال مصدره كالجلوس والقعود.. وفي قِصَر مصدر الفعل صمد، دليل على أنه يعني الحركة لا السكون، والتقدم لا الوقوف". والذي ذكره الأئمة كالرازي أن الأصل فيما جاء على (فعَل) بالفتح من الأفعال أن يكون مصدره (فَعلاً) بسكون العين إذا كان متعدياً، و (فعولاً) إذا كان لازماً. وفصَل الإمام الرضي فتطرق في شرح الشافية (1/153) إلى دلالة الفعل فقال: "قوله الغالب في فعَل، بفتح العين، اللازم، على فعول، ليس على إطلاقه، بل إذا لم يكن للمعاني التي نذكرها بعد، من الأصوات والأدواء والاضطراب"، وأردف: "ثم نقول: الأغلب الأكثر في غير المعاني المذكورة أن يكون المتعدي على فعل بسكون العين، من أي باب كان، نحو قتل قتلاً وضرب ضرباً وحمد حمداً، وفعل بفتح العين اللازم على فعول نحو دخل دخولاً". وليس (الصمد) الذي نحن في سبيله من أفعال الأصوات والأدواء والاضطراب لينفرد بوزن مصدري خاص، فالأغلب إذاً أن يكون (الفعول) مصدراً للازم منه و (الفَعل) مصدراً لمتعدّيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وهذه (نهض ودلف ونهد) فهي من أفعال (الحركة) على حد تعبير جواد مثل (صمَد) وهي لازمة، ومصادرها النهضوض والدلوف والنهود وهكذا (ذهب) تقول: ذهب ذهاباً وذهوباً. فقد جاء في النوادر (2/226) لأبي مسحل الأعرابي: "ويقال في ثلاثة من المصادر: ذهب ذهاباً وذهوباً وكسد كساداً وكسوداً وفسد فساداً وفسوداً، وزاد ابن خالويه: صلح صلاحاً وصلوحاً" فثبت بذلك أن لا صلة بين مصدر الفعل فعلاً أو فُعولاً، وبين دلالته على الحركة أو السكون. ولو أتى جواد المسألة من وجهها ومأتاها لاتضح له الأمر واستبصر الطريق. مصدر نضج: ومما نحن فيه قول الكتاب (النضوج) وهو مستقيم لو صح ما تصوروه من أن فعله (نضَج) بالفتح، ولم يسمع، فالذي حكته المعاجم (نضِج) بالكسر. فلا سند إذاً لصحة قولهم (النضوج) قياساً، لأن القياس هو (النضَج) بالتحريك للزوم الفعل. أما المحكيّ من مصادره فهو (النضج) بفتح فسكون وضم فسكون و (النضَج) بفتح النون والضاد. ففي المصباح: "نضج اللحم والفاكهة بالكسر نضجاً بفتحتين، من باب تعب، والاسم النضج بالضم، والفتح لغة". وعندي أن (النضج) بالضم هو الاسم، أما (النضج) بالفتح فهو المصدر، وليس الاسم. وقد رأى سيبويه وابن جني مثل هذا حين اعتدا (الحرد) بفتح فسكون مصدراً لـ (حَرِدَ) بالكسر. ذلك أن الصفة قد أتت على (ناضج) و (نضيج) ، ومجيء ناضج من نضج بالكسر، كما قيل حارد من حرِدَ بالكسر، ومصدره (الحرْد) بفتح فسكون. وقد جاء على التحريك فقيل (الحَرَد) بفتحتين، كما قيل (النضَج) بفتحتين. وقد نص التهذيب واللسان والتاج على أن (النُّضج) بالضم، هو الاسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وقد عرض الأب أنستاس ماري الكرملي لهذا، في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق لشهري آذار ونيسان من عام 1945، فقال: ".. ويقال أيضاً النضج بفتح فسكون والنضج بضم فسكون، وهما اسما مصدر" أقول: إن الاسم هو (النضج) بالضم، دون (النضج) بالفتح. وقد ذكرنا أن مجيء الصفة على (ناضج) يؤكد اتفاق مصدر النضج بالكسر على (النضج) بفتح فسكون. وهكذا تواءم (ناضج) صفة و (نضج) مصدراً بفتح فسكون، فاقتضى كل منهما الآخر، و (فاعل) من (فعل) بالكسر إنما هو صفة للمتعدي في الأصل، كما أن (الفَعل) بفتح فسكون مصدر له، وكلاهما قياس. وبيان ذلك أن الأصل في (فَعِل) بالكسر إذا كان لازماً ألا يكون منه (فاعل) ، فإذا سمع منه (فاعل) فقد شبه بالمتعدي وحمل عليه، وكذلك (فعل) بفتح فسكون فالأصل أن يكون مصدراً للمتعدي دون اللازم، فإذا سمع مصدراً لفعل لازم فقد حُمل على المتعدي وشُبه به أيضاً، فمجيء ناضج صفة من نضِج اللازم قد واءم مجيء النضج بفتح فسكون مصدراً له واقتضاه. قال ابن سيده في المخصص (13/122) : "فأما سيبويه فقال: حَرِد بالكسر حرْداً بسكون الراء ورجل حرِد بفتح فكسر وحارد، أدخله في باب العمل وقولهم حارد دال على ذلك" وأردف: "يعني أنهم جعلوه بمنزلة المتعدي كحِمده بالكسر حمدًاً بفتح فسكون، وإلا كان حكمه حرِد بالكسر حرَداً بفتحتين، لأنه غير متعد كغضب غضباً. وقوله حارد دليل على ذلك يعني أنه لو كان على باب ما لا يتعدى لكان حَرِداً أو حردان كضجر بفتح فكسر وغضبان"، وقال أيضاً (14/134) : "وقوّى حملهم ذلك على ما يتعدى أنهم قالوا حارد، وكان القياس في مثله أن يكون حرِدَ حرَداً فهو حردان، كما قالوا غضب غضباً فهو غضبان، فأخرجوه من باب غضبان بتخفيف الحرَد وبقولهم حارد. وتخفيف (الحرد) بفتحتين معناه تسكين الراء فيه، وفي المخصص أيضاً (14/134) : "ومثل الحارد بسكون الراء قولهم حميت الشمس تحمى حمياً بفتح فسكون، وهي حامية". وقد حكاه عن سيبويه بلفظه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 (الكتاب 2/216) . المسّ والمساس: منع الشيخ إبراهيم اليازجي قول القائل (فعلت كذا لمساس الحاجة) بكسر الميم، وقال: "والصواب لمسّ الحاجة أو لمسيسها" وأردف: "وأما المساس بالكسر فهو مصدر ماسَّه على فاعل مثل القتال من قاتل"، وتابعه كثيرون. قال الأستاذ محمد العدناني في معجمه (الأخطاء الشائعة) : "ويقولون مساس الحاجة بالفتح والصواب مسّ الحاجة ومسيسها..". ويفهم مما تقدم أن اليازجي قد قصر الصواب في (مس الحاجة) على المسّ والمسيس، ومنع قول القائل (مساس الحاجة) بالكسر، وطابقه العدناني، وأشار كذلك إلى منع (مساس الحاجة) بالفتح. أقول في الجواب عن ذلك: لا شك أن (المساس) بالكسر هو مصدر (ماسَّه) بالتشديد، تقول (ماسَّه مماسَّة ومِساساً) كقاتله مقاتلة وقتالاً، ولكن (ماسَّه) بمعنى (مسَّه) ، وعلى ذلك تقول: (مساس الحاجة) بالكسر لمسّها ومسيسها. قال الزمخشري في الأساس: "ماسَّه مسَّاً ومسيساً، وماسَّه مماسَّة ومِساساً" فقرن هذا إلى ذلك ولم يفرّق. وقال صاحب المصباح: "وماسَّه مماسَّة ومِساساً من باب قاتل بمعنى مسَّه". وجاء في التنزيل: (قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول: لا مِساس (طه/ 97. بكسر الميم وفتح السين. قال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط: "وقرأ الجمهور لا مِساس بفتح السين والميم المكسورة، ومِساس مصدر ماسَّ كقتال من قاتل.. أي لا تمسُّني ولا أمسُّك" ففسر (لا مِساس) بالقول (لا تمسَّني ولا أمسَّك) . وقال المرزوقي في شرح الحماسة (1415) : "مثلي ومثلك من مِساس حاجتي إليك وتناهي رغبتي في وصلك والنيل منك.." فجاء بما أنكره اليازجي والعدناني وكثيرون، وتكرر ذلك منه (ص 330 و907) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وفي قوله تعالى: (لا مِساس (طه/ 97 قال الإمام البيضاوي في تفسيره: "لا مساس بكسر الميم. وقرئ لا مَساس بفتح الميم كفجار، وهو علَم للمسَّة" فمساس بفتح الميم اسم يدل على ما يدل عليه المصدر ويجري عليه من الأحكام ما يجري على بعض الأعلام من البناء أو المنع من الصرف نحو برة غير مصروف بمعنى المبرة وفجار مبنياً على الكسر بمعنى فجور". وقال الزمخشري في الأساس: "ويقال لا مِساس بكسر الميم ولا مَساس بفتحها". وفي اللسان: "ولا مَساس بفتح الميم أي لا تمسَّني". وفي شرح الحماسة للمرزوقي (233) في شرح قول يزيد بن الحكم: مَسِسنا من الآباء شيئاً وكلّنا إلى حسَب في قومه غير واضع "وقول مسسنا يجوز أن يكون: أصبنا واختبرنا، لأن المس باليد قد يقصد به الاختبار. ويجوز أن يكون بمعنى طلبنا. وقد قال بعض الناس في قوله تعالى: لا يمسَّه إلا المطهَّرون، إن المعنى: لا يطلبه.. فمن الأول قولهم مسَّه الكبر، وأفضى الرجل إلى امرأته إفضاء: مسيس، ومن الثاني: مَساس الحاجة. فأما قولهم: به مسّ من جنون يصحّ أن يكون من الأول ومن الثاني جميعاً" فأتى بمَساس بفتح الميم في قوله: (مَساس الحاجة) . وجاء في خطبة شرح الشافية، قال الإمام الرضي: "فإن الشراح قد اقتصروا على شرح مقدمة الإعراب، وهذا مع قرب التصريف من الإعراب، في مَساس الحاجة إليه". فأتى بمساس بفتح الميم أيضاً. المصادر واشتقاق الفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الأصل في الأفعال أن تنتزع من أسماء الأعيان. قال ابن مالك في التسهيل: "ويطّرد صوغ فعَل من أسماء الأعيان لإصابتها: نحو جلَده ورأسه، أو أنالتها: نحو شحمه ولحمه أي أطعمه ذلك، أو عمل بها: نحو رمَحَه وسَهَمه أي أصابه بالرمح والسهم". فقد قال العرب جلَده إذا أصاب جلده ورأسه إذا أصاب رأسه، وكبده ودمغه وأذنه وأنفه ونابه ومعده، إذا أصاب ما سُمي بهذه الأحرف من الأعضاء، ومن ذلك رآه إذا أصاب رئته، فاشتقوا بذلك من اسم العين الثلاثي. وقالوا حصاه إذا ضربه بالحصى، ودَبَره إذا تلا دبره، وحنك الدابة إذا جعل الرسن في حنكها، وأسد الرجل إذا أشبه الأسد، وتاس الجدي إلى صار كالتيس. وقالوا عسَله إذا جعل فيه العسل فعلاً أو مجازاً. ففي الحديث: [إذا أراد الله بعبد خيراً عسَله] ، قال صاحب النهاية: "العسل بسكون السين طيب الثناء مأخوذ من العسل بفتحتين". ويقال بدر الغلام إذا تم واستدار تشبيهاً بالبدر في تمامه وكماله، كما في النهاية وقال الراغب في مفرداته: ".. والأقرب عندي أن يجعل البدر أصلاً في الباب، ثم تعتبر معانيه التي تظهر منه، فيقال تارة بدر كذا أي طلع طلوع البدر". وقال الأموي: "سمعتهم يقولون ما أحب أن تشوكك شوكة" وقال الكسائي: "ما أحب أن تشيكك شوكة، وهما لغتان". (النوادر لأبي مسحل- 2/116) . وتقول عصوته بالعصا وسطته بالسوط وهروته بالهراوة ورمحته بالرمح ونبلته بالنبل إذا طعنه ورماه (2/172) . واشتقوا من الثلاثي المزيد بحذف الزائد فقالوا: حنأ لحيته إذا خضبها بالحناء، لكنهم قالوا حنَّأها بالتشديد أيضاً. وقالوا أركت الإبل تأرك إذا لزمت الأراك، والأراك شجر من الحمض يُستاك بقضبانه، والواحدة أراكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 واشتقوا الثلاثي المزيد من اسم العين الثلاثي فقالوا: تأبَّل إذا اتخذ الإبل وتأرض إذا لصق بالأرض وتخشب صار كالخشب، وهكذا تحجر من الحجر. وقالوا تأسَّد واستأسد، من الأسد، كما قالوا تليَّث إذا أشبه الليث في جرأته وإقدامه، وقالوا تمزّن على قومه إذا تفضَّل عليهم من المزن أي السحاب. ويقال أرض مخلة فيها خُلَّة.. ومُروضة كثيرة الرياض ومُعشبة كثيرة العشب وعاشبة ذات عشب مثل لابن وتامر.. وآهله الله لهذا الأمر أي جعله له أهلاً، وأهَّله.. وفلان يعتصي على عصاه أي يتوكأ، وقالوا: استفيل واستنوق واستيس واستنسر واستذأب واستجمل، من الفيل والناقة والتيس والنسر والذئب. واشتقوا من الرباعي فقالوا ثعلب الرجل إذا راغ، وطحلب الماء إذا علاه الطحلب. واشتقوا من الرباعي المزيد فقالوا قرطس الرامي إذا أصاب القرطاس أي الغرض. وقالوا تنكَّب القوس إذا ألقاها على منكبه فاشتقوا بذلك من اسم العين المشتق، ومن هذا القبيل قولهم: تمنطق وتمدرع وتمسلم وتمسكن.. وكثُر (أفعَل) في اشتقاقهم من أسماء الأمكنة فقالوا أهضب إذا دخل الهضبة وهكذا أصحر وأسهل وأبحر وأبرّ وأغرب وأعرق وأيمن وأعمن وأحرم إذا دخل الحرم وأساف إذا أتى السيف بالكسر، وهو ساحل البحر. وكثر (أفعل) كذلك في اشتقاقهم من أسماء الأزمنة فقالوا أربع وأصاف وأخرف وأشتى وأفجر وأظهر وأعصر وآصل ... واشتقوا من أسماء الأصوات فقالوا من النعيق والخرير والصهيل والحسيس والأزيز والصرير والأنين والزئير والفحيح والطنين والهزيم والعواء والنباح والخوار والثغاء. نعق وخرّ وصهل وحسّ وأزّ ... وليست هذه مصادر الأفعال في الأصل وإنما هي أسماء للأصوات حاكوا بها أصداء الطبيعة مذ كانت اللغة في طراءة سنها وحداثة نشأتها، وكان اتصال الإنسان بالطبيعة اتصالاً لا انفصام له، تنبثق أداته في التعبير من أصدائها وأحداثها، يرعى أذنه فيتسقط حركاتها ويذكي الخاطر فيترصد سكناتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ولكن إذا صح أن الأفعال في الأصل إنما انتزعت من أسماء الأعيان، وكان الأمر على هذا جارياً، فما تأويل قول ابن جني في الخصائص (2/433) : "اشتقاق العرب من الجواهر قليل جداً، والأكثر من المصدر"، وقول السيوطي في المزهر (1/203- ط. المكتبة الأزهرية) : "والتاسع كون الأصل جوهراً والآخر عرضاً لا يصلح للمصدرية، ولا شأنه أن يشتق منه، فإن الرد إلى الجوهر حينئذ أولى لأنه الأسبق، فإن كان مصدراً تعيَّن الردّ إليه، لأن اشتقاق العرب من الجوهر قليل جداً والأكثر من المصادر". أقول لا شك أنه إذا نظر إلى اشتقاق لفعل بملحظ (نشوئي) فإن أسماء المحسوسات كالجواهر أو أسماء الأعيان، هي الأصل في هذا الاشتقاق فهي الأشياء التي تتناولها الحواس قبل أن تنتهي مدلولاتها إلى آفاق النفس. لكنك إذا اعتبرت كلام الأئمة وجدت أنهم قد نحوا في اشتقاق الفعل منحى آخر، ذلك أنهم لحظوا أن المصدر ألصق بالفعل من حيث بناؤه وما يعتري هذا البناء وما يعترضه من الاتباع والإبدال والقلب والإعلال، فقرنوا هذا إلى ذاك، لأن كلاً أشبه بصاحبه من حيث كيانه وما يمكن أن يتعرض لها في التصريف. وملحظهم هذا ملحظ (صرفي) لا (نشوئي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وقد ذهب الدكتور صبحي الصالح في كتابه (دراسات في فقه اللغة/ 199) إلى أن الأئمة قد بنوا مذهبهم في رد الأفعال إلى المصادر، على اعتقاد وجود أسماء المعاني قبل أسماء الأعيان، وهو محال، ومن ثم وجب رد الأفعال في نشأتها إلى أسماء الأعيان. قال الدكتور الصالح: "إن البداهة تقضي بوجود أسماء الأعيان المشاهدة المرئية التي تناولتها الحواس، قبل أسماء المعاني. لذلك كانت الأعيان، هي أصل الاشتقاق دون المصادر.. كيف وقد امتلأت معاجمنا وكتبنا اللغوية بما لا يُحصى من الجواهر التي تفرعت عنها الصفات والأحوال والمصادر والأفعال". أقول لم يسبق إلى اعتقاد الأئمة أن المصادر قد وضعت قبل أسماء الجواهر البتة، وهذا حالهم حين قالوا الاسم قبل الفعل، فانظر إلى ما قاله ابن جني في الخصائص (1/429-432. ط- 1913) : "وإنما يعني القوم بقولهم أن الاسم أسبق من الفعل أنه أقوى في النفس، وأسبق في الاعتقاد من الفعل، لا في الزمان.. فأما الزمان فيجوز أن يكونوا عند التواضع قدموا الاسم قبل الفعل، ويجوز أن يكونوا قدموا الفعل في الوضع قبل الاسم.." وأردف: "فإذا رأيت بعض الأسماء مشتقاً من الفعل، فكيف يجوز أن يعتقد سبق الاسم للفعل في الزمان، وقد رأيت الاسم مشتقاً منه، ورتبة المشتق منه أن يكون أسبق من المشتق نفسه" وانتهى من ذلك إلى القول: "وأيضاً فإن المصدر مشتق من الجوهر كالنبات من النبت وكالاستحجار من الحجر، وكلاهما اسم..". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وهكذا ذهب ابن جني إلى أن المصدر، وهو الأصل في اشتقاق الفعل عند البصريين قد انتزع من الجوهر. وحين بحث الأئمة أسماء الأعيان وأسماء المعاني أيهما أسبق في النشأة وأوغل في القدم قدروا أن الأعيان في الموازنة هي المتقدمة، والمعاني هي المتخلفة حقيقة وأصلاً. فانظر إلى ما ذهب إليه السكاكي في كتابه مفتاح العلوم، فقد جعل الكلم المستقرأة نوعين: الأول ما "يشهد التأمل بتقدمه في باب الاعتبار والثاني ما جاء بخلاف ذلك" وهو المتخلف، فسلك في المتقدم (الجوامد) أي الجواهر، وفي المتخلف (الأفعال وما يتصل بها من الأسماء) أسماء المعاني والصفات. بل أكد أن أكثر ما يتصل بالأفعال من الأسماء هو فرع من الأفعال، وأردف: "إلا المصدر عند أصحابنا البصريين، رحمهم الله/ 14" فإنهم يعتدّون الفعل فرعاً عليه. وهو لم يشايعهم فيما انتحوه وقرروه، بل جاز مجاز الكوفيين في مخالفة البصريين، وذهب مذهبهم وجرى مجراهم فاعتد المصدر فرعاً على الفعل. لم يكن كلام الأئمة أقل وضوحاً وأدنى دقة وجلاء حين بحثوا الجوهر والعرض فلم تغم عليهم معرفة في ذلك، أو تستسر حقيقة. فانظر إلى ما حكاه السيوطي في (الأشباه والنظائر/ 168) عن (الإيضاح في علل النحو للزجاجي) : "قد عرفناك أن الأشباه تستحق المرتبة والتقديم والتأخير على ضروب فنحكم لكل واحد منها بما يستحقه، وإن كانت لم توجد إلا مجتمعة. ألا ترى أنا نقول أن السواد عرض في الأسود، والجسم أقدم من العرض بالطبع والاستحقاق. وأن العرض قد يجوز أن يتوهم زائلاً، والجسم باق! فنقول أن الجسم الأسود قبل السواد، ونحن لم نر الجسم خالياً من السواد الذي هو فيه، ولا رأينا السواد قط عارياً عن الجسم، بل لا يجوز رؤيته لأن المرئيات إنما هي الأجسام الملونة، ولا تدرك الألوان خالية من الأجسام ولا الأجسام غير ملونة". المصدر ولفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 البصريون والكوفيون على خلاف في أصل الاشتقاق. فقد أكد البصريون أن الفعل فرع على المصدر في الاشتقاق، على أن من هؤلاء من رد الصفات إلى المصدر أيضاً، ومنهم من ردها إلى الفعل. وخالفهم الكوفيون فأكدوا أن الفعل هو الأصل والمصدر هو الفرع. قال سيبويه في الكتاب (1/1) : "وأما الفعل فامثلته أخذت من لفظ أحداث الأسماء. والأحداث نحو الضرب والقتل والحمد.." فجعل أحداث الأسماء وهي المصادر الأصل في الاشتقاق وقال ابن جني في الخصائص (1/127) : "وإذا ثبت أمر المصدر الذي هو الأصل، لم يتخالج شك في الفعل الذي هو الفرع" فاعتد المصدر هو الأصل والفعل هو الفرع. على أنه رد الصفات إلى الفعل فقال (1/432) : ".. قيل يمنع من هذا أشياء، منها وجود أسماء مشتقة من الأفعال، نحو قائم من قام، ومنطلق من انطلق، ألا تراه يصح لصحته ويعتل لاعتلاله نحو ضرب فهو ضارب وقام فهو قائم وناوم فهو مناوم". ولكن ما حجة البصريين في أصلية المصدر وفرعية الفعل؟. الاشتقاق عند البصريين هو اقتطاع فرع من أصل يدور في تصاريفه الأصل. ويراد بالأصل هنا الحروف الموضوعة على المعنى وضعاً أولياً. فالفرع لفظ فيه تلك الحروف مع نوع تغيير، ينضم إليه معنى زائد على الأصل. فالضرب يدل بلفظه على الحركة المعلومة المسماة بهذا الاسم وحدها فهو الأصل، أما ضرب ويضرب وضارب ومضروب فهو الفرع، ذلك أن فيه حروف الأصل وهي الضاد والراء والياء، وزيادات لفظية، وهو ينطوي بهذه الحروف والزيادات على معنى الأصل وهو الضرب ومعنى آخر، وهكذا بنى البصريون رأيهم على أن الفرع ما كان فيه معنى الأصل مع زيادة هي غرض الاشتقاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وقد أيد البصريين فيما ذهبوا إليه، واقتاس بهم، وجرى على منهاجهم كثير من الأئمة، وفي مقدمة هؤلاء أبو البركات ابن الأنباري (ت 577هـ) في كتابه (الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين) وأبو البقاء عبد الله بن الحسن بن عبد الله العكبري (ت 616هـ) في كتابه (التبيين في مسائل الخلاف بين الكوفيين والبصريين) ولم يبق من هذا الكتاب إلا نُقول جاءت في بعض كتب الخلف، ومنها كتاب (الأشباه والنظائر) للسيوطي إذ جاء فيه (1/128) : "قال أبو البقاء في التبيين: الدليل على أن الفعل مشتق من المصدر طرق، منها: وجود حد الاشتقاق في الفعل، وذلك أن الفعل يدل على حدث وزمان مخصوص فكان مشتقاً وفرعاً على المصدر.. وتحقيق هذه الطريقة أن الاشتقاق يراد لتكثير المعاني، وهذا المعنى لا يتحقق إلا في الفرع الذي هو الفعل، وذلك أن المصدر له معنى واحد، وهو دلالته على الحدث فقط، ولا يدل على الزمان بلفظه، والفعل يدل على الحدث والزمان المخصوص فهو بمنزلة اللفظ المركب فإنه يدل على أكثر مما يدل عليه المفرد، ولا تركيب إلا بعد الإفراد، كما أنه لا دلالة على الحدث والزمان المخصوص إلا بعد الدلالة على الحدث وحده ... " وأردف: "وطريقة أخرى وهي أن تقول: الفعل يشتمل لفظه على حروف زائدة على حروف المصدر، تدل تلك الزيادة على معان زائدة على معنى المصدر، فكان مشتقاً من المصدر.. ومعلوم أن ما لا زيادة فيه أصل لما فيه الزيادة..". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وقال بقول البصريين كثير من المحدثين ومنهم الأستاذعبد الله أمين، كما جاء في مجلة مجمع اللغة العربية القاهري (1/382) ، وقد استند في ذلك إلى أن الأنباري صاحب الإنصاف قد ساق في المسألة آراء كل من الجانبين ووازن بينها فلم يدع مقالاً لقائل، وقد خلص إلى الأخذ بمقالة البصريين. قال الأستاذ أمين: "المبحث الأول في أن أصل المشتقات المصدر، كما قال البصريون، لا الفعل، كما قال الكوفيون. وإذ كان الإمام الجليل كمال الدين أبو البركات ابن انباري النحوي، رضي الله عنه، قد ساق في المسألة الثامنة والعشرين، في الصفحة الثانية بعد المائة، من كتابه المسمى، الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين، آراء البصريين والكوفيين في أصل المشتقات ووازن بينها ولم يدع فيما جاء به مقالاً لقائل، فإني أكتفي في هذا المبحث بما كتب ونقلت عنه وعولت عليه..". ومن هؤلاء الدكتور صبحي الصالح، إذ رأى في ذلك رأي البصريين ونزع منزعهم واستن بسننهم. فقد استشهد بما جاء في (أصول النحو) للأستاذ سعيد الأفغاني. قال الأفغاني: "المصدر يدل على حدث وزمن، والأسماء المشتقة تدل على حدث وزمن وزيادة ثالثة كالدلالة على الفاعل والمفعول". أقول لم يزد الأفغاني على أن جاء بمقالة البصريين القائمة على أن الفرع ما كان فيه الأصل مع زيادة هي غرض الاشتقاق. فالمصدر هو الأصل لأنه يدل على الحدث مطلقاً والفعل هو الفرع ففيه ما في المصدر من الحدث وزيادة هي الدلالة على الزمن المعين. وكذلك الوصف فالوصف فرع على المصدر كالفعل. وقيل بل الوصف منطو على ما في الفعل من حدث وزمن وزيادة هي الدلالة على الموصوف، فهو فرع على الفعل، فالفعل فرع وأصل، وعليه السيرافي وأبو علي الفارسي وابن جني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وقصارى ما هناك أننا إذا جرينا مجرى البصريين في قضية الاشتقاق من حيث تعريف (الفرع) المشتق منسوباً إلى (الأصل) المشتق منه بأنه (ما دل على ما دل عليه الأصل وزيادة) انتهينا إلى ما انتهوا إليه، فعلى هذا مدار الكلام ومتصرفه، ولكن هل ثمة ما يوجب اعتبار هذا التعريف الحقيقي بالضرورة، والاقتداء به والانتصار له، أليس هناك موقف فسحة وسعة أخلق بالإيثار وأحرى بالاختيار! قال الأستاذ الشيخ حسين والي عضو المجمع (2/202) : "رجحوا ما رأى أهل البصرة من أن المصدر هو الأصل، بحجة أن شأن الفرع أن يكون فيه ما في الأصل وزيادة، وهي أقوى ما عندهم من الحجج، مع أنه لا يقوم برهان يؤيدها، ولو قام برهان كذلك لأكره عقول أهل الكوفة على قبوله، حتى يرجعوا عن جعلهم المصدر، الذي لا يدل إلا على الحدث فرعاً من الفعل، الذي يدل على الحدث والزمان المعين. فإن في ذلك زيادة الأصل على الفرع. فالمسألة ظن واجتهاد، وبعض الظن والاجتهاد أولى من بعض". وجاء في شرح الأشموني على ألفية ابن مالك (2/251) : "وكونه أي المصدر أصلاً في الاشتقاق لهذين أي للفعل والوصف ... هو مذهب البصريين، وخالف بعضهم فجعل الوصف مشتقاً من الفعل فهو فرع الفرع، وذهب الكوفيون إلى أن الفعل أصل لهما، وزعم ابن طلحة أن كلاً من المصدر والفعل أصل برأسه، ليس أحدهما مشتقاً من الآخر"، وأردف: "والصحيح مذهب البصريين لأن شأن الفرع أن يكون فيه ما في الأصل وزيادة، والفعل والوصف مع المصدر بهذه المثابة، إذ المصدر إنما يدل على مجرد الحدث وكل منهما يدل على الحدث وزيادة". وقد عقب على ذلك الإمام الصبان فقال: "قوله لأن من شأن الفرع أن يكون فيه الأصل وزيادة.. ما هنا ليس كذلك، أفاده الدنوشري.. وقد ناقش قولهم أن من شأن الفرع الزيادة على أصل بأنه لا برهان يقتضي ذلك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 فإذا نحن لم نخلد إلى التعريف اللفظي للفرع والأصل، في مقالة البصريين، وفزعنا إلى تعريف حقيقي يكون للماهية فيه تحقق وثبوت، كأن تقول: "الأصل ما سبق تصوره وقيامه في الذهن" كان التعريف أليق بالواقع اللغوي. وإذا كان المدرك الحسي أسبق إلى الذهن من المدرك المعنوي، وأجناس الأعيان أسبق من أجناس المعاني ومنها المصادر، كان المصدر الدال على العموم والجنس والمطلق متخلفاً عما يمكن تصوره من أسماء الأعيان وما انتزع منها من أفعال واشتق من هذه من صفات، وما صح أنه الأسبق هو الأصل. قال ابن جني في الخصائص: "ورتبة المشتق منه أن يكون أسبق من المشتق نفسه". وأشار الكوفيون إلى نحو من هذا فقالوا إن المصدر لا يتصور معناه ما لم يكن فعل فاعل، والفعل وضع له، فعل يفعل، فينبغي أن يكون الفعل الذي يعرف به المصدر أصلاً للمصدر. أما احتجاجهم بأن المصدر يعتل باعتلال الفعل، والاعتلال حكم تسبقه علته، فإذا كان الاعتلال في الفعل أولاً، وجب أن يكون أصلاً، وكذا قولهم بأن الفعل يعمل في المصدر كقولك ضربته ضرباً، والمؤثر أقوى من المؤثر فيه، والقوة تجعل القوي أصلاً لغيره.. أقول احتجاجهم بهذا وذاك احتجاج اعتباري لا يكاد يقف فيه الجدل على وجه يخلد إليه بيقين. وقد بحث المسألة الدكتور مصطفى جواد عضو المجمع العلمي العراقي، رحمه الله، في كتابه (دراسات في فلسفة اللغة والنحو والصرف) فناقش ووازن وكايل وأدلى بحججه وانتهى من بحثه إلى الأخذ بمذهب الكوفيين، واستدل على صحة دعواه بثلاثة عشر دليلاً فقال: "هذه ثلاثة عشر دليلاً تنتقض دعوى سيبويه أن الفعل صادر عن المصدر، وهي أدلة نحن اهتدينا إليها ولم يقف عليها الكوفيون وغيرهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 أقول إني لأستسرف دعوى جواد هذه، فإذا كان قد أصاب في ذهابه مذهب الكوفيين وقياسه قياسهم فإن جل ما جاء به من الأدلة على سداده واستقامته، اصطلاحي اعتباري. ويكاد يكون أظهر هذه الأدلة أن الفعل تجسيد والمصدر تجريد والمجسد أسبق إلى الذهن من المجرد، وليس هذا جديداً كما أوضحناه، وكذلك قوله أنك تكتب ثم تسمي فعلك الكتابة وهو ما صرح به الكوفيون حين ذكروا أن المصدر لا يتصور معناه ما لم يكن فعل فاعل. فليس صحيحاً أنه قد تفرد بما ساق من الأدلة فأتى مبتكراً، بما لم تفتح العين على مثله، أو نزع مقترحاً، إلى ما لم يسبق إليه سابق أو ينازعه فيه منازع. وتابع السكاكي أبو يعقوب (ت 626هـ) في (مفتاح العلوم) الكوفيين فاقتاس بهم ووطئ مواقع أقدامهم واعتل لأصالة الفعل بأن المصدر يتبع الفعل في إعلاله وتصحيحه، ودليل السكاكي هذا اعتباري اصطلاحي. على أن ثمة منحى يوضح الأمر ويجلوه ويكشف عن مكنونه، ذلك أن اللغات السامية قد اعتدّت الفعل أصلاً للاشتقاق دون المصدر، كما أوضح ذلك الدكتور اسرائيل ولفنسون في كتابه " تاريخ اللغات السامية"/14/ إذا قال تتميز اللغات السامية في بعض أحوالها عن أنواع اللغات الأخرى بمميزات وخصائص تجعل من كل من هذه اللغات كتلة واحدة. وأهم تلك المميزات تنحصر: 1-في أن هذه اللغات تعتمد على الحروف الصامتة وحدها ولا تلتفت إلى الحروف الصوتية كما هي الحال في اللغات الآرية.. 2-وأن أغلب الكلمات يرجع في اشتقاقه إلى أصل ذي ثلاثة أحرف.. 3-واشتقاق الكلمات من أصل هو الفعل ... " وأردف: "وقد رأى بعض علماء اللغة العربية أن المصدر الاسمي هو الأصل الذي يشتق منه أصل الكلمات والصيغ، لكن هذا الرأي خطأ في رأينا لأنه يجعل أصل الاشتقاق مخالفاً لأصله في جميع أخواتها السامية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 عزا ولفنسون مذهب الأئمة في اعتداد المصدر أصلاً في الاشتقاق، إلى مجاراتهم الفرس فقال: "وقد تسرب هذا الرأي إلى هؤلاء العلماء من الفرس الذين بحثوا في اللغة العربية بعقليتهم الآرية، والأصل في الاشتقاق عند الآريين أن يكون من مصدر اسمي. أما في اللغات السامية فالفعل هو كل شيء فمنه تتكون الجملة، ولم يخضع الفعل للاسم والضمير بل نجد الضمير مسنداً إلى الفعل ومرتبطاً به ارتباطاً وثيقاً". وقد عالج الأستاذ الأفغاني هذا الرأي فقال: "ثم ذكر هذا المستشرق اليهودي أن هذه نظريته الخاصة، إذ لم يشر إليها أحد من علماء الإفرنج. ومع رغبته في أن يعم بنظريته هذه اللغة العربية ولغته العبرية، يجدر بالمتأمل الوقوف وعدم القطع، ما لم يقم عليه البرهان الساطع، فما أكثر الظواهر التي خالفت فيها العربية أخواتها الساميات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 أقول لا بد للغات عامة أن تتغاير فيعزى ما تقارب منها في أصوله إلى فصيلة واحدة، فالذي يقع فيه التغاير بين فصيلة وأخرى إنما هو القواعد والأصول الأخرى كالبنية اللغوية والاشتقاق، دون الأشكال والمفردات. فالذي ذكروه أن العربية خالفت بعض أخواتها في أداة التعريف وعلامة الجمع، كما أورده الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه (فقه اللغة) والأستاذ محمد عطية الابراشي في كتابه (الآداب السامية) ، ولكنها لم تخالفها في البنية اللغوية وطريقة الاشتقاق، كاعتمادها على الحروف الصامتة دون الصوتية، ورد الكلم إلى أصل ثلاثي، ووحدة الأصل في بنيتها وعدم تعدده كما يتعدد في اللغات الآرية. قال الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه (علم اللغة/ 133) : "وقد اعتمدنا في التفرقة بين هاتين الفصليتين- أي السامية والآرية- على أمور تتصل بالقواعد لا بالمفردات، وذلك لأن ناحية القواعد هي أهم ما تمتاز به الفصائل بعضها عن بعض، فمنها تتكون شخصية اللغات وإليها ترجع مقوماتها، وهي التي تمثل المظهر الثابت المستقر في اللغات، فهي لا تكاد تتغير.. فتشابه لغتين في القواعد يدل إذن على انتمائهما إلى فصيلة واحدة، واختلافهما فيها يدل على اختلاف فصيلتيهما..". فإذا استقر الأمر على ما بيناه، صح معه أن مغايرة العربية لأخواتها السامية إنما كانت في الأشكال والفروع، لا في القواعد والأصول، واعتماد اللغات السامية في اشتقاقها على الفعل، إنما هو من هذه القواعد والأصول. هذا ما رأينا أن نعرض له من مذاهب النحاة وآرائهم في مصادر الأفعال والكشف عن دلالاتها وطرائق جمعها وصوغها وقياسها واشتقاقها وأعمالها، فيما صدقت نيات الأوائل في تحري صوابه وابتغاء حقائقه بأفصح لسان وأبلغ بيان. وقد استعنا في البحث بما استقر في هذا الباب من ضوابط وقواعد، ليقطع في الأمر برأي لا يعوزه تدبر، ويقين لا خفاء به ولا ارتياب، هذا وجه مطلبه والوقوع عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ونحن نعتذر مما بسطنا القول فيه ليقف القارئ في كل مسألة على ما استبهم من وجوهها واستغلق من أحنائها، فتخف الكلفة عليه في تحصيلها، ويكون على ثقة من إصابة الرأي فيما تشعبت مذاهب القول في قبوله ورده، واشتدت الحاجة إليه في التعبير والاصطلاح ومسَّت في تحقيق المعاني وضبط دقائقها. ولا بد في مسالك البحث هذه من إنعام الفكر وإنعام الروية ليخلص الرأي من كل شائبة ويصفو من كدر أو معابة، فليس القائل بعلمه واجتهاده كالقائل بظنه وتقليده لا يخالف في رأي أو ينازع في حكم وأرجو أن أكون قد أدركت من بحثي ما أردت فلم أخطئ القصد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الفعل تعريفه وَأقسامُهُ وأبوابُه تشعبت أقوال النحاة في تعريف الفعل، وتباينت مذاهبهم في اعتماد الحد الذي يعقد عليه هذا التعريف، كما اختلفت كلمتهم في تقسيمه بين البصرية والكوفية. ولابد من بسط الكلام على هذا كله، قبل المضي في البحث عن أبوابه. تعريف الفعل: أقدم ما بلغنا في تعريف الفعل مقالة سيبويه (183هـ) ، في الكتاب. قال سيبويه في (باب علم ما الكلمُ من العربية ـ 2/ 1) : "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وماهو كائن لم ينقطع"، وأردف: "فأما بناء ما مضى فذهب وسمع ومُكث وحُمد، وأما بناء ما لم يقع فإنه قولك آمراً: اذهب واقتل واضرب، ومخبراً: يقتل ويذهب ويضرب ويُقتل ويُضرب، وكذلك بناء مالم ينقطع وهو كائن إذا أخبرت"، وختم كلامه فقال: "فهذه الأمثلة التي أخذت من لفظ أحداث الأسماء، ولها أبنية كثيرة، ستبين إن شاء الله". *تعريف الفعل بالمثال: ونلحظ أن هذا التعريف إنما عقد على حد (المثال) إذ قال: "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء". فالفعل، كما جاء، أمثلة اشتقت من لفظ أحداث الأسماء، أي المصادر. قال سيبويه: "الأحداث نحو الضرب والقتل والحمد". فمن هذه الأمثلة ما اشتق لما مضى، وهو الفعل الماضي، وما اشتق لما يكون ولم يقع، وهو فعل الأمر، وثالث اشتق لما هو كائن لم ينقطع، وهو المضارع، وكل مثال من هذه الأمثلة قد صيغ لزمن من الأزمنة. وممن جرى على منهاج سيبويه هذا في تعريف الفعل فاتخذ (المثال) حداً في التعريف كبير نحاة الأندلس أبو بكر محمد بن الحسن الزُبيدي الإشبيلي الأندلسي (379هـ) . وقد عُرف نحاة الأندلس بسلوك طرائق النحاة المشارقة في كثير مما كتبوه في اللغة والأدب، وقد يستدركون عليهم شيئاً مما حققوه. فألَّف الزبيدي مختصر كتاب العين للخليل بن أحمد، وطبقات النحويين واللغويين بالمشرق والأندلس، وكتاب الواضح في العربية. وقد عكف على (الكتاب) مؤلف سيبويه فثقفه ومهره وأحصى مسائله واستقرى دقائقه، لكنه استدرك عليه بعض ما جاء فيه، في كتابه (الأبنية) ، قال الزبيدي في كتاب الواضح: "اعلم أن جميع الكلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: اسم وفعل وحرف جاء لمعنى. فالاسم.. والفعل قولك: ضرب وخرج وانطلق، ويضرب ويخرج، واضرب واسمع، وما أشبه هذا"، فلم يزد في تعريف الفعل على أن جاء بأمثلة منه للماضي والمضارع والأمر. *تعريف الفعل بإحدى دلالتيه الزمن وبدلالتيه الحدث والزمن: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ومن النحاة من اتخذ في تعريف الفعل حد الزمن وحده. فالفعل ما اقترن بزمن والاسم مالم يقترن به. ويُعترض على هذا بأن الزمن واحد من دلالتي الفعل، فقد وضع الفعل ليدل على معنى، الزمن جزء منه، كما وضع الاسم ليدل على معنى، ليس الزمن جزءاً منه. وأقدم تعريف اتخذ مثل هذا الحد، هو ما جاء به الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة (189هـ) . فقد روي عن الكسائي أنه قال: "الفعل ما دل على زمان"، كما ذكره الدكتور الساقي في كتاب (أقسام الكلام العربي/69) . والكسائي إمام الكوفيين في النحو واللغة وأحد القراء السبعة. وقد حذا هذا الحذو أبو الحسن بن كيسان (299هـ) ، فقد حكي عنه قوله: "الفعل ما كان مذكوراً لأحد الزمانين: إما ماضٍ أو مستقبل، والحد بينهما"، كما أشار إليه الدكتور الساقي في كتابه (أقسام الكلام العربي/69) . وابن كيسان أحد العلماء البغداديين الذين أخذوا النحو عن إمام البصريين المبرّد أبي العباس محمد بن يزيد (285هـ) ، وإمام الكوفيين ثعلب أبي العباس أحمد بن يحيى (291هـ) . فكان بصرياً كوفياً. وإذا كان الكسائي وابن كيسان قد عرّفا (الفعل) بالزمن فوصفاه بأحد دلالتيه، فقد عمد النحاة بعدهما إلى إحكام تعريفه فوصفوه بدلالتيه (الحدث والزمن) . وأقدم ما جاء من ذلك في تعريف الفعل، ما قاله أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي (337هـ) ، في كتابه الإيضاح: "الفعل على أوضاع النحويين ما دل على حدث وزمان ماضٍ أو مستقبل نحو قام يقوم/53". وذكر ذلك في كتاب (الجمل/17) . أيضاً. والزجاجي ممن جمعوا علم الكوفة إلى علم البصرة، وقد كان إلى البصرية أميل، لكنه لم يتعصب لأحد المذهبين فيحاكي بغير دليل أو يتابع بغير حجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ونهج الفارسي أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار (377هـ) . نهج الزجاجي في التعريف فقال: "كل لفظة دلت على معنى مقترن بزمان محصل". ولما وصف المعنى باقترانه بالزمان تحقق أنه الحدث، وفي إشارته إلى اقتران الحدث بزمان محصل زيادة في الإحكام. والفارسي كما هو معروف علم من أعلام البصرة والقياس. ومن مؤلفاته الإيضاح والتكملة والتذكرة وسواها. وجرى النحاة بعد الفارسي على هذه السنة في التعريف فقال جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (538هـ) ، في كتابه (المفصل/ 243) : "الفعل ما دل على اقتران حدث بزمان". والزمخشري من أئمة القياس بعد الفارسي وابن جني، وهو صاحب المفصل والكشاف. وعلى ذلك كلام ابن الحاجب في الكافية (646هـ) ، إذ قال: "الفعل ما دل على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة". وقد عقب على هذا شارح الكافية الإمام عبد الرحمن محمد الجامي (897 هـ) ، فقال: "ولما وصف ذلك المعنى باقترانه بالزمان تعين أن يكون المراد به الحدث". وابن الحاجب هو أبو عمرو عثمان بن عمر. وقد صنف في النحو الكافية وشرحها، وشرح (المفصل) بكتابه (الإيضاح) ، كما صنف في الصرف كتابه (الشافيه) . وهكذا فعل الإمام الرضي في شرحه لكافية ابن الحاجب، إذ قال: "إن هذا اللفظ الدال على معنى مفرد أعني الكلمة، إما أن يدل على معنى في نفسه أو على معنى لا في نفسه، الثاني الحرف ... والأول أي الكلمة الدالة على معنى في نفسها إما أن تقترن بأحد الأزمنة الثلاثة أولاً، الثاني الاسم ... والأول الفعل أي الكلمة الدالة على معنى في نفسها مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ... /7". والرضي هو الشيخ رضي الدين محمد بن الحسن الاسترباذي (686هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ولا ننسى الإمام ابن عقيل عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله (769هـ) ، شارح ألفية ابن مالك، محمد بن عبد الله بن مالك جمال الدين الطائي (672هـ) ، إذ قال: "الكلمة إما اسم وإما فعل وإما حرف، لأنها إن دلت على معنى في نفسها غير مقترن بزمان فهي الاسم، وإن اقترن بزمان فهي الفعل، وإن لم تدل على معنى في نفسها بل في غيرها فهي الحرف". أما ابن مالك فقد عرّف الفعل في شرح التسهيل بدلالتيه الحدث والزمان المعين، كما عرّفه في تسهيله وشرحه بشأنه في الإسناد، بل عرَّفه في ألفيته بعلاماته أيضاً، كما سنراه. ولم يخرج السيوطي الإمام الحافظ جلال الدين بن عبد الرحمن بن أبي بكر (911هـ) ، في كتابه (همع الهوامع/4) ، عما جاء به ابن الحاجب في الكافية والجامي والرضي في شرح الكافية، وابن عقيل في شرحه للألفية. ومضى سائر المتأخرين من النحاة على هذا النهج حتى القرن الرابع عشر الهجري. فقد ثبت بما تقدّم أن النحاة قد نحوا منذ القرن الرابع الهجري إلى تعريف الفعل بدلالتيه الحدث والزمان. وقد اهتدوا إلى ذلك بطبيعة الحال باستقراء مواضع استعمال الفعل العربي في مختلف نصوصه شعراً ونثراً. ولا يعني هذا بالطبع أن أسلافهم قد قصدوا في تعريف الفعل إلى إغفال هاتين الدلالتين وكل ما في الأمر أن كل جماعة قد اتجه اهتمامها إلى صفة أو أكثر من صفات الفعل، أو خاصة أو أكثر من خواصه، أو استرعى نظرها شأن من شؤونه في بناء الجملة، فأبرزت ذلك في تعريفها له. فقد قال سيبويه في تعريف الفعل مثلاً أنه أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وبنيت لما مضى ولما يكون، ومادام الفعل قد اشتق من لفظ الأحداث، أي المصادر، وبُني لما مضى ولما يكون فقد اقترن معناه هذا بالزمان فتعيّن بذلك أن يدل على الحدث والزمان جميعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ولا ننسى أن سيبويه قد أشار في تعريفه هذا إلى مذهب البصريين في اشتقاق الفعل من المصدر، فالمصدر هو الأصل والفعل هو الفرع، خلافاً للكوفيين الذين اعتدوا الفعل هو الأصل. وقد استوفى أبو البقاء العكبري عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن الحسين الإمام محب الدين (616هـ) ، شرح مذهب البصرية هذا. قال السيوطي في (الأشباه والنظائر ـ 1/ 128) : "قال أبو البقاء في التبيين: الدليل على أن الفعل مشتق من المصدر طرق، منها: وجود حد الاشتقاق في الفعل، وذلك أن الفعل يدل على حدث وزمان مخصوص فكان مشتقاً وفرعاً على المصدر ... وتحقيق هذه الطريقة أن الاشتقاق يُراد لتكثير المعاني، وهذا المعنى لا يتحقق إلا في الفرع الذي هو الفعل، وذلك أن المصدر له معنى واحد، وهو دلالته على الحدث فقط، ولا يدل على الزمان بلفظه، والفعل يدل على الحدث والزمان المخصوص، فهو بمنزلة اللفظ المركب فإنه يدل على أكثر مما يدلّ عليه المفرد، ولا تركيب إلا بعد الإفراد، كما أنه لا دلالة على الحدث والزمان المخصوص إلا بعد الدلالة على الحدث وحده ... "، وأردف: "وطريقة أخرى وهي أن تقول: الفعل يشتمل لفظه على حروف زائدة على حروف المصدر، تدل تلك الزيادة على معاني زائدة على معنى المصدر، فكان مشتقاً من المصدر ... ومعلوم ما لا زيادة فيه أصل لما فيه الزيادة ... ". والعكبري هو صاحب اللباب في علل البناء والإعراب، ومؤلف الإعراب عن علل الإعراب، والبيان في إعراب القرآن، وإعراب الحديث النبوي وسواها. وهو من مصنفاته النحوية محيط بآراء أئمة النحو. وقد أخذ بآراء البصرية عن بيّنة وساق أدلّتهم وحججهم وقام بشرح كثير من مصنفاتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وممن عرّف الفعل بدلالتيه الحدث والزمان أبو حيان الأندلسي أبو عبد الله محمد ابن يوسف بن علي بن يوسف، فقال: "إنه ـ أي الفعل ـ يدل على الحدث بلفظه وعلى الزمان بصيغته". كما حكاه السيوطي في الاقتراح (ص/10) ، وقد أشار ابن جني (392هـ) إلى هذا في الخصائص (3/ 98) ، فقال: "ألا ترى إلى ـ قام ـ ودلالة لفظه على مصدره، ودلالة بنائه على زمانه، ودلالة معناه على فاعله، فهذه ثلاث دلائل من لفظه وصيغته ومعناه". فأوحى كلامه هذا بأن تعريف الفعل بدلالتيه أدنى إلى علم الصرف الذي يبحث بنية الكلمة فيعنى بالمفردات من حيث صورها وهيآتها، على حين جاء تعريف الفعل بشأنه في الإسناد، كما سنرى، أدنى إلى علم النحو الذي يُعنى ببناء الكلام وتأليفه فيتناول الإسناد أي نسبة كل من عنصري الجملة اسمين كانا أو اسماً وفعلاً أحدهما إلى الآخر، حقيقة وحكماً. أوليس الإسناد ضم كلمة أو ما يجري مجراها إلى أخرى بحيث يفيد الحكم بأن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى أو منفي عنه؟.. وقد قصد بما يجري مجرى الكلمة الجملة الواقعة خبراً عن مبتدأ. قال الشريف علي بن محمد الجرجاني في تعريفه: "الإسناد في عرف النحاة عبارة عن ضم إحدى الكلمتين إلى الأخرى على وجه الإفادة التامة، أي على وجه يحسن السكوت عليه، وفي اللغة إضافة الشيء إلى الشيء /14". *تعريف الفعل بشأنه في الإسناد: نحا النحاة في القرن الرابع الهجري نهجاً آخر في تعريف الفعل فعرَّفوه بملاحظة ماله من شأن في الإسناد. فالاسم في بناء الجملة ما يسند ويسند إليه، أي يخبر به ويخبر عنه، والفعل ما يسند ولا يسند إليه أي يخبر به ولا يخبر عنه، أما الحرف فما لا يسند ولا يسند إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وأقدم تعريف اعتمد هذا الحد، في تعريف عناصر الجملة الثلاثة الاسم والفعل والحرف وتمييز أحدهما من الآخر، هو أبو بكر محمد بن السري المعروف بابن السرّاج (316هـ) . فعلى حين نهج في كتابه (الخط) نهج سيبويه في التعريف، فقال: "الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم مثل رجل وفرس والفعل مثل جلس يجلس، والحرف نحو من وحتى والباء في قولك: مررت بزيد، واللام في قولك: لزيد مال..". فقد نهج في كتابه (الموجز) نهجاً طريفاً فقال: "والفعل ماكان خبراً، ولا يجوز أن يخبر عنه"، وأبو بكر هذا قد أخذ النحو واللغة عن المبرَّد أبي العباس محمد بن يزيد، وإليه انتهت رسالة النحو بعد موت الزجاج أبي إسحاق (311هـ) ، ولأبي بكر عدة مؤلفات منها (الخط) و (الأصول) وموجزه، وقد خالف فيها البصريين في مسائل كثيرة. وحذا هذا الحذو في تعريف الفعل شيخ نحاة الأندلس أبو علي عمر بن محمد الإشبيلي المعروف بالشلوبين (645هـ) ، فقد حكي عنه قوله: "وأيضاً فإن الاسم يخبر به ويخبر عنه، والفعل لا يكون إلا مخبراً به، والحرف لا يخبر به ولا يخبر عنه". كما جاء في الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 119) ، وللشلوبين كتاب في التعليق على كتاب سيبويه، وآخر في النحو سمَّاه التوطئة وقد شاع نحو من هذا التعريف عند كثير من علماء الأندلس الذين رحلوا إلى الشرق، ومنهم محمد بن عبد الله بن مالك جمال الدين الطائي (672هـ) ، وقد نسب إلى (جيَّان) الأندلسية وهي تقع إلى الشرق من قرطبة. ولد ابن مالك في هذه البلدة وانتقل إلى دمشق وتوفي فيها. وقد صاغ في (النحو) ألفيته التي نظمها وسماها بالخلاصة، وذاع صيتها وكثر شراحها، ومن هؤلاء الشراح ابن الناظم بدر الدين بن محمد بن عبد الله بن مالك (686هـ) ، وقد جاء في شرح التسهيل لابن مالك قوله: "الكلمة إن لم تكن ركن الإسناد فهي الحرف، وإن كانت ركناً له فإن قبلت الإسناد بطرفيه فهي اسم، وإلا فهي فعل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وقال الإمام بدر الدين في شرحه للألفية: "الكلمة إما أن يصح أن تكون ركناً للإسناد أولا، الثاني: الحرف، والأول: إما أن يصح أن يسند إليه أولا، الثاني الفعل والأول الاسم". وجرى على ذلك شرّاح الألفية فقال علي بن محمد بن عيسى أبو الحسن الأشموني (نحو 900 هـ) : "إن الكلمة إما أن تصلح ركناً للإسناد أو لا، الثاني الحرف، والأول إما أن يقبل الإسناد بطرفيه أو بطرف، الأول الاسم والثاني الفعل"، ولا يخرج كلامه هذا عما جاء به ابن الناظم الإمام بدر الدين. وقد أردف الشيخ الأشموني يقول:"والنحويون مجمعون على هذا، إلا من لا يعتدَّ بخلافه. وقد أرشد بتعريفه إلى كيفية تألف الكلام من الكلم بأنه ضم كلمة إلى كلمة فأكثر على وجه تحصل منه الفائدة ... ". ولاشك أن تعريف الفعل بشأنه في الإسناد كان ثمرة البحث في الجملة المفيدة وما تنطوي عليه من مسند إليه أو مخبر عنه، ومن مسند أو مخبر به، ومن إسناد أو ارتباط للمسند بالمسند إليه ووقوع النسبة بينهما. ولا ريب أن هذا البحث في حقيقة أمره جزء لا ينفك عن مادة النحو، ولو غدا تفصيل القول في أحوال الإسناد والمسند إليه، والمسند، من خصائص علم المعاني الذي عقد موضوعه على البحث في أحوال التراكيب العربية، ويعد الشيخ عبد القاهر الجرجاني (471هـ) ، صاحب الرسالة الشافعية في الإعجاز ودلائل الإعجاز، أول واضع لهذا العلم. *تعريف الفعل بعلاماته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وقد عمد بعض أئمة القرن الرابع الهجري إلى تعريف الفعل بما يختص به من علامات يتميز بها من الاسم والحرف. وأقدم من نحا هذا النحو الإمام ابن جني أبو الفتح عثمان (392هـ) ، وابن جني أعلم أهل عصره بالنحو والتصريف، وقد تلمذ لأبي علي الفارسي خاصة، وله في الصرف كتب كثيرة، منها اللمع في التصريف، والمنصف في شرح تصريف المازني، والتصريف الملوكي، عدا ما جاء في كتابيه النفيسين: سر صناعة الإعراب والخصائص، مما يتصل بهذا العلم. وقد جاء في كتاب اللمع قوله: "والفعل ما حسن فيه قد، أو كان أمراً، فأما قد فنحو قولك: قد قام وقد قعد، وقد يقوم وقد يقعد، وكونه أمراً نحو قم واقعد". وكتاب اللمع كتاب مشهور عمد كثير من الأئمة إلى شرحه، ومن هؤلاء الثمانيني أبو القاسم عمر بن ثابت (442 هـ) ، ومنهم ابن الشجري أبو السعادات هبة الله بن علي (542هـ) ، كما شرح كتاب (التصريف الملوكي) . ومنهم ابن الدهان أبو محمد سعيد بن المبارك البغدادي (569هـ) ، وقد أسماه الغرَّة، ومنهم محب الدين أبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري (616هـ) ، وقد أسماه (المتبع في شرح اللمع) . وقد حذا هذا الحذو في التعريف ابن مالك (672هـ) ، فقد عرَّف الكلام وما يتألف منه في متن (ألفيته) فقال: كلامُنا لفظ مفيد كاستقم واسم فعل ثم حرف الكلم وميز الاسم من الفعل والحرف فقال: بالجرِّ والتنوين والندا وأل ومسند للاسم تمييز حصل وميَّز الفعل فقال: بتا فعلتَ وأتتْ ويا افعلي ونون اقبلنَّ فعلٌ ينجلي فذكر من علامات الفعل: تاء الفاعل وتاء التأنيث الساكنة وياء المخاطبة ونون التوكيد. ودرج ابن أجروم محمد بن داود الصنهاجي (722هـ) ، على هذا في مقدمته المشهورة المعروفة بالأجرومية، فقال: "والفعل يعرف بقد والسين وسوف وتاء التأنيث الساكنة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وهكذا فعل الإمام أبو محمد جمال الدين بن يوسف ... ابن هشام الأنصاري المصري (761هـ) ، في كتابه أوضح المسالك، فذكر من علامات الاسم الجر والتنوين والنداء و (أل) غير الموصولة، كما عدَّد من علامات الفعل تاء الفاعل، وتاء التأنيث الساكنة، وياء المخاطبة ونون التوكيد، كما جاء في متن الألفية. وقد ذكر ابن هشام في كتابه (قطر الندى) نحواً من هذا، مقترناً بشيء من التفصيل إذ قال: "وأما الفعل فثلاثة أقسام ماضٍ ويعرف بتاء التأنيث الساكنة، وبناؤه على الفتح كضرب، إلا مع واو الجماعة فيضم كضربوا أو الضمير المرفوع المتحرك فيسكن كضربت ... وأمر ويعرف بدلالته على الطلب مع قبوله ياء المخاطبة ... ومضارع ويعرف بلم وافتتاحه بحرف من حروف أنيت، ويسكن مع نون النسوة ... ويفتح مع نون التوكيد ... ". وقد قام الشيخ خالد الأزهري (905هـ) ، يشرح كتاب (أوضح المسالك) ، وجرى عليه في متن (أزهريته) فقال: "وعلامة الفعل قد، نحو قد قام زيد وقد يقوم، والسين نحو سيقول، وتاء التأنيث الساكنة نحو قامت، وياء المخاطبة مع الطلب نحو قومي". وقد أقرَّ ذلك بالشرح الوافي الشيخ حسن بن محمد العطار الشافعي المصري الأزهري (1250هـ) ، وله حاشية على الأزهرية، وعلى جمع الجوامع كتاب الإمام السيوطي. ولاشك أن من نهج في تعريف الفعل هذا النهج، فميزه من الاسم والحرف بعلامات فارقة، إنما سلك في ذلك الطريقة التعليمية التي يأخذ بها المصنفون حيناً لترسيخ سمات الشيء في ذهن الدارس، وهي لا تعني أكثر من تعقب الفعل في مواضع استعماله المختلفة واستقراء ما يتصل به فيها من أداة سابقة له أو لاحقة. أزمنة الفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 مرَّ بنا في تعريف سيبويه للفعل في (الكتاب ـ 1/ 2) . قوله: "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وماهو كائن لم ينقطع"، وقد شرح قوله هذا فقال: "فأما بناء ما مضى فذهب ... ". فقضى بأن أول أزمنة الفعل هو الماضي. وأردف: "وأما بناء مالم يقع فإنه قولك أمراً: اذهب واقتل، ومخبراً: يقتل ويذهب". فأنبنى على هذا أن ثاني الأزمنة عند سيبويه هو المستقبل أمراً كان أو مضارعاً. ومضى يقول: "وكذلك بناء مالم ينقطع وهو كائن إذا أخبرت". أي وكذلك يقتل أو يذهب إذا بني للحال فهو كائن لم ينقطع، فأزمنة الفعل عند سيبويه إذاً ثلاثة: ماض ومستقبل يكون أمراً أو مضارعاً دالاً على الآتي، ومضارع أي حال مستمر. وقد جرى النحاة على هذا فالفعل عندهم ماض ومضارع للحال أو الاستقبال، وأمر مخصص بالاستقبال. *الرأي في قسمة الفعل إلى ماض ومضارع وأمر: لا خلاف بين الأئمة على جريان الفعل على الماضي والمضارع. فالفعل الماضي ما دلَّ على معنى مقترن بالزمان الماضي، والمضارع ما دلَّ على معنى مقترن بزمان يحتمل الحال والاستقبال. أما جريان الفعل على (الأمر) ففيه نظر. ذلك أن الفعل يدل على الحدث مقترناً بزمان، فهل الأمر مقترن بزمان؟ ... أقول (الأمر) صيغة يطلب بها الفعل من الفاعل، فهو صيغة إنشاء طلبي يراد بها طلب القيام بالفعل. فالكلام إما خبر وإما إنشاء. فالخبر قولك كتب زيد ويكتب عمرو. ففي الجملة ها هنا إسناد خبري مقترن بزمان. أما قولك اكتب فهو إسناد إنشائي غير مقترن بزمان فأنت تطلب من المخاطب القيام بفعل الكتابة ولا تخبره بحدث الكتابة مقترناً بزمان. فإذا استجاب المخاطب قامت استجابته فيما يستقبل من الزمان. وإن شئت التفصيل قلت إن معنى (الأمر) غير مقترن بزمان، لأنه لا يخبر بحدث، وإنما المقترن بزمان هو تلفظك به، أي قولك (أكتب) فهو يجري في الحاضر، وكذلك الاستجابة للأمر إذا حدثت فإنها تجري في المستقبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وطبيعي أن يكون المعوَّل في الحكم على (الأمر) هو دلالته، لا التلفظ به، وكذلك فعل علماء الأصول، إذا قضوا أن (الأمر) هو طلب الفعل أي طلب القيام به وليس الفعل، أي وليس التلفظ به، قال ابن العيني زين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، في شرح كتاب (المنار) لابن الملك: "ومنه أي من الخاص الأمر لأنه وضع لمعنى معلوم على انفراد، وهو طلب الفعل"، ويمضي في الشرح فيقول: "وخرج بالقول، أي بتعريف ابن الملك، الفعل"، أي خرج بالتعريف أن يكون (الأمر) هو الفعل، أي التلفظ به، لأنه طلب الفعل، أي طلب القيام به. *أزمنة الفعل عند ابن يعيش: قال موفق الدين يعيش بن علي بن يعيش الحلبي (643هـ) ، في شرح كتاب (المفصل) ، للزمخشري (ج2/ ص7) : "لما كانت الأفعال مساوقة للزمان، والزمان من مقومات الأفعال، توجد عند وجوده، وتنعدم عند عدمه، انقسمت بأقسام الزمان، ولما كان الزمان ثلاثة: ماض وحاضر ومستقبل، وذلك من قبل أن الأزمنة حركات الفلك، فمنها حركة مضت، ومنها حركة لم تأت بعد، ومنها حركة تفصل بين الماضية والآتية، كانت الأفعال كذلك ماض ومستقبل وحاضر. فالماضي ما عدم بعد وجوده، فيقع الإخبار عنه في زمان بعد زمان وجوده، وهو المراد بقوله: الدال على اقتران حدث بزمان قبل زمانك، أي قبل زمان إخبارك، ويريد بالاقتران وقت وجود الحدث، لا وقت الحديث عنه، ولولا ذلك لكان الحد فاسداً ... والمستقبل مالم يكن له وجود بعد، بل يكون زمان الإخبار عنه قبل زمان وجوده. وأما الحاضر فهو الذي يصل إليه المستقبل، ويسري منه الماضي، فيكون الإخبار عنه هو زمان وجوده". فالذي أراده ابن يعيش، أن الفعل مادام مقترناً بزمان، والأزمنة ثلاثة: ماض وحاضر ومستقبل، فالفعل كذلك: ماض وحاضر ومستقبل. لكنه حين قسم الفعل اتبع فيه القسمة الشائعة المعروفة عند النحاة فقال: الفعل ماض ومضارع وأمر، فأين (الأمر) من قسمة الأزمنة أو الأفعال هذه؟ ... *ما القول في فعل الأمر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 كلام ابن يعيش على أزمنة الفعل لا يدع للأمر مكاناً في قسمة الأزمنة بل الأفعال. فالماضي إنما يقع الإخبار عنه بعد زمان وجوده، والمستقبل إنما يقع الإخبار عنه قبل زمان وجوده. أما الحاضر فيخبر عنه زمان وجوده. وهذا يعني أن الفعل الماضي يخبر به عن الحدث الفائت بعد زمان وجوده. ويخبر بالفعل الآتي قبل زمان الحدث الآتي: ويخبر بالفعل الحاضر زمن وقوع حدثه. فالفعل إنما يخبر به عن الأحداث الجارية في هذه الأزمنة الثلاثة. أما (الأمر) فليس مما يخبر به، في الأصل، لأنه صيغة إنشاء، لا إخبار، فلا يصح فيه إذاً حد الفعل. ومن ثم أشكل على النحاة مجيء خبر المبتدأ جملة إنشائية، لأن الإنشاء لا يخبر به، فذهب قوم إلى صحة الإخبار بها على تأويل صفة، فإذا قيل: زيد اضربه، كان كأنه قيل: زيد مطلوب ضربه. والتزم ابن السرَّاج تقدير قول محذوف قبلها، أي زيد أقول لك اضربه. وذهب ابن الأنباري إلى امتناع الإخبار به مطلقاً وتبعه قوم من النحاة ... أما الجملة الخبرية فالإخبار بها هو الأصل الشائع الكثير، وهي إما اسمية نحو زيد أبوه قائم أو فعلية نحو زيد قام أبوه. *الزجاجي وقسمة الفعل بحسب أزمنته: الزجاجي أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق (337هـ) ، من علماء بغداد الذين أخذوا من البصرية ومن الكوفية. فما الذي قاله في قسمة الفعل بحسب أزمنته؟ ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 قال الزجاجي في كتابه (الجمل) : "الفعل ما دل على حدث وزمان ماض أو مستقبل، نحو قام يقوم وقعد يقعد، وما أشبه ذلك/17". ولا يعني هذا أن الزجاجي قد أسقط من حسابه (الحال) ، فقد ذكر في مواضع آخر من كتابه: "الأفعال ثلاثة: فعل ماض وفعل مستقبل" وأردف:"وفعل في الحال يسمى الدائم"، فجعل (الحال) بين الماضي الذي فات حدثه قبل التلفظ به، والمستقبل الذي ينتظر حدثه بعد التلفظ به. ولاشك أنه تابع في وصف (الحال) بالدائم أمام الصناعة. قال سيبويه في (الكتاب) : "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وماهو كائن لم ينقطع". فالفعل الذي هو كائن لم ينقطع إذا أخبرت به، عند سيبويه، هو الفعل الدائم أو المستمر عند الزجاجي. والزجاجي إذا كان ممن أعجب بسيبويه، فإنه لم يشايعه في كل ما ذهب إليه. ومن ذلك أنه لم يجعل للأمر حيزاً في أقسام الفعل خلافاً لسيبويه حين قال: "وأما بناء مالم يقع فإنه قولك أمراً: اذهب واقتل واضرب". وقد تعجب لِمَ عوَّلَ الزجاجي على (الماضي والمستقبل) ، حيناً دون (الحال) ، والشائع عند النحاة أن صيغة المضارع للحال والاستقبال، وهي للحال أخص، لأنها تستعمل في الحال بغير قرينة وفي الاستقبال بقرينة (السين وسوف) ؟.. أقول عمد الزجاجي إلى الاكتفاء حيناً بذكر (المستقبل) ، دون (الحال) لأنه اعتد (المستقبل) ، أسبق الأفعال، فقد قال في كتابه (الإيضاح /85) : "اعلم أن أسبق الأفعال في التقدم: الفعل المستقبل لأن الشيء لم يكن ثم كان، والعدم سابق ... ثم يصير في الحال ثم يصير ماضياً ... فأسبق الأفعال في المرتبة: المستقبل، ثم فعل الحال، ثم فعل الماضي". وهذا ما حمله أن يستغني حيناً بذكر الماضي والمستقبل، لاسيما وأن (الحال) لا ينفرد ببناء خاص دون المستقبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 على أن تذرع الزجاجي بالمنطق في تعليل الأحكام اللغوية وتحقيقها ها هنا، ليس مما يعوّل عليه، فلهذه الأحكام معايير أخرى. والزجاجي، مع ذلك، لا يوغل في التعليل الجدلي إيغال كثير من النحاة، كابن الشجري هبة الله أبي السعادات (542هـ) ، وابن الأنباري أبي البركات كمال الدين بن عبد الرحمن (577هـ) . *الكوفيون وأزمنة الفعل: إذا كان البصريون قد ذهبوا في قسمة الفعل بحسب أزمنته إلى ماض ومضارع وأمر، فقد نحا الكوفيون في ذلك منحى آخر قسموا به الفعل إلى ماض ومضارع أو مستقبل، ولم يجعلوا (الأمر) قسماً ثالثاً، وإنما جعلوه فرعاً على المضارع، وتصوروا أنه مقتطع منه. قالوا: قد دخلت على المضارع لام الأمر فقيل (لتفعل) ثم حذفت اللام وتاء المضارة لكثرة الاستعمال، فآل قولك (لتفعلْ) ، إلى قولك (افعلْ) . ولا يخفى ما في تصور الكوفييين هذا من تكلّف واضح اعتدوا فيه الاحتمال بمنزلة الحقيقة الثابتة، ولا يتساوى في المعنى قولك (افعل) وقولك (لتفعل) ، ولو كانا صيغتين للأمر. وقد تذرّع الكوفيون بمذهبهم هذا في (الأمر) ليعللوا بذلك الوجه في إعرابه، خلافاً للبصريين الذين قالوا ببناء فعل الأمر، على الأصل، فالبناء عندهم أصل في الأفعال مالم تضارع الأسماء، والأمر لا يضارعها كما يضارع ما أسموه بفعل (المضارع) . ذلك أن النحاة قد قضوا بإعراب الأسماء وعللوا ذلك باختلاف معانيها النحوية، فإن للمعاني التي يكتسبها الاسم في التركيب دلالات تكشف عنها مواقعه فيه، فاعلة أو مفعولة أو مضافاً إليها، وليس لصور هذه الأسماء أو أبنيتها علاقة بهذه المعاني، وقد جاءت حركات الإعراب لتكشف عن المعاني النحوية هذه، ولو لم تنفرد في هذا الكشف إذ شاركتها فيه الأدوات الداخلة في التركيب، ولذا سميت هذه الأدوات بحروف المعاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وقد أغنى الإعراب أن يلتزموا في التركيب تقديم فاعل أو تأخير مفعول، فاتسعوا في الكلام وتصرّفوا فيه بتقديم وتأخير، فضمنوا بذلك حسن الأداء ودقة التعبير واستجابوا بهذا لضرورات الشعر والسجع، ولو لم يطلقوا العنان لتصرّفهم هذا، إذا لم يستجيزوا التقديم والتأخير في كل موضع. ونجم عن هذا، على كل حال، أنه لم يُغنهم في الكشف عن المعاني النحوية لزوم الرتبة بتقديم الفاعل وتأخير المفعول، كما توجبه اللغات غير المعربة. وانفرد الكوفيون فأضافوا في تعليل إعراب الاسم إلى اختلاف معانيه النحوية في التركيب، اختلاف معانيه اللغوية في الأصل، قبل التركيب. وهكذا قال النحاة بإعراب المضارع مالم تتصل به نون التوكيد المباشرة أو نون النسوة، وعللوا إعرابه باختلاف المعاني عليه، كما اختلفت على الأسماء، فثمة فارق في المعنى بين المضارع مرفوعاً ومجزوماً ومنصوباً. وقد استوجب اختلاف المعاني اختلاف الحركات واختلاف الأداة، وهكذا أتت حركة الإعراب لتنبه على المعنى الذي حملته الأداة. وهكذا قسّم الكوفيون الفعل إلى ماض ومستقبل، ولم يجعلوا الأمر قسيماً لهما، فهل جعلوا للماضي والمستقبل قسيماً آخر؟ أقول ذكر الكوفيون (الفعل الدائم) وجعلوه هذا القسيم، فما الذي عنوه بالفعل الدائم؟ لم يعنِ الكوفيون بالفعل الدائم ما ذهب إليه الزجاجي من أنه الفعل الحاضر، وإنما عنوا بهذه التسمية (اسم الفاعل) . فكيف تصور الكوفيون اسم الفاعل فعلاً ولم أسموه الفعل الدائم؟ ... *الكوفيون والفعل الدائم: أقول قد أسمى الكوفيون (اسم الفاعل) فعلاً لأنه يعمل عمل فعله، وهذا معروف متفق عليه، وهو عند جمهور النحاة شبه الفعل. وأسمى الكوفيون اسم الفاعل فعلاً دائماً، لاشتمال دلالته على الحال والاستقبال حيناً، والماضي حيناً آخر، ولكن متى يدل (اسم الفاعل) على الحال أو الاستقبال، أو يدل على الماضي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 أراد الكوفيون باسم الفاعل هذا، وقد أسموه (الفعل الدائم) أو المستمر، اسم الفاعل المعدّ للعمل، وقد اشترط جمهور النحاة لاسم الفاعل المجرد من (أل) ليعمل فينصب مفعولاً به، أن يدل دلالة المضارع على الحال أو الاستقبال، دون الماضي ويسبق بنفي أو استفهام، أو يكون خبراً أو صلة أو وصفاً فتستحكم المشابهة بينه وبين الفعل. فإذا دل على الماضي ألغي عمله: قال أبو البقاء الكفوي في (الكليات) : (اسم الفاعل إذا كان للاستمرار يصح إعماله نظراً إلى اشتماله على الحال أو الاستقبال، وإلغاؤه نظراً إلى اشتماله على الماضي ـ 5/ 317) . وقد ذهب الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة إمام الكوفية (189 هـ) وشايعه جماعة إلى أن (اسم الفاعل) يعمل ولو دل على الماضي. واستدل على ذلك بقوله تعالى: (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد (الكهف /18. فإن زمن حصول الحدث للمخبر عنه سابق لزمن نزول الآية. لكنه أجيب بأن الآية قد أتت لحكاية الحال في الماضي، بدليل قوله تعالى: (وكلبهم باسط (والواو للحال، والذي يحسن بعد واو الحال قولك (وكلبهم يبسط) ، لا (وكلبهم بسط) . وقد تقدّم هذا في الآية، قوله تعالى: (ونقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال ... (. فجاء (نقلِّبهم) فعلاً مضارعاً دالاً على الحال أو الاستقبال. وفي هذه الإجابة وجه متقبل سائغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 لكن الكسائي احتج إلى ذلك بآية أخرى، هي قوله تعالى: (فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم (. الأنعام /96 فقد قرئ (وجاعل الليل سكناً (كما قرئ (فَلَق الإصباح (. وقد تقدم هذه الآية، قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى (. فقدر في هذا معنى المضي، كما قدَّر فيه معنى الحال. قال أبو البقاء عبد الله العكبري في (إعراب القرآن) : "قوله تعالى (فالق الحب (يجوز أن يكون معرفة لأنه ماضٍ، وأن يكون نكرة على أنه حكاية". أي يجوز أن تكون إضافة (فالق) محضة تفيد التعريف فتفيد المضي فيلغى عمل اسم الفاعل، كما يجوز أن تكون إضافته غير محضة فلا تفيد تعريفاً فتدل على الحال ويكون اسم الفاعل عاملاً. ويمضي العكبري فيقول: "وجاعل الليل مثل فالق الإصباح في الوجهين". أي في كون الإضافة محضة أو غير محضة، وفي إعمال اسم الفاعل أو إلغائه، وإفادة الحال، أو الماضي. وبقي الخلاف في نصب (سكناً) من قوله تعالى: (وجاعل الليل سكناً (. قال العكبري: "وسكناً مفعول جاعل إذا لم تعرفه، وإن عرفته كان منصوباً بفعل محذوف أي جعله سكناً"، أي أن الإضافة إذا لم تكن محضة فاسم الفاعل عامل يفيد الحال، و (سكناً) مفعول لاسم الفاعل. وإذا كانت محضة فاسم الفاعل ملغى يفيد المضي و (سكناً) مفعول لفعل محذوف. وهنا محل الخلاف، فالكسائي قد ذهب إلى أن نصب (سكناً) مع دلالة اسم الفاعل على المضي، دليل على عمل اسم الفاعل ولو أفاد الماضي و (سكناً) مفعول لاسم الفاعل، خلافاً للبصريين الذين اشترطوا لعمل اسم الفاعل أن يدل على الحال أو الاستقبال، دون الماضي، فإذا دل على المضي فقد ألغي عمله، وهذا ما قادهم إلى أن يقدروا فعلاً محذوفاً ينصبون به (سكناً) على المفعولية، بعد أن ألغوا اسم الفاعل حين قدروا فيه معنى المضي. وقد أخذ العكبري في (إعراب القرآن) ، عامة بمذهب البصرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ولا يعني ما تقدم من قول العكبري أن لنا أن نقدر في كل (اسم فاعل مضاف) أن تكون إضافته غير محضة فيكون عاملاً ويدل على الحال ولا يفيد التعريف، أو تكون إضافته محضة فيكون ملغى ويدل على الماضي ويفيد التعريف، فإن مرد ذلك إلى القرينة. فقد جاء قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت (. بإضافة (ذائقة) إلى الموت إضافة غير محضة، وليس ثمة ما يتسع هنا لإضافة (ذائقة) إلى الموت إضافة محضة. قال العكبري في إعراب القرآن: (وإضافة ذائقة غير محضة لأنها نكرة يُحكى بها الحال، وقرئ شاذاً ذائقة الموت بالتنوين والإعمال) . *الفراء واسم الفاعل: نهج الفراء يحيى بن زياد (207 هـ) ، وهو عَلَمْ من أعلام الكوفية، نهج الكسائي في اتخاذ أصول الكوفية، وتجلَّى ذلك في كتابه الأول (معاني القرآن) . وقد عمد فيه (1/ 45) . إلى تمييز اسم الفاعل العامل فأسماه (فعلاً دائماً) ، من اسم الفاعل غير العامل، وقد أبقاه على الأصل (اسماً) . قال الفراء في تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت (. الأنبياء /35. بإضافة (ذائقة) إلى الموت، قال في كتابه (معاني القرآن) : "ولو نونت ذائقة ونصبت كان صواباً". وهذا يعني أن (ذائقة الموت) بتنوين الأول ونصب الثاني، على إعمال اسم الفاعل، جائز جواز (ذائقة الموت) بالإضافة غير المحضة، فكلاهما يفيد الحال أو الاستقبال. وأردف: "وأكثر ما تختار العرب التنوين والنصب في المستقبل"، ومؤدَّى ذلك أن العرب قد تعني المضي في اسم الفاعل العامل، ولو أن الكثير الغالب أن تعني المستقبل. ويمضي الفراء قائلاً: "فإذا كان معناه ماضياً لم يكادوا يقولون إلا بالإضافة"، وفحوى ذلك أن المضي إنما يعبر عنه غالباً بالإضافة، ولكن قد يعبر عنه بإعمال اسم الفاعل أيضاً، وهذا رأي الكوفية خلافاً للبصرية التي لا ترى في الأعمال إلا دلالة الحال والاستقبال، لكنها ترى في الإضافة دلالة الحال إذا لم تكن محضة، والمضي إذا كانت محضة. *البصريون واسم الفاعل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 ذهب البصريون إلى أن اسم الفاعل إما أن يفيد الماضي، ولا يتأتى ذلك إلا بإضافته إضافة محضة تفيد التعريف، وإما أن تفيد الحال أو الاستقبال، ولا يكون هذا إلا بإعمال اسم الفاعل وتنوينه، أو بإضافته إضافة غير محضة لا تفيد تعريفاً. وقد بسط القول في ذلك القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري في تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت (. آل عمران/ 185. قال القرطبي: " (ذائقة الموت (. بالإضافة، وقرأ الأعمش ويحيى وابن أبي إسحاق ذائقة الموت بالتنوين ونصب الموت. قالوا لأنها لم تذق بعد". وأردف: "ذلك أن اسم الفاعل على ضربين: أحدهما أن يكون بمعنى المضي، والثاني بمعنى الاستقبال. فإن أردت الأول لم يكن فيه إلا الإضافة إلى ما بعده، كذلك قولك: هذا ضارب زيد أمس ... لأنه يجري مجرى الاسم الجامد وهو العلم ... "، أي أن الإضافة فيه محضة. وتابع يقول: "وإن أردت الثاني جاز الجر والنصب والتنوين، فيما هذا سبيله هو الأصل، لأنه يجري مجرى الفعل المضارع، فإن كان غير متعدٍ لم يتعدَّ نحو قائم زيد. وإن كان متعدياً عدّيته ونصبت به فتقول: زيد ضارب عمرواً بمعنى يضرب عمرواً. ويجوز حذف التنوين والإضافة تخفيفاً"، ومعنى هذا أن تنوين اسم الفاعل ونصبه المفعول به، كحذف تنوينه مع إضافته، في إفادة الحال، مادامت الإضافة غير محضة. *اسم الفاعل والاستمرار: إذا قيل أن دلالة اسم الفاعل هي (الاستمرار) فسِّر ذلك على أحد وجهين: الأول أن يعني الاستمرار اشتمال هذه الدلالة على الحال أو الاستقبال حيناً وعلى الماضي حيناً آخر. وهذا ما حمل الكوفيين على أن يسمُّوا اسم الفاعل بالفعل الدائم. وقد جاء في الكليات لأبي البقاء: "اسم الفاعل إذا كان للاستمرار يصح إعماله نظراً إلى اشتماله على الحال أو الاستقبال، وإلغاؤه نظراً إلى اشتماله على الماضي ـ 5/317"، كما ذكرنا ذلك قبل، ولا ننسى أن الكوفيين قد اعتقدوا اشتماله على الماضي أيضاً، ولو كان عاملاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الثاني: أن يعني الاستمرار الثبوت في الأزمنة المختلفة. وقد أشار صاحب الكليات إلى هذا حين قال:"معنى الاستمرار هو الثبوت من غير أن يعتبر معه الحدث في أحد الأزمنة ـ 5/323"، وهو الأصل فيه، إذ قال: "اسم الفاعل يستفاد منه مجرد الثبوت صريحاً بأصل وضعه ـ 5/173". ولكن متى يدل اسم الفاعل على الثبوت أي الاستمرار في الأزمنة المختلفة؟ ... أقول يدل اسم الفاعل على الثبوت أو الدوام أو الاستمرار في الأزمنة المختلفة، إذا أضفته إضافة محضة، أي إضافة معنوية أو حقيقية، فجرى مجرى الاسم الجامد، وقد يدل في هذه الحال أيضاً على الماضي، والقرينة تفصل بين الدلالتين. قال الإمام البيضاوي في تفسير قوله تعالى: (فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم (الأنعام /96". وقرئ فالق الإصباح بالنصب على المدح وجاعل الليل سكناً ونصبه بفعل دلَّ عليه جاعل لا به، فإنه في معنى الماضي ويدل عليه قراءة الكوفيين وجعل الليل"، أي وقرئ (جاعل الليل ساكناً) ، وقد نصب (سكناً) ، بفعل محذوف لدلالة جاعل على الماضي، لأن عمل اسم الفاعل ونصبه للمفعول مشروط بدلالته على الحال أو الاستقبال، دون الماضي، خلافاً للكسائي، وابن هشام وابن مضاء. ومضى الإمام البيضاوي يقول:" ..... وبه على أن المراد منه جعل مستمر في الأزمنة المختلفة". أي وقرئ (وجاعل الليل سكناً) ، على أن المراد جعل الخالق الليل كذلك مستمراً على الدوام. فثبت بهذا أن إضافة اسم الفاعل الإضافة المحضة أو المعنوية الحقيقية قد تنطوي على دلالته على الماضي، كما تنطوي على دلالته على الاستمرار، والقرينة تميز إحداهما من الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وانظر إلى ما جاء في شرح الإمام عبد الرحمن بن محمد الجامي لكافية ابن الحاجب. قال ابن الحاجب: "فإن كان للماضي وجب الإضافة معنى، خلافاً للكسائي". فقال الجامي: "فإن كان اسم الفاعل المتعدِّي للزمان الماضي بالاستقلال، أو في ضمن الاستمرار، وأريد ذكر مفعوله وجبت الإضافة، أي إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله معنى أي إضافة معنوية لفوات شرط الإضافة اللفظية مثل زيد ضارب عمرو أمس، خلافاً للكسائي فإنه ذهب إلى عدم وجوب إضافته، لأنه يعمل عنده سواء كان بمعنى الماضي أو الحال أو الاستقبال فيجوز أن يكون منصوباً على المفعولية وعلى تقدير إضافته ليست إضافته معنوية لأنها عنده من قبيل إضافة الصفة إلى معمولها ... "، أي أنه لابد لإعمال اسم الفاعل المتعدِّي ونصبه مفعولاً، من أن يدل على الحال أو الاستقبال دون الماضي، فينون أو يضاف إضافة لفظية، لا معنوية. وقد جاء ذلك في قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت (. فقرئ (ذائقة) بالإضافة وبالتنوين. فإذا أريد دلالة اسم الفاعل على الماضي أو على الاستمرار فلابد من إضافته. وإضافته ها هنا معنوية كقولك زيد ضارب عمرو أمس، خلافاً للكسائي الذي أجاز إعمال اسم الفاعل، ولو دلَّ على الماضي، فلم ير ضرورة إضافته في هذه الحال الإضافة المعنوية المحضة التي أوجبها البصريون. وهكذا إذا قصد تعريف الصفة المضافة إلى معمولها كاسم الفاعل تعرَّفت بدلالة الوصف على الاستمرار في الأزمنة المختلفة، وكانت إضافتها محضة معنوية، فوصفت بها المعرفة. قال الإمام السيوطي في همع الهوامع: "فإن قصد تعريفها، أي الصفة المضافة إلى معمولها بأن قصد الوصف بها من غير اختصاص بزمان دون زمان تعرَّفت، ولذا وصفت بها المعرفة، في قوله تعالى .... غافر الذنب ـ 2/ 48". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 قال تعالى: (حم (تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم (غافر الذنب وقابل التوب (شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير (غافر/3". فقال أبو البقاء العكبري في (إعراب القرآن) ."غافر الذنب قابل التوب كلتاهما صفة لما قبله والإضافة محضة". أي صفة لله، وأردف: "وأما شديد العقاب منكرة لأن التقدير شديد عقابه فيكون بدلاً. ويجوز أن يكون شديد بمعنى مشدِّد. فتكون الإضافة محضة فيتعرف ويكون وصفاً أيضاً. أما ـ ذي الطول فصفة أيضاً". وقال تعالى: (فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم (ـ الأنعام /96". فجاء في إعراب القرآن للعكبري أن دلالة (فالق الإصباح) قد تكون الماضي والإضافة محضة تفيد التعريف، وقد تكون الحال والإضافة غير محضة تفيد التنكير. فهل ثمة وجه تكون الدلالة الزمنية فيه، هي الاستمرار والإضافة محضة؟ ... أقول جاء في تفسير القرطبي قوله: "فالق الإصباح، نعت لاسم الله تعالى، أي ذلكم الله ربكم فالق الإصباح"، فثبت بهذا أن إضافته محضة تفيد التعريف لأن النعت يتبع المنعوت في تعريفه وتنكيره. وقد قال القرطبي في دلالته الزمنية: "وقيل المعنى أن الله فالق الإصباح، والصبح والصباح أول النهار وكذلك الإصباح، أي فالق الصبح كل يوم، والإصباح مصدر أصبح"، وأردف: "وقال الضحاك فالق الإصباح خالق النهاروهو معرفة لا يجوز فيه التنوين عند أحد من النحويين"، فثبت بقوله: (فالق الصبح كل يوم) ، أنه دال على الاستمرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وقد جاء في إعراب (الفاتحة) للإمام خالد الأزهري في كتابه (الأزهري في علم النحو) : "الحمد مبتدأ، لله جار ومجرور .... رب نعت أول لله وهو مضاف، العالمين مضاف إليه، الرحمن نعت ثان لله، الرحيم نعت ثالث لله، مالك نعت رابع لله، وصح ذلك لدلالته على الدوام والاستمرار لكونه من صفات الباري تعالى وهو مضاف إضافة محضة/ 186". فقد رأيت كيف جعل اسم الفاعل المضاف إضافة محضة وهو (مالك) نعتاً لمعرفة، ذلك لدلالته على الدوام الاستمرار. *المخزومي والسامرائي ودلالة اسم الفاعل على الاستمرار: أشرنا فيما تقدم إلى أن وصف اسم الفاعل بالمستمر أو الدائم يعني أحد أمرين: الأول: دلالة هذه الصيغة على الماضي حيناً والمضارع والمستقبل حيناً آخر، وهذا ما عناه الكوفيون بوصفهم اسم الفاعل بأنه (الفعل الدائم) . ويطابق ذلك ما أراده الباحث (بول كراوس) في (محاضراته عام 1943) ، وقد تحدث عنها الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه (تاريخ اللغات السامية /16) ، حين أشار إلى أن اللغات السامية قد عرفت عهداً غابراً، لم يكن لها فيه صيغة للماضي وأخرى للمضارع أو المستقبل، وإنما كانت هناك صيغة تستعمل في التعبير عن الأزمنة جميعاً. وهذا ما ذكره الدكتور مهدي المخزومي في كتابه (في النحو العربي/111) ، إذ قال: "يرى بعض فقهاء اللغة المحدثين من المستشرقين والمعنيين بالدراسات المقارنة أن الزمان ليس شيئاً أصيلاً، وأن اقتران الفعل العربي به حديث النشأة، بعد أن وجدت صيغة ـ فَعَلَ ـ المتطورة عن صيغة ـ فَعل ـ وهي الصيغة التي يسمونها: برمانسيف أو الفعل الدائم في تعبير الكوفيين، والتي يعدونها أقدم وجوداً من الفعل الماضي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 أقول إن التعبير بصيغة واحدة عن أزمنة مختلفة لا ينفي البتة اقتران الفعل بدلالته الزمنية. قال الدكتور ولفنسون: "كذلك يعتقد العلماء أن صيغة المضارع كانت في مدى قرون كثيرة تدل على جميع الأزمنة، كما هو الحال في اللغة الصينية وفي اللغة الأندرو جرمانية الأصلية/16". وهكذا فإن اسم الفاعل صيغة واحدة تدل على الماضي حيناً كما تدل على الحال والاستقبال حيناً آخر. وهذا ما حمل الكوفيين على تسميته بالفعل الدائم. الثاني: دلالة اسم الفاعل على الاستمرار في مختلف الأزمنة، دون زمن معين، قال المخزومي في كتابه (في النحو العربي/139) : "وأما مثال فاعل فهو أحد أقسام الفعل، وهو الفعل الدائم الذي لا دلالة له على زمان معين إذا لم يوصل بصلة من مضاف إليه أو مفعول". وفي كلام المخزومي هذا نظر من ناحيتين: ـ الأولى: أن الكوفيين لم يعنوا بالفعل الدائم الفعل الذي لا دلالة له على زمان معين، وإنما عنوا به الفعل الذي يدل على الماضي تارة وعلى المضارع أو المستقبل تارة أخرى. الثانية: إن قول المخزومي: "الذي لا دلالة له على زمان معين"، يعني الإشارة إلى صفة الاستمرار في اسم الفاعل، ودلالة اسم الفاعل على الاستمرار ليست مرهونة بعدم إضافته، فقد يدل اسم الفاعل على الاستمرار ويكون مضافاً، وقد مثلنا لذلك بقوله تعالى: (غافر الذنب (. غافر/3"، كما مثلنا له بقوله تعالى: (فالق الإصباح (الأنعام /96". وقد بحث هذا الدكتور إبراهيم السامرائي في كتابه (الفعل زمانه وأبنتيه) وانتهى منه إلى القول: "والقول بدلالة فاعل على الاستمرار مما انفرد به المخزومي، فقد اقتصر السابقون على دلالة فاعل على المستقبل، وهو اسم الفاعل المنون العامل نحو أنا صائم يوم الخميس أي سأصوم، وعلى المضي وهو اسم الفاعل المضاف نحو هو قاتل أخيه، أي قتل ـ 43". قال السامرائي هذا وقد ثبت بما لا وجه فيه لشك أو ارتياب، دلالة اسم الفاعل على الاستمرار، كما رأيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ولا ننسى قول أبي البقاء الحسيني الكفوي في (كلياته) : "اسم الفاعل يستفاد منه مجرد الثبوت صريحاً بأصل وضعه، وقد يستفاد منه غيره بقرينة، وكذا حكم اسم المفعول. وأما الصفة المشبهة فلا يقصد بها إلا مجرد الثبوت وضعاً أو الدوام باقتضاء المقام ـ 5/ 173 ـ 174". وقد أبان عن معنى الاستمرار فقال: "معنى الاستمرار هو الثبوت من غير أن يعتبر معه الحدث في أحد الأزمنة ـ 5/323"، وقد دل على ذلك الحجج الملزمة والبنيات المسلمة. أبواب الفعل للفعل الثلاثي المجرد ستة أوزان أسموها بالأبواب، فهو إما أن تتفق حركة عينه بين الماضي والمضارع فيكون مفتوح العين فيهما كفتح يفتح وظهر يظهر، وهو الباب الثالث، أو يكون مضموم العين فيهما كشرف يشرف، وهو الباب الخامس الذي لا يكون فعله إلا لازماً، دون سائر الأبواب. أو يكون مكسور العين فيهما كحسب يحسب ووثق يثق، وهو الباب السادس الذي لا يأتي عليه الفعل إلا نادراً، لأن أكثر ما جاء على فعل بالكسر جاء مضارعه بالفتح. وأما أن تختلف حركة عينه بين الماضي والمضارع فتفتح في الماضي وتضم في المضارع كنصر ينصر وقعد يقعد، وهو الباب الأول، أو تفتح في الماضي وتكسر في المضارع ككسر يكسر ونزل ينزل، وهو الباب الثاني. أو تكسر في الماضي وتفتح في المضارع، وهو الباب الرابع كفهم يفهم وفرح يفرح. وتعد هذه الأبواب التي تختلف فيها حركة العين بين الماضي والمضارع دعائم الأبواب، لأنها تضم أكثر الأفعال، ومن ثم كان الأصل في الفعل أن تختلف حركة العين بين ماضيه ومضارعه. وقد رتب النحاة أبواب الثلاثي المجرد، بملاحظة حركة عين ماضيه فعين مضارعه، فقالوا: فتحُ ضمٍ، فتحُ كسرٍ، فتحتان: كسر فتحٍ، ضم ضمٍ، كسرتان. القياس في بعض أبواب الثلاثي *قول من قال بإطلاق القياس في بعض أبواب الثلاثي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 قال كثيرون بإطلاق القياس في بعض أبواب الثلاثي لازمة ومتعدية. فقد ذهب أبو العباس بن محمد بن يزيد المبرد (285هـ) ، وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب (291هـ) . إلى جواز الكسر والضم في مستقبل (فَعَل) المفتوح العين، في جميع الباب، كما جاء في المخصص لابن سيده (14/ 124) . وقال ابن درستويه (347هـ) : في شرح الفصيح: "كل ماكان ماضيه على فَعَلت بفتح العين، ولم يكن ثانية ولا ثالثة من حروف اللين ولا الحلق، فإنه يجوز في مستقبله يفعلُ بضم العين ويفعِل بكسرها، كضرب يضرب وشكر يشكر، وليس أحدهما أولى به من الآخر، ولا فيه عند العرب إلا الاستحسان والاستخفاف"، كما جاء في المزهر للسيوطي (6/ 125 ـ ط/ 1325هـ) . ونحا أبو علي الفارسي هذا النحو (377هـ) ، فقد جاء في المخصص لابن سيده (14/123) : "قال أبو علي هذان المثالان، يفعل بالكسر ويفعل بالضم، جاريان على السواء في الغلبة والكثرة، قال أبو الحسن يفعل بالكسر أغلب من يفعل بالضم. قال أبو علي: وذلك ظن، إنما توهم ذلك من أجل الخفة فحكم أن يفعل بالكسر أكثر من يفعل بالضم، ولا سبيل إلى حصر ذلك فيعلم أيهما أكثر وأغلب، غير أنا كلما استقرينا باب فعل المفتوح العين الذي يعتقب عليه المثالان يفعل بالكسر، ويفعل بالضم، وجدنا الكسر فيه أفصح وذلك للخفة كقولنا: خفق الفؤاد يخفق بالكسر ويخفق بالضم، وحجل الغراب يحجل ويحجل، وبرد الماء يبرد ويبرد، وسمط الجدي يسمطه ويسمطه، وأشباه ذلك مما تقصَّاه متقنو اللغة كالأصمعي وأبي زيد وأبي عبيد وابن السكيت وأحمد بن يحيى، فهذا مذهب أبي علي في يفعل بالكسر ويفعل بالضم … "، وقال ابن سيده: "وحكى عن محمد بن يزيد وأحمد بن يحيى أنه يجوز الوجهان في مستقبل فَعَل في جميع الباب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وجاز ابن جني (392هـ) ، مجاز هؤلاء، لكنه اعتد (يفعل) بالكسر هو الأصل، و (يفعل) بالضم فرعاً عليه، قال ابن جني في الخصائص (3/ 86) : "ومن ذلك ما يبيحه القياس في نحو يضرب ويجلس ويدخل ويخرج من اعتقاب الكسر والضم على كل واحدة من هذه العيون، وأن يقال يخرج بالضم ويخرج بالكسر، ويدخل بالضم ويدخل بالكسر، قياساً على ما اعتقب عليه الحركتان معاً، نحو يعرش بالكسر ويعرش بالضم، ويشنق ويشنق ويخلق ويخلق بالضم والكسر في كل منها، وإن كان الكسر في عين المضارع فَعَل بالفتح أولى من يفعل بالضم، لما قد ذكرنا، في شرح تصريف أبي عثمان، فإنهما على كل حال مسموعان أكثر السماع في عين مضارع فَعَل، فاعرف ذلك ونحوه مذهباً للعرب، فمهما ورد منه فتلقه عليه". وقد علل ابن جني رجحان الكسر في مضارع (فَعَل) المفتوح العين في المنصف فقال (1/ 185) "أرادوا أن تخالف حركة العين في المضارع حركتها في الماضي، لأن كل واحد منهما بناء على حيال، غير أنهم ألزموا فعل المضموم العين أن تكون العين في مضارعه مضمومة أيضاً كالماضي، لأن هذا بناء على حدته لا يكون متعدياً أبداً، إنما يكون للهيئة التي يكون الشيء عليها. أما البناءان الآخران: فَعَل المفتوح العين، وفعل المكسور العين فيكونان متعديين، فلزموا أن تخالف حركة العين في مضارع كل منهما حركتها في الماضي، وقد استبدل فعل المكسور العين بـ ـ يفعل ـ بفتحها، فكان القياس أن يستبد فَعَل المفتوح العين بـ ـ يفعِل ـ بكسرها. ومن هنا كان يفعل بالضم فيه داخلاً على يفعِل بالكسر"، فجعل الأصل في مضارع (فَعَلَ) ، المفتوح العين يفعِل بكسرها. *قول من لم يطلق القياس فقصره على مالم يسمع أو يعرف: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ومن الأئمة من قصر القياس في ذلك على مالم يعرف أو يسمع، وإلا فالسماع هو الأصل، فما سمع بالكسر أو بالضم أو بهما معاً أخذ بسماعه. ومالم يعرف أو يسمع أخذ فيه بالقياس فجاز فيه الوجهان، الكسر والضم، وقد يؤثر الكسر لخفته. فقد جاء في المخصص لابن سيده (14/ 123) : "وقال بعض النحويين إذا علم الماضي على فَعَل المفتوح العين، ولم يعلم المستقبل على أي بناء هو، فالوجه أن يجعل يفعِل بالكسر، وهذا أيضاً لما قدّمنا من أن الكسرة أخف من الفتحة، وقيل هما يستعملان فيما لا يعرف". وقد جاء نحو من هذا في شرح المفصل لابن يعيش (7/ 152) : "وقال بعضهم إذا عرف أن الماضي على فَعَلَ بفتح العين ولم يعرف المستقبل، فالوجه أن يكون يفعِل بالكسر لأنه أكثر، والكسر أخف من الضم، وقيل هما سواء فيما لا يعرف". وكان ابن عصفور (663هـ) ، قد أطلق القياس، فردّ قوله أبو حيان الأندلسي (745هـ) ، ورد الأمر إلى السماع ما عرف السماع. فقد جاء في المزهر للسيوطي (2/ 25) : "وقال ابن عصفور يجوز الأمران إن سمعا أو لم يسمعا. قال أبو حيان والذي يختار إن سمع وقف مع السماع، وإن لم يسمع فأشكل جاز يفعل بالكسر ويفعل بالضم ... "، وحكى الفيومي في المصباح نحواً من هذا فقال: "وإن لم يسمع في المضارع بناء فإن شئت ضممت وإن شئت كسرت"، وأردف: "إلا الحلقي العين أو اللام فالفتح للتخفيف، وإلحاقاً بالأغلب"، وقد علل ابن جني فتح العين في مضارع (فَعَل) المفتوح العين، إذا كان حلقي العين أو اللام، في كتابه (التصريف /68) ، فقال: "ومن ذلك أيضاً قولهم فَعَلَ يفعل بفتح العين فيهما، فيما عينه أو لامه حرف حلقي نحو سأل يسأل وقرأ يقرأ وسعر يسعر وقرع يقرع وسحل يسحل وسنح يسنح، وذلك لأنهم ضارعوا بفتحة العين في المضارع جنس حرف الحلق، لما كان موضعاً منه مخرج الألف التي منها الفتحة". *قول من قصر القياس على ما لم يشتهر وهو أبو زيد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 توسط جماعة بين من أطلق القياس في مضارع فعل المفتوح العين فأجازوا فيه كسر العين وضمها، ومن قصر القياس في ذلك على ما لم يسمع، فقالوا بقياس مالم يشتهر سمع أم لم يسمع، وأول هؤلاء أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري (215هـ) . فقد جاء في المزهر للسيوطي (2/ 62 ـ ط 1325هـ) : "والثلاثي الصحيح ثلاثة أضرب فَعَلَ بالفتح وفعُل بالضم وفعِل بالكسر، فما كان على فَعَل بالفتح من مشهور الكلام مثل ضرب ودخل فالمستقبل فيه على ما أتت به الرواية وجرى على الألسنة نحو يضرب بالكسر ويدخل بالضم، وإذا جاوزت المشهور فأنت بالخيار، إن شئت قلت يفعِل بالكسر، وإن شئت قلت يفعُل بالضم، هذا قول أبي زيد، إلا ما كان عين الفعل أو لامه أحد حروف الحلق فإنه يأتي على يفعَل بالفتح، إلا أفعال يسيرة جاءت بالفتح والضم مثل جنح ودبغ، وأفعال بالكسر مثل هنأ يهنئ ونزع ينزع". ولم يذهب أبو زيد إلى ما ذهب إليه حتى طاف في القبائل يتعرَّف في ما يجري على ألسنتها في مستقبل (فَعَل) المفتوح العين. قال أبو زيد: "طفت في عليا وتميم مدة طويلة أسأل عن هذا الباب صغيرهم وكبيرهم لأعرف ماكان منه بالضم أولى، وماكان بالكسر أولى، فلم أجد لذلك قياساً، وإنما يتكلم به كل امرئ منهم على ما يستحسن ويستخف لا على غير ذلك"، وأردف: "وقد يلتزمون أحد الوجهين للفرق بين المعاني في بعض ما يجوز فيه الوجهان ـ المزهر ـ 1/ 152 ـ ط / 1325هـ". وقد أشار ابن سيده إلى مذهب أبي ز يد هذا في المخصص حين حكى ما انتحاه قوم من النحويين في هذا الصدد فقال: "إن ما كثر استعماله على يفعِل بالكسر وشهر لم يجز فيه ما استعمل على غير ذلك نحو ضرب يضرب بالكسر وقتل يقتُل بالضم، ومالم يكن من المشهور جاز فيه الوجهان ـ 14 / 124". *الإمام الرضي ومذهب أبي زيد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وقد بحث الرضي في شرح الشافية مضارع (فَعَل) المفتوح العين، فقال (1/ 117) : "قياس مضارع فَعَل المفتوح عينه إما بالضم أو الكسر"، ويعني هذا أن الرضي قد قال بالسماع فمضارع فَعَلَ المفتوح العين إما بالضم أو الكسر، والحكم في ذلك للرواية. ثم ذكر مذهب أبي زيد فقال: "وتعدَّى بعض النحاة وهو أبو زيد، وقال: كلاهما قياس وليس أحدهما أولى به من الآخر، إلا أنه ربما يكثر أحدهما في عادة ألفاظ الناس حتى يطرح الآخر ويقبح استعماله، فإن عرف الاستعمال فذاك وإلا استعملا معاً، وليس على المستعمل شيء"، فدل هذا على أن أبا زيد قد تعدى السماع إلى القياس فأجاز الكسر والضم في مضارع فعل المفتوح العين، لكنه استدرك فاستثنى من القياس ماليس معروفاً، ولا يعرف الاستعمال إلا بالاشتهار، فإن عرف الاستعمال فلا قياس وإن لم يعرف أي يشتهر كنت في الخيار بين الوجهين، ولكن ما ضابط الشهرة هذه في الرواية. *ضابط الشهرة في مذهب أبي زيد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أقول كان التعويل على الشهرة محل رعاية يوم بدئ بتدوين اللغة بظهور المعاجم. فقد عاش أبو زيد في أواخر القرن الثاني للهجرة وتوفي في أوائل القرن الثالث (ـ 215هـ) ، وبدأ الرواد بوضع معاجمهم منذ أواخر القرن الثاني وحتى أواخر القرن الرابع. فقد وضع معجم العين للخليل (ت 170 هـ) ، ويعد الخليل رائداً في وضع المعاجم العربية، وتلا (العين) معاجم في المعاني والموضوعات وأخرى في الألفاظ والمفردات. ومما ألف في الألفاظ والمفردات الجمهرة لابن دريد (ـ 321هـ) ، وديوان الأدب للفارابي (ـ 350 هـ) ، والبارع لأبي علي القالي (ـ 356هـ) ، والأفعال لابن قوطية (ـ 367هـ) . والتهذيب للأزهري (ـ 370 هـ) ، ثم الصحاح للجوهري (ـ 393هـ) ، والمقاييس والمجمل لابن فارس (ـ 395 هـ) . وإذا كان الأوائل من هؤلاء قد عولوا غالباً على التمييز بين المشهور وغير المشهور من اللغات المسموعة عامة، وأشاروا إلى غير الثابت غالباً ولم يشيروا إليه حيناً، فقد عوَّل الجوهري من المسموع على الصحيح الثابت مشهوراً كان أو غير مشهور، وأسمى معجمه (الصحاح) . قال السيوطي في المزهر (1/ 60 ـ ط = 1325هـ) : "وغالب هذه الكتب لم يلتزم فيها مؤلفوها الصحيح، بل جمعوا فيها ما صحَّ وغيره، وينبهون على مالم يثبت غالباً، وأول من التزم الصحيح مقتصراً عليه الإمام أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، ولهذا سمَّى كتابه: "الصحاح"، وهكذا أصبح الصحيح الثابت لديه، هو المسموع المعوَّل عليه. وقد فعل ابن فارس في مجمل ما فعل الجوهري في صحاحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وإذا كان ابن القوطية قد أخذ بمقالة أبي زيد حين قال في مقدمة كتابه (الأفعال) : "فما كان منه على فَعَل من مشهور الكلام مثل ضرب ودخل، فالمستقبل منه على ما أتت فيه الرواية وجرى على الألسنة: يضرب بالكسر ويدخل بالضم، وإذا جاوزت المشهور فأنت بالخيار، إن شئت قلت يفعِل بالكسر ويفعُل بالضم، هذا قول أبي زيد ... "، فقد اهتم الأئمة بعد بما ثبت وصحَّ من المسموع فعرف، قال ابن يعيش في شرح المفصل (7/ 152) : "وقال بعضهم إذا عرف أن الماضي على فَعَل بفتح العين ولم يعرف المستقبل، فالوجه أن يكون يفعِل بالكسر لأنه أكثر، والكسر أخف من الضم، وقيل هما سواء فيما لا يُعرف". وقال ابن عصفور: "يجوز الأمران إن سمعا أو لم يسمعا"، فقال: أبو حيان الأندلسي:"والذي يختار إن سمع وقف على السماع، وإن لم يسمع فأشكل جاز يفعل بالكسر ويفعل بالضم"، وكذلك فعل الفيومي في المصباح إذ قال:"وإن لم يسمع في المضارع بناء فإن شئت ضممت وإن شئت كسرت.."، وقد تقدم ذكر ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الفعل تعريفُه وأقسامه وأبوابه وشأنه في التعبير تقدم الكلام في العدد السابق من المجلة على الفعل (تعريفه وأقسامه وأبوابه) ، فعرّفت الفعل بالمثال وبدلالتيه الحدث والزمن، كما عرّفته بشأنه في الإسناد وبعلاماته، وأضفت إلى ذلك الكلام على أزمنة الفعل: الماضي والمضارع والأمر، وعلى الفعل الدائم. ثم انتهيت إلى أبواب الفعل والقياس في بعضها، والخلاف بين إطلاق هذا القياس وقصره على ما لم يُسمع. وها نحن أولاء نتابع البحث في قياس أبواب الفعل: قياس المتعدّي واللازم، وقياس ما كان ثانيه أو ثالثه من حروف الحلق، وما جاء مضاعفاً أو كان من أفعال المغالبة، ثم نختم الفصل بالكلام على شأن الفعل في التعبير فنأخذ منه بنصيب، استيفاء للبحث واستجماعاً لأصوله. ميز قياس الفعل المتعدّي من اللازم في مضارع فَعَلَ المفتوح العينفرّق جماعة في قياس مضارع (فَعَل) بفتح العين، بين المتعدي واللازم من الأفعال، فجعلوا (يفعلُ) بالضم قياساً للازم و (يفعِلُ) بالكسر قياساً للمتعدي. قال ابن جني في (المحتسب- 1/281) : "ومن ذلك قراءة الأشهب العقيلي: فاجنح لها، بضم النون، - الأنفال /42- قال أبو الفتح: حكى سيبويه جنح يجنح بالضم، وهو في طريق ركد يركد وقعد يقعد وسفل يسفل، بضم عين مضارعها، في قربها ومعناها. ويؤيد ذلك أيضاً ضرب من القياس وهو أن جنح غير متعد، وغير المتعدي الضم أقيس فيه من الكسر، فقعد يقعد أقيس من جلس يجلس، وذلك أن يفعل بالضم باب لماضيه فعُل بالضم نحو شرف يشرُف. ثم أُلحق به قعد. وباب يفعِل بالكسر باب لما يتعدى نحو ضرب يضرب بالكسر، فضرب يضرب إذا أقيس من قتل يقتل، كما أن قعد يقعد أقيس من جلس يجلس، وقد تقصيت هذا الفريق في كتابي المنصف - ص /1/ 158- وما بعدها". وأكد ابن جني مذهبه هذا في الخصائص أيضاً (1/385-ط/ 1913) . وقال ابن يعيش في شرح المفصل (7/153) : "وقيل أن الأصل في مضارع المتعدي الكسر نحو يضرب، وأن الأصل في مضارع غير المتعدّي الضم نحو سكت يسكت وقعد يقعد، هذا هو مقتضى القياس". ثم استدرك فقال: "إلا أنهما قد يتداخلان فيجيء هذا في هذا، وربما تعاقبا على الفعل الواحد نحو عرش يعرش بالكسر ويعرش بالضم، وعكف يعكف بالكسر ويعكف بالضم، وقد قرئ بهما". ما يستحب الأخذ به من قياس مضارع فعَلَ المفتوح العين إذا كان متعدياً أو لازماً ويمكن أن يقال بعدما تقدم من الكشف عن مختلف المذاهب في قياس مضارع فعل المفتوح العين أن المستحب أن ينظر إلى المضارع فإذا عرف فيه الكسر أو الضم أخذ به سماعاً، على أن يضاف إلى هذا وجه من القياس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 تقول قتله يقتله بالضم لأنه السماع وتضيف إليه يقتله بالكسر لأنه قياس المتعدي فيكون للفعل وجهان: سماعي بالضم وقياسي بالكسر. وتقول جلس بالكسر لأنه السماع وتضيف إليه يجلس بالضم لأنه قياس اللازم، فيكون لمضارع جلس وجهان: سماعي بالكسر وقياسي بالضم. وكلما صح في الفعل وجهان سماعي وقياسي، كان الوجه الذي قضى به السماع هو الأولى، ولا يعدّ الآخذ بالوجه الآخر مخطئاً. فإذا طابق القياس السماع كان للفعل وجه واحد لا يتجاوزه. تقول سجد يسجد بالضم وحده لأنه السماع فيه، وهو القياس كذلك للزوم الفعل. وهكذا خرج يخرج فليس فيه إلا الضم. وتقول ضرب يضرب بالكسر وحده لأنه السماع، وهو القياس أيضاً لتعدّيه. وكذلك كَسَر فليس فيه إلا يكسر بالكسر لأنه السماع، وهو القياس لتعدّيه. وقد شاع على ألسنة الكتَّاب قولهم (يعذُر) بالضم، وتعقّبهم في ذلك الأستاذ محمد العدناني، في معجم الأخطاء الشائعة، واعتدّ الصواب (يعذر) بالكسر. أقول القياس في هذا الكسر لتعدّيه، وقد اقتصر على الكسر الجوهري في الصحاح. ولكن سمع الضم أيضاً. قال ابن سيده في المخصص (13/81) : "عذرته أعذره بالكسر وأعذره بالضم عذراً أو معذرة بكسر الدال ومعذرة بفتحها، حكاه سيبويه". وجاء في القاموس واللسان نحو من ذلك فثبت بذلك صواب قولك (يعذره) بالضم، لورود السماع به، وإن رجح عليه الكسر لأنه السماع والقياس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وثمة (حشره) فقد جاء مضارعه بالكسر فقيل (يحشره) ، وبالضم فقيل (يحشُره) . ففي الصحاح: "وحشرت الناس أحشرهم بالكسر وأحشرهم بالضم حشراً جمعتهم، ومنه يوم الحشر". وفي المختار: "حشرت الناس جمعتهم وبابه ضرب ونصر ومنه يوم الحشر". وجاء في التنزيل "يوم يحشرهم جميعاً- الأنعام/ 128" بضم الشين، وقرأ بعضهم بكسرها، وذكر ابن عطية أن ذلك، أي الكسر، قليل في الاستعمال قوي في القياس لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعُل بضم العين، وقد عقب على ذلك أبو حيان الأندلسي بأنه فعل المتعدي، الصحيح جميع حروفه، إذا لم يكن للمبالغة ولا حلقي عين ولا لام، فإنه جاء على يفعِل بالكسر ويفعل بالضم كثيراً، فإن شهر أحد الاستعمالين اتبع وإلا فالخيار، حتى إن بعض أصحابنا خير فيهما سُمعا للكلمة أو لم يسمعا. وعلى ذلك فثمة مذاهب ثلاثة: مذهب ابن عطيّة القائل بقياس الكسر في المتعدّي، والضم في اللازم إذا لم يخالفهما سماع، ويستنبط منه أنه إذا خالفهما سماع ضُم إليه القياس بضم العين في لازمه وكسرها في متعديه وهو ما رأينا الأخذ به. وابن عطية هذا هو عبد الحق بن غالب.. ابن عطية المحاربي الغرناطي- (481-541هـ) العالم المشارك في الفقه والحديث والتفسير والنحو واللغة وصاحب الجامع المحرر والصحيح الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ومذهب أبي حيان الأخذ بالسماع، فإذا لم يعرف تساوى الوجهان في المضارع عامة. وأبو حيان هذا هو أبو عبد الله.. ابن حيان الأندلسي الغرناطي (654-745) العالم المشارك صاحب التفسير المسمى بالبحر المحيط وشرح التسهيل والارتشاف. ومذهب ثالث في الأخذ بقياس الوجهين جميعاً عرف في المضارع السماع أم لم يعرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وقد وطأ للأخذ بالمذهب الأول جماعة منهم ابن جني، كما تقدم. قال ابن جني في الخصائص (1/385) : "وأنا أرى أن يفعل بالضم فيما ماضيه فعَل غير المتعدي أقيس من يفعل بالكسر، فضرب يضرب إذاً أقيس من قتل يقتل، وقعد يقعد أقيس من جلس يجلس" وعلل ذلك فقال: "وذلك أن يفعُل بالضم إنما هي في الأصل لما لا يتعدى نحو كرم يكرم، على ما شرحنا من حالها، فإذا كان كذلك كان أن يكون في غير المتعدي فيما ماضيه فعل أولى وأقيس..". قياس مضارع فعل المفتوح العين إذا تعاقب على الفعل الواحد التعدي واللزوم إذا اتفق لفعل أن يأتي لازماً ومتعدياً، ويجيء مضارعه مضموم العين ومكسورها، فالضم للازم والكسر للمتعدي، هذا قياس ما وطأ له ابن جني. قال ابن جني في المحتسب (1/92) : "قد بينا في كتابنا المنصف، وهو تفسير تصريف أبي عثمان، أن باب فعل المفتوح العين المتعدي أن يجيء على يفعل مكسور العين كضرب يضرب وحبس يحبس، وباب فعل المفتوح العين غير المتعدي أن يكون يفعُل مضموم العين كقعد يقعد وخرج يخرج، وإنهما يتداخلان فيجيء هذا في هذا، كقتل يقتل بالضم وجلس يجلس بالكسر، إلا أن الباب ومجرى القياس على ما قدمناه. فهبط يهبط بالضم على هذا، أقوى قياساً من يهبط بالكسر، فهو كسقط يسقط، لأن هبط غير متعدّ في غالب الأمر كسقط". ومضى ابن جني في تفسير قوله تعالى: "وإن منها لما يهبط من خشية الله- البقرة/ 74" فقال: "وقد ذُهب في هذا الموضع، إلى أن هبط هنا متعد.. وقد جاء هبطته متعدياً كما ترى. قال: ما راعني إلا جناح هابطاً على البيوت قوطه العُلا بطا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 -جناح اسم راعٍ، والقوط: القطيع من الغنم، والعلابط جمع علبطة: القطيع لا يقل عن خمسين –وأعمله في القوط. فعلى هذا نقول: هبط الشيء وهبطته، وهلك الشيء وهلكته ... وإذا كانت كذلك وكانت هبط هنا قد تكون متعدية فقراءة الجماعة لما يهبط بكسر الباء أقوى قياساً من يهبُط بالضم، لأن معناه لما يهبط مبصره ويحطه من خشية الله. ومن ذهب فيه إلى أن يهبط غير متعد فكأنه قال: وإن منها ما لو هبط شيء غير ناطق من خشية الله لهبط هو، لا أن غير الناطق تصح منه هذه الخشية". أقول إذا عدنا إلى تمام الآية: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون ( وجدنا أن (يهبط) في الآية قد جاء بالكسر، وقرئ بالضم أيضاً. ومعنى الآية "أن الحجارة تتأثر وتنفعل، فإن منها ما يتشقق فيقع مِنْهُ الماء وتتفجر منه الأنهار، ومنها ما يتردى من أعلى الجبل انقياداً لما أراد الله تعالى به. وقلوب هؤلاء لا تتأثر ولا تنفعل عن أمره تعالى. والتفجر التفتح بسعة وكثرة، والخشية مجاز من الانقياد ... " كما قاله البيضاوي في تفسيره. وهكذا حاول ابن جني، فيما تقدم من كلامه في المحتسب (1/92) ، أن يصرف القول إلى أن قراءة (يهبط) في الآية بالكسر إنما تنم على تعدّي الفعل، وبالضم على لزومه. فإذا صح قياس ابن جني هذا في فعَل المفتوح العين، مما تعاقب عليه اللزوم والتعدي وسمع في مستقبله الضم والكسر، خص الكسر بمستقبل المتعدي منه، والضم بمستقبل غير المتعدي. ومن هذا قولك هدر الدم فإنه من بابي ضرب وقتل، وهو يتعدى ولا يتعدى، فالكسر لمستقبل المتعدي والضم لمستقبل غير المتعدي، فإذا سمع في الفعل الكسر وحده كنزف أضيف الضم إلى مضارع اللازم منه. أو سمع الضم وحده كنقص الشيء أو قطر الدم أضيف الكسر إلى المتعدي. نص المعاجم فيما جاء مضارعه بالكسر والضم وكان متعدياً ولازماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 درجت المعاجم على الأخذ بما ثبت لها بالرواية والاقتصار عليه. ففي مادة (هبط) ذكر الصحاح أوزان مصدره لازماً ومتعدياً وسكت عن باب الفعل فلم يشر إلى حركة العين في مضارعه، وقد اعتاد أن يشير إلى ذلك غالباً حين يصح في مضارع الفعل الكسر والضم إذ قال مثلاً عكفه أي حبسه ووقفه بعكفه بالكسر ويعكفه بالضم عكفاً، كما قال: وفسق الرجل يفسق بالضم ويفسق بالكسر أيضاً عن الأخفش فسقاً وفسوقاً أي فجر. أما في (هبط) فقد قال الجوهري "هبط هبوطاً نزل وهبطه هبطاً أي أنزله، يتعدى ولا يتعدى". فتدارك ذلك الرازي في مختار الصحاح فجعل الكسر لعين المضارع اللازم والمتعدي على السواء، فقال: "هبط نزل وبابه جلس وهبطه أنزله وبابه ضرب، يتعدى ويلزم" وأهمل الرازي رواية الضم في عين المضارع على ثبوت حكاية الضم في الآية. وتدارك ذلك الفيومي في مصباحه فقال: "هبط الماء ونحوه هبطاً من باب ضرب ونزل" فهو إذاً بالكسر والمصدر على الهبط والهبوط، إذا كان لازماً وأردف: "وفي لغة قليلة يهبط هبوطاً من باب قعد" فخص اللازم بالضم في لغة قليلة، أما الكسر فلهما جميعاً، إذ قال: "وهبطته أنزلته يتعدى ولا يتعدى". شرط مجيء الفعل على فعَل يفعَل بفتح العين فيهما ذهب جمهرة النحاة إلى أن ما جاء على فعَل بفتح العين فيهما، وهو ما أسموه (الباب الثالث) فشرطه أن تكون عينه أو لامه من حروف الحلق، هذا هو القياس، وقد شذ من ذلك أحرف معلومة. قال ابن خالويه في شرح المقصورة الدريدية، على ما حكاه السيوطي في المزهر (2/60) : "قال ابن خالويه في شرح المقصورة: ليس في كلام العرب فعل يفعل بفتح الماضي والمستقبل، إلا إذا كان فيه أحد حروف الحلق عيناً أو لاماً نحو سحر يسحر، وليس فيه أحد حروف الحلق عيناً أو لاماً، في خمسة أحرف: عشى يعشى وقلى يقلى وجبى يجبى وركن يركن، فقل في ذلك خلاف، وأبى يأبى لا خلاف بين النحويين فيه فلذلك خُص بالذكر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ويفهم مما تقدم أن ما جاء على (فعل يفعل) بفتح الماضي والمستقبل، لا بد أن تكون العين أو اللام فيه من حروف الحلق، إلا أمثلة شذت. وقد أجمع النحويون على شذوذ مثال واحد هو (أبى يأبى) واختلفوا فيما بقي منها فأولوه. وجاء في المخصص لابن سيده (14/125) : "وقد ذكر سيبويه أنه جاء حرف واحد على فعل يفعل بفتح العين هو أبى يأبى، وليس عينه ولا لامه حرفاً من الستة، وأردف "وقال بعض النحويين شبهوا الألف بالهمزة لأنها من مخرجها، وهو شاذ ليس بأصل، وزاد ابن السكيت عن أبي عمرو: ركن يركن..". وقد جاز ابن جني هذا المجاز فلم يعتد بشذوذ الأمثلة التي جاءت في الظاهر على غير القياس، ذلك أنها لم تكن من أصل اللغة، ولو بدت كذلك، بل اتهم من قال بشذوذها بضعف النظر، حين وقفوا من الأمثلة عند الظاهر. ولم يتجاوزوه إلى أصولها الأولى. قال ابن جني في باب (تركب اللغات) من الخصائص (1/379) : "اعلم أن هذا موضع قد دعا أقواماً ضعف نظرهم، وخفت إلى تلقي ظاهر هذه اللغة أفهامهم، أن جمعوا أشياء على وجه الشذوذ عندهم وادعوا أنها موضوعة من أصل اللغة..". وقد ذكر مما قيل بشذوذه: قلى يقلي وسلى يسلي وعشى يعشى وجبى يجبى وركن يركن وقنط يقنط، ومضى في تخريجها على الأصل فقال: (1/381) : "إنهم قد قالوا قليت الرجل بالفتح وقليته بالكسر. فمن قال قليته بالفتح فإنه يقول أقليه بالكسر. ومن قال قليت الرجل بالكسر قال أقلاه بالفتح، وكذلك من قال سلوته بالفتح قال أسلوه بلاضم، ومن قال سليته بالكسر قال أسلاه بالفتح" وأردف: "ثم تلاقى أصحاب اللغتين فسمع هذا لغة هذا، وهذا لغة هذا، فأخذ كل منهما من صاحبه ما ضم إلى لغته فتركب هناك لغة ثالثة، كأن من يقول سلا بالفتح أخذ مضارع من يقول سلي بالكسر فصار في لغته سَلَى يسلَى بالفتح فيهما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وهكذا حكى ابن جني لعشى يعشى لغتين: عشا يعشو كسلا يسلو بفتح الماضي وضم المضارع وعشي يعشى بكسر الماضي وفتح المضارع، فكان ثمة من قال عشى يعشى بالفتح فيهما". أما جبى فقد حكى لماضيه المفتوح يجبي بالكسر، ثم حصل جبى على قرأ وهدأ تشبيهاً للألف بالهمزة لأنها من مخرجها، كما حمل مضارعه على يقرأ فكان له جبى يجبى بالفتح فيهما، وكذلك فعل في (أبى يأبى) . وأما ركن يركن فقد حكى فيه لغة كنصر ينصر وأخرى كعلم يعلم، ثم أخذ مستقبل هذه وضمه إلى ماضي تلك فكان منهما ركن يركن بالفتح فيهما. وهكذا فعل في قنط يقنط إذ حكى فيه لغة على جلس يجلس وأخرى على تعب يتعب فكان منهما قنط يقنط بالفتح (1/381-386) ، قال ابن جني: "وكذلك حال قولهم قنط يقنط بالفتح فيهما، إنما هما لغتان تداخلتا، وذلك أن قنط يقنط بفتح الماضي وكسر المضارع لغة، وقنط يقنط بكسر الماضي وفتح المضارع لغة أخرى، ثم تداخلتا فتركبت لغة ثالثة، فقال من قال قنط يقنط بالفتح فيهما، ولم يقولوا قنط يقنط بالكسر فيهما، لأن آخذاً إلى لغته لغة غيره قد يجوز أن يقتصر على بعض اللغة التي أضافها إلى لغته دون بعض". فثبت بما تقدم أن ما جاء على (فعل يفعل) بفتح العين فيهما، لا بد أن تكون العين أو اللام فيه من حروف الحلق، وقد شذ من ذلك أحرف اجتهد النحاة في تأويلها وتخريجها. وقد جاء نحو من ذلك في أمالي ابن الشجري (أبو السعادات هبة الله بن علي – 542هـ) . (ج1-ص/171-174) . ولكن هل يصح العكس في ذلك أي هل يشترط فيما كانت عينه أو لامه حرفاً من حروف الحلق أن يجيء بالفتح على (فعل يفعل) بالفتح فيهما فيكون من الباب الثالث. قياس مضارع ما جاء على فَعَل إذا كان ثانيه أو ثالثه من حروف الحلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 أقول إذا جعل الشرط في المسألة مجيء الفعل من الباب الثالث، بفتح ماضيه ومستقبله، كان المشروط مجيء العين أو اللام فيه من حروف الحلق، وليس يستلزم إذا ثبت المشروط، وهو وجود حرف الحلق، أن يثبت الشرط، وهو مجيء الفعل من الباب الثالث. فشرط قيام الصلاة، فيما مثلوا، وجود الوضوء، ولا يستلزم وجود الوضوء قيام الصلاة. ولذا قيل أن مجيء ما كانت عينه ولامه من حروف الحلق، على (فعل) بفتح العين، لا يستلزم أن يكون مضارعه على (يفعَل) بفتح العين، ولكن يكثر. قال ابن سيده في المخصص (14/125) : "وقد يكون الآتي من فعَل يفعل بفتح العين فيهما، إذا كانت لامه أو عينه حرفاً من حروف الحلق، وليس هذا الموضع كلياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 بل قد يجيء مما عينه ولامه حرف من حروف الحلق على القياس كثيراً". فقول ابن سيده: قد يكون الآتي أي المضارع من فعل يفعل بفتح العين فيهما إذا كانت لامه أو عينه حرفاً من حروف الحلق وليس هذا الموضع كلياً، قوله هذا يعني أن مجيء حرف الحلق في (فَعَل) المفتوح العين، لاماً أو عيناً، لا يقتضي فتح العين في مضارعه باطراد. قال ابن سيده: "وبعض ذلك على الأصل على فعَل يفعِل بالكسر أو يفعُل بالضم". وقد ذكر مما جاء مضارعه على الكسر وكانت عينه أو لامه حرف حلق (تحت ينحت وصهل يصهل ورجع يرجع) ومما جاء على الضم (قعد يقعد وشجب يشجب) ، وأردف: "وذلك كثير". وذكر سيبويه الكثير مما جاءت عينه أو لامه من حروف الحلق من (فعَل) المفتوح العين، وكان مضارعه بالكسر وبالضم (2/253) . وقول ابن سيده "وبعض ذلك على الأصل" يعني أن الأصل أن تغاير حركة المضارع حركة الماضي، فإذا اتفقت الحركتان كان ذلك لقصد. قال ابن جني في تغاير حركتي الماضي والمضارع في الأصل، واتفاقهما حيناً: "فإن قلت فقد نجد في الثلاثي ما تكون حركة عينيه في الماضي والمضارع سواء، وهو من باب فعُل يفعل بالضم نحو كرم يكرم وظرف يظرف، قيل على كل حال فاؤه في المضارع ساكنة، وأما موافقة حركة عينيه فلأنه ضرب قائم في الثلاثي برأسه، ألا تراه غير متعدّ البتة. وأكثر باب فعَل بالفتح وفعِل بالكسر متعدّ، فلما جاء هذا مخالفاً لهما، وهما أقوى وأكثر منه، خولف بينهما وبينه، فوفق بين حركة عينيه وخولف بين حركتي عينيهما". وأردف: "إذا ثبت وجوب خلاف صيغة المضارع، وجب أن يكون ما جاء من نحو سلى يسلى وقلى يقلى بالفتح، مما التقت فيه حركتا عينيه منظوراً في أمره- /381/ الخصائص". وقد ذكر ابن جني نحواً من ذلك في كتابه (المنصف- 1/185) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ولكن لم كان الغالب في مضارع ما جاء من (فعَل) مفتوح العين، مفتوح العين كماضيه، إذا كانت عين الفعل أو لامه من حروف الحلق؟ أقول قد اعتل بعضهم لذلك بثقل الضمة والكسرة، إلى ثقل حروف الحلق، فتفادوا من الجمع بين الثقلين بإبدال الفتحة من أختيها وهي أخف الحركات، جاء ذلك في تلخيص الأساس في شرح البناء لعلي بن عثمان (ص/ 21) . وهو علي بن عثمان الأقشهري المتوفى (1285هـ) واعتل ابن جني لذلك بعلة أخرى إذ قال في الخصائص (1/535) : "ومن ذلك أيضاً قولهم فعَل يفعَل بفتح العين وسحل يسحل وسبح يسبح، وذلك لأنهم ضارعوا بفتحة العين في المضارع جنس حرف الحلق، لما كان موضعاً منه مخرج الألف التي منها الفتحة". حروف الحلق: حروف الحلق ستة هي (الهمزة والهاء) و (العين والحاء) و (الغين والخاء) . وقد ضم بعضهم إليها (الألف) ، كما فعل الشاطبي أبو القاسم (590هـ) فجعلها سبعة خلافاً للجمهور. ذلك أن الجمهور على أن الألف كما قال الجزري شمس الدين محمد ابن محمد (833هـ) مع أختيها الواو والياء، إنما هي حروف الجوف الثلاثة إذا سكنت وسبقتها حركة مجانسة، أي الفتح قبل الألف والضم قبل الواو والكسر قبل الياء. وقد جاء في تلخيص الأساس لعلي بن عثمان: "وقيل سبعة سابعها الألف لكن الجمهور لم يقل به. قال المرعشي، رحمه الله، في جهد المقلّ: وقع في بعض الرسائل أقصى الحلق ينقسم إلى ثلاثة مواضع يخرج من ثالثها الألف المدّية، أي ألف المدّ. قلت ما ذكر فيه من الأقسام صحيح، لكن جعل الموضع الثالث مخرج الألف المدّية مجاز، وإنما هو مبدأ صوته، والجمهور لما لم يقولوا بهذا المجاز، بل جعلوا حروف المدّ جوف الحلق سلكت مسلكهم"، وأردف: "وإنما سميت حروف الحلق لخروجهن من الحلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 فالأولان، الهمزة والهاء، يخرجان من أقصى الحلق أي أبعدها من الفم، وهو ما ولي الصدر، والمتوسطان: العين والحاء، من وسط الحلق، والآخران: الغين والخاء من أدنى الحلق، أي أقرب إلى الفم، وهو أوله مما يلي الفم، على ما في شرح الجزري – ص/ 21 و 22". قياس يفعل فيما جاء من الثلاثي مضاعفاً ذهب كثير من الأئمة كوفيين وبصريين إلى أن مضارع ما جاء من الثلاثي مضاعفاً إنما يكون مضموم العين إذا كان الفعل متعدياً، وبالكسر إذا كان لازماً، خلافاً لما تقرر غالباً، في غير المضاعف من الثلاثي. ومن ذلك ما قاله الفراء أبو زكريا يحيى بن زياد، شيخ الكوفة (207هـ) . فقد جاء في الصحاح (مادة شد) : "قال الفراء ما كان على فعلت من ذوات التضعيف غير واقع، أي غير متعد، فإن يفعل منه مكسور العين مثل عففت أعف بالكسر، وما كان واقعاً أي متعدياً مثل وددت ومددت فإن يفعل منه مضموم العين إلا ثلاثة أحرف جاءت نادرة، وهي: شدّه يشدّه بالضم ويشدّه بالكسر، وعلّه يعلّه ويعلّه من العلل وهو الشرب الثاني، ونم الحديث ينمه وينمه. قال فإن جاء مثل هذا أيضاً مما لم يسمعه فهو قليل وأصله الضم، وقد جاء حرف واحد بالكسر من غير أن يشركه الضم، وهو حبه يحبه". وهكذا جعل الفراء القياس في المضاعف من الثلاثي، أن يضم مضارعه إذا كان متعدياً، وأن يكسر إذا كان لازماً. فإذا سمع من المتعدي ما كسرت عين مضارعه، فلا بد أن يكون إلى جانبه ضم العين، كما هو الحال في شدّه وعلّه ونمِّه، ولم يأت بالكسر وحده إلا حرف واحد شاذ، هو حبه يحبه. وجاء في الصحاح: "يقال أحبه فهو محب، وحبّه يحبه بالكسر فهو محبوب. وهذا شاذ لأنه لا يأتي في المضاعف يفعل بالكسر إلا ويشركه يفعُل بالضم إذا كان متعدياً، ما خلا هذا الحرف". وفي المصباح. "وحببته أحبه من باب ضرب والقياس أحبه بالضم لكنه غير مستعمل..". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وقد حكى ابن قتيبة عن الفراء ما ذهب إليه (أدب الكاتب/ 471) وذكر مما جاء باللغتين من المتعدي ما ذكره وزاد: بت الشيء يبته بالضم ويبته بالكسر، كما ذكر مما جاء باللغتين من اللازم، جد يجد ويجد، وشب الفرس يشب ويشب، وجم يجم ويجم وصدّ يصد ويصد بمعنى ضجّ، وشح يشح ويشح، وقال: "وعن أبي زيد فحَّت الأفعى تفحّ وتفحّ". وهكذا جاء من المتعدي باللغتين ثلاثة أحرف حكاها الفراء، كما تقدم، ورابع حكاه ابن قتيبة عن سواه هو (بتّ) . وجاء باللغتين من اللازم خمسة أحرف هي (جدّ وشبّ وجمّ وصدّ وشحّ) وزاد أبو زيد (فحّ) . فإذا سمع الكسر في المضاعف المتعدّي فالضم إلى جانبه لأنه القياس، أو سمع الضم في اللازم منه فالكسر إلى جانبه، لأنه القياس أيضاً. وحكى ابن السكيت في الإصلاح (244هـ) عن الفراء ما حكاه الجوهري وابن قتيبة وقد نحا هذا النحو المبرّد أبو العباس محمد بن يزيد (285هـ) وهو شيخ البصرة، في كتابه الكامل (ص/ 1099) ، كما نحاه الفارسي أبو علي الحسن (377هـ) في تذكرته، على ما حكاه السيوطي في مزهره (2/71) . وهكذا فعل ابن جني أبو الفتح (392هـ) في الخصائص (1/385) ، كما فعله المعرّي أبو العلاء أحمد بن عبد الله التنوخي (449هـ) في رسالة الغفران (ص/ 137-ط دار كرم دمشق) . وجرى هذا المجرى ابن الحاجب أبو عمرو عثمان (646هـ) في شافيته، وشارحو هذه الشافية ومنهم رضي الدين محمد بن الحسن (686هـ) في شرح الشافية (ص/ 52 و 53) . ويمم سمت هؤلاء جميعاً ابن عصفور علي بن مؤمن الحضرمي الإشبيلي (663هـ) في كتابه (الممتع في التصريف/ 174) . وقد تقدم أنه أخذ بقياس يفعل ويفعل بالكسر والضم في فعل المفتوح العين من الصحيح غير المضاعف، سمع أم لم يسمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 على أن ممن بسط القول في هذا الموضع ابن القوطية أبو بكر محمد الأندلسي (367هـ) في مقدمة كتابه (الأفعال) إذ قال: "والضم يستثقل في المضارع، فما كان منه على فَعَل مفتوح العين متعدياً فإن مستقبله على يفعل بضم العين مثل: ردّه يردّه وشدّه يشدّه، غير أفعال جاءت باللغتين: هرّه يهرّة ويهرّه: كرهه، وعلَّه بالشراب يعله ويعله، وشده يشدّه ويشدّه، وقال الفراء نمّ الحديث ينُمّه وينمه، وبتّ الشيء يبته ويبته. وشذ من ذلك حَبَّ الشيء يحِبُّه بالكسر" وأردف: "وقرأ العطاردي: فاتبعوني يحببكم الله- آل عمران/ 31" أي قرأ: يحببكم بكسر عين المضارع من (حبه) المضاعف الثلاثي. والقراءة المشهورة (يحببكم) بضم أوله من أحبه. ثم قال: "وما كان غير متعد فإنه على يفعل بالكسر، غير أفعال أتت باللغتين: شحّ يشح ويشح، وجدّ في الأمر يجد ويجد، وجم الفرس يجمّ ويجمّ، وشب يشب ويشب، وفحت الأفعى تفحّ وتفحّ، وترّت يده تترّ وتترّ، وترّت: غلظت، وطرّت المرأة تطرّ وتطرّ: تدللت في الشيء وفي المثل: أطرّي فإنك ناهلة، وصدّ عني يصدّ ويصدّ، وحدّت المرأة تحدّ وتحدّ: إذا تركت الزينة، وشذّ الشيء يشذ ويشذ، ونسّ الشيء ينسّ وينس إذا يبس، وشطَّت الدار تشط وتشط: بعُدت، ودرّت الناقة وغيرها تدرّ وتدرّ" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ثم استدرك فقال: "وأما ذرّت الشمس وهبت الريح فإنهما على يفعل بالضم، إذ فيهما معنى التعدي وشذ منه أل يؤل بالضم: بَرَق، وألّ الرجل أليلاً: رفع صوته ضارعاً". وفي تأويل مجيء غير المتعدي من المضاعف حيناً بالضم، والقياس فيه الكسر، يقول الفيومي في مصباحه: "وإن كان متعدياً أو في حكم المتعدي فقياس المضارع الضم نحو يردّه ويمدّه ويذب عن قومه ويسدّ الخرق، وذرّت الشمس تذر لأنه بمعنى أنارت غيرها، وهبت الريح تهب، ومدّ النهر إذا زاد يمدّ بالضم لأن معناه ارتفع فغطى مكانه مرتفعاً منه". يريد أن يقول: جاء يذب عن قومه بالضم لأنه بمعنى حمى المتعدّي، كما جاء مدّ النهر بالضم لأنه بمعنى غطى بفيضانه ضفتيه. ولكن ما علة جريان الثلاثي من المضاعف، في مستقبله، مجرى الضد من غير المضاعف؟ قال ابن جني في الخصائص (1/385) : "قيل إنما جاء هذا في المضاعف لاعتلاله، والمعتل كثيراً ما يأتي مخالفاً للصحيح". وقد عرض الجوهري أبو نصر (393هـ) لهذا في صحاحه، فحدّ ما جاء باللغتين من اللازم بسبعة أحرف، ومن المتعدّي بخمسة أحرف، إذ أغفل مما ذكره ابن القوطية من اللازم (شذ ونسّ وشطّ ودرّ وطرّ) لكنه زاد (علّ) ، كما أغفل مما ذكره من المتعدّي (هرّ) ، لكنه زاد (رمّ) . ولم يذكر مما جاء على غير الأصل من المتعدي ألا (حبَّه) وقد ذكره في مادته، ولم يذكر مما جاء على غير الأصل من اللازم، خلافاً لابن القوطية. على أن من الأئمة من لم يفرّق بين مضاعف وغير مضاعف فقال بغلبة مجيء يفعل بالكسر والضم، فيما كان ماضيه على (فعَل) بفتح العين، وإيثار الكسر فيه لخفته فيما لم يسمع بابه من المضارع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 قال ابن سيده في المخصص (14/123) : "وقال بعض النحويين إذا علم الماضي على فعَل بالفتح، ولم يعلم المستقبل على أي بناء هو فالوجه أن يجعل يفعل بالكسر، وهذا أيضاً لما قدّمت من أن الكسرة أخف من الضمّة، وقيل هما يستعملان فيما لا يعرف وحكي عن محمد بن يزيد وأحمد بن يحيى أنه يجوز فيه الوجهان في مستقبل فعَل بالفتح، في جميع الباب". ومضى ابن سيده يذكر ما اعتقب عليه المثالان من المضاعف وغير المضاعف، فقال: فأما ما يعتقب عليه هذان المثالان من المضاعف نحو شدّ وشحّ وعلّ ونمّ، فسأستقصيه في موضعه إن شاء الله تعالى، وأشباه هذا في الكلام كثير جداً لكني ذكرت منه عامة ليدلك على أن المثالين يكثران..". قال هذا ولم يفرّق في المضاعف بين متعد وغير متعدّ. وجرى ابن سيده هذا المجرى في موضع آخر (المخصص – 15/64-68) ؛ فقال: "قد ذكرت اختلاف النحويين في هذا الفصل وما ذهبوا إليه، وأذكر الآن شيئاً من المسموعات وأوجز في ذلك". وأخذ يعدد ما جاء بالكسر والضم من المضاعف وغيره، والمتعدى من ذلك وغير المتعدى. القياس في مضارع أفعال المغالبة إذا كان الفعل جارياً بين اثنين وغلب أحدهما فيه الآخر، أحلت باب المفاعلة فيه إلى باب نصر، ولو كان في الأصل من غير هذا الباب فضممت عين مضارعه، هذا هو الغالب. فأنت تقول شاتمته فشتمته أشتمه بضم عين المضارع، ما دام للمغالبة، والشتم في الأصل من باب ضرب. ويمكن النظر إلى القياس في أفعال المغالبة من جهتين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 الأولى: هل لك أن تقيس في كل فعل جاء على (فاعلته) فتأتي منه بفعلته أفعله من باب نصرته أنصره بالضم، إذا أردت المغالبة؟ أقول لا قياس في هذا فأنت تقول نازعني فلان ولا تأتي منه بنزعته أنزعه من باب نصر للمغالبة، قال سيبويه في الكتاب (2/239) : "واعلم أن يفعل من هذا الباب، باب المغالبة، على مثال يخرج بالضم نحو عازّني فعززته أعزُّه، وخاصمني فخصمته أخصمه، وشاتمني فشتمته أشتمه، بضم عين المضارع فيها.. وكذلك جميع ما كان من هذا الباب، إلا ما كان من الياء مثل رميت وبعت، وما كان من باب وعدَ، فإن ذلك لا يكون إلا على أفعله بكسر عين المضارع، لأنه لا يختلف ولا يجيء إلا على يفعل بكسر العين"، وأردف: "وليس في كل شيء يكون هذا، ألا ترى أنك لا تقول نازعني فنزعته أنزعه، أستغني عنها بغلبته وأشباه ذلك". الثانية: هل ينبغي لكل فعل جاء على (فاعلته ففعلته أفعله) على سبيل المبالغة أن يكون (فعلته أفعلُه) فيه، من باب نصر قياساً مطرداً؟ أقول في ذلك مذاهب: المذهب البصري: أما البصريون فيقولون بضم عين المضارع في الصحيح من أفعال المغالبة مطلقاً، ويجعلون هذا قياساً مطرداً. فإذا سُمع فيه غير الضم أوجبوا الضم فيه، ما دام الفعل صحيحاً. قال السيوطي في المزهر (2/25) : "وشذ الكسر في قولهم خاصمني فخصمته أخصمه بكسر الصاد، ولا يجيز البصريون فيه إلا الضم، وهذا ما لم يكن المضارع وجب فيه الكسر فإنه يبقى على حاله في المغالبة، نحو سايرني فسِرته أسيره، وواعدني فوعدته أعِدُه، وراماني فرميته أرميه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 والبصريون يقولون بالضم، ولو كانت عين المضارع أو لامه حرفاً حلقياً. قال السيوطي في المزهر (2/25) : "وأما فَعَل بفتح العين، الصحيح، إن كان لمغالبة، فمذهب البصريين أن مضارعه بضم العين مطلقاً نحو كاتبني فكتبته أكتبه، وعالمني فعلمته أعلمه، وواضأني فوضأته أوضؤه". فقد جاء بعين المضارع فيها جميعاً مضمومة، ولام الفعل في واضأني فوضأته أوضؤه، من حروف الحلق. مذهب الكسائي والجوهري وجماعة: إذا كان البصريون قد رأوا ضم عين الفعل في المضارع ما دام للمغالبة، مهما كان بابه في الأصل، فقد ذهب الكسائي في هذا، وهو شيخ الكوفية، مذهباً آخر، فقد علَّق الضم الذي تستوجبه المغالبة على خلو الفعل من حرف حلقي عيناً أو لاماً، فإذا كان الفعل حلقياً وجب الفتح في عين مضارعه. وقد أخذ على الكسائي في هذا أن حلقي الفعل لا يجب الفتح في عين مضارعه أصلاً، كما تقدم، ولو كثر فيه ذلك. فالفتح في عين المضارع يستلزم أن يكون الفعل حلقياً، ولا عكس كما فصَّلناه. والكسائي، حين أوجب الفتح في حلقي العين من أفعال المغالبة، لم يلتزم فيه وحسب، بل ألغى ما كان يستدعيه قياس المغالبة الذي أخذ به النحاة. فقد جاء في التاج (مادة شعر) : "شاعره فشعره يشعره بالفتح، أي كان أشعر منه وغلبه، قال شيخنا: وإطلاق المصنف في الماضي يدل على أن المضارع بالضم ككتب على قاعدته لأنه من باب المغالبة، وهو الذي عليه الأكثر". فصاحب التاج قد حكى (يشعره) الذي هو من أفعال المغالبة بالفتح، كما فعل الجوهري، لكنه أشار إلى أن المصنف، أي صاحب القاموس، قد جاء به بالضم، كما هو شأن أفعال المغالبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وقد حكاه أبو زيد بالضم كذلك. وأردف صاحب التاج: "وضبطه الجوهري بالفتح كمنع ذهاباً إلى قول الكسائي في أعمال الحلقي حتى في باب المغالبة". وفي هذا ما يشير إلى أن الجوهري قد أخذ بمذهب الكسائي في أعمال الحلقي، في باب المغالبة. قال السيوطي في المزهر (2/25) : "وجوز الكسائي في حلقي العين فتح عين مضارعه، كحاله إذا لم يكن لمغالبة" والجمهور لم يوجب الفتح في حلقي العين في غير المغالبة ليوجبها في المغالبة. وثمة (فاخره ففخره يفخره) ، وهو حلقي العين، من أفعال المغالبة، وقد جاء به القاموس بالضم، وجاء بـ (يشعره) كذلك، كما تقدم، وكذلك حكاه اللسان والتاج، أي (يفخره) بالضم. على حين جاء به الجوهري في صحاحه بالفتح. قال الجوهري: "فاخرت الرجل ففخرته أفخره فخراً إذا كنت أكرم منه.." وعلق الهوريني أبو الوفا على ذلك فقال: "قوله ففخرته أفخره، بفتح الخاء في الماضي والمضارع، فإن قلت قاعدة باب المغالبة أن المضارع الصحيح فيه، يكون من باب نصر.. قلت محل ذلك ما لم تكن عينه حرف حلق، كما هنا، وإلا كان بالفتح.. وجاء (خاصمه فخصمه يخصمه) بكسر عين مضارعه، فحكاه الجوهري بالكسر، ونفى عنه الضم، إذ قال: "وخاصمت فلاناً فخصمته أخصمه بالكسر، ولا يقال بالضم، وهو شاذ"، وكذلك حكاه القاموس، لكن أبا حيان الأندلسي قد أضاف إلى الكسر الضم. فقد جاء في التاج: "خاصمه فخصمه يخصمه بالكسر، من حدّ ضرب، ولا يقال بالضم، غلبه، وهو شاذ مخالف للقياس والاستعمال، قال شيخنا: لكن حكى أبو حيان أنه يقال على القياس أيضاً بالضم". المختار في أفعاله المغالبة: والمختار في قياس الصحيح من أفعال المغالبة، أن يؤخذ بالسماع أولاً، فإذا سمع فيها غير الضم في عين المضارع أخذ به، وأضيف إليه قياس المغالبة وهو الضم، سواء أكان حلقي العين أم لم يكن، وقد أخذ بهذا جماعة. القياس في ما اعتل من أفعال المغالبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 القياس في فعل المغالبة، إذا اعتلت، فاؤه (كوعد) ، أو اعتلت عينه أو لامه بالياء (كباع ورمى) أن يبنى عين مضارعه على الكسر. تقول واعدته فوعدته أعده، وبايعته فبعته أبيعه، وراميته فرميته أرميه، بكسر عين المضارع فيها جميعاً. قال سيبويه في الكتاب (2/239) : "وتقول خاصمني فخصمته أخصمه بالضم، وكذلك جميع ما كان من هذا الباب، إلا ما كان من الياء مثل رميت وبعت، وما كان باب وعد، فإن ذلك لا يكون إلا على أفعله بالكسر، لأنه لا يختلف ولا يجيء إلا على يفعل بالكسر". فإذا اعتلت عين المضارع أو لامه بالواو، فإنها تبنى على الضم كخاف وأصله خوف بفتح فكسر، ورضي وأصله رضو بفتح فكسر، قال الجوهري في الصحاح (مادة خصم) : "وأما ما كان من المعتل مثل وجدت وبعت ورميت وخشيت وسعيت، فإن جميع ذلك يردّ إلى الكسر، إلا ذوات الواو فإنها ترد إلى الضم تقول راضيته فرضوته أرضوه وخاوفني فخفته أخوفه". وقد جاء في أساس البلاغة للزمخشري: "وخايرته فخرته بالضم، أي كنت خيراً منه"، وهو خلاف ما يوجبه ما تقدم من النص، فما اعتلت عينه بالياء من أفعال المغالبة، بنيت عين مضارعه على الكسر. فالأصل أن تقول (خايرته فخرته بالكسر أخيره) لا (خرته أخوره) أي كنت خيراً منه، وما أظن ما جاء في أساس البلاغة إلا محرّفاً. وفي اللسان: "وخايرته فخِرته بالكسر، أي غلبته". شأن الفعل في التعبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 الفعل ركن مهم في بناء الجملة الفعلية، وبعض أشكال الجملة الاسمية. وعلى ما للفعل من موقع رئيس في تأليف الجملة عامة وشدة اتصاله بالاسم، فقد نزع النحاة إلى الاهتمام بالاسم خاصة، وجعلوا الجملة الاسمية محل عنايتهم ومحور بحثهم ودراستهم، وتولوا أمر الإعراب فيها برحب صدر وسعة ذرع، دون الإعراب في الجملة الفعلية، ذلك أن علم النحو لديهم كان هو الإعراب، كما أشار إليه الزمخشري في (المفصل) ، والإعراب يتناول في الجملة الاسمية جانبيها غالباً، المسند والمسند إليه على السواء، لتغير الآخر فيهما، على حين لا يتناول في الجملة الفعلية إلا أحد جانبيها، وهو المسند إليه، أي الفاعل. أما المسند وهو الفعل فيحكمه البناء في معظم أحواله، فلا يتغير آخره بعوامل الإعراب. وقد تركوا لعلم الصرف أمر تصريف الفعل، في صيغه المختلفة ليعبر عن متباين دلالاته. مذهب الجارم في الفعل والجملة الفعلية: عمد الشيخ علي الجارم، رحمه الله، إلى بحث الجملة الفعلية، في مقال له، في الجزء السابع من مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، عام 1935 للميلاد، فقال: "تقتضي العقلية العربية أن تكون الجملة الفعلية، الأصل والغالب الكثير في التعبير، لأن العربي جرت سليقته ودفعته فطرته إلى الاهتمام بالحدث، في الأحوال العادية الكثيرة، وهي التي لا يريد فيها أن ينبه السامع إلى الاهتمام بما وقع منه الحدث، أو التي لا يهتم هو فيها بمن وقع منه الحدث، فالأساس عنده في الأخبار أن يبدأ بالفعل فيقول: عدا الفرس، ورعت الماشية، وعاد المسافر. وقد يلتجئ العربي إلى الجملة الاسمية، إذا كان القصد إلى الفاعل، وإلى الإسراع بإزالة الشك فيمن صدر منه الفعل، فيبدأ بذكره أولاً، قبل أن يذكر الفعل لكي يخصصه به أو لكي يُبعد الشبهة عن السامع، ويمنعه من أن يظن به الغلط أو التزيد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وقد كشف الأستاذ زكي الأرسوزي، رحمه الله، بحدسه، في كتابه (العبقرية العربية في لسانها/ 227) عن نحو من هذا في شأن الفعل في اللسان العربي، فقال: "إن اللسان العربي لسان بدئي، نشأ مع يقظة الحياة على المعنى، فسجل حركات الفعل، في حين أن اللغات الأخرى حديثة، وتحمل طابع المنطق فتهتم بالموضوع، أي الفاعل الذي يبدأ الجملة عندهم". وعقب الدكتور إبراهيم السامرائي، في كتابه (الفعل زمانه وأبنيته) على ما ذهب إليه الجارم، فقال: "إن الجارم مفتقر أن يثبت هذا الرأي بالاستقراء الوافي الشافي، ليطلع علينا فيقول: أن الأساس عند العربي في الأخبار أن يبدأ بالفعل.. وأنى له أن يحقق هذا الاستقراء، وكيف يتحقق وكلام العرب المأثور لا يظفر به إنسان، والذي ضاع من كلامهم أكثر/ 206". أقول قد جاء الجارم في كلامه هذا، بطرف مما جاء به الإمام عبد القاهر الجرجاني (481هـ) ، في كتابه المعروف (دلائل الإعجاز) ، في تمييز الجملة الفعلية من الاسمية، وقد استعاد بعض ألفاظه، كما سنبسط القول فيه، بعد. وقول الجارم أن الجملة الفعلية، هي الغالب الكثير في التعبير، وأن الأساس عند العربي في الأخبار أن يبدأ بالفعل، يصِحُّ فيه الاستقراء، إذا طال من كلام الفصحاء، قدراً وافياً من الأمثلة. وهذا ما عمد إليه الإمام الجرجاني حين استقرأ أي التنزيل وكثيراً من شعر الأوائل، فتبين له أن العرب إنما تقدم الفاعل (في المعنى) إذا كان ثمة داع إلى تقديمه، كتبديد الشك أو دفع الإنكار في ذهن السامع، فتبدأ بذكره وتوقعه أولاً، فإذا لم يكن الحديث ما يتطلب ذلك، وهو الأكثر والأغلب، فإنها تبدأ بالفعل لتخبر السامع بحدث ابتدائي، أي بخبر خلاذهن المخاطب عنه وعن التردد فيه (دلائل الإعجاز/ 89) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ولا شك في أن الاستقراء أقصر سبيل للفحص عن ذلك والوصول إلى الحكم فيه، ولكنه ليس السبيل الوحيد، في كل حال، كما أراد السامرائي أن يقول، إذ ثمة سبل أخرى، ومنها النظر في حال (الفعل) وشأنه في اللغات التي أسموها بالسامية. فإذا كان الأرسوزي قد نحا نحو المثالية والمتصوفة في الاهتداء إلى شأن الفعل في اللسان العربي، فقد دل البحث أن الفعل هو الركن الرئيس، الشائع في التعبير، في هذه اللغات، كما أشار إلى ذلك الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه (تاريخ اللغات السامية) حين قال: "أما في اللغات السامية فالفعل هو كل شيء، فمنه تتكون الجملة، ولم يخضع للاسم والضمير، بل نجد الضمير مسنداً إلى الفعل ومرتبطاً به ارتباطاً وثيقاً/ 15". فالفعل هو الغالب في التعبير، ومتى ارتبط الاسم الظاهر أو الضمير بالفعل ارتباطاً وثيقاً، كان فاعلاً للفعل وكانت الجملة فعلية، على أن صحة التعبير أن يقال: "أسند الفعل إلى الضمير أو الظاهر، لا العكس. ولا يمنع شيوع استعمال الفعل في التعبير أن يخلو الكلام المفيد منه حيناً، على حين لا يخلو من الاسم البتة. ولا يخفى أن الذي عنوه باللغات السامية اللغات الآكادية والآشورية والبابلية والكنعانية والآرامية ... وهي تعد أخوات للغة العربية، بل هي لهجاتها الموغلة في القدم. ومن هذه اللغات: الأوغاريتية، أو الكنعانية الشمالية التي كشفت حديثاً في رأس شمرة، على بعد تسعة كيلو مترات من اللاذقية. وقد اعتدها عضو المجمع الفرنسي، كلود شيفر، أقدم مصدر للغة العربية، وهي في حقيقة الأمر أقدم لغة ذات أبجدية، إذ ترجع إلى القرن الرابع عشر، قبل الميلاد. والأوغاريتية تشبه العربية كل الشبه، لا من حيث ألفاظها وحسب، بل من حيث قواعد نحوها في الأداء والتعبير، فهي ليست إلا لهجة عربية قديمة، عدا شبهها بالآشورية والبابلية والآرامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 ومن هذه اللهجات لهجة قديمة داخلية تحدثت رقمها التي كشفت في موقع أو مدينة إبلا عن حضارة شامية زاهرة تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد. وقد سطرت بخط مسماري لا يتألف من حروف، بل من رموز مقطعية، وقد بسط القول فيها علماء في مقدمتهم العالم الإيطالي جيوفاني بيتيناتو. وقد كتبت الآكادية وفروعها بالكتابة المسمارية التصويرية والمقطعية أيضاً، كما كتبت بها اللغة السومرية، وليست السومرية هذه من أخوات العربية، بل هي لغة قائمة برأسها، ولو كانت حضارة السومريين سلفاً حضارياً للأكاديين خاصة، بل أقدم سلف حضاري للعرب عامة. شأنها في ذلك شأن الحضارة المصرية القديمة. على أن من العلماء من قال حديثاً بتقارب اللغتين السومرية والأكادية وإنهما ذواتا أصول واحدة وقد أثبتت الكشوف الأثرية أن بلاد الشام مهد حضاري تلاقت به ثقافات لم تخف فيها ملامح الوحدة، وهي تؤلف وبلاد الرافدين جزءاً من وحدة جغرافية، هي بلاد العرب جميعاً. وأثمن ما حملته حضارتها أبجدية الكتابة والوحدانية في الدين والعقيدة. الاستئناس بأصول ما أسمي باللغات السامية في تبين أصول العربية وليس الاستئناس بأصول هذه اللغات للكشف عن بعض أصول اللغة العربية بدعاً، في هذا الباب، فقد شاع في لغة طيء وبني الحارث من كعب وأزدشنودة، إسناد الفعل إلى الضمير وإلى الظاهر معاً، وقد أسموا هذا لغة (أسروا النجوى الذين ظلموا) أو لغة (أكلوني البراغيث) . وقد عمد النحاة إلى تأويل ما جاء من ذلك بإبدال الظاهر من الضمير، أو رفع الظاهر على أنه مبتدأ مؤخر، أو أن ما يتصل بالفعل حروف تدل على التثنية والجمع، لا ضمائر، وهو الأكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ومما جاء من ذلك في التنزيل قوله تعالى: (وأسرّوا النجوى الذين ظلموا- الأنبياء/3 (، وقوله تعالى: (ثم عَموا وصَمُّوا كثيرٌ منهم- المائدة/ 72 (. ومنه الحديث الشريف: [يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار] ، والحديث الشريف: [من كنّ له ثلاث بنات يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن، وجبت له الجنة البتة] . قال الإمام أبو البقاء العكبري في كتابه (إعراب الحديث النبوي) : "وقع في هذه الرواية: كنّ بتشديد النون، والوجه: من كان له أو كانت له. والوجه من الرواية المشهورة: أنه جعل النون علامة مجردة للجمع، وليست اسماً مضمراً –137/318". وقد جاء نحو من ذلك أيضاً في الشعر الجاهلي والأموي والعباسي. ويمكن القول: إن إسناد الفعل على الوجه المذكور، قد شاع كذلك في بعض اللغات السامية، ومنها اللغة الآرامية. فانظر إلى ما جاء في كتاب (الآثار الآرامية في لغة الموصل العامية) للدكتور داود الحلبي الموصلي. قال الأستاذ داود الموصلي: "ومن الآثار النحوية في القواعد العربية أن الفعل إذا تقدم الفاعل لا يطابقه في الجمع والتثنية، بل يبقى على أفراده. أما في الآرامية فيطابقه في الإفراد والجمع. وقد تابعت العامة القاعدة في الآرامية فهي تقول: راحوا إخوتي، وكان الأجدر أن يقال: راح إخوتي"، وأردف: "إن هذا النوع من تأثير الآرامية وقع في القديم للعرب المحتكين بالأقوام الآرامية كعرب الحيرة، وشمالي الحجاز، وعرفته النحاة وسمَّته لغة أكلوني البراغيث5" وواقع الأمر أن مساكن طيء كانت في وسط نجد، وبني الحارث في نجران من اليمن، والقبيلتان من أشهر القبائل اليمنية، وكان لهما شأن في التجارة، بشمال بلاد العرب. وقد فعل ذلك وسبق إليه الدكتور فيليب حتى، في كتاب (اللغات السامية المحكية في سورية ولبنان/ 1922" إذ أشار إلى ما في السريانية من إسناد الفعل إلى فاعلين مضمر وظاهر، والسريانية، كما لا يخفى لهجة من لهجات الآرامية الشرقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وكل ما يرد من التعقيب على كلام الأستاذ داود الحلبي والأستاذ فيليب حتى، أنه لا يشترط فيما تشابه من الأصول في لغتين ساميتين، أن تكون إحداهما قد حكته عن الأخرى، ما لم يثبت ذلك بدليل علمي تاريخي، فقد يتفق أن يكون هذا الأسلوب من إسناد الفعل إلى الضمير والظاهر معاً، شائعاً في طور من أطوار العربية، ثم تحولت عنه في ارتقائها، وبقيت منه نماذج تدل على ما كان عليه حالها في إسناد الفعل، في ذلك الطور الغابر. وقد بدت هذه اللغة في أشعار اليمنيين، وفي شيء من أشعار المضريين، ولو أنها ندرت في لغات سائر العرب. *** هذا ما رأيت أن أعرض له في الكلام على الفعل تعريفه وأقسامه وأبوابه وشأنه في التعبير، وقد تذرعت بذلك ليكون وصلتي إلى بسط القول في قسمة الجملة إلى فعلية واسمية وإلى ما تشعب عن هذه القسمة من وجوه الرأي في السكون إليها والوثوق بصحتها، أو الشك في سدادها والعزوف عنها وردها، ومن الله العون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 القيَاس في الجُموع قد يتفق لك مفرد من الأسماء أو الصفات لا تدري ما جمعه لمجيئه على زنة تتباين جموعها، أو يعرض لك جمع لا تدري ما مفرده إذ يصح أن يكون جمعاً لآحاد مختلفة. وسواء صح ما جرى عليه ابن مالك في ألفيته والسيوطي في همعه، في إيراد صيغ الجموع ثم ذكر الآحاد التي ينقاس جمعها على كل صيغة، أو صح ما نهجه المتقدمون وابن الحاجب في شافيته والرضي في شرحه، من ذكر الآحاد، ثم ما يصدق في كل منها من صيغ الجموع، فإن ثمة من العناء في تحقيق مفرد كل جمع وجمع كل مفرد، ما يحمل على البحث والتدبر. قال ابن جني في سر صناعة الإعراب (وهذا الخلاف بين العلماء في أحد الجموع سائر عنهم مطرد منه مذاهبهم. وإنما سببه وعلة وقوعه بينهم أن أمثال جمع التكسير تفقد فيه صيغة الواحد فيحتمل الأمرين والثلاثة ونحو ذلك. ألا ترى أنك إذا سمعت زيدون وعمرون ومحمدون، لم يعترضك شك في الواحد من هذه الأسماء. وهذا يدل على أنهم بتصحيح هذه الأسماء في الجموع معنيون، ولبناء ألفاظ آحادها فيها لإرادة الإيضاح والبيان مؤثرون، وأنهم بجمع التكسير غير حافلين، ولصحة واحده غير مراعين) . ومن ثم كان لا بد من الأخذ بالقياس والتعويل عليه ما أمكن فيما نص العلماء على قياسه من الجموع، وفيما يمكن الاهتداء إلى قياسه بالاستقراء والتقصي، مهما اشتد إدراكه وتعسر مطلبه. وهذا أمر يتساهم ذوو النظر الأخذ به والرجوع إليه كلما تسنى ذلك، على ألا ترسو قدم قياس في اعتماد شاذ أو نادر، أو تجاوز أصل من أصول العربية أو طريقة من طرائقها. مفعول ومفاعيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 اختلفت كلمة المحدثين في جمع مفعول إذا كان وصفاً، هل يباح جمعه على مفاعيل، فمنعه بعضهم ووقفه على السماع ولم يجاوزه، وأجازه بعضهم قياساً. وبحث ذلك مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فقالت لجنة الأصول (قاس النحاة جمع مفعول اسماً أو مصدراً على مفاعيل، وترى اللجنة قياسية جمعه كذلك وصفاً لكثرة ما ورد من أمثلته) . وانتهى المجمع من نقاشه إلى إطلاق جمع مفعول على مفاعيل وصفاً أو غير وصف فقال (يجمع مفعول على مفاعيل مطلقاً) . جمع مفعول على مفاعيل إذا كان وصفاً: إذا أخذنا بقرار مجمع اللغة العربية بالقاهرة في إطلاق جمع مفعول على مفاعيل ولو كان وصفاً، جاز أن نقول في وصف غير العاقل (أحداث مشاهيد وأيام معاديد وأشياء مواضيع) بدلاً من قولنا (أحداث مشهودة أو مشهودات، وأيام معدودة أو معدودات، وأشياء موضوعة أو موضوعات) أو ليس (مشهود أو معدود أو موضوع) هاهنا وصفاً لغير العاقل على مفعول؟. وإذا مضينا في الاقتباس برأي المجمع القاهري فيما كان وصفاً للمذكر العاقل على مفعول، كان لنا أن نقول (هؤلاء مآمين ومدايين) بدلاً من قولنا (مأمونون ومديونون أو مدينون) . بل كان لنا أن نقول (هؤلاء مسارير ومآسير ومشاكير ومآجير) صفة للرجال جمعاً لـ (مسرور ومأسور ومشكور ومأجور) . وهكذا.. أفليس في هذا كسر لأصل قائم على التفريق بين الوصف والاسم في هذا الباب عامة، وفيما كان على هذه الزنة خاصة. ما قاله النحاة في جمع ما كان وصفاً على مفعول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 إذا عدنا إلى ما نص عليه النحاة في هذا الباب رأينا أن الأصل في جمع ما كان من الوصف على مفعول هو التصحيح. قال سيبويه في الكتاب (2/210) : (والمفعول نحو مضروب، غير أنهم قالوا مكسور ومكاسير وملعون وملاعين.. شبهوها بما يكون من الأسماء على هذا الوزن،.. فأما مجرى الكلام الأكثر فأن يجمع بالواو والنون، والمؤنث بالتاء. وكذلك مُفعَل بفتح العين ومُفعِل بكسرها. إلا أنهم قد قالوا منكر ومناكير ومفطر ومفاطير..) * وهو صريح بأن الباب في جمع ما كان على مفعول من الصفات، هو التصحيح. -وقال الزمخشري في المفصل (94) : (ومفعول ومفعل بكسر العين ومفعل بفتحها، يستغنى فيها بالتصحيح عن التكسير وقد قيل ملاعين ومشائيم وميامين ومفاطير ومناكير، ومطافل ومشادن) . -وقال الرضي في شرح الشافية (2/180) : (كل ما جرى على الفعل من اسمي الفاعل والمفعول وأوله ميم فبابه التصحيح لمشابهته الفعل لفظاً ومعنى، وجاء في اسم المفعول من الثلاثي نحو ملعون ومشؤوم وميمون وملاعين وميامين ومشائيم.. وكذا قالوا في مكسور مكاسير وفي مسلوخة مساليخ. وقالوا أيضاً في مفعل المذكر كموسر ومفطر، ومفعل بفتح العين كمنكر مياسير ومفاطير ومناكير. وإنما أوجبوا الياء فيهما على ضعفهما في نحو معاليم جمع معلم مفتح اللام، ليتبين أن تكسيرها خلاف الأصل، والقياس الصحيح) . -وقال الصبان في حاشيته على الأشموني (3/189) : (لا يجمع جمع تكسير نحو مضروب ومكرم، وشذ ملاعين جمع ملعون..) . -وقال صاحب الكليات أبو البقاء (426) : جمع المفعول على مفاعيل مقصور على السماع) . فكلام الأئمة هذا صريح بقياس جمع ما كان وصفاً على مفعول، جمع تصحيح، ومنع جمعه جمع تكسير، إلا ما شذ فنقل فوقف على السماع. وسترى أن كثيراً مما قيل بشذوذه في هذا الباب، إنما كان تكسيره لسبب اقتضاه حاله من حيث مضارعته للاسم وعدم جريانه على الفعل. القول بإطلاق مفعول على مفاعيل إذا كان وصفاً، عند بعض المحدثين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 بحث الشيخ مصطفى الغلاييني جمع مفعول على مفاعيل في كتابه (نظرات في اللغة والأدب/ 147) ، فقال (وأنت ترى أن سيبويه يقول أن مجرى الأكثر في مفعول ومفعل يضم الميم وكسر العين وفتحها، أن يجمع جمع تصحيح لا جمع تكسير، وجعل مجرى الأكثر في هذه الثلاثة فقط. ولم يعمم الكلام كما عممه المتأخرون. ونرى أنه لم يصرح بمنع تكسيرها. وقد جاء من بعده فوسعوا هذه الدائرة، وأدخلوا في هذا كل ما كان من الصفات أوله ميم زائدة، ثم تجاوزوا ذلك إلى أن حظروا تكسير ما كان كذلك، إلا ألفاظاً قالوا: إن السماع ورد بها ولا يقاس عليها. وسيبويه لا علم له بكل ذلك، وإنما هو توسع منهم في هذا الباب، ضيقوا فيه على الناس الباب) . والذي يعنيه قول الغلاييني هذا، أن سيبويه لم يذهب إلى منع تكسير ما كان على مفعول ومفعل، بفتح العين وكسرها، من الصفات، وإنما جعله الأكثر. وقد أجاز التكسير فيه. وأنه لم يتجاوز في حكمه هذا الصيغ الثلاث مفعولاً ومفعلاً بفتح العين – ومفعلاً بكسرها. ومن ثم جاز فيما كان مثلاً، على (منفعل) وصفاً، التصحيح والتكسير، سواء بسواء. كلام صاحب الكتاب في جمع مفعول من الصفات جمع تصحيح: أقول إن ذهاب الشيخ الغلاييني إلى أن سيبويه قد أجاز التصحيح في جمع (مفعول ومفعل ومفعل) من الصفات، كما أجاز التكسير، وفرق فجعل التصحيح هو الأكثر، مذهبه هذا ليس مستقيماً. وإلا فما وجه قول سيبويه (غير أنهم قد قالوا مكسور ومكاسير وملعون وملاعين..) ، وتعداده ما شذ عن الأصل، وأردافه (شبهوها بما يكون من الأسماء على هذا الوزن) ؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وانظر إلى ما قاله ابن سيده أبو الحسن في تعليقه على كلام سيبويه هذا. قال صاحب التاج: (قال أبو الحسن إنما أذكر هذا الجمع – أي جمع مكسور على مكاسير – لأن حكم مثل هذا، أن يجمع بالواو والنون في المذكر، والألف والهاء في المؤنث – لأنهم كسروه تكسيراً تشبيهاً بما جاء من الأسماء على هذا الوزن) . وقد حكى صاحب اللسان هذا أيضاً. فأنت ترى أن ابن سيده قد أفصح بقوله (لأن الحكم في هذا..) عما أراد صاحب الكتاب بقوله (وأما مجرى الكلام الأكثر) . فإذا قال سيبويه (الأقل) فقد عني من الكلام (ما كان نادراً يحفظ ولا يقاس عليه) ، وإذا قال (الأكثر) فقد أراد به (الأغلب الذي يقاس عليه) . قال سيبويه في باب بناء الأفعال المتعدية (2/214-216) : (فإنما هذا الأقل نوادر تحفظ عن العرب ولا يقاس عليها، ولكن الأكثر يقاس عليه) ,. وهذا ما ذهب إليه مجمع اللغة العربية بالقاهرة حين أقر أن الباب، والأصل، والغالب، والأغلب، والأكثر، والكثير، والقاعدة) قد جرت في كلام أكثر الأئمة، مجرى ما يقاس عليه.. فالحكم إذاً في جمع ما كان على الوزن المذكور من الصفات، أن يصحح. وأن ما شذ فقد شبه بالأسماء. قال ذلك المتقدمون والمتأخرون على السواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وأما أن سيبويه قد قصر حكمه بالتصحيح فيما بدئ من الصفات بالميم على (مفعول ومفعل بفتح العين ومفعل بكسرها) دون سواها كـ (منفعل) مثلاً، وأن المتأخرين هم الذين قالوا بتعميمه دون صاحب الكتاب، فليس وجيهاً أيضاً. فانظر إلى قول سيبويه (1/238) : (اعلم أن ما كان يجمع بغير الواو والنون نحو حسن وحسان، فإن الأجود فيه أن تقول مررت برجال حسان قومه، وما كان يجمع بالواو والنون نحو منطلق ومنطلقين فإن الأجود فيه أن يجعل بمنزلة الفعل المتقدم فتقول: مررت برجل منطلق قومه..) فما الذي أراده سيبويه فارقاً بين (حسن) و (منطلق) من حيث جمعهما؟ الذي قصده سيبويه فارقاً بينهما هو أن حسناً يكسر إلى تصحيحه، وأن منطلقاً لا يعدو التصحيح فلا يكسر. قال سيبويه في الكتاب (2/205) : (وأما ما جاء على فَعَل الذي جمعه فِعال فإذا لحقته الهاء للتأنيث كسر على فعال.. وليس شيء من هذا للآدميين يمتنع من الواو والنون، وذلك قولك حسنون وعزبون) . وأما منطلق فيجمع بالواو والنون ولا يتجاوز هذا الجمع. فسيبويه لم يقصر حكمه بالتصحيح على (مفعول ومفعل ومفعل) بل عممه فتناول (المنفعل) كما هو مثاله، كما تناول سواه مما بدئ بالميم من الصفات، شأنه في ذلك شأن المتأخرين. دليل بعض المحدثين على جواز تكسير مفعول من صفات الرجال: ذهب بعض المحدثين إلى أن تكسير الأئمة ما أوله ميم من اسمي الفاعل والمفعول، في بعض أبواب الصرف، دليل على جواز جمعه جمع تكسير. ذلك أن العلماء قد رأوا أن ما يحذف من المفرد إذا كسر، هو ما يسقط منه إذا صغر. وذلك فيما تجاوزت أحرفه بالزيادة أربعة. فقالوا إذا كسرت (المقدّم) حذفت الدال فقلت (مقادم) . وقد تقول (مقاديم) . وإذا صغرته حذفت الحرف نفسه، فقلت (المقيدم) . وقد تقول (مقيديم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ولو كسرت (المختار) حذفت التاء ورددت الألف ياء فقلت (مخاير أو مخايير) . وإذا صغرت حذفت ما حذفته بالتكسير فقلت (مخيِّر) أو (مخيير) . قال سيبويه (2/110) : (وتقول في المقدم والمؤخر مقيدم ومؤيخر، وإن شئت عوضت الياء، كما قالوا مقاديم ومآخير والمقادم والمآخر عربية جيدة) . وقال (2/110) (ومزدان بمنزلة مختار، فإذا حقرته قلت مخير، وإن شئت قلت مخيير، لأنك لو كسّرته للجميع قلت مخاير ومخايير) . فإذا استقر ما ذكرناه بدا لمعترض أن يسأل كيف يمنع العلماء تكسير هذه الصفات ثم يكسرونها فعلاً في أمثلتهم. أقول إن النحاة لم ينقضوا في تكسير هذه الألفاظ ما قرروه في منع تكسيرها. ذلك أنهم إنما يكسرون هنا (اللفظ) لا (الصفة) . فانظر إلى قول سيبويه (2/110) : (هذا باب ما يحذف في التحقير من بنات الثلاثة من الزيادات لأنك لو كسرتها للجمع لحذفتها، وكذلك تحذف في التصغير) . فقوله (لو كسرتها للجمع لحذفتها) لا يعني جواز تكسيرها أصلاً في كل حال. وما أشبه هذا بقول الرضي في نحو مما نحن فيه (شرح الشافية – 2/192) : (أقول إنما استكره تصغير الخماسي وتكسيره لأنك تحتاج فيهما إلى حذف حرف أصلي منه، ولا شك في كراهته، فلا تصغره العرب ولا تكسره في سعة كلامهم) ، وأردف (لكن إذا سئلوا كيف قياس كلامهم لو صغرتموه أو كسرتموه، قالوا كذا وكذا..) . أقول إذا كان اللفظ، فيما نحن بسبيله، على معنى الوصفية وسبيل الاشتقاق، امتنع تكسيره. وإذا فارق الوصفية وكأنه لم يشتق من الفعل فضارع الأسماء جاز أن يكسر تكسير الأسماء. وقد فعلوا مثل هذا في المصادر فمنعوا جمعها في الأصل، ثم قالوا في جمع (استخراج) : (تخاريج) . قال الصبان (4/142) : (أي في جمع استخراج علماً لأن المصدر لا يجمع) . وإذا قيل هل يكسر (مسلم) مثلاً، جاز تكسيره. قال سيبويه (2/98) (وإن سميت رجلاً بمسلم فأردت أن تكسر ولا تجمع بالواو والنون، قلت: مسالم، لأنه اسم مثل مطرف) . وهكذا الحال في (المقدّم) فإنك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 تكسره على (مقادم) و (مقاديم) إذا جرى مجرى الأسماء. -قال صاحب اللسان (ومقدم العين ما ولي الأنف بكسر الدال كمؤخرها ما يلي الصدغ.. ومقاديم وجهه ما استقبلت منه واحدها مُقِدم مقدِّم الأخيرة عن اللحياني. قال ابن سيده: فإذا كان مقاديم جمع مقدم فهو شاذ. وإذا كان مقدّم فالياء عوض..) . فقد رأيت كيف جمع (المقدم) جمع تكسير حين فارق الوصفية إلى الاسمية، وعلى هذا يحمل قوله سيبويه (2/110) : (وتقول في المقدم والمؤخر، مقيدم ومؤيخر، وإن شئت عوضت الياء، كما قالوا مقاديم ومآخير..) أي أنك تكسر هذا اللفظ أو ذاك حين يجوز فيه التكسير. وهناك (مختار) وقد قالوا في جمعه (مخاير ومخايير) . أقول يصح هذا إذا أجريته مجرى الأسماء فأفردته عن مصوفوفه وجعلته علماً لمن توكل إليه مهمات مخصوصة. والكتاب يجمعون هذا على (مخاتير) أو (مخاتر) فيبقون فيه صورة مفردة دفعاً للبس. فهل في أقوال النحاة ما يشهد لصحة هذا الجمع. أقول إذا ذكرنا ما قاله ابن مالك في ألفيته: والسين والتاء من كمستودع أزل - إذ بينا الجمع بقاهما مخل علمنا أن الحذف إنما يقع على ما يخل ببناء صيغة الجمع. هذا هو الأصل. وقولك (مخاتير) أو (مخاتر) لا تختل به هذه الصيغة، فهو إذاً لا بأس به، وعليه قول الشراح، وإن استبعده بعضهم. قال الأشموني: (يعني أنه إذا كان في الاسم من الزوائد ما يخل بقاؤه بمثالي الجمع، وهما فعالل وفعاليل، توصل إليهما بحذفه) . والمقصود هنا هاتان الصيغتان وما شابههما في العدة والهيئة، وإن خالفهما في الوزن. والذي يتحصل بما ذكرنا أنه لا بد من ملاحظة الصفة المبدوءة بالميم من اسمي الفاعل والمفعول، فإذا أتت على أصلها فاعتمدت على موصوف مذكور أو مقدر فبابها التصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وإذا ضارعت الأسماء أو خرجت إلى بابها فاشتهرت في الاستعمال مفردة عن موصوفها منقطعة عنه، جاز فيها التكسير كما تكسر الأسماء. وهذا توجيه ما قاله الأئمة باستثنائه كمقطوع ومقاطيع؛ ومكفوف ومكافيف وملعون وملاعين.. توجيه ما كسَّر من الصفات، مقطوع ومقاطيع: مقطوع إذا أتيت به على الأصل باقياً على وصفيته جمعته جمع تصحيح. فإذا خصصته فأسميت به شيئاً صح تكسيرك إياه. ففي اللسان (الأصمعي: القطع بكسر القاف من النصال: القصير العريض.. وربما أسموه مقطوعاً، والمقاطيع جمعه) . وفيه أيضاً (ومقطعات الشعر ومقاطعيه، ما تحلل إليه وتركب عنه من أجزائه التي يسميها عروضيو العرب: الأسباب والأوتاد) . فقد رأيت أنهم خصوا (المقطوع) فسموا به (النصل) القصير العريض، أو سموا به السبب والوتد واحد (الأسباب والأوتاد) في الشعر فجمعوه جمع تكسير. مكفوف ومكافيف: مكفوف في الأصل من قولك (كففته كفاً منعته) ومنه كففت يده عن العمل فيده مكفوفة عنه، وكف بصره عن النظر فبصره مكفوف عنه. هذا هو طريقه. قال الهمذاني في ألفاظه الكتابية (مكفوف عن الخير، مغلول اليد عن الخير) . وقال الزمخشري في الأساس (كففته عن الشر فكف عنه، فهو كاف ومكفوف) . فأنت تقول على هذا (هؤلاء مكفوفون عن العمل لأنهم تجاوزوا مارسم لهم) ، ولا تقول في هذا المعنى (مكافيف عن العمل) . لكنهم خصوا (المكفوف فأسموا به (الضرير) . تقول: (مررت بمكفوف لا يقوى على المشي فأعنته) وتجمع فتقول (رأيت مكافيف يحاولون الاهتداء إلى الطريق فهديتهم إليه) . قال صاحب المفردات: (وكففته أصبته بالكف ودفعته، وتعورف بالدفع على أي وجه كان، بالكف كان أو غيرها، حتى قيل رجل مكفوف لمن قبض بصره) . وفي الصحاح (المكفوف الضرير والجمع مكافيف) . فثبت بذلك أن المكفوف قد جمع على مكافيف بعد أن خرج عن وصفيته وعمومه، إلى الاسمية والخصوصية، فأصبح علماً لمن قبض بصره. ملعون وملاعين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 يتبين بالتحقيق أن لملعون وجهين في الاستعمال، فأنت إذا قلت (لعن الله الكافرين والظالمين) ، قلت على هذا (فالكافرون والظالمون ملعونون) ولم تقل بهذا المعنى (فالكافرون ملاعين) . واللعن كما جاء في مفردات الراغب (الطرد والإبعاد على سبيل السخط، وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة، وفي الدنيا انقطاع من قبول رحمته، ومن الإنسان دعاء على غيره) . وعلى ذلك قوله تعالى: (ملعونين، أين ما ثُقفوا أُخذوا وقتٍِّلوا تقتيلاً ((الأحزاب/ 61) . والكلام على المنافقين والمرجفين. وقبل الآية (لا يجاورونك فيها إلا قليلاً (أي لا يجاورونك إلا ملعونين. ولا يصح أن نقول في معناه (لا يجاورونك إلا ملاعين (! أما إذا قلت (الملعون) على أنه (اللعين) وقد جاءا بمعنى. واللعين الذي لا يزال منتبذاً عن الناس، أو أنه الشيطان، صفة غالبة، لأنه طرد من السماء، كما جاء في اللسان، أو هو الذي استحق اللعن لأنه قد استوجبه بفعله فهو مظنة له وباعث عليه لخبثه وإيذائه الناس، فأنت تجمعه على (ملاعين) ، لإنزاله منزلة الأسماء لخصوص معناه وانفراده عن موصوفه كما انفرد الشيطان. موضوع ومواضيع: الأصل في (موضوع) ما دام صفة، أن يجمع جمع تصحيح، وأنت لا تكسره حتى تسمي به. فإذا وضعت الثياب في صندوق، قلت (الثياب موضوعة أو موضوعات في الصندوق) ، ولا تقول: (الثياب مواضيع في الصندوق) البتة. فإذا عنيت بـ (الموضوع) الأمر الذي تبحثه، كما اشتهر استعماله، صح تكسيره، فتقول (تلك مواضيع الفلسفة أو موضوعاتها) . قال الجرجاني في تعريفاته (موضوع كل علم ما يبحث فيه عوارضه الذاتية، كبدن الإنسان، لعلم الطب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 والطريف أنه قد ذكر في صدد المناقشة في هذا الجمع، كما جاء في مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ما ذهب إليه الشيخ محمد علي النجار إذ رأى أن مثل (الموضوع) قد التحق بالأسماء لأنه الأمر يعرض للمرء. قال الأستاذ النجار: (والمتكلم به لا يلاحظ جريانه على موصوف، ولا يراعي أن الأصل أمر موضوع، وبذلك يكون تكسيره صحيحاً كالمشاريع والمحاصيل) . والقول ما قاله، على ما انتحيناه ونزعنا إليه فيما فصلناه قبل. وقد استبعد الأستاذ عباس حسن قول الأستاذ النجار، وقال (ليس هذا متصلاً بما نحن فيه، وليس الموضع موضع الحديث عن الاسمية أو الوصفية، إنني لم أجد في الكتب المتداولة.. من قال وصفية أو اسمية..) أقول الموضع هنا موضع انتقال (مفعول) من الوصفية إلى الاسمية وجمعه جمع الأسماء، وإلا فما الذي يعنيه قول سيبويه فيما شذ وكسر من (مفعول) خلافاً للأصل (شبهوها بما يكون من الأسماء على هذا الوزن) . وقد سأل عضو في هذا النقاش (إذا قلت هذا الكتاب موضوع في أول المائدة، وهذا الكتاب موضوع في وسطها، وهذا الكتاب موضوع في آخرها، فماذا تكون – موضوع – هنا؟) ، فقيل له: (تكون حينئذ وصفاً) فسأل (فهل يجوز أن أقول هذه الكتب مواضيع؟) ، فقيل له: (لا يجوز) . أقول إذا صح هذا القول، وهو صحيح كما أسلفنا، كان إطلاق المجمع القاهري جمع مفعول على مفاعيل، في كل موضع، محل نقد ومظنة اعتراض بيِّن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 يقول الأستاذ عباس حسن أنه أحصى من أمثلة هذا الجمع عن الثقات نحواً من مائة وثمانية. أقول في الجواب عن هذا: لا بد من التمييز هنا بين الاسم والوصف، والتفريق في الوصف بين ما بقي على وصفيته معتمداً على موصوف مذكور أو مقدر، وما استعمل صفة غالبة مفرداً عن موصوفه منقطعاً عنه، منزلاً منزلة الأسماء. فإذا سمع وصف على (مفعول) قد كسر على (مفاعيل) ، وهو لا يزال على الأصل فهو شاذ نادر. وإلا فهل يسقط ضابط، أو تنسخ قاعدة، أو يبطل أصل يتصل باشتقاق الصفة ودلالتها فيتناول ما لا يحصى من الأوصاف، لشذوذ ألفاظ معدودة؟ بل هل تقول (العلماء معاديد) أي معدودون، وزرت خالداً وصالحاً وباسلاً فهم مزاوير أي مزورون، والأرزاق مباسيط للمستحقين أي مبسوطة أو مبسوطات. وقد جاء في التنزيل (إنهم لهم المنصورون (و (إننا لمردودون (و (الحج أشهر معلومات (و (أكواب موضوعة (أفيصح. أن نقول في معناها: (إنهم لهم المناصير) و (إننا لمراديد) و (الحج أشهر معاليم) و (أكواب مواضيع) ؟. هذا ومثل (موضوع) في انتقال من الوصفية إلى الاسمية: (المرسوم والمفهوم والمضمون والمولود) وسواها. مسجون ومساجين: قد سمع في جمع مسجون: مساجين. وعندي أنهم أنزلوه منزلة الأسماء أيضاً. فأنت تقول (سجن خالد وأديب وسليم) ثم تقول (وسيحاكم هؤلاء المسجونون دون ريث) ولا تقول في مثل هذا الموضوع (وسيحاكم هؤلاء المساجين..) ما دمت تقصد (هؤلاء الذين سجنوا) . لكنك إذا قلت (ثار مساجين القلعة على حراسها) فقد أنزلت (المسجون) منزلة الاسم من حيث اشتهار استعمال منقطعاً عن موصوفه واستغنائه عنه، فأتيت به مجموعاً جمع الأسماء. فإذا قلت مررت بـ (مساجين القلعة) فكأنك قلت (مررت بجنود العدو) . مشؤوم ومشائيم: ومما جمع من مفعول على مفاعيل، ما أريد به النسبة إلى شيء، كمشؤوم ومنكود ومرجوع. فقد جمعوا (المشؤوم) على مشائيم، واعتدوه من الجموع الشاذة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 ولو تأملته وبحثت حاله لجزمت أنه ليس اسم المفعول المشتق من فعله، الدال على الحدث. وإنما هو صفة غالبة لصاحب الشؤوم. وقد اشتهر استعماله منقطعاً عن موصوفه مفرداً عنه. ففي شرح الخفاجي على درة الغواص للحريري: (وقوله وشأم أصحاب إذا مسهم شؤوم من قبله، هذا يقتضي أن – مشؤوماً – قد يكون مفعولاً بمعنى فاعل. لأنه يقال: شأمهم وشأم عليهم إذا لحقهم الشؤم من قبله) . وأردف قائلاً: (وقد قال الشريف المرتضى في الدرر والغرر أنه مطعون فيه، فإن العرب لا تعرفه، وإنما هو كلام الأمصار. وإنما تسمي العرب من حفَّه الشؤم مشؤوماً كما في قول علقمة: ومن تعرض للغربان يزجرها - على سلامته، لا بد مشؤوم فقد رأيت أن الإمام المرتضى لم يرتض أن يكون (مشؤوم) قد جرى على الفعل (شآمه أو شأم عليه) ، مفعولاً بمعنى فاعل، وإنما نزع إلى أن العرب قد أسمت الحفوف بالشؤم مشؤوماً. وهذا يعني أنه ليس وصفاً على الأصل، وإنما أنزل منزلة الاسم فصح الاستغناء به عن موصوفه وكسر تكسير الأسماء. منكود ومرجوح: ومثل مشؤوم منكود. فالمنكود ذو النكد، وليس هو من (نكد) لأن نكد معناه قل. قال صاحب الأساس (وعطاء منكود ومنكد: قليل غير مهنأ) . وقال ابن القوطية في أفعاله: (ونكد العطاء نكداً: قلله. ونكد بالكسر نكداً: لم يعدم شرأ، وأنكدته: صادفته نكداً، وأنكدت عطاءه: صادفته قليلاً) . فالمنكود هو النكد بكسر الكاف أو الأنكد، وليس هو على شيء من الحدث. قال الجوهري: (ورجل نكد أي عسر، وقوم أنكاد ومناكيد) . وقال الزمخشري: (هو نكد وأنكد) وقال الجوهري (الأنكد: المشؤوم) . وقال بشر بن أبي: إن الرباط النُكد من آل داحس كبَون فما يفلحن يوم رهان قال المرزوقي (451) : (النكد جمع أنكد. والرباط مصدر رابطت، ولذلك وقع على الواحد والجمع) . وقال في تفسير البيت: (إن الخيل المربوطة المشائيم من آل داحس، وداحساً، أبت السبق في حلبة وميدان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وكذلك (مرجوح) ، قال الزمخشري: (ورجل راجح العقل، وفلان في عقله رجاحة.. وقوم مراجيح الحلم) . فالمرجوح إذاً هو راجح العقل، أو ذو الرجاحة، وليس مشتقاً من (رجحت الشيء وزنته بيدي ونظرت ما ثقله) على ما جاء في الأساس. مشهور ومشاهير: وقد اختلف في مشهور هل يجمع على مشاهير.. فذهب كثيرون إلى منعه، إذ ليس هو عندهم على قياس أو سماع. ومنهم الإمام الشنقيطي والأستاذ سليم الجندي. وذهب جماعة إلى أنه قياس مطلق كما ذكرنا، ومنهم الأب أنستاس ماري الكرملي والدكتور مصطفى جواد والأستاذ عباس حسن والأستاذ محمد العدناني. وقد أقر مجمع اللغة العربية بالقاهرة هذا الرأي، وبسطنا القول في رده. والذي عندي أن المشهور يجمع على المشاهير لسببين: الأول: جريان أقلام الثقات به أو حكايتهم لاستعماله، كأبي زيد البلخي، والأزهري والزمخشري والمرزوقي، والفيومي، والفيروز أبادي، والزبيدي وغيرهم، وهذا يعدل السماع. ولا وجه لمن زعم خلاف هذا. قال الدكتور مصطفى جواد في كتابه (دراسات في فلسفة اللغة) . وسترى أن الفصحاء قد قالوه وأقروه ولم ينكروه. الثاني: إن (المشهور) قد أخرج عن الأصل الذي التزموه في منع تكسير اسم المفعول، ذلك أنه شاع استعماله منفرداً عن موصوفه منقطعاً عنه غالباً، فشابه الأسماء وكسر تكسيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 أما أن أقلام الفصحاء قد جرت به، فذلك قول أبي زيد البلخي، على ما حكاه الفيروز أبادي، في ديباجة القاموس. قال الفيروز أبادي في ديباجة القاموس. قال صاحب القاموس: (على أني ذاهب إلى ما قاله أبو زيد أحمد بن سهل البلخي: إذا جاوزت المشاهير من الأفعال التي يأتي ماضيها على فعل..) . قال الزبيدي في تعليقه على هذا: (المشاهير جمع مشهور، وهو المعروف المتداول) . فأنت ترى أنه أقر الجمع وشرح معناه، وهو الذي اعتاد أن يستدرك على المؤلف بزيادة أو تنقيح كلما دعت الحاجة. ويجري هذا المجرى قول الراغب في محاضرات الأدباء (2/157) : (مشاهير السيوف) . وفي طريقته قول الأزهري صاحب التهذيب على ما حكاه ابن منظور في اللسان (قال الأزهري: وهذا تصحيف كتصحيف يوم بعث. وهو من مشاهير أيام العرب، فأخرجه في الغبن وصحفه) . وهذا قول الزمخشري في كشافه (2/94) حول تفسير قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض، مَثَلَ نوره كمشكاة فيها مصباحٌ، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دريّ ((النور/ 35) ، قال الزمخشري: (شبهه في زهرته بأحد الدراري من الكواكب، وهي المشاهير، كالمشتري والزهرة والمريخ وسهيل ونحوها) . وانظر إلى ما جاء في المصباح (ونجس خلاف طهر، ومشاهير الكتب ساكنة عن ذلك) . والذي يتبين مما ذكر أنه (المشاهير) قد جرى على ألسنة الفصحاء، ولكن لغير الآدميين. وقد اعتمد الأستاذ محمد العدناني مثل هذه النقول في إثبات جمع مشهور على مشاهير للآدميين، فهل نقل هذا أيضاً؟. الصحيح أن الفصحاء قد قالوا المشاهير وصفاً للعقلاء: قال المرزوقي في شرحه الحماسة (1/771) : (وإنما يصفهم بأنهم مشاهير بحسن البلاء، ومتميزون عن الفرسان إذا حضروا الوقعات بعلاماتهم ومعارضهم التي عرفوا بها وفيها.. كأنهم النجوم في المناظر والقلوب) . وقال ابن سيده في المخصص: (وعوران العرب: مشاهير عورهم كالشماخ بن ضرار وغيره – 1/103) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وأما عن مضارعة (المشهور) للأسماء وتكسيره تكسيرها، فذلك أن الأصل أن تقول: (شهرت الأمر والشيء شهراً: أظهرته ومنه الشهر لاشتهاره) كما قاله ابن القوطية، أو تقول (شهرته بين الناس أبرزته، وشهرت الحديث شهراً وشهرة أفشيته فاشتهر) كما قال صاحب المصباح وتقول من هذا (ورجل مشهور وشهير وأمر مشهور ومشتهر كما قال ابن سيده في مخصصه (13/56) . علماً أن صاحب التاج زاد على هذا فقال: (والشهير والمشهور. المعروف المكان، المذكور) ، كما قال: (والمشاهير جمع مشهور، وهو المعروف المتداول) . فلو جاء (المشهور أو المشاهير) هاهنا، صفة خارجة على الأصل، لما احتاج الزبيدي إلى تفسيره أو توجيهه. لكنه ذهب إلى أن اسم المفعول هذا، قد خرج عما يدل عليه من حدث لاستغنائه عن الموصوف غالباً، فغدا وصفاً لا يراد به الفعل. فـ (المشهور) على هذا الحد، قد أنزل منزلة الأسماء فأشبه (السابق) في قول المرزوقي (1/103) : (ويجوز أن يكون أخرج السابق لانقطاعه عن الموصوف في أكثر الأحوال، ولنيابته عن المجلي، وهو اسم الأول منها، إلى باب الأسماء فجمعه على السوابق) . هذا، ولا يمنع جمعك (مشهور) على مشاهير أن تجمعه جمع تصحيح على الأصل. ومن ذلك قول الشريف المرتضى في أماليه (1/19) : (ومن كان من مشهوري الشعراء ومتقدميهم، على مذاهب أهل العدل: ذو الرمة) . مشكلة ومشاكل: في جمع ما كان صفة للأشياء، على صيغة اسم الفاعل أو المفعول الرباعي، خلاف بين المحدثين. أيطرد فيها جمع التصحيح بالألف والتاء كما هو القياس، أم يصح فيها التكسير حيناً. فـ (المشكلة) اسم فاعل من (أشكل) . والإشكال هو الالتباس والاشتباه والاختلاط. قال الجوهري (وأشكل الأمر أي التبس) . وقال ابن القوطية في أفعاله (وشكل الأمر شكولاً، وأشكل اشتبه) . وفي النهاية (فخرج النبيذ مشكلاً أي مختلطاً بالدم غير صريح، وكل مختلط مشكل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 فلو قيل هذه مسائل أشكلت لقيل في وصف المسائل: إنها مسائل مشكلة أو مشكلات وليس في جميع (مشكلة) هاهنا إلا التصحيح بالألف والتاء، ولا خلاف في ذلك. لكن كلمة (المشكلة) لم تبق في استعمالها، على الأصل الذي كان لها، إذ غدت تعني (المسألة التي التبس أمرها) واصبح لا يعالج شأنها إلا بمدارسة وتأمل، وتروئة وتدبر. وبذلك أنزل منزلة الأسماء، ولو كان أصلها الوصف، وقد أفردت عن موصوفها واستغنت عنه، شأن الصفات الغالبة، وأصبحت توصف كما توصف الأسماء كقولك (هذه مشكلة معقدة) . فإذا كان الباب في جمعها أصلاً هو التصحيح، فهل يصح تكسيرها تشبيهاً لها بالأسماء فيقال (هذه مشاكل معقدة) . أقول قد استعمل علماء الأصول (الشكل) وجمعوه جمع تصحيح. قال ابن ملك في الأصول (وأما المشكل فهو الداخل في أشكاله) . قال صاحب المنار (أي الكلام الذي دخل المراد منه في أشكاله، بفتح الهمزة.. وحذف المصنف الكلام هنا.. اختصاراً لدلالة القرينة عليه) . فدل هذا على أن (المشكل) هنا وصف للكلام الذي حذف لدلالة القرينة عليه. ومن ثم كان وصفاً جارياً على أصله، لا صفة غالبة استغني بها عن موصوفها، فكان جمعه جمع تصحيح. أما (المشكلة) كما عرفت وشاع استعمالها فهي صفة غالبة غلبة الأسماء باستغنائها عن موصوفها؛ وكأن أصل الكلام (قضية مشكلة) أو (مسألة مشكلة) فحذف الموصوف ونابت الصفة منابه، فليس هو على نية التقدير. وهكذا تقول (في الأمر مشكلة لا بد من علاجها) كما تقول (في الأمر عقدة لا بد من حلها) . وهي إذ أنزلت منزلة الأسماء صح فيها التكسير إلى جانب التصحيح الذي هو بابها في الأصل، فأنت تقول في جمعها مشاكل ومشكلات. وقد جاء في خزانة الأدب للبغدادي (1/365) قول أبي طالب عم الرسول (في مقاطعة قريش لبني عبد المطلب لأنهم لم يسلموا الرسول إليهم ليقتلوه: لعمري لقد كُلِّفت وجداً بأحمد - وإخوته دأب المحب المواصل فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 - وزيناً لمن ولاه ذب المشاكل كلفت بتشديد اللام مبالغة كلف به بمعنى أولع، ومعنى شطر البيت الثاني أنه لا زال زيناً لمن وكل إليه دفع المشاكل. المخزية والمخازي: ومما هو في طريقة المشاكل: المخازي. قال صاحب الأساس (خزي خزياً ومخزاة، وأخزاه الله، وهو من أهل المخازي والمخزيات) . وقال المرزوقي في شرح الحماسة (243) : (وإن النخوة التي أبلغتها، والحمية التي حدثتها، باقية في أنوفنا حتى لا نشتم بها مرغمة، وفي أعناقنا ورؤوسنا حتى لا نلويها إلى مخزية ومنقصة) . فقد رأيت أن (المخزية) جاءت في كلامه مجيء الأسماء لا الصفات، كالمنقصة سواء. ولا شك أن المخازي جمع المخزاة بفتح الميم، على القياس. فقد جاء في نهج البلاغة (2/73) : (وكثرة مخازيها ومساويها) فقال الشارح (المخازي جمع مخزاة، وهو الأمر الذي يستحى من ذكره لقبحه، والمساوي العيوب جمع مساءة) . ولكن المخازي جمع المخزية بضم الميم أيضاً. والمخزية في الأصل اسم فاعل من أخزى، وقد استعمل اسماً لكل ما يخزي، فجمعت تكسيراً على (المخازي) . فانظر إلى قول صاحب المصباح (والمخزية على صيغة اسم الفاعل من أخزى: الخصلة القبيحة والجمع المخزيات والمخازي) .. وقد جاء في معنى المخزية: (الخزية) بفتح الخاء وكسرها. فقد جاء في النهاية (فأصابتنا خزية لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء، أي خصلة استحيينا منها) . قال صاحب الأساس (وأصابتنا خزية بفتح الخاء وكسرها: خصلة يستحيا منها) . المسن والمسان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وقد ذكروا (المسان) جاؤوا به جمعاً للمسن والمسنة، من الآدميين وغيرهم. وهو من أسن إذا كبر. وقد اشتهر استعماله منقطعاً عن موصوفه فكسر تكسير الأسماء. قال صاحب المصباح: (أسن الإنسان وغيره أسناناً إذا كبر فهو مسن والأنثى مسنة، والجمع المسان) . وفي الكامل للمبرد (2/99) : (وفي الحديث اقتلوا مسان المشركين واستبقوا شرخهم، أي الشباب، لأن الشرخ الحد) . وقال الجوهري (والمسان من الإبل خلاف الإفناء) . وفي النهاية: (قال الأزهري: البقرة والشاة، يقع عليهما اسم المسن إذا أثنيا، ويثنيان في السنة الثالثة. وليس معنى أسنانها كبرها كالرجل المسن، ولكن طلوع سنها في السن الثالثة) . المصيبة والمصائب: هذا وقد جمعوا (المصيبة) على (مصيبات) تصحيحاً. لكنهم جمعوها تكسيراً على (مصاوب ومصاويب ومصائب) . وقد بسطوا القول في شذوذ همزة (المصائب) وفصلوه تفصيلاً، لكن أحداً لم يأب تكسيرها أو يستبدع العدول عن تصحيحها. ذلك أنه قد جيء بها من (الوصفية) إلى (الاسمية) فعوملت معاملة الأسماء. أما جمعها على التصحيح ففي الحديث (اللهم أقسم لنا من اليقين ما يهون علينا مصيبات الدنيا) . وفي نهج البلاغة (3/157) : (ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات) . وأما جمعها على التكسير، ففي المصباح (والمصيبة الشدة النازلة وجمعها المشهور مصائب، قالوا: والأصل مصاوب. وقال الأصمعي قد جمعت على لفظها بالألف والتاء فقيل مصيبات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وقال ابن جني في الخصائص (3/144) ، (ومنه قولهم مصائب، وهذا مما لا ينبغي همزه في وجه من القياس. ذلك أن مصيبة مفعلة وأصلها مصوبة، فعينها كما ترى متحركة في الأصل، فإذا احتيج إلى حركتها في الجمع حملت الحركة، وقياسه مصاوب) . وقال ابن سيده في المخصص (14/20) : (يقال أصابتهم مصيبة ومصاوب ومصايب، فهو على الأصل. وحكى سيبويه أن بعضهم قال في جمع مصيبة مصائب فهمز، وهذا غلط. وإنما هو مفعلة وتوهموها فعيلة. قال ومنهم من يقول مصاوب فجيء به على الأصل والقياس) . فأنت ترى أن النحاة لم يذكروا وجه العدول بجمع (المصيبة) عن باب الصفات، وهو التصحيح، إلى باب الأسماء، وهو التكسير، لظهوره وجلاء حاله، بل انصرف همهم إلى توجيه مجيء الهمزة. في (مصائب) وانصب على تأويل حلولها محل (الواو) . وعندي أنه يصح في (المصيبة) ما قاله المرزوقي في (الكريهة) . قال المرزوقي (151) : (وقوله في الكريهة للحوق الهاء بها ألحق بباب الأسماء، ويستعمل في نوازل الدهر وشدائد الأمر) . فلحوق (المصيبة) بباب الأسماء قد أتاح جمعها جمع تكسير، كما رأيت. ونحو من ذلك ما قيل في (فروق حقي/ 46) عن الخليقة والحقيقة: (واعلم أن التاء في مثل الخليقة والحقيقة.. على وجهين: إما للنقل من الوصفية إلى الاسمية، وإما للتأنيث بتقدير موصوف مؤنث. ومعنى كون التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية أن اللفظ إذا كان في الأصل وصفاً ثم غلب عليه الاستعمال حتى صار بنفسه اسماً، كان اسميته فرعاً لوصفيته فيشبه المؤنث، لأن المؤنث فرع المذكر فجعل التاء علامة للفرعية..) . وهكذا آلت (المصيبة) من الوصفية إلى الاسمية، شأنها شأن الصفات الغالبة، فصح في جمعها التكسير، كما صح التصحيح. إذ كانت اسميتها فرعاً لوصفيتها، وما لبثت تنم بدلالتها على هذا الأصل. المدينة والمداين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ومما جرى مجرى الأسماء معدولاً بـ عن الوصف (المدينة) . فقد جمعوه على (مداين) بالياء، وقالوا في تخريج هذا أن (المدينة) اسم مفعول من قولك (دينت) فهي (مدينة) ، أي ملكت فهي مملوكة. قال أبو الطيب في الإبدال (2/316) : (وقال آخرون إنما وزنها: مفعولة من قولك دينت أي ملكت، فالمدينة المملوكة، وكل مدينة مملوكة) . فهم قد جمعوا (المدينة) على (مداين) جمع تكسير، كما جمعوا (مصيبة) على (مصاوب) ، وكل منهما معدول به عن الوصف. ولكن لم استكرهوا التصحيح في جمع (مدينة) واستحبوه في جمع (مصيبة) . أقول إن (المدينة) قد نأت بدلالتها المعروفة عن الأصل الذي كان لها في معنى الصفة، على حين ظلت (المصيبة) تنم بدلالتها على هذا الأصل. المُهمَّة والمهام: وقد جرى مجرى الأسماء وهو وصف، (المُهمّ) و (المُهمَّة) . وقد استعملا بمعنى الأمر الشديد المحزن، أو الأمر الشاغل العاني إذا وجب إنفاذه، وجمعاً تصحيحاً على (المهمات) . قال تأبط شراً: قليل التشكي للمهم يصيبه - كثير الهوى شتى النوى والمسالك قال أبو علي المرزوقي في شرح الحماسة (94) : (المهم يجوز أن يكون من الهم الذي هو الحزن، ويجوز أن يكون من الهم الذي هو القصد. يقول: هو صبور على النوائب والعلات، لا يكاد يتألم مما يعروه من المهمات) . وقال (576) (كأنها كانت تكرر الرجاء وتجدده مع كل حادثة، وعند كل مهمة) . وقال (وكثير من الناس يظن بنا تباطؤاً في المهمات وتثاقلاً..) . وقال: (984) : (ودوام صبره على جميع ما يكلفه من المهمات الشاقة) . وقوله (والمعتد بفتح العين وكسرها الفرس المعد للمهمات من الطلب والهرب وغيرهما) . وجاء في نهج البلاغة (1/55) : (مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المهمات على أرائهم) . وجاء في أساس البلاغة للزمخشري: وفلان حلال للعقد كاف للمهمات) . وفيه (ونزل به مهم ومهمات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وفي محاضرات الأدباء للراغب (4/514) : (واغتم الحجاج بموت صديق له وعنده شامي أوفده إليه عبد الملك في مهم.. فقال الحجاج: حسبك فمصيبتي بأمير المؤمنين حيث أرسل مثلك بمهم آنستني هذه) . وجاء في المخصص لابن سيده (12/40) : (المهمات: الشدائد) . وجاء في كتاب أخلاق الوزيرين (127) لأبي حيان التوحيدي: (وكنت بالري.. وابن عباد مع مؤيد الدولة قد وردا في مهمات وحوائج) . وفي المصباح المنير (في مادة قوم) : (سموا بذلك لقيامهم بالعظائم والمهمات) . وفي الأشباه والنظائر (4/226) للسيوطي: (مهمة من مهمات شخناً الكافيجي) . وفي الكليات لأبي البقاء (343) : (والأمثل للتفضيل، وسمي أفاضل الناس أماثل لقيامهم في كل المهمات) . فتبين بما ذكر من النقول أن (المُهمّ) أو (المُهمَّة) وصف جاء على صيغة اسم الفاعل، لكنه استعمل منقطعاً عن موصوفه، جارياً مجرى الأسماء، وأن جمعه قد جاء على (المهمات) إذ لا تزال به معنى الصفة، فهل يصح أن تجمع تكسيراً على (مهام) . أقول قد جرت بهذا أقلام الكتاب وطاعت به ألسنتهم وسلائقهم، وعندي أنه لا بأس به، ما دام قد ثبت اشتهار استعمال الأسماء، كما رأيت، صفة غالبة. مَهمَّة بفتح الأول: هذا وقد شاع حديثاً استعمال (المهمة) بفتح الأول، لما يشغلك من الأمر ويعنيك أو يعنوك. والمهمة بفتح الأول وتشديد الميم الثانية من مصادر (هم) . ولهذا الفعل من المعاني النفسية ما يتعلق بالحزن والقلق حيناً، وبالطلب والقصد والإرادة حيناً آخر. على أن معجم الصحاح قد قصر مصدر (المهمة) على (هم به) بمعنى أراد. فقد جاء فيه (وهممت بالشيء أهم هماً إذا أردته، يقال لا مهمة لي بالفتح ولا همام أي لا أهم بذلك ولا أفعله) . ولا همام بفتح أوله وبناء آخره على الكسر أي لا أهم ولا أريد، كما في الأساس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 فإذا صح هذا، والإرادة تعني هنا القصد والطلب، كان معنى قولك (ذهب فلان في مهمة بالفتح) إنه مضى في قصد أو مطلب. أما إذا كان (المهمة) كالهم عامة، فقولك (جعلت مهمتي أن أتعرف أحوال العدو وأتعقب خطواته) يعني أنك جعلت ذلك همك وشغلك. ففي اللسان (همه يهمه هماً ومهمة بالفتح حزنه وأقلقه) وفيه (هم بنفسه وعياله طلب واحتال.. وهمّ هماً بالشيء نواه وعزم عليه ولم يفعله) . أما المهم والمهمة بضم الأول فهما اسم فاعل من (أهم) وقد استعملا بمعنيين: الأول الأمر الشديد، كقولك (تداعى القوم لمهمة أو مهمة) أي تنادوا لأمر شديد نزل بهم. والمعنى الثاني: الأمر تضطلع به فيشغلك ويعنيك. فتبين بذلك أن (المهم أو المهمة) بضم الأول يعني ما يريده الكتاب اليوم حين يقصدون به الأمر الذي يفوض إليك فتتولاه وتحمل مؤونته وتبعته، وهو أولى بالاستعمال في هذا المقام، وأولى بالمعنى المراد. المطيحة والمطارح: ومن هذا القبيل ما قيل في (الطوائح) جمع (طائحة) في قول الشاعر: لبيك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 فقد اشتهر استعمال (الطوائح) صفة غالبة منقطعة عن موصوفها، والأصل أن تقول (الحادثات الطوائح) . واختلف في تخريجه، فمنهم من قال بصحة الجمع، فالطوائح جمع طائحة من طاح. ومنهم من قال أن الفعل هاهنا رباعي فهو (أطاح) من قولك أطاحه إذا أهلكه وأذهبه، وقياسه أن تقول (مطيحة) وأن تجمع على (المطيحات) تصحيحاً، و (المطاوح) تكسيراً. قال البغدادي في الخزانة (1/307) : (يقال أطاحته الطوائح وطوحته، فقياس الجمع أن يكون المطيحات والمطاوح، فإن تكسير مُفعِل مفاعل بحذف إحدى العينين وإبقاء الميم، وتخريج الجمع على حذف الزوائد هو لأبي علي الفارسي، وتخريجه على النسب هو لأبي عمرو الشيباني، فإن تقديره عنده مما تطيحه الحادثات ذوات الطوائح. وقال الشنتمري في شرحه لشواهد الكتاب (وكان ينبغي أن يقول المطاوح لأنه جمع مطيحة، فجمعه على حذف الزيادة، كما قال عز وجل: (أرسلنا الرياح لواقح) ، واحدتها مُلقِحة. وقال المرزوقي في شرح الحماسة (1558) : (وكذلك الطوائح قياسه أن يكون إذا عدل عن الجمع بالتاء: مطاوح) . وباب الأمر في كل ما ذكرناه، ما الذي ساغ جمع (المطيحة) على (مطاوح) تكسيراً والأصل فيه التصحيح بالألف والتاء. وما الذي أباح أن يعدل به عن هذا الأصل؟ أقول الذي صوب هذا هو استعمال (المطاوح) وصفاً، مفرداً عن موصوفه، وإجراؤه مجرى الأسماء، قال الزمخشري في أساس البلاغة (وأطاحته المطاوح، قال.. ومختبط مما تطيح الطوائح أي المطيحات والمطاوح) . فأنت ترى أنه قد أتى به كما اشتهر، صفة منقطعة من موصوفها، جارية مجرى الأسماء، كذلك جاءت الطوائح، كما بينا. أما الذي أجاز بقاء (المطيحة) على بابه في جمعه على (المطيحات) أنه قد استمر ينم على معنى الصفة التي بني عليها، فصح فيه جمع الصفات. مُعقِّب ومُعقِّبة، ومعاقب ومعاقيب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 ومما جاء من الوصف على (مُفصِّل) اسم فاعل من (فعَّل) بتشديد العين، مضارعاً للأسماء (معقب ومعقبة) فقد قالوا في الجمع (معاقب ومعاقيب) كما قالوا (معقبات) . فقد جاء في التنزيل (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ((الرعد/11) . فـ (معقبات) جمع معقب أو معقبة. وقد جاء هذا الوصف مستغنياً عن موصوفه، وأريد به الملائكة. قال الجوهري (والمعقبات ملائكة الليل والنهار، لأنهم يتعاقبون. وإنما أتت لكثرة ذلك منهم نحو نسابة وعلامة) . وقال الزمخشري في الأساس (له معقبات: هم ملائكة الليل والنهار يتعاقبون) . وقال الراغب في مفرداته (له معقبات من بين يديه ومن خلفه: أي ملائكة يتعاقبون عليه، حافظين له) . وقال الإمام البيضاوي: (معقبات ملائكة تعتقب في حفظه جمع معقبة، من عقبة بالتشديد مبالغة عقبه إذا جاء على عقبه، كان بعضهم يعقب بعضاً، أو لأنهم يعقبون أقواله وأفعاله فيكتبونها.. أو لأن المراد بالمعقبات جماعات..) . وقد قرأ عبيد الله بن زياد (له المعاقب) كما جاء في البحر المحيط لأبي حيان، و (له معاقيب) كما جاء في المحتسب لابن جني. ومعاقب ومعاقيب جمع مُعقِّب أو مُعقِّبة. قال ابن جني في المحتسب (1/355) : (ومن ذلك قراءة عبيد الله بن زياد: له معاقيب من بين يديه) . قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون هذا تكسير معقب أو معقبة، إلا أنه لما حذف إحدى القافين عوض منها الياء فقال: معاقيب، كما تقول في تكسير مقدم مقاديم، ويجوز ألا تعوض، فتقول: معاقب كمقادم) . فما الذي أتاح جمع (معقب) أو (معقبة) جمع تكسير، وهو وصف على صيغة اسم الفاعل. أقول قد استعمل (المعقب) صفة غالبة مفردة عن موصوفها، كما رأيت، وقد سمي بها كل ما جاء عقيب ما قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ففي النهاية (والمعقب من كل شيء ما كان عقيب ما قبله) . وجاء (المعقبة) أيضاً اسماً للتسبيحة والتحميدة والتكبيرة، تقال عقب الصلاة. قال ابن الأثير: (معقبات لا يخيب قائلهن، ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وأربعون تكبيرة، سميت معقبات لأنها عادت مرة بعد مرة، أو لأنها تقال عقيب الصلاة) . المعجم والمعاجم: لا بد في الحكم بجواز جمع المعجم على المعاجم أو المعجمات من تعرف قولك (المعجم) ما أصله؟. وقد ذهب الأئمة إلى أن الأصل في قولك (المعجم) هو (حروف المعجم) ، وإنما صح إضافة الحروف إلى المعجم بتأويلين: الأول أن تقدير (حروف المعجم) هو (حروف الخط المعجم) . قال أبو محمد الخفاجي في كتابه (سر الفصاحة/17) : (بل يجوز أن يكون التقدير: حروف الخط المعجم لأن الخط العربي فيه أشكال متفقة لحروف مختلفة، عجم بعضها دون بعض ليزول اللبس. وقد يتفق في غيرها من الخطوط أن تختلف أشكال الحروف فلا يحتاج إلى النقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 فوصف الخط العربي بأنه – معجم – لهذه العلة. وقيل – حروف المعجم – أي: حروف الخط المعجم، كما يقال حروف العربي، أي حروف الخط العربي) . وقال (فإذا قيل أعجمت الكتاب فمعناه أزلت إبهامه، كما يقال: أشكيته إذا أزلت ما يشكوه) . فإذا صح هذا فأي جمع يجمع عليه (المعجم) بهذا التأويل؟ أقول المعجم صفة حذف موصوفها وهو (الخط) ، فإذا كان الموصوف قد حذف وهو على نية التقدير كانت الصفة على أصلها، وجمعها جمع الصفات بالتصحيح على (المعجمات) . وإذا كان الموصوف قد حذف استغناء عنه فنابت الصفة منابه وأفردت عنه، كما هو الحال في قولك (المعجم) هاهنا، صح في جمعه التكسير كما تجمع الأسماء، كما صح في جمعه التصحيح اعتداداً بالأصل، ما دام به معنى الصفة في الأصل. وكلما نأى الوصف بمعناه عن الأصل، قوي فيه التكسير. ذلك إن دلالة (المعجم) في كلام أبي محمد الخفاجي هو (الخط العربي) لأن الأصل هو (حروف الخط المعجم) . فإذا دل (المعجم) اليوم على غير هذا فقد نأى عن الأصل، فقوي فيه التكسير. وقد جاء في بيت للقطامي: ونادينا الرسوم وهن صم - ومنطقها المعاجم والسطار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وجاء في شرح البيت (المعاجم كتب معجمة إجابتها إبانا أن أرتنا علاماتها كأنها سطار كتب، أي منطقها السطار والآثار، وكل ذلك لا يجيب) . فأنت ترى أن القطامي قد جمع (المعجمة) على (معاجم) استغناء بالصفة عن الموصوف تشبيهاً له بالأسماء، وهو لا يزال على معناه الأول في الصفة. فإن كان (المعجم) قد تجاوز هذا في دلالته فاختص بمعنى انزوى به عن الأصل وتنحى وانفرد، فهو بالتكسير أولى وأليق. فدلالة (المعجم) لم تبن على معنى قولك (كتاب الخط المعجم) أو (الكتاب المعجم) أي الذي أعجمت حروفه فأزيل عنها اللبس، وإلا لكان كل كتاب معجماً. وإنما أريد بـ (المعجم) السفر الذي ضم المفردات مقرونة بشرحها وتفسير معانيها مرتبة ترتيب حروف الهجاء، أي ترتيب حروف الخط المعجم. هذا ولا يشترط في (المعجم) بأن يخص بمفردات اللغة، ولو كان الأكثر فيه كذلك. فأول كتاب أطلق عليه اسم (المعجم) هو (معجم الصحابة) لأبي يعلي أحمد بن علي بن المثنى بن يحيى بن عيسى بن هلال التميمي الموصلي محدث الجزيرة (210-207هـ) وعقبة أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي المحدث المعروف بابن بنت منيع (214-315) . وقد ألَّف هذا معجميه بأسماء الصحابة: المعجم الكبير والمعجم الصغير. ثم استعمل لفظ (المعجم) عند من ألفوا في الحديث، ثم عند من صنفوا في اللغة. وقيل قد جاء لفظ (المعجم) فيما رواه أبو ذر، رضي الله عنه، عن الرسول (، كما ذكره صاحب كشف الظنون في مقدمته (25) . وجاء في النهاية (وفي حديث عطاء: وسئل عن رجل لهز رجلاً فقطع بعض لسانه فعجم كلامه، فقال: يعرض كلامه على المعجم، فما نقص كلامه منها قسمت عليه الدية) . قال ابن الأثير: (المعجم حروف: أب ت ث، سميت بذلك من التعجيم، وهو إزالة العجمة بالنقط) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 والثاني من التأويلين أن تقدير (حروف المعجم) هو (حروف الإعجام) . أي أن المعجم هنا مصدر ميمي. تقول أعجمته معجماً أي إعجاماً، كما تقول أكرمته مكرماً أي إكراماً، أو أدخلته مدخلاً أي إدخالاً. قال ابن جني في سر صناعة الإعراب (1/38) : (إن سأل سائل فقال ما معنى حروف المعجم، هل المعجم صفة لحروف هذه.. والصواب في ذلك عندنا ما ذهب إليه أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، رحمه الله تعالى، من أن المعجم مصدر بمعنى الإعجام، كما تقول أدخلته مدخلاً، وأخرجته مخرجاً، أي إدخالاً وإخراجاً. وحكى أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش أن بعضهم قرأ: ومن يهن الله فما له من مُكرَم، بفتح الراء، أي إكرام. فكأنهم قالوا: هذه حروف الإعجام. فهذا أسدّ واصوب من أن يذهب إلى أن قولهم حروف المعجم بمنزلة قولهم: صلاة الأولى ومسجد الجامع. لأن معنى ذلك صلاة الساعة الأولى أو الفريضة الأولى، ومسجد اليوم الجامع، فالأولى غير الصلاة في المعنى، والجامع غير المسجد في المعنى أيضاً. وإنما هما صفتان حذف موصوفاهما وأقيما مقامهما، وليس كذلك حروف المعجم. لأنه ليس معناه حروف الكلام المعجم، ولا حروف اللفظ المعجم، وإنما المعنى أن الحروف هي المعجمة. فصار قولنا حروف المعجم من باب إضافة المفعول إلى المصدر، كقولهم هذه مطية ركوب، أي من شأنها أن تركب، وهذا سهم نضال، أي من شأنه أن يناضل به، وكذا حروف المعجم، أي من شأنها أن تعجم..) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 هذا وقد رد أبو محمد الخفاجي في سر الفصاحة على ابن جني فقال: (وليس يبعد عندي ما أنكره أبو الفتح، بل يجوز أن يكون التقدير: حروف الخط المعجم..) كما أسلفنا. لكنه إذا صح أن القصد بـ (المعجم) هو الإعجام، فقياس المصدر الميمي إذا سمي به أن يكسر فيقال في جمعه (المعاجم) ولا قياس له سواه. ذلك أن علماء اللغة قد استثنوا من التكسير كل صفة جاءت على الفعل نحو (مفعل ومفعل) اسم فاعل أو اسم مفعول من (أفعل) ، كما أورده الرضي في شرح الشافية حين قال: (إن كل ما جرى على الفعل من اسمي الفاعل والمفعول، وأوله ميم، فبابه التصحيح لمشابهته الفعل لفظاً ومعنى) ، وما دام المعجم قد اعتد في هذا التأويل مصدراً لا صفة فجمعه على الأصل في تكسير الاسم الرباعي من أمثاله على (مفاعل) . وقال ابن جني في سر صناعة الإعراب (1/44) : (فإن قيل أن جميع هذه الحروف ليس معجماً، إنما المعجم بعضها، ألا ترى أن الألف والحاء والداء ونحوها ليس معجماً، فكيف استجازوا تسمية جميع هذه الحروف –حروف المعجم – قيل إنما سميت بذلك لأن الشكل الواحد إذا اختلفت أصواته فأعجمت بعضها وتركت بعضها، فقد علم أن هذا المتروك بغير إعجام، هو غير ذلك الذي من عادته أن يعجم. فقد ارتفع إذن بما فعلوه، الإشكال والاستبهام عنها جميعاً.. وهذا كله رأي أبي علي وعنه أخذته) . حجة من جمع معجم على معاجم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 جمع الأب أنستاس ماري الكرملي (معجماً) على معاجم، فقال في كتابه (أغلاط اللغوين الأقدمين/119) : (أما معجم فهو وزن مصحف ومخدع، وما كان على هذا الميزان، يكسر على مفاعل: معاجم، كما يقال مصاحف ومخادع. هذا من جهة القياس، واللغويون لا يدونون في معاجمهم المقيسات. وأما من جهة السماع فإن المعاجم لم تكن معروفة في الجاهلية حتى نسمع من أبنائها هذه الكلمة. إنما المعاجم وضعها المولدون ونطقوا بها مكسرة على هذا الوجه إذا أرادوا الكثرة. أما إذا أرادوا القلة فإنهم يقولون: المعجمات. وقد يقال في هذا الجمع المعاجيم أيضاً من باب القياس..) وأردف (أما أنه ورد معاجم فهو مما لا يختلف فيه اثنان. قال السيد الزبيدي في كلامه على –أثال- هو تمامة بن أثال بن النعمان من بني حنيفة، كما هو في المعاجم – أهـ. وكذلك ورد المعاجم فقد قال المذكور في –زرير- كزبير: ولعله في معجم آخر من معاجيمه) . أقول في التعقيب على كلام الأب، أما أن (مُفعَل) يطرد على (مفاعل) فغير صحيح، ذلك أن صيغة الجمع تحد بوزن المفرد من جهة، كما تحد بأصل بنيته اسماً أو وصفاً أو صفة غالبة. وأما أن الزبيدي صاحب التاج قد جمع معجماً على معاجم فليس في ذلك ما يلزم الأخذ به، ولو كان فيه ما يبعث على بحثه وتدبره واستبانة وجهه. حجة من أنكر المعاجم جمعاً وأقر المعاجيم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 قال الدكتور مصطفى جواد في كتابه (دراسات في فلسفة النحو والصرف واللغة والرسم/ 160) : (أراد بالمعاجيم جمع المعجم أي المعجمات والمعاجيم. مع أن المعاجم جمع المعجم بفتح أوله على وزن المذهب، وهو موضع العجم، أي العض للاختبار: اختبار الصلابة أو الرخاوة، على حسب الشيء المعجم. ودخلت الكلمة ميدان المجاز. قال العلامة الزمخشري في أساس البلاغة: وفلان صلب المعجم لمن إذا عجمته الأمور وجدته متيناً: وقال في – ص د ق- من الأساس: وفلان صدق وصدق المعاجم أ. هـ. فالمعاجم جمع المعجم بالمعنى المذكور. أما المعجم بضم الميم فالقاعدة في جمعه زيادة الألف والتاء فيكون: المعجمات) وأردف (ويجوز عندي جمعه جمع تكسير بشرط أن تطبق عليه قاعدة الأسماء المضمومة الميم كالمُفطرِ والموسر والمُنكَر والمطفل.. فيكون المعاجيم كالمفاطير والمياسير والمطافيل.. ويجوز حذف يائه لوزن الشعر حسب، أو لخوف الالتباس) . أقول في الجواب عن ذلك أن جمع المعجم على المعجمات لا يمنع من جمعه على معاجم ما دام صفة غالبة قد استغنت عن موصوفها وأغنت مغناه. ولا تكفي زنة المفرد للقطع بصيغة جمعه، بل لا بد من الكشف عن بنيته اسماً أو صفة، استبانة نوع اسميته وصفته أيضاً. وليس يمتنع معاجم جمعاً لمعجم بضم الأول، ولو صح أنه جمع لمعجم بفتح الأول. فمذاهب جمع لمذهب بضم الميم وفتح الهاء ومذهب بفتح الميم، كما سنراه. ومسان جمع لمسن بكسر الميم اسم آلة من (سن) ، ومسن اسم فاعل من (أسن) صفة غالبة. ومجاسد جمع لمجسد بضم الميم. وهو ما أشبع صيغة من الثياب، ومجسد بكسر الميم للثوب الذي ألصق بالجسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 أما إنكار جمع معجم على معاجم وإقرار جمعه على المعاجيم، فهو غريب. فالأصل فيما جاز تكسيره من (مفعل) بفتح العين على (مفاعل) ألا يجمع على (مفاعيل) . لأن هذا هو جمع (مفعال ومفعيل) بحرف مد. على أن الكوفيين قد أجازوا فيما جمع على مفاعل أو هيئته كفواعل وفعالل، أن تزاد فيه الياء، وفيما جمع على (مفاعيل) أن تحذف فيه الياء، كما جاء في الهمع للسيوطي (2/182) . وقد أخذ بهذا جماعة وجعلوا إضافة الياء إشباعاً للكسرة أو مطلاً لها، كما نص عليه ابن جني في الخصائص (3/151) والمحتسب (1/357) ورده الأنباري في الإنصاف، إلا في الشعر. قال السيوطي في الهمع حول جمع مندوحة على منادح (والأصل مناديح لأنه جمع مندوحة، وقوله سوابيغ.. والأصل سوابغ لأنه جمع سابغة. وأجاز الكوفية الأمرين في الاختيار، واستدلوا بقوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب (، والأصل مفاتيح لأنه جمع معذرة. وتأول البصريون ذلك، على أنه جمع مفتح بلا ألف، ومعذار بألف. ووافق ابن مالك الكوفيين، فأجاز في سربال وعصفور: سرابل وعصافر، وفي درهم وصيرف: دراهيم وصياريف) . وقال الزبيدي في التاج (المسند كمكرم جمعه مساند على القياس، ومسانيد بزيادة التحتية إشباعاً، وقد قيل إنه لغة، وحكي في مثله القياس أيضاً) . ويبدو أن الزبيدي قد جمع معجماً على معاجم ومعاجيم آخذاً بهذا الرأي. -ولكن كيف عمد الدكتور جواد إلى جمع معجم على معاجيم بالياء، وأبى جمعه على معاجم بلا ياء والمعاجيم في جمع المعجم هو فرع المعاجم؟ أقول حاول جواد الاقتباس بمفطر وموسر ومنكر ومطفل، بضم الميم فيها، وهي تجمع على مفاطير ومياسير ومناكير ومطافيل، ولكن هل هذه نظائر لـ (معجم) حقاً، وهل هي محل قياس له فعلاً؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 قال الرضي في شرح الشافية (2/180) (وقالوا أيضاً في مفعل المذكر كموسر ومفطر، وفي مفعل كمنكر: مياسير ومفاطير ومناكير. وإنما أوجبوا الياء فيهما مع ضعفها في نحو معاليم جمع مُعلَم، ليتبين أن تكسيرهما خلاف الأصل، والقياس التصحيح) . وقال أيضاً: (والأغلب في المفعل المختص بالمؤنث التجرد عن التاء، فلا يصحح، بل يجمع على مفاعل كالمطافل والمشادن والمراضع.. وجوزوا في جمع هذا المؤنث زيادة الياء أيضاً ليكون العوض من الهاء المقدرة، فنقول مطافيل ومراضيع ومشادين، ويجوز تركه، قال تعالى: (وحرمنا عليه المراضع ((القصص/ 12) . أقول قاس الأستاذ جواد (المعجم) على المطفل بكسر الفاء، وعلى المنكر بفتح الكاف. أما (المطفل) على صيغة اسم الفاعل فقد جمع على مفاعيل لكنه جمع على مفاعل أيضاً، فكيف يستظهر به الدكتور جواد على جمع (معجم) على معاجيم دون معاجم. قال الرضي (بل يجمع على مفاعل كالمطافل.. وجوزوا.. زيادة الياء أيضاً.. فنقول مطافيل..) . هذا وليس (مطفل) كمعجم، لأن الأول مختص بالمؤنث. قال الرضي (وجوزوا في جمع هذا المؤنث زيادة الياء أيضاً ليكون كالعوض من الهاء المقدرة فتقول مطافيل..) فكيف يصح (مطفل) مثالاً في القياس لمعجم؟ أما (منكر) على صيغة اسم المفعول، فقد جمع تكسيراً على مناكير دون مناكر، فقاس عليه جواد (المعجم) فذهب إلى جمعه تكسيراً على معاجيم دون معاجم. ولكن هل يقاس معجم على منكر حقاً؟. -أما أن (المنكر) قد جمع تكسيراً على مناكير بالياء دون مناكر بحذفها، فصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وقد جمع تصحيحاً على (المنكرات) أيضاً. قال صاحب الأساس (وهم يركبون المنكرات والمناكير) . ولكن ما سر جمعه على مناكير دون مناكر؟ قال الرضي (وإنما أوجبوا الياء فيهما مع ضعفها في نحو معاليم جمع معلم، ليتبين أن تكسيرهما خلاف الأصل، والقياس التصحيح) . فإذا صح هذا فإنه يعني أنهم أرادوا أن ينبهوا على شذوذ جمع منكر تكسيراً، فضموا إلى شذوذه هذا في الجمع شذوذاً آخر، وهو إضافة الياء! وعندي أن لجمع منكر على مناكير تأويلاً آخر. ذلك أنه جاء منكر ومنكور بمعنى، فاستغنوا بجمع منكور وهو مناكير عن جمع منكر على مناكر واكتفوا بمناكير جمعاً لمنكر ومنكور. ففي الاشتقاق لابن دريد (329) : (نكرة بضم الأول فعلة من الشيء المنكر والمنكور، نكرته وأنكرته) فنكره كأنكره والمنكور كالمنكر. ففي الأساس (أنكر الشيء ونكره بالكسر واستنكره، وقيل نكر أبلغ من أنكر، وقيل نكر بالقلب وأنكر بالعين) . وليس يصح التعلق بتأويل والتعويل عليه لأنه إذا صدق هذا في جمع منكر على مناكير حار الرأي في تأويل مفطر على مفاطير. وليس بدعاً على كل حال أن تشرد ألفاظ فتنبو على الأصل على أن بيت القصيد هو أن جمع المنكر جمع تكسير ليس شذوذاً في الأصل، ولو ذهب إلى هذا كثيرون فسترى أن كثيراً مما قالوا بشذوذه في هذا الباب. كان تفرده في الحكم لسبب رعوه. فالمنكر إذا جاء وصفاً جارياً على فعله فبابه التصحيح على الأصل. فأنت تقول (الأمر المنكر معيب عقلاً وشرعاً) وتقول في جمعه (الأمور المنكرة أو المنكرات معيبة عقلاً وشرعاً) . أما قول الزمخشري (وهم يركبون المنكرات) فليس (المنكرات) فيه صفة جارية على فعلها وإنما هي صفة غالبة فارقت موصوفها فقامت مقامه وأغنت مغناه فشابهت الاسم، لكنها لم تغادر الوصف في دلالتها، ولو خصصت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 قال صاحب المفردات (المنكر كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه أو تتوقف عن استقباحه واستحسانه العقول، فتحكم بقبحه الشريعة) . وقال صاحب التعريفات (162) : (المنكر ما ليس فيه رضا الله من قول أو فعل والمعروف ضده) . أما قول الزمخشري (وهم يركبون المناكير) فالمناكير فيه صفة غالبة أيضاً، أنزلت منزلة الأسماء وانقطع ما بينها وبين الوصف، وقد جاء في الأشباه والنظائر للإمام السيوطي (2/157) : (قال في البسيط: كل صفة كثر استعمالها من غير موصوفها، قوي تكسيرها لالتحاقها بالأسماء) . والمعجم بمعناها الشائع صفة غالبة قامت مقام الاسم وفارقت موصوفها. ووهى ما بينه وبين (المعجم) الصفة الجارية على موصوفة، فقوي فيه التكسير. ولا يصح منع معاجم جمعاً للمعجم، وإقرار (معاجيم) بالياء، كما ذهب إليه الدكتور جواد، حملاً على (منكر ومناكير) لأن الحمل إنما يكون على أصل ثابت، ومناكير في وجوب زيادة الياء مثال شاذ. هذا وقد عبروا عن إضافة الياء في نحو (مفاعيل) وما كان على هيئته بأنه إشباع للكسرة، كما جاء في الإنصاف، وأسماه ابن جني في الخصائص (3/121) وفي المحتسب (1/357) إشباعاً للحركة أو مطلها. وذكروا من ذلك جمع (صيرف) في شعر الفرذدق على (صياريف) بدلاً من (صيارف) . وجمع (مرجل) في شعر عبدة بن الطيب على (مراجيل) والأصل (مراجل) . وقال الأنباري في رده على الكوفيين في كتابه الإنصاف (1/31) : (وهذا القول ظاهر الفساد لأن إشباع الحركات إنما يكون في ضرورة الشعر، كما أنشدوه في الأبيات. وأما في حال اختيار الكلام فلا يجوز ذلك بالإجماع) . وقد قال الأنباري فيما تقدم بمذهب البصريين. فثبت بما أسلفنا أن قولك (معاجيم) محمول على إضافة الياء إلى (معاجم) بإشباع حركة الجيم اختياراً عند الكوفيين ومن أخذ أخذهم، وإن إقرار (معاجيم) ، موقوف على إساغة (معاجم) في الأصل. أما إنكار (معاجم) وإثبات (معاجيم) كما ذهب إليه الأستاذ فما أظن له وجهاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الجواب عن استيضاح من استوضح صحة الجمع على معاجم أو معجمات: عقد الدكتور ناصر الدين الأسد، في الجزء الخامس والعشرين من مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فصلاً حول (معاجم ومعاجيم ومعجمات) . قال الدكتور الأسد: (وسواء أكان المعجم مصدراً بمنزلة الإعجام، كما ذهب إليه المبرد وتابعه غيره، أم صفة لموصوف محذوف، فإن في هاتين الحالتين لا يجمع عندهم على معاجم لأن المصدر لا يجمع، إذ أنه اسم معنى، وليس له ذوات متفرقة حتى يحتاج إلى جمعها، ولأن الوصف من اسمي الفاعل والمفعول وأوله ميم فبابه التصحيح، ولا يكسر لمشابهة الفعل لفظاً ومعنى، وأن نصوا على ألفاظ جاءت مكسرة شذوذاً) . أقول الجواب عن ذلك من وجوه. أما أن (المعجم) في أحد التأويلين مصدر والمصدر لا يجمع فحقيقة الأمر أن (المعجم) ليس مصدراً، بل هو معدول به عن المصدر إلى الاسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 فالمصدر جنس لفعله كما يقول ابن جني في الخصائص (1/25) . فهو يدل على الحدث من حيث تعلقه بفاعله، على وجه العموم والإبهام. ومن ثم امتنع جمعه وتثنيته، لا لأنه يتناول الجنس والجنس يدل على القليل والكثير فحسب، بل لدلالته على الحدث المتعلق بفاعله من حيث هو حدث أيضاً. فالمصدر الذي لا يجمع هو المصدر الذي يصدق عليه تعريفه وحدّه هذا. فإذا خرجوا به عن جنسه أو حدثه العام عاد إليه ما كان عليه الاسم في الأصل، من جواز جمعه. قال صاحب المصباح (والجمع يكون في الأعيان كالزيدين، وفي أسماء الأجناس إذا اختلفت مالأرطاب والأعناب واللحوم) وأردف (وفي المعاني المختلفة كالعلوم والظنون) . فأشار بذلك إلى أن (العلم والظن) إذا جمعا فقد عريا من الحدث وجنسه، إذ أصبحا مجرد اسمين للمعنى. وقال في موضع آخر للاعتلال لجمع (العلم) : (إن ضرباً يخالف ضرباً في كثرته، وعلماً يخالف علماً في معلومه ومتعلقه كعلم الفقه وعلم النحو) . والصحيح أن ليس في (العلم) من قولك (علم الفقه وعلم النحو) ما يدل على الحدث المبهم، بل ليس فيه ما يصدق على الجنس أيضاً، ومن ثم جاز جمعه جمعك الأسماء. وكل ما جمعته من ذلك فقد جذبته إلى الاسمية وخرجت به عن المصدرية. قال صاحب المصباح (واستعمل العيب اسماً وجمع على عيوب) وقال (واستعمل المصدر اسماً – أي اللفظ – وجمع على ألفاظ كفرخ وأفراخ) . وقال (والمكس الجباية وهو مصدر.. ثم سمي المأخوذ مكساً تسمية بالمصدر وجمع على مكوس) ، وهكذا.. فأصل (المعجم) مصدر بمعنى الإعجام في الأصل، لكنه استعمل اسماً فصح جمعه جمع الأسماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وأما أن (المعجم) في التأويل الآخر صفة أصلية جارية على الفعل، والصفة بابها التصحيح، فليس ذلك هو الوجه. فـ (المعجم) في هذا التأويل صفة غالبة انقطعت عن موصوفها فجرت مجرى الأسماء. وإلا فكيف جمعوا (المخزية والمصيبة والمدينة والمعقبة والمطيحة والمعجمة) على (المخازي والمصائب والمداين والمعاقب والمطاوح والمعاجم) ؟ فيما جمع على المهارق والمصاحف والمواسي والمطارف والمجاسد والمساند والمصاعب والمذاهب والمراسل. وأورد الدكتور ناصر الدين الأسد (المهرق والمصحف والموسى والمطرف والمجسد والمسند والمصعب والمذهب والمرسلة) ، وقال: (ولم نجد نصاً فيما اطلعنا عليه من كتب اللغة يجمع هذه الألفاظ التي أوردناها جمعاً سالماً، فلم نسمع مسندات جمعاً لمسند) !. أقول الجواب عن هذا أن من هذه الألفاظ ما هو اسم، والأصل في جمع الأسماء هو التكسير فكيف يجمع جمع سلامة؟ فالمُهرق: اسم لا صفة، ولو كان على صيغة اسم المفعول، وهو معرب أصله فارسي ومعناه الصحيفة. قال الجوهري في الصحاح (المهرق الصحيفة فارسي معرب والجمع المهارق) . وقال الجاحظ في الحيوان (1/70) : (والمهارق ليس يراد بها الصحف والكتب. ولا يقال للكتب مهارق حتى تكون كتب دين أو كتب عهود وميثاق وأمان) . وجاء في المعرب للجواليقي (303) : (والمهرق الصحيفة وهي بالفارسية مهره) . فالميم أصلية لا زائدة وقد أبدلت الهاء بالتعريب قافاً. وإذا صح هذا كان قياس جمع المهرق المهارق تكسيراً. أما (المصحف) فقد اطرد جمعه على (المصاحف) ، لا جمع له سواه. وليس هو اسم مفعول، ولو رد إلى هذا الأصل. ذلك أن النحاة قد ذكروا أسماء حكوها عن العرب، قالوا أنها ليست جارية على الفعل، على حد أحد من المشتقات. ونقلوا من ذلك (المدهن) بضم الميم والهاء لأداة الدهن وقارورته التي يوضع فيها. قال سيبويه في الكتاب (1/248) : (وكل هذه الأبنية تقع اسماً للتي ذكرنا من هذه الفصول، لا لمصدر ولا لموضع العمل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وقال الزمخشري في الفصل (وما جاء مضموم الميم والعين من نحو المسعط والمنخل والمدق والمدهن.. فقد قال سيبويه لم يذهب بها مذهب الفعل، ولكنها جعلت أسماء لهذه الأوعية) . وقال أيضاً (ومنخل ومصحف..) بضم الميم والخاء في الأول، وضم الميم وفتح الحاء في الثاني) . فجعل المصحف من هذه الأسماء ولورد إلى أصل مشتق. وقال سيبويه في الكتاب (2/378) : (ويكون الاسم على مفعل نحو مصحف ومخدع وموسى..) فدل هذا على أن (المصحف) قد اعتد في الأسماء. وقد شرح ابن يعيش قول الزمخشري في المفصل فقال (ومنه منخل اسم لآلة النخل.. ومنه المصحف من لفظ الصحيفة، تقول: أصحفته في مصحف أي جعلته صحيفة، وربما كسروا أوله وقالوا: مِصحف يشبهونه بالآلة..) . وفي مفردات الراغب (والمصحف ما جعل جامعاً للصحف المكتوبة وجمعه مصاحف) . ويتبين بما تقدم أن (المصحف) اسم أفرد عن المشتقات، وقد جاء مكسور الأول كاسم الآلة، وفارقه بأن أصله الضم. ففي أدب الكاتب لابن قتيبة (وكذلك قالوا مصحف وهو مأخوذ من أصحف أي جمعه فيه الصحف، وكسر أوله بعضهم استثقالاً للضم، وأصله الضم) . هذا وقد ورد في (المصحف) الفتح أيضاً فميمه مثلثة كما في اللسان والتاج. أما (الموسى) لآلة الحديد ففيه خلاف: إذ ذهب بعضهم إلى أنه من أوسى رأسه إذا حلقه، فرأسه موسى. وهو على هذا اسم مفعول على مفعول بضم الميم وفتح العين، وهو مذكر، لكنه لم يستمر على هذا الأصل، إذ سمي به آلة الحديد فاستعمل لما (يوسى به) أي يحلق به. وقد اعتده سيبويه من الأسماء كما أشرنا إليه قبل (2/378) ، فجمع على (المواسي) كشأن الأسماء. قال صاحب المصباح (وأوجز ابن الأنباري فقال الموسى يذكر ويؤنث، وينصرف ولا ينصرف، ويجمع على قول الصرف: المواسي) . وذهب آخرون أنه مؤنث على (فُعلى) ممنوع من الصرف ميمه أصلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 فقد جاء في أدب الكاتب لابن قتيبة (286) : (الموسى قال الكسائي هي فعلى، وقال غيره هو مفعل من أوسيت رأسه أي حلقته، وهو مذكر إذا كان مفعلاً، ومؤنث إذا كان فُعلى) . وإذا أن (الموسى) على فعلى عند هؤلاء فهي كحبلى ممنوعة من الصرف، وجمعها على موسيات كحبليات. قال صاحب المصباح (ويجمع على قول الصرف – أي قول من صرف الموسى لأنه على زنة مفعل – المواسي، وعلى قول المنع – أي قول من منع موسى من الصرف لأنه على زنة فعلى – الموسيات كالحبليات) . وقد جاء في معجم الصحاح، وفي المخصص لابن سيده (17/18) وفي النوادر لأبي مسحل الأعرابي (85/86) ما يؤيد ذلك. أما قول العامة (أمواس) على تقدير أن واحدة (موس) فلا وجه له، وقد كان شائعاً عند عامة أهل الأندلس وصقلية، كما أشار إليه الدكتور عبد العزيز مطر في كتاب لحن العامة في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة (ص/272) . أما (المُطرف) على صيغة اسم المفعول، فهو اسم أيضاً، ولو رد إلى أصل مشتق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 فالمطرف رداء من خزله علمان، اشتق في الأصل، من أطرفه أطرافاً. قال صاحب المصباح (وأطرفته أطرافاً جعلت في طرفيه علمين فهو مطرف) . وأردف: (وربما جعل اسماً برأسه غير جار على فعله، وكسرت الميم تشبيهاً بالآلة والجمع مطارف) ، فدل هذا على انتقاله من الوصفية إلى الاسمية. ولذا كان بابه في الجمع هو التكسير على مطارف. وفصل صاحب التاج فقال (والمطرف كمكرم، هكذا في سائر النسخ، والصواب كمنبر ومكرم، كما في الصحاح والعباب واللسان. فالاقتصار على الضم قصور ظاهر. وهو رداء من خز مربع ذو أعلام، جمعه مطارف. وقال الفراء: ثوب من الثياب جعل في طرفيه علمان. والأصل مطرف بالضم، فكسروا الميم ليكون أخف، كما قالوا: مغزل وأصله: مغزل من أغزل أي أدير، وكذلك المصحف والمجسد. ونقل الجوهري عن الفراء ما نصه: أصله الضم لأنه في المعنى مأخوذ من أطرف أي جعل في طرفيه العلمان، ولكنهم استثقلوا الضم فكسروه. وقد ورد أيضاً بفتح الميم، نقله ابن الأثير في تفسير حديث: رأيت على أبي هريرة مطرف خز، فهو إذاً مثلث الميم) . أما (المجسد) بضم الميم وفتح السين فهو صفة غالبة فارقت موصوفها (وهو الثوب) فأغنت مغناه، وأنزلت منزلة الأسماء. وقيل أجسد الثوب فهو مجسد: صبغ بالجساد. قال صاحب المصباح (وأجسدت الثوب من باب أكرمت صبغته بالزعفران أو العصفر، قال ابن فارس: ثوب مجسد صبغ بالجساد) وأردف (وقد تكسر الميم) . وقيل: أجسد الثوب فهو مجسد: ولي الجسد. قال صاحب الأساس (ولبس المجاسد وهي الشُعر جمع مجسد بالكسر ومجسد بالضم) . والشعر جمع شعار ككتب وكتاب. ففي المصباح (والشعار بالكسر ما ولي الجسد من الثياب) . وفي الأساس (وعليهم شعار وعليهم شعر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 ومهما يكن من شيء فالأصل هو الضم على صيغة اسم المفعول، وأن كسر الميم تصرف اقتضاه الاستعمال، طلباً للخفة في اللفظة، كما جرى في المصحف والمطرف والمغزل ففي اللسان: (قال أبو زيد: تميم تقول المغزل والمطرف.. والمجسد، بكسر الميم، وقيس تقول المغزل والمطرف.. والمجسد، بضم الميم) . -وأما (المسند) بضم الميم وفتح النون، على صيغة اسم المفعول، فهو صفة غالبة انقطعت عن موصوفها وهو (الحديث) وأغنت مغناه فأنزلت منزلة الأسماء أيضاً. قال الحافظ بن حجر في شرح نخبة الفكر، على ما جاء في كتاب (توجيه النظر إلى أصول الأثر/ 65) للشيخ طاهر بن صالح الجزائري الدمشقي: (والمسند في قول أهل الحديث – هذا حديث مسند – هو مرفوع صحابي بسند ظاهره الاتصال) . فالأصل في (المسند) إذاً (الحديث المسند) كما ذكر الحافظ. وقد جاء في تعريفه (هو مرفوع صحابي بسند) أي الحديث الذي يرفعه الصحابي (لا التابعي) بسند ظاهره الاتصال إلى رسول الله (. أي هو الحديث الذي اتصل إسناده إلى الرسول (كما جاء في تعريفات الجرجاني (144) ، إذ قال (المسند من الحديث خلاف المرسل وهو الذي اتصل إسناده إلى الرسول () . وقد جمع على مساند مسانيد. ففي التاج (المسند كمكرم.. جمعه مساند على القياس، ومسانيد بزيادة التحتية إشباعاً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وهذا قياسه، ما دام قد أنزل منزلة الأسماء وتميز من الصفة بخصوصه في الدلالة واستغنائه عن موصوفه، فإذا أوردته مورد الصفة بأن تضيفه إلى موصوفه فتقول (هذه مسندات الأحاديث) أو ما يشبه الإضافة لأنه في معناها كقولك (هذه المسندات من الأحادث) جمعته جمع مؤنث سالماً، على الأصل. وخلاف (المسند) : المرسل. قال الجرجاني في تعريفاته (المرسل من الحديث ما لم يتصل إسناده إلى الرسول الأعظم، بل إلى التابعي، وبسند التابعي إلى الرسول فلا يذكر من رواه عنه) . وقد جمع (المرسل) على (المراسل والمراسيل) . لكنه جمع على (المرسلات) حين أوقع موقع الصفة. فقد جاء في المتن (والمرسلات من الأحاديث التي تصل بإسنادها إلى التابعي، ويقول التابعي: قال رسول الله (، ولا يذكر الصاحب الذي تلقاها عنه) . وإنما كشف المراد بـ (المسندات) و (المرسلات) بذكر (الأحاديث) لعموم معنى الوصف وشموله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وأما (المصعب) فهو صفة على صيغة اسم المفعول، ويقع صفة غالبة في مثل قول الجوهري في الصحاح (والمصعب الفحل، وبه سمي الرجل مصعباً) وقول ابن دريد في الاشتقاق (واشتقاق مصعب من الفحل من الإبل، يترك للضراب ولا يستعمل..) أي اشتقاق (مصعب) اسم الرجل من (مصعب) اسم الفحل من الإبل، يترك للضراب ولا يركب. ونحو ذلك ما جاء في التاج (المصعب كمكرم، قال ابن السكيت: الفحل الذي يودع ويعفى من الركوب) . فأنت ترى أنك متى قلت (المصعب) فهم أنه الفحل المودع للضراب، فالوصف قد فارق موصوفه وأغنى مغناه واختص بدلالة فأنزل منزلة الأسماء. ومن ثم كان جمعه مصاعب ومصاعيب كما ذكره اللسان والتاج. وأصله الصفة الخالصة، كما في قول الجوهري في الصحاح (وأُصعِب الجمل فهو مصعب إذا تركته فلم تركبه.. حتى صار صعباً) . فإذا أجريت الصفة على فعلها قلت في الجمع: وأصعبت الجمال فهي مصعبات، كما تقول هذه المصعبات من الإبل. أما قولك (جمال مصاعب ومصاعيب) بذكر الموصوف قبل الصفة الغالبة، فمجيئه على حد قولك (هذه أراض صحراوات، وهؤلاء أسرى رهائن) والصحراوات والرهائن والمصاعب صفات غالبة. ومن ذلك المُذهَب وجمعه المذاهب. وقد جاء في شرح ديوان قيس بن الخطيم لابن السكيت أنها جلود فيها خطوط مذهبة بعضهاأثر بعض فكأنها متتابعة.. وهكذا جاء بالمذهب صفة غالبة تقع موقع الاسم. وقال الزمخشري (ولوح مذهب ومذهَّب، واطلب لي المذاهب، وهي السيور المموهة بالذهب، فأتى به وصفاً جارياً على فعله حين قال (لوح مذهب ومذهَّب) فدل على الأصل ثم صفة غالبة حين قال (واطلب لي المذاهب وهي السيور) فأشار بذلك إلى انتقال الوصف إلى الاسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وكذلك (المرسلة) . قال الزمخشري في الأساس (وفي عنقها مرسلة، وفي أعناقهن مراسل: قلائد) . فالمرسلة القلادة والمراسل القلائد، هذا على الصفة الغالبة. أما الصفة الأصلية فقد نبه عليها صاحب القاموس حين قال (المرسلة كمكرمة قلادة طويلة تقع على الصدر..) فأصل (المرسلة) : القلادة المرسلة أي المطلقة أو (الطويلة) على حد قول الفيروز أبادي. وقد أفرد الوصف أي (المرسلة) عن الموصوف (أي القلادة) واكتفي به اسماً للقلادة المطلقة. أيصح فيما أنزل من الصفات منزلة الأسماء أن يجمع جمع الأسماء وجمع الصفات: ويقول الدكتور ناصر الدين الأسد: (هل نستطيع أن نضيف إلى ذلك أن الصحيح في جمع الألفاظ الأخرى التي على هذا البناء، وهو مفاعل، حين تجري هذه الألفاظ مجرى الأسماء فنقول في جمع (ملحق) ملاحق، وليس ملحقات، كما أصبح حديثاً يحرص نفر من محققينا ومؤلفينا على استعماله) أقول لا يقتصر الأمر فيما أنزل من الصفات منزلة الأسماء على زنة مخصوصة كمفعل بكسر العين أو مفعل بفتحها أو مفعول أو فاعل، وإنما يجري الحكم في ذلك على إطلاقه. فأنت إذا أفردت الصفة عن موصوفها وخصصتها بدلالة نأت بها عما تدل عليه الصفة الجارية على فعلها، عوملت في الجمع معاملة الأسماء. وإذا بقيت، إلى ذلك، تمت بسبب إلى ما كانت تدل عليه هذه الصفة، صح أن تعامل في الجمع معاملة الصفات. ولنأت بأمثلة تبين عما قصدنا إليه. فـ (الملحق) إذا أردت به مسمى خاصاً بعدت به عن الأصل، فأطلقته على ما يعد ذيلاً (للمعاهدة) من شروح وشروط، قلت في جمعه (الملاحق) لأنه جرى على ما جرت عليه الأسماء من حيث انفرادها غالباً بمعنى يقصر عليها. وإذا عنيت بـ (الملحق) ما يمكن أن يكون ذيلاً يتبع أصلاً من الأصول، جمعته على (الملحقات) كما اعتاد النحاة أن يجمعوه حين يقولون مثلاً (الملحقات بلا سيما) أو (الملحقات بأفعال القلوب) أو سوى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وقد جاء في التنزيل (والمرسلات عرفاً ((المرسلات/1) . قال الزمخشري في الكشاف: (أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة أرسلهن بأوامره..) . وجاء في التاج (والمرسلات في التنزيل: الرياح أرسلت كعرف الفرس، أو الملائكة عن ثعلب، أو الخيل لأنها ترسل أي تطلق في الحلبة) ، وما دام قد صح الاستغناء بـ (المرسلات) عن موصوفها المعين ملائكة كانت أو رياحاً أو خيلاً، فلا شك أنها صفة غالبة. قال أبو حيان في البحر المحيط (8/403) : (ولما كان المقسم به موصوفات قد حذفت وأقيمت صفاتها مقامها، وقع الخلاف في تعيين تلك الموصوفات) . على أنه بقي للصفة الغالبة من عموم الدلالة، ما كان للصفة الجارية على فعلها، أو كاد الأمر أن يكون كذلك، لتعدد ما يمكن أن يكون الموصوف المحذوف، وكان هذا مرجعها جمع الصفات. وجاء في التنزيل (وأنزلنا من المُعصرات ماء ثجَّاجاً ((النبأ/ 4) . قال الجوهري في الصحاح (والمعصرات السحائب تعتصر بالمطر، وعُصر القومُ أُمطروا) . وقال الإمام البيضاوي (السحائب إذا أعصرت، أي شارفت أن تعصرها الرياح، كقولك: أحصد الزرع إذا حان أن يحصد.. أو من الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب) . وقال أبو حيان في المحيط (.. وجاء هنا من أعصر، أي دخلت في حين العصر، فحان لها أن تعصر، فعل للدخول في الشيء) . فالمعصرات صفة غالبة أنزلت منزلة الأسماء، لكنها بقيت تدل على ما دلت عليه الصفة الجارية على فعلها، سواء أكان موصوفها المحذوف سحائب أو رياحاً. ومن ثم جمعت جمع التصحيح. وجاء في التنزيل (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشِّرات ((الروم/ 46) فجاء (مبشِّرات) صفة جارية على فعلها، في موضع الحال، لكنها استعملت صفة غالبة. قال الجوهري (والمبشِّرات الرياح التي تبشر بالغيث) . ومثل ذلك ما جاء في الأساس (وهبَّت المبشرات، وهي الرياح التي تبشر بالغيث) . وجاء في فقه اللغة وسر العربية للثعالبي (المبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث، والسوافي التي تسفي التراب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 فانتقلت (المبشِّرات) بهذا من الصفة الجارية على موصوفها، إلى الصفة الغالبة المفردة عن موصوفها، فأنزلت منزلة الأسماء، وقد بقيت تدل على ما كانت تبين عنه الصفة الأصلية، فجمعت جمع التصحيح. وكذا (المعجزة) واحدة المعجزة. وهي صفة غالبة ما تزال تدل على ما هي عليه الصفة الأصلية، من قولك أعجزه الشيء إذا فاته فعجز عن الإتيان بمثله. ففي الصحاح (والمعجزة واحدة معجزات الأنبياء) . ونحو من ذلك في اللسان والتاج. وفي التعريفات (المعجزة كل أمر فارق للعادة) .. ولكن هل تقول في (المرسلات والمعصرات والمبشرات والمعجزات) : مراسل ومعاصر ومباشر ومعاصر، كما تقوله في الصفات الغالبة عامة. أقول الأصل جواز ذلك، ما لم يمنع منه ليس في المعنى، وما يشبه العموم في الدلالة. فقد جاء المراسل والمعاصر صفتين غالبتين بمعنى آخر. فالمراسل والمراسيل جمع للمرسلة وهي القلادة كما مر، والمعاصير جمع معصر من قولك أعصرت المرأة إذا أدركت فهي معصر. أما المبشرات فلا تكاد تختص بدلالة، بل لها من شبه العموم ما قرب أن تتناول به كل ما يبشر. فقد جاء في مفردات الراغب حول قوله تعالى (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات (: (أي تبشر بالمطر، وقال (وهكذا (المرسلات) التي قيل إنها الرياح والملائكة والخيل، ونحو من ذلك المعجزات التي تعني كل ما يعجز. