الكتاب: مصادر الشعر الجاهلي المؤلف: ناصر الدين الأسد الناشر: دار المعارف بمصر الطبعة: الطبعة السابعة 1988   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مصادر الشعر الجاهلي ناصر الدين الأسد الكتاب: مصادر الشعر الجاهلي المؤلف: ناصر الدين الأسد الناشر: دار المعارف بمصر الطبعة: الطبعة السابعة 1988   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة : صلتي بالشعر الجاهلي قديمة، ترجع إلى أكثر من عشرين سنة، أيام كنا نحفظ المعلقات. فاستهوتني كما لم يستهوني سائر الشعر الذي كنا نحفظه. ثم تدرجت في مراحل الدراسة، وزاد محفوظي من الشعر العربي على اختلاف عصوره، ولكن استهواء الشعر الجاهلي كان يزداد حتى ليطغى على غيره. وكان شعورًا ساذجًا غير معلل، وما كنت مستطيعًا تعليله ولو أردت. ثم قرأت -قبيل دخولي الجامعة- كتاب الأستاذ الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي، ففتح أمامي آفاقًا فسيحة من التفكير، ودفعني إلى أن أنظر في هذا الشعر نظر المتسائل عن قيمته وصحته، وحملني على أن أستقصى الموضوع من جذوره، وأتتبعه من جميع أطرافه. وصرت -كلما قطعت شوطًا في دراستي الجامعية- أستبين جوانب جديدة من قيمة العصر الجاهلي وشعره، وخطرهما في دراسة الأدب العربي في عصوره الإسلامية. فالعصر الجاهلي -في حساب الزمن- أول عصور التاريخ العربي، ونحن لا نستطيع أن نعرف قومنا في مراحل تطورهم، ومواطن انتشارهم، إذا لم نعرفهم في موطنهم الأصيل وفي عصرهم الأول. ثم إن الشعر الجاهلي هو الأصل الذي انبثق منه الشعر العربي في سائر عصوره، وهو الذي أرسى عمود الشعر، وثبت نظام القصيدة، وصاغ المعجم الشعري العربي عامة؛ ولست أفهم كيف نستطيع أن نحكم على ما في شعر العصور الإسلامية من تطور وتجديد إذا لم نصل من أمر الشعر الجاهلي إلى مفصل نطمئن عنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 ثم إن في هذا الشعر الجاهلي وفرة من القيم الفنية الأصيلة لم يحظ بها كثير من الشعر العربي بعده: ففيه من خصب الشعور، ودقة الحس، وصدق الفن، وصفاء التعبير، وأصالة الطبع، وقوة الحياة، ما يجعله أصفى تعبير عن نفس العربي، وأصدق مصدر لدراسة حياته وحياة قومه من حوله. من أجل ذلك كله عزمت، حين أنهيت دراستي الجامعية الأولى، على مواصلة بحث الشعر الجاهلي ودراسته. فقضيت أربع سنوات أبحث فيها بعض هذا الشعر، وبعض ما كتبه القدماء والمحدثون عنه وعن العصر الجاهلي عامة، وخرجت من هذه الدراسة برسالتي الأولى لدرجة "الماجستير" عن "القيان وأثرهن في الشعر العربي في العصر الجاهلي". ومع ما بذلت من جهد، وأنفقت من وقت، وحققه البحث من نتائج، فقد كنت أحس أنني أسير في طريق لا أكاد أستبين فيها مواطئ قدمي، وأن عليَّ أن أعود أدراجي، ثم أبدأ بداية جديدة لا أخطو فيها خطوة إلا بعد تثبت وتيقن. وعدت، وبدأت الطريق من أوله، وقضيت أربع سنوات أخرى، خرجت منها بهذا البحث لدرجة "الدكتوراه"، وأنا مقتنع بأن هذا الموضوع الذي أبحثه هو الخطوة الأولى الصحيحة التي تسبق كل خطوة غيرها -في سبيل دراسة الشعر؛ وأن بحث هذا الشعر بحثًا مجديًا لا يتم إلا عن طريق دراسة خارجية أولًا، تعنَى بمصادره جملة في مجموعها، وتبحث رواية هذه المصادر وتسلسلها، ورواتها ومدى الثقة بهم، ثم تتتبع المصادر الأولى التي استقى منها أولئك الرواة، خطوة خطوة، حتى تصل بين هؤلاء الرواة والشاعر الجاهلي نفسه. وكل دراسة قبل هذه إنما هي تجاوز عن الأصل الأول الذي لا بد من البدء به، وأحسب أن كثيرًا من الخطإ الذي وقع فيه من ضعفوا وسيلة حفظ هذا التراث الخالد، ووهنوا طريقة نقله وروايته، إنما أتوا من هذا التجاوز والإغفال لنقطة البدء الصحيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 وقد بذلت أقصى الجهد في أن أنهج نهجًا علميًّا خالصًا: لا أميل مع هوى، ولا أتعصب لرأي، ولا أعتسف الطريق من أمامي اعتسافًا. بل لعل من الصواب أن أذكر أني، حين دخلت في الموضوع، لم يكن يحفزني إلا الموضوع نفسه؛ ولم يكن نصب عيني غاية بذاتها أتوخاها وأرمي إلى إقامة الدليل عليها، غير الغاية المجردة التي سينتهي إليها البحث الموضوعي وحده؛ فقد كان قلبي مع هذا الشعر حين كنت أقرؤه، وكان عقلي عليه حين كنت أقرأ عنه، فأردت أن أصل إلى يقين يجتمع عنده اقتناع العقل واطمئنان القلب معًا. ولم يكن أمامي سبيل لذلك إلا أن آخذ نفسي بتحري المنهج العلمي الدقيق، والتزام حدوده التزامًا لا ترخص فيه: فشرعت أقرأ، والغموض يحيط بي، والحيرة تأخذني من كل جانب. وقضيت نحو ثلاثة سنوات لا أكتب في الموضوع شيئًا غير ما كنت أدونه في جزازات متفرقة من نصوص وأخبار وروايات، تتصل بالموضوع في صميمه، أو تدور عليه من حوله. وكنت كلما قطعت شوطًا اتضح لي جانب، فأضطر أحيانًا إلى أن أقرأ مرة أخرى بعض ما كنت قرأت، لأسجل منه -على ضوء فهمي الجديد- بعض ما كنت أغفلت. ولم أبدأ الكتابة إلا بعد أن جمعت من النصوص ما أتاح لي تمثل الموضوع تمثلًا كاملًا أو مقاربًا. ثم عدت إلى النصوص: أستكمل جمعها وتقييدها، وأرتبها في مجموعات، ينتظم كل مجموعة منها موضوع واحد، وتلتقي الموضوعات في فصول، والفصول في أبواب. ثم مضيت أفحص هذه النصوص، وأدرسها دراسة دقيقة: تقوم على استقراء النص واستنطاقه، واستشفاف دلالاته، في حدود ألفاظه ومراميه، من غير تحميل له فوق ما يحتمل، ولا توجيهه وجهة بعينها لا تتضمنها ألفاظه. ولم أكن أكتفي بوجه واحد من الأمر حين يكون له وجهان أو وجوه، وإنما كنت أعرض كل وجه، وأقلبه على جوانبه، وأستوفي أدلته وشواهده، ثم أقابل بين هذه الوجوه المختلفة وأناقشها، وأنتهي إلى ترجيح واحد منها حين يتيسر الترجيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وإذا كانت نتائج البحث الأدبي والتاريخي عامة تعتمد -في أغلبها- على الروايات والأخبار والنصوص، فإن من الطبيعي أن تجيء نتائج ظنية ترجيحية؛ لا سبيل إلى الوصول إليها إلا بجمع هذه الروايات والأخبار والنصوص، واستقصائها، ودراستها دراسة قوامها: مقابلة بعضها ببعض، ومناقشتها، ونقد إسنادها ومتنها، بحيث ينتهي كل ذلك إلى تغليب نص على آخر، أو ترجيح رواية على غيرها، أو تفضيل خبر على سائر الأخبار. ولا سبيل في مثل هذه الأبحاث إلى اليقين القاطع، والقول الفصل، اللذين لا يتوافران إلا في العلم التجريبي وحده، حين يستطيع المرء، في معمله أو مختبره، أن يعيد التجربة عمليًّا ليقيم البرهان على صحة ما يذهب إليه. ومن أجل ذلك تجنبت أن ألقي الأحكام إلقاءً عامًّا قاطعًا، وإنما سقتها في صيغ ترجيحية غالبة. ومع هذا كله، ففي البحث حماسة أحيانًا، وإلحاح على مسائل بعينها أحيانًا أخرى؛ ولكن ذلك كله إنما هو نتيجة طبيعية لاحقة، وليس مقدمة مفتعلة سابقة. فإن من الطبيعي، في المنهج العلمي نفسه، أن يندفع الباحث -في غير مغالاة ولا إسراف- في حماسته لبحثه وآرائه، بعد أن يكون قد وصل -عن طريق هذا المنهج العلمي- إلى أدلة يقتنع بصوابها، وحجج يطمئن إلى سلامتها، فيؤكدها كلما سنحت له فرصة للتأكيد، ويلح عليها كما أمكنه الإلحاح. وأحسب أن الفرق واضح بين الحماسة البصيرة للرأي حين يصل إليه المرء بعد بحث وتحر وتحقيق، وبين التعصب الأهوج للفكرة التي يدخل المرء بها في بحثه ابتداءً. فالحماسة الأولى من أمارات الحياة السليمة في البحث والباحث، والتعصب الثاني من علامات عجز الفكر وضيق الأفق. ومن هنا أرجو ألا أبعد عن الحق حين أقول: إن كل رأي في هذا الكتاب قد قامت من بين يديه وفرة من النصوص قادت إليه وانتهت به؛ وأن النص هو الذي وجه البحث إلى ما فيه من آراء، وليست الآراء هي التي وجهت البحث إلى النصوص: يجتلبها، ويقتنصها، ويستكثر منها، ويقسرها قسرًا لما يريد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 والباحث في العصر الجاهلي يلقي عناء كبيرًا من مصادر بحثه، وذلك لأن الحديث عن الجاهلية -في المصادر العربية- لم يكن يُقصد لذاته: فتسبر أغواره ويلم شتاته؛ وإنما كان يقصد لغيره من موضوعات العصور الإسلامية التي كان المؤلفون يكتبون فيها، فيستطردون للحديث عن الجاهلية: للتمثيل والاستشهاد، أو للمقابلة والموازنة، أو للوعظ والإنذار، أو للتمهيد بين يدي حديثهم الأصيل تمهيدًا موجزًا يدخلون منه إلى الحديث عما يقصدون. فيكاد يكون حديثهم عن الجاهلية حديثًا عابرًا، منثورًا نثرًا متباعدًا في تضاعيف كتبهم وثنايا رسائلهم. ومن هنا كان لا بد للباحث في العصر الجاهلي من أن يقرأ الكتاب العربي قراءة متمعنة دقيقة، يجرده فيها جردًا كاملًا من عنوانه حتى ختامه، لا يغنيه عن ذلك تبويب الكتاب، ولا هذه الفهارس الدقيقة الشاملة التي يصنعها المحدثون للطبعات الحديثة من تلك الكتب القديمة. وقد يقرأ الدارس الكتاب ثم لا يخرج منه بشيء، أو يخرج بخبر أو خبرين لعله كان قد استخرجهما من كتاب غيره، فلا يضيفان إليه جديدًا. ولا يقف بحثنا عند حدود الجاهلية، وإنما يتجاوزها حتى يشمل القرون الثلاثة الأولى للهجرة، وذلك لأننا ندرس الشعر الجاهلي في الجاهلية نفسها، ثم نتتبعه خلال هذه القرون حتى نصل به إلى مرحلة التدوين العلمي عند رجال الطبقة الأولى من الرواة العلماء، ثم تلاميذهم من رجال الطبقة الثانية والثالثة. ومن أجل ذلك اقتضى هذا البحث دراسة تلك القرون، والرجوع إلى مصادرها، بالإضافة إلى دراسة الجاهلية نفسها. وقد ألحقنا بآخر هذا البحث جريدة مفصلة فيها أسماء المؤلفين مرتبةً على حروف المعجم، وسنوات وفياتهم، وأسماء كتبهم وطبعاتها التي رجعنا إليها. أما أساتذتي الدكتور شوقي ضيف المشرف على هذا البحث، والدكتور إبراهيم سلامة، والأستاذ مصطفى السقا، والدكتور عبد اللطيف حمزة، والأستاذ السباعي بيومي، أعضاء لجنة المناقشة - فلهم الشكر صادقًا كفاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ما أنفقوا من وقت في قراءة هذا البحث، ومن جهد في مناقشة صاحبه، وكفاء ما حبوني به من رعاية وتشجيع، وأسبغوه على البحث من ثناء وتقدير. أما أخي الصديق الأستاذ محمود محمد شاكر فإن فضله لا يقتصر على هذا البحث وحده، فلطالما اغترفت من علمه، وأفدت من مكتبته، وانتفعت بنصحه وتوجيهه؛ وما أكثر ما كان ينفق من وقت يناقش معي فيه بعض وجوه الرأي ويبصرني بما لم أكن لأصل إليه لولا غزير علمه وسديد نصحه. ولقد كان له أكبر الفضل -بإخائه وعونه الكريم- في حثِّي على مواصلة العمل، وفي إخراج هذا البحث في كتاب يتداوله القراء. وبعد: فإن هذا البحث -كما ذكرت- هو الخطوة الأولى في سبيل دراسة هذا الموضوع، وأرجو أن تتلوها خطوات، تكمل ما فيه من نقص، وتقوم ما قد يكون فيه من عوج، وحسب هذا البحث أنه شق الطريق، وألقى فيها من المعالم ما يهدي السالكين، وحسبي منه أني أخلصت النية، وبذلت أقصى الجهد. ومن الله الهداية وبه التوفيق. ناصر الدين الأسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 فهرست الموضوعات: مقدمة: فهرست الموضوعات: تمهيد: مجتمعات العرب في الجاهلية وتفاوتها في الحضارة عوامل الوحدة والتنوع في الوطن العربي - القبيلة العربية - الأعراب - الطبقات الاجتماعية في الجاهلية - الحضارة العربية الجاهلية: معناها، عوامل إنشائها، آثارها، سبل اتصال العرب بغيرهم من الأمم .... 1-19 الباب الأول الكتابة في العصر الجاهلي الفصل الأول: انتشار الكتابة بين العرب في العصر الجاهلي نشأة الخط العربي وتطوره - النقط والشكل والإعجام - تعليم الكتابة في الجاهلية وشيوعها - تجهيل الجاهلية - معنى الأميين - معرفة الجاهليين بضروب من العلم - المدارس والمعلمون في الجاهلية - كتاب رسول الله - الكامل في الجاهلية - تعلم اللغات الأخرى - نساء كاتبات في الجاهلية - آيات وأحاديث عن الكتابة ..... 23-58 الفصل الثاني: موضوعات الكتابة وأدواتها موضوعات الكتابة في الجاهلية: معنى شيوع الكتابة بين عرب الجاهلية - كتابة الكتب الدينية - العهود والمواثيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 والأحلاف - صكوك الدين - الرسائل - مكاتبة الرقيق - موضوعات أخرى فرعية - أدوات الكتابة في الجاهلية: الجلد، المهارق، أنواع النبات، العظام، الحجارة، الورق - أسماء المواد التي يكتب عليها - المواد التي يكتب بها: القلم، الدواة والمداد - وصف الخط في الجاهلية 59-103 الباب الثاني كتابة الشعر الجاهلي وتدوينه الفصل الأول: تقييد الشعر الجاهلي التقييد والتدوين - أدلة عقلية استنباطية على تقييد الشعر الجاهلي: قيمة الشعر للقبيلة وللممدوحين، قيمته للشاعر نفسه، بعض الشعراء الكتاب، الشعر الحولي المحكك، ذكر الكتابة وصورها وأدواتها في الشعر الجاهلي - أدلة صريحة مباشرة: نصوص وأخبار ... 107-133 الفصل الثاني: تدوين الشعر الجاهلي نشأة التدوين العام عند العرب وأوائل المؤلفات - كثرة الصحف وشيوعها - الصورة اللغوية للتدوين في صدر الإسلام - تدوين الحديث والفقه - تدوين التفسير - تدوين المغازي والسيرة - تدوين الشعر الجاهلي ضمن هذه الموضوعات - إفراد الشعر الجاهلي بالتدوين: أبو عمرو بن العلاء، حماد الراوية؛ نصوص على تدوين الشعر الجاهلي، معنى كتاب القبيلة، كتب الحكم والأمثال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 المعلقات: مناقشة عامة - اعتماد الطبقة الأولى من الرواة العلماء على مدونات الشعر الجاهلي وأخذهم منها: نصوص، التصحيف معناه ودلالته - سبب إغفال هؤلاء العلماء ذكر الصحف المدونة التي أخذوا منها - معنى الرواية - معنى السماع ...... 134-184 الباب الثالث الرواية والسماع الفصل الأولى: اتصال الرواية من الجاهلية حتى القرن الثاني معنى الرواية والراوية وتطورهما اللغوي - عمل الرواة، تدوينهم الشعر - تعقيب ابن سلام على قول لعمر بن الخطاب: مناقشة عامة - رواية الشعر الجاهلي زمن بني أمية - روايته زمن رسول الله والخلفاء الراشدين - روايته في العصر الجاهلي نفسه - النسابون ورواية الشعر الجاهلي. 188-221 الفصل الثاني: طبقات الرواة الشعراء الرواة - رواة القبيلة - رواة الشاعر - رواة مصلحون للشعر - رواة وضاعون - رواة علماء: الفرق بين الراوية والراوية العالم ..... 222-254 الفصل الثالث: الإسناد في الرواية الأدبية الإسناد بين الحديث والأدب - أخبار ذات إسناد متصل أو منقطع إلى الجاهلية - المعمرون وإسناد الرواية - إغفال الأسانيد - معنى الإسناد في الرواية الأدبية.. 255-283 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 المعلقات: مناقشة عامة - اعتماد الطبقة الأولى من الرواة العلماء على مدونات الشعر الجاهلي وأخذهم منها: نصوص، التصحيف معناه ودلالته - سبب إغفال هؤلاء العلماء ذكر الصحف المدونة التي أخذوا منها - معنى الرواية - معنى السماع ...... 134-184 الباب الثالث الرواية والسماع الفصل الأولى: اتصال الرواية من الجاهلية حتى القرن الثاني معنى الرواية والراوية وتطورهما اللغوي - عمل الرواة، تدوينهم الشعر - تعقيب ابن سلام على قول لعمر بن الخطاب: مناقشة عامة - رواية الشعر الجاهلي زمن بني أمية - روايته زمن رسول الله والخلفاء الراشدين - روايته في العصر الجاهلي نفسه - النسابون ورواية الشعر الجاهلي. 188-221 الفصل الثاني: طبقات الرواة الشعراء الرواة - رواة القبيلة - رواة الشاعر - رواة مصلحون للشعر - رواة وضاعون - رواة علماء: الفرق بين الراوية والراوية العالم ..... 222-254 الفصل الثالث: الإسناد في الرواية الأدبية الإسناد بين الحديث والأدب - أخبار ذات إسناد متصل أو منقطع إلى الجاهلية - المعمرون وإسناد الرواية - إغفال الأسانيد - معنى الإسناد في الرواية الأدبية.. 255-283 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الباب الرابع الشك في الشعر الجاهلي "الوضع والنحل" الفصل الأول: المشكلة الهومرية دراسة مقارنة: المشكلة الهومرية - وجوه الشبه بين الشعر الجاهلي والشعر الهومري - ناظم الإلياذة والأوديسة - وسيلة حفظ الشعر الهومري - المدارس التي عنيت بهومر. 287-320 الفصل الثاني: وضع الشعر الجاهلي ونحله - عند الأقدمين الوضع والنحل والانتحال ظواهر أدبية عامة - في النسب - في الحديث - في الشعر الجاهلي منذ الجاهلية وصدر الإسلام - تنبه العلماء القدامى للوضع والنحل: نصوص وأخبار - ابن هشام في السيرة - ابن سلام في طبقات فحول الشعراء ...... 321-351 الفصل الثالث: النحل والوضع في الشعر الجاهلي - آراء المستشرقين مرجوليوث: عرض مفصل لآرائه واستدلالاته - شارلس جيمس ليال وردوده على مرجوليوث - جورجيو ليفى دلافيدا ورأيه في الموضوع .... 352-376 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الفصل الرابع: النحل والوضع في الشعر الجاهلي - آراء العرب المحدثين مصطفى صادق الرافعي - الدكتور طه حسين: عرض مفصل لآرائه واستدلالاته - الذين ألفوا كتبًا في الرد على الدكتور طه حسين: عرض مفصل لهذه الردود. 377-428 الفصل الخامس: توثيق الرواة وتضعيفهم مدرستا البصرة والكوفة: في الحديث والفقه، في اللغة، في الشعر - منهجا المدرستين ومصادرهما، والخلاف بينهما - الروايات والأخبار التي توثق حمادًا الراوية وخلفًا الأحمر والتي تضعفهما: عرضها ومناقشتها - الأصمعي - ضروب الشعر الجاهلي من حيث الصحة والنحل - مقاييس العلماء القدامى للحكم على الشعر الجاهلي - معنى النحل.. 429-478 الباب الخامس دواوين الشعر الجاهلي الفصل الأول: الدواوين المفردة بحث عام - ديوان امرئ القيس: أصول رواياته وأنواعها، نسخه المختلفة، قيمة هذه الروايات والنسخ - مقياس حديث لمعرفة الشعر الصحيح من غيره - قصائد امرئ القيس ومقطعاته من رواية الأصمعي ومقارنتها بالروايات الأخرى - رواية المفضل - ديوان زهير بن أبي سلمى: أصول رواياته وأنواعها، نسخه المختلفة، قيمة هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الروايات والنسخ - قصائده ومقطعاته من رواية الأصمعي ومقارنتها بالروايات الأخرى .... 481-542 الفصل الثاني: دواوين القبائل بحث عام: دواوين القبائل التي ذكرتها المصادر العربية وصانعوها، وما بقي منها، معنى ديوان القبيلة، متى بدأ تدوين دواوين القبائل - ديوان هذيل: عدد من فيه من الشعراء وأبيات الشعر ومدى النقص فيه، أصول رواياته وأنواعها، طبعاته ونسخها، قيمة هذه الروايات والنسخ 543-572 الفصل الثالث: المختارات المفضليات: روايتها، تحقيق عدد قصائدها - الأصمعيات روايتها والإسناد فيها، تحقيق ما ذكره ابن النديم عنها - حماسة أبي تمام: مصادرها، روايتها - جمهورة أشعار العرب: نسبتها، التعريف بصاحبها، روايتها - قيمة كتب المختارات في تاريخ الرواية الأدبية ... 573-591 الفصل الرابع: الشعر الجاهلي في غير الدواوين كتب النحو: كتاب سيبويه - كتب اللغة: إصلاح المنطق وتهذيب الألفاظ - كتب السيرة والتاريخ: ابن هشام وسيرة ابن إسحاق - كتب الأدب العامة: البيان والتبيين، الحيوان - رواية الشعر الجاهلي وإسنادها في هذه الكتب - قيمة الشعر الجاهلي المتضمن فيها. 592-614 الخاتمة: خلاصة البحث 617 المصادر والمراجع 637 الفهارس العامة 653 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 تمهيد: مجتمعات العرب في الجاهلية وتفاوتها في الحضارة -1- موطن العرب، في جاهليتهم، يمتد في رقعة من الأرض واسعة1، ذات بقاع متباينة، تختلف بيئاتها الطبيعية اختلافًا يكاد يجعل منها مواطن متعددة وإن كانت، مع ذلك، وطنًا واحدًا متماسكًا. فما بين البحر الهندي في أقصى الجنوب إلى ما بعد دمشق في أقصى الشمال، وما بين بحر فارس ونهري دجلة والفرات في الشرق إلى البحر الأحمر بل إلى نهر النيل في الغرب2، كانت تسيح   1 "ليس في خريطة الأرض شبه جزيرة تضاهيها حجمًا، فهي أكبر من شبه جزيرة الهند، ومساحتها ثمانية أضعاف الجزر البريطانية، وأربعة أضعاف فرنسا ... " تاريخ العرب "مطول" لحتى وجرجي وجبور 1: 15. "وهي تعادل ربع أوربا أو ثلث الولايات المتحدة مساحة ... " المرجع السابق ص1. 2 تحديد البلاد التي سكنها العرب ليس بالأمر اليسير المتفق عليه، وإنما يحتاج إلى تحديد المراد بلفظ العرب أولًا وإلى تحديد الزمان الذي تدور فيه أحداث البحث ثانيًا: أ- كان الفراعنة والآشوريون والفينيقيون يقصدون بالعرب أهل البادية في البقعة الممتدة بين الفرات في الشرق والنيل في الغرب، ويدخلون فيها -عدا بادية العراق والشام وشبه جزيرة سيناء- صحراء مصر الشرقية ما بين وادي النيل والبحر الأحمر. وقد كانت بلاد العرب في عصر جيولوجي مبكر متصلة في جنوبها عند اليمن بإفريقية عدا اتصالها بها في شمالها، فكان البحر الأحمر آنذاك بحيرة داخلية، "انظر: 11 De lacy o'Leary, Arabia Before Mohammad, 1927, p". وكان بذلك نهر النيل هو الحد الغربي لبلاد العرب. ب- وكان اليونان القدماء يعدون جنوبي جزيرة العرب بين خليج فارس والبحر الأحمر من الحبشة، فيجعلون الحبشة واليمن وضفاف خليج فارس إقليمًا واحدًا يسمونه "إثيوبيا آسيا". ثم أطلق اليونان في عهد البطالسة على الجزيرة كلها اسم بلاد العرب، وقسموها ثلاثة أقسام: البادية = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 هذه الأمة العريقة: في الأغوار والأنجاد، وفي السهول وفوق قنن الجبال، وفي أجواف الصحاري وعلى سواحل البحار، وكان لا بد لهذه الرقعة المترامية الأطراف، المتباعدة الأقطار، من أن يختلف مناخها كما اختلفت طبيعة أرضها: ففيها شواظ من لهيب الحر يشوي الوجوه، وسموم تلوح الأبدان؛ وفيها ثلوج تكلل الجبال، وصقيع يجمد الدم في أطراف الأحياء ويقفع الجلود1؛ وفيها ما بين   = Arabia Deserta, والحجرية Arabia petra، والسعيدة. Arabia felix جـ- وأما جغرافيو العرب فهم يقصدون ببلاد العرب الجزيرة العربية كلها، ويدخلون فيها بادية سيناء وبلاد الشام جميعها وجزءًا من العراق؛ فيحددها الهمداني بقوله: "جنوبيها اليمن، وشماليها الشام، وغربيها شرم أيلة وما طردته من السواحل إلى القلزم وفسطاط مصر، وشرقيها عمان إلى البحرين وكاظمة والبصرة، وموسطها الحجاز وأرض نجد والعروض. وتسمى جزيرة العرب؛ لأن اللسان العربي في كلها شائع وإن تفاضل ... " "صفة جزيرة العرب ص1". ويفصل يقوت القول عند كلامه على تحديدها تفصيلًا نذكر مبتدأه ومنتهاه قال: "قد اختلف في تحديدها، وأحسن ما قيل فيها ما ذكره أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب مسندًا إلى ابن عباس، قال: اقتسمت العرب جزيرتها على خمسة أقسام؛ قال: وإنما سميت بلاد العرب جزيرة لإحاطة الأنهار والبحار بها من جميع أقطارها وأطرافها، فصاروا منها في مثل الجزيرة من جزائر البحر. وذلك أن الفرات أقبل من بلاد الروم فظهر بناحية قنسرين، ثم انحط على أطراف الجزيرة وسواد العراق حتى وقع في البحر في ناحية البصرة والأبلة ... ثم ساحل الطور وخليج أيلة وساحل راية حتى بلغ قلزم مصر وخالط بلادها، وأقبل النيل في غربي هذا العنق من أعلى بلاد السودان مستطيلًا معارضًا للبحر معه حتى دفع في بحر مصر والشام، ثم أقبل ذلك البحر من مصر حتى بلغ بلاد فلسطين فمر بعسقلان وسواحلها وأتى صور ساحل الأردن وعلى بيروت وذواتها من سواحل دمشق ثم نفذ إلى سواحل حمص وسواحل قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق" "معجم البلدان، جزيرة العرب". وبلاد العرب في هذا البحث هي الجزيرة العربية التي يحدها من الغرب البحر الأحمر، ومن الجنوب البحر العربي، ومن الشرق خليج فارس، وتمتد في الشمال حتى تشمل هذه البقاع التي قامت فيها دولات عربية كالمناذرة في الحيرة، والغساسنة في الشام ومن قبلهم الأنباط في بترا وتدمر. 1 يبلغ ارتفاع أعالي الجبال في اليمن أكثر من اثني عشر ألف قدم، ونحو عشرة آلاف قدم في كل من مدين وجبال السراة في الحجاز والجبل الأخضر في عمان. بل إن في نجد -وهي هضبة متوسط ارتفاعها 2500 قدم- جبلًا يبلغ ارتفاعه 5550 قدمًا وهو جبل أجأ "انظر تاريخ العرب، مطول 1: 16". وقد ذكر عرام بن الأصبغ السلمي في كتابه "أسماء جبال تهامة وسكانها" بعض هذه الجبال الشاهقة، وأشار إلى ارتفاعها وذهابها في السماء، من ذلك قوله عن جبل ورقان: "جبل أسود عظيم كأعظم ما يكون من الجبال" "ص15" وقال عن جبل آرة "جبل من أشمخ ما يكون" "ص19". وقال عن جبل شمنصير: "جبل ململم لم يعله أحد قط ولا درى ما على ذروته" "ص26". وقال عن جبلي يسوم وفرقد "لا يكاد أحد يرتقيهما إلا بعد جهد" "ص41" وقد كان الماء يجمد على بعض قمم الجبال وذلك مثل جبل صنعاء وجبل غزوان بجوار الطائف "انظر الهمداني: الإكليل ص9، والإصطخري: مسالك الممالك ص19". "ومكثوا سنة جرداء، وسموها سنة الجمود لجمود الرياح فيها" "الهمداني: صفة جزيرة العرب ص214". وكانت الثلوج تسقط على جبل حضور الشيخ في اليمن في شتاء كل عام تقريبًا، وأما الصقيع فهو أكثر من ذلك شيوعًا "انظر تاريخ العرب، مطول 1: 21". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 هذا وذاك مناخ معتدل فيه دفء لا يغلو فيصبح حرًّا، ولا يقصر فيصبح بردًا ... وفيها مع ذلك أمطار غزار تناسب أنهارًا وجداول1، تقوم على حفافيها مدن   1 كانت الأمطار في جزيرة العرب في العصر الجاهلي غزيرة غزارة لا تعرفها الجزيرة الآن، ولغزارة الأمطار في الجاهلية آيات: أولاها -وهي أهمها في نظرنا- ما يحفل به الشعر الجاهلي من وصف السيول الدافقة، وذلك أكثر من أن يشار إليه. وثانيتها: كثرة الأودية ومسايل المياه التي تشاهد في الجزيرة -ليومنا هذا- غائرة غائضة. وقد عقد الهمداني فصلًا عن أودية السراة ومسايل المياه فيها في صفة جزيرة العرب "من ص71 إلى 78" حيث يفصل القول فيها تفصيلًا ويعد منها شيئًا كثيرًا، وانظر كذلك ص214 وما بعدها. وثالثة هذه الآيات ما يذهب إليه بعض العلماء في قولهم: "وكانت الرياح الغربية التي تروي غيومها الآن مرتفعات سورية وفلسطين تصل في الأزمنة الغابرة إلى الجزيرة قبل أن تفقد هذه الغيوم رطوبتها" "تاريخ العرب، مطول 1: 15". والعلماء هؤلاء يشيرون إلى أن ذلك كان في عصور جيولوجية سحيقة في القدم، ولكن ما ذكرناه من أمر الشعر الجاهلي دال على أن ذلك كان مألوفًا في العصر الجاهلي الأخير. ومما يؤيد ذلك أن ديودوروس الصقلي -في القرن الأول قبل الميلاد- يذكر أن بلاد العرب التي تقع في الشمال من العربية السعيدة وتمتد حتى تجاور سورية "يتخللها كثير من الأنهار ويهطل عليها مطر غزير في الصيف فيكون لسكانها بذلك موسمان زراعيان في السنة الواحدة" "انظر: Diodorus Siculus, London, Book 2, p.54" وقد ذكر عرام السلمي أسماء كثير من القرى الزراعية وأنواع فواكهها وثمارها وأشار إلى كثرة مائها، من ذلك قوله عن جبلي رضوى وعزور: "في الجبلين جميعًا مياه أوشال، والوشل: ماء يخرج من شاهقة لا يطورها أحد ولا يعرف منفجرها.. ويصب الجبلان في وادي غيقة، وغيقة تصب في البحر، ولها مسك: وهي مواضع تمسك الماء، واحدها مساك" "ص6" ويذكر "ينبع" فيقول: "قرية كبيرة غناء ... فيها عيون عذاب غزيرة الماء وواديها يليل يصب في غيقة ... وفي يليل هذه عين كبيرة تخرج من جوف رمل من أعذب ما يكون من العيون وأكثرها ماء ... " "ص8، 9" ويذكر "الصفراء" فيقول: "قرية كثيرة النخل والمزارع وماؤها عيون كلها، وهي فوق ينبع مما يلي المدينة، وماؤها يجري إلى ينبع" "ص8" ويذكر قرية السوارقية وفواكهها فيقول: "قرية غناء كثيرة الأهل.. ولهم مزارع ونخيل كثيرة وفواكه وموز وتين ورمان وعنب وسفرجل وخوخ.." "ص65". وهو يذكر كثرة المطر فيقول: "وغدير خم هذا.. لا يفارقه ماء أبدًا من ماء المطر" "ص33" ويذكر الآبار التي في بعض الجبال فيقول عن مائها إنه "ماء سماء لا تنقطع هذه المياه لكثرة ما يجتمع فيها" "ص54". بل إن هذه الأمطار ما زالت إلى يومنا هذا تهطل على الصحاري نفسها -بله السهول والجبال- كصحاري النفود والربع الخالي حتى إنها لتغطيها "ببساط من الخضرة يحولها إلى جنة للإبل والأغنام"، "وتغنى الأرض بالمراعي" "انظر تاريخ العرب، مطول 1: 17" وانظر كذلك ص20، 21 ففيهما وصف للخصب والخضرة في هضبة نجد وفي الحجاز وعير واليمن في أيامنا هذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وقرى، وتهتز الأرض فتخرج من ثمرها وبقلها وفاكهتها ما شاء لها الله؛ ويكون من كل ذلك تلك الحضارة الزراعية التي عرفها التاريخ في العرب والأمم الأخرى ذات طابع واضح ومعالم مميزة. وقد تضن الطبيعة بمائها فلا تكاد ترسله إلا بمقدار، ثم تمسك إمساك الشحيح يندم على ما بسط من يده؛ فيكون من هذا الرذاذ الهين اللين سهوب ومراع ينتجعها قطان الصحاري بأنعامهم يلتمسون الكلأ، ثم لا تكاد تطمئن بهم النوى حتى تقتلعهم اقتلاعًا، وتقذفهم إلى مرعى جديد يكون أوفر حظًّا وأوفى نصيبًا. فتنشأ من ذلك طبقة اجتماعية عرفها التاريخ كذلك في سيره الطويل بطابعها الواضح ومعالمها المميزة. وهذه الصحراء العربية يضيق جوفها عن أن يمد لقطانها من أسباب العيش غير ما كان يعيش عليه رجل الغابة الأول: يتنكب قوسه ويعلق كنانته، أو يحمل رمحه ويتقلد سيفه، ثم يضرب في الأرض باحثًا عن قوته بين حيوان الصحراء، وقد يؤوب بصيد سمين وقد يكون هو الصيد، أو قد يفوته ما أمل، فلا يجد له بدًّا من أن يجعل هدفه أخًا له يفتك به ويجرده مما يجوز. فتكون من ذلك طبقة اجتماعية ثالثة هي أولى الجماعات التي عرفها التاريخ منذ أن وجد الإنسان. ولقد كانت هذه البلاد في مكان سوى بين أمم العالم، يتوسط الشرق والغرب، ويصل الجنوب بالشمال، فلا بد إذن من أن تكون طريقًا تجتازه التجارة من الشرق والجنوب إلى الشمال والغرب. وكان لا بد أن يكون لهذه التجارة قوامون يبذلون من مالهم ومن جهدهم في شرائها ونقلها وحراستها ثم بيعها ما يضطرهم إلى تنظيم أمرها وتهيئة وسائلها، فنشأت من ذلك تجارتان: تجارة داخلية محلية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وتجارة خارجية عالمية. وكان لا مفر من أن تقوم طبقة اجتماعية رابعة بجانب الطبقات الثلاث المتقدمة. وكانت ثمة حرف صغير، وصناعات كثيرة، تتناول من الأمر دقيقها وجليلها، وكانت بعض المدن تختص بضرب من هذه الصناعات دون غيره، فتشتهر به، ويؤمها الناس يتعلمون هذه الصناعة من أهلها، ثم يعودون إلى موطنهم بطريف لم يكونوا يعهدونه1. وكان لا بد من أن يقوم على هذه الحرف والصناعات رجال مختصون: من العرب الخلص، ومن الرقيق المجتلب، فكانت منهم جميعًا طبقة اجتماعية خامسة، ذات طور حضاري يختلف عن الطبقات السابقة. ولعل آخر هذه الطبقات هؤلاء السادة المترفون من الملوك والأمراء والحكام والأثرياء ممن كان يجتمع لهم السلطان والمال. -2- والقبيلة عند العرب في حاجة إلى دراسة مستفيضة خاصة، لا يتسع لها مثل هذا العرض التمهيدي، وبحسبنا أن نشير إلى أن الشائع المتعارف أن القبيلة كانت في الجاهلية جماعات من الأعراب البدائيين: يسكنون الخيام ويقطنون الصحراء، لا هم لهم إلا الغزو وانتجاع الكلإ. وقد يصدق ذلك على بعض تلك القبائل، أو على أقسام منها. غير أن الذي لا يتطرق إليه ريب، فيما نرى، أن قبائل كثيرة كان منها من يسكن في الحواضر والقرى مستقرًّا ثابتًا: فالأوس والخزرج   1 من أمثلة ذلك ذهاب عروة بن مسعود وغيلان بن سلمة من الطائف إلى جرش في اليمن ليتعلما بعض الصناعات الحربية. قال ابن إسحاق: "ولما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينها، وصنعوا الصنائع للقتال. ولم يشهد حنينًا ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة، كان بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور" "السيرة 4: 121" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 كانتا تسكنان المدينة، وثقيف كانت تسكن الطائف، وقريش البطاح كانت تسكن بطحاء مكة، وتغلب وبكر وإياد كان بعضها حاضرة تسكن الجزيرة وما بين النهرين، وعبد القيس كان منها حاضرة تسكن عمان والبحرين، وغيرها وغيرها من القبائل التي كانت تستوطن قرى اليمامة وقرى اليمن. فهذه وأشباهها من قبائل العرب كان أكثرها أهل مدر، مستقرة في موطنها، لا يعجلها التنقل والارتياد عن أن تقيم لنفسها من حولها حياة مدنية لا تختلف في شيء عما نعرفه من حياة سكان المدن في بلاد العرب لذلك العهد. وما أوضح ما رُوِي لنا عن أحد أحلاف الجاهلية من أن ذلك الحلف كان "في أهل الوبر في الجاهلية فلما جاء الإسلام، وكانت حنيفة بقيت من قبائل بكر لم تكن دخلت في الجاهلية في هذا الحلف، قال: وذلك أنهم أهل مدر؛ فدخلوا في الإسلام مع أخيهم عجل فصاروا لهزمة"1. ونص آخر لا يقل وضوحًا وإبانة، قالوا2: "قريش الأباطح أشرف وأكرم من قريش الظواهر؛ لأن البطحاويين من قريش حاضرة وهم قطان الحرم، والظواهر أعراب بادية، وضاحية كل بلد ناحيتها البارزة". فكثيرًا ما نجد إذن قبيلة واحدة تحيا حياتين مختلفتين: كان قسم منها يتحضر ويستقر ويسكن المدر، على حين يبقى قسم منها باديًا في أهل الوبر، في أطراف القرى والمدن. وقد كان هذا شأن القبيلة في الجاهلية والإسلام معًا؛ فمن ذلك: جهينة، كان قسم منها يسكن في الوبر دون المدر في نواحي جبلي رضوى وعزور3 على حين يسكن قسم آخر منها في المدر في ينبع "وهي قرية كبيرة غناء ... فيها عيون عذاب غزيرة الماء..4 ويسكن قسم ثالث منها في   1 النقائض: 728. 2 اللسان "ضحا". 3 عرام بن الأصبغ السلمي، كتاب أسماء جبال تهامة وسكانها، ص7. 4 المصدر السابق: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الصفراء "قرية كثيرة النخل والمزارع وماؤها عيون كلها، وهي فوق ينبع مما يلي المدينة، وماؤها يجري إلى ينبع"1 ومثال آخر: نَهْد، كانت كجهينة تسكن في الوبر دون المدر في جبلي رضوى وعزور2، وكان قسم منها يسكن في قرية الصفراء. ومثل ثالث: مزينة، كان قسم منها يسكن في جبل ورقان3، وقسم آخر في جبلي القدسين4، وقسم ثالث في جبلي نهبان4، على حين يسكن قسم منها في قرية الفرع "وهي قرية غناء كبيرة"5. ومثل رابع: هذيل، كانت أقسام منها تسكن ضرعاء وهي "قرية بها قصور ومنبر وحصون"6، وقسم يسكن في قريتي رهاط والحديبية7، وقسم يسكن في مر الظهران وهي "قرية في واديها عيون كثيرة ونخيل وجميز"، إلى آخر ما شئت من الأمثلة. وإذا كان يحلو لبعض الباحثين أن يجعلوا "لأهل الكتاب" في الجاهلية سهمًا في الحضارة أوفر من سهام "الأميين" -ولعلهم على شيء من الحق في ذلك- فمن يكون أهل الكتاب أولئك؟ وكيف يغرب عنا أن نصارى بلاد العرب ويهودها لم يكونوا -ما عدا قلة قليلة من الوافدين- غير قبائل قد تنصرت وتهودت، قبائل كاملة بقضها وقضيضها8.   1 عرام بن الأصبغ: 8 2 المصدر السابق: 7 3 المصدر السابق: 16 4 المصدر السابق: 18 5 المصدر السابق: 19 6 المصدر السابق: 25، 26 7 المصدر السابق: 27، 28 8 ابن حزم، الجمهرة: 457، 458 "فيقال إن إيادًا كلها، وربيعة كلها، وبكر، وتغلب، والنمر، وعبد القيس كلهم نصارى، وكذلك غسان، وبنو الحارث بن كعب بنجران، وطيئ، وتنوخ، وكثير من كلب، وكل من سكن الحيرة من تميم ولحم وغيرهم وكانت حمير يهودًا، وكثير من كندة، وذكر أبو عبيد "معجم ما استعجم 1: 29" أن قبيلة من بلى نزلت أرضًا بين تيماء والمدينة "فأبت يهود أن يدخلوهم حصنهم وهم على غير دينهم، فتهودوا فأدخلوهم المدينة ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ثم إن القبائل البادية نفسها التي لم تستوطن الحواضر والقرى، ولم تنتصر أو تتهود، هذه القبائل كانت تتفاوت تفاوتًا كبيرًا في نظام حياتها، وطرق معيشتها وطبقتها الاجتماعية؛ وبحسبنا أن نشير إلى ما رُوِي عن عائشة، قالت: لما قدمنا المدينة نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقبل هدية من أعرابي، فجاءت أم سنبلة الأسلمية بلبن، فدخلت به علينا فأبينا نقبله؛ فنحن على ذلك إلى أن جاء رسول الله معه أبو بكر، فقال: ما هذا؟ فقلت: يا رسول الله هذه أم سنبلة أهدت لنا لبنًا، وكنت نهيتنا أن نقبل من أحد من الأعراب شيئًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوها، فإن أسلم ليسوا بأعراب هم أهل باديتنا، ونحن أهل قاريتهم، إذا دعوناهم أجابوا، وإن استنصرناهم نصرونا1. وثمة نصان لا يقلان عن هذا النص وضوحًا وقيمة: أولهما ما ذكره عرام بن الأصبغ في حديثه عن السوارقية قال: "قرية غناء كثيرة الأهل" ثم قال: كان لبني سليم فيها "مزارع ونخيل كثيرة وفواكه من موز وتين ورمان وعنب وسفرجل وخوخ.. ولهم خيل وإبل وشاء كثير، وهم بادية، إلا من ولد بها فإنها ثابتون بها، والآخرون بادون حواليها ويميرون طريق الحجاز ونجد في طريقي الحاج"2. وثانيهما ما ذكره عرام أيضًا في حديثه عن قرية خيف سلام قال: " ... وفيه منبر وناس كثير من خزاعة، ومياهها فقر أيضًا، وباديتها قليلة، وهي: جشم وخزاعة وهذيل"3. فنحن نفهم من هذه النصوص الثلاثة المتقدمة أن المقصود بالبادية إنما هو   1 ابن سعد، الطبقات 8: 215، والقارية: الحاضرة الجامعة. 2 كتاب أسماء جبال تهامة وسكانها: 65. 3 المصدر السابق: 35؛ والفقر: قني الماء، واحدها: فقير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ظاهر القرية، أو ضاحيتها وما أحاط بها، وأن كثيرًا من القبائل كانوا يقطنون في هذه النوادي قريبين من الحواضر، مطيفين بها، متصلين بسكانها، فهم إذن غير تلك القبائل الموغلة في الصحراء، الضاربة في الفيافي، البعيدة عن العمران، الذين قست قلوبهم وغلظت أكبادهم فوصفهم القرآن الكريم بشدة الكفر والنفاق، هؤلاء هم الأعراب؛ أما القبائل القريبة من القرى، المطيفة بها "فليسوا بأعراب، هم أهل باديتنا ونحن أهل قاريتهم". -3- ونحب أن نخلص من كل ما قدمنا من أمر عرب الجاهلية وبلادهم إلى أنهم لم يكونوا مجتمعًا واحدًا، بل كانوا طبقات اجتماعية مختلفة متباينة تمثل المجتمعات الإنسانية التي مرت بها البشرية في تاريخها الطويل. وقد استبانت هذه الفروق الاجتماعية بين تلك المجتمعات منذ القدم لمن كتب عن العرب من مؤلفي اليونان والرومان. فهذا ديودوروس الصقلي -في القرن الأول قبل الميلاد- يفيض في حديثه عن الحضارة الزاهية التي قامت في بعض أنحاء الجزيرة العربية، ويصور لنا الحياة المترفة الراقية التي كان يحياها عرب اليمن؛ ثم يتحدث عن الأجزاء الداخلية المتوسطة في بلاد العرب فيقول: إنه "كان يقطنها جمهور كبير من العرب الرحل الذي اتخذوا لأنفسهم حياة الخيام، وكان لهم قطعان كثيرة من الأنعام، وينصبون مضاربهم في السهول الواسعة المنبسطة.." ثم يقول: "إن الأجزاء الباقية من بلاد العرب المتاخمة للبحر والتي تقع إلى الشمال من العربية السعيدة وتمتد حتى تجاور سورية، يقطنها جمهور من المزارعين والتجار على اختلاف أنواعهم، يبيعون ما عندهم ويبتاعون ما عند غيرهم في مواسم وأسواق تجارية ... وتتخلل هذه البلاد كثير من الأنهار، ويهطل عليها مطر غزير في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الصيف، فيكون لهم بذلك موسمان زراعيان في السنة الواحدة"1. وقد لحظ بعض الذين كتبوا في العصور الإسلامية عن العصر الجاهلي هذه الفروق في المجتمعات الجاهلية؛ فهم يقسمون عرب الجاهلية قسمين رئيسين: الملوك، وغير الملوك. ثم يقسمون غير الملوك قسمين رئيسيين: أهل مدر وأهل وبر، ويقسمون أهل المدر إلى زراع وتجار. قال ابن العبري2 "وأما سائر عرب الجاهلية بعد الملوك فكانوا طبقتين: أهل مدر وأهل وبر. فأما أهل المدر فهم الحواضر وسكان القرى، وكانوا يحاولون المعيشة من الزرع والنخل والماشية والضرب في الأرض للتجارة. وأما أهل الوبر فهم قطان الصحاري وكانوا يعيشون من ألبان الإبل ولحومها، منتجعين منابت الكلإ، مرتادين لمواقع القطر، فيخيمون هنالك ما ساعدهم الخصب وأمكنهم الرعي، ثم يتوجهون لطلب العشب وابتغاء المياه، فلا يزالون في حل وترحال..". -4- ولذلك كان من الإخلال الفاضح بالمنهج السديد أن يُنظر إلى العصر الجاهلي نظرة واحدة، وأن يُحكم عليه حكم عام مطلق، وأن يوصم عرب الجاهلية جميعًا بالبداوة والجهالة، فلا تُراعى هذه الفروق الواسعة في البيئات الاجتماعية المتباينة. فإن صح أن بعض الأعراب في صحراوات الجزيرة كانوا في معزل عن العالم المتمدين آنذاك، فإنه من الصحيح كذلك أن بعض البيئات الاجتماعية الأخرى كانت متصلة بمعالم المدنية لذلك العهد، مواكبة لركب الحضارة. والحضارة في العصر الجاهلي موضوع يحتاج إلى شيء من البحث المتعمق   1 Diodorus Siculus, London, William Heinemann ltd. Cambridge, Book 2, P5.54 2 مختصر الدول، ط. بيروت ص158، 159، وكذلك صاعد الأندلسي، طبقات الأمم ص65، 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الدقيق، ويستحق منا في هذا المجال وقفة قصيرة نلم به إلمامة سريعة. وأول ما يلفت نظرنا من أمر هذه الحضارة الجاهلية الأخيرة أنها حضارة ظاهرية تأثرية "سلبية"، لم تبلغ من العمق أولًا ومن القوة ثانيًا ما يجعل لها طابعها الخاص الذي تتسم به، وما يبعث في حناياها الحياة القوية حتى تندفق على الحضارات الأخرى فتؤثر فيها أو تتفاعل معها. وتعليل ذلك أن هذه الحضارة في الجاهلية الأخيرة إنما انحدرت من جدولين: أولهما تليد موروث، وثانيهما طريف مقبوس. أما الجدول الأول فهو صور مطموسة، وأطلال مدروسة، وظلال باهتة، كان يحس بها عرب هذا العصر إحساسًا غائمًا، ويسمعون بها سماعًا غامضًا، ويرون من آثارها ما لم يحسنوا الانتفاع به أو ما لم تطق حالتهم آنذاك أن تبعث فيه الحياة دافقة كما كانت. ومعالم تلك الحضارة التليدة قائمة في بلاد العرب في هذه النقوش والآثار التي اكتشف بعضها في اليمن حيث قامت دول معين وسبأ وحمير، وفي الحِجْر حيث وجدت لحيان وثمود، وفي بترا حيث قامت دولة الأنباط. وقد أشار كثير من المعنيين بالدراسات الشرقية من الأوروبيين إلى هذه الحضارة العربية القديمة بعد استقراء النقوش واستنطاق الآثار. فقال ونكلر1 Winckler إن تاريخ الجزيرة العربية كما توضحه النقوش يظهر لنا مجموعة من الحكومات والدول المنظمة منذ أقدم القدم. وقال سايس A. H Sayce "لم يكن المسلمون الذين انطلقوا من الجزيرة العربية وفتحوا العالم المسيحي وأسسوا الممالك إلا من نسل أولئك الذين كان لهم في القدم أثر عميق في مصير الشرق"2. وقال هومل Hommel: "إن الحضارة العربية الجنوبية بآلهتها ومذابحها ذات البخور ونقوشها وحصونها وقلاعها لا بد أن تكون مزدهرة متحضرة منذ الألف الأول قبل الميلاد.." وقال: "إن أهمية العرب في الشرق القديم تكمن في مجال الحضارة   1 Margoliouth, Relations Between Arabs and Israelitcs prior to the Rise of Islam 24. 2 A.H. Sayce, Early Israel, 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والدين، ويكفي أن نذكر كلمتي: البخور وعبادة النجوم، لندرك أثر العرب في الأمم المجاورة لهم ولا سيما العبرانيين واليونان"1. أما نحن فحسبنا هذه الاستشهادات، ولن نعرض بالقول المفصل لهذه الدول، فما زال الحديث عنها مبتورًا يحتاج إلى استكمال التنقيب والكشف في مجاهل الصحراء وبطون الرمال. ولكننا نحب أن نشير إلى أن المستشرق أوليرى قد فصل القول، في فصول كتابه "بلاد العرب قبل محمد"، عن علاقة الأمة العربية بغيرها من الأمم المجاورة لها منذ أقدم الأزمنة، وكشف عن الروابط القوية التي كانت قائمة بين العرب وبين دول ما بين النهرين والمصريين والأحباش والهنود والفرس واليونان والرومان2. -5- فإذا ما انتقلنا بعد ذلك إلى العصر الجاهلي الأخير وجدنا أن هذه الحضارات العربية جميعها قد انحطت وانقرضت منذ أزمان متفاوتة. ويذهب فريق من الباحثين إلى أن انحطاط هذه الدول العربية وانقراضها إنما يرجع إلى عوامل اقتصادية؛ وهم يرون أن هذا الانحطاط قد بدأت بوادره منذ ابتداء التاريخ المسيحي واستمرت تقوى حتى قوضت أركان هذه الحضارات. وأهم الأسباب التي يوردها هذا الفريق لتعزيز رأيه: زوال المدن العظيمة في سهول جزيرة الفرات بعد سقوط بابل وآشور، وما لهذا الزوال من أثر في الممالك العربية التي كانت منذ القدم السحيق تسيطر على الطرق التجارية. وتلا ذلك زوال الأسواق الفينيقية؛ وأهم   1 Hommel نقلًا عن: farmer, History of Arabian Music, Introduction, 77 2 وانظر أيضًا: الدكتور جواد على، تاريخ العرب قبل الإسلام 2: 277-424؛ 3: 274-423. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 من ذلك كله فتح الرومان الطريق التجاري البحري خلال البحر الأحمر في نحو القرن الأول الميلادي. وكان من أثر هذا أن تصاءلت تجارة القوافل البرية في الجنوب، وكانت هذه التجارة عماد الممالك العربية الجنوبية. وزادت المشكلات السياسية هذه العوامل قوة: ففي الشمال قضى الرومان على بترا سنة 106م بقيادة تراجان، ثم قضوا على تدمر سنة 272م بقيادة أورليان، وقد كان الأنباط مستودع تجارة القوافل الشمالية. ولم تنتعش الممالك العربية بعد هذا الاضطراب السياسي والاقتصادي، فانتشرت الهجرة وترك الناس المدن التي كانت عظيمة فزالت. ويعقب فارمر H.G. Farmer على هذا بقوله1: "ومع ذلك كله فإن الجزيرة العربية لم تُصَب بالعقم، فمن هذه البلاد التي كانت مهد الساميين ولدت الحضارة الإسلامية التي صارت بحق خير خلف لحضارة الساميين العظيمة في القدم". ونحن نرى أن هذا العصر الجاهلي الأخير الذي توسط بين الحضارتين: العربية القديمة والإسلامية الناشئة، لم يكن فجوة عميقة واسعة بحيث تقطع الأواصر بين الحضارتين. فقد كان العرب في هذه الجاهلية الأخيرة يعرفون عن ماضيهم قبسات أوصلها إلينا المؤرخون الإسلاميون غائمة غامضة تشوبها الأساطير والخرافات. وهذا القرآن الكريم في خطابه لعرب الجاهلية الأخيرة حافل بالإشارات التي تدل على ما كان يرفل فيه أولئك الأقوام ودولهم في الجاهلية الأولى من نعيم وترف، وما كانوا يتمتعون به من قوة ومنعة. وفيه أيضًا تأنيب لعرب الجاهلية الأخيرة الذين كانوا يسيرون في الأرض فيمرون بآثار منازل هؤلاء الأسلاف الأقدمين، ويعلمون من أمرهم ما يعلمون، ولكنهم مع ذلك لا يتعظون بمصيرهم، ولا يعتبرون بما آلوا إليه. فالقرآن الكريم يصف سبأ بالحياة الزراعية المستقرة الناعمة، وبضربهم في الأرض آمنين، وذلك قوله تعالى:   1 H.G. Farmer, History of Arabian Music, Introduction 13 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} . {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ} 1. فإذا ما عرض لذكر عرب الجاهلية الأخيرة وصفهم بأنهم لم يبلغوا معشار ما أوتيت الدول من قبلهم: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} 2. ويصف القرآن الكريم قوم عاد بفن العمارة وبالصناعة، وذلك قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} 3. ويصف ثمود بالحياة الزراعية المستقرة الخصبة وبفن العمارة كذلك، وذلك قوله تعالى: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} 4. وأما إشارات القرآن الكريم إلى مرور عرب الجاهلية بديار أولئك الأقوام   1 سورة سبأ، آية 15 وآية 18. 2 سورة سبأ، آية 45. 3 سورة الشعراء، آيات 128-134. 4 سورة الشعراء، آيات 146-149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 من أسلافهم ومعرفتهم أخبارهم وأحوالهم فكثيرة، منها: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} 1. {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} 2. {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} 3. {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 4. {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} 5. ولا ريب أن القرآن الكريم ليس كتابًا تاريخيًّا يقصد إلى ذكر الحوادث مفصلًا القول في أجزائها، ولكنه يعرض للحادثة التاريخية ليبين عن العظة والعبرة. إنما عرضنا هذه الآيات لندل على أن عرب الجاهلية الأخيرة كانوا يدركون طرفًا من أخبار أسلافهم، ويعرفون شيئًا عن هذه الحضارات التليدة التي ورثوا   1 سورة العنكبوت: 38 2 سورة الفرقان: 40 3 سورة طه: 128 4 سورة الروم: 9 5 سورة غافر: 21 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 بعض بقاياها ورواسبها؛ وذلك هو ما أشرنا إليه بالجدول الأول لحضارة العصر الجاهلي الأخير. وأما الجدول الثاني -وهو ما سميناه بالحضارة الطريفة المقبوسة- فيكفينا منه ما كفانا في سابقه: إشارات عامة تكشف لنا عن خطوطه الكبرى. وتتمثل هذه الحضارة في ذلك الاتصال الوثيق الذي كان يربط عرب الجزيرة بالحضارات القائمة في جوارها من فارسية ورومية ومصرية إلخ ... وربما كانت أهم سبل هذا الاتصال هي: أولًا: هاتين الإمارتين العربيتين اللتين كانتا تتاخمان الحضارتين الكبريين لذلك العهد، واللتين كانتا أشبه ما تكونان بالثغور على الحدود، وهما: المناذرة في الحيرة، والغساسنة في الشام. فقد كان اتصال هاتين الدولتين بالفرس والروم من جانب، وبالجزيرة العربية من الجانب الآخر، اتصالًا وثيقًا. فكانتا لذلك قناتين كبيرتين انسرب منهما أثر هاتين الحضارتين إلى الجزيرة العربية. ثانيًا: هذه الطرق التجارية المنظمة التي كانت تتخلل صحراوات بلاد العرب، وتلك المواثيق والعهود التي كانت تربط العرب الذين نمر تلك القوافل ببلادهم فيتعهدون بالمحافظة عليها لقاء جعل يدفع إليهم. ثالثًا: هذه الأسواق والمواسم العربية التي كان العرب يقيمونها في أطراف الجزيرة حينًا وفي قلبها حينًا آخر. فكان يؤمها العرب من مختلف بقاعهم وعلى تباين حظوظهم من الحضارة والمدنية. وكان يؤمها كذلك بعض التجار الفرس والهنود والمصريين والرومان، فكان كل أولئك يلتقون في صعيد واحد، يأخذون ويعطون ويتبادلون ما عندهم من متاع وعروض، ومن آراء وأفكار، ومن مظاهر الحضارات المختلفة1.   1 كان كثير من تجار الأمم المحيطة ببلاد العرب -سواء في ذلك الأمم القريبة والنائية- ينتقلون إلى جزيرة العرب، فكان بعضهم يوافي أسواق العرب ويجتمعون فيها للتجارة، كما كانت تفعل فارس حينما كانت توافي بسوق المشقر يقطعون البحر إليها ببياعاتها "ابن حبيب، المحبر ص263-265" وكان يجتمع في دبا تجار الهند والسند والصين وأهل المشرق والمغرب فيشترون بها بيوع العرب والبحر ثم يسيرون بجميع من فيها من تجار البحر والبر إلى الشجر، شجر مهرة، ويبيعونهم ما ينفق بها من الأدم والبز وسائر المرافق، ويشترون بها الكندر والمر والصبر والدخن "أبو علي المرزوقي الأصفهاني، الأزمنة والأمكنة، ط. الهند، الباب الأربعون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 رابعًا: هذه الجاليات الأجنبية الكبيرة التي كانت تفد على الجزيرة العربية فتقيم فيها وتطيل المقام، بل تتخذ منها موطنًا آخر تقضي فيه حياتها وتنشئ فيه ذريتها. فكانت هذه الجاليات مختلفة الأديان والأجناس والأهداف: فمنهم النصراني واليهودي والمجوسي والوثني؛ ومنهم الفارسي والرومي والمصري والهندي والحبشي؛ ومنهم من جاء الجزيرة للتجارة فافتتح فيها دورًا للهو من غناء وشراب وبغاء، ومنهم من جاءها فأنشأ فيها مستعمرات زراعية فعمر الأرض وأثارها هناك؛ ومنهم من جاءها لغير هذا وذاك كالبعثات التبشيرية الدينية التي انبثت في أنحاء الجزيرة وجاست خلالها وانتشرت بين أهلها وأقامت البيع والصوامع والأديرة في المدن والصحراء1. خامسًا: هذه الجماعات والأفراد من العرب أنفسهم الذين كانوا يفدون على فارس وبلاد الروم والحبشة ومصر للتجارة حينًا، وللتعرض لعطاء الملوك والسادة حينًا آخر، ولطلب العلم والهداية حينًا ثيالثًا. أما التجار العرب فكانوا يضربون في الأرض ضربًا بعيدًا فيصلون إلى أقصى ما كان يعرف من عالمهم آنذاك2.   1 عقد ابن حبيب النسابة "في المحبر 306-308" فصلًا ذكر فيه أبناء الحبشيات في الجزيرة العربية، غير ما نجده من أسماء الحبشيات مبثوثًا في بطون المراجع الأخرى. وفي سيرة ابن هشام "ط. بولاق 1: 57" ذكر لجالية حبشية من النصارى. وفي أسد الغابة أسماء كثير من الروم والروميات "1: 212، 4: 232، 5: 194، 462، 480" وفي سيرة ابن هشام "1: 65" ذكر لرجل قبطي نجار بمكة، وفي "1: 62" ذكر ليهودي من الشام قدم على بني قريظة وأقام عندهم، وفي "1: 147" ذكر لنصراني من أهل نينوى، وفي "3: 45" ذكر لنبطي من نبط الشام قدم بالطعام يبيعه بالمدينة. 2 مثل: هاشم وكان متجره إلى الشام فهلك بغزة، وعبد شمس وكان متجره إلى الحبشة، والمطلب وكان متجره إلى اليمن، ونوفل وكان متجره إلى العراق. وهم أصحاب الإيلاف من قريش "راجع لذلك المحبر لابن حبيب ص162-164، والسيرة، بولاق 1: 47". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وأما المتعرضون للعطاء فكانوا من الشعراء ورؤساء القبائل وأصحاب الرأي فيها، يفدون إلى ملوك المناذرة أو الغساسنة أو بلاط كسرى أو بلاد مصر والحبشة، فيقيمون هناك ما شاء لهم الله أن يقيموا يرون ما لم يروا في بلادهم، ويتزودون بالجديد الطريف من ألوان الحضارة المتباينة. وأما طالبو العلم والهداية فقد كانوا ممن استبدت بهم نزعات نفسية أو خواطر فكرية فكانوا يطلبون فيما نأى عن ديارهم ما يفيدهم علمًا أو يكسبهم يقينًا واطمئنانًا1. -6- وبعد، فإن حياة العرب في الجاهلية -فيما بدا لنا- بعيدة كل البعد عما يتوهمه بعض الواهمين، أو يقع فيه بعض المتسرعين الذين لا يتوقفون ولا يتثبتون، فيذهبون إلى أن عرب الجاهلية لم يكونوا سوى قوم بدائيين، يحيون حياة بدائية في معزل عن غيرهم من أمم الأرض. ونحن لا نحب أن نغلو كما يغلون، ونسرف على أنفسنا وعلى الحقيقة كما يسرفون، ونذهب إلى أن عرب الجاهلية الأخيرة كانوا من الحضارة بمنزلة لا سبيل إلى تجاوزها، ولا مزيد عليها لمستزيد، وإنما نحب أن نشير إلى ما قررناه من أمر اتصال العرب بالحضارات المجاورة لهم أولًا، ومن أمر حضاراتهم التليدة الموروثة ثانيًا. ونزيد أن تليدهم هذا إنما كان حضارات متعاقبة موصلة ذات حلقات، آخذ بعضها برقاب بعض، بدأت منذ شاء الله لها أن تبدأ، وانتهت قبيل الإسلام بزمن لا يعدو مائة، أو خمسين ومائة، من السنين. وكان من ذلك الحضارات المعينية والسبئية، والعادية والثمودية، والنبطية: التي ازدهرت في شمال الحجاز وجنوب الشام أربعة قرون، وزال سلطانها السياسي في القرن الثاني بعد الميلاد؛ ثم الحميرية التي استطالت حتى أشرف على أوائل   1 مثل: زيد بن عمرو بن نفيل الذي شك في الأوثان ورحل يطلب دين إبراهيم حتى بلغ الموصل والجزيرة ثم جال في الشام "السيرة 1: 76 والأغاني، دار الكتب 3: 126-127" ومثل الحارث بن كلدة الثقفي الذي تعلم الطب وضرب العود بفارس واليمن "طبقات الأمم لصاعد الأندلسي ص74". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 القرن السادس للميلاد. فلم يكن إذن ما ذكرناه من هذه الحضارات أمرًا جمح إليه الخيال، وأثبته الوهم، ولم يكن شيئًا قد تطاول عليه الزمن حتى عفى عليه، واندرست معالمه، وانمحى أثره، وخلف من بعده أحقابًا طوالًا، وقرونًا ممتدة، أرجعت هؤلاء العرب على أعقابهم، وأعادتهم إلى النشأة الأولى والحياة البدائية. وما ينبغي لمتثبت أن يغفل عن الفروق الكثيرة في المعالم الاجتماعية بين قوم لم يكن لهم في حياة الجماعة سابقة من حضارة أو علم، أو كانت لهم ثم عفى عليها الزمن، فعادت كأن لم تكن.. فأولئك هم البدائيون حقًّا؛ وبين قوم قد كان لهم ما كان ثم تقلص ظله، وتسرب الوهن إلى كيانه؛ ولكنه لم يزل حيًّا في نفوسهم وضمائرهم، قائمًا في خيالهم وتصورهم، مبثوثة معالمه في حيث كانوا يجوسون خلال ديارهم. ولقد تكلفنا ما تكلفنا من القول، وحشدنا له ما حشدنا من الأمثلة والشواهد في إيجاز شديد واقتضاب من القول؛ لأننا إنما عنينا -في هذا البحث التمهيدي- بتبيان الخطوط الرئيسية التي نستدل بها على أن عرب العصر الجاهلي ليس بمستنكر عليهم -بما كان لهم من حظ موروث في حضارات أصلية سامقة، وما كان لهم من سهم موفور في الاتصال بالحضارات المنتشرة لعهدهم- أن يحيوا على تفاوت بيئاتهم، حياة حضارية، من ألوانها: معرفتهم بالكتابة معرفة سنفصل القول فيها فيما سيتلو من صفحات. وإذا كنا لا نقصد بما قدمنا أن نثبت -ابتداء ومن غير سند من نص أو رواية- انتشار الكتابة في الجاهلية، فإننا نريد أن ننبه على سقوط حجة من يسرع ابتداءً -كذلك- إلى نفي أي نص أو رواية فيهما ما يدل على انتشار هذا اللون من الحضارة، بحجة أن الجاهلية جاهلة، وأن العرب كانوا قومًا بدائيين لم يعرفوا هذا الضرب من الحضارة. أما وقد أسقطنا الحجة بما قدمنا من القول فقد سقط بذلك الاحتجاج كله، وأصبحنا نحن وهم على أرض سواء لا يغني فيها إلا دليل من نص، أو برهان من رواية؛ وذلك ما نسأل الله تعالى أن يعيننا على الوفاء به فيما سيلي من أبواب وفصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الباب الأول: الكتابة في العصر الجاهلي الفصل الأول: انتشار الكتابة بين العرب في العصر الجاهلي نشأة الخطب العربي وتطوره مدخل ... الفصل الأول: انتشار الكتابة بين العرب في العصر الجاهلي نشأة الخط العربي وتطوره: أصل الخط العربي مشكلة كانت مستعصية تتأرجح حولها الآراء ولا تكاد تستقر. والعرب القدامى في ذلك روايات مختلفة، وللمستشرقين المحدثين آراء متباينة، لا يعنينا منها جميعًا إلا هذه الإشارة العابرة إليها1. فسواء عندنا في هذا البحث،   1 انظر أصل الخط العربي في: 1- البلاذري، فتوح البلدان: 476-477. 2- ابن أبي داود السجستاني، كتاب المصاحف: 4-5. 3- ابن عبد ربه، العقد 4: 340 وما بعدها. 4- الجهشياري، الوزراء والكتاب: 1، 12-14. 5- الصولي، أدب الكتاب: 28-30. 6- ابن فارس، الصاحبي في فقه اللغة ص7 وما بعدها. 7- حمزة بن الحسن الأصفهاني، التنبيه على حدوث التصحيف "مصورة فوتوغرافية". 8- القلقشندي، صبح الأعشى 3: 11 وما بعدها. وغيرها كثير. 9- الكتاني، التراتيب الإدارية ص114 وما بعدها، المطبعة الأهلية بالرباط سنة 1346. 10- ولفنسون، تاريخ اللغات السامية: 161-206. 11- خليل يحيى نامى، أصل الخط العربي وتاريخ تطوره إلى ما قبل الإسلام، مجلة كلية الآداب مايو 1935= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 أن يكون الخط العربي توقيفًا علمه الله آدم ثم أصابه إسماعيل بعد الطوفان1، وأن يكون اخترعًا أخذته العرب عن الحيرة، والحيرة أخذته عن الأنبار، والأنبار أخذته عن اليمن2، أو أخذته عن العرب العاربة الذين نزلوا في أرض عدنان3، وأن يكون مشتقًّا من الخط الآرامي كما كان يذهب بعض المستشرقين4، أو مشتقًّا من الخط النبطي كما يذهب المستشرقون اليوم، وهو أرجح الآراء عند الباحثين في هذا الموضوع. فأصل الخط العربي إذن مرحلة سابقة لبحثنا هذا متقدمة عليه في الزمن، لا نحب أن نضل في تيهها، ونبعد بذلك عن موضوع بحثنا. وإنما الذي يعنينا من كل ذلك أن نصل إلى معرفة أمرين؛ الأول: صورة الحروف التي كان التي كان يكتب بها عرب الجاهلية الأخيرة؛ والثاني: أقصى زمن نستطيع أن نؤرخ به وجود الكتابة العربية في الجاهلية بهذه الحروف التي عرفنا صورها. وسبيلنا إلى معرفة هذين الأمرين أن نتتبع النقوش العربية الجاهلية التي اكتشفت حتى الآن، ونستقرؤها فلعل فيها الخبر اليقين. وتفصيل ذلك أن المنقبين من المستشرقين قد عثروا على نقوش عربية شمالية: ثمودية ولحيانية ونبطية كثيرة. ولا يعنينا منها هنا إلا النقوش النبطية وحدها.   = 12- إبراهيم جمعة، قصة الكتابة العربية، رقم 53 من سلسلة اقرأ. 13- طه باقر، أصل الحروف الهجائية، مجلة سومر تموز 1945 ص56-60 14- ناصر النقشبندي، منشأ الخط العرب وتطوره لغاية عهد الخلفاء الراشدين، مجلة سومر، كانون الثاني 1947 ص129-142. 15- جواد علي، تاريخ العرب قبل الإسلام 1: 186 وما بعدها؛ 3: 436 وما بعدها. 16- بلاشير، تاريخ الأدب العربي ص70-76. 17- N. Abbott, the Rise of the North Arabic Script ... , Chicago 1939 1 ابن فارس، الصاحبي: 7. 2 ابن النديم، الفهرست: 6-7، والصولي، أدب الكتاب: 30، والقاموس "جزم" 3 الفهرست: 6. 4 ولفنسون، تاريخ اللغات السامية: 171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ونستطيع -بعدما بذله العلماء المختصون في الكشف عنها وقراءة حروفها- أن ندرسها دراسة توضح بعض الغموض الذي غشى تاريخ الكتابة العربية في الجاهلية. ولن نتعرض في دراستنا للجوانب اللغوية، ولكننا سنقصر حديثنا على الجانب الخطي المتصل بصورة الحروف وأشكالها. وقد رأيت أن أقسم هذه النقوش إلى ثلاث مجموعات تتدرج تدرجًا تاريخيًّا. فالمجموعة الأولى هي نقوش القرن الثالث الميلادي؛ والمجموعة الثانية: نقوش القرن الرابع؛ والمجموعة الثالثة: نقوش القرن السادس. وقد أهملت الإشارة إلى النقوش المؤرخة قبل القرن الثالث؛ لأنني -بعد دراستي لها بالقدر الذي أستطيعه- لم أجد فيها من الكلمات الكاملة ما تتفق صورة حروفها في الخط مع الخط العربي الإسلامي؛ وإن كان فيها من الحروف المفردة المنفصلة ما يتفق مع حروف الخط العربي، أو ما يصح أن يكون أصلًا تطورت عنه هذه الحروف لقرب الشبه بينهما. 1- نقوش القرن الثالث الميلادي: وهي خمسة، وقد جمعتها في ضرب واحد معًا؛ لأنني رأيت أن الكلمات التي تشبه صورة حروفها في الخط صورة كلمات اللغة العربية قليلة جدًّا تتراوح في النقش الواحد بين كلمة وثلاث كلمات. وهذه النقوش جميعها لا تتصل بموضوعنا إلا من حيث هي تمهيد لنقوش المجموعتين التاليتين، وربما كانت أصلًا لهما. أ- فالنقش الأول مؤرخ سنة 106 من سقوط سلع، أي سنة 210 للميلاد. وقد اكتشف في وادي المكتب في شبه جزيرة طورسينا. وكلماته التي تشبه صورتها صورة كلمات اللغة العربية هي: "بن" "الكلمة الرابعة في السطر الأول" و"يعلى" "الكلمة الخامسة في السطر الأول كذلك". ب- والنقش الثاني مؤرخ سنة 126 من سقوط سلع، أي سنة 230 الميلاد. وقد اكتشف في وادي فران في شبه جزيرة طورسينا كذلك. وكلماته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 التي تعنينا هي: "سلم" أو "سلام" "الكلمة الأولى في السطر الأول" و"بن" "الكلمة الأخيرة في السطر نفسه". جـ- والنقش الثالث وجد كذلك في طور سينا، وتاريخه سنة 148 من سقوط سلع، أي في سنة 253 للميلاد. وكلماته هي "كلب" "الكلمة الثانية في السطر الأول" "وبن عمرو" "الكلمتان الأخيرتان في السطر نفسه". د- نقش اكتشف في الحجر "مدائن صالح" وتاريخه سنة 162 من سقوط سلع، أي سنة 267 للميلاد. وكلماته هي "بن" "الكلمة الأخيرة في السطر الأول" و"عبد" "الكلمة الأولى في السطر الثالث" و "لعن" "الكلمة الأخيرة في السطر السادس، وكررت في السطر التاسع - الكلمة الثانية". هـ- والنقش الأخير من هذه المجموعة نقش اكتشف في بلدة أم الجمال -في حوران- وهو غير مؤرخ، ولكن الكونت De Vogue وليتمان يرجحان أن تاريخه سنة 270 للميلاد. وكلماته هي: "سلى"، وهو اسم علم "الكلمة الثانية في السطر الثاني" و"جذيمة" "الكلمة الأخيرة في السطر نفسه" و"ملك" "الكلمة الأولى في السطر الثالث". 2- أما القرن الرابع الميلادي: فلم يُعثر فيه إلا على نقش واحد، كشف في مدفن امرئ القيس بن عمرو ملك العرب في النمارة، وهي من أعمال حوران. وتاريخه سنة 223 من سقوط سلع، أي في سنة 328 للميلاد. ولهذا النقش قيمة كبيرة في بحث تاريخ الكتابة العربية، وذلك أن كثيرًا من كلماته، بل ربما كانت جميع كلماته، ذات صورة تشبه شبهًا كبيرًا صورة الخط العربي الإسلامي، وحسبنا أن نشير إلى بعضها: السطر الأول: نفس مر القيس بن عمرو ملك العرب "من الكلمة الثانية حتى السابعة". السطر الثاني: وملك الأسدين ونزرو وملوكهم وهرب مذحجو "من الكلمة الأولى إلى السادسة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 السطر الرابع: الشعوب ... فلم يبلغ ملك مبلغه "الكلمة الأولى، ثم من الخامسة إلى آخر السطر". السطر الخامس: عكدى "أي في القوة" هلك سنة "الكلمات الأولى والثانية والثالثة". فهذا نقش عربي بين العربية، عربي في أكثر لغته، عربي في صورة خطه. وهو في مرحلة تاريخية تظهر في وضوح جلي تطور الخط العربي إذا ما قيس بالنقوش التي ذكرنا أنها ترجع إلى القرن الثالث الميلادي. 3- أما القرن السادس الميلادي: فقد اكتشف فيه نقشان: أولهما: نقش وجد في خربة زبد -بين قنسرين ونهر الفرات- وتاريخه سنة 511 للميلاد؛ وعليه ثلاث كتابات: اليونانية والسريانية والعربية. وخطه قريب الشبه بالخط الكوفي الإسلامي، وإن كانت بعض كلماته ما زالت غير مقروءة، وهي لا تعدو كلمة واحدة في السطر الأول وكلمة أو كلمتين في آخر السطر الثاني؛ أما سائر كلماته فهي عربية الخط على اختلاف العلماء في قراءتها. وهي: السطر الأول .... الإله شرحو بر ... منفو و ... بر امرئ القيس السطر الثاني: وشرحو بر سعدو وسترو وشريحو ... وثانيهما: نقش مؤرخ في سنة 463 من سقوط سلع، أي سنة 568 للميلاد. عليه كتابتان باليونانية والعربية. وقد وجد منقوشًا على حجر فوق باب كنيسة بحران اللجا في المنطقة الشمالية من جبل الدروز، وهذا النقش كما يلي: السطر الأول: أنا شرحيل بن ظلمو بنيت هذا المرطول السطر الثاني: سنة "463" بعد مفسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 رقم "10" رسالة رسول الله إلى المنذر بن ساوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 السطر الثالث: خيبر السطر الرابع: بعام1 ولكن لا بد لنا من أن نعترف، اعترافًا واضحًا لا لبس فيه، أن كل دراسة لموضوع الكتابة في العصر الجاهلي ستبقى دراسة مبتورة ناقصة ما دامت رمال الجزيرة العربية تضن بهذه الكنوز، التي ترقد في بطونها، عن أن تجلوها لأبصار الدارسين، حتى يسائلوها أخبار هؤلاء الأسلاف الذين شاء لهم جحود التاريخ أن يوصموا بالجهل والبدائية2. ولا بد لنا من أن نقرر كذلك أن في هذه النصوص التي بين أيدينا -على جليل قدرها وعظيم نفعها للدارس- ثلاث نقائص: الأولى: قلة عددها قلة تلجئ الدارس إلى أن يحتاط في حكمه ويلقي القول إلقاء مقيدًا بعيدًا عن التعميم. والثانية: تباعد فتراتها، وانفصال أوائلها عن أواخرها، لوجود فجوات زمنية عريضة. فقد أغفلنا ذكر قرن كامل بسنيه المائة، هو القرن الخامس الميلادي؛ لأننا لم نجد نقشًا عربيًّا يرجع تاريخه إلى هذا القرن. وكذلك لم نعثر في القرن الرابع إلا على نقش واحد يرجع إلى ثلثه الأول، وأما ثلثاه الأخيران فخاليان أصمان. ولم يعثر في القرن السادس إلا على نقشين: أولهما في سنواته الأولى "سنة 511م"، والآخر بعد منتصفه "سنة 568م"، وما بينهما نصف قرن صامت مصمت. ومن هنا كان لا بد للدارس الذي يريد تتبع البحث من أن يملأ هذه الفجوات بالاستنتاج والاستنباط.   1 يقول ليتمان: إن مفسد خيبر إنما يشير إلى غزوة أحد أمراء بني غسان لخيبر، ويستدل بقول ابن قتيبة "المعارف، طبعة وستنفيلد: 313": ثم ملك بعده الحارث بن أبي شمر ... وكان غزا خيبر، فسبى من أهلها ثم أعتقهم بعد ما قدم الشام "ولفنسون: تاريخ اللغات السامية: 192" 2 انظر: جواد علي، تاريخ العرب قبل الإسلام 1: 195-196، 201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وأما النقيصة الثالثة -وهي أخطرها في نظرنا- فهي أن هذه النقوش كلها قد اكتشفت في المنطقة الشمالية من بلاد العرب التي تمتد من العلا ومدائن صالح إلى شمال بلاد حوران؛ وأما مُوْسَط بلاد العرب وصميمها: الحجاز ونجد، فلم يُعثر -حتى الآن- على شيء من النقوش الجاهلية فيها. فإذا كانت هذه النقوش بكلماتها الفصيحة وخطها العربي قد اكتشفت في منطقة كانت مسرحًا لآثار ورواسب من الثمودية والآرامية والنبطية لغة وخطًّا، فكيف تكون هذه النقوش التي قد تكتشف في الحجاز ونجد؟ وإذا كانت اللغة الفصيحة والقلم العربي قد نُقِشا في تلك المنطقة منذ أوائل القرن الرابع الميلادي -بل ربما قبله- فإلى أي عهد ترجع بنا نقوش الحجاز ونجد؟ ومن تمام هذا البحث أن نشير إلى الكتابات العربية التي يرجع تاريخها إلى صدر الإسلام -عصر الرسول الكريم وخلفائه الراشدين- وذلك ليستبين لنا مدى الشبه -بل المطابقة- بينهما وبين هذه النقوش الجاهلية، وخاصة في طورها الأخير: نقش حران. وهذه الكتابات الإسلامية على ضربين: نقوش وكتابة. 1- النقوش: 1- نقش القاهرة، وهو مؤرخ في سنة 31 للهجرة -أي في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه- وهو محفوظ في دار الآثار العربية "انظر صورة رقم 9". ب- وقد كان يُظَن أن نقش القاهرة أقدم نقش إسلامي عُثر عليه، ولكن الدكتور محمد حميد الله عثر على عدة نقوش على قمة الطرف الجنوبي لجبل سلع في المدينة المنورة خارج سورها الشمالي. ويرجح الدكتور حميد الله أن هذه النقوش ترجع في تاريخها إلى غزوة الخندق في السنة الخامسة للهجرة1.   1 M. Hamidullah, Some Arabic Inscriptions of Medinah of the Early Years of Hijrah, Islamic Culture, Vol 13 No. 4, Octobr 1939, p. 427 seq. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 2- الكتابات: وهي ثلاث أرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس عظيم القبط في مصر، وإلى المنذر بن ساوى، وإلى النجاشي في الحبشة. وقد عثر على ما يظن أنه الأصول الحقيقية لهذه الرسائل. وقد كتب الدكتور حميد الله بحثًا قيمًا في مجلة "ISLAMIC CULTURE" عرض فيه صورتين لرسالتي المنذر والمقوقس "انظر رسالة المنذر صورة رقم 10" وتحدث مفصلًا القول في اعتراضات بعض المستشرقين على صحة هذه الرسائل وأصالتها، وفندها جميعها، وانتهى إلى أن هذه الاعتراضات لا تثبت أمام البحث العلمي الدقيق. ومع ذلك فهو، في بحثه السليم، يتوقف توقف العالم المتثبت، فلا يقطع بصحة هذه الأصول، بل يكتفي برد تلك الشبهات التي حامت حول صحتها، ثم يدعها قائمة تنتظر نفيًا أو إثباتًا جديدين. ومهما يكن من أمر، فنحن -في بحثنا هذا- في موقف بعيد عن هذه المزالق، وذلك أننا نكتفي بهذه النقوش الإسلامية التي اكتشفت على الحجر والصخر والتي ترجع إلى صدر الإسلام، وهي أصول ثابتة يقينية -مهما يكن تاريخ نقوش جبل سلع- نعتمد عليها في أمر واحد لا نعدوه، هو تبيان هذا التشابه بين كتابة صدر الإسلام وكتابة العصر الجاهلي الأخير، وإظهار أنه ليس بينها من فروق إلا ما يقتضيه عامل الزمن من تطور. فقد كان العرب إذن يكتبون في جاهليتهم ثلاثة قرون على أقل تقدير بهذا الخط الذي عرفه بعد ذلك المسلمون. وقد أصبحت معرفة الجاهلية بالكتابة، معرفة قديمة، أمرًا يقينيًّا، يقرره البحث العلمي القائم على الدليل المادي المحسوس؛ وكل حديث غير هذا لا يستند إلا إلى الحدس والافتراض. ولا ريب في أن ما سيُعثر عليه في مُقبل الأيام من نقوش في قلب الجزيرة سيدعم رأي الذين يذهبون إلى أن عرب الجاهلية كانوا يعرفون الكتابة منذ قرون قبل الإسلام، وسيلقي كثيرًا من النور على ما لا يزال خافيًا من أجزاء الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 النقط والشكل والإعجام : وهذه النقوش تقودنا إلى الحديث في نقطة أخرى لها خطرها الكبير في تاريخ الكتابة العربية في الجاهلية. ونحن نعرض في هذا الموضوع ما وصلنا إليه في بحثنا؛ وسنكتفي بالعرض المجرد وحده، لا نثبت ولا ننفي، فحسبنا أن نثير هذا الموضوع ونجعله ميدانًا للبحث لعل مُقبل الأيام يتكفل بجلائه ويمدنا بما نستطيع أن نلقي به القول الفصل مطمئنين واثقين. تلك هي مسألة النقط والإعجام. فهذه النقوش التي عرضناها جميعًا خالية من النقط خلوًّا كاملًا، فليس فيها حرف واحد منقوط، وكذلك كانت الكتابة النبطية -التي يرجح أن الخط العربي مشتق منها ومتطور عنها- لا تعرف النقط والإعجام1. وقد كان من الجائز أن نقف عند هذا الحد الذي أوقفتنا عنده هذه النقوش، وأن نردد مع جميع الباحثين قبلنا رأيهم في أن الكتابة العربية، في أول نشأتها، كانت غير منقوطة، بل إنها استمرت خالية من النقط حتى زمن عبد الملك بن مروان2. ولكن وجهًا آخر استبان لنا في أثناء الدراسة فوجدنا حقًّا علينا أن نعرضه. وخلاصة ذلك أننا عثرنا في خلال بحثنا على قول أورده القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه "العواصم من القواصم"، قال3: "وكان نقل المصحف إلى نسخه على النحو الذي كانوا يكتبونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابة عثمان وزيد وأبي وسواهم من غير نقط ولا ضبط. واعتمدوا هذا النقل ليبقى بعد جمع الناس على ما في المصحف نوع من الرفق في القراءة باختلاف الضبط".   1 خليل يحيى نامى، أصل الخط العربي وتاريخ تطوره إلى ما قبل الإسلام، ص87. 2 انظر كتاب التنبيه على حدوث التصحيف لحمزة الأصفهاني "ورقة 37-40" حيث يذكر أن الحجاج أمر كتابه أن يضعوا للحروف المشتبهة -مثل الباء والتاء والثاء والنون- علامات تميزها. 3 ج2 ص196-197 "ط. الجزائر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وقد استوقفنا كلام ابن العربي على غموضه وحاجته إلى فضل بيان يوضحه، فلما قرأنا ما سنعرضه من كلام ابن الجزري كان خير موضح، قال1 " ... ثم إن الصحابة رضي الله عنهم لما كتبوا تلك المصاحف جردوها من النقط والشكل ليحتمله ما لم يكن في العرضة الأخيرة مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما أخلوا المصاحف من النقط والشكل لتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوين شبيهةً بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين. فإن الصحابة رضوان الله عليهم تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمر الله تعالى بتبليغه إليهم من القرآن: لفظه ومعناه جميعًا، ولم يكونوا ليسقطوا شيئًا من القرآن الثابت عنه صلى الله عليه وسلم ولا يمنعوا من القراءة به". وقول ثالث رُوِي عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال2 "جردوا القرآن ليربو فيه صغيركم ولا ينأى عنه كبيركم.." وقد ذكر الزمخشري شارحًا قول ابن مسعود أنه "أراد تجريده من النقط والفواتح والعشور لئلا ينشأ نشء فيرى أنها من القرآن". وهذه الأقوال الثلاثة يُفهم منها أن النقط أمر قد كان معروفًا قبل كتابة مصحف عثمان، ثم عدل عنه عدلًا مقصودًا، وجرد القرآن منه تجريدًا متعمدًا. والقول في "تجريد" القرآن طويل، ونحن نعلم أن من ضمن ما يقصد من "التجريد" أن يُكتب القرآن وحده في الصفحة لا يختلط به شيء من التفسير أو الحديث أو القصص أو أية كتابة أخرى، لئلا يختلط على القارئ فيتوهم أن جميع المكتوب هو من القرآن الكريم. ولكن كلام الزمخشري وابن العربي وابن الجزري واضح وضوحًا لا لبس فيه، وهو ينص على أن "تجريد القرآن" يتضمن تجريده من النقط أيضًا. وقد يكون المقصود من النقط هنا "النقط بالنحو" أي نقط أبو الأسود   1 النشر في القراءات العشر "ط. دمشق" ص32-330. 2 الزمخشري، الفائق 1: 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الدؤلي، وهو بيان حركات أواخر الكلام بوضع نقطة فوق الحرف للدلالة على الفتحة، ونقطة تحت الحرف للدلالة على الكسرة، ونقطة بين يدي الحرف للدلالة على الضمة، بحبر يخالف لونه لون حبر الكتابة نفسها1. ومع تقريرنا لهذا المعنى فإننا نرى في قول ابن الجزري: "وإنما أخلوا المصاحف من النقط والشكل لتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوين شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين" تفريقًا بين النقط والشكل، وذكرًا لكل منهما وحده؛ ونرى كذلك أن تجريد الكلمات من النقط لاحتمال الكلمة القراءات المختلفة يقتضي أن يكون من معاني النقط المعنى الذي نفهمه منه اليوم. وللقراءات التي تحتملها الكلمة الواحدة الخالية من النقط أمثلة كثيرة2، لعل أوضحها وأشهرها ما ورد في سورة النساء آية 94: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} وفي قراءة: "فتثبتوا" ورسم هذه الكلمة "فسوا" محتمل للقراءتين. كانت إذن هذه الأقوال الثلاثة: قول الزمخشري وابن العربي وابن الجزري، أول ما وقفنا عند أمر النقط، فمضينا في أثناء بحثنا نجمع من الروايات والنصوص والأدلة ما قد يدعم هذا الوجه؛ فكان من ذلك:   1 انظر لبيان المقصود بنقط المصحف: السجستاني، كتاب المصاحف: 143؛ وانظر لبيان نقط أبي الأسود: ابن النديم، الفهرست ص60، والسيرافي: 15-18. 2 انظر بعض هذه الأمثلة في كتاب جولد تسير: المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن، ترجمة علي حسن عبد القادر، ص4-6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 1- ما رواه الفراء قال1: "حدثني سفيان بن عيينة، رفعه إلى زيد ابن ثابت، قال: كتب في حجر: ننشزها، ولم يتسن، وانظر إلى زيد بن ثابت فنقط على الشين والزاي أربعًا، وكتب "يتسنه" بالهاء". 2- ورُوِي عن ابن عباس قال2: "أول من كتب بالعربية ثلاثة رجال من بولان، وهي قبيلة سكنوا الأنبار، وأنهم اجتمعوا فوضعوا حروفًا مقطعة وموصولة، وهم: مرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة -ويقال مروة وجدلة- فأما مرامر فوضع الصور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام". وقد ذكرنا في صدر هذا البحث أن صحة هذه الرواية وأمثالها عن أصل الخط العربي لا تعنينا في شيء، ونحن هنا لا نسوقها إلا لأمر واحد لا نعدوه، وذلك أن في هذا القول لابن عباس -إن كان قاله- دليلًا واضحًا على أن ابن عباس كان يعرف الإعجام، وأن من قبله كانوا يعرفونه؛ وأما إن لم يكن قاله فما زال يحمل من الدلالة ما لا يصح معها أن نغفله، وذلك أن واضع هذا القول وناسبه إلى ابن عباس كان لا بد يعرف أن ابن عباس كان يعرف الإعجام وإلا لما قبل الناس قوله. 3- وقد ذكر السجستاني أن "الحجاج بن يوسف غيَّر في مصحف عثمان أحد عشر حرفًا، قال: ... وكانت في يونس "آية 22" "هو الذي ينشركم" فغيره "يسيركم". وقد نقبل أن يكون الحجاج هو الذي نقط هذه الكلمة وكانت من قبل غير منقوطة كما يزعمون، ولكن أن يكون غير نقطها فذلك هو ما نقف عنده،   1 معاني القرآن 1: 172-173. 2 مصاحف السجستاني: 49، 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ونفهم منه أنها كانت منقوطة قبله، ثم غير هذا النقط، وإلا فالكلمة من غير نقط تحتمل الوجهين ولا سبيل إلى ذكر أن الحجاج قد غير نقطها. 4- ولقد كانت الكتابة الحميرية والصفوية والثمودية واللحيانية، والكتابة النبطية التي يرجح أن الكتابة العربية مشتقة منها -كانت كل هذه الكتابات غير منقوطة1، ولكن المدقق فيها يجد أن الكثرة الغالبة من حروفها يختلف بعضها عن بعض اختلافًا يمنع اللبس والاختلاط، ومن هنا لم تكن في حاجة إلى نقط. وأما الخط العربي فكثير من حروفه متشابهة في الكتابة تشابهًا كاملًا، مختلفة في الصوت اختلافًا تامًّا؛ ولا سبيل إلى التفرقة بينها إلا بالنقط، بل إن هذا التشابه العجيب بين الحروف ليكاد يجعلنا نظن أن الحرف منذ أن وجد وجد معه نقطه، وأن النقط ضرورة من ضرورات هذه الحروف منذ نشأتها2، إلا إذا كان يفرق بينها بوسيلة أخرى من وسائل الخط توضحها وتمنع اختلاطها مع غيرها. وإلا لكانت الكتابة، وخاصة الطويلة منها، عسيرة القراءة لا سبيل إلى فهمها. ولا عبرة في تجريد القرآن الكريم فإن الأصل فيه أن يكون محفوظًا في الصدر، وأن يرجع الحافظ إلى الكتاب للتذكر، أو أن يتلقاه المتعلم من معلم يحفظه إياه ثم يعود إلى الكتاب للاستذكار. 5- ومن أوضح الأحاديث وأصرحها عن النقط ما أورده ابن السيد البطليوسي وهو يتحدث عن الكتاب، قال3: ".. فإذا نقطته قلت: وشمته وشمًا،   1 انظر جرائد حروف هذه اللغات في ولفنسون، تاريخ اللغات السامية ص179 وص200. 2 وفي ذلك يقول القلقشندي "صبح الأعشى 3: 155" "والظاهر ما تقدم، يعني: أن الإعجام موضوع مع وضع الحروف؛ إذ يبعد أن الحروف قبل ذلك مع تشابه صورها كانت عرية عن النقط إلى حين نقط المصحف"، وانظر كذلك كتاب مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم للمولى أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زادة ج1 ص80. 3 الاقتضاب في شرح أدب الكتاب: 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ونقطته نقطًا، وأعجمته إعجامًا، ورقمته ترقيمًا". وكان من اليسير علينا أن نمر بهذا القول مرًّا هينًا ثم نتجاوزه من غير أن نقف عنده، معتقدين أنه ينصرف إلى أزمنة تالية للقرن الأولى الهجري لولا أن ابن السيد نفسه يستشهد -بعد قوله المتقدم- بأشعار جاهلية فقد أورد -دليلًا على هذه الألفاظ الدالة على النقط- أبياتًا لأبي ذؤيب والمرقش وطرفة. قال أبو ذؤيب: برقم ووشم كما نمنمت ... بميشمها المزدهاة الهدى وقال المرقش: الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم وقال طرفة: كسطور الرق رقشه ... بالضحى مرقش يشمه وقد كدنا ننسب قول ابن السيد إلى التعجل والتسرع وإغفال الدقة في تحديد أزمان الألفاظ -فقد كان يبدو لنا أن الوشم والرقم والترقيش، في هذه الأبيات، لا تعني أكثر من تجويد الخط وتحسينه، لولا أن الأعلم الشنتمري يذكر ما ذكره ابن السيد. قال الأعلم في شرح بيت طرفة المتقدم1: "وقوله: كسطور الرق: شبه رسوم الربع بسطور الكتاب، ومعنى رقشه: زينه وحسنه بالنقط" ولولا أن أبا علي القالي قد ذهب إلى ذلك أيضًا، قال2: "رقشت الكتاب رقشًا ورقشته: إذا كتبته ونقطته". ثم استشهد ببيت طرفة. 6- وربما كان أخطر ما يوجه إلى من يدعي نقط الكتابة في الجاهلية هو هذه النقوش الجاهلية الخالية من النقط. وهو دليل لا سبيل إلى إنكاره، وإن كان لا بأس في التحدث عنه حديثًا قد يكون فيه بعض حجة؛ وذلك أن   1 ديوان طرفة "ط. شالون سنة 1900" ص69. 2 الأمالي 2: 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 جميع ما عثرنا عليه من الكتابة الجاهلية كان نقوشًا على الحجر والصخر، وكان سطورًا قلائل بل كلمات معدودات؛ ولم نعثر على كتابة جاهلية على الرق أو البردي مثلًا كثيرة السطور والكلمات. فربما كان عدم النقط ناجمًا عن اطمئنان الكاتب إلى أن كلماته هذه المنقوشة في نجاة من التصحيف والخلط في القراءة؛ لأنها أسماء أعلام، وسنوات، وكلمات بينهما من اليسير معرفتها؛ وربما كان مما يسوغ له إهمال النقط فوق ذلك صعوبة فنية ومشقة عملية في النقش. 7- ولعل خير ما يدعم هذه النقطة السابقة من حديثنا: تلك الوثيقة البردية التي يرجع تاريخها إلى سنة 22 هجرية على عهد عمر بن الخطاب وهي مكتوبة باللغتين العربية واليونانية1. والذي يعنينا من هذه البردية أن بعض حروفها منقوط معجم وهي حروف: الحاء والذال والزاي والشين والنون. وكذلك الشأن في نقش وجد بقرب الطائف ومؤرخ في سنة 58 هجرية على عهد معاوية بن أبي سفيان، فإن أكثر حروفه التي تحتاج إلى نقط منقوطة معجمة2. فنحن نرى إذن أن تاريخ الوثيقة البردية وهو سنة 22 هجرية سابق بسنوات كثيرة على ما ذكره الكُتَّاب العرب في نشأة النقط والإعجام، وكذلك هذا النقش المؤرخ في سنة 58 هجرية. وثمة أمر آخر يجدر بنا أن ننبه عليه وهو أن أكثر الوثائق البردية -التي عُثر عليها مؤرخةً في القرن الأول الهجري- غير منقوطة ولا معجمة، وذلك يعني أن إهمال النقط فيما عثرنا عليه من نقوش جاهلية ضرورة أن النقط لم يكن معروفًا مستعملًا؛ لأن إهمال النقط في النقوش وأوراق البردي الإسلامية لم يمنع وجود وثائق ونقوش منقوطة. وجدير بالذكر أن إهمال   1 صورة هذه البردية في كتاب الدكتور جروهمان from the world of Islamic papyri, p. 11 "a" ووصفها ونصها مع ترجمتها في ص113-114؛ ثم انظر ص82 من الكتاب نفسه. 2 انظر مقالة: ج. س. مايلز عن: النقوش الإسلامية المبكرة بقرب الطائف في الحجاز GG. Miles Early islamic inscriptions Near Taif in the Hijaz JNES. 7 "1948" وصورة النقش هناك رقم 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 النقط أمر كان شائعًا في العهود الإسلامية قرونًا متوالية، بل لقد عد بعضهم الإعجام والنقط مما لا يليق في الكتب والرسائل؛ لأنه يدل على أن الكاتب يتوهم فيمن يكتب إليه الجهل وسوء الفهم1. وحسبنا ما قدمنا عن النقط، ونحن أول من يعرف أن هذا كله لا يقوم وحده دليلًا قاطعًا على وجود النقط قبل الإسلام، ولكننا أحببنا أن نثبته للأسباب التي قدمناها، فلعل غيرنا قادر من بعدنا على الوصول إلى مفصل من الأمر يتم به ما بدأنا.   1 قال أبو بكر الصولي في كتابه أدب الكتاب ص57-58 "كره الكتاب الشكل والإعجام إلا في المواضع الملتبسة من كتب العظماء إلى من دونهم. فإذا كانت الكتب ممن دونهم إليهم ترك ذلك في الملتبس وغيره؛ إجلالًا لهم عن أن يتوهم عنهم الشك وسوء الفهم، وتنزيهًا لعلومهم وعلو معرفتهم عن تقييد الحروف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 تعلم الكتابة في الجاهلية وشيوعها : -1- لم يُعن القدماء من المسلمين -فيما وصل إلينا من كتبهم- بدراسة مناحي الحياة الجاهلية دراسة مفصلة، تتناول أجزاءها ودقائقها في كتب أو رسائل مفردة، يختص كل كتاب بمنحى من مناحي تلك الحياة المتشعبة. ولا يعني ذلك أن هؤلاء القدامى قد أغفلوا الجاهلية إغفالًا، بل لا يكاد كتاب عربي قديم يخلو من ذكر الجاهلية وحياة أهلها، ولكن الحديث عن هذه الجاهلية لم يكن يُقصد لذاته، فتسبر أغواره ويلم شتاته، وإنما كان يُقصد لغيره من موضوعات العصور الإسلامية التي كانوا يكتبون فيها، فيستطردون للحديث عن الجاهلية: متمثلين مستشهدين، أو مقابلين موازنين، أو واعظين منذرين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أو ممهدين بين يدي حديثهم الأصيل تمهيدًا موجزًا يدخلون منه إلى الحديث عما يقصدون فيكاد يكون حديثهم عن الجاهلية حديثًا عابرًا منثورًا نثرًا متباعدًا في تضاعيف كتبهم وثنايا رسائلهم. ومن هنا كان لا بد للدارس المدقق، الذي يبحث في العصر الجاهلي، من أن يقرأ الكتاب العربي القديم قراءة متمعنة دقيقة، يجرده فيها جردًا كاملًا من عنوانه حتى ختامه، لا يغنيه عن ذلك تبويب الكتاب، ولا هذه الفهارس الدقيقة الشاملة التي يضعها المحدثون للطبعات الحديثة من تلك الكتب القديمة. وكان من أثر هذا الذي قدمنا أن أخبار حضارة الجاهلية جاءت في هذه الكتب ناقصة شائهة، ثم متناقضة متنافرة في الكتاب الواحد للمؤلف الواحد. ولكن الصفة الغالبة والسمة الظاهرة التي لا يكاد يشذ عنها كتاب قديم، هي وصف تلك الجاهلية بأنها كانت قليلة الحظ من كل عمران ورقي، بعيدة عن كل مظهر من مظاهر الحضارة والمدنية، وأن العرب كانوا أمة أمية جاهلة لا حظ لها من علم أو معرفة أو كتابة. ولتجهيل الجاهلية في الكتب العربية أمثلة عديدة أكثر من أن تُستقصى، وحسبنا منها بعضها الذي يشير إلى أميتهم وجهلهم بالكتابة: قال الجاحظ1: "وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال.. ثم لا يقيده "العربي" على نفسه ولا يدرسه أحدًا من ولده. وكانوا أميين لا يكتبون". مع أن الجاحظ نفسه، الذي ينكر على العرب معرفتهم بالكتابة، ويعمهم بوصف الأمية، لا ينكر على أي جنس من الأجناس وأمة من الأمم ذلك، فيقول2: "وليس في الأرض أمة بها طرق أو لها مسكة، ولا جيل لهم قبض وبسط، إلا ولهم خط ... ". وابن سعد في طبقاته يسمِّي عددًا كبيرًا من الرجال كانوا يكتبون في الجاهلية،   1 البيان والتبيين 3: 28. 2 الحيوان 1: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ولكنه لا يكاد يذكر ذلك حتى يعقب عليه بقوله: "وكانت الكتابة في العرب قليلة". وهو يقول ذلك في كل مرة يذكر فيها كاتبًا في الجاهلية، لا يكاد يُخِل بذلك مرة واحدة، ذلك مع أننا جمعنا من كتابه وحده عددًا وافرًا من الأخبار عن الكتابة في الجاهلية وأسماء الذين كانوا يكتبون. ومن أمثلة ذلك أيضًا ما يردده بعضهم من أنه لم يكن أحد يكتب بالعربية حين جاء الإسلام إلا بضعة عشر نفرًا1. وهذا عبد القادر البغدادي صاحب الخزانة يورد بيت الحطيئة2: سيرى أمام فإن الأكثرين حصًا ... والأكرمين، إذا ما ينسبون، أبا ثم يقول: "معنى الحصا: العدد، وإنما أطلق على العدد؛ لأن العرب أميون لا يقرءون ولا يعرفون الحساب، إنما كانوا يعدون بالحصا، فأطلق الحصا على العدد!! " أفبعد هذا تجهيل؟ أو بعد هذا أمية وبدائية؟ 3. وكان من أثر هذه المحاولة التي ترمي إلى تجهيل الجاهلية أن امتد أثرها إلى تجهيل الصحابة أنفسهم -رضي الله تعالى عنهم- بالكتابة، ونعتهم بالأمية. وما ذلك إلا مبالغة في وصم الجاهلية نفسها بهذا الجهل؛ لأن هؤلاء الصحابة، أو كثرتهم الكاثرة، إنما نشئوا وتم تكونهم الثقافي الفكري في الجاهلية. فقد قال عالم جليل هو ابن قتيبة حين تعرض في حديثه لسماح الرسول الكريم لعبد الله بن عمرو بتقييد الحديث، قال ابن قتيبة4: "لأنه "أي عبد الله بن عمرو" كان قارئًا للكتب المتقدمة، ويكتب بالسريانية والعربية، وكان غيره من الصحابة   1 ابن عبد ربه، العقد 4: 242. 2 الخزانة، سلفية 3: 260-261، والبيت في ديوان الحطيئة: 6. 3 ومع ذلك فإن في هذا الكلام وجه حق لو أنه حدد ووضح ونص على أن كلمة "أحصى" من أقدم الكلمات تاريخًا في اللغة العربية؛ لأنها شاهدة على أنها كانت تعيش في الزمن الأول البدائي الذي كان العرب فيه لا يعرفون الحساب وإنما يعدون بالحصى. 4 مختلف الحديث "ط. مصر" 1326 ص365-366. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 أميين، لا يكتب منهم إلا الواحد والاثنان، وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي". ولا ريب أن هذا القول من ابن قتيبة افتئات على الحقيقة التاريخية، وتعميم لا سند له من الحق. ولو قال ابن قتيبة إن بعض الصحابة كان أميًّا لكان قوله سليمًا لا ريب فيه، أو لو قال إن أكثر الصحابة كان أميًّا لقبلنا هذا القول على أنه حق أو على أنه تجوز وتعميم لا يبعدان عن الحق كثيرًا. أما أن يقول إن الصحابة كانوا "أميين لا يكتب منهم إلا الواحد أو الاثنان" ثم لا يلبث أن يستنكر عليهم أن يكون منهم كاتب واحد أو كاتبان فيستدرك بقوله: "وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي" فذلك هو الإسراف الذي ننكره. وكيف لا ننكره وكتب الطبقات والرجال تعد من الصحابة عشرات بعد عشرات كلهم كاتب ضابط لما يكتب؟ وقد نسي ابن قتيبة في سَوْرة رغبته في تجهيل الجاهلية أن هؤلاء الصحابة الكاتبين إنما تعلم أكثرهم الكتابة في الإسلام لا في الجاهلية، وأن حض الرسول الكريم المسلمين والصحابة على التعلم، وأمره إياهم بتعلم الكتابة خاصة، وعناية المسلمين والصحابة بذلك كلها أمور في غنى عن الإفاضة في الشرح والاستشهاد. ولا بد لنا من أن نستدرك قبل أن نمضي، وننبه على أن القرآن الكريم قد وصف العرب في جاهليتهم بأنهم أميون، وورد ذلك في ثلاث آيات. قال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} [آل عمران: 20] ، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75] ؛ وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُم} [الجمعة: 2] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 غير أن هذا الوصف بالأمية لا يعني -في رأينا- الأمية الكتابية ولا العلمية، وإنما يعني الأمية الدينية، أي أنهم لم يكن لهم قبل القرآن الكريم كتاب ديني، ومن هنا كانوا أميين دينيًّا، ولم يكونوا مثل "أهل الكتاب" من اليهود والنصارى، الذين كان لهم التوراة والإنجيل. ومن الأدلة التي نسوقها للاحتجاج لهذا الرأي أن القرآن الكريم قد وصف فريقًا من أهل الكتاب بالأميين، وذلك في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 78، 79] . فأمية هذا الفريق ليست أمية كتابية؛ لأنه قد أخبر أنهم كانوا يكتبون بأيديهم، وإنما هي أمية دينية، أي جهل بالدين وإنكار له وعدم تصديق، ومن أجل هذا فسر ابن عباس هاتين الآيتين فيما رواه ابن جرير الطبري بإسناده إليه1، قال: "ومنهم أميون؛ قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولًا أرسله الله، ولا كتابًا أنزله الله، فكتبوا كتابًا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هذا من عند الله. وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين، لجحودهم كتب الله ورسله". وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب". فلا ينقض ما قدما من رأي، وذلك لأنه قال ذلك في حديث الصيام عن رؤية الهلال، وفي الحديث بقية، وهو كاملًا: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا".   1 تفسير الطبري، تحقيق محمود محمد شاكر 2: 258-259؛ وانظر كتاب "المرأة في الشعر الجاهلي" للدكتور أحمد محمد الحوفي، ص333-334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فهذا الحديث -أولًا- لا يعني إلا ضربًا خاصًّا من الكتابة والحساب، هو حساب سير النجوم، وتقييد ذلك بالكتابة لمعرفة مطلع الشهر؛ فقد أخبر أن هذا الضرب من العلم المدون المسجل القائم على الحساب والتقويم لم يكن للعرب عهد به، ومن هنا علق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير. وهذا الحديث -ثانيًا- لا يعني نفي الكتابة والحساب نفيًا عامًّا شاملًا, وذلك لأن عرب الجاهلية قد كانوا يكتبون ويحسبون، وإنما هو نفي لأن تكون الكتابة وأن يكون الحساب نظامًا عامًّا متبعًا في كل الشئون كما كان ذلك عند بعض الأمم الأخرى ذات التقاويم الفلكية. ومن أجل هذا رأينا أن الحديث لا ينقض ما قدمنا من أمر معرفة العرب بالكتابة بعد أن أقمنا عليها من الشواهد والأدلة ما أقمنا. -2- لقد فرغنا منذ قليل من الإشارة إلى أن عرب الجاهلية قد عرفوا الكتابة العربية بهذا الخط الذي عرفه الصحابة، رضوان الله عليهم، في صدر الإسلام، وأن معرفة الجاهليين بهذه الكتابة قد امتدت، في الجاهلية، ثلاثة قرون على أقل تقدير، وأن ذلك ثبت بالبرهان القاطع، والدليل المادي الملموس الذي لا سبيل إلى دفعه. وسنفصل القول هنا، وفيما سيتلو من صفحات، في معرفة الجاهلية بالكتابة تفصيلًا يدعم ما أظهرته لنا النقوش الجاهلية ويزيد جوانب الأمر جلاءً ووضوحًا1.   1 من خير ما كتب في هذا الموضوع الفصل الذي عقده الدكتور أحمد محمد الحوفي في كتابه "المرأة في الشعر الجاهلي" من ص327-335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ونحب أن نبدأ حديثنا بإيراد نص لابن فارس، مشرق العبارة، ناصع الحجة، هو خير ما قرأناه في هذا الموضوع. قال ابن فارس بعد أن عرض لذكر بعض الأعراب ممن كان لا يحسن الكتابة1: " ... فأما من حُكي عنه من الأعراب الذين لم يعرفوا الهمز والجر والكاف والدال، فإنا لم نزعم أن العرب كلها، مدرًا ووبرًا، قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها. وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم: فما كل يعرف الكتابة والخط والقراءة، وأبو حية "النميري الذي لم يعرف الكاف" كان أمس، وقد كان قبله بالزمن الأطول من يعرف الكتابة ويخط ويقرأ، وكان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتبون.. أفيكون جهل أبي حية بالكتابة حجة على هؤلاء الأئمة؟ والذي نقوله في الحروف هو قولنا في الإعراب والعروض. والدليل على صحة هذا وأن القوم قد تداولوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحطيئة التي أولها: شاقتك أظعان لليـ ... لي دون ناظرة بواكر فنجد قوافيها كلها عند الترنم والإعراب تجيء مرفوعة، ولولا علم الحطيئة بذلك لأشبه أن يختلف إعرابها؛ لأن تساويها في حركة واحدة -اتفاقًا من غير قصد- لا يكاد يكون. فإن قال قائل: فقد تواترت الروايات بأن أبا الأسود أول من وضع العربية، وأن الخليل أول من تكلم في العروض، قيل له: نحن لا ننكر ذلك، بل نقول إن هذين العِلْمَين قد كانا قديمًا، وأتت عليهما الأيام، وقلَّا في أيدي الناس، ثم جددهما هذان الإمامان، وقد تقدم دليلنا في معنى الإعراب. وأما العروض فمن الدليل على أنه كان متعارفًا معلومًا اتفاق أهل العلم على أن المشركين لما سمعوا   1 الصاحبي: 8-11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 القرآن قالوا -أو من قال منهم-: إنه شعر. قال الوليد بن المغيرة منكرًا عليهم: لقد عرضت ما يقرؤه محمد على أقراء الشعر: هزجه ورجزه وكذا وكذا، فلم أره يشبه شيئًا من ذلك. أفيقول الوليد هذا وهو لا يعرف بحور الشعر؟ ... ومن الدليل على عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم بالعربية كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء والهمز والمد والقصر. فكتبوا ذوات الياء بالياء، وذوات الواو بالواو، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكنًا في مثل "الخبء" و"الدفء" و"الملء" فصار ذلك كله حجة، وحتى كره من العلماء ترك اتباع المصحف من كره". فابن فارس يذهب إذن إلى تقرير معرفة بعض العرب في الجاهلية وصدر الإسلام بالكتابة معرفة دقيقة، ثم يذهب إلى أبعد من هذا حين يقرر معرفتهم بعلوم اللغة وقواعدها وعروضها؛ ويرد على من يذهب إلى استحداث هذه العلوم بعد الإسلام بدهر ردًّا يغنينا عن أن نتصدى نحن له. ومع أن ابن فارس قد قيد كلامه هذا بقوله: "فإنا لم نزعم أن العرب كلها: مدرًا ووبرًا، قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها، وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم: فما كل يعرف الكتابة والخط والقراءة ... "، نقول: مع أن ابن فارس قيد كلامه وحصر معرفة العرب بهذه العلوم في أهل المدر والبيئات المتحضرة، إلا أننا، فضلًا عن ذلك، نستبعد أن يكون العرب، حتى أهل المدر، قد عرفوا النحو والعروض من حيث هما علمان لهما مصطلحات وقواعد، بالمعنى الذي عرفه المسلمون بعد ذلك. والأرجح أن ابن فارس يقصد أن العرب كانوا يعرفون من أمر النحو ومن أمر العروض وعيوب القافية ما يستطيعون به أن يميزوا الصحيح من الخطإ، وما أصبح بعد ذلك أساسًا لعلمي النحو والعروض. فإن كان ابن فارس يعني هذا الذي قدمناه، فإننا نحب أن نضيف إلى ما أورد أمثلة أخرى تسند أمثلته وتقويها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فمن أمثلة ما ذكره عن معرفة الجاهليين بالعروض ما أورده ابن سعد والزمخشري في حديث إسلام أبي ذر الغفاري1، وذلك قول أبي ذر: "قال لي أخي أنيس: إن لي حاجة بمكة. فانطلق، فراث، فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلًا على دينك يزعم أن الله أرسله. قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: ساحر كاهن شاعر. وكان أنيس أحد الشعراء فقال: والله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلا يلتئم على لسان أحد..". ومثل ثانٍ لمعرفتهم بالعروض وعيوب القافية، ما ذكره أبو عبيدة قال2: "حدثني أبو عمرو بن العلاء قال: فحلان من الشعراء كانا يقويان: النابغة وبشر بن أبي خازم: فأما النابغة فدخل يثرب فغُنِّى بشعره، ففطن فلم يعد إلى إقواء. وأما بشر فقال له سوادة أخوه: إنك تقوى. فقال له: وما الإقواء؟ " وفي رواية أخرى "فقال له أخوه سمير: أكفأت وأسأت. فقال: وما ذاك؟ ". فقد كان القوم إذن يعرفون الإكفاء والإقواء، وإن جهله أحدهم أو بعضهم فاحتاج إلى من يذكِّره به ويعرفه إياه. ومثل ثالث: تلك القصة التي جرت بين النابغة الذبياني وحسان بن ثابت3، ولا يعنينا منها إلا قول النابغة لحسان حين أنشده قصيدته التي فيها: لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما قال النابغة: "أقللت جفانك وأسيافك! " وذلك لأن "أسيافًا" جمع لأدنى العدد، والكثير "سيوف"، و"الجفنات" لأدنى العدد، والكثير "جفان". فهل كان النابغة يعرف جموع القلة وجموع الكثرة؟ لست أدري لم ننكر عليه ذلك بالمعنى الذي أوضحناه، إلا أن يكون إنكارنا ضربًا من ضروب "تجهيل الجاهلية" الذي أسلفنا الإشارة إليه.   1 الطبقات الكبير 4/ 1: 161-162، والفائق 1: 518. 2 المرزباني، الموشح: 59. 3 الموشح: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فإذا كان القوم، أبو بعض القوم، يعرفون الكتابة وبعض ضروب المعرفة الأخرى فأين تراهم تعلموها؟ أتناقلوها تناقلًا شفهيًّا عابرًا من غير أن يقصدوا إلى تعلمها قصدًا، ومن غير أن يعمدوا إلى معرفتها عمدًا؟ أم أخذوها عن مسلمين كانوا منقطعين إلى تعليمها في أماكن خاصة أعدت لتلقي هذه الضروب من المعرفة؟ أما وجود المعلمين في الجاهلية فأمر ثابت منصوص عليه في وضوح لا يقبل الشك، فقد عقدت بعض المصادر العربية فصلًا خاصًّا أثبتت فيه جريدة بأسماء المعلمين في الجاهلية والإسلام1. فمن هؤلاء المعلمين في الجاهلية: عمرو بن زرارة، وكان يسمى كذلك الكاتب؛ وغيلان بن سلمة بن معتب، جاهلي أسلم يوم الطائف، والطائف هي التي أخرجت، بعد غيلان، يوسف بن الحكم الثقفين وابنه الحجاج بن يوسف المعلمين فيها، وشهرة الطائف، وقبيلة ثقيف خاصة، بالكتابة وإتقانها منذ الجاهلية، دعت عمر بن الخطاب إلى أن يجعل كتبة المصحف من قريش وثقيف، ودعت عثمان بن عفان إلى أن يقول: "اجعلوا؟؟؟ من هذيل والكاتب من ثقيف". بل إن هذه المصادر لتذكر أن بشر بن عبد الملك السكوني لم يمنعه شرفه، ولا كونه أخا أكيدر صاحب دومة الجندل، من أن يكون معلمًا في الجاهلية. وأما تعلم الكتابة في مدارس خاصة بهذا الغرض فأمر لا يقل عن سابقه يقينًا وثباتًا، فقد ذكر ابن سعد والطبري2 أن جفينة -وكان نصرانيًّا من أهل الحيرة ظئرًا لسعد بن أبي وقاص- أقدمه للصلح الذي بينه وبينهم، وليعلم بالمدينة الكتابة. وذكر البلاذري نقلًا عن الواقدي أنه3: "كان الكتاب في الأوس   1 ابن حبيب، المحبر: 475؛ وابن رسته، الأعلاق النفيسة: 216. 2 الطبقات 3/ 1: 258، وتاريخ الطبري "مصر" 5: 42. 3 فتوح البلدان "مصر": 479. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 والخزرج قليلًا، وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، وكان يعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول، فجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون". وذكر الطبري أنه1 "حين نزل خالد بن الوليد الأنبار رآهم يكتبون العربية ويتعلمونها". وقال ياقوت2: إن خالد بن الوليد لما خرج إلى عين تمر وجدوا في كنيسة صبيانًا يتعلمون الكتابة في قرية من قرى عين التمر يقال لها النقيرة، وكان فيهم حمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقال أمية بن أبي الصلت يمدح بني إياد3: قوم لهم ساحة العراق إذا ... ساروا جميعًا والقط والقلم وذكروا كذلك أن عدي بن زيد العبادي حين نما "وأيفع طرحه أبوه في الكُتَّاب"4 حتى حذق العربية. وكما كانت الكتابة في الجاهلية تدرس وتعلم في الكُتَّاب، كانت للعلم مجالس تعقد فتتدارس فيها الأخبار والأشعار والأنساب. قال ابن عباس رضي الله عنه5: "كانت قريش تألف منزل أبي بكر رضي الله تعالى عنه لخصلتين: العلم والطعام، فلما أسلم أسلم عامة من كان مجالسه". وكان في الجاهلية من ينصب نفسه لتعليم الأخبار وقصص التاريخ، فيقصده من يقصده يستمليها ويكتبها، وقد أنبأنا النبأ اليقين بذلك كتاب الله، قال تعالى6: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} .   1 تاريخ 4: 20. 2 معجم البلدان "نقيرة". 3 ابن هشام، السيرة 1: 48. 4 الأغاني 2: 101. 5 الجاحظ، البيان والتبيين 4: 76. 6 سورة الفرقان: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وذهب المفسرون والمؤرخون إلى أن هذه الآية نزلت في بعض من كان يقول ذلك، مثل: النضر بن الحارث، الذي "كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا فدعا فيه إلى الله تعالى، وتلا فيه القرآن، وحذر فيه قريشًا ما أصاب الأمم الحالية خلفه في مجلسه إذا قام، فحدثهم عن رستم السنديد، وعن اسفنديار، وملوك فارس، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثًا مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين، اكتتبها كما اكتتبتها"1. فقد كان إذن في الجاهلية معلمون يعلمون القراءة والكتابة وضروبًا من العلم، منها: أخبار الأولين وقصص التاريخ؛ وقامت في البيئات الجاهلية المتحضرة مثل: مكة والمدينة والطائف والحيرة والأنبار وغيرها مدارس يتعلم فيها الصبيان الكتابة العربية. -3- ولشيوع الكتابة في الجاهلية أمثلة أخر كثيرة، لعل من أنصعها بيانًا ما أورده الجهشياري2، وابن عبد ربه3، والمسعودي4، من ذكر أسماء الذين كتبوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد جعلوهم مراتب، وقدروهم منازل: فكُتَّاب يكتبون بين يديه صلى الله عليه وسلم فيما يعرض من أموره وحوائجه، وآخرون يكتبون بين الناس المداينات وسائر العقود والمعاملات، وآخرون يكتبون أموال الصدقات، وكاتب يكتب خرص الحجاز5، وآخر يكتب مغانم رسول   1 ابن هشام، السيرة1: 383-384. 2 كتاب الوزراء والكتاب: 12-14. 3 العقد 4: 246. 4 التنبيه والإشراف: 245-246. 5 الخرص "بفتح الخاء": حزر ما على النخل من الرطب تمرًا "أي تقديره"؛ وكم خرص أرضكم "بكسر الخاء"، أي: ما خواص فيها. فالمصدر بالفتح، والاسم بالكسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الله صلى الله عليه وسلم، وثالث يكتب إلى الملوك ويجيب رسائلهم ويترجم بالفارسية والرومية والقبطية والحبشية، وكتاب آخرون يكتبون الوحي. ثم يعقب المسعودي بعد أن ينتهي من ذكر أسماء هؤلاء الكتاب واختصاصهم بقوله: "وإنما ذكرنا من أسماء كتابه صلى الله عليه وسلم من ثبت على كتابته، واتصلت أيامه فيها، وطالت مدته، وصحت الرواية على ذلك من أمره، دون من كتب الكتاب والكتابين والثلاثة إذ كان لا يستحق بذلك أن يُسمى كاتبًا ويضاف إلى جملة كُتَّابه". فأي شيوع نرجوه للكتابة أكثر من أن يبلغ الكاتبون من الكثرة منزلة تجعلهم يتخصصون في أنواع ما يكتبون، يستقل كل فرد منهم أو كل جماعة بضرب واحد؟ وما أكثر هؤلاء الكتاب الذين يورد المسعودي ما شاء من أسمائهم ثم يقول إنه أغفل تسمية الذين كتبوا الكتاب الواحد والكتابين والثلاثة إذ كانوا لا يستحقون بذلك أن يُسموا كتابًا!! إن هذه الكثرة في عدد الكاتبين هي التي دعت عمر بن الخطاب إلى أن يقول1: "لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف"، ودعت كذلك عثمان بن عفان إلى أن يقول: "اجعلوا المملي من هذيل والكاتب من ثقيف"؛ إذ لو كانت الكتابة قليلة بين العرب لقبل عمر وعثمان من أي كاتب أن يكتب، فحسبهما أن يعثرا على كاتب، ولما كان لهما هذا المجال للانتقاء والاختيار. وعلى ضوء ما قدمنا نستطيع أن نفهم فداء الأسرى في بدر حين أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لمن كان كاتبًا من الأسرى أن يفدي نفسه بتعليم عشرة من صبيان المسلمين الكتابة والقراءة2. إذ لا ريب أن هذا الإذن لم يكن منصبًّا على حالة فردية، وإنما يدل على أن هؤلاء الكاتبين من الأسرى كانوا جماعات. ثم ما قيمة هذه الكتب التي كان يكتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأفراد   1 ابن فارس، الصاحبي: 28 2 ابن سعد، الطبقات 2/ 1: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 والقبائل يؤمنهم فيها، إذا لم يكن القوم يعرفون القراءة حتى يتم للمؤمن هدفه من بلوغ الأمن عند من يتعرض له1. وكانت الكتابة في الجاهلية شرطًا لا بد منه للعربي ليكون ذا مكانة في قومه. فقد كان من يحسن العوم والرمي والكتابة يسمى كاملًا2؛ وقد زاد بعضهم أن الكامل لا بد أن يكون -مع معرفته العوم والرماية والكتابة- شاعرًا شجاعًا3. وهذه الخصال، متفرقة، كثيرة شائعة بين القوم آنذاك، وإن كانت، مجتمعة، أقل من ذلك شيوعًا وكثرة. فكم كان في العرب آنذاك من شاعر! وكم كان فيهم من شجاع! وكم كان فيهم من رامٍ! وكم كان فيهم ممن يعرف العوم؛ فلِمَ تكون الكتابة وحدها -من بين هذه الخصال كلها- عزيزة نادرة؟ ولم لا نقول -كما قلنا في الخصال الأخرى-: وكم كان في العرب آنذاك من كاتب! ثم إذا كانت الكتابة شرطًا لا بد منه ليكون المرء من الكملة، فلمَ لا يكون الساعون إلى الكمال كثيرين؟ -4- ولم يكن العربي يكتفي بمعرفة الكتابة العربية وحدها، بل لقد تجاوز -فيما يبدو- هذه المرحلة الأولى من تعلم الكتابة، واضطرته أحوال معاشية تجارية، وأخرى فكرية ثقافية، إلى أن يتعلم كتابة اللغات الأخرى. فقد مر بنا أن عدي بن زيد العبادي تعلم في الكتاب الخط العربي ثم الخط الفارسي "فصال أفصح   1 انظر مثلًا كتابه صلى الله عليه وسلم لبني زهير بن أقيش في ابن سعد 1/ 2: 30، وكتابه إلى ماعز البكائي في ابن سعد 7: 31 2 ابن سعد 3/ 2: 136، 142، 148 وغيرها. 3 أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني "ط. دار الكتب" 3: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الناس وأكتبهم بالعربية والفارسية، ثم انتقل إلى بلاد فارس فأصبح كاتبًا بالعربية ومترجمًا في ديوان كسرى"1. وكذلك كان لقيط بن يعمر الإيادي كاتبًا بالعربية ويحسن الفارسية، فكان من أجل ذلك مترجمًا في ديوان كسرى. وكان ورقة بن نوفل "يكتب الكتاب العبراني فيكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء أن يكتب"2. وكان عبد الله بن عمرو بن العاص كثير العناية بكتب أهل الكتاب3، وكان يقرأ بالسريانية4. وزيد بن ثابت تعلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتابة العبرانية5 والسريانية6 والفارسية والرومية والقبطية والحبشية، تعلم ذلك بالمدينة من أهل هذه الألسن7. ويبدو أن كتب أهل الكتاب، سواء أكانت مترجمة إلى العربية أم مكتوبة بغيرها من اللغات، كانت تلقى من العناية لدى بعض العرب ما يحملهم على مدارستها؛ ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما ذكره خالد بن عرفطة قال8: كنت جالسًا عند عمر، إذ أتي برجل من عبد القيس، سكنه بالسوس، فقال له عمر: أنت فلان ابن فلان العبدي؟ قال: نعم. قال: وأنت النازل بالسوس؟ قال: نعم. فضربه بقناة معه. فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر: اجلس. فجلس، فقرأ عليه "بسم الله الرحمن الرحيم {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} إلى {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} ". فقرأها عليه ثلاثًا، وضربه ثلاثًا. فقال له الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال: أنت الذي نسخت كتاب دانيال؟ قال: مرني بأمرك أتبعه. قال: انطلق   1 الأغاني 2: 101-102. 2 الأغاني 3: 120. 3 ابن حجر، فتح الباري 1: 184؛ وأبو نعيم، حلية الأولياء 1: 285. 4 ابن سعد: الطبقات 4/ 2: 11؛ وابن قتيبة، المعارف: 125. 5 البلاذري، فتوح البلدان: 479. 6 السجستاني، كتاب المصاحف: 3. 7 المسعودي، التنبيه والإشراف: 246. 8 الخطيب البغدادي، تقييد العلم: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ثم لا تقرأه ولا تقريه أحدًا من الناس فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدًا من الناس لأنهكتك عقوبة1. ثم قال له: اجلس. فجلس بين يديه، فقال: انطلقت أنا فانتسخت كتابًا من أهل الكتاب، ثم جئت به في أديم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا في يدك يا عمر؟ قال: قلت: يا رسول الله كتاب انتسخته لنزداد به علمًا إلى علمنا. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه ... وكما كان بعض العرب يعرفون اللغات الأخرى ويكتبونها فقد كان بين الأقوام الأخرى من يعرف العربية ويكتبها، فقد كان بعض اليهود في المدينة يعرف الكتابة العربية2، وكان في مصر من يكتب العربية كذلك3، كما كان في بلاط كسرى كتاب ومترجمون يكتبون العربية ويترجمون منها إلى غيرها من اللغات، ومن تلك اللغات إلى العربية. ولم يكن الرجال وحدهم هم الكاتبين القارئين، وإنما كان بعض النساء كذلك يكتبن4، ومنهن: الشفاء بنت عبد الله العدوية، من رهط عمر بن الخطاب، "وكانت الشفاء كاتبة في الجاهلية"؛ وهي التي علمت الكتابة حفصة بنت عمر زوج الرسول الكريم.   1 النهك: المبالغة في العقوبة. 2 ابن قتيبة، المعارف: 192؛ والبلاذري، فتوح البلدان: 479. 3 ابن عبد الحكم، فتوح مصر وأخبارها: 47. 4 البلاذري، فتوح البلدان: 477-478. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وحقيق بنا، ونحن نتحدث عن الكتابة في الجاهلية وشيوعها، ألا نغفل الإشارة إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي ذكرت الكتابة. أما الآيات الكريمة التي تضمنت الإشارة إلى معرفة الجاهلية العربية بالكتابة معرفة واسعة عميقة، فحسبنا أن نقتصر على ذكر ثلاث منها، والحق أن قيمة هذه الآيات لا تقتصر على وضوح دلالتها، وإنما تتجاوز ذلك إلى قيمتها التاريخية إذ أنها وثيقة أولى لا سبيل إلى التشكيك فيها. أما الآية الأولى فقد أشرنا إليها من قبل في معرض حديثنا عن مجلس العلم في الجاهلية، إذ أنها تبين عن أن بعض الجاهليين كانوا يدونون الأخبار والقصص والتاريخ، وأن هناك من كان يملي هذه الموضوعات في مجالسه، قال تعالى1: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} . والآية الثانية تبين عن أن عرب الجاهلية كانوا يطالبون الرسول بآيات ومعجزات تقنعهم بنبوته، ومن هذه الآيات والمعجزات، أن ينزل عليهم كتابًا من السماء يقرءونه، قال تعالى2: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا ... أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولًا} . وفي الآية الثالثة يشير تعالى إلى أن هؤلاء العرب مكابرون، وسيشكون في هذا الكتاب ولو نزل عليهم في صورة مادية يرونها ويلمسونها. قال تعالى3:   1 سورة الفرقان، آية: 5. 2 سورة الإسراء، آية 90-93. 3 سورة الأنعام، آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} . أما الأحاديث فكثيرة، متضاربة في ظاهرها، تناولها علماء الحديث والفقه بالبحث، وسنعود إليها في مكان آخر حين نتحدث عن نشأة التدوين في الفصل التالي. وحسبنا الآن أن نشير غلى كتاب "تقييد العلم" للخطيب البغدادي؛ فقد قسم المؤلف كتابه أقسامًا، عرض في أحدها الأحاديث الناهية عن الكتابة، وعرض في قسم آخر الأحاديث المبيحة للكتابة الحاثة على تقييد العلم. ثم خلص من هذا وذاك إلى ما يراه في هذا الموضوع فيقول1: "فقد ثبت أن كراهة من كره الكتاب من الصدر الأول، إنما هي لئلا يضاهَى بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه، ونُهِيَ عن الكتب القديمة أن تتخد؛ لأنه لا يُعرف حقها من باطلها وصحيحها من فاسدها، مع أن القرآن كفى منها، وصار مهيمنًا عليها. ونُهِيَ عن كتب العلم في صدر الإسلام وجدته لقلة الفقهاء في ذلك الوقت، والمميزين بين الوحي وغيره؛ لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين، ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يُؤمَن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن، ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام الرحمن". فالخطيب البغدادي إذن إنما يرجع سبب النهي عن الكتابة في الحديث النبوي إلى "قلة الفقهاء في ذلك الوقت"، ولم يرجعها إلى قلة الكاتبين أو إلى أن العرب والصحابة كانوا أميين كما ذهب كثير من الذين يلقون الكلام إلقاء عامًّا لا تحقيق فيه ولا تدقيق. بل إننا لنزيد على ذلك فنرى أن هذه الأحاديث نفسها الناهية عن الكتابة إنما تدل على وجود الكتابة وشيوعها آنذاك شيوعًا جعل الرسول الكريم ينهاهم عن كتابة الحديث. ولولا ذاك لكان في غنى عن هذا النهي.   1 الخطيب البغدادي، تقييد العلم: 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الفصل الثاني: موضوعات الكتابة وأدواتها موضوعات الكتابة في الجاهلية : -1- وصلنا -بعد الذي قدمنا من شواهد وأدلة- إلى مفصل من الأمر نطمئن عنده إلى أن الكتابة كانت شائعة عند عرب الجاهلية شيوعًا يكفى لأن ينفي عنهم ما ألحقه بهم تاريخنا الأدبي من وصمة الجهل والأمية. ولعلنا في غنى عن أن نقرر أننا -في حكمنا هذا بشيوع الكتابة في الجاهلية- لا نملك الوسيلة التي تحدد لنا مدى هذه الوسيلة عند سائر الأمم التي سبقت عرب الجاهلية أو عاصرتهم أو تلتهم. فعلم الإحصاء علم حديث النشأة لم نعرفه إلا في عصرنا الحديث، وبغيره لا سبيل إلى القطع الجازم في مدى شيوع الكتابة عند أية أمة من الأمم الأرض1. وحكمنا على عرب الجاهلية لا يختلف عن حكمنا عن الإغريق أو   1 لقد أدرك الباحثون في هذا الضرب من الموضوعات كثرة العقبات التي تعترض سبيلهم فيقول بول مونرو the educational renaissance of the sixteenth century في مقدمة كتابه paul Monroe "إنه لمن الشاق العسير أن يحاول الإنسان أن يحصل على معلومات دقيقة عن النشاط التعليمي في العهود الماضية وبخاصة ما يتعلق بتفاصيل عن الحياة المدرسية". وقد أورد الدكتور أحمد شلبي هذا القول في كتابه "تاريخ التربية الإسلامية" "ط. دار الكشاف 1954 ص1" ثم عقب عليه بقوله: "وقد لمست أن ما قرره بول مونرو عن صعوبة الحصول على هذه المادة فيما يتعلق بالتعليم في أوربا، ينطبق تمام الانطباق على النظم التعليمية عند المسلمين". فإذ كانت هذه الصعوبة قائمة عند المسلمين بعد أن كثر العلم وشاعت الكتابة وانتشرت المدارس، وإذا كانت كذلك قائمة عند الأوربيين، فما أحرى أن تكون قائمة عند دراستنا لهذا الموضوع في العصر الجاهلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 البابليين أو الفينيقيين أو المصريين القدماء في إبان حضارتهم. فهل كانت الكتابة شائعة عند الإغريق والفينيقيين والمصريين القدماء؟ أحسب أن نعم. وهل كان شيوعًا عامًّا يشمل كل فرد في تلك الأمم؟ أو كان تعميمًا غالبًا يشمل الكثرة الكاثرة منها؟ سؤال لا سبيل إلى القطع فيه، ولكن المنطق المادي لتاريخ أدوات الكتابة وآلاتها يجعلنا نرجح أن الشيوع العام الشامل أو التعميمي الغالب عسير المنال في مثل تلك الأطوار التاريخية. بل ما لنا نبعد والأمثلة قريبة بين أيدينا؟ فهل الكتابة شائعة الآن في البلاد العربية؟ لا ريب أنها كذلك، وأمثلة شيوعها واضحة في هذه الجامعات والمعاهد العالية، والمدارس المختلفة، والمطبوعات والمنشورات والصحف؛ فهل شيوعها عام شامل لكل فرد، أو هو تعميمي غالب يشمل الكثرة الكاثرة؟ الحق أنه لا هذا ولا ذاك. ومع أننا نفتقد الإحصاء الدقيق إلا أن المعروف أن شيوع الكتابة في البلاد العربية، لعصرنا هذا, لا يشمل إلى نسبة ضئيلة من قطان هذه البلاد تتراوح بين عشرين وثلاثين لكل مائة. أما الثمانون أو السبعون الباقون من كل مائة فما زالوا بعديدين عن أن تصل إليهم معرفة الكتابة. ومع أن هذه النسبة للكاتبين نسبة ضئيلة إلا أنه عددهم كبير، فهم -على قلتهم- يعدون بالملايين. فنحن إذن لا نقصد بشيوع الكتابة بين عرب الجاهلية أن كل عربي آنذاك كان كاتبًا، بل لا نقصد أن الكثرة الغالبة كانت كاتبة، وإنما نقصد أن الكتابة كانت أمرًا معروفًا مألوفًا شائعًا عند قومنا آنذاك، كما كانت الأمية شائعة منتشرة؛ وأن عدد الكاتبين كان كبيرًا، كما كان عدد الأميين كبيرًا. أما تحديد العدد وتحديد النسبة فأمران لا سبيل لنا ولا لغيرنا إلى بيانهما. بقي أمران يتم بهما هذا الفصل، أولهما: استقراء الموضوعات التي كان عرب الجاهلية يكتبونها، وثانيهما: الكشف عن أدوات الكتابة وآلاتها آنذاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أما موضوعات الكتابة في العصر الجاهلي فقد كانت -فيما يبدو لنا من استقرائنا- كثيرة متنوعة، فقد كان القوم آنذاك يكتبون كثيرًا من شئون حياتهم وألوانًا متعددة من الموضوعات التي يفرضها عليهم نشاطهم العملي أو العلمي أو الوجداني. ومع اعترافنا بأن اسقراءنا ناقص -بسبب إغفال المصادر العربية هذا اللون من النشاط العلمي في الجاهلية- فقد وصلنا إلى أمور نراها جديرة بالذكر والتسجيل. وسنسردها هنا غير مراعين في ترتيبنا لها تقديم الأهم على المهم، ولا الأكثر على الكثير؛ لأن الحكم على أهمية هذه الموضوعات أو كثرتها حكم لا نملك الآن وسائله. وأول هذه الموضوعات التي كانوا يدونونها: الكتب الدينية: ونحن لا نشك في أن أهل الكتاب: اليهود والنصارى، كانت كتبهم مدونة بين أيديهم يتلونها، وأن هذه الكتب لم تكن نسخًا قليلة العدد موقوفة على الرهبان والأحبار وحدهم، وإنما كانت مصاحف كثيرة يتداولها أهل هاتين الديانتين، حتى إن المسلمين بعد فتح خيبر وجدوا مصاحف فيها التوراة فجمعوها ثم ردوها على اليهود1. وقد مر بنا أن ورقة بن نوفل "كان يكتب الكتاب العبراني فيكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء أن يكتب"2. ومع أن هذا النص يشير إلى أن التوراة والإنجيل كانا مكتوبين بالعبرية أو السريانية3، وأن بعض العرب كان يقرؤهما بهذه اللغة فإنه -مع ذلك- لا ينفي أن هذين الكتابين كانا يكتبان بالعربية، وأن بعض العرب كان يقرؤهما بهذه اللغة. فنحن نعلم أن قبائل عربية   1 المقريزي، إمتاع الأسماع: 323. 2 الأغاني "دار الكتب" 3: 120. 3 يذكر الأب لويس شيخو عند حديثه عن كتابة ورقة بالعبرانية أن "عبرانية ذلك العهد هي الآرامية أو السريانية" انظر كتابه "النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية" ص157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 كاملة كثيرة العدد كانت قد تهودت أو تنصرت1. فهل كان هؤلاء العرب لا يقرءون كتبهم الدينية؟ أو هل كانوا يقرءونها باللغة العبرية أو بغيرها من اللغات؟ وهل من المعقول أن نفترض أن هؤلاء العرب كانوا، حين يتهودون أو يتنصرون، يشترط فيهم أن يتعلمون العبرية أو الآرامية؟ الأقرب إلى المعقول أن نفترض أنهم كانوا يقرءون كتبهم الدينية مترجمة إلى لغتهم العربية. وليس هذا في الحق فرضًا أو استنتاجًا لا تدعمه النصوص، وإنما هو نتيجة أملتها علينا -مع سلامة المنطق- شواهد من الروايات: ففي حديث سويد بن الصامت أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لعل الذي معك مثل الذي معي! فقال: وما الذي معك؟ قال سويد: مجلة لقمان2 يريد كتابًا فيه حكمة لقمان3. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها علي. فعرضها عليه، فقال له: إن هذا لكلام حسن والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى، هو هدى ونور4. وقد مر بنا حديث خالد بن عرفطة حين كان جالسًا مع عمر بن الخطاب فأُتي برجل من عبد القيس نسخ كتاب دانيال، فضربه عمر وقال له: انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ولا تقريه أحدًا من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدًا من الناس لأنهكنك عقوبة. ثم قال عمر: انطلقت أنا فانتسخت كتابًا من أهل الكتاب، ثم جئت به في أديم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا في يدك يا عمر؟ قلت: يا رسول الله كتاب   1 ابن حزم. جمهرة أنساب العرب: 457-458. 2 الزمخشري. الفائق 1: 206. 3 لسان العرب "حلل". 4 ابن هشام. السيرة 2: 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 انتسخته. لنزداد به علمًا إلى علمنا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه1. وقال عمرو بن ميمون الأودي2: كنا جلوسًا بالكوفة فجاء رجل، ومعه كتاب، فقلن: ما هذا الكتاب؟ قال: كتاب دانيال. فلولا أن الناس تحاجزوا عنه لقُتل، وقالوا: أكتاب سوى القرآن! وقال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم3: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ وقال مُرة4: بينما نحن عند عبد الله بن مسعود إذ جاء ابن قرة بكتاب قال: وجدته بالشام، فأعجبني فجئتك به. فنظر فيه عبد الله ثم قال: إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم الكتب. وتركهم كتابهم. ثم دعا بطست فيه ماء فماثه فيه ثم محاه فقال مُرة5: أما إنه لو كان من القرآن أو السنة لم يمحه ولكن كان من كتب أهل الكتاب. يفهم من هذه الأخبار والأحاديث أن هذه الكتب كانت مكتوبة بالعربية لغة القوم، وإلا فهل كان سويد بن الصامت يحمل معه مجلة لقمان وهي مكتوبة بغير العربية؟ وهل قرأها على رسول الله بتلك اللغة وفهمها رسول الله؟ ثم هل كان هذا الرجل العربي من عبد القيس قد نسخ كتاب دانيال من لغة غير عربية؟ وهل نهاه عمر أن يقرأه وأن يقرئه أحدًا من الناس بتلك اللغة غير العربية؟ وهل كان ذلك شأن عمر حينما نسخ كتابًا من كتب أهل الكتاب فأغضب رسول الله؟ ثم هذا الكتاب الذي جاء به ابن قرة من الشام "فنظر فيه" عبد الله بن   1 تقييد العلم: 51-52. 2 تقييد العلم: 56-57 3 الفائق 3: 218. 4 تقييد العلم: 53. 5 سنن الدارمي 1: 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 مسعود ثم محاه؛ لأنه لم يكن من القرآن أو السنة وإنما كان من كتب أهل الكتاب، أترى عبد الله بن مسعود نظر فيه وعرف ذلك وهو مكتوب بغير العربية؟ فلعل القوم كانوا يكتبون الكتب الدينية بالكتابة العربية كما كانوا يكتبونها بغير العربية. ومن الشعر الجاهلي الذي يشير إلى معرفة عرب الجاهلية بهذه الكتب الدينية قول خزز بن لوذان1: وكذاك لا خير ولا ... شر على أحد بدائم قد خط ذلك في الزبو ... ر الأوليات القدائم ومنه قول امرئ القيس2: أتت حجج بعدي عليها فأصبحت ... كخط زبور في مصاحف رهبان وقول السموءل يصف اليهود3: وبقايا الأسباط يعقو ... ب دراس التوراة والتابوت وقول النابغة يمدح الغساسنة النصارى ويذكر الإنجيل4: مجلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب   1 لسان العرب "حتم"، وانظر خزانة الأدب 3: 11 حيث يذكر أن خزز بن لوذان السدوسي جاهلي. 2 ديوانه "ط. هندية سنة 1906" ص125. 3 ديوانه "ط. شيخو" ص12 4 ديوانه "خمسة دواوين سنة 1293" ص8، ويروى في عجز البيت: "خير العواقب" برفع "خير" خبر "ما يرجون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 -3- ولعل الموضوع الثاني الذي كانوا يكتبونه، حريصين على كتابته ما وسعهم الحرص، هو هذه العهود والمواثيق والأحلاف التي يرتبطون بها فيما بينهم أفرادًا وجماعات. قال الجاحظ1: "كانوا يدعون في الجاهلية من يكتب لهم ذكر الحلف والهدنة تعظيمًا للأمر، وتبعيدًا من النسيان". وقد ورد ذكر هذه العهود المكتوبة في الشعر الجاهلي، قال الحارث بن حلزة اليشكري في شأن بكر وتغلب2: واذكروا حلف ذي المجاز وما ... قدم فيه، العهود والكفلاء3 حذر الجور والتعدي، وهل ينـ ... ـقض ما في المهارق الأهواء؟ وذكر الجاحظ أنه "لا يقال للكتب: مهارق، حتى تكون كتب دين أو كتب عهود وميثاق وأمان". ومن الشعر الجاهلي الذي تذكر فيه هذه المهارق قول الأعشى4: ربي كريم لا يكدر نعمة ... وإذا يناشد بالمهارق أنشدا وربه هذا إنما يعني به سيدًا كريمًا متفضلًا عليه -كما يتضح من البيت السابق لهذا البيت- والمهارق هنا قد تعني الكتب الدينية، فيصف هذا السيد بالتدين وبأنه يلبي داعي الدين إلى صلة المحروم وإعطاء المحتاج، وقد تعني المهارق كتب العهود والأحلاف، فيكون معنى البيت أن هذا السيد الكريم لا يخفر ذمته ولا ينقض عهده، وإنما يفي بما عاهد عليه، فإذا ما ذكره بهذه العهود المكتوبة في المهارق بادر إلى المحافظة عليها والوفاء بها.   1 الحيوان 1: 69-70 2 شرح المعلقات للتبريزي: 268-269، وقد شرح التبريزي البيتين بقوله: إن كانت أهواؤكم زينت لكم الغدر والخيانة بعد ما تحالفنا وتعاقدنا، فكيف تصنعون بما هو في الصحف مكتوب عليكم من العهود والمواثيق والبينات فيما علينا وعليكم؟ 3 الكفلاء: الرهائن. 4 ديوانه: قصيدة: 34، بيت: 13 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ومن أوضح الشعر الجاهلي الذي يذكر هذا الضرب من تسجيل الأحلاف والعهود: قول درهم بن زيد الأوسي يُذكِّر الخزرج ما بينهم من عهود مكتوبة على الصحف1: وإن ما بيننا وبينكم ... حين يقال: الأرحام والصحف وقول قيس بن الخطيم2: لما بدت غدوة جباههم ... حنت إلينا الأرحام والصحف يعني بالصحف: العهود والمواثيق والأحلاف المسجلة في الصحائف. ومن الأحلاف التي كتبت في الجاهلية حلف خزاعة، بين عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجال من خزاعة، وكتب لهم الحلف أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة، وعلقوا الكتاب في الكعبة3؛ وقد جاء خزاعة رسول الله يوم الحديبية بكتاب جده فقرأه عليه أبي بن كعب4. وقد زعم أبو حنيفة الدينوري5 أن عمر بن إبراهيم من ولد أبرهة بن الصباح ملك حمير أرسل إلى الكرماني نسخة حلف اليمن وربيعة الذي كان بينهم في الجاهلية. ثم أورد نص هذا الحلف. ومن أشهر هذه العهود والمواثيق: صحيفة قريش التي تعاقدوا فيها "على بني هاشم وبني المطلب على ألا ينكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم. فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم6".   1 ديوان حسان بن ثابت. مخطوط في مكتبة أحمد الثالث بإسطنبول، رقم 2534، وميكروفيلم في معهد المخطوطات، ورقة: 20. 2 ديوانه: 19. 3 ديوان حسان، مخطوطة أحمد الثالث، ورقة: 15-16. 4 محمد حميد الله، الوثائق السياسية: 50 وقد خرج هناك مصادره. 5 الأخبار الطوال "ط. السعادة 1330هـ" ص336. 6 ابن هشام، السيرة 1: 375-376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وكما كانوا يكتبون العهود والأحلاف بين الجماعات، كانوا كذلك يكتبون العهود والمواثيق بين الأفراد. ومن أمثلة ذلك حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال1: كاتبت أمية بن خلف كتابًا في أن يحفظني في صاغيى بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة2. ويبدو أنهم كانوا يسجلون كل أمر عام ذي بال يتصل بمجموع الناس أو بجماعات منهم -إذا أرادوا لهذا الأمر توكيدًا أو أرادوا أن يشهدوا عليه الملأ- ولا يقتصرون في ذلك على الأحلاف والمواثيق. فمن أمثلة هذه الأمور العامة التي كانوا يسجلونها ما قاله أبو جهل للعباس بن عبد المطلب حين شاعت في مكة رؤيا أخته عاتكة بنت عبد المطلب، قال3: "يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال4: انفروا من ثلاث. فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقًّا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث، ولم يكن من ذلك شيء، نكتب عليكم كتابًا أنكم أكذب أهل بيت في العرب". ومما يتصل بكتابة العهود والمواثيق والأحلاف كتابة كتب الأمان، وربما كانت أقل من سابقتها إذ أنها لا تصدر إلا في حالات لا تتكرر كثيرًا. فمن ذلك كتاب النعمان الذي أرسله إلى الحارث بن ظالم وهو في مكة يؤمِّنه5، فلما ذهب إليه الحارث ودخل عليه قال: أنعم صباحًا أبيت اللعن. قال النعمان: لا أنعم الله صباحك. فقال الحارث: هذا كتابك! قال النعمان: كتابي والله ما أنكره أنا كتبته لك ...   1 الزمخشري، الفائق 2: 26. 2 الصاغية: هم الذين يصغون إلى المرء ويميلون إليه، أي: جماعته. 3 ابن هشام، السيرة 2: 259-260؛ وانظر أيضًا ابن سعد، الطبقات 8: 30؛ والأغاني "دار الكتب" 4: 172. 4 القائل هنا راكب رأته عاتكة في نومها مقبلًا على بعير له حتى وقف بالأبطح. 5 الأغاني 11: 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وكما كانوا يكتبون العهود والأحلاف بين الجماعات، كانوا كذلك يكتبون العهود والمواثيق بين الأفراد. ومن أمثلة ذلك حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال1: كاتبت أمية بن خلف كتابًا في أن يحفظني في صاغيى بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة2. ويبدو أنهم كانوا يسجلون كل أمر عام ذي بال يتصل بمجموع الناس أو بجماعات منهم -إذا أرادوا لهذا الأمر توكيدًا أو أرادوا أن يشهدوا عليه الملأ- ولا يقتصرون في ذلك على الأحلاف والمواثيق. فمن أمثلة هذه الأمور العامة التي كانوا يسجلونها ما قاله أبو جهل للعباس بن عبد المطلب حين شاعت في مكة رؤيا أخته عاتكة بنت عبد المطلب، قال3: "يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال4: انفروا من ثلاث. فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقًّا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث، ولم يكن من ذلك شيء، نكتب عليكم كتابًا أنكم أكذب أهل بيت في العرب". ومما يتصل بكتابة العهود والمواثيق والأحلاف كتابة كتب الأمان، وربما كانت أقل من سابقتها إذ أنها لا تصدر إلا في حالات لا تتكرر كثيرًا. فمن ذلك كتاب النعمان الذي أرسله إلى الحارث بن ظالم وهو في مكة يؤمِّنه5، فلما ذهب إليه الحارث ودخل عليه قال: أنعم صباحًا أبيت اللعن. قال النعمان: لا أنعم الله صباحك. فقال الحارث: هذا كتابك! قال النعمان: كتابي والله ما أنكره أنا كتبته لك ...   1 الزمخشري، الفائق 2: 26. 2 الصاغية: هم الذين يصغون إلى المرء ويميلون إليه، أي: جماعته. 3 ابن هشام، السيرة 2: 259-260؛ وانظر أيضًا ابن سعد، الطبقات 8: 30؛ والأغاني "دار الكتب" 4: 172. 4 القائل هنا راكب رأته عاتكة في نومها مقبلًا على بعير له حتى وقف بالأبطح. 5 الأغاني 11: 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 في آخر الخبر: "وكان الخط شبه خط النساء" ناقض لقوله إنه بخط عبد المطلب؟ أو أنه يقصد إلى القول إن هذا الخط الذي هو خط عبد المطلب شبه خط النساء؟ فنحن إذن نضعف ذلك الخبر على هذا الوجه الذي ورد عليه، وإن كنا مع ذلك لا نستطيع أن نقطع بنفيه؛ لأننا نرى أن الخبر في جوهره: وهو أن ثمة صكًّا ما فيه حق لعبد المطلب على رجل حميري لا سبيل إلى الطعن فيه. وقد كان كثير من القوم آنذاك تجارًا، فكان من الطبيعي أن يكثر عندهم هذا الضرب من الكتابة يحفظون به حقوقهم أن تضيع، حتى لقد كانت النساء التاجرات يلجأن إلى هذه الوسيلة، شأنهن في ذلك شأن الرجال. فقد رُوي أن عبد الله بن أبي ربيعة كان يبعث بعطر من اليمن إلى أمه أسماء بنت مخربة، وهي أم أبي جهل، فكانت تبيعه إلى الأعطية، فذهبت إليها الربيع بنت معوذ في نسوة من الأنصار ليشترين منها العطر؛ قالت الربيع: فلما جعلت لي في قواريري، ووزنت لي كما وزنت لصواحبي، قالت: اكتبن لي عليكن حقي. فقلت: نعم، اكتب لها على الربيع بنت معوذ ... 1 وقد حفظ لنا الشعر الجاهلي ذكر هذا الضرب من الصحف التي يسجل فيها الدين، قال علباء بن أرقم بن عوف من بني بكر بن وائل2: أخذت لدين مطمئن صحيفة ... وخالفت فيها كل من جار أو ظلم وقال أبو ذؤيب الهذلي يصف كاتبًا من اليمن يكتب دينه على رجل آخر يُثني عليه الناس بالوفاء3: عرفت الديار كرقم الدوا ... ة يزبره الكاتب الحميري   1 الواقدي، المغازي: 65؛ وابن سعد، الطبقات 8: 220. 2 الأصمعيات "برلين 1902" ص63، وانظر اسم الشاعر وبيتين من القصيدة في معجم المرزباني: 304. 3 ديوان الهذليين 1: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 برقم ووشي كما زخرفت ... بميشمها المزدهاة الهدى أدان وأنبأه الأولو ... ن أن المدان الملي الوفي فنمنم في صحف كالريا ... ط فيهن إرث كتابٍ محي وثمة ضرب آخر من الصكوك، وهي التي يسجل فيها ما كان يقطعه الأمير أو السيد للمتعرض لنواله، وكان هذا الصك يُسمى: الوصر، والإصر، والأوصر، والوصرة. ووصره: أقطعه أرضًا وكتب له الوصر1. قال عدي بن زيد2: فأيكم لم ينله عرف نائله ... دثرًا سوامًا وفي الأرياف أوصارا أي: أقطعكم وكتب لكم السجلات. وذكر شاعر، بعده، هذا الضرب من الصكوك فقال -يشير إلى فرسه: صدام، ويخاطب خاتمه3: وما اتخذت صدامًا للمكوث بها ... ولا انتقشتك إلا للوصرات وهذا الضرب من الصكوك قد يسمى أيضًا القط، وجمعها: قطوط. قال الأعشى4: ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بإمته يُعطِي القطوط ويأفق أي: يدفع إلى الناس صكوكهم بما أقطعهم أو بما قسم لهم من جوائز. وقال المتلمس لما ألقى الصحيفة المشهورة في نهر الحيرة5:   1 الزمخشري، أساس البلاغة "وصر". 2 الزمخشري، الفائق3: 166، والدثر: المال الكثير. 3 أساس البلاغة "وصر"، وصدام: اسم فرسه. 4 ديوانه ق: 34، ب: 13، والإمة: النعمة؛ ويأفق: يطبع القطوط "أي: صكوك الجوائز" ويختمها. 5 ابن السيد البطليوسي، الاقتضاب في شرح أدب الكتاب: 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وألقيتها بالثني من جنب كافر ... كذلك أُلقِي كل قط مضلل وقد جاء ذكر القط أيضًا في التنزيل الحكيم، قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} 1 -5- وضرب رابع أحسبه لا يقصر عن الضروب السابقة كثرة واتساعًا وخطرًا، وهو كتابة الرسائل بين الأفراد، يحملونها أخبارهم، ويضمنونها ما تتطلبه شئون حياتهم. ومن يقرأ أخبار الجاهلية في كتب الأدب أو كتب التاريخ يعجب لكثرة رسائلهم آنذاك، ويكد يلمس أن كتابة الرسائل في الجاهلية أمر مألوف ميسور شائع في شتى الشئون. وسنكتفي -توخيًا للإيجاز- بذكر أمثلة قليلة، ثم لا نثبت نصوصها بل نشير إشارة مقتضية إلى موضوعها. فمن رسائلهم التي كانوا يحملونها أخبارهم ما كتبه حنظلة بن أبي سفيان إلى أبيه -وكان أبو سفيان مع العباس بن عبد المطلب بنجران في اليمن- فكتب حنظلة إليه يخبره بقيام محمد بن عبد الله يدعو إلى الله2. ومنها كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرهم، وكان كتابه إلى ثلاثة نفر: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل، يقول فيه: إن رسول الله قد أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن يكون لي عندكم يد بكتابي إليكم3   1 سورة "ص" آية: 16. 2 الأغاني "دار الكتب" 6: 250. 3 المقريزي، إمتاع الأسماع: 362. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ومنها رسالة الوليد بن الوليد بن المغيرة إلى أخيه خالد بن الوليد، وذلك أن خالدًا خرج من مكة فرارًا أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عمرة القضية، كراهة للإسلام وأهله، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه الوليد، وقال: لو أتانا لأكرمناه، وما مثله سقط عليه الإسلام في عقله. فكتب بذلك الوليد إلى خالد أخيه، فوقع الإسلام في قلب خالد، وكان سبب هجرته1. وقدم على الحارث بن مارية الغساني الجفني رجلان من بني نهد بن زيد يقال لهما: حزن وسهل ابنا رزاح. وكان عندهما حديث من أحاديث العرب، فاجتباهما الملك، ونزلا بالمكان الأثير عنده، فحسدهما زهير بن جناب الكلبي -وكان ينادم الحارث ويحادثه- فقال له إنهما عين عليه للمنذر الأكبر -جد النعمان بن المنذر- "وهما يكتبان إليه بعورتك وخلل ما يريان منك"2. وكانوا يكتبون الرسائل يطلبون فيها العون والنصرة، ومن أمثلة ذلك: كتاب قصي بن كلاب إلى أخيه ابن أمه رزاح بن ربيعة بن حرام العذري يدعوه إلى نصرته3، وكتاب السموءل إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يوصي بامرئ القيس لعله يمده بما يحقق له أمله4. وكان المسافرون النازحون يكتبون إلى أهلهم بما يعرض لهم من أمور. فهذه أم سلمة لما قدمت المدينة، وذلك قبل زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبرتهم أنها بنت أبي أمية بن المغيرة، فكذبوها، وقالوا: ما أكذب الغرائب! "حتى أنشأ ناس منهم للحج، فقالوا: أتكتبين إلى أهلك؟ فكتبت معهم. فرجعوا إلى المدينة فصدقوها"5.   1 نسب قريش: 324. 2 الأغاني "دار الكتب" 5: 118. 3 ابن هشام، السيرة 1: 124؛ وابن سعد؛ الطبقات 1: 38. 4 الأغاني "دار الكتب" 9: 99. 5 ابن سعد، الطبقات 8: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وكتب الزبرقان بن بدر إلى زوجته أن تحسن إلى الحطيئة وتستوصي به خيرًا1. وقد كانوا يبدءون كتبهم هذه بـ "باسمك اللهم"، ويقال إن أمية بن أبي الصلت هو الذي علم أهل مكة ذلك فجعلوها في أول كتبهم2. فكانت قريش تكتب في جاهليتها "باسمك اللهم" وكان النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، ثم نزلت سورة "هود" وفيها {بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكتب في صدر كتبه "بسم الله"، ثم نزلت في سورة "بني إسرائيل: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فكتب "بسم الله الرحمن" ثم نزلت في سورة "النمل": {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فجعل ذلك في صدر الكتب إلى الساعة3. -6- وضرب سادس من الكتابة لا ندري عنه إلا النزر اليسير، ولكنا مع ذلك لا نستبيح إغفاله؛ لأننا في هذا الاستقصاء إنما نثبت كل ما عثرنا عليه، وعسى أن يكمل غيرنا ما فيه من نقص، أو يفصل ما فيه من إيجاز. وهذا الضرب السادس هو: مكاتبة الرقيق. وذلك أن يتفق العبد وسيده على قدر معلوم من المال يكون في الغالب مساويًا لثمنه، فإذا أداه لسيده عتق وأصبح حرًّا. وأغلب الظن أن هذا الاتفاق كان يتم في بعض الأحوال شفاهًا لا تسجيل فيه، ولكنه في حالات أخرى يسجل ويكتب، فقد رُوي أن أبا أيوب   1 الأغاني 2: 180. 2 الأغاني 3: 123. 3 الصولي، أدب الكتاب: 31؛ وابن السيد البطليوسي، الاقتضاب، 103-104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الأنصاري ندم على مكاتبة مولاه أفلح، فأرسل إليه فقال: إني أحب أن ترد إليَّ الكتاب، وأن ترجع كما كنت. فقد لأفلح ولده وأهله: أترجع رقيقًا وقد أعتقك الله؟ فقال أفلح: والله لا يسألني شيئًا إلا أعطيته إياه. فجاءه بمكاتبته فكسرها1. وكذلك قال بكار بن محمد: "مكاتبة أنس بن مالك سيرين الصك في صحيفة حمراء عندنا: هذا ما كاتب عليه ... ، قال بكار: الطينة التي فيها الخاتم وسط الصحيفة والكتاب حولها"2. والمرجح أن هذه المكاتبة لم تكن أمرًا مستحدثًا في الإسلام، وإنما كانت من أمور الجاهلية التي أقرها الإسلام وثبتها، وإنما كانت في الجاهلية تتوقف على رغبة السيد أو المالك، فقد يأذن لعبده أن يكاتبه وقد يمنعه. فلما جاء الإسلام فرض على المسلم أن يستجيب لعبده إذا أراد المكاتبة، وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ ... } 3. ودليل وجود هذا الضرب من الكتابة في الجاهلية ما تذكره كتب التفسير من أسباب نزول هذه الآية، وذلك أنها نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له: صبح -وقيل صبيح- طلب من مولاه أن يكاتبه، فأبى، فأنزل الله تعالى هذه الآية فكاتبه حويطب4. فقد طلب الغلام المكاتبة إذن قبل نزول هذه الآية، وذلك امتداد لما ألفوه قبل الإسلام، ولكن مولاه أبى عليه، حتى إذا نزلت الآية كاتبه. وبذلك أصبحت المكاتبة نظامًا ملزمًا في الإسلام.   1 ابن سعد 5: 62. 2 ابن سعد 7: 87. 3 سورة النور، آية: 33. 4 تفسير القرطبي 12: 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 -7- وثمة موضوعات أخرى للكتابة فرعية جزئية، آثرنا أن نجمعها معًا ونقرنها في عقال واحد. فمنها: النقش في الخاتم. والخاتم على أنواع: أ- فمنها الخاتم الذي تختم به الرسائل، وقد ورد ذكره في الشعر الجاهلي، فمن ذلك قول امرئ القيس1: ترى أثر القرح في جلده ... كنقش الخواتم في الجرجس والجرجس هنا: إما الطين الذي يختم به، وإما الصحيفة نفسها. وقال المخبل السعدي يذكر رجلًا أعطاه النعمان بن المنذر خاتمه، ويقال لخاتم الملك الحلق2: وأُعطِي منَّا الحلق منا الحلق أبيض ماجد ... رديف ملوك ما تغب نوافله ويقال إن أول من ختم الرسائل وطبعها عمرو بن هند3 وذلك بعد الذي حدث من المتلمس في صحيفته. وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم من ورق نقش عيه "محمد رسول الله"4؛ وكذلك اتخذ الصحابة رضوان الله عليهم نقوشًا مختلفة5.   1 ديوانه "السندوبي": 102، وقد ورد البيت في الاقتضاب البطليوسي ص97 هكذا: ترى أثر القرح في جلدتي ... كما أثر الختم في الجرجس 2 البطليوسي، الاقتضاب: 97. 3 الاقتضاب: 104. 4 الصولي، أدب الكتاب: 139؛ والزمخشري، الفائق2: 72-73. 5 ابن سعد، الطبقات 3/ 1: 19-20، 150، 280، 300، وج6: 26، 51، 96، 146، وج7: 5، 11، 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وكانت هذه النقوش إما كتابة عربية وإما علامات وصورًا1. ب- ومن أنواع الخاتم: الطابع الذي تُطبع وتختم به أوعية الطعام أو الشراب، قال الأعشى2: وصهباء طاف يهوديها ... وأبرزها وعليها ختم ومن أسماء هذا الضرب من خاتم الطعام: الروسم، وهي خشبة مكتوبة بالنقر يختم بها الطعام والأكداس. والرواسيم كتب كانت في الجاهلية3. ومن أنواع النقش: الحفر والكتابة على الخشب، فقد رُوي أن أبا سفيان حين أراد الخروج إلى أحد امتنعت عليه رجاله. فأخذ سهمين من سهامه، فكتب على أحدهما: نعم، وعلى الآخر: لا، ثم أجالهما عند هبل، فخرج سهم الإنعام، فاستجرهم بذلك4! ومن تمام الحديث على النقش أن نشير إلى موضوع آخر كانوا ينقشونه وهو: شواهد القبور على الحجارة والصخور. وقد مر بنا طرف من ذلك حين تحدثنا عن نشأة الخط العربي، ونزيد عليه ما ذكره ابن النديم5 من أن حجرًا عثر عليه بمسجد السور عند قبر المريين حينما حسم السيل عن الأرض، وفيه كتابة نقشها أسيد بن أبي العيص تشبه أن تكون شاهد قبر. بقي موضوع أخير هو كتابة النسب والشعر والأخبار: وقد أخرنا الإشارة إلى هذا الضرب من موضوعات الكتابة؛ لأننا نقصد إلى أن نخصه وحده بحديث وافٍ سنجعله موضوع الباب الثاني.   1 ابن سعد 6: 96، 146، وج7: 5؛ ويذكر الأستاذ جروهمان أنه عثر على ورقة بردي كتبها عمرو بن العاص نفسه وعليها خاتمه وهو صورة ثور هائج، انظر: Dr. A. Grohmann, from the world of Arabic papyri, Cairo, 1952, p. 115. 2 ديوانه ق: 4، ب: 10. 3 لسان العرب والتاج "رسم". 4 الفائق 3: 190. 5 الفهرست: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 أدوات الكتابة في الجاهلية : -1- سيتناول حديثنا عن أدوات الكتابة ثلاث نقط؛ الأولى: المواد التي كانوا يكتبون عليها، والثانية: المواد التي كانوا يكتبون بها، والثالثة. أنواع كتابتهم. أما المواد التي كانوا يكتبون عليها فضروب شتى؛ منها: الجلد: وكانوا يسمونه: "الرق" و"الأديم" و"القضيم". والفرق بينها غير واضح من النصوص والروايات نفسها، ولكن المعاجم تجعل "الرق": الجلد الرقيق الذي يسوَّى ويرقق ويكتب عليه؛ وتجعل "الأديم": الجلد الأحمر أو المدبوغ؛ وتجعل القضيم: الجلد الأبيض يكتب فيه. وقد ورد ذكرها كلها في الشعر الجاهلي. ففي الرق: قول طرفة1: كسطور الرق رقشه ... بالضحى مرقش يشمه وقول معقل بن خويلد الهذلي2: وإني كما قال مملي الكتا ... ب في الرق إذ خطه الكاتب وقول الأخنس بن شهاب التغلبي3:   1 ديوانه، شالون سنة 900 ص68. 2 ديوان الهذليين 3: 70. 3 الآمدي، المؤتلف والمختلف: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 لابنة حطان بن عوف منازل ... كما رقش العنوان في الرق كاتب وقول حاتم الطائي1: أتعرف أطلالًا ونؤيًا مهدمًا ... كخطك في رق كتابًا منمنما وقد جاء ذكر "الرق" في القرآن الكريم، قال تعالى2: {وَالطُّورِ، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} . وفي "الأديم": يقول المرقش الأكبر3: الدار وحش والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم وقد ورد ذكر الأديم فيما رُوي لنا من كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم: "عن رافع بن خديج ... فإن المدينة حرام، حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مكتوب عندنا في أديم خولاني"4. وذكر ابن سعد5 أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع العباس السلمي ركية بالدثينة، قال أبو الأزهر: وكان نائل -حفيد العباس السلمي- نازلًا بالدثينة وكان أميرهم، فأخرج إليَّ حقةً فيها كراع من أدم أحمر فكان فيه ما أقطعه. وكانوا يكتبون الوحي في زمن رسول الله على الأديم "قال عثمان: ... فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به،   1 ديوان "لندن": 23. 2 سورة الطور، آيات: 1-3. 3 البيان والتبيين: 375؛ الأغاني 6: 127؛ معجم المرزباني 201. 4 مسند أحمد 4: 141؛ وانظر تقييد العلم: 72. 5 الطبقات 7: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن ... 1، وذكر عمر بن الخطاب أنه انتسخ -على عهد رسول الله- كتابًا من أهل الكتاب ثم جاء به في أديم2. وكذلك كتب سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص دينًا على نفسه في قطعة أديم ابتغاها عند خراز قريب من بيته3. وفي القضيم: يقول النابغة الذبياني4: كأن مجر الرامسات ذيولها ... عليه قضيم نمقته الصوانع وقد ذكر شارح الديوان الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب أن القضيم هو الأديم المحروز، ثم قال إن القتني قال: القضيمة: الصحيفة البيضاء تقطع ثم ينقش بها النطع. ويقول امرؤ القيس5: وعادى عداء بين ثور ونعجة ... وبين شبوب كالقضيمة قرهب ويقول زهير6: كأن دماء المؤسدات بنحرها ... أطبة صرف في قضيم مسرد والقضيم: الجلد الأبيض، فلعله شبه طرائق الدم بنحرها بطرائق جلد أبيض مكتوب عليه أو منقوش عليه باللون الأحمر. وقد ورد أن الوحي كان يكتب لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على   1 السجستاني، المصاحف: 23-24. 2 تقييد العلم: 52. 3 المصعب الزبيري، نسب قريش: 177-178. 4 ديوانه "خمسة دواوين" 50. الرامسات. الرياح. 5 ديوانه "مطبعة هندية 1906": 86، الشبوب والقرهب: الثور الفتي الكبير. 6 ديوانه "ثعلب": 231. المؤسدات: المغريات بالصيد. أطبة "مفردها: طبابة": السيور والجلود. صرف: صبغ أحمر تصبغ به شرك النعال. المسرد: المخروز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 القضم، قال الزهري: قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن في العسب والقضم والكرانيف1. قال الزمخشري في تفسير الكلمة: القضم جمع قضيم، وهي جلود بيض، ثم استشهد ببيت النابغة الذي ذكرناه. وربما كتبوا على جلد لم يعد للكتابة، وإنما تلجئهم الحاجة الملحة إلى أن يكتبوا عليه، قال سعيد بن جبير "كان ابن عباس يملي عليَّ في الصحيفة حتى أملأها وأكتب في نعلي حتى أملأها"2. -2- القماش: وهو إما حرير وإما قطن، ويطلقون على الصحف إذا كانت من القماش: المهارق، مفردها: المهرق. قال الأصمعي3 "هو فارسي معرب، وكان أصله خرق حرير تصفل وتكتب فيها الأعاجم، تسمى: مهركرد، فأعربته العرب وجعلته اسمًا واحدًا فقالوا: مهرق ... وقال الأصمعي أيضًا المهارق: كرابيس كانت تصقل بالخرز ويكتب فيها، فأراد: مهركرد، أي: صقل به". والكرابيس جمع كرباس -بالكسر-: ثوب من القطن الأبيض، معرب، فارسيته بالفتح4. وقال التبريزي5: "المهارق: الصحف، واحدها: مهرق، فارسي معرب، خرزة يصقلون ثيابًا كان الناس يكتبون فيها قبل أن يصنع   1 الفائق 2: 150، والكرانيف "مفردها: كرنافة، بضم الكاف وكسرها": أصول السعف الغلاظ العراض اللاصقة بالجذع. 2 تقييد العلم: 102. 3 المفضليات "ليال": 25. 4 القاموس "كرباس". 5 شرح المعلقات: 268-269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 القراطيس بالعراق"، وقال الزوزني1: "المهارق: يأخذون الخرقة ويطلونها بشيء ثم يصقلونها ثم يكتبون عليها شيئًا". وقال ابن السكيت2: "المهرق: ثوب جديد أبيض يُسقى الصمغ ويصقل ثم يكتب فيه". ويبدو لنا أن هذا الضرب من مواد الكتابة يحتاج إلى إعداد خاص فكان عزيزًا نادرًا غالي الثمن، ولذلك كانوا لا يكتبون فيه إلا الجليل من الأمر، قال الجاحظ3: "لا يقال للكتب مهارق حتى تكون كتب دين أو كتب عهود وميثاق وأمان". وقد ورد ذكر المهارق في الشعر الجاهلي، فمن ذلك ما ذكرناه من بيتي الحارث بن حلزة في معلقته: واذكروا حلف ذي المجاز وما ... قدم فيه، العهود والكفلاء حذر الجور والتعدي، وهل ... ينقض ما في المهارق الأهواء وقال الحارث أيضًا4: لمن الديار عفون بالحبس ... آياتها كمهارق الفرس وقال الأعشى5: ربي كريم لا يكدر نعمة ... وإذا يناشد بالمهارق أنشدا وقال الأعشى أيضًا6:   1 المعلقات: 200-201. 2 ابن سيدة، المخصص 13: 8-9. 3 الحيوان 1: 69-70. 4 المفضليات: 25. 5 ديوانه ق34 ب13. 6 الصولي، أدب الكتاب: 106، ولم أجده في ديوانه. والسملق "وزان جعفر": القاع الصفصف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 سلا دار ليلى: هل تبين فتنطق ... وأني ترد القول بيضاء سملق وأني ترد القول دار كأنها ... لطول بلاها والتقادم مهرق وقال شتيم بن خويلد الفزاري1: تسمع أصوات كدري الفراخ به ... مثل الأعاجم تُغشي المهرق القلما وقال الأسود بن يعفر: سطور يهوديين في مهرقيهما ... مجيدين من تيماء أو أهل مدين وقال سلامة بن جندل2: لبس الروماس والجديد بلاهما ... فتركن مثل المهرق الأخلاق. وقال سلامة أيضًا3: لمن طلل مثل الكتاب المنمق ... خلا عهده بين الصليب فمطرق أكب عليه كاتب بدواته ... وحادثه في العين جدة مهرق -3- النبات، وأشهر أنواعه: العسيب، وجمعه: عُسُب -بضمتين- وهو السعفة أو جريدة النخل إذا يبست وكشط خوصها، فمن الشعر الجاهلي الذي ورد فيه ذكر العسيب قول لبيد يصف كاتبًا4:   1 النقائض: 106. 2 ديوانه: 15. 3 ديوانه: 5. 4 ديوانه الأول، ط. فينا سنة 1880 ق13 ب2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 متعود لحن يعيد بكفه ... قلما على عسب ذبلن وبان وقول امرئ القيس1: لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخط الزبور في العسيب اليماني وقريب من العسيب: الكرنافة، وجمعها: كرانيف، وهي أصول السعف الغلاظ العراض اللاصقة بالجذع2. وقد ورد أن الوحي كان يكتب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على العسب والكرانيف3. ومما يتصل بهذا الكتابة على الخشب، والخشب على أنواع أيضًا، منه: الرحل: قال زيد بن ثابت: فاتبعت أجمع القرآن من الرقاع والأكتاف والأقتاب ... 4. فالأقتاب: جمع قتب -بفتحتين أو بكسر فسكون- وهو الإكاف الصغير على قدر سنام البعير. وقد رُوي لنا أيضًا أن المرقش بن سعد بن مالك كتب على رحل أبياتًا من شعره5. وقد استمر الرحل أداة من أدوات الكتابة في صدر الإسلام، فهذا سعد بن سعد، بن مالك -هو أنصاري شهد بدرًا- أوصى للنبي صلى الله عليه وسلم فكتب وصيته في مؤخر رحله، فأوصى له برحله وراحلته وخمسة أوسق من شعير ... 6. بل لقد قال سعيد بن جبير7: كنت أسمع من ابن عمر وابن عباس الحديث بالليل فأكتبه في واسطة رحلي حتى أصبح فأنسخه.   1 ديوانه: 120. 2 القاموس "كرب، وكرناف". 3 الفائق 2: 150. 4 مصاحف السجستاني: 20. 5 المفضليات: 459-460، والأغاني 6: 130. 6 ابن سعد 3/ 2: 151. 7 تقييد العلم: 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وواضح من هذه الأخبار أن الرحل لم يكن أداة ثابتة من أدوات الكتابة، إنما كان مما يضطر إليه المرء اضطرارًا حين لا يجد غيره يكتب عليه. ومن أنواع الخشب التي كانوا يكتبون عليها: الروسم. وقد مر بنا أن الروسم خشبة مكتوبة بالنقر يختم بها الطعام والأكداس في الجاهلية1. ومن أنواع الخشب التي كانوا أحيانًا يكتبون عليها أو يخطون علامات تميزها: السهام، وقد مر بنا خبر أبي سفيان حين أراد الخروج إلى أحد فامتنعت عليه رجاله فأخذ سهمين من سهامه، فكتب على أحدهما: نعم، وعلى الآخر: لا. ثم أجالهما عند هبل، فخرج سهم الإنعام فاستجرهم بذلك2. وقد استمروا يكتبون أحيانًا على هذا الضرب من الخشب بعد ذلك فالحكم بن عبدل الشاعر كان يكتب حاجته على عصاه ويبعث بها مع رسله فلا يحبس له رسول، ولا تؤخر له حاجة3. وقد رأيت كلمة "ألواح" تتردد في بعض ما جمعت من أخبار، منها: ما ذكره عبيد الله بن أبي رافع قال: كان ابن عباس يأتي أبا رافع فيقول ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كذا؟ ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كذا؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها4. ومنها ما قاله ابن أبي مليكة 5: رأيت مجاهدًا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول ابن عباس: اكتب. قال: حتى سأله عن التفسير كله.   1 تاج العروس "رسم". 2 الفائق 3: 190. 3 الأغاني 2: 404. 4 تقييد العلم: 91-92، وانظر أيضًا ص109. 5 الطبري، التفسير 1: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ولست أدري ما هذه الألواح؟ أمن خشب هي؟ أم من جلد؟ أم أنها من عظم عريض؟ أم لعلها من رصاص كما ذكر الفيروزبادي عن ألواح الرقيم1. -4- العظام، وأشهر أنواع العظام التي كانوا يكتبون عليها: الكتف والأضلاع وكان يكتب عليها الوحي، قال زيد بن ثابت2 " ... فجعلت أتتبع القرآن من صدور الرجال ومن الرقاع ومن الأضلاع ... " وقال زيد أيضًا3: لما نزلت هذه الآية {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتف، ودعاني، وقال: اكتب ... ويُروى أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ثقل دعا عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: ائتني بكتف حتى أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه4. وكان صحابة رسول الله يكتبون كذلك على الكتف، قال عمر بن الخطاب لابنه عبد الله5: يا عبد الله ائتني بالكتف التي كتبت فيها شأن الجد بالأمس ... وعن هانئ قال6: كنت عند عثمان رضي الله تعالى عنه، وهم يعرضون المصاحف فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها: "لم يتسن" و"فأمهل الكافرين" و"لا تبديل للخلق". قال فدعا بالدواة   1 القاموس "رقم". 2 أبو عمرو الداني، المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار "ط. الترقي بدمشق 1940" ص3. 3 ابن سعد 4/ 1: 154. 4 ابن سعد 3/ 1: 128. 5 ابن سعد 3/ 1: 246 و247. 6 ابن فارس، الصاحبي: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فمحا إحدى اللامين وكتب "لخلق الله"، ومحا "فأمهل" وكتب "فمهل"، وكتب "لم يتسنه" ألحق فيها هاء. واستمروا أيضًا يكتبون في الكتف بعد ذلك بدهر: رُوي أن عمر بن أبي ربيعة وابن أبي عتيق كانا جالسين بفناء الكعبة إذ مرت بهما امرأة من آل أبي سفيان، فدعا عمر بكتف فكتب إليها شعرًا1. بل لقد بقي العظم مادة من مواد الكتابة حتى العصر العباسي الأول -في النصف الأخير من القرن الثاني الهجري- قال الشافعي2 ... فكنت أجالس العلماء وأحفظ الحديث أو المسألة، وكان منزلنا بمكة في شعب الخيف، وكنت أنظر إلى العظم يلوح، فأكتب فيه الحديث أو المسألة، وكانت لنا جرة قديمة، فإذا امتلأ العظم طرحته في الجرة. وقال الشافعي كذلك3: طلبت هذا الأمر عن خفة ذات يد، كنت أجالس العلماء وأتحفظ، ثم اشتهيت أن أدون، وكان لنا منزل بقرب شعب الخيف، وكنت آخذ العظام والاكتاف فأكتب فيها، حتى امتلأ في دارنا من ذلك حبان. -5- الحجارة: وقد مضى لنا من القول في الكتابة والنقش على الحجارة والصخور ما حسبنا أن نشير إليه هنا إشارة عابرة مذكرين به، فقد فصلنا فيه الكلام في موطنين، الأول: عند حديثنا عن نشأة الخط العربي وتطوره، والثاني: عند حديثنا عن موضوعات الكتابة. ونزيد على ما قدمنا   1 الأغاني 9: 240. 2 ابن أبي حاتم، آداب الشافعي ومناقبه: 24. 3 المصدر السابق: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أن الكتابة والنقش على الحجر كان يسميان: الوحي، قال لبيد1: فمدافع الريان عري رسمها ... خلقًا كما ضمن الوحي سلامها وقال زهير2: لمن الديار غشيتها بالفدفد ... كالوحي في حجر المسيل المخلد وقال أيضًا3: لمن طلل كالوحي عافٍ منازله ... عفا الرس منه فالرسيس فعاقله وكانت آيات القرآن تكتب -على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- على حجارة رقيقة، قال زيد بن ثابت حينما أمره أبو بكر أن يجمع القرآن4: فجعلت أتتبعه من الرقاع والعسب واللخاف. واللخاف: حجارة بيض رقاق، واحدته: لخفة، بفتح اللام. قال ابن النديم5 "والعرب تكتب في أكتاف الإبل، واللخاف، وهي الحجارة الرقاق البيض، وفي العسب عسب النخل". ومن تمام الحديث عن النقش على الحجارة أن نشير إلى النقش والكتابة على البناء. فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة يوم الفتح حتى أمر بالزخرف فمحي، وأمر بالأصنام فكسرت، أراد النقوش والتصاوير6. وقد روي كذلك أن ابن الكلبي أخذ بعض علمه بأنساب   1 شرح المعلقات للتبريزي: معلقة لبيد. الوحي "بضم الواو وتشديد الياء" جمع، مفردها الوحي "بفتح الواو وسكون الحاء" وهو: الكتابة. السلام: الحجارة، واحدتها: سلمة "بفتح السين وكسر اللام". 2 ديوانه "تعلب": 268. الفدقد: الأرض المرتفعة المستوية. المخلد: المقيم. 3 ديوانه: 126. 4 الفائق 2: 150. 5 الفهرست: 31. 6 الفائق 1: 525. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 العرب مما وجده على جدران كنائس الحيرة1، مما سنفصله في حديثنا عن تدوين الشعر الجاهلي في الباب الثاني. -6- الورق: وقد آثرنا أن نؤخر الحديث عن الورق، وكان حقه التقديم، وذلك لأن حديثنا عنه قد يطول ويتشعب. فمن المعروف المتداول عند المعنيين بمثل هذه الأبحاث أن الورق لم ينتشر استخدامه للكتابة إلا منذ أواخر القرن الثاني الهجري "الثامن الميلادي"، وذلك أن الجيوش الإسلامية انتصرت في سنة 133 هجرية "751م" بقيادة والي سمرقند على إخشيد فرغانة الذي كان يناصره ملك الصين. وقد أسر المسلمون عشرين ألف رجل فيهم صينيون كانوا يعرفون صناعة الورق. ويقال إن الصينيين عرفوا هذه الصناعة منذ مطلع القرن الثاني الميلادي. فأدخل هؤلاء الأسرى صناعة الورق إلى العالم الإسلامي بعد أسرهم بسنوات قليلة، ثم انتشرت بعد ذلك هذه الصناعة حتى دخلت أوربا بعد قرون2. فهذه الرواية التاريخية إذن لا تشير إلا إلى صناعة الورق، ونحن إذا سلمنا بصحتها، وليس عندنا ما يضعفها غير ما أورده ابن النديم من حديث عن الورق الخراساني يذكر فيه تاريخ معرفة العرب به، وهو حديث يشتمل على هذه الرواية التاريخية، ولكنه يذكر معها أقوالًا أخرى متناقضة تجعلنا نتوقف عن قبول أحدها، قال3 "فأما الورق الخرساني فيعمل من الكتان،   1 الطبري، تاريخ 2: 37. 2 انظر لذلك: Dr. A. Grohmann, from the world of Arabic papyri, cairo 1952, p. 51. وكذلك دائرة المعارف البريطانية مادة paper 3 الفهرست: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ويقال إنه حدث أيام بني أمية، وقيل في الدولة العباسية، وقيل إنه قديم العمل، وقيل إنه حديث، وقيل إن صناعًا من الصين عملوه بخراسان على مثال الورق الصيني ... "، نقول إن هذه الرواية التاريخية عن الورق الخراساني والصيني -على فرض صحتها- لا تشير إلا صناعة الورق، ولا تعني أن الورق لم يكن معروفًا قبل هذا التاريخ في بلاد العرب وإن لم يكن يُصنع فيها. فإذا كانت بعض البلاد المجاورة للصين كالهند وجارتها بلاد فارس قد عرفتا الورق الصيني -سواء أكانت صنعته في بلادها أم أجتلبته مصنوعًا من الصين- فليس ثمة ما يمنع أن يعرفه العرب في جاهليتهم، وقد كانت صلاتهم التجارية وثيقة بفارس والهند بل بالصين نفسها. على أن هذا ليس فرضًا عقليًّا مجردًا حسب بل إننا عثرنا على ما نستروح منه أنه يدعم هذا الفرض: فابن النديم يذكر أنه رأى أوراقًا يحسبها من ورق الصين بخط يحيى بن يعمر1، ويحيى بن يعمر توفي في سنة 90 للهجرة، وقد يكون كتب هذه الأوراق قبل وفاته بسنوات، وبذلك يكون العرب قد عرفوا الورق الصيني -على ما يروي ابن النديم- قبل أسر هؤلاء الصينيين بنحو نصف قرن على الأقل. وليس عندنا ما نزيده على ما قدمناه عن الورق الصيني، وإن كان لنا حديث طويل عن الورق بعامة. فكلمة "الورق" تتردد في الشعر الجاهلي وأخبار صدر الإسلام، وقد ذهب بعضهم إلى أنها تعني الجلد الرقيق الذي يشبه في رقته ورق الشجر، وليس عندنا ما يدعم هذا المذهب، وهو في رأينا لا يعدو أن يكون استنتاجًا استنتجه من ذهب إليه بعد أن فرض أن العرب في جاهليتهم لم يعرفوا الورق. وهذا -كما نرى- فرض على فرض، واستنتاج مبني على استنتاج. وسأعرض بعض ما عثرت عليه من أخبار الصدر الأول ومن الشعر الجاهلي   1 الفهرست: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 مما فيه ذكر للورق، وسأبدأ برواية تتصل بعهد عثمان بن عفان يُفرق فيها بين الورق والأديم، وبذلك يقوى ما ذكرناه آنفًا من أنهما شيئان لا شيء واحد. وذلك أن عثمان بن عفان عزم على كل رجل معه من كتاب الله شيء أن يذهب به إليه "وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن1". وقال عمرو بن نافع مولى عمر بن الخطاب2 "كنت أكتب المصاحف في عهد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فاستكتبتني حفصة بنت عمر مصحفًا لها ... فلما بلغت إليها حملت الورقة والدواة". وسئل ابن الحنفية عن بيع المصاحف فقال3 "لا بأس إنما تبيع الورق". وكان مطر بن طهمان مولى علي بن أبي طالب يُعرف بمطر الورَّاق4. وقال أبو عبيدة إن المهلب قال لبنيه في وصيته5 "يا بني لا تقوموا في الأسواق إلا على زراد أو وراق". وهذه أحاديث قد تطول، ولا غناء في سردها، وأهمها عندنا هو الخبر الأول الذي فُرِّق فيه بين الورق والأديم؛ وسنذكر ثلاثة شواهد فيها ما يقوي الخبر الأول في التفريق بين الجلد والورق. أما الأول فقول عبد الله بن عامر لمعاوية بن أبي سفيان حينما طلق هند بنت معاوية، قال له6: "فرأيت أن أردها إليك لتزوجها فتى من فتيانك كأن وجهه ورقة مصحف". وأما الثاني فقول حسان بن ثابت7: عرفت ديار زينب بالكثيب ... كخط الوحي في الورق القشيب   1 المصاحف: 23-24. 2 المصاحف: 86. 3 المصاحف: 175. 4 المصدر السابق: 177، وانظر ترجمة مطر في التهذيب، وفي ابن سعد 7/ 2/ 19. 5 الجاحظ، الحيوان 1: 52. 6 نسب قريش: 149. 7 ديوانه "مطبعة النيل 1904": 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 والثالث قول أبي ذؤيب1: فنمنم في صحف كالريا ... ط فيهن إرث كتابٍ محي فما نحسب أن ابن عامر كان يقصد إلى تشبيه وجه ذلك الفتى بالجلد، وإلا لكان وجهًا صفيقًا متينًا!! ولكنه -في رأينا- قصد إلى أن ذلك الوجه في نضارته ورونقه وبهائه وصفائه ومائه، وما شئت من هذه الأوصاف يشبه الورقة، ولا بد أن تكون هذه الورقة التي يشبه بها هذا الوجه فيها من هذه الصفات النضرة الصافية الرقيقة ما يصح معه التشبيه. ونرى كذلك في وصف حسان للورق بأنه "ورق قشيب"، وتشبيه أبي ذؤيب الصحف بأنها "كالرياط" ما يتسق مع ما قدمناه عن قول ابن عامر. فقد استقام عندنا إذن أن الورق في هذه الأمثلة كلها شيء آخر غير الجلد أو الأديم، شيء أرق وأصفى، فما عسى هذا الورق أن يكون؟ إذا كنا ما زلنا في شك من أمر معرفة الجاهليين بالورق الصيني أو الخراساني بعد الذي قدمناه من حديث عنه، فإننا نكاد نظن أن عرب الجاهلية قد عرفوا ورق البردي. فقد رُوي أن خالد بن الوليد كتب كتاب الأمان لأهل الشام في سنة 635م على القرطاس2. ويسمى ابن النديم ورق البردي القرطاس المصري والطومار المصري3. والقرطاس وارد في الشعر الجاهلي وأخبار الصحابة، ولكننا لا نستطيع أن نقطع بأن المقصود بالقرطاس فيها كلها هو ورق البردي؛ لأن من معاني القرطاس: قطعة من أديم تنصب للنضال فإذا أصابه الرامي قيل: قرطس4.   1 ديوان الهذليين 1: 64. 2 البلاذري، فتوح البلدان "مصر": 127. 3 الفهرست: 31. 4 القاموس واللسان "قرطس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فالقرطاس، في رأينا، كلمة عامة تطلق على كثير من مواد الكتابة ومنها ورق البردي. ولعل من الأمثلة التي يرد فيها القرطاس بمعنى ورق البردي خاصة قول طرفة يصف ناقته1: وخد كقرطاس الشآمي ومشفر ... كسبت اليماني قده لم يجرد قال الأعلم في شرحه الديوان "وقوله: وخد كقرطاس الشآمي، شبه بياض خدها ببياض القرطاس، ويقال: أراد أنه عتيق لا شعر فيه، وإنما قال: الشآمي، لأنهم نصارى أهل كتاب". وقال أبو زيد القرشي2: "شبه خدها بالقرطاس وهو الورق من جهة الشام". ونحن نرجح أنه أراد بالقرطاس هنا ورق البردي -لا الجلد- لأنه ذكره في مقابل "السبت" وهو جلد البقر المدبوغ بالقرظ، فحينما أراد تشبيه خدها شبهه في نقائه وبياضه بالورق، ثم شبه مشافرها بالجلد المدبوغ بالقرظ. ولعل من الأمثلة التي يرد فيها القرطاس بمعنى الورق ما ذُكر من أن أبا بكر الصديق "كان جمع القرآن في قراطيس". فنحن نرجح إذن أن المقصود بالورق وبالقرطاس -في بعض أنواعه- ورق البردي. وحسبنا هذا القدر من الحديث عن الورق. فها نحن نرى أن العرب لم يغادروا وسيلة يكتبون عليها إلا التمسوها، سواء عندهم أن تكون قد أعدت للكتابة وأن تكون عارضة طارئة. فكتبوا على ورق البردي، والحرير الناعم، والقطن المصقول، والجلد الرقيق، وكتبوا على السعف والخشب والعظام والحجارة، بل لقد كتبوا حين ألجأتهم   1 ديوانه 19-20. المشفر من البعير كالشفة من الإنسان. السبت: جلود البقر المدبوغة. القد: ما قد من الجلد، وهو هنا: النعل نفسها وخص اليماني؛ لأنهم ملوك ونعالهم أحسن النعال. 