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 ويستبين بما تقدم أن الذي عليه مدار الكلام ومتصرفه أن الشاذ المتأول يثبت الأصل الذي انزوى عنه، وينبه على أن مفارقته لهذا الأصل وانفراده عنه بالحكم، إنما كان لعلة موجبة أو مجيزة. وأنه لو أُحكمت القاعدة التي بني عليها الأصل وخصصت، ما اعتد الشاذ المتأول شاذاً. أما أن يعتمد الشاذ المتأول فترسى فيه قدم قياس ويبطل به أصل ثابت، فلا يليق أن يتخذ مذهباً بوجه من الوجوه. وإلا فهل تقول (أحداث مشاهيد وأيام معاديد وأشهر معاليم وأشياء مواضيع، وأرزاق مباسيط) أو تقول (وهؤلاء مسارير ومآسير ومشاكير ومناصير) . هذا مقتضى ما أخذ به مجمع اللغة العربية القاهري وجماعة من اللغويين المحدثين، في إطلاق جمع مفعول على مفاعيل، فكيف نسلم صحة هذا المذهب فننحو هذا النحو وننهج هذا السبيل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 القياس وصيغ المبالغة "توطئة في القياس" القياس هو حمل الفرع على الأصل لعلة جامعة بينهما، بإعطاء المقيس حكم المقيس عليه. وقد تشعبت آراء الأئمة في الأخذ به في مسائل كثيرة. فمنهم من اشتد فنهج له حدوداً ضيقة لا يعدوها، ومنهم من تعلَّق به فجرى فيه بغير عنان. وإذا كان لا بد من التوجه إلى القياس ما سمحت به طرائق العربية، لأنه المعوّل عليه في نماء اللغة وارتقائها، والسبيل إلى تسني ما تعسر فعز ماله من نادّها وشاردها، ذلك لتكفي ما تُستكفى وتؤدي ما تُستأدى من مسايرة شؤون العصر ومستحدثاته، أقول إذا صح التوجه إلى القياس ما جادت به أصول العربية، فإن ما نعنيه بالقياس هنا، هو قياس التصريف والاشتقاق، وقياس النقل والمجاز. وقد بسطنا القول في ذلك حين الكلام على تدرج المعاني والاشتقاق الصغير والكبير من فصول المجلة. أما قياس النحو الذي يُراد به الاستدلال الذهني لاستنباط القواعد وتعليلها فإن في الغلو فيه بعداً عن خصائص اللغة، ونأياً عن طبيعتها. ذلك أن في تحكيم المقاييس العقلية في كثير من مسائل النحو ما يضيِّق واسعاً ويمنع سائغاً، بل يحظر صحيحاً فصيحاً. فطرائق العربية لا تقاس بمقاييس عقلية كما تقاس مسائل المنطق وقضايا الفلسفة وعلم الكلام. وليس النحو قياساً كله. قال ابن جني في الخصائص (2/42) : (ومعاذ الله أن ندعي أن جميع اللغة تُستدرك بالأدلة قياساً. لكن ما أمكن ذلك منه قلنا ونبهنا عليه) . وليس الوجه أن يقال (النحو كله قياس) كما قال أبو البركات ابن الأنباري (ت 577هـ) في كتابه (لمع الأدلة/ 95) في الرد على من أنكر القياس. ففي كلامه سرف وإيغال اقتضاهما المناظرة والجدال من جهة، ومهد لهما تحكيم الفلسفة في النحو من جهة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 هذا ولا شك أن المستحب من قياس النحو هو ما اعتمد لوضع القاعدة واستنباط الحكم فأفاد في تهذيب اللغة وتشذيبها. والذي اتخذ لتعليل الظاهرة اللغوية فكان وسيلة إلى وعي نظم اللغة وتعليمها. ويرتكز مثل هذا القياس على ما أسموه (العلة التعليمية) و (العلة القياسية) . أما العلة التعليمية فقولك هذا مرفوع لأنه فاعل، وذاك منصوب لأنه مفعول به. وأما القياسية فالتي تقوم على اشتراك المقيس والمقيس عليه فيما تصوروا أو ظنوا أنه علة موجبة للحكم فيهما، كحملهم بناء اسم (لا) النافية للجنس، على بناء (خمسة عشر) . وتتعدد الآراء في تحديد العلة القياسية فتختلف باختلاف وجهات النظر والاعتبار. وقد تتجاذب الحكم الواحد علتان أو أكثر فيبنى على قياسين أو أكثر. كما يتأتى أن يكون حكمان متضادان في المسألة الواحدة فتقتضيهما علتان مختلفتان، فيُبنى كل منهما على قياس. كما مثل له ابن جني في الخصائص (1/171- ط 1913) . ومن ثم ذهب المجددون في النحو إلى إنعام النظر في هذه العلل، والعمل على الاهتداء إلى الأشمل منها في الحكم، والأظهر في التعليل، والألصق بالعربية. ومهما يكن من شيء فإن القياس الذي استند فيه إلى إحدى العلتين التعليمية والقياسية، إنما يجانس طبيعة اللغة وخصوصها، دون القياس الذي اعتمد على العلة الجدلية النظرية فنحا نحو الفلسفة واتسم بسمتها، وغدا صناعة أو رياضة عقلية ونشاطاً ذهنياً، بل جُعل التعليل فيه أصلاً وغاية، لا وسيلة وحاجة. وبين القياسين من التفاوت والتنافر ما لا خفاء به ولا لبس. فقولك (إن وأخواتها) أشبهت الفعل المتعدي إذا تقدم مفعوله على فاعله، فنصبت اسمها ورفعت خبرها، كما نصب الفعل مفعوله ورفع فاعله، قولك هذا تعليل قياسي. لكن إيغالك في البحث عن وجه هذا الشبه، وقولك إن (إن) تشبه الفعل لفظاً لأنها ثلاثية، ومعنى لأنها تفيد التوكيد، فإذا خُففت ذهب شبه الفعل فقل عملها، قولك هذا تعليل جدلي نظري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 هذا وقد وفق ابن جني في إنكار العلل الثواني أو علة العلل، فاعتد منها ما جاء تتميماً للعلة الأولى وشرحاً لها. لأنك إذا ابتغيت علة لكل علة فطلبت العلل الثوالث فيما بعد، أدّاك هذا إلى ما لا يُعد منها ولا يُحصى. وشيء آخر لا بد من التعويل عليه في التعليل، وهو اقتران صحة الحكم النحوي بسلامة المعنى دون التعلق بما تقتاد إليه براعة الصناعة والافتنان بها من الجدل والتأويل. كذلك كان كثير من الأوائل. وقد أراد عبد القاهر الجرجاني (471هـ) بكتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة أن يشير، فيما نبه عليه، إلى أن أصل المعنى يمكن أن يعبر عنه بطرق مختلفة وأساليب متباينة، وأن لكل عبارة من ذلك معنى تتفرد به. وليس يسوغ أن تؤدي العبارتان معنى واحداً، إلا إذا اتفقتا بنية وتركيباً من كل وجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وإذا كان ابن جني قد نبه على نحو من هذا حين قال في الخصائص (1/345) : (ووجه جوازه من قبل القياس أنك إنما تستنكر اجتماع تقديرين مختلفين لمعنيين) وقال (لكن لما اختلف المعنيان جاز أن يختلف التقديران، فاعرف ذلك) . أقول إذا كان بعض النحاة قد أشار إلى ذلك ووعاه فقد فات الكثير منهم أن يُعنوا به ويفصحوا عنه ويأخذوا بمنهاجه، فقد تنكبوا سبيل المعاني وأغرقوا في العناية بالصناعة اللفظية وقصروا الاهتمام على ضبط الأواخر. ولا يخفى أن النحو عند الأوائل هو علم العربية الذي يعرف به وجهة كلام العرب وما يقصدون إليه في التعبير عن أغراض النفس. وقد أشار إلى ذلك الأشموني حين قال (وهو العلم المستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب، الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها) كما أشار إليه ابن عصفور في المقرّب حين ذكر (أن المراد هنا بالنحو قولنا علم العربية، لا قسيم الصرف) . أما عند المتأخرين فقد غدا النحو (علم الإعراب والبناء) كما نبه عليه الصبان حين قال (واصطلاح المتأخرين تخصيصه بفن الإعراب والبناء وجعله قسيم الصرف) ، وأردف (وعليه فيعرّف بأنه علم يبحث فيه عن أحوال أواخر الكلم إعراباً وبناء، وموضوعه الكلم العربية من حيث ما يعرض لها من الإعراب والبناء) . وهكذا تحول النحو مما كان عليه من البحث في صحة تأليف الكلم للتعبير عما في النفس من أغراض، إلى البحث في ضبط الأواخر إعراباً وبناء، ضماناً لسلامة اللسان من اللحن، وبسط الكلام في عوامل ذلك والإسهاب في تعليله بالجدل النظري. فبدا النحو بذلك وقد غار ماؤه وشاه بهاؤه وساء مذاقه. وإلا فإن توكيد العناية بالمعاني كان يوجب دراسة اللفظ في تركيب الجملة بدراسة موقعه من التركيب عامة من حيث اتصاله بالأجزاء الأخرى وتأثره بها وتأثيره فيها. ثم دراسة الجملة مجتمعة الشمل من حيث صورة التعبير وأسلوبه. وقد جُرد النحو من هذا كله وخُصت به علوم البلاغة كالمعاني والبيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 وإذا كان المتأخرون قد آثروا الجملة بطرف من الدراسة فقد قصروا كلامهم في ذلك غالباً على موقعها من الإعراب. أما دراسة الجمل من حيث توظيفها في المعاني والتعبير عنها فقد بعد أن يكون من خصوص النحو وموضوعه. نشأة القياس واتساعه: إذا عدنا إلى الأوائل من النحاة رأينا أن أول من عمل بالقياس من الأئمة هو عبد الله ابن أبي اسحاق الحضرمي (ت 117هـ) . فكان أقدم من انتهج القياس وارتاح إليه وأخذ بالأكثر والأغلب. ففي طبقات الزبيدي (25) : (قال ابن سلاّم: عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي كان أول من بعج النحو ومد القياس وشرح العلل) . ونحو من ذلك في نزهة الألباء (23) لأبي البركات كمال الدين بن الأنباري. أما ما اشتهر واستفاض من أن أول خطة اتخذت لوضع النحو كانت لأبي الأسود الدؤلي الكناني (69هـ) كما جاء في مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي (ت 351هـ) والزبيدي في طبقاته (379هـ) وابن النديم في الفهرست (400هـ) وسوى ذلك، فيبدو أن هذه الخطة لم تكن تعدو عند التحقيق (نقط المصحف) . والمراد بذلك الاهتداء إلى ما اتخذ رمزاً للشكل في الرفع والنصب والجر. صوناً للسان من اللحن. وقد وفق الأستاذ أحمد أمين رحمه الله في ضحى الإسلام، حين أشار إلى ذلك، وأيده فيه الأستاذ سعيد الأفغاني في كتابه (أصول النحو) حين قال: (والشكل أعود على حفظ النصوص من حدود النحو. ولعله أعظم خدمة قدمت للعربية حتى الآن) . فالدؤلي لم يعمد إلى تأصيل الأصول النحوية وتقعيد قواعدها فيما أسموه بـ (التعليقة) . ودليلنا على ذلك هو كتاب سيبويه نفسه، وهو دليل فاصل. فقد روى سيبويه في كتابه عن الخليل غالباً كما روى عن الأخفش الأكبر، وروى عن عيسى بن عمرو عن أبي عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب. وروى عن عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي. لكنه لم يتجاوز الحضرمي إلى إمام قبله. فما الذي يعنيه هذا؟ أغلب الظن أن الحضرمي هو أول من وضع أصول النحو وقياسه فهو رأس البصرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وخلف الحضرمي أئمة أخذوا بالأكثر والأغلب وعولوا على القياس كعيسى بن عمر (149هـ) وأبي عمرو زبَّان بن العلاء (154هـ) ويونس بن حبيب (182هـ) . ثم جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي (175هـ) وهو يعد بحق عميد النحاة (فهو الذي بسط النحو ومد أطنابه وسبب علله وفتق معانيه.. واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه. ولقنه من دقائق نظره ونتائج فكره ولطائف حكمته، فحمل ذلك عنه وتقلده، وألَّف فيه الكتاب الذي أعجز من تقدم وامتنع على من تأخر بعده) كما ذكره الزبيدي في (مختصر كتاب العين) . وقد شف عمل الخليل حقاً عن عبقرية نادرة فاختط للنحو نهجاً لغوياً سليماً، وألَّف في اللغة فكان فسيح الخطوة بعيد الغور، في معجمه الفريد كتاب العين، بل رصد الأصوات اللغوية وصفاتها فكان له فيها رأي متقدم حصيف، وتعلق بموسيقا الشعر وكشف عن لطافة الحس فاتخذ لأوزان الشعر ستة عشر بحراً. ثم توالى الأئمة فجاء الأخفش الأكبر عبد الحميد بن عبد المجيد (177هـ) فروى عنه سيبويه. وهو لم يعرف بأنه من أهل القياس والتعليل، فإذا عمد إليهما كان أدنى إلى خصوص اللغة ومراعاة سلامة المعنى في تعدد وجوه الإعراب. وجاء سيبويه عمرو بن عثمان (180هـ) فطلع على الملأ بكتابه الفذ، يعوّل فيه على الأكثر والأغلب. ينهج طريق القياس والتعليل ويعلِّم البحث فيهما كما يعلِّم النحو. وقد اختلف سيبويه إلى مجلس أستاذه الخليل، وأقبل عليه وأطال التلقي عنه، فلفت نظر أستاذه فكان محل عنايته وموضع اختصاصه. استوفى سيبويه ما أُملي عليه رواية ورأياً وتعليقاً وشرحاً ففاضل ووازن وأحكم الرأي فأدى فأحسن التأدية وكان صادقاً فيما أداه. وجاء الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة (215هـ) وتضاربت فيه الآراء وتدافعت، وقد امتدحه الكوفية. والثابت أنه كان من الحفاظ النقلة، لكنه كان يتكسب بعلمه.. واشتهر قطرب محمد بن أحمد بكتابه العلل في النحو (206هـ) ، والمازني أبو عثمان بكتابيه علل النحو والتصريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 ثم اتسع القياس وجعل ينحو نحو المنطق والفلسفة كما تجلى ذلك عند المبرّد أبي العباس بن أبي يزيد (285هـ) وقد خلَّف الكامل والمقتضب، والزجاج أبي اسحاق (311هـ) فألف الاشتقاق والأمالي، وابن السراج أبي بكر (316هـ) وقد وضع الأصول وتلمذ للمبرد وصادق الفيلسوف الفارابي وكان قوي الصلة به فتلمذ له في المنطق، كما تلمذ الفارابي لصاحبه في النحو. وقد أخذ عن هؤلاء أبو سعيد السيرافي (368هـ) وله شرح الكتاب، وعلي بن عيسى الرماني (348هـ) وله التفسير، وأبو علي الفارسي (377هـ) وله الإيضاح والتكملة، وأبو الفتح عثمان بن جني (392هـ) وله الخصائص وسر صناعة الإعراب والمحتسب. وقد استفاضت شهرة ابن جني فسبق أقرانه وشآهم شأواً فبلغ الذروة في الأصالة وكان إماماً مقدماً في القياس. وعُرف من أئمة القياس بعد أبي علي وأبي الفتح جار الله أبو القاسم محمد بن عمر الزمخشري صاحب الكشاف والمفصَّل (538هـ) وابن الشجري هبة الله أبو السعادات العلوي صاحب الأمالي (542هـ) وأبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن الأنباري صاحب المصنفات النفيسة، لا سيما الاعراب في جدل الإعراب والإنصاف في مسائل الخلاف ولمع الأدلة (577هـ) والعكبري عبد الله بن الحسن صاحب اللباب وإعراب القرآن وتفسيره (616هـ) . *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 هذا وإذا كان الحضرمي هو رأس البصرية (117هـ) فقد اختلف فيمن يمكن أن يكون رأس الكوفية فقد جاء في المظان أن بعض أئمة البصرة قد هجروها إلى الكوفة فأقاموا بها، وكان أشهر هؤلاء أبو جعفر الرؤاسي محمد بن أبي سارة (190هـ) وهو أول من وضع كتاباً في النحو من أهل الكوفة فأخذ عنه الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة (189هـ) وهو إمام الكوفية، كما كان الخليل إمام البصرية، وأخذ عن الرؤاسي الفرّاء أبو زكريا يحيى بن زياد (207هـ) ، وهو علم الكوفية بعد الكسائي. وإذا قال سيبويه (قال الكوفي) فقد عنى الرؤاسي هذا. وبذلك يمكن أن يعد الرؤاسي رأس الكوفية مع عمه معاذ بن مسلم الهرّاء مبدع علم التصريف، وقد عمر طويلاً (189هـ) . قال الفيروز ابادي في البلغة: (أبو جعفر الرؤاسي أستاذ أهل الكوفة في العربية) . وإذا كان الكسائي قد نهج حدود المذهب الكوفي في التعويل على النقل خلافاً للبصرية في اعتمادها على النظر العقلي فإن الفراء قد شايع الكوفي فيما استن من أصول، ولو خالفه في كثير من المسائل، بل دافع عن النهج الكوفي حتى غدا وكأنه أمام الكوفية. وهكذا قد استمسك بالرواية وأبى للنحوي أن ينهج نهج المتكلمين والمناطقة والمتفلسفين. وكان القرآن مادته الأولى في روايته، فبدا أميناً على خصوص اللغة وطبيعتها، كما كان ثعلب أبو العباس أحمد بن يحيى (291هـ) من بعده مخلصاً لهذا النهج مردداً لأقول الفراء، محتجاً بآرائه، غير عابئ بالتعليل. ولم يعرف عن ثعلب أنه حاول فلسفة اللغة أو منطقة النحو، كما حاول البصريون وخصمه منهم، وهو المبرّد. ويُعزى إلى ثعلب الفضل في إشاعة المذهب الكوفي والتبشير به، كما يُعزى إلى المبرّد دعوته إلى البصرية وبراعته في الإغراء بها. قياس البصرة وقياس الكوفة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 هذا وإذا كان البصريون قد عُنوا بالقياس ومضوا فيه وأوغلوا حتى تجاوزوا طبيعة اللغة وخصوصها، فقد كان للكوفيين أصولهم وقياسهم وعللهم. وهم لم يقتصروا على الوصف دون الاستدلال والاعتلال. ولا ننسَ قول الكسائي: إنما النحو قياس يُتبع وبه في كلِّ أمر ينتفع بل لا ننس منزلة الفراء في التعليل والقياس، وقد اعتمد الكوفيون على السماع والقياس، كما فعل البصريون، وكان أوائلهم أعنى بالسماع منهم بالقياس، وأشد حرصاً على الوصف منهم على التعليل، كما كان أوائل البصريين أنفسهم. وإذا كان الكوفيون لم يدركوا شأو البصريين في الأخذ بالقياس، وكانوا أدنى إلى القصد منهم إلى الإيغال، فليس صحيحاً أنهم عولوا على كل مسموع. ولو صح أن الكوفيين يعملون بكل شاذ ويقيسون عليه، لما استقام لهم أصل أو حكم أو قياس. وإني لأستشرف قول الأستاذ أحمد أمين، رحمه الله، في كتابه ضحى الإسلام (2/259) : (أما الكوفيون فلم يروا هذا المسلك، ورأوا أن يحترموا كل ما جاء عن العرب، ويجيزوا للناس أن يستعملوا استعمالهم، ولو كان الاستعمال لا ينطبق على القواعد العامة. بل يجعلون الشذوذ أساساً لوضع قاعدة عامة) ، أقول إني لأستكثر هذا القول ولو شد منه قول السيوطي في بغيه الوعاة (إن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلاً ويقيس عليه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ذلك أن الكوفية إنما تجيز استعمالاً قد يند عن قواعد البصرية ويشرد عليها، ولكنها لا تقر استعمالاً يخرج عن قواعدها هي. وقد يكون في ضوابط البصرية ما يمنع مسموعاً، وفي ضوابط الكوفية ما لا يطرحه ولا يأباه. ذلك أن مذهب الكوفية أكثر تشعباً وأوسع رواية، ومذهب البصرية أوسع قياساً وأضيق رواية. على أن اتساع القياس البصري المبني على العلل العقلية المنطقية قد يمنع السائغ، ويضيق عن المسموع. وهذا ما دعا المتأخرين من النحاة ألا يجروا على منهاجهم أو يأخذوا أخذهم. قال أبو حيان (نحن لم نتعبد بمذهب البصرية وإنما نتبع الدليل) . وقال في البحر المحيط (2/363) : (والقراءات لا تجيء على ما علمه البصريون ونقلوه) . وقال: (4/271) : (هؤلاء النحاة يسيئون الظن بالقراءة، ولا يجوز لهم ذلك) . وقال أبو عمرو الداني في جامع البيان (وأئمة القراء لا تعتمد في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل. والرواية إذا ثبتت لا يردها قياس عربية ولا فشوّ لغة) . وقال الشيخ عبد العظيم الزرقاني في كتابه (مناهل العرفان 415) : (فإذا ثبتت قرآنية القرآن بالرواية المقبولة، كان القرآن هو الحكم على علماء النحو، وما قعَّدوا من قواعد..) . وهكذا تحلل ابن مالك وابن هشام فيما اجتهدا فيه، من حدود البصرية في كثير من الأحيان ولو تهيأ للنحو من الأئمة من استنوا بهذه السنة ونهجوا هذا السبيل فتمنعوا على المتابعة والمشايعة، وفازوا من التعبد بمذهب مخصوص، ونجوا مما لا تحتمله طبيعة اللغة، أو يأباه خصوصها من الجدل، وعنوا بنحو الكوفية كلما أوغلت البصرية في التعليل فتنكبت الجادة، وعولوا على القرآن وآثروا ما جاء فيه على كل مروي، لكان لهم خطة سديدة سوية في التجديد والإحياء. الظاهرية والقياس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 إذا كانت هناك طائفة قد مجَّت القياس فهي الظاهرية. لكنها أنكرته في الفقه خاصة. وقد بدا أن بعض النحاة قد دعوا إلى ذلك في النحو أيضاً. والمذهب الظاهري في الأصل مذهب فقهي دعا إليه في القرن الثالث الهجري أبو داود بن علي بن خلف البغدادي إمام أهل الظاهر في المشرق وتولى الدعوة إليه والاحتجاج له والمنافحة عنه في القرن الخامس الهجري الإمام علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، معتقداً أن القرآن إنما يجب أن يُحمل على ظاهره ولا يحال عن ظاهره البتة، اللهم إلا أن يأتي نص أو إجماع أو ضرورة حس على أن شيئاً منه ليس على ظاهره، وأنه نقل من ظاهره إلى معنى آخر. فالانقياد حينئذ واجب لما يوحيه ذلك النص والإجماع والضرورة. وقد جاء تفصيل ذلك في كتب ابن حزم الأندلسي لا سيما (إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل) . ابن مضاء والقياس: عاش ابن مضاء في القرن السادس الهجري فبدا أنه اتخذ مذهبه في النحو على مثال مذهب الظاهرية في الفقه. أي أنه أنكر القياس كما أنكرته وعوَّل على النص كما عوّلت عليه، وذلك في كتابه الشهير (الرد على النحاة) ، لكن هذا لا يتسنى في الأصل لأن في علل النحو من فسحة النظر ما لا تتسع له علل الفقه أحياناً كثيرة. كأن يكون البحث في علة مناسك الحج وترتيبها، وفرائض الصلاة وعدد ركعاتها فتجد مرد وجوبها إلى ورود الأمر بها بحكم الشريعة، أي بالنص. قال ابن جني في الخصائص (1/52-ط /1913م) : (فأول ذلك أنا لسنا ندّعي أن علل العربية في سمت العلل الكلامية البتة، بل ندّعي أنها أقرب إليها من العلل الفقهية) . وأردف: (وإذا حكمنا بديهة العقل وترافعنا إلى الطبيعة والحس، فقد وفينا الصنعة حقها، وَرَبأنا بها أفرع مشارفها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 أقول إنما ثار ابن مضاء على النحاة وعاف مذهبهم في (العامل) لغلوّهم في التعليل، فاستبعد الجدل النظري والحجاج الفلسفي، وكل ما ينأى باللغة عن طبيعتها وينحرف عن خصوصها، وعوّل على النص وأغفل القياس من هذه الجهة. لكن ابن مضاء قد أخذ نفسه بنوع من القياس، ذلك أنه أقرّ (العلّة) وأبى (علَّة العلَّة) أو العلل الثواني والثوالث، كما أنكرها ابن جني نفسه، وإقرار (العلة) يدعو إلى البحث في العلة الجامعة والتماس القياس الذي لا بد منه. وإلا فكيف يمكن أن تنهض لغة لا يعمل قياس على رسم ضوابطها وشرع حدودها، ويمهد لها سبيل التوليد والنماء ومذاهب الاتساع والارتقاء. القياس والسماع: إذا كان التعويل على السماع مرده في الأصل إلى الحرص على ضبط اللغة وكفالة سلامتها أيام كان يعمل الأئمة على حصرها وتدوينها، فينبغي ألا يكون حائلاً دون ما يمكن أن يلتمس فيه علة جامعة فيبنى عليه قياس، في كل ما تدعو إليه حاجة التعبير والاصطلاح فتأذن به طرائق النقل والمجاز وسبل التصريف والاشتقاق. وإلا كان السماع قيداً يحجر اللغة عن التوالد والانبساط ويقصر خطاها عن استجابة أو مؤاتاة. ولا خفاء بأن سبل التصريف وضوابط الاشتقاق لا يشوبها من سرف التعليل في ذكر الأسباب ومسبباتها ما يشوب القياس في قواعد النحو. ومن ثم لم يفضِ التعويل عليها على شيء مما آل إليه الإغراق في قياس النحو وتعليله، من النأي باللغة عن خصوصها وتحيِّف طبيعتها والانزواء بها عن سبيل المعاني إلى الافتنان بصناعة الإعراب، حتى انقبض هذا الإعراب عن أن يكون دليل المعاني وسبيل الإبانة والإفصاح. وقد أخذ مجمع اللغة القاهري بقياس التصريف والاشتقاق هذا في مؤتمراته حين أجرى القياس في كثير من المشتقات على ما ذكرناه ونذكره في أبوابه. القياس في صيغ المبالغة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 هذا بحث طريف قلما خاض فيه الباحثون. إذ لم يصرح الأئمة الأوائل بقياس اشتقاق صيغ المبالغة ولم يشر إليه ابن مالك في ألفيته حين قال: فعَّال أو مفعال أو فعول في كثرة عن فاعل بديل فيستحق ماله من عمل وفي فعيل قلّ ذا وفَعِل فأنت ترى أن ابن مالك لم ينبه على قياس اشتقاق صيغ المبالغة هذه. وكل ما عناه هنا أن صيغ (فعَّال ومفعال وفعول) تنوب كثيراً عن (فاعل) للدلالة على المبالغة وتعمل عمله، وقلَّ ذلك في (فعيل وفَعِل) . وقال الإمام الأشموني في شرح ما تقدم من قول ابن مالك (3/114) : (أي كثيراً ما يحوّل اسم الفاعل إلى هذه الأمثلة لقصد المبالغة والتكثير فتستحق ما كان له من عمل) . فقال الإمام الصبَّان في تعليقه على هذا (قوله فتستحق ما له من عمل يفيد أن جميع الأمثلة الخمسة تعمل قياساً، وهو الأصح) . فتبين بهذا أن الذي عناه الأئمة هنا، هو قياس عمل صيغ المبالغة الخمس، كعمل اسم الفاعل. وسكتوا عن قياس اشتقاقها. هذا والكوفيون على عدم إعمال صيغ المبالغة وتأويل ما عمل منها على تقدير فعل، خلافاً للبصريين. فقد أجمع هؤلاء على إعمال الصيغ الثلاث الأولى قياساً، واختلفوا في الصيغتين الأخيرتين. وأكثر المتأخرين من الأئمة على قياس إعمالها جميعاً، كما ذهب إليه سيبويه. وإذا تجاوزنا الصيغ الخمس إلى سواها فالأكثرون على أن إعمالها سماع. فـ (فِعِّيل) بكسر الأول وتشديد الثاني، وهو من صيغ المبالغة، قال بعضهم بقياس إعماله، وأنكره كثيرون، وحملوا ما عمل منه على السماع. قال الإمام الصبان (3/115) : (في الفارض ما نصه: زاد ابن خروف إعمال فِعيِّل كزيد شرّيبٌ الخمرَ بالنصب، فأجازه أيضاً ابن ولاّد، وحكاه أبو حيان) . وأردف الصبَّان قائلاً (وشِرّيب من المبالغة سماعاً..) أي أن إعمال شِرّيب سماع لا قياس، خلافاً لما ذهب إليه في الصيغ الخمس المتقدّمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 هذا عن قياس الأعمال. أما عن قياس الاشتقاق فقد استنبط بعض الباحثين المحدثين من سكوت العلماء عن التصريح بقياس اشتقاق صيغ المبالغة، إلى أن صوغها سماع. فقال الشيخ مصطفى الغلاييني في كتابه (جامع دروس اللغة العربية –1/86) : (مبالغة اسم الفاعل ألفاظ تدل على ما يدل عليه اسم الفاعل بزيادة ... ولها أحد عشر وزناً.. وأوزانها كلها سماعية فيحفظ ما ورد منها ولا يقاس عليه) . وقال الشيخ أحمد الحملاوي في كتابه (شذا العرف/ 78) : (وقد تُحوّل صيغة فاعل للدلالة على الكثرة والمبالغة في الحدث إلى أوزان خمسة مشهورة تسمى صيغ المبالغة، وهي فعَّال ومفعال وفعول وفعِيل وفَعِل.. وقد سمعت ألفاظ للمبالغة غير تلك الخمسة) . فلم يشر إلى قياس. وقال الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه (القياس) : (ويقوم مقام اسم الفاعل فعَّال ومفعال وفعول وفعيل وفَعِل، وهذه المسمَّاة عندهم بأمثلة المبالغة نحو نظار ومنحار وصبور وعليم وحذر) ، والمنحار كثير النحر، وأردف (ومن علماء العربية من يذكرها ويضرب لها الأمثال ويبسط أو يوجز في الخلاف الجاري في إعمالها عمل اسم الفاعل. ولا يأتي على ناحية القياس في اشتقاقها بعبارة صريحة. ومنهم من يصرّح بصحة القياس في بناء فعَّال خاصة، كما في روح الشروح على المقصود. ووجه هذا المذهب أن صيغة فعَّال وردت في مقدار من الكلم الفصيح يكفي لصحة القياس عليه) . وهكذا أشار إلى اهتمام العلماء بإعمال الصيغ دون اشتقاقها. قياس الإعمال يقتضي قياس الاشتقاق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 والذي عندي أنه إذا أنعمنا النظر في كلام ابن مالك، ألفينا أنه يشير إلى كثرة تحويل (فاعل) إلى فعَّال ومفعال وفعول، من صيغ المبالغة، وقد أوجب ذلك أن تنوب منابه في تأدية عمله عند إرادة التكثير. فانظر إلى قول الإمام الأشموني (أي كثيراً ما يحوّل اسم الفاعل إلى هذه الأمثلة بقصد المبالغة والتكثير) . أفلا تستوجب كثرة التحويل هذه دعوى القياس في اشتقاق صيغ المبالغة، كما استحقت قياس إعمالها!. قال الشيخ محمد الخضر حسين في مقال آخر له في مجلة المجمع القاهري (2/54) : رجعنا إلى كتب الصرف فوجدنا كثيراً منها لا يتعرض لصيغة فعَّال من ناحية أنها قياسية أو سماعية، ولا يزيد على أن يذكر أنها صيغة تأتي بدلاً من اسم الفاعل للدلالة على المبالغة في معنى الفعل، ووجدنا طائفة يتعرضون لمجيء فعَّال ومفعال وفعول بدلاً من اسم الفاعل ويصفونه بالأكثر، كما قال الأشموني في شرح الخلاصة) . وأردف: (ووجدنا طائفة ثالثة تصرّح بأن الصيغ الخمس: فعَّالاً ومفعالاً وفعولاً وفعيلاً وفَعِلاً، المأخوذة من فعل متعد، قياسية. قال الشيخ الدنوشري: يُنظر هل التحويل إلى الخمسة المذكورة قياسي أو سماعي، أو قياسي في الثلاثة الأولى: فعال ومفعال وفعول، سماعي في الأخيرتين: فعيل وفَعِل، ثم قال: مذهب البصريين منقاسة في كل فعل متعد ثلاثي: نحو ضرب، تقول: ضَرّاب ومضراب وضروب وضريب وضرب) على ما جاء في حواشي ياسين على التصريح. فأنت ترى أن الإمام الدنوشري قد نبه على قياس الاشتقاق في صيغ المبالغة الخمس، بل جعل ذلك مذهب البصريين. قال الشيخ محمد الخضر حسين في التعليق على كلام الإمام الدنوشري (وهذا النص يدل على أن صوغ فعَّال من الفعل المتعدي قياسي كسائر أبنية المبالغة) . ولكن ما وجه قول الإمام الدنوشري بقياس صوغ أبنية المبالغة الخمسة من كل فعل متعد، بل ما وجه دعواه أن هذا هو مذهب البصريين ولم يصرح به أحد منهم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 لم يعرض الشيخ محمد الخضر حسين لهذا، على حين أشار أن كتب الصرف لم تصرّح بمثل هذا القياس، فما توجيه قول الإمام الدنوشري إذاً؟ أقول إن البصريين قد قالوا بقياس إعمال صيغ المبالغة الخمس، ومنهم من اقتصر على الثلاث الأولى منها. على أن أخذهم بالقياس في إعمال هذه الثلاث قد بُني على الكثرة في تحويل (فاعل) إليها، وإعمالها عمله. ولما ارتبط إعمالها بتحويلها، فقد أصبح الحكم بالقياس في إعمالها صراحة، مقتضياً الحكم بالقياس في تحويلها ضمناً. وكأن هذا ما حمل الدنوشري على أن يقول (مذهب البصريين منقاسة في كل فعل متعد ثلاثي نحو ضرب، تقول: ضرّاب ومضراب وضروب وضريب وضَرِب) . ويسدد ما ذهبنا إليه أنهم كلما قالوا بقياس إعمال طائفة من صيغ المبالغة، مضوا في اشتقاق هذه الصيغ من فعل واحد. فانظر إلى قول ابن الحاجب في الكافية (وما صيغ منه للمبالغة كضرّاب وضروب ومضراب، وعليم وحَذِر) فقد قال ابن الحاجب بقياس إعمال الصيغ الثلاث الأولى، ومضى في اشتقاقها من (ضَرب) نفسه، فقال (كضرّاب وضروب ومضراب) ، على حين ذهب إلى إعمال صيغتي (فعيل وفَعِل) سماعاً، فاشتق كلاً منهما، من فعل، فقال (وعليم وحَذِر) . قال الرضي في شرح قول ابن الحاجب (2/202) : (أبنية المبالغة العاملة اتفاقاً من البصريين ثلاثة. وهذه الثلاثة مما حُوّل إليها أسماء الفاعلين من الثلاثي عند قصد المبالغة) . أفلا يعني إيراد الصيغ الثلاث من (ضرب) نفسه، القولَ بقياس تحويل (ضارب) إليها، أي اشتقاقها من (ضرب) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وقد ذهب الشنتمري إلى قياس إعمال الصيغ الخمس جميعاً، كما فعل سيبويه، فقال: (لأنه –أي حَذِر- مُغَيَّر من بنائه للتكثير، كما كان ضروب وضرّاب وغيرهما من الأمثلة) . فـ (الأمثلة) هنا هي (الصيغ) كما وردت في كلام الأشموني والصبان وسواهما. قال ابن هشام في شرح شذور الذهب (392) : (الثالث من الأسماء العاملة عمل الفعل: أمثلة المبالغة، وهي عبارة عن الأوزان الخمسة المذكورة محوّلة من صيغة فاعل بقصد إفادة المبالغة والتكثير) . فقول الشنتمري (كما كان ضِروب وضرّاب وغيرهما من الأمثلة) يعني (كما كان ضروب وضرّاب ومضراب وضريب وضَرِب) أي على وفق ما جاء في كلام الدنوشري. إذا صح القياس في إعمال فعيل وفَعِل فلا يصح القياس في اشتقاقهما: مر بنا أن أخذ الأئمة بالقياس في إعمال صيغ المبالغة الثلاث الأولى مرده إلى كثرة تحويل (فاعل) إليها وإعمالها عمله، وأن الكثرة في تحويلها إذا كان قد أتاح القياس في إعمالها فلا شك أنه يأذن بالقياس في اشتقاقها أيضاً. على أن سيبويه ومن تبعه من البصريين قد قالوا بقياس إعمال (فَعِل وفعيل) من صيغ المبالغة، على قلة ما حوّل من فاعل إليهما للمبالغة. وقد أصار هذا بعض البصريين إلى أن يقولوا بالسماع في إعمالهما. واستشهد سيبويه بصحة إعمال (فَعِل) وقياسه بقول الشاعر: حَذِرٌ أموراً لا تضير وآمن ما ليس مُنجيَه من الأقدار قال الإمام الشنتمري (1/58) : (الشاهد فيه نصب أمور بحَذِر لأنه تكثير حاذر. وحاذر يعمل عمل فعله المضارع فيجري حذر عند سيبويه مجراه في العمل لأنه عنده مُغيَّر من بنائه للتكثير، كما كان ضروب وضرّاب وغيرهما من الأمثلة) ، وأردف: (وقد خولف سيبويه في تعدّي فَعِل وفعيل لأنهما بناءان لما لا يتعدّى كبطر وأشر، وكريم ولئيم. وسيبويه رحمه الله لا يراعي في موافقته بناء ما لا يتعدى، إذا كان منقولاً عن فاعل المتعدي للتكثير وهو القياس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 ففحوى المسألة أن (حذراً) لو أتى من (لازم) لكان صفة مشبهة، كما مثل الشنتمري لهذا بـ (بطِر وأشِر) . والأكثر في (فَعل) أن يأتي من لازم ويكون صفة مشبهة. وكذا الأصل في (فَعيل) ، وقد مثل له الشنتمري بـ (كريم ولئيم) . لكن حذراً وقد عمل في المفعول قد أتى من متعد لإيقاع الفعل على جهة التكثير. فهو محوّلٌ إذاً من (حاذر) اسم الفاعل، عامل عمله كضروب وضرّاب. ولا تمنع قلة إعمال (فَعل وفعيل) من الحكم بقياس الإعمال فيهما لأنهما تفرعا في العمل على أصل، وإن ضاق مسراه. وسيبويه قد بنى على (شنوءة وشَنَئي) ولا مثيل له، إجراء لـ (فَعولة) مجرى (فعيلة) لمشابهته إياها، فقال (حلوبة وحلبي وركوبه ورَكبي) . قال ابن جني في الخصائص (ط- 1913- 1/121) : (وتفسيره أن الذي جاء في فعولة هو هذا الحرف والقياس قابله، ولم يأت شيء ينقضه. فإذا قاس الإنسان على جميع ما جاء، وكان أيضاً صحيحاً في القياس مقبولاً، فلا غرو ولا ملام) . وقد مثل النحاة لإعمال (فعيل) بـ (شبيه) . وهو في معنى (المشبه) . وقد جاء من فعل متعد هو (أشبه الشيءُ الشيءَ فهو مشبهٌ إياه) . فإذا أردت أن توقع به فعلاً لإرادة التكثير كان محولاً من اسم الفاعل عاملاً عمله. قال الشاعر: فتاتان أما منهما فشبيهة هلالاً وأخرى منهما تشبه البدرا ومعناه هما فتاتان أما واحدة منهما فشبيهة هلالاً فأعمل صيغة المبالغة وهو شبيهة إعمال اسم الفاعل (مشبهة) فنصب بها المفعول به وهو قوله (هلالاً) . وقد مثلوا لإعمال (فعيل) بـ (أكيل) أيضاً. قال حاتم الطائي: إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 واختلف النحاة في (أكيل) ، فمن قدّر في معناه المبالغة جعله محوّلاً عن (آكل) . ومن رأى أنه (المؤاكل) اعتده صفة للثبوت على (فعيل) بمعنى مفاعل. وهكذا نذير بمعنى منذر. قال صاحب المغني (وأما قوله تعالى نذيراً للبشر، فإن كان النذير بمعنى المنذر فهو مثل فعال لما يريد، وإن كان بمعنى الإنذار فاللام مثلها في سقيا لزيد) . *** على أن هذا الذي اعتمده سيبويه في القول بقياس إعمال (فَعِل وفعيل) لا يقتضى القول بالقياس في اشتقاقهما. فالقياس في الإعمال إنما بني على القليل لأنه أصل، أما القياس في الاشتقاق فليس له ما يسنده من أصل أو كثرة. ذلك أن الأصل في الوصف إذا كان على (فَعِل) أن يشتق من فعل لازم على (فَعِلَ) بفتح فكسر، فيكون صفة مشبهة على الثبوت. وقلما يكون صيغة مبالغة تشتق من متعد لإرادة إيقاع الحدث على جهة التكثير. وكذلك (فعيل) فبابه إذا كان بمعنى الفاعل أن يكون صفة مشبهة تشتق من (فعُل) بالضم أو (فَعِل) بالكسر، وهما لازمان. أو يكون بمعنى المفاعل كالجليس والأكيل والنديم بمعنى المجالس والمؤاكل والمنادم، وهذه لا تعمل باتفاق. ويندر أن يأتي لإيقاع الحدث من متعد على جهة التكثير ليعد صيغة مبالغة كعليم من عالم، وكرحيم من راحم عند من رأى أنه للمبالغة كما ذكره ابن يعيش في شرح المفصل (6/71) وأبو البقاء في كلياته (2/371) ، وقد ذهب هذا في موضع آخر إلى أنه صفة مشبهة من رحُم بالضم، معدولاً به عن رحِم بالكسر. وقد قالوا بمبالغة نذير وسميع وأليم وشبيه من منذر ومُسمع ومؤلم ومشبه وهو نادر أيضاً. ومن ثم كان القياس في إعمال (فَعِل وفعيل) لإيقاع الحدث على جهة التكثير صيغتين للمبالغة لا يستدعي قياساً في اشتقاقهما. صيغة فعَّال في المبالغة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 هذا وإذا ثبت القول بالقياس في اشتقاق فعال وفعول ومفعال، فإن (فعَّالاً) هو أكثرها شيوعاً. وقد جاء للمبالغة والكثرة، كما جاء للصناعة والاحتراف والملازمة. والأصل أن يكون اشتقاق هذه الصيغ من المتعدي كما يكون من اللازم لأنها محولة من فاعل، وفاعل يأتي من لازم ومتعد. وقد أقر مجمع اللغة العربية بالقاهرة في مؤتمره صوغ (فعَّال) من كل ثلاثي متصرف طرداً لما سمع من ذلك. فقد جاء في مجلته (2/35) : (يصاغ فعَّال للمبالغة من مصدر الفعل الثلاثي اللازم والمتعدي) ، وهو رأي حسن. وقد ذكر الشيخ محمد الخضر حسين كثيراً مما جاء على (فعَّال) من لازم كـ (الأفاك والأوّاب والبخَّال والبسَّام والتواب والتياه والثواب والحنان والحلاف والخناس والدراج والرقاص والرواغ والسباع والسجاح والسراج والكذاب والسياح والسقاط والشفاف والصخاب والصياح والضحاك والعوام والغواص والقوام والمزاح والمشاء والمكار والمياس والميال والنباح والنهاض والنوام والهطال والوثاب والوضاح والولاج والوقاع ... ) . ومن هذا (نعَّار وسعَّاء) . قال الجوهري في الصحاح: (يقال ما كانت فتنة إلا نعر فيها فلان، أي نهض فيها، وإن فلاناً لنعَّار في الفتن، إذا كان سعاء فيها) . وفي الألفاظ الكتابية لابن السكيت نحو من ذلك (136) . وقد جاء (صفاق وأفَّاق) : والأول من (صفق) . قال صاحب المصباح (وصفقت له بالبيعة صفقاً ضربت بيدي على يده. وكان العرب إذا وجب البيع ضرب أحدهما يده على يد صاحبه. ثم استعملت الصفقة في العقد) . والثاني من (أفق) . قال الجوهري: (ويقال أفق إذا ذهب في الأرض) . وفي النهاية لابن الأثير (وفي حديث لقمان: صفَّاق أفَّاق، هو الرجل الكثير الأسفار والتصرّف في التجارات) . صيغة فعَّال في الصناعة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وقد استعمل العرب صيغة (فعَّال) في قصد آخر يناسب المبالغة والكثرة، وهو الصناعة والاحتراف وملازمة الشيء، فقالوا (الجمَّال والقصَّاب والخراط والدلال والسياف والعطار والحداد) ونحو ذلك، فما الذي قاله الأئمة في صوغه؟ صرح كثير من الأئمة بقياس (فعَّال) في هذا الباب، وهو باب النسب إلى الصناعة قال صاحب الهمع (2/198) : (ومنها الإغناء عن ياء النسب بصوغ فعَّال من الحرفة كخباز وقزاز وسقاء وبناء وزجاج وبزاز، ويقال خياط ونجار..) وقال (وقد يقوم فعَّال مقام فاعل كنبال بمعنى نابل، أي صاحب نبل. وقد يقوم فاعل مقام فعال كحائك في معنى حواك لأن الحياكة من الحرف ... ) وأردف (وكل هذا موقوف على السماع ولا يقاس شيء منه وإن كان قد كثر في كلامهم. قال سيبويه: فلا يقال لصاحب البر برار ولا لصاحب الشعير شعار ولا لصاحب الدقيق دقاق ولا لصاحب الفاكهة فكاه) . واستدرك فقال (والمبرد يقيس باب فاعل وفعال لأنه في كلامهم أكثر من أن يحصى) . ولم يستبعد ابن يعيش قياس (فعال) هذا، فقال في شرح المفصل (وكثر فعال حتى لا يبعد دعوى القياس فيه، وقل فاعل، فلا يمكن دعوى القياس فيه) . وقد أخذ مجمع اللغة العربية بالقاهرة بقياس (فعال) للصناعة فقال: (يصاغ فعال قياساً للدلالة على الاحتراف وملازمة الشيء. فإذا خيف لبس بين صانع الشيء وملازمه، كانت صيغة فعال للصانع، وكان النسب بالياء لغيره. فيقال زجَّاج لصانع الزجاج، وزجاجي لبائعه) . وقد عاب الأستاذ أسعد خليل داغر على الأب أنستاس ماري الكرملي قوله (بياع سماد) ، قال والصواب (بائع) . فاحتج الأب لورود (بياع) في مستدرك التاج، وفي مقدمة الأدب للزمخشري. واحتج الدكتور مصطفى جواد بالقياس فأحال داغراً على قول ابن عقيل (يصاغ للكثرة فعال ومفعال وفعول وفعيل وفعل، فتعمل عمل الفعل على حد اسم الفاعل) ، كما جاء في كتاب أغلاط اللغويين القدماء للأب الكرملي. فما الرأي في هذا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 صواب المسألة عندي أن (البياع) صيغة للاحتراف أو النسب إلى الصناعة، وقد استظهر الدكتور مصطفى حداد بقول ابن عقيل في صيغ المبالغة لا في النسب. وليس في قول ابن عقيل هنا ما يحتج به أصلاً لأن كلامه على قياس الأعمال في صيغ المبالغة ولم يصرح بقياس الاشتقاق. ولو أخذ جواد بقول ابن عقيل في (فعال) الذي هو للنسب، لجاز ذلك منه. قال ابن مالك: ومع فاعل وفعَّال فَعِل في نسب أغنى عن اليا فقُبل وغير ما استَلفتَه مقرراً على الذي يُنقل منه اقتصرا فقال ابن عقيل: (باب ما جاء من المنسوب مخالفاً لما سبق تقريره فهو من شواذ النسب التي تحفظ ولا قياس عليها) . وقال الأشموني: (يعني أن ما جاء من النسب مخالفاً لما تقدم من الضوابط شاذ، يحفظ ولا يقاس عليه) . وإذا كان فحوى ذلك أن ما جاء على فاعل وفعال وفَعل، قد جاء على ضابط وأنه مقبول. وأن ما سواه مما لم يوقف فيه على ضابط فإنه شاذ لا يقاس عليه. أقول إن هذا لا يعني أن ما جاء على هذه الصيغ مقيس بالضرورة، لكن المبرد كما رأيت قد قال بقياس (فعال) على ما جاء في الهمع، وأشار إليه الأشموني بقوله (والمبرد يقيس هذا) أي يقيس فعالاً، كما ذكر ابن يعيش في شرح المفصل أن كثرة فعال تؤذن بقياسه. هذا وقد ذكر سيبويه والثعالبي (البياع) فيما جاء على (فعال) . قال سيبويه في الكتاب (2/261) : (ومما تُمال ألفه قولهم كيال وبياع) . وجاء في فقه اللغة في فصل (أسماء فارسية منسية وعربيتها محكية مستعملة/ 450) قول الثعالبي (المساح والبياع والدلال والصراف والبقال والجمال والقصاب والفصاد والخراط) . وذكر الأشموني (البياع) في كلامه فقال (قالوا لبياع العطر ولبياع البتوت وهي الأكسية عطار وعطري، وبتَّات وبتي) . صيغة فعول في المبالغة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 أخذ مجمع اللغة العربية بالقاهرة بقياس اشتقاق (فعول) للمبالغة من المتعدي واللازم حين الحاجة، وهو رأي صائب. وقد تقدم أن من الأئمة البصريين من يقول بقياس اشتقاقه. ويؤيد قياس (فعول) ما جاء في التاج (والمعقرب: النَّصور، كصبور من الصبر للمبالغة، المنيع.. قال شيخنا، ولو قال الناصر البالغ المنعة كان أدل على المراد وأبعد عن الإبهام، لأن بناء فعول من نصر، ولو كان مقيساً، لكنه قليل الاستعمال، ولا سيما في مقام التعريف لغيره) . فدل كلامه على أن صوغ (فعول) قياس، على كل حال. وإذا كنا قد أبينا (فعيلاً) للمبالغة من لازم، فإن مجيء (فعول) منه، سائغ متقبل. وقد أحصى الأستاذ محمد شوقي أمين عضو مجمع اللغة العربية القاهري، مما جاء على فعول وهو من اللازم، مائة مثال أو يزيد، كما جاء في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق (لشهر نيسان 1955م) . ولكن ما بال اسم المبالغة (فعول) هذا لا يتسع للازم ويضيق عنه اسم المبالغة (فعيل) فلا يأتي إلا من متعد. أقول الأصل في (فعيل) أن يكون صفة مشبهة، وهو مبني غالباً على (فعُل) بالضم، ولا يكون هذا إلا لازماً. فإذا خرج عن بابه إلى المبالغة لإيقاع الفعل على جهة التكثير فلا بد أن يبنى على غير اللازم. أما (فعول) فالأصل أن يكون لإيقاع الفعل على جهة التكثير، ولا يقتضي حاله هذا أن يختص بلازم أو متعد، كما اقتضى حال (فعيل) في الأصل. ومن ثم اتسع لهما جميعاً وكثر ما جاء منه. بل من هنا ضاق مسرى (فعيل) إذا كان للمبالغة فقلّ تحوله عن اسم الفاعل. وقد أحصى الدكتور إبراهيم أنيس عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة في معجم الفيروزابادي (379) مثلاً لفعول، على حين لم يقع على أكثر من (147) مثالاً، من مفعال، كما جاء في مجلة المجمع القاهري الثامنة عشرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 ومن نافلة القول أن يكون (فعول) للمبالغة سواء بُني على متعد أو لازم، لكنه هل يحتمل أن يكون صفة مشبهة إذا كان من لازم؟ عندي أنه لا يتأتى هذا إلا بشرط واحد. فقد جاء النص على أن (فعولاً) ، من صيغ المبالغة، وأنه يستوي فيه التذكير والتأنيث ما دام بمعنى الفاعل، وإنه لكذلك. فأنت تقول رجل صبور وامرأة صبور ورجل غيور وامرأة غيور. فلا مساغ إذن لأن يكون صفة مشبهة، لأن النص على أن الصفة المشبهة لا يستوي فيها المذكر والمؤنث. لكنه إذا أتى من فعول ما أُنث بالتاء شذوذاً قيل إنه صفة مشبهة. هذا و (فعول) محمول على (الاسمية) لعدم بنائه على صيغة فعلية خاصة به. قال ابن سيده في المخصص (16/138) : (اعلم أن فعولاً إذا كان بتأويل فاعل لم تدخله تاء التأنيث إذا كان نعتاً لمؤنث. تقول امرأة ظلوم وغضوب وقتول. ومعناه امرأة ظالمة فصرف عن فاعلة إلى –فعول- فلم تدخله هاء التأنيث لأنها لم تبن على الفعل) وأردف (وذلك أن فاعلاً مبني على –فعَل- ومُفعلا مبني على –أفعل- وفعيلاً مبني على فعُل، وفعِلاً مبني على فعِل. فلما لم يكن لفَعول فعلٌ تدخله تاء التأنيث تُبنى عليه، لزمه التذكير لهذا المعنى. فإذا كان فعول بمعنى مفعول دخلته التاء ليفرقوا بين ماله الفعل وبين ما الفعل واقع عليه) . فالأصل في التاء الفارقة أن تدخل على الفعل. وتدخل اسم الفاعل والمفعول لمشابهتهما الفعل لفظاً ومعنى. وحملت الصفة المشبهة على اسم الفاعل والمفعول لمشابهتها إياهما. وفحوى كلام ابن سيده أن ما كان من الصفات بتأويل (فاعل) لحقته التاء إذا بني على فعل يختص به غالباً، كما اختص (فاعل) بفعَل، ومُفعل بأفعل. وفعيل بفعُل، وفعِلٌ بفعِل، وفعال بما بني عليه (فاعل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 أما (فعول) فلم يختص بفعل يغلب عليه بناؤه. لتدخله التاء كما تدخل الفعل الذي بني عليه. والواقع أنه قد سمع (فعول) مبنياً على فعَل وفعِل لازمين ومتعدّيين وعلى فعُل ولا يكون إلا لازماً. أما فاعل فقد ذهب الجمهور إلى أن بناءه من الأصل على (فعَل) لازماً ومتعدياً، و (فعِل) متعدياً. فقد قال العرب (فعول) من فعُل كنزور من نزر إذا قل فقيل امرأة نزور قليلة اللبن، ولم يسمع نازر لأن فاعلاً لا يبنى على فعُل. وقيل كسول من كسِل، وحصور من حصِر ورؤوم من رئم وفروق من فرق ولم يُسمع في معناها (فاعل) لأن فاعلاً لا يُبنى عند الجمهور على فعِل لازماً. وقد أدى هذا إلى كثرة (فعول) في المبالغة. قال الدكتور إبراهيم أنيس عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة في مجلة المجمع (18/82) : (والذي يبعث على الحيرة هو التسوية بين هاتين الصيغتين: فعول ومفعال، في فكرة القياسية، رغم أن ما ورد من أمثلة فعول في المعاجم العربية يكاد يبلغ ثلاثة أمثال ما ورد فيها من صيغة مفعال. ففي إحصاء سريع من قاموس الفيروزابادي تبين لنا أن عدد أمثلة فعول –379- على حين أن عدد أمثلة مفعال –147-) . فإذا كانت فعول للمفعول ألحقت بها التاء فرقاً بينها وبين ما هو للفاعل. عدو على صيغة فعول: هذا وقد جاء في التنزيل (إن هذا عدوٌ لك ولزوجك –طه/ 117) فما القول (عدو) هذا؟ بحث صاحب المغني (عدواً) في الآية، كما بحث (أكيلاً) في قول الشاعر: إذا ما صنعتِ الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي قال ابن هشام (1/177) : (وفيه نظر لأن عدواً وأكيلاً، وإن كانا بمعنى معاد ومؤاكل، لا ينصبان المفعول، لأنهما موضوعان للثبوت وليسا مجاريين للفعل في التحرك والسكون، ولا محولان عما هو مجار له. لأن التحويل إنما هو ثابت في الصيغ التي يراد بها المبالغة) وأردف (وإنما اللام في البيت للتعليل وهي متعلقة بالتمسي، وفي الآية متعلقة بمستقر محذوف صفة لعدو، وهي للاختصاص) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 يريد صاحب المغني أن ينفي عن (عدو) و (أكيل) صيغة المبالغة في الآية والبيت، وهو يرى أن العدو والأكيل بمعنى المعادي والمؤاكل. وما جاء بمعنى مفاعل كجليس ونديم وسمير لا يعمل باتفاق. ومن ثم لم تكن اللام في العبارتين للتقوية. وإنما هي في (عدو لك) للاختصاص، وفي (فالتمسي له أكيلا) للتعليل. وعلق الشيخ محمد الأمير على كلام ابن هشام فلم ير بأساً في أن يكون (عدو) في الآية، و (أكيل) في البيت، للمبالغة، بل رأى أن المعنى يؤيد هذا، وخالفه فيه الشمني. وعندي أن المعول الأول في الحكم ها هنا، على الدلالة. فأقرب شيء يمكن أن يرد إليه (عدو) هو عَدا عَداءً. والعَداء هو الظلم كما جاء في الأفعال لابن القوطية، لكنه هو العداوة أيضاً. قال الجوهري في الصحاح (العادي: العدوّ) . فإذا كان (عدو) مبنياً على (عدا) اللازم، فينبغي أن يكون صيغة مبالغة من لازم محولاً من (عادِ) ، هذا هو الأصل. قال ابن السكيت (فعول إذا كان في تأويل فاعل كان مؤنثه بغير هاء نحو رجل صبور وامرأة صبور) . إلا أن يكون (عدوّ) هذا مؤنثه (عدوة) فيكون صفة مشبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 قال ابن السكيت: (إلا حرفاً واحداً جاء نادراً قالوا هذه عدوة الله) . ومعنى هذا أن الأصل في (فعول) أن يكون صيغة مبالغة يستوي فيه التذكير والتأنيث، فإذا أنث كان شاذاً. ولا يعني شذوذه هذا اقترانه بتاء التأنيث فحسب، وإنما يعني إلى ذلك صيرورته صفة مشبهة. ولم أر من صرح بهذا، غير أنه جاء في المصباح قول للأزهري (إذا أريد الصفة قيل عدوة) . وقد يتسامح الأئمة حيناً فيقحمون (فعولاً) في الصفات المشبهة. فقد اعتد ابن الحاجب في الشافية (فعولاً) زنة من زنات الصفات المشبهة، ومثل له بـ (غيور) من غار يغير لازماً على فَعِلَ بالكسر، ووقور من وقُر يَوقُر لازماً على فَعُلَ بالضم، ولم يعرض الرضيّ في شرحه لهذين المثالين (1/143-148) . وقد حكى الشيخ مصطفى الغلاييني (غيوراً) صفة مشبهة في كتابه جامع دروس اللغة العربية، كما جاء محمد أحمد المكاوي الأستاذ بكلية الدراسات العربية بجامعة القاهرة في كتابه التطبيقات العربية بـ (وقور) صفة مشبهة. والذي يفهم من كلام الأئمة أن (فعولاً) كغيور ووقور صيغة مبالغة لا صفة مشبهة، ولو التبس ما بُني من (فعول) من الفعل اللازم بالصفة المشبهة لتقارب دلالتيهما فصيغة المبالغة تدل على التكثير والصفة المشبهة تدل على الثبوت. إذ كيف يتفق أن يكون الأصل في الصفات المشبهة أن تدخلها التاء الفارقة، وأن يكون الأصل في (فعول) بمعنى الفاعل ألا تدخله هذه التاء، ثم يكون فعول صفة مشبهة. وليس هذا حسب، بل كل ما ذكروه مما دخلته التاء من فعول هو (عدو) . إذ جاء في كلام الصفدي على لامية العجم (2/276) : (لم يأت فعول بهاء إلا في عدوة) . وإذا كان قد شذ من الصفة المشبهة صفات استوى فيها التذكير والتأنيث فقد جاء هذا من (فعيل) بمعنى الفاعل، وهو أصل في الصفة المشبهة كبعيد وقريب وصديق وكفيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ففعول إذن صيغة مبالغة لا صفة مشبهة. وهو محمول على الاسمية لا على الوصفية، فجمعه جمع الأسماء لا جمع الصفات، ويستوي فيه التذكير والتأنيث خلافاً للصفات المشبهة. ولو قالت العرب (غيورة ووقورة) لاختلف الحال. قال سيبويه (2/208) : (وأما ما كان فعولاً فإنه يكسر على فعُل عند جمع المؤنث أو جمع المذكر.. وأما ما كان وصفاً للمؤنث فإنهم قد يجمعونه على فعائل.. وكما كسروا الأسماء وذلك قدوم وقدائم وقدُم) وأضاف: (وليس شيء من هذا وإن عنيت به الآدميين يجمع بالواو والنون، كما أن مؤنثه لا يجمع بالتاء، لأنه ليس فيه علامة التأنيث، لأنه مذكر الأصل) . وقال في موضع آخر (2/209) : (كما كسر فعول على فعُل فوافق الأسماء) . وقال الرضي في شرح الشافية (2/133) : (وحق باب عدو أن يجمع بالواو والنون، لكنه استعمل استعمال الأسماء فكسر تكسيرها) . وإذا حققنا في جمع (عدو) ألفيناه يجمع جمع الصفات فيكون هذا جمع (عدو) الذي يؤنث بالتاء لأنه صفة مشبهة. ويجمع جمع الأسماء فيكون هذا جمع (عدو) اسم المبالغة الذي يستوي فيه التذكير والتأنيث. أما جمع الصفات فهو (الأعداء) . وجمع (أفعال) هذا يجمع عليه الاسم ولكن يجمع عليه الصفة أيضاً. فقد جاء في الهمع (2/174) : (أفعال يطرد في اسم ثلاثي لم يطرد فيه أفعل ... والوصف كجلف وأجلاف وحر وأحرار.. وكذا غير الثلاثي كشريف وأشراف) . فكأنهم حملوا الصفة من فعول وهو (عدو) الذي يؤنث، على الصفة من فعيل كشريف فقالوا (أعداء) كما قالوا (أشراف) ، وكثيراً ما حمل فعول على فعيل. أما جمع الأسماء فهو (العدى) بكسر العين وضمها. وهو جمع للأسماء دون الصفات. فقد جاء في المصباح أن فعِلاً أو فُعلاً ليس جمعاً للصفات وإنما هو جمع للأسماء، قال: (لأن باب عنب مختص بالأٍسماء ولم يأت منه الصفات إلا قوم عدى، وضم العين لغة فيه) وعدوّ هذا الذي يجمع على عِدى هو اسم مبالغة ولو عد وصفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 أما قولهم (العُداة) فهو جمع (عاد) كقضاة جمع قاض وغزاة جمع غاز. وأما الأعادي فهو جمع الجمع، ولو التبس أمر هذه الجموع في كثير من نصوص المعجمات والأمهات اللغوية. هذا ويحمل (عدو) الصفة المشبهة على لازم، والذي هو اسم مبالغة على (متعد) . قال القرطبي في قوله تعالى (اهبطوا بعضكم لبعض عدو- البقرة/ 36) : (والعدو خلاف الصديق، وهو من عدا إذا ظلم. وذئب عَدَوان يعدو على الناس) فبناه من لازم. وقال (وقيل هو مأخوذ من المجاوزة من قولك لا يعدوك هذا الأمر أي لا يتجاوزك..) فبناه من متعد. ونحو من ذلك ما جاء في البحر المحيط لأبي حيان. صيغة مِفعال في المبالغة: إذا كان الأئمة قد ساووا بين مفعال وفعَّال وفعول في قياس الإعمال، فلا شك أن فعالاً وفعولاً أثبت في دعوى القياس من (مِفعال) . فقد صح أن ما جاء من (فعول) من أمثلة المبالغة يكاد يبلغ ثلاثة أمثال ما ورد منها على صيغة (مفعال) . ومفعال هذا محمول على الاسمية كفعول، إذ يستوي فيه التذكير والتأنيث خلافاً لـ (فعال) . قال ابن سيده في المخصص (16/135) : (اعلم أن مفعالاً يكون نعتاً للمؤنث بغير هاء، لأنه انعدل من النعوت انعدالاً أشد من انعدال صبور وشكور، وما أشبههما من المصروف عن جهته، لأنه شبِّه بالمصادر لزيادة هذه الميم فيه، ولأنه مبني على غير فعل ويجمع على مفاعيل ولا يجمع المذكر بالواو والنون ولا المؤنث بالألف والتاء إلا قليلاً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 ويأتي ابن سيده بأمثلة من (مفعال) فيقول: (فمن ذلك قولهم امرأة مبساق إذا وقع اللبن في ثديها. وكذلك الناقة. والشاة مذكار ومئناث إذا كان من عادتها أن تلد الإناث والذكور ومحماق إذا ولدت الحمقى، ومكياس تلد الأكياس) . والأكياس جمع كيِّس على زنة جيد، وهو الفطن الظريف الحسن الفهم. وأردف (ومنجاب تلد النجباء.. ومتئام إذا كان من عادتها أن تلد اثنين اثنين ... وامرأة مبهاج غلبت عليها البهجة، ومغناج من الغنج.. ومعطار متعطرة.. ومعطاء من العطية، ومهداء من الهدية، ومكسال من الكسل، وكذلك الذكر..) . وثمة منعاس من النعاس.. ومهراس كثيرة الأكل، ونخلة مبكار تبكر بالحمل ومئخار خلاف ذلك. وأرض مبكار وممراح ومنبات كثيرة الإنبات، ومعشاب كثيرة العشب. وسحابة مغزار كمدرار. هذا وقد رد ابن سيده مجيء (مفعال) للمؤنث والمذكر إلى أنه شبه بالمصادر لزيادة الميم فيه. وقال سيبويه إنه جمع جمع الأسماء كما جمع فعول لأنهما تشابها في استواء التذكير والتأنيث فيهما. فقد جاء في الكتاب (2/209) : (وأما ما كان مفعالاً فإنه يكسر على مثال مفاعيل كالأسماء وذلك لأنه شبه بفعول، حيث كان المذكر والمؤنث فيه سواء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وجاء ابن طلحة في كلامه على تفاوت الدلالة في صيغ المبالغة، برأي جدير بالنظر. فقد ذكر السيوطي في الهمع (2/97) : (وادعى ابن طلحة تفاوتها في المبالغة أيضاً، ففعول لمن كثر منه الفعل، وفعال لمن صار له كالصناعة، ومفعال لمن صار له كالآلة، وفعيل لمن صار له كالطبيعة، وفعِل لمن صار له كالعادة) . فإذا صح هذا كان فعال في المبالغة فرعاً على فعال في الاحتراف، فدخلت تاء التأنيث في الفرع حملاً على الأصل. وكان أصل (مفعال) للمبالغة مفعالاً للآلة، فامتنع تأنيث الأول حملاً على أصله أيضاً. أما فعيل وفعِل فهما في الأصل صفتان مشبهتان استعيرتا للمبالغة فعوملتا في التذكير والتأنيث معاملة الصفة المشبهة. أما (فعول) فهو أصل في المبالغة لمن يكثر منه الفعل. وقد عُدل به عن فاعل لكنه لم يطرد اشتقاقه في بناء من أبنية الفعل كما اطرد اسم الفاعل والصفة المشبهة، فخالفهما وحمل على الاسم فاستوى فيه التذكير والتأنيث. فاستبان بهذا أن العرب قد جعلت (مفعالاً) اسماً للآلة، فأطلقت (المحراك) مثلاً على العود الذي تتحرك به النار، و (المجداف والمجذاف) بالدال والذال، على الخشبة الطويلة يسير بها الملاح قاربه، ثم استعارت هذه الصيغة لمن كان عمله أو صفته كالآلة كثرة واستمراراً. قال صاحب الكليات أبو البقاء (398) : (مفعال لمن اعتاد الفعل حتى صار له كالآلة، وهذا الوزن يأتي لاسم الفاعل لغرض التكثير والمبالغة كالمفضال) . ونحو ذلك (مِفعَل) بكسر الأول، فهو في الأصل لـ (اسم الآلة) ثم استعمل للمبالغة أيضاً. قال زاهر التيمي: ومِحَشِّ حرب مُقدم متعرّض للموت غير معرّد حيَّاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 قال المرزوقي في شرح الحماسة (يقال حششت النار إذا جمعت الحطب إليها وهجتها، كأنه جعله آلة في حش نار الحرب، لأن المفعَل للآلات) . وقال في قول الشاعر (مِسعر لحروب..) (المسعر الذي كأنه آلة في إيقاد الحرب) . وقد قالوا: امرأة مغشم ورجل مغشم للذي لا يثنيه شيء عما يريد لشجاعته، وامرأة مِكز ملازمة للخصومة. صيغة فُعله للمبالغة: فُعله بضم ففتح تأتي للفاعل وتكون للمبالغة وتصاغ من لازم ومتعد بل تبنى حيناً على غير فعل. قال ابن السكيت في إصلاح المنطق (176) : (اعلم أن ما جاء على فُعله بضم الفاء وفتح العين من النعوت، فهو في تأويل فاعل، وما جاء على فُعلة ساكنة العين فهو في معنى مفعول به) . وقال ابن سيده في المخصص (16/171) : فُعَلَة مما يجري على الفعل أو يفارقه) . ومما جاء على فُعَلَة: رجل نكحة كثير النكاح، وعُرقة كثير العرق، ومسكة بخيل، ونتفة للذي ينتف من العلم شيئاً ولا يستقصيه، وحولة محتال، وخُدعة كثير الخداع، وخرجة وُلَجه أي متصرف، وهُزأة يهزأ بالناس وسخرة بهم وضحكة يضحك بهم، وهُمزة لمزة يهمز الناس ويلمزهم أي يعيبهم، وخذلة يخذلهم وكذبة يكذبهم، وصُرعة شديد الصراع، وضجعة قعدة نومة كثير الاضطجاع والقعود والنوم خامل، وتكأة كثير الاتكاء ولعبة كثير اللعب، وهزرة كثير الكلام، وأمنة يثق بكل أحد. وامرأة طُلعة كثيرة التطلع، وأكلة شربة كثير الأكل والشرب وسؤلة كثير السؤال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وعقد الأستاذ عطية الصوالحي عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة فصلاً حول (فُعلة) تقدم به إلى مؤتمر المجمع في دورته الرابعة والثلاثين، تضمن اقتراحاً بإطراد صوغ (فعلة) بضم الفاء وفتح العين للدلالة على الكثرة، وقد خلصت لجنة الأصول من بحثها إلى أنه (يجوز أن يصاغ من الفعل الثلاثي القابل للمبالغة صيغة على وزن فعلة بضم الفاء وفتح العين كضحكة وصفاً للمذكر والمؤنث للدلالة على التكثير والمبالغة. وإذا أدى الصوغ من المعتل اللام إلى لبس، وجب التصحيح، فيقال سُعية من سعى، ودُعوة من دعا) . ومعنى قوله (وإذا أدى الصوغ من الفعل..) أن فُعَلَة من سعى (سُعية) قبل الإعلال، على أن من حق الياء فيه أن تُعل فتقلب ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فيصبح اللفظ (سُعاة) ، فيقع اللبس بين فُعلة المصوغ من سعى وهو (سُعاة) وبين جمع (ساع) وهو سُعاة أيضاً. ولذا يُستغنى عن الإعلال ويبقى النعت على (سُعية) بالياء المفتوحة دون إعلال دفعاً للبس، وكذلك الأمر في (دُعوة) . صيغة فِعِّيل للمبالغة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 أخذ مجمع اللغة العربية بالقاهرة بقياس (فعيل) بكسر الأول وتشديد الثاني، ولم يقل بهذا أحد من القدماء، بل حذَّر بعضهم من قياسه. فقد جاء في المزهر للسيوطي 2/96) : (قال ابن دريد في الجمهرة جاء من الأول: رجل سِكير دائم السكر، وخمِّير مدمن على الخمر، وفسيق فاسق، وخبِّيث من الخبث، وحدِّيث حسن الحديث، وزاد الفارابي في ديوان الأدب: شريب المولع بالشراب، وخريب الدليل، وصميت دائم الصمت..) ، وأردف: (قال ابن دريد في الجمهرة بعد سرده هذه الألفاظ: اعلم أنه ليس لمولد أن يبني فعيلاً إلا ما بنته العرب وتكلمت به. ولو أجيز لقلب أكثر الكلام، فلا تلتفت إلى ما جاء على فعيل مما لم تسمعه إلا أن يجيء فيه شعر فصيح) . وقد جاء ذلك في الجمهرة لابن دريد (3/375) في باب ما جاء على فعيل. أقول إذا كثر مجيء (فعِيِّل) للمبالغة وكان أصلاً في هذا المعنى، فأي بأس بأن نأخذ بقياسه. قال الدكتور إبراهيم أنيس في مجلة المجمع القاهري (18/85) : (وقد أمكن لنا في إحصاء سريع أن نجمع من معجم لسان العرب ومحيط الفيروزابادي نحو –71- مثالاً، رويت عن العرب القدماء هي صدّيق وصريع وشريب وقليب..) . أما تحذير ابن دريد من الأخذ فيه بالقياس فقد يُرى دليلاً على كثرة ما جاء منه واجتراء بعضهم على الأخذ فيه بالقياس وإلا فما وجه تحذيره هذا لو كانت الأمثلة من (فعيل) نادرة في الأصل لا تؤذن بدعوى القياس فيه، ولا تُغري أحداً بالصوغ على مثاله. وقد جاء في قرار مجمع اللغة العربية بالقاهرة (في اللغة ألفاظ على صيغة فعيل من مصدر الفعل الثلاثي اللازم والمتعدي للدلالة على المبالغة، وكثرتها تسمح بقياسيتها. ومن ثم يجوز أن يصاغ من مصدر الفعل الثلاثي لازماً ومتعدياً، لفظ على صيغة فعيل بكسر الفاء وتشديد العين لإفادة المبالغة) (مجلة المجمع القاهري للدورة-33) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 و (فعيل) أصل في هذا الباب، فمعظم ما جاء منه، إنما هو للمبالغة، وجاءت على هذه الزنة أسماء قليلة. قال الدكتور إبراهيم أنيس بعد أن عدد (71) مثالاً من (فعيل) وقع عليها في معجم اللسان والفيروزابادي -وكلها تفيد المبالغة في الفعل- (وورد أيضاً في اللسان والمحيط نحو -20-مثالاً من هذه الصيغة تعبر عن أسماء الأشياء. ولعلها كانت في وقت من الأوقات صفات) . من ذلك (القليب) اسم للذئب، وكأنه سمي بذلك لتقلبه وخداعه. ففي الجمهرة (وقليب من أسماء الذئب لغة يمانية) . وكذلك (العرِّيس) فهو اسم لموضع الأسد الذي يعتاده، وهو من عرّس بالشيء إذا لزمه. وعرّس القوم نزلوا من السفر للاستراحة. ومن ذلك (سجين) في قوله تعالى (إن كتاب الفجَّار لفي سجِّين- المطففين/7) ، فقد جاء في اللسان (قيل إن كتابهم في حبس لخساسة منزلتهم عند الله عز وجل) ، وجاء فيه (هو فِعيل من السجن كأنه يُثبت من وقع به فلا يبرح مكانه) . هذا وفعيل أصل في المبالغة، ولم يذكر فيما استوى تذكيره وتأنيثه، فهو كالصفة المشبهة تلحقه التاء ويجمع جمع تصحيح. قال سيبويه (2/209) : (وأما الفعيل فنحو شريب وفسيق، تقول شريبون وفسيقون) . *** هذا ما رأينا تفصيله وبسط القول فيه حول القياس عامة، وقياس الاشتقاق في صيغ المبالغة خاصة. ونرجو ألا نكون قد أسهبنا إلا فيما مست الحاجة إلى الإسهاب فيه، تبييناً لما استقر في هذا الباب من ضوابط كان لا بد في الكشف عنها وانقياد ما تصعَّب منها، من تقصي القول واستيفاء الشاهد وإقامة الدليل، بما لا يخرج الفصل عن غرضه. ومن الله العون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 التفاعُل والمفَاعَلة عند النحاة اتفق لنا، في فصل سابق، البحث في المفاعلة من مصادر أفعال المشاركة، فعمدنا إلى تفصيل الكلام في بنيتها اللفظية ومختلف دلالاتها، ووجوه لزومها وتعدّيها، وسنجلو البحث هنا في زنة أخرى، من المصادر، تقترن بها وتمت إليها، وهي التفاعل، فنكشف عما بينهما من نسبة قد تعني التكامل حيناً، لكنها لا توجب ذلك كل حين. التفاعل والمفاعلة: يرد التفاعل للمشاركة، كما ترد المفاعلة، فيشترك جانبا التفاعل في إيقاع الفعل كل على الآخر، في مثل قولك (تضارب خالد وصالح) . ولكن إذا كانت المفاعلة، في مثل قولك (ضارب خالد صالحاً) تعني اشتراك الأول، أي خالد، في الفاعلية لفظاً ومعنى، والمفعولية معنى، واشتراك الثاني، أي صالح في المفعولية لفظاً ومعنى، والفاعلية معنى، فإن كلاً من جانبي التفاعل، في قولك (تضارب خالد وصالح) شريك في الفاعلية لفظاً ومعنى، وفي المفعولية معنى، ولا فرق بين التفاعل والمفاعلة بعد، في إفادة كونهما لاثنين فأكثر، ما داما للمشاركة. وإذا كانت المفاعلة تتعدى إلى واحد، كالمضاربة في قولك (ضارب خالد صالحاً) فإن التفاعل منها لا يتعدى إلى شيء، في مثل قولك (تضارب خالد وصالح) لانتقال المفعول الذي كان للمفاعلة، وهو (صالح) إلى الفاعلية في التفاعل. وإذا كانت المفاعلة تتعدى إلى اثنين، كقولك (نازع خالد صالحاً الأمرَ) فإن التفاعل منها يتعدى إلى ثاني المفعولين وحده، وهو المفعول المزيد في المنازعة، أي (الأمر) فنقول (تنازع خالد وصالح الأمر) ، ويرتفع المفعول الأول، وهو (صالح) داخلاً في الفاعلية. ما يعنيه التفاعل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 ولا يشترط في (التفاعل) أن يفيد التشارك فقد يفيد المطاوعة في مثل قولك باعدته فتباعد، والمطاوعة هنا قبول أثر الفعل، وقد يفيد إظهار ما ليس واقعاً نحو تجاهل وتغافل أي أظهر الجهل والغفلة من نفسه، وهما منتفيان لديه. ومنه تحالمت. قال ابن قتيبة في أدب الكاتب: "وليس تفعّلت في هذا بمنزلة تفاعلت. ألا ترى أنك تقول تحالمت فالمعنى أنك أظهرت الحلم، ولست كذلك. وتقول تحلّمت فالمعنى أنك التمست أن تصير حليماً/ 350". وكذلك تمارض وتغابى، أي تظاهر بالمرض والغباء. وهكذا تعامى، قال الحريري في مقامته البرقعيدية: عن الرشد في أنحائه ومقاصده ولما تعامى الدهر وهو أبو الورى ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده تعاميت حتى قيل إني اخو عمي وأخذ الزمخشري في المفصّل بقياس تفاعل إذا أريد به ما ليس واقعاً لكثرة ما جاء منه بهذا المعنى. وقد استعمل الجاحظ (تحاذق) في رسائله في ذم أخلاق الكتّاب فقال: "فإن أحدهم يتحاذق عند نظرائه بالاستقصاء على مثله". ولم يسمع عن العرب (تحاذق) ، فإذا صح هذا كان قولهم (تعالم) إذا أظهر العلم صحيحاً قياساً على تجاهل. ومما يفيده التفاعل وقوع الحدث تدريجاً كتفاقم الأمر وتواردت الإبل وهكذا تزايد وتنامى وتكاثر وتعاظم وترافد ونحو ذلك تهافت أي تساقط قطعة قطعة، كما في الصحاح. وهكذا يصف امرؤ القيس نفسه في نزعه فيقول: فيالكِ نُعمى قد تحولتِ أبؤسا وبُدّلت قُرحاً دامياً بعد صحة ولكنها نفس تساقط أنفسا فلو أنها نفس تموت سوية أي تتساقط أنفساً. وقد يعني التفاعل مجرد وقوع الحدث كتخاطأ بمعنى أخطأ، تقول تخاطأته النبُل أي تجاوزته وتعدته فلم تصبه. وجاء في أدب الكاتب لابن قتيبة: "وتأتي تفاعلت وتفعّلت بمعنى، تقول تعطيت وتعاطيت وتجوزت عنه وتجاوزت عنه وتذأبت الريح وتذاءبت، أي جاءت مرة من ها هنا ومرة من ها هنا/350". بناء التفاعل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 تقول تفاعل تفاعلاً، بضم العين في المصدر كتنازع تنازعاً بضم الزاي في المصدر. فإذا كان الفعل ناقصاً كتجافى يتجافى تجافياً، جاء المصدر بكسر العين أي كسر ما قبل الياء ليجانس الياء. وهكذا التحامي والتفاني والتصابي والتواني ... ومثل ذلك ما جاء على (التفعل) بتشديد العين كالتمني والترجي والتوقي والتجني. قالوا جاءت العين مكسورة لمجانسة الياء في المصدر الناقص، بدلاً من الضم الذي هو الأصل، لأنك لو ضممت عين الناقص قبل الياء لانقلبت الياء واواً وانضمام ما قبلها، فعدلوا عن الضم إلى الكسر ليسلم بناء الياء من القلب. وقد شذ من مصادر التفاعل (التفاوت) . قال الجوهري في الصحاح: "وتفاوت الشيئان أي تباعد ما بينهما تفاوتاً بضم الواو. وقال ابن السكيت: قال الكلابيون في مصدره تفاوتاً ففتحوا الواو. وقال العنبري: تفاوتاً فكسر الواو. وحكى أبو زيد أيضاً تفاوتاً بفتح الواو وكسرها، وهو على غير قياس ... " ويبقى التفاوت بالضم هو الأصل، أما التفاوت بالكسر أو الفتح فهو أثر مما خلفته العربية في طور من أطوارها، قبل أن تستقر فتنتهي إلى الضم. وإذا كان فاء (التفاعل) قريباً في المخرج من تاء (تفاعل) كحرف الثاء مثلاً، جاز أن تقلب التاء ثاء للتخفيف فتدغم فيها فيسكن أول المثلين في المدغم فتجتلب همزة الوصل ليمكن الابتداء بالساكن، فتقول (آثاقل) بتشديد الثاء بوزن (افَّاعل) بتشديد الفاء، مقلوباً من (تثاقل) ، كما كان (افَّاعل) بتشديد الفاء مقلوباً من (تفاعل) . وقد جاء في التنزيل: "يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثَّاقلتم إلى الأرض –التوبة /39". قال البيضاوي في تفسيره: "وقرئ تثاقلتم على الأصل". وفي الأساس "واثَّاقل إلى الدنيا أخلد إليها". وتثاقل عنه تباطأ كما في القاموس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وجاء على ذلك (ادّارأ) بتشديد الدال وأصله (تدارأ) قلب فيه (تفاعل) إلى (افَّاعل) بتشديد الفاء. قال الجوهري في الصحاح: "الدرء الدفع ... وتدارأتم وادّارأتم بتشديد الدال تدافعتم واختلفتم". وجاء في التنزيل: "وإذا قتلتم نفساً فادّارأتم فيها، والله مُخرج ما كنتم تكتمون –البقرة/72". قال البيضاوي في تفسيره: "فادّارأتم فيها: اختصمتم في شأنها، إذ المتخاصمان يدفع بعضهما بعضاً، أو تدافعتم بأن طرح كل قتلها عن نفسه إلى صاحبه، وأصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال، واجتلبت لها همزة الوصل". وقال أبو البقاء العكبري في إعراب القرآن: "فادارأتم، أصل الكلمة تدارأتم، ووزنه تفاعلتم، ثم أرادوا التخفيف فقلبوا التاء دالاً لتصير من جنس الدال التي هي فاء الكلمة فيمكن الإدغام. ثم سكنوا الدال، إذ شرط الإدغام أن يكون الأول ساكناً فلم يمكن الابتداء بالساكن فاجتلبت له همزة الوصل، فوزنه الآن افَّاعلتم بتشديد الفاء مقلوب من تفاعلتم..". وجاء (ادّارك) بتشديد الدال، وأصله (تدارك) . ففي التنزيل: "كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا ادّاركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا- الأعراف/37". ومعنى (ادّاركوا فيها) تلاحقوا، كما في الجلالين. قال أبو البقاء العكبري: "يقرأ بتشديد الدال وألف بعدها، وأصلها تداركوا فأبدلت التاء دالاً وأسكنت ليصح إدغامها ثم اجتلبت لهذه همزة الوصل ليصح النطق بالساكن..". وجاء في التنزيل كذلك: "بل ادّارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عَمون- النمل/66". وقد جاء في تفسير الجلالين: " ... ادّارك بتشديد الدال وأصله تدارك، أبدلت التاء دالاً وأدغمت في الدال واجتلبت همزة الوصل، أي بلغ ولحق أو تتابع وتلاحق..". وقد جاء من ذلك اتّابعوا واصّابروا واضّاربوا واسّاقطوا واشّاجروا واذّاكروا واجّاوروا (شرح الشافية /371) واصّالحوا، كما في الصحاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 ويجري مثل هذا الإبدال والإدغام في (تفعَّل) أيضاً. ومن ذلك: اطيَّر واسَّمع واصَّدق ... بتشديد الطاء والسين والصاد وأصله تطيّر وتصدّق وتسمّع. ففي التنزيل: "قالوا اطّيرنا بك ومن معك –النمل/47". وفي الصحاح: "وتطيرت من الشيء وبالشيء، والاسم الطّيرَة مثل العِنَبة وهو ما يُتشاءم به من الفأل الرديء. وفي الحديث أنه كان يحب الفأل ويكره الطّيرة. وقوله تعالى: "قالوا اطّيرنا بك –النمل/47، وأصله تطيّرنا فأدغمت التاء في الطاء واجتلبت الألف ليصحّ الابتداء به". وثمة اشقق بتشديد الشين والقاف وأصله تشقق، ومنه قوله تعالى: "وإن منها لما يشّقق فيخرج منه الماء /البقرة/74". وجاء في التنزيل أيضاً: "لا يسَّمَّعون إلى الملأ الأعلى –الصافات/8" بتشديد السين والميم، وهو من التسمع. قال البيضاوي: "وتعدية السماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء مبالغة لنفيه وتهويلاً لما يمنعهم عنه. ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص بالتشديد، من التسمع وهو طلب السماع، والملأ الأعلى الملائكة أي أشرافهم". وفي الصحاح: "وتسمّع إليه واسَّمع إليه بالإدغام". وفي التنزيل: "إن المصّدقين والمصّدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ولهم أجر كريم –الحديد 18". قال الجوهري في الصحاح: "وقوله تعالى: إن المصّدقين والمصّدقات، بتشديد الصاد أصله المتصدقين فقلبت التاء صاداً وأدغمت في مثلها". وجاء من ذلك اتَّرس واتّبع وادّثر وازّيّن وازّمّل واضّرّع واطّوّق واطّوّع (شرح الشافية/ 371) ، بتشديد الفاء والعين فيها جميعاً، كما هو في اطيّر واسّمع واصّدق، وجاء (اصّلح) بتشديد الفاء فيه، لأن الأصل فيه اصطلح بوزن افتعل. القول في حَمى وحامى وتحامى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 تقول حميت القوم حماية إذا نصرتهم، وحميت المكان من الناس إذا منعته منهم، والمصدر الحمي والاسم الحماية، كما في المصباح، وفي الكامل للمبرّد: "يقال حميت الناحية أحميها حمياً وحماية.. ومعنى ذلك منعت ودفعت، ويقال أحميت الأرض جعلتها حمى لا تقرب –1/259". ونحو ذلك في الأساس قال الزمخشري: "حميت حماية.. حميت المكان: منعته أن يُقرب، فإذا امتنع وعزّ قلت أحميته أي صيّرته حمى، فلا يكون الإحماء إلا بعد الحماية ولفلان حمى لا يقرب.. ومن المجاز حميته أن يفعل كذا إذا منعته"، وحمي فيما تقدم فعل متعد إلى مفعول واحد، فهل يتعدّى إلى اثنين، فنقول (حميته الشر والأذى) إذا حميته منهما؟ أقول جاء لأبي ذؤيب أو لمالك بن خالد الخناعي قوله: صيدٌ ومستمتعٌ بالليل هجّاسُ يحمي الصريمة أحدان الرجالِ له فقرئ أحدان بالرفع على الفاعلية والصريمة بالنصب على المفعولية. لكنه قرئ كذلك بنصب الصريمة ونصب أحدان، والصريمة موضع وأحدان ما انفرد من الرجال، وهجّاس يهجس ويفكر في نفسه. وقد قال الأخفش في معناه: يحمي الصريمة من أحدان الرجال على حد قولك حميت الدار اللصّ. هذا ما جاء في شرح أشعار الهُذَليين لأبي سعيد الحسن بن الحسين السكري (1/227) . وعلى هذا قول ابن جني في الخصائص (1/442) : "فأما هجنه الطبع وكدورة الفكر وخمود النفس وخيس الخاطر وضيق المضطرب فنحمد الله على أن حماناه" بمعنى حمانامنه، فعدّى إلى مفعولين. وجاء في رسالة ابن القارح علي بن منصور الحلبي إلى المعري، حديث رسول الله ?: "إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا/ 27" أي حماه من شرورها، وكأن قولك حميتك الشر محمول على وقيتك الشر. ففي الأساس: "وقاه الله كل سوء، ومن السوء، وقاية". وهكذا قولك حميتك الشر ومن الشر. ويتعدى (حمى) إلى مفعولين بمعنى آخر. ففي الأساس "وحميت المريض الطعام حِمية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ويسألون هل يأتي (حمي) بمعنى الحماية لازماً؟ أقول قال أبو علي المرزوقي في شرح ديوان الحماسة (1/381) في قول الشاعر حريث بن جابر: كما كان يحمي عن حقائقها أبي فكنت أنا الحامي حقيقة وائلٍ قال: "ويقال حميت الحقيقة وحميت عن الحقيقة، وهو يحمي عليه ويحامي عليه". فيتبين بذلك كله أن (حَمى) من الحماية يأتي لازماً فيتعدى بعن وعلى، ويأتي متعدياً إلى مفعول وإلى مفعولين. أما (حامى) ، وليس هو من أفعال المشاركة، فإنه يتعدى بالحرف تقول (يحمي عليه ويحامي عليه) بمعنى كما قال المرزوقي فيما تقدم. وقد تكرر منه ذلك إذ قال في موضع آخر "فدافعت دونه وحاميت عليه 1/133" وقال: "مدحهم بحسن المحاماة على الجار" وقال: "لأن عادتنا تفرض علينا المدافعة عن الكرم والمحاماة على الشرف /1694". وقد جاء هذا في كلام الجاحظ إذ قال في كتاب التربيع والتدوير: "فأما المحامي على الهزل والمفضل للمزح فإنه قال: أول ما أذكر من خصال الهزل ومن فضائل المزح أنه دليل على حسن الحال وفراغ البال..". وفي الأساس: "حماه حماية وحامى عليه". وجاء في اللسان: "وحاميت عنه محاماة وحماء، يقال: الضروس تحامي عن ولدها". وقالت ريطة بنت عاصم: بدار المنايا والقنا متشاجر فوارس حاموا عن حريم وحافظوا قال المرزوقي في شرح ديوان الحماسة (1101) : "وقولها فوارس.. وصفتهم بأنهم حفظوا ما وجب عليهم حفظه من حُرَمهم ... والحرمة ما لا يحل لك انتهاكه، وكذلك المحارم واحدتها مَحرمة.. ومن ذلك قيل حريم الدار.. وقولها وحافظوا بدار المنايا، أي ثبتوا بدار الحفاظ ودافعوا وصبروا ولم ينتقلوا عنها طلباً للسلامة". ويأتي (حمى عليه وحامى عليه) بمعنى آخر. ففي اللسان: "وحاميت على ضيفي إذا احتفلت له قال الشاعر: من لحم مُنقيةٍ ومن أكبادِ حامَوا على أضيافهم فشَووا لهم وحميت عليه: غضبت". ولم يسمع (حامى) متعدياً. فتبين بذلك أنك تقول حاميت عنه وحاميت عليه حِماه ومحاماة بمعنى الحماية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وأما (تحامى) ، وليس هو من أفعال المشاركة فإنه يتعدى ولا يتعدى. ومثال المتعدي قول ابن جني في الخصائص: "تحاميت ما تحامت العرب، من ذلك –1/103". وجاء في الأساس: "ويقال احتميت منه وتحاميته" ومنه قول أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني في رسائله: "ويتحامى من أخلاق الشيخ تعاطي الشرب ويقتدي به في سائر أخلاق الفضل –ط. الجوائب/199". وقول الحريري في مقامته الرقطاء: "فحييته ثم تحاميته". وفي مختار الصحاح: "وتحاماه الناس أي توقوه واجتنبوه". ومثال (تحامى) المتعدي بالحرف قول ابن جني في الخصائص: "تحامياً من اجتماع الإعلالين –1/397". وقول الهمذاني في المقامة البشرية: "قد كانت تحامت عن ذلك الطريق /446" أي تباعدت. القول في تعدية التفاعل مر بنا أن الأصل في مفاعلة المشاركة إذا تعدت إلى مفعولين أن يتعدى (التفاعل) إلى واحد. فأنت تقول (نازعته الأمرَ) إذا جاذبته إياه فتعدّيهِ إلى اثنين فإذا قلت (تنازعوا الأمر) عدّيته إلى واحد. وأنت تقول (جاذبته الأمرَ) فتعدّيه إلى اثنين، فإذا قلت (تجاذبوا الأمر) عدّيته إلى واحد أيضاً. ففي الأساس: "نازعه الكلام ... وتنازعوا الكأس". وفي الصحاح: "جاذبته الشيء إذا نازعته إياه.. والتجاذب التنازع". فإذا تعدت مفاعلة المشاركة إلى واحد جاء التفاعل منها لازماً لا يتعدى. فأنت تقول (نازعت فلاناً) إذا خاصمته، فإذا قلت (تنازع القوم) إذا اختلفوا وتخاصموا جئت به لازماً لا يتعدى إلى شيء. ففي المصباح: "نازعته في كذا منازعة ونزاعاً خاصمته وتنازعا فيه وتنازع القوم اختلفوا". وتقول ساءلته عنه فتعدّيه إلى واحد، وتساءل القوم فتأتي به لازماً. ففي الأساس "وساءلته عنه مساءلة وتساءلوا عنه". وفي مختار الصحاح: "وتساءلوا سأل بعضهم بعضاً". وما دام (تساءل) من أفعال المشاركة فلابد أن يأتي من اثنين فأكثر. ويقول الكتاب حيناً (تساءل فلان عن كذا) فيجعلون فاعله واحداً، فهل لهذا وجه من العربية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 أقول الأصل أن يسند (تساءل) إلى اثنين فأكثر، تقول (تساءلا) إذا سأل كل منهما الآخر و (تساءلوا) إذا سأل بعضهم بعضاً، كقولك (تشارك وتشاركوا) . قال الأستاذ محمد العدناني في (معجم الأخطاء الشائعة) : "يقولون تساءل الرجل عن الأمر، والصواب تساءل الرجلان أو الرجال". ولكن ألا يأتي (تساءل) لغير المشاركة فيصح إسناده إلى واحد؟ أقول جاء في الكشاف للزمخشري في تفسير قوله تعالى: "عمّ يتساءلون. عن النبأ العظيم –1/النبأ": "يتساءلون يسأل بعضهم بعضاً أو يتساءلون غيرهم عن رسول الله ? والمؤمنين نحو يتداعونهم ويتراءونهم" فقد فسَّر (تساءلوا) بمعنى (سألوا) أيضاً. وقد ذكر ذلك البيضاوي فقال: "كقولهم يتداعونهم ويتراءونهم أي يدعونهم ويرونهم" أي أن (يتسألون عنه) يصح أن يعني (يسألون عنه) . فإذا ثبت هذا صح قول الكتاب (تساءل الرجل عن كذا) إذا سأل عنه، ويكون (تساءل) هنا فعلاً متعدياً لا يمت إلى أفعال المشاركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وثمة (تعارف) وهو من أفعال المشاركة تقول (تعارف القوم) إذا عرف بعضهم بعضاً، كما جاء في الصحاح ومختاره والقاموس واللسان والتاج، فالفعل لازم. وقد جاء في التنزيل: "ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم –يونس/ 45". قال البيضاوي: "يتعارفون بينهم: يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً". كما جاء في التنزيل: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير –الحجرات /13". قال البيضاوي: "لتعارفوا. يعرف بعضكم بعضاً" فتأكد بهذا أن (تعارف) فعل لازم. ولكن جاء على ألسنة الفصحاء تعدية (تعارف) كأن تقول (تعارفوا الشيء) إذا عرفوه فيما بينهم. فانظر إلى ما جاء في الصحاح (مادة وقى) : "وأما اليومَ فيما يتعارفه الناس ويقدّر عليه الأطباء فالأوقية عندهم وزن عشرة دراهم.." فقد عدّى الفعل فقال (يتعارفه الناس) . وقد جاء نحو ذلك في مختار الصحاح. وجاء في مفردات الراغب (مادة ضاف) : "وصارت الضيافة متعارفة في القرى". وفي (مادة كبر) : "والكبيرة متعارفة في كل ذنب تعظم عقوبته". فقوله (متعارفه) من (تعارفوه) كقولك متداولة ومتناقلة من (تداولوه وتناقلوه) ، وقد جاء مثل ذلك في رسائل أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني إذ قال: "الكتابة التي يتعاطاها أهل الزمان، المتعارفة بين الناس /37"، وقال في موضع آخر: "ولا خرجت عن متعارف الناس/ 220". وفي كلام الأئمة قولهم (تعورف الأمر) بالبناء للمجهول وهو من تعارفوه أيضاً، كما جاء هذا في كلام الراغب الأصبهاني في (مادة كف) . فثبت بذلك كله أن (تعارف) لازم ومتعد. ويقول الكتاب حيناً (هذا أمر متعارف عليه) و (هذه عادات متعارف عليها) ولا وجه له في العربية، وإنما الصواب (أمر متعارف وعادات متعارفة) . تفاعل معه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 جرى الكتاب في استعمال ما كان من أفعال المشاركة على (تفاعل) أن يسندوه إلى فاعل واحد ثم يتبعوا الفاعل أداة المصاحبة. يقولون (تبارى فلان مع فلان) ، والأصل أن يقولوا (بارى فلان فلاناً) أو (تبارى فلان وفلان) بالعطف. ذلك أن ما كان من أفعال المشاركة كتفاعل، لابد فيه من تعدد الفاعل، فإذا أسند الفعل إلى أحد فاعليه، فلابد من استيفاء الآخر بالعطف. ومن خصوص العطف بالواو إشراك الفاعلين في الحدث. ولا محل لإحلال أداة المصاحبة فيه محل العاطف، لأن الاشتراك في الحدث ها هنا يقتضي المصاحبة بطبيعة الحال، كما هو ظاهر في قولك (تبارى فلان وفلان) . فإذا كان الفعل مما يسند إلى واحد، وقد ذكر الفاعل، فإن العطف عليه بالواو يفيد مجرد إشراك المعطوف في الحدث، دون المصاحبة، كقولك (جاء زيد وخالد) فقد عنيت أن كلاً منهما قد جاء، فالعطف فيه قد أغنى عن إعادة العامل وهو الفعل، ولا يلزم من مجيئهما هذا أن يتصاحبا فيه. فإذا أردت المصاحبة فعلاً جئت بأداتها (مع) ليكون تسلط العامل على ما قبلها هو وقت تسلطه على ما بعدها فقلت (جاء زيد مع خالد) فأخبرت بمجيئهما معاً. ولو لم تأت بهذه الأداة لم تثبت المصاحبة، كما رأيت. وإذا أسند الفعل إلى ضمير كما في قولك (زيد جاء) وأردت العطف على الضمير المرفوع، امتنع ذلك حتى تؤكد الضمير فتقول (زيد جاء هو وخالد) . وكذلك الأمر في (تفاعل) ، تقول: (زيد تبارى هو وخالد) لأن عطف الظاهر على المضمر المرفوع ضعيف حتى يؤكد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وتفيد ما تفيده (مع) ، واو المعيّة، فإذا جاز العطف في الكلام جاز الوجهان: العطف والنصب على المفعول معه. تقول: (جئت أنا وزيد) على العطف، كما تقول: (جئت أنا وزيداً) بالنصب على المفعول معه، وإذا لم يجز العطف تعين النصب كقولك (جئت وزيداً) إذ يضعف العطف هنا لعدم تأكيد ضمير الرفع، فلا تقول (جئت وزيد) . ولا يعني جواز الوجهين هنا تطابق المعنيين فيهما، قال أبو البقاء الكفوي في الكليات (5/187) . "شرط باب المفعول معه أن يكون فعله لازماً، حتى يكون ما بعد الواو على تقدير العطف مرفوعاً فيكون العدول إلى النصب لكونه نصباً على المصاحبة، فإن العطف لا يدل إلا على أن ما بعد الواو شارك ما قبلها في ملابسة معنى العامل لكل منهما. والنصب كما يدل عليه يدل أيضاً على أن ملابسته لهما في زمان واحد" وفي الهمع للسيوطي (1/222) : "والفرق بينهما من جهة المعنى أن المعية يفهم منها الكون في حين واحد، دون العطف لاحتماله مع ذلك التقدم والتأخر". فإذا لم يسبق الفعل، كما في نحو قولك (كيف أنت وزيد) أو قولك (ما أنت وزيد) ، فقد أجاز كثرة النحاة الوجهين: الرفع والنصب، واختاروا الرفع. والتحقيق أنه لا اختيار في المسألة بينهما. فأنت إذا أتيت بالرفع فقلت: (ما أنت وزيد) ، فأنت تسأل عن المخاطب وعن زيد، وإذا أتيت بالنصب فقلت: (ما أنت وزيداً) ، فأنت تسأل عن صلة ما بينهما. ففي مثل قولهم: (كيف أنت وقصعةً من ثريد) لا وجه فيه إلا النصب، لأنك إنما تسأل عما بين المخاطب وهذه القصعة، لا عن المخاطب وعن القصعة، خلافاً لمن أجاز فيه الوجهين، بل اختار الرفع. قال الرضي في شرح الكافية: "الأولى أن يقال: إن قصد النص على المصاحبة وجب النصب، وإلا فلا". أداة المصاحبة وأفعال المشاركة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 من أفعال المشاركة ما جاء على (افتعل) كاجتمع واتفق واتحد، والأصل في هذه الأفعال أن تسند إلى اثنين فصاعداً، تقول (اجتمع القوم واستجمعوا بمعنى تجمعوا) كما في المصباح، و (اتفق الشيئان تقارباً وتلاءماً) كما في المقاييس، و (اتحد الرجلان وبينهما اتحاد) كما في الأساس. ولكن سمع قولهم (اجتمع معه) و (اتفق معه) و (اتحد معه) بإسناد فعل المشاركة إلى واحد وإتباعه أداة المصاحبة (مع) ، فكيف أمكن هذا وامتنع قول القائل (تبارى معه وتنازع معه) والحكم في الحالين واحد؟ ففي الصحاح "جامعه على أمر كذا اجتمع معه"، وفي مختار الصحاح والقاموس مثل هذا النص. وفي اللسان: "وجامعه على الأمر مالأه عليه واجتمع معه". وهكذا (اتفق) ففي اللسان: "قال ابن سيده: وقد وافقه موافقة ووفاقاً واتفق معه" ونحو ذلك في أكثر المعاجم، وكذا (اتحد) فقد جاء في الكليات لأبي البقاء الكفوي (1/35) : "فقال بعضهم باتحاد النفس مع البدن، وذهب بعضهم إلى اتحاد النفس مع العقل الغول، وزعم قوم من المشائين أن النفس إذا عقلت شيئاً اتحدت مع الصورة المعقولة..". وقالوا (انتظم فلان مع فلان في كذا) والأصل (انتظم فلان وفلان) ، ففي الأساس "انتظم كلامه وأمره" والانتظام الاتساق في الصحاح، بل قال "الاتساق: الانتظام" ففي لطف اللطائف لأبي منصور النيسابوري الثعالبي: "كتب أبو الفتح ذو الكفايتين إلى رجل يستهديه الشراب: قد انتظمت يا سيدي مع رفقة في سمط الثريا، فإن لم تحفظ علينا النظام بإهداء المُدام صرنا كبنات نعش، والسلام". ونحو ذلك (التقى معه) . فقد جاء في النهاية: "دخل أبو قارظ مكة فقالت قريش حليفنا وعضدنا وملتقى أكفنا، أي أيدينا تلتقي مع يده وتجتمع". وحكى ذلك صاحب اللسان فلم ينكر منه شيئاً. وقال المرزوقي في شرح الحماسة: "قالت هذه المرأة لما التقيت معها". قال ذلك في شرح قول الشاعر: أراك حديثاً ناعم البال أفرعا (ص/321) ألا قالت العصماء يوم لقيتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وقال في موضع آخر: "والمعنى تمنيت أن رجالاً فعلوا في معناكِ ما فعلوا من الهمّ بقتلي.. التقوا معي/324". والأصل التقى فلان وفلان إذا تلاقيا، والتقى الرجال إذا تلاقوا. وقال الجاحظ في بعض رسائله (كتاب الحجاب) : "يتلاقى مع المعارف والأخوان والجلساء". وثمة (تلاحق) وهو من أفعال المشاركة. ففي الأساس: "وتلاحق القوم وتلاحق الركاب: تتابعوا" قال المرزوقي: "أي تسير النهار كله حتى يتصل سيرها بالليل طلباً للتلاحق معها /1089". فثبت بذلك أن الفصحاء قد نصوا أو قالوا: اجتمع معه واتفق معه واتحد معه وانتظم معه، كما قالوا: التقوا معهم وتلاقوا معهم بل تلاحقوا معه ... وقد هون هذا على المتأخرين بل استدرجهم إلى أن يقولوا نحواً منه. فقد ذكر الدكتور مصطفى جواد مما جاء على هذا المنوال ما قاله اللغوي البغدادي صاحب خزانة الأدب (1/122) : "روى المرزباني.. أن الوليد بن عبد الملك تشاجر مع أخيه مسلمة"، وما جاء في المستطرف للأبشيهي: "وتخاصم بدوي مع حاج عند منصرف الناس" ذكر جواد ذلك في كتاب (المباحث اللغوية في العراق) . فما الذي قاله النقاد في هذه المسألة؟ ذهب بعض النقاد إلى امتناع قول القائل (تفاعل معه) و (افتعل معه) ما داما من أفعال المشاركة ما لم تنص المعاجم على جواز ذلك فيؤخذ به ولا يقاس عليه كقولهم اتفق معه واجتمع معه ... وقال بعضهم يؤخذ بما جاء في كلام الفصحاء واعتبار ما يكتبونه بمنزلة ما يروونه، فإذا صح هذا صح قولك التقى معه وتلاقى معه وانتظم معه.. وذهب آخرون إلى أن ما ثبت بحكم لابد من الأخذ بقياسه فلا يقتصر فيه على ما قاله العرب واستجازه الأئمة. فانظر إلى ما جاء في شرح درة الغواص لأحمد شهاب الدين الخفاجي، وبحر العوّام للشيخ محمد بن إبراهيم المعروف بابن الحنبلي الحلبي، في الرد على ما ذهب إليه أبو محمد القاسم الحريري في كتابه درّة الغواص. القول في إسناد أفعال المشاركة إلى فاعل واحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 والاستغناء بالمصاحبة عن العطف قال الحريري أبو محمد القاسم في كتابه (درة الغواص) : "ويقولون اجتمع فلان مع فلان فيوهمون فيه، والصواب أن يقال اجتمع فلان وفلان، لأن لفظة اجتمع على وزن افتعل، وهذا النوع من وجوه افتعل مثل اختصم واقتتل، وما كان أيضاً على وزن تفاعل مثل تخاصم وتجادل يقتضي وقوع الفعل من أكثر من واحد، فمتى أسند الفعل منه إلى أحد الفاعلين لزم أن يعطف عليه الآخر بالواو لا غير، وإنما اختصت الواو بالدخول في هذا الموطن لأن صيغة هذا الفعل تقتضي وقوعه من اثنين فصاعداً، ومعنى الواو يدل على الاشتراك في الفعل أيضاً، فلما تجانسا من هذا الوجه وتناسب معناهما فيه استعملت الواو خاصة في هذا الموضع ولم يجز استعمال لفظة مع فيه لأن معناها المصاحبة وخاصيتها أن تقع في الموطن الذي يجوز أن يقع فيه من واحد والمراد بذكرها الإبانة عن المصاحبة التي لو لم تذكر لما عرفت. وقد مثل النحويون في الفرق بينهما وبين الواو فقالوا إذا قال القائل جاء زيد وعمرو كان إخباراً عن اشتراكهما في المجيء على احتمال أن يكونا قد جاءا في وقت واحد أو سبق أحدهما، فإن قال جاء زيد مع عمرو كان إخباراً عن مجيئهما متصاحبين، وبطل تجويز الاحتمال الآخر ... ". ويتبين مما تقدم من كلام الحريري أنه قد استمسك بمنطق النحو ولم يتزحزح عن الأصل أو يأبه لاستعمال الفصحاء أو نص المعاجم كقول الجوهري: "وجامعه على أمر كذا اجتمع معه"، وقد توفي الجوهري (393هـ) قبل نحو قرن وربع من وفاة الحريري، وقد كانت نحو (515هـ) . وما أظن الجاحظ وقد توفي (255هـ) قد انفرد بنحو قوله (يتلاقى مع المعارف) والمرزوقي، وقد توفي (421هـ) ، قد ابتكر نحو قوله (التقوا معي) وقد تكرر منه ذلك، فهل ثمة ما يُخرّج عليه استعمال هؤلاء الثقات في إسناد فعل المشاركة إلى واحد والاستغناء عن العطف فيه بأداة المصاحبة؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 كان الحريري من أشهر علماء العربية في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وأوائل القرن السادس، وكان من فحول النقاد، وقد أثار نقده انتقاد الآخرين عليه، فقد تعقبه في مقاماته الإمام أبو محمد المعروف بابن الخشاب البغدادي فعاب كثيراً مما جاء في هذه المقامات. وانبرى لابن الخشاب هذا شيخ المحققين في عصره أبو محمد عبد الله ابن بري المقدسي المصري النحوي اللغوي في كتابه (اللباب في الرد على ابن الخشاب) ، فرد عليه معظم أقواله وفندها وانتصر للحريري بالبينات والبراهين. ولم يفت ابن بري، وقد انتصر للحريري على ابن الخشاب واستفرغ في ذلك وسعه وبذل طوقه، أن يتعقب الحريري نفسه في كثير مما عاب به كلام الخاصة في (درة الغوّاص) . ومما أخذه ابن بري على الحريري إنكاره (اجتمع فلان مع فلان) . فقد جاء في (بحر العوّام) للشيخ محمد بن إبراهيم المعروف بابن الحنبلي الحلبي: "ومن ذلك قولهم اجتمع فلان مع فلان، وصوّب الحريري أن يقال اجتمع فلان وفلان، دون أن يقال ذلك ... وقد تعقبه ابن بري فقال: لا يمتنع في قياس العربية أن يقال اجتمع زيد مع عمرو واختصم جعفر مع بكر، بدليل جواز اختصم زيد وعمراً، واستوى الماء والخشبة، وواو المفعول معه بمعنى مع مقدّرة بها، فكما يجوز استوى الماء والخشبة بنصب الخشبة كذلك يجوز استوى الماء مع الخشبة، هذا كلامه..". وجاء نحو من ذلك في شرح درّة الغواص لأحمد شهاب الدين الخفاجي: "في الحواشي لا يمتنع في قياس العربية أن يقال اجمتع زيد مع عمرو واختصم مع بكر، بدليل جواز اختصم زيد وعمراً واستوى الماء والخشبة.. فكما يجوز استوى الماء والخشبة كذلك يجوز استوى الماء مع الخشبة، واستوى في هذا مثل اختصم فإن المساواة تكون بين اثنين فصاعداً كالاختصام فإذا جاز في هذه الأفعال دخول واو المفعول معه جاز دخول مع كقوله استوى الحر والعبد في هذا الأمر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 فأنت ترى أن ابن برّي قد أجاز أن يكون (استوى) في المثَل من أفعال المشاركة كتساوى، وما دام النحاة قد أتوا بواو المصاحبة بعد (استوى) ، وهو عند ابن برّي من أفعال المشاركة، فقد صح أن يؤتى بمع في هذا الموضع لأنها في منزلة واو المصاحبة، وجاز قولك استوى الماء مع الخشبة بمعنى تساويا في العلو، وجاز قياساً عليه اختصم فلان مع فلان وما كان في حكمه كقولك تخاصمت مع صالح وتشاجرت مع خالد، وهو الدائر على ألسنة الكتاب في هذا العصر. والغريب أن المرزوقي شارح ديوان الحماسة، وقد تكرر قوله (التقى معه) و (التقوا معهم) كما رأيت، قد أوجب العطف إذا أسند فعل المشاركة إلى واحد، ومنع أن تحل فيه المصاحبة محله، مؤكداً ما ذهب إليه أكثر النحاة، خلافاً لابن برّي، وقطع بأن (استوى) في المثل المشهور إنما أسند إلى واحد فليس هو من أفعال المشاركة بحال من الأحوال. فقد جاء في ديوان الحماسة قول الأعرج المعني: وما تستوي والوردَ ساعةَ تفزعُ تلوم على أن أعطي الورد لِقحة فحكى المرزوقي (ص/350) البيت بنصب الورد والواو قبله للمعية، وقال: "يريد لا تستوي هي مع الورد" فأسند الفعل إلى واحد وجعل معناه (وما تساوي الورد) ، وهكذا قولهم: استوى الماء والخشبة فإن معناه (ساوى الماء الخشبة) . وأردف "ولو أراد ما تستوي هي وما يستوي الورد لم يكن يجوز إلا الرفع" أي لو كان الاستواء استواء مشاركة للزم الرفع والعطف وامتنعت المصاحبة والنصب. على أنه أقر رواية (وما تستوي والورد) في البيت بالرفع والعطف، وقال بضعف هذا الوجه لأن عطف الظاهر على الضمير المرفوع ضعيف حتى يؤكد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 على أن من الأئمة من أثبت الرأيين في أمثلة المصاحبة، الرأي السائد في امتناع أن تكون أفعالها من أفعال المشاركة، والرأي الآخر في إمكان ذلك وهو مذهب ابن بري. فقد جاء شرح الإظهار والمسمى بنتائج الأفكار للشيخ مصطفى حمزة ببعض أمثلة المصاحبة وحاول بيان معنى المصاحبة هل تحتمل المشاركة، فقال: "والمشاركة فيه، أي في الفعل، ليست بشرط لقولهم استوى الماء والخشبة، أي ارتفع، وسرت والنيل، إذ لا ارتفاع في الخشبة ولا سير في العلو، وأردف: "وأجيب بأنه أريد بالأول معنى التساوي أي تساوى الماء والخشبة في العلو، وبالثاني الانتقال فيوجد المشاركة، ويصح العطف". وهكذا جعل (استوى) في مثال المصاحبة من أفعال المشاركة. فصح بذلك أن تقول استوى الماء والخشبة بالنصب، واستوى الماء والخشبة بالرفع على العطف واستوى الماء مع الخشبة بإحلال مع محل واو المصاحبة، على المعية وهكذا تقول اختصم فلان وفلاناً بالنصب على المعية واختصم فلان وفلان بالرفع على العطف، واختصم فلان مع فلان، وهذا ما ذهب إليه ابن بري. ولكن إذا صح قولك اختصم فلان وفلان واتحد فلان وفلان، وكان هذا هو الأصل في أفعال المشاركة، فما الذي حمل الكتاب أن يؤثروا عليه بالسليقة اختصم فلان مع فلان، واتحد فلان مع فلان. فتجري به أقلامهم بغير عنان؟ فهل ثمة حاجة في التعبير قد استدرجت كتاب العصر إلى استعمال (مع) في هذا الموضع واقتادهم إليه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 أقول عمد بعض الأئمة إلى بيان الفارق المعنوي بين (المفاعلة) و (التفاعل) إذا كانا للمشاركة فقال: "وقد يقال في الفرق المعنوي أن المبادئ بالفعل أو الغالب فيه معلوم في المفاعلة بخلاف التفاعل، فإن المبادئ فيه أو الغالب غير معلوم" هذا ما جاء في شرح البناء للإمام محمد الكفوي. أي أنك إذا قلت قاتل خالد زيداً فقد أردت أن تخبر بأن البادئ في القتال هو خالد، ولو اشترك فيه زيد وعلى هذا أردت أن تخبر بأن البادئ في القتال هو خالد، ولو اشترك فيه زيد وعلى هذا قوله تعالى: "فإن قاتلوكم فاقتلوهم- البقرة/191" فقوله فإن قاتلوكم معناه إذا بادروا إلى قتالكم فاقتلوهم. وعليه قوله ?: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها..". أما إذا قلت تقاتل خالد وزيد فليس في قولك ما يشير إلى البادئ فيه، وعلى هذا قوله تعالى: "فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه –القصص/15" إذ ليس في قوله يقتتلان ما يشير إلى البادئ بالقتال، ويقتتلان في هذا كيتقاتلان. ونحو ذلك قول الرشيد للكسائي: "إن أعز الناس من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين". وقد يُعترض على هذا بقول الحسن بن علي رضي الله عنهما لبعض من خاصمه: "سفيه لم يجد مسافهاً" إذ ليس المسافه فيه، لو وجد، هو السابق والبادي وهو ما احتج به الإمام الرضيّ في شرح الشافية لرد قول القائل إن المفاعل بكسر العين هو الغالب أو البادئ دون المفاعل بفتح العين. وعندي أن قول الحسن رضي الله عنه لا يسقط الأصل ولا يلغيه، لأن في كلامه قرينة تدل على أن المسافه بكسر الفاء ليس هو البادئ بالسفه، حين قال "سفيه لم يجد مسافهاً" أي سفيه لم يجد من يقابل سفهه بمثله فيشاركه فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 ولكن إذا عدمت القرينة في الكلام كان الأصل أن يكون المخاصم بكسر الصاد هو البادئ أو هو الموصوف بالخصام أولاً والمقصود به، دون المخاصَم بفتح الصاد، فإذا قلت قاتل خالد صالحاً أشرت إلى أن البادئ هو خالد، بدليل أن لمخاطبك أن يجيب بل قاتل صالح خالداً، خلافاً لقولك (تخاصم خالد وزيد) فليس فيه ما يشير إلى البادئ والموصوف بالخصام أولاً، أو المقصود به. فإذا قلت (تخاصم خالد مع زيد) ولم تزد، فهم بقولك هذا أن خالداً هو البادئ بالخصام، وهو المقصود بالحديث أيضاً، ولو تعلق الخصام بسواه. وليس هذا بدعاً في قياس العربية، فالمخاصم، بكسر الصاد، في المخاصمة هو العمدة أما المخاصم بفتحها فهو الفضلة. أما في التخاصم فكل منهما متخاصم بكسر الصاد وهو عمدة كما هو واضح في قولك (تخاصم خالد وزيد) على الأصل. وقد يضطر المتخصصون كالكيميائيين مثلاً أن يقولوا "يتحد الكبريت مع مادة كذا وكذا" ليعربوا عن أن أحاديثهم إنما هي في الأصل عن الكبريت فهو موضوع بحثهم دون المواد الأخرى. والكبريت في قولهم (يتحد الكبريت مع..) هو المرفوع وهو العمدة دون سواه. وليس يغنيهم إذا أرادوا هذا المعنى، أن يقولوا "يتحد الكبريت ومادة كذا وكذا" إذ ليس معناه بالضرورة أن المقصود بالكلام أولاً هو الكبريت، فليس الكبريت في قولهم (يتحد الكبريت و..) هو العمدة وحده وإن تقدم، وإنما هو وما عطف عليه في ذلك سواء، فالعطف هنا لا يبين عن مراد المتكلم صراحة خلافاً لأداة المصاحبة فإنها تبين عنه وتكشف عن غرضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 فقد استقر بما ذكرنا أن التصرف في أفعال المشاركة على الوجه المذكور لا ينقض أصلاً ولا تأباه طرائق العربية، فقد جاء اتفق معه واجتمع معه في نصوص المعاجم، وتلاقوا معه والتقوا معه واتحدوا معه وانتظم معه وأمثاله في كلام الفصحاء. وقد صح هذا عند المحققين من الأئمة إذ لم يتعقبوا هذا التصرف على قائله، ولا ردوه إلى الشذوذ، أو قالوا بتوهين ما جاء على مثاله، بل وجدوا فيه وجهاً صالحاً ومذهباً متقبلاً، كما فعل ابن بري وسواه، وقد أدرك به الكتاب حاجتهم في التعبير، ولو خفي عليهم ما حكينا وفسرنا من أمره. وأنت إذا التمست أمثال هذا التصرف في كلام الأئمة المتقدمين وتتبعتها في مصنفاتهم، هدتك إلى نفسها ودلتك على سر استعمالها، وكلها في هذا الباب شرع واحد، وما يتوجه على أحدها يتوجه على الآخر. ومن ذلك شيوع قولهم (اشترك معه) . فانظر إلى ما جاء في سر الفصاحة لأبي محمد بن سنان الخفاجي: "فهذا منتهى ما نقوله في الألفاظ بانفرادها واشتراكها مع المعاني /222"، وما جاء في زهر الآداب لأبي إسحق الحصري القيرواني: "قال أبو الفرج قدامة بن جعفر معنى أبيات زهير الأولى: لما كانت فضائل الناس، من حيث هم ناس، لا في طريق ما هم مشتركون فيه مع سائر الحيوان.. إنما هي العقل والعفة والعدل والشجاعة، كان القاصد للمدح بهذه الأربعة مصيباً، وبما سواها مخطئاً 22/71". وانظر إلى قول ابن جني في الخصائص (1/453) بعد كلامه على تداخل الأصلين الثلاثي والرباعي: "أما تزاحم الرباعي مع الخماسي فقليل، وسبب ذلك قلة الأصلين جميعاً". وأصل الكلام عند النحاة (أما تزاحم الرباعي والخماسي) . وليس من هذا بسبيل قول الجاحظ: "تشاغلت مع الحسن بن وهب أخي سليمان بن وهب بشرب النبيذ أياماً، فطلبني محمد بن عبد الملك لمؤانسته –زهر الآداب- 2/184". إذ ليس (تشاغل) ها هنا من أفعال المشاركة بدليل قولك (تشاغلت) وإسناده إلى واحد كتمارضت وتغابيت وتعاميت وتحامقت. قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 "تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم..". وجاء في الأدب الكبير لابن المقفع قوله: "أشركونا معهم في ما أدركوا" ويمكن أن يعقد على هذا في المطاوعة فيقال: (فاشتركنا معهم في هذا) . ولكن هل تقول (القتال مع فلان أمر لابد منه) وأنت تريد (قتالك إياه) ؟ أقول الأصل أن تعني بالقتال مع فلان قتالك إلى جانبه مناصرة له على عدوه، ولكن جاء في (الباب الأول) من كتاب (كليلة ودمنة) ما أريد به خلاف ذلك. قال: "وإنما حدثتك لتعلم أن القتال مع صاحبنا لا أراه لك رأياً. فأجاب: فما أنا بمقاتل صاحبك ولا ناصب له العداوة سرّاً ولا علانية". فقد أريد بقوله (القتال مع صاحبنا) مقاتلته، ولاشك. فما سر ذلك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 أقول إذا جئت بالفعل فقلت (قاتل مع صاحبنا) لم يتسع معناه إلا لمناصرتك إياه. وعلى هذا قوله تعالى: ?فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً –التوبة/84?، فقوله: لن تقاتلوا معي عدواً يعني لن تشاركوني في قتالي عدواً. لكن في قولك (القتال مع صاحبنا) شيئاً آخر، ذلك أن (مع) ها هنا، وهي ظرف مكان، ليست متعلقة بالقتال تعلقها بالفعل في قولك (قاتلت مع صاحبنا) ، وعلة ذلك أنها ظرف مستقر بفتح القاف، متعلقه فعل عام أو ما يشبهه والتقدير (القتال يحصل مع صاحبنا لا أراه لك..) ، ونحو ذلك قولك (القتال بيني وبين صاحبنا) ، فإن الظرف فيه مستقر متعلقه محذوف. ومثل هذا البناء أي (القتال مع صاحبنا) يحتمل الأمرين: مناصرته ومقاتلته، وهو يعني المقاتلة قصراً إذا قامت قرينة على نحو ما سبق، ومتى تعلق الظرف أو الجار والمجرور بمحذوف، انتقل إلى الظرف إعراب هذا المحذوف. فإذا تعلق الجار والمجرور بمذكور كان الظرف لغواً، ليس له حظ من الإعراب ولا يتم الكلام دونه. ومما نحن بسبيله ما جاء في كتاب فضل هاشم على عبد شمس من قول الجاحظ في بني هاشم: "ثم ما كان في أيام تحزبهم وحربهم مع علي ومعاوية" وكأن الكلام على اللف والنشر المرتب وتقديره (أيام تحزبهم مع علي وحربهم مع معاوية) فيكون الأول من النشر للأول من اللف، والثاني للثاني. وقوله (تحزبهم مع علي) معناه تحزبهم له أي تجمعهم وتعصبهم له. أما قوله (حربهم مع معاوية) فتقديره: حربهم الجارية أو القائمة مع معاوية، أي التي جرت بينهم وبينه. ويعزز هذا ما سبق أن قدمناه وبسطنا القول فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وبعد فقد تبين بما شرحناه وأوسعنا الكلام فيه، أن على الباحث في تصريف (المفاعلة والتفاعل) ألاّ يجتزئ بما يقع له من نصوص العلماء في الأمهات اللغوية. إذ لابد أن يلتمس ما يمكن أن يتفق له من كلام الفصحاء فيُعمل الفكر فيه ويدقق النظر إليه ليتعرف مسرى الصيغتين في الوضع والاستعمال جميعاً، فلا يقدم على قول حتى يتبين له الصواب وتتضح الحقيقة في ضوء موازنته ومكايلته، فينتهي من البحث إلى خير ما يرجوه من التمحيص والتلخيص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الجملة الفِعلية والجملة الإسمّية جرى النحاة على تقسيم الجملة إلى فعلية واسمية. وقالوا في تعريف الفعلية: أنها الجملة التي تبتدئ بالفعل، وفي الاسمية: إنها الجملة التي يتصدرها الاسم، ولا شك في أن مقالتهم هذه في تعريف الجملتين وتمييز إحداهما من الأخرى تبدو شكليّة تتناول الجملة من حيث شكلها ولا تتجاوزه إلى مضمونها ومادتها. قال ابن هشام في مغني اللبيب: "فالاسمية التي صدرها اسم كزيد قائم.. والفعلية هي التي صدرها فعل كقام زيد..". فهل أصاب النحاة حقاً في هذه القسمة وهل بيَّنوا في بنية كل من الجملتين ما تتميز به فعلاً من أختها من حيث إسنادها ودلالتها وشأنها في الأداء؟ ما الفارق في الأداء بين الجملة الفعلية يتقدم فيها الفعل فيسند إلى فاعله، والجمل الاسمية يتقدم فيها الفاعل وهو لا يزال مسنداً إليه ليكون مبتدأ، ومتى نختار هذه الجملة أو تلك؟ أشار الإمام عبد القاهر الجرجاني، في كتابه (دلائل الإعجاز) ، إلى أنك إذا حدّثت عن محدّث عنه، بالفعل، بدأت به ولم تقدِّم ذكر المحدّث عنه، كلما كان الفعل مما لا يُشك فيه ولا يُنكر، وهو الغالب، قال الجرجاني: "ويزيدك بياناً أنه إذا كان الفعل مما لا يشك فيه ولا ينكر بحال، لم يكد يجيء على هذا الوجه، ولكن يؤتى به غير مبنى على الاسم، فإذا أخبرت بالخروج مثلاً عن رجل من عادته أن يخرج في كل غداة، قلت: قد خرج، ولم يحتج إلى أن تقول: هو قد خرج، ذلك لأنه ليس بشيء يشك فيه السامع فتحتاج أن تحققه إلى أن تقدم فيه ذكر المحدَّث عنه. وكذلك إذا علم السامع من حال رجل أنه على نية الركوب والمضي إلى موضع، ولم يكن شك وتردد أن يركب أو لا يركب، كان خبرك فيه أن تقول: قد ركب، ولا تقول: هو قد ركب /104". ولا شك في أن الشيخ علي الجارم، وقد تحدثنا في مقال سابق، عن مذهبه في تعويل العرب في كلامهم على الفعل، قد أفاد مما قاله الجرجاني فيما تقدم. ويقول الجرجاني في موضع تقديم المحدّث عنه. "ويشهد لأن تقديم المحدّث عنه يقتضي تأكيد الخبر وتحقيقه إننا إذا تأملنا وجدنا هذا الضرب من الكلام يجيء فيما سبق فيه إنكار منكر أو اعتراض شاك، أو في تكذيب مُدَّع، كذلك في كل شيء كان خبراً على خلاف العادة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وسترى أن القول ما قاله الجرجاني، ولكن كيف استدلَّ إمامنا على صحة ما انتهى إليه من الحكم، وأي سبيل سلك في هذا الاستدلال؟ أقول إنما أتى الجرجاني بالدليل من أي التنزيل ومن كلام العرب. وقد استكثر من الشواهد وأخذ باستقرائها وتحليلها. وإذا تعذر الذهاب بالاستقراء إلى حد الاستقصاء الذي أوجبه السامرَّائي، فيما سبق من القول في مقال سابق، فإنه لا يمتنع التعويل في الحكم على هذه الشواهد لكثرتها وتنوعها، ومكانتها من البلاغة، ومبلغها من إحكام السبك إلى حد الإعجاز في البيان. فالاستدلال الاستقرائي هذا، إنما هو استقراء للنظائر واستشهاد بها على الأمر المطلوب إقامة الحجة على صوابه. وهو يصل بصاحبه إلى التعميم عن طريق ملاحظة عدة نماذج متشابهة في ناحية من نواحيها، فيعمم الحكم عليها بحيث يجعلها زمرة واحدة، ويقوّي اليقين بهذا الاستدلال كثرة النظائر والأمثلة المنتمية إلى هذه الزمرة. ولكن ما رأىُ العلماء المعاصرين في ما قيل عن فارق الأداء بين تقديم الفعل وإسناده إلى فاعله، وتقديم الفاعل ليكون مبتدأ وهو لا يزال مُسنداً إليه؟ وما يتفرَّع على ذلك من قسمة الجملة إلى فعلية واسمية. مذهب الجواري في قسمة الجملة إلى فعلية واسمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 ذهب الدكتور أحمد عبد الستار الجواري، رحمه الله في كتابه (نحوُ الفعل) إلى أن الجملة في مثل قولك (قام زيد) قد أسند فيها القيام إلى زيد، وفي (زيد قام) قد أسند فيها القيام إلى زيد أيضاً وليس بين الجملتين، عند الموازنة، إلا اهتمام المتكلم في الأولى بالإخبار عن القيام، وقد دعاه هذا إلى الابتداء بالفعل، فقال (قام زيد) ، واهتمام المتكلم في الثانية بالإخبار عن (زيد) ، فقاده هذا إلى تقديم ذكره فقال: (زيد قام) ، فالجملة في الحالتين كلام أسند فيه ما تخبر به، أي (المسند) وهو الفعل، إلى ما تخبر عنه أي (المسند إليه) وهو الاسم. قال الأستاذ الجواري: "وحقيقة الأمر أنه لا فرق بين نحو قام زيد، وزيد قام، من حيث طبيعة التركيب. فالمسند فعل في الجملتين، وإذن فطبيعة الإسناد فيهما واحدة، يقصد فيها إلى النص على معنى الزمن. والفرق بينهما ينحصر في تقدم المسند إليه في الجملة الثانية للاهتمام به، وتأكيد الحكم عليه. أما الجملة الأولى فهي الجملة الفعلية على رسلها، وعلى الوجه المألوف بينها 20 و21". وهكذا يرى الأستاذ الجواري أن تقديم الفاعل بالابتداء لا يغير من تركيب الجملة فيقول: "وليس تقديم الفاعل بالأمر الغريب، فقد أجازه نحاة الكوفة، وهو في اللغات الحديثة وما تحدَّرت عنه من اللغات القديمة، هو المألوف /85". فالجملة الفعلية عند الجواري هي التي أسند فيها الفعل إلى الاسم، أي الفاعل، سواء أتقدم هذا الفاعل أم تأخّر. وأما الاسمية فهي التي أسند فيها الاسم إلى الاسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 قال الجواري: "يبدو أن الجملة العربية قد تميزت في صورتها التي وصلت إلينا بأن التركيب فيها يكون بين الاسم والفعل تارة، وبين الاسم والاسم تارة أخرى. وتسمى الصورة الأولى الجملة الفعلية، وتسمَّى الصورة الثانية الجملة الاسمية"، ثم انتقل إلى تفصيل الكلام على الجملة الاسمية فقال: "وهذه الصورة الأخيرة لا يمكن أن تخلو في ما نعرف من اللغات، ولا سيما الحديثة، من فعل وإن كان فعلاً ناقصاً يعين على الإسناد ويحدد زمانها /18". ويمضي الأستاذ الجواري في الكلام على الجملة الاسمية ويورد لها الأمثلة فيقول: "فنحن نقول في العربية إذا أردنا إسناد القيام إلى زيد: زيد قام، ونقول في اللغات الأخرى ما يشبه قولنا في العربية: زيد يكون قائما، وهكذا". ويعقب على ذلك فيقول: "وقد يكون التركيب الاسمي أو الجملة الاسمية في اللغة العربية ثمرة من ثمار التطور والتحول الذي قطعته هذه اللغة في عهود سحيقة، موغلة في القدم، لا نكاد نتبين لها ملامح، أو نشهد لها آثاراً، وإنما نقف في بعض المظان على ظواهر تدل على أن العربية كان تسلك سبيل غيرها من اللغات فتستعين بفعل الكون، كانت الناقصة، على الإسناد، ولعل من ذلك ما يذكره النحاة عن (كان الزائدة) ، في مثل قول أم عقيل ابن أبي طالب: إذا تَهبُّ شمألٌ بليلُ أنت تكون ماجد نبيل وواضح أن فعل الكون في مثل هذا الجملة لا فائدة فيه، فإن تركيبها من اسمين غنيٌّ عن معنى ذلك الفعل غير محتاج إليه، اللهم إلا إذا أريد معنى المضيّ فيؤتى بالفعل ماضياً، ويكون حينئذ هو المسند أو يكون جزءاً منه /19". خلاصة مذهب الجواري في الجملة الفعلية والاسمية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 أقول يمكن إيجاز مذهب الجواري هذا بأن الجملة الفعلية هي التي أسند فيها الفعل إلى الاسم، وهو الفاعل، ولا يعني تقديم الفاعل أو تأخيره إلا الاهتمام به في مثل قولك (زيد قام) أو الاهتمام بما أسند إليه وهو الفعل في مثل قولك (قام زيد) . أمّا الاسمية فهي ما أسند فيها الاسم إلى الاسم كقولك (زيد قائم) ، وهي صورة حديثة انتهت إليها العربية بعد أن تجاوزت أطواراً كانت تستعين فيها على الإسناد بفعل ناقص، هو فعل الكون، كما تفعل اللغات الأخرى، ولا سيما الحديثة. الرأي في ما تصوره الجواري حداً لتمييز الجملة الفعلية من الاسمية: خالف الجواري في ما انتحاه مذهب جمهور النحاة، وتفرقت بينهما السبل. إذا اعتدَّ قولك (زيد قام) جملة فعلية، وقصر الاسمية على مثل قولك (زيد قائم) . وسنجمل الردَّ عليه وعلى من اتخذ نحواً من مذهبه بعد. على أننا نود أن نشير هنا إلى أن قوله أن اللغات الحديثة لا تزال تستعين في الإسناد بفعل مساعد في مثل قولها: (خالد يكون قائماً) وأن العربية قد عرفت هذا في طور من أطوارها، في نحو قول أم عقيل بن أبي طالب: إذا تهبُّ شمألٌ بليلُ أنت تكون ماجد نبيلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 حين اعتدّوا فعل الكون المضارع زائداً لا يفيد في موقعه معنى. أقول أن دعواه هذه فيها نظر، ذلك أن اللغات الحديثة، ومنها الآرية، تستعين بأفعال مساعدة في الإسناد كفعل الكون والملك. وهو أمر معروف. ولكن ما بال الجواري يقتاس للعربية وطرائقها في الإسناد بما تستن به اللغات الأخرى كالآرية، وينهج لها في التعبير سبيلها. وكيف اتفق له أن يتحقق أن العربية إنما كانت تجري على أسلوب هذه اللغات وتحاكيها في طريقة الإسناد. وهو لو برهن في أن اللغات الأكادية والآشوية والبابلية والكنعانية والآرامية من أخوات لغتنا العربية، بل لهجاتها الموغلة في القدم، إنما تستعين بأفعال مساعدة وأن العربية كانت تحذو حذوها وتطبع على غرارها لكان له في ذلك وجه صالح ومذهب متقبل، ولم يتحدث المتخصصون في هذه اللغات عن شيء من هذا القبيل. ولا ننسَ أن ما خُصَّت به العربية من ظاهرة الإعراب الذي تتكشف عن علاقة أجزاء الجملة بعضها ببعض قد أسقطت عنها ضوابط كان لا بد للغات غير المعربة من التزامها، فتميزت بذلك أصول كل منهما في التركيب بسمات خاصة بها. وقد أشار الدكتور محمد خير الحلواني إلى نحو من هذا فقال: "والأعراب بهذه الوظيفة أغنى اللغة العربية عن أن تجعل تركيبها ذا حدود صارمة مقيَّدة لا يمكن تجاوزها والخروج على أعرافها، كما هو الحال في اللغتين الفرنسية والإنجليزية ومن هنا لم يكن التركيب فيها بحاجة إلى فعل الكون، أو إلى فعل مساعد، كما لم تكن به حاجة إلى تقديم الفاعل وتأخير المفعول تقديماً واجباً، ولا يشترط أن يكون الاسم قبل الفعل المخبر عنه، لأن صرامة التركيب جاءت في اللغتين الفرنسية والإنكليزية تعويضاً عن فقدان الأعراب الذي كان لأمِّهما اللاتينية والجرمانية اللتين تفرَّعتا عنهما –مجلة الفيصل /العدد: 37". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وهكذا أمكن في العربية تقديم المفعول على الفاعل وتأخيره، كلما أملت دقة التعبير ودعا إليه وجه الأداء، وكان من شأن الأعراب أن يكشف عن الفاعل والمفعول على السواء، خلافاً للغتين الفرنسية والإنكليزية حين أوجبتا تقديم الفاعل وتأخير المفعول. ففي التنزيل ?إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ –فاطر /58?، وقد بدا بالإعراب فاعلية (العلماء) ومفعولية (لفظ الجلالة) ، وكشفت عن ذلك القرنية المعنوية. فالخشية إنما تقع من العلماء، وقد نُزِّه الله عن الخشية. وفي تقديم المفعول، وهو اسم الله، غرض هو الإخبار بأنَّ الذين يخشون الله هم العلماء خاصة دون سواهم، فقد قصد بتقديم المفعول حصر الفاعلية، ولو أخِّر لا نعكس الأمر، أي لو قيل: (إنما يخشى العلماء الله) لفُهم أن المخشيّ هو الله دون غيره، ولا تكون الخشية مخصوصة بالعلماء، مقصورة عليهم، بل يشارك فيها غير العلماء، فهم يخشون الله وقد يخشون سواه، خلافاً للعلماء فهم لا يخشون سواه. وهكذا قوله تعالى: ?وإذا ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً /البقرة 124?. فالفاعلية للفظ الجلالة والمفعولية لإبراهيم، وقد دلَّت على ذلك قرينة المعنى، فالمبتلي هو الله، والضمير لإبراهيم لتقدّمه لفظاً وإن تأخر رتبة، إذ يكفي أن يتقدم مرجع الضمير لفظاً أو رتبة. وأنت تقول: (أخطأني الحظُّ) فتعلم أن الفاعل هو الحظ، وقد تقدم عليه المفعول، كما تقول: (أخطأت الحظَّ) فتعلم أن الحظ هو المفعول، وقد تقدَّم عليه الفاعل. أما دعوى الجواري أن العربية قد عرفت الاستعانة بفعل مساعد في طور من أطوارها بدليل قول أم عقيل "أنت تكون ماجدٌ نبيلُ" برفع (ماجد نبيل) على أنه خبر للمبتدأ، فليس ذلك باليقين الثابت بالدليل المقنع. زيادة (كان) في كلام العرب في غير موضع زيادتها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ذكر النحاة أن (كان) تختصّ من بين أخواتها بجواز زيادتها بلفظ الماضي، بين شيئين ليسا جارّاً ومجروراً، فتكون زيادتها للدلالة على الزمن الماضي. وهي إذ أشبهت (أمسِ) حكم لها بحكمها، كما ذكر ابن عصفور أو الحسن الاشبيلي الأندلسي، في كتابه (الضرائر) . وقد ورد هذا في سعة الكلام كقول قيس بن غالب البدري: "ولدت فاطمة بنت الحُرشَب الكَمَلَةَ من عبسٍ لم يوجدْ كان مثلهم". وأما زيادتها بلفظ المضارع فإنه نادر. وقد جاء عليه قول أم عقيل "أنت تكون ماجد نبيل" وقول حسَّان: يكون مزاجُها عسلٌ وماءُ كأن سبيئةً من بيت رأس برفع (مزاجها) على المبتدأ، ورفع (عسل) على الخبر، كما قال ابن السيد في أبيات المعاني من كتابه (إصلاح الخلل) . والسبيئة بالهمزة الخمرة. وبيت رأس قرية بالشام اشتهرت بجودة الخمر. وقد حمل ابن هشام في (المغني) رفع (عسل وماء) على أضمار الشأن. وروي (مزاجها) بالنصب أيضاً، وجعلت المعرفة الخبر والنكرة الاسم، وذهب سيبويه إلى أن هذا غير جائز في الاختيار وأنه خاص بالشعر، لأن الأصل أن يخبر بالنكرة عن المعرفة. وتأوله أبو علي الفارسي على أن انتصاب (المزاج) على الظرفية المجازية، أي يكون في مزاجها. وقد روي برفع (المزاج) ونصب (المزاج) ونصب (العسل) على الأصل. وأقرب ما يقال في تأويل ما جاء أنه من الضرائر الشعرية، كما قاله كثيرون. (الضرائر لمحمود شكري الألوسي /308) . المخزومي ومذهبه في الجملة الفعلية والاسمية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وممن بحث تقسيم الجملة من الباحثين المعاصرين، الدكتور مهدي المخزومي، في كتابه (في النحو العربي) ، وقد نهج في ذلك سبيلاً عقد فيه الحدّ في قسمة الجملة على (المُسند) ، كما فعل الدكتور الجواري. فالجملة فعلية إذا كان فيها المسند فعلاً فأفاد التجدد، فقولك (طلع البدر) و (البدر طلع) جملتان فعليتان، خلافاً لما أجمع عليه جمهور النحاة. قال المخزومي: "الجملة الفعلية هي الجملة التي يدل فيها المسند على التجدد، أو التي يتصف فيها المسند إليه بالمسند اتصافاً متجدداً. وبعبارة أوضح، هي التي يكون فيها المسند –فعلاً –لأن الدلالة على التجدد إنما تستمد من الأفعال وحدها /41". وقال المخزومي في إيضاح مذهبه: "ومعنى هذا أن كلاً من قولنا طلع البدر والبدر طلع، جملة فعلية. أما الجملة الأولى فالأمر فيها واضح، وليس فيها خلاف مع القدماء. وأما الجملة الثانية فاسمية في نظر القدماء وفعلية في نظرنا، لأنه لم يطرأ عليها جديد إلا تقديم المسند إليه، وتقديم المسند إليه لا يُغيِّر من طبيعة الجملة، لأنه إنما قدم للاهتمام به /42". فالجملة الاسمية، عند المخزومي، ما كان المسند فيها اسماً فأفاد الثبوت والدوام، كقولك (البدر طالع) . قال المخزومي: "أما الجملة الاسمية فهي التي يدل فيها المسند على الدوام والثبوت، أو التي يتصف فيها المسند إليه بالمسند اتصافاً ثابتاً غير متجدد، أو بعبارة أوضح هي التي يكون فيها المسند اسماً، على ما بينه الجرجاني في ما اقتبسنا من كلامه ها هنا /42". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وقد أخذ المخزومي على النحاة أنه قد فاتهم الكشف عن الفرق بين طبيعتين مختلفتين، فقال: "فإن تقسيمهم الجمل إلى اسمية وفعلية مبني على أساس لفظي محض، لم يلحظوا فيه الفرق بين طبيعتين مختلفيتن، فضيقوا مجال الجملة الفعلية حتى قصروها على ما تقدم فيه الفعل، ووسَّعوا مجال الاسمية حتى أدخلوا فيها ما ليس منها، من جمل فعلية تقدم فيها الفاعل على الفعل.."، وأردف: "ولو كان تحديدهم الاسمية والفعلية قائماً على أساس من ملاحظة واعية للفرق بين طبيعتي الجملتين، لكان عملهم أجدي، ولكفَوْا أنفسهم والدارسين والنصوص المدروسة، عناء ما تكلَّفوه من تأويل وتخريج /218". الرأي في ما جاء به المخزومي: أقول الجواب عما جاء به المخزومي إنما يتناول جهتين: الأولى: أن قوله (طلع البدر) و (البدر طلع) جملتان متشابهتان من حيث الإسناد ولذا كانتا فعليتين، قوله هذا لا أظنه صحيحاً، وسنبين في ما بعد دلالة كل من الجملتين، حين الموازنة بينهما، وأن النحاة على حق في الفصل بين الجملتين. وقد فات المخزومي الصواب كذلك حين قال: "أما الجملة الاسمية فهي التي فيها المسند على الدوام.. وبعبارة أوضح: هي التي يكون فيها المسند اسماً، على ما بينه الجرجاني، في ما اقتبسنا من كلامه ها هنا" فالجرجاني لم يقصر الجملة الاسمية على الجملة التي جاء مسندها "اسماً، في ما اقتبسه المخزومي من كلامه، وكل ما أشار إليه في مثاله هو ثبوت الانطلاق لزيد في قولك: زيد منطلق، وتجدده في قولك: هو ذا ينطلق، لا أكثر من ذلك ولا أقل! الثانية: إن في وصف الفعل بالتجدد ونسبة ذلك إلى الجرجاني نظراً، ذلك أن التجدد الذي عناه الجرجاني، كما سنبسط القول فيه، مقصور على المضارع، على حين جاءت أمثلة المخزومي على الفعل الماضي! مقالة الجرجاني في تجدد الفعل واستمرار اسم الفاعل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 ذكر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز /115) أن الاسم الذي أسند إلى (زيد) في قولك (زيد منطلق) يثبت معنى الانطلاق لزيد، دون أن يقتضي تجدده، وأن الفعل الذي أسند إلى (زيد) في قولك (زيد ينطلق) يثبت به الانطلاق الذي يتجدد فيقع من (زيد) شيئاً بعد شيء. وأكد في موضع آخر (ص /117) أن لكل من الاسم والفعل المسندين في هذه الجملة الاسمية دلالة تغاير دلالة الآخر، فقال: "ولا ينبغي أن يغرّك إذ تكلمنا في مسائل المبتدأ والخبر أننا قدرنا الفعل في هذا النحو تقدير الاسم، كما نقول في زيد يقوم أنه في موضع زيد قائم، فإن ذلك لا يقتضي أن يستوي المعنى فيه استواء لا يكون من بعده افتراق، فإنهما لو استويا هذا الاستواء لم يكن أحدهما فعلاً والآخر اسماً، بل كان ينبغي أن يكونا فعلين أو يكونا اسمين"، فما الذي قصد إليه الجرجاني بقوله: الفعل الذي يثبت به المعنى المتجدد، والاسم الذي يثبت به المعنى غير المتجدد؟ أقول صواب المسألة عندي أن الفعل الذي قرن بالتجدد، في مقالة الجرجاني، هو الفعل المضارع خاصة، وأن الاسم الذي وصف بعدم التجدد هو اسم الفاعل، المعدّ للعمل، الجاري على معنى الفعل ولفظه، واسم الفاعل لا يُعد للعمل ما لم يكن للحال أو الاستقبال، دون الماضي، وما لم يكن معتمداً على نفي أو استفهام أو مبتدأ صريح أو منويّ، أو موصوف، أو ذي حال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 فقد ذهب كثير من النحاة، في مثل قولك (خالد دائب في عمله) أنه بمعنى قولك (خالد يدأب في عمله) . ورأى الجرجاني غير ذلك حين أكد أن في دلالة الفعل، أي المضارع وهو (يدأب) من التجدد ما ليس في الاسم، وهو اسم الفاعل (دائب) . وأشار إلى مثل ذلك بعض الأئمة. قال ابن مالك في (ألفيَّته) : "أحمد ربي الله خير مالك" فعقب الأشموني على هذا فقال: أي أثنى عليه الثناء الجميل اللائق بجلال عظمته وجزيل نعمه، التي هذا النظم من آثارها"، وأردف: "واختار صيغة المضارع المثبت لما فيه من الإشعار بالاستمرار التجددي. أي كما أن آلاءه تعالى تتجدد في حقنا دائماً، كذلك نحمده بمحامد لا تزال تتجدد.." وفي قوله: "واختار صيغة المضارع" ما يشعر بخصوصية هذه الصيغة في الدلالة على التجدد. وهذه شواهد الجرجاني وأمثلته. ومنها قوله تعالى: ?وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد –الكهف /18?. قال الجرجاني: "فإنّ أحداً لا يشك في امتناع الفعل ها هنا، وأن قولنا: وكلبهم باسط ذراعيه، لا يؤدي الغرض. وليس ذلك إلا لأن الفعل يقتضي مزاولة وتجدد الصفة في الوقت، ويقتضي الاسم ثبوت الصفة وحصولها من غير أن يكون هناك مزاولة وتزجية فعل ومعنى يحدث شيئاً فشيئاً، بل تثبته بصفة هو عليها، فالغرض إذن تأدية هيئة الكلب /134". وقد ذهب جماعة إلى أن اسم الفاعل في الآية، وهو (باسط) جاء للماضي، أي أن زمن حصوله للمخبر عنه سابق نزول الآية الكريمة على رسول الله (?) ، وقد أجيب عن ذلك بأن الكلام قد جاء على حكاية الحال، بدليل قوله تعالى (وكلبهم باسط) والواو للحال، ولا يحسن أن يقال هنا: وكلبهم بسط، بالماضي، وإنما يحسن أن يقال بعد واو الحال: وكلبهم يبسط. وقد جاء قبل الآية قوله تعالى: ?ونُقَلِّبهم ذات اليمين وذات الشمال? فأتى فيها بالفعل المضارع الدال على الحال أو الاستقبال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 ومن شواهد الجرجاني في هذا الباب، قوله تعالى ?هل من خالق غير الله يرزقكم –فاطر /3" فقد ذهب الجرجاني أن الفعل قد أتى بصيغة المضارع لأن الرزق يتجدد ساعة بعد ساعة ولو قيل (هل خالق غير الله رازق لكم بصيغة اسم الفاعل لكان المعنى غير ما أريد (ص /136) . وهكذا قول الجرجاني (زيد منطلق) فإنه لا يعني عنده غير إثبات الانطلاق لزيد أما (زيد ينطلق) فقد قال فيها: "فإذا قلته، أي زيد ينطلق، فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءاً جزءاً وجعلته يزاوله ويُزجيه..". ويتبين بما قدمنا أن الجرجاني قد رأى التجدد في صيغة المضارع دون سواها، وقد استنَّ بسنته في وصف الفعل بالتجدد الدكتور المخزومي في ما اقتبسه عنه، لكنه لم يقصر التجدد على المضارع منه، فقال: "ان الجملة الفعلية هي التي يدل فيها المسند على التجدد.. وبعبارة أوضح هي التي يكون فيها المسند فعلاً لأن الدلالة على التجدد إنما تستمد من الأفعال وحدها /241". ثم استشهد في إثبات مقالة التجدد هذه بمثال جاء به على صيغة الماضي فقال: "ومعنى هذا أن كلاً من قولنا طلع البدر والبدر طلع جملة فعلية.."، ففاته بذلك فهم مذهب الجرجاني في التجدد، وفي دعواه أن البدر طلع) جملة فعلية. وانظر بعد إلى ما جاء في (الكليّات) لأبي البقاء الكفوي. قال أبو البقاء: "اشتهر عند أهل البيان أن الاسم يدل على الثبوت والاستمرار، والفعل يدل على التجدد والحدوث –5 /182"، فأشار إلى نحو مما خلص إليه الجرجاني، في هذا الباب، ولم يشر إلى ما يريده بالفعل صراحة. لكنه بحث هذا في موضع آخر فقال: "الجملة الاسمية إذاً كان خبرها اسماً فقد يقصد بها الدوام والاستمرار الثبوتي بمعونة القرائن"، وأردف: "وإذا كان خبرها مضارعاً فقد يفيد استمراراً تجددياً –5 /174"، فكشف عن أن ما يريده بالفعل هو المضارع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وعلق أبو البقاء عمل اسم الفاعل ودلالته على الاستمرار، على كونه للحال أو الاستقبال، فقال: "اسم الفاعل إذا كان للاستمرار يصح إعماله نظراً إلى اشتماله على الحال والاستقبال، والغاؤه لاشتماله على الماضي –5 /317". الثبوت في الصفة المشبهة: وإذا دلَّ اسم الفاعل على الاستمرار والدوام فإن الصفة المشبهة أصل في الثبوت. فقد جاء قوله تعالى: ?ثم إنكم بعد ذلك لميِّتون –المؤمنون /15". قال الإمام البيضاوي في تفسيره: "لصائرون إلى الموت لا محالة، ولذلك ذكر النعت الذي للثبوت، دون اسم الفاعل". ولكن أوَ لا يصح ها هنا أن يقال: (ثم إنكم بعد لمائتون) بلفظ اسم الفاعل؟ أقول يصح هذا إذا أريد به الاستمرار، فقد أشار إلى ذلك الإمام البيضاوي نفسه، حين أردف: "وقد قرئ به" أي قرئ باسم الفاعل أيضاً. ولا يخفى أن دلالة (الميت) بتشديد الياء، في الآية، نحو دلالة (المائت) ، أي لا بد أنهم صائرون إلى الموت، ولا يعني أنهم فارقوا الحياة. وكذلك قوله تعالى: ?إنك ميِّت وإنهم ميِّتون –الزمر / 30? بتشديد الياء. قال الراغب في مفرداته: "قيل معناه ستموت، تنبيها أنه لا بد من الموت، كما قيل: والموت حتم في رقاب العباد". وجاء في الكليات لأبي البقاء الكفوي: "والميْت مخففة هو الذي مات، والميِّت بالتشديد، والمائت هو الذي لم يمت": وقد ذهب إلى هذا جماعة، لكن الذي عليه نصوص المعجمات أن المائت هو الحي، والميت بالتخفيف هو الذي فارق الحياة. أما الميِّت بالتشديد فقد يعني الحي كالمائت، ويعني فاقد الحياة كالميت بالتخفيف. وجاء في الحديث الشريف: "يتبع الميْت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله". والميت فاقد الحياة، وقدروي ها هنا بالتخفيف. (إعراب الحديث النبوي للعكبري –ص /121) . مذهب الدكتور السامرائي في الجملة الفعلية والاسمية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 بسط الدكتور السامرائي مذهبه في هذه المسألة، في كتابه (الفعل زمانه وأبنيته) ، فسلك طريقة المخزومي في ما رسمه من حد يفرق به الجملة الفعلية من الاسمية، وجرى على منهاجه فجعل قوله (سافر محمد) و (محمد سافر) سواء في الإسناد، لأن المسند فيهما هو الفعل، وهذا سبيل الجواري نفسه في الموازنة بين الجملتين. لكن السامرائي قد أخذ على المخزومي قوله بتجدد الفعل. قال السامرائي: "وقد خالف الدكتور المخزومي الأقدمين في حد الجملتين الفعلية والاسمية. فقد ذكر أن الجملة الفعلية ما كان فيها المسند فعلاً، وقد أصاب الأستاذ المخزومي الحقيقة في الحد الذي رسمه للجملة، فإن: سافر محمد، جملة فعلية هي نفسها: محمد سافر. غير أن الدكتور المخزومي الذي أفاد من مقالة الجرجاني واتخذها دليلاً للتمييز في الجملة الاسمية والفعلية، لم يفطن إلى أن هذه المقالة حجة عليه. فالتجدد المنسوب للفعل المسند إلى الاسم، لم يتحقق في قولهم: محمد سافر وسافر محمد. ومن هنا لا يمكن للسيد المخزومي أن يعتبر الجملتين فعليتين.."، وأردف: "أما نحن فنقول أنَّ محمدٌ سافر وسافر محمدٌ جملتان فعليتان، ما دام المسند فعلاً، وليس لنا أن نلصق التجدد بالفعل لأن ذلك ليس من منهجنا، لأن الشواهد لا تؤيد هذا التجدد المزعوم". وقد أوضح السامرائي رأيه في تجدد الفعل فقال: "وكيف لنا أن نفهم التجدد والحدوث في قولنا: مات محمد وهلك خالد وانصرف بكر. فهذه الأقوال كلها أحداث منقطعة لا يمكن لنا أن نجربها على التجدد والحدوث. واختيار الجرجاني لـ: ينطلق، مفيد له في إثبات مقالته. أما أن يكون الفعل: سافر وذهب ومات، وما إلى هذا، فليس في ذلك ما يحقق غرض الجرجاني، ولا ما ذهب إليه المخزومي –204 /205". الجواب عما جاء به السامرائي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 أقول في الجواب عما جاء به السامرائي لا حجة لمقالة القائلين أن (سافر محمد) و (محمد سافر) سيَّان في الإسناد لأن المسند فيهما هو الفعل، وسنبين ذلك بعد. أما تجدد الفعل الذي أتت به مقالة الجرجاني، فقد تأكد أنه مقصور على المضارع، خلافاً لأمثلة المخزومي. والسامرائي على حق حين أنكر تجدد الأفعال في ما أورده من الأمثلة، لا لشيء سوى أنها أتت على صيغة الماضي، لا المضارع، كما بسطنا القول فيها قبل. إذ ليس في قولك (سافر محمد) و (محمد سافر) أو في قولك (البدر طلع) و (طلع البدر) ما يشعر البتة بتجدد الفعل. ولكن ما الذي أراده السامرائي بقوله: "غير أن الدكتور المخزومي الذي أفاد من مقالة الجرجاني، واتخذها دليلاً للتمييز بين الجملة الاسمية والفعلية، لم يفطن.."؟ فما الذي أفاده المخزومي من مقالة الجرجاني واتخذ منه دليلاً للتمييز بين الجملتين؟ أقول الذي فعله الجرجاني هو أنه بسط القول في دلالة مختلف الصور التي تؤديها الجملة الفعلية والاسمية، فأبان مثلاً فرق ما بين دلالتي (زيد ينطلق) و (زيد منطلق) الاسميتين، وبين (قتل الخارجيَّ زيدٌ) و (قتل زيدٌ الخارجي) الفعليتين، وبين (ينطلق زيد) الفعلية و (زيد ينطلق) الاسمية، وبين (ضربت زيداً) الفعلية و (زيد ضربته) الاسمية.. وهكذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 ومما قاله الجرجاني مثلاً في الفرق بين أن يكون المسند في الجملة الاسمية اسماً لا تجدد فيه، أو فعلاً متجدد الحدث، فقال في كلامه على (فروق الخبر) : "ان موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء، من غير أن يقتضي تجدده شيئاً بعد شيء. أما الفعل فموضوعه على أن يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئاً بعد الشيء، فإذا قلت: زيد منطلق فقد أثبتَّ الانطلاق فعلاً له من غير أن تجعله يتجدد ويحدث منه شيئاً فشيئاً، بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك زيد طويل وعمر قصير. وكما لا يقصد ها هنا إلى أن تجعل الطول أو القصر يتجدد ويحدث كما توجبهما وتثبتهما فقط، وتقضي بوجودهما على الإطلاق، كذلك لا تتعرض في قولك: زيد منطلق لأكثر من إثباته لزيد. وأما الفعل فإنه يقصد منه إلى ذلك.. فإذا قلت زيد هو ذا ينطلق فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءاً فجزءاً، وجعلته يزاوله ويزجيه.. –133 /134". فقد جاءت مقالة الجرجاني هذه للتمييز بين كون الخبر اسماً يثبت به المعنى للمبتدأ دون تجدد، أو فعلاً يثبت به وقوع الحدث منه في تجدد. والذي أفاده المخزومي من هذا أنه اتخذ الفرق بين الخبرين حداً يميز به الجملة الاسمية من الفعلية، وذلك ما لم يخطر للجرجاني على بال أو يجري له في حساب، عدا ما غاب عن المخزومي من أن الذي عناه الجرجاني بالفعل، هو المضارع دون سواه. وقد أفاد السامرائي نفسه من مقالة الجرجاني هذه، فحكاها عنه في كتابه (الفعل زمانه وأبنيته /202) ، وعقَّب عليها فقال: "وعلى هذا فالجملة الاسمية ما دلَّ فيها المسند على الدوام والثبوت"، وأردف: "ومقالة الجرجاني هذه في التمييز بين الفعل والاسم ينبني عليها التمييز بين الجملة الفعلية والجملة الاسمية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وهكذا فات السامرائي في استنباطه هذا ما فات المخزومي من مقالة الجرجاني. إذ كان فعلاً غرض الجرجاني من مقالته هذه بيان الفرق في الإسناد بين أن يكون الخبر اسم فاعل أو فعلاً مضارعاً (أي جملة فعلية فعلها مضارع) في جملة اسمية لم يتغير مبتدؤها، ويؤيد ذلك قول الجرجاني بعد هذا: "ولا ينبغي أن يغرك، إذا تكلمنا في مسائل المبتدأ والخبر، أنا قدرنا الفعل في هذا النحو تقدير الاسم، كما تقول في زيد يقوم أنه في موضع زيد قائم.."، فدلَّ هذا أن كلاً من الجملتين (زيد يقوم) و (زيد قائم) تتألف من مبتدأ وخبر، فهما إذن جملتان اسميتان. السامرائي وموضوع النحو: نهج السامرائي، كما ذكرنا، نهج الجواري والمخزومي في التسوية به قولك (قام الرجل) و (الرجل قام) ، فنفد على الشيخ الجارم مذهبه في اتخاذ مذهب النحاة في التمييز بين الجملتين الفعلية والاسمية، وكشف عما يعنيه تقديم الفعل في الأولى وتأخيرها في الثانية، على ما انتحاه الجرجاني في (الدلائل) ، قال السامرائي: "وهذه المسألة البلاغية لا يمكن أن تكون مادة في البحث النحوي، والشيخ الجارم يجد في دلائل الإعجاز للجرجاني ما أعانه على إثبات ما أثبته. وهو في ذلك كالأستاذ المخزومي في التماس مادته من المصدر نفسه /206". ثم أوضح رأيه فقال: "وعلى هذا فإن هذا المنحى ليس منهجاً نحوياً ولا يقرب منه، في أي وجه من الوجوه /208"، وخلص إلى القول: "ولقد بحث علماء المعاني في الجملة العربية بحثاً خاصاً بهم، ذلك لأن ما خاضوا فيه ليس من مادة النحو الذي يقتصر على أجزاء الجملة وعلاقات هذه الأجزاء ببعضها ووصفها كما تبدو في بناء الجملة /212". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وهكذا سلك السامرائي في معالجة المسألة مسلكاً لا يتناول فيه حقيقة ما ذهب إليه الجرجاني وتابعه فيه الجارم، في التفريق بين الجملتين، أهو حقيقة علمية راهنة يدعمها البحث وتؤيدها الأدلة الواضحة، والبيِّنات المسلَّمة وعلم اللغة الحديث، فلا بد من الأخذ بها، أم هو شيء لا يتصل بهذا كله فلا بد من معارضته واستبعاده، وإنما يأبى الخوض في ذلك لأن المسألة مسألة بلاغية، لا يمكن أن تكون مادة البحث النحوي، وأن تحريرها يستلزم العدول إلى منحى ليس هو منهجاً نحوياً ولا يقرب منه، في أي وجه من الوجوه. أقول يمن الإجابة عما ذهب إليه السامرائي من جهتين الأولى: أن ما يجب الفحص عنه هنا، هو حقيقة الحد الذي اقتاس به الباحثان الجرجاني والجارم، سواء أكان البحث فيه من شأن البلاغة أم من شأن النحو. فإذا صحَّ أن لكل من الجملتين شأناً في التعبير لا تؤديه الأخرى، فالجملتان متغايرتان، وإن اشترط النحاة في الفاعل أن يتقدم عليه فعله ليتميز بذلك من المبتدأ الذي تبدأ به الجملة الاسمية، أمر يقتضيه الفعل بين شأنيهما، وأي غرابة في أن تتغير معاني التركيب بتغير مواضع عناصره؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الثانية: أنه لا غنى لمادة النحو من بحث ما نحن بسبيله من الكشف عن تغير الدلالة في كل من الجملتين بتنقل أجزائها. فإذا كان غرض النحو الأول وقاية اللسان من اللحن والخطأ، ولذا جعلوا منه العلم الذي تعرف به أحوال أواخر الكلم إعراباً وبناءً، فكان علم الاعراب، كما ذكر الزمخشري في مقدمة كتابه (المفصَّل) فإن من أغراض النحو، ولا شك، انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من اعراب وغيره.. ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، كما قال ابن جني في الخصائص (1/132 –ط1913م) ، وقد أشار الزمخشري في موضع آخر في مقدمته إلى علاقة ما بين النحو والبيان فقال: "وهو المرقاة المنصوبة إلى علم البيان المطلع على نكت نظم القرآن"؛ فعبر بذلك عن اتصال النحو بالبلاغة وتلازمهما، وقد برع الجرجاني في ذلك وبسط القول فيه. وأكد ابن سيده أبو الحسن كلام ابن جني في مخصصه، حين حاول تعريف علم النحو، فاستعار ألفاظ ابن جني نفسها ولم يخرج عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وقد عرضت لهذا في كتابي (مذاهب وآراء في نشوء اللغة وتدرج معانيها /111) ، إذ جاء فيه: "ولا يخفى أن النحو عند الأوائل هو علم العربية الذي يُعرف به وجهة كلام العرب وما يقصدون إليه في التعبير عن أغراض النفس. وقد أشار إلى ذلك الأشموني حين قال: وهو العلم المستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب، الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها، كما أشار إليه ابن عصفور في المقرّب حين ذكر أن المراد هنا بالنحو قولنا علم العربية، لا قسيم الصرف، أه‍. أما عند المتأخرين فقد غدا النحو غالباًً: علم الاعراب والبناء، كما نبه عليها الصبَّان حين قال: واصطلاح المتأخرين تخصيصه بفن الإعراب والبناء وجعله قسيم الصرف، وأردف: وعليه فيعرف بأنه علم يبحث فيه عن أحوال أواخر الكلم إعراباً وبناء، وموضوعه الكلم العربية من حيث ما يعرض لها من الإعراب والبناء. أه‍.وهكذا تحوَّل النحو مما كان عليه من البحث في صحة تأليف الكلم للتعبير عما في النفس من أغراض، إلى البحث في ضبط الأواخر إعراباً وبناءً، ضماناً لسلامة اللسان من اللحن، وبسط الكلام في عوامل ذلك والإسهاب في تعليله بالجدل النظري، فبد النحو وقد غار ماؤه وشاه بهاؤه وساء مذاقه، وإلا فإن توكيد العناية بالمعاني كان يوجب دراسة اللفظ في تركيب الجملة بدراسة موقعه من التركيب عامة من حيث اتصاله بالأجزاء الأخرى وتأثره بها وتأثيره فيها، ثم دراسة الجملة مجتمعة الشمل من حيث صورة التعبير وأسلوبه، وقد جرد النحو من هذا كله وخصصت به علوم البلاغة كالمعاني والبيان ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 وهذا سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان (180هـ‍) أمام هذا العلم وعَلَم أعلامه، قد ضمَّن كتابه أبواباً جُعِلتْ بَعْدُ مادةً لعلم المعاني، فأشار بذلك إلى أن هذه الأبواب ملازمة للنحو لا تنفك عنه بحال من الأحوال. قال سيبويه: "هذا باب تخبر فيها عن النكرة بالنكرة، وذلك قولك: ما كان أحد مثلك، وليس أحد خيراً منك، وما كان أحد مجترئاً عليك. وإنما حسن الإخبار ها هنا عن النكرة حيث أردت أن تنفي أن يكون مثل حاله شيء، أو فوقه، فإن المخاطب قد يحتاج إلى أن تعلمه مثل هذا. وإذا قلت: كان رجل ذاهباً، فليس في هذا شيء تعلمه كان جهله، ولو قلت: كان رجل من آل فلان فارساً، حَسُنَ، لأنه قد يحتاج إلى أن تُعلمه أن ذاك من آل فلان، وقد يجهله. ولو قلت كان رجل في قوم فارساً، لم يحسُن، لأنه لا يستنكر أن يكون في الدنيا فارس، وأن يكون من قوم، فعلى هذا النحو يحسن ويقبح ... 1 /26 و27". فقد تجاوز سيبويه في كتابه مادة النحو، في هذه المرحلة، إلى ما أسموه بعد بعلم الصرف وعلم المعاني وعلم البيان وعلم العروض وعلم الأصوات وعلم القراءات، من علوم العربية، بل علم النقد الأدبي، ذلك لتلازم هذه العلوم واستحالة انفكاك بعضها من بعض، فجاء كتابه متضمناً كل ما يُستعان به على فهم كلام العرب والكشف عن سر تأليفه. وإذا عمد علماء العربية في دراساتهم بعد إلى تخصيص كل علم منها بمادة وموضوع للغوص على جزئيات كل من هذه العلوم، فلا يعني ذلك إمكان الفصل بينها في التماس فهم كلام العرب، ففي كل علمٍ منهما تمام للعلم الآخر، بل جلاء لأسراره ودقائقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 ولا شك في أن ما جاء به سيبويه، ها هنا، ونحوه مما ذكره في مواضع أخرى من كتابه، قد أوحى إلى الجرجاني ما أوحى، في كتابه (دلائل الإعجاز) مما يتصل بعلم المعاني. وقد تحدث الجرجاني عن معاني النحو، ونبَّه على أن النظم، وهو موضوع الكلام بشكل من الأشكال، إنما يتوخى هذه المعاني. وإذا كان العلماء قد قصروا الحديث عن المعاني المذكورة، على ما أسموه بعلم المعاني، فإنهم لم يوفقوا في فصله عن النحو، جملة وتفصيلاً، لأنه نوره الذي به يُهتدى إلى صوغ الكلام وإحكام البيان. وقد وفق الجرجاني حقاً في الكشف عن اتصال النحو بالبلاغة خاصة وتلازمهما. وقد حذا هذا الحذو ويمم هذا السمت الإمام أبو يعقوب السكاكي (ت 626هـ‍) في كتابه (مفتاح العلوم) فقد تحدث فيه عن علوم البلاغة فجعل ما تعلق منها بمطابقة الكلام لمقتضى الحال والتتبع لخواص تراكيب الكلام مادة علم البيان، وما اختص بوجوه تحسين الكلام، بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال ووضوح الدلالة مادة البديع، فهو أخص من علمي المعاني والبيان، لكنه قال في مقدمة كتابه: قد ضمنت كتابي هذا من أنواع الأدب، دون نوع اللغة، ما رأيت أن لا بد منه، وهذه عدة أنواع متآخذة، فأودعته علم الصرف بتمامه وأنه لا يتم إلا بعلم الاشتقاق.."، وأردف: "وأوردت علم النحو بتمامه، وتمامه بعلمي المعاني والبيان ... "، فدلَّ بذلك على تعلق النحو بعلم البلاغة وتأكيد مهمة اللغة في الأداء والإبلاغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 وقال في موضع آخر من كتابه: "أن علم النحو هو أن ننحو معرفة كيفية التركيب في ما بين الكلم لتأدية أصل المعنى مطلقاً بمقاييس مستنبطة من استقراء كلام العرب وقوانين مبنية عليها، ليحترز بها عن الخطأ في التركيب من حيث تلك الكيفية. وأعني بكيفية التركيب تقديم بعض الكلم على بعض ورعاية ما يكون من الهيئات إزاء ذلك، وبالكلم نوعيها المفردة وما هي في حكمها –المفتاح /37". وجاء في شرح السيد للمفتاح: "وأما عن المركبات فباعتبار هيئاتها التركيبية وتأديتها لمعانيها الأصلية فعلم النحو".وهذا هو أبو إسحاق الشاطبي إبراهيم بن موسى (790هـ‍) يعرِّف علم النحو في شرح (الخلاصة) فيقول: "وهو في الاصطلاح، علم بالأحوال والأشكال التي بها تدل ألفاظ العرب على المعاني، ويعني بالأحوال وضع الألفاظ من حيث دلالتها على المعاني التركيبية، أي المعاني التي تستفاد بالأشكال..". بل هذا ابن كمال باشا (940هـ‍) يقول في رسائله، وقد عرض فيها لعلم النحو: "ويشارك النحوي صاحب علم المعاني في البحث عن المركبات، إلا أن النحوي يبحث عنها من جهة هيئاتها التركيبية صحة وفساداً، ودلاله تلك الهيئات على معانيها الوضعية على وجه السداد، وصاحب المعاني يبحث عنها من حيث النظم المعبر عنه بالفصاحة في التركيب، وقبحه ... " ثم خلص إلى القول: "وهذا كون علم المعاني تمام علم النحو". وقال الأستاذ إبراهيم مصطفى، رحمه الله، في كتابه (إحياء النحو) : "وجاء بعد ذلك بآماد الشيخ عبد القاهر الجرجاني، فرسم في كتابه –دلائل الإعجاز-طريقاً جديداً للبحث النحوي، وتجاوز أواخر الكلم وعلامات الإعراب وبيَّن أن للكلام نظماً وأن رعاية هذا النظم واتباع قوانينه هي السبيل إلى الإبانة والإفهام وأنه إذا عدل الكلام عن سنن هذا النظم.. لم يكن مفهماً معناه ولا دالاً على ما يُراد منه /16". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وإذا كانت مادة النحو لا تتجاوز الحكم على أواخر الكلم وعلامات الإعراب، فلا شك في أن عالم النحو المحيط به خُبراً الواقف على جليل أحكامه ودقيقها، يستطيعُ أن يتحاشى الخطأ في بيانه وتعبيره ويتبين صحيح الكلام من فاسده، لكنه قاصر أن يتعرَّف كيف يكون إحكام الأداء وإحسان التعبير وإجادة السبك، وتمييز سديد الكلام من سفسافه، بل قاصر أن يتعرَّف كيف يكون انتهاج سبيل الفصحاء في تأليف الكلام نثراً ونظماً، وهو ما قد أشرنا إليه في كتابنا (مسالك القول في النقد اللغوي –ص /62) .. وأنَّى لدارس النحو هذا أن يعي نظام صياغة كلام العرب ومتصرف قولهم ويستشف طرق نسجهم وحبكهم إذا انحرف عن غرض النحو في تعرّف روح العربية ونهجها في التأليف والتعبير وتصريف المعاني فقصر النحو على بحث أثر العوامل في أواخر الكلم. ولا شك أن الجرجاني قد وفق في ما ذهب إليه من تجاوز ظواهر الاعراب إلى تبين أسراره وأغراضه ودواعيه. فإذا نحن أفردنا مذهب الجرجاني لنجعل منه مادة لعلم المعاني وحسب، وحبسناه عن مادة النحو، فقد بخسنا النحو حقه بل أيبسنا نسغه وغضنا ماءه وأذهبنا نداوته. وقد كشف الدكتور أحمد البدوي في كتابه (عبد القادر الجرجاني) عما انتهى إليه الجرجاني في كتابيه (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) من أن أصل المعنى يمكن أن يعبَّر عنه بطرق مختلفة، وأن لكل عبارة من ذلك معناها الخاص الذي تفترق به عن العبارة الأخرى، لأن العبارتين لا يمكن أن تؤديا معنىً واحداً، إلا إذا اتفقنا من جميع الجهات. أقول هذا ما فات كثيراً من النحاة أن ينبهوا عليه ويفصحوا عنه، في كثير من الأحيان، فأغفلوه وتجاوزوه حين أغرقوا في الصناعة اللفظية، وقصروا الاهتمام على ضبط أواخر الكلم. مذهب العلاَّمة الحصري في الجملة الفعلية والاسمية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وممن عمد إلى هذا الموضع من البحث، فسلك مسلك الجواري والمخزومي والسامرائي، في مخالفة الحد الذي اتخذه جمهور النحاة في تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية، وسوّى بين تقديم الفعل وتأخيره في مثل قولك (جاء خالد) و (خالد جاء) بل سبقهم إلى ذلك العلاَّمة الأستاذ ساطع الحصري في كتابه (آراء وأحاديث في اللغة والأدب) . قال الحصري: "ومن المعلوم أن الجملة تنقسم إلى قسمين فعلية واسمية: ولكننا عندما ننظر إلى الأمور نظرة منطقية، يجب أن نفهم من تعبير جملة فعلية: الجملة التي تحتوي على فعل، وبتعبير آخر الجملة التي تعلمنا ما حدث وما يحدث. كما يجب أن نفهم من تعبير جملة اسمية الجملة التي لا تحتوي على فعل؛ وبتعبير آخر: الجملة التي تخبرنا عن أوصاف اسم من الأسماء وحالاته"، وأردف: "غير أن قواعد اللغة العربية لا تلتزم هذه التعريفات والمفهومات المنطقية، بل تخالفها كلية، فإنها تعتبر الجملة فعلية عندما تبتدئ بفعل، واسمية عندما تبتدئ باسم. ومعنى ذلك أنها لا تصنف الجمل حسب أنواع الكلمات التي تتألف منها، بل تصنفها حسب نوع الكلمة التي تبتدئ بها، دون أن تلتفت إلى بقية كلماتها /107". ويمضي الحصري في شرح مذهبه ونقد مذهب النحاة، فيقول: "ونظراً لهذه القواعد الرسمية فإن عبارة: نام الولد، يجب أن تعتبر جملة فعلية، في حين أن عبارة الولد نام، يجب أن تعتبر جملة اسمية، مع أن كلتيهما تتألفان من الكلمتين أنفسهماوتؤديان المعنى نفسه/108". الرأي في ما جاء به الحصري ومن نحا نحوه، في التسوية بين تقديم الفعل على فاعله وتأخيره عنه: نقول في الجواب عما تقدم من كلام الحصري، إن الذي نراه هو أن قولك (نام الولد) لا يؤدي مؤدَّى قولك (الولد نام) عند التحقيق، ولو أوهم ظاهر الجملتين غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 فلكل من هاتين الجملتين شأن في التعبير، وموضع من الأداء، لا تسد مسدَّه الجملة الأخرى، إذ ليس يكفي أن تتفق العناصر التي تتألف منها كل من الجملتين، بل ينبغي أن يتفق فيهما موضع كل عنصر من الآخر، وليست هذه الحقيقة وقفاً على اللغة العربية. ذلك أن قولك (جاء خالد) و (نام الولد) في الجملة الفعلية، قد دلَّ على مسند أو خبر لم يطرق أذن السامع، ولم يسبق ذكره في سياق الكلام. فإذا ذكر الخبر أي المسند انتظر السامع ذكر الذي أسند إليه، وهو الفاعل، وإذا ذكر هذا اتصل بفعله فأصبح جزءاً منه. أما قولك (خالد جاء) أو (الولد نام) في الجملة الاسمية، فقد دلَّ على مسند إليه قد ذكر في السياق، ومسند أو خبر معلوم يرادُ التوثق من إسناده إليه. قال الإمام عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ‍) في كتابه (دلائل الإعجاز) : "لا تؤتى بالاسم مُعرَّى من العوامل إلا لحديث قد نُوي إسناده إليه /77". وقد أسند الخبر إلى ما هو موضوع الكلام، وهو (خالد أو الولد) وحُمل عليه دون أن يتصل اتصال الفاعل بفعله. وان ما قدمناه في الموازنة بين دلالتي الجملة الاسمية والفعلية من مذهب لغوي متكامل للإمام الجرجاني قد أتى به منذ القرن الحادي عشر من الميلاد، وجاءت المذاهب الحديثة تعزز مذهبه هذا وتؤيده. وإنا لنسأل كل من قال بالتسوية بين (خالد جاء) و (جاء خالد) ، ألست تقول (خالد جاء) فتحدَّث السامع عن (خالد) ، وقد جاء ذكره بينكما وبات السامع ينتظر منك أن تحدثه عنه، فإذا أخبرته بمجيئه أَزَلْتَ الشك لديه في حقيقة مجيئه؟ كما تقول (جاء خالد) فتبادر السامع بإخبارك إياه عن مجيئه دون أن يقتضي ذلك تقدم ذكره، فكيف يستوي القولان في التعبير إذاً؟ ولا تستوي العبارتان في أداء معنى، ما لم تتفقا في البنية وتتطابقا في البنية وتتطابقا في موضع كل جزء من أجزائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وإذا كان النحاة قد ميزوا قولك (خالد جاء) من قولك (جاء خالد) فأسموا الأول جملة فعلية والثاني جملة اسمية، ولم يتطرقوا صراحة إلى الكشف عن الفرق بينهما في أداء المعنى، وانصرفوا إلى الاهتمام بالصناعة اللفظية، فقد جاء الجرجاني ليكشف عما قصَّر النحاة غالباً في إيضاحه والإفصاح عنه، من حيث اختلاف الأداء في كل من الجملتين. ولا يخفى أن (خالد جاء) جملة اسمية مركبة، تتألف من مبتدأ ومن خبر هو جملة فعلية، فإذا أردت الجملة الاسمية البسيطة قلت (خالد آتٍ) . أما (جاء خالد) فهو جملة فعلية وحسب. وانظر إلى ثقوب رأي الجرجاني وبعد غوره، بل أصالة فكره، في الإشارة إلى المواضع التي يدعو فيها الأداء إلى تقديم الفاعل ليكون مبتدأ. قال الجرجاني في دلائل الإعجاز (ص /99) : "واعلم أن هذا الذي بات لك في الاستفهام والنفي من المعنى في التقديم، قائم مثله في الخبر المثبت. فإذا عمدت إلى الذي أردت أن تحدّث عنه بفعل فقدمت ذكره ثم بنيت الفعل عليه فقلت: زيد قد فعل وأنا فعلت وأنت فعلت، اقتضى ذلك أن يكون القصد إلى الفاعل، إلا أن المعنى في هذا القصد ينقسم إلى قسمين: أحدهما: جليٌّ لا يشكل، وهو أن يكون الفعل فعلاً قد أردت أن تنص فيه على واحد فتجعله له، وتزعم أن فاعله دون واحد آخر، أو دون كل أحد. ومثال ذلك أن تقول: أنا كتبت في معنى فلان، وأنا شفعت في بابه، تريد أن تدعي الانفراد بذلك.. وتزيل الاشتباه فيه، وتردد على من زعم أن ذلك كان من غيرك، أو أن غيرك قد كتب ما كتبت. ومن البيِّن في ذلك قولهم في المثل: أتعلمني بضبٍّ أنا فرشته؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 والقسم الثاني: ألاَّ يكون القصد إلى الفاعل، على هذا المعنى، ولكن على أنك أردت أن تحقق على السامع أنه قد فعل وتمنعه من الشك، فأنت لذلك تبدأ بذكره وتوقعه أولاً، ومن قبل أن تذكر الفعل في نفسه، لكي تباعده بذلك من الشبهة وتمنعه من الإنكار، أو من أن يظن بك الغلط أو التزيّد. ومثاله قولك: هو يعطي الجزيل وهو يحب الثناء، لا تريد أن تزعم أنه ليس ها هنا من يُعطي الجزيل ويحب الثناء غيره.. ولكنك تريد أن تحقق على السامع أن إعطاء الجزيل وحب الثناء دأبه، وأن تمكِّن ذلك في نفسه.."، ومن شواهد الجرجاني على هذا القسم قول الشاعر: شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما هما يلبسان المجد أحسن لبسة قال الجرجاني: "لا شبهة في أنه لم يرد أن يقصر هذه الصفة عليهما ولكن نبه لهما قبل الحديث عنهما"، وأردف: "وأبين من الجميع قوله تعالى: واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون –النحل /20، فليس المراد أنهم وحدهم هم الذين يُخلقون، كما في المعنى الأول، ولكن تأكيد أن الفعل ثابت لهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ويشير الجرجاني إلى ما يراه بتقديم المحدَّث عنه فيقول: "فأنت قلت فمن أين وجب أن يكون تقديم ذكر المحدث عنه بالفعل آكد لإثبات ذلك الفعل له، وأن يكون قوله: هما يلبسان المجد، أبلغ في جعلهما يلبسان، من أن يقال: يلبسان المجد /101". وهو يعلل ذلك فيقول: "قلت ذاك من أجل أنه لا يؤتى بالاسم معرّى من العوامل إلا لحديث قد نوي إسناده إليه، وإذا كان كذلك فإذا قلت: عبد الله فقد أشعرت قلبه بذلك أنك قد أردت الحديث عنه، فإذا جئت بالحديث فقلت مثلاً: قام، أو قلت: خرج، أو قلت: قدم، فقد علم ما جئت به، وقد وطَأت له وقدَّمت الإعلام فيه، فدخل على القلب دخول المأنوس به، وقبله قبول المتهيئ له المطمئن إليه، وذلك لا محالة أشد لثبوته وأنفى للشبهة وأمنع للشك وأدخل في التحقيق –101 /102"، وأردف: "وجملة الأمر أنه ليس إعلامك الشيء بغتة مثل إعلامك له بعد التنبيه عليه والتقدمة له، لأن ذلك يجري مجرى تكرير الإعلام في التأكيد والأحكام". وذكر الجرجاني بعض المواضع التي لا بد فيها من الأخبار عن الاسم بالفعل، فقال: "ومما هو بهذه المنزلة في أنك تجد المعنى لا يستقيم إلا على ما جاء عليه من بناء الفعل على الاسم، قوله تعالى: إنَّ وليي الله الذي نزَّل الكتاب وهو يتولَّى الصالحين –الأعراف /195، وقوله تعالى: وقالوا أساطير الأوَّلين اكتتبها فهي تُملَى عليه بُكرة وأصيلاً –الفرقان /5، فإنه لا يخفى على من له ذوق أنه لو جيء في ذلك بالفعل غير مبنيّ على الاسم، فقيل: إن وليي الله الذي نزَّل الكتاب ويتولَّى الصالحين، بحذف هو، واكتتبها تُملى عليه، بحذف هي، لوجد اللفظ قد نبا عن المعنى، والمعنى قد زال عن صورته والحال التي ينبغي أن يكون عليها –105 /106". مذهب الجرجاني في ضوء علم اللغة الحديث: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وقد عقد الدكتور جعفر دك الباب في كتابه (الموجز في شرح دلائل الإعجاز، في علم المعاني) فصولاً فريدة في مذهب الإمام الجرجاني اللغوي، في ضوء علم اللغة الحديث، وأقام الموازنة بين مذهبه ومذاهب هذا العلم، فخلص من بحثه إلى أن من حق مذهب الجرجاني أن يظفر بالمكان اللائق به، في علم اللغة الحديث، لا لأن مذهبه هذا يكمل النظرية البنوية الوظيفية الحديثة، بل لأنه يعتمد إلى ذلك على مفهوم البنية العميقة والبنية الظاهرية للجملة، فهو يمثل بذلك اتجاهاً متطوراً في علم اللغة الحديث، وأكد أن مذهب الجرجاني يثبت صحة تمييز علماء النحو العربي نوعين للجملة العربية. ولا يخفى أن البنوية في الأصل مذهب فكري يتحرى رؤية المجتمعات، والأعمال الفنية واللغة، والأدب، من خلال البنى التي تتألف منها هذه المركبات، والبنيه وحدة مستقلة قائمة على عناصر داخلية متساندة. فالبنوية تتطلب في الأدب، مثلاً، تحليل النص إلى بناه، وتفكيك البنية إلى أجزائها المتنقلة وإعادة تركيب هذه الأجزاء، بحيث تعود منتظمة مترابطة، تختلف فيها الصورة باختلاف مواقع هذه الأجزاء بعضها من بعض. وقد كان رائد هذا المذهب في القرن العشرين الفيلسوف الفرنسي رولان بارت، ومضى في تكوينه علماء كتشوفسكي ومينيه وسوسير وماير، وبدا بعد متكاملاً بفضل العالم الفيلسوف الفرنسي كلود ليفي اشتراوس. أما علم اللغة الحديث، أو علم اللسان الحديث، فهو العلم الذي ينظر إلى اللسان أداة للإبلاغ وظاهرة فيزيائية ونفسية واجتماعية عامة الوجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وقد نحا هذا النحو، بل سبق إلى مواضع منه الإمام الجرجاني، حين ذهب إلى أن اللغة إنما هي أداة إبلاغ السامع ما يجهله، وعمد إلى تحليل النص الأدبي والانتهاء به إلى وحدته، وهي الجملة، والكشف عن بنية الجملة الظاهرية الأصلية، والإفصاح عن اختلاف الصور في الجملة باختلاف مواقع أجزائها بالتقديم والتأخير، وميَّز ما قُدّم من هذه الأجزاء لغرض تحويل الصورة عما هي عليه، وما قدَّم وهو على نية التأخير فلم يمل بالصورة عن إطارها. بل كشف عن موقع كل جملة من الأداء بتنقل أجزائها أو تغيرها، فنفى أن تتفق جملتان فيما تعنيان ما لم تتماثلا من كل وجه. ولا بأس أن نلمَّ بطرف من حديث الجرجاني عن (التقديم والتأخير) ، وهو يتصل بما نحن بسبيله من الكلام على الفعل. قال الجرجاني: "واعلم أنا لم نجدهم اعتمدوا في –تقديم الشيء –شيئاً يجري مجرى الأصل، غير العناية والاهتمام. قال صاحب الكتاب، سيبويه، وهو يذكر الفاعل والمفعول: كأنهم يقدمون الذي بيانه أهمَّ لهم، وهم بشأنه أعنى، وإن كانا جميعاً يُهمانهم ويعنيانهم. ولم يذكر في ذلك مثالاً. وقال النحويون: إن معنى ذلك أنه قد يكون من أغراض الناس في فعلٍٍ ما أن يقع بإنسان بعينه، ولا يبالون من أوقعه، كمثل ما يعلم من حال الخارجي يخرج فيعيث ويفسد ويكثر من الأذى، أنهم يريدون قتله، ولا يبالون من كان القتل منه، ولا يعنيهم منه شيء، فإذا قُتل وأراد مريدٌ الإخبار بذلك، فإنه قدم ذكر الخارجي، فيقول: قتل الخارجيَّ زيد، ولا يقول: قتل زيدٌ الخارجيَّ، لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له، زيدٌ، جدوى وفائدة فيعنيهم ذكره ويهمهم ويتصل بمسرتهم، ويعلم أن حالهم أن الذي هم متوقعون له ومتطلعون إليه: متى يكون وقوع القتل بالخارجي المفسد، وأنهم قد كَفوا شرّه وتخلّصوا منه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 ثم قال: "فإن كان رجل ليس له بأس ولا يقدّر فيه أن يقتل رجلاً، وأراد المخبر أن يَخبر بذلك، فإنه يقدم ذكر القاتل فيقول: قتل زيد رجلاً، ذلك لأن الذي يعنيه ويعني الناس من شأن هذا القتل طرافته وموضع الندرة فيه، وبعده كان من الظن، ومعلوم أنه لم يكن نادراً وبعيداً من حيث كان واقعاً بالذي وقع به، ولكن مِنْ حيث كان واقعاً من الذي وقع منه، فهذا جيد بالغ". وقد خلص الجرجاني من حديثه إلى القول: "إلا أن الشأن في أنه ينبغي أن يعرف في كل شيء قدِّم في موضع من الكلام مثل هذا المعنى، ويفسَّر وجه العناية فيه هذا التفسير. وقد وضع في ظنون الناس أنه يكفي أن يقال: أنه قدَّم للعناية ولأن ذكره أهم، من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية، ولمَ كان أهمَ، ولتخيلهم ذلك قد صَغُر أمر التقديم والتأخير في نفوسهم، وهوَّ نوا الخطب فيه، حتى أنك لترى أكثرهم يرى تتبعه والنظر فيه ضرباً من التكلف، ولم تر ظناً أزرى على صاحبه من هذا وشبهه /84 و85". وتدبَّر نضج الجرجاني في تقديم المفعول من قوله تعالى:"وجعلوا لله شركاء الجنّ –الأنعام /100"، إذ قال: "ليس بخافٍ أن لتقديم الشركاء حسناً وروعة ومأخذاً من القلوب، أنت لا تجد شيئاً منه ان أنت أخّرت فقلت: وجعلوا الجن شركاء لله، وأنك ترى حالك حال من نقل الصورة المبهجة والنظر الرائق والحسن الباهر، إلى الشيء الغفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل، ولا تصير النفس به إلى حاصل"، وأردف: "والسبب في أن كان كذلك هو أن للتقديم فائدة شريفة ومعنىً جليلاً، لا سبيل إليه مع التأخير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وقد أوضح ذلك فقال":وبيانه أنا وإن كنَّا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجن شركاء، وعبدوهم مع الله تعالى، وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم، فإن تقديم الشركاء يفيد هذا المعنى، ويفيد معه معنى آخر، وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا من غير الجن. وإذا أخر فقيل: جعلوا الجنَّ شركاء له، لم يُفد ذلك، ولم يكن فيه شيء أكثر من الأخبار عنهم بأنهم عبدوا الجن مع الله تعالى، فأما أن يُعبد مع الله غيره، وأن يكون له شريك من الجن وغير الجن فلا يكون في اللفظ مع تأخير الشركاء دليل عليه -221 /222". *** أقول هذا ما بدا لنا بسط الكلام فيه على (الجملة الفعلية والجملة الاسمية) ، وتأكيد صحة مذهب النحاة في هذه القسمة، والرد على من أخذ عليهم ذلك من علماء العصر، وما جاء به الإمام الجرجاني في الكشف عن دقائق النظم وأسراره وتحليل بناه وتأييد على اللغة الحديث لصائب فكره وثاقب نظره في هذا الاتجاه، وسنعد مقالاً لما انتحاه هذا العلم في مناصرة مذهب الجرجاني، ومن الله العون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 الجُموع إذا اعتلَّ مُفرَدُها كثيراً ما يشكل الجمع إذا ما اعتلت عين مفرده أو لامه، فلفظ (الثُّريَّا) بضم الثاء وفتح الراء وياء مشددة، على هيئة التصغير، قد جمع على (الثُّرَيَّات) بإضافة الألف والتاء بعد حذف ألف التأنيث، عند بعضهم، كما جمع (الثُّريَّيات) بإضافة ياء مخففة، بعد الياء المشددة، عند آخرين. ويلتبس الأمر أيضاً فيما اعتلت عينه كمكيدة ومعيشة، متى تظهر الياء في تكسيره، ومتى تبدل همزة، وكذلك المنارة والملامة والمناحة والمغارة والمخاضة، أترد ألفها في التكسير إلى الأصل، أم تؤول همزة. ولابد في هذا من ضابط يُقتاس به، وقياس يُطبع على غراره، فيُعرف بهديه حال المفرد المعتل ووجه الحكم فيه. *جمع الثريا *عرض الأستاذ محمد علي النجار في كتابه (لغويات) لـ (ثُريَّا) أتجمع على (ثُريَّات) ، بياء مشددة بعدها ألف وتاء. أم على (ثرييات) بإضافة ياء مخففة بين الياء المشدّدة والألف والتاء؟ ... ولا يخفى أن (الثُّريَّا) اسم للنجم المعروف. وقد جاء في اللسان (والثروان الغزير، وبه سمي الرجل ثروان، بفتح وسكون، والمرأة ثريا، بضم الثاء وراء مفتوحة بعدها ياء مشددة، وهي تصغير ثَروى. والثريا من الكواكب سميت لغزارة نَوْئها، وقيل سميت بذلك لكثرة كواكبها مع صغر مرآتها. فكأنها كثيرة العدد بالإضافة إلى ضيق المحل. لا يتكلم به إلا مصغراً، وهي تصغير على جهة التكبير ... ) . وقد أطلقت (الثُّريا) على المصباح، ففي اللسان: (الثريا من السُّرج، بضم السين والراء، على التشبيه بالثريا من النجوم) . وفي المزهر (2/ 164) ، (وقال أبو حاتم: الثريا النجم مؤنثة بحرف التأنيث مصغرة، ولم يسمع لها تكبير، وكذلك الثُّريا من السُّرج) . أما جمع (ثريا) فبابه التصحيح بالألف والتاء، بعد أن تقلب ألف تأنيثه ياء، كما تقلب ألف (حُبلى) ، في التثنية والجمع، فيقال (ثرييات) ، بتشديد الياء الأولى مفتوحة كما هو الأصل، تعقبها الياء المخففة التي صارت إليها الألف المقلوبة: كما قلبت ألف (حبلى) فجمعت على (حُبلَيات) . لكن الشائع في جمع (ثريا) كما اطرد في كلام الكتَّاب وكثر على الالسنة هو (ثريات) بحذف ألفه وإضافة الألف والتاء، فهل لهذا وجه في طرائق العربية؟ ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 ذهب الأستاذ النجار إلى أن العربية لا تجيز حذف الألف الخامسة إلا استثناء. وقد استشهد بقول الرضي في شرح الكافية (2/ 174) : (وقد يحذف الألف الزائدة خامسة فصاعداً في التثنية والجمع بالألف والتاء، كما في زَبْعَرى وقَبَعثرى. ولا يقاس عليه خلافاً للكوفيين) . وهكذا جمع الأستاذ (الثريا) على (الثرييات) . لكنه استدرك فقال: (لولا أن الثريات قد ذاعت وشاعت وأصبح من العسير صرف الناس عنها وتجنيبهم إياها) فلم يَر جواز حذف الألف الخامسة من (ثريا) لتجمع على (ثريات) ، بل ذهب إلى التسمح في هذا الجواز. وقد حاول أن يلتمس لهذا الحذف وجهاً فخلص بعد البحث إلى أن للثريا صورة أخرى هي (الثرية) بتاء التأنيث، وهذه تجمع قياساً على (ثريَّات) . قال: (هذا وقد رأيت في كتاب الأنيس المطرب .... كتابة الثريا في صورة الثُّريَّة. وقد ذكر هذه الصورة في كتابة ـ الثريا ـ دوزي في معجمه، وهذا كما ينطق به العامة اليوم. وهو جار على أصل سَرى في لسانهم. وقد يستبدلون بألف التأنيث تاء التأنيث فيقولون في الحُبلى حُبلة، وفي الحمراء بعد قصرها حمرة) . ثم قال: (ويحاول بعض الباحثين أن يجعل الثَّرية تصغيرة ترخيم للثروَى، وعلى هذا فالثريات جمع صحيح) . *من المحدثين من أوجب جمع ثريا على ثريات * قد بحث جمع (ثريا) الأستاذ عباس حسن في سفره المشهور (النحو الوافي) ، فذهب مذهباً آخر أوجب فيه حذف الألف الخامسة في المفرد، وجمعه على (ثريات) ، كما طاعت به ألسنة الكتاب، دون (ثرييات) فجرت مقالته من مذهب الأستاذ النجار مجرى الضد. وقد استدل على ما انتحاه بقول صاحب المزهر (2/ 52) : (ليس في كلامهم كلمة فيها ثلاثة أحرف من جنس واحد. ليس ذلك من أبنيتهم استثقالاً، إلا في حرفين: غلام بَبَّة أي سمين، وقول عمر بن الخطاب: لئن بقيتُ إلى قابل لأجعل الناس بَبَّاناً واحداً، أي أساوي بينهم في الرزق والأعطيات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 أقول هذا قول ابن خالويه، ففي المصباح: (يقال هم ببّان واحد، مثقل الثاني، ونونه زائدة في الأكثر فوزنه فعلان، وقيل أصلية فوزنه فعَّال، والمعنى هم طريقة واحدة ... قال ابن خالويه في كتابه: ليس في كلام العرب كلمة ثلاثية من جنس واحد، سوى كلمتين ببّة وببّان واحد) . وقال الجوهري: (ويقال هم ببان واحد، كما يقال بأج واحد. قال عمر بن الخطاب ... ) . وأورد الحديث. وقال الأستاذ عباس حسن (4/ 458) : (وإذا قلبت الزائدة) على الثلاثة ياء، وأدى قلبها إلى اجتماع ثلاث ياءات في آخر كلمة واحدة، وجب حذف التي قبلها مباشرة، نحو ثريا وثريان وثريات، لكيلا يجتمع في الكلمة ثلاثة أحرف من نوع واحد) . وقال: (فلو قلبت ألفها ـ أي ألف ثريا ـ في التثنية .... وقلنا ثُرَييَّان لاجتمع في آخر الكلمة الواحدة ثلاثة أحرف هجائية من نوع واحد، وهذا ممنوع ـ غالباً ـ تبعاً لما نص عليه صاحب المزهر ... حيث قال: ليس في كلامهم ثلاثة أحرف من جنس واحد .... ) . فما صواب المسألة.؟ *جواز جمع ثريا على ثريات وثريَّات * صحة المسألة عندي أن جمع (ثريا) على (ثريات) بحذف ألفها جائز، بوجه من الوجوه، خلافاً لما ذهب إليه الأستاذ النجار، وأن جمعها بإثبات الياء على (ثرييات) غير مأبيّ ولا منكور، وهو الأصل والقياس، خلافاً لما انتحاه الأستاذ عباس حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 أما أن جمع (ثريا) على (ثريات) بحذف الألف سائغ، فذلك أنه إذا كان الرضي قد قصر حذف الألف الخامسة فصاعداً على (زبعرى وقبعثرى) ، فقال: (ولا يقاس عليه خلافاً للكوفيين) ، فانظر إلى ما جاء في اللسان حول تثنية (القهقرى والخوزلى) : (الأزهري: ابن الأنباري إذا ثنيت القهقرى أو الخوزلى تثنية بإسقاط الياء فقلت القهقران والخوزلان، استثقالاً للياء مع ألف التثنية وياء التثنية) . وقد أورد ذلك صاحب التاج فقال: (ونقل الأزهري عن ابن الأنباري قال: "القهقرى تثنية القهقران وكذلك الخوزلى، بحذف الياء فيهما استثقالاً لها مع ألف التثنية، وياء التثنية) . فقد رأيت أن حذف الألف الخامسة فصاعداً في المقصور، عند التثنية، والجمع، لا يقتصر على زَبَعرى وقَبَعثرى، إذ أجازوه في القهقهرى والخوزلى أيضاً. قال: الإمام الصبان في حاشيته (4/ 108) : (قولهم القهقران والخوزلان، والقياس قهقريان وخوزليان) ، بل أجازوه في (جوزلى) بالجيم أيضاً، قال صاحب الهمع (1/ 44) : (وورد أيضاً حذف الزائدة وهي خامسة، سمع جوزلان في جوزلى) . وما دامت العلة في الحذف، الاستثقال، فالاستثقال في اجتماع ياءات (ثريَّيات) ، أوجب لجواز الحذف وأدعى، والباب واحد. وإذا كان النحاة قد جعلوا من الاستثقال لاجتماع واوين تفصل بينهما ألف، سبباً لتثنية عشواء) على (عشواءين) بدلاً من (عشواوين) جوازاً أو وجوباً، فحذف ياء (ثريا) المقلوبة من ألفها عند الجمع أقرب وأسوغ. قال الأشموني (4/ 109) : (وزعم السيرافي أنه إذا كان قبل ألف واو، يجب تصحيح الهمزة، لئلا تجتمع واوان ليس بينهما إلا الألف. فتقول في عشواء عشواءان بالهمز، ولا يجوز عشواوان، وجوز الكوفيون، في ذلك الوجهين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 هذا وعلة الاستثقال في حذف ألف (ثريا) المقلوبة ياء، حين الجمع، هي علة جواز لا علة وجوب، فأنت تقول في الجمع (ثريات) على الحذف، كما تقول (ثرييات) على الأصل أما اعتداد الأستاذ عباس حسن هذه العلة المجوزة علة موجبة، وجمع (ثريا) على (ثريات) قصراً دون (ثرييات) فليس بالوجه ذلك أنه احتج لوجوب الحذف بدليلين: الأول: ماجاء في المزهر من امتناع اجتماع ثلاثة أحرف هجائية من جنس واحد في كلمة واحدة. والثاني: ما ذكره العلماء في باب التصغير من وجوب حذف إحدى الياءين إذا وليا ياء التصغير. أما عن الأول فالكلام ليس على إطلاقه. ذلك أن اجتماع ثلاثة أحرف هجائية من جنس واحد ممتنع إذا كانت أحرفاً أصلية. فقد قصر ابن خالويه كلامه في هذا على ماكان ثلاثياً، إذ قال: (ليس في كلام العرب كلمة ثلاثية من جنس واحد سوى كلمتين ... ) . فالنص إذن لا يجري على (ثرييات) البتة. هذا وليس مجيء الفاء والعين واللام على حرف واحد، في الكلمة الواحدة، ممتنع قطعاً، فقد جاء في الفعل. فانظر إلى قول ابن الحاجب في الشافية (1/ 72) ، (وأن الياء وقعت فاء وعيناً ولاماً، في ييَّيتُ) . قال الرضي: (مذهب أبي علي أن أصل الياء، يوى، فتقول يوّيت ياء حسنة، أي كتبت ياء، وعند غيره أصله، ييى، فهم يقولون: ييت، وتييت، وثييت إلى آخرها. وقال أبو علي: يوَّيت إلى آخرها) ، وقال: (وإنما حكم أبو علي بكونها واواً، وأن لامها ياء لكثرة باب طويت ولويت وكونه أغلب .... ) . والذي يعنيه هذا أن عدول أبي علي إلى (يويت) كان لمحض غلبة باب (طويت ولويت) ، لا لامتناع توالي الياءات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وأما عن الحجة الثانية فإن الأستاذ عباس حسن قد استند في جمع (ثريا) أو تثنيتها بالحذف، إلى علة حذف الياء في التصغير، فقال: (وإذا قلبت الزائدة على الثلاثة ياء وأدى قلبها إلى اجتماع ثلاث ياءات في آخر كلمة واحدة، وجب حذف التي قبلها مباشرة نحو ثريا وثريان، لكيلا يجتمع في الكلمة الواحدة ثلاثة أحرف من نوع واحد 4/ 458) . وبنى كلامه على ماجاء في (المزهر) مما تقدم القول فيه، وعلى ما أورده صاحب الهمع، والصبَّان، في باب التصغير. قال الأستاذ عباس حسن: (وجاء في الجزء الثاني من الهمع ما نصه: إذا ولي ياء التصغير ياءان حُذف أولاهما لتوالي الأمثال ... وجاء في الصبان أول باب التصغير ما نصه: قال في التسهيل يحذف لأجل ياء التصغير أولى ياءين ولياها ... ) . أقول قد شرح ذلك الأشموني فقال (4/ 164) : (فإنه إذا صغر تلحقه التاء نحو سماء وسميَّة. وذلك لأن الأصل فيه، أي تصغير سماء: سُمَيِّي، بثلاث ياءات، الأولى ياء التصغير والثانية بدل المَدَّة والثالثة بدل لام الكلمة: فحذف إحدى الياءين الأخيرتين، على القياس المقرر في هذا الباب، فبقي الاسم ثلاثياً فلحقه التاء ... ) . والذي يُفهم من كلامه أن حذف الياء هنا، حين تتوالى ثلاث منها، قياس مقرر في هذا الباب، أي في هذا الموضع الذي مثل له التصغير، لا على جهة الإطلاق، ولكن ما شروط الحذف هذه؟ ... أجاب عن ذلك الصبان في تعليقه على ما أثبتناه من كلام الأشموني، وقد أورد الأستاذ عباس حسن جانباً منه (4/ 533) ، قال الصبان: (قوله على القياس، وهو حذف إحدى الياءات الثلاث عند اجتماعها في الطرف، بعد عين الكلمة، فلا يرد تصغير مهيام على مهييم، وحي على حيي ـ 4 / 164) . على أن كلام الصبان هذا ككلام الأشموني مخصوص بالتصغير بل بموضع من التصغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 ذلك أنك إذا صغرت (سماء) قلت فيه (سُميِّو) على (فُعَيِّل) . فإذا أجريت عليه الإعلال قلت (سُميِّي) . وهكذا تجتمع ثلاث ياءات. قال الأشموني: (الأولى ياء التصغير والثانية بدل المدة، والثالثة بدل لام الكلمة، فحذف إحدى الياءين الأخيرتين) . فإذا أسقطت إحدى الياءين الأخيرتين فعلاً انتهت إلى (سُمَيّ) فإذا زدت التاء، وزيادتها واجبة فيه، قلت (سُميَّة) . وهكذا (عطاء) فتصغيره على (فُعَيِّل) عُطَي. والذي عنوه هنا بما مثلوا أن الياء المشددة بإدغام ياء التصغير بالياء التي تليها، قد جاءت مكسورة. وسترى أن هذا الكسر شرط للحذف مع تطرف الياء الثالثة. ولا يصح هذا في (ثريا) لأن أصلها (ثَروى) صُغرت على (ثُرَيَوَى) وزان فُعَيْلَى، فقلبت الواو فيها ياء فغدت (ثريا) ، فكانت الياء المشددة بإدغام ياء التصغير بالياء التي تليها، مفتوحة لا مكسورة، وبقيت كذلك في جمعها على (ثرييات) . اجتماع الياءات الثلاث في الاسم المصغر لا يوجب حذف إحداها إلا بشروط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 إن اجتماع ثلاث ياءات في الاسم المصغر: الياء المشددة المفتوحة والياء المتطرفة كما هو الحال في (ثرييات) ، وقد دعيت متطرفة لعدم لزوم الألف والتاء كما لم تلزم ألف التثنية، لا يستوجب الحذف الذي جرى في تصغير سماء وعطاء، خلافاً لما ذهب إليه الأستاذ عباس حسن. قال الرضي في شرح الشافية (1/ 231) : (وذلك إذا اجتمع ثلاث ياءات والأخيرة منها متطرفة لفظاً ... أو تقديراً ... وثانيتها مكسورة مدغم فيها، ولم يكن ذلك في الفعل نحو أحَيِّي ويُحَيِّي، ولا في الجاري على الفعل نحو المُحيَّي، وجب حذف الثالثة نسياً، كما يجيء في باب الإعلال تحقيقه) فلابد في حذف الياء الثالثة في المصغر من تحقق شروط أربعة: اجتماع ثلاث ياءات، وتطرف الأخيرة، وكسر الياء المشددة، وألا يكون ذلك في الفعل أو ما جرى على الفعل. وقد أكد الرضي في باب الإعلال (3/ 187) ، الشرط الثالث حين قال: (مع انكسار المشددة منها..) كما أكده في شرح الكافية (2/ 59) ، وهذا ما جاء في الكتاب لسيبويه (2/132) ، وشرح الشافية للرضي (1/235) ، و (3/188) ، و (3/192) . فدل ما ذكرناه وبسطنا القول فيه أنه ليس في (ثرييات) ما يوجب حذف الياء. فإذا عدلنا إلى الحذف فقلنا (ثريات) كما هو مذهب الكوفيين، وكما أجازه البصريون في جمع (الزبعرى والقبعثرى والقهقهرى والخوزلى والجوزلى) ، كانت علة الحذف، وهي الاستثقال، علة مجوّزة لا موجبة، كما بيناه. هذا وقد جاء وزان (ثريا) ، الحُذَيا للعطية أو القسمة من الغنيمة، والحُميَّا لشدة الغضب، والحدة والسَورة، والهُدَيا للمِثل، والحُديا للمنازع والمعارض، من التحدي. *ما اعتلت عينه فثبت حرف العلة في جمعه على مفاعل * يشكل على الكتاب جمع ما اعتلت عينه، على (مفاعل) أو ما جاء على هيئته، فيجمعون (المصير والمضيق) ، على مصائر ومضائق بالهمز، والصواب فيهما مصاير ومضايق بالياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 والقياس في هذا أنه إذا اعتلت عين المفرد أصلاً بواو أو ياء، أو ألف مقلوبة عنهما، ثبت الواو أو الياء في الجمع. تقول فيما اعتلت عينه أصلاً بياء أو ألف مقلوبة عنها (المصير والمصاير) من صار يصير، و (المضيق والمضايق) من ضاق يضيق، و (المكيدة والمكايد) من كاد يكيد، و (المعيب والمعاب والمعابة والمعايب) من عاب يعيب، و (المطار والمطير والمطاير) من طار يطير، و (المعيش والمعيشة والمعاش والمعايش) ، وهكذا تقول (ما زال العدو يبث لنا مصايده، وينصب مكايده، ويرسل جنده في شعاب الوادي ومضايقه) ، كما تقول: (ما زال الخصم يتسقط مثالبنا ويبغي معايبنا) ، و (الأمور بعواقبها ومصايرها) ، كل ذلك بالياء دون الهمز. قال الهمذاني في ألفاظه (هذه فواتح الأمور وأعقابها ومصادرها ومصايرها وعواقبها) ، وقال: (حصرتهم في مضايقهم ومحاجرهم) . وقال صاحب العين (الجِزع ما اتسع من مضايق الوادي نبت أم لم ينبت) . أما ما اعتلت عينه بواو أصلاً، أو ألف مقلوبة عنها، فإنك تقول فيه (المقام والمقامة والمقاوم) من قام يقوم، و (المعونة والمعاون) ، وهو مفعلة من العون، و (المثوبة والمثاوب) وهو مَفعَلة إذا كانت مَثوَبة، ومَفعُلة إذا كانت مَثُوبة وكلاهما من الثواب. و (المنارة والمناور) وهو مفعلة من النور، و (المجال والمجاول) من جال يجول، و (المقال والمقالة والمقاول) ، من قال يقول. وهكذا (المخاضة والمجاعة والمناحة والمغارة والمفازة والمسافة والمخافة) ، فإنك تقول في جمعها (المخاوض والمجازع والمناوح والمغاور والمفاوز والمساوف والمخاوف) . تقول: (ما أخلاني فلان من عائدته ونواله ومعاونه) ، و (جزاك الله المثاوب الحسنى) . وفي نهج البلاغة (2/232) : (كانت لهم مقاوم العز وحلبات الفخر) . وعلى هذا عامة ما يرد عليك من هذا الضرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 هذا وما تثبت الواو أو الياء في جمعه، يرد الحرف المعتل متحركاً في واحده. فالمعونة التي جمعت على (المعاون) مضمومة العين في الأصل لأنها (مفعُلة) . و (المناحة) التي كسَّرت على (المناوح) مفتوحة العين في الأصل لأنها (مفعلة) ، ذلك خلافاً لما تثبت الهمزة في جمعه بدلاً من المدة الزائدة في واحدة، كما سنراه. لهذا اعتد العلماء تحرك المعتل في الواحد شرطاً لثبوته في الجمع، وهو يثبت فيه ولو كان زائداً. قال الرضي في شرح الشافية (3/ 103) : (وذلك بقصد الفرق بين المدتين الزائدتين، وبين الواو والياء اللتين كان لهما في الواحد حركة سواء كانتا أصليتين كمقاوم ومعايش في جمع مقامة ومعيشة، أو زائدتين ملحقتين بالأصل كعثاير وجداول، في جمع عثير وجدول. فإن ما له حركة أصلية أجلد وأقوى فلا ينقلب) . وقال ابن يعيش في شرح المفصل: (ألا ترى أنك لا تهمز ياء معيشة، بل تتركها ياء على حالها في الجمع نحو قولك معايش، لكون الياء أصلاً متحركة في الأصل) . *ما كسِّر من الأسماء فثبتت الهمزة في جمعه * القياس فيما تثبت الهمزة في جمعه أن يكون في واحده حرف مد زائد كالألف في (رسالة) والواو في (عجوز) ، والياء في (دفينة) ، فأنت تقول في جمعها (رسائل وعجائز ودفائن) ، بالهمز. فالهمزة في جمعها بدل من المدة الزائدة في واحدها. قال الرضي في شرح الشافية (3/102) : (وأما الهمزة في نحو رسائل فبدل من الألف التي في الواحد، لا من الألف المنقلبة عن الواو والياء) . وهكذا تقول في (منيحة) : منائح. وأما (مناحة) فقد مر أن جمعها (مناوح) ، فالياء في منيحة حرف مد زائد، والألف في مناحة مقلوبة عن الواو المتحركة أصلاً. قال الهمذاني في ألفاظه: (هي النعم والمنائح والعطايا) . وقال ابن منظور (المناحة اسم يجمع على المناحات والمناوح) . *قد تخفف الهمزة فتقلب ياء أو يمتنع قلبها * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 من العلماء من أجاز تخفيف الهمزة في باب (رسائل) ولفظها (رسايل) . قال الأستاذ محمد علي النجار في كتابه (لغويات) : (بل وقفت على أن الزجاج أجاز النطق بالياء في نحو شعائر ورسائل وهاك نص الارتشاف: وفي الترشيح عجائز وقبائل ورسائل بالهمز، ولا تحرك بالياء لأنه لا أصل لها في الحركة. وقد يجوز تخفيف الهمز في هذا كله وقلبه ياء، أجازه أبو اسحاق الزجاج، قياس الهمزة قياس ماض في هذا وشبهه ا. هـ، وقرأ ابن كثير رواية شعاير بالياء) ، وذلك في قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله (. (البقرة ـ 158) . وإذا جاز تخفيف الهمزة في باب (رسائل) والتلفظ بها ياء، فلا وجه لهذا الإبدال البتة في مثل (بائع وقائل) . قال المبرد في الكامل (2/ 125) : (والرائع مهموز، وكذلك كل فعل من الثلاثة، مما عليه واو أو ياء، إذا كانت معتلة ساكنة. تقول: قال يقول، وباع يبيع، وخاف يخاف، وهاب يهاب، ويعتل اسم الفاعل فيهمز موضع العين نحو قائل وبائع وخائف وهائب. فإن صحت العين في الفعل صحت في اسم الفاعل نحو عوِر الرجل فهو عاور، وصَيِد فهو صايد. والصَيَد داء يأخذ في الرأس والعين والشؤون. وإنما صحت عوِر وحَوِلَ وصَيِدَ، لأنه منقول من أحولَّ واعورَّ..) . ونحو من ذلك قول ابن جني في كتاب التصريف (55) : (متى اعتلت عين فَعل بعد ألف فاعل همَزَتَ البتة لاعتلالها، ذلك نحو قام فهو قائم: وسار فهو سائر، وهاب فهو هائب، فإن صحت في الماضي صحَّت في اسم الفاعل أيضاً، وذلك نحو عوِر فهو عاوِر، وحَولِ فهو حاول، وصيد البعير فهو صايد غير مهموز) . قال الأستاذ محمد سعيد النعسان الحموي في شرحه: (يجب أن يكتب نحو قائم وسائر وهائب بالياء، على حكم التخفيف، لأن قياس الهمزة في ذلك أن تسهل بين الهمزة والياء، فلذلك كتبت ياء، وأما إبدال الهمزة في ذلك ياء محضة فنصُّوا على أنه لحن، ومن ثم امتنع نقط الياء من قائم وسائر وهائب ونحوها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وجاء في المخصص لابن سيده (2/ 6) : (ألا ترى أن عين فاعل، مما هي فيه حرف علة لا تأتي إلا مهموزة) . قال الشنقيطي في شرح المخصص: (آئب الصواب أن يكتب بالهمزة بعد المد، على قاعدة إبدال عين الفاعل المعتل فِعله، همزة. وهي قاعدة مطردة لم يستثن منها حرف) . فتبين بهذا أنك تهمز ماكان كـ (بائع) ، و (قائل) و (آئب) ، ولا تتلفظ بهمزته ياء صريحة البتة، بل تسهل بينها وبين الياء فتتلفظ بها بين بين. وهو ما يسميه العلماء تليين الهمزة أو تخفيفها بين بين. وهذا وقد انفرد الشيخ نصر الهوريني في كتابه المطالع النصرية بإجازة قول القائل (آيب) ، بالياء الصريحة، وتبعه فيه الشيخ حسين والي، في كتابه الإملاء، ولا سند لهما فيما ذهبا إليه من كلام العلماء، كما بسطنا القول فيه، وذكره الأستاذ محمد علي النجار في رسالته (اللغويات) . وذهب صاحب الكليات إلى جواز قول القائل (بايع) ، بالياء لأنه يائي، دون (قائل) ، فإنه بالهمز لأنه واوي، قال: (فرقاً بين الواوي واليائي ـ 5 / 158) . ولم أره في الأمهات. وإذا قيس اسم الفاعل من (جاء) قيل (جائئ) بهمزتين. فلما أبدلوا من الهمزة الثانية، وهي لام الفعل، ياء أبقوا على الأولى فقالوا (جاءٍ) بالتنوين بعد حذف الياء، ومؤنثه (جائية) . لكنهم صححوا الهمزة الثانية في الاستعمال حيناً. قال ابن جني في الخصائص (1/ 406) : (وأنشدوا قوله: فإنك لا تدري متى الموت جائئ إليك ولا ما يُحدث الله في غدٍ قيل: أجل قد جاء هذا، لكن الهمز الذي فيه عرَض عن صحة صنعة. ألا ترى أن عين، فاعل، مما هي فيه حرف علة لا تأتي إلا مهموزة، نحو قائم وبائع، فاجتمعت همزة فاعل، ولامه همزة، فصححها بعضهم في الاستعمال) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 وأكد صاحب الهمع ثبوت همزة فاعل من معتل العين فقال: (2/ 219) : (وتبدل الهمزة أيضاً من كل ياء أو واو وقعت عيناً لما يوازن فاعل وفاعلة ... نحو بائع وقائم أصلها بايع وقاوم) ، وفعلهما باع وقام معلّ، بخلاف مالم يعل فعله كصيد وعِور فهو صايد وعاور فلا إبدال فيه) . هذا وجاء في سر صناعة الإعراب لابن جني (1/ 53) ، في إيضاح قولهم الهمزة المخففة أو همزة بين بين: (ومعنى قول سيبويه بين بين، أي بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها، إن كانت مفتوحة فهي بين الهمزة والألف، وإن كانت مكسورة فهي بين الهمزة والياء، وإن كانت مضمومة فهي بين الهمزة والواو. إلا أنها ليس لها تمكن الهمزة المحققة. وهي مع ما ذكرنا من أمرها في ضعفها وقلة تمكنها بزنة المحققة، ولا تقع الهمزة المخففة، أولاً أبداً لقربها بالضعف من الساكن، فالمفتوحة نحو قولك في سأل: سال، والمكسورة نحو قولك في سئم: سيِم، والمضمومة نحو قولك في لؤم: لوُم) . *ما ثبتت الهمزة في جمعه خلافاً للقياس * إذا كان قياس ما اعتلت عين واحده بالواو أو الياء (أو بألف مقلوبة عنهما) أن يثبت حرف العلة في جمعه: خلافاً لباب (رسائل) وباب (بائع وقائل) ، فقد حكى العلماء ألفاظاً خرجت عن قياس ما ذكرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 فقد نقلوا في جمع (مصيبة) : (مصاوب ومصائب) : والقياس (مصاوب) لأن الياء مقلوبة فيه عن الواو أصلاً، وليست زائدة كياء (فعيلة) ليكون قياس جمعها (فعائل) . قال سيبويه في الكتاب (2/367) : (توهموا أن مصيبة فعيلة وإنما هي مُفعلة) . فقولهم (مصائب) ، إذاً على توهم زيادة الياء في (مصيبة) . وهو ما أسموه حديثاً (القياس الخاطئ) ... و (المصيبة) في الأصل (مُصوِبة) على مُفعلة) . قال صاحب التاج: (قال أحمد بن يحيى مصيبة كانت في الأصل مصوبة، ألقوا حركة الواو على الصاد فانكسرت، وقلبوا الواو ياء بكسرة الصاد.) . قال: (ونقل شيخنا في الترشيح أن أصل المصيبة الرمية بالسهم، ثم استعملت في كل نازلة) . وقال في اللسان (قال الزجاج: أجمع النحويون على أنهم حكوا مصائب في جمع مصيبة بالهمزة جميعاً، وأجمعوا أن الاختيار مصاوب، وإنما مصائب عندهم من الشاذ) . أقول أن (المصاوب) هو الأقيس، لكن (المصائب) ، هو الأسير والأشهر. قال المرزوقي في شرح ديوان الحماسة (1877) : (والمصائب جمع مصيبة. وهي مفعلة. وشُبه مدتها بمدة فعيلة وجمعت جمعها، والقياس مصاوب، وقد جاء، ولكنه في الاستعمال دون مصائب، وهذا مما شذ في القياس، أعني مصائب. ومصاوب شاذ في الاستعمال مطرد في القياس) . وقد أكد الرضى في شرح الشافية قياس (مصاوب) ، فجمع (مقيمة) و (مريبة) اسم الفاعل من (أقام) و (أراب) ، على مقاوم ومرايب. ذلك أنك إذا وضعت (مقيمة ومريبة) موضع الاسم فعدلت بهما عن الوصفية كما فعلت بـ (مصيبة) صح تكسيرهما، وقد كُسِّرا على مفاعل) كما رأيت. قال ابن الحاجب في الشافية (3/ 127) : (وتقلبان همزة في نحو قائم وبائع المعتل فعله ... ولم يفعلوه في باب معايش ومقاوم للفرق بينه وبين رسائل) . فقال الرضي في شرحه (3/ 134) : (قوله ولم يفعلوه في باب معايش، أي فيما وقع بعد ألف الجمع، فيه واو أو ياء ليست بمدة زائدة، سواء كانت أصلية، كما في مقيمة ومقاوم، ومريبة ومرايب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 *المنائر والملائم والمزائد والمعائن والمعائش والمدائن * وقالوا في جمع (المنارة) مناور ومنائر، والقياس (مناور) لأنه مَفعلة من النور. قال ابن جني في الخصائص (3/ 145) ، (وقالوا أيضاً منارة ومنائر، وإنما صوابها مناور لأن الألف عين، وليست زائدة) . فهم توهموا زيادة الألف في (منارة) ، فحملوها على (رسالة) ورسائل. وقالوا في جمع (الملامة) ملاوم وملائم، والقياس (ملاوم) . لأنه مَفعلة من اللوم. قال الهمذاني صاحب الألفاظ (وما زلت أتجرع فيك الملائم والملاوم، واللوائم أيضاً) . وقال عروة بن الورد، وهو شاعر جاهلي: إذا ما فاتني لم أستقله حياتي والملائم لا تفوت وجاء في شرحه: قوله إذا ما فاتني، أي الحق، لم أستقله، أي لا أقدر أن أرده، والملائم: يريد الملامة، أي لم يفتني اللوم، قال محقق الديوان: (ومعنى البيت إذا لم أقم بما يجب علي من الحق ندمت طول حياتي، ولم أعدم من يلومني على تركه) . وجمعوا (المزادة) على المزاود لأنه من الزاد، فعينه واو، قال ابن منظور: (قال أبو منصور المزادة مفعلة من الزاد، يُزوّد فيها الماء) . وقد جمعت على (المزايد) أيضاً. قال ابن منظور: (والمزادة مفعلة من الزيادة والجمع مزايد) ، وجاء في جمعها (المزائد) وهو شاذ. قال ابن جني في الخصائص (1/ 333) : (من ذلك استنكارهم همز مصائب، وقالوا منارة ومنائر، ومزادة ومزائد، فهمزوا ذلك في الشعر وغيره. وإنما الصواب مزاود ومصاوب ومناور) . وجاء في جمع (المعونة) المعائن، فحملت على أنها فعولة من (معن) . قال صاحب المصباح: (والاسم المعون والمعانة أيضاً بالفتح، ووزن المعونة مفعلة بضم العين، وبعضهم يجعل الميم أصلية، ويقول هي مأخوذة من الماعون، وهي فعولة) . وفي اللسان نحو من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وحكوا في جمع (المعيشة) المعايش والمعائش. أما المعايش فلأنه مفعلة من عاش يعيش، فالياء عين الفعل، وأن المعائش فلأنه فعيلة من معش، والياء زائدة. قال صاحب المصباح: (والمعيش والمعيشة مكسب الإنسان الذي يعيش به والجمع المعايش. هذا على قول الجمهور لأنه من عاش والميم زائدة ووزنه معايش مفاعل، فلا يهمزونه، وبه قرأ السبعة. وقيل هو من معش فالميم أصلية ووزن معيش ومعيشة فعيل وفعيلة، ووزن معائش فعائل فتهمز، وبه قرأ أبو جعفر المدني والأعرج) . وقال الرضي في شرح الشافية: (وقد تهمز معايش تشبيهاً لمعيشة بفعيلة، والأكثر ترك الهمز. وكذا قد تهمز المنائر في جمع منارة تشبيهاً له بفعالة، والفصيح المناور، والتزم الهمز في المصائب تشبيهاً لمصيبة بفعيلة) . وقالوا في جمع (المدينة) المدائن والمداين. فإذا جعلته من مدن بمعنى أقام كان (فعيلة وفعائل) ، والجمع (مدائن) بالهمزة، وإذا جعلته من (دينت) أي مُلكت فهي مدينة أي مملوكة، فالياء عين الفعل، والجمع (مداين) بالياء. قال أبو الطيب في الإبدال (2/ 31) : (والمدينة عند بعضهم فعيلة من مدن بالمكان إذا أقام به، سميت بذلك لأن الناس يقيمون بها، وقال آخرون: إنما وزنها: مفعولة، من قولك دينت أي مُلِكَتْ، فالمدينة: المملوكة، وكل مدينة مملوكة) . ونحو من ذلك ماجاء في الصحاح، قال الجوهري: (ومن جعله مفعِلة من قولك دين أي مُلك لم يهمز كما لا يهمز معايش) . فمفعوله في اليائي تصبح بعد حذف الواو (مفعِلَة) . *جمع المكان والمسيل * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 المكان بمعنى الموضع (مفعل) من الكون. لكنهم جمعوه على أمكنة كما جمع (فعال على أفعله) نحو طعام وأطعمة. وقالوا أماكن وهو جمع الجمع. أما (المكانة) للمنزلة فقد جمعوه جمع تصحيح على مكانات ولم يكسِّروه. قال ابن منظور (قال ثعلب: يبطل أن يكون المكان فعالاً، لأن العرب تقول كن مكانك، وقم مكانك. فدل هذا على أنه مصدر من كان أو موضع منه) . وقال الفيومي في مصباحه: (والمكان يذكر فيجمع على أمكنة، وأمكن قليلاً، ويؤنث بالهاء فيقال مكانة والجمع مكانات، وهو موضع كون الشيء) هذا هو المشهور. وجاء في التاج (والمكانة المنزلة عند مالك والجمع مكانات ولا يجمع جمع التكسير ... والمكان الموضع وجمعه أمكنة كقذال وأقذلة، وأماكن جمع الجمع) . فجمع المكان على أمكنة وأماكن، على توهم أصالة الميم، والميم فيه مزيدة لأنه مفعل من الكون. و (المسيل) ، إما (فعيل) ، فيجمع على مسلان كرغيف ورغفان وقضيب وقضبان، أو على أمسلة كرغيف وأرغفة أو مُسل كقضيب وقضب، وأما (مَفعِل) فلا يجمع إلا على (مفاعل) أي (مسايل) ، فهي كالمدينة التي هي فعيلة أو مفعِلة. قال الجوهري (ومسيل الماء موضع سيله والجمع مسايل، ويجمع أيضاً على مُسُل وأمسلة ومسلان، كما قالوا: رغيف ورغف وأرغفة ورغفان، ويقال للمسيل مسَل ... ) . وقال ابن جني (3/279) : (وأما مسيل فذهب بعضهم في قولهم في جمعه أمسلة، إلى أنه من باب الغلط. وذلك لأنه أخذه من سال يسيل، فهو عندهم على مَفعِل كالمسير والمحيض، وهو عندنا غير غلط، لأنهم قالوا فيه: مُسل، وهذا يشهد بكون الميم فاء، فأمسلة ومُسلان: أفعلة وفُعلان كأجربة وجُربان ... ) . *رأي المحدثين في جمع مفعلة معتل العين على مفاعل * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 عرض الشيخ ظاهر خير الله الشويري لجمع (مفعلة) الأجوف، في رسالته (المفعلة) ، فقال إن (المقالة والمقامة) من الواوي، و (المنالة والمعابة) ، من اليائي، وما ماثلها، مما صار إلى (مفعلة) الأجوف، بزيادة التاء، لا تجمع جمع تكسير، كما لا تجمع أصولها أي (المقال والمقام والمنال والمعاب) ، هذا الجمع، واعتل للمنع بأنها لو جمعت على (مقاول ومقاوم ومنايل ومعايب) لم يجر الإعلال على جمعها، وقد جرى على واحدها، خلافاً للقاعدة. ولو كسرت على غير (مقاول ومقاوم ... ) ، لم يردها جمع التكسير إلى أصلها، والقياس أن يردها إليه، فاقتصروا على جمعها بالألف والتاء. أقول لاشك أن (المقال والمقالة والمنال والمعاب) ، قد أعلت بنقل حركة العين إلا ما قبلها، وقلب الواو والياء ألفاً، فإذا جمعت على (مقاول ومقاوم ... ) . لم يجر الإعلال على الجمع، وإنما يُعدل عن إعلاله ويرد إلى أصله للفرق بينه وبين باب رسائل. قال ابن الحاجب في الشافية (3/ 127) : (وتقلبان همزة، أي الواو والياء، في نحو قائم وبائع المعتل فعله ... ولم يفعلوه في باب معايش ومقاوم، للفرق بينه وبين رسائل) . هذا وإذا كان قد جاء في فقه اللغة أن (المعايب) من الجموع التي لا يعرف لها واحد (576) ، فقد جاء في المخصص لابن سيده (12/ 170) : (ابن السكيت هو العيب والعاب والمعيب، والمعاب، والجمع عيوب ومعايب) . وجاء في نهج البلاغة (2/ 232) : (كانت لهم مقاوم العز وحلبات الفخر) ، كما جاء فيه (1/ 170) : (ولم تختلف في مقاوم الطاعة مناكبهم) . قال الشارح: (المقاوم جمع مقام والمراد الصفوف) ، وأنه لكذلك. قال الأخطل: وأني لقوام مقاوم لمن يكن جرير ولا مولى جرير يقومها وقد استشهد به ابن جني في خصائصه (3/ 145) ، لما نحن فيه فقال: (ومن الجيد قول الأخطل ... ) . وجاء في الوساطة للقاضي الجرجاني (133) : (بل أفصِّل لك بين المراتب والمقاوم) . وعلى ذلك النص واستعمال الأوائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 فإذا كان ما ذهب إليه الشيخ ظاهر خير الله رداً لما جرى عليه النحاة وقننوه، وخروجاً عما اقتاسوا به وانتحوه في هذا الباب اعتماداً على ما حكي عن العرب، فقد كان الوجه أن يشير إلى سنده وحجته فيه. وهو قد استن بسنة النحاة حين اعتل للمنع بأن الأصل في جمع التكسير أن يعل إذا أعل واحده، وأن يرد المجموع إلى أصله. على أن قوله إذا أعل المفرد أعل الجمع لا يجري على إطلاقه. فإنك تجمع (الدار) ، وقد أعلَّت، على (ديار) وهي مُعَلَّة أيضاً. كذلك يجمع (ريَّان) وقد أعلّ، على (رواء) . وقد صححت فيه الواو ولم تعلّ. ذلك أن شرط الاعلال هنا أن تقع الواو عيناً لجمع تكسير صحيح اللام قبل كسرة، وأن تعل في واحده. فإذا كانت في اللام هي المعتلة وجب تصحيح الواو كـ (ريان ورواء) . وهكذا صحح حرف العلة في (معايش ومقاول) ، كما صحح في (عثاير وجداول) ، لأن شرط الإعلال فيما جاء على مثال (مفاعل) ، وما وازنه، أن يكون حرف العلة في واحدة مدة زائدة كصحيفة ورسالة، فإذا كان متحركاً امتنع الإبدال سواء كان الحرف المعتل أصلاً كمعايش ومقاوم أو ملحقاً كعثاير وجداول. قال الرضي في شرح الشافية (3 / 102) : (وأما كون الواو والياء في الجمع الأقصى هما في واحدة مدتان زائدتان كعجائز وكبائر، وذلك لقصد الفرق بين المدتين الزائدتين وبين الواو والياء اللتين كان لهما في الواحد حركة، سواء كانتا أصليتين كمقاوم ومعايش، في جمع مقامة ومعيشة أو زائدتين ملحقتين بالأصل كعثاير وجداول) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 قال الأستاذ ظاهر خير الله (ولا يشكل المعايب فإنه جمع معيب لا جمع معاب) . أقول إذا كان المعيب هو اسم المفعول فلا يجمع على (معايب) تكسيراً، لما بيناه في الصفات. وإذا كان هو (مفعل) بكسر العين اسماً كان أو مصدراً على رأي جماعة، فإنه يجمع على المعايب كالمعاب الذي هو مفعل بفتح العين، ولا حجة للأستاذ في التفريق بين جمعيهما. ولم يفرق ابن السكيت، على ما حكاه ابن سيده في مخصصه (12/ 170) : حين قال (هو العيب والعاب والمعيب والمعاب، والجمع عيوب ومعايب) . وقد اعتل الأستاذ لمنع تكسير معاب فقال: (لأن مثل المقام والمقال والمنال والمعاب بُني في الأصل للواحد من النوع، والتاء التي تلحقه تاء الأخصيه ... فحوفظ في جمعه على صيغته للدلالة على معناه الوضعي، وجمع الجمع الذي لا يغير صيغة المفرد، أي بالألف والتاء، توصلاً للدلالة على التعدد مع فقدان الدلالة الوضعية) . وكان الأستاذ يعني فيما تقدم من كلامه، أنه إذا جمع الواحد من (النوع) على حد تعبيره، جمع سلامة، حفظ عليه معناه الوضعي، وكانت دلالة الجمع محض التعدد، فإذا كسر فقد معناه الوضعي، ولست أدري ما معوَّل الأستاذ فيما يورد ويأتي به. وكل مايمكن أن يقال في هذا الصدد أنك إذا جمعت ما كان للجنس (كالتمر والشجر) ، فقد أردت اختلاف الأنواع فيه، لأن اسم الجنس يقع على القليل والكثير، فالأصل فيه ألا يُجمع، ولا فرق في هذا بين أن يكون الجمع جمع تكسير أو تصحيح. قال الجوهري في صحاحه: (الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير) ، قال: (التمر اسم جنس الواحدة منها تمرة والجمع تمرات بالتحريك، وجمع التمر تمور وتُمران بالضم، ويراد به الأنواع، لأن الجنس لا يجمع في الحقيقة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وقد ذهب الأستاذ في إعلال ما جمع على (مفاعل) وما ماثله، مذهباً خالف به النحاة فقال: (وقالوا إن همز مصائب، من المصائب، والصواب غير ما قرروه، وهو أن الواوي إذا كانت عينه سلمت في المفرد من القلب كالمعونة والمثوبة، تسلم أيضاً في جمعه، فيقال المعاون والمثاوب، وإن كانت قلبت في المفرد أيضاً كالمنارة والمخاضة والمشارة والمغارة، يجوز في جمعها قلبها همزة وردها إلى أصلها. وقد يعبر عن الجمع بحذف تاء الواحدة، من ثم يقال: المنارات والمخاضات والمشارات والمغارات، والمنائر والمخائض والمشائر والمغائر، والمناور والمخاوض والمشاور والمغاور، والمنار والمخاض والمشار والمغار) . والذي يفهم من كلامه هذا أن ما جعله العلماء شاذاً كمنائر مثلاً اعتده هو قياساً فقال (مخائض ومنائر ومغائر) ، ولكن ما بيَّنته في هذا وما حجته؟.. وقد أضاف إلى هذا قوله (وإن كانت قلبت في المفرد ياء كالمصيبة فيتعين قلبها في الجمع همزة لبعدها عن أصلها كل البعد فيقال المصائب لا غير) . أقول قد جعل ابن جني مصائب شاذاً كما فعل سواه، لكنه حاول أن يعتل لهذا الشذوذ بأن الياء في (مصيبة) ، وإن لم تكن زائدة فإنها ليست بالأصل على كل حال، لأنها بدل من (الواو) في (مصوبة) . لكن الاعتلال للشذوذ، أو الاعتذار من الخطأ شيء، وجعله قياساً شيء آخر. قال ابن جني في الخصائص (3/277) : (ومن ذلك همزهم مصائب، وهو غلط منهم ... ) ، ثم قال: (وكأن الذي استهوى في تشبيه ياء مصيبة بياء صحيفة أنها، وإن لم تكن زائدة، فإنها ليست على التحصيل بأصل، وإنما هي بدل من الأصل، والبدل من الأصل ليس أصلاً، وقد عومل لذلك معاملة الزائد.) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 فإذا كان هذا هو الذي أوحى إلى الأستاذ أن يقول ما قال، ويقيس على ما اعتل له بوجه من الوجوه، فليس كل ما أمكن الاعتلال له بجائز أن يقاس عليه. وإذا صح الأخذ بما اعتل به ابن جني في توجيه همز (المصائب) للقياس عليه، فقد جاز جمع (المخالة) ، على مخائل بالهمز أيضاً، وقد منعه الأستاذ نفسه فقال: (وأما اليائي فيطرد في جمعه تكسيراً، سلامة عينه سواء كانت قلبت في المفرد ألفاً كالمخالة إذا اعتلت بنقل الحركة عنها فقط كالمعيشة، أو لم يلحقها منه ذلك شيء كالمشيخة، ومن ثم يقال المخايل والمعايش والمشايخ بالياء في جميعها) . فما باله يفرق بين الواوي واليائي في هذا، فيجيز منائر قياساً ولا يجيز مخاتل؟ ... بل ماباله يفرق ولا يعتل للتفريق؟ ولا يخفى أن (المصائب) مما اطرد في الاستعمال، وشذ في القياس، وهو لو قلَّ في الاستعمال وصح في القياس لكان طرد المسألة عليه، مقبولاً غير مأبي، وإن كان ما كثر استعماله وقوي قياسه أولى منه وأحجى. هذا و (المخالة) على مَفْعَلة بالفتح، مصدر (خال) ، وكذلك (المِخيلة) على مفعلة بالكسر، ومعناها (المظنة) ، ويجمعان على (مخايل) ، كما يجمع عليه (مُخيلة) اسم فاعل من أخال، و (مخيلة) بفتح الأول اسم المفعول، وقد أسميت بهما (السحابة) ، تحسبها مطارة. قال الجوهري: (وقد أخَلت السحابة وأخيلتُها إذا رأيتها مخيلة للمطر) . بضم الميم. وقال صاحب المصباح: (وأخال الشيء بالالف إذا التبس واشتبه، وأخالت السحابة إذا رأيتها وقد ظهرت فيها دلائل المطر فحسبتها ماطرة فهي مخيلة بالضم اسم فاعل، ومخيلة بالفتح اسم مفعول لأنها أحسبتك فحسبتها، وهذا كما يقال مرض مخيف بالضم اسم فاعل لأنه أخاف الناس، ومخوف بالفتح لأنهم خافوه) . وأردف (وعلى هذا يقال: رأيت مخيلة بالضم لأن القرينة أخالت أي أحسبت غيرها، ومخيلة بالفتح اسم مفعول لأنك ظننتها) . قال خُندج بن خندج: متى أرى الصبح قد لاحت مخايله والليل قد مُزِّقت عنه السرابيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 قال المرزوقي في شرح الحماسة (1830) : (ومخايله ما يتبين به دنوّه) . *** وقد عرض لما نحن فيه الدكتور مصطفى جواد في كتابه (قل ولا تقل) فأوجز القول فيه، وخلص إلى أنه (لم يشذ من كلمات الواو، وهي ألوف، إلا مصائب لأنها من أصاب يصيب، ومنهم من يقول مصاوب على القياس ... والمنائر جمع المنارة، ومنهم من يقول المناور على الأصل) . والصحيح أن ما شذ من الواوي ليس (مصائب) في جمع مصيبة، و (منائر) في جمع منارة حسب، فقد رأيت أننا ذكرنا من ذلك (المزادة والمزائد) ، و (المعونة والمعائن) ، و (الملامة والملائم) ... لكنه نادر على كل حال. *** وعرض لما نحن في سبيله الأستاذ محمد العدناني في معجمه (الأخطاء الشائعة) فأوجب جمع (مصير) على (مصاير) ، كما أوجب (مغاور) ولم يجز (مغاير) ، وقد أوجز فقال: (ويقولون اختبؤوا في مغاير الجبل، والصواب اختبؤوا في مغاور الجبل أو مغاراته. وجاء في الآية /58/ من سورة التوبة: (لويجدون ملجأ أو مغارات أو مدَّخلاً، لولُّوا إليه (. ولاشك أن (المغاور) هو الصواب كما أسلفنا، ولكن هل يقع جمعاً للمغار والمغارة؟ والمغارات جمع المغارة، ولكن هل تصح جمعاً للمغار أيضاً؟ ... أما أن (المغاور) بالواو دون الياء فذلك أنه من الغور، أما واحده فإنه المغار أو المغارة، كما فصلناه، وهو القياس. قال الجوهري: (والغار كالكهف في الجبل والجمع الغيران، والمغار مثل الغار، وكذلك المغارة) . فجعل المغار كالمغارة في دلالته، لكنه استدرك فأنزله منزلة الجمع فقال: (وربما سموا مكانس الظباء مغاراً) . وجاء (المنار) جمعاً (لمنارة) أيضاً. ففي الحديث (لعن الله من غيَّر منار الأرض) . قال ابن الأثير في النهاية: (المنار جمع المنارة، وهي العلامة تجعل بين الحدين، ومنار الحرم أعلامه ... ) . وجاء فيه أيضاً: (أن للإسلام صوى ومناراً أي علامات وشرائع يعرف بها) . وفي الأساس: (وهدم فلان منار المساجد: جمع المنارة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 ويبدو أن ما جاء كـ (مغاور ومنار ومخاض) ، من قبيل اسم الجنس، يقع على القليل والكثير، ويأتي واحده بالتاء فيقال (مغارة ومنارة ومخاضة) ، ولو أن الأصل في اسم الجنس أن يكون من المخلوقات. قال الرضي في شرح الشافية (2/ 193) : (اعلم أن الاسم الذي يقع على القليل والكثير، بلفظ المفرد، فإذا قصد التنصيص على المفرد جيء فيه بالتاء، يسمى اسم الجنس) . وقال: (2/ 199) : (والأغلب في الاسم الذي يكون التنصيص على الواحد فيه بالتاء، أن يكون في المخلوقات دون المصنوعات، قالوا: لأن المخلوقات كثيراً ما يخلقها الله سجية، يعني جملة، كالتمر والتفاح فيوضع للجنس اسم، ثم إن احتيج فيه إلى المفرد أدخل فيه التاء. وأما المصنوعات فمفردها يتقدم على مجموعها. ففي اللفظ أيضاً يقدم فردها على جمعها، وفيه نظر. لأن المجرد من التاء من الأسماء المذكورة ليس موضوعاً للجمع كما توهموا حتى يستقيم تعليلهم، بل هو لمجرد الماهية سواء مع القلة أو الكثرة) . وقال أيضاً: (وليس أسماء الأجناس التي واحدها بالتاء قياساً، إلا في المصادر نحو ضربة وضرب، ونصرة ونصر) . وقال في شرح الكافية (2/178) : (ويخرج أيضاً اسم الجنس، أي الذي يكون الفرق بينه وبين مفرده إما بالتاء نحو تمرة وتمر، أو بالياء نحو رومي وروم. وذلك لأنها لا تدل على آحاد، إذ اللفظ لم يوضع للآحاد، بل وضع لما فيه الماهية المعينة، سواء كان واحداً أو مثنى أو جمعاً) . وقد رأيت إلى قول الجوهري (والمغار مثل الغار) ، فدل بالمغار على الواحد، وإلى قوله: (والمنار علم الطريق) ، فجعل المنار للواحد أيضاً. وكذا (المخاض) ، فقد نص الصحاح واللسان والقاموس والتاج على أنه جمع. ولكن نص على مجيئه واحداً أيضاً. قال صاحب اللسان والقاموس والتاج على أنه جمع. ولكن نص على مجيئه واحداً أيضاً. قال صاحب اللسان (والمخاض من النهر الكبير الموضع الذي يتخضوض ماؤه فيخاض عند العبور عليه، ويقال المخاضة بالهاء أيضاً) ، فاحتد (المخاض) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 و (المخاضة) سواء. جمع المذكر من أسماء ما لا يعقل بالألف والتاء أسماع هو أم قياس يجمع (المغار والمغارة) على (مغاور) قياساً، كما يجمع (المغارة) بالتاء على (مغارات) ، ولكن هل يصح المغارات جمعاً لـ (مغار) ؟ ... المغار مفعل من غار يغور، فقياس جمعه (مغاور) لا مغارات. فما جمع بالألف والتاء من مذكر ما لا يعقل إنما هو الوصف اطراداً. أما الاسم فيما اتفق من جمعه بالألف والتاء فهو متروك للسماع. وقد عاب النقاد على المتنبي جمعه بوقاً على بوقات في غير ضرورة إذ قال: إذا كان بعض الناس سيفاً لدولة ففي الناس بوقات لها وطبول ذلك أن (بوقاً) وزان فعل بضم الفاء، وبابه أفعال في أقل العدد، و (فعول) في أكثره ... أما جمعه بالألف والتاء فلا يسوغ حتى يُسمع عنهم كما سمع جمع حمّام وساباط وخان وسجل وخيال ورمضان وشعبان وشوال وسواها، على حمَّامات وساباطات وخانات وهكذا ... وعاب الحريري (في درة الغوص) جمع (جوالق) على جوالقات، فقال: (ويقولون جمع جوالق جوالقات فيخطئون فيه لأن القياس المطرد ألاَّ تجمع أسماء الجنس المذكر بالألف والتاء، وإنما أشذت العرب عن هذا القياس أسماء جعلتها بالألف والتاء تعويضاً لأكثرها عن تكسيرها وهي حمَّام ... وجواب وسجل ومقام.. وجمع ذلك مما شذ عن الأصول، ولا يستعمل فيه غير المحصور المنقول، ولذلك عيب على المتنبي جمعه بوقاً على بوقات ... ) . وقال الخفاجي في شرحه للدرة (الجوالق للغرارة معرّب من كوالة، وفي القاموس هو بكسر الجيم واللام، وبضم الجيم وفتح اللام وكسرها، وجمعه جوالق كصحائف وجواليق وجوالقات. اهـ. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فلا عبرة بإنكار المصنف) . ثم أشار إلى أن من العلماء من أقر حكاية (بوقات) ، كما نص على حكاية (جوالقات) ، فقال: (قال الواحدي البوق جاء في كلام العرب، وجمعه بوقات وإن كان مذكراً كحمَّام وحمَّامات، فقد عرفت أنه سمع جمعه ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 هذا وفي كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني (333) ما يؤكد التعويل على السماع في جمع المذكر من أسماء ما لا يعقل بالألف والتاء، ونحو منه ما جاء في كتاب الهمع (1/ 23) ، وهو مذهب الجمهور. على أن من النحاة من جعله قياساً. فقد جاء في شرح الخفاجي (وخيالات كما قال الكندي يجوز أن يكون جمع خيالة وهو الأصل، أو جمع خيال: وهو القياس في جمع ما لا يعقل) . وقال ابن جني في المحتسب حول قوله تعالى: (لو يجدون ملجأً أو مغارات أو مُدّخلاً لولُّوا إليه وهم يجمحون ((التوبة ـ 58) : (1/ 295) : (ومن ذلك قراءة الناس مغارات بفتح الميم، وقرأ سعد بن عبد الله بن عوف مُغارات بالضم. قال أبو الفتح: أما مَغارات بالفتح على قراءة الناس فجمع مغارة أو مغار. وجاز أن يُجمع مغار بالتاء، وإن كان مذكراً لأنه لا يعقل، ومثله إوان واوانات وجمع سبطر وجمال سبطرات، وحمام وحمامات. وقد ذكرنا هذا ونحوه في تفسير ديوان المتنبي عند قوله: ففي الناس بوقات لها وطبول، ومغار مفعل من غار الشيء يغور. وأما مغارات بضم الأول فجمع مغار، وليس من أغرت على العدو ولكنه من غار الشيء يغور وأغرتُهُ أنا أغيره كقولك غاب يغيب وأغبته، فكأنه لو يجدون ملجأ أو أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم ويسترون أنفسهم وهذا واضح) . فأنت ترى أن ابن جني أجاز جمع (مغار) على (مغارات) . كما أجاز جمع بوق على بوقات، ولو لم يُسمع، حين أساغ جمع ما لا يعقل بالألف والتاء ولو مذكراً. وأما أبو حيان صاحب البحر المحيط، فإنه جعل (المغارات) ، جمع مغارة ولم يزد. قال أبو حيان (5/ 54) : (والمغارات جمع مغارة، وهي الغار، ويجمع على غِيران بُني من غار يغور إذا دخل، مفعلة للمكان كقولهم مزرعة وقيل المغارة السرب تحت الأرض كنفق اليربوع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وممن خالف الجمهور فجمع أسماء ما لا يعقل بالألف والتاء، ولو كان مذكراً، ولم يعلقه على سماع، ابن الأنباري. قال صاحب المصباح (في مادة ابن) : (قال ابن الأنباري: واعلم أن جمع غير الناس بمنزلة جمع المرأة من الناس، تقول فيه منزل ومنزلات، ومصلى ومصلَّيات) . أي أن جمعك ما لا يعقل يكون بالألف والتاء كجمع الاسم المؤنث فمنزل على منزلات ومصلى على مصليات. واتفق في الشعر جمع (علق) على علقات، و (نجدات) ، فقد جاء في كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني (334) : تكنفنا الأعداء من كل جانب لينزعوا علقاتنا ثم يربعوا فجمع علقاً على علقات، وهو لأوس بن حجر، وأنشد لغيره: يرى عيساً يسودهن ماء من النجدات يحلبها الذميل فجمع نجداً على نجدات. *القول بقياس جمع المذكر مما لا يعقل بالألف والتاء بشروط محددة* على أن من العلماء من أجاز جمع ما لا يعقل بالألف والتاء، ولو مذكراً، لكنه قيّد ولم يُطلق. فقد جاء في كتاب الوساطة (423) : (فإن المحتج ليس هذا من الباب الذي ذكرته، وليس بجار مجرى الشاذ والنادر، بل قياس مستمر في جميع ما لا يوجد له مثال القلة من المذكر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وجاء في الهمع (1/ 23) : (وأشذ منه جمع بعض المذكرات الجامدة المجردة كسرادقات وحمامات ومسامات. وذهب قوم منهم ابن عصفور إلى جواز قياس جمع المكسَّر، من المذكر والمؤنث، الذي لم يكسر، اسماً كان أو وصفة ... فإن كسِّر امتنع قياساً. لذلك لحنوا أبا الطيب في قوله: ففي الناس بوقات لها وطبول) .