2 جمهرة أشعار العرب: 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الضرورة على أكفهم ونعالهم، قال سعيد بن جبير1 "كنت أكتب عند ابن عباس في صحيفتي حتى أملأها، ثم أكتب في ظهر نعلي، ثم أكتب في كفي". وعن عبد الله بن حنش قال2 "رأيتهم يكتبون على أكفهم بالقصب عند البراء" وقال معمر3 إن الزهري ربما كتب الحديث في ظهر نعله مخافة أن يفوته. -7- ولقد كانت لهذه المواد المكتوبة أسماء عامة يطلقونها عليها ليدلوا على المكتوب وما كتب عليه معًا، لا يخصصون بذلك نوعًا بعينه، ولا يقصدون إلى ضرب منها بذاته. ومن أشهر هذه الألفاظ وأكثرها ورودًا: 1- الصحيفة: فنحن نعثر على هذه الكلمة في القرآن الكريم، وفي كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبار صحابته رضوان الله عليهم، وفي الشعر الجاهلي، ولكننا لا نستطيع أن نصرفها إلى مادة بعينها من هذه المواد التي عددناها للكتابة؛ وإنما هي لفظة قد تدل على أي من هذه الأنواع، فقد تكون جلدًا أو قماشًا أو نباتًا أو حجرًا أو عظمًا أو ورقًا. ففي القرآن الكريم وردت ثماني مرات كلها بصيغة الجمع {صُحُف} 4. وأما ورود هذه الكلمة في كتب رسول الله والصحابة فيفوت الحصر، ومن أمثلته ما جاء في كتابه صلى الله عليه وسلم "بين المؤمنين والمسلمين من قريش   1 تقييد العلم: 102. 2 تقييد العلم: 105. 3 المصدر السابق: 107. 4 التكوير 10، الأعلى 18، 19، النجم 36، عبس 13، طه 133، البينة 2، المدثر 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم". فقد تكررت فيه كلمة الصحيفة سبع مرات كلها بلفظ الإفراد1. ومما وردت فيه من الشعر الجاهلي: أبيات لقيط2 وأبى ذؤيب3 وعلباء بن أرقم4 وقيس بن الخطيم5. وقد أشرنا إلى هذه الأبيات في مواطن سابقة. 2- الكتاب: وهي لفظة قد تكون أعم من الصحيفة، وأكثر منها شيوعًا فيما نقرأ، إذ أنها مصدر كالكتابة، ولكنها أطلقت على الشيء المكتوب حتى كادت لا تنصرف إلا إليه. وقد وردت في القرآن الكريم إحدى وستين ومائتي مرة، إفرادًا وجمعًا6. ووردت أيضًا في كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، وحسبنا أن نشير إلى الكتاب نفسه الذي ذكرناه منذ قليل والذي كتبه صلى الله عليه وسلم وصحابته، وحسبنا أن نشير إلى الكتاب نفسه الذي ذكرناه منذ قليل والذي كتبه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار واليهود فقد وردت فيه كلمة "الكتاب" مرتين واللفظة من الكثرة والشيوع في كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبار صحابته بما لا مجال لتتبعه والاستكثار بسرد أمثلته. أما الشعر الجاهلي فقد جاءت في شعر لتميم بن أبي بن مقبل العامري قال7: منهن معروف آيات الكتاب وقد ... تعتاد تكذب ليلى ما تمنينا وقال لقيط بن يعمر الإيادي8:   1 الدكتور محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية: 1-7. 2 الشعر والشعراء 1: 152. 3 ديوان الهذليين 1: 64. 4 الأصمعيات: 63. 5 ديوان: 19. 6 انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن من ص592 إلى ص595. 7 جمهرة أشعار العرب: 318. 8 مختارات ابن الشجري: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 هذا كتابي إليكم والنذير لكم ... لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا وقال عبيد بن الأبرص1: لمن الدار أقفرت بالجناب ... غير نؤي ودمنة كالكتاب وقال عدي بن زيد2: تعرف أمس من لميس الطلل ... مثل الكتاب الدارس الأحول وقال عدي أيضًا3: ناشدتنا بكتاب الله حرمتنا ... ولم تكن بكتاب الله ترتفع وقال سلامة بن جندل4: لمن طلل مثل الكتاب المنمق ... خلا عهده بين الصليب فمطرق وقال زهير5: يوخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم 3- الزبور: وجمعها زُبر. وقد يراد بها الكتاب الديني، ولكنها تطلق أيضًا على غيره من الكتب، فمن الضرب الأول قول أمية: وأبرزوا بصعيد مستوٍ جرز ... وأنزل العرش والميزان والزبر   1 مختارات ابن الشجري: 105. 2 الأغاني 2: 153. 3 شعراء النصرانية: 472. 4 ديوانه: 15. 5 ديوانه "ثعلب": 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وقول امرئ القيس1: أتت حجج بعدي عليها فأصبحت ... كخط زبور في مصاحف رهبان وقول عمرو بن أحمر2: أم لا تزال ترجي عيشة أنفًا ... لم ترج قبل ولم يكتب بها زبر ومن الضرب الثاني الذي لا إشارة فيه تخصصه بالكتاب الديني وإنما يدل على مطلق الكتاب قول لبيد3: وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زبر تجد متونها أقلامها وقول امرئ القيس4: لمن طلل أبصرت فشجاني ... كخط الزبور في العسيب اليماني وقول لبيد أيضًا5: فنعاف صارة فالقنان كأنها ... زبر يرجعها وليد يمان ومن الزبور اشتقوا الفعل: يزبر، بمعنى: يكتب، قال أبو ذؤيب6: عرفت الديار كرقم الدوا ... ة يزبرها الكاتب الحميري وقد وردت الزبور في القرآن الكريم في تسعة مواطن7 كلها بمعنى   1 ديوانه: 125. 2 جمهرة أشعار العرب: 315. أنف: بمعنى مستأنفة. 3 شرح المعلقات التبريزي: 134. 4 ديوانه: 120. 5 ديوانه في 13 ب2. 6 ديوان الهذليين 1: 64. 7 الأنبياء 105، الإسراء 55، النساء 163، الشعراء 196، القمر 43، 52 النحل 44، آل عمران 184، فاطر 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الكتاب الديني، وجاءت في موطنين منها خاصة بكتاب داود1، وكان ورودها إفرادًا وجمعًا. -8- ذلك ما يُكتب عليه، أما ما يكتب به فسيدور حديثنا عنه على ثلاثة أمور: القلم، والدواة، والحبر. 1- القلم: فالقلم حديثه طويل، ولو أوردنا ما ذكره ابن قتيبة وابن النديم والصولي وابن السيد البطليوسي والقلقشندي في وصفه وأنواعه لملأنا صفحات، ونكون بذلك قد انحرفنا عن النهج الذي خططناه لأنفسنا منذ بدء هذا البحث، واتكأنا على غيرنا حيث كان يجدر بنا ألا نتكئ إلا على استقصائنا وحده. فنحن إنما نؤرخ العصر الجاهلي، وما كتبته هذه الكتب العربية عن مواد الكتابة عام لا يحده عصر، مطلق لا يقيده زمن، وهو منصب على ما عرفوه من العصور الإسلامية. ومن الإخلال بمنهجنا أن نسحبه على العصر الجاهلي. ولذلك لم نورد فيما مضى من الحديث، ولن نورد فيما سيستقبلنا منه، إلا ما استنبطناه من الشعر الجاهلي، أو من أحاديث الرسول وأخبار الصحابة، وبذلك تضيق علينا رقعة البحث، وتقل بين أيدينا مادته، وقد تنقطع بنا المسالك، ولكن هذا هو بحثنا، وتلك هي طبيعته، فلا معدى لنا عن أن نتقيد بهما. والقلم في الجاهلية كما تصفه هذه النصوص مصنوع من القصب يقط ويقلم أو يُبرَى ثم يغمس في مداد الدواة ويكتب به. وقد مر بنا قول عبد الله   1 الإسراء 55، النساء 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ابن حنش1 "رأيتهم يكتبون على أكفهم بالقصب عند البراء". وأكبر ظني أنهم كانوا يستخدمون ضربًا آخر من الأقلام يكتبون به -دون حبر- حينما تلجئهم الحاجة إلى أن يسجلوا بعض شئونهم في عجلة من أمرهم، ودون أن يعدوا للأمر عدته، فالشاعر الجاهلي الذي كان يحتضر فلم يجد وسيلة للكتابة إلا أن يتخذ من رحل قاتله صحيفة يكتب عليها ما كان يريد2، والصحابي الذي أوصى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب وصيته في مؤخر رحله3، والتابعي الذي كان يسمع الحديث من بعض الصحابة في الليل فيكتبه في واسطة رحله حتى يصبح فينسخه4، هؤلاء جميعًا لم يكونوا معدين للكتابة أمرها، ولم يكونوا متخذين لها أسبابها، وليس مما يقبله العقل أن يكونوا في مثل أحوالهم تلك يحملون معهم قصبهم المقطوط المبرى ودويهم الملأى بالمداد، وإنما كانوا -فيما أرجح- يكتبون بمادة تترك لونها أو أثرها على الرحل، ولعلها مادة طباشيرية، أو فحمية أو رصاصية، وقد أشارت إحدى الروايات إلى أن قيسبة بن كلثوم السكوني كتب على خسبة رحل أبي الطمحان القيني بسكين5 وكذلك الشأن فيمن كانوا يكتبون على الحجارة، فقد كانوا ينقشون عليها نقشًا، ويستخدمون في نقشهم مواد صلبة ينحتون بها وينقشون. وقد ورد ذكر القلم، مفردًا وجمعًا، بهذا المعنى الذي نقصده، ثلاث مرات في القرآن الكريم6. وورد ذكره كذلك في الشعر الجاهلي. قال عدي بن زيد7: له عنق مثل جذع السحو ... ق والأذن مصعنة كالقلم   1 تقييد العلم: 105. 2 المفضليات: 459-460. 3 ابن سعد 3/ 3: 151. 4 تقييد العلم: 102. 5 الأغاني 11: 131. 6 العلق: 4، القلم: 1، لقمان: 27. 7 سمط اللآلي: 876. السحوق من النخل: الطويلة. مصعنة: منصوبة محددة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وقال عدي أيضًا1: ما تبين العين من آياتها ... غير نوى مثل خط بالقلم وقال الزبرقان بن بدر2: هم يهلكون ويبقى بعد ما صنعوا ... كأن آثارهم خطت بأقلام وقد مرت بنا أبيات: أمية بن أبي الصلت3، والمرقش4، وشتيم بن خويلد5، ولبيد6، وفيها كلها ذكر القلم. وربما سمي القلم: مزبرًا. فقد رُوي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دعا في مرضه بدواة ومزبر، فكتب اسم الخليفة بعده7. قال الزمخشري: المزبر هو القلم؛ وأنشد الأصمعي: قد قضى الأمر وجف المزبر 2- الدواة والمداد: وقد ورد ذكرهما كذلك في الشعر الجاهلي، قال عبد الله بن عنمة8: فلم يبق إلا دمنة ومنازل ... كما رد في خط الدواة مدادها وقد مر بنا بيتان لأبي ذؤيب9 ... ولسلامة بن جندل10 فيهما ذكر   1 الأغاني 2: 119. 2 البيان والتبيين 3: 179. 3 ابن هشام 1: 48. 4 معجم المرزباني: 201، والأغاني 6: 127. 5 النقائض: 106. 6 شرح المعلقات للتبريزي: 128. 7 الفائق 1: 522. 8 المفضليات: 743. 9 ديوان الهذليين 1: 64. 10 ديوانه: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الدواة. وكانوا أيضًا يسمون المداد "نقسًا"، قال حميد بن ثور1: لمن الديار بجانب الحبس ... كخط ذي الحاجات بالنقس وكانوا أحيانًا يمحون المكتوب بالمداد حين تنقضي حاجتهم منه، ثم يستخدمون الصحيفة لكتابة شأن آخر من شئونهم. ويسمون هذه الصحيفة التي يكتبون فيها ثم يمحونها ثم يكتبون فيها "طرسًا"2. وكانوا ربما محوا المداد بغسله بالماء، فقد كان عبد الله بن مسعود إذا عرف أن في مجلسه من يكتب حديثه يدعو بالكتاب وبإجانة من ماء فيغسله3. وكذلك كان يفعل أبو موسى الأشعري4. وقد مر بنا قول عمر للرجل الذي كتب كتاب دانيال5: "انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض". -9- وصف الخط في الجاهلية: وقد كدت أجعل عنوان هذا الجزء من البحث "أنواع الخط في الجاهلية". ولكن أنى لنا أن نعرف أنواع هذا الخط، والأمر في أخبار الجاهلية على ما ذكرنا في غير موطن من هذا الفصل؟ أما ما ذكره ابن مقلة ونقله عنه ابن النديم6 وابن السيد البطليوسي7 من أنواع الخطوط ووصف الأقلام فلا يرقى إلى   1 ديوانه: 97. 2 القاموس وأساس البلاغة "طرس"، والاقتضاب: 93، والقائق2: 81. 3 تقييد العلم: 39 و53 و54 و55. 4 المصدر السابق: 40. 5 المصدر السابق: 51. 6 الفهرست: 6-7. 7 الاقتضاب: 87-90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الجاهلية، والقليل منه لا يعدو أن يكون إشارة عابرة إلى الخط في العصر الأموي، وإنما جل الحديث كان عن العصر العباسي. فلا معدى إذن عن أن أقصر عنوان هذا الجزء من البحث على "وصف الخط في الجاهلية"، ولا معدى كذلك عن أن أعود إلى النهج الذي سلكته من قبل وهو استنطاق الشعر الجاهلي وأخبار صدر الإسلام. ولقد وجدت مما بين يدي من نصوص وروايات أن عرب الجاهلية كانوا يفتنون في خطوطهم وكتابتهم، ويجبرونها ويذهبون فيها مذاهب من التجويد والإتقان. وكان هذا الخط المجود المحبر المتقن يوصف بالترقيش والنمنمة والرقم والوشم والتنميق. وقد أشرنا من قبل إلى بيت أبو ذؤيب الذي يصف فيه الكتابة فتبدو كأنما بلغت شأوًا بعيدًا في الزينة والجمال حتى شبهها في رقمها ووشيها بالعروس التي استكملت زينتها وبهاءها واستخفها الحسن والعجب1. وأشرنا كذلك إلى أبيات للأخنس بن شهاب التغلبي2، وحاتم الطائي3، وسلامة بن جندل4 يصفون فيها الكتابة بالترقيش والنمنمة والتنميق. ومما يدخل في هذا الباب الإشارة إلى مهارة الكاتب وإجادته الخط وتعوده الكتابة، قال لبيد5: متعود لحن يعيد بكفه ... قلمًا على عسب ذبلن وبان وقال معاوية بن مالك بن جعفر6: فإن لها منازل خاويات ... على نملى وقفت بها الركابا   1 ديوان الهذليين 1: 64-65. 2 المؤتلف والمختلف: 27. 3 ديوانه: 23. 4 ديوانه: 15. 5 ديوانه: ق16 ب2. 6 المفضليات 2: 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 من الأجزاع أسفل من نميل ... كما رجعت بالقلم الكتابا كتاب محبر هاجٍ بصير ... ينمقه وحاذر أن يعابا وكان من جملة ما يتصف به هذا الخط المتقن استواء سطوره وتناسق كلماته وحروفه، ومن هنا جاء التشبيه به في الاستقامة والاستواء، فقد ورد في الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسوي الصفوف حتى يدعها مثل القدح أو الرقيم1؛ والرقيم هو الكتاب المرقوم؛ أي كان يفعل في تسوية الصفوف ما يفعل السهام في تقويم قداحه، أو الكاتب في تسوية سطوره. وهذا الضرب من الكتابة المجودة التي يتأنق فيها الكاتب ويجود هي التي رجحنا في أول هذا الفصل أنها كانت معجمة منقوطة. وأما الضرب الثاني من الخط فهو الذي يكتبه الكاتب، وهو في عجلة من أمره لا يتأتى ولا يتأنق، وإنما يخط حروفًا وكلمات ليس فيها أثر من جمال ولا من زينة. وهذا الخط يكون في الغالب غفلًا من النقط والإعجام. وقد عثرت على لفظتين كانتا تدلان على هذا الضرب من الخط الغفل غير المتقن، أولاهما التعريض، وقد وردت في بيت للشماخ2: كما خط عبرانية بيمينه ... بتيماء حبر ثم عرض أسطرا وتعريض الخط -كما في المعاجم- تثبيجه وتعميته وترك تبيين حروفه وعدم تقويمه. واللفظة الثانية التي تدل على هذا الضرب من الخط الغفل السريع الذي لا إتقان فيه هي: المشق. وقد وردت في أخبار عن رجال الصدر الأول، فقد رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال3: "شر الكتابة   1 الفائق: 320-321. 2 ديوانه: 26، وديوان زهير "ثعلب": 5. 3 الصولي، أدب الكتاب: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 المشق، وشر القراءة الهذرمة". وروى ابن سيرين أنه كره أن تكتب المصاحف مشقًا، فلما قيل له: لم كره ذلك؟ قال: "لأن فيه نقصًا، ألا ترى الألف كيف يغرقها ينبغي أن ترد! "1 وذكر ابن السيد البطليوسي أن أهل الأنبار كانوا "يكتبون المشق، وهو خط فيه خفة ... ، ولأهل الحيرة خط الجزم وهو خط المصاحف، وخط أهل الشام: الجليل"2 وقال أيضًا3: "فإذا أمد الحروف قيل: مشق مشقًا ويقال: المشق سرعة الكتابة وسرعة الطعن". وكذلك جاء في المعاجم أن المشق: سرعة الكتابة وفسادها. وهذا الخط المعرض أو المشق هو الخربشة، قال زيد بن أخزم الطائي: سمعت ابن دؤاد يقول: كان كتاب سفيان مخربشًا4.   1 السجستاني، المصاحف: 134. 2 الاقتضاب: 89. 3 المصدر السابق: 94. 4 اللسان "خربش". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الباب الثاني: كتابة الشعر الجاهلي وتدوينه الفصل الأول: كتابة الشعر الجاهلي ... الفصل الأول: كتابة الشعر الجاهلي: -1- فإذا صح ما ذهبنا إليه في بحثنا في الباب السابق -ونرجو أن يكون في جملته صحيحًا- فإن من الطبيعي أن نستنبط منه ثلاث نتائج، ذكرناها في مواضعها، ونجمعها الآن لنقدم بها بين يدي هذا الفصل. الأول: قدم الكتابة في بلاد العرب، فقد استبان لنا بالدليل المادي الملموس، المتمثل في النقوش الحجرية المكتشفة، أن عرب الجاهلية قد عرفوا الكتابة بالحروف العربية منذ مطلع القرن الرابع الميلادي. وكتبوا بهذا الخط العربي ثلاثة قرون قبل الإسلام على أقل تقدير. والثانية: معرفة عرب الجاهلية بالكتابة معرفة فيها شيء من الانتشار يبعد عنها ما وصموا به من الجهل بها، وقد دللنا على ذلك بوفرة من النصوص والروايات تنبئ عن النشاط التعليمي في الجاهلية بالكتابة معرفة فيها شيء من الانتشار يبعد عنها ما وصموا به من الجهل بها، وقد دللنا على ذلك بوفرة من النصوص والروايات تنبئ عن النشاط التعليمي في الجاهلية، وقيام "الكتاب" أو "المكتب" آنذاك، وتوافر عدد المعلمين الذين كانوا يعلمون الكتابة، وذلك كله في البيئات المتحضرة مثل: مكة والمدينة والطائف والحيرة والأنبار. والثالثة: اتساع ميدان الكتابة وتشعب موضوعاتها، فذكرنا ضروبًا عدة من الموضوعات التي كانوا يقيدونها بالكتابة، وأثبتنا وصفًا لأدوات الكتابة وآلاتها وأوصاف الخط الجاهلي. وكان عمادنا في كل ما ذكرنا: النقوش الحجرية، والشعر الجاهلي، والروايات والنصوص الجاهلية. وبعض الروايات والنصوص الإسلامية التي تنسحب في دلالاتها وإشاراتها على العصر الجاهلي. وقد انتهى بنا بحثنا المتقدم إلى أن عرب الجاهلية قد عرفوا من الكتابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 صورتها الساذجة اليسيرة حين كتبوا رسائلهم، وصكوك حسابهم وعهودهم ومواثيقهم، ونقشوا خواتمهم وشواهد قبورهم. وهذه كلها لا تتجاوز في حجمها صحيفة واحدة قد تنقص قليلًا أو تزيد قليلًا. وقد عرفوا أيضًا من الكتابة صورة أرقى من هذه الصورة الساذجة، وأكبر حجمًا، وأشد تعقيدًا، وهي التدوين. والفرق بين الصورتين -لغة واصطلاحًا- واضح؛ إذ أن الأولى لا تعني أكثر من مجرد التقييد العابر لما يعرض من شئون الحياة، ولكن التدوين إنما يعني جمع الصحف وضم بعضها إلى بعض حتى يكون لنا منها ديوان، وهو مجتمع الصحف. ولا بد للتدوين من أن يكون عملًا مقصودًا متعمدًا يرمي إلى هذه الغاية، لا عملًا عابرًا عارضًا. ولم نذكر في الفصل السابق من أمثلة هذا التدوين إلا مثلًا واحدًا هو الكتب الدينية. وهدفنا في هذا الفصل تخصيص الحديث بكتابة الشعر الجاهلي منذ أول عهدها الذي استطعنا أن نكشف عنه، ثم نمضي بها حتى نصلها بتدوين هذا الشعر الجاهلي الذي وصل إلينا في هذا العصر والذي جمعه الرواة العلماء في أواخر القرن الثاني للهجرة. -2- وموضوع كتابة الشعر الجاهلي -كموضوع الكتابة عامة- ذو شقين، الأول: الكتابة الضيقة التي لا تعدو مجرد التقييد، والثاني: الكتابة الواسعة التي تتجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة التدوين. وقد رأينا أن نبدأ بالحديث عن تقييد الشعر الجاهلي، ونؤخر الحديث عن تدوينه إلى أن نضعه في مكانه المناسب له من حديثنا عن أوائل التدوين وتأليف الكتب في الجاهلية وصدر الإسلام. ويبدو لنا أن الأدلة على تقييد الشعر في الجاهلية يصح أن تقسم ضربين، الضرب الأول: أدلة عقلية استنباطية؛ والثاني: أدلة صرحية مباشرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 أما الأدلة العقلية الاستنباطية فجماعها في أربعة أمور: الأول: هو هذا الذي قدمناه في الفصل السابق، وتجشمنا مشقة الخوض فيه وبيانه والكشف عن أجزائه وتفاصيله. ولم نكن لنركب هذا المركب لمثل هذا البحث لو لم نرم إلى أن نتخذ منه متكأ نعتمد عليه في بحث كتابة الشعر الجاهلي بخاصة. وذلك أن عرب الجاهلية هؤلاء الذين كانوا يقيدون بالكتابة دينهم ورسائلهم وعهودهم وصكوك حسابهم وسائر ما قدمناه في بحثنا عن موضوعات كتابتهم لا يصح في الفهم أن يقيدوا كل ذلك من أمورهم: دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، حقيرها وعظيمها ثم يهملوا تقييد شعرهم. والشعر عندهم كما هو معروف متداول، في الذروة العليا من القيمة والخطر؛ إذ هو ديوان أمجادهم وأحسابهم، وسجل مفاخرهم ومآثرهم، قال الجاحظ1: " ... فكل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها، وتحصين مناقبها، على ضرب من الضروب وشكل من الأشكال. وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها". وقال ابن قتيبة2 عن الشعر إن الله جعله لعلوم العرب مستودعًا، ولآدابها حافظًا، ولأنسابها مقيدًا، ولأخبارها ديوانًا لا يرث على الدهر ولا يبيد على مر الزمان. فإذا كانت القبائل تقيد عهودها ومواثيقها -كما مر بنا- أفليس من الطبيعي إذن أن تقيد شعر شعرائها الذين يدافعون به عن حياضها، ويذودون به عن أمجادها، ويسجلون به وقائعها وأيامها، ويعددون فيه انتصاراتها ومآثرها؟ ونحن نعلم أن القبيلة كانت إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس3.   1 الحيوان 1: 71-72. 2 تأويل مشكل القرآن: 14. 3 ابن رشيق، العمدة 1: 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وقد قال الأعشى يخاطب قومه ويبين لهم فضله عليهم1: وأدفع عن أعراضكم وأعيركم ... لسانًا كمقراض الخفاجي ملحبا وبلغ من عناية القبائل بالشعر أن بني تغلب كانوا يعظمون قصيدة عمرو بن كلثوم المعلقة، وكان يرويها صغارهم وكبارهم حتى هجوا بذلك، فقال بعض شعراء بكر بن وائل2: ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم يروونها أبدًا مذ كان أولهم ... يا للرجال لشعر غير مسئوم ومن أبين ما يدل على خطر الشعر عند القوم آنذاك ما ذكره أبو عبيدة قال3: كان الرجل من أنف الناقة إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني قريع. فما هو إلا أن قال الحطيئة: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا؟ فصار الرجل منهم إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: من بني أنف الناقة. وكما كانت القبائل حريصة على تسجيل مفاخرها في شعر شعرائها كانت كذلك حريصة على أن تتجنب ذم شعراء القبائل الأخرى وهجاءهم. وهل أبلغ في الدلالة على خشيتهم الهجاء وتخوفهم أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب ويسب به الأحياء والأموات من أنهم كانوا إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق وربما شدوا لسانه بنسعة كيلا يهجوهم، كما صنعت بنو تيم بعبد يغوث بن وقاص الحارثي حين أسر يوم الكلاب، فقال في ذلك عبد يغوث4:   1 ديوانه: ق14 ب31. الملحب: القاطع. 2 الأغاني "دار الكتب" 11: 54. 3 البيان والتبيين 4: 38. 4 البيان والتبيين 4: 45، وانظر تفصيل أثر الشعر في القبائل والأفراد في المصدر نفسه ج4 من ص35 إلى ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أقول، وقد شدوا لساني بنسعة ... أمعشر تيم أطلقوا من لسانيا ذلك هو شأن القبائل. أما الأفراد فلا يقلون في هذا عن قبائلهم. فإن هذا الملك أو السيد أو الشريف أو الثري الذي كان يقيد صك حسابه، ويقيد قطوط جوائزه وعطاياه، ويكتب الرسائل في شتى شئونه أيعقل أنه كان يغفل عن أن يولي الشعر الذي يمدح به مثل هذه العناية؟ وقد كانت عناية الممدوح بمدح الشاعر تتمثل في هذه الهبات السخية من الإبل والملابس والحلي والقيان التي كان يهبها الممدوح للشاعر، لأنه بمدحه يذيع اسمه في العرب، ويعلي من قدره بينهم، ويخلد ذكره على مر السنين. فكان الممدوح حريصًا على أشد الحرص على مدح الشاعر، يجهد في إرضائه بما يقدمه إليه من عطايا، ويتكلف لذلك فوق ما في وسعه، حتى إذا أعيته الحيلة ولم يجد وسيلة إلى إرضاء الشاعر بات كثيبًا يخشى مغبة الهجاء؛ وهذا مخارق بن شهاب سيد بني مازن، أتاه محرز بن المكعبر العنبري الشاعر فقال: إن بني يربوع قد أغاروا على إبلي فاسع لي فيها. فقال مخارق: وكيف وأنت جار وردان بن مخرمة؟ فلما ولي عنه محرز محزونًا بكى مخارق حتى بل لحيته، فقالت له ابنته: ما يبكيك؟ فقال: وكيف لا أبكي، واستغاثني شاعر من شعراء العرب ولم أغثه؟ والله لئن هجاني ليفضحني قوله، ولئن كف عني ليقتلني شكره! ثم نهض فصاح في بني مازن فردت عليه إبله1. ولقي الزبرقان بن بدر الحطيئة فطمع في أن يصفيه مدائحه فسيره إلى زوجته، أو أمه، وكتب إليها أن تكرمه وتحسن إليه. ولكن بغيض بن عامر -وكان ينازع الزبرقان الشرف- ما زال يسعى حتى استمال إليه الحطيئة، فارتحل إليه، فضرب له بغيض وإخواته قبة، وربطوا بكل طنب من أطنابها حلة   1 البيان والتبيين 4: 41-42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 هجرته، وأراحوا عليه إبلهم، وأكثروا عليه التمر واللبن. فلما قدم الزبرقان ولم يجده وعلم بقصته، نادى في قومه، وركب فرسه وأخذ رمحه، وسار حتى وقف على بغيض وقومه، وطلب منهم رد الشاعر، وكاد أن يقع بين الحيين حرب. كل ذلك إكرامًا للشاعر وطمعًا في مدحه وخوفًا من هجائه1. فإذا كان أمر الشعر بهذا الخطر للممدوحين، فهل كان ملوك الحيرة، وملوك غسان، وأشراف المدينة والطائف وساداتها وأثرياؤها، وسادات نجران واليمن، هل كان كل أولئك لا يقيدون ما يمدحون به من الشعر مع أنهم كانوا يقيدون سائر أمورهم؟ ورب معترض يقول: فما بال الشعر القديم في جاهلية الأمم الأخرى لم يكن مكتوبًا -فيما يقال- ثم نفرض أن العرب في جاهليتهم قد كتبوه؟ وما أيسر الإجابة عن هذا الاعتراض! فنحن إنما قدمنا ما قدمنا في الفصل الأول من هذا البحث لندل على أن جاهلية العرب تختلف اختلافًا واسعًا عن جاهلية الأمم الأخرى. فجاهلية تلك الأمم إنما هي الطور البدائي الساذج من حياتهم قبل أن ينتقلوا إلى طور حضاراتهم. ففي ذلك الطور البدائي كان من الطبيعي ألا يكتبوا شعرهم؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون من صور الكتابة ما يعينهم على تقييد أمورهم؛ وأما جاهلية العرب فيغنينا عن إعادة القول فيها ما قدمناه من تبيان معرفتها بالكتابة معرفة قديمة العهد، فيها شيء من الانتشار وتعدد الموضوعات والأدوات. ولذلك نعجب لقوم تكون معرفتهم بالكتابة هذه المعرفة التي بسطنا فيها القول ثم لا يقيدون شعرهم. ونحن إنما نتحدث عن تقييد بعض الشعر لا كله، حتى يستقيم لنا الاستنتاج والاستنباط ونقصد بالتقييد -كما قدمنا- مجرد الإثبات بالكتابة لأبيات أو قصائد متفرقة من الشعر، ولا نعرض الآن لذكر التدوين الشامل المقصود، فلذلك مجاله بعد صفحات من هذا الباب.   1 الأغاني 2: 180-183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 -3- الثاني: أما الدليل الثاني من هذه الأدلة العقلية الاستنباطية فمتصل أوثق الاتصال بالدليل الأول. فإذا كان الشعر المسجل لمفاخر القبائل ومحامد الأفراد له خطره وقيمته عند القبائل والأفراد الممدوحين، فقد كان له من الخطر والقيمة عند الشعراء المادحين أنفسهم ما يضارع ما كان له عند الممدوحين أو يزيد. فقد كان هذا الشعر عند غير المتكسبين بالمدح واجبًا قوميًا تفرضه على الشاعر طبيعة ارتباطه بقبيلته، أو واجبًا أخلاقيًّا تمليه عليه مآثر سلفت من صاحبها لقبيلة الشاعر أو للشاعر نفسه. وأما المتكسبون بالشعر فقد كان هذا الشعر موردًا من موارد ارتزاقهم، أو لعله هو المورد الوحيد لرزقهم. فكان الشاعر منهم يكثر التجوال والتطواف، ويقطع على ظهر ناقته الآماد الواسعة يستسهل طيَّ المفاوز، ويستعذب تحمل المشاق والأهوال في سبيل وصوله إلى ممدوحه الذي سيجزيه عما تجشم وتكلف، ويقضي حاجته، ويكفيه رزقه. أليس عجيبًا بعد ذلك ألا يُعنَى الشاعر، وهذه قيمة الشعر عنده، بأن تحفظ الكتابة شعره أو بعضه؟ وسيشتد العجب إذا علمنا أن بعض الشعراء لم يكونوا في حاجة إلى أن يتلمسوا الوسائل البعيدة لكتابة شعرهم ويتطلبوا من يكتبه لهم؛ لأنهم كانوا هم أنفسهم يحسنون الكتابة ويتقنونها. على أنه كانت ثمة دواع تضطر حتى من لا يعرف الكتابة من الشعراء، إلى أن يستكتب من يعرفها؛ ومن أنصع الإشارات إلى ذلك ما ذكره ابن الأعرابي قال1: بلغ عمرو بن كلثوم أن النعمان بن المنذر يتوعده، فدعا كاتبًا من العرب، فكتب إليه: ألا أبلغ النعمان عني رسالة ... فمدحك حولي وذمك قارح   1 الأغاني "دار الكتب" 11: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 متى تلقني في تغلب ابنة وائل ... وأشياعها ترقى إليك المسالح فإذا كان هذا شأن من لا يعرف الكتابة من الشعراء، فما ظنك بمن كان هو نفسه كاتبًا؟ وحسبنا أن نعرض أسماء من عثرنا عليهم من شعراء الجاهلية ممن كانوا يكتبون، على أن نشير إلى أن إغفال النص على معرفة غيرهم بالكتابة لا يعني أن هؤلاء الذين لم ينص على علمهم بالكتابة كانوا جميعًا يجهلونها. فمنهم عدي بن زيد العبادي: الذي طرحه أبوه -حين أيفع- في الكُتَّاب، حتى إذا حذق الخط العربي أرسله إلى كتاب الفارسية، فصار أفصح الناس وأكتبهم بالعربية والفارسية، ثم انتقل إلى بلاط فارس فأصبح كاتبًا بالعربية ومترجمًا في ديوان كسرى1. ومن الشعراء الذين كانوا كتابًا بالعربية ومترجمين في بلاط فارس: لقيط بن يعمر الإيادي2. وهو الذي أرسل إلى قومه ينذرهم بعزم كسرى على قتالهم، وصحيفته في ذلك مشهورة ابتدأها بقوله: سلام في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إياد وختمها بقوله: هذا كتابي إليكم والنذير لكم ... لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا وهي قصيدة طويلة تزيد على الخمسين بيتًا. ومن الشعراء الذين تعلموا الخط والكتابة في مدارس الحيرة: المرقش وأخوه حرملة، وكان أبوهما سعد بن مالك وضع مرقشًا وأخاه -وهما أحب بنيه إليه-   1 الأغاني 2: 101-102. 2 مختارات ابن الشجري "المطبعة العامرة سنة 1306هـ" ص2-7، وانظر أيضًا ابن قتيبة، الشعر والشعراء 1: 152، والأغاني "ساسي" 20: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 عند رجل من أهل الحيرة، فعلمهما الخط والكتابة1. ومن شعراء المدينة الذين كانوا يكتبون: سويد بن صامت الأوسي2، وعبد الله بن رواحة3، وكعب بن مالك الأنصاري وقد كتب شعرًا في يوم أحد ذكر فيه أسماء النقباء وأرسله إلى أبي سفيان بن حرب وأبي بن خلف الجمحي يرد عليهما4. ومن الشعراء الكتاب كذلك: الربيع بن زياد العبسي، وكان هو وإخوته من الكملة، وقد مر بنا أن من صفات الكامل في الجاهلية أن يحسن الكتابة، وقد كتب الربيع بن زياد إلى النعمان بأبيات يعتذر إليه فيها5. ومن هؤلاء الشعراء الكتاب: الزبرقان بن بدر6، والنابغة الذبياني، وقد كتب قصائد أرسلها إلى النعمان يعتذر إليه بها ويحلف له: أنه ما فرط منه ذنب7. ومنهم كعب بن زهير بن أبي سلمى وأخوه بجير بن زهير، وقد كتب إلى بجير شعرًا يلومه فيه على إسلامه8، فكتب إليه بجير ينذره ويعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل بالمدينة كعب بن الأشرف9. ومن هؤلاء الشعراء الكتاب: لبيد بن ربيعة العامري، وقد كان عمر بن الخطاب أرسل إليه يطلب منه أن يكتب له ما قاله في الإسلام من الشعر، فانطلق لبيد إلى بيته فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثم أتى بها فقال: أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر10. وقد كان من الناس من يكتب إلى لبيد   1 المفضليات: 459-460، وانظر الأغاني 6: 130. 2 الأغاني 3: 25. 3 ابن سعد 3/ 2: 79. 4 ابن حبيب، المحبر: 271-274. 5 الأغاني 16: 22-23، وأمالي السيد المرتضى 1: 136، وشرح شواهد المغني: 68. 6 الأغاني 2: 180. 7 البغدادي، الخزانة 2: 392-393. 8 الشعر والشعراء 1: 91. 9 جمهرة أشعار العرب: 24. 10 الخزانة 2: 215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أيضًا شعرًا، وذلك أن الوليد بن عقبة خطب الناس بالكوفة في يوم صبا، وقال: إن أخاكم لبيدًا آلى ألا تهب له الصبا إلا أطعم الناس حتى تسكن، وهذا اليوم من أيامه، فأعينوه، وأنا أول من أعانه. ونزل، فبعث إليه بمائة بكرة، وكتب إليه أبياتًا من الشعر.. فلما أتاه الشعر قال لابنته: أجيبيه1. ومما يؤيد معرفة لبيد بالكتابة في الجاهلية أن في شعره الجاهلي كثيرًا من الإشارات والمعاني الدينية التي تدل على أنه كان في الجاهلية يؤمن بالبعث. وقد كان أكثر هؤلاء الذين كانوا على دين في الجاهلية يحسنون الكتابة2. ومن هؤلاء الشعراء الذين كانوا يؤمنون بالبعث في الجاهلية ويقرءون الكتب الدينية: أمية بن أبي الصلت3. ومن هؤلاء الشعراء المخضرمين الذين ولدوا في الجاهلية وعمروا في الإسلام إلى زمن عبد الملك بن مروان واشتهروا بالعلم والفقه: مسروق بن عبد الرحمن4، وشريح بن الحارث الكندي5. ولا بد من الإشارة إلى أن النص على معرفة الشعراء بالكتابة لم يكن في الكتب العربية نصًّا صريحًا مقصودًا لذاته، وإنما أكثر ما يكون استطردًا عابرًا لتوضيح سياق قصة تتصل بالشاعر، أو بقومه، أو بحادثة بعينها. ويبدو لنا أن الذين خلَّفوا لنا هذه الكتب -وهم الذين سجلوا تاريخنا الأدبي- كانوا يتوهمون أن معرفة الشاعر بالكتابة عيب ينتقص من شاعريته، وذلك لأنهم كانوا يظنون أن معرفة الكتابة أمر حادث طارئ على العرب، وهو من أمور المدنية التي كانت تفسد الأعراب وسليقتهم اللغوية الفطرية، فكانوا يشكون   1 الشعر والشعراء 1: 233-234. 2 انظر إيمان لبيد بالبعث في الجاهلية في الإصابة 6: 4-5. 3 ابن قتيبة، المعارف: 28؛ والأغاني 3: 121-122. 4 ابن سعد 6: 50، 53. 5 المصدر السابق 6: 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 في كل أعرابي يتصل بالمدينة ويكتسب من مظاهر حضارتها. قال الجاحظ1: "سمعت ابن بشير، وقال له أبو الفضل العنبري -يبدو أنه أحد الأعراب-: إني عثرت البارحة بكتاب، وقد التقطته، وهو عندي، وقد ذكروا أن فيه شعرًا، فإن أردته وهبته لك. قال ابن بشير: أريده إن كان مقيدًا. قال: والله ما أدري أمقيد هو أم مغلول. ولو عرف التقييد لم يلتفت إلى روايته. وهذا الحكم الذي فرضوه على الأعراب سحبوه أيضًا على الشعراء أنفسهم، حتى الشعراء الإسلاميين الذين كانوا معروفين باتصالهم الوثيق بالبادية، فكانوا لذلك مصدرًا لهؤلاء اللغويين والرواة ومعتمدًا لهم فيما يذكرونه من شواهد وأمثلة. وأوضح ما يبين لنا ذلك أن أبا النجم العجلي الراجز وذا الرمة قد عيبا بمعرفة الكتابة فأنكرها ذو الرمة. قال أبو بكر الصولي2: قد عيب أبو النجم بهذا [أي بقوله: أقبلت من عند زياد كالخرف ... تخط رجلاي بخط مختلف كأنما قد كتبا لام ألف] . فقيل: لولا أنه يكتب ما عرف صورة لام ألف، كما عيب ذو الرمة في وصف ناقته: كأنما عينها فيها -وقد ضمرت ... وضمها السير في بعض الأضا- ميم3 وقال أيضًا: "قرأ حماد الرواية على ذي الرمة شعره، قال: نراه قد ترك في الخط لامًا، فقال له ذو الرمة: اكتب لامًا. فقال له حماد: وإنك لتكتب؟ قال: اكتم عليَّ فإنه كان يأتي باديتنا خطاط فعلمنا الحروف تخطيطًا في الرمال   1 البيان والتبيين 1: 163-164. 2 أدب الكتاب: 62، وانظر أيضًا الشعر والشعراء 1: 507، قال ابن قتيبة: وقال عيسى بن عمر "توفي سنة 149" قال لي ذو الرمة: ارفع هذا الحرف فقلت له: أتكتب؟ فقال بيده على فيه، أي: اكتم علي، فإنه عندنا عيب. 3 الأضاة: الغدير. يقول: كأن عينها دارة ميم لتدويرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 في الليالي المقمرة فاستحسنها فثبتت في قلبي، ولم تخطها يدي". فإذا كان هذا رأي هؤلاء العلماء الرواة في القرن الثاني الهجري في الشعراء الإسلاميين أنفسهم، فلا بد أن يكون رأيهم هذا أكثر تشددًا وغلوًّا في الشعراء الجاهليين؛ ولذلك نحسب أن أخبار معرفة الشعراء الجاهليين بالكتابة قد وصلتنا ناقصة مبتورة مشوهة، ولولا هذا الوهم الخاطئ لوصلنا الشيء الكثير الذي يدعم ما نذهب إليه. -4- الثالث: وثالث هذه الأدلة متصل كذلك بالسابقين لا يكاد ينفصل عنهما، ومداره على طبيعة ضرب من الشعر هو هذا الشعر الذي كان يتكلفه صاحبه تكلفًا بعد جهد ومشقة، لا يرتجله ارتجالًا، ولا يناسب منه عن طبع وفي يسر وسماحة، وإنما يقول البيت أو الأبيات ثم يطويها إلى أن توافيه أبيات أخرى يضمها إلى سابقاتها، فإذا ما اكتملت له القصيدة طواها كلها، وأخذ يعيد فيها نظره: يهذب من ألفاظها كلما سنح له وجه من وجوه التهذيب ويقوم بعض ما لم يكن قد استقام له من معانيها كلما واتته فرصة التقويم ذلك هو الشعر الحولي المحكك، وأولئك الشعراء هم عبيد الشعر كما سماهم الرواة العلماء1. قال الجاحظ2: "ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولًا كريتًا، وزمنًا طويلًا، يردد فيها نظره، ويجيل فيها عقله ويقلب فيها رأيه، اتهامًا لعقله، وتتبعًا على نفسه، فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره، إشفاقًا على أدبه، وإحرازًا لما خوله الله تعالى   1 ابن قتيبة: الشعر والشعراء 1: 23. 2 البيان والتبيين 2: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 من نعمته. وكانوا يسمون تلك القصائد: الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات، ليصير قائلها فحلًا خنذيذًا وشاعرًا مفلقًا". وقال ابن جني1: "ليس جميع الشعر القديم مرتجلًا، بل قد كان يعرض لهم فيه من الصبر عليه، والملاطفة له، والتلوم على رياضته، وإحكام صنعته نحو مما يعرض لكثير من المولدين، ألا ترى إلى ما يُروى عن زهير، من أنه عمل سبع قصائد في سبع سنين، فكانت تسمى حوليات زهير؛ لأنه كان يحوك القصيدة في سنة؟..". وهذا شاعر جاهلي هو امرؤ القيس بن بكر بن امرئ القيس بن حارث الكندي، ويقال له الذائد، يصف "عملية الانتخاب الفني" للألفاظ فيقول2: أذود القوافي عني ذيادا ... ذياد غلامٍ غويٍّ جرادا فلما كثرن وأعيينني ... تنقيت منهن عشرًا جيادا فأعزل مرجانها جانبًا ... وآخذ من درها المستجادا ويقول كعب بن زهير3: فمن للقوافي -شأنها من يحوكها- ... إذا ما ثوى كعب وفوز جرول يقول فلا يعيا بشيء يقوله ... ومن قائليها من يسيء ويعمل نقومها حتى تقوم متونها ... فيقصر عنها كل ما يتمثل كفيتك، لا نلقى من الناس واحدًا ... تنخل منها مثل ما نتنخل   1 الخصائص 1: 330. 2 الآمدي: المؤتلف والمختلف: 10 3 ديوانه: 59-60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وقد كان طفيل الغنوي في الجاهلية يدعى: المحبر، لتحسينه الشعر1. وقد مر بنا أن ابن فارس2 يرى أن بعض شعراء الجاهلية كان يعرف علم العربية والعروض: ما كان منه متصلًا ببحور الشعر أو بقوافيه وعيوبها -مهما تكن الألفاظ الاصطلاحية التي كانوا يستخدمونها-، وقد أضفنا بعض ما عثرنا عليه مما يؤيد رأي ابن فارس في معرفة الشعراء الجاهليين بهذه العلوم. ولا ريب أن ما قدمنا من حديث واضح الدلالة على أننا لا نعمم فيما نلقي من أحكام، فنحن لا نقصد أن كل شعراء الجاهلية كانوا يعرفون هذه العلوم، ولا نقصد كذلك أن جميع شعراء الجاهلية كانوا يتروون في نظم قصائدهم ويثقفونها وينقحونها. ولكننا نخص بحديثنا هذه الفئة من الشعراء التي كانت ترى الشعر عملًا عقليًّا تفكر فيه بعقلها كما تحسه بعاطفتها، وتنظمه وترصعه كما ترصع حجارة الفسيفساء. وإذا كانا لا ننكر أن بعض الشعراء كانوا يرتجلون الشعر ارتجالًا، وأن بعضهم كان يندلث منه الشعر أندلاثًا هينًا سمحًا، وأن هاتين الطائفتين، أو بعض رجالهما، لا تضطرهم طبيعة هذا الضرب من الشعر إلى تقييده وإثباته بالكتابة، إذا كنا لا ننكر ذلك، فإنه لا بد لنا أن نتريث قليلًا عند الفئة الأخرى من الشعراء وشعرهم، وأن نتوقف عن أن نسحب عليهم حكم الضرب الأول. فنحن لا نفهم كيف يستطيع الشاعر الذي تمكث عنده القصيدة "حولًا كريتًا، وزمنًا طويلًا، يردد فيها نظره، ويحيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه، واتهامًا لعقله، وتتبعًا على نفسه، فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره، إشفاقًا على أدبه، وإحرازًا لما خوله الله تعالى من نعمته ... "، والشاعر الذي كان يعرض له في الشعر من "الصبر   1 الزمخشري: الفائق1: 541. 2 الصاحبي في فقه اللغة: 8-11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 عليه، والملاطفة له، والتلوم على رياضته، وإحكام صنعته نحو مما يعرض لكثير من المولدين.." والشاعر الذي كانت تكثر عليه القوافي فيذودها عنه ذيادًا، ثم ينتقي منها الجيد انتقاء، وينظر إلى قوافيه وألفاظه نظرة الجوهري إلى لآلئه: يعزل مرجانها جانبًا، ويأخذ المستجاد من درها..، والشاعر الذي يتنخل كلامه تنخلًا، ويثقف ألفاظه وقوافيه حتى تلين تمنونها، نحن لا نفهم كيف يستطيع هؤلاء الشعراء أن يقوموا بهذا العمل العقلي الذي يستغرق هذا الوقت المديد دون أن يكون الشعر مقيدًا أمامهم على صحيفة يرجعون إليها بين وقت وآخر: يزيدون عليه أو ينقصون منه، ويستبدلون لفظة بلفظة، وقافية بقافية. وهل يصح بعد هذا أن نذهب إلى أن هؤلاء الشعراء الذين كانوا يصنعون الشعر صناعة، بل يصنعونه تصنيعًا، ويعرفون من بحوره وقوافيه ولغته وإعرابه ما لا يُكتسب إلا بالتعليم والدراسة، هل يصح أن نذهب إلى أن هؤلاء الشعراء كانوا أميين ويستطيعون أن يقوموا بهذه "العمليات" المعقدة المتراكبة فطرةً وطبعًا، والشعر معلق في ذاكرتهم لا يعدوها؟ أحسب أن لا، وأحسب أن الأرجح أن هذا الضرب من الشعر المنقح كان يفرض عليهم أن يقيدوه على ما كانوا يملكون من صحف الكتابة التي بيَّنَّا أنواعها في فصل سابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الرابع: وآخر هذه الأدلة العقلية الاستنباطية: هذا الشعر الجاهلي الحافل بذكر الكتابة وصورها، والإشارة إلى أدواتها، وتشبيه الأطلاق والرسوم ببقايا الخطوط على الرق أو المهارق أو سائر أنواع الصحف، مما يدل على أن هؤلاء الشعراء الجاهليين كانوا على علم دقيق، بأنواع الكتابة والحروف1. وقد ذكرنا هذا الشعر الجاهلي، الذي يحفل بذكر الكتابة، متفرقًا في مواطنه من الباب السابق حين تحدثنا على أدوات الكتابة وآلاتها، واستشهدنا به لكل جزء من أجزاء البحث، ووجدنا أن الشعر الجاهلي لم يغفل صغيرة ولا كبيرة فيه، وإنما استوعب الموضوع من نواحيه، ولمه من أطرافه كلها. ومع ذلك فإننا سنشير إلى أبيات قليلة فيها من الصور الشعرية المركبة ما ينبئ عن أن قائلها لا بد أن يكون عالمًا بهذه الصور، وأن الجاهل بها لا يتأتَّى له ذكرها ووصفها على هذا الوجه المفصل. فأبو ذؤيب الهذلي يشير إلى كاتب يكتب دينًا له -وليس في هذه دلالة على شيء مما نذهب إليه لو وقف عنده- ولكنه يصف في بيتين كتابة هذا الكاتب الدائن، وأنها كانت كتابة دقيقة يتأنق فيها حتى يجعلها مزخرفة مزينة كالعروس ليلة تُهدى إلى زوجها. فوصف أبو ذؤيب هذه الكتابة بأنها "رقم" و"وشي" و"نمنمة". ثم يصف لنا الصحف التي كان يكتب عليها، ويذكر أنها ناعمة رقيقة "كالرياط"، ولا يكتفي بذلك بل إنه ليعرف أن هذه الصحف لا يكتب عليها الكاتب أول مرة، وإنما يستخدمها بعد أن استخدمها غيره من قبله، فجاء صاحبنا الدائن فمحا الكتابة السابقة، وكتب عليها دينه، ولكن آثار الكتابة   1 كتب الأستاذ المستشرق كرنكو مقالة عنوانها "استخدام الكتابة في حفظ الشعر العربي القديم" "The use of writing for The preservation of Ancient Arabic poetry" ونشرت في سنة 1922 مع مجموعة مقالات أخرى لكتاب مختلفين في: A Volume of Oriental Studies to E.G. Browne, Edited by J.W. Arnold ص261-268 وقد أقام بحثه على نقطتين: ذكر الكتابة في الشعر القديم، واختلاف القراءات للفظة الواحدة وانظر كتاب "تاريخ الأدب العربي" للمستشرق بلاشير ص93-99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 السابقة ما زالت باقية يشاهدها أبو ذؤيب فيعرفها ويصفها، وذلك قوله1 عرفت الديار كرقم الدوا ... ة يزبرها الكاتب الحميري برقم ووشي كما زخرفت ... بميشمها المزدهاة الهدي أدان وأنباه الأولو ... ن أن المدان الملي الوفي فنمنم في صحف كالريا ... ط فيهن إرث كتاب محي وفي أبيات لخزز بن لوذان السدوسي يذكر فيها إنكاره لما كان يعتقده أهل زمانه آنذاك من التشاؤم والتفاؤل بالسوانح والبوارح وعقد التمائم لدفع الغوائل. ويقرر فيها أن الدهر قلب لا يدوم له خير ولا يتصل له شر. ولو أننا لم نقف عند هذه المعاني العقلية التي لا تصدر إلا من مثقف متعلم يثور على معتقدات أهل زمانه وأباطيلهم، فإننا لا نستطيع إلا أن نقف عند آخر بيت منها، إذ نكاد نفهم منه أن هذا الشاعر قد قرأ الكتب الدينية القديمة، واشتق منها هذه المعاني التي يصورها، وذلك قوله2: لا يمنعنك من بغا ... ء الخير تعقاد التمائم ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واقٍ وحاتم فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم وكذاك لا خير ولا ... شر على أحد بدائم قد خط ذلك في الزبو ... ر الأوليات القدائم3 ويصور لنا لبيد صورة غريبة مركبة حين يصف لنا الأطلال. وذلك في قوله4 أو مذهب جدد على أواحهن الناطق المبروز والمختوم   1 ديوان الهذليين 1: 64-65. 2 لسان العرب "حتم". والمؤتلف والمختلف: 102، والخزانة 3: 11 حيث يذكر أن خززًا جاهلي. 3 الزبور "بضم الزاي" = جمع زبر "بكسرها"، وهي الكتب. 4 ديوانه "فينا 1880" ق16، ب3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فيشبه رسوم الديار بلوح مذهب عليه جدد، وهي الطرائق التي فيها، ويقول الطوسي شارح ديوان لبيد، فما ينقله عن ابن الأعرابي، إن المذهب لوح ضمت إليه ألواح من جوانبه، كانوا يضعون عليه الكتب التي ترسل إلى الملوك تعظيمًا للملك. لا تمسه إلا يده يأخذ ما شاء ويترك ما شاء. فكانت هذه الكتب الموضوعة إما مبروزة: أي منشورة، وإما مختومة لم تنشر بعد، وعبر عن الكتاب المرسل بالناطق. ومن الأبيات التي تشتمل على ذكر للكتابة، وقد تدل على أن للشاعر معرفة بالكتابة والقراءة: بيتا معقل بن خويلد، اللذان يذكر فيهما ما يُفهم منه أنه قرأ بيته الثاني في كتاب فاقتبسه، وذلك قوله1: وإني كما قال مملي الكتا ب في الرق إذ خطه الكاتب: يرى الشاهد الحاضر المطمئن ... من الأمر ما لا يرى الغائب ونحن نكتفي بهذا القدر من الأبيات التي تشتمل على دلالة تشير إلى معرفة قائليها بصور متعددة من الكتابة والقراءة. وأما سائر الأبيات التي تشتمل على ذكر الكتابة وما يتصل بها فقد عرضناها في مواطنها من الفصل السابق ولا حاجة بنا إلى إعادتها والاستكثار بها. -6- تلك هي الأدلة العقلية الاستنباطية التي رأينا أنها قد تشير إلى معرفة الشعراء الجاهليين بالكتابة وإلى أن بعض هؤلاء الشعراء ربما استخدم الكتابة في تقييد   1 ديوان الهذليين 3: 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 بعض شعره. أما الأدلة الصريحة المباشرة فتتمثل في هذه الروايات والنصوص التي لممنا نثارها. وجمعنا متفرقها. وننظمها الآن في سلك واحد لنرى أنها واضحة صريحة في أن بعض الشعر الجاهلي كان يقيد. سواء أكان الذين يقيدونه هم الشعراء الجاهليين أنفسهم بخط يدهم أم كان هؤلاء الشعراء يستكتبون غيرهم لتقييد شعرهم. وقد لحظنا -بعد أن جمعنا مادة هذا الفصل- في هذه الروايات والنصوص أمرين؛ الأول: أن أكثرها يشير إلى أن هذا الشعر المقيد بالكتابة إنما كان رسائل يبعث بها الشاعر، ومع ذلك فقد عثرنا على روايات قليلة تشير إلى تقييد الشعر للحفظ. والثاني: أن هذه الرسائل الشعرية كانت شيئًا مألوفًا في العصور الإسلامية، وبين أيدينا أخبار ونصوص عنها في زمني عمر ومعاوية خاصةً. وحسبنا أن نشير إلى مواطنها1. ونحب أن نقدم بخبرين من صدر الإسلام ثم ننتقل إلى أخبار الجاهلية نفسها ونصوصها: فقد اجتمع الأنصار في مجلس2، فتذاكروا هجاء النجاشي إياهم، فقالوا: من له؟ فقال الحارث بن معاذ بن عفراء: حسان له ... فتوجه نحوه. والقوم كلهم معظم لذلك، حتى دق عليه الباب ... فلما دخل عليه كلمه. فقال: أين أنتم عن عبد الرحمن؟ قال: إياك أردنا، قد قاوله عبد الرحمن فلم يصنع شيئًا. فوثب، وقال: كن وراء الباب، واحفظ ما ألقي ... فدخل وهو يقول:   1 نسب قريش: 110، 209، الفائق 1: 274، 2: 266، الأغاني "دار الكتب" 5: 17-18 و"ساسي" 13: 151 و14: 123، الجاحظ، المحاسن والأضداد 189، والحيوان 2: 85، ابن رشيق، العمدة "تصحيح النعساني سنة 1907" 1: 17-18، ابن عبد ربه، العقد 6: 131-132، ابن قتيبية، الشعر والشعراء: 233-234، ديوان الهذليين 2: 252-255، ابن سعد 3/ 1: 205، الآمدي، المؤتلف والمختلف: 63، البغدادي، الخزانة 2: 225-226 و4: 59-65. 2 ديوان حسان "ط. النيل سنة 1904" ص131-132، وانظر أيضًا البغدادي، خزانة الأدب "سلفية" 4: 55-56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 أبني الحماس أليس منكم ماجد ... إن المروءة في الحماس قليل "ثمانية أبيات" ثم مكث طويلًا على الباب يقول: والله ما أبحرت، ثم ألقى علي: حارِ بنَ كعبٍ ألا الأحلام تزجركم ... عني، وأنتم من الجوف الجماخير لا عيب بالقوم من طول ولا عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير كأنهم قصب جوف، مكاسره ... مثقب فيه أرواح الأعاصير دعوا التخاجو وامشوا مشية سجحًا ... إن الرجال أولو عصبٍ وتذكير لا ينفع الطول من نوك القلوب، ولا ... يهدي الإله سبيل المعشر البور إني سأنصر عرضي من سراتكم ... إن الحماس نسي غير مذكور ألفى أباه وألفى جدجه حبسنا ... بمعزل عن معالي المجد والخير ثم قال للحارث: اكتبها صكوكًا، فألقها إلى غلمان الكتاب. قال الحارث: ففعلت.." وقد ذكر الزمخشري أن طلحة رضي الله عنه أنشد قصيدة، فما زال شانقًا ناقته حتى كتبت له القصيدة1. وحينما علم كعب بن زهير بإسلام أخيه بجير كتب إليه2: ألا أبلغا عني بجيرًا رسالة ... فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا؟ سقيت بكأس عند آل محمد ... فأنهلك المأمون منها وعلكا فخالفت أسباب الهدى وتبعته ... على أي شيء، ويب غيرك، دلكا؟   1 الفائق 1: 677. 2 الشعر والشعراء 1: 91، وانظر أيضًا ابن هشام، السيرة 4: 144-145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فلما أتى الكتاب بجيرًا كتب إلى كعب يقول1: من مبلغ كعبًا فهل لك في التي ... تلوم عليها باطلًا وهي أحزم إلى الله -لا العزى ولا اللات- وحده ... فتنجو إذا كان النجاء وتسلم لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت ... من الناس إلا طاهر القلب مسلم فدين زهير -وهو لا شيء دينه- ... ودين أبي سلمى على محرم وكان أبو سفيان بن حرب وأبي بن خلف الجمحي قد كتبا إلى الأنصار كتابًا يعاتبانهم فيه على إيوائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلبان منهم أن يخلوا بينه وبين قريش. فكتب إليهما كعب بن مالك الأنصاري في يوم أحد بهذا الشعر -وهو أربعة عشر بيتًا- يرد عليهما فيه، ويذكر أسماء النقباء2: أبلغ أبيًّا أنه قال رأيه ... وحان غداة الشعب والحين واقع أبى الله ما منتك نفسك إنه ... بمرصاد أمر الناس راء وسامع وأبلغ أبا سفيان أن قد أضا لنا ... بأحمد نور من هدى الله ساطع فلا ترعين في حشد أمر تريده ... وألب وجمع كل ما أنت جامع ودونك فاعلم أن نقض عهودنا ... أباه عليك الرهط حين تبايعوا ثم يذكر أسماء النقباء، ويختم الأبيات الأربعة عشر بقوله: أولاك نجوم لا يغبك منهم ... عليك بنحسٍ في دجى الليل طالع وذكروا أن الناس أصبحوا يومًا بمكة، فرأوا مكتوبًا على دار الندوة3:   1 ابن هشام: السيرة 4: 145-146. 2 المعجم: 271-274، والأبيات في السيرة 2: 87-88. 3 ابن سلام، طبقات فحول الشعراء: 196-197 السفاسير: مفردها سفير، وهو السمسار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ألهى قصيا عن المجد الأساطير ... ورشوة ما تُرشَى السفاسير وأكلها اللحم بحتًا لا خليط له ... وقولها: رحلت عير، أتت عير وذكروا أن النعمان بن المنذر ولَّى بعض الأعراب باب الحيرة مما يلي البرية، فصاد الأعرابي ضبًّا، فبعث به إلى النعمان وكتب إليه1: جبى المال عمال الخراج وجبوتي ... مقطعة الآذان صفر الشواكل وعين الربا والبقل حتى كأنما ... كساهن سلطان ثياب المراجل ويبدو أن طبيعة حياة القصور في بلاط النعمان وما يكثر فيها من دس ووقيعة ووشايات كانت تضطر الشعراء إلى أن يدفعوا عن أنفسهم هذه الدسائس، فينجوا بأنفسهم مخافة الفتك بهم، ثم يقولوا شعرًا ويكتبوه ويرسلوه إلى النعمان. فمن ذلك تلك القصائد الكثيرة التي كانت يقولها عدي بن زيد في سجنه ويكتب بها إلى النعمان2. ومن ذلك أيضًا أن النابغة -بعد أن هرب من النعمان ومكث عند آل جفنة- أرسل إلى النعمان قصائد يعتذر إليه بها، ويحلف له: أنه ما فرط منه ذنب3. ومن ذلك أيضًا أن النعمان أمر الربيع بن زياد العبسي بالانصراف، فلحق بأهله وكتب إلى النعمان أبياتًا يعتذر فيها، وهي4: لئن رحلت جمالي إن لي سعة ... ما مثلها سعة عرضًا ولا طولا   1 الزجاجي: الأمالي: 115. الشواكل: الخواصر. ثياب المراجل: ثياب مخططة تعمل في اليمن. 2 الأغاني 2: 115. 3 البغدادي: الخزانة 2: 392-393. 4 الأغاني 16: 22-23 وأمالي السيد المرتضى 1: 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 بحيث لو وزنت لخم بأجمعها ... لم يعدلوا ريشة من ريش شمويلا ترعى الروائم أحرار البقول بها ... لا مثل رعيكم ملحًا وغسويلا فابرق بأرضك يا نعمان متكئًا ... مع النطاسي يومًا وابن نوفيلا فكتب إليه النعمان جوابًا عن أبياته بأبيات أخرى هي قوله. شرد برحلك عني حيث شئت ولا ... تُكثر عليَّ ودع عنك الأباطيلا فقد ذكرت به والركب حامله ... وردًا يعلل أهل الشام والنيلا فما انتفاؤك منه بعد ما خرعت ... هوج المطي به إبراق شمليلا قد قيل ذلك إن حقًّا وإن كذبًا ... فما اعتذارك من قولٍ إذا قيلا فالحق بحيث رأيت الأرض واسعة ... وانشر بها الطرف إن عرضًا وإن طولا وبلغ عمرو بن كلثوم أن النعمان بن المنذر يتوعده فدعا كاتبًا من العرب فكتب إليه1: ألا أبلغ النعمان عني رسالة ... فمدحك حولي وذمك قارح متى تلقني في تغلب ابنة وائل ... وأشياعها ترقَى إليك المسالح وغضب الحارث بن مارية الغساني على عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي فتهدده، فدعا عبد العزى ابنيه: شراحيل وعبد الحارث، فكتب معهما إلى قومه2: جزاني -جزاه الله شر جزائه- ... جزاء سنمارٍ وما كان ذا ذنب سوى رصه البنيان عشرين حجة ... يعل عليه بالقراميد والسكب   1 الأغاني "دار الكتب" 11: 58. 2 الخزانة 1: 268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وهي أبيات1. ولما طال سجن عدي بن زيد، في حبس النعمان، كتب إلى أخيه أبي وهو مع كسرى بهذا الشعر2: أبلغ أبيا على نأيه ... وهل ينفع المرء ما قد علم بأن أخاك شقيق الفؤا ... د كنت به واثقًا ما سلم لدى ملك موثق في الحديد ... إما بحق وإما ظلم فلا أعرفنك كذات الغلا ... م ما لم تجد عارمًا تعترم3 فأرضك أرضك إن تأتنا تنم نومة ليس فيها حلم فكتب إليه أخوه أبي رسالة شعرية أخرى أبياتها عشرة نكتفي بذكر مطلعها: إن يكن خانك الزمان فلا عا ... جز باع ولا ألف ضعيف4 ثم قام أبي إلى كسرى فكلمه في أمره وعرفة خبره، فكتب إلى النعمان يأمره بإطلاقه. وكان أحمر بن جندل أسيرًا، في يد صعصعة بن محمود بن عمرو بن مرثد، فأطلقه؛ فقال أخوه سلامة بن جندل هذه الأبيات وبعث بها إلى صعصعة5: سأجزيك بالقد الذي قد فككته ... سأجزيك ما أبليتنا العام صعصعا   1 الأبيات في الثعالبي، ثمار القلوب: 109. 2 الأغاني 2: 118-120. 3 العارم: الراضع، يقول: إن لم تجد من يرضع منها درت هي فحلبت ثديها، وربما وضعته ثم مجته من فيها. 4 الألف: الثقيل البطيء الكلام. 5 ديوان سلامة: 21-22، وانظر البيان والتبيين 3: 318 مع اختلاف في الألفاظ وترتيب الأبيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فإن يك محمود أباك فإننا ... وجدناك منسوبًا إلى الخير أروعا سأهدي، وإن كنا بتثليث، مدحة ... إليك، وإن حلت بيوتك لعلعا فإن شئت أهدينا ثناء ومدحة ... وإن شئت عدينا لكم مائة معا وكان الأسرى ينتهزون كل فرصة ليكتبوا إلى قومهم يعلمونهم بحالهم؛ فمن ذلك أن رجلًا من بني تميم كان أسيرًا فكتب إلى قومه1: حلوا عن الناقة الحمراء أرحلكم ... والباز الأصهب المعقول فاصطنعوا إن الذئاب قد اخضرت براثنها ... والناس كلهم بكر إذا شبعوا ومن ذلك أيضًا أن قيسبة بن كلثوم السكوني أسره بنو عامر بن عقيل، فمر به أبو الطمحان القيني، فوعده مائة ناقة إن هو بلغ قومه رسالة، ثم كتب على مؤخر رحل أبي الطمحان2: بلغا كندة الملوك جميعًا ... حيث سارت بالأكرمين الجمال أن ردوا العين بالخميس عجالًا ... وأصدروا عنه والروايا ثقال هزئت حارتي وقالت عجيبًا ... إذ رأتني في جيدي الأغلال إن تريني عاري العظام أسيرًا ... قد براني تضعضع واختلال فلقد أقدم الكتبية بالسيـ ... ـف على السلاح والسربال وقد مر بنا ذكر الكتابة على الرحل حين تحدثنا عن أدوات الكتابة، وقلنا آنذاك إنه كان أمرًا مألوفًا حين يضطر المرء وتعجزه وسيلة أخرى للكتابة، ومثلنا على ذلك بالكتابة على الرحل زمن الرسول والصحابة3.   1 القالي، الأمالي 1: 7. 2 الأغاني 11: 131. 3 انظر ابن سعد 3/ 2: 151، وتقييد العلم: 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وكان أيضًا ممن كتب على الرحل من الشعراء الجاهليين: المرقش1، وذلك أنه مرض في الطريق -وكان معه عسيف له من غفيلة، ووليدة هي امرأة الغفلي- فسمع مرقش زوج الوليدة يقول لها: اتركيه فقد هلك سقمًا وهلكنا معه ضرًّا وجوعًا. فجعلت الوليدة تبكي من ذلك، فقال لها زوجها: أطيعيني، وإلا فإني تاركك وذاهب ... فلما سمع مرقش قول الغفلي للوليدة كتب مرقش على مؤخرة الرحل هذه الأبيات: يا صاحبي تلبثا لا تعجلا ... إن الرواح رهين ألا تفعلا فلعل لبثكما يفرط سيئًا ... أو يسبق الإسراع سيبًا مقبلا يا راكبًا إما عرضت فبلغن ... أنس بن سعدٍ إن لقيت، وحرملا لله دركما ودر أبيكما ... إن أفلت العبدان حتى يُقتلا من مبلغ الأقوام أن مرقشًا ... أضحى على الأصحاب عبئًا مثقلا وكأنما ترد السباع بشلوه ... إذ غاب جمع بني ضبيعة منهلا وهل أبلغ في الدلالة على شيوع كتابة الشعر في الرسائل من هذه الأبيات التي أرسلها الحارث بن كلدة إلى بني عم له يعاتبهم؛ لأنه كتب إليهم قبلها فلم يجيبوه، قال2: ألا أبلغ معاتبتي وقولي ... بني عمي فقد حسن العتاب وسل: هل كان لي ذنب إليهم ... وهم منه -فأعتبهم- غضاب كتبت إليهم كتبًا مرارًا ... فلم يرجع إليَّ لها جواب ومن أشهر الشعر الجاهلي الذي قيد بالكتابة على الصحف: قصيدة لقيط   1 المفضليات: 459-460، وانظر الأغاني 6: 130-131 2 حماسة ابن الشجري: 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ابن يعمر الأيادي التي أرسلها إلى قومه ينذرهم غزو كسرى إياهم، وقد كتب قبل القصيدة مقدمة شعرية من أربعة أبيات جعلها كالعنوان، وهي1: سلام في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إياد بأن الليث كسرى قد أتاكم ... فلا يشغلكم سوق النقاد أتاكم منهم ستون ألفًا ... يزجون الكتائب كالجراد على حنقٍ أتينكم، فهذا ... أوان هلاككم كهلاك عاد أما القصيدة نفسها بعد هذه المقدمة الشعرية فهي العينية المشهورة التي يصف فيها الشاعر حال قومه وضعفهم وتخاذلهم وقوة عدوهم، ثم يبين لهم ما يجب أن يتحلى به من يولونه قيادهم من صفات، ومطلعها2: يا دار عمرة من محتلها الجرعا ... هاجت لي الهم والأحزان والوجعا وهي خمسة وخمسون بيتًا يختمها بقوله: هذا كتابي إليكم والنذير لكم ... لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا ذلك هو تقييد الشعر الجاهلي، وقد جمعنا ما استطعنا أن نعثر عليه من أدلة عقلية ونقلية تسنده. وقد انتهت بنا كلها إلى ترجيح أن الشعر الجاهلي كان يقيد في صحف متفرقة لأغراض شتى. غير أن هذا كله مرحلة واحدة من مراحل بحثنا نقودنا إلى مرحلة تالية نتحدث فيها عن تدوين الشعر الجاهلي.   1 الشعر والشعراء 1: 152. 2 مختارات ابن الشجري: القصيدة الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الفصل الثاني: تدوين الشعر الجاهلي مدخل ... الفصل الثاني: تدوين الشعر الجاهلي -1- والحديث عن تدوين الشعر الجاهلي لا تستقيم أمامنا طرائقه إلا إذا عبدنا من حوله سبل الحديث عن نشأة التدوين العام وأوائل المؤلفات المدونة. وذلك لأنه لا تخصيص إلا بعد تعميم؛ فإذا كان الأصل الكلي -وهو التدوين عامة- ما زال غامض النشأة، مشكوكًا في بداياته، منكورًا قدمه وسبقه، فإن الفراغ الجزئي -وهو تدوين الشعر الجاهلي بخاصة- لا يصح أن يقوم وحده معلقًا في الفضاء، وحوله سحب الشك والإنكار1. فإذا أضفنا إلى ذلك أن هذا التدوين العام: سواء أكان تفسيرًا حديثًا أم لغة أم أدبًا عامًا -يشتمل في طياته على شعر جاهلي، بل على شعر جاهلي كثير- استبنَّا، لهذين الأمرين مجتمعين، ضرورة الإلمام بأطراف من نشأة التدوين على أن نوجز القول إيجازًا، ونقتضبه اقتضابًا، ونكتفي منه باللمحة   1 وتفصيل ذلك أن المشهور المتداول أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيت تثقل بالرواية الشفهية جيلاً بعد جيل نحو مائة سنة أو تزيد، حتى قيض لها أن تدون. وأقدم زمن تحدده الروايات لتدوين الحديث يتصل بعهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز. أما كتب اللغة والشعر والأدب عامة، فإن المعروف أنها لم يبدأ تدوينها إلا في نهاية القرن الثاني الهجري ومطلع القرن الثالث. بل لقد وجد من ينكر هذا التاريخ المتأخر، ويعد ما وصل إلينا من مدونات منسوبة إلى رجال نهاية القرن الثاني لم يكن إلا دروسًا شفهية لم يدونوها وإنما دونها تلامذتهم أو تلاميذة تلامذتهم ثم نسبوها إلى شيوخهم. وبذلك لا يبدأ التدوين، فيما يرى هذا الفريق، إلا في نهاية القرن الثالث الهجري. "انظر ما كتبه المستشرق هـ. أ. ر. جب في مجلة الأدب والفن -السنة الأولى، الجزء الثاني، سنة 1943، بعنوان "بدء التأليف النثري" وخاصة من ص12-18". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الدالة. فلسنا نقصد إلى هذا الحديث لذاته، وإنما نتوسل به إلى موضوعنا الأصيل، ونتخذه معبرًا نجتازه إلى بحث تدوين الشعر الجاهلي. وأول ما يعرض لنا، قبل المضي في البحث، سؤالان تعتمد على إجابتهما خطواتنا التالية. الأول: هل كانت الصحف من الكثرة والشيوع بمنزلة يتيسر معها أن يوجد التدوين؟ والثاني: ما هو المظهر اللغوي، أو الصورة اللغوية للتدوين في صدر الإسلام؟ وتبدو لنا قيمة السؤال الأول في أن التدوين والتأليف لا يقوم لهما وجود إلا إذا كانت الصحف التي تتخذ للكتابة من الوفرة والانتشار بمنزلة يتيسر معها، لمن أراد، أن يشتري منها ما يفي بحاجته، فيستطيع أن يضم بعضها إلى بعض، ويؤلف أجزاءها، ويجعل من مجموعة هذه الصحف ديوانًا مؤلفًا. أما إذا كانت الصحف مفقودة أو نادرة أو عزيزة مرتفعة الثمن لا يُستطاع الحصول عليها إلا بشق النفس أو بعد أن يُبذل في شرائها من المال ما لا يطيقه إلا الموسرون الأثرياء، فإن استخدام الصحف للكتابة في هذه الحالة لا يكون إلا في نطاق ضيق محدود لا يتيسر معه وجود التدوين والتأليف. ويبدو لنا، مما عثرنا عليه من روايات ونصوص، أن الصحف كانت منذ الصدر الأول كثيرة شائعة، وأنه كانت لها أسواق أو متاجر خاصة تباع فيها، ويقوم على بيعها رجال يختصون بهذا الضرب من التجارة ويُعرفون به ويلقبون بالوراقين. ويبدو لنا كذلك أن هذه الصحف كانت أثمانها زهيدة يستطيع الناس أن ينالوا منها ما يريدون من غير أن يتكلفوا من أمر مالهم رهقًا. ومما يدل على هذا الضرب من التجارة، وعلى توافر الصحف في الأسواق، وسهولة الحصول عليها، ما رُوي من أن علي بن أبي طالب خطب الناس في الكوفة، فقال: من يشتري علمًا بدرهم؟ فاشترى الحارث الأعور صحفًا بدرهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ثم جاء بها عليًّا، فكتب له علمًا كثيرًا1. وما رُوي أيضًا عن أبي الشعثاء سليم بن أسود قال: كنت أنا وعبد الله بن مرداس، فرأينا صحيفة، فيها قصص وقرآن، مع رجل من النخع، قال: فواعدنا المسجد، قال، فقال عبد الله بن مرداس: أشتري صحفًا بدرهم2 "يريد أن ينسخها فيها". وعن إبراهيم أن علقمة اشترى ورقًا فأعطى أصحابه فكتبوه له3. وعن وكيع عن محل قال، قلت لإبراهيم: لا بد للناس من المصاحف. فقال: اشتر المداد والورق واستعن "يعني من يكتب له"4. وكان مطر بن دهمان مولى علي بن أبي طالب يُدعى مطرًا الوراق5؛ ويروي أبو عبيدة أن المهلب قال لبنيه في وصيته: يا بني لا تقوموا في الأسواق إلا على زراد أو وراق6 ومما يؤيد ما ذكرناه من انتشار الصحف وبيعها في الأسواق وسهولة الحصول عليها وجود طبقة من النساخ كان بعضهم يحترف النساخة ويؤجر عليها. وممن كان ينسخ في الصحف: عمرو بن نافع مولى عمر بن الخطاب7، ومالك بن دينار الذي قال8: دخل عليَّ جابر بن زيد، وأنا أكتب مصحفًا، فقلت: كيف ترى صنعتي هذه يا أبا الشعثاء؟ فقال: نعم الصنعة صنعتك، ما أحسن هذا تنقل كتاب الله من ورقة إلى ورقة، وآية إلى آية، وكلمة إلى كلمة، هذا الحلال لا بأس به. وكان سلمة بن دينار الأعرج أيضًا من   1 ابن سعد 6: 116، وتقييد العلم: 90. 2 تقييد العلم: 55. 3 مصاحف السجستاني: 133. 4 مصاحف السجستاني: 169 و172، وانظر: 90 "هامش: 4" من هذا الكتاب. 5 المصدر السابق: 177. 6 الحيوان 1: 52. 7 مصاحف السجستاني: 86. 8 المصدر السابق: 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 هؤلاء النساخين1، وكان يأتيه الناس يكتبون حديثه، وممن كان يأتيه ابن شهاب الزهري، فكان الزهري يأخذ ورقة من ورق الأعرج فيكتب فيها الحديث ثم يقرأه ثم يمحوه مكانه؛ وربما قام بها معه، فيقرأها ثم يمحوها. ومهما يكن عمل هؤلاء النساخ، أو الموضوع الذي ينسخونه، فإن الذي يعنينا من أمرهم أن قيام طبقة خاصة من النساخ دليل نضمه إلى الأدلة السابقة، فتشير كلها إلى توافر الصحف في الأسواق، ووجود محال خاصة لتجارتها، وقيام أفراد يختصون ببيعها وبالنسخ عليها، واستطاعة الناس آنذاك شراءها2. -2- فإذا كان ذلك كذلك، فما هو المظهر اللغوي، أو الصورة اللغوية، للتدوين في هذا العصر المبكر؟ ونقصد بذلك الألفاظ التي كانوا يطلقونها ليدلوا بها على مجموعة الصحف المدونة. فإذا كانوا قد عرفوا التدوين والتأليف فلا شك في أنهم استخدموا ألفاظًا خاصة لمجموعة صحفهم تختلف عن ألفاظهم   1 تقييد العلم: 59. 2 أما ما رُوي من قول عمرو بن ميمون: ما زلت ألطف أنا وعمر بن عبد العزيز في أمر الأمة حتى قلت له: يا أمير المؤمنين، ما شأن هذه الطوامير التي يكتب فيها بالقلم الجليل يمد فيها وهي من بيت مال المسلمين؛ فكتب في الآفاق أن لا يكتبن في طومار بقلم جليل ولا يمدن فيه. قال: فكانت كتبه إنما هي شبر أو نحوه "ابن سعد 5: 295-296"؛ وما رُوي أيضًا من أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم: أما بعد، فكتبت تذكر أن القراطيس التي قبلك قد نفدت وقد قطعنا لك دون ما كان يقطع لمن كان قبلك، فأدق قلمك وقارب بين أسطرك واجمع حوائجك؛ فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به. "المصدر السابق"، فهذان النصان لا ينقضان ما قدمنا، ولا يعنيان أن الصحف آنذاك كانت قليلة نادرة غالية الثمن، كما ذهب الأستاذ جب في مقالته عن "بدء التأليف النثري" ص6. فنص هاتين الروايتين واضح في أن ذلك أنما هو "لطف في أمر الأمة" وكره لأن "يخرج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به". فمرده إذن إلى القصد والاعتدال والتوفير وعدم الإسراف والتبذير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الدالة على الصحيفة المفردة. وسنعرض هنا بعض هذه الأبيات ليزداد اطمئناننا إلى معرفتهم بالتدوين آنذاك. فمنها: الدفتر: ذكر الصولي1 أنه ما سمع شيء في اشتقاقه إلا أنه عربي فصيح. وقد ورد ذكره في كلام لعمر بن الخطاب، حينما جاءه بنو عدي يكلمونه في أمر ترتيب عطائهم في الديوان، فقال2: بخ بخ بني عدي، أردتم الأكل على ظهري لأن أذهب حسناتي لكم، لا والله حتى تأتيكم الدعوة، وإن أطبق عليكم الدفتر. يعني: ولو أن تكتبوا آخر الناس. وقال ابن شهاب الزهري3: خرجنا مع الحجاج بن يوسف إلى الحج، فلما كنا بالشجرة، قال: تبصروا الهلال، فإن في بصري عهدة. فقال له نوفل بن مساحق: أتدري مم ذاك؟ ذاك من كثرة نظرك في الدفاتر. وورد ذكر الدفتر كذلك في الشعر الإسلامي المبكر. قال جندل بن المثنى الطهوي4: هلا بحجر يا ربيع تبصر ... قد قُضي الدين وجف الدفتر الكراسة: وربما سموا مجموعة الصحف أو الأوراق كراسة؛ قال إبراهيم5 وما فرغ علقمة "ابن قيس النخعي المتوفى سنة 62" من مصحفه حتى بعث إلى أصحابه الكراسة والكراستين والورقة والورقتين. وكان الضحاك يقول6: لا تتخذوا للحديث كراريس ككراريس المصاحف.   1 أدب الكتاب: 108. 2 ابن سعد 3/ 1: 212. 3 تقييد العلم: 140. 4 الصولي: أدب الكتاب: 108. 5 مصاحف السجستاني: 169. 6 تقييد العلم: 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الكتاب: وقد مر بنا، في حديثنا عن أدوات الكتابة، بعض ما ورد فيه لفظ الكتاب من الشعر الجاهلي، وقلنا آنذاك إن الكتاب مصدر كالكتابة، ولكنه لكثرة استعماله ودورانه أصبح اسمًا يطلق على الشيء المكتوب. وسنعرض بعض الروايات التي يرد فيها لفظ الكتاب بمعنى: الديوان أو الصحف المجموعة، وبذلك يكون معناه آنذاك كمعناه عندنا الآن. فقد جاء ابن قرة بكتاب إلى ابن مسعود وقال1: وجدته بالشام فأعجبني فجئتك به. قال: فنظر فيه ابن مسعود، ثم قال: إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم الكتب وتركهم كتابهم. وهذا عبيدة بن عمرو السلماني المرادي "-72" دعا بكتبه عند موته، فمحاها، وقال2: أخشى أن يليها أحد بعدي فيضعوها في غير مواضعها. وكذلك وضع كريب "-98" عند موسى بن عقبة حمل بعير من كتب ابن عباس "-68"3. وأوصى كذلك أبو قلابة عبد الله بن زيد "-104، 105، 107" أن تُدفع كتبه بعد موته إلى أيوب السختياني إن كان حيًّا وإلا فلتحرق4. وكذلك أمر شعبة بن الحجاج ابنه أن يغسل كتبه ويدفنها بعد موته5. ألفاظ أخرى: وكانوا كذلك يطلقون على الكتاب المجموع لفظ: المصحف -ويقصدون به مطلق الكتاب لا القرآن الكريم وحده. فمن ذلك ما ذكره بقية قال6: دفع إليَّ بحير مصحفًا لخالد بن معدان "الكلاعي المتوفى سنة 104" فيه علمه أخذه منه مكتوبًا في تختين وله مثل دفتي المصحف وله عرى وأزرار.   1 تقييد العلم: 53. 2 ابن سعد 6: 63. 3 ابن سعد 5: 216. 4 ابن سعد 7/ 1: 135 و7/ 2: 17. 5 تقييد العلم: 62. 6 مصاحف السجستاني: 134-135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وثمة ألفاظ أخرى ذكرنا بعضها في الفصل الأول، وليس من هدفنا استقصاء هذا البحث، وإنما أوردنا هذه اللمحة العامة لنبين أن الألفاظ التي كانوا يطلقونها على تلك المجموعات توضح -بصورتها اللغوية وبالأخبار التي وردت فيها- أن القوم قد عرفوا التدوين بالمعنى الاصطلاحي منذ عهد التابعين الأولين ومن قبلهم الصحابة أنفسهم. بل لقد أوردنا في الفصل الأول ألفاظًا استعملت في الجاهلية تدل على المجموع المدون وكانت خاصة بالكتب الدينية مثل: السفر والزبور، وذكرنا هناك من أمثلة الكتب المدونة: التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى من العرب، وأشرنا إلى مجلة لقمان مع سويد بن الصامت1، وكتابات دانيال زمن عمر بن الخطاب، وأن عمر بن الخطاب نفسه انتسخ كتابًا من كتب أهل الكتاب في أديم فغضب من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم2. ويبدو أن هذه الكتب قد بلغت في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب من الكثرة والانتشار ما كان يُخشى منه الضلال والانصراف إليها عن قراءة القرآن. قال القاسم بن محمد3 إن عمر بن الخطاب بلغه أنه قد ظهرت في أيدي الناس كتب، فاستنكرها وكرهها، وقال: "أيها الناس، إنه قد بلغني أنه ظهرت في أيديكم كتب، فأحبها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقين أحد عنده كتابًا إلى أتاني به، فأرى فيه رأيي. قال: فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها، ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف؛ فأتوه بكتبهم، فأحرقها بالنار". وقد تعني لفظة الكتب هنا: الكتب الدينية؛ ولكنها قد تحتمل أيضًا سائر الكتب. فالخوف من الضلال والانصراف إلى هذه الكتب عن القرآن الكريم ينسحب على الكتب جميعها؛ وقد تتضمن هذه الكتب بعض ما كان يدونه.   1 ابن هشام، السيرة 2: 68. 2 تقييد العلم: 51-52. 3 تقييد العلم: 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الجاهليون من كتب حكمهم وعلمهم1؛ وقد تتضمن كتب الأدب والأخبار الجاهلية التي تقص أخبار الجاهلية وأشعارها بما فيها من أيام ووقائع ومنازعات، فتثير الخصومات، وتحيي حمية الجاهلية، مما لا تحمد عقباه. فإذا كانوا آنذاك ينهون عن رواية الشعر الجاهلي الذي يبعث هذه المنازعات، فإن الأولى أن يحرقوا ويمزقوا تلك الكتب التي تشتمل على هذه الأخبار والأشعار. ثم لا يكاد يمضي من القرن الأول نصفه حتى ترى قيام نادٍ فيه مكتبة عامة تحوي كتبًا في شتى الموضوعات، يؤمها الناس فيقرءون ما يشاءون منها؛ فقد كان "عبد الحكم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي قد اتخذ بيتًا، فجعل فيه شطرنجات ونردات وفرقات، ودفاتر فيها من كل علم. وجعل في الجدار أوتادًا، فمن جاء علق ثيابه على وتد منها، ثم جر دفترًا فقرأه، أو بعض ما يُلعب به فلعب به مع بعضهم"2. وليس في هذا ما يُستغرب فقد كان عدد القارئين الكاتبين كبيرًا حتى إن الضحاك بن مزاحم -في النصف الثاني من القرن الأول- كان في مكتبة ثلاثة آلاف صبي، وكان يطوف عليهم على حمار3. وهل أدل على هذه النهضة العلمية التأليفية المبكرة في القرن الأول من أن خالد بن يزيد بن معاوية -وقد كان خطيبًا شاعرًا وفصيحًا جامعًا وجيد الرأي كثير الأدب- وقد انصرف إلى العلم وتأليف الكتب وترجمة بعضها إلى العربية، فكان أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء4. ومما يدل على وجود خزائن الكتب في زمن الأمويين، وعلى قدم حركة النقل والترجمة، ما ذكره ابن جلجل في ترجمة ماسرجويه من أنه "كان يهودي   1 انظر ص165-169 من هذا البحث. 2 الأغاني 4: 253. 3 ياقوت: إرشاد "ترجمة الضحاك بن مزاحم". 4 البيان والتبيين 1: 328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 المذهب سريانيًّا، وهو الذي تولى في الدولة المروانية تفسير كتاب أهرن بن أعين القيس إلى العربية، ووجده عمر بن عبد العزيز في خزائن الكتب، فأمر بإخراجه ووضعه في مصلاه، فاستخار الله في إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به، فلما تم له في ذلك أربعون صباحًا أخرجه إلى الناس وبثه في أيديهم"1. فمنذ مطلع القرن الأول الهجري إذن حتى نهايته -فيما تتبعناه- كانت صحف الكتابة كثيرة، موجودة في الأسواق، زهيدة الأثمان، وبذلك وجدت الكتب والمدونات. وكان عدد القارئين كثيرًا؛ ولم تكن هذه الكتب والمدونات خاصةً بالأفراد أو مقصورة على الاستعمال الشخصي، بل لقد كانت تُعرض في مكتبات عامة كما رأينا. وكانت، فوق هذا، تباع في الأسواق لمن أراد أن يشتريها ويقتنيها؛ فقد ذكروا أن همام بن منبه كان يشتري الكتب لأخيه وهب بن منبه "المتوفى سنة 110هـ" وكان وهب هذا مشهورًا بسعة اطلاعه وكثرة الكتب التي قرأها2. -3- غير أن هذا إجمال عام يقتضينا أن نشير إشارة موجزة إلى أنواع هذا التدوين، وذكر الموضوعات التي كانوا يدونونها؛ لنستبين الصلة بين التدوين العام وتدوين الشعر الجاهلي خاصة. ونقصد من هذا العرض السريع أن نوضح أن تدوين الحديث والتفسير واللغة والأنساب والشعر قد بدأ منذ عهد مبكر جدًّا؛ وأنه ليس صحيحًا ما يذكر من أن التدوين لم يعرفه العرب إلا في آخر القرن الثاني ومطلع القرن الثالث.   1 طبقات الأطباء والحكماء: 61. 2 تهذيب التهذيب 11: 67، وابن سعد 5: 395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الحديث والفقه مدخل ... الحديث والفقه: لقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن بعض الصحابة ما يستفاد منه كراهة كتابة الحديث. وقد جمع الخطيب البغدادي هذه الأحاديث والآثار في القسم الأول من كتابه "تقييد العلم"1. ولكنه في القسم الثاني من كتابه جمع من الأحاديث والآثار ما يكشف عن سبب هذه الكراهة، ثم يعقد عليها بما يُغني عن إطالة الحديث، قال2: فقد ثبت أن كراهة من كره الكتاب من الصدر الأول، إنما هي لئلا يضاهي بكتاب الله غيره أو يُشتغل عن القرآن بسواه، ونُهي عن الكتب القديمة أن تُتخذ؛ لأنه لا يُعرف حقها من باطلها، وصحيحها من فاسدها، مع أن القرآن كفى منها، وصار مهيمنًا عليها. ونُهي عن كتب العلم في صدر الإسلام وجدته لقلة الفقهاء في ذلك الوقت، والمميزين بين الوحي وغيره؛ لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين، ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يُؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن، ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام الرحمن". غير أنه وردت كذلك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبار عن صحابته رضي الله عنهم، تحض على كتابة الحديث، وقد جمعها الخطيب كذلك في القسم الثالث من كتابه3. ولن نعرض لهذه الأحاديث والآثار بشيء، ففيما صنعه الخطيب البغدادي ما يكفينا ويكفي غيرنا ممن يحب التوسع في هذا الموضوع. ولكننا سنورد من الأخبار ما يدحض الزعم الشائع أن الحديث ظل أكثر من مائة سنة يتناقله   1 من ص29 إلى ص49. 2 ص57. 3 من ص64 إلى ص114 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 العلماء حفظًا دون أن يكتب. وسنبين أن الحديث قد دُوِّن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواصل الصحابة والتابعون تدوينه بعد ذلك؛ وأن الحفظ والرواية الشفهية قد سارتا جنبًا إلى جنب مع الكتابة والتدوين لا يفصل بينهما فاصل من الزمن، ولا ينفي وجود إحداهما وجود الأخرى. فعبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلمه وإذنه، ولقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم -بعد أن أذن له بكتابة حديثه-: هل يكتب كل ما يسمع؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق1. وكان عبد الله بن عمرو يُسمي صحيفته التي كتب عليها الأحاديث: الصادقة. قال مجاهد2: رأيت عند عبد الله بن عمرو صحيفة، فسألته عنها، فقال: هذه الصادقة فيها ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه فيها أحد. ويقال إن فيها ألفًا من الأحاديث1، وقد بقيت هذه الصحيفة عند أهل بيته فكان حفيده عمرو بن شعيب يحدِّث4 منها. وقد ضمن أحمد بن حنبل هذه الصحيفة مسنده فصانها من الضياع5. وصحابي جليل آخر كتب الأحاديث الشريفة هو عبد الله بن عباس. ذكر موسى بن عقبة قال6: وضع عندنا كريب حمل بعير من كتب ابن عباس، فكان علي بن عبد الله بن عباس إذا أراد الكتاب، كتب إليه: ابعث إلي بصحيفة كذا وكذا، فينسخها ويبعث بها. وصحابي جليل ثالث هو أنس بن مالك خادم رسول الله وملازمه في بيته ليلًا   1 مسند أحمد: حديث رقم 6510 رقم 6802. 2 ابن سعد 7/ 2: 189. 3 أسد الغابة 3: 233. 4 تهذيب التهذيب 8: 48-49. 5 الدكتور محمد حميد الله: أقدم تأليف في الحديث النبوي، مقالة في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، الجزء الأول سنة 1953 ص105. 6 ابن سعد 5: 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ونهارًا عشر سنوات. فقد روى هبيرة بن عبد الرحمن أن أنس مالك كان إذا حدث فكثر عليه الناس، جاء بمجال من كتب، فألقاها ثم قال: هذه أحاديث سمعتها وكتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرضتها عليه1. وكان أنس يحض بينه على كتابة الحديث2. وصحابي جليل رابع هو أبو هريرة أكثر الصحابة رواية للحديث. قال ابن لعمرو بن أمية الضمري3: تحدثت عند أبي هريرة بحديث، فأنكر، فقلت: إني قد سمعته منك. فقال: إن كنت سمعته مني فهو مكتوب عندي. فأخذ بيدي إلى بيته، فأرانا كتبًا كثيرة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد ذلك الحديث. وقد كتب عبد العزيز بن مروان إلى كثير بن مرة الحضرمي -وكان قد أدرك سبعين بدريًّا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديثهم، إلا حديث أبي هريرة فقد ذكر أنه عنده4. وعن بشير بن نهيك5 قال: أتيت أبا هريرة بكتابي الذي كتبته فقرأته عليه، فقلت: هذا سمعته منك؟ قال: نعم. ومن كبار التابعين الذين دونوا الحديث: عروة بن الزبير "المتوفى سنة 94" -وكانت عائشة خالته- قال هشام بن عروة بن الزبير6: أحرق أبي يوم الحرة كتب فقه كانت له؛ فكان يقول بعد ذلك: لأن تكون عندي أحب إلي من أن يكون لي مثل أهلي ومالي.   1 تقييد العلم: 95. 2 ابن سعد 7: 14. 3 الدكتور حميد الله -المقالة المذكورة سابقًا- نقلًا من جامع بيان العلم 1: 74. 4 ابن سعد 7/ 2: 157. 5 ابن سعد 7: 162. 6 المصدر السابق 5: 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وكان أول كتاب ظهر للشيعة: كتاب سليم بن قيس الهلالي من أصحاب علي1. وكان سعيد بن جبير يسائل ابن عباس وابن عمر، فيكتب ما يسمع منهما من الحديث2. وكانت للحسن البصري كتب حديث وفقه، وكان بعض أصحابه يأخذها فينسخها ثم يردها3. وهمام بن منبه جالس أبا هريرة، وسمع منه أحاديث، وكتبها في مجموعة سماها: الصحيفة الصحيحة، كأنه سماها على مثال الصحيفة الصادقة التي كتبها عبد الله بن عمرو. والراجح أن همامًا كتبها في حياة أبي هريرة قبل سنة 58 هجرية. وقد نقل أحمد بن حنبل هذه الصحيفة كاملة في مسنده4؛ ونقل البخاري عددًا كبيرًا من أحاديثها في أبواب شتى5. وقد عُثر حديثًا على مخطوطتين من هذه الصحيفة، ونشرت في مجلة المجمع العلمي بدمشق6. فلم يبق عندنا شك إذن في أن بعض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتب منذ عهده، واستمر الصحابة والتابعون في كتابته، وليس من الصواب في شيء أن يُزعم أن الحديث الشريف بقي مائة سنة أو تزيد يتناقله الناس حفظًا، ولم يدونوه إلا في منتصف القرن الثاني للهجرة.   1 ابن النديم: الفهرست: 307-308. 2 ابن سعد 6: 179-180. 3 المصدر السابق 7/ 2: 17. 4 ج2 ص312-314. 5 انظر مقالة الدكتور محمد حميد الله السابق ذكرها. 6 الجزء الثاني والجزء الثالث من المجلد الثامن والعشرين سنة 1953. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 التفسير : ولا يختلف التفسير عما قدمنا من أمر الحديث، فسبيلهما في ذلك واحدة. إذ يبدو لنا أن كتابة التفسير قد بدأت كذلك من عهد الصحابة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وتابعهم فيها التابعون، حتى وصلت إلى ما نعرف من أوائل كتب التفسير التي بين أيدينا. فقد مر بنا أن كتب عبد الله بن عباس بلغت حمل بعير، وأن كُرَيبًا وضعها عند موسى بن عقبة، فكان علي بن عبد الله بن عباس إذا أراد الكتاب كتب إلى موسى أن يبعث إليه بالصحيفة التي يريدها، فينسخها علي ويردها إليه. وقد أوردنا هذا النص في حديثنا عن الحديث النبوي، غير أن كتب ابن عباس هذه لم تكن كلها في الحديث، وإنما كان بعضها في التفسير وما يتصل به من أسباب النزول وأحكام القرآن: فقد كان لابن عباس كتاب في التفسير رواه عند مجاهد1، وعكرمة2. وروى عكرمة كذلك كتاب ابن عباس في نزول القرآن3. أما كتاب ابن عباس في أحكام القرآن فقد رواه عنه الكلبي4. وممن كتب التفسير أيضًا عروة بن الزبير، وقد مر بنا أن عروة كتب الحديث كذلك. ونجد في سيرة ابن هشام5 وطبقات ابن سعد6 قطعة طويلة من تفسيره تتضمن ما يتصل بالآيات من حوادث تاريخية وأسباب النزول. وذلك أن ابن أبي هنيدة7 صاحب الوليد بن عبد الملك كتب إلى عروة بن الزبير يسأله عن قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} 8 فكتب إلى عروة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صالح قريشًا يوم   1 الفهرست: 50. 2 الفهرست: 51. 3 المصدر السابق: 57. 4 المصدر السابق: 57. 5 ج3 ص340-341. 6 ج8 ص6-7. 7 في طبقات ابن سعد "هبيرة" مكان "ابن أبي هنيدة". 8 سورة "الممتحنة" آية 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الحديبية على أن يرد عليهم من جاء بغير إذن وليه، فلما هاجر النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الإسلام، أبى الله أن يرددن إلى المشركين إذا هن امتحن بمحنة الإسلام ... "إلى آخر النص". وممن كتب التفسير من التابعين أيضًا: سعيد بن جبير؛ فقد أرسل إليه عبد الملك بن مروان أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بن جبير إليه بتفسيره، فحفظه عبد الملك عنده في الديوان. وقد روى عطاء بن دينار التفسير عن سعيد بن جبير، ولكنه لم يسمعه منه، وإنما وجد عطاء هذا التفسير في الديوان، فأخذه، فأرسله عن سعيد بن جبير1. ومع أن عطاء لم يسمعه من سعيد بن جبير إلا أن غيره سمعه منه وكتبه عنه، فقد كان عزرة يختلف إلى سعيد "معه التفسير في كتاب ومعه الدواة يغير"2. وقد كان كثير من التابعين يكتبون التفسير. وحسبنا أن نذكر كتابين من هذه الكتب: الأول: كتاب تفسير الحسن بن أبي الحسن البصري3. والثاني: كتاب تفسير السدي، هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة المتوفى سنة 127، روى عن أنس وغيره من الصحابة. وقد جمع السدي تفسيره بطرق ثلاث: عن اثنين من التابعين عن ابن عباس، وعن تابعي واحد عن ابن مسعود، ومن رواية نفسه عن ناس من الصحابة، وقد رأى تفسيره الإمام أحمد بن حنبل، ونقل منه كثيرًا الطبري في تفسيره4.   