ففي قول المحتج عن المتنبي جواز جمع المذكر غير العاقل بالألف والتاء إذا لم يرد له جمع قلة، وفي قول ابن عصفور ومن معه سواغ جمع المؤنث السالم لما لم يسمع له جمع تكسير. والأعدل حقاً ألا يطلق جمع ما لا يعقل بالألف والتاء إذا كان مذكراً، وإلا أجزنا جمع (مال) على مالات، كما جاء في الوساطة، وجمع (قلم) على (قلمات) كما أشار إليه الأستاذ عباس حسن، و (بيت) على بيتات كما استقبحه الدكتور الشيخ عبد الرحمن تاج، على ما جاء في مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة. وكل مايمكن أن يضاف إلى مذهب الجمهور في تعليق هذا الجمع على السماع، أن يباح جمع ما لا يعقل ولو مذكراً بالألف والتاء، إذا لم يرد له جمع تكسير، ولم يكن على قياس مطرد من التكسير. قال القاضي الجرجاني في الوساطة (332) : (وقال المحتج عنه أن أصل الجمع التأنيث، ولذلك جاء ما جاء منه بالتاء، وإن كان في الأصل مذكراً، قال: فمن جمع اسماً لم يجد عن العرب جمعه فأجراه على الأصل، لم يسغ الرد عليه، ولم يجز أن ينسب إلى الخطأ لأجله وـ بوق ـ اسم أعجمي تكلمت به العرب، ولم يحفظ عنهم جمعه، فلما احتاج المولدون إليه أجروه على أصل الجموع وتبعوا فيه عادة العرب في الأسماء المنقولة عن الأسماء الأعجمية نحو سرادق وسرادقات وساباط وساباطات وخان وخانات وهارون وهارونات وإوان واوانات، فعدلوا بجميع هذه الأبنية عن أصول قياسها وألحقوها بأصل الجمع وغلبوا فيها التأنيث. ولولا ذلك لما جاز في ـ خان ـ وهو مثل مال أن يجمع خانات، كما لا يقال مال ومالات، ولا في إوان وهو مثل جراب.) .وفي هذا إشارة إلى أن العرب لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 تجمع (بوقاً على (أبواق) فجمع على بوقات، خلافاً لما جاء في الهمع. *جمع المغار على المغارات* مغار هو مفعل بفتح الأول فبابه التكسير على مغاور بوزن مفاعل، هذا هو الأصل. وقد ذهب ابن جني إلى جواز جمعه على مغارات، كما قال بجمع مغار بضم الأول على مغارات أيضاً. وقد جاء (المطار) مصدراً لطار، واعتد اسم مكان أيضاً على مافي النهاية واللسان والدر النثير. والعرب تجيز الفتح والكسر ها هنا، في المصادر والأسماء جميعاً. فإذا ثبت (المطار) اسم موضع من (طار) أفيجمع على (مطاير) قياساً أم يباح في جمعه (المطارات) كما دار على الألسنة واستفاض، عملاً بما ذهب إليه ابن جني، في جمع مغار بفتح الأول على مغارات بالفتح، وجمع مغار بضم الأول، على مغارات بالضم؟ ... أقول ثمة وجه يمكن اعتماده في جمع ماكان كمطار ومغار من أسماء المكان جمع مؤنث سالماً، ولو كان بابه التكسير في الأصل. ذلك أن يحمل على أنه وصف، والوصف بغير العاقل إنما يجمع بالألف والتاء. وقد قيل في تعليل جمع المصغر جمع تصحيح، أن فيه معنى الصفة. فاسم المكان كالمصغر من هذه الجهة ... فإذا كان الكتيَب على هيئة التصغير، هو الكتاب الصغير، فالمطار هو الموضع المطير فيه، والمغار هو المكان المغور فيه. وإذا كان المصغر واسم المكان اسمين في الأصل، تضمنا معنى الوصف فعوملا في الجمع معاملة الوصف، فالصفة الغالبة ضارعتهما في أنها تقوم مقام الصفة والموصوف، لكنها صفة في الأصل أنزلت منزلة الأسماء، فعوملت معاملتها في الجمع أيضاً. وقد ذكر الرضي في شرح الكافية أن المصغر كالوصف يجمع جمع تصحيح. فالمصغر لما لا يعقل جمعه بالألف والتاء ولما يعقل بالألف والنون. وهو يفترق عن الوصف من حيث أن الوصف لا يدل على موصوف معين كالضارب، والمضروب، والطويل والبصري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 قال الرضي في شرح الكافية (2/ 181) : (والوصف الذي يجمع بالواو والنون اسم الفاعل واسم المفعول وأبنية المبالغة إلا ما يستثنى، والصفة المشبهة والمنسوب والمصغر نحو رُجَيلون. إلا أن المصغر مخالف لسائر الصفات من حيث لا يجري على الموصوف جريها، وإنما لم يجر لأن جري الصفات عليه، إنما كان لعدم دلالتها على الموصوف المعين، كالضارب والمضروب والطويل والبصري، فإنها لا تدل على موصوف معين، وأما المصغر فإنه دال على الصفة والموصوف المعين معاً، إذ معنى رجيل رجل صغير ... وهكذا كل صفة تدل على الوصف المعين لا يذكر قبلهما كالصفات الغالبة) . وفي جمع المصغر جمع تصحيح تعليل آخر، هو الحرص على سلامة صيغة المفرد. ولو جمع جمع تكسير لغابت هذه الصيغة. قال الخفاجي في شرح الدرة: (جمع المصغر بالألف والتاء نحو ثويبات ودريهمات، علله المصنف بأنه بمنزلة صفات ما لا يعقل، وهي تجمع كذلك ... وعلله غيره بأنه إذا جمع كذلك لتسلم علامة التصغير، ولو كسرت لزالت، وجعلوا ما لا يعقل في حكم المؤنث، ولكل وجهة) . أقول لك أن تقول في جمع اسم المكان بالألف والتاء ماقاله الخفاجي في جمع المصغر، فإن التفادي من اللبس حيناً، مؤذن بإيثار جمع اسم المكان هذا الجمع، ولو كسرته تكسيراً لاجتمع غير مفرد من أسماء الأمكنة، على جمع واحد، كتكسيرك (المشفى والمستشفى) ، على مشاف، ذلك أن ما زاد على أربعة أحرف مما يراد تكسيره على صيغة منتهى الجموع، يحذف منه ما تختل معه صيغة هذا الجمع. *** وهكذا كان الأعدل أن يعلق جمع المذكر مما لا يعقل بالألف والتاء، على السماع عامة، وأن يباح قياسه فيما لم يسمع في قياسه جمع من جموع التكسير، وفيما يؤثر في جمعه سلامة المفرد من أسماء الأمكنة منعاً للبس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 الشرط والقسَم وواو الحَال عند النحَاة وفي كلام البُلَغاء هاتان مسألتان يشكل بحثهما على الكتاب ويلتبس فيهما الحكم: تحقيق الجواب عند اجتماع الشرط والقسم، وواو الحال متى تجب أو تجوز أو تمتنع. وقد يُعضل الأمر في تبين وجه الصواب في المسألتين عند اعتراضهما كتابة الكاتب. وهذا ما دعاني إلى معالجتهما والتلطف لهما والاهتمام بطلبهما لعلّي ألتمس إليهما مساغاً وأبتغي سبيلاً، فأوضح المبهم وأجلوا الغامض وأبسط الموجز فأخفف الكلفة في فهم ما تصعب منهما ليتسنى ما تعذر ويستيسر ما تعسر. ولا شك أنه لا يكفي في تبين وجه الصواب ومعرفة المباح في ذلك والمحظور، والجائز والممتنع، أن يُحتكم في الأمر إلى أقوال النحاة وعلماء اللغة وحدهم بل لا بد من مراجعة كلام الفصحاء نثراً وشعراً، والإطلاع على أنماط تعبيرهم وأساليب تأليفهم والاسترشاد بمناهجهم وطرائقهم، تحرياً للرأي الراجح من آراء أئمة اللغة ودرءاً لما يمكن أن يعترضنا في ذلك من شبهة أو يخامرنا من ريب. وهذا ما يفوت النقاد أن يوطنّوا النفس عليه ويستمسكوا به، في غالب الأحيان، فلا ينصرفوا عنه أو ينثنوا عن قصده وطلبه. الشرط والقسم: الشرط ما يتوقف عليه المشرط، وما يسميه النحاة شرطاً هو في المعنى سبب لوجود الجزاء، وتدخل على الشرط أداة مخصومة دالة على سببيته للجزاء، كما جاء في كليات أبي البقاء الكفوي. ومن ثم كان للشرط جملتان جملة للشرط وأخرى للجزاء أو الجواب، وهما بمنزلة الجملة الواحدة وجاء في حاشية الإمام حسن العطار على شرح الأزهرية في علم النحو للشيخ خالد الأزهري: "وأما وجه تسميته جواباً فلأنه لما لزم عن الأول صار كالجواب الآتي بعد كلام السائل، وأما وجه تسميته جزاء فلأنه لما كان مترتباً على ما قبله أشبه الجزاء على الفعل من ثواب أو عقارب ... ص/ 177". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 والقسم هو الحلف أو اليمين، وهو ضرب من ضروب الإنشاء غير الطلبي. وهو يتم بجملة فعلية أو اسمية كما يتم بأدوات القسم الجارة كالباء والواو والتاء واللام.. وللقسم كما للشرط جملتان جملة قسم هي جملة المقسم به، وجملة جواب هي جملة المقسم عليه. ومن ثم كان لا بد للشرط من جواب هو جزاؤه، كما لا بد للقسم من جواب هو المقسم عليه، ولا يصلح جواب أحدهما جواباً للآخر. ويشكل الأمر إذا اجتمعا في الكلام أيكون الجواب فيه للشرط أم للقسم؟. اجتماع الشرط والقسم واتفاق الجمهور على أن الجواب للمتقدم منهما: إذا اجتمع في الكلام شرط وقسم، وتقديمهما ما يطلب الخبر كالمبتدأ واسم كان ونحوهما، جُعل الجواب للشرط كقولك (خالد والله أن يطعني أكرمه) وقولك (أن ولدي أن يسئ إليّ، والله، أعف عنه) بالجزم في (أكرمه) و (أعفُ) لأنهما جواب الشرط. أما إذا اجتمعا ولم يتقدمهما ما يطلب الخبر فالجواب للسابق منهما وهو يغني عن جواب الآخر، تقول: (أن يزرني والله خالد، أكرمه) بالجزم لأن الجواب للشرط فهو المتقدم، كما تقول: (والله أن يزرني خالد لأكرمنه) بتشديد النون لأن الجواب للقسم وهو السابق. ولعل من المفيد هنا أن نشير إلى ما ذكره صاحب الكليات من أن القسم لا يدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة، وأنه إذا اجتمع القسم والشرط على جواب واحد يجعل ذلك الجواب لأحدهما لفظاً ومعنى وللآخر معنى فقط.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 وقد جاء في كتاب (شرح شذور الذهب –ص 347 –350) لابن هشام الأنصاري في المواضع التي يجب فيها حذف (جواب الشرط) : "أن يتقدم على الشرط قسم نحو –والله أن جاءني لأكرمنه –فإن قولك لأكرمنه، جواب القسم، فهو في نية التقديم إلى جانبه، وحذف جواب الشرط لدلالته عليه. ويدلك على أن المذكور جواب القسم، فهو في نية التقديم إلى جانبه، وحذف جواب الشرط لدلالته عليه. ويدلك على أن المذكور جواب القسم توكيد الفعل في نحو المثال، ونحو قوله تعالى: ?ولئن نصروهم ليَُوَلُّنَّ الأدبار? الحشر /12 ورفعه في قوله تعالى: ?ثم لا يُنصرون? ذلك أن نص الآية ?لئن أُخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولّنَّ الأدبار ثم لا يُنصرون?. وأردف ابن هشام يقول: "ثم أشرت إلى أنه –كما وجب الاستغناء بجواب القسم المتقدم. يجب العكس في نحو: أن تقم والله أقم. وأنه إذا تقم عليهما شيء يطلب الخبر وجبت مراعاة الشرط تقدم أو تأخر، نحو: زيد والله أن يقم أقمْ". وذكر ابن هشام ذلك في كتابه (مغني اللبيب –2 /168) أيضاً، إذ أورد من أمثلة حذف جواب القسم (إن جاءني زيد والله أكرمته) ، إذ أثبت فيه جواب الشرط لتقدمه وحذف جواب القسم، كما أتى من أمثلة حذف الشرط قوله (والله إن جاءني زيد لأكرمنّه) ، إذ أثبت جواب القسم لتقدمه وحذف جواب الشرط. ما يميز جواب الشرط من جواب القسم: الذي يميز جواب الشرط من جواب القسم أن جواب القسم يقترن بالفاء أو بجزم، وهو يقترن بالفاء إذا لم يكن صالحاً لأن يكون شرطاً، كأن يكون جميلة اسمية أو فعلاً جامداً أو طلبياً أو ماضياً لفظاً ومعنى أو اقترن بقد أو ما النافية أو لن أو السين أو سوف، أو صدر بربّ أو كأنما أو أداة شرط. فإذا كان الجواب صالحاً لأن يكون شرطاً فلا حاجة به إلى الفاء. ويجوز الوجهان الربط بالفاء وتركه إذا كان الجواب مضارعاً أو منفياً بلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 أما جزم المضارع إذا كان جواباً فهو واجب إذا كان الشرط مضارعاً، فإذا كان الجواب وحده مضارعاً، جاز الوجهان الجزم وتركه. أما القسم فإن كان جوابه جملة فعلية مصدرة بمضارع مثبت اقتران باللام ونون التوكيد للاستقبال، ومن المفيد هنا أن نشير إلى أن النون المؤكدة هذه لا يؤكد بها الماضي ولا الحال، ولا ما ليس فيه معنى الطلب، وطرح هذه النون ضعيف في القَسَم. قال تعالى: ?قال فبعزتك لأغوينّهم أجمعين –ص /82.? ويكتفي هنا باللام إذا دخلت على جارّ، كقوله تعالى: ?ولئن متّم أو قُتلتم لالى الله تُحشرون –آل عمران -158?. وكذلك يكتفى باللام إذا كان للحال دون الاستقبال. وإذا صدرت الجملة الفعلية مضارع منفي اقترن جواب القسم بـ (لا) النافية، كقوله تعالى: ?وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت –النحل /38? أو بأن النافية. وإذا كانت الجملة فعلية مصدرة بماض مثبت متصرف اقترنت باللام وقد غالباً كقوله تعالى: ?قالوا تالله لقد آثرك الله علينا –يوسف /91?. وقول الفضل بن يحيى لسعيد بن وهب: "لئن قلّ القول ونزر لقد اتسع المعنى وكثر". وإذا كان الجملة مصدّرة بجامد اقترنت باللام كقولهم "والله لنعم الخلق الصدق) . أما إذا كانت مصدّرة بماض منفي اقترنت بما النافية، كقوله تعالى: ?ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك –البقرة /145?. وإذا كانت الجملة اسمية مثبتة اقترنت بـ (أن) مشدّدة أو مخففة، أو باللام، أو بهما، كقوله تعالى: ?يس والقرآن الحكيم أنك لمن المرسلين –يس /1 -3?، وقوله تعالى: ?حم والكتاب المبين انّا أنزلناه في ليلة مباركة –الدخان /1 -3?. فإذا كانت الاسمية منفية كان النفي بما الحجازية، العاملة عمل ليس، أو التميمية، غير العاملة، أو لا التبرئة، أي النافية للجنس. كقولك (والله ما زيد فيها ولا عمرو) ، وقولك (والله لا يجعل في الدار) أو بأن النافية. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 ومن أمثلة اجتماع القسم الشائعة مع تقدم القسم (لئن) ، فاللام موطئة للقسم، أي مؤذية بأن ما بعدها جواب للقسم، لتقدمه، دون الشرط، والتقدير (والله لئن..) . و (ان) هذه حرف شرط جازم. وقد جاء في التنزيل: "لأن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولُنّ الأدبار ثم لا ينصرون –الحشر /12?. فقوله تعالى (لا يخرجون) جواب القسم، وقد أغنى عن جواب الشرط. ولان الجواب للشرط، لقيل (لئن أخرجوا لا يخرجوا معهم) بحذف النون. وهكذا قوله تعالى: (لا ينصرونهم) فهو جواب القسم، ولو كان الشرط، لقيل (ولئن قوتلوا لا ينصروهم) بحذف النون. وشاهد آخر، قال الشاعر: خشوعاً وفوق الراكعين رقيب حلفت برب الراكعين لربهم صادياً إليَّ، حبيباً، إنها لحبيب لئن كان برد الماء حرّان فجملة (أنها لحبيب) في البيت الثاني جواب القسم المذكور في البيت الأول وهو (حلفت) كما جاء في خزانة الأدب للبغدادي. ولو كان الجواب للشرط لقيل (فإنها لحبيب) مقترناً بالفاء. ما جاء من الشعر خلافاً للقياس، فكان جواب فيه للشرط مع تقدم القسم: قد جاء (لئن) في الشعر واتفق الجواب للشرط مع تقدم القسم، خلافاً للقياس، قال الشاعر: لا تلفنا في دماء القوم ننتفل لئن منيت عن غب معركة فقوله (لا تلفنا) هو جواب الشرط دون القسم بدليل الجزم، وقد أولوه، فمنهم من حمله على ضرورة الشعر، كما جاء في كتاب (الضرائر) لمحمود شكري الآلوسي (ص /216) ، ومنهم من لم يجعله من الضرائر فأوله على وجه من الوجوه كابن عصفور الأندلسي في كتاب (الضرائر) . وكذلك فعل ابن هشام في كتابه (مغني اللبيب – 1/ 189) ، إذ اعتد اللام في (لئن) زائدة في أمثاله، لكنه خص ذلك بالشعر واستشهد بقول الشاعر: أصمْ في نهار القيظ للشمس باديا لئن كان ما حُدثته اليوم صادقاً والبيت لأمرأة من عقيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وقد ذهب ابن هشام إلى أن اللام في (لئن) زائدة وأن الشرط أجيب بالفعل المجزوم (أصمْ) ، إذ قال: "ولو كنت اللام للتوطئة لم يُجب إلا القسم، هذا هو الصحيح، وخالف في ذلك الفرّاء فزعم أن الشرط قد يجاب مع تقدم القسم عليه". وإذا عدنا إلى الفحول من الشعراء وجدنا أنهم لم يستكرهوا مخالفة القياس أو يستبعدوه في هذا الباب، فجاء الجواب للشرط في أشعارهم، مع تقدم القسم عليه، فهذا الإمام الشافعي يقول في حديث عن أهل العلوم: فلست مُضيعاً فيهمُ غرر الكلم لعمري لئن ضُيِّعت في شر بلدة والشافعي حجة فقد استظهر القرآن منذ صباه، وخرج إلى البادية فحفظ كثيراً من أشعار الهُذليين، وكانوا من أفصح العرب، وروي عن الإمام الشافعي الأصمعي أنه صحح عليه أشعار هؤلاء. وهذا المتنبي فقد جاء في مرثيته لجدته من أمه. فقد ولدت مني لآنافهم رغماً لئن لذَّ يوم الشامتين بيومها فكان الجواب للشرط في قوله (فقد ولدت) مع تقدم القسم، وقد روي أيضاً (فقد ولدت مني لأنفهم رغماً) . وهذا أبو الفراس الحمداني يقول في مفاخر قومه: ففرعي لسيف الدولة القرم ناصر لئن كان أصلي من (سعيد) نجاده و (سعيد) هو ابن عم الشاعر، والقرم هو السيد والعظيم. وقال أبو تمام يرثي محمد بن حميد الطوسي: لعهدي به حياً يُحَبُّ به الدهر لئن أُبغض الدهر الخؤون لفقده فما زالت الأيام شيمتها الغدر لئن غدرت في الروع أيامه به فجواب (لئن) في البيت الثاني (فما زالت) وهو جواب للشرط مع تقدم القسم. وعلى ذلك قول الشاعر: على الخليط فقد يبكي الحسام دما لئن بكيت دماً والعزم من شيمي وقد أورده الأستاذ محمد الخضر حسين التونسي في كتابه (الخيال في شعر العربي) في صدد كلامه على (التفاصيل في التخييل /58) . ما جاء من النثر خلافاً للقياس، فكان الجواب فيه للشرط مع تقدم القسم: لم يقتصر مجيء الجواب للشرط مع تقدم القسم على الشعر، بل تناول النثر أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 من ذلك ما حكاه ابن عبد ربه في الجزء الأول في كتابه المعروف (العقد الفريد) من كلام عمر بن الخطاب لمعاوية، رضي لله عنهما، حين قدم عمر على معاوية بالشام. إذ قال معاوية: "فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وأن نهيتني عنه انتهيت"، ولا شيء في ذلك. لكن عمر قد أجابه: "لئن كان الذي تقول حقاً فإنه أريب، وأن كان باطلاً فإنه خدعة أريب". فقوله (فإنه أريب) جواب للشرط مع تقدم القسم. وفي نهج البلاغة (1/ 188) قال علي كرم الله وجهه: "لئن أُمهل الظالم فلن يفوت أخذُه"، فجاء الجواب للشرط دون القسم. ذلك أن جواب القسم في جملة فعلية منفية فعلها مضارع، كما هو الحال في القول السابق، يتقدم الفعلَ فيها أحد أحرف النفي (ما وأن ولا) ويندر أن يتقدمه (لن أو لم) ، ولا تدخل الفاء هذه الأحرف في جواب القسم خلافاً للشرط. وجاء في نهج البلاغة أيضاً قول علي كرم الله وجهه (2/ 105) : "ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس، فما إلى ذلك سبيل"، فجاء الجواب للشرط أيضاً، ذلك أن جواب القسم في جملة اسمية منفية تتصدره أحرف النفي (ما أو لا النافية للجنس أو إن) ولا تدخل الفاء هذه الأحرف. ما الرأي في جواز كون الجواب للشرط مع تقدم القسم: أقول الرأي عندي أن اتفاق الجمهور على أن الأصل في الجواب أن يكون للمتقدم من الشرط أو القسم، إذاً جميعاً، لا يمنع إجازة مجيء الجواب للشرط مع تقدم القسم ما دام قد جاء ذلك مجيئاً متعالماً في شعر فحول الشعراء ونثر الأئمة البلغاء، مما أتينا بشواهده قبل. وهذا ما دعا بعض الأئمة إلى التصريح به كالإمام الفراء وابن مالك. وقد أشار إلى ذلك الإمام السيوطي في كتابه (همع الهوامع –2 /43) ، إذ قال: "فالجواب للسابق في الأصح قَسَماً كان أو شرطاً وجواب الآخر محذوف، نحو: والله إن قام زيد لأقومنّ وأن يقم والله أقمْ" وأردف: "وجوَّز الفراء وابن مالك جعل الجواب للشرط وإن تأخر، كقوله: أصمْ نهار القيظ للشمس بادياً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 لئن كان ما حُدثته اليوم صادقاً قد يجزي الشرط بجواب القسم: قد يتصدر الكلام شرط فلا يجاب بجزائه وإنما يجاب بجواب القسم. ومن ذلك قوله تعالى: ?وان لم ينتهوا عما يقولون ليمسّن الذين كفروا منهم عذاب أليم –المائدة /73?. فجاء الجواب للقسم وليس في الآية قسم فذهب الأئمة إلى تقديره، وحذف جملة القسم كثير. قال العكبري في كتابه (البيان أعراب القرآن) : "ليمسَّنَّ: جواب قسم محذوف سدّ مسدّ جواب الشرط الذي هو وان لم ينتهوا – 1/ 125". أي أن القسم مقدر في الآية لأن الجواب فيها لا يكون إلا لقسم. قال ابن هشام في كتابه (مغني اللبيب) : ?وكقوله تعالى: وان لم ينتهوا عما يقولون ليمسَّنّ، فهذا لا يكون إلا جواباً للقسم –1/ 189?. وقال تعالى: ?وان أطعتوهم إنكم لمشركون –الأنعام /121، فأجيب الشرط بجواب القسم. واختلف الأئمة في تأويله، فذهب جماعة إلى جعل الجواب للشرط على أضمار (الفاء) فقدّر (فإنكم لمشركون) . قال العكبري في كتابه (البيان في أعراب القرآن) : حذف الفاء في جواب الشرط وهو حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي، وهو هنا كذلك، وهو قوله: وان أطعتموهم –1 /145". وكذلك فعل البيضاوي في تفسيره الموسوم بأنوار التنزيل: "وانما حَسُنَ حذف الفاء فيه لأن الشرط بلفظ الماضي". وعندي أن هذا هو الرأي المرجوح. ذلك أن حذف الفاء من جواب الشرط مقصور على الشعر عند الأكثرين. قال الشاعر: والشر بالشر عند الله مثلان من يفعل الحسنات الله يشكرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 أي: فالله يشكرها. وذهب أبو العباس المبرّد في كتابه الكامل إلى أنه لا يجوز ذلك حتى في الشعر وأن البيت المروي محرّف والأصل فيه (من يفعل الخير فالرحمن يشكره) ، الجمهور النحاة على أن فاء الجزاء لا تسقط إلا في الشعر وللضرورة، كما جاء في كتاب (الضرائر 64) لمحمود شكري الآلوسي. قال ابن هشام في (مغني اللبيب –1 /189) بصدد تأويل الآية السابقة ?وان أطعتموهم انكم لمشركون –الأنعام –121) : "وقول بعضهم ليس هنا قسم مقدّر وأن الجملة الأسمية جواب الشرط على اضمار الفاء كقوله: من يفعل الحسنات الله يشكرها، مردود لأن ذلك خاص بالشعر..". وقد جاء في (شرح شواهد المغني –1 /178) للإمام جلال الدين السيوطي: "من يفعل الحسنات الله يشكرها –هو لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، رضي الله عنه، وقيل لكعب بن مالك وتمامه: والشر بالشر عند الله مثلان.. وقوله: الله يشكرها جملة اسمية وقعت جواب الشرط وحذفت منها الفاء ضرورة، وزعم المبرّد أن الرواية من يفعل الخير فالرحمن يشكره". خلاصة القول في جواب الشرط والقسم: يمكن إيجاز القول في هذه المسألة بالشرح التالي: 1ً-إذا تصدر الكلام ما يطلب الخبر كالمبتدأ واسم كان ونحوه، واجتمع بعده شرط وقسم كان الجواب للشرط جميعاً، كقولك (خالد والله يُطعني أكرمْه) بالجزم و (ان ولدي ان يسيء إليّ والله أعفُ عنه) بالجزم أيضاً. 2ً-إذا اجتمع الشرط والقسم ولم يتقدمهما ما يطلب الخبر كان الجواب السابق منهما، شرطاً كان أو قسما، واستغني عن جواب الآخر، كقولك (ان يزرني والله خالد أكرمْه) بالجزم لأن الجواب للشرط فهو المتقدم، وقولك (والله أن يزرني خالد لأكرمنه) بنون مشددة بعد لام الجواب، لأن الجواب للقسم، وهو السابق. وجواب المتأخر محذوف. 3ً-قد يأتي ما يتقدم فيه القسم ويكون الجواب فيه للشرط، خلافاً للقياس. وقد جاء هذا في النثر نثر البلغاء وفي الشعر شعر الفحول مجيئاً متعالماً يؤذن بجوازه. قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 أصمْ في نهار القيظ للشمس بادياً لئن كان ما حُدثته اليوم صادقاً فجاء الجواب (أصمْ) للشرط مع تقدم القسم عليه. وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، "لئن كان الذي تقول حقاً فإنه أريب"، فجاء الجواب للشرط أيضاً مع تقدم القسم. وإذا كان في هذا الصحيح للشرط على القسم فذلك لأن تعليق المعنى على الشرط في الأصل، وإنما يساق القسم للتأكيد. 4ً-قد يُجزي الشرط بجواب القسم، ولكن لا بد في هذا من تقرير القسم، لأن جواب الشرط لا يُجاب به إلا عن القسم. قال تعالى: ?وان لم ينتهوا عما يقولون ليَمَسَّنَّ الذين كفروا منهم عذاب أليم –المائدة /73?. فجاء الجواب للقسم فقدّر وخُرّجت الآية على حذف جملة القسم، وكأن الأصل (والله ان لم ينتهوا..) فيكون الجواب للقسم لتقدمه على الشرط جرياً على الأصل. *** الحال تعريفه: الحال في تعرف النحاة وصف (فضلة) وقد عنوا بفضلة أنها ليست مسنداً أو مسنداً إليه، وهم ركنا الجملة من الوجهة النحوية. كالفعل والفاعل في الجملة الفعلية، والخبر والمبتدأ في الجملة الاسمية، فالحال تأتي في الأصل بعد استيفاء هذين الركنين في الجملة، تقول (جاء خالد راكباً) فتأتي بالفعل والفاعل ثم تذكر بعدهما (الحال –راكباً) لبيان هيئة صاحب الحال وهو الفاعل (خالد) . ويقول الشاعر (أنا ابن دارة معروفاً بها نسبي) فيأتي بالمبتدأ والخبر ثم يأتي بـ (الحال –معروفاً) تأكيداً لمضمون الجملة. وإذا قلنا (الحال فضلة) فليس يعني ذلك أنه يمكن الاستغناء عنها لتمام المعنى المقصود دونها، ذلك أنها تأتي لأداء دلالة خاصة. وإلا فهل يمكن الاستغناء عن (الحال) في قوله تعالى: ?وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين –الأنبياء /16?، أو الاستغناء عن (الحال) في قوله تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون –النساء /44?. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 قال ابن هشام في كتاب (شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب /244 (: "السابع من المنصوبات –الحال –وهو وصف فضلة مسوق لبيان هيئة صاحبه، نحو قوله تعالى: فخرج منها خائفاً –القصص /21، أو تأكيده نحو قوله تعالى: ?لآمن من في الأرض كلهم جميعاً –يونس /99، أو تأكيد عامله، نحو قوله تعالى: فتبسم ضاحكاً –النمل 19، أوتأكيد مضمون الجملة، نحو قوله تعالى: ?وأرسلناك للناس رسولا –النساء /98، وقول الشاعر: أنا ابن دارة معروفاً بها نسبي?. والحال وصف نكرة أي اسم مشتق في الأصل، وصاحبها معرفة. قال ابن هشام في كتابه المشار إليه: "وحقها، أي الحال، أن تكون نكرة منتقلة مشتقة وأن يكون صاحبها معرفة.." والمراد بمنتقلة ألا يكون وصفاً ثابتاً لازماً، وربما كان الحال وصفاً ثابتاً كقوله تعالى: ?هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصَّلاً –الأنعام? أي مبيناً. وإنما يقع الوصف على صاحب الحال، ويكون صاحب الحال فاعلاً أو مفعولاً لفظاً أو معنى. والمراد بالفاعل اللفظي والمفعول اللفظي ما يكون فاعلاً أو مفعولاً في التركيب، والمراد بالمعنوي ما لا يكون كذلك كأن يكون مبتدأ أو خبراً، أو يكو مفعولاً مطلقاً أو مفعولا معه، أو مضافاً إليه للمفعول، بشرط أن يصح المعنى بحذف المضاف كقوله تعالى: ?بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً –البقرة /135? فإن حنيفاً حال من إبراهيم ولو حذف المضاف فقيل: بل نتبع إبراهيم حنيفا. لصح المعنى. قال ابن هشام في كتابه المشار إليه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 "ويأتي الحال من الفاعل، ومن المفعول، ومنهما مطلقاً ومن المضاف إليه إن كان المضاف بعضه نحو: أن يأكل لحم أخيه ميتاً –أو كبعضه نحو: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً، أو عاملاً فيها نحو: إليكم مرجعكم جميعاً –يونس /4 ... " فـ (جميعاً) حال من الضمير وهو الكاف المجرورة بإضافة (مرجع) إليه. والعامل ف الحال هنا هو (مرجع) وقد صح عمله لأنه مصدر وهو بمنزلة الفعل، كما لو قلت: إليه ترجعون جميعاً، والأصل أن يكون العامل في الحال هو العامل في صاحب الحال. ولا يشترط في عامل الحال أن يكون فعلاً أو شبهه إذ يحوز أن يعمل فيه معنى الفعل كالظرف والجار والمجرور وحرف التنبيه واسم الإشارة وحرف التنبيه واسم الإشارة وحرف النداء والتمني والترجي وحرف الاستفهام، لأن فيها معنى الفعل. الجملة الحالية وافتقارها إلى رابط يربطها بصاحب الحال: تقع الحال مفردة كما رأينا، ولكنها تقع كذلك جملة خبرية فعلية أو اسمية، فتكون الجملة في تأويل المفرد، ولا بد حينئذ من رابط يربطها بصاحب الحال: أي بالاسم الذي تصفه الحال. ويكون الرابط أما الواو وحدها كقولك (جاء خالد الريح تعصف) وقوله تعالى: ?ولئن أكله الذئب ونحن عصبة –يوسف /14?، أو الضمير وحده، نحو (خرج زيد يركض) ، وقوله تعالى: ?وجاءوا أباهم عشاءً يبكون -يوسف /16?، وأما الواو والضمير معاً كقولك (لِمَ ضربته وهو يأكل) ، وقوله تعالى: ?ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف - - البقرة /243?. واو الحال متى تجب: يشكل على الكتاب متى تجب واو الحال ومتى تمتنع، وهي تجب في مواضع ثلاثة: -الأول: أن تكون جملة الحال اسمية خالية من ضمير يربطها بصاحب الحال، كقولك: (جئت والناس نيام) وكقوله تعالى: ?ولئن أكله؟؟ ونحن عصبة?. -الثاني أن يتصدر الجملة الاسمية الضمير العائد لى صاحبها، كقولك (لا تتكلم وأنت تأكل) ، وقوله تعالى: ?لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى –النساء /43?. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 فقد جاء ربط الجملة الاسمية بصاحب الحال في غاية القوة باجتماع الواو والضمير معاً وقد ناسب ذلك الجملة الاسمية لقوتها في الاستقلال. وهذا الربط بالواو وحدها أو بها مع الضمير إنما يكون الحال المبينة التي تُذكر للتوضيح والتبيين، وأما في الحال المؤكدة فلا يجوز الواو تقول –هو الحق لا شك فيه –وذل لأن الواو لا تدخل بين المؤكد والمؤكد لشدة الاتصال بينهما، كما جاء في شرح كافية ابن الحاجب للإمام عبد الرحمن الجامي. وسيأتي الكلام على امتناع الواو في الحال المؤكدة. -والثالث أن تتصدر الجملة الفعلية الحالية، المثبتة أو المنفية، فعل ماض، وهي تخلو من ضمير يعود إلى صاحبها. فإذا كانت مثبتة وجبت معها قد، وجيء بـ (قد) بعد الواو ها هنا، لأنها تقرب الماضي من الحال فيصح أن يقع حالاً، كقولك: (جئت وقد انصرف الناس) . وإن كانت منفية انفردت الواو كقولك: (جئت وما طلعت الشمس) . واو الحال متى تمتنع: الأولى: أن يتصدر الجملة عاطف كقوله تعالى: ?فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون –الأعراف /3? أي ليلاً أو نهاراً. الثانية: أن تقع مؤكدة لمضمون جملة نحو (هو الحق لا شك فيه) ، وقوله تعالى: ?ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين –البقرة /2 و3?. وتمتنع الواو هنا لأن المؤكِد نفس المؤكد فتكون معها في صورة المعطوف على نفسه. الثالثة: أن تكون ماضية بعد (إلا) فتمتنع الواو وقد منفردين ومجتمعين، ويكتفى بالضمير، نحو قوله تعالى: ?يا حسرة على العبادة ما يأتيهم من رسول ألا كانوا به يستهزئون –يس /30? وقوله تعالى ?وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين –يوسف /46?. ونحو قولك (ما تكلم إلا ضحك) . وما جاء بالواو أو قد مخالف للمشهور. الرابعة: أن تكون الجملة ماضية قبل (أو) نحو قولك (لأضربنّه عاش أو مات) وقول الشاعر (كن للخليل نصيراً جار أو عدلاً) . وتمنع الواو هنا لأنها في تقدير الشرط أي (إن عاش أو مات) و (أن جار أو عدل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 الخامسة: أن يتصدر الجملة الحالية مضارع مثبت دون قد، فتربط بالضمير وحده، كقولك (ومضى زيد يكتب رسالته) ، فقد جاءت الجملة الحالية كالوصف فعوملت كذلك. فإذا وجدت (قد) اقترنت الجملة بالواو، تقول (قدمت المدرسة وقد يزورني فيها زائر) وعليه قوله تعالى: ?وإذ قال موسى لقومه يا قوم لِمَ تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم –الصف /5? فوجب اقتران الواو هنا لأن دخول (قد) نقض شبه الجملة بالوصف، لامتناع دخولها على الوصف. السادسة: أن يتصدر الجملة الحالية مضارع منفي بلا، فتمتنع الواو وقد منفردين ومجتمعين، ويكتفي بالضمير وحده، كقوله تعالى: ?وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق –المائدة /84?. وتقول على هذا (جاء زيد لا يركب) ، وهو في تأويل: جاء زيد غير راكب. وهكذا إذا كان النفي بما على ما هو المشهور. أما إذا كان بلم فإنه يجوز إثبات الواو وحذفها ودليل إثباتها مع الضمير قوله تعالى: ?ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليّ ولم يُوح إليه شيء –الأنعام /93?. ودليل حذفها قوله تعالى: ?فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء –آل عمران /174?. وإذا كان النفي بلمّا كان الأكثر إثبات الواو كقوله تعالى: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين _آل عمران /142?. واو الحال: متى يجوز إثباتها وحذفها: يجوز إثبات الواو وحذفها في مواقع ثلاثة، فقد مر بنا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 أولاً: أن الأصل في الجملة الحالية الفعلية المرتبطة بالضمير، أن تمتنع فيها واو الحال، إذا تصدرها منفي بما الحالية، هذا هو المشهور، لكن من الأئمة من أجاز إثباتها في هذا الموضع وحكم بصحة قول القائل (جاءني زيد وما يتكلم غلامه) . جاء هذا المثال في شرح الإمام الجامي لكافية ابن الحاجب. وقد ساوى بينه وبين حذف الواو في قولك (جاءني زيد ما يتكلم غلامه) . وهكذا فعل الإمام جلال الدين السيوطي في (همع الهوامع) إذ قال: "والمنفي بما فيه الوجهان أيضاً نحو: جاء زيد وما يضحك، أو جاء زيد ما يضحك". ثانياً: وقد تقدم أن الأصل في الجملة الفعلية المثبتة إذا تصدرها فعل ماض، وخلت من ضمير رابط، وجوب إثبات الواو الحالية وقد، كقولك (جاء زيد وقد طلعت الشمس) ويعني هذا أنه إذا وجد الضمير الرابط لم تجب الواو. تقول (جاءني زيد وقد خرج غلامه) و (جاءني زيد قد خرج غلامه) ، وقد ساوى الجامي في شرح الكافية بين المثالين. وأورد النحاة على ربط الجملة بالضمير وقد فقط دون الواو، قول الشاعر: معارفها والساريات الهواطل وقفت بربع الدار قد غيَّر البلى والساريات هي السحب تأتي ليلاً. ثالثاً: ذكرنا الأصل في الجملة الحالية الفعلية المنفية إذا تصدرها فعل ماض، وقد خلت من ضمير رابط وجوب إثبات الواو منفردة، كقولك (جئت وما طلعت الشمس) . أما إذا وجد الضمير الرابط فلا تجب الواو، وعلى ذلك تقول (جاءني زيد وما خرج غلامه) و (جاءني زيد ما خرج غلامه) ، وقد ربط الأول بالواو والضمير. وربط الثاني بالضمير وحده وهكذا قولك (رجع خالد وما صنع شيئاً) و (رجع خالد ما صنع شيئاً) ، كما أورده الشيخ مصطفى الغلاييني في كتابه (جامع الدروس العربية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 رابعاً: كما ذكرنا أن الأصل في الجملة الحالية الاسمية، المثبتة والمنفية، أن تربط بالواو والضمير معاً إذا تصدر الجملة الضمير العائد إلى صاحبها. ومثال الجملة الحالية الاسمية المثبتة، قوله تعالى: ?فلا تجعلوا الله أنداداً وأنتم تعلمون –البقرة /22?، ومثال المنفية نحو قولك "رجعت وما في يدي شيء". أما إذا لم يتصدر الجملة الضمير العائد إلى صاحبها فقد أجاز النحاة الوجهين إثبات الواو وحذفها، والمشهور الحذف كقوله تعالى في الجملة الحالية المثبتة "اهبطوا بعضكم لبعض عدو –البقرة /36" ومثال المنفية قوله تعالى:?والله يحكم لا معقب لحكمه –الرعد /43?. امتناع واو الحال بعد الا عند النحاة إذا تلاها فعل ماض: الأصل أن تمتنع الواو بعد الا، إذا تصدر الجملة الحالية فعل ماض، كقوله تعالى: ?وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون –الحجر /13?، وقوله تعالى: ?ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون –الأنبياء /2?. وقد تقدم بحث ذلك فتقول على هذا مثلاً (ما من أحد إلا جزع) فتمتنع الواو بعد الا. وجاء في شرح الأشموني على ألفية ابن مالك أن هناك سبع مسائل تمتنع فيها الواو ومنها الماضي التالي لـ (الا) نحو (ما تكلم الا قال خيراً) . ولكن هل ثمة من يجيز دخول (الواو) بعد (الا) في مثل هذا الموضع؟ أقول: قال الصبيان في تعليقه على الأشموني وتعليله سبب امتناع الواو ها هنا: "أي لأن ما بعد الا مفرد حكماً"، أي هو مفرد في الأصل لا جملة، لكنه استدرك فقال: "وذهب بعضهم إلى جواز اقترانه بالواو تمسكاً بقوله: إلا وكان لمرتاع بها وزراً نعم امرأً هرمٌ لم تعر نائبة وحكم الأول بشذوذه، وهذا يعني ذهاب بعضهم إلى جواز اقتران الواو أخذاً بقول الشاعر، أما الأكثرون فقد حملوا بيت الشاعر على الشذوذ. مجيء واو الحال بعد الا في كلام البلغاء إذا تلاها فعل ماض: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 الذي عندي أن الحكم بامتناع الواو أو جوازها بعد إلا إذا تلاها فعل ماض، مرهون باستعمال الفصحاء، فهل جاء في كلامهم اقتران الواو بالفعل الماضي بعد الا. أقول قد ورد ذلك فيما أُثر عن الفصحاء مورداً متعالماً، ومن ذلك ما جاء في نهج البلاغة، إذ قال: ووأى على نفسه ألا يضطرب شبح مما أولج فيه الروح إلا وجعل الحمام موعده والفناء غايته (2 /92 و93) . والوأي هو الوعد والحمام هو الموت. وقال: ولم يترك شيئاً رضيه أو كرهه إلى وجعل له عَلَماً بادياً وآية محكمة (2 /133) ، وقال: ما من أحد أودع قلباً سروراً إلا وخلق الله له من ذلك السرور لطفاً (3 /210) ونحو ذلك كثير في نهج البلاغة. ومما جاء من ذلك في كتاب (أخلاق الوزيرين) لأبي حيان التوحيدي، قال: وما رأَّس الله أحداً إلا وفرض عليه الافضال والإحسان (ص /265) وقال: وما رأيت أحداً سكت عن أحد من سفائهم تغافلا عنه.. إلا ورأيته يقول ويطنب في ابن عباد غير خاشٍ ولا متحاشٍ (ص /474) . فصح بذلك قولك في المثال السابق: (ما من أحد وجزع) باقتران (الواو) بالفعل الماضي. اقتران واو الحال بعد بعد إلا إذا تلاها فعل ماض: قد جاء مما تمتنع فيه الواو وقد منفردين ومجتمعين ويكتفي بالضمير أن تقع الجملة الحالية الفعلية بعد إلا ويتصدرها فعل ماض، كقوله تعالى: ?ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون –يس /30?. وجاء في شرح الأشموني (3 /22) أن (قد) تمنع مع الماضي الممتنع ربطه بالواو وهو تالي الا، وندر قوله: لنفسي إلا قد قضيت قضاءها متى يأت هذا الموت لم يُلف حاجة لكنه جاء في حاشية الصبان: "في شرح الرضي أنهما يجتمعان بعد الا نحو: ما لقيته إلا وقد أكرمني –3 /22". فما الرأي في ذلك؟ أقول جاء في كلام الفصحاء اقتران الواو بقد بعد (الا) قبل الفعل الماضي، كما جاء انفرادها بالفعل الماضي على ما تقدم. ومن شواهد اقتران الواو بقد قبل الفعل الماضي التالي لـ (الا) ، ما جاء في نهج البلاغة، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 ولا جُعلتْ لهم الأفئدة في ذلك الأوان الا وقد أُعطيتم مثلها في هذا الزمان (1 /156) ، وقال: ما منهم رجل الا وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعاً غير مكره (2 /104) . وقال ابن جني في الخصائص: لسنا نراك الا وقد أغلقت العينين جميعاً (2 /65) . وجاء في شرح الحماسة لأبي علي المرزوقي: فلا يمكنهم تجاوزه الا وقد فرغوا منه (ص /192) وقال: لا تكون راشدا الا وقد رشد جارك معك (ص /438) . فساغ بذلك قولك في المثال السابق (ما من أحد الا وقد جزع) ، وقولك (ما حدثني أحد الا وقد استمعت إليه) ، استناداً إلى ما ذهب إليه الإمام الرضي وجاء في كلام الفصحاء. مجيء واو الحال بعد الا إذا تلاها فعل مضارع: الأصل أن تمتنع الواو إذا تصدر الجملة الحالية مضارع مثبت دون (قد) ، فترب بالضمير وحده، كقولك (جئت أحمل ثيابي) وقوله تعالى ?وآية لهم الليل نسلخ منه النهار –يس /31?. فإذا اقترن بقد جاز ذل كقوله تعالى ?لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم –الصف /5?. والحكم في هذا جاء بعد الا ودونها. وقد أخذ الدكتور مصطفى جواد عضو المجتمع العراقي في كتابه (المباحث اللغوية) على زميله الأب ماري أنستاس الكرملي قوله (لا ندع ديواناً ... الا ونورد فيه شيئاً من المصطلحات) ، قال الدكتور جواد: "والصواب نورد بحذف الواو" مستشهداً بقوله تعالى ?وان من شيء الا يُسبح بحمده –الإسراء /44?. كما أخذ الأستاذ علي نجدي ناصف على الدكتور شوقي ضيف في كتابه (المدارس النحوية) مثل ذلك. قال الأستاذ ناصف في مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة (25 /190) : "ويدخلها –أي واو الحال –الأستاذ الدكتور شوقي ضيف في كتابه، المدارس النحوية –على المضارع المثبت غير المقرن بقد حين تقع جملته حالاً، كقوله: لا يسجل قاعدة الا ويرى –ص /100. ويوجب النحويون أن تربط هذه الجملة بالضمير لا بالواو، ويؤولون ما ورد مقروناً بها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وقد بحث هذا أبو البقاء الكفوي في (الكليات) فقال: "ودخول الواو في المضارع المثبت كالممتنع أعني الحرام إذا أجري على ظاهره. وأما إذا قدر معه مبتدأ فدخول الواو جائز ومسموح كثيراً –5 /165". وهذا يعني أنك إذا قلت (وليس شيء مما يضطرون إليه إلا ويحاولون به وجهاً) بإثبات الواو قبل المضارع كان كالممتنع في الأصل، فإذا قدرت فيه المبتدأ على أن المراد (الا وهم يحاولون به وجهاً) كما أثبته ابن جني في الخصائص (1 /52) جاز ذلك. على أننا إذا عدنا إلى كلام الفصحاء، كما فعلنا قبل، رأينا أن اقتران الواو بالمضارع المثبت هنا جائز، ولو امتنع تقدير المبتدأ. وشاهد ذلك ما جاء في نهج البلاغة، قال: "واعلموا أن ليس من شيء الا ويكاد صاحبه أن يشبع منه ويمله الا الحياة 2 /23"، فقد دخلت الواو على المضارع المثبت مع تعذر تقدير المبتدأ، فتأمل. موجز القول في الجملة الحالية، المثبتة، إذا تلت الا: ويحسن أن نوجز الحكم في الجملة الحالية، الفعلية المثبتة، بعد الا، من حيث اقترانها بالواو وقد أو امتناعها عنهما، بما يلي: الأول: الأصل في الجملة الحالية بعد إلا إذا تصدرها الماضي المثبت أن تكتفي بالضمير وحده، ولكن جاء في كلام الفصحاء اقترانها بالواو وقد مجتمعين، كما اتفق ذلك في كلام علي، كرم الله وجهه، وقد قال به بعض الأئمة. وجاء إلى ذلك في كلامهم اقترانها بالواو وحدها. الثاني: الأصل في الجملة الحالية إذا تصدرها المضارع المثبت أن تكتفي بالضمير وحده، فإذا اقترنت بالواو فلا بد أن تضم إليها قد، سواء تلت الجملة (الا) . أو جاءت دونها. لكنه جاء في كلام الفصحاء اقترانها بالواو وحدها، كما اتفق ذلك في كلام علي كرم الله وجهه. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وبعد فهذا ما رأيت أن أبسط القول فيه للكشف عن المسلوكة إلى تبين جواب الشرط من جواب القسم وتحري الواجب منهما إذا اجتمعا، وتعرّف مواضع ربط الجملة بواو الحال وجوباً وجوازاً وامتناعاً. وقد اعتمدت في ذلك آراء النحاة وأقلام أرباب البيان شعراً ونثراً فهؤلاء وأولئك أصحاب الصناعة. وأرج أن أكون قد أوضحت البحث فأفصحت عن مضمونه وجلوت غامضه في المسألتين. التماساً لوجه الرأي فيهما وابتغاء للصواب، ومن الله العون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 اسم الفاعل والموازنة بينه وبين الصِّفة المشبّهة وما يعترض الكتّاب فيه من لُبسٍ وإشكال 1- اسم الفاعل ودلالته: يقول الأئمة في تعريف الفاعل أنه اللفظ المصوغ من الفعل المعلوم للدلالة على معنى وقع من الموصوف، أو قام به على جهة الحدوث لا الثبوت، على حين يقولون في تعريف الصفة المشبهة أنها اللفظ المصوغ من الفعل اللازم للدلالة على معنى قائم بالموصوف على وجه الثبوت لا الحدوث. ويتبين بذلك أن الصفة المشبهة تتميز بأنها تدل على الثبوت، وتشتق من اللازم، وأن اسم الفاعل يدل على الحدوث ويصاغ من اللازم والمتعدي. ويأتي مبنى اسم الفاعل من الثلاثي المجرد على (فاعل) بكسر ما قبل آخره، وهو إما أن يُصاغ من (فعَل) المفتوح العين في الماضي، متعدياً ولازماً، كضارب من ضرب وقاعد من قعد، أو من (فَعِل) المكسور العين فيه متعدياً كشارب من شرب. هذا هو الغالب فيه. وهو يُصاغ من غير الثلاثي على زنة مضارعه بإبدال أوله ميماً مضمومة وكسر ما قبل آخره، كمُسعِفٍ من أسعَفَ ومُجيب من أجاب. آ-ما جاء من اسم الفاعل على غير الأصل: قد يأتي اسم الفاعل خلافاً للأصل المقيس الذي ذكرناه، كأن يُصاغ من (فَعِلَ) بكسر عين الماضي، ولكن من فعل لازم غير متعد، فيدل على الثبوت كسالم من سَلِم وتاعس من تَعِس وتافه من تفِه وخاطئ من خطِئ، بكسر عين الماضي فيها جميعاً. أو يأتي من (فعِل) بكسر عين الماضي اللازم على صورة المتعدي بحذف الجار، فيدل على الثبوت أيضاً، كساخِط من سِخطه بالكسر، والأصل سخط منه، أو يأتي مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كرجل بالغ وامرأة بالغ، ورجل خادم وامرأة خادم، فيدل كذلك على الثبوت. وقد ذهب المحققون إلى أن ما استوى فيه التذكير والتأنيث من الصفات ليس صفة مشبهة ولا اسم فاعل، بل هو صفة (على النَسَب) كرجل عاشق وامرأة عاشق، أي ذي عشق وذات عشق. ب-دلالة اسم الفاعل على الحال أو الاستقبال: خصَّ النحاة دلالة اسم الفاعل بالحدوث حين قرنوه بالصفة المشبهة الدالة على الثبوت. وقد قصدوا بذلك إفادته للحال أو الاستقبال نحو إفادة مضارع فعله. وبُني على ذلك أعمال هذا الفاعل المجرد من (أل) في معموله، وذلك بتنوينه ونصب المفعول إذا كان متعدياً. على أن يستوفي شروط الأعمال كوقوعه خبراً أو صفة أو حالاً، أو وقوعه بعد نفي أو استفهام، ذلك لتستحكم المشابهة بينه وبين الفاعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 ويستعاض عن أعمال اسم الفاعل المعدّ للعمل، بإضافته إضافة لفظية لا تفيد التعريف. وهذا يعني أن اسم الفاعل ما دام يفيد الحال أو الاستقبال لا يتعرف بالإضافة. والشاهد على ذلك قوله تعالى: ?كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموت- آل عمران/ 185?. فقد جاء (ذائقة) لحكاية الحال، وقرئ بالإضافة فكانت إضافته لفظية لا تفيد التعريف، كما أعمل فيما بعده فقرئ بالتنوين ونصب (الموت) ، قال العكبري محب الدين أبو البقاء في كتابه (إملاء ما منَّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن) : "وإضافة ذائقة غير محضة" أي لفظية لا تفيد التعريف. وعلل العكبري ذلك فقال: "لأنها نكرة يُحكى بها الحال" وأردف: "وقرئ شاذاً ذائقةٌ الموت بالتنوين والأعمال". أقول ما دام قد قرئ به فهو جائز على كل حال. قال القرطبي أبو عبد الله في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) : "وقرأ الأعمش ويحيى وابن أبي اسحاق ذائقةٌ الموتَ بالتنوين ونصب الموت، قالوا لأنها لم تذق الموت". وقال الفراء في كتابه (معاني القرآن) : "ولو نوِّنت ذائقة ونصبت كان صواباً". وهكذا إذا جاء اسم الفاعل على الأصل فيدل على الحال أو الاستقبال ونصبت كان صواباً". وهكذا إذا جاء اسم الفاعل على الأصل فدل على الحال أو الاستقبال أمكن إعماله إذا استوفى شروط الإعمال، وأمكن إضافته فكانت الإضافة لفظية لا تفيد التعريف. جـ-دلالة اسم الفاعل على تجدد الحدث مستمراً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 قد لا يقف اسم الفاعل عند دلالته على الحال أو الاستقبال فيتجاوز ذلك إلى إفادة تجدد الحدث باستمرار، وهو ما اصطلح عليه عند النحاة باستمرار التجدد. فيقوم اسم الفاعل حينئذ بعمله بعد التنوين وينصب المفعول، على الأصل، فإذا أضيف كانت إضافته كذلك لفظية لا تفيد التعريف. ومثال هذا قولك (زيد مكرم الضيفان) على الإضافة، و (زيد مكرم ضيفانه) بتنوين اسم الفاعل ونصب ما بعده. قال الشيخ ناصيف اليازجي في كتابه (نار القرى/ 178) : "وجرى مجرى ما كان على الحال والاستقبال ما أريد به الاستمرار التجددي نحو زيد مكرم ضيفه" بتنوين مكرم ونصب ما بعده. وقد جعل بعضهم من هذا القبيل قوله تعالى: ?فالق الأصباح وجعل الليل سكناً- الأنعام/ 96? فقد قرئ "وجاعل الليل سكناً" وجاء فيه قولان: الأول أن اسم الفاعل دال على تجدد الحدث باستمرار، ويمكن حينئذ إضافته، فتكون إضافته لفظية لا تفيد التعريف، وإعماله فيكون "سكناً" منصوباً به. وقد أشار البيضاوي ناصر الدين في تفسيره (أنوار التنزيل) إلى دلالة اسم الفاعل هذه فقال: "على أن المراد منه جعل مستمر". كما أشار العكبري محب الدين أبو البقاء في كتابه (إملاء ما منَّ به الرحمن من وجوه الإعراب) إلى إعمال اسم الفاعل فقال: "وجاعل الليل مثل فالق الإصباح في الوجهين، وسكناً مفعول جاعل إذا لم تعرّفه". والثاني أن اسم الفاعل دال على الماضي بدليل قراءته الأولى (وجعل) ، فيجب حينئذ إضافته فتكون إضافته محضة تفيد التعريف، ويمتنع في هذه الحال عمله فيقدّر نصب (سكناً) بفعل محذوف، كما سنذكره بعد. قال العكبري: "وإن عرَّفته كان منصوباً بفعل محذوف أي جعله سكناً". د-دلالة اسم الفاعل على الماضي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 قد يدل اسم الفاعل على المضي وحده دون الحال أو الاستقبال فيُلغى عمله وتجب فيه الإضافة فتكون إضافته معنوية حقيقية محضة تفيد التعريف كإضافة الاسم غير المشتق. ومثال ذلك قوله تعالى: ?الحمد لله فاطر السموات جاعل الملائكة رسلاً-فاطر/1?، فقد جاء (فاطر وجاعل) مضافين إضافة محضة تفيد التعريف. قال العكبري في كتابه (إملاء ما منَّ به الرحمن من وجوه الإعراب) : "فاطر السموات: الإضافة محضة لأنه للماضي لا غير. وأما جاعل فكذلك في أجود المذهبين". هـ-دلالة اسم الفاعل على الاستمرار: وقد لا يدل اسم الفاعل على زمن معين فيفيد الاستمرار فيعامل معاملة ما يدل منه على الماضي. قال تعالى: ?حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذنب وقابل التوب- غافر/ 1-2?. ** ويتبين مما تقدم أن دلالة اسم الفاعل على الحدوث تعني مشابهته للمضارع وإفادته للحال أو الاستقبال أو تجاوزه ذلك بالقصد إلى دوام التجدد، وهو يعمل في هذه الحال فينصب المفعول إذا كان متعدياً أو يضاف فتكون إضافته لفظية. وقد يتحول عن مشابهة المضارع فيفيد الماضي بقرينة أو يفيد الاستمرار فيُلغَى عمله في الحالين ويضاف فتكون إضافة حقيقية معنوية. قال عبد الرحمن الجامي في شرح الكافية لابن الحاجب: "فإن كان اسم الفاعل المتعدي للزمان الماضي بالاستقلال أو في ضمن الاستمرار، وأريد ذكر مفعوله وجبت الإضافة، أي إضافة حقيقية معنوية. قال عبد الرحمن الجامي في شرح الكافية لابن الحاجب: "فإن كان اسم الفاعل المتعدي للزمان الماضي بالاستقلال أو في ضمن الاستمرار، وأريد ذكر مفعوله وجبت الإضافة، أي إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله معنى، أي إضافة معنوية". وإنزال اسم الفاعل منزلة الاسم غير المشتق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وقد ينزل اسم الفاعل منزلة الاسم غير المشتق كالعالم والمؤمن والكافر فإنها أسماء فاعلين أريد بها الثبوت. و (أل) الداخلة عليها للتعريف وليست موصولة، لأن (أل) الموصولة إنما تدل على ما يراد به الحدوث لا الثبوت. وإذا جُرِّدت أسماء الفاعلين هذه من (أل) التعريف وأضيفت كانت إضافتها معنوية لا لفظية. تقول جاء عالم بلدنا، فعالم في الأصل صفة أضيفت إلى غير معمولها فأنزلها منزلة الاسم. وهكذا قولك جاء مصارع الحلبة. وهكذا الكاتب والقارئ والشاعر والعامل والقاضي إذا أريد بها من يزاول الكتابة والقراءة وقرض الشعر والعمل والقضاء. 2- كلام الباحثين المحدثين على اسم الفاعل ودلالته: 1- كلام الدكتور إبراهيم السامرَّائي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 تحدث كثير من الباحثين المحدثين عن دلالة اسم الفاعل ومنهم الدكتور إبراهيم السامرَّائي في كتابه (الفعل زمانه وأبنيته) ، فأنكر أن يكون الأئمة قد نسبوا دلالة الاستمرار إلى اسم الفاعل، فقال: "والقول بدلالة فاعل على الاستمرار ما انفرد به المخزومي. فقد اقتصر السابقون على دلالة فاعل على المستقبل، وهو اسم الفاعل المنون العامل، نحو أنا صائم يوم الخميس، أي سأصوم. وعلى المضي وهو اسم الفاعل المضاف نحو قاتل أخيه أي قتل/ 42"! قال هذا وكأنه لم يعاين ما جاء في أسفار السَلَف لا سيما ألفيَّة ابن مالك وشرح الأشموني لها، وحاشية الصبان على هذا الشرح، بل كافية ابن الحاجب وشرحها للرضي والجامي، فضلاً عن كتاب (همع الهوامع في جمع الجوامع) للسيوطي.. وقد عبَّر السيوطي عن دلالة اسم الفاعل على الاستمرار بعدم اختصاص هذه الدلالة بزمان دون زمان. فقال: "فإن قصد تعريفها، أي الصفة المضافة إلى معمولها، بأن قصد الوصف بها من غير اختصاص بزمان دون زمان تعرفت. ولذا وصفت بها المعرفة في قوله تعالى: مالك يوم الدين، فالق الحب والنوى، غافر الذنب، إلا الصفة المشبهة..". ولا ننسَ ما ذكرناه من قول أبي البقاء الكفوي في كلياته: "معنى الاستمرار هو الثبوت من غير أن يعتبر معه الحدث في أحد الأزمنة- 5/332". وليس هذا وحسب فقد جعل أبو البقاء الكفوي دلالة اسم الفاعل على الاستمرار أو الثبوت في أصل وضعه، إذ قال: "اسم الفاعل يستفاد منه مجرد الثبوت صريحاً بأصل وضعه، وقد يستفاد منه غيره بقرينة- 5/173". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 ولوجهة النظر هذه في اعتداد الثبوت أو الاستمرار هو الأصل في دلالة اسم الفاعل وجه متقبل. ذلك أن اسم الفاعل (اسم) والاسم على الثبوت والاستمرار، ولكنه يشبه الفعل وشبهه هذا قد تحول به إلى ما يدل عليه الفعل المضارع من حركة وتجدد. وهذا ما كشف عنه الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز 115) ، فأفصح عن الفرق بين قولك (زيد منطلق) و (زيد ينطلق) . فقولك (زيد منطلق) يثبت الانطلاق لزيد دون أن يقتضي تجدداً، أما قولك (ينطلق) فإنه يثبت لزيد انطلاقاً يتجدد فيقع منه شيء بعد شيء. وإذا كان النحاة قد ذكروا أن قولك (خالد دائب في عمله) كقولك (يدأب فيه) ، فإن قولهم هذا على المشابهة لا على المماثلة والمطابقة. ذلك أن في أصل دلالة المضارع من التجدد ما ليس في أصل دلالة اسم الفاعل، وقد أشار الأشموني إلى دلالة المضارع هذه، في شرح ما جاء من قول ابن مالك في ألفيته (أحمد ربي الله خيرَ مالك) ، إذ قال: (واختار صيغة المضارع المثبت لما فيه من الإشعار بالاستمرار التجددي، أي كما أن آلاءه تعالى لا تزال تتجدد في حقنا دائماً كذلك نحمده بمحامد لا تزال تتجدد". وهذا يعني أن الأصل في التجدد أن يكون للفعل، فإذا وصف به اسم الفاعل بالفعل فقد استدعت ذلك قرينة تحولت باسميته إلى مشابهة الفعل. وإذا كنا قد جارينا النحاة ها هنا فجعلنا الأصل في اسم الفاعل الدلالة على الحدث، فإذا دلَّ على الاستمرار فقد تحول عن أصله، فذلك لأننا قرناه بالصفة المشبهة الدالة على الثبوت فوازنّا بينه وبينها فتميز عنها بإفادة الحدث. ولو قرنا اسم الفاعل فوازنا بينهما لكان الفعل صاحب الحدث وكان اسم الفاعل هو الدال على الاستمرار. 2- كلام الدكتور مهدي المخزومي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 تحدث المخزومي في كتابه (في النحو العربي) عما جاء في (فاعل) اسم فاعل في مذهب الكوفيين فقال: "وأما مثال فاعل فهو أحد أقسام الفعل وهو الفعل الدائم الذي لا دلالة له على زمن معين إذا لم يوصل بصلة من مضاف إليه أو مفعول". وفي كلامه هذا موضع للنظر، ذلك أن الكوفيين لم يسمّوا اسم الفاعل الفعل الدائم لعدم دلالته على زمان معين، بل لدلالته على الماضي تارة والحال والاستقبال تارة أخرى. والمخزومي قد اشترط لدلالة اسم الفاعل على زمن معين أن يضاف أو ينصب مفعولاً. وإضافة اسم الفاعل إلى معموله قد تدل على الحال أو الاستقبال، كما في مثال (ذائقة الموت) أو على الماضي كما في مثال (فاطر السموات) ، لكنها قد لا تدل على زمن معين فتفيد الاستمرار كما في مثال (غافر الذنب قابل التوب) . 3- كلام الأستاذ محمد العدناني: بحث الأستاذ محمد العدناني في كتابه (معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة) عمل اسم الفاعل فقال: "يعمل اسم الفاعل المشتق من الفعل المتعدي عمل فعله في رفع الفاعل ونصب المفعول به كقولنا -هُدى دارسة جميعَ دروسها، والقانون شامل كل القوانين السابقة، وأرى جيشنا ساحقاً جيش الأعداء". وهكذا أتى بمفعولات أسماء الفاعلين منصوبة، وهي (جميع وكل وجيش) ثم أردف: "ما عدا اسم فاعل واحداً هو –صاحب- فتقول: صحب حسام ياسراً فهو صاحبه، ولا يجوز أن تقول حسام صاحب ياسراً، بتنوين صاحب، بل تقول حسام صاحب ياسر، بالإضافة لأنهم استعملوا اسم الفاعل –صاحب- استعمال الأسماء فجرت عليه أحكامها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 أقول لا شك أن اسم الفاعل لا يعمل عمل فعله ما لم يدل كمضارعه على الحال أو الاستقبال أو يفيد الاستمرار التجددي، فإذا أنزل منزلة الأسماء ألغي عمله. وقد بسطنا القول في ذلك وأتينا بأمثلة من أسماء الفاعلين أنزلت منزلة الأسماء. لكن الغريب حقاً أن يذهب العدناني إلى أن العرب لم تنزل من أسماء الفاعلين منزلة الاسم سوى (صاحب) ، فكيف يمكن أن يُخصَّ (صاحب) بهذا، على اتساع لغة الضاد وتقلّب معاني مفرداتها وتشعب أساليب التعبير فيها وتباينها. ومما أشرنا إليه من أسماء الفاعلين التي خصت بهذه المنزلة، منزلة الاسم: عالم وقاض وكاتب وعامل وشاعر إذا أريد بها من زاول العلم والقضاء والكتابة والعمل وقرض الشعر، ومثلها كثير. وقد قرن سيبويه في (الكتاب-2/100) بالصاحب (الوالد) والوالد هو الأب. وقد بحث قياس جمعهما بعد أن كانا صفتين فأصبحا اسمين، فقال: "فأما والد وصاحب فإنهما لا يجمعان ونحوهما كما يجمع قادم الناقة" أي لا يجمعان جمع الأسماء ولو أنزلا منزلة الاسم، فلا تقول في جمع (والد) أوالد، وفي جمع (صاحب) صواحب، كما تقول في جمع (قادم) قوادم. وقادم الإنسان رأسُهُ، وقادم الناقة مقدمتها. قال المرزوقي في شرح الحماسة (ص 71) : "صاحب وفعله صاحب صفة في الأصل استعملت استعمال الأسماء، فلم يجرِ مجرى أسماء الفاعلين، ويجري على طريقته قولهم والد". وقال نحو من ذلك ابن سيده في مخصصه (17/55) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 وفي اللغة (قائم السيف وقائمته) أي مقبضه، والقائمة كذلك واحدة قوائم الدواب، كما جاء في مختار الصحاح. ويدخل في هذا الباب قولهم (قافلة الحاج) ، وقد أسميت بها الرفقة. قال ابن قتيبة في (أدب الكاتب) : "سميت الرفقة بالقافلة قبل قفولها تفاؤلاً". وقال الصاغاني في كتابه (الذيل والصلة) : "من قال القافلة للراجعة من السفر فقد غلط، بل ذلك للمبتدئة في السفر تفاؤلاً لها بالرجوع". وهكذا (الآزفة) في قوله تعالى: ?وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر –غافر/ 18" والآزفة يوم القيامة وهي مشتقة من (أزف الرحيل) إذا قرب. 3- تبع الصفة للموصوف في التعريف والتنكير: يشترط في الصفة أن تتبع موصوفها في التعريف والتنكير، فإذا كان الموصوف معرفة وجب أن تكون الصفة معرفة، وإذا كان نكرة كانت الصفة كذلك أيضاً. تقول (الحمد لله) وهي جملة اسمية إخبارية لفظاً، إنشائية معنى، وقد رفع فيها (الحمدُ) على الابتداء، وكان الجار والمجرور في محل الرفع خبراً للمبتدأ. فإذا أردت أن تصف اسم الجلالة (الله) قلت مثلاً (الحمد الله المعروف من غير رؤية) كما جاء في نهج البلاغة (1/157) ، إذ جاء (المعروف) صفة وكان معرَّفاً لأن الموصوف معرفة. وهكذا قول القائل (الحمد لله الأول فلا شيء قبلِهِ) كما جاء في نهج البلاغة (1/187) ، فالأول صفة معرَّفة والموصوف عَلَم وهو اسم الجلالة. وفي التنزيل "الحمد لله رب العالمين"، وقد جاء فيه (ربّ) صفةً لله وهو معرفة لإضافته إلى معرفة، وهكذا قوله تعالى: "فتبارك الله أحسنُ الخالقين- المؤمنون/ 84". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 أما مثال التنكير فقوله تعالى: ?ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون- البقرة/ 10? فأليم صفة لعذاب وكلاهما نكرة. وقوله تعالى: ?ولهم فيها أزواج مطهَّرة وهم فيها خالدون- البقرة/ 25? فمطهَّرة صفة الأزواج وكلاهما نكرة. وقوله تعالى: ?ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإيّاي فاتَّقون-البقرة/ 41? فقليلاً صفة لقوله (ثمناً) وكلاهما نكرة. وقلَّما يُشكل على الكتاب تعريف الوصف بـ (أل) أداة التعريف، ولكن يشكل عليهم تعريف الوصف بالإضافة. فالسؤال ها هنا متى يكتسب الوصف التعريف بالإضافة فيصح أن يوصف به الموصوف المعرَّف. 1- متى يتعرف الوصف بالإضافة: القاعدة ألاَّ يعرَّف المضاف عامة بالإضافة ما لم تكن إضافته معنوية محضة تفيد التعريف، وضابطها في الوصف، سواء أكان اسم فاعل أو مفعول أو صفة مشبهة، ألاَّ يكون مضافاً إلى معموله فاعلاً أو مفعولاً، وإلا كانت إضافته لفظية لا تفيد التعريف. فليس لك أن تقول مثلاً (على النفس ذائقة الموت أن تهتم بأخراها) ، بل الصواب أن تقول (على النفس الذائقة الموت أن تهتم بأخراها) أي على النفس التي ستذوق الموت أن تهتم بأخراها، والأخرى هي الآخرة، أي دار البقاء. وليس لك أن تقول (على المرء مهضوم الحق ألاَّ يسكت على ظلمه) بل الصواب أن تقول (على المرء المهضوم الحق ألا يسكت على ظلمه) ما دام معناه الذي يهضم حقه، وليس لك أن تقول (المرأة حسنة الوجه تفتن الرجال) بل الصواب أن تقول (المرأة الحسنة الوجه تفتن الرجال) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 وقد استثنوا من ذلك اسم الفاعل أو المفعول إذا دلَّ على الماضي، أو لم يدل على زمن معين، كما فصلنا فيه القول. قال السيوطي في كتابه (همع الهوامع-2/48) : "فإن قُصد تعريفها أي الصفة المضافة إلى معمولها، بأن قصد الوصف بها من غير اختصاص بزمان دون زمان تعرَّفت، لذلك وُصف بها المعرفة". وهو يعني بذلك دلالة الصفة على الاستمرار، فقد جاء في شرح (الأزهرية في علم العربية) لخالد بن عبد الله الأزهري، في إعراب الفاتحة: "رب نعت أول لله، وهو مضاف والعالمين مضاف إليه. والرحمن نعت ثانٍ لله، والرحيم نعت ثالث، ومالك نعت رابع". وأردف "وصح ذلك لدلالته على الدوام والاستمرار وهو مضاف إضافة محضة، ويوم مضاف إليه ومضاف ... ". وكذلك كلام السيوطي على الصفة إذا دلت على الماضي، فقد سبق منه قوله: "فإن كانت، أي الصفة بمعنى الماضي، فإضافتها محضة.." أي إضافة معرّفة يصح بها وصف المعرفة. ولكن هل يصح في إضافة الصفة المشبهة ما صح في إضافة اسم الفاعل والمفعول. أقول: قد استثنى السيوطي الصفة المشبهة فأفردها بحكم خاص وقال": "إلا الصفة المشبهة فلا تتعرف لأن الإضافة بها نقل عن أصل وهو الرفع بخلافها في غيرها فهي عن فرع وهو النصب: ولأنه إذا قصد تعريفها أدخل عليها اللام". وما جاءها هنا عن إضافة الصفة المشبهة وكونها لفظية، لا تفيد التعريف في كل حال، وأنها إنما تتعرف بـ (أل) ، أقول ما جاء ها هنا هو رأي جمهور النحاة. فقد صحح الأشموني في شرحه ما ذهب إليه ابن مالك في ألفيته فقال: "فهي أي الصفة المشبهة ليست بمعنى الحال أو الاستقبال بل للثبات والدوام، وهي وإن كانت كذلك لا تتعرف بالإضافة أصلاً". وقد سبق الرضي إلى ذلك في شرح كافية ابن الحاجب فقطع بأن إضافة الصفة المشبهة لفظية أبداً وبنى ذلك على كونها عاملة في محل المضاف إليه إما رفعاً أو نصباً، فقال: "فهي جائزة العمل دائماً فإضافتها لفظية دائماً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 2- اختلاف حكم الوصف في التعريف إذا أضيف إلى معموله عامة بين أن يكون اسم فاعل أو مفعول أو يكون صفة مشبهة: يتبين بما قدمنا أن اسم الفاعل واسم المفعول يتعرفان إذا أضيفا إلى معمولهما بشرط دلالتهما على المضي أو الاستمرار، وأن الصفة المشبهة لا تتعرف بالإضافة إلى معمولها، مهما كان حالها، مع دلالتها على الثبات في الأصل. وقد بني على ذلك أن الصفة المشبهة لا تصح وصفاً لموصوف معرَّف إذا أضيفت إلى معمولها ما لم تتعرَّف باقترانها باللام، خلافاً لاسم الفاعل والمفعول، إذ يصح أن يكونا وصفين لموصوف معرّف إذا أضيفا إلى معمولهما ودلاَّ على الماضي أو الاستمرار. 3- مجمع اللغة العربية بالقاهرة وتعريف الصفة المشبهة المضافة: قضى مجمع اللغة العربية بالقاهرة في مؤتمره (عام 1983) بتعريف الصفة المشبهة المضافة، واعتداد إضافتها معنوية، فأجاز وصفها للمعرفة قياساً إلى اسم الفاعل والمفعول المضافين إذا دلاَّ على الاستمرار فقد اعتد النحاة إضافتهما معنوية وأقروا وصفهما للمعرفة ... فما الرأي في ذلك؟ أقول أقرَّ مجمع اللغة القاهري تعريف الصفة المشبهة بعد أن شهد بمخالفة رأيه هذا رأي النحاة لا سيما الخليل ويونس وسيبويه، فقال: "وترى اللجنة أن الصفة المشبهة أقرب إلى أن تكون إضافتها معنوية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 وعندي أن المجمع القاهري لم يُصب فيما ذهب إليه وأن قياسه ليس صحيحاً. ذلك أن الصفات، إذا أضيفت إلى معمولها، إما أن تضاف إلى فاعلها أو إلى مفعولها، فإذا كان الأول كانت إضافتها لفظية لا تفيد التعريف، صفة مشبهة كانت أو اسم فاعل أو مفعول. وإذا عرفنا أن الصفة المشبهة لا تضاف إلا إلى فاعلها أدركنا أن إضافتها لفظية لا سبيل إلى تعريفها. خلافاً لاسم الفاعل والمفعول فإنهما يضافان إلى مفعولهما فتكون إضافتهما معنوية تفيد التعريف إذا دلاَّ على الاستمرار، أو يضافان إلى مرفوعهما فاعلاً لاسم الفاعل ونائب فاعل لاسم المفعول فتكون إضافتهما لفظية كإضافة الصفة المشبهة سواء بسواء. فالسر إذاً في تعريف اسم الفاعل المضاف هو إضافته إلى مفعوله أولاً ثم دلالته في هذه الإضافة على الاستمرار، فكيف يمكن أن تقاس به الصفة المشبهة، وهي لا تضاف إلا إلى فاعلها؟ قال الرضي: "أما عمل اسم الفاعل والمفعول فهو جائز في المرفوع مطلقاً بإضافتهما، فإضافتهما إلى فاعلهما لفظية دائماً". 4- إضافة الوصف إلى مرفوعه لا تكون إلا لفظية، صفة مشبهة كان الوصف أو اسم الفاعل أو مفعول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 هذا ما قضى به النحاة. ولكن ما علة ذلك؟ أقول علة ذلك أنك إذا قلت (زيد حسن الوجه) بإضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها مثلاً، فكأنك قلت (زيد حسن وجهه) برفع (وجهه) ، ولا بد من تلازم الوصف وفاعله في القولين وتكاملهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر، كما هو شأن الفعل وفاعله، فأي تعريف يمكن أن يفيده الوصف بإضافته إلى ما هو كالجزء منه والإضافة إنما تكون بين متغايرين، كما يقول النحاة. وقد أشار النحاة إلى تعلق الفعل بفاعله فقالوا: "تعلق الفعل بفاعله أشد من تعلق المبتدأ بخبره، لأن الفاعل بمنزلة الجزء من الفعل" جاء ذلك في (الأشباه والنظائر-1/566) للإمام السيوطي. كما قالوا: "الفاعل لا يتقدم على فعله لأنه كالجزء منه" وأردفوا "الصفة لا تتقدم على الموصوف لأنها من حيث أنها مكملة له ومتممة، أشبهت الجزء منه –المصدر- 1/593". ويجري خلاف ذلك إذا أضفت الوصف إلى مفعوله، لأن المفعول ليس جزءاً من الوصف وهذا شأن الفعل ومفعوله فهما لا يتلازمان ولا يتكاملان. فقد يكون الفعل لازماً لا مفعول له، وقد يكون متعدياً ويستغنى عن مفعوله. فالوصف قد يفيد تعريفاً إذا ما أضيف إلى مفعوله. والذي يضاف إلى مفعوله من الوصف هو اسم الفاعل أو المفعول من الفعل المتعدي دون الصفة المشبهة، وهما يفيدان من هذه الإضافة تعريفاً إذا دلاَّ على الاستمرار. أما الصفة المشبهة فإذا نصبت نصبت لفظاً لا معنى وقد أسموا منصوبها الشبيه بالمفعول، فقد قالوا (الحسن الوجه) تشبيهاً له بـ (الضارب الرجل) بالنصب فيهما. وانظر إلى ما جاء في (إملاء ما منَّ به الرحمن من وجوه الإعراب) للعكبري في إعراب قوله تعالى: ?حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب- غافر 1/2?. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 قال العكبري: "غافر الذنب وقابل التوب، كلتاهما صفة لما قبله، والإضافة محضة" أي صفة لاسم الجلالة. وقد أشار بقوله هذا إلى أن اسم الفاعل (غافر وقابل) المضافين إلى مفعولهما قد تعرَّفا بالإضافة، فإضافتهما محضة أي معنوية تفيد التعريف، لدلالتهما على الاستمرار. وأردف: "وأما شديد العقاب فنكرة، لأن التقدير: شديد عقابه" أي أن إضافة الصفة المشبهة (شديد) إضافة لفظية لا تفيد التعريف لأنها مضافة أبداً إلى فاعلها. ثم قال: "ويجوز أن يكون شديد بمعنى مشدّد فتكون الإضافة محضة فيتعرف فيكون وصفاً أيضاً". أي إذا كان (شديد) صفة مشبهة فلا سبيل إلى أن يكون صفة لاسم الجلالة، بل يكون بدلاً لجواز أن يكون البدل نكرة والمبدل منه معرفة. أما إذا كان (شديد) على فعيل بمعنى مُفعِّل بكسر العين المشددة أي بمعنى (مُشدِّد) اسم الفاعل، أمكن أن تكون إضافته إلى مفعوله (العقاب) إضافة محضة فيتعرَّف ويكون صفة لاسم الجلالة، ما دام يدل على الاستمرار. وإذا كانت الصفة المشبهة في قولك (زيد حسن الوجه) بإضافة الصفة منكرة لإضافتها إلى فاعلها، وكانت الصفة المشبهة في قولك (زيد الحسن الوجه) بإضافة الصفة أيضاً معرفة، فإن تعريفها قد كان باللام دون الإضافة، فالصفة المشبهة لا تتعرَّف بالإضافة مطلقاً. 5- الصفة المشبهة في كلام الفصحاء: قضى النحاة بأن تعريف الصفة المشبهة المضافة إنما يكون باللام دون الإضافة لأن الإضافة لا تفيدها تعريفاً. وذهب مجمع اللغة العربية القاهري في مؤتمره إلى جواز تعريف الصفة المشبهة بالإضافة وحدها خلافاً للنحاة، فأين يقع كلام الفصحاء من الرأيين، وهل جاء في مأثورهم من النثر أو الشعر ما يؤيد رأي المجمع القاهري دون النحاة، فكانت الصفة المشبهة فيه معرَّفة بالإضافة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 أقول يجمع الباحثون على صحة قولك (مررت برجل حسن الوجه) بإضافة الصفة إلى معمولها وهو الفاعل، وقد جاء هذا في أمثلة النحاة. ويستدل بذلك أن (حسن الوجه) منكَّر لأنه جاء صفة لنكرة. فإذا صح هذا فكيف يصح قولك (مررت بزيد حسن الوجه) ؟ فلو أفاد (حسن الوجه) تعريفاً لما جاز قولك الأول (مررت برجل حسن الوجه) . فالوصف المعرف لا يوصف به المنكر. قال الجامي في شرح كافية ابن الحاجب: "ويمتنع تركيب: مررت بزيد حسن الوجه، فلو أفادت تعريفاً –أي الصفة- لم يجز مررت برجل حسن الوجه/ 123". ومثل ذلك ما جاء في (لطائف اللطف/ 31) لأبي منصور الثعالبي: "رأى الاسكندر، رحمه الله، رجلاً حسن الاسم قبيح السيرة فقال له: إما أن تغيِّر اسمك أو سيرتك"، وقد جاء (حسن الاسم) و (قبيح السيرة) صفتين لنكرة فدل على أنهما منكرتان، وأن إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها إضافة لفظية لا تفيد تعريفاً. ونحو ذلك أيضاً ما جاء في الكتاب نفسه: "اشترى بعضهم جارية بديعة الحسن/ 98"، كما جاء: "رأى بعض الفقراء امرأة حسنة الوجه/ 98". وفي نهج البلاغة وصية علي لابنه الحسن عليهما السلام: من الوالد الفانِ ... إلى المولود المؤمل ما لا يُدرَك، السالك سبيل من قد هلك غرضِ الأسقام، ورهينة الأيام ورمية المصائب ... وأسير الموت وحليف الهموم ... 3/42" فهل ثمة وجه لاعتداد (غرض أو رهينة أو رمية أو أسير أو حليف) صفة مشبهة مضافة إلى فاعلها؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 أقول: أما (الغرض) فهو اسم لا صفة ومعناه الهدف ويجمع على أغراض، وأما (الرهينة) هنا فهي صفة غالبة غلبة الأسماء. وتسمى الصفة غالبة إذا استغنت عن موصوفها وأنزلت منزلة الأسماء. وهي في الأصل صفة مشتقة من فعل متعدّ بمعنى اسم المفعول. قال الجوهري في الصحاح: "الرهينة واحدة الرهائن". وكذلك (الرميَّة) واحدة (الرمايا) ، وهي بمعنى الصَّيد يُرمى. قال الرازي في مختار الصحاح: "الرميَّة الصيد يرمى، يقال بئس الرميَّة الأرنب، أي بئس الشيء مما يُرمى الأرنب". والرهينة والرمية تلزمهما التاء، والتاء فيهما ليست تاء التأنيث في الصفات، وإنما هي تاء النقل من الوصفية إلى الاسمية، كما جاء في كتاب الفروق لإسماعيل حقي (ص 46) . ومما يشيع استعماله من الصفات الغالبة (العجيبة) تقول هذه إحدى العجائب، و (الغريبة) تقول هذه من الغرائب، و (الكبيرة) تقول الشِّرك إحدى الكبائر، و (الصنيعة) تقول الإنسان صنيعة الإحسان، و (العزيمة) تقول زيد ماضي العزيمة. و (الخضراء) وتجمع جمع الأسماء على خضراوات، لا جمع الصفات على خضر كحمراء وحُمر، وفي الحديث: "ليس في الخضراوات صدقة" وهي البقول. قال الفيومي في مصباحه: "لكن غلب عليها جانب الاسمية، أي الخضراء، فجمعت جمع الاسم كصحراء وصحراوات". أما (حليف) فهو فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس، وقد اشتق من فعل متعد وهو (حالف) ، فليس هو إذاً صفة مشبهة. ففي الصحاح: (الحليف: المحالف) . وما جاء من فعيل بمعنى الفاعل كالنديم بمعنى المنادم والأكيل بمعنى المؤاكل، والحليف بمعنى المحالف صفات ثابتة ثبوت الصفة المشبهة، لكنها لا تعمل باتفاق. وهي إذا أضيفت إلى ما هو بمعنى مفعولها تعرفت. وأما (أسير) فهو في الأصل فعيل بمعنى مفعول، وقد اشتق من فعل متعد، فليس هو كذلك صفة مشبهة، وإنما هو صفة ثابتة لا تعمل، فإذا أضيف إلى معرفة تعرّف. وهو كرهين الذي يذكر ويؤنث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 قال تعالى: ?كل نفس بما كسبت رهينة- المدَّثَّر/38? فجاءت (رهينة) صفة ثابتة لمؤنث. وقال تعالى: ?كل امرئ بما كسب رهين- الطور/ 21" فجاء (رهين) مذكراً صفة ثابتة لمذكر. فأنت تقول المرء رهين الموت كما تقول هو أسير الموت، والخلائق رهينة الموت كما تقول هي أسيرة الموت. 6- ليس في كلام الفصحاء ما عرَّفت فيه الصفة المشبهة بالإضافة: إذا تتبعنا ما أضيف من الصفة المشبهة، وهي لا تضاف إلا إلى فاعلها، وما أضيف من اسم الفاعل والمفعول إلى مرفوعه، في كلام الفصحاء، لم نعثر على ما جاء من ذلك معرَّفاً بالإضافة. ومثال الصفة المشبهة المضافة قوله تعالى: ?علَّمه شديد القوى- النجم/ 5?، فهذه صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها فكانت إضافتها لفظية لا تفيد تعريفاً، فلا بد أن يكون موصوفها إذاً منكراً. وهذا ما أشار إليه الإمام البيضاوي في تفسيره حين قال: "مَلَك شديد القوى، وهو جبريل عليه السلام". وجاء في الحديث عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: "كنت أمشي مع النبي (?) ، وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية". وفي الحديث أيضاً: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسنِ الصوت بالقرآن يجهد به". وجاء في كليلة ودمنة لابن المقفع (باب بَرزوَيه) : "وإن كان الملك حازماً عظيم القدرة رفيع الهمة بليغ الفحص ... فإنا قد نرى الزمان مُدبراً في كل مكان". وجاء في المقامة الحادية عشرة لأبي محمد القاسم الحريري: "ثم حَسَر رُدنه عن ساعد شديد الأسر، وقد شد عليه جبائر المكر لا الكسر". كما جاء في المقامة الثالثة والعشرين: "وشيخ طويل اللسان قصير الطيلسان قد لبَّبه –أي جذبه- فتى جديد الشباب خلق الجلباب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 فإذا جاء الموصوف مُعرَّفاً عُرّفت الصفة المشبهة باللام. ومن ذلك ما جاء في الحديث: "وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشّها يسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم". ونحو ذلك ما جاء في كليلة ودمنة لابن المقفع: (باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند) : "فإني بحمد لله مستغنٍ عن المال بما رزقني الملك السعيد الجد العظيم الملك". وهكذا اسم الفاعل والمفعول إذا ما أضيفا إلى مرفوعهما، فمثال اسم الفاعل قوله تعالى: ?فهنّ قاصرات الطرف لم يطمثهنَّ إنس قبلهم ولا جانّ-الرحمن/ 56?. فقاصرات اسم فاعل أضيف إلى فاعله فكانت إضافته لفظية لا تفيد التعريف، وهو يدل على الثبوت دلالة الصفة المشبهة، فحكمه في هذه الإضافة كحكمها. قال العكبري في (إعراب القرآن) : "لم يطمثهنَّ: وصف لقاصرات لأن الإضافة غير محضة" أي لفظية لا تفيد تعريفاً. وفي رسالة الجاحظ (في النساء) قوله: شيخ متخلّع الأسنان مُغضَّن الوجه". فقد جاء (متخلِّع) اسم فاعل مضافاً إلى فاعله. وهو مشتق من (تخلّع) الفعل اللازم، وهذا شرطه. كما جاء (مُغَضَّن) اسم مفعول مضافاً إلى نائب فاعله. وهو مشتق من (عضّنه) إذا ثنَّاه وجعَّده، وهو فعل متعدّ، وهذا شرطه. ومما جاء في إضافة اسم الفاعل إلى فاعله قول الحريري في مقامته الرابعة: "وصادفنا أرضاً مُخضلَّة الرُّبا معتلَّة الصَّبا فتخيرناها مُناخاً". والمقصود بالصبَّا الريح الشرقية، وبالمعتلَّة الليِّنة، وبالمُناخ المبرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 وهكذا تقول في اسم الفاعل المضاف إلى فاعله المشتق من فعل لازم: رأيت رجلاً معتدل القامة قائم الجذع، وأعرف جاراً لي مستقيم الخطة طاهر القلب نافذ الرأي. كما تقول في اسم المفعول المضاف إلى مرفوعه، المصوغ من فعل متعد: صحبت أخاً مرضيّ السيرة محمود الخصال، ومرفوعه هذا في الأصل نائب فاعل، وهو هنا نائب فاعل مجازاً، لأن المرضيّ والمحمود لا يدلاَّن على الحدوث، كما هو شأن اسم المفعول في الأصل، وإنما يدلان على الثبوت. ويسمى اسم المفعول هنا، الدال على الثبوت، اسم مفعول مجازاً، إذ ليس هو على الأصل الذي يصاغ للحدوث.. وهكذا فإن اسم الفاعل والمفعول يجريان مجرى الصفة المشبهة إذا أريد بهما الثبوت دون الحدوث فيكتفي كل بمرفوعه. ويكون هذا إذا كان اسم الفاعل من فعل لازم واسم المفعول من فعل متعد إلى واحد فتكون إضافتهما إلى مرفوعهما لفظية لا تفيد التعريف. فأنت إذا أردت التنكير اكتفيت بالإضافة فقلت: عرفت جاراً لي صادق الوعد محمود السيرة كريم الشيم، فإذا أردت التعريف قلت: جاء الرجل الصادق الوعد المحمود السيرة الكريم الشيم، بإدخال لام التعريف. وإذا كان ابن السراج أبو بكر قد عدد ما بين اسم الفاعل والصفة المشبهة من فروق، في كتاب (الأصول) فجعل منها أن اسم الفاعل لا يضاف إلى فاعله كما تضاف الصفة المشبهة، فقد قصد بذلك (اسم الفاعل) المصوغ من فعل متعد، إذ قال: "لا يجوز أن تقول عجبت من ضارب زيد، وزيد فاعل، ويجوز في الصفة المشبهة إضافتها إلى الفاعل لأنها إضافة غير حقيقية". أما اسم الفاعل المصوغ من لازم فهو كالصفة المشبهة سواء بسواء. وقد نحا نحو ابن السراج ابن مالك في شرح الكافية فقال: "انفرد اسم المفعول عن اسم الفاعل بجواز إضافته إلى ما هو مرفوع معنى نحو: الورع محمود المقاصد –الأشباه والنظائر للسيوطي- 2/462". *** ولكن ما الرأي في قول الشاعر: في حب مصر كثيرة العشاق كم ذا يكابد عاشق ويلاقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 وقد ذكر البيت في مجلة الرسالة القاهرية (10/477/830) ، فقال الأستاذ علي محمد حسن: "كثيرة تعرب حالاً من مصر، والعامل: حب"، وأردف: "وتعرب صفة على أن إضافة الصفة المشبهة محضة، أي إضافة معرفة، وعلى ذلك فكثيرة معرفة". أقول أما إعراب (كثيرة) حالاً من (مصر) والحال نكرة فذلك يعني أن الصفة المشبهة منكرة لا تتعرف بالإضافة، وعلى ذلك جمهور النحاة. وأما إعراب (كثيرة) صفة لمصر ومصر معرفة فإنه يعني أن الصفة المشبهة تتعرف بالإضافة، وهو قول لا سند له فيما أثر من كلام الفصحاء نثراً أو شعراً، وما صح من مذاهب النحاة. وإذا كان الجدل النحوي قد آل ببعض الأئمة من الكوفية إلى القول بجواز تعريف الصفة المشبهة بالإضافة، فقد ظل القول مفتقراً إلى ما يصححه من سماع أو قياس. وقد عقب السيوطي في كتابه (همع الهوامع- 2/48) على ذلك فأصر على تنكير الصفة المشبهة المضافة محتجاً بجواز اقترانها بأل التعريف، فلو صح أنها معرفة لامتنع اقترانها بأل هذه، كما يمتنع ذلك في كل مضاف معرف، منعاً لاجتماع تعريفين. 4- الرأي في بعض ما شاع استعماله من أسماء الفاعل: 1- الوافر لا الوفير: يقول الكتاب (مال وفير) فهل هذا صحيح؟ أقول الصواب أن تقول (مال وفر) بفتح فسكون أو (مال موفور) على زنة اسم المفعول أو (مال وافر) على زنة اسم الفاعل. أما (الوفر) بفتح فسكون فهو من وفر بضم الفاء يوفر وفارة فهو وفر بسكون الفاء، كضخم يضخم ضخامة فهو ضخم بسكون الخاء، وفخم يفخم فخامة فهو فخم بسكون الخاء، وهو سماع لا قياس فيه. وأما (الموفور) فهو من وفرت المال وفراً، بالتخفيف، فالمال موفور. وأما (الوافر) فهو وفر بفتح الفاء كوعد، تقول وفريفر بالكسر وفوراً ووفرة فهو وافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 أما (الوفير) على فعيل فلم يرد في اللغة، وإنما وردت الصفة على (وَفرْ) بفتح فسكون من (وفر) بالضم، كما جاءت الصفة على (صعب) بسكون العين من (صعب) بالضم، وعلى (سهل) بسكون الهاء من (سُهل) بضم الهاء. وهكذا جاء (فخم) بسكون الخاء من (فخم) بضمها. والغريب أن يعمد الشيخ مصطفى الغلاييني رحمه الله إلى إجازة (الوفير والفخيم) فيقول في كتابه (نظرات في اللغة والأدب) : "فعدم ذكر وفير وفخيم في كتب اللغة وعدم روايتهما في شعر أو نثر قديمين لا يدل على أن ذلك غير جائز ولا مقبول، فهما مقبولان في الذوق". أقول لا محل لتحكيم الذوق في سماع أو قياس، ولا وجه لإقرار (وفير وفخيم) ، وإلا فهل تقول صعيب وسهيل وفخيم وعذيب بدلاً من قولك صعب وسهل وفخم وعذب، بسكون العين والهاء والخاء والذال فيها؟ 2- الوارث لا الوريث: اعتاد الكتَّاب أن يقولوا (خالد هو الوريث الوحيد) ، يحسبون أن (الوريث) هو الصفة المشبهة من (ورث) بالكسر كعلم، والصواب هو (الوارث) وجمعه (ورثة) بفتحتين ككاتب وكتبة، و (وُرَّاث) بتشديد الراء ككاتب وكتَّاب. ففي مختار الصحاح: "ورث أباه وورث الشيء من أبيه يرثه بكسر الراء فيهما ورثاً وورثة ووراثة بكسر الواو في الثلاثة وإرثاً بكسر الهمزة". وفي المصباح: "والفاعل وارث والجمع وراث وورثة مثل كافر وكفار وكفرة". والقياس في صيغة (فاعل) أن تأتي باطراد من (فَعَل) بفتح العين لازماً كجلس يجلس فهو جالس، ومتعدياً كنصر ينصر فهو ناصر. كما تأتي من (فَعِلَ) بكسر العين إذا كان متعدياً، تقول ورث المال يرثه بالكسر فيهما فهو وارث والفعل متعد، كما تقول علمه فهو عالم وقبله فهو قابل وكرهه فهو كاره وحذره فهو حاذر وسمعه فهو سامع، والمضارع فيها مفتوح العين. وفي التنزيل: "وعلى الوارث مثل ذلك- البقرة/ 233". وفي الحديث: "اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارث مني، أي أبقهما صحيحين سالمين إلى أن أموت" كما جاء في النهاية لابن الأثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 والوارث قد يأتي صفة عامة فيدل على الحدوث ويعتمد على موصوف مذكور أو مقدر، لكنه يأتي، في الغالب، منفرداً بخصوص، فيستعمل منقطعاً عن موصوفه مستغنياً عنه، فيدل حينئذ على الثبوت. فأنت إذا قلت (خالد وارث أبيه) فقد عنيت أنه مستحق لهذه الوراثة. وأنت تقول رأيت وارث فلان أو ورثته، كما تقول رأيت زوجته وزوجاته، فلا يلزمك ذكر موصوفه لفظاً أو تقديراً. ولما جاء من الصفات على هذا الوجه حكم، في الجمع، غير حكم الصفات العامة الدالة على الحدوث. والقاعدة إذا جاء الوصف عاماً على زنة (فاعل) ودل على الحدوث، كما هو الأصل واعتمد على موصوف مذكور أو مقدر، كان لا مناص من جمعه جمع تصحيح، وهو القياس فيه. فإذا انفرد بخصوص فاشتهر استعماله منقطعاً عن موصوفه مستغنياً عنه، صح فيه التكسير، إلى جانب التصحيح. فقد جاء (الوارث) دالاً على الثبوت وجمع جمع تصحيح، كما في قوله تعالى: ?ونحن الوارثون-الحجر/ 23?. قال الأصبهاني صاحب المفردات: "وصف الله تعالى نفسه بأنه الوارث، من حيث أن الأشياء كلها صائرة إلى الله تعالى. قال الله تعالى: ?ولله ميراث السموات- آل عمران/ 180? وقال: ونحن الوارثون..". ولا ننسَ أن (الوارث) اسم من أسماء الله الحسنى. وكما يجمع (الوارث) جمع تصحيح كذلك يجمع جمع تكسير. ففي الحديث "العلماء ورثة الأنبياء". فأنت تقول هؤلاء ورثة الأنبياء كما تقول هؤلاء حملة الأقلام وقادة الفكر، وكلها صفات على الثبوت. وقد جاء في الأشباه والنظائر للإمام السيوطي (2/ 127) : "قال في البسيط: كل صفة كثر ذكر موصوفها معها ضعف تكسيرها لقوة شبهها بالفعل. وكل صفة كثر استعمالها من غير موصوفها قوي تكسيرها، لالتحاقها بالأسماء كعيد وشيخ وكهل وضعيف"، وجاء في الكليات لأبي البقاء الحسيني الكفوي مثل ذلك (ص220) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 ولنأت بمثال يكشف عما قصدنا إليه. فإذا نحن تدبرنا ما جاء من (كتب) على فاعل أي (كاتب) وجدنا أن الأصل فيه أن يفيد الحدوث فيجمع جمع الصفات فيقال (كاتبون) ، ويكون معناه القائم بالكتابة، والكتابة في الأصل هي الخط، فكاتب السطر هو الذي يخطه. فإذا أردنا بـ (كاتب) من ينشئ النثر ويزاوله صحَّ تكسيره وجمعه على (كتاب) ، ويكون (الكاتب) هنا الذي يزاول صناعة الكتابة أي إنشاء النثر. فتقول جلست إلى كاتب من أشهر الكتاب كقولك حاورت عالماً من أظهر العلماء. قال ابن منظور في معجم اللسان: "كتب الشيء يكتبه كتباً وكتاباً وكتابةً، وكتبه: خطَّه" بتشديد الطاء، هذا هو الأصل. ثم قال: "والكتابة لمن تكون له صناعة مثل الصياغة والخياطة. ورجل كاتب والجمع كتَّاب وكتبة، وحرفته الكتابة. ابن الأعرابي: الكاتب عندهم العالم". وجاء في كشف الطرَّة (ص 107) : "وفي الدر المصون الصفة لا تقوم مقام الموصوف إلا إذا كانت خاصة نحو: مررت بكاتب، أو دل دليل على تعيين موصوف". فأنت إذا استعملت (الصفة) استعمال الاسم فتحولت بها عن الحدوث قامت مقام الموصوف فكان لها في الجمع شأن الأسماء. قال المرزوقي في شرح ديوان الحماسة (1/ 426) : لأن الصفة لا تقوم مقام الموصوف حتى تدل عليه دلالة قوية. فأما إذا كانت عامة في أجناس، فلا يجوز ذلك فيه. فإذا قلت مررت بطويل وأنت تريد رجلاً، لم يحسن، لأن الطويل يكون في غير الرجال، كما يكون في الرجال. ولو قلت مررت بكاتب يحسن إذ كانت الكتابة مختصة". والمهم في (الكاتب) الذي مررت به أن يختص فيكون صاحب صناعة (الكتابة) سواء أكانت هذه الكتابة إنشاء للنثر أم الخط. وهكذا الحكم في الوارث حين استعملوه استعمال الأسماء فقام مقام الموصوف، فأنت تقول جاء ورثة فلان كما تقول حاورت كتبة المجلة، فتستغني بالصفة عن الموصوف. 3- مشهد شائق لا شيِّق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 إذا شاقك مشهد أي هاجك فاستهواك حسنه فالمشهد شائق وأنت المشوق، بصيغة اسم المفعول، أو الشيق، بتشديد الياء المكسورة، أو المشتاق. ففي القاموس المحيط "والشيِّق: المشتاق". وفي المصباح: "واشتقت إليه فأنا مشتاق وشيق" بتشديد الياء المكسورة. ولكن كيف آل معنى (الشيق) بتشديد الياء المكسورة إلى معنى (المشوق) أي المشتاق. أقول (الشيق) بتشديد الياء المكسورة، أصله قبل الإعلال (شيوق) بفتح الشين وكسر الواو، بينهما ياء ساكنة، على (فيعل) بفتح الفاء وكسر العين، بينهما ياء ساكنة. كما كان أصل (الجيد) بالياء المشددة هو (جيود) بفتح الجيم وكسر الواو، بينهما واو ساكنة. وأظهر آراء الأئمة أن صيغة (فيعل) هذه بفتح الفاء وكسر العين، مقلوبة من (فَعيل) بفتح فكسر.. وقد اشتهر مجيء (فعيل) هذا بمعنى مفعول إذا صيغ من فعل متعد، وشاقه فعل متعد، فليس غريباً على هذا أن يكون (الشيق) بتشديد الياء المكسورة بمعنى المشوق، وهو اسم المفعول من (شاقه) . وانظر إلى قول المتنبي: إلاَّ انثنيت ولي فؤاد شيّق ما لاح برق أو ترنَّم طائر قال البرقوقي شارح الديوان: "انثنيت: رجعت. ولي فؤاد جملة حالية، والشيق: المشتاق" وأردف: "ومعلوم أن لمعان البرق يهيج العاشق ويحرك شوقه إلى أحبَّتهِ لأنه يتذكر به ارتحالهم للنجعة وفراقهم ... وكذلك ترنّم الطائر" فتأمل. 4- هذا عمل شائن لا مُشين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 أقول إذا شانك عمل منكر، أي عابك، فالعمل شائن لك. والكتَّاب يقولون (عمل مشين) بضم الميم، وصوابه (عمل شائن) . نقول هذه أعمال شائنة مخزية، كما تقول هذا العمل يشين صاحبه ويضع من قدره ويقدح في سمعته، والياء في أول هذه الأفعال مفتوحة لأنها ثلاثية، واسم الفاعل منها شائن لصاحبه واضع من قدره قادح في سمعته. وقد جاء في أساس البلاغة للزمخشري: "هو فعل شائن، وهذه شائنة من الشوائن. وجهك شَين ووجهي زين" بفتح الشين والزاي فيهما. كما جاء في المصباح المنير: "شانه شيناً من باب باع، والشين خلاف الزين" بفتح الأول فيهما. وأردف: "وفي حديث: ما شانه الله بشيب. والمفعول مشين.." بفتح الميم كمبيع ومدين من باعه ودانه. ونحو من ذلك قول الكتَّاب (هذا عمل مُحط بالشرف) ، وصوابه: (حاط لشرفه، أو حاط في شأنه أو حاط من مكانته) ، لأنه من (حطّ) الثلاثي. 5- لافت للنظر لا مُلفت: إذا استوقفك مشهد فلفت نظرك إليه وجعلك تتأمله، فالمشهد لافت للنظر، لا (مُلفت) بضم الميم كما يقوله الكتَّاب. وهم يعلمون حق العلم أنه من (لفت) الثلاثي المجرد، لا من (ألفت) المزيد. فاسم الفاعل منه (لافت) لا (مُلفت) . وأنت كما تقول (لفتُّه إليه) إذا صرفته إليه، فأنت تقول (لفتُّهُ عنه) إذا صرفته عنه أيضاً. ففي مختار الصحاح "لفت وجهه عني صرفه، ولفته عن رأيه صرفه". وفي التنزيل: "قالوا أجئتنا لتلفتنا عمَّا وجدنا عليه آباءنا- يونس/ 78"، أي لتصرفنا. وتقول إلى ذلك (لفتُّه عليه) إذا عطفته. ففي أساس البلاغة: "لفتّ ردائي على عنقي عطفته". 6- هو عادم النفع وعديمه ومعدومه: ذهب الباحثون المحدثون أن (العديم) هو الفقير وحسب، ومنهم الأستاذ جار الله في كتابه (الكتابة الصحيحة) ، وخلصوا إلى أن الصواب أن تقول: إنه عادم الذوق لا عديمه. فما الرأي في المسألة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 أقول إذا عوَّلنا على ظاهر ما جاء في المعاجم خلصنا إلى ما خلص إليه الأستاذ جار الله. قال الجوهري في الصحاح: "عدمت الشيء بالكسر أعدمه بالفتح عدماً بالتحريك، على غير قياس، أي فقدته، والعدم بفتح العين والدال: الفقر. وكذلك العُدم إذا ضممت أوله وسكَّنت ثانيه. وأعدمه الله. وأعدم الرجل: افتقر فهو معدم، بضم الميم وكسر الدال وعديم". ونحو ذلك في سائر المعاجم. وقد تبين لي بمراجعة (عدم) في المعاجم وكتب اللغة وتدبّر ما جاء فيها ما يلي: آ-تقول من الثلاثي المجرَّد: عدمته بالكسر أعدمه بالفتح عُدما بضم العين وسكون الدال، بمعنى فقدته. فالفعل متعدٍّ إلى واحد. واسم الفاعل المقيس منه (عادم) بمعنى فاقد، واسم المفعول المقيس (معدوم) بمعنى مفقود، وتقول في الخبر: لا أعدم كذا بمعنى أنك واجده، وفي الإنشاء: لا عدمت ودَّك وبرَّك، أي لا أفقدني الله إياهما. وفي المعنى الأول يقول الشافعي: وإذا مت لست أعدم قبراً أنا إن عشت لست أعدم قوتاً ب-وتقول من المزيد (أعدم الرجل) بمعنى افتقر فهو (مُعدم) بضم أوله وكسر ما قبل آخره، بمعنى فقير، فيكون الفعل لازماً، ومثل (مُعدم) اسم الفاعل من (أعدم) اللازم مُعوز ومفلس ومُملق ومُدقع، بضم أولها وكسر ما قبل آخرها. جاء ذلك في معظم المعاجم، كما جاء في التلخيص لأبي هلال العسكري، وفي النوادر لأبي مِسحل الأعرابي، قال المتنبي يمدح عمر بن سليمان الشرابي: وأحسنُ من يُسر تلقَّاه معدِمُ ألذُّ من الصهباء بالماء ذكرهُ يقول إن ذكر ممدوحه أفعل في النفس من وقع اليسر أي الغِنى في نفس الفقير المعدِم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 جـ-وتقول من المزيد أيضاً (أعدمته) كعدمته بمعنى فقدته، فتعديه إلى مفعول واحد، كما جاء في الأفعال لابن القوطية. والإشكال في اسم المفعول منه، فالقياس أن يكون (المعدم) بضم أوله وفتح ما قبل آخره، ولم تذكره المعاجم المعتمدة، وذكره معجم المتن للشيخ أحمد رضا وجعله بمعنى الفقير. وأنكر الأستاذ محمد العدناني في معجمه (الأغلاط اللغوية المعاصرة) ما جاء به صاحب المتن محتجاً بالمعاجم المعتمدة التي سكتت عن ذكر ذلك ونصَّت على (المعدم) بضم الأول وكسر ما قبل الآخر بمعنى الفقير من (أعدم) اللازم بمعنى افتقر، كما ذكرناه. والذي أراه أنك تقول: (المعدم) بفتح الدال بمعنى الفقير، كما تقول: (المعدم) بكسر الدال. ذلك أن سكوت المعاجم عن القياس لا يعني إغفال العمل به. ولا شك أن صاحب المتن حين أثبت في معجمه (المتن) : المعدم بضم أوله وفتح ما قبل آخره بمعنى الفقير، أثبته وهو يعلم حق العلم أن المعاجم المعتمدة قد أغفلته، فذكر هو القياس لئلا يغيب عن ذهن القارئ جواز العمل به، ما دامت المعاجم قد خلت من النص على إنكاره. وقد تصفحت كثيراً من أقوال الفصحاء أبحث عن (المعدم) بفتح الدال، فظفرت بشاهد في شعر الإمام الشافعي، إذ قال: ليخفاهم حالي وأني لمُعدَم وأظهِرُ أسباب الغنى بين رفقتي فقد أتى في البيت (معدم) بفتح الدال، في سائر النسخ المطبوعة، ويؤكد صحة ذلك أن قافية البيت السابق (يتألَّم) والتالي (أعلَم) ! وهكذا صح قولك (المعدم) بكسر الدال و (المعدم) بفتحها، الأول من (أعدم فلان) اللازم، والثاني من (أعدم فلان) بالبناء للمجهول، من (أعدمه المال) إذا أفقده إياه فجعله (معدماً) بفتح الدال. د-وتقول من المزيد أيضاً: أعدمه الشيء أفقده إياه. وتقول من ذلك: (لا أعدمني الله فضلك) كما في المصباح، فيتعدى إلى مفعولين ومن ذلك قول أبي تمام: شكري فَرُحنا مُعدَمَين جميعاً لمَّا عُدمت نوالَه أعدمته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 فجاء (عدمت) مبنياً للمجهول، و (معدمين) مبنياً للمفعول. ومن ثم تقول: أعدم فلان ماله، بالبناء للمجهول، فأصبح معدماً بفتح الدال، تحذف فيه المفعول. وهكذا تقول أعدم فلان بالبناء للفاعل، مفتوح الأول، وأعدم فلان بالبناء للمجهول مضموم الأول بمعنى: ذهب ماله. ونحو ذلك (ألفج) ، فقد جاء في الأفعال لابن القوطيَّة: "ألفج الرجل، بالبناء للمجهول، وألفج أيضاً بالبناء للفاعل: ذهب ماله-ص 168". وهكذا (أدنف) . قال ابن القوطية: "وأدنف بضم الهمز مبنياً للمجهول، وأدنف بفتحها مبنياً للفاعل أيضاً: أضناه المرض أو الهوى". وفي مختصر تهذيب الألفاظ لابن السكيت: "ومدنِف ومدنَف/ 69" بكسر النون وفتحها مع ضم الميم فيهما. هـ-وجاء من المزيد أيضاً قول المصباح: "أعدمته فعُدم وأفقدته ففُقد" ببناء عُدم وفقد للمجهول. ومعنى ذلك أنك تقول: أعدمت الرجل فعدم الرجل بالبناء للمفعول، فيكون الفاعل من (أعدم) المزيد، والمفعول من (عدم) المجرد. قال صاحب المصباح: "ببناء الرباعي للفاعل والثلاثي للمفعول". تقول أعدمته فعُدم بالبناء للمجهول فهو معدوم بمعنى فقير، فيكون (أعدمه) كأفقره فافتقر. وقد جاء كأعدمه فهو معدوم: أزكمه فهو مزكوم وأحبه فهو محبوب وأحمَّه فهو محموم، وتقول من ذلك زُكم فلان وحُبَّ وحُمَّ بالبناء للمجهول، كما تقول عدم بالبناء للمجهول، وهكذا تقول أفقده ففقد بالبناء للمجهول أيضاً فهو مفقود. وجاء على (فعيل) بمعنى (مفعول) : (عديم) ، فهو كالمعدوم بمعنى الفقير، كما في المعاجم، وقد قصره الباحثون الآخذون بظاهر النص على هذا المعنى. والسؤال أليس للمعدوم والعديم معنى آخير غير الفقير؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 أقول إذا تدبرنا المادة ألفينا أنها تستعمل في المعنيين: العام وهو الفقد والخاص وهو الفقر؛ تدرجاً من أولهما إلى ثانيهما. فقد جاء (المعدوم) بمعنى المفقود من (عدمته) المجرد، تقول عدمت الشيء فهو معدوم كما تقول فقدته فهو مفقود. ويأتي (عديم) كذلك بهذا المعنى، خلافاً لما انتهى إليه المحدثون حين قصروا معنى (العديم) على الفقير. وشاهد استعمال (المعدوم) بمعنى المفقود قول أبي حيان التوحيدي في كتابه (البصائر والذخائر) : "وإنك ترى زمانك معدوم الفضل قليل الناصر". وشاهد استعمال (العديم) بهذا المعنى قول الراغب الأصفهاني في مفرداته (في غرب) : "وقيل لكل متباعد غريب، ولكل شيء فيما بين جنسه عديم النظير، غريب"، فجاء (عديم) بمعنى مفقود. وهكذا (عادم) من عدمه إذا فقده. فعادم الشيء فاقده، وعليه قول أبي حيان التوحيدي في البصائر والذخائر: "قال فيلسوف: عادم بصر البدن يكون قليل الحياء، وكذلك عادم عين العقل يكون كثير القِحَة". والقحة بكسر الفاء وفتح الحاء: الوقاحة. فأنت تقول إذاً: عادم النفع كما تقول فاقد الوعي، وعديم النفع. كما تقول معدوم الفضل، كل ذلك صحيح. ووجاء من المزيد قولهم (أعدمني الشيء: لم أجده) كأعوزني، كما في القاموس المحيط. وفي أساس البلاغة: "وأعوزني هذا الأمر وأعجزني إذا اشتد عليك وعَسُر، وهذا شيء مُعوز، بضم أوله وكسر ما قبل آخره، عزيز لا يوجد". ز-ولكن ما القول في (انعدم) ، ولم تأت به المعاجم المعتمدة كالأفعال لابن القوطية والصحاح والمختار واللسان والمصباح، والمعاجم الحديثة كأقرب الموارد والمنجد والمتن والوسيط، بل أنكرته ولحَّنت قائله كتب اللغة والمعاجم على السواء، كالمفصَّل للزمخشري والقاموس والتاج ... واعتلَّ الزمخشري بأن (انفعل) إنما يأتي من فعل ذي علاج وتأثير، وذكر ذلك الأستاذ محمد العدناني في معجمه (الأغلاط اللغوية المعاصرة) ، فأنكر (انعدم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 وبحث هذا من المحدثين الشيخ ظاهر خير الله، رحمه الله، في كتابه (المنهاج السوي في التخريج اللغوي) ، فأنكر قولهم (انعدم) وقال: "وانعدم لحن.. وغاية ما هنالك أنهم قالوا أن انفعل لمطاوعة فَعَل ذي العلاج أي التأثير المحسوس كقسمته فانقسم ص 18". واشترطوا في (انفعل) كذلك أن يأتي مطاوعاً لفعل دون أفعل، فمنعوا قول القائل (انضاف) لأنه من (أضاف) لا من (ضاف) . ذكر ذلك أبو محمد القاسم الحريري في كتابه (درة الغواص في أوهام الخواص) . وعندي أن نُجيز من (انفعل) ما جاء استعماله فجرى في كلام الفصحاء، لا لأن الخطأ لا يجري عليهم، بل لأنهم كانوا من أئمة اللغة فمارسوا الكتابة فيها، خلافاً لكثير من كتَّابنا المحدثين، ومن ثم أحاطوا بما انتهى إليه علماء النحو والصرف من قواعد وأصول. فإذا استجازوا ما كان ظاهر كلام العلماء على خلافه فقد التمسوا لذلك وجهاً أو حكوه عن العرب. فقد جاء (انعدم) مثلاً في كلام ابن جني، إذ قال (في الخصائص) : "فلما انعدم من آن المصدر الذي هو أصل الفعل عُلم أنه مقلوب في أنى يأنى اِنىً –1/680". جاء ذلك في نسخة الكتاب المطبوعة بمصر عام (1331هـ، و 1913م) ، أما في نسخته المطبوعة بتدقيق الأستاذ محمد علي النجار فقد جاء "فلما عُدم من آن المصدر ... -2/70" فأبدل من (انعدم) عُدم أخذاً بأقوال الأئمة النحاة. وقد بحث هذا مجمع اللغة العربية بالقاهرة في مؤتمره خلال دورته السابعة والثلاثين عام (1971م) فأقر جواز استعمال (انعدم) ولو لم يكن ثمة نص صريح على جوازه، ذلك لجريانه في الاستعمال منذ قرون، والحاجة إليه في التعبير في غير مجال من المجالات العصرية، واقترن ذلك باعتراض بعض الأعضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 وأما (انضاف) فقد أساغ استعماله الإمام المحقق ابن برّي وذكر كثيراً من أشباهه مما جاء مطاوعاً لأفعل دون فعل. حكى ذلك الإمام أحمد شهاب الدين الخفاجي في (شرح درة الغواص) . كما أساغ ذلك ابن عصفور الأندلسي، إذ حكي عنه أنه صحح قياسية (انفعل) من أفعل الرباعي، وقد بسط القول في ذلك شهاب الدين محمود الألوسي في كتابه (كشف الطرَّة عن الغرَّة) . وجاء (انضاف) في كلام الإمام عبد الرحمن بن عيسى الهمذاني. إذ قال في مقدمة كتابه (الألفاظ الكتابية) : "فإذا كانت الألفاظ مشاكلة للمعاني في حُسنها، والمعاني موافقة للألفاظ في جمالها، وانضاف إلى ذلك قوة من الصواب وصفاء من الطبع ومادة من الأدب ... كان الكمال وبالله التوفيق". فأورد في كلامه (انضاف) . والهمذاني من أئمة القرن الرابع الهجري. وهكذا جاء في كلام أبي الحسن الجرجاني صاحب الوساطة (بين المتنبي وخصومه) إذ قال: فإذا اجتمعت تلك العادة والطبيعة وانضاف إليهما التعمل والصنعة خرج كما تراه –أي الشعر- فخماً جزلاً قوياً متيناً-ص21" والجرجاني هذا من أئمة القرن الرابع الهجري أيضاً. 7- الأعزب والعزباء، والعَزَب والعَزَبة، والعازب والعازبة: أنكر بعض النقاد قولهم (رجل أعزب) إذا لم يكن له زوجة و (امرأة عزباء) إذا لم يكن لها زوج، وجعلوا الصواب (رجل عزب وامرأة عزبة) بفتح العين والزاي. وإذا عدنا إلى المعاجم ألفينا من الأئمة من ينكر (أعزب) صراحة كما فعل أبو حاتم السجستاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 قال الأزهري في معجمه (التهذيب) : "قال أبو حاتم ولا يقال رجل أعزب". وهكذا فعل ابن الأثير الشيباني صاحب النهاية، إذ قال: "رجل عَزَب ... ولا يقال فيه أعزب". وقد اقتصر بعضهم على (عزب) وأغفل (أعزب) ، كما فعل صاحب الصحاح وصاحب المختار والأصفهاني صاحب المفردات فهل عنوا بذلك إنكار (أعزب) ، هذا ما اختاره صاحب التاج. على أن أكثر الأئمة قد أجازوا (أعزب) لكنهم آثروا عليه (عَزَباً) . قال الأزهري في معجمه (التهذيب) : "قال أبو حاتم: ولا يقال رجل أعزب، وأجاز غيره رجل أعزب". وقال صاحب القاموس: ولا تقل أعزب أو هو قليل". وقال صاحب اللسان: "ولا يقال أعزب وأجازه بعضهم". وبسط القول في ذلك ابن الحنبلي الحلبي فقال: "رجل أعزب، وعن أبي حاتم لا يقال رجل أعزب. وقال الأزهري وأجازه غيره"، وأردف: "ومنه قوله: ما في الجنة أعزب. قال النووي: في جميع نسخ بلادنا بالألف، وهي لغة والمشهور في اللغة: عَزَب"، ثم قال: "وقال صاحب المغرب، وهو المطرَّزي المغربي، رجل عَزَب بالتحريك: لا زوج له، ويقال: أعزب. وقد جاء في حديث النوم في المسجد عن نافع، قال: أخبرني عبد الله أنه كان ينام في مسجد النبي (?) وهو شاب أعزب". وقال صاحب التاج: "ولكن أبا حاتم أجاز أعزب فاستدل بحديث: ما في الجنة أعزب". وعلى ذلك تقول: (رجل أعزب وامرأة عزباء) . قال صاحب المصباح: "وقياس قول الأزهري أن يقال امرأة عزباء مثل أحمر وحمراء". *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 وتقول رجل عزب وامرأة عزب وعزبة، بفتح العين والزاي. ففي تهذيب الألفاظ لابن اسحاق السكيت: "ورجل عزب وامرأة عزب. قال الفرَّاء: ويقال عزبة، إذا لم يكن لها زوج. قال وأنشد الجرمي: يا من يدل عزباً على عزب". فثبت بذلك أنك تقول رجل عزب وامرأة عزب وعزبة. ويؤيد ذلك ما حكاه السيوطي في كتابه (الأشباه والنظائر-4/227) . فقد حكى عن الإمام ثعلب أنه روى (امرأة عزب) كما حكى عن ابن خالويه أنه قال: "ويقال امرأة عزب وعزبة غير أن ثعلباً اختار الفصحى". والعزب كما قال ابن خالويه اسم وصفة بمنزلة (العازب) ، وهو يجمع لذلك على (عُزَّاب) ، تقول: قوم عزاب بضم العين وتشديد الزاي، كما يجمع (عازب) . وقال صاحب المصباح: "وعزب الرجل من باب قتل فهو بفتحتين وامرأة عزب ... وجمع الرجل عزاب، باعتبار بنائه الأصلي، وهو عازب، مثل كافر وكفار". *** أما (العازب) فهو اسم الفاعل المقيس من (عزب) . قال ابن القوطية في كتابه (الأفعال) : "وعزب الرجل عزبة وعزوبة بضم العين فيهما، لم يكن له أهل". فاسم الفاعل المقيس منه (عازب) . وليس في كتب اللغة ما ينفي ذلك بل فيها ما يؤكده، وقد عللوا جمع (عزب) بفتحتين على (عزاب) بضم أوله وتشديد ثانيه، بأنّ الأصل فيه (عازب) . قال ابن خالويه: "والعزب اسم وصفة بمنزلة العازب". وقال صاحب اللسان: ".. فهو عازب والجمع عُزَّاب". ولا ننسَ أن (الفعَّال) بضم أوله وتشديد ثانيه، وهو الجمع المطَّرد لفاعل، ككاتب وكتَّاب وعامل وعمال وجاهل وجهال وعالم وعلام وحارس وحراس وكاهن وكهان وحاكم وحكام.. ففي كتاب الهمع للسيوطي: "فُعّال بضم الفاء وتشديد العين يطّرد جمعاً لوصف على فاعل كصائم وصوام". وشرطه أن يكون صحيح اللام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 وإذا قلت (رجل عازب) فالقياس أن تقول (امرأة عازبة) . والأصل في جمع (العازبة) أن يكون (العوازب) ، ولكن جاء قولهم (ونساء عزاب) ، فساووا في الجمع بين عازب وعازبة. وقل جمع (فاعلة) على (فعال) بضم الفاء وتشديد العين كصادة وصداد بضم أوله وتشديد ثانيه، كما في (الهمع) ، وهو من صدَّه عن الأمر إذا صرفه ومنعه، وكذلك صاد وصداد. على أن ثمة (عازبة) بمعنى آخر. ذلك أن (عزب) فعل لازم أصل معناه بَعُد، كما جاء في (المقاييس) لابن فارس. وقد جاء في شرح الحماسة للمرزوقي "ويقال مال عازب وعزب إذا بَعُد عن أهله، وروض عازب: بعيد الطلب". كما جاء في أساس البلاغة: "ولا يكون الكلأ العازب إلا بفلاة حيث لا زرع" وفيه: (رمل عزب: منفرد) . فأصل معنى (المادة) هو البعد والانفراد، وأسسوا على ذلك قولهم (رجل عازب) إذا بُعد من الأهل فانفرد وبقي بلا زواج. على أن في اللغة (عزبه) ... وهو فعل متعد معناه في الأصل (أزال عزوبته) . ويكثر سلب معنى الفعل بزيادة الهمزة في أوله كقوله (أشكيته) إذا أزلت شكواه. ولكن جاء السلب في (عزب) بتعديته، ففي اللسان: (وعزبته تعزبه، أي المرأة ... قامت بأموره) . وإذا قامت بأموره فقد أذهبت عزوبته، وكذلك (عزبته) بتشديد الزاي. قال صاحب اللسان: "ليس لفلان امرأة تعزبه –بالتشديد- أي تذهب عزوبته بالنكاح". فثبت بهذا أن (العازبة) كذلك امرأة الرجل لأنها تذهب عزوبته، وكذلك (المعزبة) بضم الميم وتشديد الزاي، فتأمل. 8- أرض وطيئة لا واطئة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 يعمد بعض الكتَّاب إلى وصف الأرض المنخفضة بـ (الواطئة) ، وهو خطأ شائع. فالواطئ اسم فاعل من (وطئه) إذا داسه. ففي المصباح: "وطئته برجلي أطؤه وطأً: علوته". ومن ثم سمي (المار) في الطريق واطئاً لأنه يطأ الطريق. ويجمع (الواطئ) بمعنى (المار) على (الواطئة) ، كما يجمع المار على المارّة، ففي التاج: وطئه بالكسر يطؤه وطأً، داسه برجله.. والواطئة المارّة والسابلة، وسموا بذلك لوطئهم الطريق" والموطوء الشيء الذي تطؤه أي تدوسه. أما صواب قولك (الأرض الواطئة) فهو (الأرض الواطيئة) . فالوطيء من وطؤ كالكريم من كرم والقريب من قرب. وأما معنى (الوطيء) في الأصل فهو: السهل اللين. ففي التاج: "وطؤ الموضع يوطُؤ، بضم الطاء، وطأً ووطاءة: أي صار وطيئاً سهلاً.. والوطيء من كل شيء ما سهل ولان. وفراش وطيء لا يؤذي جنب النائم". ولكن هل يعني (وطؤ) معنى انخفض، كما هو الشائع؟ قال أبو الفضل جمال الدين الأنصاري اللغوي صاحب لطائف الذخيرة: "هذه أرض مستوية لا رباء فيها ولا وطاء، أي لا صعود فيها ولا انخفاض". فالوطاء هو الانخفاض، ويلزم من هذا أن يكون (وطؤ) بمعنى انخفض، والوطيء بمعنى المنخفض، لأن الوطاء كالوطاءة مصدر (وطؤ) ، كما جاء في الأفعال لابن القوطية. فقولك أرض وطاء وصف بالمصدر. وجاء في كلام الأنصاري: "والوطاء ما انخفض من الأرض" وجاء نحو ذلك في التاج. ولذا قل الأرض الوطيئة بمعنى السهلة أو المنخفضة، لا الواطئة. 