1 ابن أبي حاتم الجرح والتعديل 3/ 1: 332. 2 ابن سعد 6: 186. 3 الفهرست: 51. 4 انظر تفسير الطبري ط. دار المعارف 1: 157-159 من كلام الشيخ أحمد محمد شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 المغازي والسيرة : وأول ما يلفتنا من المغازي والسيرة أنها كانت مادة من مواد المفسر يلجأ إليها حين يعرض لأسباب نزول الآية أو للأخبار والحوادث المتصلة بها، كما مر بنا في تفسير عروة بن الزبير لآية من سورة الممتحنة إذ فصَّل القول في الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش يوم الحديبية؛ وكذلك كان دأب المفسرين. ولكن عروة كانت له كتابات تاريخية خالصة؛ حفظتها لنا بعض كتب التاريخ التي وصلت إلينا. فقد كان عبد الملك بن مروان يرسل إليه يسأله عن بعض الحوادث التاريخية، فكتب إليه يسأله مرة عن هجرة الحبشة1، ومرة أخرى عن وقعة بدر وخروج أبي سفيان2، ومرة ثالثة عن خالد بن الوليد وفتح مكة3. وكان عروة بن الزبير في كل مرة يكتب إلى عبد الملك مجيبًا له عما يسأله؛ فكان مما كتبه مثلًا "أما بعد، فإنك كتبت إلي في أبي سفيان ومخرجه، تسألني كيف كان شأنه؟ كان من شأنه أن أبا سفيان بن حرب أقبل من الشام في قريب من سبعين راكبًا، من قبائل قريش كلها، كانوا تجارًا بالشام. فأقبلوا جميعًا معهم أموالهم وتجارتهم؛ فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد كانت الحرب بينهم قبل ذلك، فقتلت قتلى ... " ثم يمضي يفصل القول تفصيلًا في مقدمات وقعة بدر مما نقله الطبري في تاريخه. ولذلك قيل إن عروة أول من صنف في المغازي4. ولم يكن عروة وحده يدون هذه المغازي، بل كان يدونها غيره من معاصريه، مثل أبان ابن الخليفة الثالث عثمان بن عفان "توفي أبان سنة 105"، وقد أخذ   1 الطبري: تاريخ 1: 1180. 2 المصدر السابق 1: 1284. 3 المصدر السابق 1: 1634. 4 حاجي خليفة: كشف الظنون 5: 646. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 هذه المغازي عن أبان: المغيرة بن عبد الرحمن، وكانت كثيرًا ما تُقرأ عليه1. ووهب بن منبه كتب كذلك المغازي والسيرة2. وقد وجد بيكر C.N. Becker بين مجموعة أوراق بردي shott- Reinhardt المحفوظة في هيدلبرج، مجلدًا يرجح أنه يحوي قطعة من كتاب المغازي لوهب بن منبه؛ وتاريخ نسخ هذه القطعة سنة 288، فهي بعد وفاة وهب بنحو قرن واحد3. وجاء بعد ذلك ابن شهاب الزهري "المتوفى سنة 124"، وقد طلب منه خالد بن عبد الله القسري أن يكتب له السيرة4، فقال له ابن شهاب: فإنه يمر بي الشيء من سيرة علي بن أبي طالب، فأذكره؟ فقال له خالد: لا، إلا أن تراه في قعر الجحيم!! وللزهري كتاب عن مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم رواه عنه يونس بن يزيد5، لا أدري أهو نفسه كتاب السيرة الذي كتبه لخالد القسرى، أم أنه كتاب غيره. ثم خلف بعد هؤلاء موسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق صاحب السيرة. -4- لقد كانت هذه الموضوعات الثلاثة: الحديث، والتفسير، والسير والمغازي إسلامية في مادتها. وقد دلت بما لا يقبل الشك على أن تدوين الموضوعات في كتب -مهما يكن حجمها- قد بدأ في عهد مبكر جدًّا: منذ عهد الرسول والصحابة، وأن هذه الموضوعات لم تُنقل بالرواية الشفهية قرنًا أو يزيد حتى   1 ابن سعد 5: 156. 2 حاجي خليفة رقم 12464. 3 يوسف هوروفتس: المغازي الأول ومؤلفوها، ترجمة حسين نصار ص34-35. 4 الأغاني 19: 59. 5 السخاوي، الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ: 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 دُونت، كما ذهب إليه الكثيرون. أما تدوين ما يتصل بالجاهلية من أخبار وأنساب وأشعار، فسنوردها مجتمعة؛ لأنها متداخلة متشابكة في تدوينها منذ بدأ هذا التدوين. وكان العالم الذي يدون الجاهلية، أو يرويها، يذكر الخبر ثم يستشهد عليه بالشعر ويفصل القول في أنساب من يرد ذكرهم في حديثه، أو يذكر الشعر ثم يرود من الأخبار والأنساب ما يفسره ويتصل به. وأول ما يبدو لنا في هذا الموضوع أن الذين دونوا تلك الموضوعات الإسلامية التي ذكرناها، كانوا أيضًا يعرضون لذكر الجاهلية: ففي كتب المغازي والسير كانوا يعرضون لذكر العرب الجاهليين والأنبياء السابقين ويفصلون القول في نسب الرسول الكريم وأخبار مكة وقريش ومن يتصل بهما من أفراد وقبائل. وكانت هذه الكتب التاريخية في السيرة والمغازي تشتمل على كثير من الشعر الذي قاله الشعراء الجاهليون الخالصون والشعراء الجاهليون المخضرمون. وقد كان كُتَّاب السيرة والمغازي -في الصدر الأول- يحفظون كثيرًا من الشعر الجاهلي ويستخدمونه في الاستشهاد على ما يكتبون أو يتحدثون. قال أبو الزناد عن أبان بن عثمان بن عفان -وقد مر بنا أنه من كتاب السيرة والمغازي- إنه قلما كان في صحبته دون أن يتمثل بأشعار شاعر المدينة اليهودي الربيع بن أبي الحقيق، وذلك قوله1: سئمت وأمسيت رهن الفرا ... ش من جرم قومي ومن مغرم ومن سفه الرأي بعد النُّهَى ... وعيب الرشاد ولم يفهم فلو أن قومي أطاعوا الحليم ... لم يتعدوا ولم يظلم ولكن قومي أطاعوا الغوا ... ة حتى تعكس أهل الدم2   1 الأغاني 21: 92، ونسبها المرزباني في معجم الشعراء "ص352" لكنانة بن أبي الحقيق. 2 في معجم الشعراء: 352: "تلفظ أهل الدم" مكان "تعكس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فأودى السفيه برأي الحليـ ... ـم وانتشر الأمر لم يبرم وذكروا أن عروة الزبير وهو أيضًا ممن كتب السير والمغازي كان من أروى الناس للشعر1. وكذلك كان المفسرون يعتمدون على الشعر الجاهلي وكلام العرب في تفسير ألفاظ القرآن الكريم وفهم معانيه: فقد رُوي عن عمر بن الخطاب أنه قال على المنبر2: ما تقولون فيها؟ "يقصد في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّف} "، فسكتوا. فقام شيخ من هذيل، فقال: هذه لغتنا، التخوف: التنقص. فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته: تخوف الرحل منها تامكًا قردًا ... كما تخوف عود النبعة السفن3 فقال عمر: عليكم بديوانكم لا تضلوا. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. ويُروى قريب من هذا عن ابن عباس، فقد ذكر أبو بكر الأنباري4 قال: أتى أعرابي إلى ابن عباس فقال: تخوفني مالي أخ لي ظالم ... فلا تخذلني اليوم يا خير من بقي فقال ابن عباس: تخوفك أي تنقصك؟ قال: نعم. قال: الله أكبر! {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّف} أي تنقص من خيارهم. وقد كان ابن عباس حريصًا على الشعر الجاهلي يحث الناس على تعلمه   1 ابن كثير، البداية والنهاية 9: 101. 2 تفسير البيضاوي، سورة النحل آية: 46. 3 التامك: السنام. القرد: الكثير القردان أو السمين. السفن: حجر ينحت به. 4 القالي، الأمالي 2: 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وطلبه لتفسير القرآن، فمما قاله في ذلك1: "وإذا سألتم عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر؛ فإن الشعر ديوان العرب". وقد حاج ابن عباس عمرو بن العاص في مجلس معاوية رضي الله عنهم في آية2، فقال عمرو: تغرب في عين حامية؛ وقال ابن عباس: حمئة. فلما خرج إذا رجل من الأزد قال له: بلغني ما بينكما، ولو كنت عندك أفدتك بأبيات قالها تُبَّع: فرأى مغار الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلبٍ وثأطٍ حرمد3 فقال ابن عباس: اكتبها يا غلام. وقال عثمان بن أبي العاصي الثقفي لبنيه: "يا بني، إني قد أمجدتكم في أمهاتكم، وأحسنت مهنة أموالكم، وإني ما جلست في ظل رجل من ثقيف أشتم عرضه. والناكح مغترس، فلينظر امرؤ منكم حيث يضع غرسه؛ والعرق السوء قلما ينجب ولو بعد حين". فقال ابن عباس: يا غلام اكتب لنا هذا الحديث4. وقال ابن عباس كذلك5: ما كنت لأدري ما {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض} حتى احتكم إلي أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي ابتدأت حفرها. وقد ذكر عكرمة6 أنه ما سمع ابن عباس فسر آية من كتاب الله عز وجل   1 السيوطي، المزهر 2: 302. 2 الزمخشري، الفائق 1: 297. 3 الخلب: الطين اللزج. الثأط: الحمأة. الحرمد: الأسود. 4 الجاحظ، البيان والتبيين 2: 67. 5 الفائق 2: 283. 6 التبريزي، شرح الحماسة: 1-3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 إلا نزع فيها بيتًا من الشعر، وكان يقول: إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله فاطلبوه في الشعر؛ فإنه ديوان العرب. وكذلك كان ابن مسعود يُعنَى بالعربية والشعر، وقد كان يسأل في ذلك زر بن حبيش -وكان أعرب الناس1. وكذلك كان ابن شهاب الزهري؛ فقد قال ابن أبي الزناد2: كنا لا نكتب إلا سنة، وكان الزهري يكتب كل شيء، فلما احتيج إليه عرفت أنه أوعى الناس. وقد كان الزهري يضرب في كل فنٍ بسهم وافر، وقد كتب في الأنساب كتابًا لم يُتمه، قال الزهري3: قال لي خالد بن عبد الله القسري: اكتب لي النسب. فبدأت بنسب مضر، وما أتممته، فقال: اقطعه، قطعه الله مع أصولهم. وكان علمه بالأنساب والأخبار مضرب المثل؛ قال الليث4: ".. وإن حدث عن العرب والأنساب قلت لا يُحسن إلا هذا.." وكان راوية للشعر يحفظ الكثير منه5، حتى كان الخلفاء الأمويون يرسلون إليه يسألونه عن الشعر والشعراء6. وليس أدل على كثرة ما ألفه الزهري في شتى الموضوعات من أنه حينما قتل الوليد بن يزيد سنة 126هـ حملت الدفاتر على الدواب من خزائنه، وكانت من علم الزهري7. وكان إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله فيشتغل بها عن كل شيء من أمور الدنيا، فقالت له امرأته يومًا8: والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر.   1 ابن سعد 6: 71. 2 البيان والتبيين 2: 290. 3 الأغاني 19: 59. 4 أبو نعيم، حلية الأولياء 3: 360. 5 الأغاني "دار الكتب" 11: 23-26. 6 الأغاني 4: 248. 7 ابن سعد 2: 136. 8 ابن خلكان، وفيات الأعيان 1: 571. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فقد كان إذن هؤلاء المدونون للحديث والتفسير والمغازي يضمنون مدوناتهم شيئًا من أخبار الجاهلية وأشعارها وأنسابها، وربما أفردوا النسب بالتأليف. فهل دونت العرب -تدوينًا مستقلًا قائمًا بنفسه- ما يتصل بالجاهلية من أخبار وأشعار وأنساب، كما دونت الحديث والتفسير والسيرة والمغازي، أو أن تدوين أخبار الجاهلية وأشعارها وأنسابها لم يبدأ إلا منذ نهاية القرن الثاني على أيدي العلماء الرواة المشهورين؟ -5- وسنبدأ بذكر عالمين من علماء الشعر الجاهلي متعاصرين، هما: أبو عمرو بن العلاء "المتوفى سنة 154"، وحماد الراوية "المتوفى سنة 156"، وسنتحدث عنهما هنا في أمر لا نعدوه: هو أن نكشف عن أن عنايتهما بالشعر الجاهلي لم تكن مقصورة على دروس شفهية يتلقاها تلامذتها من غير تدوين، وإنما كانا، وغيرهما من العلماء، يئلان إلى دواوين ومجموعات مكتوبة توارثاها عمن قبلهما، وذلك فضلًا عما كانا هما يقيدانه ويدونانه مما يسمعان من الأعراب والرواة، فيضيفانه إلى ما بين أيديهما من الدواوين زيادة في الرواية، أو شرحًا وتفسيرًا واستشهادًا على بعض المشكل من المعاني أو الغريب من الألفاظ. أما أبو عمرو بن العلاء فقد بلغت عنايته بالشعر الجاهلي مبلغًا كبيرًا حتى قال الأصمعي1: جلست إلى أبي عمرو بن العلاء عشر حجج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي. وقال عمرو مرةً: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت أن آمر فتياننا بروايته!! يعني شعر جرير والفرزدق وأشباههما! وقد كانت عناية أبي عمرو بالكتابة والتدوين لا تقل عن عنايته بالحفظ   1 البيان والتبيين 1: 321. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 والرواية؛ فقد كان يرسل إلى الحارث بن خالد بن العاصي -الشاعر الغزل المشهور- أخاه معاذ بن العلاء ومعه كتاب فيه مسائل يسأله عنها1؛ وكان كذلك يكتب إلى عكرمة بن خالد -محدث جليل من وجوه التابعين، وهو أخو الحارث الشاعر- يسأله كما يسأل أخاه2. وكان أبو عمرو يذهب إلى عمرو بن دينار ومعه كتابه، فكان يقيد في كتابه مما يسمعه مالم يكن فيه 3. وقال شعبة4: كنت أجتمع أنا وأبو عمرو بن العلاء عند أبي نوفل بن أبي عقرب فأسأله عن الحديث خاصةً، ويسأله أبو عمرو عن الشعر واللغة خاصةً، فلا أكتب شيئًا مما يسأله عنه أبو عمرو، ولا يكتب أبو عمرو شيئًا مما أسأله أنا عنه. وكان من أثر شغفه بالتدوين أن كتبه "ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تقرأ فأحرقها كلها؛ فلما رجع بعد إلى علمه الأول لم يكن عنده إلى ما حفظه بقلبه. وكانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية"5. وأما حماد الراوية فالأخبار التي جمعناها عنه تدل دلالة صرحية على أنه كانت عنده كتب فيها أخبار الجاهلية وأنسابها وأشعارها، بعضها كتبه بنفسه، وبعضها كُتب من قبله فقرأه واستفاد منه في تدوين كتبه.   1 الأغاني 3: 312، وفيه أن الحارث كان آنذاك والي مكة أي سنة 75هـ. وقد ذكروا في سنة ولادة أبي عمرو أنها 70هـ، وهذا لا يعقل، إذ يكون أبو عمرو عالمًا باللغة والشعر ويسأل عنهما والي مكة وعمره خمس سنوات. ولكن في سنة ولادة أبي عمرو خلافًا، قال ابن الجزري في طبقات القراء: ولد سنة 68، وقيل: سنة 70، وقيل: سنة 65، وقيل: سنة 55 فإذا صح ما ذكرناه عن مكاتبته للحارث سنة 75 كان أقرب إلى المعقول أن تكون سنة ولادته أقدم ما ذكر ابن الجزر ي أي سنة 55. 2 أبو الطيب اللغوي، مراتب النحويين، ورقة: 24. 3 ابن سعد 7/ 2: 42. 4 السيوطي، المزهر 2: 304. 5 البيان والتبيين 1: 321. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 قال حماد الراوية1: أرسل الوليد بن يزيد إليَّ بمائتي دينار، وأمر يوسف بن عمر بحملي إليه على البريد. قال، فقلت: لا يسألني إلا عن طرفيه: قريش وثقيف؛ فنظرت في كتابي قريش وثقيف. فلما قدمت عليه سألني عن أشعار بلي، فأنشدته منها ما استحسنه، ثم قال: أنشدني في الشراب -وعنده وجوه من أهل الشام- فأنشدته..". وقد كان أمر كتاب حماد المشتملة على شعر الجاهلية معروفًا مشهورًا، حتى إن الوليد بن يزيد بن عبد الملك -حين أراد أن يجمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها- استعار من حماد ومن جناد بن واصل الكوفي ما عندهما من الكتب والدواوين فدونها عنده، ثم رد إليهما كتبهما2. ومما يُروى لنا عن حماد أنه كان في أول أمره يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص، فنقب ليلة على رجل فأخذ ماله، وكان فيه جزء من شعر الأنصار، فقرأه حماد، فاستحلاه وتحفظه، ثم طلب الأدب والشعر وأيام الناس ولغات العرب بعد ذلك وترك ما كان عليه، فبلغ في العلم ما بلغ3. وقد رأى أبو حاتم السجستاني بعض كتب حماد في الشعر الجاهلي، وكان يرجع إليها، ويثبت ما يجده فيها زائدًا على ما جمع من الشعر، وإن كان نص على أن هذه الزيادات هي من الشعر المصنوع4. ومما يؤيد ما ورد عن كتاب شعر الأنصار الذي وجده حماد أن شعر الأنصار   1 الأغاني 6: 94. 2 ابن النديم، الفهرست: 134، وقد قال ابن النديم عن جناد بن واصل الكوفي "ص135" إنه كان أعلم الناس بأشعار العرب وأيامها. 3 الأغاني 6: 87. 4 انظر مختارات ابن الشجري: 123 و127 و136. ولذلك كان عجيبًا أن يقول ابن النديم "ولم ير لحماد كتاب، وإنما روى عنه الناس، وصنفت الكتب بعده!! " فلعل ابن النديم لم يصله شيء من كتبه فألقى هذا القول العام إلقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قد كتب منذ زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب؛ وبقيت الأنصار بعد ذلك تجدده كلما خافت بلاه. وتفصيل ذلك أن عبد الله بن الزبعري السهمي وضرار بن الخطاب الفهري أنشدا حسان بن ثابت شعرًا مما كانا قالاه قبل الإسلام -وكان عمر قد نهى عن إنشاد ذلك الضرب من الشعر لئلا تتجدد الضغائن- ففار حسان حتى صار كالمرجل غضبًا، ثم دخل على عمر بن الخطاب وقص عليه قصتهما، فأرسل إليهما عمر رسولًا فردهما إليه، ثم دعا لهما بحسان -وعمر في جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال لحسان: أنشدهما مما قلت لهما. فأنشدهما حتى فرغ مما قال لهما، فوقف. فقال له عمر: أفرغت؟ قال: نعم. فقال له: أنشداك في الخلاء وأنشدتهما في الملإ. وقال لهما عمر: إن شئتما فأقيما وإن شئتما فانصرفا. وقال لمن حضره: إني قد كنت نهيتكم أن تذكروا مما كان بين المسلمين والمشركين شيئًا دفعًا للتضاغن عنكم وبث القبيح فيما بينكم، فأما إذ أبوا فاكتبوه واحتفظوا به. فدونوا ذلك عندهم قال خلاد بن محمد: فأدركته والله وإن الأنصار لتجدده عندها إذا خافت بلاه1. ولم يكن الوليد بن يزيد -الذي جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها من كتب حماد وجناد- وهو وحده الذي بذل مثل هذه العناية؛ بل كان من سبقه من خلفاء بني أمية يفعلون كما فعل. فقد كان للوليد بن عبد الملك كاتب خاص نصبه لكتابة المصاحف والشعر والأخبار، وهو خالد بن الهياج2. وقد مر بنا أن عبد الملك بن مروان أرسل إلى سعيد بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتبه، فحفظه عبد الملك عنده في الديوان. وكان   1 الأغاني 4: 140-141. 2 الفهرست: 9-10 وقد ذكر ابن النديم خالدًا هذا في موضع آخر من كتابة "ص6" وقال عنه إنه صاحب علي رضي الله عنه، فلعله هو نفسه عاش حتى كتب الوليد! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 عبد الملك يُعنَى بأخبار العرب وأشعارها، وفعل فيها ما فعل بالتفسير، وأمر من جمع له المعلقات1. أما معاوية بن أبي سفيان فقد كانت له ساعات من كل يوم يقعد فيها فيُحضر غلمانه "الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها والحروب والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان مرتبون، وقد وكلوا بحفظها وقراءتها2. وكانت من جملة تلك الأحاديث: أحاديث عبيد بن شرية عن وقائع العرب وأخبارها وأشعارها، فكان معاوية يأمر أهل ديوانه وكتابه أن يوقعوا هذه الأحاديث ويدونوها في الكتب وينسبوها إلى عبيد بن شرية3. وقد ذكر ابن سلام4 في معرض حديثه عن قصيدة أبي طالب التي مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل أنه رأى هذه القصيدة مدونة في كتاب كتبه يوسف بن سعد صاحبنا منذ أكثر من مائة سنة". ولا نعرف متى كتب ابن سلام كتابه حتى نعرف متى كتب يوسف بن سعد هذه القصيدة في كتابه قبل مائة سنة من كتاب ابن سلام. غير أن يوسف بن سعد هو: يوسف بن سعد الجمحي، مولاهم، أبو يعقوب، روى عن عمر وعلي وزيد بن ثابت5. فهو إذن من كبار التابعين، وبذلك نرجح أنه كتب كتابه هذا وفيه قصيدة أبي طالب ما بين منتصف القرن الأول ونهايته. ولم يكن سماح عمر بن الخطاب بتدوين الشعر الجاهلي بدعًا من الأمر،   1 البغدادي، الخزانة 1: 124. 2 المسعودي، مروج الذهب 3: 40-41. 3 أخبار عبيد بن شرية: 113، والفهرست: 132. 4 طبقات فحول الشعراء: 204. 5 انظر ترجمته في: البخاري، التاريخ الكبير 6: 373، وابن حجر: تهذيب التهذيب 11: 413. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فقد كان بعض الصحابة يعنون كذلك بتدوين هذا الشعر. وقد مر بنا أن طلحة رضي الله عنه أنشد قصيدة فما زال شانقًا ناقته حتى كتبت له1. فهو إذن يدون بعض الشعر ويجمعه ويحفظه. ومما يتصل بهذا أيضًا أن دغفلًا النسابة -وهو جاهلي أدرك الإسلام- كان يكتب الأنساب ويدونها في الصحف ويبدو لنا ذلك واضحًا من قول الفرزدق2: أوصى عشية حين فارق رهطه ... عند الشهادة في الصحيفة دغفل أن ابن ضبة كان خير والدًا ... وأتم في حسب الكرام وأفضل وفي هذه القصيدة نفسها يعدد الفرزدق الشعراء الجاهليين، ويفخر أنه قد ورث عنهم الشاعرية المتدفقة الفحلة، ولكن في ألفاظه ما قد يُفهم منه أنه كانت بين يديه مجموعات شعرية لشعراء جاهليين أو نسخ من دواوينهم، وذلك قوله: والجعفري وكان بشر قبله ... لي من قصائده الكتاب المجمل وبعد أبيات يقول: دفعوا إلى كتابهن وصية ... فورثتهن كأنهن الجندل ونحب هنا أن نذكر بما كتبناه في حديثنا عن تقييد الشعر الجاهلي من أمر هذه القصائد التي كان يكتبها: النابغة الذبياني، وعدي بن زيد العبادي،   1 الزمخشري، الفائق 1: 677. 2 النقائض 1: 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 والربيع بن زياد العبسي وغيرهم كثيرون، ويرسلونها إلى بلاط المناذرة معتذرين عاتبين؛ ونصل هذا الذي قدمناه بما يُروى عن حماد الراوية من قوله1: أمر النعمان فنسخت له أشعار العرب في الطنوج -قال: وهي الكراريس- ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار بن أبي عبيد قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره فأخرج تلك الأشعار. وقد يحلو لبعض القدامى أن يطعنوا في حماد ويكذبوه -وسنعرض لذلك في بحثنا عن الرواية والرواة في الباب التالي- وقد يحلو لبعض المحدثين أن يطعنوا في هذه الرواية بذاتها ويكذبوها، ولكنهم لا يقدمون دليلًا يقوم عليه طعنهم وتكذيبهم، وإنما هم يرسلون الكلام إرسالًا ويلقونه على عواهنه؛ وهذا ابن سلام -وهو من هو شكًّا في الشعر الجاهلي وفي بعض رواته- يسوق من هذه الرواية المتقدمة جوهرها ومضمونها، وإن كان لا ينسبها إلى حماد؛ وهو في إيراده هذه الرواية يقبلها ولا يشكك فيها. قال ابن سلام2: "وقد كان النعمان بن المنذر منه "أي من شعر العرب في الجاهلية" ديوان فيه أشعار الفحول وما مُدح هو وأهل بيته به، فصار ذلك إلى بني مروان، أو صار منه". فالروايتان رواية واحدة، وهي رواية تتسق اتساقًا كاملًا مع ما قدمنا من تقييد الشعر الجاهلي وتدوينه، ولا نجد ما يسوغ التشكيك فيها، إلا أن يقوم دليل لم نستبنه بعد. وثمة خبر آخر يؤيد الخبر السابق ويدعمه، ويدل على مبلغ عناية بلاط المناذرة وأهل الحيرة بتدوين الأخبار والأشعار الجاهلية. فقد قال الطبري3: "كان أمر آل نصر بن ربيعة، ومن كان من ولاة ملوك الفرس وعمالهم على ثغر العرب الذين هم ببادية العراق، عند أهل الحيرة متعالمًا مُثبتًا عندهم في   1 ابن جني، الخصائص 1: 392-393. 2 طبقات فحول الشعراء: 23. 3 تاريخ "ط. مصر" 2: 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 كنائسهم وأسفارهم"، ثم يذكر الطبري أن هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: "كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من عمل منهم لآل كسرى وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة وفيها ملكهم وأمورهم كلها". وقد قبل الباحثون من المستشرقين هذا القول، فقال الأستاذ هـ. ا. ر. جب1: "ويزعم من ناحية أخرى أنه ربما وجدت كتب مدونة في الحيرة، وأنه وجدت بالفعل بعض المقيدات التاريخية هناك، فهذا لا مراء فيه". بل إن الأستاذ أولندر ليذهب إلى أبعد من ذلك فنقول عن ابن الكلبي إنه كان مؤرخًا حذرًا متثبتًا على خلاف ما يصمه به خصومه من القدامى، ثم يقول2: "ومن المؤكد أنه استخدم النقوش والمدونات التاريخية في الحيرة واستفاد منها، ولذلك أكد الباحثون المحدثون أقواله مرارًا، وفي حالات منها أكدوها تأكيدًا عجيبًا، مثال ذلك: تأكيدهم أقواله حينما اكتشفوا شاهد قبر امرئ القيس بن عمرو الحيري3". فأمامنا الآن في هذه النصوص والروايات الثلاث الأخيرة: شعر الفرزدق عن صحيفة دغفل في النسب وما يُفهم من قوله عن وجود دواوين شعر جاهلي عنده، ثم رواية حماد وابن سلام عن جمع النعمان للشعر الجاهلي وتدوينه، ثم رواية ابن الكلبي عن أسفار الحيرة ونقوش كنائسها وما فيها من أخبار العرب الجاهليين وأنسابهم، أمامنا إذن في هذه النصوص والروايات، شعر جاهلي وأخبار جاهلية مدونة كلها في كتب وأسفار ودواوين من الجاهلية نفسها. وما زال في الحديث فضل حقيق بأن يُذكر ليزيد ما تقدم حجةً وإيضاحًا.   1 مقالة عنوانها "بدء التأليف النثري" في مجلة الأدب والفن، السنة الأولى، الجزء الثاني، سنة 1943 ص4. 2 Gunnar olinder, kings of kinda. 16-17. 3 انظر أيضًا: جواد علي، تاريخ العرب قبل الإسلام 1: 47-48؛ وما كتبه الأستاذ أحمد زكي باشا في مقدمة كتاب الأصنام ص12- 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وقد أشرنا في حديث سابق إشارة عابرة إلى بيتي معقل بن خويلد الهذلي -وهو شاعر جاهلي أدرك الإسلام- وهما1: فإني كما قال مملي الكتا ... ب في الرق إذ خطه الكاتب: "يرى الشاهد الحاضر المطمئن ... من الأمر مالا يرى الغائب". وقد وضعنا علامات الترقيم هذه لتدل على المعنى الذي قصدنا إليه من أن هذا الشاعر قد قرأ بيته الثاني -بهذه الألفاظ أو بألفاظ مقاربة تؤدي هذا المعنى- في كتاب من كتب الشعر أو الأخبار الجاهلية، ثم اقتبسه وضمنه قصيدته هذه. وليس الأمر مجرد استنتاج، فلهذين البيتين أخ ثالث قاله شاعر آخر وهو أوضح في دلالته وأبين في حجته لنا من هذين البيتين، وذلك قول بشر بن أبي خازم، وهو شاعر جاهلي لم يدرك الإسلام2: وجدنا في كتاب بني تميم: ... "أحق الخيل بالركض المعار" فبشر يذكر، في وضوح، أنه وجد في كتاب بني تميم أن: أحق الخيل بالركض   1 ديوان الهذليين 3: 70. 2 المفضليات: 98 وينسب البيت أيضًا الطرماح كما في اللسان. وليس البيت في ديوان الطرماح، وإنما هو من الأبيات التي جمعت وأضيفت إلى آخر الديوان، وهو هناك بيت مفرد منقول من اللسان. وذكر كرنكو "وهو محقق الديوان" ص148 بعد البيت أنه "قد ورد هذا البيت في قصيدة لبشر بن أبي خازم الأسدي، وقال أبو عبيدة إنه الطرماح". وقد أورده الفيروزبادي في قاموسه المحيط "عير"، وقال إنه "قول بشر بن أبي خازم، لا الطرماح، وغلط الجوهري". ومما يقوي نسبته لبشر أن في كتب اللغة والأدب أبياتًا متفرقة من هذا البحر والروي منسوبة لبشر بحيث يصح أن تكون في أصلها قصيدة واحدة منها هذا البيت. ومهما يكن، فإن البيت حتى إذا لم تثبت نسبته لبشر، وكان حقًّا للطرماح، فإن دلالته ما زالت قائمة؛ لأن الطرماح مات في نحو سنة 105، فيضم هذا البيت إلى الشواهد والأدلة التي تثبت وجود كتب القبائل ودواوين الأفراد منذ القرن الأول الهجري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 المعار. وقد أورد صاحب اللسان هذا البيت1، ولكنه أورد -قبل هذا البيت في أثناء حديثه عن هذه المادة اللغوية- بيتًا آخر يختلف عنه في الصدر، ويتفق معه في العجز اتفاقًا تامًّا، وهو: أعيروا خيلكم ثم اركضوها ... أحق الخيل بالركض المعار وابن منظور لا ينسب هذا البيت الأخير لشاعر بعينه؛ وبذلك ترك لنا المجال مفتوحًا لننساق مع صريح ألفاظ بشر بن أبي خازم في بيته السابق، فنفترض أن بيت اللسان غير المنسوب هو لشاعر تميمي جاهلي، وأن بشرًا قد قرأ هذا البيت في كتاب شعر بني تميم، فاقتبس عجزه في بيته، ولذلك وضعناه بين علامتي اقتباس. وقد أورد المرزباني بيت بشر هذا وقال بعده2: "فمعناه: وجدنا هذه اللفظة مكتوبة". فما هو كتاب بني تميم إذن؟ الذي نراه أن كل قبيلة من القبائل كانت تجمع شعر شعرائها، وحكم حكمائها، وأقوال خطبائها، وأخبارها ومفاخرها ومآثرها وأنسابها في كتاب. وقد احتفظ العرب بهذه التسمية لكتب القبائل بعد ذلك في العصور الإسلامية لتدل على هذا نفسه الذي قدمنا. وسنعود إلى هذا الموضوع بالحديث المفصل حين نتكلم على دواوين القبائل في الفصل الثاني من الباب الأخير. وقد مر بنا ذكر كتابي قريش وثقيف اللذين كانا عند حماد الراوية "المتوفى سنة 156" وأنه نظر فيهما حين أرسل إليه الوليد بن يزيد3. ونضيف إلى كتب القبائل هذه التي تحوي أخبارها وأنسابها وشعر شعرائها:   1 لسان العرب "عير". 2 الموشح: 179. 3 الأغاني 6: 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 كتاب نسب قريش الذي كان مع ابن شهاب الزهري1 "المتوفى سنة 123-125". ومما يدل أيضًا على قدم وجود كتب النسب هذه، ويزيد اطمئناننا إلى أنها كانت مدونة منذ الجاهلية، ما قاله عبد الله بن محمد بن عمارة2 "فرتني: أم لهم "أي لنبي حزم" في الجاهلية من بلقين، كانوا يسبون بها، لا أدري ما أمرها، قد طرحوها من كتاب النسب". وما ذكره أبو الفرج أيضًا عند حديثه عن قريظة والنضير وبني قينقاع وغيرهم قال3 "لم أجد لهم نسبًا فأذكره لأنهم ليسوا من العرب، فتدون العرب أنسابهم، إنما هم حلفاؤهم". وهذا النص الأخير على تدوين العرب أنسابهم منصرف حتمًا إلى العصر الجاهلي؛ لأن اليهود لم يكونوا حلفاء للعرب بعد الإسلام. فكتب القبائل هذه -وإن كانت فيها زيادات إسلامية- توضح لنا معنى كتاب القبيلة في الجاهلية، فهي -كما قدمنا- مجموعة فيها كل ما يتصل بالقبيلة من أخبار حروبها وأيامها، وذكر مفاخرها ومآثرها، وشعر شعرائها، وحكم بلغائها. وربما أفردوا الحكم وجوامع الكلم في كتاب خاص، وتكون في هذه الحالة إما حِكَمًا عامة مما قالته حكماء العرب من شتى القبائل، وإما مما قالته الحكماء من غير العرب ثم عرفه العرب ونقلوه إلى لغتهم، وذلك هو معنى قول عامر بن الظرب للملك الغساني حينما خافه على نفسه وأراد أن ينجو منه4: "إن لي كنز علم وإن الذي أعجبه من علمي إنما هو من ذلك الكنز أحتذي عيه، وقد خلَّفته خلفي، فإن صار في أيدي قومي علم كلهم مثل علمي، فأذن لي حتى   1 ابن عبد البر، القصد والأمم: 43-44. 2 الأغاني 4: 237. 3 الأغاني 3: 116. 4 أبو حاتم السجستاني، كتاب المعمرين: 48-49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 أرجع إلى بلادي فآتيك به". فليس هذا الكنز من العلم -فيما نرى- إلا كتابًا جُمعت فيه أقوال بليغة وأمثال وحكم وأشعار وأخبار. وآية ذلك أن هذا الذي أعجبه من علمه لم يكن إلا أنه "أعجبه نحوه، فكلمه فإذا أحكم العرب وأحلمهم قولًا وفعلًا. ولو جاء ذكر كتب العلم "أي الحكمة وجوامع الكلم والأمثال" في خبر واحد لشككنا فيه وتوقفنا عن قبوله، ولكن ذكر هذا الضرب من الكتب قد تردد في أخبار كثيرة لا سبيل إلى إهمالها، فأكثم بن صيفي أحد هؤلاء العلماء الحكماء في الجاهلية، كانت بعض حكمته تُكتب، وكان بعضهم الملوك يرسلون إليه يستكتبونها، فقد "كتب إليه ملك هجر، أو نجران، أن يكتب إليه بأشياء ينتفع بها، وأن يوجز، فكتب إليه: إن أحمق الحمق الفجور، وأمثل الأشياء ترك الفضول.."1 وكتب إليه أيضًا الحارث بن أبي شمر الغساني ملك عرب الشام " ... فاعهد إلينا أمرًا نعرف به أن في العرب ... حكمة وعقولًا وألسنة. فكتب إليه أكثم: إن المروءة أن تكون عالمًا كجاهل، وناطقًا كعيي.."2 وكتب إليه كذلك النعمان بن المنذر "أن اعهد إلينا أمرًا نُعجب به فارس ونرغبهم به في العرب. فكتب أكثم: لن يهلك امرؤ حتى يضيع الرأي عند فعله، ويستبد على قومه بأموره ... "3 فإذا أضفنا إلى هذين الحكيمين العالمين حكيمًا عالمًا ثالثًا هو قس بن ساعدة، وعلمنا أنه كان أيضًا كاتبًا4، ورجح عندنا أن هؤلاء الحكماء كانوا -أو كان أكثرهم- من الذين يعرفون الكتابة ويلجئون إليها في تسجيل حكمهم   1 كتاب المعمرين: 17. 2 المصدر السابق: 18. 3 المصدر السابق: 19. 4 المصدر السابق: 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 في مثل هذه الكتب التي سميت كتب العلم. وقد عُني بعض الدارسين المحدثين بدراسة الأمثال عند العرب ومقابلتها بالأمثال عند الأمم القديمة وخاصة الساميين. ومن هؤلاء الدكتور عبد المجيد عابدين1 الذي تحدث في أحد فصول رسالته عن الصلات الثقافية بين بلاد الشرق القديم، وخاصة الحكمة والمثل2، وانتهى إلى قوله3: "ولم تكن العلاقة بين العرب وأصحاب هذه الحكم ضعيفة واهية، فقد أشارت النقوش البابلية غير مرة إلى صلات ملوك بابل وآشور ببلاد العرب، وكان بعض شخصيات سفر أيوب من أصل عربي. وفي عصور ما بعد الميلاد أخذت الثقافة الآرامية تغزو مناطق عدة من شبه الجزيرة العربية كما رأينا فيما سبق. وكانت الحكمة اليونانية قد انتشرت في مدارس الرها وجنديسابور والحيرة على أيدي علماء السريان الذين بدءوا منذ حوالي 300 سنة بعد الميلاد ينقلون هذه الحكمة، وواصلوا حركتهم إلى سنة 700م أي إلى عصر بني أمية في تاريخ المسلمين. وكان السريان في القرن الخامس الميلادي يبشرون بالمسيحية في الحبشة على المذهب القائل بالطبيعة الواحدة، وهو المذهب الذي اعتنقه الغساسنة في الشام. وكانت الصلات بين الحبشة واليمن قديمة ومستمرة. وبذلك أحدقت الآثار الكتابية ببلاد العرب وتسربت هذه الآثار إليها من الشرق والغرب والجنوب والشمال، وتعاونت جهود السلطات الحاكمة في العراق والشام واليمن، في الجاهلية، على تشجيع هذه الدعوات الكتابية ماديًّا وأدبيًّا. وفي فورة هذه الدعوات نشطت حكمة العرب، في مناطق مختلفة من شبه الجزيرة. وفي الوقت الذي كانت فيه الحكمة الشعبية تلاقي ازدهارًا على أيدي العراقيين، وتجد تغاضيًا من جانب الغساسنة وسادة   1 في بحثه "الأمثال في النثر العربي القديم مع مقارنتها بنظائرها في الآداب السامية الأخرى". 2 ص126-129. 3 ص129-130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الحجاز واليمن قبل الإسلام، كانت الحكمة الكتابية تشق طريقها في أنحاء البلاد دون تفرقة بين شرق وغرب وشمال وجنوب، وتلقى عناية القائمين بالأمر في هذه المناطق جميعًا. وإذا كان الغساسنة وسادة الحجاز واليمن قد انصرفوا عن جانب التراث الشعبي في منطقتهم، فقد عضدوا الدعوات الكتابية، وساندوا حركاتها، وشجعوا حكماء العرب ما وسعهم التشجيع". ثم ينتقل إلى الحديث عن هؤلاء الحكماء من بين عرب الجاهلية، وبعد أن يذكر بعضهم يقول1: والذين اشتهروا من هؤلاء الحكماء كانوا ينهجون نهجًا يذكرنا بنهج حكماء الشرق الأدنى القديم، فكان الحكيم العربي كالحكيم البابلي والعبري يجمع أحيانًا إلى عمل القاضي والمشرع حرفة الكاهن والطبيب والمنجم، فكان الحكيم هو الرجل المثقف ثقافة جامعة لشتى ألوان المعرفة، وكان بعض حكماء العرب يورثون الحكمة أبناءهم كما صنع حكماء الشرق القديم حين كانوا يلقنون أولادهم تعاليم الحكمة ... ". ولعل مما يدل على عناية عرب الجاهلية بكتابة الأمثال عناية قديمة أن من أوائل المؤلفات التي حفظت لنا المصادر العربية ذكرها في العصر الإسلامي: كتب الأمثال؛ فمنذ أيام معاوية ألف صحار بن عياش العبدي "من عبد القيس" كتابًا في الأمثال2. وكذلك ألف في زمانه عبيد بن شرية كتابًا آخر في الأمثال ذكر ابن النديم3 أنه رآه في نحو خمسين ورقة. وقد روى علاقة بن كريم الكلابي عن عبيد كتابه هذا في الأمثال4. ومما يدل أيضًا على أن هذه الحكم كانت مدونة منذ الجاهلية وبقيت إلى عهد الرسول والصحابة أن عمران بن حصين قال5: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الحياء لا يأتي إلا بخير. فقال بشير بن كعب -وكان قد   1 ص130. 2 فهرست ابن النديم: 132، وانظر أيضًا البيان والتبيين 1: 96. 3 الفهرست: 132. 4 ياقوت: إرشاد 12: 190. 5 العسكري: التصحيف والتحريف "مطبعة الظاهر بمصر سنة 1908" ص8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 قرأ الكتب-: إن في الحكمة: أن منه ضعفًا. فغضب عمران بن الحصين وقال: أحدثك بما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وتحدثني عن صحفك هذه الخبيثة؟ ثم هذه الصحيفة التي كانت مع سويد بن الصامت، والتي لم تكن إلا كتابًا فيه حكمة لقمان1؛ وقد قرأها، قبل أن يسلم، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحسنها رسول الله وقال: "إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا: قرآن أنزله الله تعالى عليَّ، هو هدى ونور". بقي أمر أخير في النفس منه شيء، بل أشياء: ذلك هو تسمية القصائد السبع أو العشر الجاهليات "بالمعلقات". فقد ذكر القدماء أنه قد بلغ من كلف العرب بالشعر وتفضيلها له "أن عمدت إلى سبع قصائد وتخيرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها في أستار الكعبة، فمنه يقال: مذهبة امرئ القيس، ومذهبة زهير ... والمذهبات السبع، وقد يقال لها: المعلقات"2. وقد نقل البغدادي ما يشبه هذا الكلام ثم قال3: "ذكر ذلك غير واحد من العلماء. وقيل بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة يقول: علقوا لنا هذه؛ لتكون في خزانته". ولكن هذا الرأي في تفسير كلمة "المذهبات" أو "المعلقات" لم يسلم من النقد والاعتراض سواء من القدامى أو من المحدثين. فمن القدامى أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس "المتوفى سنة 338" الذي ذكر4 "أن حمادًا هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة".   1 سيرة ابن هشام 2: 68، والفائق 1: 206، ولسان العرب "جلل". 2 ابن عبد ربه، العقد 6: 119. 3 الخزانة 1: 123-124. 4 ياقوت، إرشاد "حماد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 أما المحدثون فلا يسوقون على اعتراضهم دليلًا، ولكنا نحسب، من سياق حديثهم، أن لاعتراضهم أساسين: الأول: أن العرب لم يكونوا في جاهليتهم أمة كاتبة تبلغ بها معرفتها بالكتابة أن تسجل شعرها وتكتبه. والثاني: أن الكعبة لها من الاحترام والقدسية ما لا يبيح أن تعلق فيها المدونات والمكتوبات. وأما نحن فإننا لا نملك وسيلة قاطعة للإثبات أو النفي؛ ولا نحب أن نعتسف الطريق ونقتحم كما يقتحم غيرنا. وكل ما نستطيع أن نقوله إن الاعتراض الذي قدمه القدماء كاعتراض ابن النحاس، والذي قدمه المحدثون، لا يثبت -في رأينا- للتحقيق والتمحيص؛ فإذا ما استطعنا أن ننفي هذا الاعتراض بقي القول الأول بكتابة المعلقات وتعليقها -سواء في الكعبة أو خزانة الملك أو السيد- قولًا قائمًا، ترجيحًا لا يقينًا، إلى أن يتاح له اعتراض جديد ينفيه، أو سند جديد يؤيده ويثبته. أما ما ذكره ابن النحاس من أن حمادًا هو الذي جمع السبع الطوال فإنه لا يقوم دليلًا على أنها لم تكن موجودة من قبله وأنها لم تكن مكتوبة أو معلقة؛ وإلا لكان معنى ذلك أن الدواوين التي صنعها وجمعها أبو عمرو بن العلاء وأبو عمرو الشيباني والمفضل والأصمعي والسكري وثعلب كلها غير موجودة من قبلهم؛ وهو كلام لم يقله أحد، ولا معنى له. والذي نعرفه، مما قدمنا، أن حمادًا كان يجمع الشعر الجاهلي وكان يدونه، وأنه كانت بين يديه نسخ من دواوين هذا الشعر، فإذا صح أن حمادًا هو الذي جمع -في ديوان واحد أو مجموعة واحدة- هذه القصائد السبع بعد أن كانت مفرقة، أو جددها بعد أن كادت تبلى، فإن ذلك لا يقوم حجة على بطلان ما أوردناه من أمر تعليقها. وقد ذكرنا من قبل عناية بعض الخلفاء الأمويين بجمع الشعر الجاهلي وكتابته وحفظه في الديوان. وقد ورد أن عبد الملك بن مروان عُني أيضًا بجمع هذه القصائد المعلقات "فطرح شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة1". فإذا صح ذلك   1 البغدادي، الخزانة 1: 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وصح ما روي من أن معاوية بن أبي سفيان قال1 "قصيدة عمرو بن كلثوم وقصيدة الحارث بن حلزة، من مفاخر العرب، كانتا معلقتين بالكعبة دهرًا" كان هذان دليلين على معرفة القول بأمر المعلقات وكتابتها وتعليقها قبل حماد بدهر. أما اعتراض المحدثين فقد تحدثنا -في كل ما كتبنا- عن نفي الشق الأول منه، وأبنَّا في وضوح أن الجاهلية العربية عرفت الكتابة معرفة قديمة واسعة، واستخدمتها في جل شئونها، وكتبت بعض شعرها وأخبارها وأنسابها، ودونتها في صحف وكتب ودواوين. فالقول إذن بأمية الجاهلية فرض واهم يجب أن نُسقط جميع ما رُتب عليه من نتائج باطلة. وأما الشق الثاني من اعتراض المحدثين فهو كذلك لا يثبت للنظر والتحقيق؛ إذ إن عرب الجاهلية كانوا يعلقون وثائقهم وكتاباتهم ذات القيمة في الكعبة لقداستها في نفوسهم، وذلك إظهار لعلو مكانة هذه الوثائق والكتابات ولبيان قيمتها وخطرها. وأوضح مثال على أن تعليق هذه الكتابات كان أمرًا مألوفًا متعارفًا عند عرب الجاهلية ما ذكره محمد بن حبيب عن حلف خزاعة لعبد المطلب، قال2: " ... وكتبوا بينهم كتابًا، كتبه لهم أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة ... ثم علقوا الكتاب في الكعبة". ومثل ثان: هذه الصحيفة التي كتبتها قريش حينما اجتمعت على بني هاشم وبني عبد المطلب ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم3. وقد بقيت هذه الصحيفة في الكعبة دهرًا، فلما أخرجوها بعد ذلك وجدوا أن الأرضة لم تدع في الصحيفة إلا أسماء الله4.   1 الخزانة 3: 162. 2 ديوان حسان بن ثابت، مخطوط بمكتبة أحمد الثالث ورقة: 15-16. 3 ابن هشام، السيرة 1: 375-376. 4 المصدر السابق 2: 16 وانظر مثلًا تعليق العهود في الكعبة في العصور الإسلامية، في مروج الذهب 3: 404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 فإذا كان كلامنا هذا كافيًا في نفي هذين الاعتراضين، وإذا ضممنا إلى هذا ما ذكرناه من تدوين الشعر الجاهلي، رجح عندنا أمر كتابة هذه المعلقات وتعليقها، وصح عندنا أن نتخذها مثلًا آخر، نورده في هذا البحث، من أمثلة تدوين الشعر الجاهلي وكتابته1. -6- وبعد، فإن جميع ما ذكرناه لا يعدو أن يكون أمثلة قليلة، نقبنا عنها تنقيبًا طويلًا في أرض غفل، قد طمست آثارها، وعفت رسومها، واندرست معالمها؛ ولكننا مع ذلك قد استطعنا أن نقيم فيها هذه الصوى لتدل عليها وتحدد اتجاهها. فإذا صح ما ذكرناه من أن هذا الشعر الجاهلي قد دون بعضه منذ الجاهلية، واتصل تدوينه وتحديده في الإسلام، فإننا نحب -استيفاء للبحث- أن نصله بعصرنا هذا الذي نعيش فيه، ونكشف عن صلة تلك المدونات الجاهلية والإسلامية المبكرة بهذه الدواوين التي بين أيدينا من الشعر الجاهلي، والتي صنعها ورواها أبو عمرو بن العلاء والأصمعي والمفضل الضبي وأبو عمرو الشيباني وابن الأعرابي. ولذلك حق لنا أن نسأل: هل أخذ هؤلاء العلماء الرواة، في نهاية القرن الثاني ومطلع القرن الثالث، الشعر الجاهلي الذي رووه من مدونات قديمة؟ أو أنهم أخذوه كله من أفواه الرواة؟ أما الرواية الشفهية فمجال بحثها في الكتاب التالي، ولذلك لن نعرض لها الآن، وحسبنا أن نجيب عن الشق الأول من السؤال، ونرى هل اعتمد هؤلاء العلماء على كتب ودواوين للشعر الجاهلي أخذوا منها -جمعًا أو اختيارًا- ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي؟   1 للأستاذ مصطفى صادق الرافعي بحث جيد عن المعلقات "تاريخ آداب العرب 3: 186-193" وهو في جملته يخالف رأينا. وانظر كذلك "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" السيد محمد الخضر حسين ص307-309. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وللإجابة عن هذا السؤال طريقان نحن سالكوهما، الأول: عرض لبعض الروايات والأخبار عن هؤلاء العلماء الرواة، وكيف أخذوا علمهم؛ والثاني: دراسة بعض الشعر الجاهلي الذي رووه، واستبانة، "القراءات" المختلفة للفظة الواحدة عند بعض هؤلاء العلماء. أما الطريق الأول فقد عفى العلماء أنفسهم آثاره تعفه مقصودة متعمدة مما سنفصل القول فيه بعد قليل في ختام هذا الفصل، ولكننا مع ذلك عثرنا على بعض ما يصح أن ننصبه في طريقنا ليهدينا السبيل: فقصة ابن الأعرابي "أبي عبد الله محمد بن زياد 150-231" مع الكتب قصة مشهورة، فقد كان كثير العكوف عليها، والمدارسة لها، والنظر فيها، والأخذ منها. ولما بعث إليه أبو أيوب أحمد بن محمد بن شجاع غلامًا من غلمانه يسأله المجيء إليه، عاد إليه الغلام فقال: قد سألته ذلك فقال لي: عندي قوم من الأعراب، فإذا قضيت أربي معهم أتيت. قال الغلام: وما رأيت عنده أحدًا إلا أني رأيت بين يديه كتبًا ينظر فيها، فينظر في هذا مرة وفي هذا مرة1. أما الأصمعي "عبد الملك بن قريب 123-216" فقد قرأ بعض دواوين الشعر الجاهلي على شيوخه؛ قال الأصمعي2: قرأت شعر الشنفرى على الشافعي بمكة. وقال أيضًا3: قرأت على أبي عمرو بن العلاء شعر النابغة الذبياني. وقال أبو حاتم السجستاني4: قرأ الأصمعي على أبي عمرو بن العلاء شعر الحطيئة. وقُرئ يومًا على الأصمعي في شعر أبي ذؤيب: بأسفل ذات الدير أفرد جحشها. فقال أعرابي حضر المجلس للقارئ: ضل ضلالك أيها القارئ، إنما هي "ذات الدبر" وهي ثنية عندنا؛ فأخذ الأصمعي بذلك   1 ياقوت، إرشاد "محمد بن زياد". 2 السيوطي، المزهر: 1: 160. 3 المرزباني، الموشح: 42. 4 المزهر 2، 355. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 فيما بعد1. وكذلك كان أبو عبيدة "معمر بن المثنى 114-210" وأبو حاتم السجستاني يتدارسان الشعر الجاهلي في كتب؛ قال أبو حاتم2: جئت أبا عبيدة يومًا ومعي شعر عروة بن الورد، فقال لي: ما معك؟ فقلت: شعر عروة. قال: فارغ حمل شعر فقير ليقرأه على فقير! وأما أبو عمرو الشيباني "إسحاق بن مرار، توفي سنة 206 أو 213، وعمره 110 أو 118سنة" فقد كان كذلك يكتب الشعر والأخبار ويأخذها من الكتب. قال يعقوب بن السكيت3 "مات أبو عمرو الشيباني وله مائة وثماني عشرة سنة، وكان يكتب بيده إلى أن مات؛ وكان ربما استعار مني الكتاب وأنا إذ ذاك صبي آخذ عنه وأكتب من كتبه". وقد قرأ أبو عمرو الشيباني دواوين الشعراء على المفضل4. أما أبو عمرو بن العلاء فقد مر بنا ذكر كتبه وكثرتها ثم إحراقها بعد أن تقرأ. وهذا حديث بين ابن مناذر الشعر وخلف الأحمر يدل -فيما نرى- على أن الشعر الجاهلي كان مدونًا في الكتب قبل عهدهما، وأنهما كانا يعرفان هذه الكتب ويأخذان منها. قال ابن مناذر لخلف5: يا أبا محرز، إن يكن النابغة وامرؤ القيس وزهير قد ماتوا فهذه أشعارهم مخلدة، فقس شعري إلى شعرهم، واحكم فيها بالحق؛ فغضب خلف ... ومن أوضح الأمثلة على هذا الذي نحن بسبيله: ما ورد عن أبي تمام "توفى سنة 231" حينما اختار حماسته؛ وذلك أن الثلج عاقه عن السفر، وكان في   1 ابن قتيبة، الشعر والشعراء 1: 29. 2 المزهر 1: 161. 3 ابن النديم، الفهرست 102. 4 ابن خلكان، وفيات الأعيان 1: 65. 5 ياقوت، إرشاد "خلف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 العراق، فاستضافه أبو الوفاء بن سلمة، وأحضره خزانة كتبه، فطالعها، واشتغل بها، وصنف خمسة كتب في الشعر، منها كتاب الحماسة والوحشيات1. وما ورد كذلك عن المفضل الضبي "توفي سنة 168 أو 178" حين قال له العباس بن بكار2: ما أحسن اختيارك للأشعار؛ فلو زدتنا من اختيارك. فقال المفضل: والله ما هذا الاختيار لي، ولكن إبراهيم بن عبد الله استتر عندي "في نحو سنة 145" فكنت أطوف وأعود إليه بالأخبار، فيأنس ويحدثني؛ ثم عرض لي خروج إلى ضيعتي أيامًا، فقال لي: اجعل كتبك عندي لأستريح إلى النظر فيها. فتركت عنده قمطرين فيهما أشعار وأخبار، فلما عدت وجدته قد علم على هذه الأشعار، وكان أحفظ الناس للشعر، فجمعته وأخرجته، فقال الناس: اختيار المفضل. فهذه كلها أخبار صريحة الدلالة على أن هؤلاء العلماء الرواة إنما وجدوا أمامهم دواوين الشعر الجاهلي مكتوبة قبل عهدهم، وأنهم قرءوها وتدارسوها وأخذوا منها؛ ومن هنا كانت الدواوين التي صنعوها أو المجموعات التي اختاروها قائمة -في أساسها- على ما كان مدونًا من قبل عصرهم. أما الطريق الثاني لمعرفة أخذ هؤلاء العلماء المتقدمين أشعار الجاهلية من الكتب فيقوم على جمع بعض الأمثلة على اختلاف اللفظة الواحدة عندهم. وأسباب اختلاف الرواية كثيرة، لا يعنينا منها هنا إلا ما له دلالة على بحثنا، ونقصد به: التصحيف؛ لأن "أصل التصحيف أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفة، ولم يكن سمعه من الرجال فيغيره عن الصواب3". ولن تعرض إلا لما وقع فيه رواة آخر القرن الثاني، أما من جاء بعدهم فقد أخذوا من   1 التبريزي، شرح الحماسة: المقدمة ص4. 2 المزهر2: 319، وانظر أيضًا: مقاتل الطالبيين لأبي الفرج: 373. 3 المزهر 2: 253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 كتب هؤلاء، ولا حاجة بنا إلى عرضه إذ لا دليل فيه. فمن أمثلته: ما ذكره أبو حاتم السجستاني قال1: قرأ الأصمعي على أبي عمرو بن العلاء شعر الحطيئة، فقرأ قوله: وغررتني وزعمت أنك ... لابن بالصيف تامر -أي كثير اللبن والتمر- فقرأها "لا تني بالضيف تامر" يريد: لا تتوانى عن ضيفك تأمر بتعجيل القِرَى له. فقال له أبو عمرو: أنت والله في تصحيفك هذا أشعر من الخطيئة!! وقال الأخفش2: أنشدت أبا عمرو بن العلاء. قالت قتيلة ماله ... قد جللت شيبًا شواته فقال أبو عمرو: كبرت عليك رأس الراء فظننتها واوًا. قلت: وما سراته؟ قال: سراة البيت: ظهره. قال الأخفش: ما هو إلا "شواته"، ولكنه لا يسمعها. ولهذين الخبرين قيمة خاصة إذ يدلان صراحة على أن الأصمعي والأخفش وأبا عمرو بن العلاء قد قرءوا هذا الشعر في كتب، وبذلك يسَّرا لنا سبيل التدليل على أن هذا الضرب من التصحيف لا يكون من خطإ في السماع، وإنما ينشأ من خطإ في القراءة. وقال أبو حاتم أيضًا3: صحف الأصمعي في بيت أوس: يا عام لو صادفت أرماحنا ... لكان مثوى خدك الأحزما يعني بالأحزم: الخزم الغليظ من الأرض. قال أبو حاتم: والرواة على   1 المزهر 2: 355، وانظر كتاب التصحيف والتحريف للعسكري: 55. 2 المزهر 2: 360: 3 المزهر 2: 355. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 خلافه، وإنما هو: الأخرم "بالراء"، وهو طرف أسفل الكتف، أي كنت تقتل فيقطع رأسك على أخرم كتفك. وقال القالي في أماليه1: أنشد أبو عبيد: أشكو إلى الله عيالًا دردقا ... مقرقمين وعجوزًا شملقا -بالشين معجمة- وهو أحد ما أخذ عليه: وروى ابن الأعرابي: "سملقا" -بالسين غير المعجمة- وهو الصحيح. وقال القالي أيضًا2 في قول الأعشى: تروح على آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق كان أبو محرز "يقصد خلفًا الأحمر" يرويه "كجابية السيح"، ويقول: "الشيخ" تصحيف، والسيح: الماء الذي يسيح على وجه الأرض. وأنشد أبو زيد في نوادره3: إن التي وضعت بيتًا مهاجرةً ... بكوفة الخلد قد غالت بها غول قال الرياشي: الأصمعي يقول "بكوفة الجند"، ويزعم أن هذا تصحيف. وقال الجرمي: كوفة الخلد، أي أنها دار قرار لا يتحولون عنها. وقال أبو عمرو الشيباني4: كنا بالرقة فأنشد الأصمعي بيت الحارث بن حلزة: عنتًا باطلًا وظلمًا كما تعنز عن حجرة الربيض الظباء   1 المزهر2: 356؛ وأمالي القالي 2: 246 دردق: صغار. مقرقمين: لا يشبون لسوء غذائهم، شملق: العجوز الكبيرة. 2 المزهر 2: 356، وأمالي القالي 2: 296 الجابية: الحوض الكبير. تفهق: تمتلئ حتى تفيض. 3 المزهر 2: 357. 4 المصدر السابق 2: 359 تعنز: تطعن بالعنزة، وهي الحربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 فقلت له: إنما هو تعتر من العتيرة، والعتر: الذبح .... والحديث عن التصحيف لا ينتهي كثرةً، وهو متفرق في كتب الأدب، مجموع في مظانه، من مثل كتاب العسكري التصحيف والتحريف، وكتاب البصري "التنبهات على أغاليط الرواة" وكتاب حمزة بن الحسن الأصفهاني "التنبيه على حدوث التصحيف" وكتاب السيوطي "المزهر". ولعل خير ما نختم به هذه الأمثلة ما قاله أبو عمرو الشيباني1: "روى أبو عبيدة بيت الأعشى: .............................. ... ... وسيق إليه الباقر العثل فأرسلت إليه: قد صحفت، إنما هو الغيل" أي الكثير -يقال: ماء غيل إذا كان كثيرًا- ورُوي عنه أيضًا أنه قال: الغيل: السمان، من قولهم: ساعد غيل. وكان أبو عبيدة يروي هذا البيت: إن لعمر الذي حطت مناسمها ... تخدي وسيق إليه الباقر العثل وحكى ابن قتيبة أن أبا حاتم قال له: سألت الأصمعي عنه فقال: لم أسمع بالعثل إلا في هذا البيت؛ ولم يفسره. قال: وسألت أبا عبيدة عنه فقال: العثل: الكثير. قال ابن قتيبة: وخبرني غيره أن الأصمعي كان يروي "وجد عليها النافر العجل" يريد: النفار من منى؛ والنافر لفظه لفظ واحد وهو معنى جمع ... ورواه أبو عبيدة: "حطت مناسمها" بالحاء غير معجمة، وقال: يعني حطاطها في السير وهو الاعتماد. ورواه الأصمعي "خطت" بالخاء، أي شقت التراب، وأنشد للنابغة "فما خططت غباري" أي شققته. وقال الأصمعي: "حطت" خطأ. فانظر إلى اختلافهم في هذا البيت، ورد بعضهم على بعض، ومراسلة أبي عمرو أبا عبيدة فيه".   1 البصري، التنبيهات على أغاليط الرواة ورقة: 1. الباقر: اسم جمع للبقر. العثل: الكثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 -7- فإذا كان الأمر على ما بينَّا، وإذا رجح عندنا أن هؤلاء العلماء قد أخذوا بعض ما جمعوا ما اختاروا من الشعر الجاهلي -من صحف وكتب ودواوين ربما كتب بعضها في العصر الجاهلي وجددت في القرن الهجري الأول- فما بالهم إذن لا يصرحون بذلك؟ وكيف يكون الأمر على هذا الوجه ثم لا يذكر أحد من هؤلاء العلماء أنه أخذ هذه القصيدة أو ذلك البيت من كتاب عالمٍ قبله، أو من ديوان جُمع في القرن الأول أو توارثوه من الجاهلية؟ والجواب عن هذا السؤال سنفصل القول فيه تفصيلًا حين نتحدث عن طريقة أخذ هؤلاء العلماء علمهم، وعن الرواية والرواة بعامة، في الباب التالي. ولكن ذلك لا يعفينا من أن نشير في هذا الموضع إشارة فيها بعض ما يجيب هذا التساؤل. فإغفالهم ذكر الكتب التي أخذوا منها راجع، فيما يبدو لنا، إلى طريقتهم في أخذ العلم وتحصيله آنذاك. فقد كان العالم الحق الجدير بالثقة هو الذي يتصل بالعلماء من ذوي السن، فيحضر مجالسهم ويلازمهم ويستمع إليهم ويأخذ عنهم، والكتاب في كل ذلك، أو في أكثره، هو الوسيلة أو الأداة: يقرؤه على شيخه، أو يستمع إلى بعض من يقرؤه، وقد تكون في يده نسخة أخرى من الكتاب يتابع قراءة القارئ، والشيخ يستمع: يصحح الخطأ، ويشرح الغامض، ويذكر من وجوه الخلاف في الألفاظ ما بلغ إليه علمه، ويتحدث عما حول النص من جو تاريخي، وقد يقوده اللفظ أو الخبر إلى لفظ في بيت آخر، أو إلى خبر في حادثة أخرى، فيستطرد، ثم يعود إلى موضوعه الأصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 أما من كان يكتفي بالأخذ من الكتاب وحده، دون أن يعرضه على العلماء، ودون أن يتلقى علمه في مجالسهم، فقد كان عرضة للتصحيف والتحريف، وبذلك لم يعدوا علمه علمًا، وسموه صحفيًّا لا عالمًا. قال ابن سلام1 في معرض حديثه عن الشعر القديم "وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد -إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه- أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي". وشبيه بهذا قول ثعلب عن كتاب العين للخليل2 "وقد حشا الكتاب أيضًا قوم علماء لا أنهم لم يؤخذ منهم رواية، وإنما وجد بنقل الوراقين، فاختل الكتاب لهذه الجهة". ومن هنا ضعفوا الأخذ من المدونات في التفسير والحديث؛ فكان بعضهم يتقي تفسير مجاهد "توفي سنة 103 وعمره 83 سنة" لأنهم "كانوا يرون أن مجاهدًا يحدث عن صحيفة جابر"3 وقال يحيى بن سعيد القطان في أحاديث سمرة التي يرويها الحسن عنه: سمعنا أنها من كتاب4؛ وقال سفيان الثوري عن حديث عبد الأعلى بن عامر الثعلبي5: كنا نرى أنه من كتاب، وكان ضعيفًا في الحديث. وقال يحيى بن معين6: إذا حدث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "يعني عبد الله بن عمرو بن العاص" فهو كتاب، ومن هنا جاء ضعفه، وإذا حدث عن سعيد بن المسيب أو سليمان بن يسار أو عروة، فهو ثقة عن هؤلاء. وقال كذلك أبو زرعة إن عمرو بن شعيب7 "إنما سمع أحاديث يسيرة،   1 طبقات فحول الشعراء: 5-6. 2 أبو الطيب اللغوي، مراتب النحويين، ورقة: 49. 3 ابن حجر، الإصابة 5: 344. 4 ابن سعد 7: 115. 5 ابن سعد 6: 233. 6 تهذيب التهذيب 8: 49. 7 تهذيب التهذيب 8: 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها ... وهو ثقة في نفسه، إنما تكلم فيه بسبب كتاب عنده". ومن أجل ذلك كان مما يهجى به العالم الاكتفاء بالأخذ عن الصحف وحدها، وإهمال الإسناد إلى الشيوخ، فقال بعضهم يهجو أبا حاتم السجستاني1: إذا أسند القوم أخبارهم ... فإسناده الصحف والهاجس ومن أجل ذلك أيضًا كان مما يُمدح به العالم أنه لا يكتفي بالأخذ عن الصحف وحدها فلا يقع في التصحيف، ومن ذلك ما مدح به أبو نواس خلفًا الأحمر2: لا يهم الحاء في القراءة بالـ ... ـخاء ولا لامها مع الألف ولا يُعَمِّي معنى الكلام ولا ... يكون إنشاده عن الصحف وقال فيه أيضًا: فكلما نشاء منه نغترف ... راوية لا يجتني من الصحف أفليس من الطبيعي بعد هذا كله أن يتجنب هؤلاء العلماء النص على الكتب التي أخذوا منها، وأن يكتفوا بسماعهم شيخهم أو قراءتهم عليه؟ ثم إذا بلغ هذا المتعلم من العلم مبلغًا يتيح له أن يجلس منه المتعلمون مجلسه من أولئك العلماء، أسند ما يلقيه من العلم إلى شيوخه، فيقول: حدثنا فلان، وأخبرنا فلان، وسمعت فلانًا يقول. وهذه الصيغ المختلفة للتحديث موهمة أنها كانت رواية شفهية، وأن مجلس العلم كله كان حديثًا لا كتاب فيه. ولكن الأمر على غير ذلك. فإن هذه الصيغ كلها إنما تدل على ما ذكرناه من حديث   1 العسكري، التصحيف والتحريف: 13. 2 التصحيف والتحريف: 13 والبيتان فيه متداخلان محرفان، وصوابهما من ديوانه ص135؛ المطبعة العمومية بمصر سنة 1898. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 العالم الشيخ في مجلسه، والمتعلمون والعلماء من حوله يقرءون أو يستمعون إلى من يقرأ، والشيخ العالم يشرح. والدليل على ما ذكرنا من أن مجالس العلم كانت تقوم على قراءة الكتاب وحديث وحديث الشيخ معًا، وأن إسناد التحديث إنما هو في حديث الشيخ وحده، وأنه لا ينفي وجود الكتاب؛ الدليل على ذلك ما نجمعه هنا: قال محمد بن عمر الواقدي1: سألت ابن جريج "توفي سنة 150 وعمره 76سنة" عن قراءة الحديث على المحدث؛ فقال: ومثلك يسأل عن هذا؟ إنما اختلف الناس في الصحيفة يأخذها ويقول: أحدث بما فيها، ولم يقرها، فأما إذا قرأها فهو سواء. وقال عثمان بن عبد الله بن أبي رافع2: رأيت من يقرأ على الأعرج "هو أبو داود عبد الرحمن بن هرمز المتوفى سنة 177" حديثه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: هذا حديثك يا أبا داود؟ قال: نعم، قال: فأقول حدثني عبد الرحمن، وقد قرأت عليك؟ قال: نعم، قل: حدثني عبد الرحمن بن هرمز. وهل أدل على وجود الإسناد مما يوهم السماع وحده بينما يكون المصدر الأصيل هو الصحيفة من هذه الكتب التي كتبها عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان يجيبه فيها عما يسأله، ويذكر فيها بعض الحوادث التاريخية؟ فمع أنها مدونة في صحف نجد الطبري، حينما يوردها في تاريخه، يذكر لها إسنادًا فيقول3 " ... أبان العطار قال: حدثنا هشام بن عروة أنه كتب إلى عبد الملك ... ".   1 ابن سعد 5: 361. 2 المصدر السابق 5: 209. 3 تاريخ الطبري 1: 1180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فهذه كلها صريحة في أن الإسناد لا ينفي وجود الصحيفة أو الكتاب، وأن الكتاب والسماع جزءان يتمم أحدهما الآخر. بل إن الإسناد قد يوهم السماع حيث لا سماع، وإنما هو أخذ من صحيفة أو كتاب من غير قراءة على الشيخ وسماع منه. قال الواقدي1 عن عبد الرحمن بن أبي الزناد أنه شهد ابن جريج جاء إلى هشام بن عروة فقال: يا أبا المنذر، الصحيفة التي أعطيتها فلانًا هي حديثك؟ قال: نعم. قال الواقدي: فسمعت أن جريج بعد هذا يقول: حدثنا هشام بن عروة، ما لا أحصي. فابن جريج في هذا الخبر لم يسمع هشام بن عروة، وإنما أخذ من صحيفة ولم يستمع إليه وهو يحدث بها، ومع ذلك فهو يسند، ويقول: حدثنا هشام بن عروة؛ وذلك لأنه اطمأن إلى أن ما في الصحيفة من حديث هشام حقًّا. وخبر آخر يؤيد هذا الخبر السابق، وهو عن ابن جريج نفسه. قال الواقدي2: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة قال: قال لي ابن جريج: اكتب لي أحاديث سنن قال: فكتبت له ألف حديث ثم بعثت بها إليه، ما قرأها علي وما قرأتها عليه. قال الواقدي: فسمعت ابن جريج بعد ذلك يحدث يقول: حدثنا أبو بكرٍ بن أبي سبرة، في أحاديث كثيرة. وقد مر بنا أن عطاء بن دينار روى التفسير عن سعيد بن جبير، ولكنه لم يسمعه منه، وإنما وجد عطاء هذا التفسير في ديوان عبد الملك بن مروان، فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير3. ومن هذا القبيل ما يورده أبو الفرج في أغانيه عن أبي خليفة عن محمد بن سلام؛ إذ يقول أبو الفرج4 "أخبرني أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلام قال..". وأبو الفرج لم يلق أبا خليفة، وإنما كان يكتب إليه، ويؤيد ذلك   1 ابن قتيبة، المعارف: 214. 2 ابن سعد 5: 361. 3 ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل 3/ 1: 332. 4 الأغاني 2: 331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 قوله1: "أخبرني الفضل بن الحباب الجمحي أبو خليفة في كتابه إلي بإجازته لي يذكر عن محمد بن سلام ... " فهذا إسناد وإجازة معًا من غير سماع ولا لقاء. وذلك كله ينتهي بنا إلى ما ذكرناه قبل قليل من أن طريقة السلف في أخذ العلم وتحصيله تعتمد على الرواية، وأن الرواية تقوم على دعامتين؛ الأولى: الكتاب: يقرأه أحد الحاضرين في مجلس العلم، والآخرون يستمعون إليه أو يتابعون ما يقرأ في نسخ بين أيديهم من الكتاب نفسه. والثاني: السماع: وذلك حينما يتحدث الشيخ نفسه يصحح خطأ، أو يشرح غامضًا، أو يذكر ما حول النص من حوادث تاريخية. وأن لفظ "حدثنا" أو "أخبرنا" لفظ عام، قد يدل على الرواية بدعامتيها: القراءة والسماع: وقد يدل على السماع وحده؛ وقد يدل على القراءة وحدها دون سماع كما رأينا في الأمثلة الأربعة الأخيرة.   1 الأغاني 2: 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الباب الثالث: الرواية والسماع الفصل الأول: اتصال الرواية من الجاهلية حتى القرن الثاني ... الفصل الأول: اتصال الرواية من الجاهلية حتى القرن الثاني -1- والرواية، بمدلولها العلمي الأدبي، طور لغوي متأخر، سبقه -فيما نرى- طور ذو دلالة مادية حسية، نحسبها كانت في بدء أمرها محصورة فيما يتصل بالماء من إناء يحمل فيه كالمزادة، ومن حيوان يحمل عليه كالبعير، ومن إنسان يحمله مستقيًا أو متعهدًا دابة السقاية.1 قال لبيد من أبيات2. فتولوا فاترًا مشيهم ... كروايا الطبع همت بالوحل فالروايا من الإبل: الحوامل للماء، واحدتها: راوية. وقال الأعشى3: وتقواده الخيل حتى يطو ... ل كر الرواة وإيغالها فالرواة هنا: من يقومون على الخيل، مفردها: راوٍ ثم صارت الرواية تطلق على مطلق الحمل، والراوية على الدابة التي تتخذ لحمل المتاع إطلاقًا، كقول زهير4: يسيرون حتى حبسوا عند بابه ... ثقال الروايا والهجان المتاليا   1 قال الجاحظ "الحيوان 1: 333" "الرواية؛ هو الجمل نفسه، وهو حامل المزادة، فسميت المزادة باسم حامل المزادة، ولهذا المعنى سموا حامل الشعر والحديث راوية". 2 ديوانه "القسم الثاني ط. بريل 1891" ص17. الطبع: السقاء، أو نهر بعينه. 3 ديوانه ق21، ب37. 4 ديوانه: 291. الهجان: كرام الإبل. المتالي: التي يتبعها أولادها، الواحدة: متلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فالروايا هنا: الإبل التي يحمل عليها المتاع إطلاقًا. ومن مجاز هذا الحمل: حمل الديات، كقولهم: "إن فلانًا لراوية الديات" أي: حاملها، و"بنو فلان روايا الحمالات". قال أبو شأس1: ولنا روايا يحملون لنا ... أثقالنا إذ يكره الحمل وقال الكميت: وكنا قديمًا روايا المئين ... بنا يثق الجارم المبسل ثم صارت الروايا تدل على السادة؛ لأنهم يقومون بأعباء غيرهم ويحملون عنهم أثقالهم. قال رجل من بني تميم -وذكر قومًا أغاروا عليهم- "لقيناهم فقتلنا الروايا، وأبحنا الزوايا" أي: قتلنا السادة وأبحنا البيوت2. ومن مجاز هذا الحمل أيضًا: حمل الشعر أو الحديث، فقالوا: فلان راوية للأدب والشعر، وراوٍ للحديث. وراوية الشعر في الجاهلية هو من يحمل شعر الشاعر وينقله ويذيعه، قال النابغة الذبياني3: ألكني يا عيين إليك قولا ... ستهديه الرواة إليك عني وقال عميرة بن جعل -وكان قد هجا قومه بني تغلب ثم ندم4-: ندمت على شتم العشيرة بعد ما ... مضت واستتبت لرواة مذاهبه فأصبحت لا أسطيع دفعًا لما مضى ... كما لا يرد الدر في الضرع حالبه   1 أساس البلاغة "روى". 2 أساس البلاغة "روى". 3 تفسير الطبري 1: 156 والذي في ديوانه "خمسة دواوين" ص79 "سأهديه إليك عني". 4 الشعر والشعراء 2: 632. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وقال حميد بن ثور1: لأعترضن بالسهل ثم لأحدون ... قصائد فيها للمعاذير زاجر قصائد تستحلي الرواة نشيدها ... ويلهو بها من لاعب الحي زامر وقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "بأبي أنت، ما أنت بشاعر ولا راوية، ولا ينبغي لك". ولما حضرت الحطيئة الوفاة اجتمع إليه قومه فقالوا2: "يأبا مليكة، أوص". فقال: "ويل للشعر من راوية السوء". وذلك كله إنما الأصل فيه هو الماء: حمله وحامله من رجل أو دابة. غير أن هذا الضرب الأخير من المجاز، وهو الحمل الأدبي، قد مر كذلك، فيما يبدو، في مرحلتين: الأولى خاصة بالشعر وحده، وتعني مجرد حفظه ونقله وإنشاده، ولا تتجاوز ذلك إلى ضبطه وتحقيقه والنظر فيه وتمحيصه. واستمر مدلول هذه المرحلة الأولى في تاريخ الرواية الأدبية حتى آخر القرن الأول وبداية القرن الثاني. قال محمد بن المنكدر "التميمي المدني المتوفى سنة 130"4: "ما كنا ندعو الرواية إلا رواية الشعر، وما كنا نقول هذا يروي أحاديث الحكمة إلا عالم". فلما أُصلت أصول علم الحديث، وأرسيت قواعده، وعُني فيه بالإسناد، وتصدر المحدثون للتحديث في مجالس العلم من حفظهم، صار يطلق عليهم أيضًا لفظ الرواية، فصرنا نجد المحدثين، في آخر القرن الثاني، رواة كما كان للشعراء رواة، ومنهم "النضر بن طاهر راوية مالك بالبصرة"5. ومن هنا دخلت الرواية الأدبية في طورها الثاني، وهو ما يصح أن نطلق   1 ديوانه 89. 2 ابن سعد 4/ 2: 16. 3 الأغاني "دار الكتب" 2: 195 وانظر أيضًا: الشعر والشعراء 1: 281. 4 ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، المطبعة المنيرية 1346هـ، 2: 47. 5 الزبيدي، طبقات النحويين واللغويين: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 عليه دور الرواية العلمية. وهي تقوم على الحفظ والنقل والإنشاد، كالرواية المجردة في دروها الأول، وأضيف إليها الضبط والإتقان والتحقيق والتمحيص والشرح والتفسير وشيء من الإسناد، كما سيمر بنا في الفصل التالي عند حديثنا عن طبقات الرواة، وفي الفصل الثالث حين نتحدث عن الإسناد في الرواية الأدبية. وهذا الدور من الرواية الأدبية هو الذي قامت فيه مجالس العلم والدرس، وصار لهذه المجالس شيوخ يتصدرون، وتلاميذ يستمعون ويقرءون، وكانت لهذه الرواية العلمية -على ما بينَّا طرفًا منه- دعامتان: القراءة من الكتاب، والسماع من الشيخ. وما ذكرناه في الباب الأول من أمر الكتابة والتدوين بعامة، وكتابة الشعر وتدوينه بخاصة، ثم ما ذكرناه بعد ذلك من أمر اتصال العلماء الرواة في القرن الثاني بالمدونات السابقة واستمدادهم منها، كل ذلك حديث موهم، قد يحمل محملًا فيه سعة وتعميم لم نقصد إليهما. ومن هنا ينبغي لنا أن نقرر أمورًا ثلاثة يستقيم بها للبحث وجهه، الأول: أن هذا التدوين الذي ذكرناه -على ما كان من وجوده بل انتشاره- لم يكن له من سعة هذا الانتشار ما يتيح وجود نسخ كثيرة من الديوان الواحد تفي بحاجة القارئين آنذاك. وأن ذيوع شعر الشاعر أو أخبار القبيلة ومآثرها لم يكن قائمًا على القراءة من الديوان أو الكتاب، وإنما كان يقوم على الرواية الشفهية من فرد إلى فرد ومن جيل إلى جيل. أجل، لقد كان هذا الشعر أو بعضه مدونًا -كما بينَّا- ولكن تدوينه كما مقصورًا على نسخة واحدة -هي الأم أو المرجع- أو على نسخ قليلة محدودة ينسخها أفراد قلائل من الرواة أو الشعراء أو أبناء قبيلة الشاعر أو الممدوحين من السادة والأشراف، ثم يحفظ هؤلاء جميعًا، أو بعضهم، هذا الشعر، ويتناقلونه إنشادًا -لا قراءة- في مجالسهم ومشاهدهم وأسواقهم، ويرددونه شفاهًا في سمرهم ومحافلهم ومنافراتهم ومواقف فخرهم فيشيع بين العرب، ويتناقله الركبان، عن هذا الطريق من الرواية الشفهية، لا عن طريق القراءة والمدرسة من الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 أو الديوان. وذلك أمر طبيعي عند العرب وعند غيرهم، في تلك العصور وفي العصور التي تلتها إلى عهد قريب حينما اكتشفت الطباعة فيسرت كتابة النسخ الكثيرة من الكتاب الواحد. وأما الأمر الثاني فيتصل بالأمر الأول، وذلك أن رواة الشاعر نفسه -وهم أول من يسمع شعر الشاعر وأهم وسيلة من وسائل نشر شعره وإذاعته- هؤلاء الرواة كانوا يكتبون شعر الشاعر حقًّا، ويحفظونه في صحف ودواوين، ولكنهم مع ذلك يحفظون هذا الشعر في صدورهم وذاكرتهم، وينقلونه في المجالس والمحافل إنشادًا لا قراءة من صحف. وقد كان ذلك كذلك في جميع العصور الإسلامية: فقد كان جرير يريد أن يهجو بني نمير، فأقبل إلى منزله وقال للحسين راويته1: زد في دهن سراجك الليلة وأعدد ألواحًا ودواة. قال: ثم أقبل على هجاء بني نمير، فلم يزل حتى ورد عليه قوله: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابًا فقال جرير للحسين راويته: "حسبك أطفئ سراجك، ونم، فقد فرغت منه" يعني قتلته. وهجت بنو جعفر بن كلاب قوم الفرزدق، فأراد أن يهجوهم، ولكنه قال2: "والله ما أعرف مثالبهم ولا ما يهجون به". فبينا هو كذلك إذ قدم عمر بن لجإ التيمي البصرة، فنزل في بني عدي في موضع دار أعين الطيب. فقال الفرزدق لابن متويه -وكان راوية الفرزدق وكان يكتب شعره-: "امض بنا إلى هذا التيمي. قال: فخرجنا حتى وقفنا على الباب الذي هو فيه، فاستأذنا، وعند ابن لجإ فتيان من بني عدي يكتبون فخره بالرباب ... ". وهذا شيخ من هذيل، كان خالًا للفرزدق من بعض أطرافه، يقول3:   1 النقائض: 430. 2 النقائض: 907-908. 3 الأغاني "دار الكتب" 4: 256-258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 " ... فجئت الفرزدق .... ودخلت على رواته فوجدتهم يعدلون ما انحرف من شعره، فأخذت من شعره ما أردت.. ثم أتيت جريرًا ... وجئت رواته وهم يقومون ما انحرف من شعره وما فيه من السناد، فأخذت ما أردت..". ومع ذلك فقد كان هؤلاء الرواة -على كتابتهم للشعر في الدواوين وحفظهم إياه في الصحف- ينشدون الشعر إنشادًا ويذيعونه بين الناس والقبائل عن طريق الرواية الشفهية، ومن أجل ذلك قال جرير1: وعاوٍ عوى من غير شيء، رميته ... بقافيةٍ أنفاذها تقطر الدما خروجٍ بأفواه الرواة كأنها ... قرى هندواني إذا هز صمما وقال الفرزدق2: تغنى يا جرير لغير شيء ... وقد ذهب القصائد للرواة فكيف ترد ما بعُمان منها ... وما بجبال مصر مشهرات وأمر ثالث يكمل سابقيه، وهو متصل بهؤلاء العلماء الرواة الذين عاشوا في نهاية القرن الثاني ومطلع الثالث والذين حفظوا لنا هذا الشعر الجاهلي الذي وصل إلينا. فقد ذكرنا من أمر تدوينهم للشعر وأخذهم بعضه من الدواوين والكتب التي دونت قبلهم ما لا حاجة بنا إلى إعادة القول فيه، ولكنا نريد أن نقول إنهم، مع ذلك، كانوا ينقلون بعض الشعر الجاهلي والأخبار الجاهلية في مجالسهم نقلًا شفهيًّا. والأمثلة على ذلك كثيرة حسبنا أن نشير إلى بعضها. فقد مر بنا أن كتب ابن الأعرابي كانت كثيرة وأن رسولًا لأحد ذوي السلطان جاءه يستدعيه فقال له ابن الأعرابي: عندي قوم من الأعراب   1 النقائض: 430. 2 النقائض: 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 فإذا قضيت أربي معهم أتيت. قال الغلام: "وما رأيت عنده أحدًا إلا أني رأيت بين يديه كتبًا ينظر فيها، فينظر في هذا مرة وفي هذا مرة". ابن الأعرابي هذا -على أخذه من الكتب- يقول عنه ثعلب1: شاهدت ابن الأعرابي، وكان يحضر مجلسه زهاء مائة إنسان، كل يسأله أو يقرأ عليه, ويجيب من غير كتاب، قال: ولزمته بعض عشرة سنة ما رأيت بيده كتابًا قط، وما أشك في أنه أملى على الناس ما يُحمل على أجمال. وقد كان ثعلب مثل أستاذه ابن الأعرابي "لا يُرى بيده كتاب، ويتكل على حفظه2" بينما كان معاصره أبو سعيد السكري "كثير الكتب جدًّا، وكتب بخطه ما لم يكتبه أحد، وكان إذا لقي الرجال يفارقه كتاب3". وكان هؤلاء العلماء يأخذون عن الأعراب، وقد يرحلون إلى البادية وراء الأعراب، أو يفد هؤلاء الأعراب إلى الأمصار ليتكسبوا بما يأخذه عنهم العلماء. ومن أمثلة ذلك ما ذكره ثعلب من أن أبا عمرو الشيباني "دخل البادية ومعه دستيجتان من حبر فما خرج حتى أفناهما بكتب سماعه عن العرب4". وكان هؤلاء العلماء قد يأخذون أيضًا عن غير الأعراب من الرواة وأصحاب الأخبار أخذ سماع من أفواههم لا أخذ قراءة من كتبهم. ومن أمثلة ذلك أن الجاحظ -على ما هو معروف عنه من كثرة جمعه للكتب وشغفه بها ونقله منها في كتبه5- كان يكتب كثيرًا مما يورده في كتبه إما من السماع وإما من   1 ياقوت، إرشاد "محمد بن زياد"، وانظر أيضًا نزهة الألباء: 108 ففيه "قال أبو جعفر القحطبي: ما رئي في يد ابن الأعرابي كتاب قط". 2 القفطي، إنباه الرواة 1: 148. 3 القفطي، إنباه الرواة 1: 148. 4 الأنباري، نزهة الألباء: 63. 5 انظر مثلًا البيان والتبيين 3: 57-58 حيث يورد حديثين عن العتبي عن أعرابيين في العصا، ثم يقول "وهذان الحديثان لم أسمعهما من عالم، وإنما قرأتهما في بعض الكتب من كتب المسجديين" وانظر أيضًا لأخذه من الكتب: البيان والتبيين 1: 92، 135، 373، 377، 378، 381. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 حفظه فهو يقول1: "وقد جمعت لك في هذا الكتاب جملًا التقطناها من أفواه أصحاب الأخبار"، وهو يورد بيتًا ثم يقول2: "وهي أبيات لم أحفظ منها إلا هذا البيت". ومن أمثلة ذلك أيضًا ما ذكره أحمد بن عبيد الله بن عمار قال3: "كنا نختلف إلى أبي العباس المبرد، ونحن أحداث، نكتب عن الرواة ما يروونه من الآداب والأخبار ... فانصرفنا يومًا من مجلس أبي العباس المبرد وجلسنا في مجلس نتقابل بما كتبناه ونصحح المجلس الذي شهدناه ... وقد أوردنا هذه الأمثلة -على الأمور الثلاثة كلها- من عصور مختلفة تشمل القرون الثلاثة الأولى للهجرة، وهي تدل على أن الرواية الشفهية كانت تسير جنبًا إلى جنب مع الكتابة والتدوين، لا تعارض بينهما، ولا ينفي وجود أحدهما وجود الآخر. ومن هنا كان لا بد لنا -بعد أن استوفينا البحث، بالقدر الذي بلغه جهدنا، عن تدوين الشعر الجاهلي- من أن نعقد فصول هذا الباب الثالث عن الرواية الشفهية، حتى تتم بذلك الدعامتان اللتان قام عليهما حفظ الشعر الجاهلي وحمله، وهما: انقل من الكتاب، والسماع من أفواه الرواة. -2- أورد ابن سلام في طبقاته قول عمر بن الخطاب4 "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه". ثم عقب عليه بقوله "فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته.   1 البيان والتبيين 2: 18. 2 الحيوان 2: 13. 3 الأغاني "دار الكتب" 7: 120. 4 طبقات فحول الشعراء: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير". وكلام ابن سلام هذا ثلاثة أشطر: آخرها حق، وموسطها باطل، وأولها يحتاج إلى فضل بيان يوضحه. أما الحق الذي لا مرية فيه فقوله "فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير". وسنعود في صفحات مقبلة إلى هذا القول ونفصل وجه الحق فيه. وأما الباطل الذي لم نعد نشك في بطلانه وفساده فهو هذا التعميم الواسع في قوله "فلم يؤولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب". وقد كان في البابين الأول والثاني من هذا البحث من البيان والتفصيل ما نحسب أنه يُغنينا عن تكرار القول. وحسبنا أن نورد ثلاثة أمثلة من كتاب ابن سلام نفسه تنقض هذا القول، أو -على الأقل- تضييق ما فيه من تعميم واسع. فقد عام ابن سلام بعض العلماء قبله -أي علماء القرن الأول الهجري- باكتفائهم بالأخذ عن الدواوين المدونة والكتب المكتوبة، فنبزهم بأنهم صحفيون وذلك قوله عن الشعر القديم1 "وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء. وليس لأحد -إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه- أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي". وقد قال عقب قوله السابق الذي أنكر فيه هذه المدونات2: "وقد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول، وما مدح هو وأهل بيته به، فصار ذلك إلى بني مروان أو صار منه". ثم ذكر ابن سلام نفسه أنه رأى شعرًا جاهليًّا "في   1 طبقات فحول الشعراء: 6. 2 المصدر السابق 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 كتاب كتبه يوسف بن سعد صاحبنا منذ أكثر من مائة سنة"1. فإذا ما أضفنا إلى كلام ابن سلام ما فصلنا فيه القول في البابين الأول والثاني وضح لنا ما في قوله "فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب" من خلل وفساد. وأما الشطر الثالث الذي يحتاج إلى فضل بيان يوضحه فهو قوله: "فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر.. وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل. ولا يستبين لنا خطر هذا القول إلا حين نتطرق إلى الحديث عن الشك في الشعر الجاهلي ونحله، في الباب الرابع من هذا الكتاب. ولا بد لنا قبل ذلك من أن نتساءل هنا: أحق أن العرب قد لهوا عن رواية الشعر في هذه الفترة من حياتهم، فغفلوا عنه، ونسوا ذكره، وأضربوا عن روايته؟ وإذا كان ذلك كذلك، فكم من السنين أو من القرون بلغت هذه الفترة؟ ثم أمن الحق أنهم حينما راجعوا روايته -إذا سلمنا بانقطاعهم عنها- ألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة لا بد لنا من استقراء تاريخي، نتتبع فيه حياة الرواية عند القوم مبتدئين بالمعالم الواضحة في منتصف القرن الثاني الهجري، ومتدرجين فيها إلى الوراء حتى نصل إلى أقصى ما نستطيع أن نصل إليه من معالم حياة الرواية الأدبية. فإذا ما بدأنا بعهد بني أمية، وجدنا أن بعض القوم آنذاك كان يرى أن العلماء العارفين بالشعر الجاهلي قد ماتوا. ونحن نحسب أن هذا الضرب من الكلام موجود في كل عصر، وأنه لا يصح أن يحمل محملًا لفظيًّا قاطعًا، وإنما هو ضرب من التحسر على الماضي، وتمجيد القدماء، والإقرار بضعف الحاضر وعجزه إذا ما قيس بالقديم السابق عليه. فأبو عمرو بن العلاء حينما سئل   1 طبقات فحول الشعراء: 204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 عن قول امرئ القيس1. نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرك لأمين على نابل قال: ذهب من يحسنه. وحين سئل عن قول الشاعر2: زعموا أن كل من ضرب العير ... موالٍ لنا وأنا الولاء قال: مات الذين يعرفون هذا. بل إن الحجاج بن يوسف الثقفي قال على المنبر3: "ذهب قوم يعرفون شعر أمية وكذلك اندراس الكلام!! " وبين الحجاج وأمية بن أبي الصلت نحو من ثمانين سنة! وسنسوق في إيجاز بعض ما يكشف لنا عن عناية القوم، حتى منتصف القرن الأول، برواية الشعر الجاهلي وأخبار الجاهلية، وسنصرف أكثر كلامنا إلى زمن عبد الملك بن مروان ومعاوية أبي سفيان، ليكون ذلك أبعد زمنًا وأدل على ما نقصد إليه: ذكر الأصمعي يومًا بني أمية وشغفهم بالعلم، فقال4: "كانوا ربما اختلفوا وهم بالشام في بيت من الشعر، أو خبر، أو يوم من أيام العرب، فيبردون فيه بريدًا إلى العراق". وقال غيره: "كنا نرى في كل يوم راكبًا من ناحية بني أمية ينيخ على باب قتادة "توفي سنة 118" يسأله عن خبر أو نسب أو شعر، وكان قتادة أجمع الناس". وقال عامر بن عبد الملك المسمعي: كان   1 المزهر 2: 323-324. سلكي: طعنًا مستويًا. المخلوجة: المعوجة عن يمين ومن شمال: الكر: الرد. اللأمان: السهمان. 2 المصدر السابق. العير: الوتد. أي أنهم يلزمونها ذنوب الناس. 3 الأغاني 3: 123. 4 العسكري، التصحيف والتحريف: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الرجلان من بني مروان يختلفان في بيت شعر، فيرسلان راكبًا إلى قتادة يسأله، ولقد قدم عليه رجل من عند بعض أولاد الخلفاء من بني مروان فقال لقتادة: من قتل عمرًا وعامرًا التغلبيين يوم قضة؟ فقال: قتلهما جحدر بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. قال: فشخص بها ثم عاد إليه فقال: أجل قتلهما جحدر، ولكن قتلهما جميعًا؟ فقال: اعتواره فطعن هذا بالسنان وهذا بالزج فعادى بينهما1. وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج2: أنت عندي كسالم. فلم يدر ما هو. فكتب إلى قتيبة يسأله، فكتب إليه: إن الشاعر يقول: يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين الأنف والعين سالم ثم كتب إليه مرة أخرى: أنت عندي قدح ابن مقبل. فلم يدر ما هو. فكتب إلى قتيبة يسأله -وكان قتيبة قد روى الشعر- فكتب إليه: أن ابن مقبل نعت قدحًا فقال: مفدى مؤدى باليدين ملعن ... خليع قداح فائز متمنح خروج من الغمى إذا صك صكة ... بدا والعيون المستكفة تلمع3 وقال أبو عبيدة4: حدثني قيس بن غالب عن مشيخة قومه أن عبد الملك بن مروان سأل رجالًا من بني فزارة كانوا عنده: من كان على الناس يوم النسار؟ قالوا: كانوا متساندين. قال: ويدخل أبو قشع -وكان أعلمنا-   1 العسكري، التصحيف والتحريف: 4، وانظر طبقات ابن سلام: 51-52. 2 القالي، الأمالي 1: 15، وانظر أيضًا ياقوت: إرشاد 1: 97، وفي ياقوت " ... فسأل قتيبة بن مسلم وكان راوية عالمًا عن ذلك". 3 المتمنح: المستعار. الغمى: الجماعة من القداح. المستكفة: المحدقة به. 4 النقائض: 240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فسأله عبد الملك عن ذلك فقال: والذي نفسي بيده يا أمير المؤمنين للناس يوم النسار أطوع لحصن بن حذيفة من بعض غلمانك لك. وقال عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث "توفي سنة 84" يذكر أخذه الشعر والنسب عن الشعراء والنسابين1 "قدم عبد الملك -وكان يحب الشعر- فبعثت إلى الرواة، فما أتت عليَّ سنة حتى رويت الشاهد والمثل وفضولًا بعد ذلك. وقدم مصعب "توفي سنة 73" وكان يحب النسب فدعوت النسابين فتعلمته في سنة. ثم قدم الحجاج وكان يدني على القرآن، فحفظته في سنة". وتبدو لنا عناية عبد الملك بالشعر وروايته -فضلًا عما تقدم- في قوله لمؤدب ولده2: "روهم الشعر، روهم الشعر، يمجدوا وينجدوا. وقال مرة لمؤدب أولاده3: "أدبهم برواية شعر الأعشى فإن لكلامه عذوبة". وهل أدل على معرفة عبد الملك بالشعر الجاهلي معرفة دقيقة من قوله4. إذا أردتم الشعر الجيد فعليكم بالزرق من بني قيس بن ثعلبة -وهم رهط أعشى بكر-، وبأصحاب النخل من يثرب -يريد الأوس والخزرج-، وأصحاب الشعف من هذيل "والشعف رءوس الجبال". بل هل أدل على معرفة عبد الملك بشعر الجاهلية وأخبارها وعنايتة بجمع ذلك مما أورده ياقوت في قوله5: "كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: انظر لي رجلًا عالمًا بالحلال، عارفًا بأشعار العرب وأخبارهم، أستانس به وأصيب عنده معرفة، فوجهه إلى من قبلك. فوجه إليه الشعبي، وكان أجمع أهل زمانه، قال الشعبي: فلم ألق واليًا ولا سوقةً إلا وهو يحتاج إلي ولا أحتاج   1 الجاحظ، الحيوان 5: 194-195. 2 ابن عبد ربه، العقد 6: 125. 3 جمهرة أشعار العرب: 63. 4 العقد 6: 124. 5 ياقوت، إرشاد 1: 96-97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 إليه ما خلا عبد الملك، ما أنشدته شعرًا ولا حدثته حديثًا إلا وهو يزيدني فيه، وكنت ربما حدثته وفي يده اللقمة فأمسكها، فأقول: يا أمير المؤمنين أسع طعامك، فإن الحديث من ورائه، فيقول: ما تحدثني به أوقع بقلبي من كل لذة، وأحلى من كل فائدة". أما معاوية بن أبي سفيان فقد مرت بنا أطراف من عنايته بأخبار الماضين، وأيام العرب في جاهليتهم، وشعر شعرائهم. وذكرنا أنه كان له غلمان مرتبون يكتبون هذه الأحاديث في دفاتر ويقرءونها عليه في ساعات معينة من ليله. وكانت لمعاوية -فضلًا عن ذلك- مجالس ينشد هو ما يحفظ من الشعر فيها، ويستنشد من يحضر من الرواة والعلماء والأعراب، ويستمع فيها إلى أحاديث العرب وأخبارها. وقد قال مرة للنخار بن أوس1: "ابغني محدثًا قال: ومعي يا أمير المؤمنين تريد محدثًا! قال: نعم، أستريح منه إليه، ومنه إليك ... " وقد التفت معاوية في أحد مجالسه إلى عبد الله بن الزبير وقال متمثلًا2: ورامٍ بعوران الكلام كأنها ... نوافر صبح نفرتها المرائع وقد يدحض المرء الموارب بالخنا ... وقد تدرك المرء الكريم المصانع ثم قال لابن الزبير: من يقول هذا؟ فقال: ذو الإصبع. فقال: أترويه؟ قال: لا. فقال: مَن هاهنا يروي هذه الأبيات؟ فقام رجل من قيس فقال: أنا أرويها يا أمير المؤمنين. فقال: أنشدني. فأنشده حتى أتى عليها ... فزاد معاوية في عطائه. وخاصم رجل إلى معاوية في ابن أخيه، فجعل الرجل يحج خصمه، فقال معاوية: أنت كما قال أبو دواد3:   1 البيان والتبيين 1: 333. 2 الأغاني 3: 100-101. يدحض: يزل ويزلق. 3 الزمخشري، الفائق 1: 240. الحرباء مذكر، والأنثى حرباءة التنضية: شجرة ضخمة تقطع منها الأعمدة للأخبية. وصف ظعنًا سائق مجد، فتعجب كيف أتيح لها هذا السائق المجد الحازم. وهذا مثل يضرب للرجل الحازم؛ لأن الحرباء لا يفارق الغصن الأول حتى يثبت على الغصن الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أنى أتيح لها حُرَبْاِء تنضية ُ ... َلْاِ يرسل الساق إلا ممسكًا ساقًا وسأل معاوية شيخًا من بقايا العرب1: أي العرب رأيته أضخم شأنًا؟ قال: حصن بن حذيفة -قائد ذبيان يوم شعب جبلة- رأيته متوكئًا على قوسه يقسم في الحليفين: أسد وغطفان. وذكر عند معاوية، في أحد مجالسه، ملوك العرب، فلما ذكرت الزباء وابنة عفزر قال معاوية2: إني لأحب أن أسمع حديث ماوية وحاتم. فقال رجل من القوم: أفلا أحدثك يا أمير المؤمنين؟ فقال: بلى فقال: إن ماوية بنت عفزر كانت ملكة وكانت تتزوج من أرادت ... إلى آخر القصة. وبعث زياد بن أبيه بولده إلى معاوية3، فكاشفه عن فنون من العلم فوجده عالمًا بكل ما سأله عنه، ثم استنشده الشعر، فقال: لم أروِ منه شيئًا! فكتب معاوية إلى زياد: ما منعك أن ترويه الشعر؟ فوالله إن كان العاق ليرويه فيبر، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل. ولم تكن هذه المجالس، التي تُذكر فيها أخبار الجاهلية ويُروى فيها شعر شعرائها، مقصورة على معاوية وعبد الملك وخلفاء بني أمية وبني مروان، بل كان الأشراف والسادة والولاة يعقدون مثل هذه المجالس. فقد كان سعيد بن العاص على المدينة، فبينا هو يُعشي الناس4، وهم يخرجون أولًا   1 البيان والتبيين 3: 9. 2 ديوان حاتم -خمسة دواوين العرب- 121-122. 3 العقد 6: 125، وانظر أيضًا المزهر 2: 310-311. 4 الأغاني 2: 167، وانظر الشعر والشعراء 1: 284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 َُُأَِْوْلًِا، إذ نظر على بساطه إلى رجل قبيح المنظر، رث الهيئة، جالس مع أصحاب سمره، فذهب الشرط يقيمونه، فأبى أن يقوم، وحانت من سعيد التفاتة، فقال: دعوا الرجل. فتركوه، وخاضوا في أحاديث العرب وأشعارها مليًّا، فقال لهم الحطيئة، -وكان هو ذلك الرجل-: والله ما أصبتم جيد الشعر ولا شاعر العرب. فقال له سعيد: أتعرف من ذلك شيئًا؟ قال: نعم. قال: فمن أشعر العرب؟ قال: الذي يقول: لا أعد الإقتار عدمًا ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام وأنشدها حتى أتى عليها، فقال له: من يقولها؟ قال: أبو داود الإيادي. قال: ثم من؟ قال: الذي يقول: أفلح بما شئت فقد يُدرك بالـ ... ـجهل وقد يُخدع الأريب ثم أنشدها حتى فرغ منها. قال: ومن يقولها؟ قال: عبيد بن الأبرص، قال: ثم من؟ قال: والله لحسبك بي عند رغبة أو رهبة ... وأنشد ابن أبي عتيق يومًا قول قيس بن الخطيم1: بين شكول النساء خلقتها ... حذوًا فلا جبلة ولا قضف فقال: لولا أن أبا يزيد -كنية قيس بن الخطيم- قال "حذوًا"، ما درى الناس كيف يحشون هذا الموضع. وقال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لمعلم ولده2: لا تروهم قصيدة عروة بن الورد التي يقول فيها: دعيني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير   1 الأغاني 3: 1-2. 2 الأغاني 3: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وكان يقول: إن هذا يدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم. والأخبار عن معرفة ابن عباس بالشعر الجاهلي، وروايته إياه، وحضه على طلبه وتعلمه وتفسير كتاب الله تعالى به، وأخبار كثيرة1، حتى إنه كان يقول2: إذا أشكل عليكم الشيء من القرآن فارجعوا فيه إلى الشعر فإنه ديوان العرب. وكان يُسأل عن القرآن فينشد الشعر. وسنكتفي بإيراد مثل واحد من أخبار ابن عباس، وسيمر منها خبر أو خبران عند حديثنا عن معرفة عمر بن الخطاب بالشعر الجاهلي. قال الشعبي3: كنا عند ابن عباس وهو في ضفة زمزم يفتي الناس، إذ قال أعرابي: أفتيت الناس فافتنا. قال: هات. قال: أرأيت قول الشاعر المتلمس: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما قال ابن عباس: ذاك عمرو بن حممة الدوسي، قضى على العرب ثلاثمائة سنة، فكبر فألزموه السابع من ولده، فكان معه، فكان الشيخ إذا غفل كانت بينه وبينه أن تقرع العصا حتى يعاوده عقله، وذلك قول المتلمس اليشكري من بكر بن وائل: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا. قال ذو الإصبع العدواني بعد ذلك بدهر: عذير الحي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض ..... ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي يعني: عامر بن الظرب.   1 انظر مثلًا مفصلًا لذلك في الإتقان للسيوطي 1: 148-164. 2 المبرد، الفاضل: 10. 3 السجستاني، المعمرين: 45، وانظر الفاضل للمبرد: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ونحن نرى من كل هذا، ومن كثير غيره، أن القوم، في القرن الأول الهجري، لم يكونوا يكتفون برواية الشعر الجاهلي وإنشاده في المجالس والمحافل، وإنما كانوا كذلك يعلمونه الصبيان تعليمًا. وقد وضح لنا ذلك من قول عبد الملك لمؤدب ولده يأمره أن يروهم الشعر وخاصة شعر الأعشى، ومن كتابة معاوية إلى زياد بطلب منه أن يعلم ابنه الشعر ويرويه إياه، ومن نهي جعفر بن أبي طالب معلم ولده على أن يعلمهم قصيدة عروة بن الورد؛ لأنها تحض على الاغتراب عن الأوطان. وسنذكر، في حديثنا عن طبقات الرواة، ما يزيد هذا الجانب وضوحًا، وذلك حينما نتحدث عن شعراء القرن الأول ورُجازه: العجاج ورؤبة والأخطل وجرير والفرزدق والكميت، ومعرفتهم بأخبار الجاهلية، ومثالب العرب ومفاخرها؛ وروايتهم الشعر الجاهلي، بل نظرهم فيه نظر الناقد الحصيف المميز. -3- فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى صدر هذا القرن، ونظرنا في أخبار الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة، بل أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدنا أن الأمر لا يختلف عما عهدناه في عهد بني أمية وبني مروان. قيل للحسن البصري1: أكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمزحون؟ قال: نعم ويتقارضون من القرض وهو الشعر. وقال جابر بن سمرة2: جالست رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مائة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الأشعار في المسجد وأشياء من أمر الجاهلية   1 الفائق 2: 339. 2 ابن سعد، الطبقات 1/ 2: 95-96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فربما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو سلمة1: لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم متحزقين ولا متماوتين، كانوا يتناشدون الأشعار ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون. وسنعرض هنا أخبار بعض الصحابة -غير من ذكرنا- وروايتهم الشعر. قال مطرف2: خرجت مع عمران بن حصين "صحابي" من الكوفة إلى البصرة، فما أتى علينا يوم إلا ينشدنا فيه شعرًا، ويقول: إن لكم في المعاريض لمندوحةً عن الكذب. ودخل غالب بن صعصعة على علي بن أبي طالب أيام خلافته -وغالب شيخ كبير- ومعه ابنه همام الفرزدق وهو غلام يومئذ. فقال علي رضي الله عنه3: ... من هذا الغلام معك؟ قال: هذا ابني. قال: ما اسمه؟ قال: همام وقد رويته الشعر يا أمير المؤمنين، وكلام العرب، ويوشك أن يكون شاعرًا مجيدًا. وهؤلاء أهل الكوفة لم يصرفهم ما كانوا فيه زمن علي عن رواية الشعر وإنشاده، حتى قال لهم "إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حِلقًا عزين، تضربون الأمثال، وتناشدون الأشعار". وقد مر بنا خبر حسان حين طلب أن يكتب شعر قاله في الهجاء، وتوزع الصحف على الصبيان في المكتب ليتعلموه ويرووه. وكان أبو زُبيد الطائي شاعرًا معمرًا عاش خمسين ومائة سنة، أدرك الإسلام ولم يسلم ومات نصرانيًّا. وكان عثمان بن عفان يقرب أبا زبيد ويدني مجلسه لمعرفته بسير من أدركهم من ملوك العرب والعجم، فدخل عليه يومًا وعنده   1 الفائق 1: 257. 2 ابن سعد 4/ 2: 26. 3 البغدادي، خزانة الأدب 1: 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 المهاجرون والأنصار، فتذاكروا مآثر العرب وأخبارها وأشعارها1. وأما عمر بن الخطاب فأمر معرفته بالشعر وروايته له مشهور معروف، فقد كان يستنشد من يحضر مجلسه في حله، أو من يرافقه في سفره. وكان ذواقة، بصيرًا بالشعر، ناقدًا له، يحكم على الشعراء. وكان هو نفسه يحفظ كثيرًا من الشعر الجاهلي، حتى لقد قال محمد بن سلام عن بعض أشياخه2: "كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر". ومن أمثلة ذلك أنه قيل له3: "قيل للأوسية: أي منظر أحسن؟ فقالت: قصور بيض في حدائق خضر". فأنشد عند ذلك عمر بن الخطاب بيت عدي بن زيد العبادي: كدمى العاج في المحاريب أو كالـ ... بيض في الروض زهره مستنير وقال العائشي4: كان عمر بن الخطاب -رحمه الله- أعلم الناس بالشعر، ولكنه كان إذا ابتلى بالحكم بين النجاشي والعجلاني "تميم بن أبي بن مقبل"، وبين الحطيئة والزبرقان، كره أن يتعرض للشعراء، واستشهد للفريقين رجالًا مثل حسان بين ثابت وغيره ممن تهون عليهم سبالهم، فإذا سمع كلامهم حكم بما يعلم، وكان الذي ظهر من حكم ذلك الشاعر مقنعًا للفريقين، ويكون هو قد تخلص بعرضه سليمًا. فلما رآه من لا علم له يسأل هذا وهذا ظن أن ذلك لجهله بما يعرف غيره. قال: ولقد أنشدوه شعرًا لزهير -وكان لشعره مقدمًا- فلما انتهوا إلى قوله: وإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء   1 ياقوت: إرشاد "حرملة بن المنذر". 2 البيان والتبيين 1: 241. 3 المصدر السابق 1: 45. 4 الجاحظ، البيان والتبيين 1: 239-241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 قال عمر كالمتعجب من علمه بالحقوق وتفصيله بينها وإقامته أقسامها: وإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء يردد البيت من التعجب. وأنشدوه قصيدة عبدة بن الطبيب الطويلة التي على اللازم، فلما بلغ المنشد قوله: والمرء ساع لشيء ليس يدركه ... والعيش شح وإشفاق وتأميل قال عمر متعجبًا: والعيش شح وإشفاق وتأميل، يعجبهم من حسن ما قسم وفصل. وأنشدوه قصيدة أبي قيس بن الأسلت التي على العين، وهو ساكت، فلما انتهى المنشد إلى قوله: الكيس والقوة خير من الإ ... شفاق والفهة والهاع أعاد عمر البيت وقال: الكيس والقوة خير من الإ ... شفاق والفهة والهاع وجعل عمر يردد البيت ويتعجب منه. وقال عمر بن الخطاب لابن عباس1: هل تروي لشاعر الشعراء؟ قال ابن عباس فقلت: ومن هو؟ قال: الذي يقول: ولو أن حمدًا يخلد الناس أخلدوا ... ولكن حمد الناس ليس بمخلد قلت: ذاك زهير. قال: فذاك شاعر الشعراء. قلت: بم كان شاعر   1 الأغاني "دار الكتب" 10: 288-291، وانظر أيضًا ابن قتيبة، الشعر والشعراء 1: 93، والزمخشري، الفائق 2: 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الشعراء؟ قال: لأنه كان لا يعاظل في الكلام، وكان يتجنب وحشي الشعر، ولم يمدح أحدًا إلا بما فيه ... ثم قال: أنشدني له. قال ابن عباس: فأنشدته حتى برق الفجر. وقال عمر بن الخطاب لعض ولد هرم1: "أنشدني بعض مدح زهير أباك، فأنشده. فقال عمر: إنه كان ليحسن فيكم المدح. قال: ونحن والله إن كنا لنحسن له العطية. قال: قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم. وفي رواية عمر بن شبة: قال عمر لابن زهير: ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك؟ قال: أبلاها الدهر. قال: لكن الحلل التي كساها أبوك هرمًا لم يبلها الدهر. وقال عمر للوفد الذين قدموا من غطفان2: من الذي يقول: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب قالوا: نابغة بني ذبيان. قال لهم: فمن الذي يقول هذا الشعر: أتيتك عاريًا خلقًا ثيابي ... على وجلٍ تُظن بي الظنون فألفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون قالوا: هو النابغة. قال: هو أشعر شعرائكم. ومن أحكام عمر النقدية التي سارت وشاعت -غير حكمه المشهور على زهير- قوله حينما سئل عن الشعراء3 "امرؤ القيس سابقهم، خسف لهم عين   1 البغدادي، الخزانة 2: 292. 2 العقد 6: 120-121، وانظر الأغاني "دار الكتب" 11: 4-5. 3 الأغاني 8: 199، والفائق 1: 343. افتقر: أنبط وأغزر. يريد أنه أول من فتق صناعة الشعر، وفنن معانيها وكثرها وقصدها، فاحتذى الشعراء على مثاله. وقد جعل للشعر بصرًا صحيحًا. والمراد أن امرأ القيس قد أوضح؟؟؟ ولخصها وكشف عنها الحجب، وجانب التعويص والتعقيد؛ كأنه قال: فتح الشعر أصح بصر مجاوزًا للمعاني العور متخطيًا لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الشعر، فافتقر عن معان عور أصح بصر". وكذلك كان أبو بكر راوية للشعر الجاهلي، يتمثل به في مواقفه ويستنشد الشعراء ما قالوه في جاهليتهم وإسلامهم. فقد رقى أبو بكر المنبر يومًا، وقال -فيما قال- يخاطب الأنصار1: .... فنحن وأنتم كما قال الغنوي: جزى الله عنا جعفرًا حين أزلقت ... بنا لعلنا في الواطئين فزلت أبوا أن يملونا، ولو كانت أمنا ... تلاقي الذي يلقون منا لملت هم أسكنونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأكنت واستنشد أبو بكر يومًا معد يكرب وقال2: أما إنك أول من استنشدته في الإسلام. وهذا الخبر يقودنا إلى الحديث عما كان عليه أبو بكر قبل الإسلام: فقد كان عالمًا من علماء النسب والأخبار، بل لقد كان أعلم قريش بأنساب العرب، حتى إن حسانًا لما أراد أن يهجو قريشًا قال له رسول الله3: استعن بأبي بكر فإنه علامة قريش بأنساب العرب. فلما سمعت قريش بعد ذلك هجاءه قالوا4: إن هذا الشتم ما غاب عنه ابن أبي قحافة. وقال بعضهم -ولم يكونوا علموا أن حسانًا قاله5-: لقد قال أبو بكر الشعر بعدنا! بل لقد كان منزل أبي بكر في الجاهلية مثابةً لقريش يؤمونه لخصلتين: العلم والطعام، فلما أسلم أسلم عامة من كان مجالسه6. وقبل أن نتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستنشاده الشعر، وإنشاد   1 الصولي، أدب الكتاب: 190. 2 ابن سعد 6: 57. 3 جمهرة أشعار العرب: 23. 4 الأغاني 4: 138، والفائق 2: 244. 5 الأغاني 4: 138. 6 البيان والتبيين 4: 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الصحابة والرواة بين يديه وفي مجلسه، نشير إلى ما يروى من أخبار عن غزارة حفظ أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكرٍ للشعر الجاهلي، وتمثلها به، واستنشادها إياه. والروايات كثيرة عن وفرة ما كانت ترويه من الشعر الجاهلي، منها قولها عن نفسها1: إني لأروي ألف بيت للبيد، وإنه أقل ما أروي لغيره!! وقالت كذلك2: لقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارًا منها القصيدة فيها أربعون بيتًا ودون ذلك. وقد أنشدت عائشة -لما مات أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر- متمثلة قصيدة بائية لحجية بن المضرب الكندي في أخيه سعدان بن المضرب3. ولما بلغها موت علي بن أبي طاب أنشدت متمثلة شعرًا للمعقر بن أوس بن حمار البارقي4. وكانت أيضًا تحث على طلب الشعر وتعلمه وروايته، ومما كانت تقوله في ذلك5: رووا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم. وكانت أسماء بنت أبي بكر -أخت عائشة- ممن يُروَى عنها الشعر الجاهلي، فقد روى عنها عروة قصيدتين، إحداهما لزيد بن عمرو بن نفيل، والأخرى لورقة بن نوقل6. وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يستنشد الصحابة الشعر7، ويسائلهم عنه، ويستعيد ما يستحسنه منه، ويبدي إعجابه ببعضه، وقد ينهى عن رواية بعضه لأسباب مذكورة. فمما يدل على معرفتهم آنذاك بأخبار الجاهلية   1 ابن عبد ربه، العقد 6: 125. 2 السيوطي، المزهر 2: 309. 3 المرزباني، معجم الشعراء 234. 4 المرزباني، المعجم 204. 5 العقد 6: 125. 6 الأغاني 3: 124-125. 7 انظر: المبرد، الفاضل: 9-10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وشعرائها أن رسول الله كتب لعيينة بن حصن كتابًا، فلما أخذ عيينة كتابه قال1: يا محمد، أتراني حاملًا إلى قومي كتابًا كصحيفة المتلمس؟ ومما يدل على استنشاده الشعر ومساءلته الصحابة الحاضرين مجلسه عنه، ما رواه أنس بن مالك قال2: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس ليس فيه إلا خزرجي، ثم استنشدهم قصيدة قيس بن الخطيم، يعني قوله: أتعرف رسمًا كاطراد المذاهب ... لعمرة وحشًا غير موقف راكب فأنشده بعضهم إياها، فلما بلغ إلى قوله: أجالدهم يوم الحديقة حاسرًا ... كأن يدي بالسيف مخراق لاعبٍ فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل كان كما ذكر؟ فشهد له ثابت بن قيس بن شماس، وقال له: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد خرج إلينا يوم سابع عرسه عليه غلالة وملحفة مورسة فجالدنا كما ذكر. وقال أبو وداعة3: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله تعالى عنه عند باب بني شيبة، فمر رجل وهو يقول: يا أيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد الدار هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ... منعوك من عدم ومن إقتار فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقال: أهكذا قال الشاعر؟ قال: لا والذي بعثك بالحق، لكنه قال: يا أيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد مناف   1 الزمخشري، الفائق 2: 13. 2 الأغاني 3: 7. 3 القالي، الأمالي 1: 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ... منعوك من عدم ومن إقراف الخالطين فقيرهم بغنيهم ... حتى يعود فقيرهم كالكافي ويكللون جفانهم بسديفهم ... حتى تغيب الشمس في الرجاف1 فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هكذا سمعت الرواة ينشدونه. وقال عدي بن أبي الزغباء يوم بدر2: أنا عدي والسحل ... أمشي بها مشي الفحل يعني درعه ... قال النبي صلى الله عليه وسلم "وما السحل"؟ قال: الدرع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم العدي عدي بن أبي الزغباء. بل لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل ببعض هذا الشعر الجاهلي فقد كان إذا استراث الخبر يتمثل بعجز بيت طرفة3: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود ومن الشعر الجاهلي الذي كان ينشد بين يدي رسول الله فيستحسنه، ما قالته عائشة4: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أتمثل بهذين البيتين: ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يومًا فتدركه العواقب قد نما يجزيك أو يثني عليك، وإن من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى فقال صلى الله عليه وسلم: ردي عليَّ قول اليهودي قاتله الله، لقد أتاني جبريل برسالة من ربي: أيما رجل صنع إلى أخيه صنيعة فلم يجد له جزاء إلا الثناء عليه والدعاء له فقد كافأه.   1 الرجاف: البحر. 2 الواقدي، المغازي: 60. 3 معجم المرزباني: 203، وانظر الفاضل للمبرد: 9. 4 الأغاني 3: 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وقال مسلم الخزاعي1: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنشد ينشده: لا تأمنن وإن أمسيت في حرمٍ ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني فالخير والشر مقرونان في قرن ... بكل ذلك يأتيك الجديدان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو أدرك هذا الإسلام! وأنشد صلى الله عليه وسلم قول عنترة2: ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل فقال صلى الله عليه وسلم: ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة! وقال الشريد بن سوبد الثقفي3: استشدني النبي صلى الله عليه وسلم شعر أمية بن أبي الصلت، فأنشدته، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هيه هيه، حتى أنشدته مائة قافية. وأنشد النبي صلى الله عليه وسلم قول أمية4: الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبحنا ربي ومسانا "خمسة أبيات" فقال صلى الله عليه وسلم: إن كاد أمية ليسلم. وقال مرة أخرى5: آمن شعره وكفر قلبه.   1 الفائق 3: 52 يمني: يقدر الله، ومنه المنية. يريد: حين تلاقي ما يقدره لك الله. والبيتان لسويد بن عامر "انظر الزمخشري في الفائق 3: 52". 2 الأغاني 8: 243. 3 المزهر 2: 309 نقلًا عن البخاري في الأدب المفرد، وانظر ابن سعد 5: 376، والخزانة 1: 227 نقلًا عن صحيح مسلم. وقد وقع في الخزانة "الرشيد" وهو خطأ، صوابه "الشريد". 4 الأغاني 4: 129. 5 المصدر السابق 4: 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن رواية بعض الشعر الجاهلي وإنشاده. فمن ذلك أنه لما بلغه صلى الله عليه وآله وسلم هجاء الأعشى علقمة بن علاثة العامري نهى أصحابه أن يرووا هجاءه، وقال: إن أبا سفيان شعث منى عند قيصر فرد عليه علقمة وكذب أبا سفيان1. ونهى كذلك عن إنشاد قصيدة الأفوه الأودي لما فيها من ذكر إسماعيل عليه السلام2. وكان أمية بن أبي الصلت يحرض قريشًا بعد وقعة بدر، وكان يرثي من قُتل من قريش فمن ذلك قوله3: ماذا ببدرٍ والعقنـ ... ـقل من مرازبة جحاجح وهي قصيدة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن روايتها. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه سمع كعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاري ينشد4: ألا هل أتى غسان عنا ودوننا ... من الأرض خرق غوله متعتع مجالدنا عن جذمنا كل فخمة ... مدربة فيها القوانس تلمع فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقل "عن جذمنا" وقل "عن ديننا" فكان كعب يقرأ كذلك ويفتخر بذلك، ويقول: ما أعان رسول الله صلى الله عليه أحدًا في شعره غيري.   1 الفائق 1: 664. 2 الميمني، الطرائف الأدبية: 3؛ وهي قصيدة الأفوه التي أولها: إن ترى رأسي فيه نزع وشواي خلة فيها دوار ويهجو فيها بني هاجر. 3 الأغاني 4: 122-123. العقنقل: كثيب رمل ببدر. المرازبة: جمع مرزبان وهو الفارس الشجاع المقدم على القوم دون الملك. وجحاجح: جمع جحجح، وهو السيد المسارع إلى المكارم. 4 المبرد، الفاضل: 12؛ وانظر أيضًا ابن هشام 3: 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ولقد كان إنشاد الشعر وروايته دأب العرب في جاهليتهم القريبة المتصلة بمطلع الإسلام، حتى حين كانوا -وهم مشركون- يحاربون رسول الله. فكانوا لا يكادون يجتمعون في مجلس أو يضمهم نادٍ حتى يزجوا أوقاتهم بهذا الشعر ينشدونه. ومن أمثلة ذلك أن المشركين لما توجهوا "إلى بدر كان فتيان ممن تخلف عنهم سمار يسمرون بذي طُوَى في القمر، حتى يذهب الليل، يتناشدون الأشعار ويتحدثون"1. ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لي بابن الأشراف؟ ... " خرج أبو نائلة سلكان بن سلامة إلى كعب، فلما رآه كعب أنكر شأنه وكاد يذعر ... فقال أبو نائلة: حدثت لنا حاجة إليك ... فتحدثا ساعة وتناشدا الأشعار، وانبسط كعب، وهو يقول بين ذلك: حاجتك. وأبو نائلة يناشده الشعر.."2. -4- وطبقة أخرى من العلماء هم النسابون، وصلتهم بالشعر الجاهلي صلة واضحة، إذ أن معرفتهم بالنسب كانت تقتضيهم معرفة واسعة بأخبار هؤلاء القوم وأشعارهم. وقد ذكرنا من قبل أن كتب القبائل كانت كتبًا تتضمن أنساب العرب وأخبارهم وأشعارهم، ونستطيع أن نتلمس ما ذكرناه تلمسًا واضحًا في كتب الأنساب التي كتبها النسابون في العصور الإسلامية، ولعل من أقدمها كتاب نسب قريش لأبي عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري المتوفى سنة 236هـ، فإن في هذا الكتاب -مع سلاسل النسب- أخبارًا تاريخية وأدبية، وشعرًا يساق مع هذه الأخبار ويذكر مع تلك الأحاديث، وكذلك كانت سنة كتب النسب كلها التي سبقته فيما نرجح. ومما يدعم ذلك أننا نجد دائمًا ذكر   1 الواقدي، المغازي: 89. 2 المصدر السابق: 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 علماء النسب مقرونًا بذكر علمهم بالشعر وروايته، وبأيام العرب وأخبارهم، فقد قال الجاحظ عن علماء النسب1: "وأربعة من قريش كانوا رواة الناس للأشعار وعلماءهم بالأنساب والأخبار". وقيل عن عقيل بن أبي طالب2: "ويجتمع إليه في علم النسب وأيام العرب". وسنذكر في هذه الصفحات، ذكرًا موجزًا، هؤلاء النسابين الذين أخذ عنهم علماء القرن الثاني، والذين عاشوا في القرن الأول، وفي صدر الإسلام، وفي آخر العصر الجاهلي، لنرى من ذلك -كما رأينا في إنشاد الشعر الجاهلي وروايته- أن الصلة قائمة في العصور المتعاقبة، وأنها كانت أشبه بالسلسلة ذات الحلقات المتصلة آخذًا بعضها برقاب بعض، لم تنقطع، ولم ينفرط عقدها، ولم تكن ثمة فجوة تفصل بين أخبار الجاهلية وعلماء القرن الثاني ورواته. فهذا هشام بن محمد بن السائب الكلبي -عالم الأنساب المشهور- يقول3 "قال لي أبي: أخذت نسب قريش عن أبي صالح. وأخذه أبو صالح عن عقيل بن أبي طالب. وأخذت نسب كندة عن أبي الكناس الكندي، وكان أعلم الناس. أخذت نسب معد بن عدنان عن النخار4 بن أوس العذري، وكان أحفظ الناس ممن رأيت وسمعت به. وأخذت نسب إياد عن عدي بن رثاث الإيادي، وكان عالمًا بإياد. وقد ذكر شعراء القرن الأول بعض هؤلاء النسابين، ووصفوا ما كان مشهورًا من مدى علمهم بأخبار الجاهلية، فمن ذلك قول سماك العكرمي5:   1 البيان والتبيين 2: 323. 2 الصفدي، نكت الهميان: 200. 3 ابن النديم، الفهرست: 139-140. 4 في الأصل: "النجار بن أوس العدواني" وهو خطأ صوابه ما أثبتناه من معجم المرزباني 237، ومن الحيوان 1: 365 و3: 209-210وغيرهما. 5 البيان والتبيين 1: 322-323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فسائل دغفلا وأخا هلال ... وحمادًا ينبوك اليقينا1 وقال مسكين الدارمي2: وعند الكيس النمري علم ... ولو أمسى بمنخرق الشمال وقال ثابت قطنة3: فما العضان لو سئلا جميعًا ... أخو بكر وزيد بني هلال4 ولا الكلبي حماد بن بشر ... ولا من فاد في الزمن الخوالي وقال زياد الأعجم يهجو بني الحبناء5: بل لو سألت أخا ربيعة دغفلًا ... لوجدت في شيبان نسبة دغفل إن الأحابن والذين يلونهم ... شر الأنام ونسل عبد أغرل6 وقال القطامي7: أحاديث من أنباء عادٍ وجرهم ... يثورها العضان زيد ودغفل وقال عمرو بن المرادة البلوي يهجو النخار بن أوس العذري النسابة الراوية لأنه استلحق بطنًا من بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة وذكر أنهم من قومه8: وقد كنت يا نخار ما تدعيهم ... وتعرض عنهم في السنين العوارق يمنيهم النخار إلحاق نسبة ... بلأي وما النخار فينا بصادق   1 دغفل: هو دغفل بن حنظلة النسابة المشهور. أخو هلال: هو زيد بن الكيس، وبنو هلال حي من النمر بن قاسط. وحماد: هو حماد بن بشر. 2 البيان والتبيين1: 322-323. 3 نفسه 4 العض: الداهية من الرجال. وفاد: هلك. 5 المرجع السابق 6 الأحابن: بنو الحبناء. والأغرل: الأقلف. 7 ديوانه: 31. 8 المرزباني، معجم الشعراء 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وحسبنا هذه الإشارة المقتضبة إلى نسابي القرن الأول، فأخبارهم كثيرة مبسوطة في مظانها1. وسننتقل إلى الحديث عن نسابي الصدر الأول ومن شهد منهم الجاهلية، ونوجز كذلك الإشارة إليهم إيجازًا. فمن أشهر هؤلاء: دغفل النسابة2. ذكر الهيثم بن عدي في "كتاب المثالب"3 أن أبا عمرو بن أمية -جد عقبة بن أبي معيط- كان عبدًا لأمية اسمه ذكوان فاستلحقه. وذكر أن دغفلًا النسابة دخل على معاوية، فقال له معاوية: من رأيت من علية قريش؟ فقال: رأيت عبد المطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس. فقال: صفهما لي. فقال: كان عبد المطلب ... قال: فصف أمية. قال: رأيته شيخًا قصيرًا نحيف الجسم ضريرًا يقوده عبده ذكوان: فقال: مه، ذاك ابنه أبو عمرو. فقال: هذا شيء قلتموه بعد وأحدثتموه، وأما الذي عرفت فهو الذي أخبرتك به. وقال معاوية يومًا لدغفل4: بم ضبطت ما أرى؟ قال: بمفاوضة العلماء. قال: وما مفاوضة العلماء؟ قال: كنت إذا لقيت عالمًا أخذت ما عنده وأعطيته ما عندي. ويبدو أن القوم كانوا -على عهد عمر- مقبلين على تعلم النسب، معنيين بدراسته، وكانت العصبية القبلية، والعصبية القومية العربية، تحمل كثيرًا منهم على أن يتخذ من علمه هذا وسيلة للطعن في أنساب غيره، ولذلك نهى عمر عن هذا الضرب من العلم، أو عن هذا الضرب من التوسل بالعلم، فقال5:   1 انظر مثلًا البيان والتبيين1: 318-324، والحيوان 1: 365، 3: 209-210. 2 أخباره في الفهرست: 131. 3 الأغاني 1: 12. 4 الزمخشري، الفائق2: 304. 5 الفائق 2: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 أيها الناس، إياكم وتعلم الأنساب والطعن فيها. والذي نفس عمر بيده لو قلت لا يخرج من هذا الباب إلا صمد ما خرج إلا أقلكم. ومع ذلك فقد كان عمر يستعين بهؤلاء النسابين كلما احتاج إليهم في أمر، فحينما أراد أن يكتب الناس في الديوان للعطاء دعا "عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا من نسابي قريش، فقال: اكتبوا الناس على منازلهم، فكتبوا، فبدءوا بيني هاشم"1. ولما أُتِي عمر بسيف النعمان بن المنذر، دعا جبير بن مطعم فسلمه إياه، ثم قال2: يا جبير، ممن كان النعمان؟ قال: من أشلاء قنص بن معد. وجبير هذا معروف بعلمه بالنسب حتى قيل عنه إنه أنسب العرب، وقد أخذ النسب عن أبي بكر الصديق، وعن جبير أخذ سعيد بن المسيب3. بل لقد كان عمر نفسه عالمًا بالنسب، وقد أخذ علمه هذا عن أبيه الخطاب، وكان كثيرًا ما يقول4: سمعت ذلك من الخطاب، ولم أسمع ذلك من الخطاب، وأما عقيل بن أبي طالب الذي ذكرناه في خبر عمر حينما دعا النسابين ليكتبوا الناس على منازلهم، فهو أخو علي، وعقيل أسن من علي بعشرين سنة، ومات في زمن معاوية في نحو سنة خمسين للهجرة. وكان عقيل من أنسب قريش وأعلمهم بأيامهم، وكانت له طنفسة تطرح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصلي عليها، ويجتمع إليه في علم النسب وأيام العرب5. وكان عقيل أكثر النسابين ذكرًا لمثالب الناس وتعداد مساويهم فعادوه لذلك، وقالوا فيه وحمقوه6.   1 ابن سعد 3/ 1: 212. 2 البيان والتبيين 1: 303. 3 البيان والتبيين 1: 303، والفائق 1: 608-609. 4 البيان والتبيين 1: 304. 5 نكت الهميان: 200. 6 البيان والتبيين 2: 324، ونكت الهميان: 200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وأما مخرمة بن نوفل فقد أسلم عام الفتح، وتوفي بالمدينة سنة أربع وخمسين للهجرة، وقد بلغ مائة وخمس عشرة سنة. وكان له سن وعلم بأيام قريش، وكان أحد علمائهم، ويؤخذ عنه علم النسب1. ومن هؤلاء النسابين المعمرين: أبو جهم بن حذيفة بن غانم بن عامر "كان من مشيخة قريش عالمًا بالنسب، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من معمري قريش، بنى في الكعبة مرتين: مرة في الجاهلية ومرة في الإسلام، حين بناها قريش وحين بناها ابن الزبير"2. ومن هؤلاء النسابين العلماء في الجاهلية: الخطاب بن نفيل وأبوه نفيل بن عبد العزى الذي "تنافر إليه عبد المطلب وحرب بن أمية، فنفر عبد المطلب -أي حكم له-"3. ومنهم أيضًا الأقرع بن حابس، وكانوا يحكمونه فيما يشجر من أمورهم، وكان عالم العرب في زمانه4. وقد مر بنا ذكر علم أبي بكر بالنسب، وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت أن يرجع إلى أبي بكر لمعرفة نسب قريش قبل أن يهجوهم. وقد كان بيت أبي بكر في الجاهلية مجلسًا عامًّا يقصده الناس لطلب العلم والقِرَى. فنحن نرى إذن -مما قدمنا من الأمثلة والشواهد- أن رواية الجاهلية: أشعارها وأخبارها، لم تنقطع منذ الجاهلية، بل لقد اتصلت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وخلفائه الراشدين، واستمرت طوال القرن الأول حتى   1 نسب قريش: 262، ونكت الهميان: 287. 2 نسب قريش: 369. 3 البيان والتبيين 1: 304. 4 النقائض: 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 تسلمها العلماء الرواة من رجال القرن الثاني. ولم تكن ثمة فجوة تفصل هؤلاء الرواة العلماء عن العصر الجاهلي، وإنما تلقفوه عمن تقدمهم، وورثوه عمن سبقهم، رواية متصلة، وسلسلة محكمة، يأخذها الخلف عن السلف ويرويها الجيل بعد الجيل، حريصين عليها معنيين بها. ولم يشغلهم عن إنشاد الشعر وروايته، وذكر أخبار العرب وأيامهم ومفاخرهم ومثالبهم، في مجالسهم ومحافلهم، شاغل من حرب أو فتنة، حتى لقد رأينا المسلمين الأولين، والمشركين من كفار قريش، لا ينقطعون عن إنشاد الشعر الجاهلي واستنشاده وروايته والتمثل به وتعلمه وحفظه. فأين هذا كله من قول ابن سلام وغيره إن العرب تشاغلت عن الشعر لما جاء الإسلام "وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر". ولا نحب أن نتأول كلام ابن سلام، فألفاظه صريحة واضحة، ولكننا نحسب أنه يقصد إلى أن الرواية العلمية المنظمة، والضبط والتدقيق والتحري، وتدوين ذلك كله لم يستطع الغرب أن يتلمسوا إليه السبيل إلا بعد أن استقروا في الأمصار. فإن كان ذلك هو قصده، فلا ريب أننا لا نستطيع له دفعًا. وأما إذا كان يقصد، كما يفهم من صريح ألفاظه، مجرد رواية الشعر وإنشاده وحمله ونقله شفهيًّا، فما قدمنا من أمثلة لا يتيح لنا أن نقبل دعواه. وسنزيد الأمر بسطًا حين نتحدث في الفصل المقبل عن طبقات الرواة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الفصل الثاني: طبقات الرواة الشعراء الرواة ... الفصل الثاني: طبقات الرواة 1- الشعراء الرواة: أولى هذه الطبقات وأولاها بالتقديم طبقة الشعراء الرواة، وهم -فيما يبدو لنا- طائفتان: شعراء يروون، فيما يروون، شعر شاعر بعينه، فيحفظون هذا الشعر، ويتتلمذون للشعر، ويحتذون فيما ينظمون شعره، واعين مقلدين في بدء أمرهم، ثم يصبح التقليد طبيعة وفطرة يصدرون عنها صدورًا فنيًّا. وبذلك تكتمل لدينا سلسلة من الشعراء الرواة يكون لهم من الخصائص الفنية التي تجمع بينهم ما يتيح لنا أن نسميهم "مدرسة شعرية" كما سماها الأستاذ الدكتور طه حسين1. وطائفة ثانية من هؤلاء الشعراء الرواة يروون شعرًا لمن سبقهم ولبعض من عاصرهم من الشعراء، لا يخصون شاعرًا بعينه يتتلمذون له، وإنما يردون مناهل شتى يستقون منها ما شاء لهم الفن الشعري أن يستقوا، ثم يصدرون وقد اكتملت لهم شخصيتهم الفنية المستقلة. وقد قسم النقاد الأقدمون الشعراء طبقات أربعة، وجعلوا الطبقة الأولى المقدمة على سائر الطبقات: الشعراء الفحول، وقد عرفوا الفحول بأنهم الشعراء الرواة2. وسنعرض أمثلة قليلة لكل من الطائفتين فيها غناء عن الإكثار. فأما الطائفة الأولى، وهم الذين يتسلسلون في نسق، ويكونون مدرسة شعرية، فمن أشهرها المدرسة التي تبدأ بأوس بن حجر وتنتهي بكثير فقد كان زهير بن   1 في الأدب الجاهلي "ط. رابعة" ص297. 2 البيان والتبيين 2: 9، وانظر العمدة 1: 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 أبي سلمى راوية أوس وتلميذه1؛ ثم صار زهير أستاذًا لابنه كعب وللحطيئة2، حتى لقد قام الحطيئة لكعب بن زهير3: "قد علمتم روايتي لكم أهل البيت وانقطاعي إليكم، فلو قلت شعرًا تذكر فيه نفسك ثم تذكرني بعدك". ثم جاء هدبة بن خشرم الشاعر وتتلمذ للحطيئة وصار راويته4. ثم تتلمذ جميل بن معمر العذري لهذبه وروى شعره، ثم كان آخر من اجتمع له الشعر والرواية كثيرًا تلميذ جميل وراويته5. ولسنا في سبيل دراسة الخصائص الفنية لهذه المدرسة الشعرية6، فحسبنا هذا العرض التقريري الذي أورده النقاد الأقدمون، وأقر به بعض هؤلاء الشعراء أنفسهم. ومع ذلك فإننا سنعرض لخصيصة واحدة تجلو لنا حقيقة الصلة بين تلامذة هذه المدرسة؛ تلك هي: التأني في نظم الشعر وإعادة النظر فيه وتنقيحه، حتى لقد قال الأصمعي7: زهير والحطيئة وأشباههما من الشعراء عبيد الشعر؛ لأنهم نقحوه، ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين. وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المحكك. وكان زهير يسمي كبرى قصائده الحوليات. وذكر كعب بن زهير في شعر له هذه "العملية الفنية" في نظم الشعر8،   1 ابن سلام، طبقات فحول الشعراء: 81، وابن قتيبة، الشعر والشعراء 1: 86. ومع ذلك فإنه يروي أنه كان لزهير أستاذ آخر هو خاله بشامة بن الغدير وأن زهيرًا قد ورث شعر خاله بشامة ورواه عنه، انظر الأغاني 10: 312، والآمدي، المؤتلف والمختلف رقم 539. 2 ابن قتيبة، الشعر والشعراء 1: 93. 3 ابن سلام، طبقات فحول الشعراء: 87 وابن قتيبة، الشعر والشعراء: 106. وانظر أيضًا الأغاني 2: 165. 4 الأغاني 8: 91، ولسان العرب "رتب". 5 الأغاني 8: 91. 6 لقد فصل القول فيها الدكتور طه حسين في كتابه "في الأدب الجاهلي" انظر ص298 وما بعدها. 7 الشعر والشعراء 1: 23. 8 انظر ديوانه ص64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 فأشار إلى أنه ينتفي ألفاظه وقوافيه انتقاء، ويتنخلها تنخلًا، ويثقف شعره حتى تلين متونه ويستوي بين يديه على ما يحب. ومن هنا جاز أن تسمَّى هذه المدرسة الشعرية مدرسة الصنعة1. ولم تكن الرابطة الفنية وحدها هي التي تجمع بين بعض هؤلاء الشعراء، فقد ذكر لنا الرواة أن أوسًا كان زوج أم زهير2، وكعب هو ابن زهير. وصلة الرحم هذه التي تربط بين أفراد المدرسة الفنية الواحدة، تنقلنا إلى مدرسة أخرى: فقد كان المسيب بن علس خال الأعشى بن ميمون، وكان الأعشى راويته وكان يطرد شعره ويأخذ منه3. وكذلك كان أبو ذؤيب الهذلي راوية لساعدة بن جؤية الهذلي4 ولو تتبعنا هذه الصلة بين شعراء الجاهلية لوجدنا الكثيرين منهم ذوي رحم. ومن أشهر الأمثلة على ذلك -غير من ذكرنا- هؤلاء الثلاثة: المرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، وطرفة بن العبد. فقد كان المرقش الأكبر عم الأصغر، والأصغر عم طرفة5. وكذلك كان مهلهل خال امرئ القيس. فلعل الأمر في هؤلاء الشعراء قد جرى على ما جرى عليه الشعراء السابقون من أصحاب المدرسة الفنية الواحدة، ولعل المرقش الأصغر كان راوية عمه المرقش الأكبر، وطرفة راوية عمه المرقش الأصغر، ولعل امرأ القيس كان كذلك راوية خاله مهلهل6. والأمر بعد هذا يحتاج إلى دراسة فنية، ليس هذا مجالها، لشعر هؤلاء الشعراء حتى تنجلي لنا الأصول الشعرية التي قامت عليها كل مدرسة ومدى تأثر   1 الدكتور شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في الشعر العربي "ط. ثانية" ص13-15. 2 ابن سلام: 81. 3 الموشح: 51، والشعر والشعراء 1: 127. 4 ابن قتيبة، الشعر والشعراء: 635. 5 ابن سلام: 34، ومعجم المرزباني: 201، والأغاني 6: 136. 6 ذكر ابن رشيق في العمدة 1: 61 "مطبعة السعادة سنة 1907" أن امرأ القيس كان راوية أبي دواد الإيادي، قال: وكان امرؤ القيس يتوكأ عليه ويروي شعره". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 التلاميذ الرواة من هؤلاء الشعراء بأساتذة مدرستهم وشيوخها. والطائفة الثانية هم الشعراء الذين لم يختصوا برواية شعر شاعر بذاته يتتلمذون له، وإنما يروون لشعراء كثيرين يتتلمذون لهم جميعًا، حتى يستقيم عودهم، ويشقوا طريقهم الشعري الذي يتفردون به ويتميزون. ولهذه الطائفة من الشعراء قيمة كبيرة في بحثنا هذا، إذ أنهم جميعًا، في أمثلتنا التي سنوردها من شعراء القرن الأول الهجري، وهم جميعًا قد رووا الشعر الجاهلي وحفظوه وتمثلوا به، بل لقد نقدوه وحكموا عليه وفاضلوا بين الشعراء الجاهليين. وقد اعتمد الرواة من علماء القرن الثاني أحكام هؤلاء الشعراء الرواة وروايتهم للشعر الجاهلي وأخذوا عنهم. وبذلك يكون أولئك الشعراء الرواة الذين عاشوا في القرن الأول الهجري حلقة من السلسلة التي أشرنا إليها في الفصل الأول حين تحدثنا عن اتصال الرواية الأدبية من الشاعر الجاهلي إلى علماء القرن الثاني. فمن الشعراء الرواة في القرن الأول: الطرماح. قال محمد بن سهل راوية الكميت1: أنشدت الكميت قول الطرماح. إذا قبضت نفس الطرماح أخلقت ... عرى المجد واسترخى عنان القصائد فقال الكميت: إي والله وعنان الخطابة والرواية. والكميت بن زيد هذا كان كذلك راوية عالمًا بلغات العرب خبيرًا بأيامها ومثالبها. ويقال: ما جمع أحد من علم العرب ومناقبها ومعرفة أنسابها ما جمع الكميت؛ فمن صحح الكميت نسبه صح، ومن طعن فيه وهن. وكذلك كان رؤبة بن العجاج، فقد أخذ عنه كثير من العلماء الرواة اللغة، وكانوا كذلك يأخذون عنه رواية الشعر الجاهلي ونقده والحكم عليه.   1 البيان والتبيين 1: 46، والشعر والشعراء: 567. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 أخذ عنه يونس بن حبيب شرح قول امرئ القيس "صفر الوطاب"1. وكان يونس يأخذ عنه كذلك الغريب، فقال له رؤبة يومًا: حتى متى تسألني عن هذه الأباطيل وأزوقها لك! أما ترى الشيب قد بلع في رأسك ولحيتك؟ وروى عنه أبو عمرو بن العلاء أبياتًا لامرئ القيس فاضل بينها ونقدها2. وكان ذو الرمة راوية الراعي3، يروي شعره ويجعله إمامًا4، وكان كذلك يؤخذ عنه بعض الشعر الجاهلي، فقد أخذ عنه يونس بن حبيب قصيدة عبيد بن الأبرص الحائية التي يصف فيها المطر، وجعلها يونس، من أجل ذلك، لعبيد، وإن كان المفضل صرفها إلى أوس بن حجر5. ومما يدل على معرفة ذي الرمة بالشعر الجاهلي معرفة دقيقة، وطول نظره فيه، ما رُوي من أن حمادًا الراوية قدم على بلال بن أبي بردة البصرة، وعند بلال ذو الرمة، فأنشده حماد شعرًا مدحه به، فقال بلال لذي الرمة6: كيف ترى هذا الشعر؟ قال: جيدًا، وليس له. قال: فمن يقوله؟ قال: لا أدري إلا أنه لم يقله. فلما قضى بلال حوائج حماد وأجازه ... قال: أنت قلت ذلك الشعر؟ قال: لا. قال: فمن يقوله؟ قال: بعض شعراء الجاهلية، وهو شعر قديم وما يرويه غيري. قال: فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك؟ قال: عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام.   1 ابن سلام: 45، وبيت امرئ القيس هو: وأفلتهن علباء جريضًا ولو أدركنه صفر الوطاب 2 الموشح: 27. 3 ابن سلام: 467. 4 الموشح: 170. 5 ابن سلام: 76-77. 6 الأغاني 6: 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فإذا ما انتقلنا بعد ذلك إلى الحديث عن جرير والفرزدق، وجدنا في الحديث عنهما ما يكشف عن مدى معرفة هؤلاء الشعراء بأخبار الجاهلية وأيامها ورواية شعرها. وعرفنا شيئًا آخر ذا قيمة خاصة، وهو أن علماء القرن الثاني قد أخذوا بعض علمهم عن الجاهلية وشعرها عن هؤلاء الشعراء، وخاصة جريرًا والفرزدق. فأما جرير فقد كان جده الخطفي، واسمه حذيفة بن بدر، من القدماء العلماء بالنسب وأخبار العرب1، وكان كذلك شاعرًا وقد أدركه جرير وأخذ عنه2. وروى أبو عبيدة عن مسحل بن زيداء -وهي بنت جرير- عن أبيها جرير، أخبارًا عن أيام الجاهلية منها خبر عن يوم ذي قار3، وكذلك روى عنه نقدًا مفصلًا لشعر بعض شعراء الجاهلية4. وكان خلفاء بني أمية يسألونه عن الشعراء: الجاهليين منهم والإسلاميين، فيخبرهم بشعرهم وبنقده وأحكامه على هؤلاء الشعراء5. فمن أمثلة ما كان يقوله: إن طرفة -وقد كنى عنه بابن العشرين- أشعر الناس، وإن زهيرًا والنابغة كانا ينيران الشعر ويسديانه، وإن امرأ القيس اتخذ من الشعر نعلين يطؤهما كيف شاء ... وقد كان طلب جرير والفرزدق لأخبار الجاهلية وأنساب العرب مما يضطران إليه، ليضمناه شعرهما حين يهجوان وحين يمدحان، ولذلك قال أبو عبيدة عنهما6 "هما بئس الشيخان، ما خلق الله أشأم منهما على قومهما، إنهما أخرجا مثالب بني تميم وعيوبهم، وكانا أعلم الناس بعيوب الناس.   1 البيان والتبيين 1: 366. 2 طبقات فحول الشعراء: 319-321. 3 النقائض: 647. 4 النقائض: 1047-1048، وانظر الأغاني 8: 199-200. 5 أمالي القالي 2: 179. 6 النقائض: 1049. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 أما الفرزدق فقد تعلم الشعر وروايته وكلام العرب صغيرًا، وهذا أبوه غالب بن صعصعة حينما وفد على علي بن أبي طالب في خلافته ومعه ابنه الفرزدق قال لعلي1: قد رويته الشعر يا أمير المؤمنين وكلام العرب، ويوشك أن يكون شاعرًا مجيدًا. وقد كان بعد ذلك يطلب الأنساب والأخبار والمثالب ليضمنها شعره حتى إنه حين قدم عمر بن لجإ التيمي البصرة خرج إليه الفرزدق ومعه روايته ابن مسويه، وكان يكتب شعره، فقال الفرزدق لابن لجإ2: يا أبا حفص، إن ابن عمي شبة بن عقال كتب إلي أن بني جعفر هجوه وهو مفخم، وقد استغاث بي، ولست أعرف مثالبهم ولا ما يُهجون به. قال عمر: لكني قد طانبتهم في الحال، وسايرتهم في النجع، وحضرت معهم وبدوت. فقال الفرزدق: هاتوا لي صحيفة أكتب فيها ما أريد من ذلك. قال: فأتوه بصحيفة فكتب فيها المثالب التي هجاهم بها في القصيدة التي يقول فيها: ونبئت ذا الأهدام يعوي ودونه ... من الشأم زراعاتها وقصورها3 ويبدو أن الفرزدق كان كثير الرواية لشعر امرئ القيس حافظًا لأخباره، ويعلل العلماء كثرة روايته لشعر امرئ القيس وأخباره بأن امرأ القيس صحب عمه شرحبيل بن الحارث قبل يوم الكلاب، وكان شرحبيل مسترضعًا في بني دارم رهط الفرزدق، فلحق امرؤ القيس بعمه، فلذلك حفظ الفرزدق أخباره4. وبعض أخبار الفرزدق عن امرئ القيس متصلة إلى الجاهلية نفسها، وربما إلى عصر امرئ القيس نفسه، فالفرزدق يذكر أن جده قد حدثه بها، وجده شيخ كبير وهو يومئذ غلام حافظ لما يسمع5.   1 البغدادي، الخزانة 1: 206. 2 النقائض: 907-908. 3 ذو الأهدام: اسمه نفيع، وهو أحد بني جعفر بن كلاب. وزراعاتها: الأرض التي تزرع منها. 4 ابن قتيبة، الشعر والشعراء 1: 70-71، وجمهرت أشعار العرب: 85. 5 المصدران السابقان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وللفرزدق أحكام نقدية على الشعراء الجاهليين والمخضرمين أخذ بعضها الرواة العلماء وتناقلوها، فمن ذلك حكم الفرزدق على نابغة بني جعدة في قوله1: كان صاحب خلقان عنده مطرف بألف وخمار بواف. وقد قال الجاحظ2: إن الفرزدق راوية الناس وشاعرهم وصاحب أخبارهم. وقال يونس بن حبيب: لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس. فهل أبلغ من هذا في الدلالة على مبلغ علم الفرزدق بأيام العرب وأخبارهم وشعرهم؟ بل حسبنا أن نذكر الأبيات التالية التي قالها من قصيدته اللامية، فإن ما فيها من تعداد لشعراء الجاهلية، ولمح من أخبارهم، ونقدات سريعة لشعرهم، دال أبلغ الدلالة على معرفته بهؤلاء الشعراء وبشعرهم معرفة واضحة المعالم. قال الفرزدق3: وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا ... وأبو يزيد وذو القروح وجرول4 والفحل علقمة الذي كانت له ... حلل الملوك، كلامه لا ينحل وأخو بني قيس وهن قتلنه ... ومهلهل الشعراء ذاك الأول5 والأعشيان كلاهما ومرقش ... وأخو قضاعة قوله يتمثل وأخو بني أسدٍ عبيد إذ مضى ... وأبو دوادٍ قوله يتنحل وابنا أبي سلمى زهير وابنه ... وابن الفريعة حين جد المقول والجعفري وكان بشر قبله ... لي من قصائده الكتاب المجمل ولقد ورثت لآل أوس منطقًا ... كالسم خالط جانبيه الحنظل   1 الأغاني 5: 28 والموشح: 64. 2 البيان والتبيين 1: 322. 3 النقائض: 200-201 وديوانه ص720-721. 4 النوابغ: النابغة الذبياني والجعدي والشيباني. وأبو يزيد: المخبل السعدي. وذو القروح: امرؤ القيس. وجرول: الحطيئة. 5 أخو بني قيس: طرفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 والحارثي أخو الحماس ورثته ... صدعًا كما صدع الصفاة المعول ومما يدخل في هذا الباب قصيدة سراقة البارقي، وهو معاصر لجرير والفرزدق، ووجه الشبه بين القصيدتين في تعداد أسماء الشعراء، وذكر طرف من أخبارهم ونقد شعرهم واضح بين وقصيدة سراقة التالية تدل على أن غير جرير والفرزدق من شعراء القرن الأول قد شركوهما في العلم بشعراء الجاهلية ورواية شعرهم مما لا يبلغه إلا الرواة العلماء النقاد الدارسون لهؤلاء الشعراء وشعرهم. قال سراقة1: ولقد أصبت من القريض طريقة ... أعيت مصادرها قريب مهلهل2 بعد امرئ القيس المنوه باسمه ... أيام يهذي بالدخول فحومل وأبو دواد كان شاعر أمة ... أفلت نجومهم ولما يأفل وأبو ذؤيب قد أذل صعابه ... "لا ينصبنك" رابض لم يذلل وأرادها حسان يوم تعرضت ... بردى يصفق بالرحيق السلسل ثم ابنه من بعده فتمنعت ... وإخال أن قرينه لم يخذل وبنو أبي سلمى يقصر سعيهم ... عنا كما قصرت ذراعا جرول وأبو بصير ثم لم يبصر بها ... إذ حل من وادي القريض بمحفل واذكر لبيدًا في الفحول وحاتمًا ... سيلومك الشعراء إن لم تفعل ومعقرًا فاذكر وإن ألوى به ... ريب المنون وطائر بالأخيل وأمية البحر الذي في شعره ... حكم كوحيٍ في الزبور مفصل   1 ديوانه، تحقيق حسين نصار، ط. لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1947، ص64-71. 2 قرين الشاعر: شيطانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 واليذمري على تقادم عهده ... ممن قضيت له قضاء الفيصل واقذف أبا الطمحان وسط خوانهم ... وابن الطرامة شاعر لم يجهل لا والذي حجت قريش بيته ... لو شئت إذ حدثتكم لم آتل ما نال بحري منهم من شاعر ... ممن سمعت به ولا مستعجل1   1 مستعجل: كذا في ديوانه المطبوع، ولا أعلم لها وجهًا، وقد وقف عندها محقق الديوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 2- رواة القبيلة : وقد سبق لنا قول مفصل عن قيمة الشعر الجاهلي وخطره للقبيلة1؛ إذ هو ديوان أمجادها وأحسابها، وسجل مآثرها ومفاخرها، ومستودع آدابها وأنسابها وأخبارها. وأشرنا إلى عناية القبيلة بمدح الشعراء، وحرصها على إكرامهم واستمالتهم وذكرنا كيف كانت القبيلة تحتفي إذا نبغ فيها شاعر: فتصنع الأطعمة، وتجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعن في الأعراس، وتأتي القبائل فتهنئها2. ودللنا على مبلغ عناية القبيلة بالشعر بأن بني تغلب كانوا يعظمون قصيدة عمرو بن كلثوم المعلقة، وكان يرويها صغارهم وكبارهم حتى هجوا بذلك، فقال بعض شعراء بكر بن وائل3: ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم يروونها أبدًا مذ كان أولهم ... يا للرجال لشعر غير مسئوم   1 انظر الباب الثاني، الفصل الأول، فقرة "1". 2 ابن رشيق، العمدة 1: 49. 3 الأغاني "دار الكتب" 11: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ولذلك كانت القبيلة مصدرًا من مصادر شعر شعرائها، ومصدرًا من مصادر الشعر الذي يمدحها به شعراء القبائل الأخرى. ومن أجل ذلك أخذ العلماء الرواة في القرن الثاني بعد شعر الجاهلية من هذه القبائل، ومما يرويه رواة منها من شعر شعرائها. وسنسرد بعض الأمثلة على رواية أفراد من القبيلة لشعر شعرائها، مبتدئين بعصر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ومنتهين بآخر القرن الثاني. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما أراد أن يسمع بعض شعر أمية بن أبي الصلت الثقفي، استنشد رجلًا من ثقيف، قبيلة الشاعر، هو الشريد بن سويد الثقفي، فأنشده مائة بيت1. وحينما أراد عبد الملك بن مروان أن يسأل عن ذي الإصبع العدواني وأخباره ونسبه، وحينما أراد أن يسمع من ينشده قصيدته "عذير الحي من عدوان.." سأل في كل ذلك رجلًا من جديلة، وعدوان قبيلة ذي الإصبع بطن من جديلة فلما أجاب الرجل عن كل ذلك قال له عبد الملك2: "ادن مني، فإني أراك بقومك عالمًا". وكذلك روى خراش بن إسماعيل عن رجل من بني تغلب ثم من بني عتاب خبرًا عن بنت مهلهل وابنها عمرو بن كلثوم، وعمرو بن كلثوم من تغلب3. ويروي ابن الكلبي بعض أخبار حاتم عن أفراد قبيلته طيئ فيقول4: "حدثني الطائيون ... " وحينما دخل ثمامة بن الوليد على المنصور، قال له المنصور5: يا ثمامة، أتحفظ حديث ابن عمك عروة الصعاليك بن الورد العبسي؟ فقال: أي حديثه   1 ابن سعد 5: 376، وانظر المزهر 2: 309، والخزانة 1: 227. 2 الأعاني 3: 91-93. 3 الأغاني "دار الكتب" 11: 52. 4 ديوان حاتم "ط. لندن" ص30. 5 الأغاني 3: 83-85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 يا أمير المؤمنين؟ فقد كان كثير الحديث حسنه. فلما ذكر له المنصور الحديث قال ثمامة: إن له عندنا أحاديث كثيرة ما سمعنا له بحديث هو أظرف من هذا. وإذا رجعنا إلى كتاب واحد من كتب الأدب العامة هو كتاب "المعمرين من العرب" لأبي حاتم السجستاني، وجدنا كثيرًا من أخباره مرويةً عن أشياخ من قبيلة المعمر الذي يترجم له، فزهير بن جناب من كلب ولذلك قال1: "حدثنا أبو حاتم قال -وقال العمري- أخبرني محمد بن زياد الكلبي عن أشياخه من كلب قالوا: ... " وقال أيضًا2: "حدثنا أبو حاتم قال: وزعم هشام بن محمد عن أبيه محمد بن السائب قال: سمعت أشياخنا الكلبيين يقولون.."، وشريح بن هانئ من بني الحارث بن كعب، ولذلك أورد بعض أخباره عن3 "ابن الكلبي عن أبي مخنف قال: أخبرنا أشياخنا من بني الحارث قالوا ... " وشرية بن عبد جعفي، فأورد بعض أخباره عن4 "ابن الكلبي قال: سمعت أبا بكر بن قيس الجعفي يذكر عن أشياخه". ويورد بعض أخبار ثعلبة بن كعب الأوسي عن5 "ابن الكلبي عن عبد الحميد بن أبي عبس الأنصاري عن أشياخ قومه". ويورد بعض أخبار طيئ بن أدد عن6 "هشام أنه سمع أشياخًا من طيئ يذكرون ذلك.." ويروي بعض أخبار هاجر بن عبد العزى عن أحد أفراد قبيلته خزاعة هو: طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي7. وكذلك يروي بعض أخبار جليلة بن كعب عن بعض   1 كتاب المعمرين: 25. 2 ص28. 3 ص38 رقم: 36. 4 ص39 رقم 37. 5 ص71-72 رقم 73. 6 ص72 رقم 74. 7 ص73رقم 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 أفراد قبيلته بني جعفي هو: الوليد بن عبد الله الجعفي1. ويروي أخبار كعب بن رداة النخعي عن بعض النخعيين2. ويروي بعض أخبار حارثة بن عبيد الكلبي عن: شملة بن مغيث وهو رجل من ولد حارثة3. ويروي بعض أخبار القدار العنزي عن4: خراش قال: حدثني به قوم من عنزة. ومع ذلك فقد كان بعض أفراد القبائل يجهلون أخبار شعرائهم؛ وليس في الأمر ما يستغرب، فليس كل القبيلة معنيًّا بذلك، وإنما العناية بهذا الضرب من العلم مما تغني فيه معرفة طائفة دون أخرى؛ غير أن ابن فارس يقول5 -ولعل في قوله هذا استنكارًا واستهجانًا-: "سمعت أبي يقول: حججت فلقيت بمكة ناسًا من هذيل، فجاريتهم في ذكر شعرائهم، فما عرفوا واحدًا منهم، ولكني رأيت أمثل الجماعة رجلًا فصيحًا وأنشدني ... " ثم يذكر أبياتًا. فإذا كان أفراد القبيلة يعنون هذه العناية برواية شعر شعرائها، فما بالك بأولاد الشاعر صليبةً؟ لقد كان ابن الشاعر يروي شعر أبيه حتى لقد قال الراعي:6 من لم يروِ من أولادي هذه القصيدة "قصيدته اللامية" وقصيدتي التي أولها: بان الأحبة بالعهد الذي عهدوا ... ....................................... فقد عقني. وكثير من أبناء الشعراء الجاهليين عاشوا في الإسلام7، وبعضهم عمر   1 ص73 رقم 77. 2 ص73 رقم 78. 3 ص74-75، رقم 81. 4 ص76 رقم 84 وانظر كذلك رقم 85، 880. 5 مقدمة الصاحبي، ص: ب, جـ 6 البغدادي، الخزانة 3: 131. 7 من أمثلة ذلك: ابن عبيد بن الأبرص الأسدي، وقد روى عن علي بن أبي طالب "ابن سعد 6: 164" وعلي بن علقمة بن عبدة "الإصابة 5: 112"، والقاسم بن أمية بن أبي الصلت الثقفي "معجم المرزباني: 332"، وحية بنت وهب بن أمية بن أبي الصلت تزوجها عبد الله بن صفوان "نسب قريش: 390"، وعبد الرحمن بن حسان بن ثابت وابنه سعيد بن عبد الرحمن "معجم المرزباني: 366"، وكعب بن زهير بن أبي سلمى وابنه عقبة بن كعب "الشعر والشعراء 1: 92"، ومكنف وحريث ابنا زيد الخيل بن مهلهل وقد شهدا قتال الردة "الشعر والشعراء 1: 244"، وإبراهيم وداود ابنا متمم بن نويرة. ووفد إبراهيم على عبد الملك بن مزوان "الشعر والشعراء 1: 298" وابن المتلمس، كان اسمه عبد المنان أدرك الإسلام "الأغاني: ساسي 21: 122". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 طويلًا؛ وقد وفد بعضهم على خلفاء بني أمية فاستنشدوهم شعر آبائهم، وأخذ العلماء الرواة بعض هذا الشعر عنهم. فمن أمثلة ذلك: أن معاوية بن أبي سفيان حج فرأى شيخًا يصلي في المسجد الحرام، فسأل عنه فقالوا1: سعية بن غريض. فاستدعاه، في حديث طويل، ثم قال له: أنشدني شعر أبيك يرثي به نفسه "أي شعر السموءل" فقال: قال أبي: يا ليت شعري حين أندب هالكًا ... ماذا توبنني به أنواحي أيقلن: لا تبعد قرب كريهة ... فرجتها بشجاعةٍ وسماح وهي خمسة أبيات: ويُروى أن عدي بن حاتم الطائي عاش مائة وثمانين سنة2، وقد رووا عنه بعض أخبار أبيه حاتم3. ودخل إبراهيم بن متمم بن نويرة على عبد الملك بن مروان، فرأى فيه عقلًا وفضلًا، فقال له: أنشدنا بعض مراثي أبيك عمك. فأنشده4: نعم الفوارس يوم نشبة غادروا ... تحت التراب قتيلك ابن الأزور حتى انتهى إلى قوله:   1 الأغاني 3: 130-131. 2 المعمرين: 36. 3 ديوان حاتم "ط. لندن". 31. 4 الموشح المرزباني: 240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 أدعوته بالله ثم قتلته ... لو هو دعاك بمثلها لم يغدر وأخذ الرواة العلماء متمم بن نويرة عن حفيده ابن داود بن متمم، قال ابن سلام1: أخبرني أبو عبيدة أن ابن داود بن متمم بن نويرة قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي في الجلب والميرة، فنزل النحيت، فأتيته أنا وابن نوح العطاردي، فسألناه عن شعر أبيه متمم وقمنا له بحاجته وكفيناه ضيعته. فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويضعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله. وذكر الأصمعي أن حماد بن ربيعة بن النمر بن تولب قد روى2: أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... أوص بدعد من يهيم بها بعدي ونسبه إلى جده النمر بن تولب مع أن الناس يروون البيت لنصيب. ودخل ابن أبي محجن الثقفي على معاوية فقال له معاوية3: أبوك الذي يقول: إذا مت فادفني إلى جنب كرمةٍ ... تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها فقال ابن أبي محجن: لو شئت ذكرت أحسن من هذا من شعره قال: وما ذاك؟ قال: قوله: لا تسألي الناس ما مالي وكثرته ... وسائلي القوم ما حزمي وما خلقي القوم أعلم أني من سراتهم ... إذا تطيش يد الرعديدة الفرق   1 طبقات فحول الشعراء: 40. 2 الشعر والشعراء 1: 269. 3 الشعر والشعراء 1: 388. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 قد أركب الهول مسدولًا عساكره ... وأكتم السر فيه ضربة العنق ووفد على عبد الملك وفد أهل الكوفة، فلما دخلوا عليه وكلمهم رأى فيهم رجلًا آدم طويلًا، فكلمه فأعجبه بيانه، فلما تولى تمثل عبد الملك بقول عمرو بن شأس1: وإن عرارًا إن يكن غير واضحٍ ... فإني أحب الجون ذا المنكب العمم فالتفت الآدم إلى عبد الملك فضحك؛ فقال عبد الملك: علي به. فلما جيء به قال: ما أضحكك؟ قال: أنا يا أمير المؤمنين عرار! فأقعده وقدمه وسامره. وقد أخذ العلماء بعض شعر تميم بن أبي بن مقبل عن ابنته أم شريك، بل إنهم رووا عنها تفسيرها لكلمات في شعره2. وقد روى العلماء شعرًا لعمرو بن العاص، قال الواقدي3: أخبرني ابن أبي الزناد أنه سمع ذلك من ابن ابن ابنه: عمرو بن شعيب بن عبد الله بن عمرو يذكره لجده. ولا سبيل إلى الإطالة في إيراد الأمثلة فحسبنا ما قدمنا فإن فيه لغناء.   1 الشعر والشعراء 1: 388، وانظر معجم المرزباني: 212-213. 2 البكري، معجم ما استعجم "أذرع" 1: 131. 3 الأغاني 9: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 3- رواة الشاعر : وقد كان لبعض الشعراء، وخاصة الفحول منهم، راوٍ أو رواة، يصحبونهم ويلازمونهم في حلهم وترحالهم، ويحفظون شعرهم ويروونه وينشدونه في المجالس والمحافل. وقد جرى أمر الشعراء ورواتهم في العصور الإسلامية على ما جرى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 في الجاهلية. فقد كان للفرزدق رواة أحدهم رجل من بني ربيعة بن مالك -وهم الذين يقال لهم ربيعة الجوع- ويبدو أن هذا الراوية كان يروي عامة شعر الفرزدق، بينما كان راوية آخر لا يروي من شعر الفرزدق إلا ما كان هجاء أو نقضًا لقصائد جرير وغيره من الشعراء، وكان اسم هذا الراوية عبيدًا وهو أحد بني ربيعة بن حنضة1. وبقي لنا من أسماء رواة جرير اسم واحد هو الحسين، وكان يكتب شعر جرير، وروى عنه العلماء بعض أخباره2. وكان السائب بن ذكوان راوية كثير عزة3. وأما راوية الكميت بن زيد الأسدي فهو محمد بن سهل4. وكان كذلك للأحوص راويته5، ولذي الرمة راويته6. وربما اجتمع بعض هؤلاء الرواة يتناشدون أشعار شعرائهم ويتفاخرون بها، كما حدث حين اجتمع بالمدينة راوية جرير، وراوية نصيب، وراوية كثير، وراوية جميل، وراوية الأحوص، وادعى كل رجل منهم أن صاحبه أشعر7. ولسنا في حل من الإسهاب في الحديث عن هؤلاء الرواة في العصر الأموي، فأخبارهم مستفيضة، وهي موجودة في مظانها التي أشرنا إليها. وإنما ذكرناهم هذا الذكر العابر العارض، لنستأنس به على أن رواة الشاعر كان أمرًا موروثًا وعادةً موصولةً منذ الجاهلية، وإن كان كتب الأدب العربي وتاريخه تسعفنا بوفرة من الأخبار عن العصور الإسلامية ثم تشح كلما استعنَّا بها في العصر الجاهلي. ومع ذلك فقد بقي لنا من أسماء رواة الشعراء الجاهليين اسم راوية الأعشى، أو أسماء ثلاثة من رواته. أول هذه الأسماء: عبيد "وكان عبيد هذا يصحب   1 النقائض: 1049، والموشح: 106-107. 2 النقائض: 430. 3 الأغاني 9: 224، والموشح: 150, 151. 4 الأغاني 2: 412, 417، والموشح: 193، 195. 5 الأغاني 4: 241-242. 6 الموشح: 184. 7 الموشح: 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الأعشى ويروي شعره، وكان عالمًا بالإبل، وله يقول الأعشى في ذكر الناقة: لم تعطف على حوارٍ ولم يقـ ... ـطع عبيد عروقها من خمال1" وقد روى عبيد هذا عن الأعشى نفسه خبر قدومه على النعمان وإنشاده بين يديه بعض شعره2. وروى أيضًا أنه سأله3: ماذا أردت بقولك: ومدامة مما تعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها فقال الأعشى: شربتها حمراء، وبلتها بيضاء [فسلبتها لونها] 4. وقد ذكر أبو الفرج اسمًا ثانيًا لراوية الأعشى وهو: يحيى بن متى، وقال عنه إنه5 كان نصرانيًّا عباديًّا وكان معمرًا. قال: كان الأعشى قدريًّا وكان لبيد مثبتًا. قال لبيد: من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل وقال الأعشى: استأثر الله بالوفاء وبالـ ... عدل وولى الملامة الرجلا وحين سئل من أين أخذ الأعشى مذهبه، أجاب: "من قبل العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك". أما الجواليقي في المعرب فقد ذكر اسمًا ثالثًا لراوية الأعشى هو6: يونس بن متى. ثم يورد الخبر الذي أوردناه آنفًا والذي سأل فيه هذا الراوية الأعشى عن معنى قوله: "سلبتها جريالها".   1 الشعر والشعراء 1: 216. الحوار: ولد الناقة. والخمال: داء يصيب القوائم. 2 المصدر السابق 1: 215. 3 المصدر السابق 1: 215-216. 4 الزيادة بين المعكفين من الجواليقي، المعرب "ط. ليبسك" ص46. 5 الأغاني 9: 112، وقد ذكره أبو الفرج في موطن آخر "الآغاني، ساسي 21: 126" باسم: عبيد. 6 المعرب ص46، وانظر أيضًا البغدادي، الخزانة "سلفية" 4: 197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فنحن إذن أمام ثلاثة أسماء؛ فهل هي لثلاثة رواة مختلفين، أو أنه راوية واحد وأخطأ القدماء في اسمه1؟ أما نحن فنذهب إلى أن الأسماء الثلاثة كلها صواب، ولكنها إنما تدل على رجل واحد لا ثلاثة رجال. وليس بين أيدينا الدليل القاطع، وإنما ثمة أمران نستأنس بهما فيكون من ذلك ترجيح ما ذهبنا إليه. الأمر الأول أن الراوية الذي يروي عن هذا الراوية -راوية الأعشى- واحد في جميع الروايات وهو سماك بن حرب2. فابن قتيبة يروي عن: ... حماد الراوية قال: حدثني سماك عن عبيد راوية الأعشى؛ ثم يقول في موطن آخر: وحدثني الرياشي عن مؤرج عن شعبة عن سماك عن عبيد راوية الأعشى؛ وأبو الفرج يروي عن رجاله عن: أبان بن تغلب عن سماك بن حرب قال: قال لي يحيى بن متى راوية الأعشى. ويقول الجواليقي: رُوي عن الأصمعي عن شعبة عن سماك بن حرب عن يونس بن متى راوية الأعشى. فسماك بن حرب هو وحده الراوية الذي يروي عن راوية الأعشى الذي يدعى حينًا عبيدًا، وحينًا آخر يحيى، وحينًا ثالثًا يونس. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الخبر الذي يورده ابن قتيبة مرويًّا عن: الرياشي مؤرج عن شعبة عن سماك عن عبيد راوية الأعشى، هو الخبر نفسه الذي يورده الجواليقي مرويًّا عن الأصمعي عن شعبة عن سماك بن حرب عن يونس بن متى راوية الأعشى، وهو سؤاله إياه عن معنى قوله "سلبتها جريالها" وتكاد ألفاظ الروايتين تكون واحدة إذا أضفنا هذا إلى ذلك رجحنا أن راوية الأعشى هو رجل واحد وليس ثلاثة رجال.   1 ذهب الأستاذ أحمد محمد شاكر في تحقيقه لكتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة "ص216 هامش: 1" إلى أن الجواليقي أخطأ في اسم راوية الأعشى حينما ذكر أنه يونس بن متى. 2 ترجمته في القفطي، إنباه الرواة على أنباه النحاة 2: 65 وانظر تخريج ترجمته هناك في الحاشية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فكيف اختلفت الأسماء إذن؟ لقد كان هذا الراوية عباديًّا من نصارى الحيرة، فالغالب على ظننا أن يكون اسمه في أصله: يوهانس أو يوحانس، ثم مر هذا الاسم عند العرب في طورين؛ الأول: الترجمة؛ والثاني: التعريب. ففي الطور الأول ترجموا معنى اسمه الذي يدل على العبودية للخالق فجعلوه في العربية: عبيدًا. وأما طور التعريب فقد مر أيضًا في مرحلتين، الأولى: مرحلة حرفية لا تتغير عن الأصل كثيرًا، فعربوا يوهانس وجعلوه: يونس. وأما المرحلة الثانية فقد كانت مرحلة غير مباشرة، وذلك أن يوحنا هو طور من أطوار هذا الاسم: يوحانس، فجاء العرب فعربوا يوحنا وجعلوه يحيى. فنحن إذن نرجح، لما فصلناه من وجوه الرأي، أن هذه الأسماء الثلاثة، المختلفة في ظاهرها، ليست إلا اسمًا واحدًا في حقيقتها، يدل على راوية واحد بعينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 4- رواة مصلحون للشعر : وليس هؤلاء الرواة -فيما يبدو لنا- طبقة خاصة قائمة بذاتها. فلم يكن من بين الرواة من نصب نفسه لإصلاح الشعر واختص بهذا الأمر واقتصر عليه. فقد يكون هؤلاء الرواة المصلحون للشعر: من الشعراء الرواة، أو من رواة القبيلة، أو من رواة الشاعر -وقد تحدثنا عنهم جميعًا- وقد يكونون من الرواة العلماء الذين سنتحدث عنهم بعد قليل. غير أن إصلاح الشعر موضوع قائم بذاته، ومن هنا كان إفرادنا إياه في طبقة خاصة توضيحًا للأمر وتفصيلًا لأقسامه. وأول ما استرعى انتباهنا أننا رأينا رواة في القرن الأول يصلحون بعض الشعر الأموي؛ فمن ذلك أن شيخًا من هذيل -كان خالًا للفرزدق- دخل على رواة الفرزدق فوجدهم "يعدلون ما انحرف من شعره"، ولما جاء رواة جرير وجدهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 كذلك "يقومون ما انحرف من شعره وما فيه من السناد"1. ووجدنا الرواة يقولون2: أخطأ ذو الرمة حيث يقول: قلائص ما تنفك إلا مناخة ... على الخسف أو نرمى بها بلدًا قفرًا ومن أجل ذلك غيره بعض الرواة "ممن يريد أن يحسن قوله" فجعلوه: آلًا مناخة. وقالوا: إنما قاله ذو الرمة على هذا. وكان إسحاق الموصلي ينشده: آلًا، ويقول: نحتال لصوابه3. وقال الأصمعي4: قرأت على خلف شعر جرير فلما بلغت قوله: فيا لك يومًا خيره قبل شره ... تغيب واشيه وأقصر عاذله فقال خلف: ويله، وما ينفعه خير يؤول إلى شر؟ فقال الأصمعي له: هكذا قرأته على أبي عمرو. فقال: صدقت وكذا قاله جرير، وكان قليل التنقيح مشرد الألفاظ، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلا كما سمع. فقال الأصمعي: فكيف كان يجب أن يقول؟ قال: الأجود له لو قال: فيا لك يومًا خيره دون شره. فاروه هكذا، فقد كانت الرواة قديمًا تصلح من أشعار القدماء. فقال له الأصمعي: والله لا أرويه بعد هذا إلا هكذا. فخلف إذن يعلم أن الرواة كانوا قديمًا يصلحون من أشعار القدماء! وهو في أثناء حديثه يسوغ هذا الإصلاح إذا كان الشاعر "قليل التنقيح مشرد الألفاظ". ومن هنا كان من العسير على الرواة، فيما يبدو، أن يجدوا في شعر شاعر يتروى في شعره، وينقحه ويهذبه، كزهير مثلًا، ما يصلحونه له. ولذلك نرى من   1 الأغاني 4: 258. 2 الموشح: 184. 3 الموشح: 182. 4 الموشح: 125، وانظر أيضًا العمدة 2: 192-193 ورد ابن رشيق على هذا التصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الأمثلة التي سنوردها أنها تدور على إصلاح شعر امرئ القيس وعدي ولبيد. فقد قال امرؤ القيس1: فلو أنها نفس تموت سويةً ... ولكنها نفس تساقط أنفسَا وقد وجد الرواة أن "سوية" لا تقابل "تساقط أنفسَا" ومن هنا أرادوا أن يعدلوا عن هذا العيب، عيب فساد المقابلات، فغيروه، وأبدلوا مكان "سوية" "جميعةً" لأنها في مقابلة "تساقط أنفسا" أليق من "سوية". وكذلك قال امرؤ القيس2: فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثمًا من الله ولا واغل فقالوا: "قد حذف الشاعر الإعراب، وليس بالحسن". وذهبوا إلى أنه يريد "أشرب" فحذف الضمة؛ ولذلك غيروه، فجعله بعضهم "فاليوم فاشرب" بصيغة الأمر. وقال امرؤ القيس أيضًا ينوح على أبيه3: رب رامٍ من بني ثعل ... مخرج زنديه من ستره4. فلما أنشد الأصمعي البيت قال: أما علم أن الصائد أشد ختلًا من أن يظهر شيئًا منه؟ ثم قال "فكفيه" -إن كان لا بد- أصلح. قال المازني: فالأصمعي أصلحه: كفيه. وقال عدي بن زيد العبادي5:   1 المرزباني، الموشح: 85. 2 المصدر السابق: 95. 3 المصدر السابق: 28. 4 في رواية: متلج كفيه؛ أي: مدخل. 5 المصدر السابق: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ففاجأها وقد جمعت جموعًا ... على أبواب حصنٍ مصلتينا1 فقدمت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذبًا ومينا وهذه هي الرواية الأولى، ولكن في قوله "مينًا" سنادًا، ولذلك أراد المفضل الضبي أن يفر من هذا السناد فغيرها وجعلها "كذبًا مبينًا". وقال لبيد2: أو مذهب جدد على ألواحه ... ألناطق المبروز والمختوم والكلمة الأولى من عجز البيت ألفها ألف وصل، ولكنها في هذه الرواية قطعت "فعدل عن ذلك بعض الرواة استيحاشًا من قطع ألف الوصل"، فغيروه، وجعلوه: " .... على ألواحه ... ن الناطق .... " وقال ابن مقبل3: "إني لأرسل البيوت عوجًا فتأتي الرواة بها قد أقامتها".   1 يذكر خبر الزباء وغدرها بجذيمة الأبرش. الأديم: النطع. راهشيه: عرق جذيمة الأبرش. 2 لسان العرب "ذهب". 3 مجالس ثعلب: 481. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 5- رواة وضاعون : ومجال الحديث عن الوضع والنحل ذو سعة، سنفرده في بحث خاص ونفصل القول فيه في الباب التالي. غير أننا سنشير هنا إلى بعض الموضوعات التي كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 يكثر فيها وضع الشعر الجاهلي ونحله، ثم نورد عليها أمثلة من الرواة الوضاعين ومن الشعر الموضوع. وربما كان أوسع موضوع وجد فيه الرواة الوضاعون مجالًا فسيحًا للوضع والنحل هو القصص وأحاديث السمر. وقد كان خلفاء بني أمية وبني مروان، وخاصةً معاوية وعبد الملك، يعقدون مجالس خاصة للسمر والقصص. وقد مر بنا أن معاوية كان يستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها ... وأنه كان له غلمان مرتبون يقرءون عليه الأخبار والسير والآثار من دفاتر، وكلوا بحفظها وقراءتها1. وكان أيضًا من محدثي معاوية وقصاصيه: النخار بن أوس، ولم يكتف معاوية به بل أمره ذات ليلة أن يبغيه محدثًا غيره. فلما قال له النخار: ومعي يا أمير المؤمنين تريد محدثًًًا؟ أجابه معاوية: نعم، أستريح منك إليه ومنه إليك2. ولما رأى عمرو بن العاص شغف معاوية بالمسامرة وأحاديث مَنْ مضى أشار عليه باستدعاء عبيد بن شرية الجرهمي من الرقة، وقال له إن عبيدًا من بقايا من مضى، وإنه أدرك ملوك الجاهلية، وهو أعلم من بقي آنذاك في أحاديث العرب وأنسابها، وأوصفهم لما مر عليه من تصاريف الدهر. فاستدعاه معاوية، فصار عبيد في وقت السمر سمير معاوية في خاصته من أهل بيته. ثم أمر معاوية أهل ديوانه وكتابه أن يوقعوا هذه المجالس وأحاديثها ويدونوها في الكتب3. ولم يكن القصص والسمر وقفًا على بلاط الخلفاء الأمويين، بل شاعت عند جمهور العامة، وانتشر القصاص في المساجد يخلطون الوعظ بالقصص والأحاديث وأخبار من مضى من العرب وغيرها من الأمم، يسوقونها للعظة والعبرة وللتسلية والسمر معًا. وأخبار هؤلاء القصاص في مساجد الأمصار كثيرة مبثوثة في مظانها4. إنما يعنينا أن نشير إلى أمرين، الأول: أن المتصدرين في المساجد والتبيين في مواطن متفرقة كثيرة في الجزء الأول، منها من ص367 إلى 369؛ وابن قتيبة، المعارف: 202 وغيرها.   1 المسعودي، مروج الذهب 2: 52. 2 البيان والتبيين 1: 333. 3 أخبار عبيد بن شرية: 312-313. 4 انظر مثلًا: ابن سعد 6: 180، 200، 7/ 1: 121، 7/ 2: 39. والبيان = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 لتفسير القرآن الكريم كانوا آنذاك يستطردون في تفسيرهم إلى ذكر أخبار العرب في الجاهلية. وأخبار سائر الأمم في قصص وأحاديث. فقد كان أبو علي الأسواري مثلًا يقص في البصرة في مسجد موسى بن سيار الأسواري ستًّا وثلاثين سنة "فابتدأ لهم في تفسير سورة البقرة فما ختم القرآن حتى مات؛ لأنه كان حافظًا للسير، ولوجوه التأويلات، فكان ربما فسر آية واحدة في عدة أسابيع كأن الآية ذُكِرَ فيها يوم بدر، وكان هو يحفظ مما يجوز أن يلحق في ذلك من الأحاديث كثيرًا. وكان يقص في فنون من القصص ويجعل للقرآن نصيبًا من ذلك1". والأمر الثاني أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يكتفون بذكر الأخبار مجردة، وإنما كانوا يتمثلون في وعظهم، ويستشهدون على قصصهم، بشعر جاهلي2. ويبدو أن هؤلاء القصاص قد بدءوا قصصهم من عهد مبكر إذ يُذكر أن أول من قص كان الأسود بن سريع التميمي، وكان من الصحابة، وكان يقول في قصصه في الميت3: فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيَا فسرقه الفرزدق! ولو وقفنا قليلًا عند أخبار عبيد بن شرية التي ذكرنا أنه ألقاها في مجالس معاوية وسمره، لوجدنا فيها كثيرًا من الشعر الجاهلي. بعضه صحيح منسوب إلى   1 البيان والتبيين 1: 368-369. 2 انظر مثلًا البيان والتبيين 1: 119، ففيه أن صالحًا المري تمثل في قصصه بالبيت: فبات يروي أصول الفسيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل وتمثل الحسن في قصصه بشعر لعدي بن الرعلاء الغساني، وتمثل عبد الصمد بن الفضل الرقاشي بأبيات للأسود بن يعفر. 3 المعارف "أوربا": 276، والبيان والتبيين: 367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 شعراء معروفين، وهو محفوظ في دواوينهم1. ولكن بعضه الآخر موضوع منحول لا شك في وضعه ونحله، من مثل الشعر الذي نسبه إلى يعرب بن قطحان2، وإلى عاد بن عوص3، وإلى ثمود وأخيه جديس4، وإلى عمليق وأخيه طسم5، وإلى حفدة عمليق وجديس6. ومن مثل الشعر الذي قيل في وفد عاد إلى مكة حينما ذهبوا يستسقون7، وما قاله لقمان في نسوره السبعة8. والأمثلة على ذلك كثيرة، وهو كله شعر غث بارد وضع وضعًا لتزيين هذه القصص والخرافات. ويبدو أن هذا الشعر كان يكسب تلك القصص شيئًا من القيمة في نفوس السامعين فيصبح موضع ثقتهم وتصديقهم، بل لقد كان معاوية -فيما يورد كتاب أخبار عبيد- يسأل عبيدًا: هل قيل في بعض تلك الأخبار والقصص شعر؟ 9. وإذا كان وضع الشعر ونحله في مثل هذه القصص والخرافات أمرًا لا غرابة فيه، فإن العجب أن تصبح هذه القصص وما قيل فيها من شعر منحول مادةً تاريخية تضمنها كتب السير والمغازي والتاريخ. ومن أجل ذلك تصدى الرواة العلماء لهذه الأشعار في الكتب التاريخية ونبهوا على زيفها ونحلها. فنحن نجد في كتاب السيرة لابن إسحاق كثيرًا من هذا الشعر المنحول الموضوع -على كثرة ما فيه أيضًا من الشعر الصحيح الثابت عند العلماء والرواة- فاستدركه عليه ابن   1 مثل العباس بن مرداس، وأعشى بني وائل، وحسان بن ثابت، وأمية بن أبي الصلت، وامرئ القيس، وعبيد بن الأبرص، والنابغة الذبياني، انظر لذلك: حسين نصار. نشأة التدوين التاريخي ص19. 2 أخبار عبيد ص316. 3 ص317. 4 ص318. 5 ص318-319. 6 ص320. 7 ص341-353. 8 ص356-366. 9 انظر مثلًا ص327، ص335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 هشام، وأسقط كثيرًا منه وبيَّن زيفه، وذكر نقد العلماء له. وقد نبه ابن إسحاق نفسه على ذلك، فاعتذر عن إيراد مثل هذا الشعر المنحول بقوله1: "لا علم لي بالشعر، أُوتَى به فأحمله". وقد عقب ابن سلام على ذلك بقوله2: "ولم يكن له ذلك عذرًا، فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلًا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقوافٍ. أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف من السنين، والله تبارك وتعالى يقول: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي لا بقية لهم. وقال أيضًا: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} وقال في عاد: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَة} وقال: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} وقال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} . ونقد ابن النديم ابن إسحاق أيضًا فقال3 "ويقال: كان يُعمل له الأشعار ويؤتَى بها ويُسأل أن يدخلها في كتاب السيرة، فيفعل، فضمن كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر". وكذلك فعل الواقدي في مغازيه، فقد أدخل فيها بعض الشعر الموضوع، وإن كان نبه على وضعه في مواطن من كتابه، فقد ذكر أن عباد بن بشر قال في مقتل كعب بن الأشرف قصيدة عدتها ثلاثة عشر بيتًا أولها4: صرخت به فلم يحفل لصوتي ... وأوفى طالعًا من فوق قصر فعدت، فقال: من هذا المنادي ... فقلت: أخوك عباد بن بشر فقال محمد أسرع إلينا ... فقد جئنا لتشكرنا وتقري   1 طبقات فحول الشعراء: 9. 2 المصدر السابق. 3 الفهرست: 136. 4 المغازي: 149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وهي -في رأينا- أبيات غثة مرذولة لا شعر فيها؛ وهذا الأسلوب القصصي أشبه بأسلوب شاعر الربابة الذي يعدد الحوادث تعدادًا منغمًا على أسلوب خاص. وقد ذكر الواقدي بعد أن أوردها أن ابن أبي حبيبة قال: أنا رأيت قائل هذا الشعر. فقال ابن أبي الزناد: لولا قول ابن أبي حبيبة لظننت أنها ثبت!! ونحن لا نقصد إلى أن نستقصي جميع الموضوعات التي كانت مجالًا للوضع والنحل، ولكننا نشير إلى موضوع آخر غير القصص وأحاديث السمر، وهو: الأنساب. وللنسب عند العربي قيمة وخطر، ولذلك كان حريصًا على كل ما يثبت أنه عربي صريح أو أنه من القبيلة التي ينتسب إليها حقًّا. وكان بعض الرواة يتقربون إلى ذوي السلطان أو ذوي المال بوضع شعر منحول فيه إشارات إلى نسبهم. فمن ذلك أن قضاعة من معد، ولكنها انتسبت إلى حمير، وزوروا في ذلك شعرًا فقالوا1: يا أيها الداعي ادعنا وأبشر ... وكن قضاعيًّا ولا تنزر قضاعة بن مالك بن حمير ... النسب المعروف غير المنكر. ومن ذلك أيضًا أنهم صنعوا أبياتًا يذكرون فيها نسب جذام ولخم وعاملة، ونحلوها أبا سمال الأسدي، وهي2: أبلغ جذامًا ولخمًا إن عرضت بهم ... والقوم ينفعهم علمًا إذا علموا والقوم عاملة الأثرين قل لهم ... قولًا ستبلغه الوساجة الرسم لأنتم في صميم الحق إخوتنا ... إذ يُخلق الماء في الأرحام والنسم لم أر مثل الذي يأتون جاء به ... قوم يذر على مختومهم خمم   1 أبو عبد الله المصعب الزبيري، نسب قريش: 5. 2 المصدر السابق: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وقد عقب أبو عبد الله المصعب الزبيري بعد أن أورد هذه الأبيات بقوله: "وقال بعض من يعلم: لما قدم خالد بن عبد الله القسري أميرًا على العراق، ومعه قوم من جند الشأم، فيهم من لخم وجذام، فأهدت لهم بنو أسد بن خزيمة، فقالوا: أنتم قومنا! وأحدثوا هذا الشعر، إلا بيتًا منه: لم أر مثل الذي يأتون جاء به فإنه قديم لا يُدرى لمن هو؟ ولا من عُني به". وموضوع ثالث -غير القصص والأسمار وغير الأنساب- كان مجالًا واسعًا أيضًا للوضع والنحل هو أخبار أيام العرب في الجاهلية. وهو موضوع يتصل بسابقيه اتصالًا وثيقًا، وتكاد ثلاثتها تكون موضوعًا واحدًا متصلًا ذا فروع مختلفة. فمن أمثلة وضع الشعر في الأخبار ونحله للشعراء الجاهليين ليكون ذلك سندًا للخبر الذي يساق ما أورد أبو عبيدة في حديث البراجم قال1: قال عوف بن عطية التيمي يعير لقيط بن زرارة أسر بني عامر معبد بن زرارة وفرار لقيط عنه: هلا فوارس رحرحان هجوتم ... عشرًا تناوح في سرارة واد لا تأكل الإبل الغراث نباته ... ما إن يقوم عماده بعماد هلا كررت على ابن أمك معبد ... والعامري يقوده بصفاد وذكرت من لبن المحلق شربة ... والخيل تعدو في الصعيد بداد2 قال أبو عبيدة: وبقية هذه القصيدة مصنوعة. وقال أبو عبيدة أيضًا في يوم النسار3: وأنشدوني في تصداق ذلك "أن الأسود كان رئيس الرباب يوم النسار" قول عوف بن عطية بن الخرع التيمي:   1 النقائض: 228. 2 العشر: شجر كبير له شوك. تتناوح: تتقابل. الغراث: الجياع. المحلق: إبل سمتها على هيئة الحلقة على أفخاذها. بداد. متفرقة. 3 النقائض: 240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ما زال حينكم ونقص حلومكم ... حتى بلوتم كيف وقع الأسود وقبائل الأحلاف وسط بيوتكم ... يعلون هامكم بكل مهند قال بنو أسد وغطفان: هذه مصنوعة، لم يشهد الأسود النسار. وحسبنا ما قدمنا في هذا الموضوع، ولنا إليه عودة في الباب التالي عند حديثنا المفصل عن الشك في الشعر الجاهلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 6- رواة علماء : وهذا العنوان الفرعي لا ينفي العلم عن سائر طبقات الرواة التي قدمناها؛ فقد كان بعض الشعراء الرواة علماء، وكان بعض رواة الشاعر علماء، وكان بعض رواة القبائل علماء، وكان بعض الرواة المصلحين للشعر بل بعض الرواة الوضاعين علماء. غير أن علم أكثر رواة الطبقات الثلاث الأولى كان محدودًا محصورًا في شعر شاعر بعينه أو في شعر قبيلة بعينها، وعلم أكثر رواة الطبقة الخامسة كان يدور على الموضوعات التي ذكرناها من قصص وأشعار وما يشبهها. ومن هنا قصدنا بهذا العنوان أن يدل على طبقة خاصة متميزة من الطبقات التي أشرنا إليها. ومدار تميزها وتفردها على أنها اتخذت من الشعر موضوعًا علميًّا، تدرسه دراسة، وتأخذه عن شيخ أو أستاذ، في مدرسة من مدارس علم الشعر وروايته آنذاك، ونعني بها تلك المجالس والحلقات التي كانت تعقد في المساجد أنو منازل الشيوخ، ويجتمع فيها التلاميذ من العلماء والمتعلمين، يتحلقون حول شيخ شُهد له بالحفظ والرواية ومعرفة كلام العرب والإحاطة الواسعة بشعرهم، وذلك بالاطلاع على ما سبق عصره من جهود الرواة في حفظ الشعر وتدوينه. وتكون وسيلة الدرس مزدوجة تقوم على أمرين: على قراءة ديوان الشاعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 أو ديوان القبيلة والتلاميذ يتابعون القراءة في نسخ بين أيديهم أو يستمعون لمن يقرأ؛ وعلى ما يلقيه الأستاذ الشيخ من تصحيح لبعض الأخطاء، أو ذكر لوجوه الروايات، أو تفسير لغريب الألفاظ، أو شرح للمعنى العام وذكر جوه التاريخي وحوادثه وأخباره. وقد يضاف إلى هذين الرحلة إلى البادية أو الاستماع إلى من يفد منها من الأعراب. ويبدو أن هذه الطبقة من الرواة العلماء -بهذا التعريف الذي قدمناه والتحديد الذي قيدناه به- لم تكن موجودة فبل مطلع القرن الثاني الهجري، وربما كان أول شيوخها الذين مهدوا الطريق لمن تبعهم فكانوا هم الرواد السابقين: أو عمرو بن العلاء "المتوفى سنة 154"، وحماد الراوية "المتوفى سنة 156". ومن هنا كان قول ابن سلام1: "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها: حماد الراوية". ومن هنا أيضًا قالوا2: "كان خلف الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة، ذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه، وكان ضنينًا بأدبه". وقد أخذ عن هذين العالمين: أبي عمرو وحماد سائر من نعرف من شيوخ العلم والرواية كخلف الأحمر، والمفضل، والأصمعي، وأبي عبيدة، وأبي عمرو الشيباني. وأخذ عن هؤلاء من تلاهم: كابن الأعرابي، ومحمد بن حبيب، وأبي حاتم السجستاني. ثم أخذ عن هؤلاء السكري وثعلب وأضرابهما. وقد انقسم هؤلاء الرواة العلماء إلى مدارس، فكانت ثمة مدرسة البصرة، ومدرسة الكوفة، ومدرسة المدينة، ومدرسة بغداد. وكان تلاميذ كل مدرسة وعلماؤها يتعصبون لمدرستهم ولشيوخهم، ويوثقون روايتهم، ويجرحون شيوخ المدرسة الأخرى، ويضعفون روايتهم، ويتهمونهم بالوضع والنحل والكذب. وسنشير إلى هذه المدارس والخلاف بين شيوخها وتلامذتها، وما نتج عن هذا الخلاف من طعن وتجريح وتضعيف في فصل تالٍ.   1 طبقات فحول الشعراء: 40. 2 أبو البركات الأنباري، نزهة الألباء: 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ولو اقتصرنا في إشارتنا إلى هؤلاء الرواة العلماء على كتاب واحد هو طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي لوجدنا أن هذه الطبقة مميزة تمييزًا واضحًا يفرقها عن غيرها من الرواة؛ فلا يكاد ابن سلام يذكر هذه الطبقة إلا يصفها بأنها "أهل العلم". فمن ذلك قوله1: "وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه ... " ويقول2: "وللشعر صناعة يعرفها أهل العلم"، و"كذلك الشعر يعرفه أهل العلم به". ويقول3: "وكان أبو عبيدة والأصمعي من أهل العلم، وأعلم من ورد علينا من غير أهل البصرة: المفضل". ويقول4: "ثم إنا اقتصرنا بعد الفحص والنظر والرواية عمن مضى من أهل العلم". ويقول5: "أجمع أهل العلم أن النابغة لم يقل هذا". ويقول6: "ولقد أخبرني أهل العلم من غطفان". ويقول7: "كيف يروي خالد "بن كلثوم" مثل هذا وهو من أهل العلم؟ " ويقول8: "ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد". وقد يقابل في الجملة الواحدة بين هؤلاء الرواة المدققين من أهل العلم وبين الرواة عامةً من غير وصف يقيدهم. فهو يقول9: " ... ثم كانت الرواة   1 ص6. 2 الصفحة السابقة. 3 ص21. 4 ص42. 5 ص50. 6 ص92. 7 ص123. 8 ص23. 9 ص39-40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 بعد، فزادوا في الأشعار التي قيلت وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة وما وضعوا، ولا ما وضع المولدون ... " ويقول1: "وقد اختلف الناس والرواة فيهم "أي في الشعراء"، فنظر قوم من أهل العلم بالشعر، والنفاذ في كلام العرب والعلم بالعربية، إذا اختلف الرواة، فقالوا بآرائهم..".   1 ص21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 الفصل الثالث: الإسناد في الرواية الأدبية بين الحديث والأدب : -1- لا يملك الباحث، حين يتعرض للحديث عن الإسناد في الرواية الأدبية، إلا أن يشير إلى الإسناد في رواية الحديث النبوي. وقد أشار أكثر الباحثين من المحدثين الذين أرخوا الأدب العربي إلى العلاقة في الإسناد وطريقة الحمل بين الروايتين1. وقد ذهبوا إلى أن رواة الأدب قد تأثروا رواة الحديث في طريقة الإسناد، ونسجوا على منوالهم. ولا نحب هنا أن نعيد أقوالهم ولا أن نشقق القول في هذا الأمر بعينه، ولكننا مع ذلك نكاد نذهب مذهبًا يخالف ما ذهبوا إليه، فنحن نرى، فيما يبدو لنا، أن الرواية الأدبية أصل قائم بذاته، وقد وجدت عند العرب منذ الجاهلية، فكان علماء النسب الجاهليون ومن أدرك منهم الإسلام يأخذون علمهم بالنسب عن شيوخ هذا العلم ممن تقدمهم أو عاصرهم، وكذلك كان رواة الشعر والأخبار الجاهلية. وقد مرت بنا بعض الأمثلة على النسابين ورواة الأخبار والأشعار، وستمر بعد صفحات أمثلة أخرى، وربما كان أوضح ما يمثل تلقي الشعر وأخذه ما يروى من أن عمر بن الخطاب تمثل بشعر ثم قال لفرات بن زيد الليثي2:   1 انظر مثلًا: مصطفى صادق الرافعي، تاريخ آداب العرب1: 295-298. 2 الإصابة 5: 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 أتدري من يقوله؟ فقال فرات: لا أدري يا أمير المؤمنين. قال عمر: هذا شعر أخيك قسامة بن زيد. قال: ما علمته. قال بلى، هو أنشدنيه وعنه أخذته. والرواية سبيل طبيعية في كل عصر وعند كل أمة، حتى حين تنتشر الكتابة وتذيع. بينما كانت رواية الحديث أمرًا طرأ على العرب بعد الإسلام. فإن لم تكن رواية الحديث من حيث الطور الزمني متأثرة برواية الأدب وفرعًا منها، فالروايتان أصلان انبثقا عن الحاجة الملحة انبثاقًا طبيعيًّا. وتفصيل ذلك أننا لا نعرف -على وجه الضبط واليقين- متى بدأ الإسناد في رواية الحديث، فنحن نرى مثلًا أن بعض التابعين لم يكن يسند الحديث حين يحدث. فقد روى عاصم الأحول "لمتوفى سنة 142هـ" عن ابن سيرين "المتوفى سنة 110هـ" قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، حتى وقعت الفتنة؛ فلما وقعت الفتنة نظروا مَنْ كان من أهل السنة أخذوا حديثه، ومن كان من أهل البدع تركوا حديثه1. وقال حماد بن سلمة2: كنا نأتي قتادة "هو قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة 117" فيقول: بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغنا عن عمر، وبلغنا عن علي، ولا يكاد يسند. فلما قدم حماد بن أبي سليمان البصرة جعل يقول: حدثنا إبراهيم وفلان وفلان، فبلغ قتادة ذلك فجعل يقول: سألت مطرفًا، وسألت سعيد بن المسيب، وحدثنا أنس بن مالك، فأخبر بالإسناد. وقال ابن جريج3: إن عطاء حدث بحديث فقلت له: أتعزيه إلى أحد؟ أي أتسنده؟   1 ابن حجر، لسان الميزان "الهند" 1: 7. وراجع رأي كايتاني، المستشرق الإيطالي الذي ضمنه في كتابه: السنويات الإسلامية، Annale Dell Islam وانظر كتاب الأستاذ أمين الخولي عن مالك 3: 558-567. 2 ابن سعد 7/ 2: 2. 3 الزمخشري، الفائق 2: 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ولكننا نرى أن علماء القرن الثاني كانوا يسندون الحديث: يرفعون بعضه، ويرسلون بعضه. ومما تجدر الإشارة إليه أن كثيرًا من رواة الأدب كانوا كذلك من رواة الحديث، وإن كانت شهرتهم بالرواية الأدبية قد طغت على شهرتهم برواية الحديث وغطت عليها. فالرواية عند هؤلاء العلماء في القرن الثاني، سواء أكانت رواية حديث أم رواية أدب وأخبار، كانت ذات إسناد يرتفع حينًا إلى الصحابي وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث، ويرتفع إلى من تدور عنه في الجاهلية أو إلى رجال يروونها ممن شهدوا الجاهلية وشهدوا ما يروون بخاصة في الأدب والأخبار، وكثيرًا ما يكون الإسناد مرسلًا منقطعًا في الروايتين كلتيهما. ولكن ذلك لا يمنعنا من أن نقول إن المتأخرين الذين كتبوا في علوم اللغة والأدب قد احتذوا مناهج المحدثين والفقهاء، وقلدوا علوم الحديث والفقه، وذلك بعد أن نضجت علوم الحديث والفقه وأرسيت أصولهما وقواعدهما، وعبدت سبلهما وطرائقهما، وذهب فيهما في التحقيق والتدقيق -في السند والمتن- مذاهب بعيدة1 ونجد مثال ذلك عند أبي البركات ابن الأنباري "المتوفى سنة 575هـ" حين يقول في كتابه "الإنصاف في مسائل الخلاف"2: "فإن جماعة من الفقهاء المتأدبين، والأدباء المتفقهين المشتغلين علي بعلم العربية بالمدرسة النظامية ... سألوني أن ألخص لهم كتابًا لطيفًا، يشتمل على مشاهير المسائل الخلافية بين نحويي البصرة والكوفة، على ترتيب المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة". وعند رجل كالسيوطي الذي يقول عن علم الأدب وتأليفه فيه3: "هذا   1 قال الزركشي في أول قواعده: كان بعض المشايخ يقول: العلوم ثلاثة: علم نضج وما احترق وهو علم النحو والأصول، وعلم لا نضج ولا احترق وهو علم البيان والتفسير، وعلم نضج واحترق وهو علم الفقه والحديث. انظر: السيوطي، الأشباه والنظائر في النحو 1: 5. 2 ص3. 3 السيوطي، المزهر 1: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 علم شريف ... حاكيت به علوم الحديث في التقاسيم والأنواع". ويقول كذلك1: "واعلم أن السبب الحامل لي على تأليف ذلك الكتاب الأول أني قصدت أن أسلك بالعربية سبيل الفقه فيما صنفه المتأخرون فيه وألفوه من كتب الأشباه والنظائر". فإذا كان الأمر على ما ذهبنا إليه، فلم التزمت رواية الحديث الإسناد في الغالب الأعم، ولم تلتزمه الرواية الأدبية إلا في القليل النادر؟ ونحن نقصد بهذا التساؤل الإسناد المتصل المرفوع، لا الإسناد المرسل المنقطع، إذ أن هذا الضرب الثاني من الإسناد يكاد يكون ملتزمًا في رواية الأدب التزامًا لا إخلال فيه. فجميع ما يرويه علماء اللغة والأدب في القرن الثالث والرابع ذو إسناد مرفوع إلى علماء القرن الثاني من أمثال أبي عمرو بن العلاء وحماد الراوية وخلف الأحمر والمفضل وأبي عمرو الشيباني وابن الكلبي والأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد، أو الأعراب الذين عاصرهم هؤلاء العلماء وأخذوا عنهم، ولكن هذا الإسناد المرفوع إلى هؤلاء لا يكاد يصل إليهم حتى يقف عندهم ثم لا يعدوهم إلا في القليل النادر مما سنعرضه في هذا الفصل بعد صفحات. ومن هنا كان هذا الإسناد الملتزم في الرواية الأدبية إسنادًا مرسلًا أو منقطعًا لأنه، في أكثره رُوي عن علماء لم يشهدوا العصر الجاهلي، ولم يأخذوا الشعر من الشعراء الجاهليين أنفسهم. ويبدو لنا أن مرد التزام الإسناد المتصل في رواية الحديث إلى أمرين: أمر داخلي، وآخر خارجي. أما الداخلي فمبعثه من نفس الراوي، ومصدره شعوره بالتحرج الديني، وذلك أنه ينقل كلامًا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال في حديثه المشهور: "من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار" 2. في الإسناد المتصل ما يجعل المحدث يطمئن إلى أن غيره من شيوخه وشيوخ   1 السيوطي: الأشباه والنظائر في النحو 1: 3. 2 انظر نص الحديث كاملًا وطرقه وتخريجه في: الخطيب البغدادي "تقييد العلم ص29-32"وهوامش الصفحات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 شيوخه ثم التابعين والصحابة يشتركون معه في تحمل تبعة هذا الحديث ونقله، وأنه لا يستقل وحده بحمل هذا العبء، وأن تبعته لا تعدو النقل الأمين لما سمعه عن شيخ ثقة ثبت. وأما الأمر الخارجي فمرجعه إلى سامعي الحديث من المحدث، وذلك أن الحديث يتضمن جزءًا كبيرًا من السنة، أو هو السنة كلها، وهو من أجل ذلك مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، بل إنه هو المصدر الثاني الذي يتلو في القيمة كتاب الله، ولذلك كان من التدقيق والتحقيق، ومما يبعث الطمأنينة في نفوس السامعين ويوحي إليهم بالثقة في حديث المحدث أن يصل بين عصره وعصر الرسول الكريم بسلسلة متصلة من الرواة المحدثين كلهم يشهد أنه سمعه ممن قبله حتى يصل الإسناد إلى الصحابي فالرسول. ومن أجل هذا كله رأينا كثيرًا من الصحابة ومن التابعين يتحرجون من رواية الحديث، بل لقد ورد عنهم نهي صريح عن التحديث والإكثار منه. فقد شيع عمر بن الخطاب جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ذاهبين إلى الكوفة، ثم أوصاهم بقوله1: "إنكم تأتون أهل قرية لهم دويٌّ بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جردوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، امضوا وأنا شريككم". وقال شعبة بن الحجاج "توفي سنة 160 وله 75 سنة"2 "ما أنا مغتم على شيء أخاف أن يدخلني النار غيره" يعني الحديث. ومن أجل هذا أيضًا كان كثير من المحدثين من الصحابة والتابعين يتخففون من أعباء هذا الحرج وقسوته باللجوء إلى الشعر وإنشاده. قال مطرف3: "خرجت مع عمران بن حصين "صحابي توفي سنة 52" من الكوفة إلى البصرة فما أتى علينا يوم إلا ينشدنا فيه شعرًا، ويقول:   1 ابن سعد 6: 2. 2 ابن سعد 7/ 2: 38. 3 المصدر السابق 4/ 2: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 إن لكم في المعاريض لمندوحة عن الكذب".1 وقال روح بن عبادة2: كنت عند شعبة، فضجر من الحديث، فرمى بطرفه، فرأى أبا زيد سعيد بن أوس في أخريات الناس فقال: يا أبا زيد: واستعجمت دار مي ما تكلمنا ... والدار لو كلمتنا ذات أخبار إلي يا أبا زيد. فجعلا يتناشدان الأشعار. فقال بعض أصحاب الحديث لشعبة: يا أبا بسطام نقطع إليك ظهور الإبل لنسمع منك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فتدعنا وتقبل على الأشعار!! قال: فرأيت شعبة قد غضب غضبًا شديدًا ثم قال: يا هؤلاء، أنا أعلم بالأصلح لي، أنا والذي لا إله إلا هو في هذا أسلم مني في ذاك. ومن أجل هذا أيضًا كان الأصمعي يتحرج في تفسير شيء ورد في القرآن الكريم أو الحديث ولذلك "لم يرفع من الحديث إلا أحاديث يسيرة"3. ونحن نرى من هذه الأخبار الثلاثة الأخيرة أن القوم آنذاك لم يكونوا يرون في رواية الشعر ما يرونه في رواية الحديث، فالشعر آخر الأمر شأن من شئون هذه الدنيا لا يتصل بالدين ولا بشخص الرسول ولا يمت بسبب إلى التشريع. فهم إذن في حل إذا وجدوا فيه سعة يستريحون فيها من عناء التضييق الذي كانوا يأخذون به أنفسهم في الحديث. فهل نحن إذن على صواب إذا ذهبنا إلى أنه ليس في الرواية الأدبية للشعر الجاهلي والأخبار الجاهلية إسناد متصل؟ لعلنا لا نستطيع أن نقطع في هذا السؤال   1 عمران بن حصين هذا هو الذي يقول: والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين متتابعين، ولكن بطأني عن ذلك أن رجالًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا كما سمعت، وشهدوا كما شهدت، ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم. 2 نزهة الألباء: 89-90، وانظر أيضًا ابن سعد 7/ 2: 38. 3 أبو الطيب اللغوي، مراتب النحويين ورقة: 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 بجواب حاسم قبل أن نعرض بعض ما لدينا من أخبار وروايات فيها إسناد متصل إلى الجاهلية وسنكتفي الآن بالعرض المجرد ثم نعقب على ذلك بما يبدو لنا من رأي. وهذه الأخبار والروايات قسمان كبيران؛ أولهما: يتصل بالشاعر الجاهلي نفسه، وثانيهما: يتصل بهؤلاء العلماء الرواة الذين عاشوا في القرن الثاني وأخذ عنهم العلماء بعد ذلك شعر الجاهلية وأخبارها. -2- أم القسم الأول فهي أخبار مسندة يرتفع إسنادها إلى الشاعر الجاهلي نفسه, وأكثر الشعراء الجاهليين حظًّا من هذا الضرب من الروايات المسندة هو حسان بن ثابت، وربما كان مرد ذلك إلى صلة حسان برسول الله صلى الله عليه وسلم، فروى بعض الصحابة شعره وأخباره. ونحن نجد مثل هذا الضرب من الأسانيد المرفوعة إلى الصحابة عن حسان في ترجمته في الأغاني1، كالذي ترويه أم المؤمنين عائشة2، وأختها أسماء بنت أبي بكر3. أما الأحاديث المرفوعة في إسناد متصل إلى حسان نفسه فهي أقل من ذلك عددًا. ومن أمثلتها ما جاء في إسناد متصل أوله أبو الفرج الأصفهاني وآخره سعيد بن زرارة عن حسان بن ثابت، حيث يذكر ما يدل على أنه ولد قبل الهجرة بنحو من ستين سنة وأنه كان غلامًا يفعة ابن سبع سنين أو ثمان حينما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم4. وثمة أخبار أخرى ذات إسناد منقطع ولكنها تنتهي بحسان يروي فيها خبرًا عن   1 ج4، ص134-170. 2 المصدر السابق: 143, 146. 3 المصدر السابق: 144. 4 المصدر السابق: 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 نفسه وعن غيره من شعراء الجاهلية. ومن أمثلة ذلك " ... حدثنا الزبير بن بكار قال، قال أبو غزية، قال حسان بن ثابت: قدم النابغة المدينة فدخل السوق فنزل عن راحلته ثم جثا على ركبتيه، ثم اعتمد على عصاه، ثم أنشأ يقول: عرفت منازلًا بعريتنات ... فأعلى الجزع للحي المبن فقلت: هلك الشيخ، ورأيته قد تبع قافية منكرة .... فما زال ينشد حتى أتى على آخرها، ثم قال: ألا رجل ينشد؟ فتقدم قيس بن الخطيم فجلس بين يديه وأنشد: أتعرف رسمًا كاطراد المذاهب حتى فرغ منها، فقال: أنت أشعر الناس يابن أخي. قال حسان: فدخلني منه. وإني في ذلك لأجد القوة في نفسي عليهما، ثم تقدمت فجلست بين يديه، فقال: أنشد فوالله إنك لشاعر قبل أن تتكلم. قال: وكان يعرفني قبل ذلك، فأنشدته. فقال: أنت أشعر الناس"1. ومن أمثلته أيضًا " ... يوسف بن الماجشون عن أبيه قال، قال حسان بن ثابت: أتيت جبلة بن الأيهم الغساني وقد مدحته ... " ثم يذكر لقياه النابغة الذبياني وعلقمة بن عبدة هناك وإنشادهما شعرًا لهما ثم إنشاد حسان شعرًا مدح فيه الغساسنة2. وثاني هؤلاء الشعراء هو الأعشى، فقد عثرنا على ثلاثة روايات مرفوعة كلها إليه، الأولى: قدمنا الإشارة إليها حين تحدثنا عن رواة الشاعر، فقد مر بنا أن للأعشى ثلاثة رواة أو لعله راوية واحد اختلفوا في اسمه فأوردوا له ثلاثة أسماء فهو حينًا: عبيد، وحينًا: يحيى بن متى، وحينًا ثالثًا: يونس بن متى. وقد كان   1 الأغاني 3: 8-9. 2 الأغاني "ساسي" 14: 2-7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 هذا الراوية من المعمرين، فروى عنه جميع الأخبار التي رواها عن الأعشى راوية واحد بعينه هو سماك بن حرب. ثم روى عن سماك عدة رواة1. فعبيد هذا يروي عن الأعشى خبر قدومه على النعمان وإنشاده بين يديه قصيدته2: إليك أبيت اللعن كان كلالها ... تروح مع الليل التمام وتغتدي وهو أيضًا يروي عن الأعشى أنه سأله تفسير كلمات في أحد أبياته وذلك قوله3: ومدامة مما تعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها فلما سأله: ماذا أردت بقولك؟ قال: شربتها حمراء وبلتها بيضاء. وهو كذلك يوازن بين الأعشى ولبيد فيقول4: كان الأعشى قدريًّا وكان لبيد مثبتًا. قال لبيد: من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل وقال الأعشى: استأثر الله بالوفاء وبالـ ... عدل وولى الملامة الرجلا فلما سئل: من أين أخذ الأعشى مذهبه؟ قال: من قبل العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك.   1 انظر ما تقدم عن رواة الشاعر في الفصل الثاني من هذا الباب. 2 ابن قتيبة. الشعر والشعراء 1: 215. 3 الشعر والشعراء 1: 215-216، وانظر أيضًا الجواليقي: المعرب ص46، والبغدادي: الخزانة 4: 197. 4 الأغاني 9: 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 والرواية الثانية ما جاء في شرح ديوان الأعشى للآمدي1: "قال أبو الحر: وجدت على ظهر كتاب المجاز لأبي عبيدة بخط أبي عسان رفيع بن سلمة المعروف بدماذ2 صاحب أبي عبيدة، وحدثنا به السكري يعد حديثًا يرفع إلى الأعشى أنه قال ... خرجت أريد قيس بن معديكرب بحضرموت، فأضللت في أوائل أرض اليمن لأنني لم أكن سلكت ذلك الطريق، فلما أضللت أصابني مطر، فرميت ببصري كل مرمى أطلب لنفسي مكانًا ألجأ إليه، فوقعت عيني على خباء من شعر فقصدت نحوه فإذا أنا بشيخ ... " ثم يمضي في قصة طويلة خلاصتها أنه أنشد هذا الشيخ مطلعي قصيدتين من قصائده فإذا بالشيخ ينادي ابنتين له فتنشدان القصيدتين كاملتين لا تخرمان منهما حرفًا، فلما سقط في يده وتحير وغشته رعدة قال له ذلك الشيخ: "ليفرخ روعك أبا بصير أنا هاجسك مسحل بن أثاثة الذي ألقي على لسانك الشعر". فسكنت نفسه3! والرواية الثالثة حدث بها أبو اليقظان قال4: حدثني جويرية عن يشكر   1 انظر السيوطي، شرح شواهد المغني: 327. 2 في الأصل: "ديار" مكان "دماذ" وهو خطأ، انظر الزبيدي، طبقات اللغويين ص198. 3 حديثنا هنا مقصورًا على الإسناد وحده، وأسطورية المتن واستحالته في هذه الرواية والرواية التالية لا تنفي صحة الإسناد. فلقد كانوا في الجاهلية يعتقدون بالرئي وبشيطان الشاعر، وذكر الأعشى نفسه شيطانه مسحلا في شعره "انظر الجاحظ، الحيوان 6: 225-227، وجمهرة أشعار العرب: 49، والموشح للمرزباني: 49" وجعلوا لكل شاعر صاحبًا من الجن سموه "جمهرة أشعار العرب: 33-45" ولم يكتفوا بشعراء الجاهلية بل ذهبوا إلى أن شعراء الإسلام كانوا كذلك. فهذا جرير يهتف به صاحبه من الجن من زاوية البيت ويحدثه ويلقي إليه شعرًا "الأغاني 8: 69"، والفرزدق يأتي جبلًا بالمدينة وينادي بأعلى صوته: أجيبوا أخاكم أبا لبيني "النقائص: 547"، وهؤلاء الجن يجاوبون ذا الرمة ونصيبًا وجريرًا "الموشح: 169-170" وانظر أخبار بعض الصحابة والجن في ابن سعد 7/ 1: 48، 7/ 2: 116، والفائق 3: 181 ثم انظر أخبار الجن ومناقشة هذه الأخبار في الجاحظ، الحيوان6: 164-242. 4 الأغاني 9: 156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 بن وائل اليشكري -وكان من علماء بكر بن وائل وولد أيام مسيلمة فجيء به إليه فمسح على رأسه فعمي- قال جويرية: فحدثني يشكر هذا قال: حدثني جرير بن عبد الله البجلي "صحابي" قال: سافرت في الجاهلية، فأقبلت على بعيري ... فإذا قوم مشوهون عند الماء فقعدت. فبينا أنا عندهم إذ أتاهم رجل أشد تشويهًا منهم فقالوا: هذا شاعرهم. فقالوا له: يا فلان أنشد هذا فإنه ضيف. فأنشد "ودع هريرة إن الركب مرتحل". فلا والله ما خرم منها بيتًا واحدًا حتى انتهى إلى هذا البيت. تسمع للحلي وسواسًا إذا انصرفت ... كما استعان بريحٍ عشرق زجل1 فأعجبت به. فقلت: من يقول هذه القصيدة؟ قال: أنا قلت: لولا ما تقول لأخبرتك أن أعشى بني ثعلبة أنشدنيها عام أول بنجران. قال. فإنك صادق، أنا الذي ألقيتها على لسانه وأنا مسحل صاحبه، ما ضاع شعر شاعر وضعه عند ميمون بن قيس2!! وشاعر ثالث جاهلي خالص، هو امرؤ القيس، رُوي عنه أيضًا بإسناد متصل، فقد سئل رؤبة بن العجاج عن هذا البيت3: نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرك لأمين على نابل فقال رؤبة: حدثني أبي عن أبيه قال: حدثني عمتي -وكانت في بني دارم- قالت: سألت امرأ القيس، وهو يشرب طلاء له مع علقمة بن عبدة: ما   1 العشرق: شجيرة مقدار ذراع، فيها حب صغار، إذ جفت فمرت بها الريح تحرك الحيب فسمع له شخشخة على الحصى. 2 انظر التعليقة رقم: 3، في الصفحة السابقة. 3 البصري: التنبيهات على أغلاط الرواة: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 معنى قولك: كرك لأمين على نابل؟ فقال: مررت بنابل وصاحبه يناوله الريش لوامًا وظهارًا، فما رأيت أسرع منه ولا أحسن، فشبهت به1! وشاعر رابع، جاهلي أدرك الإسلام، وهو سعية بن غريض، وغريض هو السموءل المشهور. ورواية سعية هذه تختلف عن الروايات التي قدمناها من حيث إنها لا تروي خبرًا عن الشاعر نفسه، وإنما يروي فيها الشاعر خبرًا من أخبار الجاهلية لا صلة له به. قال الهيثم بن عدي: حدثني حماد الراوية عن سعيد بن عمرو بن سعيد عن سعية بن غريض -من يهود تيماء- قال2: لما قتل الحارث بن أبي شمر الغساني عمرو بن حجر ملك بعده ابنه الحارث بن عمرو، ... فلما تفاسدت القبائل من نزار أتاه أشرافهم فقالوا ... "إلى آخر الخبر". ورُوي عن الحطيئة خبر يفضل فيه نفسه، وراويه هو عبد الرحمن بن أبي بكرة عن الحطيئة، قال عبد الرحمن3: رأيت الحطيئة بذات عرق، فقلت له:   1 وامرؤ القيس هو أقدم الفحول من شعراء الجاهلية، ومع ذلك فإن بعض شعراء الجاهلية الذين عمروا وأدركوا كذلك امرأ القيس فيما يزعمون. فمنهم مثلًا: ربيع بن ضبع، فهو القائل: "المعمرين: 6-7" ها أنذا آمل الخلود وقد ... أدرك عقلي ومولدي حجرًا أبا امرئ القيس هل سمعت به ... هيهات هيهات طال ذا عمرا ومنهم أيضًا عمرو بن مسبح الطائي، وهو المشهور بإجادة الرمي، ذكره امرؤ القيس في شعره، قال: رب رامٍ من بني ثعلٍ ... متلجٍ كفيه في قتره وعمر عمرو بن مسبح حتى مات في زمن عثمان بن عفان!! "المعمرين 77-78". 2 الأغاني 9: 81. 3 الشعر والشعراء 1: 283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 يا أبا مليكة أي الناس أشعر؟ فأخرج لسانًا دقيقًا كأنه لسان حية فقال: هذا إذا طمع. وشاعر سادس رُوي عنه في إسناد متصل، هو النابغة الجعدي. والجعدي ممن عُمِّر عمرًا طويلًا في الجاهلية والإسلام، " ... إسماعيل بن عبد الله السكري قال: حدثنا يعلى بن الأشدق، قال: حدثني نابغة بني جعدة، قال1: أنشدت النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشعر فأعجب به: بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأين المظهر يا أبا ليلى؟ فقلت: الجنة. فقال: إن شاء الله. فقلت: إن شاء الله. ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهلٍ إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجدت، لا يفضض الله فاك". -3- وأما القسم الثاني من هذا البحث عن الإسناد فمتصل بهؤلاء العلماء الرواة الذين عاشوا في القرن الثاني ومطلع الثالث، وأخذ عنهم العلماء بعد ذلك شعر الجاهلية وأخبارها. فقد ذكرنا من قبل أن العلماء في القرون التالية للقرن الثاني، وخاصة علماء القرنين الثالث والرابع، كانوا يوردون جل أخبار الجاهلية وأشعارها مسندة إلى هؤلاء الرواة الأعلام من علماء القرن الثاني، ثم يقفون عندهم   1 الأغاني 5: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 لا يعدونهم في الغالب الأعم. وذكرنا أن هؤلاء العلماء الذين تنتهي عندهم الرواية الأدبية للجاهلية طبقتان، الطبقة الأولى هم: أبو عمرو بن العلاء وحماد الراوية ثم خلف الأحمر والمفضل الضبي ومن في طبقتهم. وأما الطبقة الثانية فهم تلامذة هذه الطبقة الأولى، وأشهرهم: الأصمعي وأبو زيد وأبو عبيدة وأبو عمرو الشيباني، ثم ابن الأعرابي ومحمد بن حبيب وأبو حاتم السجستاني ومحمد بن سلام ومن في طبقتهم. ولكن انقطاع الإسناد عند هؤلاء الرواة وانتهاءه إليهم يحفزنا إلى أن نستقصي في البحث عما وراءه لعلنا نستطيع أن ننبش الجذور الأولى التي قامت عليها رواية هؤلاء العلماء، فنستبين مدى امتداد هذه الجذور واتصالها بالجاهلية. وأول ما يستوقفنا في سبيلنا روايات قليلة متفرقة مبثوثة -على تباعد بينها- في ما بين أيدينا من مصادر. وفيها يروي هؤلاء العلماء عن شيخ عالم راوية كثيرًا ما يكون من الأعراب الذين كانوا يأخذون منهم اللغة والشعر والأخبار، وقد يمتد بهم الإسناد فيرفعونه في أحوال نادرة إلى جاهلي شهد ما يروون عنه. فمن هذه الروايات التي يذكر فيها هؤلاء العلماء راويةً سابقًا عليهم يأخذون عنه ما نورده فيما يأتي: يروي الأصمعي تحقيق اسم تأبط شرًّا وبيتًا له عن ابن أبي طرفة الهذلي ويقول1: كان ابن أبي طرفة الهذلي أعلمهم بتأبط شرًّا وأمره. ويروي الأصمعي كذلك عن أبي طفيلة، قال2: حدثني من رأى مساور بن هند أنه ولد في حرب داحس قبل الإسلام بخمسين عامًا. ويروي أبو عبيدة في سند متصل إلى الجاهلية 3: "قال أبو عبيدة،   1 الشعر والشعراء 1: 271. 2 الإصابة 6: 171، وأبو طفيلة هذا أحد ثقات الأعراب وعلمائهم الذين أخذ عنهم الأصمعي وأبو عبيدة وأبو زيد ومن في طبقتهم "انظر مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي ورقة 64-65". 3 الأغاني "دار الكتب" 11: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 حدثني عبد الحميد بن عبد الواحد بن عاصم بن عبد الله ... قال، حدثني أبي عبد الواحد، وعمي صفوان، عن أبيهما عاصم بن عبد الله، عمن أدرك شأس بن زهير قال ... " "ثم يورد خبرًا عن شأس". ويروي أبو عبيدة كذلك في سند آخر متصل إلى الجاهلية1. " ... أبو عبيدة قال، حدثنا أبو المختار فراس بن خندق القيسي: قيس ثعلبة، وعدة من علماء العرب قد سماهم فراس بن خندق". وفي سياق الحديث -وهو عن يوم ذي قار- يسمي بعضهم فيقول2: "قال سليط بن سعد بن معدان ... بن ثعلبة: فحدثنا أسراؤنا الذين كانوا فيهم يومئذ -يوم ذي قار- قالوا: فلما التقى الناس ... " وروى المفضل خبرًا عن امرئ القيس وعلقمة بن عبدة وشعرًا لهما حدثه به أبو الغول النهشلي عن أبو الغول الأكبر3. ويروي المفضل كذلك خبرًا جاهليًّا ذا إسناد متصل؛ جاء في النقائض4: "وكان من قصة هذا اليوم -يوم أعشاش- ما حكاه الكلبي عن المفضل بن محمد عن زياد بن علاقة التغلبي أن أسماء بن خارجة الفزاري حدثه بذلك قال: أغار بسطام ... " إلى آخر الخبر، وبسطام هذا أخذ أم أسماء بن خارجة، وأسماء يومئذ غلام شاب يذكر ذلك. فرواية أسماء إذن رواية من شاهد الخبر المروي، وإسنادها متصل. ويروي ابن الكلبي في سند متصل إلى أشياخ أدركوا الجاهلية شعرًا لشعراء جاهليين كامرئ القيس وعنترة فيه ذكر أسماء أماكن "قال أبو زيد عمر بن شبة عن هشام قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، عن عمرو بن   1 النقائض: 639. 2 النقائض: 644. 3 المرزباني، الموشح: 30. 4 ص: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 الصامت بن شداد بن يزيد بن مرداس السلمي، عن أشياخ من بني تميم أدركوا الجاهلية، قالوا ... "1. وروى حماد الراوية خبرًا يتصل بالحطيئة عن أبي نصر الأعرابي. وروى حماد كذلك خبرين عن الأعشى، أحدهما: عن معقل عن أبي بكر الهلالي2 والثاني: عن سماك بن حرب3. وروى أبو عمرو بن العلاء شعرًا لامرئ القيس بن عابس، وذكر منه ستة أبيات ثم قال4 "وزادني فيها الجمحي" وذكر ثلاثة أخرى. وروى أبو عمرو أيضًا5 "عن شيخ من أهل نجد كان أسنهم". وكان أبو عمرو بن العلاء يجتمع هو وشعبة عند أبي نوفل بن أبي عقرب، قال شعبة6: فأسأله عن الحديث خاصةً، ويسأله أبو عمرو عن الشعر خاصةً، فلا أكتب شيئًا مما يسأله عنه أبو عمرو، ولا يكتب أبو عمرو شيئًا مما أسأله أنا عنه7. ومن اليسير أن يتتبع الباحث شيوخ هؤلاء العلماء الرواة، ويعرف بعضهم بأسمائهم، غير أن من العسير أن يرجع، إلا في القليل النادر، مفردات هذه الروايات التي يروونها سواء أكانت شعرًا أم خبرًا إلى الشيوخ الذين أخذها عنهم هؤلاء العلماء الرواة. ومن هؤلاء الشيوخ: الأعراب الفصحاء الذين كانوا يفدون إلى الحواضر   1 البكري، معجم ما استعجم 1: 324-326. 2 الأغاني 9: 117. 3 الأغاني 9: 124. 4 السيرافي، أخبار النحويين البصريين: 29. 5 المصدر السابق: 30. 6 السيوطي، المزهر 2: 304 نقلًا عن فوائد النجيرمي. 7 انظر هذه الرواية أيضًا في طبقات الزبيدي ص25 وص30 وفيها "الفقه" بدل "الحديث" و"اللغة" بدل "الشعر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 فيأخذ عنهم هؤلاء العلماء اللغة والشعر والأخبار1. ويعنينا من أمر هؤلاء الأعراب ثلاثة أخبار لها قيمتها وخطرها، أولها: ما أورده أبو علي القالي قال2: "حدثنا أبو بكر بن دريد رحمه الله قال: كان أبو حاتم يضن بهذا الحديث ويقول: ما حدثني به أبو عبيدة حتى اختلفت إليه مدة، وتحملت عليه بأصدقائه من الثقفيين، وكان لهم مؤاخيًا، قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثني أبو عبيدة قال: حدثني غير واحد من هوازن من أولي العلم وبعضهم قد أدرك أبوه الجاهلية أو جده قال: اجتمع عامر بن الظرب العدواني ... " إلى آخر الخبر. فأبو عبيدة إذن كان يروي بعض ما يرويه عن أعراب أدرك آباؤهم الجاهلية وقد مر بنا قبل قليل في الصفحة السابقة أن المفضل يروي عن رجل يروي عمن أدرك الجاهلية. وثاني هذه الأخبار الثلاثة ما أورده الشريف المرتضى من حديث لبيد والنعمان، فقد ذكر إسنادًا في نهايته "عن الكلبي عن عبد الله بن مسلم البكائي، وكان قد أدرك الجاهلية"3. ومما يكمل هذا ويوصلنا إلى ما نرمي إليه من هدف الخبر الثالث الذي يرويه أبو عبيدة، ولكنه يرويه هذه المرة ويقصد به شيخه بل شيخ الرواة جميعًا: أبا عمرو بن العلاء. قال أبو عبيدة يشير إلى أبي عمرو4 "وكانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية".   1 ذكرت بعض المصادر أسماء بعض هؤلاء الأعراب: انظر الفهرست لابن النديم ص65 وما بعدها، وطبقات الزبيدي: 175. 2 الأمالي 2: 276. 3 أمالي السيد المرتضى 1: 137. 4 البيان والتبيين 1: 321، وانظر كذلك ديوان زهير "دار الكتب" ص339 هامش: 4، حيث ذكر خبرًا يشبه هذا من نسختين من نسخ الديوان الخطية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 فإذا مضينا نحن وراء هذا القول لنحقق صدقه، وجدنا في بعض ما سنورده ما يغنينا عن الإطالة: قال ابن سعد1 "أخبرنا عبد الملك بن قريب قال: أخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال: قلت لأبي رجاء العطاردي: ما تذكر؟ قال: قتل بسطام بن قيس، ثم أنشد بيتًا رُثي به: فخر على الألاءة لم يوسد ... كأن جبينه سيف صقيل وقد ولد أبو رجاء هذا في الجاهلية ثم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو شاب2، وأسلم بعد الفتح3، وتوفي في نحو4 سنة 117. وقد مر بنا قبل قليل أن أبا طفيلة يروي عمن أدرك الجاهلية، وقد كان أبو طفيلة هذا نحو أبي عمرو بن العلاء في السن5. وهذا مسعر بن كدام "المتوفى سنة 152 أو 155 -وهو معاصر لأبي عمرو بن العلاء-" يروي عمن أدرك الجاهلية أيضًا. قال عمير بن الحباب، وروى ذلك عنه مسعر، ما أغرت على حي في الجاهلية أحزم امرأةً ولا أعجز رجلًا من كلب، ولا أحزم رجلًا ولا أعجز امرأة من تغلب6". وهذا شيخ معمر حضر الجاهلية، ومع ذلك فقد كان ممن استمع إلى جرير وهو ينشد، وجرير عاصر أبا عمرو نصف قرن "مات جرير سنة 110". كان جرير ينشد أبياته7:   1 الطبقات 7: 100، وانظر المعارف لابن قتيبة: 189. 2 ابن سعد 7: 100. 3 خلاصة التهذيب "عمران بن طحان". 4 الزمخشري، الفائق 1: 260. 5 الإصابة 6: 171. 6 البيان والتبيين 1: 400-401. 7 المرزباني، الموشح: 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 فما شهدت يوم النقا خيل هاجر ... ولا السيد إذ يبطحن بالأسل السمر ولا شهدت يوم الغبيط مجاشع ... ولا نقلان الحي من قنتي نسر قال: وشيخ من بني ثعلبة يقال له: النخار بن العقار، كبير قد شد حاجباه وقد سقطا على عينيه، فقال: ولا كليب والأجل ما شهدت، ولا كنا إلا سبعة فوارس من بني ثعلبة. ومن اليسير أن نجمع أسماء كثيرين من المعمرين الذين أدركوا الجاهلية وماتوا في نهاية القرن الأول أو مطلع الثاني، فمن ذلك: عرام بن المنذر بن زبيد ... أدرك الجاهلية وأدرك عمر بن عبد العزيز1 وحيدة من ولد كعب بن ربيعة أدرك الجاهلية وأدرك بشر بن مروان2. وشريح بن هانئ عاش في الجاهلية دهرًا وقتل في ولاية الحجاج3. بل إن من هؤلاء المعمرين شعراء مشهورين من مثل: أرطاة بن سهية: أدرك الجاهلية ووفد على عبد الملك بن مروان فسأله عما بقي من شعره، وكان عمره آنذاك مائة وثلاثين سنة4. وأيمن بن خريم: أسلم هو وأبوه يوم الفتح وأدرك عبد العزيز بن مروان5. وعمرو بن أحمر بن العمرد: كان من شعراء الجاهلية المعدودين وقال في الجاهلية والإسلام شعرًا كثيرًا، وأدرك عبد الملك بن مروان6. والأمثلة على ذلك كثيرة، ولكن المغالاة في أعمار المعمرين كثيرة كذلك،   1 أبو حاتم السجستاني، كتاب المعمرين: 71، وأبو علي القالي، الأمالي 3: 70. 2 المعمرين: 86. 3 المصدر السابق: 38. 4 الشعر والشعراء 1: 504، والموشح: 242. 5 الشعر والشعراء 1: 526. 6 الأغاني 8: 234، وفي معجم الشعراء المرزباني أنه مات في عهد عثمان!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وبعضها لا يكاد يصدق. قال الجاحظ1 "وإن في الأعراب لأعمارًا أطول، على أن لهم في ذلك كذبًا كثيرًا". وقد أوردنا من الأسماء والأخبار ما يصح في الفهم ويقبله العقل، فليس من الغريب أن يكون في الأمة نفر يبلغون من العمر ما يزيد قليلًا على مائة سنة، وذلك شيء مألوف في كل زمان وعند كل أمة، وما زلنا نحن نسمع في زماننا هذا عمن يتخطى المائة وقد يبلغ العشرين والمائة أو الخمسين والمائة، وخاصة في القرى وبين البدو. ومن المشهور المتداول في الأعمار كانت في الماضي أطول مما هي الآن، ومرد ذلك إلى أمور لا مجال لسردها. وقد رجحنا في غير هذا الموطن أن أبا عمرو بن العلاء بدأ يأخذ عن الرواة والعلماء والأعراب، بل كان يتصدر للرواية والتدريس، في نحو سنة 80 للهجرة أو بعدها قليلًا2. ومن أجل ذلك ليس بمستغرب أن يكون في زمنه أعراب عاشوا في الجاهلية بين عشر سنوات وسبعين سنة، فتكون سنهم عام روى عنهم أبو عمرو ومن في طبقته تتراوح بين تسعين سنة ومائة وخمسين سنة3. -4- غير أن هذه الروايات المسندة التي يرتفع إسنادها إلى ما قبل علماء القرن الثاني قليلة نادرة، لا تعدو ما أوردناه، وقد يضم إليها مثلها مما تجاوزنا عن ذكره أو لم نعثر عليه. وهي كلها لا تكاد تقيم لنا ما نستطيع أن نبحث فيه لأن   1 الحيوان: 1: 157. 2 انظر ص156 من هذا البحث. 3 ومع ذلك فقد قال المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي "تاريخ آداب العرب ج1 ص297 هامش 1" "رأينا في كثير من الكتب أن أبا عمرو بن العلاء روى عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية، ولك خطأ ركبه النساخ، والصواب أنه روى عن أعراب قد أدركوا أعراب الجاهلية". ولا حاجة بنا إلى الرد على هذا التخريج فقد ذكرنا ما فيه غناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 بعضها قائم على الجهل برواته في مثل "عمن أدرك فلانًا" أو "حدثني من رأى فلانًا" أو "عن أشياخ من بني فلان" أو "عن رجال أدركوا الجاهلية". ولأن بعضها منقطع لا يذكر فيه إلا راوية واحد قبل هؤلاء العلماء، كثيرًا ما يكون من الأعراب الفصحاء. والثقة بمثل هذه الأسانيد لا سبيل إلى تحقيقها، وإنما تكون الثقة بمعرفتنا العالم الراوية الذي أوردها، فإما أن نوثقه فنقبل منه ما يروي مع إسناده، وإما أن نجرحه ونضعفه فلا سبيل إلى قبول روايته مهما يكن إسنادها عاليًا. وتوثيق هؤلاء العلماء أو تضعيفهم هو موضوع حديثنا في القسم التالي من هذا البحث. غير أن الأمر الذي يكاد البحث العلمي الدقيق ينتهي إلى ترجيحه أن الإسناد في الرواية الأدبية والشعر خاصةً، شيء قد كان، وأن العلماء الرواة من رجال الطبقة الأولى أخذوا الشعر الجاهلي بالرواية عمن قبلهم، وإن كان تلامذتهم من بعدهم قد أغفلوا النص على الإسناد قبل هذه الطبقة الأولى، وبين أيدينا نصان ناطقان بينا الدلالة: أولهما: أن الأصمعي يورد شعرًا هذليًّا ثم يقول1: "سألت ابن أبي طرفة عن هذا فلم يعرفه، ولم يكن عند أبي عمرو فيها إسناد". وثانيهما: أن الأصمعي نفسه يورد قصيدة النابغة: أمن آل مية رائح أو معتد ... عجلان ذا زادٍ وغير مزود ثم يقول2: "ليس عندي فيها إسناد، وهي له حقًّا". فقد كان إذن عند أبي عمرو بن العلاء وعند الأصمعي أسانيد للشعر الجاهلي الذي روياه، ولكنها لم يلتزما ذكرها دائمًا، واكتفيا بالنص على عدم وجودها حين لم يكن عندهما إسناد.   1 ديوان الهذليين "دار الكتب" 1: 159. 2 ديوان النابغة "شرح الأعلم، خمسة دواوين العرب" ص27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ولنا، بعد هذا، أن نتساءل عما وقف بهذه الأسانيد عند هؤلاء العلماء فلم تتجاوزهم إلا في هذا القليل النادر الذي لا غناء فيه والذي ضربنا له الأمثلة؟ والجواب على ذلك قائم فيما يبدو لنا على أمرين، الأول: هو أن رواية الجاهلية بأخبارها وأشعارها وإن كانت ظلت متصلة منذ الجاهلية نفسها إلى زمن هؤلاء العلماء على ما بيناه في الفصول السابقة إلا أنها كانت، قبل القرن الثاني، من الثقافة العامة التي لا يختص بها أحد، ومع ذلك لا يتجرد منها أحد. فقد كان المفسر والمحدث والفقيه والقاص يروون شعر الجاهلية وأخبارها؛ وكانت هذه الأخبار والأشعار آلة من آلاتهم يتوسلون بها لتفسير لفظ في كتاب الله أو حديث رسوله، ويسوقونها ليفصلوا بها مجمل ما ورد في القرآن من القصص وأخبار الأمم، أو ليزينوا بهذا الشعر ما يقصونه على الخلفاء في القصور وعلى العامة في المساجد من قصص تاريخية أو دينية. وكانت ثمة طائفة أخرى تحفظ أخبار الجاهلية وأشعارها غير هذه الطائفة من العلماء المفسرين أو المحدثين أو الفقهاء: فكان الخلفاء. والأمراء والولاة وأبناؤهم يتعلمون الشعر الجاهلي ويرويهم إياه مؤدبوهم، وكان أبناء الشاعر وسلالته وأفراد قبيلته يحفظون شعره وينشدونه في مجالسهم ومحافلهم، ولكن هؤلاء جميعًا لم يكونوا من العلماء المختصين بهذا الضرب من العلم، المنصرفين إليه، المشتغلين به، كما صار شأن العلماء في القرن الثاني. ومع ذلك فإننا نجد، في مثل الأسانيد القليلة التي ذكرناها، أن بعض الشعر الجاهلي يرويه علماء القرن الثاني عن بعض من ذكرناها، من المفسرين والمحدثين والفقهاء، أو أبناء الشاعر وأفراد قبيلته. فالرواية الأدبية بمعناها العلمي الذي عرفه القرن الثاني لم تكن موجودة -إذا صح ما ذهبنا إليه- قبل زمن أبي عمرو بن العلاء وحماد الراوية ومن عاصرهما. ومن هنا كان هؤلاء هم -في الغالب الأعم- نهاية الإسناد في الرواية الأدبية، يأخذها من جاء بعدهم -على مر العصور- على أنها، في جملتها، صحيحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 موثقة1 لا يسأل عمن أخذها هؤلاء، ولا يجد في انقطاع الإسناد عندهم ما يضعف من هذه الرواية. ومن هنا كان الإسناد في الرواية الأدبية هو القاعدة العامة في القرنين الثالث والرابع، يرتفع حتى يصل إلى هذه الطبقة الأولى من العلماء ثم يقف عندها لا يتجاوزها. والأمر الثاني منبثق من هذا الأمر الأول. وذلك ما أشرنا إليه فيما تقدم من أن أمر الشعر الجاهلي كان عرضًا من أعراض هذه الدنيا، يرتزقون بروايته وذكر أخباره حينًا، وينتشون بما فيه من إمتاع فني حينًا آخر، يتحلون به في ثقافتهم العامة حينًا ثالثًا، ويتناولونه في جميع هذه الأحوال تناولًا فيه يسر وإسماح. فلم يكن يتصل بأمور دينهم كما كان يتصل الحديث أو التفسير، ولم يكن يترتب عليه شأن من شئون التشريع أو الفقه، ولذلك وجدنا بعض المحدثين أنفسهم يضيقون بما يأخذون به أنفسهم وما يأخذهم به الناس من أمر الإسناد، والتشدد في رواية الحديث، والتحرج من الإكثار منها وتحري الضبط والدقة لئلا يقولوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل فيتبوءوا مقعدهم من النار. ولا يجد هؤلاء لأنفسهم متنفسًا يتنفسون فيه أرحب وأوسع من رواية الشعر وإنشاده حيث لا حرج ولا إثم. ومن هنا كان التزام الإسناد المرفوع في رواية الحديث، وانقطاع الإسناد في رواية الأدب والشعر. ومع أننا ذكرنا أن الإسناد في الرواية الأدبية لم يصبح قاعدة ملتزمة إلا في القرنين الثالث والرابع حيث يرتفع الإسناد إلى رجال الطبقة الأولى من علماء القرن الثاني، فإننا مع ذلك، نجد بعض علماء هذين القرنين يضيقون بهذا الإسناد الثاني -على قصره- فالمبرد مثلًا كان يهمل الإسناد حينما يتحدث أو يملي، ويبدو أنه كان مشهورًا بحذف الإسناد حتى قال نفطويه2: "ما رأيت أحفظ لأخبار   1 يستثنى من ذلك ما سنذكره من أمر الخصومات التي قامت بين المدارس المختلفة أو بين أفراد المدرسة الواحدة. 2 نزهة الألباء: 148، وانظر ياقوت، إرشاد 19: 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 بغير أسانيد من المبرد ومن أبي العباس بن الفرات". ولو رجعنا إلى كتب المبرد أو إلى بعض من نقل عن المبرد لوجدنا أن هذه الصفة واضحة فيه وإن لم تكن عامة ولا غالبة، ففي كتبه إسناد متصل حينًا، ومنقطع حينًا آخر، وفيها حذف للإسناد ونص على هذا الحذف. فإذا ما أخذنا كتابه "الفاضل" مثلًا وجدناه، حينما يحذف الإسناد، يكثر من استعمال صيغة البناء للمفعول من مثل "يُروى1" و"يُروى من غير وجه"2، و"قيل"3 و"ذُكر"4 و"حُدِّثت"5 وهو أحيانًا يذكر شيخه الذي يروي عنه ثم ينص على حذف الإسناد بعده مثل "وحدثني ابن عائشة عن بعض أشياخه"6 و"حدثني مسعود بن بشر في إسناد متصل"7 و"حدثني مسعود بن بشر في إسناد ذكره"8 و"حدثني الرياشي في إسناد ذكره"9 و"حدثني الرياشي -ولا أحفظ عمن حدثنيه-"10. وهو لا يهمل الإسناد في الأخبار والشعر حسب، وإنما يفعل ذلك أيضًا في الحديث، فهو يقول مثلًا11 "يُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" وكذلك "حدثني الرياشي قال: روى لنا أشياخنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... "12 ومن هنا أورد المرزباني عن المبرد قوله13: "حدثت في إسناد   1 ص5. 2 ص1، 29، 32. 3 ص7. 4 ص5. 5 ص50. 6 ص42. 7 ص50. 8 ص52. 9 ص12, ص62. 10 ص72. 11 ص1، 3، 4، 15. 12 ص9. 13 الموشح: 213-214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 متصل أن أبا النجم العجلي أنشد هشامًا ... " وكان لحذف الإسناد أحيانًا علة يذكرها المؤلف، فمن ذلك أن الصولي حذف الإسناد في "أدب الكتاب" وقال1 "قد ذكرت أن أختصر جميع ما أذكره وألقي أسانيده ليقرب على طالبه ومستفيده إلا ما لا بد منه من ذكر نسبته وإسناده". وكذلك فعل ابن قتيبة -وإن لم يكن صنيعه هذا في الرواية الأدبية الخالصة- فقد نص على حذف الإسناد في كتابه "تأويل مشكل القرآن" وذكر علة ذلك فقال2 "ولم يجز لي أن أنص بالإسناد إلى من له أصل التفسير إذ كنت لم أقتصر على وحي القوم حتى كشفته، وعلى إيمائهم حتى أوضحته، وزدت في الألفاظ ونقصت، وقدمت وأخرت، وضربت لبعض ذلك الأمثال والأشكال حتى يستوي في فهمه السامعون". وممن حذف الإسناد أيضًا واكتفى بالنص على آخر من روى عنه: أبو علي القالي، فقد ألف كتاب "البارع" في اللغة "فبناه على حروف المعجم، وجمع فيه كتب اللغة، وعزا كل كلمة إلى ناقلها من العلماء، واختصر بالإسناد عنهم"3. ولعلنا لا نعدو بالصواب حينما نخلص من كل ذلك إلى أن الإسناد لم يكن حتى في القرنين الثالث والرابع حين شاع وغلب أصلًا ثابتًا من أصول الرواية الأدبية، ولم يكن أساسًا من الأسس التي يُحتكم إليها في الاستشهاد على صحة هذه الرواية كما كان شأنه في رواية الحديث النبوي. فنحن نرى أن العلماء والرواة، في اللغة والشعر والأخبار، كانوا يقدمون بين يدي ما يروون بإسناد متصل إلى الطبقة الأولى من العلماء الرواة حينًا، وبإسناد منقطع حينًا آخر   1 أدب الكتاب: 28. 2 المشكل: 18. 3 الزبيدي، طبقات النحويين واللغويين: 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 يكتفون فيه بذكر شيخهم الذي أخذوا عنه هذا العلم، أو يتجاوزون شيخهم وربما شيخ شيخهم، ويقنعون بذكر أول من رُوي عنه هذا الشعر أو ذلك الخبر، مختصرين الإسناد اختصارًا إلى نهايته، ونراهم حينًا ثالثًا يحذفون الإسناد ويهملونه إهمالًا ويلقون بالخبر أو الشعر قائمًا مجردًا. وكان العلماء الرواة من معاصريهم وتلاميذهم يقبلون منهم كل ذلك ويوثقونه: يقبلون إسنادهم المتصل، ويقبلون إسنادهم المنقطع حين يقف عند شيخهم، وحين يهمل حلقة أو حلقتين من هذه السلسلة ويكتفي بأول حلقاتها، ثم يقبلون منهم الخبر وحده من غير إسناد. فإذا كان ذلك كذلك فما معنى الإسناد إذن؟ والجواب على ذلك مفصل فيما قدمناه عن مجالس العلم وعن التصحيف في فصل سابق. فقد كان العلماء يضعفون من يقتصر في علمه على الأخذ من الصحف من غير أن يلقى العلماء ويأخذ عنهم في مجالس علمهم، ويسمونه صحفيًّا، ومن هنا اشتقوا "التصحيف" وأصله "أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفة ولم يكن سمعه من الرجال فيغيره عن الصواب". فالإسناد في الرواية الأدبية لم يكن، فيما نرى، إلا دفعًا لهذه التهمة، وإلا حجة يقدمها العالم على أنه أخذ علمه من أفواه الشيوخ في مجالس العلم. فإذا ما بلغ هذا العالم من العلم شأوًا بعيدًا، وعرفت منزلته بين العلماء، واشتهر أمر شيوخه وأنه أخذ العلم عن فلان وفلان في مجالسهم وحلقات درسهم فلا عليه بعد ذلك أن يهمل الإسناد، فهو يسند حينًا إسنادًا متصلًا أو إسنادًا منقطعًا، وهو يحذف الإسناد حينًا آخر واثقًا مطمئنًا إلى أن ذلك لن يضيره. أما إذا كان أمر العالم على غير هذا الوجه، وكان متهمًا بأنه يمنح من ذات نفسه، وأنه لم يأخذ ما يروي عن عالم من شيوخ العلم قبله، فحينذاك يتصدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 له أهل العلم والرواية يطالبونه بالإسناد. حدث المازني قال1 "روى برزخ بن محمد العروضي -وكان معاصرًا لحماد الراوية وجناد وكان متهمًا بالكذب- شعرًا لامرئ القيس، فقال له جناد: عمن رويت هذا؟ قال: عني، وحسبك بي! فقال له جناد: من هذا أتيت يا غافل". ولو كان الإسناد أصلًا من أصول الرواية الأدبية -كما هو في رواية الحديث- إذن لوجدنا بين يدي كل خبر وكل بيت من الشعر أو مجموعة من الأبيات إسنادًا ملتزمًا كالإسناد الذي يلتزم بين يدي كل حديث نبوي، ولكان كل سند من هذه الأسانيد الأدبية متصلًا مرفوعًا في الشعر إلى الشاعر الجاهلي أو إلى راويته، وفي الخبر إلى من شهده في الجاهلية، ولوجدنا بعد ذلك كتبًا يعنى فيها أصحابها بتخريج الشعر الجاهلي من طرقه المختلفة، ثم لوجدنا كتبًا في تعديل رواة الأدب وتجريحهم كما هو الشأن عند أصحاب الحديث. ولك ذلك لا نجده فيما بين أيدينا، فأكثر الشعر الجاهلي في كتب الأدب العامة وبعض الدواوين غير مسند، وأما المسند منه فأقصى ما يصل إليه إسناده هم الطبقة الأولى من العلماء الرواة في منتصف القرن الثاني، وبعضه لا يرقى إلا إلى الطبقة الثانية، وأحيانًا إلى الطبقة الثالثة من علماء مطلع القرن الثالث ونهايته. وليس بين أيدينا كتاب واحد لتخريج الشعر الجاهلي من طرقه المختلفة، ولا كتاب واحد للجرح والتعديل في رواة الأدب، ولا ينقض هذا القول ما نجده في بعض معاجم الرجال وطبقات الأدباء واللغويين والنحويين، فهي كتب في التاريخ الأدبي العام، تترجم للعالم أو الراوية ترجمة عمادها السرد والقصص من غير توجيه لهذا السرد أو لتلك القصص لتدل على حكم خاص في توثيق المترجم له أو تضعيفه، إلا في القليل النادر حيث نجد الاتهام بالكذب أو الوضع يلقى إلقاءً مجردًا من البينة والدليل، بل لا يكاد ينتهي المؤلف من إلقاء اتهامه حتى   1 ياقوت، إرشاد 7: 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 يتبعه بقصة أخرى أو رأي آخر فيهما توثيق وتعديل. وسنبين في فصل مقبل -عند حديثنا عن النحل- أن كثيرًا من التجريح والتضعيف والاتهام بالكذب والوضع إنما كان مصدره خصومات شخصية أو خلافات مدرسية ومذهبية لا نصيب لها من التحقيق العلمي الذي يطمأن إليه. وقد يكون أمر الجرح والتعديل في رجال الحديث قد جرى على ما بيناه من أمر الجرح والتعديل في رواة الأدب، غير أننا نقصر حديثنا هنا على الرواية الأدبية وحدها ولا سبيل إلى توسيع البحث في الحديث عن غيرها. فليس للرواية الأدبية إذن علم للسند ونقده، بل ليس للرواية الأدبية سند كالسند الذي عرفه الحديث النبوي، وقصارى السند في الأدب -حين يوجد- أن يكون دليلًا على أن الراوية قد لقي العلماء وأخذ علمه من أفواههم في مجالس العلم ولم ينقله من صحيفة. غير أن لكل إطلاق تقييدًا، وتقييد هذا الإطلاق، الذي قدمناه، في بعض دواوين الشعر. ولكنه تقييد لا يكاد يقيد، بل إنه ليزيدنا اطمئنانًا إلى ما قدمنا من إطلاق. وتفصيل ذلك أن حديثنا السابق كان منصبًّا على ما في كتب الأدب العامة من أدب الجاهلية: شعرها وأخبارها. ولكن ثمة دواوين للشعر الجاهلي جمعها بعض علماء الطبقة الأولى من الرواة ودونوها، ثم أخذها عنهم تلاميذهم من علماء الطبقة الثانية ودونوها رواية عنهم، وأضافوا إليها بعض ما سمعوه من هؤلاء الشيوخ: من تفسير لغريبها، أو شرح لأبياتها، أو ذكر مفصل لما تعرض له من حوادث وإشارات تاريخية. ثم جاء رجال الطبقة الثالثة من العلماء والرواة فأخذوا هذه الدواوين -التي جمعها رجال الطبقة الأولى- عن علماء الطبقة الثانية، وأضافوا إليها أيضًا ما سمعوه من هؤلاء العلماء من شرح وتفسير وبيان تاريخي. وقد بقيت بعض هذه الدواوين حتى وصلت إلينا، وفي صدر بعضها سند يبدأ بعالم راوية في القرن الرابع أو أواخر القرن الثالث وينتهي بعالم من رجال الطبقة الأولى. وقد يكون الديوان خليطًًا من روايات عدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 جمعها لنا العالم الأخير بعد أن رواها عن شيوخ مختلفين، كل شيخ منهم رواها عن شيخ أو شيوخ سابقين، أو قد يكون الديوان كله رواية واحدة من حيث الشعر ولكن شرحه وتفسير غريبه مروي عن شيوخ متعددين، ويكون العالم الراوية الذي جمع لنا كل ذلك حريصًا على أن يسند كل قصيدة إلى راويها الأصلي، وأحيانًا ينص على ما فيها من أبيات تفرد بروايتها راوٍ دون آخر، مما سنعرض له بالبيان في الفصول التي سنعقدها عن الدواوين في آخر الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الباب الرابع: الشك في الشعر الجاهلي-الوضع والنحل الفصل الأول: المشكلة الهومرية مدخل ... الفصل الأول: المشكلة الهومرية -1- الشك في الأدب القديم، الذي أنشأته الأمم في جاهليتها وبداوتها، ظاهرة لا تقتصر على الشعر العربي وحده، ولكنها عامة تكاد تشمل الأدب القديم كله عند جميع الأمم التي كان لها أدب معروف مدروس. ولعل خير ما نمهد به بين يدي بحثنا هذا عن النحل والوضع في الشعر العربي الجاهلي أن نعرض في إيجاز الملامح الأساسية لجهود الدارسين الأوربيين الذين عنوا بدراسة الشعر الإغريقي القديم، وخاصة هومر وملحمتيه. ولسنا، في هذه الدراسة المقارنة، بدعًا بين الدارسين، فقد لجأ إليها الأوربيون أنفسهم حين تعرضوا لدراسة الشعر الإغريقي وهومر، وحاولوا أن يتلمسوا في آداب الأمم الأخرى ما يعينهم على المضي في سبيلهم وينير لهم بعض دياجيها1. فنراهم يبحثون في شعر الأمم البدائية ونشأته وطرق حفظه وروايته، ويوازنون بين ملحمتي هومر والملحمتين السنسكريتيتين: المهابهارتا والرامايانا من جانب، والقصائد والأغاني الشعبية في العصور الوسطى عند الأمم الأوربية نفسها من جانب آخر، ثم يوازنون آخر الأمر بين ملحمتي هومر والملاحم الأوربية التي نظمت في عصور أكثر حضارة   1 انظر R.C. Jebb, Homer: An Introduction to the Iliad and the Odyssey p. 131-136., انظر أيضًا W.D. Geddes, the problem of the Homeric poems. p. 4. f.n.a,p.10 وكذلك G.M. Bowra, Tradition and Design in the Iliad, Introduction 7-8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وأوفر علمًا من عصر الإلياذة والأوديسة من مثل إنيادة فرجيل، والفردوس المفقود لملتون، من جانب ثالث. ولم يعتسف جلة هؤلاء الدارسين سبيل تلك الموازنات اعتسافًا، وإنما صدروا عن بينة، وأقدموا على بصيرة، ومضوا يقظين متنبهين، مدركين أنهم بهذه الموازنات لا يصح أن ينخدعوا بالمشابه الظاهرة والوشائج الواضحة، بل لا بد لهم من أن يتنبهوا لوجوه الخلاف ومناحي الافتراق. فهم يوضحون، فيما يوضحون، الخلاف بين ملحمتي هومر والملحمتين الهنديتين في الوحدة والاتساق اللذين ينتظمان الأوليين ويفتقدان في الأخريين، والخلاف بين ملحمتي هومر والأغاني الشعبية في الخطة والنسق والنظام، والخلاف بينهما وبين الملاحم التالية في مظاهر العصر وما يتبع هذه المظاهر من مصادر علمية وفنية نهل منها شعراء الملاحم التالية وتأثروا بها، ولم ينل منها ناظم الإلياذة والأودية نصيبًا. وهؤلاء الدارسون يرتبون على هذا الخلاف والافتراق من النتائج ما يعصمهم في أحيان كثيرة من الانخداع بما للتشابه الظاهري من بريق مُغرٍ. ومع هذه الحيطة والحذر البالغين نرى دارسًا من ثقات المتخصصين في دراسة هومر لعهدنا هذا، هو الأستاذ سيسيل موريس باورا، يعتذر لنفسه بقوله1: "إن المقابلة واستخراج وجوه الشبه بين الأشياء وسيلة موحية ملهمة ولكنها خادعة مضللة، وأنا مدرك أنها قد تكون خدعتني وضللتني". وبعد، فسأعرض في هذه الصفحات بعض وجوه الشبه بين الشعر العربي الجاهلي والشعر الإغريقي القديم، وسأخلص من هذا العرض الموجز إلى الحديث عن ثلاث نقاط تتصل اتصالًا وثيقًا بما قدمت وما سأقدم من حديث عن الشعر الجاهلي ومصادره. أولاها: من نظم الإلياذة والأوديسة وصحة نسبتهما إلى هومر؟ والثانية: وسيلة حفظ الشعر الهومري، أكانت الرواية الشفهية أم الكتابة؟   1 GM. Bowra, Tradition and design in the Iliad, preface, 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 والثالثة: المدارس اللغوية القديمة التي درست شعر هومر ونقدته بعد أن جمعته ودونته. أما التشابه بين الشعر الجاهلي والشعر الإغريقي، في ملامحهما العامة وأوائل تطورهما ووسائل تحملهما وتاريخ العناية بهما ودراستهما عند القدماء، فتشابه قد اتضحت صورته في نفسي منذ أن اتصلت، شيئًا ما، بالشعر الإغريقي وتتبعت قدرًا صالحًا مما كتبه الدارسون عنه. وأراني في حل من بسط القول بسطًا يستقصي الأمور ويلم أطرافها ويحتاط لمزالقها في هذا الموضوع، ما دمت سأعرض للأمر من أصوله العامة وأتجنب الخوض في فروعه ودقائقه، وما دمت متخذًا من هذا التشابه مدخلًا لبيان النقاط الثلاثة التي ذكرتها دون تحميله من النتائج ما يتجاوز ذلك. 1- فالشعر الجاهلي وشعر هومر هما أقدم شعر وصل إلينا من العرب والإغريق، وهما -على ذلك- ليسا أول شعر قالته هاتان الأمتان؛ بل لقد سبقتهما مراحل تطور فيها الشعر حتى استوى في هذه الصورة التي وصلت إلينا. غير أن هذا الشعر المبكر عند العرب واليونان معًا قد ضاع ولم يحفظ لنا منه شيء قائم بنفسه منفصل عن غيره. ومع ذلك فإننا نستطيع أن نعرف وجود هذه المراحل السابقة من أمرين، أولهما: أن هذه الصور الشعرية التي وصلت إلينا صور فنية كاملة، متسقة، تامة التكوين، سوية البناء، ثابتة الأسس، حتى لقد أصبحت، بعد، نماذج فنية تحاكى وتحتذى ويتحذ منها عمود للشعر يحرص على التزامه شعراء العصور التالية في البيئات المتعددة التي صارت أزهى حضارة وأرقى ثقافة وأغزر معرفة. وليس يصح في الأفهام أن تنبت هذه الصورة الكاملة السوية من العدم، أو تقوم من الفراغ، أو تولد فجأة يافعة تامة التكوين. وثانيهما: أن في كلا الشعرين إشارات واضحة حينًا ومبهمة أحيانًا إلى شعراء سابقين لا نكاد نعرف عنهم شيئًا1.   1 لعل أوضح مثال على ذلك في الشعر الجاهلي هو "حذام" في شعر امرئ القيم على اختلاف في قراءته. وأما تفصيل هذا الأمر في الشعر الهومري ففي: 1- R.G. jebb, Homer: An Introduction to the Iliad and the Odyssey p. 1-2. 2- W.D. Geddes, the problem of the Homeric poems p. 21. 3- Thomas W. Ailen, Homer: the Origins and the Transmission, ويذكر توماس ألن في كتابه هذا ص121 أسماء عدة شعراء قبل هومر، ثم يجمع في "ص139 وما بعدها" الأدلة -التي يستخرجها من الإلياذة والأودية- على وجود شعراء سابقين لهومر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 2- والشبه كبير بين الشعرين العربي الجاهلي والهومري في الصفات العامة للتعبير الشعري، فهما يتسمان بالنضارة والغضارة والبساطة، وبالفتنة التي نعزوها إلى "طفولة العالم" عند اليونان، و"سذاجة البداوة" عند العرب. ومع ذلك فما أشبه الشعر الجاهلي العربي بالشعر الهومري الذي "تعالى عن خشونة الشكل، وتجنب الصراع الناشب بين المعنى واللفظ، وارتفع عن الحوشي المبتذل من أساليب القول، واستطاع أن يحتفظ بمستواه الرفيع حفظًا متزنًا، وبذلك تجنب هذه الخصائص التي يتصف بها الأدب في عصره البدائي. وهذه الميزات العامة هي التي يصفها ماثيو أرنولد -في محاضراته الممتازة عن ترجمة هومر- حيث يقول: إن لأسلوب هومر أربع مزايا كبرى: فهو منساب متدفق، سهل ميسور في فكرته، واضح في خياله، ونبيل سامٍ"1. 3- ولقد اختلف العلماء من دارسي الأدب في تدوين هذين الشعرين: الجاهلي العربي والهومري الإغريقي. فذهب فريق منهم إلى أنهما لم يكتبا منذ أن نُظما، بل بقيا محفوظين في صدور الرجال ترويهما الأجيال المتعاقبة وينشدهما الأفراد في المجالس والمحافل قرونًا طوالًا قاربت الثلاثة عند العرب وأربت على ذلك عند الإغريق. وذهب فريق آخر منهم إلى أن هذا الشعر قد كتب منذ أن قاله شعراء العرب في الجاهلية وهومر عند اليونان. أما تفصيل هذا الأمر عند العرب فقد بسطنا فيه القول في الفصول المتقدمة وسنعود إليه في مواطن متفرقة فيما سيلقانا من صفحات. وأما تفصيله عند اليونان فهو ما سنوضحه بعد قليل.   1 Jebb. Homer p. 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 4- والشعران الجاهلي العربي والهومري مصدران تاريخيان من مصادر الحياة الجاهلية عند هاتين الأمتين؛ بل ربما كانا -حتى الآن- المصدرين الأساسيين اللذين يعتمد الدارس عليهما في فهم هذه الحياة -في كثير من جوانبها- فهمًا متصلًا متسقًا. وجل الأخبار التاريخية والأدبية التي نقلها الرواة إنما كانت تدور حول هذا الشعر: تفسره وتشرح ما يتضمنه من حوادث، وتترجم لمن يشير إليه من أشخاص. وقد لجأ القدامى أنفسهم إلى الشعر العربي الجاهلي يستنطقونه ويستنبطون منه توضيح بعض جوانب الحياة في الجاهلية، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما فعله ابن قتيبة في كتابه "الميسر والقداح"، وما فعله أبو طالب المفضل بن سلمة في كتابه "الملاهي وأسماؤها". وأما الشعر الهومري فهو أيضًا أو سجل يعرض صورة واضحة نابضة بالحياة للحضارة الآرية، ولقد كادت فترة طويلة من الحياة الهيلينية المبكرة تكون لولاه نسيًا منسيًّا، ولكنها الآن بفضله تبدو متصلة بالعصر الهيليني التالي في نسف متدرج مستمر1. 5- وكان الفضل الأول، في جمع الشعرين الجاهلي العربي والهومري وتدوينهما ونقدهما، لمدرستين لغويتين أدبيتين؛ قامت أولاهما في الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد، فجمعت ما استطاعت العثور عليه من مخطوطات الإلياذة والأوديسة، وقابلت بينها، وأثبتت القراءات المختلفة للنص الشعري، وعلقت عليه كثيرًا من التعليقات والشروح، ثم تابعتها بعد ذلك مدينة برجامس. وقامت ثانيتهما في البصرة والكوفة منذ منتصف القرن الثاني الهجري، فصنعت بالشعر الجاهلي صنيع أختها بالشعر الهومري. وعلى ما أرسته هاتان المدرستان من أسس، ووضعته من قواعد، قام البناء الشامخ لدراسة الشعر الهومري والشعر الجاهلي العربي بعد ذلك. 6- ولم يقتصر عمل هاتين المدرستين على الجمع والتدوين والشرح والتعليق.   1 Jebb, Homer p. 1, 38, 84-85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وإنما تعدى ذلك كله إلى النقد الدقيق القائم على الفهم العميق لطبيعة كل من الشعرين واستشفاف روح، والتنبه لما تسرب إليه من دخيل منحول وزائف مصنوع. ونبتت في نقد هاتين المدرستين ويقظتهما الواعية الجذور الأول التي أخذت تنمو وتعمق حتى بلغت مداها في القرن الثامن عشر عند الألمان، واكتملت صورتها عند ولف في كتابه "المقدمة Prolegomena"، ونشأ منها ما يعرف في النقد الحديث "بالمشكلة الهومرية Homeric Question"؛ وتأثرها -فيما يبدو- دارسو الشعر الجاهلي من المحدثين، معتمدين على ما تنبه له القدامى من مدرسة البصرة والكوفة، فقامت عندهم منذ مطلع القرن العشرين مشكلة أخرى عُرِفت باسم "نحل الشعر الجاهلي"، بدأها المستشرق الإنجليزي مرجليوث، واكتملت صورتها عند الأستاذ الدكتور طه حسين. وسنعود بعد قليل إلى بسط الحديث في هاتين النقطتين الأخيرتين. أو ليس إذن من المفيد حقًّا -بعد أن عرضنا هذه الوجوه الكثيرة للتشابه القريب بين الشعرين- أن نستبين جهود الدارسين من العلماء الأوربيين الذين بحثوا في الشعر الهومري؟ وأن نعرف، على وجه التخصيص، ما وصلوا إليه من أمر النقاط الثلاث التي قدمنا الإشارة إليها، وهي: مَنْ نظم الإلياذة والأوديسة وصحة نسبتهما إلى هومر؛ ووسيلة حفظ الشعر الهومري: أكانت الرواية الشفهية أم الكتابة؛ ثم المدارس اللغوية القديمة التي درست شعر هومر ونقدته بعد أن جمعته ودونته؟ -2- أما من الذي نظم الملحمتين الهومريتين1 فموضوع لم يصل الدارسون له،   1 القصيدتان الهومريتان هما الإلياذة والأوديسة، والنص على أنهما هومريتان لا يتضمن في هذا المجال أن شاعرًا مفردًا بعينه هو ناظم القصيدتين أو ناظم إحداهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 برغم ما بذلوا من جهد خصب، إلى نتيجة يستقرون عندها، ويبدو أنهم لن يصلوا مهما يبذلوا من جهد، وستبقى الآراء مختلفة متشعبة لا تتوحد ولا تكاد، وستظل الأدلة التي يقدمها الدارسون افتراضية ترجيحية لا ترقى إلى مرتبة القطع واليقين. وتدور هذه الآراء حول عدة افتراضات؛ منها: أ- وحدة التأليف: فقد ظل الدارسون قرونًا طوالًا يعتقدون اعتقادًا لا شك فيه بوجود شاعر اسمه هومر، وأنه هو الذي نظم الإلياذة والأوديسة لا ينازعه في نسبتهما إليه منازع. ولم يكن اليونان وحدهم في القرون الخمسة التي سبقت الميلاد -وهي القرون التي وصلتنا منها آثار أدبية مكتوبة- يذهبون مثل هذا المذهب، بل شاركهم فيه الدارسون بعد الميلاد قرونًا طويلة حتى القرن الثامن عشر الميلادي. ومع هذا فقد كانت شخصية هومر عندهم غائمة تغشيها أساطير متضاربة1. وحقًّا قد وجد نفر قليل من الشاكين غير أن أثرهم كان ضئيلًا محدودًا ولم يتبعهم أحد. وكل ما نعرفه عن هؤلاء الشاكين إشارات عابرة إلى آرائهم موجودة في حواشي نسخة البندقية من الإلياذة Codex Venetus؛ ويستخلص من هذه الإشارات العابرة إلى آرائهم أنهم كانوا يذهبون إلى أن القصيدتين من نظم شعراء مختلفين وفي عهود متعاقبة. ولكن الرأي السابق هو الرأي العرفي التقليدي الذي كان سائدًا عامًّا، حتى إن سويداس Suidas في نحو سنة 1100م كان لا يزال يرى أن الإلياذة والأوديسة نظمهما هومر دون نزاع؛ بل إن بنتلي Bentley في مطلع القرن الثامن عشر كان يذهب إلى أن شاعرًا كان يسمى هومر عاش في نحو 1050 ق. م كتب الإلياذة والأوديسة كلتيهما2. والحق أن فكرة وجود شاعر واحد تاريخي اسمه هومر نظم الإلياذة قد بقيت   1 انظر Jebb, Homer, p. 88,103 وكذلك Geddes, the problem of the Homerc poems, 5 2 Jebb, Homer, 103. 105-106 وكذلك: Geddes. p. 6 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 خلال العصور على الرغم من أبحاث الناقدين المتشككين. فنحن نجد عالمًا معاصرًا في القرن العشرين من الثقات المختصين بهومر والشعر الإغريقي يذهب هذا المذهب فيقول1: "ويبدو من المحتمل أنه كان ثمة شاعر مفرد اسمه هومر صاغ الإلياذة في صورتها النهائية الأخيرة ووحدتها الفنية، ولكنه كان يعمل وفاقًا لأسلوب موروث متواضع عليه ومادة تتناقل وتتوارث". ويقول في موطن آخر من كتابه2: "غير أننا إذ ندعي أن تقسيم الإلياذة إلى نتاج مؤلفين مختلفين أمر مستحيل سنتخذ الأدلة التي عثر عليها النقاد لهدف مختلف عن ذلك كل الاختلاف، هو: تفسير بعض الخصائص الواضحة على أساس افتراضنا أنها جميعها ترجع إلى شاعر فرد يستخدم موضوعات ومواد جاهزة بأسلوب وطريقة يمليها التراث الموروث الذي أصبح هو وريثه". ثم يقول بعد صفحات3: "لقد نمت الإلياذة وربما كان نموها وفقًا للخطوط التي بيناها في هذا الكتاب. وكان من الجائز أن ينتهي مثل هذا التطور والنمو إلى فوضى واضطراب، كما حدث في المهابهارتا، لو تعهدته يد غير صناع، ولكن الملحمة في زيونيا كانت أسعد حظًّا، فقد وجدت في هومر شاعرًا له من الموهبة ما جعله يتناول المواد الموروثة ويجعلها ملكه، فوسعها وطورها، وأضفى عليها تفردًا في الأسلوب والفكرة، فحول المواد المتضاربة إلى قصيدة واحدة، وقد بلغ عمله من النجاح مرتبة عالية بحيث انتهت حقًّا الملحمة الإغريقية بها. وقد نظم بعده بمدةٍ طويلة شعراء آخرون ملاحم، ولكنهم صاغوا على منواله، وكان هو الذي ثبت أسلوبهم وأرسى قواعده، فعمله بعيد عن أن يكون جمعًا. لقد استخدم المناهج والقصص المتوارثة ولكنه أخضعها لغايته الفنية، وفرض شخصيته الخاصة عليها، وكانت نتيجة ذلك الإلياذة".   1 C. M. Dowra, Tradition and Design in the Ilad, p. 1. 2 المصدر السابق ص2. 3 المصدر السابق ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 "ب وجـ" ثنائية التأليف وتعدد التأليف: وقد آثرنا أن نجمع هذين الافتراضين معًا لتداخلهما وتشابكهما وصعوبة الفصل بينهما كما سيبدو بعد قليل. لقد ذكرنا آنفًا أنه كانت ثمة نظريتان عن القصيدتين الهومريتين، ولكن إحداهما كانت قد اندثرت في الواقع، فسادت النظرية التقليدية بلا منازع خلال العصور حتى القرن الثامن عشر الميلادي، حينما قام فردريك أوغست ولف F.A. Wolf في ألمانيا ودرس القصيدتين دراسة نقدية دقيقة، وأخرج سنة 1795 كتابه "المقدمة prolegomena"1 عرض فيه نظريته الشهيرة2. وبالرغم من منزلة ولف في عالم الدراسات القديمة الكلاسيكية، وبالرغم من شهرة نظريته وذيوع صيتها، فقد ذهب العلماء في فهمها ودرسها مذاهب مختلفة، بل إن تلامذة ولف حين أخذوا يوسعون نظريته ويفصلون ما أجمل، اختلفوا فيما بينهم وسلكوا طريقين متباينين بل طرائق متعددة. فالدكتور ر. س. جب يورد لنا الأسس التي حاكم عيها ولف القصيدتين، ثم يصف لنا هذه النظرية بقوله3: "ومع ذلك فقد كان ولف أبعد ما يكون عن إنكار وجود شخص هومر، فهو يفرض أن شاعرًا ذا موهبة ممتازة، ويسميه في أكثر الأحيان هومر، "بدأ نسج القماش واستمر فيه إلى أمد معلوم"، بل ذهب إلى أكثر من ذلك حينما قال: "نسج هومر القسم الأكبر" من الأغاني التي جمعت بعد في الإلياذة والأوديسة. هذا ما قاله ولف في كتابه المقدمة بل لقد قال هذا القول في صورة أوكد في مقدمة طبعته للإلياذة التي طبعت في نحو الوقت نفسه. قال: "لا ريب   1 مقدمة ولف التمهيدية prolegomena كتاب صغير صفحاته 280 من قطع الثمن وقد طبع في Halle سنة 1795. 2 وجد قبل ولف علماء درسوا القصيدتين الهومريتين وكانت لهم آراء جزئية يصح أن تعد إرهاصات لنظرية ولف، ولم نجد حاجة لعرضها، وقد ذكرها الدكتور جب في كتابه عن هومر ص105-107. 3 Jebbe, Homr, p. 109-110 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 أن النسج قد بدئ به في الإلياذة والأوديسة على السواء، وقد استمر في ذلك إلى أمد معين، وقام بذلك الشاعر الذي فكر في هذا الأمر ابتداءً. وقد يكون من المستحيل أن نبين، ولو بالفرض الممكن، الحدود الدقيقة التي تبدأ عندها الخيوط الجديدة والزيادات الدخيلة؛ ولكن هذا سيثبت على الأقل -إن لم يجانبني الصواب- أنه لا بد لنا من أن ننسب إلى هومر وحده القسم الأكبر من الأغاني، وأن ننسب الباقي إلى جماعة الهومريين الذين اقتفوا أثره". بينما نجد الدكتور وليم د. جديس william D.Geddes يصف لنا نظرية ولف وصفًا يُفْهَم منه ما يختلف عن وصف جب، قال جديس1: "أثار ولف أولًا هذا السؤال: أهومر واحد أو حتى هومران اثنان كافيان لخلق القصيدتين الهومريتين؟ أو لسنا بحاجة إلى مجموعة من الهومريين ننسب إليهم قصيدتين في مثل هذا الاتساع في عصر بدائي؟ ومن هنا قدم نظريته الشهيرة في "المقدمة" وهي أن هومر لم يكن شاعرًا واحدًا، كما يرى العرفيون أو التقليديون، ولم يكن كذلك شاعرين اثنين، ولكنه كان اسمًا تاريخيًّا يطلق للدلالة على الجهد أو النشاط الشعري في العصر الملحمي المبكر، ويشمل مجموعة من الشعراء لا شاعرًا فردًا". ومن هنا نستطيع أن نستبين صدق وصف جب لنظرية ولف بالمرونة في قوله2: "إن الأثر الدائم لعمل ولف لا يعود إلى القوة التي صيغت بها نظريته حسب، بل أيضًا إلى مهارته في الهروب من جعلها دقيقة محكمة. إن إحساسه الأدبي الذي أدرك المزايا الداخلية التي جعلت كل ملحمة وحدة عامة، خفف من حدة استخدامه للأدلة والمناقشات الخارجية. فهو لم يحاول أن يحدد تحديدًا دقيقًا القدر الذي نظمه الشاعر الأصلي، وأين يبدأ عمل الشعراء   1 The Probiem of The Homeric Poenis. P.7-8. 2 Jetb, Homer, p. 117f. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 الآخرين، وكيف يختلفون. ومن هنا كانت لفظة "الولفية" مرنة مطاطة تشتمل على ظلال آراء مختلفة متعددة. لقد طُبقت أحيانًا في أضيق الآماد، وأحيانًا أخرى في أوسعها وأرحبها. إن النظرية الولفية الخاصة المميزة لا تعدو أن تكون ما يأتي: إن القصائد الهومرية جمعت، في بداية العصر الأدبي عند الإغريق، من أغانٍ وأناشيدَ قصيرةٍ غير مكتوبة تحدرت من عهد بدائي. أما كم من هذه الأغاني القصيرة نحس أنها من نظم شاعر واحد فأمر ثانوي فرعي. إن رأي ولف، كما رأينا، هو أن الشاعر الذي بدأ مجموعة الأغاني قد نظم أكثرها أيضًا، وأن الشعراء التالين له واصلوا السير في حدود الخطوط العامة لعمله". ثم يقول جب: "لقد اتجهت التطورات الأصيلة لنظرية ولف في اتجاهين عامين: أحدهما إظهار أثر الشاعر الأول من مجموعة الشعراء أقل مما صوره ولف، ويمثل هذا الاتجاه لاخمان Lachmann. وأما الثاني فإظهار أثره أقوى وأشد، ويمثل هذا الاتجاه هرمان Hermann". أما لاخمان فقد "قسم الإلياذة إلى ثماني عشرة أغنية منفصلة. ويشيع في نفوسنا الشك، ويوحي إلينا أنها تعزَى إلى ثمانية عشر ناظمًا. وأيًّا كان الأمر فهو يرى أن كل واحدة من هذه الأغاني كانت في أصلها مستقلة استقلالًا ما عن الأخريات. وميزانه الرئيسي هو تناقض التفصيلات والجزئيات ... ثم يؤكد أيضًا أن كثيرًا من الأغاني تختلف اختلافًا كاملًا في روحها العامة". وأما هرمان فقد طور نظرية ولف بما يتفق مع روح ولف. ويدرك هرمان صعوبة واحدة تركها ولف غير مفسرة، فقد قال ولف: "إن نسج القماش الهومري قد بدأه الشاعر الأول الرئيسي الذي واصله إلى حد معلوم، ثم أتمه آخرون". ولكن لماذا لم يواصلوه إلا في هذه الحدود الضيقة؟ ولماذا حصروا أنفسهم في نطاق أيام معدودات من حصار طروادة؟ ولماذا لم يغنوا لعودة بطل آخر غير أوديسوس؟ يجيب هرمان عن ذلك بقوله: لأن الشاعر البدائي العظيم "هومر" لم يكتف بأن يواصل نسج الخيط إلى حد معلوم، بل رسم التخطيط العام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 لإلياذتنا والتخطيط العام لأوديستنا، مستخدمًا المواد الأولى أوسع استخدام. ولم يكن عمل التالين أن يواصلوا نسج خيط في النسيج، بل أن يتموا التخطيط داخل نطاق ثابت معلوم. فنحن نرى إذن أن الفكرة الأساسية التي شاعت عند ولف والمولفيين الحقيقيين مثل لاخمان وهرمان هي أن هومر كان شاعرًا بدائيًّا نظم أغاني قصيرة غير مكتوبة ذات وحدة مترابطة، ولكنها لم تبلغ منزلة الملحمة الكاملة، حتى جاء بعده من أتمها وأوصلها إلى منزلة الملحمة. وقد كان لهذه النظرية رد فعل، فقام من العلماء الدارسين من ذهب مذهبًا يختلف في جوهره عن مذهب ولف وتلاميذه، وهو يعتمد في أساسه على أن هومرليس مغنيًا بدائيًّا وإنما هو ذلك الفنان الشاعر العظيم الذي جاء بعد عهد الأغاني القصيرة فصاغ ملحمة ذات آماد واسعة، فهو بذلك منشئ ما يسمَّى بـ Epopee. وسنشير إلى ثلاثة ممن ذهبوا هذا المذهب في جوهره وإن اختلفوا في بعض أجزائه. أولهم1: نيتش G.W. Nitzsch وهو يرى أن قصائد Cyclic Epics التي انحدرت إلينا من القرنين السابع والثامن قبل الميلاد توحي بأن الإلياذة والأوديسة بمعالمهما الحاضرة وصورتهما قد سبقتا هذه القصائد، وأن هذه القصائد قصد منها أن تكون ملاحق أو مقدمات تمهيدية للقصيدتين الهومريتين. ويقول نيتش عن هومر: "إنني أعني بهومر ذلك الرجل الذي ارتقى بتلك الأغاني القصيرة المتعددة التي نظمها الشعراء المغنون القدامى عن الحرب الطروادية، وصاغ الإلياذة التي كانت في أصلها تتحدث عن "مجلس زيوس" حسب فجعلها الإلياذة التي نعرفها والتي تقص قصة "غضب أخيل" وهكذا يرى نيتش أن هومر شاعر قديم جدًّا، وهو جدير بأن تؤرخ به بداية عصر. وأنه وجد عددًا من الأغاني القصيرة عن طروادة، فأتم عملًا ذا صبغة جديدة، وذلك بأن أقام -مستعينًا بهذه الأغاني- ملحمة كبيرة تقص غضب أخيل. وقد حدثت بعد ذلك تغييرات ومنحولات   1 جب، هومر: 121-125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 فرعية، غير أن الإلياذة التي نعرفها في أغلبها نظم شاعر واحد، والأوديسة التي نعرفها ربما نظمها الشاعر نفسه؛ وأن هاتين القصيدتين قد استقرت صورتهما الحاضرة -في جوهرها- قبل سنة 800 ق. م بزمن غير قصير. وثانيهم: جروت Grote وهو متفق مع نيتش في جوهر رأيه القائم على أن هومر ينتمي إلى الطور الثاني من أطوار الشعر البطولي لا إلى الطور الأول، أي أنه ناظم ملحمة كبيرة لا قصائد بدائية ذات أغان قصيرة. غير أنه يرى أن الإلياذة التي بين أيدينا خرجت عن نطاق القصيدة الكبيرة كما نظمت في الأصل وزادت عليه. لقد كانت تلك القصيدة الأولى عن غضب أخيل، ولذلك فقد كانت أخيلية An Achilleid، ثم عمد شاعر آخر أو شعراء إلى تحويلها إلى قصيدة تقص قصة الحرب الطروادية عامة، فصارت الإلياذة. لقد أضفت إليها قصائد غنائية كاملة لا علاقة لها بالأخيلية الصرفة ولكنها تعترضها أو تطيلها. والثالث: جديس William D. Geddes وقد ألف كتابًا1 "يشتمل على بحث واسع شامل في قصيدتي هومر العظيمتين، والهدف منه أن نوضح، من الأدلة والبراهين الداخلية وحدها، علاقة كل من القصيدتين بالأخرى وترابطهما إن استطعنا". ثم يقول جديس: "وقد انتهى بي البحث -بطريق الأدلة وحدها غير متحيز لآراء سابقة- إلى أن أقبل رأي جروت Grote في بناء الإلياذة المركب "الثنائي"، فهو الرأي العلمي الوحيد الذي ينال قبولًا. ففي تلك القصيدة تأليف مزدوج "ثنائي"، والأخيلية Achilleid في الإلياذة هي النواة، وقد نظمها شاعر آخر غير الشاعر الذي نظم القشور التي تحيط بها، وأعتقد أن الحقائق تشير إلى هذا الرأي في وضوح وبيان. وإني أبيح لنفسي أن أزعم أني قد قدمت أدلة جديدة تثبت صحة رأي جروت ونفاذ بصيرته في النقد. وقد تتبعت هذا الموضوع بعد المرحلة الابتدائية التي خلفه فيها جروت، ووجدت اتصالًا   1 اسم كتابه: the problem of the Homeaic poems، وقد طبع في مطبعة مكملان في لندن سنة 1878 وانظر ص3 إلى 4 من المقدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وثيقًا بين الأوديسة والأجزاء غير الأخيلية من الإلياذة، ووجدت أن الأدلة تتجه اتجاهًا ملحوظًا إلى ربطهما كليهما بهومر الواحد الشخصي الذي تذكره الروايات. وربما كان خير ما نعقب به على هذه الآراء المتباينة والنظريات المتضاربة ما أورده جديس نفسه في كتابه بعد أن عرض وجوه الرأي المختلفة قال1: "يبدو لنا من هذا العرض العام للميدان أن معركة النقد كانت سجالًا، وما زالت الجيوش في المعسكرات عاجزة عن استدراج خصومهم من خنادقهم. فنحن نرى، من جانب، صفًّا من النقاد يدعون وحدة التأليف، ويرون أن الاختلافات والفروق إنما هي شكلية خارجية عارضة يسهل تفسيرها وإرجاعها إلى وسيلة النقل والرواية، وهي لذلك ليست جوهرية. ونرى، من جانب آخر، صفًّا معاديًا من النقاد مساوين لخصومهم في العلم والحذق، وأكثرهم في ألمانيا، يتجهون إلى تعدد التأليف، فكل قصيدة -كما يرون- مجموعة ملفقة ليس فيها ترابط أصيل، فالفروق والاختلافات إذن جوهرية لا يمكن اجتنابها. وفي مكان سُوى بين هذين، وتحت وابل رصاصهما كليهما، يقف صف مشرد ضال شيئًا ما، هو صف الانفصاليين الذين يرون أن كل قصيدة مفردة ذات وحدة ولها ناظم غير ناظم الأخرى. والداعون إلى الوحدة في الأصل والتأليف يعارضون الولفيين الداعين إلى تعدد الأصل والتأليف، بينما يتلقى الداعون إلى ازدواج الأصل والتأليف "الثنائية" الهجوم منهما كليهما ... وكلما مضى المرء في تتبع دراسات العلماء عن القصيدتين الهومريتين، وأمعن في الغوص في أعماق أجزاء الدراسة وتفصيلاتها، لم يسعه إلا أن يتذكر رأي سنيكا seneca الذي أعلنه منذ عشرين قرنًا حين رأى النقاد يتدارسون هاتين القصيدتين ويبحثون أصلهما وتأليفهما، فقد كان يرى أن هذه الدراسة أمر يتطلب حذقًا ومهارة ولكنه حذق غير منتج ومهارة غير مجدية2.   1 المصدر السابق: 10 2 جب، هومر: 103-104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 -3- وسيلة حفظ الشعر الهومري: الرواية الشفهية أم الكتابة؟ وقد اختلف الدارسون في هذا الموضوع كما اختلفوا في سابقه، وإن كانت شقة الخلاف هنا بطبيعتها أضيق. فقد ذهب بعضهم إلى أن القصيدتين الهومريتين لم تدونا إلا بعد نظمهما بقرون طويلة، بينما ذهب فريق آخر إلى أنهما دونتا منذ أن نظمتا. فمن الفريق الأول: يوسيفوس Josephus -في القرن الأول الميلادي- وهو أقدم من نعرف ممن ذهب هذا المذهب فقد قال1: "لا يمكن أن يكون الإغريق قد عرفوا في حرب طروادة هذا الاستعمال الحديث للكتابة الهجائية. ولم يكن للإغريق أدب قبل هومر، وهومر عاش بعد الحرب. ويقولون إنه حتى هومر نفسه لم يدون شعره كتابة، ولكن هذا الشعر كان ينتقل بالرواية الشفهية، ثم جمع جمعًا من الأغاني المبعثرة؛ ومن هنا نشأت هذه الفروق التي تبدو لنا". ومن هذا الفريق أيضًا روبرت وود2 Robert Wood -في القرن الثامن عشر- وله كتاب: Essay on the Original Genius Of Homer. وقد بحث في أحد فصول كتابة هذا معرفة هومر للكتابة. وقد خلص من بحثه إلى أنه لم يكن يعرفها. ووود هو أول من بحث هذا الموضوع بحثًا نقديًّا. وقد قرأ ولف في عهد طلبه العلم في جوتنجن مقال وود، وهو يشير إليه في مقدمته التمهيدية prolegomena مثنيًا عليه. وكان لهذا المقال أكبر الأثر في ولف، بل لقد صار رأي وود في الكتابة مفتاح نظرية ولف.   1 جب، هومر: 105. 2 المرجع السابق: 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وثالث هذه الفريق هو رأس النقاد: ولف F.A. Wolf. "المولود سنة 1759"1 فقد ذهب في كتابه "المقدمة" إلى أن القصيدتين الهومريتين قد نُظمتا من غير معونة الكتابة، إذ أن اليونانيين كانوا حتى عام 950 ق. م يجهلون الكتابة جهلًا تامًّا، أو أنهم لم يستخدموها لتقييد الأعمال الأدبية. وهو يرى أن القصيدتين قد نُقلتا في خلال قرون طويلة بالرواية الشفهية، فتعاورتهما تغييرات كثيرة عمد إلى بعضها الرواة عمدًا وجاء بعضها مصادفة، وأنهما لم تدونا إلا في نحو سنة 550 ق. م. أما الفريق الثاني الذي ذهب إلي ترجيح تدوين القصيدتين منذ عهد قديم وربما منذ نظمهما، فأقدم رجاله: ديودور الصقلي في القرن الأول قبل الميلاد. فهو يرى أن الشعراء الذين سبقوا هومر قد عرفوا الكتابة واستخدموها في كتابة أشعارهم2؛ ويقول إن الشاعر لينوس Linus -وهو الذي اكتشف الأوزان الموسيقية والنغمات- كان أول من أدخل الحروف الهجائية الفينيقية إلى اليونان، وأن هذا الشاعر كتب بهذه الحروف أعمال ديونيس والأساطير الأخرى، وبهذه الحروف نفسها كتب أورفيوس وبرونابيدس وهو أستاذ هومر ... ومن هذا الفريق أيضًا نيتش3 G.W. Nitzach وهو يمثل أول رد فعل ذي أثر ضد النظرية الولفية، فقد أظهر أن استخدام الإغريق للكتابة كان أقدم مما ادعى ولف، وأنها قد تكون استخدمت لتعين الحافظة قبل أن يكون هناك جمهور قارئ بوقت طويل. وثالث هذه الطائفة: كرايست4 W. Christ الذي يذهب إلى أن الإلياذة قد كتبت قبل عهد بيزيزتراتوس ولكنها لم تدون مجموعة كاملة، بل كتبت في   1 جب، هومر: 108. 2 Thomas W. Allen, Homer: The Origins and The Transmission , p. 133 3 جب - هومر: 121. 4 المرجع السابق: 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 صورة هذه الأغاني المنفصلة، وبعناوين وأسماء منفصلة مختلفة، وبيزيزتراتوس هو أول من جعل هذه المجموعة تدون في صورة كل موحد منظم. وممن يصح أن يكون من هذا الفريق عالمان حديثان لا يقطعان قطع اليقين في هذا الموضوع ولكنهما يعرضانه عرضًا شاملًا لوجوه النظر المختلفة في حيطة وحذر، ثم يخلصان إلى ترجيح كتابة القصيدتين منذ أقدم العهود. أولهما الدكتور جب1 R,C. Jebb. وسنبسط رأيه بعض البسط إذ أنه يعرض لوجوه من الرأي ذات قيمة كبيرة في بحثنا الأصلي عن الشعر الجاهلي. يرى جب أن الفرض الأساسي في نظرية ولف هو إنكار أن الكتابة الأدبية كانت محتملة الوجود عند الإغريق في نحو سنة 950 ق. م. ثم يقول: ومهما يكن من أمر فإن هذا الفرض ليس ثابتًا مؤكدًا كما اعتقد ولف، وجدير بالعناية أن نلحظ النقاط التالية: 1- حقًّا إن الشواهد الباقية من النقوش لا ترجع إلى أقدم من القرن السابع قبل الميلاد، غير أنه لا يصح أن نزعم أن استخدام الكتابة على الآثار والنصب سبق استخدامها في الشئون العادية. بل إن الفرض المضاد أقرب إلى الصواب. وإذا كانت الكتابة الإغريقية على أقدم أنواع الرخام الباقي غير متقنة فإن ذلك لا يدل بالضرورة على أن الإغريق لم يكونوا حينذاك يعرفون فن الكتابة، بل يدل على أنهم لم يكونوا قد حذقوا نقش الحروف في الحجارة، وقد يكونون -قبل ذلك بزمن طويل- قد حذقوا الكتابة على مواد ألين وأطرى وأسرع إلى الفناء والضياع: كأوراق الأشجار والرق والخشب والشمع. 2- إن التبادل التجاري بين الإغريق والفينيقيين -ومنهم اقتبس الإغريق حروف الهجاء- لا بد أنه كان شائعًا منذ نحو 1100 قبل الميلاد، بل قبل ذلك. والفينيقيون -كما يشهد يوسيفوس- قد استخدموا فن الكتابة منذ أقدم الأزمنة لا لتسجيل أعمالهم العامة حسب بل أيضًا في شئون حياتهم اليومية. وإنه   1 المرجع السابق: 110-115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 ليكون عجيبًا لو أن شعبًا له من سرعة الخاطر ما لليونان -في تقدمه وسبقه في جميع ضروب الحضارة- قد تأخر عن اقتباس هذا المثل إلى زمن متأخر نسبيًّا في تطوره وتقدمه -أي إلى القرن السابع قبل الميلاد. 