9- دفيء لا دافئ: أقول: أما الفعل فهو (دفؤ) بالضم دفاءة كظرف ظرافة و (دفئ) بالكسر دفأ بفتح الدال والفاء في المصدر كطرب طرباً، ودفاءة كسلم سلامة، كما في الصحاح ومختاره. وأما الصفة من (دفؤ) بالضم فهو (دفيء) على فعيل. ومن (دفئ) بالكسر فهو على (دفئ) على فعل بفتح فكسر، ودفآن بالمد وامرأة دفأى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 وأما الموصوف فقد خص الصحاح الفعل المضموم العين وهو (دفؤ) بالشيء فقال دفوء اليوم والبيت والثوب والليلة فهو دفيء وهي دفيئة على فعيل وفعيلة. كما خص الفعل المكسور العين وهو (دفئ) بالرجل فقال دفئ الرجل فهو دفئ كتعب فهو تعب بفتح فكسر، ودفآن كظمآن، وامرأة دفأى كظمأى. وأخذ الفيومي في المصباح بحكاية الزمخشري فجعل (دفئ) بالكسر كتعب للرجل والمكان، وجعل (دفؤ) لما سوى ذلك من يوم وليلة. فقد قال الزمخشري في كلامه على (الرجل) : "دفئ من البرد بالكسر دفأ ودفاءة وتدفّأ وادَّفأ واستدفأ" وأردف: "ورجل دفآن وامرأة دفأى" فشايع الصحاح. وقال في كلامه على (اليوم والليلة) : "ودفؤ يومنا بالضم ودفؤت ليلتنا" فتكون الصفة منه دفيء ودفيئة على فعيل وفعيلة، كما في الصحاح أيضاً. أما (المكان) فقد خصه بـ (دفئ) بالكسر فقال: (مكان دفئ) على فعل كتعب فهو تعب، فخالف الصحاح. وأما اللسان فقد انتحى نهجاً آخر، إذ أجاز (دفئ الرجل يدفأ) و (دفؤ الرجل يدفؤ) ومثلهما (تدفأ وادَّفأ واستدفأ) فكان للرجل من الصفات (دفئ) بفتح فكسر و (دفآن) كظمآن و (دفيء) على فعيل، فقال: "ورجل دفئ، بفتح فكسر، ودفآن" وأردف "والدفيء كالدفآن". وجعل (دفوء) بالضم للمكان والزمان، فكانت الصفة (دفيء ودفيئة) على فعيل وفعيلة. ويستنبط من كل ذلك: آ-تقول في وصف الرجل (دفئ) بفتح فكسر كتعب و (دفآن) كظمآن كما في الصحاح واللسان. وتضيف إلى ذلك (الدفيء) على فعيل كما في اللسان. كما تقول في وصف اليوم والبيت والثوب والليلة (دفيء ودفيئة) على فعيل وفعيلة، كما في الصحاح. ولك أن تضيف إلى وصف المكان (الدفئ) بفتح فكسر، كما في أساس الزمخشري والمصباح، وقد خصوهما به. ب-ليس لك أن تقول (الدافئ) كما يقول الكتَّاب، لأن ما جاء على فاعل قياساً لا يكون من (فعِلَ) بفتح فكسر ما لم يكن متعدياً، ولا يكون من (فَعُل) بالضم أيضاً. ولم يرد بالدافئ سماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 جـ- جاء من مصادر المادة الدفأ والدفاء والدفا والدفاءة بفتحتين، وكذلك (الدفء) بفتح فسكون، ففي اللسان عن الأصمعي: "ثوب ذو دفء، بفتح فسكون، ودفاءة" أما الاسم فهو (الدفء) بكسر فسكون، ففي المصباح: "والدفء وزان حمل خلاف البرد". وهكذا تقول أحسست بالدفء بفتح فسكون، إذا أردت المصدر، أي الدفاءة، كما تقول أحسست بالدفء بكسر فسكون، إذا أردت الاسم، أي أحسست بما يدفئك. د-تقول في تعدية الفعل (أدفأته) بزيادة الهمزة و (دفأته) بتشديد عين الفعل، كما في الأساس، وقد جاء فيه: "ومن المجاز ... وأدفأت فلاناً ودفّأته: أجزلت عطاءه وأعطيته دِفأً كثيراً ... ". 10- عاطل ومتعطل من العمل: أخذ الأستاذ عباس أبو السعود في مجلة الأزهر (في عدد تشرين الثاني من عام 1974) ، أخذ على الكتَّاب قولهم (عاطل) للرجل إذا خلا من العمل فقال: "العاطل صفة للمرأة التي خلا جيدها من الحلي" وجعل الصواب أن يقال (متعطل) بصيغة اسم الفاعل من تعطل، و (معطل) بصيغة اسم المفعول من عطل المبني للمجهول. فما الرأي في المسألة؟ أقول إذا عدنا إلى المعاجم ألفينا (عطلت المرأة) بكسر الطاء من باب طرب، و (تعطلت) إذا خلا جيدها من القلائد فهي (عاطل) . و (العطل) بفتح العين والطاء هو الخلو من القلادة على أنه جاء في الصحاح ومختاره أنّ " العطل بفتحتين ليس مقصوراً على الخلو من القلادة أو الحلي، بل يتناول الخلو من سواهما أيضاً. ففي الصحاح ومختاره: "عطل الرجل من المال والأدب". أما (تعطل) فقد قصر معناه على الخلو من العمل إذ جاء في المعجمين: "وتعطل الرجل إذا بقي بلا عمل". وهكذا فقد استغني عن الصلة أي (الجار والمجرور) في تعطل وذكرت الصلة في عطل. وعندي ألاَّ فرق بينهما ذلك أنه يمكن الاستغناء في (عطل) عن الجار والمجرور أيضاً فتقول (عطل الرجل فهو عاطل) أي خلا من العمل، إذا دلت على ذلك القرينة فتقول (هؤلاء عاطلون) كما تقول (هؤلاء متعطلون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 وثمة (عطل) كقتل، وأصل استعماله للمرأة أيضاً. ففي المصباح "عطلت المرأة عطلاً من باب قتل إذا لم يكن عليها حلي فهي عاطل" وأردف: "وعَطَل الأجير مثل بطلَ يبطُل بالضم وزناً ومعنى" أي أن قولك (عطل الأجير) كقتل يعني أنه بَطَل أي لم يعمل. ففي الأفعال لابن القوطية: "وبطل الأجير بطالة بكسر الباء في المصدر لم يعمل". فثبت بهذا صحة قولك (عطل الأجير) فهو عاطل، إذا لم يعمل. والأجير هو العامل، ذلك أن الأجير هو من عاقدته على أن يعمل لك بأجر معلوم، وتقول في هذا المعنى (آجرت الأجير) فالأجير مؤاجر بفتح الجيم، على ما جاء في الأساس للزمخشري، أو هو من عاقدك على ذلك فهو مؤاجر بكسر الجيم، على ما جاء في المصباح. أوَ ليس الأجير إذاً هو العامل؟ فإذا صح هذا جاز لك أن تقول (عطل العامل فهو عاطل) كما تقول (عطل الأجير فهو عاطل) . وقد يقولون في (الإجارة) هذه استأجرت جماعة ليعملوا كذا، كما جاء في الحديث: "قال مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل، على أجر معلوم.." جاء ذلك في كتاب (التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح للإمام أبي العباس الشهير بالحسين بن المبارك – ص 137-ج1) فالأجير إذاً هو العامل، وقد ثبت بذلك صحة قولك (العاطل والمتعطل) للعامل، كما تقوله للأجير، خلافاً لما ذهب إليه الناقد. *** وبحث ما نحن بصدده الأستاذ محمد العدناني، في معجمه (الأخطاء الشائعة) فأنكر قول القائل (فلان عاطل عن العمل) وقصر الصواب على قوله (فلان عاطل من العمل) بحرف الجر من دون عن، واستشهد ببعض الشعر ومن ذلك قول أبي تمام: فالسيل حرب للمكان العالي لا تنكري عطل الكريم من الغنى فما الرأي فيما ذهب إليه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 أقول إن النص على استعمال (عطل) بحرف من حروف الجر لا يمنع من استعماله بحرف آخر إذا اتسع له معناه. وقد عرضنا لذلك في كتابنا (مسالك القول في النقد اللغوي) فقلنا: "ليس شيء أولى بالتدبر وأحق بطول الدربة والدراية من استعمال حروف الجر. إذ لا يكفيك للتثبت في صحة اختيار الحرف لتصريف الفعل في معنى من معانيه أن تعود إلى المعاجم وحدها، بل لا يجزيك حيناً أن تقف، في كتب النحو، على ما يطرد فيه استعمال كل حرف ... أو تضرب بسهم من تصفح كتب الأدب نثره وشعره، ذلك أنه لا بد لإحكام استعمال هذه الحروف من أن تعلق من كل ذلك بسبب وتحظى بطائل ... فيتحصل بمطالعتك هذه ومدارستك ما يبصرك بتصريف هذه الحروف وإجرائها في مجاريها.. ص 91". وعندي أن قولك (عطل عن العمل) و (عاطل عن العمل) صحيح لا غبار عليه. فانظر إلى قول الراغب صاحب المفردات: "العطل فقدان الزينة والشغل" وقد دلَّ بقوله هذا على أن (العطل) لا يقتصر على الخلو من (الزينة) ، ولو كان هذا هو الأصل في استعماله كما ذكرنا من قبل. وأردف فقال: "وعطلته من الحلي ومن العمل فتعطل" فدل بذلك على صحة ما انتهينا إليه من صحة قول القائل (عطل من العمل فهو عاطل ومتعطل) لثبوت (عطل) اللازم و (عطّلته) المتعدي فتعطل، خلافاً لما ذهب إليه الأستاذ عباس أبو السعود. ثم قال: "وعطل الدار عن ساكنها والإبل عن راعيها" بتشديد الطاء، فاستعمل (عن) للتعبير عن تعطيل الدار عن ساكنها أي إخلائها، خلافاً للأصل، كما استعمل (عن) في تعطيل الإبل عن راعيها أي قطعها عنه بإخلاء زرعها منه. قال صاحب المصباح: "وعطلت الإبل خلت من راع يرعاها، ويتعدى بالتضعيف فيقال: عطلت الأجير والإبل تعطيلاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 ويتبين عند التحقيق أنك إذا قلت: (عطل الرجل من العمل فهو عاطل منه) فقد أخذت بالأصل الذي هو (عطلت المرأة من الحلي) واعتددت به. وإذا قلت (عطل الرجل عن العمل فهو عاطل عنه) فقد أخذت بما انتهى إليه معناه وعوَّلت عليه. ذلك أن (تعطيل الرجل) حجز له عن العمل الذي به قوامه، وحبس له عن السعي الذي به كيانه. فتعطيل الرجل يعني تنحيته عما فطر عليه، لا مجرد إخلائه أو محض تعريته من صفة محمودة يحوزها كأدب أو مال أو سوى ذلك. ولا يعد (عطل) فريداً في تعديته بمن وعن. فأنت تقول بعد عنه ومنه وتباعد عنه ومنه. كما تقول تحول عنه وهو المشهور، وتحول من حال إلى حال كما جاء في (لطائف اللطف/ 64) للنيسابوري. وهكذا قيل (تنقل من موضع كذا) كما هو الشائع, وقيل (أصبح السلطان متنقلاً عن أهل الفضل إلى أهل النقص) كما جاء في كليلة ودمنة (باب برزويه) لابن المقفع. ونحو ذلك (انصرف عنه) كما هو الجاري و (انصرف من بلاد الهند) كما في المصدر نفسه. وتقول (تحرَّز منه) كما في الصحاح والقاموس والمصباح، وتقول (تحرَّز عنه) ، كما جاء في الأدب الكبير لابن المقفع، إذ قال: (تحرزاً بذلك عن تقصير فعل/ 85) . وتقول (خرج منه) و (خرج عنه) . قال ابن المقفع في كتابه المذكور: (وكان خارجاً من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد، وخارجاً من سلطان لسانه فلا يقول ما لا يعلم/ 133) ، كما جاء في سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي: (وخرج عن حد الاستعمال) وفي مقدمة الكتاب (وخرج عن مقدور البشر) ، أي تجاوز، ونحو ذلك ما جاء في المخصص لابن سيده (تخلَّيت منه وتخلَّيت عنه) . ولا شك أن لكل حرف من هذين معنى يقتضيه عند التحقيق. فلا بد أن يفضي الفعل مع حرف بعينه إلى معنى لا يفضي إليه مع حرف آخر. وقد بسطنا القول في ذلك بكتابنا (مع النحاة/ 111) . *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 ويتصل بما نحن بصدده ما جاء في معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة. فقد ذهب الأستاذ محمد العدناني في معجمه هذا إلى تخطئة قول القائل (عاضه عن الشيء) وجعل صوابه (عاضه الشيء) و (عاضه منه) ، مستشهداً بما جاء في الحديث عن أبي هريرة: "فلما أحلَّ الله ذلك للمسلمين، يعني الجزية، عرفوا أنه قد عاضهم أفضل مما خافوا"، على صحة (عاضه الشيء) ، ومستشهداً بما جاء في الألفاظ الكتابية للهمذاني وفي أساس البلاغة للزمخشري وسواهما، على صحة (عاضه منه) . لكنه أقر بصحة قول القائل (اعتاض عنه) ، كما جاء في المقامة الدمياطية لأبي القاسم الحريري ومحيط المحيط، إلى جانب قول القائل (اعتاض منه) ! والغريب أن يثبت العدناني (اعتاض عنه) ويمنع (عاضه عنه) ، والأصل أن يتفق الحرف في (فعلته فافتعل) كجمعته إلى فلان فاجتمع إليه، ونسبته إلى فلان فانتسب إليه وخصصه بكذا فاختص به. ونحو ذلك (أفعلته فافتعل) كأبعدته عنه فابتعد عنه وهكذا.. و (اعتاض) معناه أخذ العوض. و (عاضه) أعطاه العوض. فصواب المسألة أنك تقول (عضته من كذا) فاعتاض منه، كما تقول (عضته عن كذا) فاعتاض عنه. وتقول إلى ذلك (هذا عوض من ذاك) و (هذا عوض عن ذاك) أيضاً. ودليل ذلك ما جاء في كلام الفصحاء. فإذا عدت إلى (خزانة الأدب) للإمام عبد القادر البغدادي (المطبوع بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد) ، وتصفحته، لا سيما الجزء الثاني منه، ألفيت أن الفعل (عاض) ومشتقاته والاسم منه في الصفحات (94 و 113و 149) خاصة، قد عُديت بالحرفين جميعاً، كقوله (المعوض عنه ومنه، والعوض عنه ومنه) وقد تكرر ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 وإذا تدبرنا الأمر وجدنا أنه كلما عُدّي (عاضه) بمن كان بمعنى (أبدله) وكان (العوض) بكسر ففتح، وهو الاسم، بمعنى (البدل) . والغالب فيما جاء من (عاضه منه) أن يشار فيه إلى أن العوض بمعنى البدل. قال الإمام عبد الرحمن بن عيسى الهمذاني في كتابه (الألفاظ الكتابية) : "اعتاض هذا الأمر من ذاك اعتياضاً وأعاضه فلان وعوّضه عِوَضاً، وخذ هذا عوضاً من ذاك" وأردف "والعوض.. والبدل والبديل واحد". على أن للعوض معنى آخر، يفارق به البدل، فقد ذكر ابن جني في الخصائص (1/265) : أن جماع ما في الأمر أن البدل أشبه بالمبدل منه، من العوض بالمعوض منه. فالبدل يقع في موضع المبدل منه، ولا يلزم من العوض ذلك. فالعوض لا يحل محل المعوض منه أما البدل فيحل محل المبدل منه فلا يجتمعان. وهكذا لا يشترط في (العوض) إلا أن ينوب عن (المعوض عنه) ولا يشترط أن يشابهه أو يحل محله. وبهذا المعنى أمكن أن تقول (هذا عوض عن هذا) أي ينوب منابه ويجزي عنه، أي يقضي، ومن ذلك قوله تعالى: ?ولا تجزي نفس عن نفس شيئاً –البقرة/ 47"، وبذلك يتجلى معنى (عن) . قال أبو البقاء الكفوي في الكليات: "والبدل لا يكون إلا في موضع المبدل منه، والعوض لا يكون في موضع المعوض عنه –1/399" فعدّى (عوض) بعن ليشير به إلى المعنى الذي يفارق به (بدّل) أو (أبدل) ‍ وانظر إلى قول الإمام الشافعي: وانصب فإن لذيذ العيش في النَصَب سافر تجد عوضاً عمَّن تفارقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 وتأمل قوله (عوضاً عمن تفارقه) ، فلماذا اختار الشافعي ذلك عن أن يقول، بل على أن يقول: (بدلاً ممن تفارقه) أو (عوضاً ممن تفارقه) ؟ أقول قد آثر (عوضاً عمن تفارقه) لأن المسافر إنما يكفيه بل يجزيه أن يجد من يأنس به ويطمئن إليه، ويغنيه أن يظفر بمن يثق به ويسكن إليه، فيسلو به عمن يفارقه فتطيب نفسه عن ذكره. وهو لا يطمع أن يلقى (البديل) ممن نزح عنهم (والشبيه) بمن ألف صحبتهم، فكان قوله (عوضاً عما تفارقه) واقعاً موقعه صائراً إلى مستقره. وقد يدق هذا فيخفى على الناظر حتى يتلطف له فيظهر من أكمامه وينشر عن طيه. *** هذا ما رأيت الكشف عنه، في موضوع دلالة (اسم الفاعل) والموازنة بينه وبين الصفة المشبهة، وما يعترض الكتَّاب فيه من لبس وأشكال أو يتصل باستعماله من خطأ واشتباه. وأرجو أن أكون قد وفّقت، فيما أدليت به من وجوه الرأي، إلى ما يمكن الوثوق بصحته فلم أخطئ القصد فيما ابتغيت، ومن الله العون والتسديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 الأدوات النحويّة وما يَعترضُ الكتّاب مِن اللُبس في استعمالها كثيراً ما يعترض الكتاب لبس في استعمال الأدوات النحوية ويقع الإبهام في ذلك، فيأتي كلامهم وقد تخلّف عنه الإحكام في الأداء. فرأيت أن أبحث ما دقَّ من معاني هذه الأدوات وأستجلي بعض حقائقها، فأوضح المبهم منه وأقرب البعيد لعلّي أكشف عما غابت معرفته من مسائلها، فيتسنى بذلك ما تعذر من أمرها ويستيسر ما تصعب، وهأنذا أبسط الكلام في طائفة منها أداة بعد أداة. 1- إذ: تستعمل (إذ) في وجوه قد يخفى بعضها على الكتَّاب، وهذه أشهرها. آ-إذ الحرفية: وهي تزاد للتعليل، قال تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون -الزخرف/ 39 (، أي: ولن ينفعكم اليوم، أي يوم القيامة، أنكم في العذاب مشتركون، بسبب ظلمكم في الدنيا، والرأي منسوب إلى سيبوبه. وتزاد (إذ) للمفاجأة كقولك: (بينما هو كذلك إذ جاء خالد) .وأما قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة.. البقرة/ 30 (، وقوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا.. البقرة/34 (، فقد قيل إن (إذ) فيهما للتوكيد. والتقدير: (وقال ربك) في الآية الأولى: و (وقلنا للملائكة..) في الآية الثانية. وقيل (إذ) فيهما مفعول به فتكون اسماً والتقدير فيهما: (واذكر إذ) ، وهو الأرجح. ب-إذ الاسمية: تقع في موقع الظرف والمفعول به والمبدل منه والمضاف إليه. ومثال الظرف قوله تعالى: (إلاَّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا.. التوبة/ 40 (، أي: فقد نصره الله حين إخراج الكفار له. وهكذا قوله تعالى: (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم.. الأحقاف/ 11 (، وقيل التقدير: وظهر عنادهم إذ لم يهتدوا بالقرآن، لكنه أفاد التعليل لأن (فسيقولون عنه) مسبب عنه. ومثال المفعول به قوله تعالى: ‍ (واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثَّركم.. الأعراف/ 86 (أي اذكروا هذا الوقت. وقيل هو ظرف والتقدير: واذكروا نعمة الله إذ كنتم. ومثال البدل: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً.. مريم/16 (أي أذكر (مريم) بل أذكر (وقت انتبذت فيه) . وقيل إنه ظرف والتقدير: اذكر قصة مريم إذ.. ومثال المضاف إليه قوله تعالى: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.. آل عمران/8 (. هذا ما ذهب إليه جماعة من النحاة، من أنَّ (إذ) اسم للزمن الماضي وأنها تأتي على ما تقدَّم من وجوه الاستعمال. أما الجمهور فإنه يقتصر من هذه الوجوه المتقدمة على وجهين، فهي إما أن تكون ظرفاً، كما هي في الأمثلة المذكورة آنفاً، أو تكون مضافاً إليها، كقولك يومئذٍ وحينئذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 جـ-تلزم (إذ) الإضافة إلى جملة اسمية أو فعلية. ومثال الاسمية قوله تعالى: "واذكروا إذ أنتم قليل- الأنفال/ 26", فإذا كانت اسمية مبدوءة بـ (إن) كانت همزة (إن) المشددة هذه مكسورة، خلافاً للشائع عند الكتَّاب. تقول: (عرفت لفلان فضله إذ إنه أحسن إلي) ، فتكون (إذ) هنا ظرفاً عند الجمهور وحرف تعليل عند جماعة من النحاة. فإذا كانت الجملة فعلية فلابد أن يكون فعلها ماضياً لفظاً ومعنى كقوله تعالى: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة.. البقرة/ 30"، أو يكون فعلها ماضياً معنى لا لفظاً كقوله تعالى: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت.. البقرة/157"، وقد جاء الفعل بصيغة المضارع استحضاراً للصورة التي وقع عليها الحَدَث، تمكيناً لها في النفس. وقد تحذف الجملة التي تضاف إليها (إذ) للعلم بها ويعوض عنها التنوين، وتكسر الذال لالتقاء الساكنين، ومن ذلك قوله تعالى: "يومئذٍ تحدِّث أخبارها بأنَّ ربَّك أوحى لها.. الزلزلة /4 و5". وقد جاء في شرح الكافية: "تقول يومئذ وحينئذ وساعتئذ وليلتئذ، ويجوز بناؤها وإعرابها، كما في قوله تعالى: ومن خِزي يومئذ.. هود/ 66-2/ 206 و207". وهو يقصد ببناء (يومئذ) وإعرابها، كسر الميم إعراباً في الآية، لإضافة خِزي إلى يوم، وفتح الميم بناءً، لإضافة يوم إلى مبني، وهو الأكثر. 2- إذا: ترد (إذا) في وجوه هذه أشهرها: 1- إذا الاسمية: تقع في الابتداء فتكون ظرفاً للمستقبل غالباً، ولو جاء فعلها بصيغة الماضي، خلافاً لـ (إذ) . فإذا تضمنت معنى الشرط فلابد لها حينئذ من جملتين جملة للشرط فعلية وأخرى للجزاء أو الجواب. ويقترن جواب الشرط بالفاء، إذا لم يكن صالحاً لأن يكون شرطاً كأن يكون جملة اسمية أو فعلية فعلها جامد أو طلبي أو ماض لفظاً ومعنى أو مقرون بقد أو ما النافية أو لن أو السين أو سوف أو ربَّ أو كأنما أو أداة شرط. فإذا كان الجواب صالحاً لأن يكون شرطاً فلا حاجة به إلى الفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 و (إذا) هذه المتضمنة معنى الشرط لا تجزم في الأصل وقد تجزم في الشعر. ولابدَّ أن يتلوها فعل، فإذا تلاها اسم مرفوع فعلى أنه فاعل لفعل مقدر محذوف يفسره المذكور، كقوله تعالى: "إذا السماء انشقَّت- الانشقاق/1". وقد لا تكون (إذا) الظرفية الشرطية للاستقبال نحو قوله تعالى: "وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها.. الجمعة/11"، فإنها للماضي. وقد يسقط عنها معنى الشرط فتنصرف إلى الظرفية وحدها كقوله تعالى: "والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى.. الليل/1"، وكذلك قوله تعالى: "وإذا ما غضبوا هم يغفرون.. الشورى/ 37"، وقوله تعالى: "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون.. الشورى/ 39"، فـ (إذا) فيهما ظرف لخبر المبتدأ المذكور بعدها. أما قوله تعالى: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمناً.. البقرة/ 14" فـ (إذا) فيه للاستمرار في الماضي دون الشرط أيضاً. و (إذا) الظرفية المتضمنة معنى الشرط تختص بمتيقن الوجود بحكم معنى الظرف كقولك (آتيك إذا احمرَّ البُسر) والبسر لابد أن يحمر فهو التمر قبل أن يصبح رطباً والرطب نضيج التمر. كما تختص أداة الشرط (إن) بالمستحيل كقوله تعالى: "قل إن كان للرحمن ولد.. الزخرف/ 81"، وتشتركان في المشكوك فيه والمحتمل، بحكم معنى الشرط. ب-إذا الحرفية: تقع (إذا) للمفاجأة فتكون حرفاً وتختص بالجملة الاسمية ولا تحتاج إلى جواب، ويكون معناها (الحال) دون الاستقبال. تقول: (خرجت أبحث عنه فإذا هو واقف أمام المنزل) أو (خرجت فإذا خالد بالباب) ، فتكون الجملة بعد (إذا) جملة اسمية من مبتدأ وخبر. وفي التنزيل: "فألقاها فإذا هي حيَّة تسعى.. طه/20" فالضمير بعد (إذا) مرفوع بالابتداء، و (حيَّة) خبر له. أما تسعى فيجوز أن يكون خبراً ثانياً أو يكون حالاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 ويسأل الكتاب هل يصح قولك: (خرجت فإذا خالد واقفاً) كما تقول (واقف) . أقول جاء ذلك ففي مغني اللبيب لابن هشام: "وتقول خرجت فإذا زيد جالس أو جالساً" فجالس مرفوع على الخبرية، وجالساً منصوب على الحالية. وقد يقول الكتاب: (خرجت فإذا به واقف) ، فهل هذا صحيح؟ أقول يصح ذلك. وقد ذهب النحاة إلى أن (الباء) هنا زائدة والضمير في موضع الابتداء. وقد مثَّل ابن هشام لذلك بقوله: (خرجت فإذا بزيد) والخبر في هذا المثال محذوف، كما في قولك: (خرجت فإذا الأسد) . وذهب المبرِّد إلى أن التقدير: (فإذا بالحضرة زيد) ، و (إذا) عنده ظرف مكان. ولكن هل تقول (خرجت فإذا به واقفاً) كما تقول: (خرجت فإذا به واقف) ، أقول: يسوغ ذلك كما ساغ (خرجت فإذا خالد واقفاً) ، ولذا قل: فإذا خالد واقف أو اقفاً، وإذا به واقف أو واقفاً. وقد تقول: (خرجت فإذا ان زيداً بالباب) فيجوز لك كسر الهمزة في (أنّ) على أن ما بعد (إذا) جملة، كما يجوز فتحها على أن ما بعد (إذا) أي (أن واسمها وخبرها) في تأويل المصدر، كما جاء في شرح شذور الذهب لابن هشام. والخلاصة: أن إذا المفاجأة تختص بالجملة الاسمية ولا تحتاج إلى جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها الحال دون الاستقبال. أما الفاء الداخلة عليها في قولك: (خرجت فإذا زيد واقف) فقد قيل إنها زائدة لازمة، وقيل إنها عاطفة لجملة المفاجأة على ما قبلها، أو إنها للسببية المحضة كفاء الجواب، كما جاء في الكليات لأبي البقاء الحسيني الكفوي (1/97) . 3- إليك: إليك: اسم فعل وأسماء الأفعال أدوات تقوم مقام الأفعال فتنوب عنها في العمل لازمة ومتعدية. وهي تلزم حالة واحدة فلا تنصرف تصرف الأفعال باختلاف الأزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 ومن أسماء الأفعال ما أصله جار ومجرور نحو: إليك وعليك، وما أصله ظرف نحو: عندك ولديك ودونك ووراءك وأمامك ومكانك. فقد جاء في كتاب (همع الهوامع) للإمام جلال الدين السيوطي: "ومن أسماء الأفعال ما أصله ظرف أو جار ومجرور كمكانك بمعنى أثبت، وعندك ولديك ودونك بمعنى خذ، ووراءك بمعنى تأخر، وأمامك بمعنى تقدم، وإليك بمعنى تنحَّ: وعليك بمعنى الزم". ويكثر استعمال (إليك) في كلام الكتَّاب فيقولون: (وإليك البيان بالتفصيل) بمعنى خذ البيان، فهل هذا صحيح؟ أقول: ذهب بعضهم إلى الشك في صحة قول القائل (إليك البيانَ) بمعنى خذه. لأن الأوائل وكثيراً من المتأخرين قد اكتفوا بقولهم: (إليك البيانَ بمعنى تنحَّ) أي ابتعد، كما فعل السيوطي في (همع الهوامع) . قال سيبويه في (الكتاب) : "وإليك إذا قلت تنحَّ". وفي شرح الكافية للرضي، وشرح ألفية ابن مالك للأشموني نحو من ذلك. على أن في كلام كثير من المحققين ما يؤكد صحة قولهم (إليك هذا) بمعنى (خذه) أيضاً. فقد حكى الجوهري صاحب الصحاح بيتاً للقطامي وهو شاعر أموي، ففسر فيه (إليك إليك) بمعنى (خذ) . قال القطامي: إليك إليك ضاق بها ذراعا إذا التيَّاز ذو العضلات قلنا يصف الشاعر ناقة قوية مستعصية فيقول: إذا قلنا للتيَّاز –بتشديد الياء- أي القوي (إليك إليك) أي خذ هذه الناقة لتروضها ضاق بها ذراعاً لاستعصائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 قال الإمام ابن برّي في تعقيبه على رواية الجوهري: "هكذا أنشده الجوهري وغيره: إليك إليك، ونشر في شعره أن –إليك- خذها لتركبها وتروضها. وهذا فيه إشكال لأن سيبويه وجميع البصريين ذهبوا أن –إليك- بمعنى تنحَّ وأنها غير متعدية إلى مفعول". وإذا كان ابن برّي قد أشار إلى الإشكال في مخالفة الجوهري لما نص عليه الأئمة الأوائل فيما تعنيه هذه الأداة، فقد أكد في كلامه صحة رواية البيت ومعناه كما أنشده الجوهري. وشعر القطامي مما يُعتد به والجوهري محقق ثبت. ويؤيد ما ذهب إليه الجوهري ما جاء في شرح ديوان الحماسة. فقد حكى المرزوقي قول الشاعر (حُجيَّة بن المُضرَّب) يخاطب زوجته: إليكِ فلومي ما بدا لك واغضبي تلوم على مالٍ شفاني مكانه قال المرزوقي: "والمعنى اجمعي أمركِ واستمري في عتبكِ وغضبكِ ما بدا لك". وقد جاء في الكليات لأبي البقاء الحسيني الكفوي: "وإليك كذا أي خذه ... وإليك عني أي أمسك وكف –1/278"، فأثبت للأداة المعنيين جميعاً. وكذلك فعل الشيخ مصطفى الغلاييني في كتابه (جامع دروس اللغة العربية) إذ قال: "إليك عني بمعنى تنحَّ عني، وإليك الكتاب بمعنى خذه". ولا عذر للأستاذ زين العابدين التونسي في اقتصاره على معنى واحد من معنيي الأداة في كتابه (المعجم في النحو والصرف) ، إذ قال: "إليك اسم فعل أمر غير متعدّ مثل إليك عني أي تنحَّ، وفاعله ضمير مستتر وجوباً تقديره أنت! وقد صدر عام 1971. ولذا قل: إليك عني بمعنى أمسك، وإليك البيانَ بمعنى خذه، والبيان مفعول به، فكلاهما صحيح. وقد بحث هذا الأستاذ المحقق محمد علي النجار في كتابه (لغويات/48) فانتهى إلى مثل ما انتهينا إليه. 4- آمََا: أما: بفتح الهمزة وتخفيف الميم حرف استفتاح يراد به التنبيه، ومثلها (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام. ففي نهج البلاغة: "آمَا إنكم ستلقَون بعدي ذلاً شاملاً" ويقع بعدها القسم كثيراً كقول الشاعر أبي صخر عبد الله بن سلمة الهذلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 أمات وأحيا والذي أمره الأمر أما والذي أبكى وأضحك والذي فقد أدخل (أما) على القسم، ثم جاء بجواب القسم فقال: أليفَيْن منها لا يروعهما الذُّعرُ لقد تركَتْني أحسد الوحش أن أرى ومن شأن (أما) هذه أن يصح طرحها من الكلام، لأنها تدخل على كلام مكتف بنفسه فأنت إذا أسقطتها من الكلام صح دونها. تقول في مثال نهج البلاغة: (إنكم ستلقون بعدي ذُلاًّ) ، وتقول في مثال الشاعر الهُذلي: (والذي أبكى وأضحك والذي أمات وأحيا.. لقد تركتني أحسد الوحش ... ) فيستقيم الكلام. وثمة (أمّا) بفتح الهمزة وتشديد الميم، وهي تفيد الشرط فتدخل الفاء في جوابها، كما تدخل في أجوبة الشرط. قال الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه (معجم الأدوات النحوية وإعرابها/ 52) : "أما بالفتح والتشديد: حرف شرط وتفصيل وتوكيد. أما كونها حرف شرط فبدليل لزوم الفاء بعد، نحو: فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أنه الحقّ من ربّهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضلُّ به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاَّ الفاسقين –البقرة/ 26". ويكثر في كلام الكتاب قولهم: (أما وقد نجح فلان ... فإنَّ عليه كذا) . وهم يسألون: أيخففون (الميم) في (أما) هذه أم يشددونها؟ أقول: بحث هذا الأستاذ محمد العدناني في معجمه (الأغلاط اللغوية المعاصرة) ، فقطع بأن (أما) في المثال المذكور مخففة الميم، وأنها للتنبيه والاستفتاح. قال الأستاذ العدناني: (يُكثر مذيعو هذه الأيام وأدباء الإذاعة من ترديد عبارة: أمّا وقد نجح باهر في الفوز بشهادة الهندسة، فإن عليه الشروع ببناء مدرسة لمدينته) بتشديد الميم في –أمّا- وأردف العدناني يقول: (والصواب أما وقد نجح- أي بتخفيف الميم- لأن أما هنا حرف تنبيه يستفتح به الكلام مثل ألا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 أقول حكم العدناني هذا غريب حقاً. ذلك أن (أما) المخففة الميم ليس لها جواب يقترن بالفاء، بل ليس لها جواب البتة كما أسلفنا. فـ (أما) في المثال الذي أتى به. (أما وقد نجح.. فإن عليه..) مشدد الميم، وله جواب قد اقترن بالفاء وهو (فإن عليه) . وقد أراد العدناني أن يحتج لحكمه هذا فقال: (ويكثر مجيء –أما- قبل القسم كقول أبي حجر الهذلي: أما والذي أبكى ... ) فأما هذه حرف استفتاح قد تلاه قسم كما ذكرنا. وليس لها جواب البتة لأنها دخلت على كلام مكتف بنفسه كما ذكرنا، خلافاً لأمّا المشددة الواردة في مثاله (أمّا وقد نجح.. فإن عليه) فإن لها جواباً قد اقترن بالفاء وهو (فإن..) . وهكذا أراد العدناني أن يقيس فقاس على غير شبيه، وأتى استدلاله حجة عليه لا له. وجاء في الكليات لأبي البقاء الحسيني الكفوي مثالان لـ (أما) المخففة، أحدهما (أما والله لأفعلن) دخلت فيه على قسم، والثاني (أما زيد منطلق) وقد دخلت فيه على جملة اسمية لافتتاح الكلام. وقد خلا الخبر من الفاء، ولو كانت (أما) مشددة الميم لدخلت الفاء على الخبر الذي هو الجواب فقيل: (أما زيد فمنطلق) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 والخلاصة أن قول الكتاب (أما وقد نجح.. فإنه) صوابه تشديد الميم في –أمّا- لا تخفيفها، والجملة بعدها حالية، قال الإمام السيوطي في كتابه (همع الهوامع –2/68) : "ولا تعمل أمّا في اسم صريح فلا تنصب المفعول خلافاً للكوفية ... غير الظرف والمجرور والحال فإنها تعمل فيها وفاقاً، لأن هذه الأشياء يعمل فيها معنى الفعل". ولا بأس أن نأتي بمثال مما جاء من كلام الجاحظ، على نحو المثال الذي نحن فيه. قال الجاحظ في كتابه (حجج النبوة) : "فأما والأمر كما وصفنا وبينّا فما الطاعن على عثمان إلا رجل أخطأ خطة الحق وعجل على صاحبه ... رسائل الجاحظ للسندوبي/ 122". فقد جاء الكاتب بأمّا المشددة الشرطية وأتبعها الجملة الحالية (والأمر كما وصفنا..) ثم أدخل الفاء على جواب (أمّا) فقال (فما الطاعن على عثمان..) ، وسيأتي الكلام مفصلاً على (أمّا) المشددة هذه بعد. 5- أمّا: (أمّا) المفتوحة الهمزة المشددة الميم تكون بمعنى –مهما- الشرطية وإن لم تعمل عملها في الجزم، فإذا قلت (أمّا خالد فهو شاعر) فإنك تعني (مهما يكن من شيء فخالد شاعر) أي تعني بذلك الشرطية والتوكيد جميعاً. قال ابن هشام الأنصاري في كتابه (مغني اللبيب –1/53 و45) : "وأما التوكيد فقلَّ من ذكره، ولم أرَ من أحكم شرحه غير الزمخشري فإنه قال: فائدة أما في الكلام أن تعطيه فضل توكيد. تقول زيد ذاهب، فإذا قصدت توكيد ذلك وأنه لا محال ذاهب ... قلت: أما زيد فذاهب، ولذلك قال سيبويه في تفسيره- مهما يكن من زيد فزيد ذاهب- وهذا التفسير مُدل بفائدتين: بيان كونه توكيداً وأنه في معنى الشرط. وهي كما تأتي للتوكيد تأتي للتفصيل، كما في قوله تعالى: "فأمّا اليتيم فلا تقهر وأمّا السائل فلا تنهر وأمّا بنعمة ربِّك فحدّث- ونحو ذلك ما جاء في سورة الكهف: "أما السفينة فكانت لمساكين/79"، "وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين/80"، "وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين/82". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 والكتَّاب قد يهملون إدخال الفاء في جواب (أمّا) فيقولون: (أما خالد هو شاعر) وهذا خطأ إذ لابد من دخول الفاء في جوابها كما تدخل في أجوبة الشرط، ولا تسقط إلا لضرورة كقول الشاعر (أما القتال لا قتال لديكم) والأصل: فلا قتال لديكم. وقد جاء في كتاب (الضرائر) لمحمود شكري الآلوسي: "أما، لنيابتها عن –مهما يكن من شيء- لزمت الفاء في جوابها، ولا تسقط إلا لضرورة، كما في قول الشاعر: ولكن سيراً في عراض المراكب" "فأما القتالُ لا قتال لديكم يعيِّر الشاعر خصومه بالجبن فيقول لهم: لم تقتنوا الخيل فتعدُّوها للحرب والقتال، وإنما تعدّونها لتركبوها للزينة. ولا تدخل (أما) على فعل لأنها قائمة مقام أداة الشرط وفعله، فلا يدخل فعل على فعل. وهي لا تعمل غالباً فيقع بعدها المبتدأ كقولك (أما خالد فكريم نبيل) ، ومن ذلك قوله تعالى: "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون.. الآية- البقرة/ 26". أو يقع بعدها الخبر كقولك (أما في الدار فزيد) ، أو تقع جملة الشرط كقوله تعالى: "فأمّا إن كان من المقرَّبين فروحٌ وريحانٌ وجنة نعيم، وأمّا إن كان من أصحاب اليمين فسلامٌ لك من أصحاب اليمين- الواقعية /88و 89". فإذا تلاها منصوب فقد يكون معمولاً للجواب كقوله تعالى:" فأما اليتيم فلا تقهر –الضحى/9" أو يكون معمولاً لمحذوف بعد الفاء كقوله تعالى: "وأما ثمودَ فهديناهم –فصِّلت/17" على قراءة النصب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 وقد تعمل (أمّا) لما فيها من معنى الفعل، ولكن ليس في اسم ظاهر، بل في ظرف، تقول: (أما اليومَ فإني ذاهب) أو جار ومجرور، تقول: (وأما في الدار فإن زيداً جالس) ولا يعمل ما بعد (فإن) فيما قبلها. وقد تعمل في الحال المفرد إذا كان منكراً كما تعمل في الجملة الحالية. ومثال الحال المفرد قولك (خالد أديب حقاً، فأما شاعراً فهو خبير بقرض الشعر يتدفق عن سجية وطبع، وأما كاتباً فهو حسن الترسل بليغ العبارة) . وأما مثال الجملة الحالية فما ذكرناه قبل من قول الجاحظ: "فأمّا، والأمر كما وصفنا وبينا، فما الطاعن على عثمان إلا رجل أخطأ الحق وعجَّل على صاحبه- حجج النبوة من رسائل الجاحظ- للسندوبي/122". 6- إمّا: إمّا بكسر الهمزة وتشديد الميم حرف تخيير أو شك أو تفصيل، ويلزمه التكرير. تقول: (اِِضربْ إما زيداً وإما عمراً) كما تقول: (اضرب زيداً أو عمراً) ، وإنما كررت (إما) في القول الأول بدلاً من (أو) في القول الثاني لأنك إذا قلت: (اضرب زيداً أو عمراً) فقد ابتدأت بذكر (زيد) وليس عند السامع أنك تريد غيره ثم جئت بالتخيير. أما إذا قلت (اضرب إما زيداً وإما عمراً) فقد وضعت كلامك ابتداءً على التخيير. وفي الإعراب تقول: (إما) حرف تخيير و (زيداً) مفعول به. والواو حرف زائد و (إما) الثانية حرف عطف. ومنهم من ذهب إلى أن (وأما) جميعاً حرف عطف. وتقول في معنى الشك: (لقيت إما زيداً وإما عمراً) .. وجاء في معنى التفصيل قوله تعالى: "إنّا هديناه السبيلَ إمّا شاكراً وإمّا كفوراً- الدهر/3". وفي كلام الكتَّاب قولهم: (اضرب إمّا هذا أو هذا) بإحلال (أو) محل (وإما) وهذا صحيح.. فقد جاء في التنزيل: (وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين –سبأ/24" وقد قرئ أيضاً (إمّا على هدى أو في ضلال مبين) . قال الإمام المرادي في كتابه (الجنى الدالي) : "قد يستغنى عن إمّا الثانية بأو كقراءة من قرأ وإنّا وإيّاكم إمّا على هدى أو في ضلال مبين" وقال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 على الهمّ أو هلباجة متنعماً يعيش الفتى في الناس إمّا مشيّعا والهلباجة الأحمق. وقد يستغنى عن (إما) الثانية بذكر ما ينوب عنها، تقول: (إما أن تكلم بخير وإلا فاسكت) . وقد أورد ابن هشام في كتابه (المغني) شاهداً على ذلك قول الشاعر: فأعرفَ منك غثي من سميني فإما أن تكون أخي بصدقٍ عدواً أتقيك وتتقيني وإلاَّ فاطرحني واتخذني فالغث في الأصل هو المهزول وهو هنا الرديء، والسمين في الأصل خلاف المهزول وهو هنا الجيِّد. و (إلاّ) هنا نائبة مناب (إمّا) . وثمة (إما) من غير هذا الباب، وهي التي تكون شرطية كقوله تعالى: "فإما تَريِنَّ من البشر أحداً فقولي إنّي نذرتُ للرحمن صوماً.. الآية –مريم/16". فإما هنا أدغمت فيها نون –إنْ- الشرطية في –ما- الزائدة للتوكيد، فالأصل (إن، ما) . و (تَريِنَّ) فعل الشرط، وقد لحقت به نون التوكيد. أما قوله (فقولي) فهو جواب الشرط. وكذلك قوله تعالى: "إمّا يبلغنَّ عندك الكبرَ أحدُهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً –الإسراء/23". فأمّا هنا ركَّبت من (إن) الشرطية وقد زيدت عليها (ما) تأكيداً، ولذا صحّ لحوق النون المؤكدة لفعل الشرط الذي هو (يبلغنّ) ، وأحدهما فاعل –يبلغن- وجزاء الشرط (فلا تقل) . 7- إن: الأكثر في (إِن) بكسر الهمزة وسكون النون أن تكون شرطية نحو قولك: (اِن تجتهدْ تنجحْ) ، أو نافية نحو قولك: (إن أردت إلاَّ نصحك) أي ما أردت غير نصحك. ولكنها قد تأتي زائدة كقول القائل: (ما إن ندمت على سكوتي مرَّة) ، وقد زيدت في هذا المثال بعد (ما) النافية، وكذلك قول الشاعر: إذن فلا رفعتْ سوطي إليَّ يدي ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه والمعنى: ما أتيت بشيء أنت تكرهه. والكتَّاب إذا أتوا بأن الزائدة هذه بعد ما النافية، فتحوا همزة (إن) فقالوا: (ما أن جاء خالد حتى بدأ يتكلم ... ) ، ولا وجه له، والصواب (ما إن جاء خالد حتى بدأ يتكلم) بكسر همزة إن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 ولكن هل تزاد (إن) المكسورة الهمزة بعد (ما) إذا لم تكن هذه نافية؟ أقول تزاد (إن) بعد (ما) المصدرية، وشاهده في كتب النحاة قول القريعي: على السنّ خيراً لا يزال يزيد ورَجِّ الفتى للخير ما إن رأيته و (رجِّ) فعل أمر، والفتى مفعول، و (ما) مصدرية زمنية. والمعنى، توقَّع الخير من الفتى ما دمت ترى الخير منه يزيد بتقدّم سنْه. أما (إن) المفتوحة الهمزة الساكنة النون فقد تزاد ولكن بعد (لمّا) الحينية غالباً كقوله تعالى: "ولما أنْ جاءت رُسُلنا لوطاً سيء بهم.. هود/77". وزيادة (أن) بالكسر، و (أن) بالفتح لا يعني أن حذفهما وذكرهما سواء، فزيادتهما إنما تفيد التوكيد. 8- أن المصدرية وحذفها: أن المصدرية إما أن تذكر فتنصب المضارع في مثل قولك: (لابد أن تعمل لتضمن النجاح) . وإما أن تضمر فتنصب المضارع في مواضع قياسية، أي كون إضمارها مع استمرار نصبها قياساً، وذلك: بعد لام التعليل كقولك جئت لألهوَ. وبعد لام الصيرورة كقوله تعالى: "فالتقطه آلُ فرعون ليكونَ لهم عدوّاً وحَزَناً- القصص/8". وبعد حروف العطف: الواو والفاء وثم وأو، كقولك: يأبى الشجاع الفرار ويسلمَ، ويأبى الشجاع الفرار فيسلمَ، ويأبى الشجاع الفرار ثم يسلمَ، بنصب (يسلم) ، فيها جميعاً. وقولك: يطلب الشجاع النصر أو يموتَ، بنصب يموت. وقد تحذف (أن) المصدرية هذه فتقول (يريد المعلّم يحذر تلاميذه عاقبة الكسل) والأصل (يريد أن يحذّر) ، ويسأل الكتاب، أينصب الفعل هنا وقد حذفت قبله (أن) أم يرفع؟ أقول المشهور رفع المضارع كما ذهب إليه البصريون وعلى رأسهم سيبويه، قال الشاعر: وأن أشهد اللذات هل أنت مُخلدي ألا أيّهذا اللائمي أحضر الوغى والمعنى يا من تلومني في حضوري الوغى لأشهد اللذات، هل تكفل لي الخلود إذا كففت عن الحرب؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 وقد روى البصريون (أحضر) بالرفع، وقال سيبويه: أصله –أن أحضر- فلما حذفت- أن- ارتفع الفعل. ورواه الكوفيون بالنصب واحتجوا بعطف (أن أشهد) على (أحضر) ، فأحضر منصوب لديهم والناصب مضمر قبلها لضرورة الشعر. أقول ما دام المعول على ما جاء من ذلك في كلام الفصحاء، فقد ورد رفع المضارع بعد حذف (أن) الناصبة في الاختيار. من ذلك ما جاء في حديث جابر بن سمرة: "فشكوه حتى ذكروا أنه لا يُحسن يُصلي" برفع (يُصلّي) . وفي الحديث أيضاً: "لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر حدُّث على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" برفع (تُحدُّ) ، أي لا يحل لها ترك الزينة لحزنها فوق ثلاث. وفي كلام الجاحظ، كما حكاه الثعالبي في كتابه (لطائف اللطف) : "أتحسنين تضربين بالعود"، والأصل: أن تضربي. وعلى ذلك المثل المشهور (تسمعُ بالمُعَيدي خيرٌ من أن تراه) برفع (تسمع) ، والأصل: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وفي التنزيل: "قل أفغيرَ الله تأمرونّي أعبدُ أيها الجاهلون –الزمر/ 64"، برفع (أعبد) ، والتقدير أتأمروني بعبادة غير الله؟ فثبت بذلك مجيء المضارع مرفوعاً في الاختيار مع حذف (أن) الناصبة، أما جواز النصب فيه فقد قال به الكوفيون، ولكن عند الضرورة، لا في الاختيار. فما جاء من ذلك فهو شاذ. 9- إنّ وأنّ: يشكل على الكتاب حيناً متى تكسر همزة (ان) المشددة ومتى تفتح. والقاعدة في التفريق بينهما أنه كلما أمكن إنزال (أن) وما بعدها منزلة المفرد فاعلاً أو مفعولاً أو مبتدأ أو مجروراً ... فتحت همزتها، ففي قولك مثلاً: (بلغني أنك مسافر) جاء أن وما بعدها في تأويل المفرد مرفوع المحل فاعلاً، أي بلغني سفرُك. وفي قولك: (علمت أنك قادم) جاء أن وما بعدها في تأويل المفرد منصوب المحل مفعولاً به، علمت قدومك. وفي قولك: (الحق أنك موفق) جاء في تأويل المفرد مرفوع المحل على الخبر أو الابتداء أي: الحق كونك موفقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 وفي قولك بعد –لو-: (لو أنك قائم لكان كذا) أي لو ثبت قيامك.. وبعد –لولا-: (لولا أنك عالم لفعلت) أي لولا علمك ... وبعد –ما- المصدرية: (أنفق ما أنك قادر) أي ما استمرت قدرتك ... وبعد الجار نحو: (عجبت من أنك غاضب) أي من غضبك.. أو شهدت بأنك عالم، أي بعلمك، وهكذا.. وكلما كانت (ان) وما بعدها في تقدير الجملة كسرت همزتها، كأن تكون جواب القسم لأن جواب القسم لا يكون إلا جملة نحو (والله إنك صادق) .. وبعد (القول) نحو (أقول إنك شاعر) لأن مقول القول جملة، وبعد الدعاء نحو قوله تعالى: "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهّاب –آل عمران/8".وبعد النهي نحو قوله تعالى:" لاتحزن إنَّ الله معنا- التوبة/40". وهكذا يجوز الوجهان كلما أمكن التأويل بالمصدر وعدمه، نحو: (أوّل قولي إني أحمد الله) بالكسر بتقدير أول قولي هذه الجملة، والفتح بتقدير: أول قولي حمدُ الله، وهكذا ... 10- وإن كان: يشيع في كلام الكتَّاب جملٌ مختلفة يتخللها قولهم (وإن كان) ، فهم يقولون حيناً: (خالد، وإن كان حسن الخلق، إلا أنه بخيل) ، ويقولون: (خالد، وإن كان حسن الخلق، لكنه بخيل) . كما يقولون: (خالد، وإن كان..، فإنه بخيل) ، ويقولون: (خالد، وإن كان..، بخيل) ، فأي هذه الأقوال هو الصحيح؟ أقول: يعترض على الجملة الأولى أنه أخبر فيها بالقول (إلا أنه بخيل) ، وعلى الثانية أنه أخبر فيها بالقول (لكنه بخيل) . ذلك أنه جاء في صدر الجملة (خالد) مرفوعاً بالابتداء وهو يتطلب الخبر، وجاء الخبر مصدراً بإلاّ ولكن، وهما أداتان للاستدراك، والاستدراك لا يأتي إلا بعد تمام الجملة. تقول: (خالد حسن الخلق، لكنه بخيل) أو (إلا أنه بخيل) . أما الإخبار بجملة يتصدرها أداة استدرك فغير جائز. وكذلك إذا تصدرها حرف إضراب أو نداء، كما ذكره الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه (همع الهوامع- 1/69) نقلاً عن شارح كافية ابن الحاجب الإمام محمد بن سليمان الكافيجي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 على أن هذا الذي منعه النحاة هنا قد وقع في كلام الأئمة. فقد قال أبو جعفر الإسكافي في الرد على الجاحظ: "ونحن، وإن كنا نعتقد إخلاص أبي بكر وإيمانه الصحيح السليم وفضيلته التامة، إلا أننا لا نحتج له بمثل ما احتج به الجاحظ من الحجج الواهية – رسائل الجاحظ. خلاصة نقض كتاب العثمانية لأبي جعفر الإسكافي –جمع حسن السندوبي/46". وجاء في رسالة للبديع الهمذاني إلى أبي بكر الخوارزمي: "إني، وإن كنت في الأدب دعيَّ النسب ضعيف السبب ضيق المضطرب ... ولكن بقي أن يكون الخليط منصفاً في الوداد.. رسائل الهمذاني –مطبعة الجوائب- ص/17". وقد أشار إلى جواز ذلك بعض النحاة. إذ جاء في حاشية الصبان على الأشموني في شرح ألفية ابن مالك: "واعلم أنه استشكل وقوع الاستدراك خبراً على نحو: زيد وإن كثر ماله لكنه بخيل، مع وقوعه في كلامهم" وأردف: "وخرجه بعضهم على أن الاستدراك خبر عن المبتدأ مقيداً بالغاية" أي أنه ما دام المبتدأ مقيداً بالشرط (وإن كثر ماله) فالمعنى (زيد كثير ماله) ولذا صح الاستدراك بعده. ثم أردف: "وبعضهم جعل الخبر محذوفاً والاستدراك منه، كذا في الشهاب علي البيضاوي –حاشية الصبان- ج2- ص12". وعلى هذا صح قولك (إلا أنه بخيل) و (لكنه بخيل) بعد أن ثبت وقوعه في كلامهم. ولو أن الأصل ألا يأتي الاستدراك إلا بعد تمام الكلام كقول الشافعي: عليهم الدهر بالأحزان والمِحَنِ لو أنصفوا أنصفوا، لكن بغوا فبغَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 وأما قولهم: (فإنه بخيل) بدخول الفاء على توهم وقوعها في جواب الشرط فهو شائع. قال الجاحظ في كتابه (حجج النبوة) : "كل إنسان، وإن كان يرى أنه حاسد في شيء، فهو يرى أنه محسود في شيء- رسائل الجاحظ لحسن السندوبي- ص128". وجاء في كتاب "أمالي القالي- 1/271 المطبوع 1324) عن سعيد بن مسعدة الخفش: "اعتذر رجل من العرب إلى بعض ملوكهم فقال: إن زلَّتي، وإن كانت قد أحاطت بحرمتي، فإن فضلك يحيط بها وكرمك يوفي عليها". ومثل ذلك كثير في كلام الفصحاء. وأما قولهم: (خالد، وإن كان حسن الخلق، بخيل) فإنه الأصل لأنه على تقدير (خالد بخيل وإن كان حسن الخلق) . وقد يكون الخبر جملة فعلية كقول الجاحظ: "إنه، وإن كان يألفه أكثر من أبويه ... ، لم يكن الإلف ليخرجه عما نشأ عليه. خلاصة كتاب العثمانية من رسائل الجاحظ للسندوبي 24"، وقد يكون الخبر جملة اسمية، كما جاء في كليلة ودمنة (باب الفحص عن أمر دمنة 132) : "ولست أقول هذا كراهة للموت فإنه، وإن كان كريهاً، لا منجى منه، وكل حي هالك"‍! وقد بحث هذا الأستاذ محمد علي النجار في كتابه (لغويات 65) وانتهى إلى القول: "وبعد فالأسلوب الصحيح البراء من التكلُّف ألاَّ يقترن الخبر بأداة مما ذكر، وأن يطرح ما اطرحته العرب ونعود إلى العربية الصافية 37". وهو يعني بالأسلوب المتكلّف المطّرح إدخال أداتي الاستدراك (لكن وإلاَّ) على الخبر، أقول: قد جاء هذا الأسلوب في كلام كبار الكتَّاب في العصور المتقدمة كما رأيت، وقد حمل ذلك النحاة على أن يتأولوا له وجهاً. فالمختار عندي هو إجازته. 11- وإلاَّ لكان: من مواضع (إلاَّ) بكسر الهمزة وتشديد اللام أن تفيد معنى التأكيد. فإذا قلت: (ادفع ما عليك وإلاَّ قوضيت) فإن (إلاَّ) تؤكد ما قبلها أي توجب الدفع، وتعلّق ما بعدها أي (المقاضاة) على انتفاء ما قبلها، فلا مقاضاة ما لم يمتنع الدفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 وقد شاع في كلام الكتَّاب والمصنفين منذ القدم نحو قولهم: (ادفع ما عليك وإلا لقوضيت) بإدخال اللام على الجواب فهل هذا صحيح؟ أقول تتألف (إلاَّ) من (إن) الشرطية و (لا) النافية، وقد جرى بين النون واللام إدغام المتجانسين، فهل يجوز دخول اللام في جواب (ان) الشرطية؟ أجاز بعض الأئمة دخول اللام في مثل هذا الموضع. قال الإمام شهاب الدين أحمد الخفاجي في (شفاء الغليل-ص176) : "إدخال اللام في جواب (لو) ظاهر، وأما في جواب (إن) فقيل إنه من خطأ المصنفين، وليس كذلك، لأنها تُخرَّج على أنها جواب –لو- مقدراً، والتقدير في قولهم- وإن لكان كذا- فلو كان لكان كذا- ترقياً من مرتبة الشك إلى الجزم .... ". وقال الإمام الأزهري في شرح قواعد الإعراب: "ومنع الجمهور دخول اللام في جواب –إن- وأجازه ابن الأنباري". وجاء في حاشية المغني قول الإمام محمد الأمير: "قال الشاعر: لئن غبت عن عيني لما غبت عن قلبي أما والذي لو شاء لم يخلق النَّوى قوله: لما غبت، قال الدمايني يمكن أنه جواب –إن- والجملة جواب القسم فيكون سَنَداً لنحو قولهم: وإلا لكان كذا". فثبت بهذا ذهاب بعض الأئمة إلى جواز قولك (ادفع ما عليك وإلا لقوضيت"، وقد بحث هذا الأستاذ أسعد داغر في كتابه (تذكرة الكاتب) ، فمنع قول القائل (وإلا لنجح) ، ثم عمد إلى إجازته، في ملحق التذكرة، ولم يشر إلى أنه جاء يستدرك بهذا ما سبق أن منعه، إذ قال: "أنهم أجروا إن الشرطية مجرى –لو- في إدخال اللام على جوابها كقولهم: وإلا لكان كذا، لكنهم لم يجروا –إذا- هذا المجرى" أقول وقد تعامل –لو- أيضاً معاملة- إن- فتقول (أنت لا تكرمني ولو أكرمتك) وأنت تريد (وان أكرمتك) . أما (إذا) فلم يقل أحد بدخول اللام في جوابها، كما تقدم الكلام عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 وقد بحث الأستاذ محمد علي النجار نحو هذا في كتابه (لغويات –ص 21 و22) إذ تحدَّث عن دخول لام جواب القسم لا لام جواب لو، دخولها في جواب (إن) دون إذا وانتهى إلى القول: "على أن هذا التخريج لا تسكن إليه النفس كل السكينة. فهو إنما ورد مع إن، ولم يرد مع إذا. وأن أمُّ الباب في الشرط، فلا بدع أن تختص ببعض الأمور، ولا يجب أن يقاس عليها في جميع أحكامها سواها، وهو لا يستقيم أيضاً لو قيل مثلاً: إذا أتيتني لأقوم بإكرامك، فإن الواجب، على تقدير القسم، أن يقال: لأقومنَّ بالتأكيد، كما هو معروف". ولذا قل: ليس لديَّ ما أعطيك وإلا لأكرمتك، وسأكرمك ولو لم تزرني، ولا تقل إذا أتيتني لأكرمتك. 12- أيْ: أيْ المفتوحة الهمزة الساكنة الياء حرف تفسير، على المشهور. تفسَّر بها الجمل كما تفسَّر المفردات. ومثال التفسير بالجُمَل قول الشاعر: (وترمينني بالطرف أي أنت مذنب) ، وقولك (سألته أن يحضر أي طلبت منه الحضور، وقولك (قُطع رزق خالد أي مات) ببناء –قُطع- للمجهول، ولا أشكال في ذلك. وتفسَّر بأي المفردات، تقول (أكرمت خالداً أي أباك) ، فيقع الأشكال فيما بعد (أي) ، ما محلّه من الإعراب! أقول المشهور أن يقع الاسم بعد (أي) المفتوحة الساكنة بدلاً من الاسم قبلها، فيرفع أو ينصب أو يجر مثله. تقول: جاء أي خالدٌ بالرفع فيهما، ولقيت أخاك أي خالداً بالنصب فيهما، وظفرت بأخيك أي خالد بالجر فيهما. وأجاز بعضهم النصب بفعل مضمر بعد المرفوع والمجرور. تقول: جاء أخوك أي خالداً، وتقديره أعني خالداً، كما تقول: أحسنت إلى أخيك أي خالداً، وتقديره أعني خالداً. كما أجازوا الرفع بعد المنصوب والمجرور، على الاستئناف، كما جاء في اللسان. على أن المشهور هو اتباع ما بعد (أي) ما قبلها رفعاً ونصباً وجراً. 13- أيّ: أيّ بفتح الهمزة وتشديد الياء، تكون اسماً للاستفهام أو الشرط أو الموصول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 ومثال الاستفهام قولك: أي الناس أفضل؟ فتكون أي مرفوعة بالابتداء وخبرها أفضل، ويأخذ بعض النقاد على الكتاب قولهم: أيهما أفضل العلم أم المال؟ ويرون هذا خطأ ويجدون الصواب: أيما أفضل العلم أم المال؟ لأن الضمير في –أيهما- عاد إلى اسم ظاهر تأخر عنه لفظاً وتقدم رتبة وهو العلم والمال، وهذا لا يجوز. قال الدكتور مصطفى جواد في كتابه (قل ولا تقل) : "قل أيما أفضل العلم أم المال؟ ولا تقل: أيهما أفضل العلم أم المال، ذلك لأن –هما- في قولك –أيهما- ضمير يعود إلى اسم ظاهر تأخر عنه لفظاً وتقدم رتبة عوداً غير مجاز ... ". أقول جاء في كلام الفصحاء (أيما) و (أيهما) في مثل هذا الموضع. ففي نهج البلاغة: "أيما أفضل العدل أو الجود. قال عليه السلام العدل يضع الأمور مواضعها والجود يخرجها من جهتها، والعدل سائس عام والجود عرض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما –3/257-258". وفي كتاب الحيوان للجاحظ: "أيّهما أشد الشتاء أم الصيف.." فصح بذلك الوجهان أيّما أفضل كذا أم كذا، وأيهما أفضل كذا أم كذا. وقد تدل (أي) الاستفهامية على التعجب حيناً في مثل قولك (أي شاعر هذا الذي سمعت) أو تدل على الكمال كقولك (سمعت شاعراً أي شاعر) فتكون –هذه صفة لنكرة والمعنى أنك تثني عليه بكل ما يُمدح به الشاعر. وتقول في هذا المعنى: (لله درّ زيد أيّ شاعر) فتنصب (أي) على الحال بعد المعرفة أو ترفع (أي) على الابتداء فتكون استفهامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 ومثال مجيء (أي) اسماً للشرط قولك: أي رجل يُخلص في عمله يلق نجاحاً، فأي مرفوعة بالابتداء والجملة بعدها خبر. وفعل الشرط (يخلص) والجزاء (يلق) مجزومان. وهكذا قوله تعالى: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى- الإسراء /110". والمعنى أيّ هذين تدعوا فهو حسن. فتكون –أيّاً- منصوبة مفعولاً به مقدماً لتدعوا، و –ما- زائدة للتأكيد. وفعل الشرط –تدعوا- مجزوم، وقد دخلت الفاء في الجزاء. وكذا قولك: بأيِّ سببٍ تعتذر يقبل اعتذارك، ففعل الشرط –تعتذر- وفعل الجزاء- يقبل- مجزومان. ويسأل الكتاب أتتبع- أي- ما تضاف إليه في الشرط والاستفهام فتذكَّر مع المذكَّر وتؤنث مع المؤنث! أقول بحث هذا الأستاذ محمد العدناني في كتابه (معجم الأخطاء اللغوية المعاصرة) فأوجب التذكير دوماً، إذ قال: "ويقولون أية طالبة فازت بالجائزة؟ والصواب: أي طالبة، لأن –أي- الاستفهامية إذا أضيفت إلى نكرة ثبت لفظها مفرداً دائماً. وأي الشرطية كالاستفهامية". وليس الأمر على ما قال العدناني. ففي الصحاح: "وتقول أي امرأة جاءتك أو جاءك، على الاستفهام، وأية امرأة جاءتك؟ " فأجاز الوجهين: أي امرأة وأية امرأة. وجاء في المصباح المنير: "والأفصح استعمال –أي- في الشرط بلفظ واحد للمذكر والمؤنث" فآثر التذكير مع المؤنث ولم يوجبه، وكذا الحال في الاستفهام. وتأتي (أي) اسم موصول في ثلاث أحوال: أن يحذف مضافها ويبقى العائد أي الضمير كقولك: (كافئ أيّاً هو مخلص) ، فتكون معربة، أو يذكر مضافها وعائدها كقولك: (جاءني أيّهم هو ناجح) ، فتكون معربة أيضاً، أو يذكر مضافها ويحذف عائدها كقولك: (أكرم أيّهم أحسن أخلاقاً) فتكون –أي- مبنية على الضم في محل نصب: أي أكرم أيهم هو أحسن أخلاقاً، هذا هو المشهور، ومنهم من أجاز إعرابها في هذه الحال أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 قال الإمام السيوطي في كتابه (معجم الأدوات النحوية وإعرابها) : "وهي –يعني أيّاً- في الأوجه الثلاثة معربة، وتبنى في الوجه الثالث على الضم إذا حذف عائدها وأضيف كالآية- لننزعنَّ من كل شيعة أيّهم أشدّ على الرحمن عتيّاً –مريم 69- أي أيُّهم هو أشد وأعربها الأخفش..". وقد اشترط النحاة في (أي) الموصولة هذه أن تضاف إلى معرفة، وذهب بعضهم إلى جواز إضافتها إلى نكرة واحتجَّ بقوله تعالى: "وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون – الشعراء 227" أي المنقلب الذي ينقلبونه، كما فعل ابن عصفور الأندلسي. والجمهور على أن (أيّاً) ها هنا استفهامية، والجملة قد سدت سد مفعولي (سيعلم) . فإذا صحت إضافتها إلى نكرة، وقد ورد ذلك في الشعر، صح قول القائل: (اسلك أي طريق تريد) أي الطريق الذي تريد. وقد يسأل سائل ما الرأي في قولهم: (أيّهم تأتي يكرمك) أيرفع فيه الفعلان أم يجزمان؟ أقول تحتمل (أي) هنا الموصولية والشرطية. فإذا كانت الأولى رفعت الفعلين، و (أي) مرفوعة على الابتداء، ويكرمك هو الخبر. وإذا كانت الثانية جزمت الفعلين فقلت (أيُّهم تأتِ يكرمْك) ، وتكون (أي) مفعولاً به مقدماً لفعل (تأت) فتأمل. 14- إيّاك: إيّاك بكسر الهمزة وتشديد الياء المفتوحة مركبة من (إيّا) وهو ضمير نصب منفصل بني على السكون. و (الكاف) حرف للخطاب كالكاف في (ذلك) أو الهاء في (إياه) أو الياء في (إياي) . ففي قوله تعالى: "إيّاك نعبد": إيّا ضمير نصب منفصل بني على السكون في موضع نصب مفعول به لفعل (نعبد) . والكاف حرف خطاب للمذكر بني على الفتح. و (نعبد) فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر فيه وجوباً تقديره (نحن) . ويقع الأشكال في استعمال (إياك) في المواضع التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 1- في مثل قولك: (ما استقبلت إلا إياك) . فما نافية، واستقبلت فعل وفاعل. و –إلا- حرف لإيجاب النفي. و (ايّا) في محل نصب مفعول به. والكاف حرف للخطاب. والسؤال: -هل يصح قولك (ما استقبلت إلاَّك) بإحلال (الكاف) الضمير المتصل محل (إيّاك) الضمير المنفصل؟ أقول منع ذلك بعضهم كالحريري في (درّة الغوَّاص) وأجازه آخرون محتجين بما جاء من ذلك في شعر المتقدمين. وأقر هذا ابن مالك. كما أشار إليه ابن هشام في (أوضح المسالك) . وصرَّح ابن الأنباري بجواز وقوع الضمير المتصل محل المنفصل. 2- وفي مثل قولك: (إياك والكذب) للتحذير. فـ (إياك) مفعول به لفعل مضمر محذوف بصيغة الأمر نحو (دَع أو اتَّقِ) ، والواو عاطفة، و (الكذب) معطوف على المفعول. والسؤال: هل يصح قولك (إياك الكذب) بحذف الواو العاطفة؟ أقول أجازوا ذلك وقدروا لنصب (الكذب) فعلاً مضمراً غير ما أضمروه في نصب (إياك) . وصحَّ كذلك قولك: (إياك من الكذب) و (إياك أن تكذب) . 3- وفي مثل قولك: (قرأت الكتاب إياه) كما شاع ذلك على ألسنة الكتَّاب، وهكذا قولك (إن اللجنة إياها قامت بذلك) فهل هذا صحيح؟ أقول لا وجه لقولهم هذا، والصحيح: (قرأت الكتاب نفسه) و (إن اللجنة نفسها قامت بذلك) ، ولا محل لـ (إياه) و (إياها) فيما تقدم البتة، إذ ليس ثمة ما يستوجب ذكر ضمير النصب ولا علاقة له بالتأكيد الذي أريد بذكره. 15- الاستئناف وأداته: الاستئناف في الأصل ابتداؤك جملة لا تكون في سياق ما سبقها من حيث الإعراب، ولو كانت على اتصال بها من حيث المعنى. ويأتي الاستئناف النحوي جواباً عن سؤال مقدَّر {سواء اقتضته الجملة الأولى أو لم تقتضه. ففي قوله تعالى: "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمَّارة بالسوء- يوسف/ 3" قد أتت الجملة المستأنفة جواباً عن سؤال مقدَّر اقتضته الجملة الأولى، وهو: وهل النفس أمّارة بالسوء؟ وفي قول الشاعر: وتظنّ سلمى أنني أبغي بها بدلاً، أراها في الضلال تهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 أتت جملة (أراها) مستأنفة، فكانت جواباً عن سؤال مقدَّر لا تقتضيه (وتظن) بالضرورة وهو: وما قولك فيما تظن سلمى؟ ولكن هل ثمة أداة للاستئناف. أقول الأصل ألاَّ تكون ثمة أداة. فإذا اختلفت الجملتان خبراً وإنشاءً فلا محل بينهما لأداة من عاطف أو سواه. تقول (توفي خالد رحمه الله) ولا تقول (ورحمه الله) . فـ (توفي خالد) جملة خبرية و (رحمه الله) إنشائية مستأنفة، فلا محل بينهما لعاطف لامتناع عطف الإنشاء على الخبر أو الخبر على الإنشاء، عند الأكثرين. ومن ذلك قوله تعالى: "خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون- النحل3"، فالجملة الأولى خبرية والثانية إنشائية مستأنفة، ولا محل بينهما لعاطف. ويصح استئناف الجملة المستأنفة بالفاء، إذا لم تختلف الجملتان خبراً وإنشاءً، كقوله تعالى: "فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً- الجن 17"، وقوله تعالى: "ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً –طه112". فقوله (فلا يخاف) في الآيتين، هو في الأصل جواب الشرط. فمن رفع (فلا يخاف) استأنف بالفاء وكان التقدير (فهو لا يخاف) ، ومن جزم (فلا يخف) فعلى النهي. وهكذا قوله تعالى: "بديع السموات والأرض إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون –البقرة 117"، فالجمهور على أن من قرأ (فيكون) بالرفع كان ذلك عطفاً على (يقول) ، أو هو على الاستئناف بالفاء، على تقدير (فهو يكون) . وقد جعلوا من ذلك قول الحُطيئة: (يريد أن يعربه فيعجمُه) برفع (فيعجمُه) على الاستئناف بمعنى فإذا هو يعجمه، لأنه لا يريد الإعجام. ولكن جاء قوله تعالى: "عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يُشركون –المؤمنون 92". فما مسوَّغ دخول الفاء على الجملة الإنشائية والأصل أن يستأنف الإنشاء بعد الخبر، بلا أداة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 أقول تقدَّم الآية المذكورة قوله تعالى: "ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولَعَلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون –المؤمنون 91". ثم تلاه قوله تعالى: "عالم الغيب والشهادة.." بالجر على أنه صفة لاسم الجلالة، في قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي عمرو ويعقوب وحفص، فجاء هذا دليلاً آخر على نفي التشريك، بناء ًعلى توافقهم في أنه المتفرِّد بذلك، كما قال الإمام البيضاوي في تفسيره، ولهذا رتّب عليه قوله: (فتعالى عمّا يشركون) بالفاء. أقول ما دام قد ترتب (فتعالى) على ما قبله، فالفاء فيه للسبب لا للاستئناف، وقد ذهب جماعة، ومنهم الفراء، إلى أنها للاستئناف. وكذلك قوله تعالى: "إنّا أعطيناك الكوثر فصلِّ لربك وانحر –الكوثر". فالأكثرون على أن الفاء في قوله (فصلِّ) إنما هي للسبب، لأن الإنعام في قوله (إنّا أعطيناك الكوثر) قد تسبب في الشكر فتطلّب الصلاة، وقد ذهب إلى هذا ابن هشام في (المغني) وقال: "إذ لا يعطف الإنشاء على الخبر ولا العكس –1/140". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 ولكن هل تأتي (الواو) للاستئناف كما تأتي (الفاء) . أقول جاء قوله تعالى: "من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون -الأعراف 186". فقرئ (ويذرهم) بالرفع على الاستئناف وبالجزم عطفاً على موضع جواب الشرط (فلا هادي) . وبحث هذا الإمام الزمخشري في كشافه فذكر أن الرفع على الاستئناف، ولكنه قصد بذلك الاستئناف البلاغي الذي يعني عطف الفعل على جواب سؤال محذوف، كأن يكون السؤال: أهؤلاء يضلّهم الله ولا يهديهم أحد، فيكون الجواب: نعم يضلّهم ويذرهم في طغيانهم يعمهون. فالواو هنا عاطفة على كل حال، بالجزم أو الرفع جميعاً. والفرق بين الاستئناف البلاغي أو البياني والاستئناف النحوي أن البلاغي ما كان جواباً عن سؤال مقدَّر اقتضته الجملة الأولى أو معطوفاً عليه، فهو أخصّ مطلقاً من النحوي، وقد جاء نحو من هذا في كتاب القطوف الدانية في العلوم الثمانية لمحمد أمين السفرجلاني/ 199". * * * هذا ما رأيت الكشف عنه في استعمال هذه الطائفة من الأدوات النحوية، جلاءً لما قد يعترض الكتَّاب فيها من اللبس. فلابد أن يكون لهم من معرفة ذلك حظّ ومن تدبّره نصيب، تجنباً للخطأ وابتغاءً لحسن الأداء وإحكام البيان. ومن الله العون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 الاشتقاق الكبير والقلب أجرينا الكلام في آخر عدد من المجلة حول الاشتقاق عامة، فعرضنا للاشتقاق الصغير وما تفرع عليه من المسائل على وجه المخصوص. فالاشتقاق عامة، كما يقول الميداني، هو أن تجد بين اللفظين تناسباً في أصل المعنى فترد أحدهما إلى الآخر، فالمردود مشتق والمردود إليه مشتق منه. والاشتقاق الصغير خاصة نزعك لفظاً من لفظ، ولو مجازاً، بشرط أن يكون بين اللفظين اتفاق في الحروف الأصول وترتيبها، وتناسب في المعنى، كاشتقاقك الضارب من الضرب. وقد عنوا بقولهم (ولو مجازاً) أحد أمرين: الأول أن تنزع المشتق من المشتق منه، وهو منطوٍ على معناه المجازي، كاستعمالك المثقف (اسم المفعول) بمعنى المؤدب والمعلم، اشتقاقاً من التثقيف بمعنى التأديب والتعليم، وعلى المجاز. والثاني أن تطلق (الضارب) مثلاً على من لم يضرب لأنه سيضرب، وهو في الحقيقة لمباشر الضرب، أو على من ضرب وهو لا يضرب الآن، كما ذهب إليه بعضهم. وإذا بني الاشتقاق الصغير على اتفاق الحروف الأصول وترتيبها، فملاك الأمر في الاشتقاق الكبير أن يكون اتفاق بين الحروب دون تريبها، ومثاله: كمل وملك ولكم.. وهو يخالف الاشتقاق الأكبر الذي حدّه أن تتفق في اللفظين بعض الحروف وتتقارب في الباقي نحو جبل وجبر، وحلف وحرف، وهمس وهمش. وأما القلب فلا يعني اصطلاحاً غير تغيير مواضع الأحرف في اللفظ مع التزام معناه نحو يئس وأيس وسنبسط القول فيما تقدم على هذا النحو: 1- الكلام على الاشتقاق الكبير. 2- مرجع القول بالاشتقاق الكبير، وشأنه في المد اللغوي. 3- ما الفرق بين الاشتقاق الكبير والقلب. 4- ما الذي أراده الأئمة بالقلب اصطلاحاً. 5- نصوص الأئمة وكلام الباحثين في القلب. 6- المقلوب وما جاء على هيئته. 7- كيف يستدل على صحة القلب. 8- أيقع القلب اصطلاحاً في الثنائي المضاعف. 9- العلاقة بين دلالة اللفظ ومقلوبه هل هي علاقة تضاد؟ 10- ما دلالة المقلوب في الثنائي المضاعف. 11- هل يقع الترادف في الثنائي بين المقلوب والمقلوب عنه؟ 12- ما موقع دلالة الثلاثي من مقلوبه؟ 1- الكلام على الاشتقاق الكبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 يعرف الاشتقاق الكبير، كما تقدم، بتعويله على ائتلاف الحروف في المادة دون ترتيبها، وهو يلزمك أبداً أن تتلمس للحروف الأصلية المؤتلفة هذه، أصلاً مشتركاً من المعنى، على أي صورة شكلت. وإذا كان ابن فارس قد تذرع في (المقاييس) بالاشتقاق الصغير ليرد مفردات المادة الواحدة إلى أصل من المعنى، فقد تذرع ابن جني، وأستاذه أبو علي حينا، بالاشتقاق الكبير، لينشد في تقاليب المادة كيف ركبت، جنساً من المعنى. ولم يدّع ابن فارس أنه حقق منحاه في (الاشتقاق الصغير) فيرد المفردات إلى أصل واحد في كل مادة، كما لم يبلغ ابن جني شأوه في رد تقاليب كل مادة إلى جنس من المعنى، بل لم يستوف التقاليب في المادة الواحدة، كل حين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 قال ابن جني في الخصائص (1/525-ط/1913) وقد أسمى الاشتقاق الصغير بالأصغر، والكبير بالأكبر: (هذا موضع لم يسمِّه أحد من أصحابنا. غير أن أبا علي، رحمه الله، كان يستعين به ويخلد إليه، مع إعواز الاشتقاق الأصغر – أي الصغير. لكنه مع هذا لم يسمه، وإنما كان يعتاده عند الضرورة ويستروح إليه ويتعلل به. وإنما هذا التلقيب لنا نحن، وستراه فتعلم أنه لقب مستحسن. ذلك أن الاشتقاق عندي على ضربين، كبير وصغير، فالصغير ما في أيدي الناس وكتبهم. كأن تأخذ أصلاً من الأصول فتقرأه فتجمع بين معانيه، وإن اختلفت صيغه ومبانيه. ذلك كتركيب، من س ل م، فإنك تأخذ منه معنى السلامة في تصرفاته نحو سلم ويسلم وسالم وسلمى والسلامة.. وأما الاشتقاق الأكبر – أي الكبير – فهو أن تأخذ أصلاًً من الأصول الثلاثة فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنى واحداً، تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها، عليه، وإن تباعد شيء من ذلك زدّ بلطف الصنعة والتأويل إليه. كما يفعل الاشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد. وقد كنا قدمنا ذكر طرف من هذا الضرب، من الاشتقاق، في أول هذا الكتاب، عند ذكر أصل الكلام والقول، وما يجيء من تقليب تراكيبها نحو: ك ل م، ك م ل، م ل ك، ل ك م، ل م ك، وكذلك في ق ول، وق ل،.و. وهذا أغوص مذهباً وأحزن مضطرباً، وذلك أنا عقدنا تقاليب الكلام الستة، على القوة والشدة، وتقاليب القول الستة، على الإسراع والخفة..) وختم كلامه بقوله: (واعلم أنَّا لا ندّعي أن هذا مستمر في جميع اللغة، كما لا ندّعي للاشتقاق الأصغر – أي صغير – أنه في جميع اللغة. بل إذا كان ذلك الذي هو في القسمة سدس هذا أو خمسه متعذراً صعباً، كان تطبيق هذا وإحاطته أصعب مذهباً وأعز ملتمساً 530..) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 وقد تكلف الأئمة من الجهد، في تقليب الأصل الواحد على وجوهه كيف شُكلت، ما ألجأهم إلى مضايق ومآزق لا مخرج منها ولا محيض. قال ابن جني في الخصائص (1/11) : (على أن هذا وإن لم يطَّرد وينقد في كل أصل، فالعذر على كل حال فيه، أبين منه في الأصل الواحد، من غير تقليب لشيء من حروفه. فإذا جاز أن يخرج بعض الأصل الواحد من أن تنظمه قضية الاشتقاق، كان فيما تقلبت أصوله، فاؤه وعينه ولامه، أسهل، والمعذرة فيه أوضح) . وقال السيوطي في مزهره (1/202- ط. المكتبة الأزهرية) : (ولا ينكر مع ذلك أن يكون بين التراكيب المتحدة المادة معنى مشترك بينها هو جنس لأنواع موضوعاتها. ولكن التحيل على ذلك في جميع مواد التركيبات كطلب لعنقاء مغرب) 1. وهكذا تراءى لابن جني في تقاليب (ك ل م) القوة والشدة، وتقاليب (ق ول) الإسراع والخفة. كما تصور في تقاليب (ج ب) القوة والشدة أيضاً. واستدراك فقال: (وإن تباعد شيء من ذلك رُد بلطف الصنعة والتأويل إليه، كما يفعل الاشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد) وأشار إلى أن في تركيب (جبر العظم) قوة، وفي (جبر الملك) قوته، وأنه إذا (جربت) المرءَ أمور اشتدت بها شكيمته، و (الجراب) للحفظ، وفي الحفظ قوة.. وهكذا (البرج) ففيه قوة، و (الرجبة) ما تستند إليه النخلة، وفي الدعم والإسناد قوة. لكنه ذكر (البجرة) وقال إنها (السرة) ، وفي السرّة نتوء وغلظة فأين ملمح القوة فيهما، أتراه في قولهم (هذا أمر بجريّ) أي عظيم، والجمع البجاري وهي الدواهي العظام؟ وهو لم يعرض (للجرب) وهو داء الجلد. فقد جاء في الصحاح: (أجرب الرجل جربت إبله.. وأرض جرباء مقحوطة) فأين ملحظ القوة في هذا؟ قال الدكتور صبحي الصالح في كتابه دراسات في فقه اللغة/ 219 (ترى ألم يكن ممكناً أن يسلك ابن جني تقليب – ج ر ب- في باب التضاد الذي هو ضر ب من المشترك فيكون في الرجل المجرّب معنى القوة، وفي الرجل الأجرب معنى الضعف!) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 أقول لسنا نأبى في هذا تأويلاً، وباب التأويل متسع ومذاهب الاحتيال لا تضيق، ولكن إذا جاز أن تتسع في تلمس المعنى المشترك الذي يتأدى إلى ضم دلالات هذه التقاليب حتى نستسيغ أن نؤلف بين المعنى وضده، فأي تلطف هذا الذي نتذرع به ليؤول الأمر به إلى عكس مآله. أوليس صنيعنا هذا أشبه أن يكون تلعُّباً لا يثمر ولا الظن، أو تحيلاً لا يقذف إلا بالغيب ولا يضرب إلا في شعاب الرجم. أما ما ذهب إليه الدكتور الصالح من أن باب التضاد يعد ضرباً من المشترك، فيمكن أن يصدق هاهنا إذا ابتغينا لصور المادة جنساً آخر من المعنى يحتمل الجمع بين القوة والضعف كالجلل حين يقدّر أنه موضوع للغاية في الشيء فيوصف به العظيم والحقير. هذا وقد حمل التكلف أو التعسر في التأويل الإمام السيوطي إلى أن يقول في مزهره حول الاشتقاق الكبير (1/208) : (وهذا مما ابتدعه الإمام أبو الفتح وكان شيخه الفارسي يأنس به يسيراً، وليس معتمداً في اللغة ولا يصح أن يستنبط به اشتقاق في لغة العرب) . ومن ثم كان لا بد في التماس الدلالات لمختلف صور المادة أن يحتاط مما يروم منه الباحث مراماً قصياً يضيق عنه طوقه ويفوت ذرعه فتقصر عنه كل همة. ولم يقف الأئمة في الاشتقاق الكبير عند تقليب الثلاثي بل تصوروا احتمال التقليب فيما فوقه. وقد بحث هذا الاشتقاق العلامة الحاتمي وتلميذه السكاكي في مفتاح العلوم بما رواه عنه، وابن الأثير في المثل السائر. قال السكاكي في المفتاح (7) : (وإن تجاوزت إلى ما احتملته من معنى أعم من ذلك كيفما انتظمت، مثل الصور الست للحروف الثلاثية المختلفة من حيث النظم، والأربع والعشرين للأربعة، والمائة والعشرين للخمسة، سمِّي الاشتقاق الكبير) . ولا شك أن هذا تصور عقلي يعوزه التطبيق والاستقراء كما يقول الشيخ العلايلي في كتابه (مقدمة لدرس لغة العرب/ 206) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 ولم يفت ابن جني أن ينبِّه على ذلك حين قال (الخصائص – 1/62-ط1913: (ألا ترى أنك لا تجد شيئاً من نحو سفرجل، قالوا فيه: سرفجل، ولا نحو ذلك. مع أن تقليبه يبلغ به مائة وعشرين أصلاً. ثم لم يستعمل من جميع ذلك إلا سفرجل واحده) . *** 2- مرجع القول بالاشتقاق الكبير وشأنه في المد اللغوي بحث العلماء احتمال أن يكون الخليل قد أوحى في معجمه (العين) بهذا الضرب من الاشتقاق، فبعث على التفكير فيه حين عمد إلى تقليب المادة الواحدة على صورها، والكشف عن دلالة كل صورة، فعمل ابن جني على المعارضة بين دلالاتها والتماس ما يوائم بين مناحيها ليضمها في نطاق ويردها إلى أصل مشترك. قال الأستاذ عبد الله العلايلي في كتابه (مقدمة لدرس لغة العرب/ 205) : (لم يكن عمل الطبقة الثانية إلا شرحاً لما بدأه الخليل. فهو أول من تبين الوحدة بين المقاليب وتناولها بالدرس. وزاد بأن حصر ما في العربية من الثلاثي على ضوئها بعد تحققه أن للكلمة الثلاثية ستة مقاليب، فيها المهمل والمستعمل. ومن ثم كان عمله خطيراً جداً. ولا يفهم من هذا أنه قصد الاستفادة من المهملات بعد عمل نظامي، وإنما كان جهده فيها عملاً تحقيقاً فقط) . أقول قد أشار إلى هذا بعضهم ونفاه آخرون. وعندي أنه لا يبعد أن يكون قد اتفق لابن جني أن تعهد ما جاء في معجم (العين) بنظره وترصده بفكره فعل يستقري أطواره ويتعرف أحواله حتى خلص إلى ما أستنه في (الاشتقاق الكبير) . ذلك أن الخليل قد أتى باللفظ وما ينشأ عنه بالقلب في الموضع الواحد. فذكر (الضرم) مثلاً في حرف الضاد. وأتبعه ذكر (الضمر فالرضم فالمضر فالرمض فالمرض) . فإن أهمل شيئاً من وجوه التقليب أشار إليه. وقد جعل كل نوع من الصحيح والمضاعف والمهموز والمعتل على حدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 وأخذ بنهج الخليل هذا الأزهري في تهذيبه وابن سيده في محكمه. وعاب ابن منظور هذه الطريقة في معجمه لسان العرب فقال: (ولم أجد في كتب اللغة أجل من تهذيب اللغة.. وأكمل من المحكم.. فإنهما من أمهات كتب اللغة على التحقيق.. وما عداهما بالنسبة إليهما بنيَّات الطريق. غير أن كلاً منهما مطلب عسر الدرك ومنهل وعر المسلك) . وقد عقب الشيخ طاهر الجزائري على ذلك في حاشيته على خطبة الكافي فقال: (واعلم أن طريقة الخليل لها موقع عند الذين يرون أن الكلمات التي تشترك في الحروف، وإن اختلفت في الترتيب، لا بد أن يكون لها معنى مشترك هو جنس لأنواع موضوعاتها) . وقال ابن الأثير في المثل السائر (294) : (وأما الاشتقاق الكبير فهو أن تأخذ أصلاً من الأصول فتعقد عليه وعلى تراكيبه معنى واحداً يجمع تلك التراكيب وما تصرف منها) وإن تباعد شيء من ذلك عنها رُد بلطف الصنعة والتأويل إليها) ، وأردف: (ولنضرب لذلك مثلاً فنقول: إن لفظة – قمر – من الثلاثي لها ستة تراكيب وهي: قمر، قرم - رمق، رقم- مقر، مرق – فهذه التراكيب الستة يجمعها معنى واحد هو القوة والشدة) . وقد لحظ الشيخ العلايلي في مقدمته أن ابن الأثير قد تفرد، من جميع باحثي الاشتقاق الكبير بهذا الترتيب الذي رعى فيه فاء التقليب. فكأنه رمى بذلك إلى غاية نشوئية حاصلها أنا لو فرضنا مادة كذا أصلاً، فالمادة التي يكون فاؤها فاء الأصل تكون قد أعقبتها اشتقاقاً، فجاء (قمر) ثم (قرم) وهكذا. والذي يعنينا من ذلك هل رام ابن الأثير هذا حقاً؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 أقول قد استدرك العلايلي فاستبعد هذا إذ لا دليل عليه، لكنه مضى يتخيل أن العربية قد استنت للتزيد اللغوي سنة جرت عليها، بعد أن أصبح الثلاثة وحدة الكلم. ذلك أنها قلَّبت حروف الثلاثي بحيث يكون لكل أصل منه ست صور لها جامع معنوي. وقد روعي في توليدها نهج خاص بني على ترتيب حروف الهجاء. فأقدم ما تألف من الكاف واللام والميم، على ما تصوره العلايلي، هو (كلم) بسبق الكاف تليها اللام فالميم، كما تتوالى بترتيبها في حروف الهجاء، فتولد من (كلم) لمك ثم تولد من هذا مكل فكمل فملك فلمك. ونبه العلايلي على أن ما تفرع على كل أصل ثلاثي لا يشترط أن يبلغ هذا العدد، كما نبه ابن جني أن هذه التقاليب لا تطرد. فإن (لمك) كما قال، لم تأت في ثبت (الخصائص 1/12) . وقد أتى العلايلي بأصل آخر أوضح فيه ما تصوره في تتابع الاشتقاق فقال إن (ز ف ن) أقدم صور هذا الثلاثي لأنها الأوفق للترتيب الهجائي ثم تولد منه (فنز) فـ (نزف) ثم (ز ن ف) وهو الأصل الثاني، وقد تشعب منه: (ن ف ز) فـ (ف ز ن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 وبحث العلايلي أمر الاشتراك المعنوي في تقاليب المادة ووجه الاختلاف بين دلالاتها، فقال: (فقد تقرر بما لا يحمل ريباً أن بين مواد الثلاثي الست جامعاً معنوياً، وإنما وجه الخلاف في الخصوصية) وأردف: (وعليه يمكن انتزاع الجامع المعنوي منه، أي من الأصل الثلاثي، وتعيين الخصوصية بمساعدة الثنائي الذي لا نظن في أمره مناقشة) . وقد رام العلايلي بذلك أن ينبه على ما كان للاشتقاق الكبير من شأن في المد اللغوي. في مراحل تكامل اللغة وتناميها. أما قوله: (وتعين الخصوصية بمساعدة الثنائي) فهو ينم على أن لكل مادة من مواد الثلاثي الست ثنائياً خاصاً يميز معناه، ولا تشركه في هذا الثنائي مادة أخرى من هذه المواد. ولو صحّ أن يتحد (ثنائي) بين مادة وأخرى من ثلاثي، لاقتضى ذلك تقارب دلالتيهما، وهما مختلفتان. ويحد الثنائي في المادة حرفاه وترتيبهما، وموقعه من الحرف المزيد. ولا بد من إيضاح ذلك في نواحٍ ثلاث: الأولى: أن الجامع المعنوي للتقاليب لم يمنع من اختلاف دلالة كل تقليب عن دلالة سواه، وأن هذا الاختلاف مرهون باختلاف مواقع الحروف بعضها من بعض، أي باختلاف الثنائي وموقعه من الحرف المزيد. الثانية: إذا صحّ أن الثلاثي إنما ينظر في دلالته، أصلاً، إلى المعاني الأولى لحروفه، وأنه أضحى مؤلفاً حرفياً موحد الدلالة مفرداً في مفهومه بعد أن كان مؤلفاً من وحدات لكل منها دلالة (أو من وحدتين: الثنائي والحرف المزيد) فإن وحدة المعنى في كل تقليب لم تبن على معاني حروفه وحسب، وإنما أُسست على ترتيب معين لهذه الحروف. حتى إذا اختلف الترتيب صير إلى تقليب آخر بدلالة مغايرة، ولو متَّت هذه الدلالات إلى جنس من المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 الثالثة: إذا استقر أن الثلاثي إنما ينظر بدلالته إلى معاني حروفه، فإن الثنائي يهدي بمعناه الموحد إلى فحوى الثلاثي الذي يبنى عليه فيكون دليلاً له. والثنائي إنما يعتمد في معناه كذلك على حرفيه الهجائيين فينم على دلالتيهما الأوليين مفردين، لكنه يتأثر، على كل حال، بموقع كل حرف من صاحبه. وتمس الحاجة بعد هذا إلى تعرف جنس المعنى لكل حرف من الجدول الهجائي يتتبع النصوص الدالة عليه واستقراء معاني الكلم. وهو ما يعقد عن تقصيه جهد فرد من الأفراد. قال العلايلي (ومن هذا أصبح من الضروري أن نتكلم على تحديد معاني حروف الجدول بما تسمح به النصوص المحفوظة. فحرف الهمزة يدل على الجوفية وعلى ما هو وعاء للمعنى، ويدل على الصفة تصير طبعاً. والباء يدل على بلوغ المعنى في الشيء بلوغاً تاماً، 000/210) . ولكن هل تشف معاني الكلم عن هذه الدلالات حقاً؟ هذا ما لا مناص من محاولة الاهتداء إليه باستقراء لا يدخر عنه جهد، ولا تستوطأ فيه راحة. 3- الاشتقاق الكبير والقلب وفرق ما بينهما: خاض الباحثون في شعاب الاشتقاق الكبير وبسطوا القول في القلب. وتداخل البابان حيناً في كلامهم حتى التأما وكأنهما باب واحد، لا سبيل إلى ميز بعضه من بعض. وهكذا مثلوا بـ (جذب وجبذ) للاشتقاق الكبير حيناً، وللقلب حيناً آخر بل أتوا به مثالاً لما جاء على هيئة المقلوب وليس بالمقلوب. وقد جاء التهانوي في كتابه (كشاف اصطلاحات الفنون – 1/844) بـ (جذب وجبذ مثالاً للاشتقاق الكبير ثم مثل به لما جاء على هيئة المقلوب وليس بالمقلوب فساوى بذلك بين هذا وذاك (2/1371) ، على حين خالف بينهما في التعريف. ومثل الشيخ عبد القادر المغربي في كتابه (الاشتقاق والتعريف/ 14) بـ (جبذ وجذب) للاشتقاق الكبير والقلب وجعل لهما تعريفاً واحداً. وذهب الأستاذ سعيد الأفغاني في كتابه (أصول النحو/ 105) إلى نحو من ذلك فجعل (جذب وجبذ) مثالاً للاشتقاق الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 ونحا الأستاذ عبد الله أمين في كتابه (الاشتقاق/ 154) هذا النحو فوحد بين المصطلحين في التعريف، وقد أسمى الاشتقاق الكبير بالقلب الاشتقاقي ومثل له بـ (جذب وجبذ) و (شجه وجشه) . فما حقيقة الأمر في ذلك كله؟ أقول ليس مصطلح (الاشتقاق الكبير) في مؤداه لديهم كمصطلح القلب. وأظهر دليل على ذلك أن ابن جني وهو مبتدع (الاشتقاق الكبير) بلا نزاع، قد أفرد في الخصائص باباً للقلب فجعل عنوانه (في الأصلين يتقاربان في التركيب بالتقديم والتأخير –1/467) . ومثل فيه بـ (جذب وجبذ) ووازن بينه وبين (يئس وأيس) وسواه، ولم يشر في ذلك إلى شيء مما عقد عليه الكلام حول ما أسماه (الاشتقاق الأكبر) أي الكبير. وكذلك فعل في كتاب (سر صناعة الإعراب 1/219) . فقد أتى بـ (آن وأنى) وذهب إلى احتمال أن يكون من أمثلة القلب أو مما جاء على هيئته، ولم يلمح إلى شيء مما يتصل بالاشتقاق الكبير. وهو قد خصّ هذا الاشتقاق في الخصائص (1/525) بباب مثل فيه بـ (سلم) وتقاليبه الستة، وصنع مثل هذا في (كلم) و (قول) و (جبر) و (قسو) وتقاليب كل منها، ولم يتطرق إلى شيء مما جاء به في القلب في (باب الأصلين يتقاربان في التركيب بالتقديم والتأخير) من قريب أو بعيد. أفليس يدل الفصل بين (القلب) و (الاشتقاق الكبير) عند ابن جني، وإفراد كل ببحث وباب على حدة، كما رأيت، على أن بينهما من التغاير ما يوجب ميز أحدهما من صاحبه وتعرّف حال كل منهما واستبانة وجهه؟ 4- ما الذي أراده الأئمة بالقلب اصطلاحاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 أراد الأئمة بالقلب غير ما راموه بالاشتقاق الكبير. فأمثلة القلب توحي بأن العرب قد عنوا ألفاظاً بعينها فتحركت ألسنتهم بما يجاورها نطقاً، فلم يخالفوا بين ما نطقوا به وما عنوه من الألفاظ في الحروف، لكنهم خالفوا في مواقع هذه الحروف بعضها من بعض. مثال ذلك قولهم (أيس) ، وقد عنوا به (يئس) بمعنى قنط. وقولهم (أشاف) وقد عنوا به (أشفى) بمعنى أشرف. وقولهم (دهدهتُ الشيء) إذا حدرته وقد أرادوا به (هدهدت الشيء) . وقولهم (أمضحلّ الشيء) قصدوا به (اضمحلّ) إذا انحلّ، و (اكرهفّ) قصدوا به (اكفهرّ) إذا عبس، وهكذا.. وهم لم يؤصلوا ما ازدحمت أحرفه على ألسنتهم فنطقوا به على هذا الوجه، فإذا طلبت في المعاجم (أيس) عدت إلى (يئس) ، أو طلبت (أشاف) عدت إلى (أشفى) وهكذا الباقي غالباً. وأسموا (أيس) هذا مقلوباً و (يئس) مقلوباً عنه. وهم تصرفوا في المقلوب غالباًُ لكنهم حدّوا هذا التصرف فلم يتخذوا للأفعال المقلوبة مصادر من جنسها لانتفاء موادها. فقالوا (أيس يأساً) ولم يقولوا (أيس أيساً) . فالمقلوب والمقلوب عنه لفظان ترادفاً معنى واتحدت حروفهما ولكن اختلف ترتيبها. ومن ثم كان القلب غير الاشتقاق الكبير. فليس في هذا أي الاشتقاق الكبير، وحدة في المعنى بين تقليب وتقليب ولو كان بينهما جامع، وإنما يتغير المعنى بتغير مواقع الحروف. وكل تقليب هو أصل منصوص عليه نحو كلم وملك وكمل عدا ما كان منه مهملاً. وليس للمقلوب (كأيس) أصل منصوص عليه، وإنما هو محمول على ما اعتدّوه أصلاً له وهو (أيس) . ولا بد من التنبيه على أن القلب قد جاء على غير الأصل. ذلك أن الأصل فيما اختلفت مواقع حروفه، كما اتضح في الاشتقاق الكبير، أن يختلف معناه خلافاً للمقلوب. وإذا اتفق في اللغة أن يقع الترادف بين لفظين اختلفت حروفها، أو اتفقت حروفهما وتغير ترتيبها. فليس هذا هو الأصل والغالب. 5- نصوص الأئمة وكلام الباحثين في القلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 جاء في شرح الشافية (1/23) للرضيّ تعقيباً على كلام ابن الحاجب حول الفارق بين المقلوب والمقلوب عنه: (ولعلّ مراده – أي ابن الحاجب – أنه إذا كانت الكلمتان بمعنى واحد ولا فرق بينهما إلا بقلب حروفهما، كانت إحداهما صحيحة مع ثبوت العلة فيها دون الأخرى كأيس مع يئس، فالصحيحة مقلوبة من الأخرى) . فأشار الرضي صراحة إلى وحدة المعنى في القلب. فإذا افترق المعنى لم يكن قلباً. فقد اعتد ابن الأعرابي مثلاً أن (غرس) و (رغس) من المقلوب ذهاباً إلى أن معناهما واحد. فرد ابن سيده فقال في المخصص (14/28) : (والمعروف أن الغرس في الشجر كالزرع في الحب، وأن الرغس النماء والبركة وقد رغسه الله) ، ففي الصحاح (رغسه الله مالاً.. أي أكثر له وبارك له فيه) ، ومن ثم كان كل منهما أصلاً، واختلاف مواقع الحروف مؤذن باختلاف المعنى. واستدلوا على القلب بوحدة المعنى وتغيير مواضع الحروف. قال الزجاجي في شرح أدب الكاتب (على ما جاء في المزهر –1/285) : (ذكر بعض أهل اللغة أن الجاه مقلوب من الوجه واستدل على ذلك بقولهم وجه الرجل فهو وجيه إذا كان ذا جاه، ففصلوا بين الجاه والوجه بالقلب) . وجاء في مفردات الراغب (وقال بعضهم الجاه مقلوب عن الوجه، لكن الوجه يقال في العضو، والجاه لا يقال إلا في الحظوة) ، والمعنى واحد. وفي الهمع (2/224) : (قال أبو حيان: القلب تغيير حرف مكان حرف بالتقديم والتأخير) وكل ما جاء به من الأمثلة على اتفاق المعنى بين اللفظين. وقد ذهب بعض الباحثين إلى احتمال تغير المعنى في القلب. قال جرجي زيدان في كتابه (الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية/ 59) : (القلب هو عبارة عن تقديم أو تأخير أحد حروف اللفظ الواحد مع حفظ معناه أو تغيره تغيراً طفيفاً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 وقال الشيخ عبد القادر المغربي في كتابه (الاشتقاق والتعريب) : (القلب ويقال له الاشتقاق الكبير، وهو أن يكون بين اللفظين تناسب في اللفظ والمعنى دون الترتيب مثل فعل جبذ المشتق من مادة الجذب. فإن الحروف في المشتق هي عينها في المشتق منه. والمعنى فيهما متناسب/ 14) وأردف: (ومهما كان معنى جذب وجبذ واحداً فلا بد أن يكون في أحدهما شيء من المعنى لم يلاحظ في الآخر/ 15) . قلت الذي أريد بالقلب هو وحدة المعنى كما أسلفنا، خلافاً لما جاء به زيدان، وقد أوردنا عليه الشواهد وأقوال الأئمة. وأما نزوع المغربي إلى تعريف القلب والاشتقاق الكبير بقوله (القلب ويقال له الاشتقاق الكبير، وهو أن يكون..) ففيه نظر. فالاشتقاق الكبير غير القلب كما أوضحنا، والتعريف الذي جاء به إنما هو الاشتقاق الكبير دون صاحبه، وأما مثال (جذب وجبذ) فسيأتي تفصيل الكلام فيه. وقد يمم الأستاذ عبد الله أمين في كتابه (الاشتقاق) سمت المغربي وقصد قصده في التعريف، وقد أسمى الاشتقاق الكبير بالكبار، فقال: (الاشتقاق الكبار هو انتزاع كلمة من كلمة أخرى بتغيير ترتيب بعض أحرفهما بتقديم بعضها على بعض مع تشابه بينهما في المعنى، واتفاق في الأحرف) ، وأردف (ويسمى هذا الاشتقاق قلباً لغوياً تمييزاً له من القلب الصرفي الإعلالي.. وقد أسميت هذا القلب، القلب الاشتقاقي لأنه من مباحث علم الاشتقاق، وأكثر ما يكون القلب في الكلمات الثلاثية وبصيغتين في المادة الواحدة مثل جذبه وجبذه إذا شده إليه، وشج رأسه وجشه إذا كسره) . وقال في موضع آخر: (الاشتقاق الكبار أو الأكبر أو القلب اللغوي.. أن تعمد إلى كلمة فتشتق منها كلمة فأكثر بتقديم بعض الحروف على بعض دون زيادة أو نقص، مع الاتحاد في المعنى، وأكثر ما يكون الاشتقاق الكبار أو القلب في الكلمات الثلاثية، وأول من عرّفه إمام الأئمة أبو الفتح عثمان بن بزجني../376) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 وهكذا جعل الأستاذ أمين القلب والاشتقاق الكبير سيَّين وهما متغايران كما رأيت. وقد قال بتشابه المعنى بين التقليب والتقليب أو المقلوب والمقلوب عنه: (مع تشابه بينهما في المعنى) . ثم عدل عن ذلك فقال بوحدة المعنى فيهما قائلاً (مع الاتحاد في المعنى) ، فأوقع القارئ في حيرة وجعله من أمره على تردد. ولست أدري هل ذهب أحد إلى اتفاق المعنى في تقاليب المادة في الاشتقاق الكبير، وهل جاء أن كلم مثل ملك في معناه، وملك مثل كمل في فحواه، وقوس مثل سوق، وسلم نحو ملس.. وإنما تتجلى وحدة المعنى في القلب دون الاشتقاق الكبير، كقولك يئس وأيس، وأشفى وأشاف، واضمحل وامضحل واكفهر واكرهف.. وإذا كان ابن جني قد أوهم بـ (وحدة المعنى) في تقاليب الثلاثي حين قال (1/526) : (فهو أن تأخذ أصلاً من الأصول الثلاثة فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنى واحداً) فقد قصد بقوله هذا ما تردّ إليه دلالات هذه التقاليب، على اختلافها، من جامع معنوي واحد. قال ابن جني (1/ 527) : (وذلك أنا عقدنا تقاليب – الكلام – الستة على القوة والشدة، وتقاليب – القول على الإسراع والخفة) وهو جلي لا وجه فيه للبس أو إبهام. 6- المقلوب وما جاء على هيئته ذهب كثير من الأئمة إلى بيان الفرق بين ما تصوروا أنه مقلوب، وما قدروا أنه جاء على هيئة المقلوب، وليس هو كذلك. ومثلوا للأول بـ (آن) فهو مقلوب من (أنى) ، و (أيس) فهو مقلوب من (يئس) . ومثلوا للثاني بـ (جذب وجبذ) فكل منهما أصل، وليس أحدهما مقلوباً من صاحبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 فإذا جاء لفظان بمعنى وليس بينهما في التركيب إلا تغيير مواضع الأحرف نُظر، فإذا أمكن أن يعتد أحدهما أصلاً والآخر فرعاً يحمل عليه، كان الفرع مقلوباً من الأصل. ولا يكون ذلك إلا بدليل ثابت. وأظهر دليل يمكن التعويل عليه أن يتسع التصرف في أحدهما ويضيق في صاحبه فيكون أكثرهما تصرفاً هو الأصل والآخر مقلوباً عنه. قال ابن جني في الخصائص (1/467) : (وذلك كقولهم أنى الشيء يأني، وآن يئين. فآن مقلوب عن أنى، والدليل على ذلك وجود مصدر أنى يأني وهو الأني، ولا تجد لآن مصدراً كما قال الأصمعي) . وأردف: (فلما انعدم من – آن – المصدر الذي هو أصل الفعل علم أنه مقلوب عن أنى يأني إنى) . ثم استدرك فقال: (غير أن أبا زيد قد حكى لآن مصدراً وهو الأين، فإن كان الأمر كذلك فهما إذاً أصلان) . أقول: يعني هذا أنه إذا استكمل كل تصرفه كان كلاهما أصلاً ولم يكن أحدهما مقلوباً عن صاحبه، ولو اتحدا معنى. وجعلوا (أيست من كذا) مقلوباً من (يئست) . ذلك أنهم حكوا لـ (يئس) مصدراً هو (اليأس واليآسة) ولم يحكوا لـ (أيس) مصدراً من لفظه قط، فثبت أنه مقلوب من (يئس) على أنهم أتوا لقلب (أيس) بدليل آخر. وذلك أن من حق (أيس) في الأصل أن يُعلّ فتقلب ياؤه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فتقول (آس) كما تقول (خاف) ، و (إست) كما تقول (خفت) . فبقاء الفعل صحيحاً على (أيس) دون إعلال، نمّ على أنه مقلوب. قال الرضي في شرح الشافية (1/23-24) : (ولعل مراده أنه إذا كانت الكلمتان بمعنى واحد ولا فرق بينهما إلا بقلب حروفهما، فإن كانت إحداهما صحيحة مع ثبوت العلة فيها دون الأخرى كأيس مع يئس، فالصحيحة مقلوبة من الأخرى) . وقد قصد بقوله (وإن كانت إحداهما صحيحة) ، أيس، فقد بقيت صحيحة غير معلَّة. على أنه ليس (صحة الكلمة) في الأصل، أي عدم إعلالها، نصاً في كونها مقلوبة، كما أشار إليه الرضيّ في شرحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 قال ابن جني: (ومن المقلوب: امضحل وهو مقلوب من اضمحل، ألا ترى أن المصدر إنما هو على اضمحل، وهو الاضمحلال، ولا يقولون: الامضحلال. وكذلك قولهم: اكفهرّ واكرهف، فالثاني مقلوب عن الأول لأن التصرف وقع على اكفهر ومصدره الاكفهرار، ولم يمرر بنا الاكرهفاف) . فإذا تصرف اللفظان تصرفاً واحداً فقد قضوا بأنهما أصلان، وليس أحدهما مقلوباً عن الآخر، وهو ما عنيناه بقولنا إنه جاء على هيئة المقلوب وليس هو بالمقلوب. قال ابن جني (1/246) : (فمما تركيباه أصلان لا قلب فيهما قولهم جذب وجبذ، وليس أحدهما مقلوباً عن صاحبه، وذلك أنهما جميعاً يتصرفان تصرفاً واحداً نحو: جذب يجذب جذباً فهو جاذب، والمفعول مجذوب. وجبذ يجبذ جبذاً فهو جابذ والمفعول مجبوذ) وأردف: (فإن جعلنا مع هذا أحدهما أصلاً لصاحبه فسد ذلك لأنك لو فعلته لم يكن أحدهما أسعد بهذه الحال من الآخر. فإذا وقفت الحال بينهما ولم يؤثر بالمزية أحدهما وجب أن يتوازيا) . وجاء في هامش الصحاح: (وأما ما يسميه الكوفيون نحو جبذ وجذب فليس هو بقلب عند البصريين، وإنما هو لغتان. وقال السخاوي في شرح المفصل: إذا قلبوا لم يجعلوا للفرع مصدراً لئلا يلتبس نحو يئس يأساً وأيس مقلوب منه، ولا مصدر له، وإذا وجد المصدران حكم النحويون بأن كل واحد من الفعلين أصل، وليس مقلوباً عن الآخر نحو جبذ وجذب. وأهل اللغة يقولون إن ذلك كله مقلوب) . وقد أجمل التهانويّ صاحب (كشاف اصطلاحات الفنون) كلام الأئمة في ذلك (2/1171) فقال: (ويطلق القلب عندهم على تقديم بعض حروف الكلمة على بعض، ويسمى قلباً مكانياً، نحو آرام فإن أصله أر آم، كما في الشافية وشرحها للرضي، وعلامة صحة لقلب المكاني أن يكون تصاريف الأصل تامة بأن يصاغ منه فعل ومصدر وصفة، ويكون الآخر ليس كذلك، فيُعلم من عدم تكميل تصاريفه أنه ليس بناء أصلياً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 فدلّ هذا على أن جمهرة المحققين من النحاة على أنه إذا استوت الكلمتان في التصرف كانت إحداهما لغة في الأخرى وليست مقلوبة عنها كما هو الحال في جبذ وجذب. 7- كيف يستدل على صحة القلب؟ يُفهم مما ذكر أن في الحكم على (جذب وجبذ) مذهبين: الأول: أنه مثال للقلب وأن جذب هو الأصل فهو المقلوب عنه، وجبذ هو الفرع فهو المقلوب، وعليه صاحب الصحاح. قال الجوهري: (الجذب المدّ، يقال جذبه وجبذه على القلب) . فإذا صحَّ هذا ثبتت أصلية (الجذب) وانتفى (الجبذ) بناء أصلياً. قال صاحب المقاييس (الجيم والباء والذال، ليس أصلاً لأنه كلمة واحدة مقلوبة، يقال جبذت الشيء: جذبته) . والثاني: أنهما أصلان وليس أحدهما مقلوباً عن الآخر. فإذا صحَّ هذا ثبتت أصلية (الجذب) و (الجبذ) ، وعليه ابن جني، وقد استدل على ذلك بأن العرب قد تصرفت فيهما تصرفاً واحداً. وأخذ بهذا كثيرون، وعليه جمهرة النحاة. وفي التهذيب أن الجبذ لغة تميم. وأنت ترى مما تقدم أن الأئمة لم يعولوا في الحكم هاهنا على (المعنى) ولم يتطرقوا إليه. ولست أجازف في القول إذا عجت بـ (المعنى) فاتخذته معياراً يقتاس به. وإني لأذكر ما قاله أبو حيان التوحيدي في كتابه (البصائر والذخائر – 1/175) حول تعويل النحاة في تحقيق مسائلهم على المعنى. قال أبو حيان: (سمعت شيخاً من النحويين يقول المعاني هي الهاجسة في النفوس المتصلة بالخواطر والألفاظ ترجمة للمعاني. فكل ما صحّ معناه صحّ اللفظ به، وما بطل معناه بطل اللفظ به) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 فالأصل عندي فيما جاء على القلب أن يتحد فيه معنى المقلوب والمقلوب عنه كما أسلفنا، فإذا صحّ هذا فيما حكاه الأئمة عن معنى (الجذب والجبذ) ، كان الجبذ مقلوباً من الجذب. والأكثر في المقلوب أن يقصر عن المقلوب عنه في تصرفه. بل الغالب أن تسقط تصاريفه فتبقى منها بقية تدل عليه لمجيئه على غير الأصل. ولكن ليس يمتنع أيضاً أن يأتي القلب بلفظ فيشيع ويجري على الألسنة فيستتم تصرفه أيضاً، وتكون مطابقة معناه للأصل شاهداً على صحة القلب، كما تكون كثرة التداول دليلاً على أصلية هذا الأصل. والغالب فيما حكاه الأئمة أن الجذب والجبذ بمعنى. وإذا اختلف المعنيان، والأصل في اللفظين إذا اتحدت حروفهما واختلفت فيهما مواقعها أن يختلف معناهما، كانا أصلين متساويين في تصرفهما، ولكن إذا صحَّ في اللغة أن يتعاقب على المعنى مثل هذين اللفظين فيكون أحدهما لغة في الآخر، كما حكي عن الجبذ أنه لغة تميم، فليس ذلك هو الغالب والأصل، ويرد ذلك إلى اختلاف اللهجات. وقال الرضي في شرح الشافية (1/24) : (فإن ثبتت لغتان بمعنى يُتوهم فيهما القلب ولكل واحدة منهما أصل كجذب جذباً وجبذ جبذاً، لم يحكم بكون إحداهما مقلوبة من الأخرى) . وكلام الرضي هذا ظاهر الاستقامة إذا كان الحكم بأصلية اللفظين قد ترتب على استيفائهما التصرف، ولكن يختلف الأمر إذا ذهبنا إلى أن وحدة المعنى فيهما هي المعيار في الحكم بصحة القلب واستبعاد خلافه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 وقال المغربي في كتابه (الاشتقاق والتعريف/ 15) : (ويجري التنبيه على شيئين: الأول أن الكلمة الأكثر شيوعاً وتداولاً تجعل الأصل المشتق منه، والأخرى الأقل شيوعاً تجعل مشتقاً. فمن ثم كان الجذب هو الأصل والجبذ هو الفرع المشتق،.. والثاني أنه مهما كان معنى جذب وجبذ واحداً فلا بد أن يكون في أحدهما شيء من المعنى لم يلاحظ في الآخر) . أقول: إذا ثبتت صحة القلب في (جذب وجبذ) فلا شكّ أن مدار الحكم بأصلية الأصل، على شيوع اللفظ. لكن هذا مرهون باتحاد المعنى لا باختلافه. وخلاصة الأمر أنه إذا كان الاشتقاق الكبير ذريعة إلى المد اللغوي خلال مراحل ارتقاء اللغة وتكاملها، وإن لم يطرد في صوره أو يتفق في كل ثلاثي، وأنه جاء على الأصل حين تعاقبت صور المادة فيه على جنس من المعنى لاتحاد حروفها، وحين اختلفت معاني هذه الصور لاختلاف مواقع حروفها، أقول إذا صح هذا في الاشتقاق الكبير فإن القلب قد عري من ذلك البتة. وقد جاء على غير الأصل، وكان النحاة منه على تردد ومن أمره على خلاف. وقد أبطله ابن السكيت وأثبته البصريون ولكن في مشتقات المعاني كما في (جرف هار وهائر) دون الأفعال والمصادر، خلافاً للكوفيين. وكأن مرد القلب إلى تزاحم أحرف الكلمة وتسابقها على اللسان، كما قال العلايلي في مقدمته (214) . وإذا كانت العربية قد أقرته حيناً كما قال أبو حيان (الهمع – 2/225) فقد أسقطت شيئاً من تصاريفه في الغالب، وبقيت منها بقية تدل عليه. هذا و (هائر) من هار الجرف يهور هوراً فهو هائر. وقد قلب فقيل (هارٍ) ، خفضوه في موضع الرفع. وليس ثمة (هرا) بهذا المعنى فيكون منه (هار) ، وإنما هو مقلوب من (هائر) ، كما كان (شاكي السلاح) مقلوباً من (شائك السلاح) . وقد قيل في تصغير (هار) هويئر، فردوه إلى أصله لأن هذا تصغير (هائر) . أما تصغير (هار) على لفظه فهو (هوير) لا (هويئر) ، كما قالوا في تصغير (غاز) غويز و (قاض) قويض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 8- أيقع القلب اصطلاحاً في الثنائي المضاعف قصدنا بالمضاعف ما تآلف من حرفين ضوعف ثانيهما، نحو: (درّ) و (برّ) .. وقد أسمى الخليل في معجمه (العين) نحو (درّ) بالثنائي المضاعف لتألفه من حرفين، ولو أصبحا بمضاعفة الأخير ثلاثة أحرف. كما أسمى المضاعف (دردر) ثنائياً لتكرر الحرف فيه، وجعل (دثر ودرن ودفر) ونحوها هو الثلاثي. وجاء في حاشية الجزائري على خطبة الكافي (47/48) : (وقد التزم الراغب الأصفهاني أن يبدأ بالمضاعف.. وكأن لذلك سببين: أحدهما أن عنوان الفصل ينطبق على المضاعف.. فإن دخول – برّ – في فصل الباء مع الراء، أظهر من دخول برأ.. والثنائي مقدم على ما فوقه وهو سبب لفظيّ.. والثاني: هو أن المضاعف هو الأصل في كل معنى، وهذا سبب معنوي جدير بالمراعاة) . فإذا استقرّ هذا فهل ثمة ما يمنع أن يجري القلب (باصطلاحه المعروف) في المضاعف خاصة؟ أقول يندر ذلك لسببين: الأول أن شرط القلب أن يتعاقب المقلوب والمقلوب على معنى، فكيف يصح هذا واختلاف مواقع الحرفين فيهما مؤذن باختلاف المعنيين؟ الثاني: إذا كان مردّ القلب غالباً إلى تزاحم الأحرف على اللسان فهل يصحّ أن يكثر ذلك فيما تألف من حرفين؟ وقلما مثل الأئمة للقلب بالمضاعف حقاً. ولكن إذا تجاوزنا القلب بحدّه الاصطلاحي المذكور وعنيناً به معناه اللغوي فأين يمكن أن تقع دلالة المقلوب عنه من دلالة المقلوب، إذا كان اتحاد حرفيهما موجباً لاتفاق دلالتيهما وكان اختلاف موقعيهما مؤذناً بتغايرهما؟ 9- العلاقة بين دلالة اللفظ ومقلوبه هل هي علاقة تضاد؟ ذهب أحد الباحثين في الدورة العالمية الخامسة (للسانيات) ، وقد عقدت بدمشق في صيف عام (1980م و1399هـ) ، إلى أنك إذا ترصدت اللفظ ومقلوبه عامة ألفيتهما على معنيين متضادين. والباحث هو الأستاذ محمد عنبر، وقد كتب في تقرير مذهبه هذا رسالة مطولة تقع في نحو ستمائة صفحة، وجعل عنوانها (الحرف العربي أو ديالكتيك الألفاظ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 وقد أهدى إلى مجمع اللغة العربية بدمشق نسخة منها وطالب بإعمال النظر فيها والإيعاز في طبعها. ولا أعلم أن المجمع قد فرق له رأي فيما جاء به الباحث، ولعله يفعل ذلك فيعلنه في عدد قادم من مجلته الفصلية. أقول خلوت إلى الكتاب واستفضلت له شيئاً من وسعي فتصفحت بعض ما فيه وابتغيت معالمه وتلمست سره، فأكبرت جهد الأستاذ وأعظمت ما تكلف في تحقيق مطلبه من صعد، وتحمل في التماس الوسائل إليه من نصَب ورهق. وإذا كنت لم أمل إلى مذهبه أو أنزع إلى مقالته، فلا شكّ أنه أعدّ للأمر عدته وتذرع له بذرائعه وتآدى بأداته. وفي ذلك ما فيه من خدمة العربية. وإنما يستبين خصوص اللغة بكثرة البحث ويتكشف سرها ومكنونها بموالاة الدرس. ولم يمنعني من متابعة المؤلف ومجاراته أنه قد جنح إلى مذهبه طريف تفرد به فلم ينح فيه نحو أحد من الباحثين فيسلك طريقته ويقفو أثره ويطأ مواضع قدمه، فقد يهدي جهد الباحث، فيما يطلب، إلى ما لم يسبق به حدس، ويقتاد إلى ما لم يسنح في فكر أو يخطر في بال. لكني تدبرت ما جاء به من أدلة، وروأت فيما ساق من حجج وبسط من شواهد، فألفيت فيها موضعاً للقول ومحلاً للنظر، فأردت أن أدلي في ذلك برأيي، استقصاء للبحث في باب يتسع فيه القول وتتشعب وجوهه. -وطأ المؤلف بادئ الرأي لبحثه فذهب إلى أن في كل لفظ وجهين مجتمعين، فهو من حيث الصوت حركة طبيعية.. ومن حيث المعنى سمة إنسانية. ومن حيث أنه صوت ومعنى يجمع الطبيعة والإنسانية جميعاً (ص/5) . وكلامه هذا سديد. وقد بسطت القول فيه، في مقال عقدته في المجلة حول نشوء اللغات عامة، ومذهب الأرسوزي فيه خاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 -وتحدث عن الثنائي والثلاثي في نشوء العربية وتناميها فقال: (فالثنائي هو الأصل في العربية، والخلية الأولى موطن التشابه الأول في الاحياء. أما الثلاثي فهو الذي يؤرخ وجه الإنسانية فيها. فالألفاظ الثلاثية تعبر عن السمة الإنسانية السوية التي جاءت في أحسن تقويم.. والثلاثي قائم على جهة الثنائي الأصل، ولم يخرج عليها. وقد اعتبره أهلها أصلاً لكل ما يقبل التصرف فيها / 4) . وكلام المؤلف فيه واضح، وقد طوينا على ذلك باباً من مقالنا السابق، في بسط هذا الموجز وتقريب بعيده. -وأجرى المؤلف الكلام على المعنى الذي يعد (أصلاً) في المادة، فتتشعب عنه دلالاتها فقال: (ولعل الأصول الأولى في اللغات بمثابة العناصر الأولى في المادة، فكما أن من الممكن أن تتولد من هذه العناصر أصناف لا حد لها من التراكيب، فإن من الممكن أيضاً أن تتولد في اللفظ الواحد معان لا نهاية لها بطريق المجاز. وما المعاني الواردة في المعجمات تحت كل مادة من موادها إلا مجازات يمكن أن تزداد زيادة لا حدود لها) ، وأردف: (والذي دعا إلى التقيد بما ورد من معان في كتب اللغة أن هذه المعاني جاءت موصولة الرحم بأصلها، وثيقة الصلة بأصلها الأول الذي صدرت عنه وبنيت عليه. وقد صدرت.. صدور الماء من الينبوع/ 14) . قلت كلام المؤلف في هذا سديد، وهو متصل بما عقدناه في المجلة حول تدرج معاني الكلم، والاشتقاق. -وقال المؤلف: (وإذا جاء عنهم أن الأصل في ذلك هو كذا، فإن هذا الأصل المنصوص عليه لا يعدو أن يكون من باب التقريب، ولإيضاح وجهة اللفظ أكثر مما هو من باب التحديد والتعيين/ 14) . ورأي الأستاذ في هذا وجيه أصيل لا غبار عليه. ولكن كيف السبيل إلى (الكشف عن الأصل) في كل مادة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 -التمس المؤلف إلى بغيته في ذلك وسيلة طريفة ومساغاً جديداً فقال: (والطريق إلى معرفة الأصل هو معرفة الأضداد/ 15) . وهو لا يعني بالأضداد ما اتفقت وجهة الأئمة فيه أو غلب رأي جمهورهم أو أجمع، على الأخذ به، بل قصد شيئاً آخر فقال: (فهل هذه الأضداد هي الأضداد المعروفة والموجودة في كتب اللغة والتي هي في مثل قولهم: العلم ضد الجهل، والشك ضد اليقين، والظلام ضد النور) ، وأردف: (ان هذه الأضداد ليست هي الأضداد المقصودة هنا وهي ليست بالأضداد القائمة في الألفاظ ذاتها، ويمكن أن يقال عنها انها أضداد تقليدية. وقد يعجب القارئ من هذا الكلام. فالموضوع ليس إنكار التضاد القائم بينها، لأن ما نحن بصدده إنما هو الأضداد المتقابلة التي تؤلف السداة واللحمة في نسيج هذا الوجود القائم. والأضداد المتعارف عليها ليست كذلك/ 85 و16) . فهو قد تذرع إلى ضبط معنى الألفاظ عامة بالبحث عن أضدادها المتقابلة فقال: (وكذلك يمكن تحديد معنى الألفاظ كلها في هذه اللغة بمقارنتها بأضدادها.. وبهذه المقارنة يكون الوصول إلى كلمة الفصل في الموضوع/ 27) . -وهو لا يروم بالمعنى (الأصل) ما أراده الأئمة، وإنما يبغي به ما أسماه (وجهة المعنى أو اتجاهه) . فانظر إليه يقول: (هل لهذا المعنى – الأصل – في صورته الأولية وجود مستقل عن الوجهة، أم أن وجوده في الوجهة ذاتها، أو هو الوجهة ذاتها/ 46) . ويقول أيضاً: (فاللفظ الأصل يتجلى وجوده في اتجاهه/ 47) . -ويذكِّر هذا بمقالة أصحاب المنطق في أن لكل قضية مادة ووجهة. فمادة القضية كيفيتها، أما وجهتها فهي نسبتها إلى سلب أو إيجاب. وإذا كان الاختلاف بين الكيفيتين يصير إلى التضاد، فالاختلاف بين الوجهتين يؤول إلى التنافي. والتقابل بين السلب والإيجاب، أقوى من التقابل بين المتضادين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 -ولا يتأتى أو يتسنى الكشف هنا عمّا أرده المؤلف بقوله (الأضداد المتقابلة) وقوله (وجهة المعنى أو اتجاهه) حتى نعرض لأمثلته التي ساقها في تأييد مذهبه وتوثيق حجته، فنبلو سرها ونتعرف كنهها وفحواها. -وقد اقتصرنا فيما أوردناه من كلام المؤلف على ما عرض فيه للناحية اللغوية، وأقصرنا بل أمسكنا عمّا نحا فيه نحو الفلسفة لئلا يعدل بنا عمّا نحن فيه من البحث اللغوي الصرف، فيلتبس على القارئ وجهته فيكون منه على غمة وحيرة. من ذلك قول المؤلف: (اليوم في مجلس كبار علماء الطبيعة أنهم يقتفون في مختبراتهم أثر اكتشاف جديد هائل.. ألا وهو اكتشاف ما يسمى – مضاد المادة – ويعني وجود مضاد المادة فناء لكل مادة، والعكس صحيح في حالة تواجههما. ويؤمن كثير من العلماء إيماناً عميقاً بوجود مضاد المادة.. حتى انه يظن أن الضدين – المادة ومضاد المادة – قد خلقا في آن واحد، ساعة خلق هذا الكون. ومن نفس الأصل، وربما كان لها نفس تطور المادة، ولكنها لا تحمل شيئاً من صفات المادة المتعارف عليها. وتركيبها الفيزيائي والذري يماثل تماماً تركيب المادة التي نعرفها، ولكن بطريقة معاكسة../ 29) . وقوله: (في الملاحظة الآنفة الذكر اتساق مع منطق الجدلية التي ينطق بها هذا الحرف العربي ويعلنها نظام ألفاظه في تركيب كلماته. فاللفظ يحوي ضده في ذاته، وضده في ذاته ذو اتجاه يعاكس اتجاهه../30) . وخير ما نستعين به لإيضاح مذهب المؤلف وإماطة حجابه والإفصاح عن مضمونه، أن تأتي بما أورده من الأمثلة مستظهراً بها على سداد منهاجه وصدق دعواه، فنعمد إلى تأملها واختبارها لنبت فيها حكماً ونبرم رأياً. 