3- ونحن نعلم أيضًا أن قصائد بطولية طويلة -بعضها معروف باسم cyclic- لم يتح لها من الانتشار ما أتيح لهومر، قد نُقلت إلينا من القرن الثامن قبل الميلاد. ومن غير المحتمل أن تكون هذه القصائد المجهولة نسبيًّا قد حُفظت من غير عون الكتابة. ومن هذه القصائد: The cypria المنسوبة إلى The Aethiopis و stasinus المنسوبة إلى Arctinus ومن المؤكد أن الشاعر Archilochus وشعراء القرن السابع ق. م الآخرين قد استخدموا الكتابة. وولف نفسه يعترف حقًّا بأن الشعراء كانوا أحيانًا يستخدمون الكتابة منذ زمن مبكر يرجع إلى سنة 776 ق. م. 4- إن الاحتمالات ترجح الرأي القائل إن "العلامات المؤذية - Tokens Baneful" الواردة في الإلياذة "6: 168" تشير إلى ضرب من حروف الهجاء أو الكتابة الهجائية. وحتى لو سلمنا بأنه لم ترد أية إشارة إلى الكتابة في الإلياذة والأوديسة، فإنه ليس ثمة دليل سليم يصح أن يستنتج من إغفال الشعر البطولي -المقصود للرواية والإنشاد- هذا الأمر إغفالًا قد يكون تقليديًّا متفقًا عليه. 5- ويفرض هيرودوتس، حينما يتحدث عن النقوش الإغريقية التي رآها في طيبة Thebes أنها ترجع إلى عدة قرون قبل زمنه. ويشبه هذا الاعتقاد بقدم الكتابة عند الإغريق قدمًا سحيقًا ما نجده في الأدب اليوناني في القرنين الخامس الرابع قبل الميلاد. 6- إن الأبحاث الحديثة فندت الرأي القائل بأن القصيدتين لا بد أنهما نظمتا منذ زمن طويل يسبق تدوينهما لأنهما تستعملان، في أحيان كثيرة، صوتًا هو Digamma لا يُعرف بأنه كان يصور في حرف في أية مخطوطة قديمة لهومر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 7- إن فكرة "الاستخدام الأدبي للكتابة" تحتاج إلى تعريف وتحديد. فإذا كان المقصود بها "انتشار الكتابة انتشارًا واسعًا في عدة نسخ لقراءة الجماهير". فمما لا ريب فيه أنه لا يبدو أن شيئًا من هذا القبيل قد وُجد قبل القسم الأخير من القرن الخامس قبل الميلاد. ولكن لنفرض أن رجلًا نظم عددًا من أبيات الشعر في مخيلته وخشي أن ينساها، فإذا كان يستطيع أن يستخدم "العلامات الفينيقية" استخدامًا مجديًا ليحفظ حساباته مثلًا أو مذكراته الأخرى، فلماذا لا يحفظ بها أبيات شعره؟ ذلك هو حقًّا ما قصده ولف حينما أجاز أن بعض الناس استخدم الكتابة لمثل هذه الأغراض منذ سنة 776 ق. م. وربما لم يكن أحد يستطيع قراءتها إلا الشاعر نفسه أو أولئك الذين خلفها لهم خاصة. ومع ذلك فإنه يكون قد أفلح في مأربه ووصل إلى غايته. والخلاصة أنه لا بد لنا من أن نفرق -وفقًا للنظرية الولفية- بين ثلاثة أمور تعتمد على احتمالات متفاوتة الدرجة وهي: النظم في الذاكرة Memorial Composition، والنشر الشفهي Oral publication، والنقل عن طريق الرواية الشفهية oral Transmission. أ- أما النظم في الذاكرة فإنه من التسرع أن ننكر أن رجلًا ذا موهبة خارقة يستطيع أن ينظم الإلياذة والأوديسة من غير عون الكتابة.. ب- أما النشر الشفهي فلا ريب أن القصيدتين الهومريتين قد عرفهما اليونانيون قرونًا طويلة في الغالب عن طريق إنشاد أجزاء متفرقة منهما. ج- غير أن العقبة الكأداء تنشأ من نظرية الحفظ والنقل الشفهيين حسب. إن هذه العقبة لا تتصل في أصلها بقدرة الحافظة البشرية؛ إن الصعوبة الحقة هي أن حفظ هذه الأعمال الضخمة ونقلها حفظًا ونقلًا قريبين من الدقة والضبط، عن طريق الرواية الشفهية، خلال القرون من غير عون الكتابة إنما يتطلب تنظيمًا وتدبيرًا، لا أثر لهما ولا دليل عليهما عندنا. وأقرب شبيه بذلك يمكن استحضاره للذهن "كما في الهند" يتضمن أصولًا دينية أو كهنوتية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وينبغي أن نتصور وجود رجال كهنوت هومريين أو زملاء تكون حياتهم من جيل إلى جيل موقوفة على هذا العمل. غير أن فكرة كهذه غريبة عن الروح الحرة التي تطورت فيها الحياة والفن عند الإغريق، ولا يتفق ذلك أيضًا مع ما نعرفه من أمر الرواة والمنشدين المتجولين. إن النتيجة العامة إذن هي: لا يمكن إثبات أن القصيدتين الهومريتين لم تُكتبا سواء حينما كانتا في ِأصلهما تنظمان أم عقب ذلك ولقد عرفهما العالم الإغريقي مدة قرون في الغالب عن طريق أفواه الرواة والمنشدين، ولكن ذلك لا ينفي أن الرواة والمنشدين كانوا يقتنون نسخًا مكتوبة ... ذلك هو رأي جب عرضناه عرضًا وافيًا لتستبين لنا أطرافه، وسنختم حديثنا عن كتابة القصيدتين الهومريتين بعرض رأي باورا في هذا الموضوع عرضًا لا يقل عن عرضنا لسابقه بسطًا وبيانًا. بدأ باورا بحثه بسؤاله: هل يدين هومر، بطريقة ما لاستخدام الكتابة؟ ثم مضى يجيب بقوله1: لا ريب أن شعراء الملاحم في القرون الوسطى قد استخدموا الكتابة، وهم مدينون لها بمعرفتهم الصور السابقة للقصص التي استخدموها، وقد حفظوا نتاجهم بتسجيله كتابة. ولكن الأمر، في حالة هومر، غامض والأدلة ضئيلة. لقد وُجدت الكتابة في بلاد اليونان منذ زمن مبكر، ولو أننا استثنينا العصر الميسيني Mycenean Age، فإننا ما نزال متأكدين من أنها استخدمت في القرن السابع، وربما الثامن. فالنقوش على thera ترجع إلى تاريخ مبكر جدًّا، ولم يأت القرن السابع حتى شاعت الكتابة على الأواني. وقوائم إفورس السبارطية The Spartan lists of Ephorsترجع إلى نهاية القرن التاسع. والقوانين التي سنها الرجال مثل Charondas, Zaleucus تتضمن وجود قوانين مكتوبة في الشطر الأخير من القرن الثامن. ومع أن الكتابة قد وُجدت على عهد هومر، فمن الجائز أنها لم تكن شائعة عامة، أو أنها لم تكن تُستخدم على مدى واسع لتسجيل نتاج طويل مثل الإلياذة ... وهومر نفسه   1 Tradition and Design in theIliad, p. 48-51 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 لا يدلنا على شيء، وفي الموطن الوحيد الذي يشير فيه إلى الكتابة يغلف إشارته بالغموض. وربما شعرنا حقًّا أن ملحمة طويلة مثل الإلياذة لا بد أنها كتبت لأن حفظها يؤود المرء. وقد اعتمد ولف على هذه الفكرة اعتمادًا كبيرًا، وهي تحتل مقامًا كبيرًا في "المقدمة". ولكن الأبحاث الحديثة فندت رأيه؛ فإن الرجال الذين لم تتعلم ذاكرتهم الاعتماد على الكتب يستطيعون أن يتذكروا قدرًا ضخمًا من الشعر، وقد وُجد بين معاصري xenophon من حفظ الإلياذة والأوديسة معًا. ونجد لعهدنا هذا من وصل إلى هذه المرتبة بل من زاد عليها. وبعد أن يضرب باورا على ذلك بضعة أمثلة يمضي في قوله: والإلياذة يصح، للنظرة الأولى، أن تكون من الشعر المكتوب، ويصح أن تكون من الشعر المروي. ويمكن أن تُدعم كل من هاتين النظريتين في أساسها بالأدلة، ويكاد يكون من المستحيل تغلب إحداهما على الأخرى. ثم يقول: ولا بد، في البدء، من التمييز بين الشعر الذي يكتب لفائدة الشاعر نفسه حسب، والشعر الذي يكتب ليقرأه الناس. وكثير من الشعر الذي قُصد منه أن يُنشد ويُروى كان يُكتب، ليكون في كتابته عون للشاعر المغني على الامتداد والطول اللذين لا يحتملان. فمخطوطة "أغنية رولاند" المحفوظة في أكسفورد ليست إلا نصًّا كان يحمله شاعر مغن ويستخدمه لإنعاش ذاكرته. بينما يبدو أن المخطوطة الوحيدة الباقية من "بيوولف" كان يُقصد منها أن يقرأها العلماء .... ومن الواضح أن الإلياذة لا تنتمي إلى هذا الضرب الثاني، فهومر لا يذكر شيئًا عن قراءة الكتب، وجميع فنِّه خاضع لضرورات الإنشاد؛ ولكن من الجائز أنها تنتمي إلى الضرب الأول، والحق أنها تبدو كذلك لأسباب مرجحة. فللقصيدة بناؤها وشكلها كما أرادهما الشاعر، ومن البعيد أن يستطيع إضفاء هذا الانسجام والوحدة عليها لو أنه نظمها في ذاكرته وعقله. فترابط المشاهد المختلفة، وما في القطع التالية من صدى القطع السابقة، واتصال الحكايات المنفصلة في ظاهرها، كل ذلك يبدو أنه لا يمكن تعليله لو أن الشاعر لم يكن بين يديه كتابه، ولم يستطع الرجوع إليه كلما احتاج، أو ليعيد النظر فيما كتب. حقًّا إن ملتون نظم "الفردوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 المفقود في عقله وذاكرته واستطاع مع ذلك أن يجعلها رائعة من الروائع؛ ولكن مع أنه لم يكن يقرأ فإن الكلمات كانت تكتبها بناته، وكان يستطيع الرجوع إليها كلما أراد. ومع ذلك فإنه من الجائز أن ذاكرة أحسن تمرينها وتدريبها تستطيع أن تستغني عن المخطوطة، ومن الجائز كذلك أنه كانت لهومر مثل هذه الذاكرة. وهكذا نجد أن الجدل حول هذا الموضوع -على إغرائه- غير مفضٍ إلى نتيجة. فلم تكن الإلياذة ذات التحام وثيق مثل الكوميديا الإلهية، ولكن يمكن أن يقال إن سبب ذلك لم يكن لأنها لم تُكتب على الورق. وترجيح أنها قد كتبت يقوَى حين نقارنها بالملاحم التي لم تكتب ولكنها نظمت في ذاكرة الشاعر ونقلت بالرواية ... غير أن خصائص هذه تختلف عن طبيعة الإلياذة.. ثم يمضي باورا في حديثه إلى أن يقول: ولا قيمة للحجة التي يُدلَى بها ضد تدوين الإلياذة، وهي: أن النص في القديم كان ذا قراءات مختلفة. فطرق الحكاية الهومرية تجعل من السهل الخطأ في الاقتباس. ومع ذلك فأي نص قديم عرضة للفساد والإقحام، إن لم يكن أيضًا عرضة للتزيد والتوسع. وخطة الإلياذة الحاضرة تنفي فكرة التزيد والتطويل ... ولكن لا شك أنه كان ثمة إقحام وإضافات، فالأبيات التي تذكر مدينة أثينا عدها القدماء مقحمة أضافها صولون أو بيزيزتراتوس ليسوغا دعوى الأثينيين في ميجارا Megara وثمة رواية فيها أن سيناثيوس Cynaethus الشاعر الجوال تصرف بالنص وأضاف إليه أجزاء من نظمه، ولكن هذه الحقيقة وحدها، وهي أن هذه الإضافات قد اكتشفت وأشير إليها، تبين أن النص كان معروفًا ويستطاع الرجوع إليه؛ ولو لم يكن مكتوبًا لكان من المستحيل تقريبًا معرفة أية زيادة أو إقحام. وما يُسمَّى انسياب النص وتدفقه حقيقة واقعة لا شك، ولكنها لا تدل على أن الإلياذة في أيامها الأولى كانت قصيدة تُحفظ في الذاكرة وتوجد في صور متعددة من نسخ مختلفة جدًّا؛ وإنما تدل على أن روايتها المخطوطة المكتوبة كانت -كما هو الشأن في القصائد المبكرة الأخرى- غير دقيقة وعرضة للتحريف والفساد. ثم يمضي باورا في حديثه فيقول: وتمتد جذور الصعوبة إلى موقف هومر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 نفسه من الكتابة، فأبطاله لا يكتبون ولا يقدرون على الكتابة، وحينما اقترعوا ليقرروا من يحارب هكتور وضع كل منهم علامته على سهمه ورماه في القلنسوة، ولكن لم يكن أحد يعرف غير علامته وحدها. وينتج من ذلك أنه لم يكن لديهم نظام مشترك للكتابة. غير أن هومر يميز وجود الكتابة في قصة Bellerophon، ففيها ذكر للكتابة ولكن هومر يلفها بألفاظ غامضة مبهمة ... وليس في الإلياذة، سوى ذلك، ذكر للكتابة. والنتيجة التي يمكن الوصول إليها هي أن الكتابة وُجدت، غير أن جمهور هومر ومستمعيه لم يهتموا بها وعدوها أمرًا شاذًّا. أما الشاعر نفسه فربما كانت حاله مختلفة عن ذلك. إذ لعله كان قد تعلم الكتابة من حيث هي سر من أسرار صناعته وكان حريصًا على ألا يكشف السر لجمهوره. وهذا الاحتمال يفسر غموض لغته وإبهامها في الموطن الوحيد الذي ذكرت فيه الكتابة، فسواد الناس يجب ألا يعرفوها، وحينما لا يكون بد من ذكرها، فيتجنب الوصف الواضح الدقيق. ويرى باورا أن هذه الدلالات، على ضآلتها، ترجح أن هومر كان يكتب، ولكنه كان يكتب لفائدته هو ولاستعماله الشخصي لا من أجل أن تُقرأ قصيدته. ففن الإلياذة جميعه يدل على أنه قصد منها أن تُنشذ وتُروى، لا لتحفظ في المكتبة؛ وهذه الحقيقة كما سنرى، توضح لنا بعض ملامحها الكبرى. فلا بد أن تختلف القصيدة المروية في طبيعتها وخصائصها عن القصيدة التي تُقصد للقراءة ... وهكذا نجد آخر الأمر أن لا قيمة كبرى لسؤالنا: هل كتب هومر أو لم يكتب؛ وإنما الأمر المهم هو أنه نظم قصيدته للرواية والإنشاد. وسواء أنظمها وهو يكتب على الورق أم نظمها في ذاكرته وعقله فذلك لا يؤثر في طبيعة القصيدة كما هي بين أيدينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 المدارس التي عنيت بهومر : ونحن مستطيعون أن نقسم هذه المدارس من حيث الزمن إلى ثلاثة أطوار: أولًا: ما قبل العصر الإسكندري. ثانيًا: العصر الإسكندري. ثالثًا: ما بعد العصر الإسكندري. أ- ما قبل العصر الإسكندري: لم تكن العناية بهومر وقصيدته قبل العصر الإسكندري عناية نقدية علمية، وإنما كانت على ضروب شتى من التناول اليسير الخفيف، فهي حينًا إشارة عابرة إلى هومر وشعره الملحمي، وهي حينًا ثانيًا اقتباس لبعض الأبيات أو المقطوعات من ملحمتيه، وهي حينًا ثالثًا شرح لبعض ما يغمض على السامعين من ألفاظه أو إشاراته القصصية، وهي حينًا رابعًا تفسير عام لمذهبه في التحدث عن الآلهة والأبطال. ولذلك رأينا أن نرتب هذه الضروب المتعددة من العناية بهومر قبل العصر الإسكندري في طوائف أربع، هي: 1- الشعراء أنفسهم: فنحن نجد أن أقدم ذكر لهومر -عثر عليه الباحثون حتى الآن- هو إشارة وردت في قصيدة ضائعة للشاعر كالينوس Callinus "في آخر القرن الثامن ومطلع القرن السابع قبل الميلاد"، ولم يكن الباحثون ليعرفوا ذلك لولا ما أورده الكاتب الجغرافي بوزانياس pausanias من ذكر لهذه القصيدة ومن قوله إن كالينوس قد أشار في قصيدته إلى أنه كانت قصائد أخرى غير الإلياذة والأوديسة تُعزَى إلى هومر، مثل المقطوعة البطولية 1Thebais   1 جب، هومر: 85و 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ثم وجد الباحثون أن أول من اقتبس من هورم -ممن يُعرفون حتى الآن- هو الشاعر سيمونيد السيوسي Simonides of Ceos "الذي ولد في نحو سنة 556 ق. م" فقد اقتبس من الإلياذة 6: 148. 2- الفلاسفة: وقد عُني الفلاسفة منذ القرن السادس قبل الميلاد بشعر هومر، وثار بعضهم، في مطلع التأمل الفلسفي في اليونان، على التصوير الهومري للآلهة1. فقد قال إكزينوفان Xenophanes of Colophon "إن هومر وهسيود قد نسبا إلى الآلهة كل عيب ونقص في الناس". ومن هنا نشأت المدرسة المجازية في تفسير هومر. وأقدم هؤلاء المجازيين هو ثياجن الريجيومي Theagenes of Rhegium، الذي وصل بين نوعين من المجاز انفصلا بعد ذلك هما: المجاز الخلقي "العقلي" والمجاز الحسي. وهكذا كانت Hera هي الهواء، وأفروديت هي الحب. وقد نما التفسير الخلقي في القرن التالي على يد أناكساجوراس Anaxagoras الذي فسر zeus بالعقل، وأثينا بالفن. أما التفسير الحسي فقد تطور على يدي Metrodorus of Lamsaeus. وقد كان شعر هومر ووصفه الآلهة سببًا من الأسباب التي دعت أفلاطون إلى أن يبعد الشعراء من جمهوريته. 3- المؤرخون: وقد عُني المؤرخون اليونانيون بهومر -منذ أن بدأ التاريخ عندهم. ومن هؤلاء هيرودوت Herodotus وثوسيديد Thucydides في القرن الخامس قبل الميلاد. وقيمة هيرودوت في أنه كان أول من شك -أو على الأقل من بين الأوائل السابقين إلى الشك- في نسبة بعض القصائد البطولية إلى هومر. فهو يرى -على أسس نقدية- أن المقطوعة البطولية التي تدعى Cypria ليست من نظم هومر، ولكنه لم يذكر الناظم الحقيقي. ونقده هذا يدل على أن السواد لم يكونوا يشكون في نسبتها إلى هومر، كما أن هيرودوت نفسه لم يكن يعرف رواية صريحة تنفي نسبة هذه المقطوعة إلى هومر. وقد شك أيضًا في نسبة قصيدة.   1 جب، هومير: 88، 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 أخرى تدعى Epigoni ولكن حديثه عنها مقتضب غير قاطع1. وأما قيمة ثوسيديد ففي أنه قدم لنا في تاريخه أمثلة على نوع من تفسير شعر هومر يحوِّل العنصر القصصي إلى حقائق تاريخية واضحة، وذلك حينما فسر ذهاب اليونانيين إلى طراودة، فهو يرى أن رؤساء اليونان لم يذهبوا إلى طروادة لأنهم وعدوا والد هيلانة أن ينتقموا لها. ولكنهم ذهبوا لأن قوة أجا ممنون ساقتهم واضطرتهم إلى ذلك. وقد نمى كالسثين Callisthenes "في نحو سنة 330ق. م" هذه الطريقة في التفسير تنمية كاملة، وخص، في كتابه تاريخ اليونان، الحرب الطروادية بكتاب مستقل. ويظهر هذا الاتجاه في مواطن متعددة من تواريخ المتأخرين التالين مثل: بوليبيوس polybius، وديودور Diodorus، وسترابو Strabo، وباوزان2 pausanius. 4- الرواة المنشدون: وآخر هذه الطوائف، وربما أقدمها عهدًا، هم الرواة المنشدون، الذين كانوا يروون شعر هومر وينشدونه وهم ينتقلون بين البلاد المختلفة. ويصف لنا أفلاطون في إحدى محاوراته على لسان سقراط "هي: lon" أحد هؤلاء الرواة المتجولين واسمه إيون -وكان يعيش في النصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد. ويذكر أفلاطون أن إيون كان يشرح شعر هومر ويفسره، وأن بعض المنشدين المتنافسين كانوا ينشدون ولاء: يبدأ أحدهم من حيث انتهى الآخر. ويرى الدكتور جب3 أنه لا بد إذن من أن تعقيبات إيون وشروحه كانت تُلقى مفصولة عن إنشاده، أو أنها كانت متصلة بالقطع التي كان هو يقوم بإنشادها حسب. ويتضح من محاورة أفلاطون أن شروح إيون وتعقيباته على هومر كانت تتخذ مظهر المعرض البلاغي الأدبي المتصل، وكان إيون يفخر بطلاقته وبثروة "آرائه عن هومر" كما يعبر إيون نفسه.   1 جب، هومر: 85؛ وألان، هومر: 70. 2 جب، هومر: 90. 3 المرجع السابق: 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ب- العصر الإسكندري: غير أن النقد الهومري بمعناه الدقيق الخاص لم يظهر إلا في الإسكندرية منذ مطلع القرن الثالث قبل الميلاد. وقد جُمعت مواده لأول مرة في المكتبات العظيمة مثل مكتبة الإسكندرية، ثم مكتبة برجامم، منذ مطلع القرن الثاني قبل الميلاد. وقد استقى الباحثون معلوماتهم عن هذه المواد من نسخة "الحواشي الهومرية - Homeric Scholia". ولا يعنينا من أبحاث هؤلاء الدارسين إلا إلمامة عابرة تفي بغرضنا، ومن أجل ذلك لن نشعب الحديث ولن نتتبع الباحثين فيما فصلوا فيه القول، وإنما سنختصر الإشارة اختصارًا يغني عن الإسهاب والتطويل1. تنقسم نسخ هومر في مكتبة الإسكندرية إلى قسمين: 1- النسخ التي تُعرف بأسماء محرريها وناسخيها. وأقدم نسخة من هذا القسم هي التي صنعها الشاعر البطولي أنتيماخ الكلاري Antimachus of Clarus في إيونيا "نحو سنة 410 قبل الميلاد". 2- وأما القسم الثاني فهي النسخ التي تُعرف بأسماء البلدان حسبُ. وهي نسخ: مساليا Massalia، وكيوس chios، وأرجوس Argos، وسينوب Sinope، وقبرص Cyprus، ويشار إليها مجموعة باسم "النسخ البلدانية". وليس من دليل على أنها كانت النسخ المعتمدة لاستعمال الجمهور، وأسماء مصححيها ومنقحيها غير معروفة. وبجانب هذين القسمين كانت نسخ توصف بأنها عامة أو شعبية، وهذه هي نفسها التي توصف بأنها غير دقيقة إذا ما قورنت بالنسخ الدقيقة أو العلمية. وهذه النسخ جميعها التي عرفها الإسكندريون لابد أنها كانت تعتمد على نص شائع أقدم منها نجهل مصادره. ويبدو لنا هذا من الاختلافات المحدودة والفروق الضيقة بين نصوص هذه النسخ، فلو لم تكن هناك أسس عامة لرواية منقولة لوجدنا في نسخ الإسكندرية فروقًا واسعة واختلافًا كبيرًا في ترتيب الأبيات.   1 المعلومات التالية عن علماء مدرسة الإسكندرية ملخصة من كتاب الدكتور جب عن هومر من ص91 إلى ص102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وأقدم جهد في النقد الهومري في مدرسة الإسكندرية يرجع إلى فترة تتراوح بين 270و 150 قبل الميلاد، وقد قام به ثلاثة رجال: زينودوت Zenodotus، وأرستوفان Aristophanes، وأرستارخ Aristarchus. أما زينودوت فقد كان قيمًا على مكتبة المتحف الإسكندري، ونشر نسخة منقحة لهومر ومعجمًا هومريًّا؛ ويبدو زينودوت -في هذا العصر من فجر العلم الجديد- رجلًّا موهوبًا ذا هدف نقدي، ولكنه تعوزه الطريقة النقدية الصالحة. فقد ألح على دراسة هومر ولكنه أخفق في إرساء هذه الدارسة على أسس سليمة، وأحد أسباب إخفاقه أنه لم يعن بالتمييز بين الاستعمال الشائع المألوف للألفاظ واستعمال هومر لها استعمالًا خاصًّا، ولم يميز كذلك تمييزًا كافيًا بين اللهجة والإيونية القديمة واللهجة الإيونية المتأخرة، فأوقعه اعتماده المطلق على إحساسه الشخصي بروح هومر في تصحيحات وتصويبات قاطعة. ومع ذلك فقد فتح أفقًا جديدًا ونال مصنفه شهرة واسعة. وأما أرستوفان "في نحو 200 ق. م" فقد كان تلميذ زينودوت، وخلفه -في غير تعاقب- على منصب أمانة المكتبة. ونشر أيضًا نسخة منقحة من هومر. وكان يُعنى بدلالات النصوص المخطوطة عناية تفوق عناية زينودوت. وأتاح له اطلاعه الواسع وعلمه الغزير أن يثبت في حالات كثيرة قراءات جرحها سلفه تجريحًا كان متسرعًا فيه. وأما أرستارخ فكان تلميذ أرستوفان وخليفته في أمانة المكتبة، وظهر نشاطه في النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد. وينقسم ما قدمه للدراسة الهومرية إلى ثلاثة أقسام: 1- رسائل عن بعض المشكلات الهومرية ومواطن الاختلاف. 2- تعقيبات متصلة على النص الهومري. 3- نسخ منقحة للنص الهومري. وقد استخدم في النص الهومري الذي نشره مجموعة من العلامات والرموز النقدية تدل القارئين، بنظرة واحدة، على البيت الذي يراه أرستارخ منحولًا زائفًا، وعلى البيت الذي يرى أنه في غير موضعه من ترتيب القصيدة، وعلى البيت الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 يشتمل على أية إشارة وضحها في تعليقاته. ويُعد أرستارخ أعظم العلماء الإسكندريين وخير ناقدي هومر من بين الأقدمين، وذلك لعدة عوامل منها: 1- أنه درس بعناية اسعمال الألفاظ في هومر مدركًا أن نقد المادة يجب أن يعتمد على معرفة دقيقة باللغة. أما النحويون واللغويون الذين سبقوه فقد وجهوا عنايتهم إلى الألفاظ النادرة أو المهجورة خاصةً. ثم عمد أرستارخ إلى تحديد المعنى الهومري للألفاظ الشائعة المألوفة. 2- وقد كان للمصادر المخطوطة قيمة كبيرة عنده حينما صنع نسخته من النص الهومري. وحينما كانت الموازنات والمقابلات تسلمه إلى شك في قراءتين كان يستهدي "باستعمال الشاعر الخاص". فهو يبدو في الغاية من الحذر والحيطة، بعيدًا عن التسرع في تخطئة النصوص أو تصويبها. ولو قارناه بزينودوت لوجدناه يتحرج من القراءات التي تعتمد على الحدس والظن. 3- علق على مادة هومر، فوازن بين الأساطير عند هومر والأساطير نفسها عند غيره من الكتاب، وأظهر العناصر المميزة للحضارة الهومرية. وكل ما نعرفه عن مصنف أرستارخ وصلنا عن طريق بعض العلماء الذين تلوه مثل: ديدم Didymus وأرستونيخ Aristonichus أما ديدم فنحوي إسكندري كتب -بعد وفاة أرستارخ بنحو 120 سنة- رسالة عن النسخة المنقحة التي صنعها أرستارخ، وكان هدفه أن يقوي القراءات التي اختارها أرستارخ، وأن يستخلص فكرة واضحة كاملة عن آرائه وتعليلاته من كتاباته الكثيرة عن هومر. وأما أرستونيخ فنحوي إسكندري أيضًا معاصر لديدم وإن كان أصغر منه سنًّا. وقد كتب رسالة عن العلامات النقدية التي استخدمها أرستارخ في الإلياذة والأوديسة، وسرد -في رسالته هذه- آراء أرستارخ عن الأبيات الشعرية التي وُضعت أمامها العلامات المختلفة. وأشهر علماء الإسكندرية -بعد هؤلاء- هيروديان Herodian، ونيكانور Nicanor في النصف الأول من القرن الثاني للميلاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وأما المدرسة الأخرى فقد قامت في مدينة برجامم pergamum في ميسيا Mysia حينما أنشأ إيومين الثاني Eumenes 2 في أوائل القرن الثاني ق. م المكتبة العظيمة التي صارت تنافس مكتبة الإسكندرية. ومن أشهر علماء هذه المدرسة كريتس crates الذي كان معاصرًا لأرستارخ وأمينًا لمكتبة برجامم. ومن أشهر نسخ الإلياذة التي وصلت إلى الباحثين الأوربيين هي النسخة التي تدعى codex Venetus ورقمها 454 في مكتبة القديس مارك في مدينة البندقية. وقد كتبها أحد النساخ في القرن العاشر الميلادي فجعل نص الإلياذة متنًا ثم جعل له حواشي عُرفت باسم الحواسي الهومرية Homeric Scholia وأهم ما تحويه هه الحواشي مصدران؛ الأول: ما يسمى بالمختصر The Epitome وقد قام بصنعه أحد دارسي الإلياذة "في نحو سنة 200-250 ميلادية" فاستخلص مقتطفات من أعمال الكتاب الأربعة الإسكندريين: ديدم، وأرستونيخ، وهيروديان، ونيكانور. وهذا المختصر هو المصدر الرئيسي الذي استقى منه الباحثون معلوماتهم المفصلة عن آراء أرستارخ. وأما الجزء الثاني من الحواشي فيبدو أنه مجموعة كبيرة من التعقيبات مختارة من عدة مصنفين ثم جمعت معًا في آخر القرن الثالث الميلادي. وهذا الجزء الثاني -إذا ما قورن بالمختصر- لا يُعنَى مثله بنقد النصوص، غير أنه يفوقه في التأويل والتفسير المجازيين، وفي الأساطير ونقد الأسلوب الشعري. ج- ما بعد العصر الإسكندري: 1 وقد واصل العلماء والدارسون جهودهم في دراسة القصيدتين الهومريتين، ولكن هذه الدراسات كانت في مجموعها تدور في فلك يكاد يكون واحدًا لا تعدوه؛ إلى أن جاء فردريك أغسطس ولف في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وأصدر كتابه المعروف باسم "المقدمة" prolegomena سنة 1795. وتقوم دراسته على أربع نقاط رئيسية: 1- أن القصيدتين الهومريتين لم تدونا إلى في نحو   1 جب، هومر: 103 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 سنة 550 ق. م أي بعد نظمهما بقرون كثيرة، وقد بقيتا خلال هذه القرون تتناقلان بالرواية الشفهية، فاعتورتهما تغييرات وتبديلات كثيرة عمد إلى بعضها الرواة عمدًا وجاء بعضها مصادفة. 2- وقد تعاورتهما -حتى بعد أن دونتا- تغييرات أخرى جديدة عمد إليه المصححون والمراجعون عمدًا، أو قام بها النقاد العلماء الذين توخوا صقلهما وجعلهما متسقتين مع صور تعبيرية أو أصول فنية معينة. 3- أن للإلياذة وحدة فنية، وتفوقها في ذلك أيضًا الأوديسة، ولكن هذه الوحدة لا ترجع في جلها إلى القصيدتين الأصليتين وإنما إلى ما أضافته إليهما المعالجة المصنوعة في عهود تالية. 4- أن القصائد الأصلية التي ضمت وجمعت حتى صارت ما نعرفه من ملحمتي الإلياذة والأوديسة لم ينظمها كلها شاعر واحد بعينه. وجميع أدلة نظرية ولف في جوهرها خارجية، فهي مبنية على اعتبارات تاريخية معينة تتصل بالحضارة الإغريقية المبكرة وبتطور الفن الشعري. وقد وصف لنا -في مقدمة طبعته للإلياذة- ما أحس به حينما كان ينفلت من عقال نظريته إلى قراءة القصيدتين قراءة جديدة. فحينما كان يغمر نفسه في تيار القصة البطولية الذي ينساب انسياب النهر النمير كانت جميع أدلته تتطاير من رأسه، وكان الاتساق والانسجام الشاملين في القصيدتين يؤكدا نفسيهما بقوة لا تقاوم، وكان ولف يحس بالألم والغضب لأن شكوكه حرمته نعمة الإيمان بهومر واحد. ومع ذلك فقد ذكرنا قبل صفحات أن ولف لم ينكر وجود شخص هومر نسب إليه أنه بدأ نسج القصيدة ومضى فيه إلى غاية محدودة، بل إنه نسب إليه القسم الأكبر من النسيج. ومن هنا جاءت مرونة نظرية ولف التي أشرنا إليها من قبل، وجاء اختلاف فهم تلامذته لهذه النظرية وذهابهم مذاهب متفرقة مع أنهم يصدرون عن مصدر واحد. والحق أنه من المجحف بحق ولف، حينما يقوم عمله، أن يظهر بمظهر الناقد الهادم حسب: فإن فضله على الدراسات الهومرية كبير، ولا يسع هؤلاء الذين يختلفون معه في نتائجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الأساسية اختلافًا واسعًا إلا أن يُقروا بأنه كشف القناع عن عدة مظاهر تصلح أساسًا لنظرية سليمة، وأنه أول من بدأ دراسة القصيدتين دراسة علمية1. غير أن العنصر التحليلي في نظريته هو الذي لفت الأنظار؛ لأنه حينما نشرها كانت تبدو في موقف متميز تميزًا كبيرًا من الاعتقاد القديم بأن ناظم القصيدتين شاعر بعينه هو هومر الواحد. ومن هنا جاء الربط بين عمله والاتجاه إلى الهدم الصرف، وهو اتجاه بعيد عن روحه2. ومما هو جدير بالذكر أن ولف كتب على "المقدمة" رقم1 وذكر في ص24 منها أنها "القسم الأول pars prima"، غير أن الجزء الثاني -وهو الذي كان يجب أن يبحث في أصول نقد النصوص الهومرية-لم يطبع قط3. وبذلك لم يواصل هذا الناقد العظيم السير في نظريته حتى يصل بها إلى مرحلة الكمال، فلم يعرض قط -في تخطيط عام- نظامًا أو نهجًا للأغاني والأناشيد المجزأة التي تجمع منها -وفقًا لنظريته- إطار كل قصيدة من هاتين القصيدتين وهيكلها. وإخفاقه في هذا العمل، أو تغاضيه عنه -في خلال حياة طويلة بعض الطول، وفي أوجه نشاطه بعد طبع "المقدمة" "طبعت المقدمة سنة 1795 وتوفي ولف سنة 1824"- أمر يجعلنا نشك في أنه كان يؤمن بإمكان هذا التشريح والتقطيع اللذين تتضمنهما نظريته4. وقد ساعد على ذلك التأثير الواسع الذي كان لنظرية ولف، وخاصة في عقول الشبان الألمان، عدة دوافع منها5: أن الثورة الفرنسية كانت آنذاك في إبانها، وكان الجو مفعمًا بالتناقض والبدع. وأهم من ذلك أن هذه النظرية ظهرت في وقت أثار فيه الاهتمام الواسع، في بقاع مختلفة من أوربا، الكشف عن قدر   1 W. D. Geddes, the problem of the Homeric Poems, p.9 2 جب، هومر 157. 3 المرجع السابق: 107 في الهامش. 4 جديس، مشكلة القصدتين الهومريتين: 10. 5 المرجع السابق: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 صالح من الشعر الشعبي وفيه دليل على الحيوية الظاهرة في هذا الشعر حتى حينما يُجهل ناظمه وتكون مميزاته غير واضحة المعالم، وكان ذلك الشعر أيضًا على غير مثال أدبي سابق، وإنما كانت وسيلة نقله الرواية الشفهية. فكأنما كان هذا الشعر مثلًا يوضح النظرية الولفية في افتراضها الأساسي. وأوضح ما يصف لنا ميزات القرن الثامن عشر والفرق بينه وبين القرن التاسع عشر ما ذكره جوته1 Gothe فقد كان جوته تحت تأثير السحر الولفي، وقد وصف ما جاء في كتابه "المقدمة" بأنه "قطعي وحتمي وذاتي"، ثم تأرجح رأيه إلى أن استقر أخيرًا على الرأي القديم حينما استطاع أن يتثبت من "وجود هومر ثانية"، وكان ذلك بعد أن انتهت "أعمال القرن الثامن عشر القائمة على التمزيق والتقطيع"، وابتدأت روح "التنسيق والترتيب" -كما كان يسميها هو نفسه- في القرن التاسع عشر. ولم يكن جوته وحده هو الذي تأثر بسحر النظرية الولفية ثم نفض عن نفسه هذا السحر، بل إن آخرين كانوا مثله، ومن أهمهم نيتش2 Nitzsch فقد خلف لنا اعترافًا ذا قيمة بعد أن اختبر بنفسه أعاصير الخصومة في المشكلة الهومرية، فبعد أن ألف كتابًا بذل فيه جهدًا ضخمًا يدعم تعدد التأليف -مما يوضح ويفسر نظم قصيدتين ملحمتين في مثل هذا الطول- عاد فرد على نفسه واعترف بوحدة التأليف في الملحمتين! ومع ذلك فإن ألمانيا في القرن التاسع عشر بقيت في أغلبها ولفية، وبالرغم من نشوء نظريات مضادة لنظرية ولف، وردود العلماء عليه في حياته وبعد وفاته، فإن جمهرة العلماء في ألمانيا ما زالوا ولفيين حتى يومنا هذا3. وأما في   1 جديس، مشكلة القصيدتين الهومريتين: 12-13. 2 المرجع السابق: 14 في الهامش. 3 المرجع السابق: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 إنجلترا وفرنسا فلم يكن أثر النظرية الولفية في الأوساط العلمية في هذين البلدين قويًّا كما كان في ألمانيا1. وبعد؛ فلم نقصد إلى هذا الموضوع لذاته حتى نشعب الحديث في أجزائه ونتتبع تفصيلاته، وإنما اتخذناه معبرًا نجتازه إلى الحديث عن الشك في الشعر العربي الجاهلي. وحسبنا ما قدمنا ففيه غناء إذا ما أردنا أن نستبين وجوه الشبه بين المراحل التي مرت بها الدراسات الأوربية والدراسات العربية القديمة والحديثة للشعرين الهومري والعربي الجاهلي.   1 المرجع السابق: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 الفصل الثاني: وضع الشعر الجاهلي ونحله عند الأقدمين -1- الوضع والنحل والانتحال كلها ظواهر أدبية عامة، لا تقتصر على أمة دون غيرها من الأمم، ولا يختص بها جيل من الناس دون غيره من الأجيال فقد عرفها العرب كما عرفتها الأمم الأخرى التي كان لها نتاج أدبي؛ وعرفها العصر الجاهلي كما عرفها العصر الأموي والعصر العباسي، بل كما لا يزال يعرفها عصرنا الحاضر الذي نحيا فيه، على الرغم من وسائل الحضارة الحديثة التي كانت قمينة أن تبرئ نتاجنا من هذه الظواهر لو كان ثمة سبيل إلى الخلاص منها. فشيوع الكتابة شيوعًا عامًّا، وانتشار الطباعة بصورها المتعددة وأنماطها الكثيرة، لم يحولا دون أن ينسب إلى شاعر شعر لم يقله ولا يدري من أمره شيئًا، ولم يستطيعا أن يذودا عن شعر قاله صاحبه بغي المعتدين وسطوة المدَّعين المنتحلين. ولم يكن الوضع أو النحل أوالانتحال مقصورًا على الشعر وحده، بل لقد شمل كل ما يمت إلى الأدب العام بسبب: كالنسب والأخبار منذ الجاهلية نفسها. ولقد بدأ الكذب والوضع في الحديث النبوي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحسبنا من كل ذلك لمحة عابرة ننتقل بعدها إلى تخصيص الحديث في الشعر وحده فمما يدل على أن الوضع والكذب في النسب قديم منذ الجاهلية وعصر الرسول أن النبي عليه السلام كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبه معد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 بن عدنان بن أدد ثم يمسك ويقول: كذب النسابون1. وكذلك ما ذكره الهيثم بن عدي في "كتاب المثالب"2 من أن دغفلًا النسابة دخل على معاوية فقال له معاوية: من رأيت من علية قريش؟ فقال: رأيت عبد المطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس. فقال: صفهما لي. فلما وصف له عبد المطلب قال: فصف أمية. قال: رأيته شيخًا قصيرًا نحيف الجسم ضريرًا يقوده عبده ذكوان. فقال: مه، ذاك ابنه أبو عمرو. فقال: هذا شيء قلتموه بعدُ وأحدثتموه، وأما الذي عرفت فهو الذي أخبرتك به. وقد ذكرنا طرفًا من الكذب في النسب عند حديثنا عن الرواة الوضاعين، وسنذكر طرفًا آخر حين نتحدث عن أسباب الوضع ودواعيه. وأما الوضع والكذب في الحديث النبوي منذ عهد الرسول نفسه فأمر لا يحتاج إلى بيان، وليس أدل على ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليَّ فليتبوأ مقعدًا من النار" 3. وقد جاءه ذات يوم المنقَّع بن الحصين فقال: يا رسول الله إن الناس خاضوا في كذا وكذا. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم لا أحل لهم أن يكذبوا عليَّ". قال المنقع: فلم أحدِّث بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديثًا نطق به كتاب أوجرت به سُنَّة، يكذب عليه في حياته فكيف بعد موته!! 4. وقد تنبه الصحابة في الصدر الأول إلى شيوع الكذب والوضع في الحديث، حتى إن سعد بن أبي وقاص حينما سئل عن شيء في الحديث استعجم وقال: إن أخاف أن أحدثكم واحدًا فتزيدوا عليه المائة5. وحتى إن عبد الله بن عمرو بن العاص قال لجماعة من أهل   1 ابن سعد، الطبقات 1: 28. 2 الأغاني 1: 12. 3 ابن سعد 3/ 1: 75. 4 ابن سعد 7: 43-44. 5 ابن سعد 3/ 1: 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 العراق جاءوا يسألونه أن يحدثهم1: إن من أهل العراق قومًا يَكذِبون ويُكذبون ويسخرون. بل لقد بلغ أكثر من ذلك: فقصة عبد الله بن سعد بن أبي سرح مشهورة: كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، ثم ارتد ولحق بالمشركين وقال -في زعمه-: إن محمدًا ليكتب بما شئت2. وذكروا أنه كان يكتب "عزيز حكيم" مكان "غفور رحيم"3. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود وقال: "لا آمن أن يبدلوا كتابي"4! فإذا ما انتقلنا بعد ذلك إلى تخصيص الحديث في الشعر وحده، وجدنا أن الشعر الجاهلي كان عرضة، منذ الجاهلية نفسها وسنوات الإسلام الأولى، للوضع والنحل والانتحال. والأمثلة التي بين أيدينا قليلة ولكن فيها مقنعًا، إذ أنها تدل دلالة واضحة على أن هذه الظواهر الأدبية كانت معروفة شائعة منذ أبعد ما نعرف من عصور الشعر العربي. فقد قال أبو عبيدة5: كان قُراد بن حنش من شعراء غطفان، وكان جيد الشعر قليله، وكان شعراء غطفان تغير على شعره فتأخذه وتدعيه، منهم زهير بن أبي سُلمى ادعى هذه الأبيات: إن الرزية لا رزية مثلها ... ما تبتغي غطفان يوم أضلت إن الركاب لتبتغي ذا مرة ... بجنوب نخل إذا الشهور أحلت ولنعم حشو الدرع أنت لنا إذا ... نهلت من العلق الرماح وعلت ينعون خير الناس عند كريهة ... عظمت مصيبتهم هناك وجلت   1 ابن سعد 4/ 2: 13. 2 الجهشياري، كتاب الوزراء والكتاب: 13 3 ابن قتيبة، المعارف: 149. 4 المقريزي، امتناع الأسماع: 187. 5 طبقات ابن سلام: 568-569. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ويُروى أن النابغة الجعدي دخل على الحسن بن علي فودعه، فقال له الحسن1: أنشدنا من بعض شعرك فأنشد: الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما فقال له: يا أبا ليلى. ما كنا نروي في هذه الأبيات إلا لأمية بن أبي الصمت. قال: يابن رسول الله والله إني لأول الناس قالها، وإن السروق من سرق أمية شعره. كان الأعشى قد مدح قيس بن معديكرب الكندي بقصيدة دالية2، فقال له قيس: إنك تسرق الشعر: فقال له الأعشى: قيدني في بيت حتى أقول لك شعرًا. فحبسه وقيده. فقال عند ذلك قصيدته التي أولها: أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذي هوى أن تزارا وفيها يقول: وقيدني الشعر في بيته ... كما قيدت الآسرات الحمارا وسألت عائشة أم المؤمنين من صاحب هذه الأبيات3: جزى الله خيرًا من إمام وباركت ... يد الله في ذك الأديم الممزق فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما حاولت بالأمس يسبق قضيت أمورًا ثم غادرت بعدها ... بوائق في أكمامها لم تفتق وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفي سبنتي أزرق العين مطرق فقالوا: مزرد بن ضرار: قالت عائشة: لقبت مزردًا بعد ذلك فحلف بالله ما شهد تلك السنة الموسم.   1 طبقات ابن سلام: 106-107، والأغاني 5: 10. 2 انظر ابن قتيبة، الشعر والشعراء، 214-215، واستدراك صاحب الخزانة عليه في الخزانة 3: 275 "سلفية". 3 ابن سعد 3/ 1: 241، وانظر طبقات ابن سلام: 111 حيث نسبها إلى جزه أخي مزرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ومن عجب أن يضع المسلمون الأولون شعرًا وينحلوه أبا بكر الصديق، حتى لقد روى الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت: كذب من أخبركم أن أبا بكر قال بيت شعر في الإسلام: ولعل من خير ما يدل على هذا الذي نذهب إليه بيتًا قاله مزرد بن ضرار في أبيات يصف فيها نفسه وشعره، قالها يرد على كعب بن زهير حين نظم كعب أبياته التي يقدم فيها نفسه والحطيئة: قال مزرد1: وباستك إذا خلفتني خلف شاعر ... من الناس لم أكفي ولم أتنحل فهو ينفي عن نفسه تنحل الشعر وانتحاله، أي ادعاءه إياه لنفسه وهو من كلام غيره. ومما يدخل في هذا الباب أيضًا ما وصف به الفرزدق علقمة الفحل من أن شعره لا يستطيع أحد أن ينحله، فكأنه يقصد أن على شعره طابعه وميسمه فإذا ما ادعاه غيره عرف الناس أنه ليس لمن ادعاه وإنما هو لصاحبه علقمة؛ وذلك قول الفرزدق2: والفحل علقمة الذي كانت له ... حلل الملوك كلامه لا ينحل -2- ولم يكن أمر الوضع والنحل في الشعر الجاهلي ليخفَى على الرواة العلماء، فلقد تنبه له كثيرون منهم، بل قلما نجد رواية عالمًا من القرن الثاني والقرن الثالث لا تذكر لنا الأخبار المروية عنه أنه نصَّ نصًّا صريحًا على أن بيتًا أو أبيات بعينها   1 ابن سلام: 88. 2 النقائض: 1: 200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 موضوعة منحولة، وسنورد أمثلة وافية مما نص عليه هؤلاء العلماء من رجال الطبقة الأول والطبقة الثانية. فقد ذكر أبو عمرو بن العلاء أن ذا الإصبع العدواني قال يرئي قومه1: وليس المرء في شيء ... من الإبرام والنقض إذا يفعل شيئًا خا ... له يقضي وما يقضي جديد العيش ملبوس ... وقد يوشك أن يُنضي ثم نص على أنه لا يصح من أبيات ذي الإصبع الضادية هذه إلا الأبيات التي أنشدها وأن سائرها منحول2. بينما نرى أبا الفرج نفسه يورد من هذه القصيدة غير الأبيات المتقدمة نحوًا من أربعة وشعرين بيتًا آخر3. وذهب أيضًا أبو عمرو إلى أن القصيدة المنسوبة إلى امرئ القيس والتي مطلعها: ولا أبيك ابنة العامر ... ي لا يدعي القوم أني أفر هي لرجل من أولاد النمر بن قاسط، يقال له ربيعة بن جشم، وأولها عنده4: أحار بن عمرو كأني خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر وهذا عامر بن عبد الملك وأخوه مسمع بن عبد الملك الملقب كرد بن وهما من طبقة عمرو بن العلاء، علامتان بالنسب راويتان للشعر، روى عنهما أبو عبيدة والأصمعي أخبارًا وشعرًا ينكران ما أضيف إلى قصيدة الحارث بن عباد، ولم يُصححا منها غير الأبيات الثلاثة التالية5:   1 الأغاني 3: 106. 2 المصدر السابق 3: 96. 3 المصدر السابق 92 و 107-108. 4 البغدادي، الخزانة 1: 337-338. 5 الأغاني 5: 47-48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيالي لا بجير أغنى قتيلًا ولا رهـ ... ط كليب تزاجروا عن ضلال لم أكن من جناتها علم اللـ ... ـه وإني بحرها اليوم صال ومن أمثلة ذلك عند أبي عمرو الشيباني أنه كان يدفع أن يكون هذا البيت لعنترة وهو: هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم ولم يكن يرويه حتى سمع أبا حزام العُكلي يرويه له1. وأما الأخبار المروية في ذلك عن الأصمعي فكثيرة، ومنها ما هو عام مطلق، ومنها ماهو مخصص ينص فيه على بيت أو أبيات بعينها. فمن الضرب الأول: ما أورده من أن الأصمعي قال2: أقمت بالمدينة زمانًا ما رأيت بها قصيدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة. وأنه كذلك قال3: ويقال إن كثيرًا من شعر امرئ القيس لصعاليك كانوا معه. وأنه قال أيضًا4. أكثر شعر مهلهل المحمول عليه. ومن الضرب الثاني: أنه قال5: أعياني شعر الأغلب، ما أروي له إلا اثنتين ونصفًا. فلما سئل: كيف قلت نصفًا؟ أجاب: أعرفه له اثنتين وكنت أروي نصفًا من التي على القاف، فطولوها، وكان ولده يزيدون في شعره حتى أفسدوه. وقد قال أيضًا في القصيدة المنسوبة إلى الأغلب في سجاج6: إنه كان يقال إن هذه قصيدة في الجاهلية لجشم بن الخزرج. وقال الأصمعي   1 الأغاني 9: 222. 2 المزهر: 2: 413-414. 3 الموشح: 34. 4 الموشح: 74. 5 المرجع السابق: 213. 6 طبقات فحول الشعراء: 576. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 أيضًا1: الناس يروون أمية بن أبي الصلت القصيدة التي فيها: من لم يمت عبطة يمت هرمًا ... الموت كأس فالمرء ذائقها قال: وهذه لرجل من الخوارج: وكان الأصمعي يرى أن أبياتًا من قصيدة زهير الميمية: "أمن أم أوفى دمنة لم تكلم" ليست له وإنما هي لصرمة بن أنس الأنصاري2. وكان كذلك يشك في بيت عنترة: "هل غادر الشعراء.." ويدفع أن يكون له3، ويرى أن أول القصيدة: يا دار عبلة بالجواء تكلمي ... وعمي صباحًا دار عبلة واسلمي وقد أنشد أبو حاتم السجستاني بيتًا في عجزه: "والسيف مغمود" فقال الأصمعي4: هذا الشعر مصنوع، وقد رأيت صانعه. وأما أبو عبيدة فإن أخباره في هذا الباب لتكاد تضارع أخبار الأصمعي كثرةً من ذلك أنه ذكر خمسة أبيات للحارث بن حلزة في إنكار الطيرة هي قوله5: يا أيها المزمع ثم انثنى ... لا يثنك الحازي ولا الشاحج ولا قعيد أعضب قرنه ... هاج له من مربع هائج   1 الموشح: 78. 2 المعمرين: 66. 3 الأغاني 9: 222. 4 مراتب النحويين ورقة: 112. 5 الحيوان 3: 449-450، الحازي: زاجر الطير. الشاحج: الغراب يشحج. بصوته القعيد، ما جاء من وراء المرء من ظبي أو طائر، الأعضب: المكسور القرن. تاح: قدر. الحالج: الموت يختلج المرء وينتزعه. رقح: أصلح. الكسع: ضرب الماء على الضرع ليرتفع اللبن فتسمن الناقة أو يسمن أولادها في بطنها. الشول: جمع شائلة، وهي التي أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فخف لبنها. أغبار: جمع غُبر "بضم الغين": بقية اللبن في الضرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 بينا الفتى يسعى ويُسعى له ... تاح له من أمره خالج يترك ما رقح من عيشه ... يعيث فيه همج هامج لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج ثم قال أبو عبيدة: أنشدنيها أبو عمرو، وليست إلا هذه الأبيات، وسائر القصيدة مصنوع مولد. وقد أورد أيضًا أربعة أبيات لعوف بن عطية التيمي أولها1: هلا فوارس رحرحان هجوتم ... عشر تناوح في سرارة واد ثم قال: وبقية هذه القصيدة مصنوعة. واستشهد على أن الأسود كان رئيس الرباب يوم النسار بقول عوف بن عطية بن الخرع التيمي2: ما زال حينكم ونقص حلومكم ... حتى بلوتم كيف وقع الأسود وقبائل الأحلاف وسط بيوتكم ... يعلون هامكم بكل مهند ثم قال: قال بنو أسد وغطفان هذه مصنوعة لم يشهد الأسود النسار. وفي كتابه "الخيل" نصوص كثيرة في هذا الباب، منها أنه أورد أبياتًا مطلعها3. الخير ما طلعت شمس وما غربت ... معلق بنواصي الخيل مطلوب وبعد أن قال إن هذا الشعر لأحد الأنصار، وأنه قد يحمل على امرئ القيس، عاد فقطع بأنه "لم يقله امرؤ القيس ولكنه لرجل من الأنصار"4.   1 النقائض: 228. 2 النقائض: 240. 3 كتاب الخيل: 160. 4 المصدر السابق: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وقد أورد أربعة أبيات ذكر أنها لصعصعة بن معاوية السعدي، مطلعها1: ما كنت أجعل مالي فرغ دالية ... في رأس جذع تصب الماء في الطين ثم قال: وقد تروى هذه الأبيات لحارثة بن بدر الغُداني: وقد أورد أبياتًا كثيرة أولها: وأركب في الروع خيفانة ... كسا وجهها سعف منتشر ونسبها إلى امرئ القيس ولكنه قال2: "وقد يخلط قوله هذا بقول النمري" ولما أتم الأبيات قال: "وقد تروى هذه الأبيات لربيعة بن جشم النمري"3. وأورد كذلك أبياتًا نسبها إلى أبي داود الإيادي أولها4: وكل حصن وإن طالت سلامته ... يومًا سيدخله النكراء والحوب ثم قال: "ويحمل بعض ما في هذه الكلمة على يزيد بن عمرو الحنفي، وقد أعدته في شعره": وذكر أبياتًا لعلقمة أولها: وقد أغتدي والطير في وكناتها ... وماء الندى يجري على كل مذنب وقال5: "وقد يُخلط قوله بشعر امرئ القيس بن حُجْر. وقد نسبت شعر امرئ القيس وأفردته من شعر علقمة". وقد أورد في مواطن عدة أبياتًا لشعراء مختلفين، سماهم أحيانًا واكتفى بأن   1 كتاب الخيل: 14- 15. 2 المصدر السابق: 139. 3 المصدر السابق: 141. 4 المصدر السابق: 147-148. 5 المصدر السابق: 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 قال: قال الشاعر: أحيانًا أخرى وكان في كل موطن يشير إلى أن هذه الأبيات تحمل أيضًا على أبي دواد الإيادي1. فإذا ما اكتفينا بما قدمنا من أخبار الطبقة الأولى من الرواة والعلماء، وانتقلنا إلى الحديث عن رواة الطبقة الثانية، وجدنا عندهم كذلك نثارًا من هذه الإشارات المتفرقة إلى الموضوع والمنحول من الشعر الجاهلي.. وسنقصر حديثنا على ثلاثة منهم؛ هم: أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني، وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وابن قتيبة. أما أبو حاتم فقد ذكر أبياتًا ثلاثة نسبها إلى عمرو بن ثعلبة هي2: تهزأت عرسي واستنكرت ... شيبي ففيها جنف وازورار لا تكثري هزءًا ولا تعجبي ... فليس بالشيب على المرء عار عمرك، هل تدرين أن الفتى ... شبابه ثوب عليه معار ثم قال أبو حاتم: زعم عطاء بن مصعب الملط أن خلفًا الأحمر وضع هذا البيت الأخير. وأورد أبياتًا سبعة نسبها إلى مرداس بن صبيح آخرها قوله3: فلا يغركم كبرى فإني ... كريم ليس في أمري شتات ثم قال: وأظن البيت الأخير ليس منها. وقد مر بنا قبل قليل أن أبا حاتم أورد بيت زهير4: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولًا لا أبا لك يسأم   1 المصدر السابق: 54، 55، 70، 84، 144، 171. 2 كتاب المعمرين من العرب: 33. 3 المعمرين: 34-35. 4 المعمرين: 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ثم قال أبو حاتم: وكان الأصمعي يزعم أن القصيدة لأنس بن زنيم. قال أبو روق: غلط أبو حاتم إنما كان الأصمعي يقول: القصيدة لصرمة بن أبي أنس الأنصاري! وأما الجاحظ فهو يشير إلى الموضوع والمنحول على ثلاث طرق، فهو حينًا ينسب الشعر إلى شاعر بعينه، ثم يعقب عليه بما يفيد شكه فيه، وهو حينًا ثانيًا يقطع قطعًا جازمًا بأن هذا الشعر أو ذاك منحول مصنوع وكل ذلك من غير دليل أو حجة وإنما يرسل القول إرسالًا، وهو حينًا يقطع بأن الشعر منحول ثم يورد من الحجج ما يراه كفيلًا بدعم رأيه. فمن الضرب الأول أنه يقول: قال فلان -وبذكر اسم شاعر بعينه- ثم يعقب عليه بقوله: إن كان قالها. وقد تكرر منه ذلك في مواطن متفرقة من كتاب "الحيوان"1: ومن الضرب الثاني قوله2: وفي منحول شعر النابغة: فألفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون وقوله3: قال غيلان بن سلمة: في الآل يخفضها ويرفعها ... ريع كأن متونه السحل عقلًا ورقمًا ثم أردفه ... كلل على ألوانها الخمل كدم الرعاف على مآزرها ... وكأنهن ضوامرًا إجل   1 ج3 ص49، 68-70، وج4 ص248-249، وج6، ص339. 2 الحيوان 2: 246. 3 المصدر السابق 6: 235. الريع: الطريق المنفرج عن الجبل. متونه: ظهوره. السحل: الثوب الأبيض من ثياب اليمن. العقل ثوب أحمر يجلل به الهودج. كلل: جمع كِلة "بكسر الكاف وتشديد اللام" وهي ما خبط من الستور فصار كالبيت. الخمل: القطيفة. الإجل: القطيع من بقر الوحش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ثم قال: وهذا الشعر عندنا للمسيب بن علس: ومن الضرب الثالث أنه أورد أبياتًا زعم بعض الرواة أنها جاهلية في ذكر لانقضاض الكواكب1، والجاحظ ينكر ذلك ويرى أن انقضاض الكواكب لم يكن في الجاهلية البعيدة عن مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بل حدث أول مرة عند مولده أو قبيلته، فهو بذلك من أعلام ميلاده أو إرهاص له. ثم يعقب على هذه الأشعار بقوله2: "وسنقول في هذه الأشعار التي أنشدتموها ونخبر عن مقاديرها وطبقاتها. فأما قوله: فانقض كالدري من متحدر ... لمع العقيقة جنح ليل مظلم3 فخبرني أبي إسحاق أن هذا البيت في أبيات أخرى كان أسامة صاحب روح بن أبي همام هو الذي كان ولدها. فإن اتهمت خبر أبي إسحاق فسمِّ الشاعر، وهات القصيدة، فإنه لا يُقبل في مثل هذا إلا بيت صحيح، صحيح الجواهر، من قصيدة صحيحة. لشاعر معروف. وإلا فإن كل من يقول الشعر يستطيع أن يقول خمسين بيتًا كل بيت فيها أجود من هذا البيت ... وأما ما أنشدتم من قول أوس بن حجر: فانقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا فهذا الشعر ليس يرويه لأوس إلا من لا يفصل بين شعر أوس بن حجر وشريح بن أوس. وقد طعنت الرواة في هذا الشعر الذي أضفتموه إلى بشر بن أبي خازم من قوله: والعير يرهقها الحمار وجحشها ... ينقض خلقهما انقضاض الكوكب   1 الحيوان: 272-276. 2 المصدر السابق 6: 278-280. 3 البيت في صفة ثور وحشي. الدري: الكوكب الثاقب المضيء. العقيقة: البرق إذا رأيته وسط السحاب كأنه سيف مسلول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 فزعموا أنه ليس من عادتهم أن يصفوا عدو الحمار بانقضاض الكوكب، ولا بدن الحمار ببدن الكوكب، وقالوا: في شعر بشر مصنوع كثير، مما قد احتملته كثير من الرواة على أنه من صحيح شعره، فمن ذلك قصيدته التي يقول فيها: فرجي الخير وانتظري إيابي ... إذ ما القارظ العنزي آبا1 ... وأما ما رويتم من شعر الأفوه الأودي فلعمري إنه لجاهلي، وما وجدنا أحدًا من الرواة يشك في أن القصيدة مصنوعة. وبعد فمن أين علم الأفوه أن الشهب التي يراها إنما هي قذف ورجم، وهو جاهلي، ولم يدع هذا أحد قط إلا المسلمون؟ فهذا دليل آخر على أن القصيدة مصنوعة". وأما ابن قتيبة فقد أشار إلى النحل والوضع في موطنين من كتابه "الشعر والشعراء". أورد في الموطن الأول قول الأعشى2: إن محلًّا وإن مرتحلا ... وإن في السفر ما مضى مهلا استأثر الله بالوفاء وبالـ ... حمد وولَّى الملامة الرجلا والأرض حمالة لما حمل اللـ ... ـه وما إن ترد ما فعلا يومًا تراها كشبه أرديه الـ ... عصب ويومًا أديمها نغلا3 ثم عقب عليها بقوله: وهذا الشعر منحول، ولا أعلم فيه شيئًا يستحسن إلا قوله: يا خير من يركب المطي ولا ... يشرب كأسًا بكف من بخلا وأورد في الموطن الثاني سبعة أبيات من شعر لبيد آخرها قوله4: وكل امرئ يومًا سيعلم سعيه ... إذا كشفت عند الإله المحاصل   1 القارظ العنزي: رجل من عنزة "بفتح العين والنون" خرج يطلب القرظ فلم يرجع فضربته العرب مثلًا. 2 الشعر والشعراء 1: 14. 3 العصب: ضرب من برود اليمن. النغل: الفاسد الدباغة 4 الشعر والشعراء 1: 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 ثم عقب عليه بقوله: "وهذا البيت الآخر يدل على أنه قيل في الإسلام، وهو شبيه بقول الله تبارك وتعالى {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُور} أو كان لبيد قبل إسلامه يؤمن بالبعث والحساب؛ ولعل البيت منحول". -3- تلك هي إشارات القدماء من الرواة العلماء. في القرنين الثاني والثالث، إلى الوضع والنحل في الشعر الجاهلي. وقد قصدنا إلى أن نُلم بها بعض الشيء ليستبين لنا وجه البحث، وليكون تعقيبنا عليها -حين نعقب بعد صفحات1- وافيًا مستوعبًا. ومع ذلك فقد أغفلنا الإشارة إلى اثنين من هؤلاء العلماء هما: عبد الملك بن هشام صاحب السيرة النبوية "المتوفى سنة 218هـ"، ومحمد بن سلام "المتوفى سنة 231هـ" صاحب كتاب طبقات الشعراء، وقد ادخرناهما لنختصهما وحدهما بالعرض والتعقيب، إذ إن إشاراتهما في كتابيهما أصبحت بعدُ ركيزةً من ركائز الذين يشكون في الشعر الجاهلي من المحدثين، وصار الكتابان معلمين من معالم هذا البحث. أما ابن هشام فعمله في السيرة قائم على ما صنفه محمد بن إسحاق "المتوفى سنة 152هـ"، فقد تعقب ما أورده ابن إسحاق فاختصر بعضه، ونقد بعضه، ثم ذكر روايات أخرى فات ابن إسحاق ذكرها، ويعنينا نحن من ذلك ما وصف به عمله هذا من قوله2: "وتارك بعض ما يذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب، مما ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببًا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرًا له، ولا شاهدًا عليه، لما ذكرت   1 وذلك في حديثنا عن توثيق الرواة وتضعيفهم في الفصل الخامس؛ وكذلك في حديثنا عن ابن إسحاق في الفصل الرابع من الباب الأخير. 2 السيرة النبوية 1: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 من الاختصار، وأشعارًا ذكرها لم أر أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره ... " وهذه الأشعار التي ذكرها ابن إسحاق في سيرته والتي لم ير ابن هشام أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرفها -قد وقف عندها ابن سلام وقفات طوالًا؛ فقد قال1: "وكان ممن أفسد الشعر وهجنه وحمل كل غثاء منه: محمد بن إسحاق بن يسار، مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، وكان من علماء الناس بالسير ... فقبل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، أوتَى به فأحمله. ولم يكن ذلك له عذرًا. فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلًا عن لرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة. وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقوافٍ أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف السنين؟ والله تبارك وتعالى يقول {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي لا بقية لهم. وقال أيضًا: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} وقال في عاد: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَة} وقال: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} وقال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} . وقال ابن سلام كذلك2: "ولأبي سفيان بن الحارث شعر كان يقوله في الجاهلية فسقط ولم يصل إلينا منه إلا القليل ولسنا نعد ما يروي ابن إسحاق له ولا لغيره شيء ولأنه لا يكون لهم شعر أحسن من أن يكون ذاك لهم". ويقول في موطن ثالث3: "فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحاق، ومثل ما رواه الصحفيون. ما كانت إليه حاجة. ولا فيه دليل على علم".   1 طبقات فحول الشعراء: 8-9. 2 المصدر السابق: 206. 3 المصدر السابق: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ففي سيرة ابن إسحاق وتعقيب ابن هشام ما يستحق أن يوقف عنده وقفة خاصة به. ولقد تتبعت كل ما أخذه ابن هشام على ابن إسحاق ونقده فيه، فوجدته لا يعدو واحدًا من أمور أربعة: الأول: أنه يورد أبيات الشعر التي أوردها ابن إسحاق، وينسبها إلى من نسبها إليه ابن إسحاق، ثم يضيف أنها قد تنسب كلها أو بعضها إلى غيره. وقد تكرر منه ذلك في ثمانية وعشرين موضعًا، سأذكر أرقام صفحاتها على سبيل الحصر1، وأكتفي بذكر بعضها على سبيل المثال. فمن ذلك ما يُروى لأمية بن أبي الصلت مما يُروى لغيره أيضًا. فقد أورد أبياتًا عن ابن إسحاق من شعر أبي قيس بن الأسلت، ثم عقب عليها بقوله2: "قال ابن هشام: وهذه الأبيات في قصيدة له، والقصيدة تُروى لأمية بن أبي الصلت". وكذلك قال ابن إسحاق3: "وقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي في شأن الفيل، ويذكر الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام. قال ابن هشام: تُروى لأمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي". وقال ابن إسحاق4: "قال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي قال ابن هشام: وتُروى لأمية بن أبي الصلت". وأورد ابن إسحاق أبياتًا نسبها إلى زيد بن عمرو بن نفيل. فقال ابن هشام5: "هي لأمية بن أبي الصلت في قصيدة له، إلا البيتين الأولين، والبيت الخامس، وآخرها بيتًا". وأورد كذلك أبياتًا نسبها إلى ورقة بن نوفل بن أسد، فقال ابن هشام6:   1 السيرة ج1: 15، 60، 62، 67 "مكرر"، 68-69، 74، 89، 90، 91، 105، 136، 242، 247/ ج2: 159، 223، 256، 310/ ج3: 16، 20، 83، 139، 212، 221، 223، 282، 362، ج4: 51، 90، 199. 2 المصدر السابق 1: 60. 3 المصدر السابق 1: 62. 4 المصدر السابق 1: 67. 5 المصدر السابق: 242. 6 المصدر السابق 1: 247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 "يُروى لأمية بن أبي الصلت البيتان الأولان منها وآخرها بيتًا في قصيدة له". وقد أورد أبياتًا رواها ابن إسحاق ونسبها إلى سيف بن ذي يزن الحميري، فعقب عليها ابن هشام بقوله1: "وهذه الأبيات في أبيات له. وأنشدني خلاد بن قرة السدوسي آخرها بيتًا لأعشى بني قيس بن ثعلبة في قصيدة له، وغيره من أهل العلم بالشعر ينكرها له". وأورد ثلاثة أبيات من الرجز نسبها إلى "رجل من العرب" فقال ابن هشام2: "ومن الناس من ينحلها امرأ القيس بن حجر الكندي". وذكر ابن إسحاق بيتًا نسبه إلى أعشى بني قيس بن ثعلبة هو قوله3: بين الخورنق والسدير وبارق ... والبيت ذي الكعبات من سنداد فقال ابن هشام: وهذا البيت للأسود بن يعفر النهشلي ... في قصيدة له. وأنشدنيه أبو محرز خلف الأحمر: أهل الخورنق والسدير وبارق ... والبيت ذي الشرفات من سنداد وذكر ابن إسحاق أبياتًا نسبها إلى عبد الله بن الزبعري، فقال ابن هشام4: "وتُروى للأعشى بن زرارة بن النباش". وكذلك ذكر أبياتًا لحسان فقال ابن هشام5: "ويقال: بل قالها عبد الله بن الحارث السهمي". وأورد أبياتًا لحسان بن ثابت، فعقب عليها ابن هشام بقوله6: "آخرها بيتًا يُروى لأبي خراش الهذلي، وأنشدنيه له خلف الأحمر ... وتُروى الأبيات أيضًا لمعقل بن خويلد الهذلي". وذكر أبياتًا نسبها ابن إسحاق لحسان بن ثابت،   1 السيرة النبوية 1: 66-67. 2 المصدر السابق 1: 88-89. 3 المصدر السابق 1-91. 4 المصدر السابق 2: 16. 5 المصدر السابق 2: 20. 6 المصدر السابق 2: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ثم عقب عليها ابن هشام1: "أنشدنيها أبو زيد الأنصاري لكعب بن مالك". والثاني: أما الضرب الثاني من تعقبه ابن إسحاق فهو إيراده الحادثة التاريخية كما وردت في سيرة إسحاق حتى إذا وصل إلى الشعر الذي قيل في هذه الحادثة أسقطه ولم يثبته؛ لأنه لم يصح عنده. ولعل ذلك قد تكرر منه في مواطن كثيرة؛ لأنه ذكر في المقدمة أنه ترك أشعارًا ذكرها ابن إسحاق ولم ير أحدًا من أهل العالم بالشعر يعرفها، غير أنني حين تتبعت هذا الضرب من تعقيباته لم أجده نص عليه إلا في موضعين اثنين، فقد أورد مسير أبي كرب تبان أسعد إلى يثرب وغزوه إياها، فلما وصل إلى شعر خالد بن؟؟ الذي فيه2: حنقًا على سبطين حلا يثربا ... أولى لهم بعقاب يوم مفسد قال ابن هشام: "الشعر الذي فيه هذا البيت مصنوع، فلذلك الذي منعنا من إثباته". وكذلك أورد ما ذكره ابن إسحاق من نذر عبد المطلب ذبح ولده، وحذف ما جاء في أثناء هذا الحديث من شعر وقال3: "وبين أضعفا هذا الحديث رجز لم يصح عندنا أحد من أهل العلم بالشعر". والثالث: وضرب ثالث من تعقيباته يذكر فيها أبياتًا من الشعر الذي أورده ابن إسحاق، ويكتفي بها، ولا يورد باقيها ثم يقول إن ذلك ما صح له منها؛ وقد تكررت منه ذلك في ثمانية مواضع4؛ منها: أن ابن إسحاق أورد أبياتًا لعكرمة بن عامر بن هشام بن عبد مناف، وقد اجترأ ابن هشام بثلاثة أبيات منها وقال5: "قال ابن هشام: هذا ما صح له منها".   1 السيرة 3: 138-139. 2 المصدر السابق 1: 24. 3 المصدر السابق 1: 164. 4 هي: ج1 ص53 "مرتين"، 68، 104، 122، 299/ ج3 ص187/ ج4 ص34. 5 المصدر السابق 1: 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وروى ابن إسحاق أبياتًا كثيرة لأبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي، ومع أن ابن هشام قال إنها تروى لابنه أمية، فقد قال أيضًا1: "هذا ما صح له مما روى ابن إسحاق منها إلا آخرها بيتًا قوله: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا. فإن للنابغة الجعدي ... في قصيدة له". وروى ابن إسحاق أبياتًا للحارث بن ظالم حين هرب من النعمان بن المنذر فلحق بقريش2، ولكن ابن هشام اكتفى بستة أبيات منها، ثم قال: "هذا ما أنشدني أبو عبيدة منها". وروى ابن إسحاق أيضًا أبياتًا لعمرو بن الحارث، فاجتزأ بن هشام بثلاثة أبيات منها، وقال3: "هذا ما صح له منها، وحدثني بعض أهل العلم بالشعر أن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب، وأنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن ولم يسم لي قائلها"!! وأورد ابن إسحاق قصيدة أبي طالب، فذكر ابن هشام منها أربعة وتسعين بيتًا ثم قال4: "هذا ما صح لي من هذه القصيدة!! وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها". الرابع: أما في الضرب الرابع فقد كان ابن هشام يورد الشعر الذي أورده ابن إسحاق كاملًا لا يخرم منه بيتًا، ثم يذكر أنها منحولة، وقد تكرر منه ذلك   1 السيرة 1: 68-69. 2 المصدر السابق 1: 103-104. 3 المصدر السابق 1: 121-122. 4 المصدر السابق 1: 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 في ستة وثلاثين موضعًا1 ويكاد يلتزم، في تعبيره عن شكه، أربعة أنواع من العبارة: أ- فهو يورد ما رواه ابن إسحاق من شعر لأبي بكر الصديق2، وعبد الله الزبعري3، وسعد بن أبي وقاص4، وحمزة بن عبد المطلب5، وأبي جهل6، وهند بنت أثاثة7، وحسان بن ثابت8، وميمونة بنت عبد الله9 وكعب بن الأشرف وعلي بن أبي طالب10، والزبرقان بن بدر11، والحارث بن هشام12، ويعقب على كل قصيدة يوردها لهؤلاء بقوله: "وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها له". ب- ويورد ما رواه ابن إسحاق من شعر لمالك بن الدخشم13، ومكرز بن حفص14، وعبيدة بن الحارث بن المطلب15، وضرار بن الخطاب16.   1 هي - ج1: 179/ ج2: 242، 244، 245، 246، 248، 303، 304، 305 / ج3: 8، 11، 24، 29، 30، 41، 42، 44، 56، 57، 148، 151، 154، 163، 174، "مرتين"، 178، 185، 187، 193، 206، 236، 280، 281، "مرتين" / ج4: 34: 62، 90، 209، 231. 2 2: 242 3 2: 244. 4 2: 245. 5 2: 246، 3: 8. 6 2: 248. 7 3: 44. 8 3: 56، 163، 193. 9 3: 57. 10 3: 236. 11 4: 209. 12 3: 8-11. 13 2: 304. 14 2: 305. 15 3: 24. 16 3: 29، 148، 174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 والحارث بن هشام1، وهند بنت عتبة2، وحسان بن ثابت3، وعبد الله بن الزبعري3، وعمرو بن العاص4، وخبيب بن عدي 5، ومسافع بن عبد مناف6، ويعقب على كل قصيدة يوردها لهؤلاء بقوله: "وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له". ج- وإذا كان قد ذكر في العبارات الأولى "أكثر أهل العلم بالشعر" وفي العبارات الثانية "بعض أهل العلم بالشعر"، فقد ذكر أيضًا في عبارات ثالثة "أنه لم ير أحدًا من أهل العلم بالشعر" يعرف هذه الأبيات. فمن ذلك أن ابن إسحاق روى عن محمد بن سعيد بن المسيب خبر وفاة عبد المطلب بن هاشم وبكاء بناته الست عليه، وهن: صفية، وبرة، وعاتكة، وأم حكيم البيضاء، وأميمة، وأروى. وقد بكت عليه كل واحدة منهن بشعر أورده ابن هشام، ثم عقب عليه بقوله7 "ولم أر أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر، إلا أنه لما رواه عن محمد بن سعيد بن المسيب كتبناه". وكذلك روى ابن إسحاق قصيدتين، الأولى: لعلي بن أبي طالب في يوم بدر، والثانية: نقيضتها للحارث بن هشام بن المغيرة، وقد أوردهما ابن هشام، وقال8: "ولم أر أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرفها ولا نقيضتها، وإنما كتبناهما لأنه يقال إن عمرو بن عبد الله بن جدعان قتل يوم بدر، ولم يذكره ابن إسحاق في القتلى، وذكره في هذا الشعر".   1 3: 30. 2 3: 41، 42، 178. 3 3: 151، 186، 187، 281. 4 3: 154. 5 3: 185. 6 3: 280. 7 2: 179. 8 3: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وروى ابن إسحاق أبياتًا لعلي بن أبي طالب، فأوردها ابن هشام وقال1: "قالها رجل من المسلمين يوم أُحد غير علي، فيما ذكر لي بعض أهل العلم بالشعر، ولم أر أحدًا منهم يعرفها لعلي". وكذلك روى ابن إسحاق قصيدة أخرى لعلي يذكر فيها إجلاء بني النضير، فأوردها ابن هشام، وقال2: "قالها رجل من المسلمين غير علي بن أبي طالب، فيما ذكر لي بعض أهل العلم بالشعر، ولم أر أحدًا منهم يعرفها لعلي". د- وقد نص في موضع واحد على اسم عالم من علماء اللغة والشعر والأخبار هو أبو عبيدة؛ وذلك أنه أورد قصيدة من اثني عشر بيتًا رواها ابن إسحاق لعمرو بن معديكرب. ثم قال إن أبا عبيدة أنشده الأبيات الثلاثة الأولى منها، وفيها خلاف في رواية بعض ألفاظها، وأنه لم يعرف سائرها3. ويحسن بنا أن نختم حديثنا عن ابن إسحاق وابن هشام بذكر طائفة من المآخذ التي استدركها ابن هشام على ابن إسحاق ولم ندخلها في الضروب الأربعة السابقة وهي. 1- يروي ابن إسحق قصيدة لأمية بن أبي الصلت يبكي زمعة بن الأسود وقتلَى بني أسد، ويوردها ابن هشام كما رواها ابن إسحاق ويعقب عليها بقوله4: "هذه الرواية لهذا الشعر مختلطة، ليست بصحيحة البناء، ولكن أنشدني أبو محرز خلف الأحمر وغيره، روى بعض ما لم يرو بعض.." ثم يورد القصيدة بهذه الرواية الأخرى صحيحة البناء مستقيمة الوزن. 2- ويروى ابن إسحاق قصيدة من ثلاثة عشر بيتًا للعباس بن مرداس، وقد   1 السيرة 3: 174. 2 المصدر السابق 3: 206. 3 المصدر السابق 4: 231. 4 المصدر السابق 3: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 رواها كلها متتابعة على أنها قصيدة واحدة -إذ أنها ذات وزن واحد وروي واحد- وأوردها على ذلك ابن هشام، ثم عقب عليها بقوله1: "قال ابن هشام: من قوله: "أبلغ هوزان أعلاها وأسفلها" إلى آخرها، في هذا اليوم، وما قبل ذلك في غير هذا اليوم، وهما مفصولتان، ولكن ابن إسحاق جعلهما واحدة". 3- ويحذف ابن هشام بيتًا أو أبياتًا من قصيدة رواها ابن إسحاق، وليس سبب هذ الحذف أنه يشك في صحة الشعر أو نسبته، وإنما لأن الشاعر أقذع فيه2. وكذلك أبدل كلمات من شعر رواه ابن إسحاق لأن الشاعر "نال فيها من النبي صلى الله عليه وسلم"3. وترك بيتين من قصيدة لأمية بن أبي الصلت لأنه "نال فيهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"4. 4- وله أحيانًا تعليقات على ما يورد من الشعر من حيث العروض أو من حيث جمال الشعر، فمن ذلك أنه يذكر كلامًا لرئي من الجن هو "ألم تر إلى الجن وإبلاسها، وإياسها من دينها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها". ثم يعقب عليه بقوله5: "قال ابن هشام: هذا الكلام سجع وليس بشعر!! ". وذكر أيضًا ما كان يرتجز به المسلمون وهم يبنون مسجد المدينة، وذلك قولهم: "لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة" وعقب عليه بقوله6: "هذا كلام وليس برجز". ويورد أيضًا أبيات سبيعة بنت الأحب، ومطلعها: أبني لا تظلم بمكـ ... ـة لا الصغير ولا الكبير   1 السيرة 4: 84. 2 انظر 1: 287/ 2: 54/ 3: 19، 20، 86، 97، 186، 187/ 4: 213. 3 المصدر السابق 3: 11. 4 المصدر السابق 3: 33. 5 المصدر السابق 1: 223-224. 6 المصدر السابق 2: 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ثم قال1: "يوقف على قوافيها لا تُعرب". وأورد أبياتًا على الكاف المكسورة رواها ابن إسحاق لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ثم عقب عليها بقوله2: "بقيت منها أبيات تركناها لقبح اختلاف قوافيها". ويورد أبياتًا لحسان بن ثابت يذكر عدة أصحاب اللواء يوم أُحد، ثم يعقب عليها بقوله3: "هذه أحسن ما قيل". ويورد أبياتًا رواها ابن إسحاق لأبي أسامة معاوية بن زهير بن قيس، ويعقب عليها بقوله4: "وهذه أصح أشعار أهل بدر". ذلك هو ابن هشام وصنيعه بسيرة ابن إسحاق، وذلك هو -على وجه الحصر- كل ما ذكره عن الشعر الجاهلي الذي رواه ابن إسحاق في سيرته. أما ابن سلام فقد يصح أن نقسم حديثه عن وضع الشعر الجاهلي ونحله قسمين كبيرين، أولهما: قواعد عامة وأحكام مرسلة يطلق القول فيها إطلاقًا، لا يخصص ولا يمثل، وأكثر حديثه عن هذا القسم جاء في مقدمة كتابه. وثانيهما: نص على شعراء بعينهم وذكر لشعر قالوه، يذهب ابن سلام إلى أنه موضوع منحول. فمن القسم الأول قوله5: "وفي الشعر المسموع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربيته، ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج، ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب، ولا نسيب مستطرف. وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية،   1 السيرة 1: 27. 2 المصدر السابق 2: 223. 3 المصدر السابق 3: 156. 4 المصدر السابق 3: 35. 5 طبقات فحول الشعراء: 5-6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ولم يعرضوه على العلماء. وليس لأحد -إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه- أن يقبل من صحيفة، ولا يروي عن صحفي. وقد اختلف العلماء في بعض الشعر، كما اختلفت في بعض الأشياء، أما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه". وقد روى لنا أن خلاد بن يزيد الباهلي -وكان حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله، قال لخلف بن حيان الأحمر1: "بأي شيء ترد هذه الأشعار التي تُروَى؟ قال له: هل فيها ما تعلم أنت أنه مصنوع لا خير فيه؟ قال: نعم. قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم بالشعر منك؟ قال: نعم. قال: فلا تنكر أن يعلموا من ذلك أكثر مما تعلمه أنت. ومن هذا القسم أيضًا ما أشرنا إليه قبل قليل من حديثه عن محمد بن إسحاق وصنيعه في السيرة، فقد قال عنه إنه كان2 "ممن أفسد الشعر وهجنه وحمل كل غثاء منه، .... فقبل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، أوتى به فأحمله. ولم يكن ذلك له عذرًا. فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلًا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة ... " ووصف حمادًا الراوية بأنه3 "كان ينحل شعر الرجل غيره، وينحله غير شعره، ويزيد في الأشعار". وقال أيضًا4 "فلما راجعت العرب رواية الشعر، وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم، وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسن شعرائهم. ثم كانت الرواة بعد، فزادوا في الأشعار التي قيلت.   1 طبقات فحول الشعراء: 8. 2 المصدر السابق: 8-9. 3 المصدر السابق: 40-41. 4 المصدر السابق: 39-40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة ولا ما وضعوا، ولا ما وضع المولدون؛ وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل بادية من ولد الشعراء، أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الإشكال". أما القسم الثاني فيتفرع كذلك إلى جدولين، أولهما: ذكر في ابن سلام الشعراء وأرسل القول في شعرهم إرسالًا، من غير تخصيص بشعر بذاته. وثانيهما: وقف فيه عند بيت أو أبيات من شعر الشاعر ونص على أن هذه الأبيات بعينها موضوعة منحولة. فمن الأول قول ابن سلام1: "أخبرني أبو عبيدة أن ابن داوود بن متمم بن نويرة قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي في الجلب والميرة، فنزل النحيت؛ فأتيته أنا وابن نوح العطاردي، فسألناه عن شعر أبيه متمم، وقمنا له بحاجته وكفيناه ضيعته. فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويضعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه فيذكر المواضع التي ذكرها متمم والوقائع التي شهدها. فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله". وكذلك قوله2: "ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه، قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد، اللذين صح لهما قصائد بقدر عشر ... ونرى أن غيرهما قد سقط من كلام كثير، غير أن الذي نالهما من ذلك أكثر. وكانا أقدم الفحول، فلعل ذلك لذاك فلما قل كلامهما حُمل عليهما حمل كثير". وشك كذلك في شعر عبيد بن الأبرص فقال عنه إنه3 "قديم الذكر عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب، لا أعرف له إلا قوله: أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب ولا أدري ما بعد ذلك!! ".   1 طبقات فحول الشعراء: 40. 2 المصدر السابق: 23. 3 المصدر السابق: 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وشك كذلك في شعر علقمة بن عبدة فقال1: "ولابن عبدة ثلاث روائع جياد، لا يفوقهن شعر". وبعد أن ذكر مطالعها قال: "ولا شيء بعدهن يذكر2". وشك في شعر عدي بن زيد، فقال عنه إنه3 "كان يسكن الحيرة ومراكز الريف، فلان لسانه وسهل منطقه، فحمل عليه شيء كثير، وتخليصه شديد، واضطرب فيه خلف الأحمر، وخلط فيه المفضل فأكثر". وقال كذلك عن الأسود بن يعفر4: "وله شعر كثير جيد ... وذكر بعض أصحابنا أنه سمع المفضل يقول: له ثلاثون ومائة قصيدة ونحن لا نعرف له ذلك ولا قريبًا منه؛ وقد علمت أن أهل الكوفة يروون له أكثر مما نروي، ويتجوزون في ذلك بأكثر من تجوزنا ... ". وذكر حسان بن ثابت فقال عنه إنه5 "كثير الشعر جيده، وقد حمل عليه ما لم يحمل على أحد. لما تعاضهت قريش واستبت وضعوا عليه أشعارًا كثيرة لا تُنقى". وذكر أيضًا أبا سفيان بن الحارث وقال إن له شعرًا كان يقوله في الجاهلية6. "فسقط ولم يصل إلينا منه إلا القليل. ولسنا نعد ما يروى ابن إسحاق له، ولا لغيره شعرًا، ولأن لا يكون لهم شعر أحسن من أن يكون ذاك لهم". وأما الجدول الثاني من هذا القسم فهو الذي يقف فيه عند بيت أو أبيات   1 طبقات فحول الشعراء: 116-117. 2 لعل ابن سلام هنا لا يشك في الشعر المنسوب إلى علقمة، وإنما يريد أن يفضل قصائده الثلاث على سواها من شعره، وذلك معنى قوله: "ولا شيء بعدهن يذكر". 3 المصدر السابق: 117. 4 المصدر السابق: 123. 5 المصدر السابق: 179. 6 المصدر السابق: 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 بعينها من شعر الشاعر. فمن ذلك أنه روى بيتًا لعباس بن مرداس يذكر فيه عدنان هو قوله1: وعك بن عدنان الذين تلعبوا ... بمذحج حتى طردوا كل مطرد وقد قال راوي الكتاب أبو خليفة الفضل بن الحباب عقب ذلك: "والبيت مريب عند أبي عبد الله" -يعني ابن سلام. وقال ابن سلام2: أخبرني أبو عبيدة عن يونس قال: "قدم حماد البصرة على بلال بن أبي بردة، وهو عليها، فقال: ما أطرفتني شيئًا؛ فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة مديح أبي موسى3. فقال: ويحك، يمدح الحطيئة أبا موسى لا أعلم به، وأنا أروي شعر الحطيئة؟! ولكن دعها تذهب في الناس! ". وقال كذلك4: "ويروى عن الشعبي، عن ربعي بن خراش: أن عمر بن الخطاب قال: أي شعرائكم الذي يقول: فألفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون وهذا غلط على الشعبي، أو من الشعبي، أو من ابن خراش. أجمع أهل العلم على أن النابغة لم يقل هذا، ولم يسمعه عمر، ولكنهم غلطوا بغيره من شعر النابغة". وأورد بيتين ذكر أنهما مما "يحمل على لبيد" هما5:   1 طبقات فحول الشعراء: 11. 2 المصدر السابق: 41. 3 هي قصيدته الميمية، وانظر الأغاني 2: 175-176. 4 المصدر السابق: 49-50. 5 المصدر السابق: 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 باتت تشكي إلى النفس مجهشة ... وقد حملتك سبعًا بعد سبعين فإن تعيشي ثلاثًا تبلغي أملًا ... وفي الثلاث وفاء للثمانين ثم قال: "ولا اختلاف في أن هذا مصنوع تكثر به الأحاديث، ويستعان به على السهر عند الملوك، والملوك لا تستقصي". وذكر أبا طالب فقال إنه كان1 "شاعرًا جيد الكلام، وأبرع ما قال قصيدته التي مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: وأبيض يُستسقَى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل ثم قال: "وقد زيد فيها وطولت. رأيت في كتاب كتبه يوسف بن سعد صاحبنا منذ أكثر من مائة سنة، وقد علمت أن قد زاد الناس فيها، فلا أدري أين منتهاها. وسألني الأصمعي عنها فقلت: صحيحة جيدة. قال: أتدري أين منتهاها؟ قلت: لا أدري ... ". وذكر ابن سلام بيتين قال إن الناس يروونهما لأبي سفيان بن الحارث ثم قال2: "وأخبرني أهل العلم من أهل المدينة: أن قدامة بن موسى بن عمر بن قدامة بن مظعون الجمحي قالها ونحلها أبا سفيان؛ وقريش ترويه في أشعارها". وأورد أربعة أبيات مما يُروى لزهير بن أبي سلمى وقال إنها لقراد بن حنش من شعراء غطفان، "وكان جيد الشعر قليله، وكانت شعراء غطفان تغير على شعره فتأخذه وتدعيه، منهم زهير بن أبي سلمى ادعى هذه الأبيات"3. وأورد أرجوزة للأغلب العجلي قالها في سجاح لما تزوجت مسيلمة الكذاب؛   1 طبقات فحول الشعراء: 204. 2 المصدر السابق: 208-209. 3 المصدر السابق: 568-569. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ثم قال1: "حدثني الأصمعي: أنه كان يقال إن هذه القصيدة في الجاهلية لجشم بن الخزرج". وبعد: فقد قام حديثنا فيما تقدم من صفحات هذا الفصل على تتبع آراء القدامى المتفرقة في الكتب عامة، وكتابي سيرة ابن هشام وطبقات ابن سلام خاصة؛ فدرسناها وصنفناها، ورتبناها، ثم اكتفينا بالعرض المجرد، على أن نعود إلى نقد هذه الآراء ودراستها دراسةً تنفي عنها ما فيها من زيف في الفصل الخامس من هذا الباب، بعد أن ندرس في الفصل الثالث والرابع آراء المحدثين من المستشرقين والعرب، ليتسنى لنا أن ننظمهم معًا في حديث واحد.   1 المصدر السابق: 573-576. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 الفصل الثالث: النحل والوضع في الشعر الجاهلي- آراء المستشرقين آراء المستشرقين ... الفصل الثالث: النحل والوضع في الشعر الجاهلي آراء المستشرقين -1- أما المحدثون من المستشرقين فلعل مرجوليوث D.S. Margoliouth هو من أوائل من آثار منهم الشك في الشعر الجاهلي في مقالة كاملة، خصص صفحاتها الكثيرة للحديث عن هذا الموضوع من جميع أطرافه1. فقد نشر في مجلة الجمعية   1 حصرنا حديثنا في هذه الصفحات في المقالة التي خصصها مرجوليوث للحديث عن وضع الشعر الجاهلي والتشكيك فيه، وقد تحدث مرجوليوث قبل هذه المقالة، عن وضع الشعر الجاهلي، ولكن أحاديثه هناك كانت عبارة مقتضبة، تجيء في ثنايا حديثه عن موضوع آخر. فمن ذلك ما نشره في "معلمة الدين والأخلاق" Eacyelopaedea of Religion and Ethies "مادة "محمد" المجلد الثامن ص874" وما ذكره في كتابه عن "محمد وظهور الإسلام". Mohammed and the Rise of islam "ط سنة 1905 ص60"، وما نشره في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية سنة 1916 ص397. ومن أمثلة ذلك أنه كان يتحدث في كتابه "محمد وظهور الإسلام" عن لغة القرآن فقال: "لقد رأى العلماء أن في لغة القرآن مشابة كبيرة من لغة الشعر الجاهلي، ومع أنه من العسير علينا أن نكون لنا رأيًا في هذا لموضوع -لأننا نرى أن الشعر الجاهلي في معظمه مصنوع وضع على مثال القرآن- فإنه يصح أن نقبل رأي العرب في ذلك". وكان يتحدث في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية عن الكتب العربية التي ظهرت حديثًا حينئذ، فعرض لكتاب الخصائص لابن جني وأشار إلى ما ورد فيه من أمر اكتشاف الطنوج، وفيها الشعر الذي مدح به النعمان. فقال مرجوليوث إن حمادًا هو الذي روى هذا الخبر، وحماد متهم بوضع الشعر الجاهلي ونحله "ولذلك فإن هذه القصة تدق مسمارًا كبيرًا في نعش الشعر العربي القديم" ثم أشار إلى أن القصائد التي ذكرها ابن إسحاق في السيرة يقال إنها قد وضعت وضعًا من أجل ذلك الكتاب، أما غير هذا من الشعر القديم الذي يرويه أهل الكوفة فقد كان من وضع خلف الأحمر!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 الملكية الآسيوية - عدد يوليو سنة 1925- بحثًا عنوانه "أصول الشعر العربي"1 رجح فيه أن هذا الشعر الذي نقرأه على أنه شعر جاهلي إنما نظم في العصور الإسلامية ثم نحله هؤلاء الواضعون المزيفون لشعراء جاهليين. وقد بنى رأيه هذا على ضربين رئيسيين من الأدلة: أدلة خارجية، وأدلة داخلية. وسنعرض في هذه الصفحات رأيه، في شيء من التفصيل. الأدلة الخارجية: 1- بدأ مرجوليوث مقالته بالحديث عن وجود الشعر في الجاهلية؛ فقال2: إن وجود شعراء في بلاد العرب قبل الإسلام أمر شهد به القرآن، إذ أن فيه سورة واحدة باسمهم، ثم يشير إليهم من حين إلى آخر في مواطن أخرى. ومن بين الأوصاف التي كان خصوم النبي ينعتونه بها أنه كان شاعرًا مجنونًا3. وكان النبي ينفي عن نفسه هذه الصفة ويجيبهم بأنه إنما "جاء بالحق". ووردت، في سورة أخرى، ثلاث ألفاظ هي كاهن، ومجنون، وشاعر4، ويزعم مرجوليوث أن سياق الآية يدل على أن هذه الألفاظ الثلاثة في معنى واحد "مترادفة"، ثم قال: إن الذين وصفوه بأنه شاعر قالوا إنهم سيتربصون ليروا ما سيحدث له! وهو يرى أنه يصح أن يستنتج من ذلك أن من عادة الشعراء آنئذ التنبوء بالغيب!! وأشار إلى أن القرآن قد ذكر أن لغته ليست لغة شاعر ولكنها لغة رسول كريم5، وأن الله لم يعلم النبي الشعر لأنه لا طائل له من   1 D.S. Margoliouth, the origins of Arabic poetry, Journal of the Royal Asiatic Society, July 1925 pp 417- 449. 2 من صفحة 417 إلى صفحة 419 من المقالة السابقة. 3 {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 36] . 4 {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ، أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 29-30] . 5 {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 40-42] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 ورائه1، وأن كلام النبي حقيقة مقررة وعظة واضحة2 ويستنتج من ذلك أن الشعر كان آنئذ غامضًا مبهمًا! ويشير إلى أن خلاصة صفات الشعراء مجموعة في السورة التي تحمل اسمهم. وفيها أنهم يتبعهم الغاوون، وأنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون. ويقول إن الآيات التي تلي هذه الأوصاف قد تبدو كأنما تستثنى بعض الشعراء الأتقياء من هذا الحكم، ولكن أسلوب القرآن يجعلنا في شك من أن المقصودين بهذا الاستثناء هم حقيقة الشعراء. ويذهب إلى أنه يجوز لنا أن نستنتج مما تقدم أن الشياطين كانت تتنزل على الشعراء. إذ أن القرآن ذكر أنهم يتنزلون على كل كاذب أثيم، ,أنهم ينقلون إليه أنباء كاذبة في جملتها3 ويذكر أن هذه الآيات تشير إلى عمل الشياطين المذكور في سورة أخرى وهو: استراقهم السمع في المجالس السماوية، فعوقبوا على هذا الذنب بأن ألقيت عليهم الشهب4، وهذا ثانية يصل بين الشعراء والتنبوء بالغيب!! ثم يذهب إلى أنه إذا كان المقصود بالشعر هو هذا الشعر الذي عُرف في الأدب العربي بعد ذلك، فإننا نقع في حيرة من الأمر، وذلك أن محمدًا الذي لم يكن يعرف الشعر، كان يدرك أن ما يوحى إليه ليس بشعر، بينما كان أهل مكة -وهم لا شك يعرفون الشعر إذا ما سمعوه أو رأوه- يظنون كلامه شعرًا! ويخلص مرجوليوث بعد هذا الحديث الطويل الذي لخصنا جملته، إلى أنه   1 {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] . 