10- دلالة المقلوب في الثنائي المضاعف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 -مثل المؤلف في (محاضرته) للمضاعف بـ (جنَّ ونجَّ) فقال: (وهذا الكشف الذي يظهر أوّل مرة في العالم سبق للعلاّمة ابن جني أن قال ان جميع تقليبات اللفظ تتجه إلى صفة واحدة، أي أن لفظ – جن – يتجه في جميع تقليباته إلى الستر) وأردف (ولو قال إن جّنَّ تعني الاستتار، ونجّ تعني الظهور من قولهم تجّت القرحة إذا خرج منها ما فيها من قيح، وبرز، وعمم ذلك على ألفاظ العربية لكان للأمر شأن آخر، ولكنه لم يصل إلى ذلك. وهذا الكشف ينتهي إلى قانون: ضد اللفظ قائم فيه. والجديد فيه جانبه اللغوي. أما القانون نفسه فهو معروف قديماً) . أقول: فيما حكاه المؤلف في (محاضرته) عن ابن جني نظر. وهو لم يذكر الموضع الذي نقل منه هذا القول. ذلك أن المقصود هاهنا مشتقات اللفظ لا تقاليبه. فالتقاليب عند ابن جني كما رأيت هي الصور الحاصلة بتغيير مواضع الأحرف في المادة، وهي للثلاثي ستة تقاليب، أما للمضاعف فتقليبان لا ثالث لهما. وحكى المؤلف (في كتابه/ 115) نحواً من هذا عن ابن فارس في المقاييس، والحكاية صحيحة. قال المؤلف: (ولكنه حين قال: إن الجيم والنون تدلان أبداً على الستر، قد قال نصف الحقيقة فقط، فهما كذلك حين تكون الجيم أولاً والنون آخراً. أما حين ينعكس الأمر وتكون النون أولاً والجيم آخراً، فإن الآخر ينعكس وتصبح – ن ج – للبيان والظهور) . والذي يعنينا من المسألة الجانب اللغوي. فـ (جنّ) تعني (ستر) ، لا شك في ذلك. ففي الصحاح: (جننت الميت وأجننته واريته، وأجننت الشيء في صدري أكننته. وأجتنت المرأة ولداً، والجنين الولد ما دام في البطن) . ولكن ما الذي يعنيه مقلوب (جنَّ) وهو نجَّ) ؟ قال صاحب المقاييس: (النون والجيم أصل يدل على تحرك واضطراب وشبيه ذلك) ، ثم قال: (ونجَّت القرحة سالت) . ولم يذكر للمادة أصلاً معنوياً آخر. والذي سال وتحرك دم الجرح أو مدته أي قيحه. قال الجوهري: (نجَّت القرحة تنجُّ بالكسر نجيجاً سالت بما فيها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 وقال ابن القوطية: (ونج الجرح نجيجاً سال دمه) وجاء في التاج (ونجّ أسرع فهو نجوج) وإذا التبس معنى المضاعف الثنائي عُوّل على المضاعف الرباعي، كما فعل المؤلف نفسه في مواضع كثيرة من أمثلته، فما معنى (تجنج) ؟ قال الجوهري في الصحاح: (نجنجت الرجل حركته.. ونجنج إبله إذا رددها على الحوض.. والنجنجة ترديد الرأي.. والنجنجة الجولة عند الفزع) . ونحو من ذلك ما جاء في اللسان والتاج. ففي اللسان (النجنجة التحريك والتقليب، ويقال نجنج أمرك فلعلك تجد إلى الخروج سبيلاً) . وفي التاج: (نجنج إذا حرّك وقلب، وتنجنج: تحيَّر واضطرب) . فـ (نَجَّ) إذاً لا يعني ظهر ولا برز، كما تراءى للمؤلف، وإنما يعني تحرّك واضطرب وسال وجرى وعدا، هذا معناه وهذه وجهته. ونجنجه حركه وقلبه. فكيف يكون (نج) هذا مضاداً لـ (جنَّ) الذي يعني (الستر) أو جارياً في عكس وجهته؟ ولا شك أن باب الأمر في هذا تحقيق أصل المعنى ووجهته، لا ما بدا منه وسنح أول وهلة. أو ليس حد الأصل أن يتأتى رد الفرع إليه؟ فإذا كان أصل المعنى في (نج) برز وظهر، كما ذهب إليه المؤلف، فهل يتسنى أن تعزو إليه (نجَّ: أسرع فهو نجوج، ونجنج إذا حرّك وقلَّب، وتنجنج إذا تحيَّر واضطرب) ؟ أقول هذا إذا تذرعنا باستقراء معاني كل من (جنّ) و (نجَّ) . فإذا عجنا بوسيلة أخرى هي (التحليل) فحاولنا تدبر المعنى الذي يمكن أن يكون عليه من اللفظين بالعودة إلى حرفيهما ومراعاة موقع كل من صاحبه، خلصنا إلى ما وراء الدلالة التي عزيت إليهما. ولكن لا بد هاهنا من التعويل على (الحدس) والحدس كما لا يخفى أول الكشف، والسبيل إليه. فإذا توسلنا بالتحليل القائم على الحدس (وحدسُنا هذا مسنون لا عبث فيه ولا رجم) كان لا مناص من معرفة الدلالة الأولى للجيم والنون، وما يترتب على تعاقب هاتين الدلالتين في تأليف معنى اللفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 أما (الجيم) فيبدو أنها تعني (التحرك) كما يتضح من (أجّ وبجّ وحجّ ودجّ ورجّ وزجّ وضجّ وعجّ ومجّ ونجّ وهجّ) 2. وأما (النون) فتدل على الستر والخبء والتطامن والضعف، كما يتضح ذلك من (أن وجن وحن ودن وذن ورن وشنّ وصنّ وضن وظن وغن وكن ومن وهن) 3. وسترى أن الحرف الثاني، المشدد، هو الذي يطغى على معنى اللفظ، وإن شف هذا المعنى عن دلالة الحرفين جميعاً، ومن ثم أتينا للاستدلال على معنى الجيم بما انتهى من المضاعف بهذا الحرف، وعلى النون بما ختم من المضاعف بالنون. فمعنى (جن) على هذا أن شيئاً متحركاً قد اختبأ واستتر، وهو واضح في معنى (الجنين) و (الجنّ) ، ومعنى (نجّ) أن شيئاً مخبوءاً مستوراً قد تحرك، وهذا جلي في قولك (نجت القرحة) إذا سالت بصديدها أو دمها. وليس معنى كل من اللفظين مناقضاً لمعنى الآخر، وإنما اختلف تعاقب دلالتي المحرفين في كل منهما، فسبق في (جن) الشيء المتحرك وتبعه ما دل على أنه مخبوء وطغى (الخبء) على معنى اللفظ، كما تقدم في (نجّ) الشيء المخبوء وتبعه ما دلّ على أنه متحرّك، وغلب التحرك على معناه. ولكن هل يتأتى أن يكون المقلوب مضاداً للمقلوب عنه؟ أقول يتراءى هذا إذا تألف اللفظ المضاعف من حرفين يدل كل منهما على نقيض الآخر أو نحو منه. فالراء مثلاً يدل على اليسر والجري، والدال تدل على تشدد وتمنع وحيلولة. فقولك (درّ) يدل على أن شيئاً متمنعاً قد استيسر وجرى، وقد جعل المؤلف له معنى (العطاء) . و (ردّ) يدل على شيء جارِ مستيسر، حال ما اعترض جريه واستيساره، وقد جعل له المؤلف معنى (المنع) . ولكن هل يعني هذا أن (ردّ) في نقيض (درّ) في كل حال، كما تراءى للمؤلف؟ أقول لا، إذ ليس في قولك (رددت الأمانة إلى أهلها، أو رددت الأمر إلى نصابه) منع أو استعصاء، وإنما ثمة حيلولة دون بقاء الأمانة في غير أهلها، والأمر في غير نصابه. فلا وجه إذاً لإطلاق التضاد بين اللفظين ولو تضاد في الدلالة حرفاهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 أما قولنا إن الدال تدل على التشدد والتمنع والحيلولة فذلك معنى جدّ وسدّ وصدّ وكدّ وندّ.. وأما أن الراء تدل على الجري والاستيسار فذلك معنى برّ وترَ وثرّ وكرّ وجرّ ومرّ ... ومثال آخر هو (لفّ وفلّ) . فقد جاء في المقاييس (اللام والفاء أصل صحيح يدلّ على تلوّي شيء على شيء، يقال لففت الشيء بالشيء) . وفي الأفعال لابن القوطية: (ولففت الثوب وغيره لفاً جمعته) . فاللف في الأصل أن يُضم بعض الشيء إلى بعض أو يضم بشيء آخر. ففي الأساس: (لف الثوب وغيره، ولف الشيء في ثوبه) . وإذا كان (اللف) ضم الشيء بعضه إلى بعض وطيَّه، فأي معنى يتجه في عكسه أو يقال في ضده؟ أو ليس (نشر الشيء وبسطه) ؟ ففي مفردات الراغب (قال تعالى جئنا بكم لفيفاً أي منضماً بعضكم إلى بعض.. وقوله وجنات ألفافاً أي التف بعضها ببعض) . وفيه (نشر الثوب والصحيفة والنعمة والحديث: بسطها) ، ومنه البساط. وفي الأفعال لابن القوطية: (نشرت الثوب تقصت طيه) ، ولعلّ الصحيح: نقضت بالضاد. قال المؤلف: (ولو نظرت إلى لفظ، فلّ الشيء، التي تعني أن الشيء يكون ملفوفاً فتفلَّه، وتأملت في عكسها، لفّ، التي تشير إلى أن الشيء كان مغلولاً فلففته، ترى أن وجودهما كامن في الاتجاه/ 74) . أقول قد تتذرع بتأويل فتقول لففت الشيء بعد فلَّه، وأن تعني باللف أن تضم بعضه إلى بعض ضماً شديداً يقارب بين طرفيه، وتتسع أيضاً فتقول فللت الشيء بعد لفه فيباعد الفلّ بين طرفيه وينتقض اللف، ولكن هل هذا هو الأصل في معنى كل منهما ووجهته، وإنما ينقض (اللف) ويجري منه مجرى الضد النشر والبسط، وينقض (الفلّ) ويقع منه موقع العكس الجبر والرأب واللأم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 وإذا عدنا إلى التحليل وكشفنا عما وراء (فلّ) و (لفّ) ، استبان أن (الفاء) ، يدل على رقة واستدارة، كما هو معنى (حفّ وزفّ ورفّ وشفّ وكفّ ولفّ وهفّ) 4. وأن اللام يدل على كسر وضعف ونحو ذلك، كما هو معنى (أل وتل وجلّ وحلّ وزلّ..) 5، فإذا صحَّ هذا كان معنى (فلّ) أن شيئاً رقَّ واستدار، أصابه كسر، ومن ثم قال الجوهري (الفل واحد فلول السيف) وقال ابن القوطية (فللت حدّ السيف) ونحو ذلك ما جاء في المظان، ومعنى (لفّ) أن شيئاً كسر أو وهن فاستدار به شيء آخر، وهو ما يعنيه اللف. ولا يخفى أن الغلبة في معنى كل من اللفظين للحرف الثاني فعليه المعوّل، ومن ثم كان النص فلّ إذا كسر، ولفّ إذا استدار شيء بآخر وضمه، وليس أحدهما نقيض الآخر. 11- أيقع الترادف في الثنائي بين المقلوب والمقلوب عنه أقول يقع الترادف أو نحو منه في الثنائي بين المقلوب والمقلوب منه، كقولك جشه وشجه، وتله ولته، وصرّه ورصَّه، وقدّه ودقّه، ومثَّه وثمَّه.. وقد ترصدت ذلك فألفيت أنه يغلب فيما كان (الباء) أحد حرفيه نحو (كبَّه وبكَّه، ولبّ وبلّ، وتبّ وبتّ، وجبّ وبجّ، وقبّ وبقّ، وصبّ وبصّ، وضبّ وبضّ، وربّ وبرّ، وسبّ وبسّ، وشبّ وبشّ، وعبّ وبعّ، وغبّ وبغّ، وهبّ وبهّ) . أما علَّة الترادف أو التوارد عامة فقد يكون تقارب معنى الحرفين في الثنائي، وأما سببه فيما كان أحد حرفيه هو الباء، فهو أن الباء ترد لاستيفاء المعنى واستتمامه. وقد فرق لي ذلك بالاستقراء، وأشار إليه الشيخ العلايلي بقوله (الباء يدل على بلوغ المعنى في الشيء بلوغاً تاماً/ 210) . ولعلّ الذي يوحي بذلك قولهم (يقال للشاب الممتلئ البدن نعمة وشباباً: ببَّة) قاله ابن الأثير في النهاية، وقولهم: (كل شيء ينبت على وجه الأرض فهو الأبّ) ، قاله عطاء، وحكاه اللسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 أما دليل الترادف أو التوارد في الثنائي ومقلوبه إذا كان أحد حرفيهما (الباء) فهو ما سقناه من ذلك آنفاً. فكبَّه قلبه وبكَّه مزقه، ولبّ أقام وبلّ المكان لزمه، وتبّ وبتّ بمعنى قطع وهكذا جب وبج وقب وبق، وصب الماء أراقه وبص الماء سال وجرى، وضب الدم سال وبض الماء رشح، وربه أصلحه وبرّه صدقه وأحسن عشرته، وسب قطع وبسّ فرق، وشب الغلام إذا نما وارتفع وشبت النار اتقدت وبشّ به أقبل عليه وبش بخير أعطى، وعبّ شرب من غير مصٍّ وبعّ صبّ في سَعة، وكذلك غبّ وبغّ، وهبت الريح نشطت وبهّ نبل ونبه) . وقد يجيب مؤلف (جدلية الحرف العربي) عن هذا بقوله: إن (عبّ) في عكس اتجاه (بعّ) فالأول (شرب) فهو أخذ، والثاني (صبّ) فهو عطاء، وكذلك (غبّ) و (بغّ) و (صبه إذا أراقه) و (بصّ) إذا رشح، ففي الأول (سَرف) وفي الثاني (قصد) ، وهما متعاكسان، وكذلك ضبّ وبض. على أنه إذا صح هذا بتأويل، فأي تأويل يمكن أن يسلك ما جاء من ذلك على معنى، في زمرة الأضداد. ولا يظن ظان أننا استطعنا بما تذرّعنا به أن نحسم المسألة فنقع على معنى الثنائي ومقلوبه كلما اهتدينا إلى دلالة حرفية، فالأمر صعب الممارسة عزيز المنال. فإذا كان (لبّ) ، مثلاً، قد وافق (بلّ) في واحد من معانيه وهو (الإقامة والملازمة) فقد غايره فيما عدا ذلك. ففي (الألباب) مواجهة، وفي (التلبب) تحزّم وتشمُّر. أما في (البلّ) فثمة، غير الملازمة، نداوة وتواصل ورزق وشفاء وعافية. وتتشعب وجوه القول في تدرج المعاني. وليس في هذا ما يثبت أن (اللام) إنما تفيد (الكسر والضعف) كما تجلَّى لنا في شواهد سابقة، على أنه أجدر بمن رام أن يقضي من الأمر نهمته أن يحتمل الكلفة في موالاة البحث ويركب البلوى في اقتحامه، فلا يعتاقه عن بغيته كدّ، أو يحبسه عن لبانته صبر أو نصب. 12- موقع دلالة الثلاثي من مقلوبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 قال مؤلف (جدلية الحرف العربي) في تحقيق مذهبه (فضدّ – غلف – هو: فلغ الكامن فيه، وعكس الحروف تأتي بعكس المعنى دائماً، وأن المؤشر يتضمن في داخله المؤشر بحكم الضرورة) ، وأردف: (والتغلف تستر والتفلُّغ – تفتح وتشقق، فالتضاد في الاتجاه مؤذن بالتضاد في المعنى، كما أوضحنا نتائج التجربة/ 4) . والجواب عن ذلك أننا إذا تجاوزنا في القول الجانب الفلسفي، ألفينا في الحكم بتضاد اللفظين تكلفاً. فـ (غلف) الشيء غطاه وغشاه، و (فلغ) رأسه شجه، وليس الشج والتغطية، أو الشق والتغشية ضدين في معنى أو اتجاه، إلا بتأويل. وما يقال في (لفّ) و (فلّ) يُقال في (غلف) و (فلغ) قائم على دلالة (لف) ، كما يقوم (فلغ) على دلالة (فل) . وقد زيد (الغين) في أول الثنائي تارة وفي آخره تارة أخرى. ودلالة الغين في الغالب (الغيبة والخفاء) ، كما هو الحال في (غاب وغار وغاض وغال وغام، وغمد وغمر..، وغرب وغرز، وغلف وغلق..) . ويعلم المؤلف أن الباحثين قد سلكوا (فلغ) في طائفة من الألفاظ اتفق في تركيبها أول أحرف اللفظ وثانيها (أي فاؤه وعينه) واختلف الثالث (أي لامه) ، فقالوا: (فلج وفلح وفلع وفلغ وفلق وفلّ..) وقد تضمنت معنى الشق. وأشار إلى هذا الزمخشري في كشافه في تفسير قوله تعالى: (وأولئك هم المفلحون ((البقرة/5) . فللمؤلف أن يأتي لكل فعل مما ذكرنا بمقلوبه ويقيم البرهان على أنه في عكس وجهته أو معناه. فهل في اللغة أن (جلف وحلف وقلف..) مثلاً تعاكس معنى (شقّ) وفي المثل: إن دواء (الشق) أن تحوصه. والحواص الخياطة والتضييق بين الشيئين. وأتوا من هذا القبيل بـ (فرث وفرج وفرد وفرّ وفرز وفرش وفرص..) فقالوا إنها تدل على (الفصل والفرق) ، فهل جاء في الأمهات أن (جرف ورفّ وزرف وشرف وصرف) . وهي مقاليب تلك، في معنى أو وجهة تعاكس (الفصل والفرق) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 أقول اجتهد المؤلف في أن يجعل (صرف) ضد (فرص) فهل بلغ غايته وعاد بمصداق مقالته؟ قال المؤلف (ص/ 86) : (حين ينصرف لفظ الفرصة في شكله العام لمعنى – الشقّ – الذي يستهدف فتح طريق ما، يقابله لفظ – صرف – الذي يعني وجود ما يمنع السير في هذا الطريق. وهذا التضاد بمثابة إشارة تعلن أنه سالك أو غير سالك وكأن الإشارة تقول هناك فرصة، أو هناك ما يصرف عن السير) . وأردف (ومعاني كل من اللفظين تضاد معاني الآخر في الأكثر، وتتشابه في الأقل. أما التضاد فمن طبيعة اللفظين القائمة على اختلاف الوجهتين. أما التشابه فمن الحروف الواحدة فيهما) . ذهب المؤلف إلى أن المعنى اللازم (للفرصة) هو الشق، وفي الشق فتح كفتح الطريق. أقول ليس في اللغة ما يسدد هذا القول من قريب أو بعيد. فالفرص إذا عنى الشق قصد به شق الجلد أو نحوه. وليس في هذا فتح كالفتح الذي عناه، بل فيه قطع واقتطاع، ففي الصحاح (وقد يكون الفرص الشق، يُقال فرصت النعل إذا خرقت أذنيها للشراك) . وفي الاشتقاق (ومنهم بنو فرّاص وهو فعّال من الفرص من قولهم فرصت النعل.. إذا شققت فيها موضع الشراك، والمفراص حديدة تفرص بها/ 274) . أما (الفرصة) ففسحة اقتطعت كما اقتطعت (فرصة) القطن أو الصوف. ففي المقاييس (الفاء والراء والصاد: أصل صحيح يدل على اقتطاع شيء من شيء. من ذلك الفرصة القطعة من الصوف أو القطن.. ثم يُقال للنهزة فرصة لأنها خلسة، كأنها اقتطاع شيء بعجلة..) فأين هذا كله من (الشق) الذي أراد به المؤلف الفتح فتح الطريق؟ وقال المؤلف (يقابله صرف الذي يعني وجود ما يمنع السير في هذا الطريق) ، وليس في اللغة شيء من هذا، فالصرف عودُك بالشيء أي عدلك به أو تحولك به إلى غير الوجهة التي كان فيها. فكما تقول (صرفته عن وجهته) إذا حولته عنها، فإنك تقول (صرفته إلى وجهته) إذا أطلقته إليها. ففي المصباح (صرفت الأجير والصبي: خليت سبيله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 فإذا تراءى للمؤلف (المنع) في قولك (صرفته عن وجهته) فإن فيه (الإطلاق) في قولك (صرفته إلى سبيله) فهل في صرف الرجل إلى قصده أو انصرافه إلى بغيته (منع أو حبس) ؟ وأين لمنع في قولك (صرفت الدينار) إذا أخذت بدله دراهم؟ وإنما في صرف الدينار تحوّل به من حال إلى حال، وهو أصل معناه. ولا ننسَ أن (الصرف أو التصريف) قد استعمل بمعنى (الإنفاق) أيضاً، ففي المقاييس (وتصريف الدراهم في البياعات كلها: إنفاقها) . وفي المصباح (وصرفت المال أنفقته) فهل في الإنفاق غير الإطلاق وغير البسط دون القبض! وانظر إلى قول صاحب الأساس (وصرّفه في أعماله وأموره فتصرف فيها) . فصح بما ذكرنا أن (الفرص) ليس فتحاً كفتح الطريق، وأن (الصرف) ليس منعاً، وأنهما ليسا ضدين ولا متعاكسين في اتجاه. *** ولكن كيف اتفق للمؤلف أن يرى من معاني اللفظ ومقلوبه ما لم يسنح لنا أو يخطر في بال أحد من الباحثين؟ أقول: كان المؤلف قد جرى على أن يعرض للفظ فيبسط معانيه واحداً واحداً، ويعرف لمقلوبه فينثر دلالاته واحدة واحدة، فإذا فرغ من ذلك ترصد معنى من معاني اللفظ يعاكس دلالة من دلالات المقلوب. فإذا خلص إلى هذا اعتد هذا المعنى أصلاً لمعاني اللفظ جميعاً، وهذه الدلالة أرومة لدلالات المقلوب كلها. ثم مضى بعد ذلك يتذرع بالتأويل فيستعين به على رد ما بقي من معاني اللفظ ومعاني المقلوب إلى ما اعتده هو الأصل. في كل منهما. وقال المؤلف فيما تقدم أن (معاني كل من اللفظين تُضاد معاني الآخر في الأكثر) وليس يخلد إلى هذا بيقين كما رأيت. وأردف (وتشابه في الأقل) . وعلل ذلك فقال: (وأما التشابه فمن الحروف الواحدة فيهما) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 أقول: إن معنى الثلاثي لا يتعلق بدلالة حروفه وحسب وإنما يتصل بمواقع هذه الحروف بعضها من بعض، كما فصَّلنا القول فيه. وكل تقليب يغاير صاحبه في معناه بتغير مواضع حروفه. فـ (صرف) يغاير (فرص) ، ولكن قد يجمعهما جامع مشترك من دلالة، فالفرص اقتطاع وفيه فصل شيء عن أصله، والصرف عدول بالشيء عما كان فيه، ففيه فصل عن وجهته. فإذا جاء تقليب من ذلك فوافق (صرف) أو (فرص) في معناه من كل وجه، فقد جاء على غير الأصل، وقد يكون مقلوباً من أحدهما. إذ جاء (الرفصة) فعلاً بمعنى (الفرصة) . قال الجوهري: (الرفصة الماء يكون نوبة بين القوم، وهو قلب الفرصة، وهم يترافصون الماء، أي يتناوبونه) . وفي اللسان: (وترافصوا على الماء مثل تفارصوا) . فإذا اتحد بين ثلاثيني أو أكثر الحرفان الأولان واتفق ترتيبهما تقارب المعنى، وقد مثلنا لذلك آنفاً. وثبت بهذا أن الثنائي يؤلف جنس المعنى في هذا المزيد. وذهب الجزائري في حاشيته على خطبة الكافي أن الثنائي إذا كان في أول الثلاثي كان هذا أدعى إلى التقارب من أن يكون في آخره. فإذا فصل بين حرفي الثنائي فقد آذن هذا ببدء التباعد. قال الجزائري: (فإن التقارب بين كن وكند وكنز.. أبين من التقارب بين ركن وزكن وسكن.. والتقارب في هذه أبين من التقارب بين كمن وكان وكهن.. وإن كانت هذه الكلمات كلها متقاربة لوجود الكاف والنون فيها جميعاً. غير أن الأخيرة قد فصل فيها بين الحرفين حرف أجنبي بخلاف الأولى والثانية) . وقد أشرنا قبل أن الثنائي الذي عليه مدار المعنى، إنما يُعرف باتحاد حرفيه واتفاق ترتيبهما، وموقعه من الحرف المزيد. وإذا كان حلول الثنائي في صدر ثلاثيين أدعى إلى تقارب المعنى في اللفظين فذلك لأنه يؤلف معناهما المشترك، فإذا ذيِّل بالحرف المزيد كان ذلك قيداً له، كما أسلفنا. وليس الأمر كذلك إذا تقدم المزيد وتأخر الثنائي أو حال المزيد بين حرفي الثنائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 وقد أتى الجزائري بـ (كنّ وكند وكنز وكنس وكنع وكنف..) فكنّ الشيء وأكنَّه ستره، وأستكن استتر، وكند إذا كفر النعمة فهو كنود، وأصل الكفر تغطية الشيء، وكنز المال المدفون واكتنزه جمعه وادّخره، وكنس الظبي كنوساً دخل في كناسه، وهو مستتره في الشجر، وكنع انقبض.. *** هذا ما رأيت أن أبسط القول فيه حول الاشتقاق الكبير والقلب وما يتصل بهما أو يتشعب عنهما. وإذا كنت قد ملت إلى الإسهاب حيناً فقد قادني إليه تشعب مذاهب البحث واختلافها في قبول الرأي وردّه، وإني أكتب للمشتغلين الذين انقطعوا للبحث وأقاموا عليه أو كادوا، فباتوا يلتمسون فيه بغيتهم فيتلطفون لها ويسلكون إليها كل سبيل، فهم لا يتخففون في تحصيلها أو يدّخرون سعياً دون بلوغها وإدراكها. 1: أغرب إذا أبعد المرمى، ومنه قولهم: (طارت به عنقاء مُغرب) . 2 - فـ (أج) عدا وأسرع، ورجل بجباج: اضطرب لحمه، وحج بنو فلان فلاناً إذا طالوا في الاختلاف إليه: والحجوج الرياح الشديدة، ودج القوم على الأرض: دبوا، ورجه رجاً حركه وزلزله، وزج الظليم برجله في جريه: دفع، وضجّ القوم إذا جلبوا وصاحوا، وأعجت الريح اشتدت وأعج الرجل أسرع، ومج التراب إذا رمى به، ونجت القرحة سالت ونجنجت الرجل حركته، وهجت النار هجا سمعت صوت استعارها. 3 - فـ (أن) المريض إذا رقق صوته، وجننت الشيء واريته، ورجل محنون مجنون، من الحن وهم حي من الجن، والخنة كالغنة، والدنن في الظهر انحناء وفي العنق والصدر دنو وتطاطؤ وتطامن، والدن الراقود يجمع ويخبأ فيه السائل، والرنة الصيحة الحزينة والرنن الماء القليل، والزن الظن روزن الماء قل والزنين الحاقن الذي حبس بوله، واستشن الرجل هزل، والصن شبه السلة المطبقة بجعل فيه الخبز، والضن البخل، والظن معروف والظنون البئر القليلة الماء، والغنة صوت في الخيشوم، والكن السترة والكنان الغطاء، ورجل منين ضعيف منّه الدَّهر، وهن هنا حن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 4 - فـ (حف إذا طاف بالشيء واستدار، والزف صغار ريش النعام، والزفف كون زغب الطائر ملتفاً بعضه على بعض، ورف الناس به أحدقوا، والشف ستر رقيق يستشف ما وراءه، وكفة القميص ما يضم ما استدار حول الذيل، وكل ما استدار فهو كفة بالكسر، وكفاف الشيء ستارة، واللف تلوي شيء على شيء، والهف بالكسر السحاب الرقيق وهفهاف: رقيق شفاف) . 5 - فـ (آله طعنه وثل البيت هدمه، وتجلجلت قواعد البيت تضعضعت، والخلل الوهن وكذلك الاختلال، وذل ضعف وخضع، وزل تعثر، وشلَّهم بالسيف كسرهم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 الاشتقاق في اللغة فصول تشابكت أواصرها وتوشجت عراها، وكأن بينها رحماً ماسَّة. فأنت إذا عرضت لمسألة في أحدها أصارتك الحاجة إلى أن تذكي العين على ما يتصل بها من البحث في فصول من دوحتها، فتجعله منك على بال وذكر، ليبرح به خفاء ما عرضت له فينزاح غموضه وتحل رموزه. من هذه الفصول فصل عقدته في هذه المجلة حول (نشوء اللغات) وآخر عقدته فيها حول (تدرج المعاني) . وهذا فصل في (الاشتقاق) يناط بهما ويُنْمَى إليهما. فإذا انتظم عقد هذه الفصول، وقد اشتبكت أسبابها وتمكنت أواصيها، كان بعضها ذريعة إلى جلاء ما قد يستغلق في بعضها الآخر، وسلّماً إلى فك مشكله، وسبباً إلى إيضاح منهاجه واستبانة وجهه. وأنت إذا تأملت فصلنا هذا في (الاشتقاق) عرفت قرابة ما بينه وبين الفصلين السابقين. في غير كلفة أو عسر أو عناء. ***ذهب الأئمة إلى أنه لا بد للكلم في كل مادة لغوية أن يشتق بعضها من بعض فترد إلى جنس من المعنى يعد أصلاً لما يشتق منها جميعاً. فالاشتقاق نزع لفظ من لفظ، ولو مجازاً، بشرط مناسبتهما في المعنى، واتفاقهما في الحروف الأصلية وترتيبها، ومغايرتهما في الصيغة حقيقة أو تقديراً. وهكذا تشترك مفردات كل مادة لغوية في حروفها الثلاثة وترتيبها، وتلتقي على معنى يشملها. ثم يفرد كل منها بصيغة ومبنى ودلالة خاصة. وقد أسموا هذا النوع من الاشتقاق، الاشتقاق الصغير. وبحث الاشتقاق كثير من الأئمة المتقدمين كالأصمعي وقطرب وأبي الحسن الأخفش والمبرد وابن خالويه. وبرع فيه أبو بكر بن دريد في كتابه (الاشتقاق) ، وأوغل فيه أحمد ابن فارس في كتابيه (فقه اللغة) المعروف بالصاحبي، و (مقاييس اللغة) . قال ابن فارس في فقه اللغة: (أجمع أهل اللغة، إلا من شذ عنهم، أن للغة العرب قياساً، وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض، وأن اسم الجن مشتق من الاجتنان، وأن الجيم والنون تدلان أبداً على الستر. تقول العرب للدرع جنة. وأجنه الليل. وهذا جنين، أي هو في بطن أمه أو مقبور. وأن الأنس من الظهور، يقولون: آنست الشيء أبصرته. وعلى هذا سائر كلام العرب، علم ذلك من علم، وجهله من جهل/ 33) . هذا وقد جعل الأئمة للاشتقاق نوعين آخرين هما الكبير والأكبر. فإذا كان شرط الاشتقاق الصغير، في مشهور التسمية، أن يكون بين اللفظين اتفاق في الحروف الأصول وترتيبها وتناسب في المعنى كضرب وضارب ومضروب من الضرب، فشرط الاشتقاق الكبير أن يكون بين اللفظين أو الألفاظ اتفاق في الحروف دون ترتيبها، ككمل وملك ولكم، أما الاشتقاق الأكبر فحده أن يكون بين اللفظين أو الألفاظ اتفاق في بعض الحروف وتقارب في الباقي. وقد جعلوا التقارب في مخرج الحروف خاصة وفي صفتها، كجبل وجبر، وحلف وحرف، وحمس وحمش. ومنهم من أسقط ما شرطوه من التقارب فمثلوا له بفلق وفلى، ورصَّ ورصف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 وتردُّ فكرة الاشتقاق الكبير إلى الإمام الخليل بن أحمد وقد بحثه أبو علي الفارسي واتسع فيه تلميذه أبو الفتح ابن جني صاحب الخصائص، وتبعهما في ذلك الحاتمي، والسكاكي صاحب المفتاح، وابن الأثير صاحب المثل السائر، وقد عرض هؤلاء للاشتقاق الأكبر وافتن فيه الحاتمي خاصة. وقد قصرنا الكلام في فصلنا هذا على الاشتقاق الصغير، وهو ما يراد بالاشتقاق عند الإطلاق. وإليه تنتهي شعاب البحث عامة، وهو أصله وأرومته ومورده. فلا بد إذاً من إحصاء مسائله وجمع أشتاته واستقراء دقائقه في هذا الفصل، والاستصباح بضوء ذلك في خوض عباب الاشتقاق الكبير والاشتقاق الأكبر والغوص على أسرارهما في فصل آت، إن شاء الله. هذا وأجدر ما ينبغي أن نجري الكلام فيه من مسائل الاشتقاق الصغير، وأحرى أن نستنفد بعض الوسع في بحثه: 1- ما يطرد اشتقاقه فيكون على قياس، وما لا يطرد فيعول فيه على السماع. 2- اشتقاق الأفعال من أسماء الأعيان. 3- الاشتقاق من اسم العين المشتق أيجري على لفظ المشتق أم يبني على أصله. 4- أوجه القولين وأسلمهما من النقد، في اشتقاق الفعل من المصدر أو المصدر من الفعل. 5- ما يعترض رد المادة اللغوية إلى أصل واحد أو يحول دون الاهتداء إليه. 6- الحكم في أصل اللفظ أعربي هو أم دخيل. 7- اشتقاق العربي من المعرّب. وقصارانا أن نجمع اليدين على تمحيص كل مسألة من هذه المسائل فنبلو أمرها ونخبر حالها ونخلص من بحثها ونحن أبصر بدخائلها وأعلم بمطاويها. وحسبنا في ذلك أن نقتصر على قدر ما نري به الطريقة ونقف على المنهاج، وإلا فللقول في ذلك مجال واسع ومذهب فسيح. فإذا سمت بالقارئ همة إلى ما وراء ذلك أو نازعته رغبة، اقتفى فيه هذا الأثر فوجد السبيل مسلوكاً والطريق موطأ فسعى سعيه إلى الاستزادة لتكتمل في ذلك آلته وتجتمع أداته. 1- ما يطَّرد اشتقاقه وما لا يطَّرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 المشتق قد يطرد اشتقاقه كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وأفعل التفضيل وظرفي الزمان والمكان واسم الآلة. وقد لا يطرد كالقارورة فإنها مشتقة من القرار. هذا ما جاء في (كشاف اصطلاحات الفنون- 1/845) للتهانوي. وعندي أن ما قصده التهانوي بنصه على إطراد الاشتقاق في الصفة المشبهة، هو غلبة الاشتقاق في بعض صيغها من أفعال لازمة مخصوصة. وإلا فليس لنا أن نأتي بوصف على فَعْل أو فَعَل أو فَعْلان أو أفعل مثلاً، دون أن يكون قد سمع عن العرب. وكل ما أطلقوا القياس فيه هو العدول بالصفة المشبهة إلى صيغة (فاعل) ، كلما أريد بها التجدد والحدوث كقولك حاسن في حسن وعاف في عفيف ومائت في ميت وضائق في ضيق، ومارض وجائد في مريض وجواد، كما فصله الزمخشري في المفصل، والرضي في شرح الشافية. وذهب بعضهم إلى قياس (فعيل) صفة مشبهة كما أشار إليه الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه (القياس) وعقب على ذلك فقال: (وينبغي أن يقيد هذا المذهب بالمعاني التي يُراد منها الثبوت ولم يدر كيف تكلم فيها العرب بالاسم الدال على الذات وصفتها. وبهذا المذهب تستوفي الأفعال صفاتها المشبهة) . قلت على أن يشتق فعيل هذا من (فَعُلَ) . فقد استدُلَّ بـ (حبيب) صفة مشبهة على أن فعله (حَبُبَ) فقال ابن يعيش في شرح المفصل (وفعيل بابه فعُل كظريف من ظرف وكريم من كرُم) وقال الرضي (الغالب في فَعُل: فعيل) . ويعني هذا أنه كلما جاء (فَعُلَ) فالأصل في صفته، ما لم تسمع، (فعيل) . والأصل في (فعيل) أن يكون فعله، ما لم يسمع، (فعل) ككرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 وذهب أبو البقاء صاحب الكليات إلى ما وراء ذلك فقال (الصفة المشبهة تجيء أبداً من لازم فإذا أريد اشتقاقها من المتعدي يجعل لازماً بمنزلة فعل الغريزة وذلك بالنقل إلى –فعل، بالضم، ثم يشتق منه، كما في رحيم وفقير ورفيع/220) . وجاء في عدد نيسان (1955) من مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق (مجلة مجمع اللغة العربية) عما أقره المجمع القاهري في مؤتمره: (كان الأستاذ أنيس المقدسي عضو المجمع من لبنان، طلب إضافة كلمة –الرتابة- إلى المعجم بمعنى الثبات والاستقرار والاستمرار فيما يقابل التعبير العصري: روتين. وقد رأت لجنة الأصول جواز استعمال هذه الصيغة، بناء على جواز تحويل كل فعل لإفادة المدح أو الذم أو الالتحاق بالغرائز. وعلى هذا يكون –الرتابة- مصدراً قياسياً لفَعُل، طوعاً لقرار المجمع في تكملة مادة لغوية. وبعد المناقشة أقر المؤتمر الاقتراح المعروض عليه) . وإذا كان هناك من ذهب إلى قياس فعيل بمعنى فاعل، فقد أقر بعضهم قياس فعيل من متعد بمعنى المفعول. قال السيوطي في الهمع: (فورد المفعول على فَعَل وعلى فَعْل.. وعلى فعيل كقتيل وصريع. وقاسه بعضهم، أي قاس فعيلاً- فيما ليس له فعيل بمعنى فاعل، نقله في التسهيل.. والقيد المذكور للقياس نبه عليه أبو حيان، ولا بد منه) . وقد أخذ المجمع القاهري بهذا، والرأي في ذلك وجيه على أن (فعيلاً) هذا ليس صفة مشبهة. واشتقاق صيغ المبالغة لاسم الفاعل من الفعل المتعدي الثلاثي، لا يطرد في الأصل. على أن من الأئمة من ذهب إلى قياسه في خمسة أوزان هي: فعّال ومفعال وفعول وفعيل وفَعِل. تقول ضراب ومضراب وضروب وضريب وضرِب. أو في الثلاثة الأولى وحدها. جاء ذلك عن الإمام عبد الله بن عبد الرحمن الدنوشري الشافعي في حواشي (يس) على التصريح. وليس هنا موضع تفصيل القول فيه. وكثر القول بصحة القياس في (فعّال) خاصة فأخذ به مجمع اللغة العربية القاهري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 وقد كثر اشتقاق (المفعلة) من أسماء الأعيان للمكان الذي يكثر فيه العين، كقولهم: أرض مأسدة ومسبعة ومثورة إذا كثر فيها الأسد أو السبع أو الثور. وظاهر كلام سيبويه في الكتاب (2/ 249) الأخذ بقياسه. وقال ابن سيدة في المخصص (16/74) : (ومكان موعلة كثير الوعول، ومغدرة كثير الغدر، وهي الوعول المسنة، مطرد عند أبي الحسن) . وقد أخذ المجمع القاهري بقياسه فقال في مجلته (2/35) : (تصاغ مفعلة قياساً من أسماء الأعيان الثلاثية الأصول للمكان الذي تكثر فيه هذه الأعيان سواء أكانت من الحيوان أم من النبات أم من الجماد) . *** وإذا عرضنا للمزيد من الثلاثي كأفعل وفعّل وفاعل وتفاعل وانفعل وافتعل وتفعل واستفعل فقد خص أئمة الصرف كلاً بدلالات لكنهم كادوا يجمعون على أنها لا تطرد. وقد استثنى بعضهم (أفعل) فذهب إلى أن دخول الهمزة على (فعل) اللازم ليتعدى إلى مفعول، قياس كسهر وأسهره. فإذا كان متعدياً إلى واحد فدخول الهمزة عليه سماع نحو لبس الثوب وألبسه إياه. ومنهم من جعل هذا قياساً أيضاً. بل ذهب الأخفش إلى قياس دخول الهمزة على المتعدي إلى اثنين لتعديته إلى ثلاثة. وإذا كان الرضي قد قال في شرح الشافية (1/81) : (فليس لك أن تقول من ظرف أظرف) فقد قال ابن هشام في المغني (2/113) : (وقيل النقل بالهمزة سماعي. وقيل قياسي في القاصر والمتعدي إلى واحد. والحق أنه قياسي في القاصر وسماعي في غيره، وهو ظاهر مذهب سيبويه) . والقاصر هو اللازم. وقد أقر المجمع القاهري تعدية اللازم بالهمزة. ومن قبيل ما عدّاه الكتاب بهمزة النقل (أضفى) . فأنت تقول (سبغ) و (ضفا) بمعنى تم وطال فعلين لازمين. ومنه ثوب سابغ ضاف. ونعمة سابغة ضافية. وتقول (أسبغه) على التعدي، ولا تقول (أضفاه) كما اشتهر على ألسنة الكتاب إلا أن تقر القياس في إدخال الهمزة للنقل، لأن السماع لم يرد به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 والغريب أن الأستاذ محمد العدناني قد ذهب في معجمه (الأخطاء الشائعة) إلى عيب قول القائل (أضفى عليه جلالاً) وجعل صوابه (أكسبه جلالاً) . والطريف حقاً أن الكثرة على إنكار (أكسبه) في السماع أيضاً. قال الزمخشري في الأساس: (وكسب المال.. وكسبته مالاً فكسبه.. ولا يقال أكسبته) . وقال صاحب المصباح: (كلهم يقول كسبك فلان خيراً إلا ابن الأعرابي فإنه يقول أكسبك بالألف) . وهكذا ينكر العدناني (أضفاه) قياساً، وقد أقر في مقدمة معجمه هذا القياس. وقد ذهب بعضهم إلى قياس (انفعل) لإفادة المطاوعة فاشترط مجيئه من فعل ثلاثي متعد يتصور فيه العلاج والتأثير نحو فتحته فانفتح وقسته فانقاس. وأخذ بهذا المجمع القاهري، وشرط ألا يكون فاء الفعل واواً أو لاماً أو نوناً أو راء، وإلا كان القياس فيه افتعل.. واعترض الشيخ ظاهر خير الله في (المنهاج السوي) فقال (ولا نجد بني الحصن فانبنى، مع ما فيه من العلاج) ، كما اعترض الدكتور مصطفى جواد فأبى (المطاوعة) أصلاً. وقال في كتابه (المباحث اللغوية في العراق) : (أما انفعل وما جرى مجراه من الأفعال المزعوم أنها للمطاوعة فهي في الحقيقة لرغبة الفاعل في الفعل أو ميله الطبيعي أو شبه ميله إليه، من غير تأثير من الخارج) وأردف: (ولذلك لا يقتصر الفعل على المتعدي ولا يكون له صلة بالثلاثي أحياناً، مثل: انكدر. وفي القرآن الكريم في سورة التكوير: ... وإذا النجوم انكدرت.. ومعنى انكدرت انقضت، ومعنى الانكدار الإسراع والانقضاض، ولا ثلاثي له..) . وهو فيما مثّل به سديد الرأي. فليس كل ما أتى من هذه الزنة كان بالضرورة مطاوعاً لمتعد ثلاثي، بل ليس لكل متعد ثلاثي ذي علاج مطاوع من (انفعل) . فأنت تقول داسه ولا تقول انداس وتقول ضربه وجرحه وذبحه ولا تقول انضرب وانجرح وانذبح. ولا بد للقياس من ضابط جامع مانع كما يقولون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 ولا خلاف في أن (افتعل) سماعي. فليس لك أن تصوغ (افتعل) من فعل مجرد وتأتي به على ما يوافق هذا الفعل تعدية أو لزوماً. ما لم يرد به سماع. ومن ثم لحنوا قول القائل (احتار) وتسمح به بعض المحدثين كالشيخ مصطفى الغلايني. وأبيناه نحن حين لم يسنده سماع أو يسعفه قياس معروف. واجتهد الشيخ ظاهر في (المنهاج السوي) في وضع قياس لـ (افتعل) . وكان مما اشترطه ضابطاً أن يكون الفعل مما يتعمده العاقل عقلاً أو إرادة. فإذا صح هذا ألزمك القياس أن تمنع (افتعل) من (حار وخشي) ، ومن (سقم ومرض) . إذ لا يتأتى أن يتعمد العاقل فعل هذه الأفعال عادة. ومما ينبغي استدراكه على هذا الضابط التنبيه على أن القصد بمعنى الفعل دلالته الأصلية، لا ما تشعب عنها أو تفرع عليها. فإذا سأل سائل كيف امتنع (افتعل) من (مرض) وجاء من (عل) فقيل (اعتل) ، أجيب بأن لـ (عل) دلالات ثلاثاً هي التكرار والمتابعة، ثم العائق يشغل صاحبه عن أمره، ثم الضعف والمرض، كما فصَّله صاحب المقاييس. ولكن أي هذه الدلالات الجذر والأرومة؟ جعل الجوهري في صحاحه التكرار والمتابعة الأصل، فقال: (التعليل سقي بعد سقي وجني الثمرة مرة بعد أخرى، وعل الضارب المضروب إذا تابع عليه الضرب) . وأردف: (والعلة المرض وحدث يشغل صاحبه عن وجهه، كأن تلك العلة صارت شغلاً ثانياً منعه عن شغله الأول) وتابع قوله: (واعتل عليه بعد إذا اعتاقه عن أمر) . فإذا اطمأن الأمر على هذا، وكان المعنى الأول هو التكرار والمتابعة، لم يتوجه على الضابط الذي أتى به الشيخ عيب أو نقد. وأورد الشيخ لاشتقاق (افتعل) ضوابط أخرى، لا يتسع المقام لبسطها. ولا مناص من استقصاء البحث فيها ليقطع في المسألة بيقين حازم. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 غير أن ابن فارس لم يجز في هذا قياساً لم يقسه العرب، ولا قولاً لم يقولوه. وفي ذلك حجر للغة عن التوالد والاتساع، وقصر لخطاها عن المضي في المؤاتاة والنماء. فإذا كان علماء الصرف قد آثروا الاستمساك بالوضع رعاية للأصل وتعلقاً به وحياطة له، كما فعل ابن فارس، فقد يتفق أن يقتاد الاستقرار إلى قياس لم ينبه عليه الأئمة كما أسلفنا، أو يتفق أن تتجاوز ملكة الأدباء المتمكنين هذا الحد بعفو الخاطر كلما ألجأت إلى ذلك حاجة في الاستعمال أو دفعت إليه قوة الأداء فتصطفي اللفظ الذي يقع موقعه المرتجى ويصير إلى مستقره المطمئن. والقريحة المطبوعة إنما تتدفق بمثله قصد إحكام الأداء ولو خالف الأصل المعروف. فانظر إلى ما قاله أبو محمد عبد الله بن سنان الخفاجي المتوفى (466) هـ. في كتابه (سر الفصاحة/ 62) : (وقد يكون التأليف المختار في اللفظة على جهة الاشتقاق، فيحسن أيضاً كل ذلك) . وأوضح مذهبه فقال: (ومثال لذلك مما يختار قول أبي القاسم الحسين بن علي المغربي في بعض رسائله: ورعوا هشيماً تأنفت روضه، فإن: تأنفت، كلمة لا خفاء بحسنها لوقوعها الموقع الذي ذكرته) . وليس في اللغة -تأنفت- ولعل المغربي قد تصور: تنزه، فأتى بتأنف، طبعاً وسلاسة. قال ابن القوطية في كتابه (الأفعال) : (وأنفت من الشيء أنفاً وأنفة: غضبت، وأيضاً تنزهت عنه) . وأورد الخفاجي مثالاً آخر فقال: (وكذلك قول أبي الطيب المتنبي: إذا سارت الأحداج فوق نباته تفاوح مسك الغانيات ورنده فإن تفاوح كلمة في غاية الحسن. وقد قيل إن أبا الطيب أول من نطق بها على هذا المثال، وإن وزير كافور الأخشيدي سمع شاعراً نظمها بعد أبي الطيب، فقال: (أخذتموها) . وهكذا قبل (تأنف) من المغربي، واستحسن (تفاوح) من المتنبي، ولو لم يسمعا أو يكونا على قياس معروف، لوقوع اللفظين موقعهما المختار في الأداء، وأنهما لم يخرجا في الاشتقاق عما ألف وقالته العرب من أمثالهما في أفعال أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 أفليس يتأتى أن يدخل هذان في قياس لو ابتغينا لصيغتيهما مثل هذا القياس، ببحث وتلطف واستقراء. هذا و (الحدج) بالكسر الحمل ومركب من مراكب النساء أيضاً وهو مثل المحفة، والجمع حدوج، وأحداج كما جاء في بيت المتنبي. 2- اشتقاق الأفعال من أسماء الأعيان جرى العرب على اشتقاق الأفعال من أسماء الأعيان. فإذا كان اسم العين ثلاثياً مجرداً نزع منه فعل ثلاثي يشاكله في الأحرف وترتيبها، كقولهم: رأسه إذا ضرب رأسه، وكبده ودمغه وأذنه وأنفه ونابه ومعده، إذا أصاب ما سمي بهذه الأحرف من الأعضاء، ومن ذلك رآه إذا أصاب رئته. وقالوا: حصاه إذا ضربه بالحصى، ودبره تلا دبره، وحنك الدابة إذا جعل الرسن في حنكها. وأسد الرجل إذا أشبه الأسد، وتاس الجدي إذا صار كالتيس. وقالوا عسله إذا جعل فيه العسل فعلاً أو مجازاً- ففي الحديث: (إذا أراد الله بعبد خيراً عسله) . وقال صاحب النهاية: (العْسُل طيبُ الثناء مأخوذ من العَسَل) . وفي النهاية أيضاً: (يقال بدرَ وَجْهُ الغلامُ إذا تمَّ واستدارَ تشبيهاً بالبدر في تمامه وكماله) . وقال الراغب في مفرداته: (.. والأقرب عندي أن يجعل البدر أصلاً في الباب، ثم تعتبر معانيه التي تظهر منه، فيقال تارة بدر كذا أي طلع طلوع البدر) . وإذا كان الاسم رباعياً مجرداً نزع منه فعل رباعي يماثله في الأحرف وترتيبها أيضاً كقولهم: ثعلب الرجل إذا راغ، وطحلب الماء إذا علاه الطحلب. وإذا كان الاسم ثلاثياً أو رباعياً مزيداً حذفوا منه الزائد حتى يعود ثلاثياً أو رباعياً في مثل أحرفه الأصلية وترتيبها. فقد قيل من الثلاثي المزيد: حنأ لحيته إذا خضبها بالحناء. لكنهم قالوا: حنأها بالتشديد أيضاً. وقالوا أركت الإبل تأرك إذا لزمت الأراك. والأراك: شجر من الحمض يستاك بقضبانه، الواحدة أراكة. وقيل من الرباعي المزيد: قرطس الرامي إذا أصاب القرطاس أي الغرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 على أنهم قالوا اشتقاقاً من الثلاثي أيضاً: تأسد واستأسد (من الأسد) وفي الاشتقاق لابن دريد: (تليث الرجل إذا تشبه بالليث في جرأته وإقدامه) . وفلان يتمزن على قومه أي يتفضل عليهم، من المزنة وهي السحابة. وقالوا تأبل إذا اتخذ الإبل، وتأرض إذا لصق بالأرض، وتخشب صار كالخشب، وهكذا تحجر من الحجر واحتجر من الحجرة. وكثر استفعل من الثلاثي كاستفيل واستنوق واستتيس واستنسر واستذأب واستجمل. وكثر أفعل إذا دخل في الشيء كأهضب وأصحر وأسهل وأبحر وأبرّ وأغرب وأعرق.. وقد اقتاد المجمع القاهري هذه الكثرة من اشتقاق الأفعال من أسماء الأعيان إلى إجازة هذا الاشتقاق حين الحاجة. فجاء في مجلته (1/ 236) : (اشتق العرب كثيراً من أسماء الأعيان، والمجمع يجيز هذا الاشتقاق للضرورة في العلوم) . 3- الاشتقاق من اسم العين المشتق قالوا: (المنكب) وزان مجلس لمجمع رأس العضد والكتف، فجاء اسماً للعضو، ثم اشتق منه فقيل (تنكب القوس) إذا ألقاها على منكبه، كما قيل (تأبط الشيء) إذا جعله تحت إبطه. فـ (تنكب) بهذا المعنى دل على المنكب ولم يشتق من لفظه، وهو حين انطوى على هذه الدلالة غاير معناه في الأصل، فتنكبه يعني تجنبه. وكما قيل من (المنكب) تنكب فدل على معناه ولم يشتق من لفظه، قيل منه (نكب) أيضاً، فجرى هذا المجرى. ففي المصباح: (ونكب على القوم نكابة بالكسر فهو منكب مثل مجلس، وهو عون العريف، مأخوذ من منكب الشخص، وهو مجتمع رأس العضد والكتف لأنه يعتمد عليه. وتنكبت القوس ألقيتها على المنكب) . وجاء (المنطقة) لما يشد على الوسط. واشتق منه فعل فقيل (نطقته فتنطق) كما في الصحاح. كما اشتق منه (تمنطق وانتطق) كما في اللسان. وهكذا اشتق (نطق وتنطق وانتطق) من المنطقة فناسب الفعل معنى المشتق ولم يوافقه لفظاً. واشتق منها (تمنطق) فناسب المشتق معنى ولفظاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 وجاء (تمدرع وتمندل) من المدرعة والمنديل على تمفعل، كما جاء (تدرع وتندل) على تفعل. فاعتد الصحاح (تمفعل) شاذاً و (تفعل) هو القياس. فدل هذا على أن الأصل في الاشتقاق من اسم العين المشتق إسقاط الزيادة. وأيد ذلك الرضي في شرح الشافية فاعتد (تمدرع وتمسكن وتمندل وتمغفر) قليل الاستعمال وأنه على توهم أصالة الميم فقال (والمشهور الفصيح تدرع وتسكن وتندل وتغفر) . ولكن لِم آثر الأئمة (تدرع) على (تمدرع) ؟ أقول قد ورد السماع بإثبات الزيادة وهو الأصل، كما جاء بحذفها، وهو خلافه. فآثروا الأصل والقياس. ولكن قد تكون ثمة دواع لغوية توجب مخالفة الأصل والأخذ بالاستعمال، لأن العمل بخاصة اللغة أولى من الانقياد لمنطق القياس. ومن ثم قال الباحثون في علم اللغة الحديث: قد يوجب الاستعمال في اللسان ما لا يسعه الوضع. وقد انتحى أئمة النحو هذا السمت ولم يغادروه حين قالوا (السماع يبطل القياس) . وهو ما قاله ابن جني في (المنصف) . فإذا أجازوهما آثروا السماع على القياس. وعندي أن قولك (تمدرع) بإثبات الزيادة أدنى إلى التعلق بالمعنى والحياطة له من قولك (تدرع) بحذفها، ولو ورد السماع بهما وكان الثاني هو الأصل. ذلك أن الاستعمال يقتضي الأخذ بالزيادة ما دامت ذات دلالة، كلما أوقع إغفالها اللبس. فانظر إلى ما قاله ابن جني في الخصائص (1/236.ط-1913) : (وعليه جاء تمسكن وتمدرع وتمنطق وتمندل وتمخرق، وتمسلم أي صار مسلماً.. فتحملوا ما فيه تبقية الزائد مع الأصل في حال الاشتقاق، كل ذلك توفية للمعنى وحراسة له ودلالة عليه) . وأردف: (ألا تراهم إذا قالوا تدرع وتسكن، وإن كانت أقوى اللغتين عند أصحابنا، فقد عرضوا أنفسهم لئلا يعرف غرضهم، أمن الدرع والسكن، أم من المدرعة والمسكنة، وكذلك بقية الباب) . وإلا فهل نؤثر (تسلم) على (تمسلم) إذا أضحى (مسلماً) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 وإذا صح أنهم حرصوا على إبقاء الزيادة رعاية للمعنى وتبييناً له ودرأ للبس كما ذهب إليه ابن جني، فقد بطل القول بأنهم فعلوه على توهم أصالة الميم كما ذكره الرضي وانتحاه كثير من الأئمة. 4- اشتقاق الفعل من المصدر تصور الأئمة اشتقاق الأفعال من المصادر كما قدروا انتزاعها من أسماء الأعيان، كما أوضحناه. لكنه إذا أمكن أن يرد الفعل إلى اسم العين والمصدر ردوه إلى المصدر. قال ابن جني في الخصائص (2/433) : (اشتقاق العرب من الجواهر قليل جداً والأكثر من المصدر) . وقال السيوطي في المزهر (1/203-ط. المكتبة الأزهرية) : (والتاسع كون الأصل جوهراً والآخر عرضاً لا يصلح للمصدرية ولا شأنه أن يشتق منه، فإن الرد إلى الجوهر حينئذ أولى لأنه الأسبق، فإن كان مصدراً تعين الرد إليه لأن اشتقاق العرب من الجوهر قليل جداً والأكثر من المصادر) . ولكن هل يعني ذهاب الأئمة إلى أن العربية قد اشتقت أفعالها من المصادر ما وجدت لأنها الأصل لديهم، والاشتقاق منها كثير، وإلا فمن الجواهر والاشتقاق منها قليل، أقول هل يعني ذلك أنهم قالوا بسبق المصادر، وهي أسماء للمعاني، للجواهر وهي أسماء للأعيان، في الوضع؟ هذا ما بدا للدكتور صبحي الصالح في كتابه (دراسات في فقه اللغة) ، فبيَّن أنه ليس من الطبيعي سبق أسماء المعاني أسماء الأعيان، كما ذهب إليه الأئمة، وأن الصواب هو العكس، وقال: (إن البداهة تقضي بوجود أسماء الأعيان المشاهدة المرئية التي تناولتها الحواس قبل أسماء المعاني. لذلك كانت الأعيان، هي أصل الاشتقاق دون المصادر.. كيف وقد امتلأت معاجمنا وكتبنا اللغوية بما لا يحصى من الجواهر التي تفرعت عنها الصفات والأحوال والمصادر والأفعال/199) . والذي عندي أن الأئمة لم يقولوا بسبق أسماء المعاني أسماء الأعيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 فإذا كانوا قد آثروا المصادر على الجواهر في كونها أصلاً للاشتقاق، فلم يسبق إلى اعتقادهم أن المصادر قد وضعت قبل أسماء الجواهر البتة. وهذا حالهم حين قالوا الاسم أسبق من الفعل إذا لم يَدر بخلدهم أو يقع في ظنهم أن الأسماء تقدمت الأفعال في الزمان. فانظر إلى ما قاله ابن جني (1/ 432. ط-1913) : (فكيف يجوز أن يقصد سبق الاسم للفعل في الزمان، وقد رأيت الاسم مشتقاً منه، كاشتقاق قائم من قام، ورتبة المشتق منه أن يكون أسبق من المشتق نفسه) . وأردف (وأيضاً فالمصدر مشتق من الجوهر كالنبات من النبت، وكالاستحجار من الحجر، وكلاهما اسم) . فاتضح بذلك أن المصدر، وهو أصل اشتقاق الفعل عند البصريين، قد اشتق نفسه من الجوهر فالذي أراده الأئمة وعنوه إذاً أنه إذا قام للفعل مصدر وجوهر كان اشتقاقه من المصدر (فالمصدر ألصق به من حيث بناؤه وما يعتريه ويعترضه من الأتباع إبدالاً وقلباً وإعلالاً) . ولا يمنع هذا أن يكون اشتقاق المصدر نفسه من الجوهر في الأصل. ومن عمد من الأئمة إلى التعويل على (الزمان) وكان ملحظه (نشوئياً) نبه على أن (الجواهر) وهي أسماء الأعيان عند المتأخرين، هي المتقدمة، وأن (الأفعال وما يتصل بها من أسماء المعاني) هي المتأخرة. ذلك ما ذهب إليه السكاكي في كتابه (مفتاح العلوم) ، حين جعل الكلم المستقرأة نوعين. الأول ما (يشهد التأمل بتقدّمه في باب الاعتبار والثاني ما جاء (بخلاف ذلك) وهو المتخلف. وقد سلك في المتقدم (الجوامد) وهي الجواهر، وسلك في المتخلف (الأفعال وما يتصل بها من الأسماء) أسماء المعاني والصفات. وليس هذا حسب بل أكد أن أكثر ما يتصل بالأفعال من الأسماء، إنما هو فرع على الأفعال. وأردف (إلا المصدر عند أصحابنا البصريين رحمهم الله/14) فإنهم يعتدّون الفعل فرعاً عليه. لكنه لم يشايعهم فيما انتحوه وقرروه كما سنراه. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 والأئمة في صلة الفعل بالمصدر من حيث الاشتقاق، على خلاف. فقد أكد الكوفيون أن الفعل أصل والمصدر فرع. وقطع البصريون بخلاف ذلك لكنهم اختلفوا في الصفات فمنهم من رد اشتقاقها إلى الفعل، كما فعل ابن جني، ومنهم من عزاها إلى المصدر، شأنه شأن الفعل. قال سيبويه في الكتاب (1/1) : (وأما الفعل فأمثلته أخذت من لفظ أحداث الأسماء ... والأحداث نحو الضرب والقتل والحمد..) وأيد ابن الأنباري في كتابه (الإنصاف في مسائل الخلاف) مذهب البصريين. وقال بقول البصريين كثير من المحدثين منهم الأستاذ عبد الله أمين، على ما جاء في مجلة مجمع اللغة العربية القاهري (1/ 382) ، وقد استند في ذلك إلى أن ابن الأنباري صاحب الأنصاف قد ساق في المسألة آراء كل من الجانبين ووازن بينها فلم يدع مقالاً لقائل، وقد خلص إلى الأخذ بمقالة البصريين. ومنهم الدكتور صبحي الصالح فاستشهد بما جاء في (أصول النحو) للأستاذ سعيد الأفغاني. قال الأفغاني: (المصدر يدل على حدث، والفعل يدل على حدث وزمن، والأسماء المشتقة تدل على حدث وزمن وزيادة ثالثة كالدلالة على الفاعل والمفعول) . أقول إن ما حكاه الأفغاني هو مقالة البصريين. ذلك أنهم بنوا رأيهم على أن الفرع ما كان فيه الأصل مع زيادة هي غرض الاشتقاق. فالمصدر يدل على الحدث مطلقاً فهو الأصل، وشأن الأصل أن يكون مطلقاً، والفرع أن يقيد كما قيد الفعل بالزمن المعين. أما الوصف فهو يدل على الحدث والموصوف، فإن ما فيه ما في المصدر من الحدث وزيادة كالدلالة على الفاعل.. فهو فرع عليه أيضاً، وليس فرعاً على الفعل، إذ ليس فيه ما في الفعل من الزمن المعين. وذهب بعض البصريين أن في الوصف ما في الفعل من الزمن، على كل حال، فهو فرع عليه. فالفعل قد نزع من المصدر والوصف قد نزع من الفعل، وعليه ابن جني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 أقول قد عرّف البصريون (الفرع) المشتق بالنسبة إلى (الأصل) المشتق منه فقالوا: (الفرع ما كان فيه ما في الأصل وزيادة) . فإذا سلمنا صحة هذا التعريف فلا بد من تصديق ما بني عليه. لكن هذا التعريف تعريف اسمي قصد به تحديد مفهوم اعتباري، وليس هو تعريفاً حقيقياً بالضرورة. قال الأستاذ الشيخ حسين والي عضو المجمع القاهري في الجزء الثاني من مجلة المجمع (رجحوا ما رأى أهل البصرة.. بحجة أن شأن الفرع أن يكون فيه ما في الأصل وزيادة، وهي أقوى ما عندهم من الحجج، مع أنه لا يقوم برهان يؤيدها..) وقال: (وأما من ناحية العمل فالفعل أصل بالاتفاق) . وقد جاء في حاشية الصبان على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك أن من الأئمة من ناقش قول البصريين في تضمن الفرع الزيادة على الأصل فقالوا: لا برهان يقتضي ذلك (4/250) . على أننا إذا اعتددنا (الأصل) هو ما سبق تصوره وقيامه في الذهن، فقد عرّفناه تعريفاً أليق بالواقع اللغوي وأكثر مواءمة له. وإذا كان المدرك الحسّي أسبق إلى الذهن من المدرك المعنوي، وأجناس الأعيان أسبق من أجناس المعاني ومنها المصادر، فالمصدر الدال على العموم والجنس والمطلق لا يتصور قبل تصور ما يتناوله من الفعل والمشتقات تناولاً واحداً. وما صح أنه الأسبق هو الأصل. وقد أشار الكوفيون على نحو من هذا فقالوا إن المصدر لا يتصور معناه ما لم يكن فعل فاعل. والفعل وضع له: فعل يفعل، فينبغي أن يكون الفعل الذي يعرف به المصدر أصلاً للمصدر. وبحث الدكتور مصطفى جواد عضو المجمع العلمي العراقي المسألة في كتابه (دراسات في فلسفة اللغة والنحو والصرف) . وقد أخذ بمذهب الكوفيين. واستدل على صحة المذهب بثلاثة عشر دليلاً، ثم قال: (هذه ثلاثة عشر دليلاً تنتقض دعوى سيبويه أن الفعل صادر عن المصدر، وهي أدلة نحن اهتدينا إليها، ولم يقف عليها الكوفيون وغيرهم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 أقول قد أصاب الدكتور جواد في الأخذ بطريقة الكوفيين والجري على منهاجهم، لكن جل ما جاء به من الأدلة، على سداده واستقامته، اصطلاحي اعتباري. وأظهر هذه الأدلة أن الفعل تجسيد والمصدر تجريد، كما أوضحناه. والمجسد أسبق إلى الذهن من المجرد. وإني لأستسرف، على كل حال، أن يكون الدكتور جواد قد تفرد بما ساق من الأدلة فأتى بما لم تفتح العين على مثله ونزع إلى ما لم يسبق إلى شيء منه. فقد ذهب في أول أدلته مثلاً إلى أنك تكتب ثم تسمي فعلك الكتابة) وقال الكوفيون أن المصدر لا يتصور معناه ما لم يكن فعل فاعل. وقال في أحدها أن اشتقاق الوصف من الفعل دون المصدر فكيف يكون هذا هو الأصل. والذي قاله جماعة من البصريين: (الوصف من الفعل، والفعل من المصدر) . واعتد السكاكي صاحب المفتاح المصدر فرعاً على الفعل كما قال الكوفيون. واعتل لذلك بأن المصدر يتبع الفعل في أعلاله وتصحيحه. ودليل السكاكي هذا في اعتداد الفعل أصلاً في الأعلال، اعتباري أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 هذا وقد أشار العلماء إلى أن اللغات السامية قد اعتمدت الفعل أصلاً للاشتقاق. قال الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه (تاريخ اللغات السامية/ 14) : (وقد رأى بعض علماء اللغة العربية أن المصدر الاسمي هو الأصل الذي يشتق منه أصل كل الكلمات والصيغ. لكن هذا الرأي خطأ في رأينا. لأنه يجعل الاشتقاق مخالفاً لأصله في جميع أخواتها السامية) . وأردف: (وقد تسرب هذا الرأي إلى هؤلاء العلماء من الفرس الذين بحثوا في اللغة العربية بعقليتهم الآرية. والأصل في الاشتقاق عند الآريين أن يكون من مصدر اسمي) . ولم يرتضِ الأفغاني هذا الرأي فقال: (ثم ذكر هذا المستشرق اليهودي أن هذه نظريته الخاصة، إذ لم يشر إليها أحد من علماء الإفرنج. ومع رغبته في أن يعم بنظريته هذه، اللغة العربية ولغته العبرية، يجدر بالمتأمل الوقوف وعدم القطع، ما لم يقم عليه البرهان الساطع، فما أكثر الظواهر التي خالفت فيها العربية أخواتها الساميات) . والجواب عن ذلك أنه لا بد للغات عامة أن تتغاير. لكن الأصل فيما يُعزى منها إلى فصيلة واحدة، أن يقع التغاير فيها على الأشكال والفروع كالأصوات والمفردات دون القواعد والأصول كالبنية اللغوية وأصول الاشتقاق. فالذي ذكروه أن العربية خالفت بعض أخواتها في أداة التعريف وعلامة الجمع، كما أورده الدكتور عبد الواحد وافي وفي كتابه فقه اللغة. والأستاذ محمد عطية الأبراشي في كتابه الآداب السامية. ولكنها لم تخالفها في البنية اللغوية وطريقة الاشتقاق كاعتمادها على الحروف الصامتة دون الصوتية، وكون عدد الحروف الأصلية في الكلم ثلاثة، وأن الأصل في بنيتها أو الجذر واحد لا يتعدد كما يتعدد في اللغات الآرية. فإذا اطمأنَّ هذا واستقرّ، صحّ أن مغايرة العربية لأخواتها إنما هي في الأشكال والفروع لا في القواعد الأولى والأصول. واعتماد اللغات السامية في اشتقاقها على الفعل، من هذه القواعد والأصول. 5- ما يعترض رد المادة اللغوية إلى أصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 واحد أو يحول دون الاهتداء إليه لا شك في أن الباب في الاشتقاق أن تردَّ مفردات المادة اللغوية إلى أصل. هذا ما يكشف عن سر اللغة وخصوصها. ولكن قد يحول دون ذلك إلى حائل يغدو به الأصل منيع الدرك عزيز المنال. وهذا ابن فارس فقد عمد، حين حقق مذهبه في الاشتقاق في معجمه الفذ (مقاييس اللغة) ، إلى رد المادة إلى أصل حيناً وإلى أصلين أو أكثر، هذا إذا اتفق له الاهتداء إلى أصل. وليس هذا عجباً فقد يتعدد الأصل أو يتعذر فيكون في التماسه والتلطف له تكلف وعسر، وقد يضل الرائد في طلبه فيطمع في غير مطمع. وأفصح ابن جني عن هذا في الخصائص (1/525) إذ كشف أن الاشتقاق لا ينقاد في كل مادة، صغيراً كان أم كبيراً. قال أبو الفتح: -واعلم أنا لا ندعي أن هذا مستمر في جميع اللغة، كما لا ندعي للاشتقاق الأصغر- أي الصغير وهو ما نحن فيه- أنه في جميع اللغة) . فقد عرض ابن فارس لـ (رطل) فلم يكشف عما يكون أصله فقال (الراء والطاء واللام كالذي قبله –أي ليس بشيء. إلا أنهم يقولون للشيء يكال به: رطل. ويقولون غلام رطل: شاب، ورطّل شعره كسره وثناه) . وتكلف ابن جني في الخصائص لهذا فقال (1/513. ط-1913) : (ومثل الأول قولهم غلام رِطل وجارية رِطلة للينها. وهو من قولهم رطّل شعره إذا أطاله فاسترخى. ومنه عندي الرطل الذي يوزن به. وذلك أن الغرض من الأوزان أن تميل أبداً إلى أن يعادلها الموزون بها، ولهذا قيل مثاقيل فهي من الثقل. فالشيء إذا ثقل استرسل وأرجحن فكان ضد الطائش الخفيف) : وأرجحن الشيء مال وثقل. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 وقد جاء عن العرب قولهم (كذب عليك الأمر) إذا وجب عليك فعله فأغريت به. قال ابن السكيت في (إصلاح المنطق/ 322) : (وتقول للرجل إذا أمرته بالشيء وأغريته به كذب عليك كذا وكذا، أي عليك به. وهي كلمة نادرة جاءت على غير القياس. قال عمر بن الخطاب، رحمه الله، يا أيها الناس كذب عليكم الحج، أي عليكم بالحج) . قال ابن السكيت هذا ولم يشأ أن يحمل معنى (كذب) في المثل، على معنى (الكذب) بتأويل. كذلك فعل الجوهري في الصحاح حين قال: (وكذب قد يكون بمعنى وجب) ثم حكى ما جاء به ابن السكيت. وفعل الإمام التبريزي في تهذيبه ما فعل الجوهري، كما جاء في المزهر (1/226) . وذهب صاحب المفردات مذهباً آخر فحاول أن يجعل (كذب) في المثل مجازاً من (كذب) بمعناه المعروف فقال (كذب لبن الناقة إذا ظن أنه يدوم مدة فلم يدم) أي ذهب عليك أو كاد يفوتك فبادر. ومن هذا كذب عليك إذا وجب فإنه (كقوله قد فات الحج أي كاد يفوت) فبادر. فتكلف في تأويله. وقد أطنب الزمخشري في الفائق وأطال في تخريجه، كما يقول ابن الأثير في النهاية. فذهب إلى أنه من قول العرب (كذبته نفسه) إذا منته الأماني وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون، وذلك مما يرغب الرجل في الأمور.. ثم جعل تقدير المثل جملتين (كذب الحج) و (عليك الحج) فحذف ما حذف وأصبح المثل (كذب الحج) . وفي هذا من التكلف ما هو باد جلي. وحكى الشيخ طاهر الجزائري يف حاشية خطبة الكافي (23) تأويلاً آخر لم يبرأ من تعسر، فاستقر بهذا تعذر تأويل المثل وفك مشكله على وجه ينجلي به الشك فيخلص إلى ما يشبه اليقين. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 وقد يذهب الأمر إلى ما وراء ذلك فيدل اللفظ على معنى لا سبيل إلى الكشف عن أصل اشتقاقه والاهتداء إليه بقاعدة أو استنباط. قال ابن جني في الخصائص (1/257. ط –1913) (واحتج أبو بكر عليه- أي علي أبي اسحاق- بأنه يؤمن أن هذه الألفاظ المنقولة إلينا قد كانت لها أسباب لم نشاهدها، ولم ندر قاعدتها. ومثل له بقولهم: رفع عقيرته إذا رفع صوته. قال أبو بكر: فلو ذهبنا نشتق لقولهم –عقر- من معنى الصوت لبعد الأمر جداً. وإنما هو أن رجلاً قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها موضع الأخرى، ثم نادى وصرخ بأعلى صوته. فقال الناس: رفع عقيرته، أي رجله المعقورة. وقال أبو بكر: فقال أبو اسحاق فلست أدفع هذا) . وقال الجوهري في الصحاح (.. فقيل بعد لكل رافع صوته قد رفع عقيرته) . وقال الزمخشري في أساسه: (ورفع عقيرته: صوَّت) . *** وقد يكون قد اعترى اللفظ في استحكام بنيته صنوف من التقليب والإبدال بعدت به عن هيكله ... أو يكون قد نسب إلى لهجة من اللهجات العربية (أو التي اعتدت عربية) غير لغة قريش التي سادت ما أسموه باللهجات الشمالية فكانت اللسان المبين الذي نزل به القرآن. قال أبو بكر بن دريد في (الاشتقاق /533) حول أسماء قبائل ذي الكلاع: (وقد عرَّفتك آنفاً أن هذه الأسماء الحميرية لا نقف لها على اشتقاق، لأنها لغة قد بعدت وقدم العهد بمن كان يعرفها) . وقال ابن جني في الخصائص (1/395. ط-1913) : (وبعد فلسنا نشك في بعد لغة حمير ونحوها عن لغة بني نزار. فقد يمكن أن يقع شيء من تلك اللغة في لغتهم فيساء الظن فيه بمن سمع منه. وإنما هو منقول من تلك اللغة. ودخلت يوماً على أبي علي رحمه الله.. قال ما تقول فيما جاء عنهم من حوْريت. وخضنا معاً فلم نحل بطائل منه، فقال هو من لغة اليمن ومخالف للغة بني نزار، فلا ينكر أن يجيء مخالفاً لأمثلتهم) وحوريت اسم موضع. ولم نَحْلَ بطائل أي لم نظفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 وقد عنى الأئمة بلغة حمير لغات اليمن جميعاً: وعاش الحميريون أقرب العصور إلى الإسلام فكانوا أعرف شعوب الجنوب لديهم. ومن الثابت الذي لا مرية فيه، والعلماء منه على يقين جازم، أن القرابة بين لغات اليمن القديمة ولغات الحبشة السامية قوية لتشعب هذه من تلك. أما قرابة ما بين كل من هاتين واللغة العربية أي الحجازية، فعلى شيء من البعد. ونعني بلغات اليمن الجنوبية لهجة المعينيين والسبئيين والحضرميين والحميريين،. وهي لهجات جاهلية تكلم بها أهلها قبل الإسلام، واندثر بعضها قبل ظهوره، وبقيت منها بقية لا تزال آثارها حتى اليوم، كما فصله الدكتور جواد في كتابه (تاريخ العرب-3/ 13) . وقد يُنمى اللفظ إلى النبطية، وكان النبط عرباً، وذهب إلى هذا حديثاً المستشرق الألماني (نولدكه) في كتابه (اللغات السامية) . وكانت لغتهم أدنى إلى عربية الحجاز من اللهجات العربية الجنوبية. وقد يكون اللفظ منسوباً إلى لغة من اللغات السامية كالسريانية أو العبرية. ويصح القول بذلك إذا كان اللفظ غريباً في مادته العربية، متمكناً في اللغة الأخرى. أو كان اشتقاقه في هذه أظهر وأبين منه في العربية، أو ورد نص تاريخي ثابت بانتمائه إليها، أو كان في زنة عربية نادرة وهو في السامية المعنية شائع متعالم معروف. ولا ريب في أن القطع بانتماء اللفظ في الأصل إلى لغة سامية غير العربية عسير إذ ليس بين لغات الفصيلة الواحدة لغات بنات وأخرى أمهات. فقد يصدق القول بأنه من (السامي المشترك) أي مما جاء على صور متقاربة لفظاً ومعنى في لغات سامية متعددة، ومنها العربية. وقد يكون اللفظ معزواً إلى لغة أعجمية غير سامية كالفارسية أو اليونانية أو سواهما. ومن ثم كان لا بد من الحكم على انتماء اللفظ قبل التماس اشتقاقه ورده إلى أرومته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 فـ (الإبريق) من ذلك مثلاً موضع إشكال. قال الشيخ طاهر الجزائري في كتابه (التقريب/ 26) : (وانظر إلى لفظ الإبريق مثلاً فإنه إن كان اسماً للسيف البراق يكون له اشتقاق لأنه يكون عربياً محضاً، واشتقاقه من البريق، والهمزة فيه زائدة، ووزنه إفعيل. وإن كان اسماً للإناء المعروف لا يكون له اشتقاق لأنه يكون معرّباً، والهمزة فيه أصلية، ووزنه فِعليل) . ونحو من ذلك (الحب) بضم الحاء وتشديد الباء فهو عربي وفارسي. وهو فارسي الأصل إذا كان للخابية أي الوعاء الذي يجعل فيه الماء، فقد جاء في المعرب للجواليقي (120) أن (الحب) فارسي معرب. وقال أبو حاتم: أصله الخنب، فقلبوا الخاء حاء وحذفوا النون، فقالوا: حب. قال الشيخ طاهر الجزائري في (التقريب/ 85) : (فأبدلت فيه الخاء حاء والنون باء، وأدغمت فيما بعدها) . وجاء في المعجم الذهبي: (خُنبه: جرة كبيرة لوضع الغلال) . وهو معجم فارسي. 6- الحكم في أصل اللفظ أعربي هو أم دخيل حاول الأئمة أن يتعرفوا عجمة الأصل بضوابط لفظية فذكروا من ذلك خروج الكلمة عن أوزان العربية، واجتماع حرفين لا يجتمعان في كلمة عربية كالطاء والجيم، والجيم والصاد، والصاد والطاء، والسين والذال، والسين والزاي ... ومما اتخذوه ضابطاً للأعجمي أن يكون اللفظ رباعياً أو خماسياً ولا يتفق فيه شيء من حروف الذلاقة وهي الباء والراء والفاء واللام والميم والنون.. وهي أخف الحروف. وعلى ما فصلوه في هذا الباب وبسطوا القول فيه فقد اختلفوا فيما نسبوه إلى العجمة أو عزوه إلى لغة بعينها فأصابوا وجه الرأي حيناً وأبصروه، وأخطأهم التوفيق والتبس عليهم في البحث وجه الصواب، حيناً آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 ذلك لقصور مقاييسهم التي اتخذوها عياراً من جهة وتعسر الحكم في تنقل الألفاظ بين اللغات، وخفاء أعلامه في دورانها بين لغات من فصيلة واحدة من جهة أخرى. فقد كان لا بد من تمكنهم من اللغات التي عزوا إليها، وإطلاعهم على أصولها اللغوية وتتبع هجراتها التاريخية واشتباك الصلات بين شعوبها وتمازج ثقافاتهم، وأثر ذلك كله في ثراء لغاتهم وتناميها. قال الأستاذ عبد المجيد عابدين في كتابه (بين الحبشة والعرب/ 98) : (فقد أورد السيوطي في الإتقان باباً ذكر فيه ما ورد في القرآن من الألفاظ بغير لغة العرب. ذكر منها قرابة ستة وعشرين لفظاً أرجعها إلى اللغة الحبشية ولكن أكثرها لم يثبت اشتقاقه منها) . ولا يخفى أنه كان بين السامية الحبشية والعربية الجنوبية وشائج شابكة، ولا ننس أن السكان الساميين في الحبشة إنما كانوا من عرب الجنوب. وأول لغة تكلم بها هؤلاء اللغة الجعزية لغة قبائل الأجاعز. وهم أقدم من سكن الحبشة من أهل اليمن. ثم غلب على هذه، اللغة الأمهرية. وقد سميت بلادهم بالحبشة. و (حبشت) اسم قبيلة من قبائل عرب الجنوب وافت البلاد وسكنت أجزاءها الشمالية. وهذه أمثلة على طريقة الحكم على عجمة اللفظ: فقد ذهب الجواليقي في المعرب (30) إلى أن (الأبيل) ومعناه الراهب، فارسي معرب. لكنه لم يذكر أصله أو يستدل على عجمته بدليل. وحكاه عنه الخفاجي في الشفاء ولم يزد على ما قاله الجواليقي. ويتجه لي أن اللفظ عربي. فابن دريد ذكره في الجمهرة ولم يشر إلى أنه دخيل (1/324) ، وكذلك فعل صاحب المقاييس والجوهري في صحاحه. أما الزمخشري فقد ذكر أصله حين قال: (وقد أبل أبالة فهو أبيل، كما تقول فقه فقاهة فهو فقيه، وكذلك فعل صاحب النهاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 وأكد الأستاذ عبد الوهاب عزام في مقدمة كتاب المعرب أن (الأبيل) ليس فارسياً بل سرياني، ومعناه في الأصل: الحزين، ويقال للراهب. قلت قد رأيت أن الأبيل عربي وقد اتضح اشتقاقه، وليس كل لفظ عربي عرف في السريانية، دخيلاً في العربية. فالأبيل إذاً من الألفاظ السامية المشتركة فهو عربي مشترك، وليس فارسياً. فقد أتى النيسابوري بالأبيل في كتابه (السامي/44) على أنه عربي وترجمه إلى الفارسية بلفظ لا يمت إليه. على أن ثمة (الأيبل) على (فيعُل) وهو بمعناه، وأراه أعجمياً. إذ ليس في كلام العرب (فيعُل) كما قال سيبويه في الكتاب (2/325) إلا معتلاً. وهو إذا لم يكن على (فيعل) فهو على (أفْعُل) . ولا يأتي هذا إلا جمعاً (2/316) . فاستبان بهذا أن (الأبيل) عربي، وأن (الأيبل) هو المعرب، وقد يكون قد عرب من السريانية. ومثال آخر مشهور هو (الزور) وله في العربية معنيان: الأول هو القوة، وهو معناه بالفارسية أيضاً. وقد جاء بضم الزاي وفتحها. والثاني هو الكذب وما يعبد من دون الله تعالى كالصنم. فالزور بمعناه الثاني عربي محض، وليس الزور في الفارسية بهذا المعنى. أما الزور بمعناه الأول فقد قيل أنه معرب من الفارسية، وهو فيها بهذا المعنى، لكنه جاء بضمة مشوبة بفتحة فآلت بالتعريب إلى ضمة خالصة. وقد أوجز صاحب التقريب القول في هذه المسألة فقال: (الزور بالضم إن كان بمعنى الكذب كان عربياَ محضاً، وإن كان بمعنى القوة كان معرباً من زور بضمة مشوبة بفتحة. والإبدال هنا لا مندوحة عنه) والإبدال المقصود إبدال حركة الزاي. 7- اشتقاق العربي من المعرّب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 ومما يتصل بالاشتقاق عامة، الاشتقاق من المعرب. فقد قضوا ألا يشتق لعربي من أعجمي كما لا يشتق لأعجمي من عربي. فقد جاء في المزهر (1/168-ط. المكتبة الأزهرية) : (سئل بعض العلماء عما عربته العرب من اللغات واستعملته في كلامها، هل يعطى حكم كلامها فيشتق ويشتق منه؟) . وقد أجاب بما نصه (.. فقول السائل يشتق جوابه المنع. ومحال أن يشتق العجمي من العربي أو العربي منه. لأن اللغات لا تشتق الواحدة منها من الأخرى، مواضعة كانت في الأصل أو إلهاماً. وإنما يشتق في اللغة الواحدة بعضها من بعض. لأن الاشتقاق نتاج وتوليد. ومحال أن تنتج النوق إلا حوراناً وتلد المرأة إلا إنساناً) . فمنع أن يكون اشتقاق بين عربي وعجمي، لكنه أردف مستدركاً فقال: (وقول السائل ويشتق منه، فقد لعمري يجرى على هذا الضرب، المجرى مجرى العربي، كثير من الأحكام الجارية على العربي من تصرف فيه، واشتقاق منه) . فأوضح أن مما عربته العرب ما أخضع لأحكام العربية فتصرف فيه واشتق منه. وهذا موضع أوجبه الاستعمال واقتضاه عرف اللغات. ولا بدع إذا تجاوزت لغتان من فصيلتين أن تقبس كل من الأخرى فتسيغ ما نقل إليها وتؤلفه فتخضعه لأصولها وتدخله في بنيتها فيغيب في نسجها. ويحتفظ كل من اللغتين بقواعد فصيلته الأصلية. وإلا فهل يعقل أن يستملح لفظ أجنبي ويقتنص فيدخل في مفردات لغة فيسلك في بنيتها، ثم يجمد فلا يصقله الاستعمال ويجريه المجرى الذي يقتضيه اشتقاقاً وتصريفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 وقد ذهب ابن جني في الخصائص هذا المذهب فقال (1/362-ط- 1913) : (ويؤكد هذا عندك أن ما أعرب من أجناس الأعجمية، قد أجرته العرب مجرى أصول كلامها. ألا تراهم يصرفون في العلمَ نحو آجرٍ وابريسمٍ وفرندٍ وفيروزجٍ، وجميع ما تدخله لام التعريف، وذلك أنه لما دخلته اللام في نحو الديباج والفرند.. أشبه أصول كلام العرب، أعني النكرات، فجرى في الصرف ومنعه مجراها، قال أبو علي: ويؤكد ذلك أن العرب اشتقت من الأعجمي النكرة، كما اشتق من أصول كلامها. قال رؤبة: هل يُنجيني حلف سختيت أو فضة أو ذهب كبريت قال فسختيت من السخت، كزحليل من الزحل..) . فاشتق من (السخت) وهو معرب، (سختيت) كما اشتق من (الزحل) وهو عربي (زحليل) . وقد جرى الجواليقي في المعرب على هذا المنهاج ويمم سمته فقال إن المعربات أعجمية باعتبار الأصل، عربية باعتبار الحال. وقد أخذ بهذا ابن الجوزي. ويتبين بالاستقراء أن من المعرب ما قل تصرف العرب فيه، ومنه ما كثر واتسع. من ذلك (الورد) لما يشم. فهو اسم فارسي معرب. وقد اشتقوا منه (ورد، وتورد، وورّد) . و (الدينار) فقد جاء في المعرب أنه فارسي معرب. وصححه الأستاذ عبد الوهاب عزام في مقدمة الكتاب فجعله رومي الأصل. وهو على حق. وذكر صاحب التقريب (وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن كلاً من الدرهم والدينار معرب من اليونانية) والرومية تعني اليونانية. وقد قالوا منه (ثوب مدنر، ودنر فلان إذا كثرت دنانيره) . و (الديوان) فارسي معرب، وقالوا منه (دوّنه) إذا جعله في الكتاب وأثبته وصنفه. و (الأربون) كالعربون وزناً ومعنى، وهما معربان. وقد قالوا (أربنه) إذا أعطاه العربون. وكذلك (عربنه وعربنت في الشيء وأعربت فيه) إذا أسلفت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 وإذا ضاق التصرف في (الورد والدينار والديوان والأربون والعربون) فقد اتسع في (لجام) فهو معرب أصله فارسي. وقد عومل معاملة العربي فجمع على (لجم) ككتب، وصغّر على (لجيِّم) ككتيّب. واشتق منه فعل فقيل (ألجمه) ومصدر فقيل (الجام) . وجاء في المزهر (1/169) : (وتكاد هذه الكلمة، أعني لجاماً، لتمكنها في الاستعمال وتصرفها فيه تقضي بأنها موضوعة عربية لا معربة ولا منقولة، لولا ما قضوا به من أنها معربة) . أقول بل جمع على (ألجمةٍ ولجم) وقيل (ملجم) لموضع اللجام، كما قيل تلجمت الحائض إذا شدت اللجام في وسطها. على أني أكاد أجزم أن (اللجام) عربي لا دخيل، إذ كيف يمكن أن يذهب الظن إلى استعارة العربي اسم هذه الأداة من الفرس، وهي من ألزم أدواتهم فيما عانوا من حياة البداوة. وإذا عدت إلى اتساع العرب في تصرفهم به قوي في نفسك، واستقر في حسبانك، أنه أصيل، فهو المتبادر من الأمر والغالب في الظن. وإذا كان الأئمة قد قالوا بعجمته لثبوت الشبه بينه وبين مرادفه الفارسي، فليس كل لفظ عربي اتفق له في الفارسية أو سواها، شبيه (في لفظه ومعناه) ، هو دخيلاً في العربية. وما أحكم قول الأستاذ عبد الوهاب عزام حول ذلك في مقدمة كتاب (المعرب) حين قال: (فرب لفظ فارسي يظن أصلاً للفظ عربي وهو في الحقيقة لفظ سامي تسرب إلى الفارسية في العصور القديمة. وقد بعد بالباحثين عن الصواب ظنهم أن العربية لم تهب اللغات الأخرى من ألفاظهم إلا في العصور الإسلامية) . وذهب أحمد فارس الشدياق إلى عربية (اللجام) فرده إلى (لجم الثوب) إذا خاطه. أقول يقوي هذا في النفس أن (اللجام) وزان (فعال) ، وهو من أوزان أسماء الآلة، كالنظام والرباط والوكاء والنقاب والقناع والصمام والقياد والشداد والأزار والقرام، والوثاق والجماع، كما جاء في شرح الحماسة للمرزوقي (1115) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 وذهب محقق العرب إلى الشك في عجمة (اللجام) أيضاً كدأبه في التعقيب على المعربات، ولا ننس أن شيوع اللفظ واتساع تصرفه قد أصبحا ذريعة للارتياب في عجمته والحكم بنفيها، في أظهر الوجهين وأسلمهما من القدح، كما أخذ به الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه (القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث) ، على حين استدلوا بغربة اللفظ وضيق تصرفه على عجمته، في أمثل القولين وأوجههما وأدناهما من الصواب. وفي الألفاظ الفارسية لأدي شر أن (اللجام) تعريب (لكام) بكاف فارسية، وأنه كذلك بالآرامية والحبشية. وقال: (وعندي أن اللفظة سامية الأصل وإنما الفارسية أخذتها من الآرامية) . ويعزز هذا ما ذهبنا إليه وانتحيناه. ويؤسس عليه أن (اللجام) مشترك سامي في العربية والآرامية والحبشية. وقد اتسع التصرف في (الجزاف) مثلثة الجم، من قولك (هذا بيع جزاف) . وقد أجمع الأئمة أنه معرب (كزاف) الفارسي. وقد قالوا منه جازف، وحامل جزوف إذا تجاوزت حد ولادتها، واجتزفه اشتراه جزافاً، وتجزف فيه تنفذ وتصرف، والجزف أخذ الشيء جزافاً ... قلت ما أحسب (الجزاف) إلا عربياً أيضاً. فانظر إلى ما جاء في الألفاظ الفارسية لأدشير: (الجزاف والجزافة الحدس والتخمين في البيع والشراء، تعريب كزاف، بكاف فارسية. وأصل معناه الأخذ بكثرة من غير تقدير. وقال فيه العرب: جزف وجازف وتجزف واجتزف إلى غير ذلك. ومنه الآرامي ... ) . أو ليس مجيء اللفظ في العربية والآرامية دليلاً على ساميته وأنه عربي أصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 أسمَاءِ المصَادر بسطنا القول في الفصل السابق، على المصادر وجمعها، فما القول بعدُ، في أسماء المصادر وجمعها؟ اسم المصدر هو ما دل دلالة المصدر على الحدث وجنسه، ولا يعنينا بعدُ أن تكون الدلالة مباشرة أو غير مباشرة، كما في قولهم: المصدر مدلوله الحدث واسم المصدر مدلوله اللفظ الدال على الحدث ثم لا يعنينا فرق ما بينهما في المعنى من حيث أن المصدر دال على الحدث باعتبار صدوره عن الفاعل المنسوب إليه، وإن اسم المصدر دال على الحدث من حيث هو، دون ملاحظة تعلقه بالمنسوب إليه. قال الرضي: (الحدث إن اعتبر صدوره من الفاعل ووقوعه على المفعول سُمي مصدراً) وإذا لم يعتبر من هذه الحيثية سُمي اسم مصدر) . وجاء شرح ذلك في (بدائع الفنون) ، قال ابن القيِّم: (وأما الفرق المعنوي فهو أن المصدر دال على الحدث وفاعله، فإذا قلت تكليم وتسليم وتعليم ونحو ذلك، دل على الحدث ومن قام به، فيدل التسليم على السلام والمسلِّم، بكسر اللام المشدّدة، وكذلك التكليم والتعليم. وأما اسم المصدر فإنما يدل على الحدث وحده، فالسلام والكلام لا يدل لفظه على مسلِّم ومُكلِّم، بخلاف التكليم والتسليم. فاسم المصدر جردوه لمجرد الدلالة على الحدث) . هذا من حيث الدلالة، أما حيث اللفظ فقد قالوا أن المصدر هو الجاري على فعله الذي هو قياسه كالأفعال من أفعل، والتفعيل من فعَّل، والانفعال من انفعل، والتفعل من تفعل. وأما اسم المصدر فإنه يخالف المصدر في عدم جريانه على الفعل الذي يجري عليه المصدر. فالسلام والكلام لا يجريان على فعلهما، ومن هنا احتواء المصدر على أحرف فعله أو أكثر، وخلو اسم المصدر من بعضها لفظاً أو تقديراً دون عوض. جمع أسماء المصادر إذا صح ما تقدم في تعريف اسم المصدر فما القول في جمع أسماء المصادر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 الجواب عن هذا أن اسم المصدر في جمعه كالمصدر، كلاهما في هذا الباب شرع واحد. فاسم المصدر لا يجمع ما دل على حدث الفعل وجنسه. فإذا جمع فقد فارق حدث فعله أو جنسه، وأريد به مجرد الاسمية معنى أو ذاتاً. فانظر إلى ما جاء في شرح ديوان الحماسة (1177) ، قال المرزوقي: (وقال آخر: رأيت اليتامى لا تسدّ فقورهم هدايا لهم في كل قعبٍ مشعب وجمع الفقور لاختلاف وجوهها) . فقد جمع الشاعر (الفقر) على (الفقور) وعلل المرزوقي جواز جمعه باختلاف وجوهه، كما علل لذلك في جمع المصادر. والفقر اسم مصدر. قال صاحب المصباح (الفقير فعيل بمعنى فاعل، قال ابن السرّاج، لم يقولوا فقُر بالضم، استغنوا عنه بافتقر. والفقر بالفتح والضمّ لغة، اسم منه) فالفقر إذن اسم مصدر من الافتقار، وهو دال على الحدث وجنسه مالم يُجمع. قال الشاعر: ويعجبني فقري إليك ولم يكن ليعجبني، لولا محبتك الفقرا وقد استشهد به صاحب المفردات فقال: (الرابع الفقر إلى الله المشار إليه بقوله: (اللهمّ أغنني بالافتقار إليك، ولا تفقرني بالاستغناء عنك) ، وإياه عني بقوله: (إني لما أنزلت إلي من خير، فقير. وبهذا ألمّ الشاعر فقال: ويعجبني فقري إليك .... ) . فالفقر حين جمعه الشارع فقال: (لا تسدّ فقورهم) ، قد عنى به الحاجة فأفقده حدثه وجنسه، ولو أراد به قيام الحاجة وحدثها كما جاء في قول الشاعر (فقري إليك) لامتنع من جمعه. قال الجوهري في صحاحه (وأفقره الله من الفقر فافتقر ويقال سد الله مفاقره أي أغناه وشد وجوه فقره، وقولهم فلان ما أفقره وما أغناه شاذ لأنه يقال في فعليهما افتقر واستغنى فلا يصح التعجب منهما) . وفي النهاية (المفاقر جمع فقر على غير قياس، كالمشابه والملامح ... ) ، وقد رأيت أن ثمة من جمع الفقر على فقور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 ومثال آخر (الصلاة) فهي في الأصل اسم مصدر من (صلَّى) . قال صاحب الصحاح: (الصلاة الدعاء ... والصلاة من الله تعالى الرحمة، والصلاة واحدة الصلوات المفروضة، وهو اسم يوضع موضع المصدر تقول صليته صلاة ولا تقل تصلية) . وقال صاحب الكليات (223) : (الصلاة هي اسم لمصدر وهو التصلية، أي الثناء الكامل وكلاهما مستعملان، بخلاف الصلاة بمعنى أداء الأركان، فإن مصدرهما لم يستعمل) . وجاء: (وأما صلَّى صلاة وزكى زكاة ووصى وصاة، وما أشبه ذلك، فإنها أسماء وقعت موقع المصادر واستغنى بها عنها) ، وقال ابن سيده في المخصص (13/ 85) : (إذا كانت الصلاة مصدراً، وقع على الجمع والمفرد على لفظ واحد، فإذا اختلف جاز أن يجمع لاختلاف ضربه) . فيتبين بهذا أن الصلاة في الأصل اسم مصدر يقع على الحدث وجنسه، وقد استغنى به عن المصدر، وحين سُمِّيَ به كانت الصلاة واحدة الصلوات المفروضة. ومثال ثالث هو (الكلام) ، فإنه اسم مصدر، والمصدر التكليم. قال ابن جني في الخصائص (1/ 23) : (وذلك أن الكلام اسم من كلّم بمنزلة السلام من سلَّم، وهما بمعنى التكليم والتسليم، وهما المصدران الجاريان على كلَّم وسلَّم) . فقد نبه على أن (الكلام) اسم مصدر، وإنه بمنزلة (التكليم) وهو المصدر. وأردف (فلما كان الكلام مصدراً يصلح لما يصلح له الجنس، ولا يختص بالعدد دون غيره، عدل عنه إلى الكلم الذي هو جمع كلمة) . فجعل الكلام والتكليم سواء من حيث اشتمالهما على الجنس الدال على القليل والكثير، لكن الجنس الذي انطوى عليه الكلام هو جنس (الجمل) ، لا جنس (الفعل) . قال ابن جني: (فالكلام إذاً إنما هو جنس للجمل التوامّ بمفردها ومثناها ومجموعها) . فذهاب ابن جني إلى أن (الكلام) هنا اسم مصدر وأنه بمنزلة المصدر، إنما جرى اعتباراً بما اعتد أصلاً، لأنه قد عنى بالكلام جنس (الجمل) لا جنس الفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 وقال أبو محمد عبد الله الخفاجي في سر الفصاحة (24) : (الكلام اسم عام يقع على القليل والكثير، وذكر السيرافي أنه مصدر، والصحيح أنه اسم مصدر، والمصدر التكليم، قال الله تعالى: (كلم الله موسى تكليماً (. ولعل أبا سعيد تسمَّح في إيراد ذلك وقال مجازاً) . أقول ما قاله الخفاجي في (الكلام) هو ما اعتد أصلاً، لكن الذي عناه، هنا أنه اللفظ المنطوق به. قال الخفاجي (41) : (بينا فيما تقدم أن الكلام هو الصوت الواقع على بعض الوجوه) ، وهو ما أراده ابن جني حين قال (1/30) : (الكلام في لغة العرب عبارة عن الألفاظ القائمة برؤوسها المستغنية عن غيرها، وهي التي يسميها، أهل هذه الصناعة، الجمل على اختلاف تركيبها) . فإذا أردت ما يدل على جمع الآحاد قلت (الكلم) والواحد الكلمة، وإذا أردت ما يدل على الجنس جنس الجمل التوام، إجمالاً، قليلها وكثيرها، قلت (الكلام) فأغناك هذا عن الجمع، والكلام في الأصل اسم مصدر للفعل (كلَّم) . وليس بين ابن جني والخفاجي في حد الكلام إلا اشتراط الإفادة عند الأول وعدم اشتراطها عند الثاني: اسم المصدر اسم للحدث واسم للعين يتبين مما تقدم أن اسم المصدر هو اسم للحدث حيناً، وهو اسم للعين حيناً آخر، كما عناه ابن جني والخفاجي حين عرّفا (الكلام) ، ولا يعنينا أيهما الأصل اسم الحدث أو اسم العين، فقد ذكر الرضي في شرح الكافية اسم المصدر هو اسم العين المنقول إلى الحدث، إذ قال: (اسم المصدر هو اسم العين يستعمل بمعنى المصدر كقوله: أكفراً بعد ردّ الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 أي إعطائك .... والعطاء في الأصل لما يُعطى) . فذهب الرضي بهذا إلى أنه ليس ثمة اسم مصدر دال على الحدث إلا واسم العين أصل له. وقد أكد صاحب المصباح أن اسم العين في (الكلام) هو الأصل، وأن اسم (الحدث) فيه، هو الفرع، فقال: (كلمته تكليماً والاسم الكلام ... والكلام في أصل اللغة عبارة عن أصوات متتابعة لمعنى مفهوم، وفي اصطلاح النحاة، هو اسم لما تركب من مسند ومسند إليه، وليس هو فعل المتكلم. وربما حصل ذلك نحو: عجبت من كلامك زيداً) . فالكلام الذي هو فعل المتكلم هو الفرع. وإذا كان ما ذهب إليه الفيومي من أن (الكلام) في أصل اللغة، هو أصوات متتابعة لمعنى مفهوم، يعني أن اسم المصدر الذي على (الحدث) هو الفرع، والدال على (العين) هو الأصل، فإن في طبيعة نشوء اللغة وتوالد ألفاظها، ما يؤيد هذا المذهب ويدعمه، ولو أن مدار البحث لدى النحاة حيناً أن اسم المصدر في الأصل، هو اسم الجنس المراد به الحدث. إعمال اسم المصدر ذهب ابن هشام في شرح شذور الذهب إلى ما ذهب إليه الفيومي، من أن الأصل في اسم المصدر أن يدل على اسم العين ثم يراد به الحدث. قال ابن هشام (410) : (اسم المصدر والمراد به اسم الجنس المنقول عن موضوعه إلى إفادة الحدث، كالكلام والثواب..) . وقال (412) : (كالكلام فإنه في الأصل اسم للملفوظ به من الكلمات، ثم نقل إلى معنى التكليم. والثواب فإنه في الأصل لما يُثاب به العمال، ثم نقل إلى معنى الإثابة) وأردف (وهذا النوع ذهب الكوفيون والبغداديون إلى جواز إعماله تمسكاً بما ورد، نحو قوله: أكفراً بعد ردّ الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا وقوله: قالوا كلامك هنداً وهي مصغية يشفيك قلت صحيح ذاك لو كانا ومنع البصريون فأضمروا لهذه المنصوبات ألفاظاً تعمل فيها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 وإذا كان البصريون قد أعملوا المصدر ولم يُعملوا اسمه، وهما في الدلالة على الحدث سواء، فذلك أن المصدر دال على الحدث وفاعله المنسوب إليه، واسم المصدر مقصور على مجرد الحدث، كما أوضحناه. قال صاحب الكليات (328) : (وقيل المصدر موضوع للحدث من حيث اعتبار تعلقه بالمنسوب إليه على وجه الإبهام. ولهذا يقتضي الفاعل والمفعول، ويحتاج إلى تعيينهما في استعماله، واسم المصدر موضوع لنفس الحدث من حيث هو، بلا اعتبار تعلقه بالمنسوب إليه في الموضوع له، وإن كان له تعلق في الواقع، ولذلك لا يقتضي الفاعل والمفعول، ولا يحتاج إلى تعيينهما) . أما الكوفيون فقد ذهبوا إلى جواز قيام اسم المصدر مقام المصدر، وإنزاله منزلته، كما ورد عن العرب، وإن قلَّ فقضَوا باعماله، ولكل وجهة. وقد جاء في شرح الكافية للرضي (2/189) : (ويعمل اسم المصدر عمل المصدر، وهو شيئان، أحدهما ما دلّ على معنى المصدر مزيداً في أوله ميم كالمقتل والمستخرج، والثاني اسم العين مستعملاً بمعنى المصدر كقوله: أكفراً بعد ردِّ الموت عني وبعد عطائك المائة الرِّتاعا أي إعطائك، والعطاء في الأصل اسم لما يُعطى) . ومن ذلك قول الشاعر: إذا صحَّ عون الخالِقِ المرءَ لم يجد عسيراً من الآمالِ إلا ميسَّرا وقول آخر: بِعشرتك الكرامَ تُعَدَّ مِنهم فلا تُرَيَنْ لغيرهمُ ألوفا ومن ذلك الحديث: من قُبلة الرجل امرأته الوضوء. الاسم المصدري الجاري على أحرف الفعل الأصل في اسم المصدر، كما تقدم، أن يخالف المصدر بخلوّه لفظاً أو تقديراً) ، دون عوض، من بعض ما في فعله، وأن يطلق على اسم الحدث حيناً، واسم العين حيناً آخر. وقد أشار الأئمة إلى أسماء مصدرية أخرى قد ساوت المصدر في حروفه ولفظه، أو ساوت المصدر في حروفه وقاربته في لفظه، وقد أُطلقت إما على الحال التي حصل بها الفعل خالية من الحدث، أو على اسم الذات من ذلك. فـ (الطُهور) بضم الطاء للمصدر، وبفتحها لما يُتطهَّر به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 و (الوضوء) بالضم للفعل، وبالفتح للماء يُتوضأ. على أنهما جاءا بالفتح مصدرين أيضاً. ففي الكامل للمبرّد (2/77) : (ولم يأتِ من المصادر شيء مفتوح الأول إلا أشياء يسيرة، قالوا: توضأت وضوءاً حسناً بالفتح، وتطهَّرت طهوراً بالفتح، وأولعت بالشيء ولوعاً بالفتح. وإن عليه لقبولاً بالفتح، ووقدت النار وَقوداً بالفتح. وأكثرهم يجعل الوقود بالفتح الحطب، والوقود بالضم (المصدر) . وفي إصلاح المنطق لابن السكيت من باب (فعول) بالفتح: (وتقول توضأت وضوءاً حسناً بالفتح) . وفي أمالي المرتضى (1/397) : (وقد يجوز أن يكون الوقود بفتح الواو مصدراً، وكذلك الوضوء بفتح الواو، كما قالوا حسن القبول مصدراً وهو مفتوح الأول، ولا يجوز في الوقود والوضوء بالضم إلا معنى المصدر وحده) . وفي النهاية لابن الأثير: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور بالضم، التطهر، وبالفتح الماء الذي يتطهر به كالوضوء بالضم والوضوء بالفتح، والسحور بالضم والسحور بالفتح. وقال سيبويه: الطهور بالفتح يقع على الماء والمصدر معاً) . وجاء فيه (ذكر الوَضوء والوضوء، فالوضوء بالفتح الماء الذي يُتوضأ به، كالفَطور بالفتح والسحور بالفتح، لما يفطر عليه ويتسحَّر به. والوضوء بالضم التوضؤ والفعل نفسه. يقال توضأت أتوضأ توضؤاً، وضوءاً وقد أثبت سيبويه الوضوء والطهور والوقود بالفتح في المصادر، فهي تقع على الاسم والمصدر) . وفي المصباح: (والوضوء بالفتح الماء يُتَوضَّأ به، وبالضم الفعل، وأنكر أبو عبيد الضمّ وقال: المفتوح يقوم مقام المصدر كالقبول يكون اسماً ومصدراً) . فدلّ هذا أن (الطهور والوضوء) : بالفتح مصدران واسمان كالوقود والولوع والقبول بالفتح. فإذا كانا بالضم فهما المصدران. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 وجاء (الغسل) بفتح أوله للمصدر، وبضمه لما يُغسل به أو للحال التي يكون بها الشيء مغسولاً، ولكن جاء (الغسل) بالضم اسماً ومصدراً. قال صاحب الصحاح: (غسلت الشيء غسلاً بالفتح، والاسم الغُسل بالضم) . وفصل صاحب المصباح فقال: (غسلته غسلاً من باب ضرب، والاسم الغسل بالضم وجمعه أغسال، مثل قفل وأقفال. وبعضهم يجعل المضموم والمفتوح بمعنى، وعزاه إلى سيبويه. وقيل الغسل بالضمّ هو الماء الذي يُتطهر به. وقال ابن القوطية: والغسل بالضم تمام الطهارة، وهو اسم من الاغتسال) . وتفصيل ما جاء في الأفعال لابن القوطية: (وغَسَل الشيء، غسلاً بالفتح والغسل بالضمّ: ما يُغتسل به، وهو أيضاً تمام الطهارة) . فثبت بهذا أن (الغسل) بالضمّ اسم ومصدر. فإذا كان بالفتح فهو المصدر. وكذا (الطُهر) بالضم. قال صاحب المصباح: (طهر الشيء من بابي قتل وقرب، والاسم بالضم ... ومنه قيل للحالة المناقضة للحيض طهراً، بالضم والجمع أطهار، مثل قفل وأقفال) . فتأكد بهذا أن (الطهر) بالضم اسم ومصدر. فإذا كان بالفتح فهو المصدر. والنقل بالفتح جاء مصدراً واسماً. قال الجوهري في صحاحه: (نَقلُ الشيء تحويله من موضعه إلى موضع، والنقل بالفتح أيضاً الخف الخَلَق والنعل الخَلَق المرقعة) ، لكنه أردف: (والنقل بالكسر مثله، يقال جاء في نقلين له بالفتح، وفي نِقلين له بالكسر، والجمع نقال) . وفي المزهر (1/196 (: (وفي كتاب ليس لابن خالويه: العامة تقول النقل بالضم للذي يتنقل به على الشرب، وإنما هو النقل بالفتح) . واستصوب الشيخ الحنبلي في بحر العوّام (101) النقل بالضم أيضاً. فثبت بهذا أن النقل بالفتح هو المصدر، أما الاسم فقد يكون بالفتح أو بالكسر أو بالضم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 وجاء (النصرة) بالضم مصدراً واسماً. ففي مفردات الراغب: (ونُصرة الله للعبد ظاهرة، ونُصْرة العبد لله هو نصرته لعباده، والقيام بحفظ حدوده ورعاية عهوده، واعتناق أحكامه واجتناب نهيه) . فجاء به مصدراً. وفي أساس البلاغة (نصرة الله تعالى على عدوّه ومن عدوّه نصراً ونُصرة) ، فجاء به مصدراً أيضاً. وأكد ذلك صاحب التاج فقال: (نصر المظلوم نصراً ونصوراً ونصرة بالضم، وهذه عن الزمخشري) ، وجاء فيه: (ونصره منه نصراً ونصرة بالضم نجَّاه وخلصه. وفي البصائر: ونصرة الله لنا ظاهرة ونصرتنا لله هو نصرتنا لعباده والقيام بحفظ حدوده ورعاية عهوده وامتثال أوامره واجتناب نواهيه) . وقد جاء الجوهري بالنصرة بالضم اسماً فقال: (نصره الله على عدوّه ينصره نصراً، والاسم النصرة بالضم) . وكذلك قال ابن سيده في محكمه والفيومي في مصباحه. *** وأكثر النصوص على أن (الولاية) بالفتح المصدر وبالكسر الاسم. ففي الصحاح: (وقال سيبويه الولاية بالفتح المصدر، والولاية بالكسر الاسم، مثل الامارة والنقابة بالكسر، لأنه اسم لما توليته) . على أنه جاء في الإصلاح لابن السكيت من باب الفعالة بالفتح والفعالة بالكسر. (يقال دليل بين الدلالة بالكسر والدلالة بالفتح، وهي المهارة والمهَارة بالكسر والفتح من مهرت الشيء، والوِكالة والوَكالة، والجِنازة والجَنازة والوِصاية والوَصاية، والجِراية والجَراية، والوِقاية والوَقاية، والوِلاية والوَلاية في النصرة، يقال هم على ولاية بالكسر ووَلاية بالفتح جميعاً ... ) ، فلم يفرق بين مصدر واسم. وفي مفردات الراغب: (الوَلاية بالفتح، والوِلاية بالكسر، تولَّي الأمر) فجعلهما سواء. وفي المصباح (ووليت الأمر إليه بكسرتين، وِلاية بالكسر توليته) ، فجعل المصدر بالكسر، وفيه: (والوَلاية بالفتح والكسر النصرة) فجَعلهما سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 وفي الكليات (الولاية بالفتح بمعنى النصرة والتولي، وبالكسر بمعنى السلطان والملك. أو بالكسر في الأمور، وبالفتح في الدين. يقال هو والٍ على الناس أي متمكن الولاية بالكسر. وهو وليّ الله تعالى، أي بيَّن الولاية بالفتح، أَو هما لغتان) . فالغالب أن الكسر للاسم. أما المصدر فمنهم من خصه بالفتح، ومنهم من جعل الفتح والكسر فيه لغتين. *** وبعد فما الرأي في هذه الأسماء المصدرية التي ساوت المصادر في حروفها ولفظها، أو ساوته في حروفها وقاربته في لفظها، ولم يُرَد بها الحدث، وإنما أريد اسم الذات أو المعنى؟ ... أقول قد جاء في الأشباه والنظائر للسيوطي (2/ 185) : (وقد يقولون مصدر واسم مصدر في الشيئين المتغايرين لفظاً، أحدهما للفعل والآخر للآلة التي يستعمل بها الفعل، كالطهور بالضم والطهور بالفتح. والأكل بالفتح والأكل بالضم. فالطهور بالضم المصدر والطهور بالفتح اسم لما يتطهر به. والأكل بالفتح المصدر، والأكل بالضم لما يؤكل) . وقد أورد هذا النص صاحب الكليات (328) : فأبدل من (المتغايرين لفظاً) ، (المتقاربين لفظاً) ، ولعله الوجه والأصل. والذي يستنبط من كلام السيوطي أن هذه أسماء مصادر أنزلت منزلة الأسماء لفقدها حدَثَها. قال صاحب الجاسوس على القاموس (195) : (والفرق بين المصدر والاسم، أن المصدر يتضمن معنى الفعل فينصب مثله، والاسم هو الحال التي حصلت من الفعل. مثال ذلك الغَسل بالفتح والغسل بالضم، تقول قد بالغت في غسلك هذا الثوب فتنصب الثوب. فإن أردت الحال قلت: لست أرى في هذا الثوب غسلاً بالضم، هذا ما ظهر لي) . وهذا يعني أن (الغسل) بالفتح دال على الحدث، و (الغسل) بالضم خال منه. وجاء في الفروق لإسماعيل الحقي (132/ 133) : (الفرق بين المصدر والحاصل بالمصدر أن المصدر نفس الإيقاع الذي هو أمر معنوي، والحاصل بالمصدر الأثر الذي يحصل بالإيقاع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 ومحصول القول في هذا أن المصدر ينطوي على الحدث، والحاصل بالمصدر عار عنه، أما قول الأئمة أن (الوضوء) بالفتح، من توضأ، وهو لما يتوضأ به، وأن الطهور بالفتح من تطهر، وهو لما يتطهر به، فإنه يعني أن كلاً من (الوضوء والطهور) بالفتح، اسم عين، إذا جُذب إلى (الحدث) غدا (اسم مصدر) على حد تعريف اسم المصدر، عند الرضي في شرح الشافية، وابن هشام في شرح شذور الذهب. ومتى دل المصدر أو اسمه، على اسم عين أو اسم معنى، جاز جمعه، مالم ينص على خلافه مراعاة للمصدرية الدالة في الأصل على الحدث وجنسه، فيستعمل استعمال المصدر، ولو سُمي به. ففي اللسان (والعَصَب ضرب من برود اليمن سُمي عَصَباً لأن غزله يُعصب، أي يدرج ثم يصبغ ثم يُحاك) . فدلّ هذا على أنهم قد سمَّوا (البرد) عَصْباً. والعَصب مصدر عصَب الشيء عصباً إذا شدَّه بالعصابة. وفي اللسان: (عَصَب الناقة يعصِبها عصبا وعصابا شدّ فخذيها أو منخريها بحبل، لتدرّ) . لكنهم لم يثنوا (العَصْب) ولم يجمعوه. قال ابن منظور: (ولا يجمع وإنما يقال بُرْد عَصب وبرود عَصْب، لأنه مضاف إلى الفعل: وربما اكتفوا بأن يقولوا: عليه العَصب، لأن البرد عُرف بذلك الاسم) . وقال الفيومي في مصباحه: (والعَصب مثل فَلس: برد يُصبغ غزلُهُ ثم ينسج، ولا يثنى ولا يجمع، وإنما يثنى ويجمع ما يضاف إليه، فيقال: بردا عَصبِ وبرود عَصب، والإضافة للتخصيص، ويجوز أن يُجعل وصفاً فيقال شربت ثوباً عَصَباً) . فتبين بهذا أن (العصب) سُمي به، لكنهم أنزلوه في الاستعمال منزلة المصدر فأضافوا البرد إليه. قال صاحب المصباح: (والبرد معروف وجمعه أبراد وبرود، ويضاف للتخصيص، فيقال: بُرد عَصب وبرد وشي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 والوشي في الأصل مصدر كالعصب، وقد سمي به أيضاً. قال الفيومي: (وشيت الثوب وشياً من باب وعد رقمته ونقشته فهو مَوْشيّ، والأصل مفعول. والوشي نوع من الثياب المَوْشيَّة تسمية بالمصدر) . وقال الزمخشري في أساسه: (ثوب موْشِيَّ ومُوَشَّى، وهو يلبس الوَشيّ) . على أنهم لم يترددوا مع ذلك في جمع (الوشي) خلافاً لما فعلوه في (العَصب) . قال صاحب الصحاح: (والوشي من الثياب معروف، والجمع وِشاء، على فَعل وفِعال) !.. وإذا كان العرب قد حرصوا على الأصل وأبقوا على الصيغة حيناً فتجنبوا أن يجمعوا ما نقلوه من المصادر إلى الاسمية، وما أرادوا به اسم المعنى أو العين من أسماء المصادر، ولم يزيلوا بالنقل ماكان لهم من الصيغة والحكم، ما أذنت بذلك أساليب تعبيرهم، فإنهم عمدوا كذلك، إلى جمع ما لم يُرَد به الحدث أو الجنس فيها، اعتباراً بالمعنى واعتداداً بالدلالة، واحتذى الأئمة حذوهم واقتاسوا قياسهم، فوجدنا في كلامهم مستفيضاً منه متداولاً. ومن هنا كان الوجه أن يساغ الجمع فيما يعترض من ذلك كله، كلَّما دعت إليه الضرورة في التعبير، ومسَّت إليه الحاجة في الاصطلاح، كما بيناه ودللنا على منهاجه. التجريب والتجربة قال الأستاذ الشيخ محيي الدين عبد الحميد، في مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، للدورة السابعة والثلاثين: (العرب لا يفرقون بين التجربة والتجريب، ولا فرق في المعنى بينهما أيضاً) . فردّ الأستاذ عباس حسن قائلاً: (هناك فرق في اللغة بين التجربة والتجريب. فقد جاء في المصباح: قال الأزهري جرَّبت الشيء تجريباً اختبرته مرة بعد أخرى، والاسم التجربة والجمع التجارب أ. هـ فالتجريب مصدر، وبهذا يدل على القليل والكثير، والتجربة اسم) . ويقول الأستاذ محيي الدين عبد الحميد: (في اللغة العربية يدل اسم المصدر على معنى المصدر) . فيجيب الأستاذ عباس حسن (هناك فرق كبير بين المصدر واسم المصدر، وبينهما وبين غيرهما من الأسماء) ، فما الرأي في هذا كله؟ ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 الجواب: أن المصدر واسمه سواء في الدلالة على حدث الفعل وجنسه كما ذكرنا، وليس بينهما إلا تعلق الأول بفاعله. قال ابن القيم: (وأما الفرق المعنوي فهو أن المصدر دال على الحدث وفاعله، وأما اسم المصدر فإنما يدل على الحدث وحده) ، وأردف (فاسم المصدر جردوه لمجرد الدلالة على الحدث) . وقد بسطنا القول فيه. أما عن (التجريب والتجربة) فإنهما مصدران. قال صاحب الهمع (2/ 167) : (ولفعَّل) تفعيل وتفعلة ككرّم تكريماً وتكرمة، وهيأ تهييئاً وتهيئة، وتختص تفعلة بالمعتل، فلا يرد فيه التفعيل كزكَّى تزكية) . فكلام صاحب الهمع صريح بأن (التفعيل والتفعلة) مصدران جاريان على (فعَّل) . ولو أن الأول هو المقيس المطرد. قال ابن هشام في شرح شذور الذهب (381) : (المصدر اسم الحدث الجاري على الفعل) . ثم قال: (واحترزت بقولي الجاري على الفعل، وذلك نحو قولك أعطيت عطاء، فإن الذي يجري على أعطيت إنما هو إعطاء لأنه مستوف حروفه) . فـ (التجربة) مصدر جار على (جرَّب) ، وقد استوفى حروفه. وهو وإن خلا من أحد حرفي التضعيف فقد عوَّض منه تاء (التفعلة) فأضحى كالتجريب سواء بسواء. فليست (التجربة) إذاً اسم المصدر الذي قال فيه النحاة هو ما ساوى المصدر في الدلالة على معناه وخالفه بخلوه لفظاً أو تقديراً دون عوض من بعض ما في فعله (الأشموني 105/ 106/ 2) . وانظر إلى ما جاء في اللسان (وجرَّب الرجل تجربة اختبره، والتجربة من المصادر المجموعة) ، فدل بكلامه على أن (التجربة) مصدر. أما الكلام على جمعه فسيأتي تفصيله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 ستقول وما توجيه ما جاء في المصباح: (جرَّبت الشيء تجريباً اختبرته مرة بعد أخرى، والاسم التجربة والجمع التجارب) ؟.. أقول توجيه هذا أن (التجربة) وهي مصدر كالتجريب، قد عدل بها العرب عن مصدريتها فاستعملت استعمال الأسماء فجمعت. وهي في هذا كـ (العيب) مثلاً حين جمع على عيوب. قال صاحب المصباح: (واستعمل العيب اسماً، وجمع على عيوب) . ونظائره كثيرة بسط القول فيها في الكلام على المصادر، ففي المصباح: (ثم استعمل النسب وهو المصدر في مطلق الوصلة بالقرابة، فيقال بينهما نسب أو قرابة، وجمعه أنساب) . وهكذا (البعث والوقف والفتح والوضع) ، فهي مصادر قد أنزلت منزلة الأسماء فجمعت. وفي المخصص لابن سيده (12/ 152) : (العون يكون مصدراً واسماً، فإذا كان مصدراً لم يجمع. وأما إذا كان اسماً فقيل يكون للواحد والاثنين والجمع والمؤنث، وقيل جمعه على أعوان وعوين) . والذي عندي أن توجيه هذا هو أن (العون) لا يجمع مصدراً، فإذا وصف به فكان بمعنى الظهير، وصف به الواحد والاثنان والجمع والمؤنث بلفظ واحد، وأما إذا كان اسماً فإنه يجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 فـ (التجربة) مصدر جار على فعله، لكنه استعمل استعمال الأسماء كالعيب والنسب واللفظ والبعث والفتح والوضع والعون.. وهو حين جذب إلى الاسمية لم يبق على مصدريته الدالة على الحدث وجنسه، وهذا ما أتاح جمعه. ذلك أن الأصل في (التجربة) ألا يجمع ما دام على حدثه وجنسه، ولو ختم بالتاء وإذا كان العلامة (يس) قد قال في حاشية التصريح أن المصدر لا يثنى ولا يجمع مالم يكن بالتاء، فإن قوله هذا لا ينقض ما قرر من أن ما جمع من المصادر فقد عري من جنسه أو حدثه. فقد رأينا في كلامنا على المصادر، أن ابن الأثير قد اعتل لجمع (التحية) على التحيات باختلاف ضروبه لا باختتامه بالتاء. قال ابن الأثير في النهاية (وإنما جمع التحية لأن ملوك الأرض يحيون تحيات مختلفة) فأخرجه عن جنسه. ثم قال: (التحيات لله أي الألفاظ التي تدل على السلام والملك والبقاء هي لله تعالى) . فعدل به عن حدثه. وما دامت (التجربة) ، قد أنزلت منزلة الأسماء فما الذي انتهت إليه من معنى أو أفضت إليه من دلالة؟ ... التجربة ودلالاتها وجمعها واعمالها قال صاحب الأساس: (ورجل مجرِّب ومجرَّب: ذو تجارب) . أو ليست (التجربة) ، في قولك: (فلان ذو تجربة) ، فقد فقدت حدثها؟ فقولك: (ذو تجربة) ، بمنزلة قولك: (ذو علم أو خبرة أو بصيرة أو دراية) . وهذه على التحقيق أسماء معان قد عريت من حدثها، لا مصادر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 فالتجربة هنا (الأثر الذي حدث بقيام الحدث) فهي على هذا اسم، وكذلك الأمر إذا عنيت بها ما قمت به من فعل لتعالج أمراً، أو شيئاً لاختباره، فإنك تضعها موضع الاسم. أما إذا عنيت بها: (علاجك الأمر لاختباره) ، فإنه مصدر باق على مصدريته دال على قيام الحدث نفسه. هذا ونص صاحب المصباح: (والاسم التجربة) وأراد فيه (والجمع التجارب) دليل على خروج (التجربة) ، بالاستعمال إلى مجرد الاسمية بفقدها (الحدث) ، واستحقاقها (الجمع) كسائر الأسماء. وقد كان له أن يعلل باختلاف الأنواع كما اعتل ابن الأثير لجمع التحية، وهو شأن النحاة في توجيه جمع المصادر، إذا آلت إلى الاسمية. على أن (التجربة) لم تنزل منزلة الأسماء، وتجمع وحسب، وإنما جاءت مصدراً فأعملت بل جاءت مصدراً مجموعاً، فأعملت أيضاً. فقد جاء في اللسان: (قال الأعشى: كم جرّبوه فما زادت تجاربهم أبا قدامة، إلا المجد والفَنَعا فإنه مصدر مجموع مُعمل في المفعول به، وهو غريب) . وقد ضعَّف النحاة هذا، وحاول ابن جني أن يجعل (أبا قدامة) مفعولاً لـ (زادت) لكنه قال: (والوجه أن ينصب تجاربهم لأنها العامل الأقرب) . فما وجه ذلك؟ هذا والفنع زيادة المال، ومسك ذو فنع ذكي الرائحة. إعمال المصدر المجموع شرط العمل في المصدر أن يبقى على مصدريته فيدل على حدثه وجنسه، ليستقيم نيابة عن فعله أو يصح حلول الفعل المصحوب بأن أو ما، محله، فهل يستمر المصدر على مصدريته إذا جمع فيمكن إعماله؟ أقول إذا جمع المصدر للعدد أو المرّة فلا يصدق على القليل والكثير، ويفتقد جنسه فيمتنع عمله. ومن ثم اشترط في إعمال المصدر أن يكون غير محدود، أي غير دال على المرّة، قال الأشموني (3/105) : (فالموحد بالتاء، أي تاء الوحدة، لم يعمل) . قيل: لأن صيغته ليست صيغة الفعل، ولو كانت التاء في أصل بناء المصدر كرحمة ورغبة ورهبة، لعمل. وإذا جمع المصدر لاختلاف ضروبه عُدل به، من الجنس إلى النوع، فبطل عمله أيضاً، فَقَد حدثه أم لم يفقد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 على أن ابن مالك قد ذهب إلى أن المصدر يجمع حيناً فيقصد به مجرد تكرير الفعل، ويبقى على حدثه وجنسه فيعمل. قال صاحب الهمع (2/ 92) : (وجوّزه قوم، أي عمل المصدر، في الجمع المكسَّر، واختاره ابن مالك، قال: لأنه: وإن زالت معه الصيغة الأصلية، فالمعنى معها باق ومتضاعف بالجمعية، لأن جمع الشيء بمنزلة ذكره متكرراً بعطف) . وهكذا أقر ابن مالك جمع المصدر الذي لم يعر من حدثه وجنسه، وأعمله، والقول بعد هذا أن ابن مالك أقر جمع ما جذب من المصادر إلى الاسمية كالعقول والألباب والحلوم، كما جاء في الهمع (1/ 186) ، تحصيل حاصل، ولكن شأن المصدر الذي لم يعر من حدثه وجنسه شأن المصدر المبهم الذي يساوي معنى عامله فلا يثنى ولا يجمع لأنه بمنزلة تكرير الفعل، كما قال صاحب الهمع، والفعل لا يثنى ولا يجمع. ولنعد إلى (التجربة) فأنت إذا قلت: (إن تجربتي إياه) ، فلا يعني قولك هذا أن (التجريب) ، قد وقع منك مرة واحدة بالضرورة، ليجمع إذا أريد به التكرير، لأنه يحتمل المرة والمرات بلا حد، فلا يبقى ما يدعو إلى جمعه. قال صاحب المصباح: (جرّبت الشيء تجريباً اختبرته مرة بعد أخرى) ، وكذلك قولك (تجريبك الشيء) فمعناه اختبارك إياه مرة بعد أخرى، قال ابن جني في الخصائص (1/ 25) : (وهذا طريق المصدر، لما كان جنساً لفعله، ألا ترى أنه إذا قام قومة واحدة فقد كان منه قيام، وإذا قام قومتين فقد كان منه قيام، وإذا قام مائة قومة فقد كان منه قيام ... ) . وقال أيضاً: (المصدر يتناول الجنس والآحاد تناولاً واحداً) . ومن ثم امتنع جمع المصدر ما بقي على مصدريته، فإذا جمع عُدل به عنها فندر إعماله، ولو ارتضاه جماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 قال صاحب المصباح: (وقال الجرجاني: لا يجمع المبهم، إلا إذا أريد به الفرق بين النوع والجنس، وأغلب ما يكون فيما ينجذب إلى الاسمية نحو العلم والظن ... ) ، وهذا ما حمل النحاة على تضعيف أعمال المصدر المجموع. قال صاحب الهمع: (قال أبو حيان: والمختار المنع، وتأويل ما ورد من ذلك) . *** فثبت بما بسطنا القول أن الدلالة اسم المصدر وجوهاً، فهو إما أن يعني الحدث كما يعنيه المصدر. قال الإمام الصبان (3/ 106) : (ومقتضى عبارته أن موضوع اسم المصدر الحدث كالمصدر ... وجزم به ابن يعيش وأبو حيان وغيرهما، وصوّبه بعضهم أن موضوعه المصدر نفسه) . وأما أن يخلو من الحدث فيدل على اسم عين كالعطاء لما يُعطى، أو اسم للمعنى الحاصل بالمصدر، أي الأثر الذي يحصل بإيقاع الفعل كما مثلوا له بالغُسل بالضم في قولك (لا أرى في هذا الثوب غسلاً) ، وكالعذاب الذي هو اسم من التعذيب. وذهب جماعة إلى أن الوجه الذي يدل به اسم المصدر على الحدث هو الفرع والذي يدل به على غيره كاسم العين هو الأصل. ومهما يكن من شيء فإن اسم المصدر لا يجمع ما دل على الحدث، فإن خلا منه، ودل على اسم للعين أو اسم للمعنى جمع بشرط خروجه عن جنسه، ما لم ينص على خلاف ذلك. وقد قيل عطاء لما يُعطى وأعطية، وعذاب للأثر الذي يقع بالتعذيب، وأعذبة، كما قيل غُسل بالضم وأغسال، وهذا على التحقيق اسم مصدري، إذا كان من الغَسل بالفتح واسم مصدر إذا كان من الاغتسال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 تَدَرّج المعاني من النقاد من يتعلق بظاهر النص المدرج في المعاجم، على اختصار وجمود، وعلى قصد وإجمال، وفي غير بسط أو إحاطة أو استيعاب. والكشف عن دلالات الكلم مرهون بتبين أصول اشتقاقها أو اجتلاء مدارجها في المجاز والنقل، وتعرّف مساريها في أداء أغراضها والتعبير عن قصودها، واستشفاف قرائنها في متباين مواقعها في الاستعمال والتركيب. فمن الخطأ أن يظن ظان أن معاجم اللغة وما إليها من أسفار النحو وحواشيها، وكتب الصرف وشروحها، هي عدة اللغوي وحدها، وأن نقولها معوّل تحقيقه وغاية بحثه وحكمه دون سواها. والصحيح أن مراجع اللغوي، إلى ذلك، كتب التفسير والأدب ودواوين الشعر وصحف الرسائل والرقاع، ومصنفات القوم في التاريخ والأخبار والأسفار، بل مؤلفاتهم في مختلف العلوم والصناعات ووضائعهم في الحكم والأمثال. وقد دأب الأئمة الأوائل في كثير مما دونوه وألّفوه على البحث عن أصل اللفظ، لما تواضعوا عليه من أنه لابد للكلم في كل مادة أن يشتق بعضها من بعض فترد إلى جنس من المعنى يعد أصلاً لما يشتق منها جميعاً. بل تابع بعضهم البحث في تدرج معناه وفي تقلبه وتنقله وتجدد دلالاته في مراحل حياته، ولكنهم لم يستوفوه فيتخذوه منهجاً وسنناً. وقد عني علم اللغة الحديث بهذا منذ القرن الماضي وأسمى العلماء أصول البحث فيه: علم معاني الأسماء Science de Sémantique واللفظ مستعار من اليونانية Sêmantikos أي المعنى ولعل أول رسالة ألفّت في ذلك رسالة العالم اللغوي الفرنسي (ميكال بريال: Michel Bréal عام 1897، وعنوانها Essai de Sémantique و (بريال) هذا من العلماء المحققين في علم اللغة التاريخي، وقد توفي 1915م (1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 يقول العالم الإنكليزي (سكيت ولتر وليم) المتوفى عام 1914: (يُنصح المؤلف بتحقق طبيعة استعمال اللفظ في أول نشأته. ويُعين في هذا التحقق ملاحظة النصوص المنقولة التي جرى اللفظ في أثنائها منذ نشأته الأولى) (2) . ويقول الأستاذ عبد الرحمن الحاج صالح في مقاله الطريف (مدخل إلى علم اللسان الحديث) (3) : (اللسان لا يحدد مضمونه المادي والصوري إلا على أساس المواقع التي تقع فيها وتتعاقب عليها عناصره، إما في درج الكلام فيما يخص الوحدات الدالة، وإما في مدارج الجهاز الصوتي فيما يخص العناصر غير الدالة (4) ، وذلك مثل مدلولات الألفاظ فإنها لا تحدد إلا بسياقاتها، لا بما تذكره المعاجم من معانيها، لأن المعاجم تكتفي غالباً بذكر بعض المعاني بالاعتماد على بعض السياقات. وإنما يكون المعجم هو أساس في تحديدها إذا لم يرد اللفظ في أي نص إلا في الذي يذكره هو وحده) ويردف (فبتلك المواقع التي يشاهدها اللغوي في الكلام المسموع يستطيع أن يعرف، بالموضوعية المطلقة، أنواع الأداء وتشعبات المعاني الجزئية. ثم بالنظر في كيفية تقابلها بعضها ببعض وتعاقبها على الموضع الواحد، ودخول هذه على تلك، يستطيع أيضاً أن يكشف عن وضعها ونظامها..) . فعلى الناقد إذاً ألا يتلمس معاني الكلم في نصوص معاجمنا وما يتصل بها وحسب، بل عليه أن يبتغيها في معالمها الأخرى، ويتطلبها من مآتيها المتعددة. ويؤديه هذا إلى البحث عن أوجه تصرف الكلم في متنوع النصوص المحكية، وصور دلالاتها في سائر الموضوعات المطروحة، كما يقتاده إلى التماس وجوه التقلب التي تلحق بها وصور تجدد أغراضها ومراميها، وانحرافها عن أصولها وتشعبها عن جذورها وذلك بتبدل الموضوعات والبيئات وتغير الأفكار والأحكام واختلاف العصور والأزمان. والأصل في اللفظ أن تتباين شعاب معانيه فيكون له من تدرجه وتقلب دلالاته مجال بسيط ومذهب فسيح. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 هذا والسبيل إلى تدرج المعاني هو المجاز والنقل. والذي نريده ها هنا بالمجاز معناه اللغوي الشامل الذي أخذ به المبرّد في كامله (2/301) وابن جنيّ في خصائصه (2/446) وابن رشيق في عمدته. وهو طريق القول ومأخذه على حد تعبير ابن رشيق، أي كل ما جزت به الأصل لمناسبة في التركيب والاستعمال فاحتاج في إعادته إليه، إلى تأويل بإظهار مواضع الحذف أو الزيادة أو التقديم أو التأخير أو غير ذلك. فهو لا يقتصر على استعارة أو مجاز كما فعل أصحاب البيان. فقد ذهب هؤلاء إلى أن المجاز هو انتقال اللفظ من المعنى الذي وضع له إلى المعنى الذي انتهى إليه بمناسبة أو علاقة تبنى على مجرد التشبيه كالاستعارة أو غير التشبيه كسببية أو مجاورة كما هو المجاز المرسل أو تشبيه تمثيل كما هو المجاز المركب. ولم يتعدوا به هذا الحد إلى ما يتناوله علم البيان وهو يشمل التشبيه والمجاز والكناية جميعاً، أو ينطوي عليه البديع من وجوه تحسين الكلام. قال المبرّد: (من الآيات التي ربما يغلط في مجازها النحويون قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، والشهر لا يغيب عنه أحد، ومجاز الآية: فمن كان منكم شاهد بلده في الشهر فليصمه. والتقدير فمن كان شاهداً في شهر رمضان فليصمه. ونصب الشهر للظرف لا نصب المفعول) . كما حكا الثعالبي في فقه اللغة (546) . وأوضح المبرد كلامه فقال (أي أن نصب الشهر نصب الظروف لا نصب المفعول به) . وقال ابن جني: (أبواب الحذف والزيادات والتقديم والتأخير والحمل على المعنى والتحريف كلها من المجاز) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 ومهما يكن من أمر فإنه إذا أريد باللفظ ما وضع له أصلاً، في التقدير، فإنه الحقيقة، وإذا جازوا به موضعه الأول هذا في اللغة فأوقعوه موقعاً آخر بسبب يصل ما انتقل منه بما انتقل إليه، فإنه المجاز. فلابد أن يكون ثمة سبب يصل المجاز بالحقيقة. وقد جاء في المزهر (1/211) : (المجاز كل كلام تجوز به عن موضوعه الأصلي إلى غير موضوعه الأصلي لنوع مقارنة بينهما في الذات أو المعنى) . وقال الشريف الجرجاني في تعريفاته: (المجاز ما تعدى محله الموضوع له إلى غيره بمناسبة بينهما، أما من حيث الصورة أو من حيث المعنى اللازم المشهور، أو من حيث القرب أو المجاورة) . ومن ثم كان لابد لكل مجاز من حقيقة. قال صاحب الكليات (50) : (الأصل أن يكون لكل مجاز حقيقة) . هذا وليس يبعد أن يعتد المجاز بكثرة استعماله أصلاً فيتفرع عليه مجاز آخر، لكنه لا يخرج عن كونه مجازاً. ولابد هنا من وضوح العلاقة بينه وبين الأصل الأول على كل حال. قال الزمخشري في الأساس: (ومن مجاز المجاز تداعت إبل بني فلان هُزلت أو هلكت) ، وأصله الأول (تداعى القوم لمهم) إذا دعا بعضهم بعضاً فاجتمعوا لأمر مهم. وقد بُني على هذا قولهم (تداعت الحيطان للخراب) كأن بعضها دعا بعضاً للسقوط والانهيار. ثم تفرع على هذا قولهم (تداعت عليه الحيطان) إذا تهدمت و (تداعى البنيان) إذا تصدع، وتداعت الإبل إذا هزلت أو هلكت. فليس ينكر، على هذا، أن يتفرع مجاز على مجاز، بتعاقب الحقب والأجيال، وأن يختلف القول بالأصلية والفرعية بتباين وجهات النظر والاعتبار. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 هذا ويكون تدرج المعنى بالنقل، وذلك بأن يغلب على لفظ معناه المجازي حتى يشتهر به ويُعرف بلا قرينة. وهو ما أسماه أصحاب البيان المجاز الراجح، فيدعى كسب اللفظ معناه الجديد هذا نقلاً. ومن ذلك غلبة الألفاظ الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها، على ما قُصد بها شرعاً، ومنه شهرة ألفاظ بمعانيها المستحدثة في موضوعات وعلوم وصناعات شتى، كمصطلحات النحو والصرف والوضع والمعاني والبديع والبيان والعروض والحكمة والعقائد والأصول، ومصطلح الحديث والتفسير، وسواها من مواضعات الطبيعة والفلك والعلوم الرياضية.. قال الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي في كتابه (توجيه النظر إلى أصول الأثر) : (الاصطلاح اتفاق القوم على استعمال لفظ في معنى غير المعنى الذي وضع له في أصل اللغة. وذلك كلفظ الواجب فإنه في أصل اللغة بمعنى الثابت واللازم. وقد اصطلح الفقهاء على وضعه لما يثاب على فعله ويعاقب على تركه..) ، ثم قال: (واللفظ إذا استعمل في المعنى الذي وضعه له المصطلحون يكون حقيقة بالنسبة إليهم ومجازاً بالنسبة إلى غيرهم. قال في المفتاح: الحقيقة هي الكلمة المستعملة في معناها بالتحقيق. والحقيقة تنقسم عند العلماء إلى لغوية وشرعية وعرفية ... فقلت لغوية إن كان صاحب وضعها واضع اللغة، وقلت شرعية إن كان صاحب وضعها الشارع، ومتى لم يتعين قلت عرفية. وهذا المأخذ يعرفك أن انقسام الحقيقة إلى أكثر مما هي منقسمة إليه، غير ممتنع في نفس الأمر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 ويدخل في النقل ما وضع لمعنى خاص فاستعمل عاماً. وقد مثل صاحب المزهر لهذا بـ (النجعة) فأصلها طلب الغيث، ثم صار كل طلب انتجاعاً. و (المنيحة) وأصلها الناقة أو الشاة تعطى الرجل ليشرب لبنها ثم أصبحت كل عطية منيحة. ونقل المزهر (1/253) قول ابن فارس في فقه اللغة) كان الأصمعي يقول أصل الورد إتيان الماء، ثم صار إتيان كل شيء ورداً) . ونظيره (الصَدر) فإن أصله الانصراف عن الماء ثم أصبح كل انصراف صدراً. قال صاحب المفردات (يومئذ يصدر الناس أشتاتاً –الآية- والصدر في الحقيقة صدر عن الماء) . وقال الجوهري في الصحاح (وطريق صادر أي صدر بأهله عن الماء) ثم قال (والصَدر بالتحريك الاسم من قولك صادرت عن الماء وعن البلاد) ، وأردف (وفي المثل تركته على مثل ليلة الصدر، يعني حين يصدر الناس من حجهم) . فأورده خاصاً ثم عممه. و (المجلة) وضعت لمعنى خاص فقيل إنها الصحيفة التي تكون فيها الحِكم، كما قال الجرجاني في تعريفاته، لكنها استعملت لكل كتاب. ففي الصحاح (والمجلة الصحيفة فيها الحكمة. قال أبو عبيد: كل كتاب عند العرب مجلة) . ومما اجتهد فيه أحمد فارس الشدياق في كتابه سر الليال في القلب والإبدال (551) قوله: (ألا ترى لفظة الدار مثلاً في الأصل من دار يدور، فحقيقة معناها الأصلي ربع مستدير، ثم أطلق على كلّ شكل من البناء) ، وقوله (بل الأمر نفسه من هذا القبيل لأنه في الأصل ما يؤمر به ثم عمم، وكذلك الشيء فإنه في الأصل مصدر شاء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 ومن النقل أن يوضع اللفظ لمعنى عام ثم يخصص. وقد عرّفوا التخصيص فقالوا أنه قصر العام على بعض ما يتناوله، كلفظ (الدابة) . قال الجواهري في الصحاح (دبّ على الأرض يدبّ دبيباً، وكل ماشٍ على الأرض دابة ... ) فجاء بمعنى الدابة عاماً، ثم قال (والدابة التي تُركت) فخصص. وقال صاحب المصباح: (وكل حيوان في الأرض دابة ... وهو قوله تعالى: والله خلق كلّ دابة من ماء. قالوا أي خلق الله كل حيوان مميزاً كان أو غير مميز) ثم قال: (وأما تخصيص الفرس والبغل، عند الإطلاق، فعرف طارئ) . ومما نقل من العام إلى الخاص الصفات الغالبة، وهي التي أفردت عن موصوفها فخصّت بدلالة وغلبت عليها الاسمية. فـ (نكباء) في قولك (ريح نكباء) صفة لها عموم الدلالة لأنها جارية على الفعل فهي تصف (ريحاً) بأنها تتنكب. وهي لا تختص في الأصل بالريح. أما (النكباء) في قول المرزوقي في شرح الحماسة (806) : (والنكباء ريح تنكبت عن الرياح الأربع) فإنها صفة غالبة أُفردت عن موصوفها وخُصت بنوع من الرياح، فأنزلت لذلك منزلة الأسماء وجمعت جمعها على (نكباوات) . قال المرزوقي (وإذا كثرت النكباوات واشتد هبوبها شمل القحط) . و (الخضراء) في الأصل صفة للبقلة، لكنها استغنت عن موصوفها فخصصت دلالتها فقيل (ليس في الخضراوات صدقة) أي في البقول، فأنزلت منزلة أسماء الجنس. فالخضراء الصفة الغالبة تدل على البقلة دون النظر إلى اللون، وتجمع على الخضراوات لا على الخُضْر. و (الدكّاء) صفة (للأرض) إذا انبسطت، ولكنها قُطعت عن موصوفها وخُصصت فعُدَّت اسماً للرابية، وجمعت جمع الأسماء على (دكاوات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 و (الدنيا) في الأصل صفة (للحياة) أو (للدار) . ثم أفردت عن موصوفها فقيل (الدنيا) ، كما قيل (الأولى) ، وهما بمقابل (الآخرة) . قال تعالى (فعند الله ثواب الدنيا والآخرة –النساء/ 133) ، وقال (وللآخرة خير لك من الأولى- الضحى/4) وقال (ولدار الآخرة خير للذين اتقوا.. يوسف /109) . فالدنيا اشتقاقها من (الأدنى) وهو الأقرب. قال الشيخ أبو حاتم الرازي في كتابه الطريف (الزينة في الكلمات الإسلامية العربية 2/143) : (أي أن هذه الحياة الآخرة هي الحياة الأخرى، وكل شيء له طرفان فالأدنى منهما إليك الدنيا والأبعد هو الآخرة) . وقال صاحب المفردات (ويعبر بالدار الآخرة عن النشأة الثانية كما يعبر بالدار الدنيا عن نشأة الأولى) ، وقال (وقد توصف الدار بالآخرة تارة، ويضاف إليها تارة أخرى..) . وقال الفراء في هذه الإضافة (هذا كثير في كلامهم أن يضيفوا الشيء إلى نعته إذا اختلف فيه اللفظان كقوله: ولدار الآخرة، وكقوله حق اليقين) . وذكر (الرائد) فيما كان عاماً فخصص. قال ابن الأثير في النهاية (وفي حديث علي –رضي الله عنه- في صفة الصحابة، رضي الله عنهم: يدخلون رواداً ويخرجون أدلة، أي يدخلون عليه طالبين العلم وملتمسين ما عنده، ويخرجون أدلة للناس) . ثم قال: (وأصل الرائد الذي يتقدم القوم يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث) . وقد اعتمد هذا الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتاب علم اللغة (229) فقال: (والرائد في الأصل طالب الكلأ ثم صار طالب كل حاجة رائداً) . وجرى على ذلك الأستاذ محمد المبارك عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، في كتابه (فقه اللغة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 أقول إن هذا وإن صح، لا يمنع أن يكون لكل من (رائد الكلأ) و (رائد القوم) دلالة خاصة كما هو شأن الصفة الغالبة. ويتبين ذلك إذا رُدّوا إلى معنى الفعل في الأصل فـ (راد) على ما جاء في مفردات الراعب (تردد بطلب الشيء برفق) . فالرائد الصفة إذاً المتردد لطلب الشيء برفق، أما الرائد الصفة الغالبة التي أفردت عن موصوفها فإن بها خصوصاً. فليس (رائد الكلأ) أو (رائد القوم) الطالب للشيء يبتغيه وحسب. وما أظن قول الدكتور عبد الواحد (ثم صار طالب كل حاجة رائداً) هو الوجه، وإلا كان كل من احتاج فابتغى حاجته رائداً. بل ما إخال قول الأستاذ المبارك (ثم عمم لكل من يتقدم القوم بطلب شيء) قد أحاط بالدلالة المقصودة واستوفى ملامحها. ذلك أن الرائد هو متقدم قومه الصادق في حديث علي (يدخلون روّاداً ويخرجون أدلة) وحديث عبد القيس (لكنا قوم رادة أي نرود الخير والدين لأهلنا) . وقد تفرع على هذا ما جاء في الحديث (الحمى رائد الموت) . قال ابن الأثير (أي رسوله الذي يتقدمه كما يتقدم الرائد قومه) أقول بل هي رسوله الصادق الجاد في طلبه. ومما يدخل في الصفات الغالبة: السائبة للناقة إذا تركت راغدة لا تُهاج ولا تمنع من ماء أو مرعى، والراحلة للإبل إذا صلحت للرحيل، والسارية لكل ما دب بليل من الهوام، وللسحابة تمطر ليلاً، والسابغة للدرع الواسعة، والصاعقة للنار تسقط من السماء، والجارية للسفينة والأمَة. قال صاحب المصباح (والجارية السفينة سميت بذلك لجريها في البحر، ومنه قيل للأمَة جارية على التشبيه لجريها مستسخرة في أشغال مواليها) . ولفظ (الدابة) الذي أتوا به مثالاً متعارفاً لانتقال العام إلى الخاص، ليس إلا صفة غالبة، وكذلك (الماشية) على أنها من مشت المرأة إذا كثر أولادها. ففي الأساس: (وناقة ماشية: ولاّدة، ومنه الماشية والمواشي على التفاؤل) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 هذا ولابد أن نأتي بأمثلة نكشف بها عن وجه اشتقاق الكلم بعضه من بعض، وسبل تجدد معانيها وتدرّج دلالاتها وتحولها بالنقل من حال إلى حال. وقد يسلُس الأمر ويستيسر فيبدو داني القطوف قريب النجعة، وقد يصعب وينبو فيبدو شديد المطلب وعث المبتغى فيلجئك أن تتلطف له وتتأتى، وتسلك إليه كل سبيل. قالوا (لا أبالي) ومعناه لا أهتم، فما هو أصل اشتقاقه؟ قال جماعة المبالاة من البلاء بالفتح. والبلاء في الأصل الاختبار. قال المرزوقي في شرح الحماسة (71) : (فلان لا يبالي العواقب، يقال ما باليته بالة وبالية ومبالاة وبلاء وما باليت به، وكأنه أخذ من البلاء) . ونحو من ذلك في اللسان والتاج. ففي الأول والبلاء الاختبار، وفي الثاني أصل الابتلاء الاختبار. وليس بعيداً عن هذا قولهم (المبالاة) من (البِلاء) وهو الهم كما حكاه صاحب المصباح عن أبي زيد، وأوردوا البلاء مصدراً لبالَى كما جاء في اللسان والتاج. وعلل المرزوقي كيف انتهى (بالى) من معنى البلاء وهو الاختبار إلى المفاخرة فكان الامتناع من مفاخرة القِرن استهانة به واستخفافاً، فقال (وقوله لا يبالي العواقب.. كأنه أخذ من البلاء واستعمل في المفاخرة وتعداد الخصال الحسنة عند المنافرة، ثم كثر استعماله حتى صار يقال في الاستهانة بالشيء) . واستشهد بقول الشاعر (مالي أراك قائماً تبالي) أي تفاخر. وقال في موضع آخر: (وقوله تبالي تفاعل من البلاء فإذا قال لا أباليه كأنه أراد لا أحتفل به فأُعادّه بلائي وبلاءه وأفاخره، هذا أصله) . أي أن تبادل الاختبار يقود إلى المفاخرة والمنافرة، فإذا أبيت أن تفاخر خصماً أو تنافره أو تكاثره فقد استخففت به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 وأحسب دون ما ذكرناه قول آخرين أن المبالاة من البال وهو الروع والخاطر، انتقل فيه حرف العلة بالقلب فكان وسطاً فأصبح طرفاً، كما قال ابن فارس في مجمله والمزمخشري في أساسه، وقول جماعة أن أصله المبادرة إلى الاستقاء فمعنى لا أبالي لا أبادر إهمالاً له، كما ارتآه ابن فارس في مجمله، وقد انتهى إلى رده إلى (البال) في مقاييسه، وذكره الفيومي في مصباحه. ولعله قولهم (لا أباليه) متعدياً، إنما يدل على أصله في التعدية لأنه مفاعلة من البلاء، وهو الاختبار، وقولهم (لا أبالي به) محمول على ما انتهى إليه من معنى، وهو لا أحتفل به ولا أعتد. * * * وتقول في معنى ما أباليه وما أبالي به، ما أكترث له. وقد جاء في اللغة كرَثه وأكرثه وكرّثه فاكترث. فما معناه الأول؟ أقول دلّ على ذلك الزمخشري فقال في الأساس: (كرّثه الأمر إذا حركه، وأراك لا تكترث لذلك ولا تنوص: لا تتحرك له ولا تعبأ به، وكرّثته الكوارث أقلقته) . فالكرث والإكراث والتكريث هو التحريك في الأصل. وكذلك الإقلاق والإزعاج فحقيقتهما التحريك. فإذا كرثك الشيء فقد جعلك تضطرب حقيقة أو مجازاً، ومن ثم قيل كرثه: ساءه، كما حكاه اللسان. وتأسيساً على ذلك كان اكتراث في الأصل كتحرك واضطرب، وكاستاء واغتم واهتم في المجاز. وعندي أن قولك (ما اكترث له) متعدياً باللام بني على أصل معناه، أي لا أتحرك له ولا أقلق من أجله. ولكن هل يقال (ما اكترث به) متعدياً بالباء؟ أقول قد جاء ذلك نصاً، وأرى أنه محمول على قولك لا أغتم به ولا أهتم ولا أُعنى، وهو ما انتهى إليه معناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 على أن من المعاجم ما خطّأ قول القائل (ما اكترث به) كالتاج، فقد جعل صوابه (ما أكترث له) ونسب الخطأ في الأصل إلى الصحاح. وأخذ بهذا الأستاذ محمد العدناني في معجم الأخطاء الشائعة. أقول لم يخطئ الجوهري حين قال (ما اكترث به) ، فقد قال الراغب في مفرداته وقد عايش صاحب الصحاح. قال الراغب الأصبهاني (البال الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال ما باليت بكذا بالة، أي ما اكترثت به) . وقد قاله صاحب النهاية في موضعين وحكاه عنه ابن منظور في غير مجال. * * * وقيل في نحو ما أكترث له (ما آبه له) . ففي المعاجم (أبهِ) بالكسر كفرح، و (أبَه) بالفتح كمنع، وقد عدوا الأول باللام والباء فقالوا ما أبهت له وما أبهت به، وعدوا الثاني باللام دون الباء فقالوا ما أبهت له، كما حكاه ابن القوطية والجوهري وصاحب النهاية واللسان. فما أصل معناه؟ يعتد ابن القوطية (أبه) مما جاء على فعَل وفَعِل بمعنى واحد. ويجعل معناه (تنبّه) . فإذا استقر هذا فأبِه له بالكسر والفتح تنبه له. وكذلك ما جاء في الصحاح. ولما كان ما يتنبه له في الغالب هو الجليل، فالذي لا ينتبه له ولا يؤبه هو التافه الحقير. ومن ثم قيل فلان لا يؤبه له أي لا يلتفت إليه لحقارته. وعلى ذلك ما جاء في النهاية. وقد عُدّي الفعل بالباء لما انتهى إليه معناه، في السلب، من الاستهانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 ولكن لِمَ خصت التعدية بالباء هذه بأبه المكسور العين في الماضي دون المفتوح؟ أقول قد يكون ذلك لأن الغالب في اللازم أن يكون كـ (أبِه يأبَه) مثل نَبِه ينبَه الذي هو معناه، من باب فرح يفرح، فهو الأصل. وقد اتَسعوا بتعديته بالباء كما اقتضاه الاستعمال لما آل إليه معناه من الاستهانة. أما (آبَه يأبَه) من باب منع يمنع فلم يتجاوزوا به تعديته الأولى باللام، فليس هو الأصل، لأنه لا يكثر في اللزوم. ولا يُقطع في هذا بيقين على كل حال. على أني رأيت الشدياق في (سر الليال) يسوي بين البابين في التعدية فيقول (وأبه له وبه كمنع وفرح أبْها وتحرك، فطن أو نسيه ثم فطن له) فهل وقف فيه على نص؟ * * * ويستعمل (التنزه) لترويح النفس بالخروج إلى المكان النزه. أما أصل معناه فكما قال صاحب النهاية (نزه نزاهة وتنزه تنزهاً إذا بَعُد) . وقد منعه ابن السكيت على ما حكاه المصباح وجعله فيما تضعه العامة في غير موضعه. وصححه ابن قتيبة فقال: (ذهب بعض أهل العلم في قول الناس خرجوا يتنزهون إلى البساتين أنه غلط، وهو عندي ليس بغلط. لأن البساتين في كل بلد إنما تكون خارج البلد. فإذا أراد أحد أن يأتيها فقد أراد البعد عن المنازل والبيوت، ثم كثر هذا حتى استعملت النزهة في الخضر والجنان) . وأكد الزمخشري هذا فقال في الأساس (خرجوا يتنزهون يطلبون الأماكن النزهة، وهي النزهة والنزه مثل غرفة وغرف) . كما أيده علي بن حمزة البصري اللغوي في التنبيهات (298) رداً على ابن السكيت فقال: (فلما كانت الروضة إذا بعدت عن الناس كان أحسن.. وجب على المتنزه أن يقصدها ويعتمدها بنزهة. وهو لا يصل إليها حتى يبعد كل البعد عن الناس والمياه فقالوا لمن قصد ذلك تنزه فوافق قولهم الحق ووضعوه في موضعه ثم نقلوه إلى من أراد مثل ذلك فيما هو على المياه وبقربها..) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 ويقال (رُشّح فلان للرئاسة) إذا أُهّل لها. قال الجوهري في الصحاح (والترشيح أن ترشّح الأم ولدها باللبن القليل تجعله في فيه شيئاً بعد شيء إلى أن يقوى على المص. وتقول فلان يرشّح للوزارة أي يربى ويؤهل لها) . وقال المرزوقي في شرح الحماسة (1/73) : (والترشيح أصله التنبيت والتربية. ومنه قيل رشحت المرأة ولدها إذا درّجته في اللبن. ثم قيل رشح فلان لكذا توسعاً) . ولا يخفى أن تنبيت الشجر غرسه، ومنه تنبيت الصبي تربيته. ونحو من ذلك في الأساس للمزمخشري. * * * وقال صاحب المصباح في (تعالى) : (وتعالى تعالياً من الارتفاع أيضاً. وتعالَ فعل أمر من ذلك. وأصله أن الرجل العالي كان ينادي السافل فيقول: تعالَ، ثم كثر في كلامهم حتى استعمل بمعنى هلمَّ مطلقاً، سواء كان موضع المدعو أعلى أو أسفل أو مساوياً، فهو في الأصل لمعنى خاص ثم استعمل في معنى عام) . وفي كتاب الفروق لإسماعيل حقي نحو من ذلك. وكذلك في شرح الحماسة للمرزوقي (56) . * * * وهكذا (عثر) فأصل معنى العثور أن تزلّ القدم بشيء كحفرة فيسقط صاحبها، ومثله (تعثر) . ومن ثم كان (العاثور) هو الحفرة، ففي اللسان (.. ومن هذا يقال فلان وقع في عاثور شرٍّ إذا وقع في ورطة لم يحتسبها ولا شعر بها، وأصله الرجل يمشي في ظلمة الليل فيتعثر بعاثور المسيل أو في خدخد سيل المطر..) . وعلى هذا فأنت تقول عثر فلان بعاثور أي بحفرة، على الأصل، كما تقول عثر بعاثور شر أي مكيدة أو ورطة على المجاز. وقد تدرج معنى العثور من الكبو والسقوط إلى الخطأ في العمل والنطق، تقول عثر فلان أو عثر لسانه إذا تعثر. قال الزمخشري (ومن المجاز عثر في كلامه وتعثر) . وقد آل به التوسع فقيل عثر الحظ إذا خاب صاحبه، وعثر جده إذا تعس، وأعثره الله أتعسه، وفي الأساس (وعثر الزمان به وجدّ عثور وأعثر به عند السلطان إذا قدح فيه وطلب توريطه وأن يقع في عاثور) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 بل قيل (عثر عليه) إذا اطلع. قال صاحب المقاييس (وقال بعض أهل العلم إنما قيل عثر من الاطلاع وذلك لأن كل عاثر لابد أن ينظر إلى موضع عثرته) . وعندي أن الفعل قد عُدّي بعلى بطريق التضمين. فكأن قولك عثرت عليه، على تقدير عثرت به فاطلعت عليه. ثم شاع أمره. وفي العربية مالا يحصى من الأفعال تجاوزوا بها الأصل إلى المجاز فعدّوها بحرف غير حرفها، ثم شاع استعمالها بهذا الحرف وكأنه الأصل. وقد عقدت لذلك فصلاً في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق (المجلد 55، الجزء الأول، عام 1980) . فأنت تقول مثلاً (أنس به) . قال ابن القوطية (وأهلت بالشيء وأنست به) ونحو من ذلك في الصحاح وغيره من المظان. لكنهم عدوا الفعل بـ (إلى) فقالوا (أنست إليه) كما قالوا (استأنست إليه) ، ذكره الزمخشري في أساسه. وكان من حقه أن يفرد فيسلكه في المجاز كما فعل في (سكن إليه واطمأن إليه وركن إليه وانبسط إليه) لكنه لم يفعل، إذ قال: (وأنست به واستأنست به وأنست غليه واستأنست إليه) . ولعل عذره هو اشتهار تعديته بـ (إلى) . وقل مثل ذلك في (استأنس له وتأنس) فلم يلحقه بالمجاز واكتفى بأن قال (واستأنس له وتأنس: تسمّع) وقد يكون تسمَّح به أيضاً وكثيراً ما قرن المجاز بالحقيقة متى اشتهر وشاع. وعندي أن (أنس إليه) على تضمين الفعل معنى (مال) أو نحوه. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 وانظر إلى تدرج معنى (تفقد) ، فقد جاء في معجم الأخطاء الشائعة للأستاذ محمد العدناني أن قول القائل (تفقد مزرعته) خطأ..، صوابه (زارها ودرس أحوالها) لأن تفقد معناه (طلب الشيء عند الغيبة) . ثم استدرك فأدرك ما أتى به المعجم الوسيط (تفقد أحوال القوم ودقق النظر فيها ليعرفها حق المعرفة) ، وقال (وأنا أؤيده على أن يفوز بموافقة المجمع) ‍! أقول إذا كان أصل (التفقد) تطلب الشيء عند الفقد، فقد تجاوز الفعل هذا المعنى إلى تتبع الشيء وتعرّف أحواله، ثم تعدى هذا إلى متابعة النظر في كل ما يستقيم به حال الشيء أو الشخص الذي تتفقده. فقد جاء في مفردات الراغب (التفقد التعهد، ولكن حقيقة التفقد تعرّف فقدان الشيء) ، وهذا يعني أن أصل التفقد تعرّف الفقدان لكنه آل بالمجاز إلى التعهد أو إلى ما انتهى إليه التعهد. ففي المصباح (وتعهدت الشيء ترددت إليه وأصلحته، وحقيقته تجديد العهد به، وتعهدته حفظته) . وقد جاء في نهج البلاغة (ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما -3/102) و (تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله –3/106) ، وقول ابن قتيبة في أدب الكاتب (فإن رأيت الكتاب قد تركوا تفقد هذا من أنفسهم..) ، وقول أبي حيان في البحر (10/64) : في قوله تفقد الطير –أي قوله تعالى: وتفقَّد الطير –النمل/ 20- دلالة على تفقد الإمام أحوال رعيته والمحافظة عليهم) . وهكذا صح (التفقد) في التعبير عن الرعاية والتربية والعناية والبر. قال المرزوقي (لم أزل أجري في تربيته وتفقده) إلى أن استكمل شبابه /757) وقال (لحسن توفره وجميل تفقده لأصحابه /923) ، وقال (واستصلاح الرعية وتفقد مصالحهم /1091) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 بل نحوا بالتفقد فعنوا به الإنعام والإفضال وكأنهم ضمنوه هذا المعنى. قال المرزوقي (بل قد وصّى بها وبأمثالها فيُتفقدون بأوفر الأنصباء عند قسمة الجذور/1050) . وقال أبو حيان التوحيدي في (أخلاق الوزيرين/ 336) : (فإن كان قد كتب بخطه: يُتفقد فلان بكذا أو يسأل عن فلاه لينظر في مصلحته) . فأين هذا كله من قول العدناني (التفقد طلب الشيء عند الغيبة) ولزومه هذا المعنى، وتعلقه بظاهر النص المدرج في المعاجم على قصد وإجمال، بل سكونه إليه لا يبرحه ولا يتحول عنه. وقد استبان بهذا أن قول الكتاب (تفقد مزرعته) بمعنى تعهدها ورعاها وتوفر عليها، صحيح مستقيم، غني عن أن يجيزه مجمع لغوي أو يقر صحته. وقد قالوا قديماً (فلان يتعهد ضيعته) المغني 2/113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 فيتضح بما قدمنا وفصّلنا القول فيه أن لا وجه لجمود المعنى في اللفظ كما يبدو ذلك حيناً في كثير من المعاجم العربية، وإن اعتماد كثير من المحدثين على ظاهر النص والتعويل عليه في التخطئة والتصويب مخالف لأصول ارتقاء اللغة وسنن تحول معانيها وطرائق تعبيرها بتحول العصور والأجيال. ولو كانت تؤلف في العربية معاجم حديثة على مثال ما يؤلف في اللغات الحية الأخرى، دقة وأحكاماً واستقصاء لأنست بالتجدد والتدرج والتوالد في معاني الكلم، ولمست بمعارضة النصوص المحكية بعضها ببعض ترجمة لحياة كل كلمة تظهرك على قصة حالها وتقفك على مسالك تحولها ودروب تنقلها والتدرج بها حالاً بعد حال. وأنت لو لم تطف بمراحل التقلب جفا عليك وجه الاعتداد به البتة. يقول العالم النفسي السوفييتي ل. س.فيجوتسكي المتوفى عام 1934، أنه لا سبيل إلى احتساب معنى الكلمة أمراً ثابتاً، بل لابد من تصوره في نمو مطرد وتحول مستمر دائب (4) . والبحث في تاريخ معاني الكلم وأصول اشتقاقها موضوع شائق له في اللغات الحية الأخرى شأن أي شأن. وأحوج ما يكون إليه المشتغلون بتاريخ الأدب وفقه اللغات. وليست معالجة هذه المسألة في العربية وتدارك ما فات من أمرها بعدما كان من الإغفال، على شيء من اليسر والسهولة. ولا ننسَ ما انتحاه المستشرق الأستاذ فيشر وقد أمضى أكثر عمره (بين سنة 1907 و 1950م) في إعداد معجم تاريخي للغة الآداب العربية حتى نهاية القرن الثالث الهجري، أي حتى منتهى ما وصلت إليه اللغة الفصحى من الكمال كما يقول، فلم يخلّف بعد جهد جاهد ونصب ناصب وطول عناء، غير جذاذات لهذا الذي بذل الطوق في إعداده. ولابد أن تضطلع المجامع اللغوية باستتمامه واستفراغ الوسع في إصداره فلا تدخر دون ذلك سعياً. ولكن هل يمم أئمتنا قديماً مثل هذا السمت من البحث وحاولوا ارتياده والجري على منهاجه؟ أقول لاشك أن كتاب (الزينة) قد استن بهذه السنة ونهج هذا السبيل فإن به لوناً طريفاً من ألوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 البحث اللغوي التاريخي. فقد وضع الشيخ أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي المتوفى 322هـ كتاباً جامعاً في أوائل القرن الرابع الهجري كان أول مرجع يستفتى في الأسماء العربية التي نطق بها القرآن الكريم فكانت من مصطلحات الإسلام، كما أشار إليه الدكتور حسين الهمداني في مقدمة الكتاب. وقد حاول مؤلف الكتاب أن يجمع بين ألفاظ عربية شتى تغيرت مدلولاتها ومعانيها في العصر الإسلامي عما كانت عليه في العصر الجاهلي، ففات أقرانه في وضع اللبنة الأولى في علم معاني الأسماء العربية والمصطلحات الإسلامية وكان رائداً متأنقاً في هذا المضمار بل إماماً بارعاً في هذا الركن: Arabic Islamic Sémantics. فانظر إلى ما ذكره الرازي مثلاً في (الإثم 225) ، فقد أتى بأصل معناه فقال (قال أبو سعيد سمي الإثم إثماً لأن الآثم يُبطئ عن طاعة ربه، ويقال أثِمَ إذا أبطأ والآثم المبطئ. ويقال أثمت الناقة إذا أبطأت) . ثم تحول إلى ما تدرج إليه معناه فقال: (فالإثم ضد الأجر يقال فلان مأثوم وفلان مأجور، لأن المأجور يسعى في الطاعة.. وذلك الثواب هو أجر له بعمله. والآثم لم يعمل وأبطأ عن الطاعة فلا أجر له فهو آثم أي مبطئ عن الطاعة) . فحاول الربط بين الأصل والمجاز. ثم تابع البحث عن تدرج آخر فذكر أن الإثم ضد البر، وأتى بالحديث (البر ما سكنت إليه القلوب واطمأنت إليه النفوس، والإثم ما حك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه) وهكذا.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 وقد ذهب الأستاذ عبد العزيز الميمني إلى أن المفضّل بن سَلَمة المتوفى 291هـ قد ضرب على هذا القالب في كتابه (الفاخر) ، وكذلك فعل أبو بكر بن الأنباري المتوفى (328هـ) في كتابه (الزاهر) . أقول أما كتاب الفاخر فإن مضامينه تدور كما ذكر مؤلفه في مقدمة الكتاب حول (معاني ما يجري على ألسن العامة في أمثالهم ومحاوراتهم من كلام العرب وهم لا يدرون معنى ما يتكلمون به من ذلك) . وأردف المؤلف يقول (فبينّاه من وجوه اختلاف العلماء في تفسيره ليكون مَنْ نظر في هذا الكلام عالماً بما يجري من لفظه ويدور في كلامه) . وقد عمد صاحب الفاخر في تحقيق ذلك إلى حكاية ما روي من أحداث دفعت إلى النطق بالأمثال مما كانت تطوع به ألسنة الناس في محاوراتهم ومخاطباتهم، وذكر أول من نطق بها، وبحث في اشتقاق ما جاء بها من ألفاظ وردها إلى أصلها وفصّل القول في معانيها. وقد أفاد أبو بكر محمد بن القاسم بن الأنباري في كتابه (الزاهر) من كتاب الفاخر هذا وبسط ما جاء فيه وكثّره بالشواهد كما قال مختصر الكتاب أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي. قال الزجاجي (وكان المفضل بن سلمة صاحب الفراء قد أنشأ كتاباً في هذا المعنى سماه ... فعمد أبو بكر محمد بن القاسم لذلك الكتاب فنقله نقلاً ... وبسطه وكثّره بالشواهد) . ولا يزال كتاب (الزاهر) مخطوطاً لم يطبع. هذا وليس كتاب الفاخر والزاهر ولو أفادا في إصابة الغرض الذي ابتغيناه ككتاب الزينة في تحقيق النهج اللغوي التاريخي والجري على أسلوبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 يقول الدكتور داود حلمي السيد في كتابه (المعجم الإنكليزي بين الماضي والحاضر) : (فليس بخاف أن معجميي العربية المحدثين تشدهم تجربة ضاربة في أعماق التاريخ وتقيد حركتهم تقاليد معجمية راسخة تجعلهم دائماً يتلفتون إلى الوراء حين يقررون أي المناهج يتبعون كلما شرعوا في وضع معجم حديث للغة العربية، أهو المنهج التقليدي برمته، أم المنهج الغربي في وضع معجم حديث للغة العربية، أهو المنهج التقليدي برمته، أم المنهج الغربي الحديث برمته. أم يأخذون من هذا وذاك ما يتفق مع طبيعة اللغة العربية) . وقال: (ولم أجد أمامي إلا المعاجم العربية القديمة التي مضى على أحدثها أكثر من قرن ونصف من الزمان، أو بعض المحاولات المعجمية الحديثة التي لا ترقى إلى المستوى الذي يجب أن تكون عليه معاجم اللغة العربية في العالم المعاصر، والتي سنعرض لها..) . ثم عَرّف المعجم الحديث فقال: (فالمعجم بالدرجة الأولى كتاب كلمات. فهو يحتوي بين غلافيه على مفردات اللغة مصحوبة بمعلومات عن اتيومولوجيتها- أي أصول اشتقاقها الأولى- ومعانيها ومدلولاتها واستعمالاتها) . أقول لا شك في أن الطريقة النشوئية في القرن التاسع عشر قد أدت إلى ازدهار المباحث اللغوية التاريخية، وإلى وضع معاجم تكشف عن أصول الكلم وتدرج معانيها، وتأكيد اعتقاد أن –الظاهرة اللغوية- لا تتسم بسمة الوضوح أو الجلاء الذي يراد لها ما لم تدرج في سياقها التاريخي (6) . وقد ألّف (سكيت ولتر وليم) العالم الإنكليزي المتوفى عام 1912 معجمه الشهير الذي عول فيه على اللون التاريخي من التسجيل اللغوي، فذكر أصول الكلم وألقى الضوء على هذه الأصول بالرجوع إلى جملة من النصوص التاريخية التي عرضت بها هذه الكلم ليظهر القارئ على أصولها الصحيحة ودلالاتها الأولى، وتدرّج هذه الدلالات من عصر إلى عصر، كما أشار إليه الدكتور السيد الخلوي، وقد أومأنا إليه في موضع آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 ولكن إذا كان قد أدى اشتغال علماء اللغة الفرنسيين مثلاً إلى تأليف معاجم في تاريخ الكلم وأصولها وتسنى ذلك بالعودة إلى الأصول التي تحدرت منها لغتهم يونانية كانت أو لاتينية أو غير هذه وتلك، فليس كذلك حال العربية التي لا يصح ردها إلى ما أسموه باللغة السامية الأولى التي تصوروا أنها أم اللغات السامية، كما كانت اللاتينية مثلاً أُمّاً للفرنسية والإيطالية والإسبانية، إذ لم يقف البحث العلمي التاريخي على لغة من هذا القبيل، وإنما يعوّل على الأصول العربية وحدها. ولكن أليس يصح في العربية الاستعانة في تقرير أصول الكلم وتاريخها حيناً، والكشف عن ظلال معانيها بالعودة إلى بعض اللغات السامية؟ يقول الدكتور داود الحلبي في كتابه (الآثار الآرامية في لغة الموصل العامية) المطبوع عام 1935: (إن تمييز الكلمات الآرامية من الكلمات العربية صعب جداً. وما سبب هذه الصعوبة إلا كون اللغتين شقيقتين، أي فرعين من اللغة السامية الأم. حتى إن نحو أربعة أخماس الكلمات الآرامية تشترك والعربية إما حرفاً أو باختلاف يسير في التلفظ أو تبديل بعض الحروف..) . وقال: (على أني وجدت بعض كلمات مشتركة معانيها، واضحة كل الوضوح في المعاجم الآرامية، ولكنها في المعاجم العربية مضطربة لم يبت لغويو العرب فيها وذهب كل منهم فيها مذهباً. حتى أن بعضهم أتى في صدد إيضاح أصلها بتأويلات غريبة..) . ثم قال (ولو كان للغويين العرب القدماء وقوف على الآرامية لما وقعوا في حيص بيص عند بيان معاني أمثال هذه الكلمات. إذ لا يشك في أن معرفة الآرامية وغيرها من اللغات السامية يكون وسيطاً لحل مشاكل لغوية كثيرة في العربية. كما أن معرفة اللغة العربية تحل مشاكل أخواتها اللغات السامية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 أقول ذلك ما بحثه الدكتور محمد حسني قنطر في مقاله حول العربية واللغات السامية (من دراسات الملتقى الرابع لابن منظور في قفصة، في آب 1976) . قال الدكتور قنطر: (إنه من واجب الباحث عن كنه الكلمات العربية وعن تاريخها شكلاً ومضموناً، أي عن التطور الذي اعتراها من حيث هي ظرف ومظروف أن يتجه إلى أخوات اللغة العربية ويستنطقها بالدرس والمقابلة والمقارنة عله يدرك الغاية ويجدحل المشكلة ويتمكن من الإجابة عن الأسئلة التي قد تثيرها الكلمة لديه) . وقال: (فإذا عُدت للعبرية مثلاً لفهم كلمة عربية وتعرّف حالها تاريخاً واشتقاقاً، فذلك لا يعني أن اللفظة العربية تولدت من لفظة عبرية، بل حدثتك بالعبرية فعرّفتك بالعربية والعكس بالعكس) . وقد أتى الدكتور قنطر بأمثلة فأخذ على معجم اللسان أنه لم يوضح مثلاً معنى (لأك) الذي اشتق منه لفظ (الملَك والملائكة) فقال ولعل الباحث لا يوفق إلى المعنى للمادة، وهو معنى الرسالة. فلأك يعني أرسل، والملَك بالفتح المرسل) . وأردف: (فالعودة إلى اللغات السامية القديمة التي عرفت هذه المادة تيسِّر إدراك الحقيقة اللغوية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 أقول إن معجم اللسان قد أشار إلى معنى المادة، ولو أن التعويل على معجم عربي واحد في القطع بحرف ومعناه وأصل اشتقاقه ليس بالوجه. فقد جاء في اللسان (فالملك من الملائكة واحد وجمع. قال الكسائي أصله مألك بتقديم الهمزة من الألوك وهي الرسالة) وفي اللسان أيضاً (قال ابن بري ملأك مقلوب من مألك، ومالك وزنه مفعل في الأصل من الألوك. قال وحقه أن يذكر في فصل ألك، لا فصل ملك) . فابن بري وسواه قد جعلوا الأصل (ألك) ثم قلب فأصبح (لأك) ، فما الذي قالته المعاجم في (ألك) .. قال الجوهري (الألوك الرسالة.. وكذلك المألك والمألكة بضم الميم فيهما) . وقال ابن القوطية (وألك بين القوم ألْكاً وألوكاً ترسّل والألوك الرسالة منه، والملائكة أيضاً) . وقال ابن دريد في الاشتقاق (ومنه قولهم ألكني إلى فلان أي كن رسولي إليه) . بل في اللسان ألك بمعنى ترسل. أفليس في هذا ما يجزي لإيضاح معنى الفعل واشتقاقه؟ وقد تصرف العرب في (ألك) فقالوا (استألك) . فانظر ما جاء في الأساس (ألِكْني إلى فلان واحمل إليه ألوكي ومألُكتي وهي الرسالة. قال: ألِكني إليها عمرك الله يا فتى : بآية ما جاءت إلينا تهادياً . ومن يستألك لي إليه أي من يحمل رسالتي. وجاء فلان فاستألك ألوكته) . أفليس هذا واضحاً جلياً. ومن الطريف أن يكون قائل هذا البيت سحيماً وهو عبد بني الحسحاس، وهو حبشي اشتراه أبو سعيد فشبب بابنته عميرة. وقد نسب لفظ (ألك) فيما نسب إلى الحبشية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 هذا ولا يخفى أن في المظان اللغوية العربية أن (الملائكة) من (ألك بين القول) ، وأن أصل المادة عبري أو سرياني أو حبشي. وليس يعني هذا بالطبع أن ثمة تبعية لغوية بين سامية وأخرى. بل ليس في لغات الأسرة أمهات وأخرى بنات كما يقول الأستاذ (فندريس) في كتابه (اللغة) (7) . ولا يمنع هذا أن يكون بين الألفاظ السامية المشتركة ما هو أعلق بلغة، منه بلغة أخرى. ولا يُقطع بهذا حتى يوقف على اشتقاق الكلمة. فقد تكون في لغة أظهر وأبرز منها في لغة أخرى أي أكثر تصرفاً. أو تكون واضحة الأصل في إحداها فريدة غريبة يتيمة في سواها. أو تكون الكلمة في المعنى الشائع للزنة التي جاءت بها في لغة ولا تكون كذلك في غيرها وهكذا.. وقد عُني الأب أنستاس ماري الكرملي برد بعض الألفاظ العربية إلى السامية والاستعانة بالأصول السامية في استبانة معانيها وفك مُشكلها وإظهار مكنوناتها على نحو ما فعل في مجلة الثقافة القاهرية، وسواها. هذا ما وددت الكشف عنه والتمثيل له في سبل تدرج المعاني في الكلم العربية وما تشعب عن ذلك من وجوه الرأي. وأرجو أن أكون قد وفقت إلى إيضاح المنهاج وجلاء الغامض والإفصاح عن المضمون فيما حاولت تحريره من المسائل في هذا القصد. دمشق 10/2/1982 صلاح الدين الزعبلاوي * * * الحواشي: (1) الدكتور حسين الهمداني في (مقدمة كتاب الزينة للشيخ أبي حاتم الرازي) والدكتور بدر الدين القاسم في ترجمة (تاريخ علم اللغة لجورج مونين) . (2) سكيت واتجاهاته في اللسانيات للدكتور شكري السيد الخلوي في (مجلة اللسانيات لمعهد العلوم اللسانية والصوتية بجامعة الجزائر) ، العدد الرابع 73/1974. (3) المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 (4) في علم اللغة الحديث تقسم البنية اللغوية إلى وحدات لغوية دالة، وأخرى غير دالة. ويقصد بغير الدالة حروف المباني أي حروف الهجاء، وهي أصغر صورة معتمدة، ويدعونها بالفونام. ويقصد بالدالة أصغر وحدة لغوية ذات معنى كالأسماء والأفعال وحروف المعاني ويدعونها بالمورفام، فالفونام أصغر وحدة للأصوات والمورفام أصغر وحدة للمعاني. وقد ميز العالم البولوني بودوان كورتناي المتوفى عام 1929، بين مفهوم الصوت اللغوي وبين الفونام الذي هو وحدة لغوية أساسية. ذلك أن الفونام لا يتضمن أصواتاً لغوية وإنما يتألف من صور صوتية هي وحدات نفسية لا مادية. ومن ثم فرّق كورتناي بين العلم الصوتي الفيزيائي، وهو علم الصوت نفسه، وعلم الصوت النفسي الذي سيغدو بارتقائه وتقدمه علم الأصوات الشفهية. ولكن ما حد الكلمة عند النحاة وحد المورفام في علم اللغة الحديث؟. قال الإمام جلال الدين السيوطي في الهمع: (وقد اختلفت عباراتهم في حد الكلمة اصطلاحاً. وأحسن حدودها: القول المفرد المستقل أو المنوي معه- كالضمير المستكن وجوباً. فخرج بتصدير الحد بالقول غير ذلك من الدوال كالإشارة والخط.. وبالمفرد، وهو ما يدل جزؤه على جزء معناه، المركب كغلام زيد فهما كلمتان. وبالمستقل أبعاض الكلمات الدالة على معنى كحروف المضارعة وياء النسب وتاء التأنيث وألف ضارب، فليست كلمات لعدم استقلالها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 فتبين بهذا أن ما يدخل في حد المورفام من حروف المضارعة وياء النسب وتاء التأنيث وغيرها مما سمي أبعاض الكلمة لا يدخل في حد الكلمة، على ما اختاره السيوطي، لأنه ليس مستقلاً. على أنه استدرك فقال (ومن أسقط هذا القيد، قيد استقلال اللفظ، رأى ما جنح إليه الرضي، من أنها مع ما هي فيه كلمتان..) . وهكذا أشبه حد المورفام في علم اللغة الحديث حد الكلمة عند الرضي، وبدأ هذا العلم مؤيداً لما جاء به بعض النحاة في إبراز البنية اللغوية. قال الرضي في شرح الكافية: (إن قيل إن في قولك مسلمان ومسلمون وبصري وجميع الأفعال المضارعة جزء لفظ كل واحد منها يدل على جزء معناه، إذ الواو تدل على الجمعية والألف على التثنية، والياء على النسبة، وحروف المضارعة على معنى في المضارع، وعلى حال الفاعل أيضاً، وكذا تاء التأنيث في قائمة، والتنوين ولام التعريف وألف التأنيث، فيجب أن يكون لفظ كل واحد منها مركباً، وكذا المعنى، فلا يكون كلمة بل كلمتين، فالجواب أن جميع ما ذكر كلمتان صارتا من شدة الامتزاج ككلمة واحدة، فأعرب المركب إعراب الكلمة..) . وأنت ترى أن الحكم في ذلك اعتباري. ولكن أليس فيما ذهب إليه الرضي من إبراز البنية اللغوية للفظ جلاء لشأن هذه الدوال في تأليف هذه البنية وتحديد معناها؟ والرضي مع ذلك لم يخرج في تصوره لحد الكلمة ورسم نطاقها عن حدود الأوائل في تعريف الكلمة والاقتباس بها. فإذا كانت هذه الدوال قد دلت على ما دلت عليه من المعاني، فكيف تعتد من حروف المبالي أي حروف الهجاء، كما فعل الآخرون، وحروف الهجاء لا تعني غير الأصوات لا تختلف إلا باختلاف مقاطعها؟ ألم يقل سيبويه في فاتحة الكتاب (فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل) ، والدوال المذكورة حروف جاءت لمعان، وليس هي بأسماء ولا أفعال، فهي على هذا الحد، كلم، كما ذهب إليه الرضي وغيره. (5) التفكير واللغة لفيجوتسكي ترجمة الدكتور طلعة منصور المعرفة 178 لعام 976. (6) البنوية والعقلانية لأنطون شاهين -المعرفة 136 لعام 1971. (7) ترجمة الأستاذ عبد الحميد الدواخلي والأستاذ محمد القصاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 مسائل صرفيّة ومَا يَعترض الكتّابَ فيها من اللَبس والإشكال 1 ـ فيما جاء من الأفعال مبنياً للمجهول: كثيراً ما يعمد الكتّاب إلى بناء أفعال للمعلوم، للتعبير عما أرادوه من المعاني، وهي لا تُبنى إلا للمجهول. يقولون توفى خالد، بفتح التاء وفتح الفاء المشددة، والمشهور عن العرب قولهم (تُوفِّي فلان) ، بالبناء للمجهول، بضم التاء وكسر الفاء المشددة و (توفاه الله ففلان مُتوفّى) ، بضم الميم وفتح الفاء. وقد بحث هذا مؤتمر مجامع اللغة العربية بالقاهرة عام (1980م) ، وعُرض على اللجنة المختصة قول القائل (فلان المتوفّي) بكسر الفاء المشددة فردَّه الأكثرون واقتصروا على قول القائل (فلان المُتوفَّى) بفتح الفاء المشددة دون كسرها. وقد قلت المشهور عن العرب بناء الفعل للمجهول، ذلك أنه جاء قوله تعالى: ?والذين يتوفَّوْن منكم ويذرون أزواجاً?. [البقرة ـ 234] ". فقُرئ ?يُتَوفَّون? بالبناء للمجهول بضم الياء، لكن ثمة قراءة له بالبناء للمعلوم بفتح الياء، وهي قراءة سيدنا علي (رض) فيكون معناه: والذين يستوفون آجالهم منكم، والأجل مدة الحياة. وهكذا تقول: احتضر فلان، بضم التاء، إذا حضرته الوفاة فهو محتضر، بفتح الضاد. ومثله: حُضِرَ فلان بضم الحاء وكسر الضاد ... وتقول: استشهد فلان بضم التاء وكسر الهاء إذا مات شهيداً ... وكذا: شُفِيَ فلان بضم الشين وكسر الفاء إذا شفاه الله ... وتقول: نُكِسَ فلان بضم النون وكسر الكاف إذا عاوده المرض فنكسه، ونُزف فلان بضم النون وكسر الزاي، ونزف الجرح بضم فكسر إذا نزفه الدم ... ونُزِفَ صبره، بضم فكسر ... وهُزل فلان بضم الهاء وكسر الزاي، وقد هزله السفر والجدب، فهو هزيل ومهزول، وقد وقع في هُزال بضم الهاء ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 وقد نهك فلان بضم النون وكسر الهاء إذا نهكته العلَّة فهو منهوك ... وجُدر فلان بضم فكسر، وجُدّر بالتشديد، إذا أصابه الجَدري بفتح الجيم أو ضمها وفتح الدال، فهو مجدور ومجدَّر بفتح الدال المشددة. وحُصِبَ فلان بضم فكسر، على المجهول، وحصب بفتح فكسر على المعلوم، إذا ثارت به الحَصبة بفتح الحاء، وفتح الصاد أو كسرها أو سكونها، فهو محصوب.. وامتُقع لونه بضم التاء وكسر القاف، وانتقع بإبدال الميم نوناً، وزُعق فلان بضم فكسر على المجهول، وزَعِقَ بفتح فكسر على المعلوم، وانزعق إذا خاف ليلاً.. واعتقل لسانه من الخجل بضم التاء وكسر القاف على المجهول. ونقول اضطر فلان إلى كذا بضم الطاء المشددة دون فتحها، إذا اضطره أمر بفتح الطاء المشددة، وعليه قوله تعالى: ?إلاَّ إذا اضطُررتم إليه? [الأنعام ـ 119] . بضم الطاء المشددة، وقوله تعالى: ?فمن اضطُرَّ غير باغٍ ولا عادٍ فإن ربك غفور رحيم? [الأنعام ـ 145] . بضم الطاء المشددة أيضاً، فإذا أردت بناءه للمعلوم قلت: (اضطرَّه ماهو فيه من ضيق إلى كذا) بفتح الطاء، وعليه قوله تعالى: ?نمتّعهم قليلاً ثم نضطرَّهم إلى عذاب غليظ? [لقمان ـ 24] . بفتح الطاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 ويقول الكتاب (استهتر فلان بالقانون) إذا استخفَّ به ولم يبال، وهم يلفظون (استهتر) بفتح التاءين، فيخطئون في قولهم مرتين: الأولى أن (الاستهتار) يعني الولوع بالشيء بلا حد، لا إغفاله والاستهانة به، والثانية: أن الفعل يُبنى للمجهول فيقال (استُهتِر فلان بالقراءة) إذا أولع بها بلا حد، بضم التاء الأولى وكسر الثانية. ففي الأساس: "ومن المجاز هو مهتر به: بضم الميم وفتح التاء ومُستَهتَر به، بضم الميم وفتح التاءين: مفتون ذاهب العقل، وقد أهتر بفلانة واستهتر بها" ببناء الفعلين للمجهول. وقد جاء في كتاب البصائر والذخائر لأبي حيَّان التوحيدي: "قيل لرجل استهتر بجمع المال، بضم التاء الأولى وكسر الثانية، ما تصنع بهذا كله؟.. قال لرَوْعة الزمان وجَفْوة السلطان وبخل الأخوان ودفع الأحزان"، فالاستهتار بجمع المال هو الانصراف إليه والولوع به بلا حدّ. وثمة (شغف) تقول شُغِفْتُ به بضم الشين مبنياً للمجهول، بمعنى علقت به وكلفت. على أنك تقول كذلك (شَغِفْت به) بفتح أوله مبنياً للمعلوم أيضاً ـ وتقول من الأول: فهو مَشْغوف، ومن الثاني: فهو شَغِفٌ بفتح فكسر، كما في القاموس، وهو القياس فيه، ذلك أن ماكان لازماً من الأفعال على (فَعِلَ) بفتح فكسر فالصفة المشبهة منه، كما جاء في (همع الهوامع- 2 /199 وسواه، على (فَعِل) بفتح فكسر،، إذا كان للأعراض كفرِحَ فهو فَرِحّ بفتح فكسر. وعلى (أفعل) إذا كان للعاهات والألوان كأحمر وأسود وأعور وأجهر. وعلى (فعلان) إذا كان للامتلاء وضدَّه كشبعان وريَّان وصَدْيَان وعَطْشان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 ولك أن تقول (هو شغوف به) على (فعول) للمبالغة، وقد قال بعض الأئمة بقياس بعض صيغ المبالغة، من المتعدي دون اللازم ومنها (فعول) . ولكن أطلق مؤتمر مجامع اللغة العربية بالقاهرة عام (1986) ، القول بقياس هذه الصيغ إذ أقرَّ (إجازة القول بقياسية صَوْغَ أمثلة المبالغة من الأفعال اللازمة والمتعدّية. وقد جاء في قرار مؤتمر المجامع القاهري المتضمن إطلاق القياس في (فعول) : "الشائع من أقوال النحاة منع مجيء فعول من الفعل اللازم للمبالغة بناء على أن أمثلة المبالغة إنما تجيء من المتعدّي، وأن صيغ الصفة المشبهة ليس من القياس فيها صيغة فعول. ونظراً لما استظهرته اللجنة من ورود أمثلة تزيد على المئة لفعول من الأفعال اللازمة فهي ترى قياسية صوغ فعول للدلالة على المبالغة أو الصفة المشبهة ... وبعد المناقشة أقرَّ المؤتمرون جواز استعمال صيغة فعول من اللازم على أنها للمبالغة أو صفة مشبهة ... حين الحاجة ـ 1975م"، وهكذا تقول (هو شغوف به) من (شَغِفَ) بفتح فكسر، كما تقول غضوب ولعوب ورؤوم وفروق من غضب ولعب ورئم وفرق، بفتح فكسر فيها جميعاً. 2 ـ في صيغ المزيد من الفعل الثلاثي: آـ افتعل: افتعل صيغة من صيغ الفعل الثلاثي المزيد. ولا خلاف في أنه سماعي. فليس لك أن تصوغ (افتعل) من فعل مجرد وتأتي به على ما يوافق أصل الفعل تعدية أو لزوماً، مالم يرد بذلك سماع. ومن ثم لحنوا قول القائل (احتار) ، ولو تسمح به بعض المحدثين، إذ لم يسنده سماع أو يسعفه قياس معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 وقد اجتهد الشيخ ظاهر خير الله، من المحدثين في كتابه (المنهاج السوي في التخريج اللغوي) في وضع ضابط لما جاء على صيغة (افتعل) ، فاشترط أن يكون الفعل مما يتعمده العاقل عقلاً أو إرادة. فإذا صحَّ هذا ألزمك الضابط أن تمنع (افتعل) من (حار وخشي) ، ومن (سقم ومرض) ، إذ لا يتأتى أن يتعمد العاقل مثل هذه الأفعال عادة فأنت لا تقول احتار واختشى أو استقم أو امترض. ولكن مابالك تقول (اعتلَّ) من (علّ) ، ولا يتأتى أن تريد (العلة) لنفسك أو تتعمدها؟ أقول المعوَّل هنا في تقصي دلالة الفعل: الدلالة الأصلية. وأصل معنى (علّ) تابع. ففي الصحاح: "وعلّ الضارب المضروب إذا تابع عليه الضرب"، وأردف: "والعلة المرض وحدثٌ يشغل صاحبه عن وجهه، كأن تلك العلة صارت شغلاً ثانياً منعه من شغله الأول". وتابع قوله: "واعتلّ عليه بعلة إذا اعتاقه عن أمر". ومادام أصل معنى الفعل هو التكرار والمتابعة، لم يتوجه على الضابط الذي أتى به الشيخ عيب أو نقد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 ويكون (افتعل) متعدياً كما يكون لازماً. فإذا كان متعدياً كانت له صور متعددة أظهرها أن يراد به القيام بالفعل عمداً أو قصداً أو تخصيصاً، فأنت تقول شممت الورد ولا يعني هذا أن الشم قد حصل بالعمد أو القصد، فإذا قلت اشتممت الورد فقد أردت العمد، وهكذا قولك استمعت الحديث بدلاً من سمعته، واحتللت البلد بدلاً من حللته، وكذا قولك خصصته واختصصته، وكسبت المال واكتسبته، ففي الاكتساب تخصيص. فإذا قال الرازي في مختار الصحاح: "كسب واكتسب بمعنى"، فأجمل المراد من الفعل وحكى ما جاء في صحاح الجوهري، فقد قال الأصفهاني في مفرداته: "والاكتساب لا يقال إلا فيما استفدته لنفسك، فكل اكتساب كسب، وليس كل كسب اكتساباً"! وعندي أن نحو ذلك (كال واكتال) ، ولو لم أرَهْ في شيء من كلام الأئمة. فكل اكتيال كيل، وليس كل كيل اكتيالاً. ذلك أنه إذا قلت: (اكتلت) فقد كلت لنفسك، وليس كذلك (كلت) . قال تعالى: ?ويلٌ للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون? [المطففين ـ 1 ـ3] . فقد جاء?إذا اكتالوا على الناس?، أي إذا كالوا لأنفسهم على حساب الناس ـ يستوفون. كما جاء ?وإذا كالوهم? أي إذا كالوا للناس ـ يُخسرون. وهكذا: مشط وامتشط وأدم وائتدم وغسل واغتسل. على أن (اكتال وامتشط وائتدم واغتسل) ، لم يسمع إلا لازماً. وقوله تعالى: ?فأرسلْ معنا أخانا نكتل? [يوسف ـ 63] . شاهد آخر يؤيِّد ما ذهبنا إليه. فإذا كان (افتعل) لازماً فأوضح صورة أن يدل على المطاوعة، كقولك أبعدته فابتعد وأسعرت النار وأضرمتها فاستعَرَتْ واضطرمتْ، ومددته فامتد وجمعته فاجتمع وخصصته بالمعونة فاختص بها أي انفرد. وكل فعل مطاوع لازم، ولا عكس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 ومما جاء من (افتعل) لازماً ومتعدياً (اختص) . ومثال المتعدي قوله تعالى: ?والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم? [البقرة ـ 105] . أي يختص من يشاء اختصاصه، برحمته. فحذف المضاف فبقي (من يشاؤه) ، ثم حذف الضمير. ويجوز أن يكون (يشاؤه) : يختاره فلا يكون فيه حذف مضاف. ومثال (اختص) اللازم، ماجاء في اللسان: "اختص فلان بالأمر وتخصص له أي انفرد به". ونحو ذلك قولك (اختص فلان بخدمة فلان) . وثمة (اختص إليه) بمعنى: انتمى. ففي الكامل للمبرَّد: "يمت إليكم بالعمومة ويختص إليكم بالخؤولة"، وثمة (اختص) بمعنى: افتقر، كما في أساس البلاغة للزمخشري. وغريب على هذا قول ناقد في كلمة يومية: (اختص مطاوع) . وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: ?والله يختص برحمته من يشاء?، فاختص المطاوع فعل لازم، واختص في الآية متعد!.. *** وقد جاء على (افتعل) أفعال أشكل على الكتاب صوغ اسم الفاعل منها. ومن ذلك (اطّرد) بتشديد الطاء ومعناه جرى وتبع بعضه بعضاً. تقول هذا لا يطَّرد أي لا يتتابع فلا يجري على وتيرة أو قياس. والكتَّاب يعرفون ذلك، لكنهم إذا أتوا باسم الفاعل منه قالوا حيناً (مضطرد) بالضاد بين الميم والطاء بدلاً من (مطَّرد) ، بتشديد الطاء. فما سر المسألة؟ أقول جاء في المصباح: "واطّرد الأمر اتبع بعضه بعضاً واطّرد الماء كذلك، واطّردت الأنهار جرت، وعلى هذا فقولهم اطَرد الحدُّ معناه تتابعت أفراده، وجرى مجرى واحداً كجري الأنهار". وهو واضح. ولكن ما صيغة (اطّرد) ؟ اطّرد وزنه افتعل والثلاثي منه (طرد) . فافتعل من (طرد) هو اطترد بالتاء بعد الطاء. والقاعدة أن تقلب التاء هنا طاء فيصبح اطّرد بتشديد الطاء، واسم الفاعل منه مطّرد بتشديد الطاء لا (مضطرد) كما يقول الكتَّاب خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 وهكذا الأمر في كل ما كان أوَّل حرف من ثلاثيه ظاء أو صاداً أو ضاداً. فإذا أتيت بافتعل من (طلع) قلت اطتلع، فإذا قلبت التاء طاء كان (أطّلع) بتشديد الطاء. وتدعى أحرف (الصاد والضاد والطاء والظاء) أحرف الإطباق. فإذا جئت بافتعل من (ضرب) قلت (اضترب) ، فإذا قلبت التاء طاء كان (اضطرب) . ففي الأساس: "ورجل مضطرب الخلق متفاوته، وفي رأيه اضطراب، واضطرب من كذا: ضجر". وفي المصباح: "ورميته فما اضطرب أي ما تحرَّك، واضطربت الأمور اختلفت". ولا يكاد الكتَّاب يخطئون فيه كما يخطئون حيناً في قولهم (مضطرد) بدلاً من مطّرد بتشديد الطاء. وإذا جئت بافتعل من (ضرّ) ، قلت اضترّ بالتاء فإذا قلبت التاء طاء كان (اضطرّ) واسم الفاعل (مضطر) . ففي المصباح: "وضره إلى كذا واضطره بمعنى ألجأه، وليس له من بُد. والضرورة اسم من الاضطرار". وإذا جئت بافتعل من (صاد) ، قلت (اصتاد) بالتاء، فإذا قلبت التاء طاء قلت (اصطاد) ، وهكذا (صلح) تقول منه (اصطلح) ومن (صبر) : (اصطبر) . وإذا جئت بافتعل من (ضلع) ، قلت (اضتلع) بالتاء، فإذا قلبت التاء طاء كان (اضطلع) ، واسم الفاعل منه (مضّطلع) ، تقول: اضطلع فلان بالمهام إذا نهض بها فهو مضطلع. وإذا أتيت بافتعل من (ظلم) قلت (اظتلم) بالتاء، فإذا قلبت التاء طاء قلت (اظطلم) . لكنه جاء (أظّلم) . بتشديد الظاء كما جاء (أطّلم) بتشديد الطاء، وهكذا (ضجع) تقول منه اضطجع واضَّجع بتشديد الضاد واطَّجع بتشديد الطاء. *** وجاء على (افتعل) أفعال لازمة متعدية معاً. تقول اختبأه فاختبأ وانتسخه فانتسخ وازداده فازداد واشتهره فاشتهر، واحتجزه فاحتجز واحتبسه فاحتبس واشتاق فاشتاق وارتبطه فارتبط وانتظمه فانتظم وارتقاه فارتقى وافتتنه فافتتن ... ب ـ استفعل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 صيغة أخرى من صيغ مزيد الفعل الثلاثي، وهو يدل على معان مختلفة، أهمها الطلب والسؤال، وهو الغالب فيه، وقد ذهب مؤتمر المجامع اللغوية العربية بالقاهرة إلى قياسه. تقول استعان واستغفر إذا طلب العون والمغفرة واستنجد واستغاث، إذا طلب النجدة والغوث. كما تقول استمات إذا جاهد في القتال، واستخرج المعدن إذا اجتهد في إخراجه، وكذا استنبط الماء واستوقد النار، وهو من باب الطلب أيضاً، والاستئمان طلب الأمان. وقد أقر مؤتمر المجامع اللغوية بالقاهرة، مما خلت منه المعاجم: استعرض القائد جنده واستقطب الأستاذ طلابه واستجمع الرجل قواه. ومن طريف ماجاء من أقوال الأئمة قول ابن المقفع في الأدب الصغير: "وأعمال السلطان كثيرة، وقليل ما تستجمع الخصال المحمودة عند أحد ـ شرح اسماعيل يوسف/ 157"، فقد بنى الشارح (تستجمع) للمجهول واعتدَّه متعدياً، والأصل أن يبنيه للمعلوم لأنه بمعنى (تجمع) والمراد: وقليل تجمعها. وفي كتاب (حجج النبوَّة) للجاحظ قوله: "وقلت: ولابد من استجماع الأصول ومن استيفاء الفروع ... ومن حسم كل خاطر وقمع كل ناجم وصرف كل هاجس ودفع كل شاغل/147 ـ للسندوبي". فقد جاء بـ (استجماع) وأعقبه بـ (استيفاء) ... وحسم ... وقمع وصرف ودفع) ، وكلها مصادر لأفعال متعدّية فأوحى باحتمال تعدية (استجمع) !.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 وفي لغة الكتَّاب قول القائل (استهدف فلان النجاح أو الربح) إذا اتخذه أو جعله هدفاً له، وهو استعمال معاصر حديث أقره مؤتمر مجامع اللغة. واستهدف في المعاجم فعل لازم، فالهدف الغرض، وأهدف لك الشيء واستهدف إذا انتصب، كذا في الصحاح والمصباح وسواهما. وفي اللسان: "يقال لكل شيء دنا منك وانتصب لك واستقبلك قد أهدف لك الشيء واستهدف". وفي المثل: "من ألَّفَ فقد استهدف". أي تعرض للنقد فأصبح هدفاً له. وقد جاء في نهج البلاغة: "دارٌ بالبلاء محفوفة ـ أي الدنيا ... وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها وتفنيهم بحمامها ـ 2/246". والحمام الموت، وقد جعل الشارح (مستهدفة) مبنية للمفعول بفتح الدال والصواب فيها (مستهدفة) بكسر الدال مبنية للفاعل، أي أصبح أهلها أغراضاً منتصبة تُرمى بالسهام. لأن الفعل لازم كما رأيت. فإذا أخذنا بما أخذ به مؤتمر المجامع كان لنا أن نقول: (استهدفت النجاح أو الربح فاستهدف لي) ، أي فأصبح هدفاً لي و (استجمعت الأصول فاستجمعت لي) أي تجمعت لي، كما قال العرب: (استنسبني فاستنسبت له) أي طالبني بذكر نسبي فذكرته له، على ما سيمر بك بعد حين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 ومن معاني (استفعل) الحينونة تقول استحصد الزرع إذا حان حصاده واستجزَّ الصوف إذا حان جزّه واسترم الحائط إذا حان أن يرم ويصلح. وفي أساس البلاغة: "رممت من البنيان ما استرم منه"، بضم التاء في (استُرِمَ) ، وكسر الراء بالبناء للمجهول، وهو خطأ في النسخ، والصواب (ما استرَمَّ منه) بفتح التاء والراء، بالبناء للمعلوم، أي ما حان أن يُرمَّ منه، وهو الجانب المتهدم، ويؤيد ذلك نص الصحاح ومختاره واللسان، كما تقول استهدم الجدار بفتح التاء والدال إذا مال إلى السقوط فحان هدمه. وقد حمل الدكتور مصطفى جواد في كتابه (المباحث اللغوية بالعراق) ، حمل باب (الحينونة) هذا على (الطلب) ، لأن الحائط إذا استرَمَ مثلاً فكأنما يطلب أو يُريد أن يُرم، إذا أضفت الحياة إلى (الحائط) كما أضيفت إلى (الجدار) ، في قوله تعالى: ?فوجد فيها جداراً يريد أن ينقضَّ? ـ الكهف/77". وقد نسبت الإرادة إلى الجماد، وهي من صفات من يعقل مجازاً بطريق المشابهة، لأن الجدار إذا شارف الانقضاض والسقوط شابه من يعقل ويريد، إذا همَّ بذلك، وكذلك قول الشاعر: ويعدل عن دماء بني عقيل يريد الرمح صدرَ أبي براء ومن معاني (استفعل) الصيرورة والتحول، تقول استحجر الطين، إذا صار حجراً، وفي حكم ذلك قولك استنوق الجمل إذا صار كالناقة، وهكذا استأسد واستنسر واستفيل إذا صار كالأسد والنسر والفيل. وقد ذهب مؤتمر المجامع اللغوية بالقاهرة إلى قياسه حين الحاجة إلى مدلولاته. ومن معاني (استفعل) : الاتخاذ والجعل كقولك استعبد زيد الناس واستأجر الغلام واستخلف فلاناً. وهكذا استقضاه إذا ولاه قاضياً واستسفره إذا جعله سفيراً. وقد جاء في نهج البلاغة (2/ 84) : "وقد استسفروني بيني وبينكم"، أي اتخذوني وسيطاً وسفيراً. وقد جعله مؤتمر المجامع اللغوية قياساً كلما احتيج إليه في التعبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 ومن معانيه الاعتقاد والرأي كقولك استحسنته إذا رأيته حسناً، وكذا استقبحته واستهجنته واستشبعته، واستنصحته إذا عددته نصيحاً، وهكذا استعظمته إذا أصبته عظيماً واستكرمته إذا أصبته كريماً. وقد يأتي (استفعل) بمعنى (فعل) ، وقد قال بذلك كثير من الأئمة كابن قتيبة والفارابي والزمخشري وابن يعيش وابن الحاجب والرضي. ومثال ذلك استمر بمعنى مرّ. ففي مختار الصحاح "ومرَّ مروراً أيضاً بمعنى ذهب واستمرَّ مثله". وهكذا قرَّ واستقر. وقد ذهب الرضي في شرح الشافية إلى أن (استفعل) هنا يدل على مبالغة الفعل إذ قال: "قوله استفعل بمعنى فعل نحو قرَّ واستقرَّ، لابد في استقر من مبالغة". ومن هذا القبيل عجب منه واستعجب وصعب عليه واستصعب ونفر القوم واستنفروا ونقع الماء واستنقع وعجم الكلام واستعجم. وقد يأتي استفعل بمعنى تفعل كاستثبت وتثبت واستيقن وتيقن واستنجز وتنجز واستخفى وتخفى. وقد يأتي استفعل لدلالتين معاً كقولك (استنسبني فاستنسبت له) أي سألني أن أذكر نسبي فذكرت له، وهكذا قولك (استعجلته فاستعجل) ، أي سألته العجلة فاستجاب. وقيل في تعليل هذا أن المراد بقولك (فاستعجل) طلب العجلة من نفسه، كما جاء في المخصص لابن سيده (ج/14) ، قال سيبويه: "فإذا قلت استعجلتُ غير متعدٍ إلى مفعول فقد طلبت ذلك من نفسك وكلفتها إياه"، وذكر الزمخشري نحو ذلك. وتقول استعرفت الشيء إذا عرفته واستعرفت إلى فلان إذا انتسبت له ليعرفك. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 ومما يخطئ به الكتَّاب صوغ (استفعل) إذا كانت عينه ولامه حرفاً مشدداً مدغماً، نحو (استبدَّ) ، فالدال المشددة المدغمة هي عين الفعل ولامه، فإذا أرادوا إلحاق تاء الفاعل بالفعل قالوا (استبديْت) بإضافة الياء الساكنة بعد الدال المشددة تخفيفاً، كما قالوا في (استقلَّ) و (استغلَّ) : (استقّليت واستغّليت. والقاعدة في ذلك فك الإدغام في الحرف المشدد وهو الدال في (استبدَّ) . واللام في (استقلَّ واستغلَّ) . فتقول: (استبددتُ واستقللتُ واستغللت) ، كما تقول: استكتبت، ولا وجه لإدخال الياء الساكنة البتة. وقد يلجأ العرب إلى التخفيف أحياناً إذا تكرر الحرف فيبدلون الأخير منه ياء ساكنة. قال ابن جني في الخصائص (ج2، ص 91 و92) : "ومنه قصَّيت أظفاري وهو من لفظ قصص، وقد آل بالصنعة إلى لفظ قصى. وجاء تقضّضّ فأحالوه إلى تقضّى استثقالاً لتكرر الحرف، وقالوا: تقضَّى البازي إذا هوى ليقع، بإبدال الضاد الثانية ياء كما قالوا تظنّى بدلاً من تظنن، وتمطى بدلاً من تمطط، وتقصّى بدلاً من تقصص وتسرَّى بدلاً من تسرر"، وأردف: "على أن هذه الأمثلة المسموعة تحفظ ولا يقاس عليها. وقد عقد سيبويه في كتابه (2 /401) ، فصلاً في ذلك قال فيه: "هذا باب ما شذَّ فأبدل مكان اللام ياء لكراهية التضعيف". وفعل نحو ذلك ابن السكّيت في كتابه (القلب والإبدال) ، وأبو الطيب اللغوي في كتابه (الإبدال) : كما ذكره ابن سيده في المخصص (ج13) . وآخرون. ونحا نحو ذلك كثير من المحدثين لاسيما الدكتور إبراهيم أنيس في (الأصوات اللغوية/126) ، والدكتور عبد العزيز مطر في كتابه (لحن العامة في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة) ، وسواهما. ج ـ تفعّل: تفعّل بتشديد العين صيغة أخرى من الثلاثي المزيد. وما كان على هذه الصيغة يدل غالباً على مطاوعة، تقول حذَّرْتَه فتحذَّر ونبهته فتنبَّه وعزَّيته فتعزَّى. فتحذر وتنبه وتعزى أفعال لازمة مطاوعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 أو يدل على تكلّف كتشجّع وتحلّم وتجبّر، وهي أفعال لازمة، وتحرَّى وتدبَّر وتوخَّى، وهي أفعال متعدية. أو يدل على تكلف معاناة أو احتمال مشقة كتجشَّم وتحمّل وتكلَّف وهي أفعال متعدية، وتجلّد وتعسَّر وتصبَّر وهي أفعال لازمة. وفي اللغة (تنزَّل) بتشديد الزاي، وهو بوزن (تفعل) ، فما معناه وما دلالته؟ ... أقول تنزَّل معناه نزل، وهو فعل لازم. ففي مفردات الراغب الأصبهاني: "وأما التنزل بالشيء فهو كالنزول به. يقال: نزل الملَك بكذا وتنزَّل.. قال تعالى: ?تنزَّلُ الملائكةُ والروح فيها بإذن ربِّهم من كل أمر?. [القدر ـ 4] . وقال تعالى: ?وما تنزلت به الشياطين? ـ[الشعراء ـ 210] . وأصل تنزَّل في الآية الأولى: تتنزَّل، وقد جاء بحذف إحدى التائين. ومن، في قوله: من كل أمر، للسبب، أي من أجل كل أمر. وقوله تعالى: ?وما تنزَّلت به الشياطين? أي ما نزلت به، وهو القرآن، وبعد هذه الآية: ?وما ينبغي لهم وما يستطيعون?. أما دلالة (التنزل) فهي النزول في مهلة مع امتداد الزمن، ونحو ذلك تروَّى وتفكَّر. ففي الصحاح: "والتنزل بتشديد الزاي: النزول في مهلة". فالتنزل بالشيء وتنزيله بمعنى النزول به أو إنزاله في مهلة، على دفعات مقسَّطاً. أما النزول به وإنزاله فعلى دفعة واحدة، في غير مهلة) . كما في مفردات الراغب. وفي كلمة يومية لناقد قوله: (ومن على هذا المرقى تنزلت عليك المشيئة كلمتها) . وفي هذا القول خطآن: الأول مجيء الفعل متعدياً وهو لازم، والثاني أن التنزل هو النزول في مهلة مع امتداد الزمن كتفكّر وتأنّي وتروّي، وليس المراد كذلك. وثمة (تكرّم) بتشديد الراء، وهو بوزن (تفعّل) فما معناه وما دلالته؟ أقول (تكرَّم فلان) يعني أنه تكلَّف أن يكون كريماً. ففي الصحاح: "والتكرَّم تكلَّف الكرم وقال: أخا كرمٍ إلاَّ بأن يتكرما" "تكرَّم لتعتاد الجميل ولن ترى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 والكتَّاب يفهمون من قولهم (تكرَّم فلان علينا) يعني أكرمنا، وأفضل علينا، وأندى وأجدى، وليس الأمر كذلك، فتكرَّم عليه لا يعني أكرمه بحال من الأحوال. وجاء (تكرَّم عنه) بمعنى تنزَّه. ففي أساس البلاغة للزمخشري: "وهو يتكرَّم عن الشوائن ... وكرمه عن كذا بتشديد الراء: نزهه". ولكن ما القول في (تفضل) ؟ أقول جاء (تفضل عليه) بمعنى أفضل عليه، كما جاء بمعنى ادعى الفضل. ففي الصحاح: "وأفضل عليه وتفضل بمعنى، والمتفضل أيضاً الذي يدعي الفضل على أقرانه، ومنه قوله تعالى: ?ما هذا إلاَّ بشر يريد أن يتفضَّل عليكم? [المؤمنون ـ 24] . أي يريد أن يكون له الفضل عليكم. فتفضل بمعنى أفضل وأنعم وهو بمعنى ادَّعى الفضل أيضاً. وثمة (تكتم) على تفعل أيضاً فما القول فيه؟.. أقول في اللغة (كتم) الثلاثي، تقول (كتم الخبر) ، فينصب مفعولاً، و (كتمته الخبر) فينصب مفعولين، وشاهد الأول قوله تعالى: ?وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه? [غافر ـ 28] . وشاهد الثاني قوله تعالى: ?ولا يكتمون الله حديثاً? [النساء ـ 42] . وهكذا جاء كتم منه أو عنه السر والخبر، وكتمه إياه. وهناك (كتّم) بتشديد التاء و (كاتم) و (استكتم) ، تقول كتَّمْته الخبر بالتشديد وكاتمته الخبر، كما تقول استكتمته إياه إذا سألته أن يكتمه، فتنصب به مفعولين، كما جاء في اللسان. وهناك (اكتتم) بتاءين يتعدى ولا يتعدى. ومثال الأول اكتتمته، كما في الصحاح، ومثال الثاني: فلان لا يكتتم، كما في الأساس، أي لا يكتم أمره. أما (تكتم) ، فهو لازم لا يتعدى، كما في التهذيب للأزهري، وفي القاموس والتاج (التدلس: التكتم) ، ومعنى التدلس باللام المشددة الاختفاء، فقول بعضهم تكتمت الخبر لا وجه له لأن الفعل لازم، ولا وجه لإنكار مجيء الفعل كما فعل الأستاذ سليم الجندي في كتابه (الفاسد في لغة الجرائد) والأستاذ إسعاف النشاشيبي في مجلة الرسالة، فتكتم كتستر وتحجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 وثمة (تجوّل) فقد أجمع النقاد على منعه، إذا لم يرد في المعاجم قال الدكتور مصطفى جواد في كتابه (قل ولا تقل) : "قل المجوّل لا المتجوّل". وقال الأستاذ محمد العدناني في معجمه (الأخطاء اللغوية الشائعة) : "يقولون تجوَّل في البلاد، والصواب جال في البلاد يجول جولاناً ... وجوَّل في البلاد تجوالاً ... ولم أعثر في المعجمات كلها على فعل تجوَّل". وقد منعوا كذلك (تطوّر) ، فقد قال الأستاذ أسعد داغر في كتابه (تذكرة الكاتب) : ويبنون فعلاً من الطور بمعنى الحال على تفعّل بالتشديد، فيقولون: تطوَّرت الأمور وهي آخذة في تطوّر سريع، وهم في غنى عن مخالفة المنقول والمسموع، بما في اللغة من الأفعال التي تفيد هذا المعنى ... ومنها تحوّل وتغيّر وتبدَّل ... ". أقول في الجواب عن منع (تجول وتطور) ، بتشديد الواو فيهما: "إن نصوص اللغة ليست في المعاجم وحدها، بل هي في دواوين الشعر والأحاديث والأمثال وكتب الأدب وسواها أيضاً. وقد تبين بالبحث أن (تجوّل) بتشديد الواو جاء في كلام الفصحاء. من ذلك قول المرزوقي في شرح ديوان الحماسة: "وتستغني عن السعي والتجول معه فتريح نفسك من الحل والترحال في طلبه/ 1733". وإذا ثبت (التجوُّل) ، مصدراً فقد ثبت (تجوّل) فعلاً، واسم الفاعل منه (المتجوّل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 وقولك (تجول) يدل على تكرار الفعل وامتداد زمن حدوثه نحو تعلَّم وتربَّى وتأدَّب وتمشَّى وتنقَّل وترقَّب وتمهَّل ... وهو معنى لا يعبر عنه (جال) ، ولا (جوَّل) ، بتشديد الواو، فهذا يدل على التكثير. فقولك: (جوَّال أو جوَّالة) ، لا يغني عن قولك (المتجول) . فالمتجول هو الذي يطوف متحركاً متنقلاً ساعة بعد ساعة. أما الجوَّال أو الجوَّالة فهو الكثير الجولان. وفي الأساس: "وجول في البلاد وطوف وهو جوالة وجوابة". أي كثير التجوال والتطواف، فقولك (البائع المتجول) أدل على المعنى المقصود من قولك (البائع الجوَّال) ، وقد انتهى الأستاذ صبحي البصَّام إلى نحوٍ مما انتهينا إليه في كتابه الاستدراك على كتاب قل ولا تقل للدكتور مصطفى جواد) . أما (تطور) الذي منع منه النقاد لأنه لم يرد في معجم وقالوا إن تحول أو تغير أو تبدل يغني عنه، فيقال فيه ما قيل في (تجول) . ذلك أن (التطور) وإن كان تحولاً وتغيراً وتبدلاً فإنه لا يطابق في دلالته فعلاً من هذه الأفعال. فالمقصود بالتطور انتقال الشيء أو الكائن من طورٍ إلى طور آخر هو أقرب إلى الكمال وأدنى إلى الغاية من وجوده. فهو تحول وتدرج في ارتقاء مع امتداد الزمن. ومن هنا مسَّت الحاجة إلى استعماله في التعبير عن هذه الدلالة. وإذا كان التطور لم يرد في المعاجم فقد جاء في كلام الأئمة قديماً ومنهم الشعراني في طبقاته وابن خلدون في مقدمته وابن حجر القسطلاني وابن عرفة والزبيدي صاحب التاج وأبو البقاء صاحب الكليات والسبكي في طبقاته الكبرى. وقد أقرَّه المجمع القاهري وأثبته في المعجم الوسيط، بعد الوثوق من صحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 ومما يصيب الكتَّابُ في استعماله (تغلب) حين يقولون (تغلَّب فريق على فريق) . وقد عاب بعض النقاد ذلك وأوجبوا أن يستعمل (تغلَّب) كما جاء في الصحاح. قال الجوهري: "وتغلب على بَلَد كذا استولى عليه قهراً". والأصل أن يؤتى بالمثال ليُنسج على منواله ويقاس على ما يرد من أشباهه بعد تدبره وإعمال الفكر فيه، و (تغلَّب) على (تفعّل) ، وتدل هذه الصيغة فيما تدل عليه، كما مرَّ بنا، على تكلف معاناة ومشقة. فانظر إلى قول ابن المقفع في (كليلة ودمنة) : "زعموا أن قرداً كان ملك القردة فوثب عليه قرد شاب فتغلب عليه"، فقد عبَّر ابن المقفع عمَّا لاقاه القرد الشاب في الانتصار على القرد الملك، ومثله (تصبّر) ، قال الجاحظ في كتابه في النساء: "وإن تصبر وأمكنة الصبر لم يزل معذباً"، فدلَّ على شدة المعاناة في الصبر. فقول الكتاب (تغلب فريق على فريق) ، يعني حصول الغلبة بالجهد والمشقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 ومما يصيب به الكتَّاب، ولو عمد بعضهم إلى التخطئة فيه، قولهم: (فلان يتحرَّش بالمارَّة) ، إذا تعرض لهم. قال الأستاذ أسعد داغر في كتابه (تذكرة الكاتب) : "ويقولون: وجعل يتحرَّش بي أي يتعرض ويتحكك ... وفي كتب اللغة حرش الضبَّ واحترشه صاده.. وحرش بين القوم أغرى بعضهم ببعض. أما تحرَّش فلم يُسمع إلا في ديوان ابن الفارض ... "، أقول تحرَّش به صحيح فصحيح، وهو من (حرش) ، ومعنى حرش في الأصل أثار. تقول حرشت البعير إذا حككت غاربه، أي مابين ظهره وعنقه، بعصا معطوفة الرأس ليزيد في مشيه، كما جاء في كتاب (الاشتقاق) لابن دريد. وقد تدرج هذا المعنى فضم إلى الإثارة الخداع. فقد جاء في أمالي المرتضى "الاحتراش أن يقصد الرجل إلى حجر الضب فيضرب بكفه ليحسبه الضب أفعى فيخرج إليه فيأخذه. يقال حرشت الضب واحترشته". فالحرش والاحتراش للضب محاولة اصطياده بعد إثارة وخداع. ومن هنا جاء (التحرش) فدل على الإثارة والمراوغة. ففي كتاب فقه اللغة للثعالبي: "الحرد بفتح الراء وتسكينها هو أن يغتاظ الإنسان فيتحرش بالذي غاظه ويهم به". ومن ثم كان قول ابن الفارض: عرَّضت نفسك للبلى فاستهدف ولقد أقول لمن تحرَّش بالهوى صحيحاً مستقيماً. أي أقول لمن تحرش بالهوى وتحكك به قد عرضت نفسك للبلى فكن هدفاً له. وفي اللسان: "تحدد بهم أي تحرش بهم". ومعنى تحدد بهم فعل ما يثير الحدة، ويستوجب الغضب. وتقول العامة في هذا المعنى (تحركش) بزيادة (الكاف) والتحريف واضح. ويصيب الكتَّاب في قولهم (وقد كان القاضي متحيزاً في حكمه) ، تقول تحيز فلان إلى هذه الفئة إذا انحرف إليها. ففي كتاب (الإبدال لأبي الطيب اللغوي) : "تحوزت إلى فئة وتحيزت أي انحرفت"، وعليه قوله تعالى: ?ومن يولِّهم يومئذٍ دبرهُ إلاَّ منحرفاً لقتالٍ أو متحيِّزاً إلى فئةٍ فقد باءَ بغضبِ مِنَ الله? [الأنفال ـ 16] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 وكذلك قول الكتاب (فعلت ذلك تحفظاً من كل طارئ) أي احترازاً وتوقياً، ولو أنكر ذلك بعضهم فزعم أن استعمال التحفظ بمعنى الاحتراز معروف في الألسن الدارجة في عصرنا، غير معروف في أصل اللغة، ففي الصحاح: "التحفُّظ التيقُّظ" وفي الأساس "وعليك بالتحفظ من الناس، وهو التوقي". وفي رسالة ابن القارح إلى المعرّي: "ويتحفظون من سهو أو تصحيف أو غلط". وفي المقامة الكوفية للحريري: "ولا يُتحفظ منه"، قال الشارح: أي يُحرس. فثبت بذلك قولك تحفظ من كذا إذا احترز منه. وليس كذلك قول الكتاب (فعلت ذلك تحسباً من كل طارئ) ، أي فعلته حذراً من كل طارئ أو احترازاً منه أو توقياً وتحفظاً، فليس (التحسب) في اللغة بهذا المعنى، وإنما جاء لمعنيين متقاربين. أولهما (التعرّف) . تقول تحسَّبت الأمر أو الخبر بمعنى تطلبته وتعرفته. وعلى ذلك ماجاء في الأساس: "خرجا يتحسَّبان الأخبار: يتعرَّفانها"، ومنه حديث بعض الغزوات: "إنهم كانوا يتحسبون الأخبار أي يطلبونها"، كما في النهاية لابن الأثير، والمعنى الثاني للتحسب: توقع الأمر وتحيُّنه، أي تطلب وقته وحينه. ومنه حديث الأذان: "إنهم يجتمعون فيتحسَّبون الصلاة أي يتعرَّفون ويتطلبون وقتها ويتوقعون. كما جاء في النهاية. وليس في هذه المعاني ما يريده الكتاب من معنى الاحتراز أو التحفظ والتوقي. ولو قالوا: (فعلت ذلك تحسباً لكل طارئ) ، أي توقعاً واستعداداً لصحَّ ذلك. وفي كلام الكتَّاب قولهم (حذرت من الفتنة) وهو صحيح، ولك أن تقول (حذرت الفتنة) فتعدي الفعل. فإذا شددت الذال قلت (حذَّرته من الفتنة) ، ولك أن تقول (حذَّرته الفتنة) فتعدّيه إلى اثنين. وعليه قوله تعالى: ?ويحذِّركُمُ الله نفسه? [آل عمران ـ 28 و30] . أي يحذِّركم غضبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 وثمة (تحذّر) بتشديد الذال على تفعّل، ولا تكاد تذكره المعاجم، قال ابن المقفع في (كليلة ودمنة) : أن الأسد سيتحذَّر الثور"، فجاء متعدياً. وفيه: "وأما المضطر ففي بعض الأحوال يسترسل إليه، وفي بعضها يتحذَّر منه"، فبدا لازماً. والتحذُّر شدة الحذر كالتبصر لشدة الصبر ومعاناته. وكما تقول تحذَّرته وتحذَّرت منه تقول اتَّقيت شره واتَّقيت من شره. ففي التنزيل: ?إلاَّ أن تتقوا منهم تُقَاةْ? [آل عمران ـ 28] . قال البيضاوي: "والفعل مُعدَّى بمن لأنه في معنى تحذروا وتخافوا". وهكذا تقول (توقَّى) بتشديد القاف على (تفعَّل) . تقول (توقَّيت أذاه) فتعدي الفعل، وتقول كذلك (توقيت منه) فتأتي به لازماً. وقد أنكر لزوم الفعل بعضهم كالأستاذ محمد العدناني في معجمه (معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة) ؛ فلم يعثر عليه لازماً إلا في معجم (مدّ القاموس) ، ولم يطمئن إلى صحته. أقول جاء في كلام الأئمة لازماً فانظر إلى ماقاله الجاحظ في كتاب (الحجاب) : "فالواجب على من ساسهم التوقي على نفسه من سوء ظنونهم"، فثبت بذلك صحة مجيء الفعل لازماً. وهكذا تقول توقيت السوء ومن السوء، كما تقول وقاه الله السوء ومن السوء وقاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 ويخطئ الكتَّاب في استعمال (تحرَّى) فيقولون: (لا يزال التحرّي مستمراً عن المجرمين) ، ويحسبون أن الفعل في معنى الطلب والبحث والتقصّي عامة، وليس الأمر كذلك. فالتحرّي هو طلب الأحرى، أي طلب الأول والأحق. ففي اللسان: "ومن أحرِ به اشتقَّ التحرّي في أشياء ونحوها. وهو طلب ماهو أحرى"، وقال: "والتحري قصد الأولى والأحق مأخوذ من الحريّ وهو الخليق". وعلى هذا فالتحرّي هو طلب الأحرى على وجه الخصوص، ولذا كان قول الكتاب (تحرى عن الشيء) بمعنى بحث عنه لا وجه له، وقد جاء في الحديث:"تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر"، قال ابن الأثير في النهاية: "أي تعمَّدوا طلبها فيها، والتحرِّي القصد والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول". فإذا قلت (تحرَّيت هذا الأمر) فمعناه أنك توخيته وخصصته بالطلب وتعمدت التماسه لأنه الأحرى، والفعل يتعدَّى بنفسه. وليس قولك (فتَّشَ أو بحث) بهذا المعنى. وثمة (تعرض) ، ويستعمله الكتَّاب للتعبير عن أحد معنيين. ويبدو المعنى الأول في قولهم (تعرضت لفلان) إذا ابتغيته واعترضته وتصديت له فجعلته هدفاً لك. ويبدو الثاني في قولهم (تعرض البيت للخطر) ، إذا ابتغاه الخطر وتصدى له. فأصبح هو أي البيت هدفاً له. ونحو ذلك قولهم أيضاً (تعرضت المدينة للهجوم) إذا ابتغاها الهجوم وتصدى لها، فأصبحت هي، أي المدينة، هدفاً له، فأي الاستعمالين هو الصحيح؟.. أقول بحث هذا الدكتور مصطفى جواد في كتابه (قل ولا تقل) فصوَّب الاستعمال الأول دون الثاني. وحجته أن قولك (تعرضت له) ينم على رغبة الفاعل في الفعل، والمفعول إن وجد، فيمتنع على هذا أن تقول (تعرض فلان للتعذيب) ، أو نحو ذلك، إذ لا يستقيم أن يكون المتعرض راغباً في (التعذيب) ، أو ما يشاكله من معاناة ومقاساة. وصواب التعبير أن تقول: (عُرِّضَ فلان للتعذيب) . بالبناء للمجهول. فما الرأي في هذا كله؟ ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 أقول لم يصب الدكتور جواد فيما ذهب إليه، فقولك (تعرض فلان للتعذيب) إذا عرض له فكان هدفاً له صحيح فصيح نصاً واستعمالاً. أما النص فقول صاحب الصحاح: "وعرض فلاناً لكذا، بالتشديد، فتعرض له"، أي غدا هدفاً له. ويعني هذا أن لك أن تقول: (عرَّضت فلاناً للتعذيب فتعرض له) أي عُرِّضَ له بالبناء للمجهول. كما يصح لك أن تقول (تعرض فلان للتلف أو للخزي أو للهلاك) ، إذا أصبح هدفاً لذلك، وقد جاء نص الصحاح الذي تقدم ذكره في مختار الصحاح أيضاً. والغريب في الأمر أن يُقدم الدكتور جواد على إنكار هذا النص بلا حجة ولا سلطان. قال الدكتور جواد: "وقد تركت نصاً واحداً ورد في الصحاح ومختاره يخالف واقع اللغة وإني ذاكره بعد إيراد واقع اللغة.."، ثم ذكر من واقع اللغة شواهد تثبت صحة الاستعمال الأول وشيوعه، وهو (تعرضت لفلان) ، ولم يأتِ بشاهد واحد يقطع بفساد الاستعمال الثاني وهو (تعرضت للتعذيب) !.. ومن الغريب أيضاً أن يأتي جواد بنص يحسب أنه حجة له، وهو حجة عليه، وهو من معجم اللسان. قال جواد: "قال ابن منظور والعرب تقول عَرَضَ لي شيء وأعرض وتعرض واعترض بمعنى واحد". فإذا كان (تعرض له) بمعنى (أعرض له) ، فما الذي يعنيه قولك (أعرض فلان لمكروه) ؟ إنه يعني أنه أبدى (عُرضه) بالضم للمكروه أي أبدى جانبه فأمكنه منه. فالمُعرض بضم الميم بصيغة اسم الفاعل من (أعرض) هو الذي أمكن شيئاً من عُرضه أي جانبه فغدا هدفاً له. وعلى ذلك قول صاحب الأساس: "أعرض لك الصيد فارمه وهو مُعرض لك"، أي انتصب لك الصيد فأصبح هدفاً لك فارمه. وعلى هذا تقول على سبيل المجاز (أعرض فلان للمكروه) ، أي انتصب فجعل نفسه هدفاً فأمكن المكروه منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 أقول هذا من حيث النص، أما من حيث الاستعمال فهذا نهج البلاغة (2/ 151) ، فقد جاء فيه: "وتعرضتم لأخذه فأمهلكم"، قال الشارح: (أي أن يأخذكم بالعقاب) . والمعنى تعرضتم لأن يأخذكم بالعقاب، أي تعرضتم لعقابه فأمهلكم. وقال ابن المقفع في (كليلة ودمنة ـ باب الأسد وابن آوى) : "فإذا اجتمع عليه هذان الصنفان فقد تعرض للهلاك". وقد تكرر ذلك منه، وقال أبو حيان التوحيدي في كتابه (أخلاق الوزيرين) :"والله لَلْخروج من الطارف والتليد أسهل من التعرض لهذا القول والصبر عليه وقلة الاكتراث به". أي أسهل من أن يتعرض لهذا القول الموجه إليه ثم يصبر على ذلك ولا يكترث. وفي ديوان الحماسة للمرزوقي (ص789) : "ويتعرض من أجله للتلف"، وقد تكرر ذلك منه. وفي الخصائص قال ابن جني (1/ 470) ، "كرهتِ الواو هنا لما تتعرض له من الكسرة والياء"، كما قال في المحتسب (1/179) : والواحد معرض للتثنية والجمع"، فثبت بهذا أنه قد جعل قوله (تتعرض له) كقوله: (معرض له) على المفعول، وهو ما أنكره جواد. وخلاصة القول أن (تعرَّض له) و (عُرض له) بالبناء للمجهول، سيَّان، ويكون (تعرض) هذا من قبيل (تفعل) الدال على المطاوعة، وهو ينمّ على هذا المعنى كلما ابتغاكَ أمر فجعلك هدفاً له كقولك (لا تكثر من السفر فتتعرض للخطر) . فإذا أردت العكس وقصدت التصدي كان ذلك من (تفعل) ، الدال على التكلف والمعاناة، فقلت (على المرء أن يتعرض لأسباب الخطر والمرض ويحاول أن يعالجها ليتَّقيها. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 بقي الكلام على خطأ استعمال الكتاب لِـ (تكبّد) على تفعل بالتشديد. يقولون (تكبَّدت في هذه الرحلة عناءً شديداً) ، فيخطئون. كما يقولون (كبدني الأمر عناءً وصبراً) ، بتشديد الباء فيخطئون أيضاً. ففي اللغة (كَبَد كبداً) ، كقتل قتلا. تقول كبدهم البرد إذا شق عليهم، والكبد بفتح الكاف والباء المشقة. ومنه قوله تعالى: ?لقد خلقنا الإنسان في كَبَد? ـ[البلد ـ 4] . أي في نصب وشدة. ففي الأساس: "ووقع في كبد بفتح الكاف والباء: في مشقة". وفي اللغة كذلك (كابده مكابدة وكباداً) إذا عاناه. ففي الصحاح: "وكابدت الأمر قاسيت شدته". وفي الأساس: "وبعضهم يكابد بعضاً، والمسافر يكابد الليل إذا ركب هوله وصعوبته". لذلك قل (قد كلفه الأمر عناء أو حمله) بالتشديد، ولا تقل (كبَّده) . وقل (تكلفت في الأمر شدة) ، أو تحملت أو تجشمت، بالتشديد فيهما، ولا تقل (تكبدت) . ولكن أليس في اللغة (كبد) و (تكبد) بتشديد الباء فيهما؟ أقول جاء في الصحاح: "كبَد النجم السماء أي توسطها"، فالفعل متعد. فقد جاء لازماً ومتعدياً. ففي الصحاح: "تكبدت الشمس: صارت في كَبِدِ السماء أي في وسطها"، فأتى بالفعل لازماً. وفي الأساس: "تكبدت الشمس: توسطت السماء"، و (تكبدت الفلاة: توسطتها) ، فأتى بالفعل لازماً ومتعدياً، فتأمل. د ـ تفاعل: "يرد التفاعل للمشاركة فلا يصح مجيء الفعل منه إلا من اثنين فأكثر، تقول تجاور خالد وعلي وتخاصم سعيد وصالح وتشارك الأخوة وتصاحب الأصدقاء في السفر. فلا يصح الاكتفاء بقولك تجاور خالد وتخاصم سعيد ... ويرد التفاعل لغير المشاركة فيأتي من واحد فيكون له أكثر من دلالة. فهو يفيد المطاوعة حيناً، والمطاوعة قبول أثر الفعل، تقول باعدته فتباعد ونثرته فتناثر.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 وقد يظهر التفاعل ماليس واقعاً تقول تجاهل وتغافل أي أظهر الجهل والغفلة من نفسه وهما منتفيان لديه. ومن ذلك تحالمت إذا أظهرت الحِلْم ولست كذلك، على حين تقول تحلَّمت إذا التمست أن تصير حليماً (أدب الكاتب لابن قتيبة / 35) . وقد جاء في كلام الجاحظ (تحاذق) ذكره في رسائله في ذم أخلاق الكتاب، ومعناه: أظهر الحذق. فإذا صح هذا كان ذلك قياساً فيه، إذ خلت المعاجم منه، وصح بذلك قولك (تعالم) إذا أظهر العِلم. ويفيد التفاعل وقوع الحدث تدريجاً كتفاقم الأمر وتواردت الإبل، وهكذا تزايد وتنامى وتكاثر وتعاظم وترادف وتقادم وتهاوى وتواتر وترامى وتراخى وتسارع وتهافت، وتساقط إذا سقط قطعة قطعة.. وقد قاس عليه المتنبي فقال (تفاوح المسك) أي فاح حيناً بعد حين وشيئاً بعد شيء. قال المتنبي: تفاوح مسك الغانيات ورنده إذا سارت الأحداج فوق نباته والأحداج مراكب النساء والرند نبات طيب الرائحة. وليس في اللغة (تفاوح) ، وإنما تخيَّرها المتنبي فجادت بها قريحته عفو الخاطر حين ألهمته بها الحاجة إلى إحكام الأداء، إذ تمثل المسك تتناثر رائحته حيناً بعد حين. قال ابن سنان الخفاجي (سر الفصاحة /62) : "فإن تفاوح كلمة في غاية الحُسن، وقد قيل أن أبا الطيب أول من نطق بها على هذا المثال وإن وزير كافور الأخشيدي سمع شاعراً نظمها بعد أبي الطيب فقال: أخذتموها .... ". وقد يفيد مجرد وقوع الحدث كتخاطأ بمعنى أخطأ، وهكذا جاوز الشيء إلى غيرهِ وتجاوزه بمعنى، كما في مختار الصحاح. وقد يفيد طلب الفعل كقولك تقاضاه الدين إذا طالبه بقضائه وتحاكم القوم إلى فلان إذا طالبوه أن يحكم بينهم ... *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 ويأتي تفاعل لازماً ومتعدياً سواء أكان من أفعال المشاركة أم لم يكن. والأصل في أفعال المشاركة من تفاعل أنه إذا تعدى (فاعَلَ) ، إلى واحد جاء (تفاعل) لازماً لا يتعدى. فأنت تقول نازعت فلاناً، إذا خاصمته، فإذا قلت تنازع القوم جئت به لازماً لا يتعدى. وإذا تعدى (فاعل) إلى اثنين، جاء (تفاعل) متعدياً إلى واحد. تقول نازعته الأمر إذا جاذبته إياه فتعديه إلى اثنين، فإذا قلت تنازعوا الأمر عديته إلى واحد، وهكذا جاذبته الأمر فقد جاء متعدياً إلى اثنين، أما تجاذبوا الأمر فهو متعدٍّ إلى واحد. وفي اللغة قاسمته الأمر فتقاسموه، ولكن هل في اللغة (شاركتهم الأحزان) كما يقول الكتاب؟ أقول لو كان ثمة (شاركته الأمر) لصح قولك فتشاركوه، وليس في اللغة (فتشاركوه) بل فيها (فتشاركوا فيه) . فالصواب إذا شاركتهم في الأمر فتشاركوا فيه، وقول الكتاب (شاركتهم الأحزان) خطأ، ولم يرد في المعاجم. وقد جاء في المقامة الشيرازية لبديع الزمان الهمذاني: "فقد أرضعتك ثدي حرَّته وشاركتك عنان عصمته"، فعدى (شارك) إلى مفعولين، على غير الأصل، ولا يمكن التعويل عليه لأن للسجع ضرورة كضرورة الشعر، كما يقول ابن برّي في كتابه (اللباب في الرد على ابن الخشاب) ، وقد جرت الأئمة على ذلك. فإذا كان (تفاعل) لغير المشاركة جاء لازماً أو متعدياً، تقول في اللازم (تفاديت منه) . ففي أساس البلاغة "ومن المجاز تفادى منه: تحاماه". وفي خزانة الأدب لعبد القادر البغدادي "تفادى من كذا إذا تحاماه وانزوى عنه". فقول الكتاب (تفاديت الخطر أو الصعوبة) خطأ صوابه (تفاديت من الخطر أو من الصعوبة) . ولك أن تقول في نحو معنى (تفاديت منه) : (تحاميت الخطر أو الصعوبة) لأن (تحامى) متعد خلافاً لتفادى. ففي مختار الصحاح: "تحاماه الناس أي توقوه وتجنبوه"، وفي الأساس: "وهو يُتحامى كما يُتَحامى الأجرب"، ببناء الفعل للمجهول، فدل ذلك على تعدي الفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 وثمة (تحاشى) وهو فعل لازم كتفادى. والتحاشي في الأصل هو التنحي. ففي اللسان: "إذا قلت حاشى لزيد: هذا من التنحي، والمعنى قد تنحى زيد من هنا وتباعد عنه"، فقولك حاشاه يعني نحَّاه أي عزله في حاشيته، كما كان نحَّاه بمعنى عزله في ناحية. ولذا كانت تعدية (حاشى وتحاشى) ، بالحرف. تقول حاشيت من القوم فلاناً وتحشيت منهم أحداً إذا استثنيت. قال النابغة: "وما أحاشي من الأقوام من أحد"، وقد استؤدي الفعل هنا معنى الاستثناء مجازاً لأن الاستثناء هو عَزْلُكَ الشيء من الجملة. فإذا استؤدي (تحشى أو تحاشى) ، معنى تباعد، فالقياس أن يُعدَّى بعن. تقول تحشيت عنه أو تحاشيت عنه إذا تنحيت وتباعدت. ولكن هل يُعدى (تحاشى) ، بنفسه، كما جرت به أقلام الكتَّاب في نحو قولهمم (تحاشيت مقابلة فلان اتقاء لغضبه) ؟ ... أقول جاء ذلك في كلام بعض الفصحاء. قال أبو الفضل بديع الزمان الهمذاني (398هـ) ، في بعض رسائله إلى أخيه أبي سعيد: "ويقول المُحال فلا يتحاشاه، والمُحال لا يلطم الخد إنما يتجاوز الحد، ولا يشج الرأس إنما يرفع القياس/197". ونحو ذلك ماجاء في المقامة (القهقرية) ، لأبي محمد القاسم الحريري (540هـ) : "وتحاشي الريب يرفع الرتب". قال الشارح: (تحاشي الريب أي التباعد عن التهم) . وعندي أنه لا بأس بتعدية (تحاشى) بقولك (تحاشاه) ، على سبيل التضمين. والتضمين كما هو معروف اشراب فعل معنى فعل آخر وإعطاؤه حكمه في التعدية واللزوم. وفائدته أن يؤدي الفعل المشرب معنى الفعل الآخر إلى جانب معناه الأصلي. وقد اشترط فيه تحقيق المناسبة بين المعنيين. وقد بسطنا القول في ذلك في كتابنا (مسالك القول في النقد اللغوي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 والذي أراه أن الشارح قد أوجز حين قال: (تحاشي الريب أي التباعد عن التهم) ، وقد كان يحسن أن يقول: (تحاشي الريب أي تجنبها بالتباعد عنها) . فالتحاشي في الأصل هو التنحي أي الاعتزال. كما ذكرناه، فإذا أردت أن تلحظ في هذا معنى التجنب عديت (تحاشى) تعدية، (تجنب) المتعدي بنفسه. والتجنب والاجتناب هو الاعتزال كذلك، في الأصل، لكنك تقول جنبته الشر فتجنبه أي وقيته إياه فتوقاه. ففي الأساس: "وقيل للترس، مجنَب ـ بوزن مبرد ـ لأنه يجنب صاحبه أي يقيه مايكره". فأنت إذا أشربت (التحاشي) أي الابتعاد والتنحي معنى (التجنب) ، فقد لحظت فيه معنى (التوقي) . وأنت تقول (جنبته موارد الزلل فتجنبها) ، أي توقاها وتحاشاها، وليس يسد مسد ذلك أن تقول (فتحاشى عنها) ، إذا حاد وابتعد. فصح بذلك قولك (تحاشيت عنه) إذا تباعدت، (وتحاشيته) إذا تجنبته. وهكذا تقول (تحاميته) ، كما مرَّ بنا، إذا توقيته فحميت نفسك منه، فالفعل متعد، ولم يرد في نصوص المعاجم لازماً، لكنه جاء في المقامة (البشرية) لأبي الفضل بديع الزمان الهمذاني "قد كانت تحامت عن ذلك الطريق/446"، فما الرأي فيه؟ ... أقول يقال في تصويب هذا، أي تصويب تعدية (تحامى) بالحرف، والأصل فيه التعدي، ما قيل في تصويب (تحاشاه) والأصل فيه اللزوم، فقد قال بعيد الزمان في مقامته (قد كانت تحامت عن ذلك الطريق) فأوجز، والأصل أن يقول (قد كانت تحامت ذلك الطريق ـ أي توقته ـ متباعدة عنه) ، فصح بهذا أن الكاتب قد ضمَّن (تحامى) المتعدي بنفسه، ومعناه توقى، معنى (تباعد) فعدَّاه بالحرف الذي يتعدى به. ويسدد هذا ماجاء في كتاب (الفروق) لإسماعيل حقي (ص109) : "والتضمين أن يقصد بلفظ معناه الحقيقي، ويلاحظ معنى آخر يناسبه. ويدل عليه بذكر شيء من متعلقات الآخر، كقولك: أحمد إليك فلاناً، فأنك لاحظت مع الحمد معنى الإنهاء ودللت عليه بذكر صلته، أي كلمة ـ إلى ـ أي أحمد منهياً إليك حمدي إياه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 ونحو ذلك قول الزمخشري في كشافه (1/ 89) ، حول ماجاء في التنزيل: ?ولتكبِّروا الله على ما هداكم? [البقرة ـ 185] . وعدَّوا معنى التكبير بحرف الاستعلاء ليكون مضمَّناً معنى الحمد، كأنه قيل: "لتكبِّروا الله حامدين على هداكم". وهكذا شُرع التضمين لغرض تعبيري وفائدة معنوية. قال أبو البقاء الكفوي في الكليات: "وفائدة التضمين هي أن تؤدي كلمته مؤدى كلمتين، فالكلمتان مقصودتان قصداً وتبعاً". وقد بحث المجمع القاهري (التضمين) فأوصى ألاَّ يلجأ إليه إلا لغرض بلاغي. فكل فعل عدَي غير تعديته ولم يستوف هذه الفائدة أو يصب هذا الغرض، امتنع حمله على التضمين، وكان التصرف فيه والعدول عن حاله الأولى تحكّماً لا وجه له. *** ويكثر في كلام الكتَّاب قولهم (تفانى فلان في خدمة العدالة) ، فهل هذا صحيح؟ أقول: تفانى من أفعال المشاركة، فهو لا يأتي إلا من اثنين فأكثر، فإسناد الفعل فيه إلا واحد خطأ. وقد جاء في الصحاح: "وتفانوا أفنى بعضهم بعضاً". وفي اللسان نحو ذلك، ولذا امتنع قولك (تفانى فلان) . وقد ذهب الأستاذ محمد خليفة التونسي إلى جواز ذلك في كتابه (لغتنا السمحة) ، فقال: "ويمكن أن يأتي تفانى من واحد"، واستشهد بقول زهير بن أبي سلمى: تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم تداركتما عبساً وذُبيان بعدما وقول المتنبي: نتعادى فيه وأن نتفانى ومراد النفوس أصغر من أن أقول وقد جاء التونسي بهذين البيتين حجة له، وهما حجة عليه، فقد أسند (تفانوا) في البيت الأول إلى جماعة، وأسند (نتفانى) في البيت الثاني إلى جماعة أيضاً كنتعادى، وهذا من أفعال المشاركة أيضاً، فتفانوا: أفنى بعضهم بعضاً. ونتفانى: يفنى بعضنا بعضاً. فالفعل إذاً من أفعال المشاركة. وإن لك أن تقول فني فلان أو ضني أو أجهد نفسه أو استنفد طاقته في كذا، بدل أن تقول تفانى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 وثمة (تساءل) ، فهو في الأصل من أفعال المشاركة، إذا جاء في الصحاح: "وتساءلوا سأل بعضهم بعضاً"، وفي الأساس: "وساءلته عنه مساءلة وتساءلوا عنه"، فدل النص على أن تساءل من أفعال المشاركة. ولكن ألا يأتي (تساءل) لغير المشاركة فيصح إسناده إلى واحد؟.. أقول جاء في الكشاف للزمخشري في تفسير قوله تعالى: ?عمَّ يتساءلون عن النبأ العظيم? [النبأ ـ 1] .: "يتساءلون يسأل بعضهم بعضاً، أو يتساءلون غيرهم عن رسول الله (?) والمؤمنين نحو يتداعونهم ويتراءونهم". فقوله: يتساءلون يسأل بعضهم بعضاً، يعني أن الفعل للمشاركة، لكن قوله يتساءلون غيره عن رسول الله يعني أن الفعل لغير المشاركة. وذكر ذلك الإمام البيضاوي في تفسيره (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) ، فقال: "كقولهم يتداعونهم ويتراءونهم، أي يدعونهم ويرونهم". وبذلك صح أن يكون (يتساءلونه عنه) بمنزلة (يسألونه عنه) . فإذا استقام هذا استقام قول الكتاب (تساءل الرجل عن كذا) ، إذا سأل عنه، بحذف المسؤول، وهو المفعول هنا، وهكذا يكون (تساءل) للمشاركة وسواها. ونحو ذلك (تعارف) فهو من أفعال المشاركة، على ماهو المشهور. قال تعالى: ?يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا?، [الحجرات ـ 13] . قال: البيضاوي: "لتعارفوا: ليعرف بعضكم بعضاً"، فتأكد بذلك أن الفعل لازم وأنه من أفعال المشاركة. ولكن جاء في كلام الفصحاء (تعارفوا الشيء) إذا عرفوه. ففي الصحاح (مادة وقى) : "وأما اليوم فما يتعارفه الناس ويقدر عليه الأطباء فالأوقية عندهم عشرة دراهم". فقد عدَّى الفعل فقال ليتعارفه الناس) . وجاء في مفردات الراغب الأصبهاني (ضاف) : وصارت الضيافة متعارفة في القرى". فقولهم (متعارفة) كقولهم (متداولة) ، فثبت بهذا أن (تعارف) لازم إذا كان من أفعال المشاركة، ومتعد إذا كان من سواها. كما ثبت أنه لا حجة لقول الكتاب (هذه عادات متعارف عليها) . فالصواب (متعارفة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 وثمة (تساهل) أهو من أفعال المشاركة أم من سواها؟.. أقول جاء في الصحاح "التساهل التسامح"، فكان النص موجزاً، ولكن جاء فيه كذلك (مادة سمح) : "والمسامحة المساهلة وتسامحوا تساهلوا"، كما جاء في (يسر) : وياسره أي ساهله"، والذي يعنيه هذا أنك تقول ساهل بعضهم بعضاً فتساهلوا فيما بينهم، وسامح بعضهم بعضاً فتسامحوا فيما بينهم، فالفعلان على هذا من أفعال المشاركة. وقد عاب الدكتور مصطفى جواد عضو المجمع العراقي، رحمه الله، في كتابه (المباحث اللغوية بالعراق ـ ص 46 ـ 48) . عاب قول الكتاب (تساهل معه) ، لأن الفعل ليس من أفعال المشاركة. وذكر أنه لابد في إعمال (تساهل) أن تعمد إلى حرف (على) فتقول (تساهل فلان على فلان) ، كما تقول (سهل عليه الأمر) . وقد استشهد بقول ثعلب في تفسير قوله تعالى: ?فأوْفَ لنا الكيل وتصدَّقْ علينا? [يوسف ـ 88] . قال ثعلب: "وتصدق علينا معناه تساهل علينا" يعني تفضل علينا بمسامحتك وتجاوزك عن رداءة البضاعة. كما استشهد جواد بقول الجوهري في معجمه (الصحاح) : "وغمَّضت عن فلان إذا تساهلت عليه في بيع أو شراء". وبقول الشاعر: فأي نحوٍ بهذا العقل يُحتقب هب العروض تساهلنا عليك به والاحتقاب: الادخار، فما الرأي في هذا كله؟ ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 أقول إذا ثبت أن (تساهل) من غير أفعال المشاركة، كما مرَّ فيما استشهد به جواد، فلا يمنع ذلك أن يأتي من أفعال المشاركة، فقد جاء في الأساس: "تساهل الأمر عليه ضد تعاسر عليه". ومعنى ذلك أن تساهل الأمر عليه كسهل الأمر عليه، بضم الهاء، أو تسهل عليه بتشديد الهاء. وأن تعاسر الأمر عليه كعسر بضم السين وتعسر بتشديدها. فيكون (تساهل وتعاسر) ، ها هنا من غير أفعال المشاركة. وجاء قول الأئمة (تساهل فلان على فلان) ، إذا استعمل معه السهولة، كما جاء قولهم (تعاسر فلان على فلان) ، إذا استعمل معه الصعوبة، فيكون هذا من قبيل المجاز، كما كان الإغماض عن كذا أو التغميض عنه بمعنى الإغضاء والتسامح والتجاوز من قبيل المجاز أيضاً. ولم يمنع هذا أن يكون (تساهل) من أفعال المشاركة في موضع آخر، ولو كان من أفعال غير المشاركة دوماً، لما صح أن تقول ساهل بعضهم بعضاً فتساهلوا فيما بينهم. ومن الطريف أن نشير إلى أن (التعاسر) كالتساهل من أفعال المشاركة ومن سواها. فأنت تقول عاسر بعضهم بعضاً فتعاسروا، كما تقول ياسر بعضهم بعضاً فتياسروا، فالتعاسر ضد التياسر، والمعاسرة خلاف المياسرة. قال تعالى: ?ائتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى?. [الطلاق ـ 6] . فقد جاء في تفسير الجلالين: "إن تضايقتم في الإرضاع فامتنع الأب من الأجرة والأم من فعله، فسترضع له أخرى"، فجعل التعاسر من جهتي الاب والأم معاً، من الأب بامتناعه من الأجرة، ومن الأم في الحين نفسه بإمساكها عن الإرضاع، فدل بذلك أن التعاسر من أفعال المشاركة. بقي الكلام على ما يتساءل عنه الكتاب، وهو إمكان استعمال أداة المصاحبة (مع) في أفعال المشاركة بإحلالها محل العاطف، كقولك تبارى فلان مع فلان، بدلاً من قولك تبارى فلان وفلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 والأصل في (أداة المصاحبة) ، هذه أن تفيد في غير أفعال المشاركة، مالايفيده العاطف، فقولك (جاء زيد وخالد) يعني اشتراكهما في الحدث وحسب، أما قولك (جاء زيد مع خالد) ، فإنه يعني اشتراكهما في الحدث مع المصاحبة، أي جريان الحدث منهما في وقت واحد. وِأنت لا تقول: لا يؤكل الليمون والخل، أو السمك واللبن، أو الزنجبيل والفلفل، على سبيل المثال، لكنك تقول لا يؤكل الليمون مع الخل، أو السمك مع اللبن، أو الزنجبيل مع الفلفل، بإحلال (مع) محل العاطف، إذا أردت ألاَّ يجتمعا في الأكل. ويختلف الحال في أفعال المشاركة، فأنت تقول (تبارى فلان وفلان) ، فتسند الفعل إلى فاعل ثم تستوفي الآخر بالعطف عليه. ومن خصوص العطف بالواو إشراكهما في الحدث، ولا محل لقولك (تبارى فلان مع فلان) ، لأن المصاحبة التي تفيد/مع) ، قد أفادها اشتراكهما في الحدث. هذا هو الأصل، ولكن جاء على (افتعل) ، من أفعال المشاركة ما أحلَّوا فيه أداة المصاحبة محل الواو كاجتمع واتفق واتحد، فأنت تقول على الأصل اجتمع فلان وفلان، ولكن جاء في الصحاح ـ (اجتمع معه) . كما تقول اتفق فلان وفلان، ولكن جاء في اللسان (اتفق معه) . وتقول اتحد فلان وفلان، على الأصل، ولكن جاء في الكليات لأبي البقاء الكفوي (1/35) : "فقال بعضهم باتحاد النفس مع البدن.."، وهكذا قالوا: (انتظم معه) ، فقد جاء في لطائف اللطف للنيسابوري: "وقد انتظمت يا سيدي مع رفقة من سمط الثريا ... "، والأصل أن تقول انتظم فلان وفلان في رفقة. فلان. وقالوا التقوا معه، فقد جاء في النهاية لابن الأثير:"دخل أبو قارظ مكة فقالت قريش حليفنا وعضدنا وملتقى أكفِّنا وأيدينا، تلتقي مع يدهِ وتجتمع"، والأصل أن تقول أي أيدينا تلتقي هي ويده وتجتمع. كما جاء في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي (التقوا معي/324) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 وجاء من تفاعل للمشاركة (تلاقى معه) ، ففي كلام الجاحظ من كتاب الحجاب (يتلاقى مع المعارف والإخوان والجلساء ... ) ، كما جاء (تلاحق معه) . ففي كلام المرزوقي في شرح ديوان الحماسة: "طلباً للتلاحق معها/ 1089". والتلاحق التتابع. فما رأي الأئمة في هذا كله، وما الذي يعنيه هنا إحلال (مع) محل العاطف؟ ... أقول ذهب بعض النقاد إلى امتناع قول القائل (تفاعل معه) ، أو (افتعل معه) ماداما من أفعال المشاركة مالم تنص المعاجم على استعمال الفعل كذلك فيؤخذ به ولا يقاس عليه. وقد أضاف بعضهم العمل بما جاء في كلام الفصحاء واعتبار ما يكتبونه بمنزلة ما يروونه والوقوف عند هذا وذاك وعدم تجاوزه. على أن من الأئمة من جعل ذلك قياساً كما جاء في كتاب (بحر العوَّام) ، لابن الحنبلي الحلبي: "وصوَّب الحريري أن يقال اجتمع فلان وفلان دون أن يقال اجتمع فلان مع فلان ... وقد تعقبه ابن بري فقال: لا يمتنع في قياس العربية أن يقال اجتمع زيد مع عمرو واختصم جعفر مع بكر، بدليل جواز اختصم زيد وعمراً واستوى الماء والخشبة، بالنصب، وواو المفعول معه بمعنى مع، مقدرة بها". وجاء نحو ذلك في شرح درة الغواص لابن سنان الخفاجي، وقد ختم ذلك بقوله: "وإذا جاء في هذه الأفعال ـ أفعال المشاركة، دخول واو المفعول معه، جاز دخول مع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 وهكذا أجاز ابن بري أن يكون (استوى) في المثل (استوى الماء والخشبة) من أفعال المشاركة، وقد صح أن يؤتى بعده بـ (مع) لأنها بمنزلة واو المصاحبة، وهكذا صح أن يؤتى بـ (مع) بعد أفعال المشاركة عامة، كما صح أن يؤتى بواو المفعول معه، وجاز بذلك قولك اختصم فلان مع فلان وتخاصم زيد مع عمرو وتشاجر خالد مع زيد، وعلى هذا ماجاء في خزانة الأدب للبغدادي (1/122) ، إذ قال: "روى المرزباني ... أن الوليد بن عبد الملك تشاجر مع أخيه مسلمة في شعر امرئ القيس والنابغة .... "، وما جاء في المستطرف في كل شيء مستظرف للأبشيهي: "وتخاصم بدوي مع حاج عند منصرف الناس.."، ولكن ما الذي حمل الكتَّاب في عصرنا أن يؤثروا استعمال (مع) في هذا الموضع على (الواو) العاطفة؟ فهل ثمة حاجة استدرجتهم إليه في التعبير فجرت به أقلامهم؟ ... أقول إذا قلت (ضارب زيد خالداً) ، فقد جرت المضاربة بينهما وكان كل منهما ضارباً ومضروباً، ولكن فُهم إلى ذلك شيء آخر وهو أن زيداً هو المعني بالضرب فهو البادئ به. أما إذا قلت (تضارب زيد وخالد) ، فقد فهم منه ما فهم في المثال الأول من حدوث المضاربة ولكن لم يعلم من هو المعني البادئ بالخصومة. فإذا قلت (تضارب زيد مع خالد) ، فهم أن زيداً هو المعني. وقد يضطر العلماء أن يخصوا أحد المتشاركين في الحدث فيشيروا إلى أنه هو المعني المقصود. فإذا قالوا: (اتحد الكبريت ومادة كذا) ، لم يفهم من كلامهم أن المعني بالموضوع هو الكبريت دون المواد الأخرى، فإذا قالوا (اتحد الكبريت مع كذا) ، فهم أن مدار البحث هو الكبريت، وهكذا شاع على ألسنة الأئمة قولهم اشترك فلان بدلاً من اشترك فلان وفلان قصد الإشارة في كلامهم إلى أن المعني هو الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 وقد آثروا استعمال (مع) ، في اعمال مصادر أفعال المشاركة في كثير من المواضع كقول ابن سنان الخفاجي في كتابه (سر الفصاحة/222) : "فهذا منتهى ما تقول في الألفاظ بانفرادها واشتراكها مع المعاني ... ", وقول ابن جني في الخصائص (1/ 453) : "أما تزاحم الرباعي مع الخماسي فقليل، وسبب ذلك كله قلة الأصلين معاً"، كما آثروا استعمال (مع) ، في أعمال أسماء الفاعلين كقول أبي اسحق الحصري القيرواني في كتابه (زهر الآداب) : لما كانت فضائل الناس، من حيث هم ناس، لا في طريق ماهم مشتركون فيه مع سائر الحيوان ... إنما هي العقل والعفة والعدل والشجاعة، كان القاصد للمدح بهذه الأربعة مصيباً، وما سواها مخطئاً ... "، وقد أقر مؤتمر مجامع اللغة العربية بالقاهرة في دورته السابعة والثلاثين، عام 1971م، إسناد افتعل وتفاعل إذا دلاَّ على المشاركة، إلى معموليهما باستعمال مع أو الباء في ـ افتعل ـ واستعمال مع في ـ تفاعل ـ كاجتمع معه وبه، وتحارب معه. *** هذا ما رأيت التنبيه عليه فيما يعترض الكتاب من اللبس والإشكال في المسائل الصرفية المذكورة وما تفرَّع عليها، وأرجو أن أكون قد وفِّقت إلى جلاء الغامض فيما عَرَضت له والإفصاح عن مضمونه، وأدركت القصد في الدلالة على المنهاج والطريقة، ولم أخطئ السبيل إلى ذلك، ومن الله العون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697