2 {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69] . 3 {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 221-223] . 4 {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ، وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ، إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 6-10] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 "ربما كان ما تبيح لنا الشواهد القرآنية قوله هو أنه كان قبل الإسلام بعض الكهان من بين العرب كانوا يُعرفون باسم "الشعراء"، كانت لغتهم غامضة مبهمة كما هو الشأن دائمًا في الوحي"1. 2- وبعد أن ينتهي مرجوليوث من حديثه عن الشعر والشعراء كما استنتجه من آيات القرآن الكريم، يبدأ في عرض آراء العلماء المسلمين القدماء ويسميهم2 Archaelogists. فيثير مشكلة ابتداء الشعر العربي ونشأته، ويقرر أنها أمر في الغاية من الغموض؛ إذ إن القدامى قد ذهبوا فيها مذاهب متباينة. فقد عزا بعضهم شعرًا عربيًّا إلى آدم3، بينما أورد آخرون قصائد غنائية عربية منذ عهد إسماعيل4. ثم يقول إنه يبدو أن الرأي السائد أن الشعر العربي -بصورته التي ثبت عليها بعدُ- بدأ قبيل ظهور الإسلام بأجيال قليلة على أبعد تقدير. ومع أن الذين يذهبون هذا المذهب يجعلون مهلهلًا أو امرأ القيس أول الشعراء فقد أوردوا شعرًا لشعراء سبقوهما بزمن طويل5. ثم يختم حديثه هذا ختامًا يكشف عن شكه في كل ما أورد، وذلك قوله6: "ولو أننا عددنا القصة التي تعزو إلى مهلهل اختراع القصيدة حقيقة تاريخية، فلا بد لنا من أن نُقر بأنه أصبح له مقلدون وأتباع كثيرون، فبين أيدينا عدد وافر من المجلدات التي تشتمل على مجموع أشعار عدد كبير من الشعراء الذين عاشوا في الفترة التي امتدت بين اختراعه وهجرة الرسول! وجميع شعراء المعلقات العشر المشهورين أصحاب دواوين أو مجموعات قصائد طُبع أكثرها وجاء في صفحات كثيرة. وبجانب هؤلاء شعراء كثيرون يساوونهم في الإكثار ولم يُعدوا من العشرة الخالدين. وفضلًا عن ذلك فإن القصائد الصادرة عن شعراء من قبائل معينة قد جُمعت في   1 المقالة السابقة: 419-420. 2 من صفحة: 421. 3 المسعودي، مروج الذهب 1: 65. 4 الأغاني 13: 104. 5 الأغاني 11: 154 "خزيمة بن نهد". 6 ص422-423. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 مجاميع، طُبع أحدها. وتدل هذه القصائد بطبيعتها على معرفة بالهجاء، وهي تشير في مواطن كثيرة إلى الكتابة، فلا شك إذن في أن عرب ما قبل الإسلام -الذين كانوا يستخدمون لغة القرآن! - كانوا مجتمعًا أدبيًّا عاليًا! ولا تكاد بلاد الإغريق القديمة تعرض علينا عددًا مثل هذا من عبدة آلهة الفن! ". 3- ثم ينتقل إلى الحديث عن حفظ هذا الشعر الجاهلي، فيقول1: "لو فرضنا أن هذا الشعر حقيقي، فكيف حفظ؟ لا بد أنه حفظ إما بالرواية الشفهية وإما بالكتابة ويبدو أن الرأي الأول "أي الرواية الشفهية" هو الرأي الذي يذهب إليه المؤلفون العرب، مع أنه ليس بالرأي الذي يجمعون عليه كما سنرى". ثم يشك -كعادته- في أن يكون الشعر الجاهلي قد حُفظ بالرواية الشفهية، ويبنى شكه على ثلاثة أسباب، الأول: "إذا كانت قصائد عدة ذات أبيات كثيرة قد حُفظت بالرواية الشفهية فلا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا وجد أفراد عملهم أن يحفظوها في ذاكرتهم وينقلوها إلى غيرهم، وليس لدينا ما يدعونا إلى الظن بأن حرفةً مثل هذه قد وُجدت أو أنها بقيت خلال العقود الأولى من الإسلام! " والثاني: ما يذهب إليه المسلمون من أن "الإسلام يجبُّ ما قبله"2 وما ورد في القرآن من "أن3 أتباع الشعراء هم الغاوون فحديث القرآن عنهم فيه قسوة عليهم واحتقار لهم. فثمة إذن سبب قوي يدعو إلى نسيان الشعر الجاهلي إذا كان ثمة شعر جاهلي حقيقة! " والثالث مرتبط بالثاني وهو "أن الأعمال التي تخلدها عادة هذه القصائد كانت انتصارات القبائل بعضها على بعض، والإسلام، الذي كان يرمي إلى توحيد العرب ونجح نجاحًا كبيرًا في تحقيق تلك الوحدة، كان يحث على نسيان تلك الحوادث، والقصائد التي من هذا الضرب تثير النفوس وتهيج الدماء4".   1 ص423. 2 ص424. 3 ص424. 4 نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 4- حتى إذا اطمأن إلى أنه قد فند ما ذهب إليه أكثر القدامى من أن الشعر الجاهلي قد حفظ لنا بالرواية الشفهية، قال: "فلم يبق إلا الاحتمال الثاني وهو: أن هذه القصائد حُفظت بالكتابة". ثم يعرض راويات قليلة تشير إلى أن بعض الشعر الجاهلي كان يُكتب1، ويستنتج من ذلك أنه "ربما لا يوجد ما يتعارض مع ما تصرح به هذه القصائد إذا تخيلنا أنها كانت تذيع وتنتشر عن طريق الكتابة2". ولكنه لا يلبث أن يخضع لما يسيطر عيه من نزعة الشك فيحاول أن ينفي كتابة الشعر الجاهلي من وجهين، الأول: ما يصرح به القرآن نفسه "فإن وجود أدب فصيح قبل الإسلام بلغة القرآن وبالكتابة الحميرية، أو بأي خط آخر، لأمر يبدو مناقضًا كل التناقض لصريح ألفاظ القرآن ولأحكامه التي يقررها بحيث لا يصح أن يوضع هذا الأمر موضع النظر؛ فالقرآن يسأل أهل مكة: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُون} 3 ويسأل الكفار والمشركين: {أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} 4 وأولئك الذي يخاطبهم القرآن لم ينزل على آبائهم نذير: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} 5. و {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} 6. {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 7. ولم يكن لأحد كتب سماوية إلا لمجتمعين: المجتمع   1 ص424-425. 2 ص425. 3 القلم: 37. 4 القلم: 47. 5 يس: 6. 6 السجدة: 3. 7 القصص: 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 المسيحي والمجتمع اليهودي: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} 1 ولم يكن للوثنيين كتاب من هذا الضرب. وهذا أمر من الصعب أن نفترض أن القرآن أخطأ فيه، فإن رسولًا إلى الهندوس قد يحكم على كتبهم بأنها لا قيمة لها وأنها مضللة، ولكنه لا ينكر وجودها. ولو أن الشعر الجاهلي كان مكتوبًا لكان للجاهليين كثير من الكتب "وهي كتب في الحقيقة موحى بها"، قد تكون غير مشذبة أو مصقولة -مع أنها لم تكن جميعًا كذلك كما سنرى- ولكنها مع ذلك كافية لأن تجيب عن أسئلة القرآن بالإثبات؛ ولكن القرآن، لا شك، يزعم أن الجواب بالنفي2". أما الوجه الثاني فهو ما يدعوه "مجرى التطور الأدبي"، وهو، في حديثه هذا، يجمجم في ألفاظه ولا يكاد يبين، ومع ذلك فإن الهدف الذي يرمي إليه واضح، فهو يذهب إلى أن الأدب في تطوره يسير عادة، وربما دائمًا، من الصور الشاذة غير المنتظمة إلى الصور المألوفة المنتظمة، ومن هنا يرى أن الشعر الذي يزعم أنه جاهلي إنما هو مرحلة تالية للقرآن لا سابقة عليه، وذلك قوله3: "إن الأساليب الأدبية العربية، سواء النثر المسجوع والشعر، فيها مشابه من أسلوب القرآن. وفي القرآن آيات لا ينكر أنها نثر مسجوع إلا الغلاة من المتشددين؛ وفيه أيضًا، في مواطن متعددة، أمثلة على كثير من الأوزان الشعرية. والتطور من الأسلوب القرآني إلى الأسلوب المنتظم Regular يبدو متمشيًا مع المألوف. وإذا كان القرآن أول أثر في اللغة يظهر فيه الفن الأدبي فإن ما يدعيه لنفسه من الإعجاز في الفصاحة أمر من اليسير على الناس فهمه، وهو لا يختلف بذلك   1 الأنعام: 156. 2 المقالة السابقة: 425-426. 3 ص426. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 كثيرًا عما يدعيه لأنفسهم أولئك الذين أدخلوا، لأول مرة، النظم في اللغة أو ينسبه إليهم الآخرون. أما إذا كان المستمعون قد تعودوا سماع النثر المسجوع والشعر الكامل المصقول كما يبدوان في أساليب الآثار الأدبية التي تدل في ظاهرها على أنها جاهلية، فإن من العسير إقامة الدليل على هذا الادعاء". 5- ثم يتطرق بعد ذلك إلى الحديث عن الرواة من علماء القرنين الثاني والثالث الهجريين، فيذكر حمادًا، وجنادًا، وخلفًا الأحمر، وأبا عمرو بن العلاء، والأصمعي، وأبا عمرو الشيباني، وابن إسحاق صاحب السيرة، والمبرد، فيجمع بعض ما انتثر في الكتب العربية من إشارات تُشيع الشك في بعض ما جمعوا أو أوردوا من الشعر الجاهلي1، ثم أضاف إلى ذلك آراء هؤلاء الرواة العلماء بعضهم في بعض، فقال2: "إن هؤلاء العلماء لم يكن يوثق بعضهم بعضًا، فابن الأعرابي كان يتهم الأصمعي وأبا عبيدة، وربما بادلوه اتهامًا باتهام، ولا شك في أن كلًّا منهم كان يتهم الآخر". وسنورد تفصيل هذه الروايات في الفصل التالي. وقد ختم حديثه عن هذه النقطة بقوله3: "وقد نقبل أن بعض العلماء كانوا يشكون، بل كانوا ينقدون، فلم يضعوا ولم ينحلوا، وأدخلوا في مجموعاتهم ما كانوا يعتقدون أنه حقيقة شعر قديم، ولكن هذا يعود بنا إلى التساؤل عن مصادرهم. فقد كانت رسالة محمد حدثًا عظيمًا في بلاد العرب: كانت انفصالًا عن الماضي يندر مثيله في التاريخ. فقد ترك الناس، من جميع أنحاء شبه الجزيرة، مساكنهم ليستوطنوا في بلاد لم يكن إلا القليل منهم يسمع بها. وقد واكبت الإسلام وتلته حروب أهلية في داخل شبه الجزيرة. ولم يكن الإسلام متسامحًا مع الوثنية القديمة حتى ولا تسامح استصغارًا لشأنها، بل كان يناصبها أشد   1 من صفحة: 428 إلى 434. 2 ص430. 3 ص433-434. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 العداء، ولم يقبل أن يلتقي معها في مكان سوى. فإذا كان الشعراء هم لسان الوثنية الناطق، فمن هم أولئك الذين حفظوا في صدورهم، ثم نقلوا إلى غيرهم، تلك الأشعار التي تنتسب إلى نظام أبطله الإسلام؟ ونستطيع أن نتتبع الشعور بهذه الصعوبة في ذلك الحل الذي يقال إن حمادًا قدمه، وهو أن الأشعار كانت مدفونة حينما كانت الحماسة للإسلام في أشدها، ثم اكتشفت مصادفة حينما بردت تلك الحماسة بعض الشيء". ولكن مرجوليوث لا يطمئن إلى ما انتهى إليه: فلا يكاد يتم حديثه السابق حتى يعقب عليه بقوله إن هؤلاء الشعراء لم يكونوا كما يبدو عليهم "لسان الوثنية الناطق، بل كانوا مسلمين في كل شيء ما عدا الاسم"1 ومن أجل أن يبرهن على حكمه هذا ينتقل إلى الضرب الثاني من الأدلة التي يرى أنها كفيلة بإشاعة الشك في صحة الشعر الجاهلي، وهي الأدلة الداخلية: 1- وأول هذه الأدلة الداخلية -كما يراها مرجوليوث- هو ما في هذا الشعر الجاهلي من إشارات إلى قصص ديني ورد في القرآن، وما فيه من كلمات دينية إسلامية مثل: الحياة الدنيا، ويوم القيامة، والحساب، وبعض صفات الله. وقد بدأ مرجوليوث حديثه عن هذا الدليل بقوله2: "إن الشعراء، من جميع الأمم، لا يتركون الناس بعدهم يشكون في أمر ديانتهم، والعرب في نقوشهم واضحون صريحون كذلك في هذا الموضوع، فإن أكثر هذه النقوش تذكر إلهًا أو آلهة وأمورًا تتصل بعبادتها.. ولكن الإشارات إلى الدين في الأشعار التي بين أيدينا قليلة ... ولا نجد من الشعر جو الآلهة المتعددة الذي نجده في النقوش. وربما كان هذا الذي أوحى للأب شيخو نظريته في أنهم كانوا جميعًا نصارى، ولكن يبدو أن هذه النظرية غير صحيحة، فإن بعض هؤلاء الذين افترض أنهم نصارى عبروا عن أنفسهم بطريقة تظهر في وضوح أنهم ينتسبون إلى مجتمع آخر مختلف.   1 ص434. 2 ص434. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 فأعشى قيس، وهو مذكور في كتاب شيخو، يتحدث عن المصلين أو العباد متحلقين حول باب حاميهم مشبهًا تحلقهم بتحلق النصارى حول بيت صنهمهم1، وأحد الأمثلة القليلة التي نجد فيها قسمًا بآلهة وثنية نجده في بيت منسوب إليه2". ثم يمضي مرجوليوث في حديثه فيقول3: "وحيثما يكن النصارى تكن لهم كتبهم المقدسة، وتتأثر لغتهم وأفكارهم تأثرًا كبيرًا بتعبيرات الأناجيل ورسائل الحواريين والأناشيد، ويتخذ شعرهم في الغالب طابع الترانيم ولكن في الشعر -الذي يفترض أنه شعر جاهلي- ندرة كبيرة في الإشارات إلى الكتاب المقدس وتعاليم المسيحية حتى لدى الشعراء الذين ازدهروا في بلاط مسيحي.. وبالرغم من أن الشعراء الجاهليين يقسمون كثيرًا، فهم لا يكادون يختلفون في قسمهم بالله، وهو قسم شائع حقًّا في دواوينهم، حتى إن عبيد بن الأبرص الجاهلي يقسم بلغة القرآن وذلك قوله4: حلفت بالله إن الله ذو نعم ... لمن يشاء وذو عفوٍ وتصفاح وفكرتهم عن أعمال الله لا يستنكرها موحد، فهي قد سبقت في التعبير عما يعبر عنه القرآن في كل التفصيلات على وجه التقريب". ثم يمضي مرجوليوث يضرب لنا الأمثلة على ذلك، فيمثل، ببيت ذي الإصبع العدواني الذي يصف فيه الله بأنه "الذي يقبض الدنيا ويبسطها"، ويمثل ببيت جليلة بنت مرة على أن النساء كن يلجأن إلى الله إذا حزبهن أمر كالثكل، وهو قولها: إنني قاتلة مقتولة ... ولعل الله أن يرتاح لي   1 يقصد قول الأعشى: تطوف العفاة بأبوابه ... طواف النصارى ببيت الوثن "ديوانه ق: 2، ب: 51". 2 انظر الأغاني 20: 139. 3 ص435. 4 ديوانه ق: 24، ب: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ويتمثل كذلك ببيت عبيد بن الأبرص: من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب ويشير إلى أنهم كانوا يخشون ما يغضب الله من الذنوب، ويتمثل ببيت امرئ القيس: فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثمًا من الله ولا واغل ويذكر أنهم كانوا يصفون الله بأنه ذو الأمر المقضي، ويشير إلى بيت الحارث بن حلزة: فهداهم بالأسودين وأمر الـ ... ـله بلغ تشقى به الأشقياء إلى آخر ما يورد من أمثلة هذا الباب. ثم يستنتج من ذلك1 "أن الديانة الوحيدة التي يصح أن يعتنقها هؤلاء الشعراء الجاهليون هي الإسلام". ويقول إن هؤلاء الشعراء لم يكونوا "موحدين متمسكين بالوحدانة حسب، بل إنهم ليكشفون عن معرفتهم بأمور يذكر القرآن أنها لم يكن يعرفها العرب قبل نزول الوحي. ففي سورة رقم 11 آية 51 يذكر أنه لا محمد ولا قومه سمعوا من قبل بقصة نوح2، وهذا القول متفق مع ما نستنبطه من النقوش التي لا تشير إلى السلالات العربية الواردة في التوراة والتي تشير إليها هذه القصة". ثم يشير إلى أن النابغة كان يعرف هذه القصة بتفصيلاتها، ويعقب على ذلك بقوله: "ويبدو أن القرآن هو المصدر الوحيد عن هذا الأمر"، ويورد بيت النابغة: فألفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون   1 ص436. 2 {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 ويقول: "وهنا إشارة واضحة إلى الصفة "أمين"، وهي في القرآن من صفات نوح1. ثم يتحدث عن الألفاظ الإسلامية في شعر عنترة فيقول2: "وواضح أن عنترة العبسي كان يعرف وحي القرآن ومصطلحات الإسلام". وذلك لأنه استخدم ألفاظ "قبلة القصاد"2 والركوع والسجود"3 و"حجر المقام"4 و"الجحيم"5 و"المحشر"6 وغيرها، ولذلك قال عنه إنه "لا داعي للشك في أنه كان مسلمًا تقيًّا صالحًا، غير أن حياته انتهت قبل الإسلام!! ". ثم ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن لفظة "الدنيا" فيقرر أن القرآن أول من استعمل لفظ "الدنيا" للدلالة على الحياة أو هذا العالم، ثم يقول7: "غير أن الشعراء الجاهليين كانوا على معرفة تامة بهذا التعبير". وهنا يمثل بقول عبيد بن الأبرص "طيبات الدنيا"، وقول ذي الإصبع "عرض الدنيا". وبعد أن يفيض في تفصيل القول وضرب الأمثلة ينتهي إلى قوله8: "من المحتمل جدًّا أن نتصور أن محمدًا كان له "سابقون" بمعنى أن بعض الأفراد ثاروا قبل عهده على عبادة الأوثان في وسط بلاد العرب؛ ومن الواضح، فضلًا عن ذلك، أن النصرانية سيطرت على أجزاء من شبه الجزيرة. ولو أن الشعراء الجاهليين نظموا كما ينظم النصاري مضمنين المبادئ المسيحية مظهرين معرفتهم بتعاليمها لكان من الجائز أن تواجهنا بعض الصعوبات في قصائدهم وتعترضنا   1 {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء 105-107] . 2 ص437. 3 وذلك قوله: إذا بلغ الفطام لنا صبي ... تخر له أعادينا سجودًا 4 وذلك قوله: عجوز من بني حام بن نوح ... كأن جبينها حجر المقام 5 قوله: كلما ذقت باردًا من لماها ... خلته في فمي كنار الجحيم 6 قوله: ورجعت عنهم لم يكن قصدي سوى ... ذكر يدوم إلى أوان المحشر 7 ص438. 8 ص439-440. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 مشكلة نقلها وحملها، أما ديانتهم وحدها فلن تكون حينئذٍ من بين هذه الصعوبات. ولكن حينما نجدهم يتحدثون كالمسلمين، متشددين في توحيدهم كما صار أصحاب النبي بعد ذلك، وحينما كانوا يرددون صدى أي كتاب مقدس كان هذا الكتاب هو القرآن فإنه من الصعب أن نقبل صحة هذه القصائد، إذ لماذا كان للعرب، الممثلين في النقوش، آلهتهم المحلية المتعددة، بينما لم يكن يعرف شعراء البلاد نفسها إلهًا غير الإله الذي دعا محمد إلى توحيده؟ وحتى لو أننا افترضنا أن النقوش قد صدرت عن مجتمعات تختلف عن مجتمعات الشعراء، فماذا يحدث لرسالة محمد إذا كان الناس الذين "أنذرهم" يعتقدون بإله واحد وينتظرون يوم البعث؟ ولو أننا اتبعنا النقوش فلا بد من الاعتراف بأن جدل القرآن قد كان في موطنه الصحيح الحق، وربما كانت مناسك عبادة المكيين وجيرانهم تختلف عن مناسك عبادة الجهات التي فيها النقوش، ولكنها كانت مشابهة لها إذ أنها من أسرة واحدة. ولكن آراء الشعراء الجاهليين في الموضوعات الدينية تبدو مشابهة، بل مماثلة، لتلك التي يعلمنا إياها القرآن". 2- والدليل الثاني من الأدلة الداخلية هو: اللغة. ومدار حديثه في هذا الدليل على أمرين: الاختلاف بين لهجات القبائل المتعددة، والاختلاف بين لغة القبائل الشمالية جملة واللغة الحميرية في الجنوب وهو يذكر أن هذا الاختلاف بنوعيه واضح فيما اكتشف من نقوش في شمال شبه الجزيرة وفي جنوبيها. غير أن هذا الشعر الجاهلي كله كما يشير مرجوليوث1 "بلغة القرآن، بالرغم من استخدام كلمة أو صيغة في مواطن متفرقة من هذا الشعر يقال عنها إنها لهجة قبيلة بذاتها أو لهجة إقليم. ولو أننا افترضنا أن أثر الإسلام في قبائل بلاد العرب وحد لغتهم ... فإنه من الصعب أن نتصور أنه كانت ثمة لغة مشتركة -تختلف عن لغات النقوش- منتشرة في أنحاء شبه الجزيرة كلها قبل أن يهيئ الإسلام هذا العنصر الموحد ... وليس بين أيدينا أي دليل على أنه كان في   1 ص440-442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 جنوب بلاد العرب شعراء، ومع ذلك فإذا كان ثمة شعراء فلا بد أنهم نظموا بإحدى اللهجات العربية الجنوبية ... ولقد اكتشف حقًّا نقش أو نقشان في شمال بلاد العرب بلغة القرآن، ولكن نقوشًا أخرى كشفت عن ثروة من اللهجات تماثل اللهجات التي وجدت في الجنوب، وهنا أيضًا لا وجود للشعر فيما نعلمه ليومنا هذا ... وحينما صنع العلماء الأقدمون مجموعاتهم كانت لغة القرآن بفضل الإسلام قد صارت اللغة الفصحى في جنوب بلاد العرب، وهذا نفسه جعلها تسود في أجزاء أخرى من شبه الجزيرة. وليس لدينا حتى الآن ما يجعلنا نفترض أنها كانت لغة أدبية في أي مكان قبل القرآن. ولو أننا نبحث في وثائق نثرية فلربما اطمأننا إلى أحد افتراضين: إما أنها تُرجمت، وإما أنها، على الأقل، نُقلت من طور لغوي إلى طور آخر؛ وذلك يشبه، شبهًا ما، التغير في هجاء الكلمة الذي يحدث تدريجيًّا في الآثار المطبوعة، متفقة مع أحدث استعمال، من غير أن يكون ذلك عن سوء قصد. ولكن هذا التغير مستحيل في الشعر إذ أن فيه من الصنعة المعقدة أكثر مما في أي أسلوب آخر معروف". ثم ينتهي من حديثه هذا بأن يربط بين هذا الدليل والدليل الذي سبقه فيقول1: "وكما أن وجود الأفكار الإسلامية في الآثار المقطوع بجاهليتها دليل على وضعها وزيفها، فإن استخدام لهجة، جعلها القرآن لغة فصحى، أمر يدعونا إلى أن نشك فيها طويلًا ... ويبدو أن المسلمين الذين جمعوا قصائد من جميع أنحاء شبه الجزيرة بلغة واحدة، كان عملهم هذا متمشيًا مع عملهم في جعل كثير من هؤلاء الشعراء، بل أكثرهم، يعبدون الله ولا يشركون به: إنهم يسحبون على الماضي ظواهر هم أنفسهم يعرفونها ... ". 3- وأما الدليل الآخر من الأدلة الداخلية فقائم في موضوعات القصائد نفسها، وحديثه عن هذه النقطة يلفُّه الغموض والإبهام، ولعله يريد أن يستنتج منه أن اتفاق القصائد الجاهلية في التطرق لموضوعات واحدة بعينها تتكرر في كل   1 ص443. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 قصيدة أمر يدل على أنها نظمت بعد نزول القرآن لا قبله، وذلك قوله1: "فإذا كانوا يبدءون دائمًا قصائدهم بأبيات في النسيب لأن القرآن يقول إن الشعراء في كل واد يهيمون، وإذا كانوا يصفون أسفارهم وتجوالهم لأن القرآن يقول إنهم يتبعهم الغاوون وهذا يتضمن يقينًا أنهم أنفسهم ضالون غاوون، وإذا كانوا يذيعون وينشرون أعمالهم، وغالبًا ما تكون مخالفة للأخلاق لأن القرآن يقول إنهم يقولون ما لا يفعلون فإننا نستطيع على الأقل أن نقتفي هذه الرتابة إلى مصدرها. ولكن إذا كان هذا الشكر الثابت المقرر أقدم من القرآن فلا بد أنه يرجع إلى نماذج معينة معترف بها، والبحث عن هذه النماذج ينتهي بنا -كما رأينا- إلى آدم! ". وبعد أن يُخيل إليه أنه استوفى أدلته يعود إلى مناقشة الأمر مناقشة كلية فيقول2: "وإذن إذا كان الشعر -الظاهر أنه جاهلي- مشكوكًا فيه بكلا الدليلين الخارجي والداخلي، فإننا نعود إلى مشكلة ابتداء النظم العربي، وهل هو قديم جدًّا ... أو هل نُظم جميعه بعد الإسلام فهو بهذا متطور عن الأساليب التي وُجدت في القرآن؟ ويبدو هذا السؤال في الغاية من الصعوبة. إذ أنه يبدو -من جهة- أن الأمر مستمر متصل: فالشعراء الأمويون يلون شعراء عصر النبي والصحابة، وهؤلاء يتبعون الشعراء الجاهليين ... ولذلك فإن افتراض أن العرب نظموا الشعر افتراض مُغرٍ، إلا أننا لا نستطيع أن نطمئن إلى أن بين أيدينا حقًّا شعرًا من قبل الإسلام. بينما نجد من جهة أخرى -فضلًا عن فقدان الشعر في النقوش- أن القرآن لم يشر إلى الموسيقى ... فإذا كانت الموسيقى من مستحدثات العصر الأموي فهل نستطيع أن نتصور أن الوزن الشعري قد وُجد عند العرب من قبلُ بهذا الانتظام وبهذه الغزارة؟ إن التسلسل المعتاد لنشأة هذه الأشياء هو: الرقص ثم الموسيقى ثم الشعر ... " ثم يقول3: "لقد كانت الممالك الجاهلية التي نعرفها   1 ص443-444. 2 ص446-447. 3 ص448. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 عن طريق النقوش ذات حضارة باسقة، ولكن لا يبدو أنه كان لها شعر، فهل نصدق أن الأعراب غير المتحضرين كان لهم شعر في مثل هذه الصور المركبة كما يصدق بذلك العلماء الأقدمون من المسلمين؟ وبوجه عام فإن من المرجح احتمال صواب ما افترضناه وهو: أن كلًّا من الشعر والنثر المسجوع كانا في معظمهما مشتقين من القرآن، وأن تلك الجهود الأدبية التي سبقت القرآن كانت أقل فنًّا منه لا أكثر فنًّا". ثم يختم مرجوليوث مقالته هذه بقوله1: "وإذا كان يبدو من الحكمة ألا نطلق حكمًا على مشكلة النظم العربي وهل يرجع إلى عهد قديم جدًّا أو هل هو حادث بعد القرآن فإن سبب ذلك تلك الصفات المحيرة التي نجدها فيما بين أيدينا من أدلة. ونحن في أمان حينما نبحث في النقوش، ويصح أن يوثق بالقرآن في بيان حالة العرب الذي أنزل لهم في زمن النبي، أما في تاريخ الشعر العربي فلا بد لنا من الرجوع إلى مصادر أخرى، وهي -في أغلبها- تبحث في أزمنة وأحوال لا عهد لمؤلفيها أنفسهم بها وكانت تجاربهم وخبرتهم تقودهم إلى تصديق أمور كثيرة ضللتهم بالضرورة. ونحن -حينما نحاكم أقوالهم ونبحث فيها- نستطيع أن نذهب في الشك إلى أقصى حدوده، كما نستطيع أن نمضي في التصديق إلى أبعد مذاهبه! ". -2- ثم تعاور نفر من المستشرقين الحديث عن "صحة الشعر الجاهلي" وكان أكثرهم يرد، فيما يكتب، ما ذهب إليه مرجوليوث، ويفند أدلته وافتراضاته وكان أولهم، فيما نعرف، الأستاذ شارلس جيمس ليال Charles James Lyall الذي   1 ص449. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 أشار في المقدمة التي صدر بها الجزء الثاني من "المفضليات" سنة 1918م، إلى ما جاء به مرجوليوث في مقاله المنشور في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية عدد سنة 1916 ص397، وإلى ما أورده في "معلمة الدين والأخلاق" من حديثه عن "محمد" وما أورده كذلك في الصفحة الستين من كتابه "محمد" سنة 1905. بدأ ليال حديثه عن "صحة الشعر الجاهلي"1 بأن أورد ما ينسب إلى المفضل من تجريح حماد الراوية وذلك قوله2: "قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدًا. فقيل له: وكيف ذلك؟ أيخطئ في روايته أم يلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، لا، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويُحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك! ". يقول ليال إن بين ناقل هذا الخبر -وهو أبو الفرج الأصفهاني- وصاحب الحديث -وهو المفضل الضبي- ثلاثة رواة في سند الخبر هم: محمد بن خلف وكيع عن أحمد بن الحارث الخراز عن ابن الأعرابي. فربما زاد هؤلاء أو أحدهم على هذا الحديث شيئًا مما يزيده الرواة، غير أننا لو قبلنا أن هذا الحديث قد قاله المفضل حقًّا وسلمنا بذلك، فلا بد لنا من أن نذكر أن حمادًا كان معاصرًا للمفضل وأنه ربما كان أصغر منه سنًّا، وأن المفضل كان من أعلم الناس بالشعر وأقدرهم على تمييز صحيحه من منحوله، وأن الرواة من العرب -وهم الذين يُزعَم أن حمادًا قد أفسد ما أخذ عنهم من الشعر- كانوا، من قبل أن يفسد حماد روايتهم، قادرين على أن يفتحوا خزائن الشعر الذي يحفظونه ويروونه بين يدي المفضل. ولو أننا سلمنا بصحة ما ذكره هذا الخبر من أمر الوضع والنحل،   1 المفضليات "ليال" ج2 ص16 من المقدمة. 2 الأغاني "دار الكتب" 6: 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فإن ذلك ينتهي إلى أن ما زاده حماد كان يشبه لغة الشاعر الحقيقي الأصيل وإحساسه وعاطفته شبهًا يستحيل معه التمييز بينه وبين شعر الشاعر الأصيل. فإذا كان ذلك كذلك فكيف أمكن أن يُعرف أنها موضوعة منحولة، إذا لم يكن ثمة من يعرف القصيدة في صورتها الأولى من غير ما أضيف عليها من زيادات موضوعة؟ ومن يكون ذلك العالم سوى المفضل نفسه؟ ثم يورد ليال خبرًا آخر عن المفضل وحماد، وهو يصف لنا هذا الخبر بأنه نموذج ومثال للطريقة التي زعم الرواة أن حمادًا أفسد بها الشعر القديم. وذلك قول أبي الفرج1 عن جماعة من الرواة قالوا: "إنهم كانوا في دار أمير المؤمنين المهدي بعيساباذ، وقد اجتمع فيها عدة من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها، إذ خرج بعض أصحاب الحاجب، فدعا بالمفضل الضبي الراوية فدخل، فمكث مليًّا ثم خرج إلينا ومعه حماد والمفضل جميعًا، وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ثم خرج حسين الخادم معها، فقال: يا معشر من حضر من أهل العلم: إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمادًا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألفًا لصدقه وصحة روايته، فمن أراد أن يسمع شعرًا جيدًا محدثًا: فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل". ثم يذكر أبو الفرج، عمن روى عنه، سبب ذلك ويفصل ما جرى بين حماد والمفضل في حضرة المهدي من زيادة حماد بيتين قبل مطلع قصيدة زهير: دع ذا وعد القول في هرم ويعقب ليال على هذا الخبر بقوله2: "إن هذه القصة تتضمن أن المهدي   1 الأغاني "دار الكتب" 6: 89-90. 2 مقدمة المفضليات ص18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 كان آنئذ خليفة، وذلك لأن الرواة قالوا إنهم كانوا في دار أمير المؤمنين، ولأن قصره بعيساباذ بناه بعد أن ولي الخلافة. غير أنه يشك في أن يكون حماد قد عاش حتى سنة 158هـ، وهي السنة التي ولي فيها المهدي. فقد ذكر ابن خلكان أن وفاة حماد كانت في سنة 155هـ، وذكر ابن النديم في الفهرست أنها كانت في سنة 156. وفضلًا عن ذلك فإن البيتين اللذين يقال إنهما أضيفا إلى قصيدة زهير ليس فيهما إلا وصف عادي، وفي المجموعات القديمة مئات من القصائد تبدأ بما يشبههما. والقيمة الوحيدة لذكر أسماء المواضع في هذين البيتين هي أنهما يدلان على أن الشاعر ينتمي إلى الموطن الذي توجد فيه هذه المواضع. فإذن لم يكن عملًا جليلًا أن يزاد على قصيدة لزهير -من الواضح أنها ناقصة في أولها- أبيات قليلة وضعت مكان النسيب الناقص؛ ولا ريب أن ذلك لا يدل على مهارة خارقة في الوضع والنحل". ثم يذكر ليال قصة ثالثة يرويها الرواة ليدلوا بها على خلق حماد. وذلك أن حمادًا مدح بلال بن أبي بردة بقصيدة، وعند بلال ذو الرمة. فقال بلال لذي الرمة: كيف ترى هذا الشعر؟ قال: جيدًا وليس له. ثم اعترف حماد أن الشعر جاهلي قديم لا يرويه غيره وأنه انتحله لنفسه1. ثم يعقب ليال على كل ذلك في معرض حديثه عن المفضليات بقوله2: إن هذه القصص ذات الدلالات لتوضح لنا -سواء أكانت صحيحة أم موضوعة- أنه ليس ثمة ما يحملنا على الظن أن الشعر الذي جمعه المفضل قد أفسده ما يغزَى إلى حماد من وضع الشعر ونحله. وبعد أن يعرض ليال لسيرة خلف الأحمر، ولما ينسب إليه من أنه كان يقول الشعر وينحله الشعراء الجاهليين3، يقول4: "إنه لمن الخطإ   1 الأغاني 6: 88. 2 مقدمة المفضليات: 19. 3 مقدمة المفضليات: 19-20. 4 المصدر السابق: 20-21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 العظيم أن نعد هذين الرجلين -حمادًا وخلفًا- النموذجين المثليين للرواة المحترفين الذين كانوا يروون أشعار القبائل. فقد كانا كلاهما من أصل فارسي. أما رواة القبائل فكانوا من العرب، يختارهم الشعراء ليكونوا الوسيلة التي تحفظ شعرهم وتخلده في صدور القبيلة والأمة العربية بعامة. وكان من هؤلاء أن أخذ الرواة الجامعون في القرنين الأول والثاني الهجريين ما جمعوا من شعر. وأما أن نذهب، كما ذهب أحد العلماء المحدثين1، إلى أن جميع ما نسميه بالشعر العربي القديم موضوع منحول، مستدلين على ذلك بالقصص التي تُروَى عن حماد وخلف، وقد قدمنا نماذج منها فهو مذهب مخالف لجميع وجوه هذه القضية واحتمالاتها. إن حمادًا وخلفًا كانا يحاكيان أسلوبًا للنظم كان قد قُرِّر واتخذ صورته النهائية زمنًا طويلًا قبل الإسلام، وكان قد نظم به شعراء كثيرون كانوا وثنيين، أو غير مسلمين، في زمن محمد ثم أسلموا؛ وقد كثر استخدامه وسُجل بالكتابة لعهد شعراء القرن الأول الهجري "مثل جرير والفرزدق والأخطل وذي الرمة، ولم أذكر إلا الذين خلفوا لنا تراثًا من الشعر كبيرًا". فسلسلة الرواية والنقل لم تنقطع: فقد كانت الطبقة الأخيرة من الشعراء على قيد الحياة ينظمون الشعر حينما كان العلماء يدأبون في جمع الشعر وتدوينه. ولا يمكن أن تعترضنا، في دراستنا لهؤلاء الشعراء مشكلة الوضع والنحل لأن رواتهم قد دأبوا على كتابة القصائد التي تلقى عليهم لنشرها وتخليدها. أما الشعر الجاهلي فربما حاكاه حماد وخلف، ولكن هذه الحقيقة نفسها، المحاكاة، تدل على وجود أصل يحاكى. أما أن نذيع أن ما بين أيدينا لا يعدو أن يكون الصورة المحكية، وأنه لم يبق شيء من الأصل نفسه فذلك أمر لا يقره الفهم السليم على ضوء هذه الظروف".   1 ذكر ليال في الهامش أن المقصود هو الأستاذ مرجوليوث في ما نشره في ص397 من مجلة الجمعية الملكية الآسيوية سنة 1916، وفي مقالته عن "محمد" المنشورة في معلمة الدين والأخلاق ج8 ص874، وفي ما كتبه في ص60 من كتابه "محمد" المطبوع سنة 1905. ثم يقول ليال إن الأستاذ مرجوليوث يذهب مذهبًا يدعو إلى الدهشة والعجب وهو قوله: "إن الشعر القديم هو في معظمه موضوع منحول صيغ على نمط القرآن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ثم يمضي ليال في حديثه فيقول: "إن ما ينبغي أن نستنتجه من هذه القصص عن حماد وخلف ليس رد هذا الشعر القديم ووصمه بأنه موضوع منحول من غير بحث وتمحيص، بل وضع هذا الشعر موضع البحث الدقيق مهتدين بما تقدمه الرواية في ذلك الزمن من الأدلة، وناظرين إلى موضوع القصيدة وأسلوبها والصفات الشخصية المميزة، لنرى بعد ذلك هل فيها ما يوحي على أي وجه بأن فيها زيادات دخيلة، أو تغييرًا في ترتيب الأبيات، أو أنها موضوعة منحولة". وقد تحدث ليال عن هذا الموضوع حديثًا مفصلًا في موطن آخر، وذلك في مقدمته لديوان عبيد بن الأبرص، قال1: "أما موضوع صحة هذا الشعر فأمر من الطبيعي أن يختلف فيه الناس. إذ من المؤكد أن شعر الأعراب في الجاهلية العربية لم ينتقل بالكتابة، بل بالرواية. وكانت القبيلة تعد القصائد التي تسجل انتصاراتها أغلى ما تملك، فكانت ترويها جيلًا بعد جيل، وبالإضافة إلى هذه المعرفة العامة المنتشرة في القبيلة، كان هناك الراوي، وعمله أن يحتفظ بمذخور الشعر الذي تعيه ذاكرته. وكان يعتني بالذاكرة -في العصور التي لم تستخدم فيها الكتابة إلا في المدن ولأغراض خاصة - عناية كبيرة، بحيث كانت أكثر قدرة على الاستيعاب منها في العصر الحديث. وليس من الغريب أن تتناقل القصائد بهذه الطريقة قرنين أو ثلاثة. ومن الطبيعي أن يفترض المرء أن هذه القصائد اعتراها بعض التغيير في أثناء هذا التناقل: فقد تُستبدل بعض الكلمات المترادفة بغيرها، وقد يؤدي عدم تثبت الذاكرة إلى إسقاط أبيات، أو تغيير في ترتيبها، أو وضع عبارات الراوي بدل العبارات التي نسيها. ومثل هذه الظواهر شائعة في كل مكان. غير أننا حين نفحص القصائد ذاتها نجد فيها من الشخصية الفردية ما يكفينا للاستدلال على   1 طبعة دارالمعارف ص17-19، وانظر المقابلة ترجمة الدكتور حسين نصار في مجلة الثقافة عدد 645، 7 مايو 1951. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 أن القصائد، في معظمها، من نظم الشعراء المنسوبة إليهم. فالمعلقات السبع مثلًا كلها قصائد ذات شخصية وخصائص واضحة؛ وتعرض لنا سبع شخصيات متميز بعضها من بعض كل التميز. ونجد الأمر نفسه في القصائد الثلاث الباقية "للأعشي والنابغة وعبيد" التي عدها بعض النقاد من المعلقات. فقد تركت شخصية امرئ القبس وزهير ولبيد والنابغة والأعشى طابعها على شعرهم ومن جموح الخيال أن نظن أن معظم القصائد المنسوبة لهم مصنوعة في عصر متأخر، صنعها علماء عاشوا في ظروف مغايرة تمام المغايرة، وفي حياة شديدة الاختلاف عن حياة الأعراب في الصحراء العربية. والسبب الثاني لاعتقادنا أن الشعر القديم صحيح في جملته، وليس منحولًا، هو أن شعر القرن الأول الهجري يتضمن وجود هذا الشعر الجاهلي ويفترض سبقه عليه: فقد استمر شعراء القرن الأول المشهورون: الفرزدق وجرير والأخطل وذو الرمة، يتبعون تقاليد الشعراء الجاهليين، من غير أن تكون بينهم فجوة؛ ففضلًا عن أنهم ذكروهم في شعرهم، فقد استعملوا ذخيرتهم الشعرية مرارًا متكررة، متناولين الموضوعات نفسها بالأسلوب نفسه: محسنين ومحورين ومقتبسين، ولكنهم ما يزالون متقيدين بالتقاليد نفسها. وليس هناك من شك في أنه قد وصلنا شعر هؤلاء الشعراء صحيحًا، فقد عاشوا في عصر عم استخدام الكتابة فيه لتدوين الشعر وإن كانت الرواية ما تزال أداة نشره بين الجمهور. وسبب ثالث: هو أن الشعر القديم مليء بألفاظ كانت غربية على العلماء. الذين كانوا أول من عرض هذا الشعر على محك النقد. فقد كانت تنتمي إلى مرحلة لغوية أقدم من عصرهم، وكانت غير مستعملة في الزمن الذي كتبت فيه القصائد وجمعت الدواوين. ولا بد من أن يتنبه كل من اتصل بالشروح القديمة وعرفها "وهي المادة التي جمعت منها المعاجم الكبيرة فيما بعد" إلى أن الشراح -الذين يختلفون فيما بينهما اختلافًا كبيرًا- توصلوا إلى شرح الصعوبات بمقابلة عبارة أخرى، وبالجدل والنقاش، لا بالرجوع إلى لغة الخطاب التي لم تعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 تحوي الألفاظ التي يبحثون عن معناها. وتعتمد المعاجم كل الاعتماد على الشعر القديم وعلى القرآن والحديث، وتفترض صحة الشعر كما تسلم بصحة القرآن والحديث". -3- وتحدث جورجيو ليفي دلا فيدا في مقالته "بلاد العرب قبل الإسلام" عن قيمة المصادر التاريخية لهذه الفترة، وعرض في حديثه للشعر الجاهلي من حيث هو مصدر من هذه المصادر، فقال1: "حين نحاول البحث في العصور الوسيطة في بلاد العرب "يقصد الجاهلية الأخيرة" نواجه المشكلة نفسها التي واجهتنا في دراستنا لبلاد العرب القديمة "أي الجاهلية الأولى". وما نعرفه ليس بالكثير، إذا قيس بما نجهل، والمجال متسع للفروض الظنية. وأيًّا كان، فإن أسباب فقدان القطع واليقين في دراستنا لتاريخ تلك الفترة أسباب مختلفة اختلافًا تامًّا: فإن مصادر تاريخ بلاد العرب في القرون السابقة لظهور الإسلام مباشرةً مصادر أدبية في أغلبها، وليست نقوشًا كمصادر تاريخ بلاد العرب القديمة. وهي غزيرة وافرة، وربما كانت أوفر مما ينبغي فإننا نعاني من كثرتها لا من قلتها. ولكن قيمتها للأسف لا تعادل وفرة عددها، فإن المعلومات التي تنقلها إلينا ليست مأخوذة من وثائق أولية. وهي تشبه -من بعض وجوهها- المصادر التي نعرفها عن التاريخ اليوناني والروماني واليهودي. وأكثر المصادر العربية أخبار جمعها علماء العصور الإسلامية ورتبوها. والأدلة المباشرة يقدمها لنا الشعر الذي وصل إلينا عن طريق ما قام به العلماء المسلمون من اختيار وشرح. أما الأدلة التاريخية، وهي غير مباشرة، فلا يصح أن يعتمد عليها من غير نقد وتمحيص. ونتائج النقد والتمحيص تجيء -عادة- متباينة. فإن جماعة من العلماء المعاصرين   1 Giorgio Levi Della Vida, pre - Islamic Arabia, the Arab Heritage, Now Jarsy, 1944 p. 41-48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 يشكون شكًّا عميقًا أساسيًّا في الرواية العربية، ويذهبون إلى أن أكثرها موضوع زائف، وأنها تمثل الاتجاه الذي نما في القرنين الثاني والثالث الهجريين، حينما نسي العرب ما كانوا يذكرونه عن التاريخ الجاهلي، فحاول اللغويون والأخباريون أن يملئوا الفجوات وذلك بأن يضعوا وزيفوا ما لم يجدوه في الوثائق الأصلية الحقيقية. من أجل ذلك يرون أن الأدب التاريخي العربي ليس أوثق من القصص التاريخية، وأن أكثر الشعر موضوع، فليس من المستطاع اتخاذهما أساسًا سليمًا يُبنى عليه فهم صحيح لما كان يحدث في بلاد العرب في العصر الجاهلي. وهذا الموقف المتشكك مبالغ فيه -في رأي كاتب هذه المقالة- فإن الرواية التاريخية عن بلاد العرب في عصورها الوسيطة "الجاهلية الأخيرة" ليست أوثق، ولا أضعف، من أية رواية أخرى عن أي عصر تاريخي يعوزنا فيه الدليل المباشر. فهي ليست أضعف من ليفي Levi -مثلًا- عن القرون الخمسة الأولى من التاريخ الروماني، أو من ساكسو جراماتيكس عن العصر القديم في الدانيمرك. بل إنها -من بعض الوجوه- خير منهما، بالرغم من أنها لا تخلو من الفجوات والأخطاء. وليس بين أيدينا كل ما كتب عن الجاهلية العربية في القرنين الثاني والثالث الهجريين، إذ أن مؤلفات كثيرة ضاعت، ولم يبق من بعض الكتب الأخرى غير قطع ومختارات ... وأهم من كل ذلك أن أكثر الرواية ذات جانب واحد، فبدلًا من أن ترمي الرواية التاريخية إلى التسجيل الشامل للماضي، أصبح لها ثلاثة أهداف: تقديم تفسير لإشارات تاريخية معينة في بعض سور القرآن، وشرح الحوادث التاريخية في الشعر القديم، وأخيرًا خدمة العزة القومية ومطالب أشراف الغرب ووضع أنساب واسعة لأكثر الأسر البارزة وذكر مفاخر قبائلهم. والمثال يوضح نتائج هذه الطريقة التي نمت فيها الرواية. فقد كانت الخصومات القبلية التي تفوق الحصر هي العنصر الرئيسي في تاريخ الأعراب، ونحن نعرف منها عن قبيلة تميم أكثر جدًّا مما نعرفه عن غيرها من القبائل. والسبب الوحيد لذلك أن مصدرنا عن حروب تميم يرجع -كله تقريبًا- إلى شروح وافية كتبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 أبو عبيدة على نقائض جرير والفرزدق ... وكلاهما من قبيلة تميم، فكانا دائمًا يذكران في شعرهما أمجاد أسلافهما. ولو كانت لدينا شروح على أشعار لقبيلة أخرى لكانت معرفتنا بتاريخ هذه القبيلة تعادل في وفرتها وكمالها معلوماتنا عن تميم. لقد بينا أن الشعر الجاهلي مصدر آخر من مصادر معرفتنا ببلاد العرب في العصور التي سميناها "العصور العربية الوسيطة". ولكن، هل الشعر في ذاته مصدر موثوق به؟ لقد بحث هذه المشكلة علماء كثيرون، وهي مشكلة عسيرة دقيقة وقد بولغ في مسألة وضع الشعر الجاهلي ونحله. وحتى لو كانت بعض قصائده موضوعة، فلا ريب في أن مجموع الرواية الشعرية في جملتها صحيحة أصيلة. ومع ذلك فإن الشعر يعجز عن إعطائنا صورة صادقة كاملة عن بلاد العرب، فإن الشعر العرب لم يصوروا لنا تجارب الحياة عند البدو الرحَّل في واقعها ومجموعها، بل صوروا بعض مظاهرها في مُثُل عليا ونموذج رفيعة. وقد كان المثل الأعلى الذي أعجبوا به وتغنوا به في شعرهم مشابهًا -والقياس مع الفارق- للمثل الأعلى لقصيدتي هومر وللقصيدة الفرنسية Chansons de Geste. هذا المثل الأعلى هو: الفروسية. ولا يصح أن يتهم الشعر الهومري، ولا تلك القصيدة الفرنسية بأنها عمدت عمدًا إلى تغيير الجو التاريخي للعصرين الميسيني والكاروليني، لكن هذين الشعرين يصوران مظهرًا واحدًا حسب، وكذلك فعل الشعر العربي القديم: لقد أبرز لنا الجانب البطولي في الحياة، وأغفل المظاهر الأخرى التي لا تقل عنه قيمة. ومن هذه المظاهر التي أغفلت: الدين ... ". وبعد؛ فبحسبنا ما قدمنا من آراء المستشرقين في وضع الشعر الجاهلي ونحله، وفي مدى توثيقهم أو تضعيفهم لروايته. وقد عُنينا بعرض آراء بعض الذين خصوا هذا الموضوع ببحث وافٍ في مقالات خاصة به، وأما أولئك الذين تعرضوا له تعرضًا عابرًا في جمل مقتضبة، في معرض تأريخهم للأدب العربي العام: من مثل جب وبروكلمان وغيرهما فلا حاجة بنا إلى الإشارة إلى آرائهم لشهرتها ودورانها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 الفصل الرابع: النحل والوضع في الشعر الجاهلي- آراء العرب والمحدثين آراء العرب والمحدثين ... الفصل الرابع: النحل والوضع في الشعر الجاهلي آراء العرب المحدثين -1- أما أول من شق طريق البحث في هذا الموضوع من العرب المحدثين فهو الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في كتابه "تاريخ آداب العرب" الذي صدر في سنة 1911م. وقد خص الرواية والرواة بباب كامل من الجزء الأول نيفت صفحاته على مائة وخمسين1، حشد فيه من المادة ما لم يجتمع مثله -من قبله ولا من بعده حتى يومنا هذا- في صعيد واحد من كتاب. لَمَّ فيه شتات الموضوع من أطرافه كلها، واستقصاه استقصاء، غير أنه في كل ذلك كان يحكي ما أورده المؤلفون القدماء: يجمع ما تفرق من هذا الحديث في الكتب الكثيرة أو في مواطن شتى من الكتاب الواحد، ثم يرتب ما تجمع له في فصول ينتظم كل فصل منها عنوان يدل عليه. ولكنه، على هذا الجهد العظيم الذي تكلفه، اكتفى، في أكثر حديثه، بالسرد المجرد والحكاية عمن مضى. ولم يتجاوز ذلك إلى البحث في هذه الأخبار والروايات بحثًا علميًّا ولا إلى نقدها نقدًا يميز زائفها من صحيحها إلا في القليل النادر، وحتى في هذا القليل النادر كان يتعجل المضي، فلا يكاد يقف عند خبر أو رواية حتى يدعها وينتقل إلى غيرها. ومع ذلك فللرافعي فضل السبق وفضل الاستقصاء في الجمع. وسنقف عند حديثه   1 تاريخ آداب العرب - الطبعة الثانية سنة 1940 من ص277 إلى ص434. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 عن "وضع الشعر"1 وقفة نُلم فيها بما بينه من "البواعث على وضع الشعر في الإسلام"2 وسنحاول أن نرتبها هنا في نسق، وكان قد أرسلها في كتابه إرسالًا: 1- تكثر القبائل لتعتاض مما فقدته بعد أن راجعت الرواية، وخاصة القبائل التي قلت وقائعها وأشعارها، وكانت أولاها قبيلة قريش، فقد وضعت على حسان أشعارًا كثيرة3 على نحو ما ذكره ابن سلام في طبقاته وأوردناه في الفصل الثاني من هذا الباب. 2- شعر الشواهد "وهو النوع الذي يدخل فيه أكثر الموضوع، لحاجة العلماء إلى الشواهد في تفسير الغريب ومسائل النحو4 ... وشعر الشواهد في اصطلاح الرواة على ضربين: شواهد القرآن وشواهد النحو5. والكوفيون أكثر الناس وضعًا للأشعار التي يستشهد بها؛ لضعف مذاهبهم وتعلقهم على الشواذ واعتبارهم منها أصولًا يقاس عليها ... قال الأندلسي في شرح المفصل: والكوفيون لو سمعوا بيتًا واحدًا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلًا وبوبوا عليه، بخلاف البصريين6 ... ولهذا وأشباهه اضطر الكوفيون إلى الوضع فيما لا يصيبون له شاهدًا إذا كانت العرب على خلافهم". 3- الشواهد التي كان بعض المعتزلة والمتكلمين يولدونها للاستشهاد بها على مذاهبهم7 وقد أورد ما ذكره ابن قتيبة في "التأويل" من أنهم ذهبوا إلى أن معنى كرسي في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض} هو العلم، وجاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف، وهو قول الشاعر: ولا يكرسئ علم الله مخلوق. وأورد   1 تاريخ آداب العرب: 365. 2 المصدر السابق: 366. 3 المصدر السابق: 366-367. 4 المصدر السابق: 368. 5 المصدر السابق: 369. 6 المصدر السابق: 370. 7 المصدر السابق: 373. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 كذلك ما ذكره الجاحظ في "الحيوان" من أنهم كانوا يدفعون أن الرجوم كانت حجة للنبي صلى الله عليه وسلم، واحتجوا على ذلك بأبيات وضعوها على شعراء الجاهلية. 4- الشواهد على الأخبار1 ".. فلما كثر القصاصون وأهل الأخبار اضطروا من أجل ذلك أن يصنعوا الشعر لما يلفقونه من الأساطير حتى يلائموا بين رقعتي الكلام، وليحدروا تلك الأساطير من أقرب الطرق إلى أفئدة العوام، فوضعوا من الشعر على آدم فمن دونه من الأنبياء وأولادهم وأقوامهم، وأول من أفرط في ذلك محمد بن إسحاق ... " ثم ذكر أن مما يدخل في هذا الباب شعر الجن وأخبارها2 ... 5- الاتساع في الرواية3 "وهو سبب من أسباب الوضع، يقصد به فحول الرواة أن يتسعوا في روايتهم فيستأثروا بما لا يحسن غيرهم من أبوابها؛ ولذا يضعون على فحول الشعراء قصائد لم يقولوها، ويزيدون في قصائدهم التي تعرف لهم، ويدخلون من شعر الرجل في شعر غيره ... " ثم يمثل على ذلك بحماد الراوية وخلف الأحمر. وهكذا نرى أن الرافعي قد دار مع القدماء من العرب في فلكهم، وسرد ما رواوه من أخبار، وما انبث في كتبهم من أحاديث، وحصر الموضوع في الدائرة نفسها التي حصره فيها القدماء: لم يحمل نصًّا أكثر مما يحتمل، ولم يعتسف الطريق اعتسافًا إلى الاستنتاج والاستنباط ولا إلى الظن والافتراض، ولم يجعل من الخبر الواحد قاعدةً عامة، ولا من الحالات الفردية نظرية شاملة. -2- ثم استقر الموضوع بين يدي الدكتور طه حسين، فخلق منه شيئًا جديدًا، لم يعرفه القدماء، ولم يقتحم السبيل إليه العرب المحدثون من قبله، ثم أنكره بعدُ كثير من المحدثين إنكارًا خصبًا يتمثل في هذه الكتب التي ألفوها للرد عليه ونقض   1 تاريخ آداب العرب: 375. 2 المصدر السابق: 376. 3 المصدر السابق: 379. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 كتابه. وقد استقى الدكتور طه حسين أكثر مادته -حيث يستشهد ويتمثل بالأخبار والروايات- من العرب القدماء، وسلك بها سبيل مرجوليوث في الاستنباط والاستنتاج، والتوسع في دلالات الروايات والأخبار، وتعميم الحكم الفردي الخاص واتخاذه قاعدة عامة، ثم صاغ تلك المادة وهذه الطريقة بإطار من أسلوبه الفني وبيانه الأخاذ، حتى انتهى إلى ما انتهى إليه من "أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًّا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين"1. و"إن هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس أو إلى الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء، ولا أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر القرآن"2. ثم يكاد يعتدل بعض الشيء فيقسم الشعر الجاهلي ثلاثة أضرب ويقول3: "إنا نرفض شعر اليمن في الجاهلية، ونكاد نرفض شعر ربيعة أيضًا ... وأقل ما توجبه علينا الأمانة العلمية أن نقف من الشعر المضري الجاهلي، لا نقول موقف الرفض أو الإنكار، وإنما نقول موقف الشك والاحتياط". فنحن إذن بإزاء نظرية عامة: لم نرها فيما عرضنا من آراء العرب القدماء، ونحسب أنها لم تدر لهم ببال، ولكننا رأيناها واضحة المعالم فيما عرضنا من آراء مرجوليوث، ولم يكتف بالإشارة عابرة، وإنما نص عليها نصًّا صريحًا في عبارات متكررة تختلف ألفاظها وتتفق مراميها. وجاء الدكتور طه حسين فلم يقنع كما قنع مرجوليوث بأن يدلنا عليها في مقالة أو مقالتين، وإنما فصل لنا القول فيها في كتاب كامل قائم بذاته، وساقها في أسلوبه الأخاذ الذي يلف القارئ به لفًّا حتى يكاد أن ينسيه نفسه ويصرفه عن مناقشة رأيه ومن آيات   1 في الأدب الجاهلي: 71-72. 2 المصدر السابق: 73. 3 المصدر السابق: 271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ذلك أننا حينما قرأنا تلخيصنا لرأي الدكتور -بعد أن جردناه من أسلوبه- أحسسنا فرقَ ما بين الملخص والكتاب، وأدركنا أن هذا التلخيص يغمط الكتاب حقه، ويفقده كثيرًا من أثره في النفس. وحديث الدكتور طه، في هذا، ينقسم ثلاثة أقسام، الأولان منها عامان، أولهما: الدوافع التي دفعته إلى الشك في هذا الشعر، وثانيهما: الأسباب التي يرى أنها أدت إلى نحل الشعر الجاهلي ووضعه. أما القسم الثالث فخاصٌّ يتحدث فيه عن شعراء بذاتهم. دوافع شكه: نظر الدكتور طه في هذا الشعر الذي يسمى جاهليًّا فرأى فيه أشياء رابته، فشك فيه، وانتهى إلى أن كثرته المطلقة ليست جاهلية وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام. ومن هذه الأمور التي رابته: 1- "أنه لا يمثل الحياة الدينية والعقلية والسياسية والاقتصادية للعرب الجاهليين1 وقد فصل القول في كل جانب من هذه الجوانب: أ- الحياة الدينية: فرأى أن "هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين يظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي والعاطفة الدينية المتسلطة على النفس والمسيطرة على الحياة العملية. وإلا فأين تجد شيئًا من هذا في شعر امرئ القيس أو طرفة أو عنترة؟ أو ليس عجيبًا أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين؛ وأما القرآن فيمثل لنا حياة دينية قوية تدعو أهلها إلى أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال. فإذا رأوا أنه قد أصبح قليل الغناء لجئوا إلى الكيد ثم إلى الاضطهاد؟ ثم إلى إعلان الحرب التي لا تبقي ولا تذر. أفتظن أن قريشًا كانت تكيد لأبنائها وتضطهدهم وتذيقهم   1 في الأدب الجاهلي: 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 ألوان العذاب ثم تخرجهم من ديارهم ثم تنصب لهم الحرب وتضحي في سبيلها بثروتها وقوتها وحياتها لو لم يكن لها من الدين إلا ما يمثله هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين؟ كلا ... 1". ب- الحياة العقلية: ثم يجد في هذا الجدال الديني ما يجعله ينتقل إلى الحياة العقلية والحضارية، فيقول2: "أفتظن قومًا يجادلون في هذه الأشياء جدالًا يصفه القرآن بالقوة ويشهد لأصحابه بالمهارة، أفتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة بحيث يمثلهم لنا هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين؟ كلا! لم يكونوا جهالًا ولا أغبياء، ولا غلاظًا ولا أصحاب حياة خشنة جافية، وإنما كانوا أصحاب علم وذكاء، وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة ... ". ج- الحياة السياسية: ثم يرى أن العرب "كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم، بل كانوا على اتصال قوي، قسمهم أحزابًا وفرقهم شيعًا. أليس القرآن يحدثنا عن الروم وما كان بينهم وبين الفرس من حرب انقسمت فيها العرب إلى حزبين مختلفين: حزب يشايع أولئك وحزب يناصر هؤلاء؟ أليس في القرآن سورة تسمى "سورة الروم"؟ ... لم يكن العرب إذن كما يظن أصحاب هذا الشعر الجاهلي معتزلين. فأنت ترى أن القرآن يصف عنايتهم بسياسة الفرس والروم. وهو يصف اتصالهم الاقتصادي بغيرهم من الأمم في السورة المعروفة: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْف} وكانت إحدى هاتين الرحلتين إلى الشام حيث الروم، والأخرى إلى اليمن حيث الحبشة والفرس"3. د- الحياة الاقتصادية: ثم يقول الدكتور طه4: "فأنت تستطيع أن تقرأ امرأ القيس كله وغير امرئ القيس، وأنت تستطيع أن تقرأ هذا الأدب   1 ص80. 2 ص81. 3 ص82-83. 4 ص83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الجاهلي كله دون أن تظفر بشيء ذي غناء يمثل لك حياة العرب الاقتصادية فيما بينهم وبين أنفسهم". ثم يتحدث عما في القرآن من إشارات إلى الحياة الاقتصادية لدى عرب الجاهلية فيقول1: "وأنت إذا قرأت القرآن رأيت أنه يقسم العرب إلى فريقين آخرين: فريق الأغنياء المستأثرين بالثروة المسرفين في الربا، وفريق الفقراء المعدمين أو الذين ليس لهم من الثروة ما يمكنهم من أن يقاوموا هؤلاء المرابين أو يستغنوا عنهم. وقد وقف الإسلام في صراحة وحزم وقوة إلى جانب هؤلاء الفقراء المستضعفين وناضل عنهم وذاد خصومهم والمسرفين في ظلمهم ... أفتظن أن القرآن كان يُعنى هذه العناية كلها بتحريم الربا والحث على الصداقة وفرض الزكاة لو لم تكن حياة العرب الاقتصادية الداخلية من الفساد والاضطراب بحيث تدعو إلى ذلك؟ فالتمس لي هذا أو شيئًا كهذا في الشعر الجاهلي، وحدثني أين تجد في هذا الأدب: شعره ونثره، ما يصور لك نضالًا ما بين الأغنياء والفقراء.." ثم يتحدث عن ناحية أخرى فيقول2: "كنا ننتظر أن يمثلها الشعر لأنها خليقة به وتكاد تكون موقوفة عليه، نريد هذه الناحية النفسية الخالصة، هذه الناحية التي تظهر لنا الصلة بين العربي والمال ... فالشعر الجاهلي يمثل لنا العرب أجوادًا كرامًا مهينين للأموال مسرفين في ازدرائها، ولكن في القرآن إلحاحًا في ذم البخل وإلحاحًا في ذم الطمع، فقد كان البخل والطمع إذن من آفات الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الجاهلية ... فالعرب في الجاهلية لم يكونوا كما يمثلهم هذا الشعر أجوادًا متلفين للمال مهينين لكرامته، وإنما كان منهم الجواد والبخيل، وكان منهم المتلاف والحريص، وكان منهم من يزدري المال ومنهم من يزدري الفضيلة والعاطفة في سبيل جمعه وتحصيله". ثم يتحدث عما في القرآن من تنظيم للصلة بين الدائن والمدين. هـ- الحياة الاجتماعية: ثم ينتهي إلى الحديث عن حياة العرب الاجتماعية.   1 ص84. 2 ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 في الجاهلية، فيقول1: "فهذا الشعر لا يعنى إلا بحياة الصحراء والبادية، وهو لا يعنى بها إلا من نواح لا تمثلها تمثيلًا تامًّا. فإذا عرض لحياة المدر فهو يمسها مسًّا رفيقًا ولا يتغلغل في أعماقها، وما هكذا نعرف شعر الإسلام. ومن عجيب الأمر أنا لا نكاد نجد في الشعر الجاهلي ذكر البحر أو الإشارة إليه، فإذا ذكر فذكر يدل على الجهل لا أكثر ولا أقل. أما القرآن فيمنُّ على العرب بأن الله قد سخر لهم البحر وبأن لهم في هذا البحر منافع كثيرة ... ". 2- اختلاف اللغة: ويرى الدكتور طه حسين أن هذا الشعر "بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه"2. ثم يقول: "إن هناك خلافًا قويًّا بين لغة حمير "وهي العرب العاربة" ولغة عدنان "وهي العرب المستعربة"3. ويستند في ذلك إلى أمرين، الأول: ما قاله أبو عمرو بن العلاء، وهو -كما أورده الدكتور طه-: ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا!! والثاني: أن البحث الحديث أثبت خلافًا جوهريًّا بين اللغة التي كان يصطعنها الناس في جنوب البلاد العربية، واللغة التي كانوا يصطنعونها في شمال هذه البلاد. ثم يشير إلى هذه النقوش الحميرية التي اكتشفت وإلى ما أورده جويدي في كتابه: المختصر في علم اللغة العربية الجنوبية القديمة. ثم ينتهي من كل ذلك إلى قوله4: "وإذن فما خطب هؤلاء الشعراء الجاهليين الذين ينسبون إلى قحطان، والذين كانت كثرتهم تنزل اليمن وكانت قلتهم من قبائل يقال إنها قحطانية قد هاجرت إلى الشمال! ما خطب هؤلاء الشعراء، وما خطب فريق من الكهان والخطباء يضاف إليهم نثر وسجع، وكلهم يتخذ لشعره ونثره اللغة العربية الفصحى كما نراها في القرآن؟ أما أن هؤلاء الناس كانوا   1 ص87. 2 ص88. 3 ص89-90. 4 ص98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 يتكلمون لغتنا العربية الفصحى ففرض لا سبيل إلى الوقوف عنده فيما يتصل بالعصر الجاهلي، فقد ظهر أنهم كانوا يتكلمون لغة أخرى، أو قل لغات أخرى". ثم يعرض لما يقال من احتمال اتخاذ أهل الجنوب اللغة العدنانية لغة أدبية، فينفيه لأن "السيادة السياسية والاقتصادية -التي من شأنها أن تفرض اللغة على الشعوب- قد كانت للقحطانيين دون العدنايين"1. 3- اختلاف اللهجات: وبعد أن ينتهي من الشعر الذي يضاف إلى القحطانيين ينتقل إلى الشعر الذي يضاف إلى العدنانيين فيقول2: "فالرواة مجمعون على أن قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجة قبل أن يظهر الإسلام فيقارب بين اللغات المختلفة ويزيل كثيرًا من تباين اللهجات. وكان من المعقول أن تختلف لغات العرب العدنانية وتتباين لهجاتهم قبل ظهور الإسلام ولا سيما إذا صحت النظرية التي أشرنا إليها آنفًا وهي نظرية العزلة العربية.. فإذا صح هذا كله كان من المعقول جدًّا أن تكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها ومذهبها في الكلام. وأن يظهر اختلاف اللغات وتباين اللهجات في شعر هذه القبائل الذي قيل قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة ولهجات متقاربة. ولكننا لا نرى شيئًا من ذلك في الشعر العربي الجاهلي. فأنت تستطيع أن تقرأ هذه المطولات أو المعلقات التي يتخذها أنصار القديم نموذجًا للشعر الجاهلي الصحيح، فسترى فيها مطولة لامرئ القيس وهو من كندة أي من قحطان، وأخرى لزهير، وأخرى لعنترة، وثالثة للبيد، وكلهم من قيس، ثم قصيدة لطرفة، وقصيدة لعمرو بن كلثوم، وقصيدة أخرى للحارث بن حلزة وكلهم من ربيعة ... تستطيع أن تقرأ هذه القصائد السبع دون أن تشعر فيها بشيء يشبه أن يكون اختلافًا في اللهجة، أو تباعدًا في اللغة، أو تباينًا في مذهب الكلام: البحر العروضي هو هو، وقواعد القافية هي هي، والألفاظ مستعملة   1 ص98. 2 ص103-104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 في معانيها كما تجدها عند شعراء المسلمين، والمذهب الشعري هو هو ..... فنحن بين اثنتين: إما أن نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان وقحطان في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي، وإما أن نعترف بأن هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل وإنما حمل عيها بعد الإسلام حملًا. ونحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى فالبرهان القاطع قائم على أن اختلاف اللغة واللهجة كان حقيقة واقعة بالقياس إلى عدنان وقحطان". 4- الاستشهاد بالشعر الجاهلي على ألفاظ القرآن والحديث: قال الدكتور طه فيما قال1: "إنا نلاحظ أن العلماء قد اتخذوا هذا الشعر الجاهلي مادة للاستشهاد على ألفاظ القرآن والحديث ونحوهما ومذاهبهما الكلامية. ومن الغريب أنهم لا يكادون يجدون في ذلك مشقة ولا عسرًا، حتى إنك لتحس كأن هذا الشعر الجاهلي إنما قُدَّ على قد القرآن والحديث كما يقد الثوب على قد لابسه لا يزيد ولا ينقص عما أراد طولًا وسعة. إذن فنحن نجهر بأن هذا ليس من طبيعة الأشياء، وأن هذه الدقة في الموازاة بين القرآن والحديث والشعر الجاهلي لا ينبغي أن تحمل على الاطمئنان إلا الذين رُزقوا حظًّا من السذاجة لم يُتح لنا مثله. إنما يجب أن تحملنا هذه الدقة في الموازاة على الشك والحيرة، وعلى أن نسأل أنفسنا: أليس يمكن ألا تكون هذه الدقة في الموازاة نتيجة من نتائج المصادفة وإنما هي شيء تُكلف وأنفق فيه أصحابه بياض الأيام وسواد الليالي؟ ". 5- أما آخر الأمور التي لحظها الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي، وبعثت في نفسه الشك والريبة، ودفعته إلى أن يصمه بأنه منحول موضوع، فهو أنه لم يصلنا إلا عن طريق الرواية الشفهية، وهو لا يتحدث عن هذا الأمر حديثًا مفصلًا كما صنع في الأمور الأربعة السابقة، وإنما اكتفى بأن يشير إليه إشارات عابرة لا يقف عندها طويلًا، وإن كان حديثه في جملته يتضمن أثر   1 ص120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 هذا الدافع الأخير وهو الرواية الشفهية في نفسه، ولعل أصرح جملة عن هذا الأمر قوله1: "وحسبي أن شعر أمية بن أبي الصلت لم يصل إلينا إلا من طريق الرواية والحفظ لأشك في صحته كما شككت في شعر امرئ القيس والأعشى وزهير ... ". وبعد؛ فقد ختم الدكتور طه فصله الذي تحدث فيه عن دوافع شكه في الشعر الجاهلي بعبارة فيها جماع ما ذكر، وفيها تمهيد لما سيذكر، وذلك قوله2: "إن من الحق علينا لأنفسنا وللعلم أن نسأل: أليس هذا الشعر الجاهلي الذي ثبت أنه لا يمثل لغتهم، أليس هذا الشعر قد وضع وضعًا وحمل على أصحابه حملًا بعد الإسلام؟ أما أنا فلا أكاد أشك الآن في هذا. ولكننا محتاجون بعد أن ثبتت لنا هذه النظرية أن نتبين الأسباب المختلفة التي حملت الناس على وضع الشعر والنثر ونحلهما بعد الإسلام". أسباب النحل: ومن أجل ذلك تراه في "الكتاب الثالث" يبسط "أسباب نحل الشعر"، بسطًا أفرغ فيه كثيرًا من الجهد حتى لقد وصل بنا إلى أن "كل شيء في حياة المسلمين في القرون الثلاثة الأولى كان يدعو إلى نحل الشعر وتلفيقه سواء في ذلك الحياة الصالحة حياة الأتقياء والبررة، والحياة السيئة حياة الفسق وأصحاب المجون"3.   1 ص159. 2 ص123. 3 ص193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وهو يرى أن هذه الأسباب التي دعت إلى نحل الشعر ووضعه مردها إلى خمسة أمور: أولًا- السياسة: وهو لا يعني السياسة بمعناها الواسع الذي نفهمه منها الآن، وإنما يحصر مدلول السياسة في العصبية القبلية، وحتى هذه العصبية لا يتحدث عنها حديثًا شاملًا، ولكنه يكتفي بمثالين: 1- العصبية "بين المهاجرين والأنصار، أو بعبارة أصح: بين قريش والأنصار1". ويورد، لتأييد رأيه، روايتين، الأولى: ما يُروَى من أن عمر بن الخطاب نهى عن رواية الشعر الذي تهاجي به المسلمون والمشركون أيام النبي، ويرى الدكتور طه أن "هذه الرواية نفسها تثبت رواية أخرى وهي أن قريشًا والأنصار تذاكروا ما كان قد هجا به بعضهم بعضًا أيام النبي وكانوا حراصًا على روايته، ويجدون في ذلك من اللذة والشماتة ما لا يشعر به إلا صاحب العصبية القوية إذا وتر أو انتصر"2. ويدعم رأيه هذا بما يُروى أيضًا عن عمر من قوله لأصحاب النبي: "قد كنت نهيتكم عن رواية هذا الشعر لأنه يوقظ الضغائن، فأما إذ أبوا فاكتبوه". ويعقب الدكتور طه على ذلك بقوله3: "وسواء أقال عمر هذا أم لم يقله، فقد كان الأنصار يكتبون هجاءهم لقريش على ألا يضيع". والثانية: ما ذكر من أن ابن سلام قال: وقد نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثرت منه في الإسلام. وعقب عليه الدكتور بقوله4: وليس من شك عندي في أنها استكثرت بنوع خاص من هذا الشعر الذي يهجي به الأنصار.   1 ص132. 2 ص133. 3 ص134. 4 ص134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 2- وأما المثال الثاني فهو لا يورده في هذا الفصل الذي عقده عن العصبية القبلية، وإنما ينثره في الكتاب الذي يليه حين يتحدث عن امرئ القيس وشعره فيقول1: "ونحن نذهب هذا المذهب نفسه في تفسير هذه الأخبار والأشعار التي تمس تنقل امرئ القيس في قبائل العرب، فهي محدثة نُحلت حتى تنافست القبائل العربية في الإسلام، وحين أرادت كل قبيلة أن تزعم لنفسها من الشرف والفضل أعظم حظ ممكن". ولم يكتف الدكتور بذلك بل يقول2: "ونحن لا نقف عند استخلاص هذه النتيجة وتسجيلها وإنما نستخلص منها قاعدة علمية، وهي أن مؤرخ الآداب مضطر حين يقرأ الشعر الذي يسمى جاهليًّا أن يشك في صحته كلما رأى شيئًا من شأنه تقوية العصبية أو تأييد فريق من العرب على فريق. ويجب أن يشتد هذا الشك كلما كانت القبيلة أوالعصبية التي يؤيدها هذا الشعر قبيلةً أو عصبية قد لعبت -كما يقولون- دورًا في الحياة السياسية للمسلمين". ثاينًا- الدين: وهو يدخل في باب الدين ما يلي من الأمثلة: 1- "فكان هذا النحل في بعض أطواره يقصد به إلى إثبات صحة النبوة وصدق النبي، وكان هذا النوع موجهًا إلى عامة الناس. وأنت تستطيع أن تحمل على هذا كل ما يُروَى من هذا الشعر الذي قيل في الجاهلية ممهدًا لبعثة النبي وكل ما يتصل بها من هذه الأخبار والأساطير التي تُروَى لتقتنع العامة بأن علماء العرب وكهانهم، وأحبار اليهود ورهبان النصارى، كانوا ينتظرون بعثة نبي عربي يخرج من قريش أو من مكة. وفي سيرة ابن هشام وغيرها من كتب   1 ص222-223. 2 ص145-146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 التاريخ والسير ضروب كثيرة من هذا النوع"1. 2- "وأنت تستطيع أن تحمل على هذا لونًا آخر من الشعر المنحول لم يضف إلى الجاهليين من عرب الإنس، وإنما أضيف إلى الجاهليين من عرب الجن2. ... والغرض من هذا النحل -فيما نرجح- إنما هو إرضاء حاجات العامة الذين يريدون المعجزة في كل شيء، ولا يكرهون أن يقال لهم: إن من دلائل صدق النبي في رسالته أنه كان منتظرًا قبل أن يجيء بدهر طويل، تحثت بهذا الانتظار شياطين الجن وكهان الإنس ... 3". 3- "ونوع آخر من تأثير الدين في نحل الشعر وإضافته إلى الجاهليين، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش ... 4". 4- "نحو آخر من تأثير الدين في نحل الشعر، وهو هذا الذي يلجأ إليه القصاص لتفسير ما يجدونه مكتوبًا في القرآن من أخبار الأمم القديمة البائدة كعاد وثمود ومن إليهم، فالرواة يضيفون إليهم شعرًا كثيرًا. وقد كفانا ابن سلام نقده وتحليله حين جد في طبقات الشعراء في إثبات أن هذا الشعر وما يشبهه مما يُضاف إلى تُبع وحمير موضوع منحول وضعه ابن إسحاق ومن إليه من أصحاب القصص ... 5". 5- "ونحو آخر من تأثير الدين في نحل الشعر، وذلك حين ظهرت الحياة العلمية عند العرب بعد أن اتصلت الأسباب بينهم وبين الأمم المغلوبة. فأرادوا هم أو الموالي أو أولئك وهؤلاء أن يدرسوا القرآن درسًا لغويًّا ويثبتوا صحة ألفاظه ومعانيه. ولأمر ما شعروا بالحاجات إلى إثبات أن القرآن كتاب عربي مطابق في ألفاظه للغة العرب، فحرصوا على أن يستشهدوا على كل كلمة من كلمات   1 ص 147. 2 ص147-148. 3 ص149. 4 ص150. 5 ص153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 القرآن بشيء من شعر العرب يثبت أن هذه الكلمة القرآنية عربية لا سبيل إلى الشك في عربيتها ... 1". 6- "وهنا نوع جديد من تأثير الدين في نحل الشعر، فهذه الخصومات بين العلماء كان لها تأثير غير قليل في مكانة العالم وشهرته ... ومن هنا كان هؤلاء العلماء حراصًا على أن يظهروا دائمًا بمظهر المنتصرين ... وأي شيء يتيح لهم هذا مثل الاستشهاد بما قالته العرب قبل نزول القرآن ... وهم مجمعون على أن هؤلاء الجاهليين الذين قالوا في كل شيء كانوا جهلة غلاظًا فظاظًا أفترى إلى هؤلاء الجهال الغلاظ يُستشهد بجهلهم وغلظتهم على ما انتهت إليه الحضارة العباسية من علم ودقة فنية؟ فالمعتزلة يثبتون مذاهبهم بشعر العرب الجاهليين، وغير المعتزلة من أصحاب المقالات ينقضون آراء المعتزلة معتمدين على شعر الجاهليين ... لأمر ما كان البدع في العصر العباسي عند فريق من الناس أن يرد كل شيء إلى العرب حتى الأشياء التي استحدثت أو جاء بها المغلوبون من الفرس والروم وغيرهم2 ... ". 7- ويعرض لما يُروَى من وجود أفراد قبل الإسلام كانوا يحتفظون بالحنيفية دين إبراهيم وكان في أحاديثهم ما يشبه الإسلام، فيقول3: "فأحاديث هؤلاء الناس قد وضعت لهم وحملت عليهم بعد الإسلام لا لشيء إلا ليثبت أن للإسلام في بلاد العرب قدمة وسابقة. وعلى هذا النحو تستطيع أن تحمل كل ما تجد من هذه الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلى الجاهليين والتي يظهر بينها وبين ما في القرآن والحديث شبه قوي أو ضعيف". 8- ثم يتحدث عن المسيحية واليهودية فيقول4: "ليس من المعقول أن   1 ص153. 2 ص154-155. 3 ص157. 4 ص162-163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 ينتشر هذان الدينان في البلاد العربية دون أن يكون لهما أثر ظاهر في الشعر العربي قبل الإسلام. وقد رأيت أن العصبية العربية حملت العرب على أن ينحلوا الشعر ويضيفوه إلى عشائرهم في الجاهلية بعد أن ضاع شعر هذه العشائر، فالأمر كذلك في اليهود والنصارى: تعصبوا لأسلافهم من الجاهليين، وأبوا إلا أن يكون لهم شعر كشعر غيرهم من الوثنيين، وأبوا إلا أن يكون لهم مجد وسؤدد كما كان لغيرهم مجد وسؤدد، فنحلوا كما نحل غيرهم ونظموا شعرًا أضافوه إلى السموءل بن عادياء وإلى عدي بن زيد وغيرهما من شعراء اليهود والنصارى ... ". ثالثًا- القصص: وقد عرض للقصص والقصاصين غير مرة فيما سبق من فصول كتابه، ولكنه في هذا الفصل يخص القصص والقصاصين بالحديث كله. فبعد أن يتحدث عن نشأة القصص وقيام طائفة القصص يقول1: "وأنت تعلم أن القصص العربي لا قيمة له ولا خطر في نفس سامعيه إذا لم يزينه الشعر من حين إلى حين .... وإذن فقد كان القصص أيام بني أمية وبني العباس في حاجة إلى مقادير لا حد لها من الشعر يزينون بها قصصهم، ويدعمون بها مواقفهم المختلفة فيه. وهم قد وجدوا من هذا الشعر ما كانوا يشتهون. ولا أكاد أشك في أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يستقلون بقصصهم، ولا بما يحتاجون إليه من الشعر في هذا القصص، وإنما كانوا يستعينون بأفراد من الناس يجمعون لهم الأحاديث والأخبار ويلفقونها، وآخرين ينظمون لهم القصائد وينسقونها. ولدينا نص يبيح لنا أن نفترض هذا الفرض، فقد حدثنا ابن سلام أن ابن إسحاق كان يعتذر عما يروي من غثاء الشعر فيقول: لا علم لي بالشعر، إنما أوتَى به فأحمله. فقد كان هناك قوم إذن يأتون بالشعر وكان هو يحمله. فمن هؤلاء القوم؟ أليس   1 ص168-169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 من الحق لنا أن نتصور أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يتحدثون إلى الناس فحسب، وإنما كان كل واحد منهم يشرف على طائفة غير قليلة من الرواة والملفقين ومن النظام والمنسقين، حتى إذا استقام لهم مقدار من تلفيق أولئك وتنسيق هؤلاء طبعوه بطابعهم ونفخوا فيه من روحهم وأذاعوه بين الناس". ثم يخص بالذكر ثلاثة ضروب من القصص: قصص لتفسير طائفة من الأمثال والأسماء والأمكنة1. وقصص المعمرين وأخبارهم2. وقصص أيام العرب وأخبارها3. رابعًا: الشعوبية: ثم يتحدث عن الخصومة بين العرب والموالي في الإسلام فيقول4: "أما نحن فنعتقد أن هؤلاء الشعوبية قد نحلوا أخبارًا وأشعارًا وأضافوها إلى الجاهليين والإسلاميين. ولم يقف أمرهم عند نحل الأخبار والأشعار، بل هم قد اضطروا خصومهم ومناظريهم إلى النحل والإسراف فيه.." ويقول5: "كانت الشعوبية تنحل من الشعر ما فيه عيب للعرب وغض منهم. وكان خصوم الشعوبية ينحلون من الشعر ما فيه ذود عن العرب ورفع لأقدارهم". ثم يعيد ما أشار إليه عند حديثه عن الدين، فيقول6: "ونوع آخر من النحل دعت إليه الشعوبية، تجده بنوع خاص في كتاب الحيوان للجاحظ وما يشبهه من كتب العلم التي ينحو بها أصحابها نحو الأدب. ذلك أن الخصومة بين العرب والعجم دعت العرب وأنصارهم إلى أن يزعموا أن الأدب العربي القديم لا يخلو أو لا يكاد يخلو من شيء تشتمل عليه العلوم المحدثة؛ فإذا عرضوا لشيء   1 ص174. 2 ص175. 3 ص176. 4 ص178. 5 ص186. 6 ص187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 مما في هذه العلوم الأجنبية فلا بد من أن يثبتوا أن العرب قد عرفوه أو ألموا به أو كادوا يعرفونه ويلمون به. خامسًا: الرواة: والرواة في رأيه "بين اثنين: إما أن يكونوا من العرب، فهم متأثرون بما كان يتأثر به العرب، وإما أن يكونوا من الموالي، فهم متأثرون بما كان يتأثر به الموالي من تلك الأسباب العامة, وهم على تأثرهم بهذه الأسباب العامة متأثرون بأشياء أخرى هي التي أريد أن أقف عندها وقفات قصيرة. ولعل أهم هذه المؤثرات التي عبثت بالأدب العربي وجعلت حظه من الهزل عظيمًا: مجون الرواة وإسرافهم في اللهو والعبث، وانصرافهم عن أصول الدين وقواعد الأخلاق إلى ما يأباه الدين وتنكره الأخلاق"1. ثم يتحدث عن حماد وخلف وأبي عمرو الشيباني، وبعد أن يعرض ما يُروى عن مجونهم وفسقهم ووضعهم الأشعار يقول2: "وإذا فسدت مروءة الرواة كما فسدت مروءة حماد وخلف وأبي عمرو الشيباني، وإذا أحاطت بهم ظروف مختلفة تحملهم على الكذب والنحل ككسب المال والتقرب إلى الأشراف والأمراء والظهور على الخصوم والمنافسين، ونكاية العرب نقول: إذا فسدت مروءة هؤلاء الرواة وأحاطت بهم مثل هذه الظروف، كان من الحق علينا ألا نقبل مطمئنين ما ينقلون إلينا من شعر القدماء ... وهناك طائفة من الرواة غير هؤلاء ليس من شك في أنهم كانوا يتخذون النحل في الشعر واللغة وسيلة من وسائل الكسب. وكانوا يفعلون ذلك في شيء من السخرية والعبث نريد بهم هؤلاء   1 ص188. 2 ص191-192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 الأعراب الذين كان يرتحل إليهم في البادية رواة الأمصار يسألونهم عن الشعر والغريب..". شكله في شعر شعراء سماهم: أما القسم الثالث من كتابه، وهو القسم الخاص الذي يتحدث فيه عن شكه في شعر الشعراء بذواتهم، فقد خصص للحديث له الكتاب الرابع. وقد أعاد في هذا القسم كثيرًا مما كان قد ذكره في القسمين السابقين: فصَّل بعضه وأطال شرحه، وأوجز بعضه أو اكتفى بالإشارة إليه والتذكير به. وسنعرض فيما يلي ما ذهب إليه عرضًا موجزًا إيجازًا مركزًا يدل على المعنى المقصود في جملته، وإن كان يتحيف منه لأنه لا ينقل جو الحديث كما رسمه الدكتور طه بأسلوبه. امرؤ القيس: وأول من عرض له من هؤلاء الشعراء هو امرؤ القيس. وقد شك فيه وفي شعره لأسباب، أولها: تضارب الرواة في اسمه وكنيته ونسبه وحياته1. وثانيها: أن قسمًا من شعره يدور على قصة حياته يفسرها ويؤيدها، وهو يرى أن هذا القسم موضوع نُحِل ليفسر هذه القصة2. وثالثها: أن القسم الآخر من شعره المستقل عن الأهواء السياسية والحزبية موضوع منحول كذلك لأن "الضعف فيه ظاهر والاضطراب فيه بيِّن، والتكلف والإسفاف فيه يكادان يُلمسان باليد"3. ورابعها: أنه يستثني من هذا القسم الأخير قصيدتين هما: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل و: ألا أنعم صباحًا أيها الطلل البالي ومع ذلك فهو يشك فيهما من وجوه: الوجه الأول: "أن امرأ القيس -إن   1 ص216-218. 2 ص221. 3 ص225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 صحت أحاديث الرواة- يمني، وشعره قرشي اللغة، لا فرق بينه وبين القرآن في لفظه وإعرابه وما يتصل بذلك من قواعد الكلام. ونحن نعلم -كما قدمنا- أن لغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغة الحجاز، فكيف نظم الشاعر اليمني شعره في لغة أهل الحجاز، بل في لغة قريش خاصة؟ سيقولون: نشأ امرؤ القيس في قبائل عدنان، وكان أبوه ملكًا على بني أسد، وكانت أمه من بني تغلب، وكان مهلهل خاله، فليس غريبًا أن يصطنع لغة عدنان ويعدل عن لغة اليمن. ولكننا نجهل هذا كله، ولا نستطيع أن نثبته إلا من طريق هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس، ونحن نشك في هذا الشعر ونصفه بأنه منحول"1. والوجه الثاني: أن امرأ القيس لم يذكر قصة البسوس ولم يذكر شيئًا عن خاليه مهلهل وكليب ابني ربيعة2. والوجه الثالث: "أن الرواة يختلفون اختلافًا كثيرًا في رواية القصيدة: في ألفاظها وفي ترتيبها، ويضعون لفظًا مكان لفظ وبيتًا مكان بيت"3. علقمة: وهو يشك في علقمة لقلة ما يعرفه العلماء من أخباره "فلا يكاد الرواة يذكرون عنه شيئًا إلا مفاخرته لامرئ القيس، ومدحه ملكًا من ملوك غسان، ... وإلا أنه كان يتردد على قريش ويناشدها شعره، وإلا أنه مات بعد ظهور الإسلام أي في عصر متأخر جدًّا بالقياس إلى امرئ القيس4 ... عبيد بن الأبرص: وشكه في عبيد من وجهين: لأن "الرواة لا يحدثوننا عن عبيد بشيء يقبل التصديق: إنما عبيد عند الرواة والقصاص شخص من أصحاب الخوارق والكرامات، كان صديقًا للجن والإنس معًا، عُمِّر عمرًا طويلًا5".   1 ص225. 2 ص226. 3 ص227. 4 ص232. 5 ص232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وأما شعره "فليس أشد من شخصيته وضوحًا. فالرواة يحدثوننا بأنه مضطرب ضائع ... فأما شعره الآخر الذي عارض فيه امرأ القيس وهجا فيه كندة فلا حظَّ له من الصحة فيما نعتقد، وذلك أن فيه إسفافًا وضعفًا وسهولة في اللفظ والأسلوب لا يمكن أن تضاف إلى شاعر قديم1 ... ". عمرو بن قميئة: ويشك في عمرو لسببين أيضًا هما: غموض حياته، فهو يرى "أن عمرو بن قميئة ضاع كما ضاع امرؤ القيس من الذاكرة، ولم يُعرف من أمره شيء إلا اسمه هذا، كما لم يعرف من أمر امرئ القيس ولا من أمر عبيد إلا اسمهما؛ ووضعت له قصة كما وضع لكل من صاحبيه قصة، وحمل عليه شعر كما حمل على صاحبيه الشعر أيضًا"2. والثاني أن في شعره سهولة ولينًا3. مهلهل: وهو يعيد في مهلهل، كما أعاد فيمن قبله وسيعيد فيمن بعده، الأسباب نفسها مع قليل من النقص أو الزيادة، فهو يشك في مهلهل للأسباب التالية: غموض شخصيته4، واضطراب شعره واختلاطه5، واستقامة وزن شعره، واطراد قافيته، وملاءمته قواعد النحو ومع أنه أقدم شعر قالته العرب6، وسهولة لفظه ولينه وإسفافه7. عمرو بن كلثوم: ويشك في عمرو بن كلثوم وشعره لثلاثة أسباب: كثرة الأساطير في حياته8، ورقة لفظ شعره وسهولته وقرب فهمه9،   1 ص233. 2 ص235. 3 ص237. 4 ص239-240. 5 ص240. 6 ص240-241. 7 ص241. 8 ص243-244. 9 ص246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 واضطراب أبيات قصيدته "المعلقة" وتكرار بعضها1. الحارث بن حلزة: حتى إذا ذكر الحارث بن حلزة لم يقدم لنا سببًا لشكه، غير أنه يورد أبياتًا من معلقة عمرو بن كلثوم، ويذكر أن قصيدة الحارث أمتن وأرصن2. ثم يقول3: "ولسنا نتردد في أن نعيد ما قلناه من أن هاتين القصيدتين وما يشبههما مما يتصل بالخصومة بين بكر وتغلب إنما هو من آثار التنافس بين القبيلتين في الإسلام لا في الجاهلية". طرفة: ويشك في شعر طرفة لسببين، الأول: شذوذه عن شعراء ربيعة في قوة متنه وشدة أسره وإغرابه حتى صار شعره "أشبه بشعر المضريين منه بشعر الربعيين4"، والثاني: اختفاء شخصيته في القصائد الأخرى غير المعلقة أو غير أبيات من المعلقة5. والغريب أنه يورد أبياتًا من المعلقة ويقول: "في هذا الشعر شخصية بارزة قوية، لا يستطيع من يلمحها أن يزعم أنها متكلفة أو منحولة أو مستعارة"، ثم يقول: "ولست أدري أهذا الشعر قد قاله طرفة أم قاله رجل آخر. وليس يعنيني أن يكون طرفة قائل هذا الشعر، بل ليس يعنيني أن أعرف اسم صاحب هذا الشعر، وإنما الذي يعنيني هو أن هذا الشعر صحيح لا تكلف فيه ولا نحل!! ". المتلمس: وهو يشك في شعر المتلمس لما "فيه من رقة وإسفاف وابتذال"6 كشعر ربيعة الذي قدم الإشارة إليه، ولأن تكلف القافية، وخاصة في سينيته، ظاهر ملموس، ثم يقول7: "وأكبر الظن أن كل ما يضاف إلى المتلمس   1 ص245. 2 ص248-249. 3 ص250. 4 ص252. 5 ص254-255. 6 ص255. 7 ص255-256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 من شعره أو أكثره -على أقل تقدير- مصنوع، الغرض منه تفسير طائفة من الأمثال وطائفة من الأخبار ... ". الأعشى: وهو يشك في الأعشى للسبب نفسه الذي دعاه إلى الشك في كثير غيره ممن قدمنا، وذلك لتناقض الأخبار عنه، فهو يقول1: " ... ولكن الرواة بعد هذا لا يعرفون من أمر الأعشى إلا طائفة من الأحاديث لا سبيل إلى الثقة بها أو الاطمئنان إليها. بعض هذه الأحاديث فيه رائحة الأساطير، وبعضها ظاهر فيه الكذب والنحل، وبعضها يستنبط من أبيات من الشعر شائعة على هذا النحو الذي يستنبط به القدماء أخبارهم من شعر لا يعرف من أين جاء". ثم هو يشك في شعره بعد أن يقسمه إلى قسمين، الأول: شعر المدح: ويرى أنه منحول عليه وأنه "مظهر من مظاهر العصبية في الإسلام"2، وأن "الكثرة من شعر الأعشى قد صنعت في الإسلام في الكوفة، وكانت مظهر التحالف العصبي بين ربيعة واليمن على مضر3". والثاني: شعر الغزل وهو يقول عنه4: "ولكني أجد في غزل الأعشى لينًا شديدًا أعرفه في شعر ربيعة، وأعلله بالتكلف والنحل". ثم يلخص رأيه في الأعشى بقوله5: "إنه شاعر عاش في آخر العصر الجاهلي، وتصرف في فنون من الشعر أظهرها الغزل والخمر والوصف، ومدح طائفة من أشراف العرب، ولكن العصبية استغلت هذا المدح، ولعله كان قد ضاع فأضافت إليه مكانه مدحًا كثيرًا لليمنيين ومدحًا قليلًا للمضريين ولا شك في أن بين هذا الشعر الذي يضاف إلى الأعشى مقطوعات وأبياتًا يمكن أن يكون الأعشى قد قالها حقًّا، ولكن تمييز هذه الأبيات والمقطوعات مما يحيط بها من المنحول المتكلف ليس بالشيء اليسير. على أن هذا   1 ص257. 2 ص265. 3 ص263. 4 ص265. 5 ص267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 المنحول الذي يضاف إلى الأعشى مختلف أشد الاختلاف، ففيه الجيد والمتقن وفيه الضعيف السخيف ... ". الشعر المضري: كان أكثر حديثه السابق عن شعراء اليمن وربيعة، وأما خلاصة رأيه في الشعر المضري فتتمثل في قوله1: "نحن لا نقف من الشعر المضري الجاهلي موقف الرفض أو الإنكار لأن الصعوبة اللغوية التي اضطرتنا إلى أن نرفض شعر الربعيين واليمنيين لا تعترضنا بالقياس إلى المضريين. فقد بينا لك غير مرة أنا نعتقد أن لغة القرشيين قد ظهرت في الحجاز ونجد قبيل الإسلام، وأصبحت لغة أدبية في هذا القسم الشمالي من بلاد العرب. وإذن فليس يبعد بوجه من الوجوه أن يكون الشعراء الذين نجموا في هذه الناحية قد قالوا الشعر في هذه اللغة القرشية الجديدة، بل نحن لا نشك في هذا ولا نتردد في القطع به ... لسنا نشك في أن قد كان لمضر شعر في الجاهلية، ولسنا نشك أيضًا في أن هذا الشعر قديم العهد بعيد السابقة أقدم وأبعد مما يظن الرواة والمتقدمون من العلماء. ولكننا لا نشك أيضًا في أن هذا الشعر قد ذهب وضاعت كثرته ولم يبق لنا منه إلا شيء قليل جدًّا لا يكاد يمثل شيئًا، وهذا المقدار القليل الذي بقي لنا من شعر مضر قد اضطرب وكثر فيه الخلط والتكلف والنحل، حتى أصبح من العسير جدًّا، إن لم يكن من المستحيل، تلخيصه وتصفيته.   1 ص275-276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 مقياسه في الحكم على صحة الشعر الجاهلي: ثم ينتقل بنا إلى الحديث عن المقياس الذي نعرف به صحة الشعر الجاهلي، فيرى أن نقد السند وحده لا يكفي "لتصحيح ما يصل إلينا من طريقه. ولا بد لنا من أن نتجاوز هذا النقد الخارجي إلى نقد داخلي، إن صح هذا التعبير، إلى نقد يتناول النص الشعري نفسه في لفظه ومعناه ونحوه وعروضه وقافيته"1. ولكنه سرعان ما يستدرك ويبين أن هذا الضرب من النقد "ليس يسيرًا ولا منتجًا الآن بالقياس إلى الشعر الجاهلي. فنحن لا نستطيع أن نقول في يقين أو ترجيح علمي أن هذا النص ملائم من الوجهة اللغوية للعصر الجاهلي أو غير ملائم؛ لأن لغة هذا العصر الجاهلي لم تضبط ضبطًا تاريخيًّا ولا علميًّا صحيحًا، وكل ما صح لنا منها صحة قاطعة، ولكنها في حاجة إلى التدوين، إنما هي لغة القرآن. ولكن من ذا الذي يستطيع أن يزعم أن القرآن قد استعمل كل الألفاظ التي كانت شائعة مألوفة بين المضريين أيام النبي؟..2". ويعنينا أن نذكر رأيه في غرابة اللفظ وكيف يتخذها بعضهم مقياسًا لتحقيق الشعر الجاهلي، ويصف هذا المذهب بأنه مذهب خداع3. ويقول: "لا ينبغي أن تُتخذ غرابة اللفظ دليلًا على الصحة والقدم، ولا ينبغي أن تتخذ سهولة اللفظ دليلًا على النحل والجدة ... 4".   1 ص286. 2 ص286. ألحظ أن الدكتور في ص295 يقول: "فنحن نشترط أن يكون لفظ زهير ومعناه ملائمين ملاءمة ظاهرة للحياة البدوية آخر العصر الجاهلي. ولا ينبغي أن يعترض بما قدمنا من أننا ننكر أن تكون اللغة الجاهلية المضرية قد دونت تدوينًا علميًّا صحيحًا، فنحن لا نغير رأينا في هذا، ولكننا مع ذلك نعرف هذه اللغة بوجه ما، بفضل القرآن والحديث، فنستطيع إذن أن نتصورها تصورًا ما، ونستطيع إذن أن نقول إن هذه الألفاظ ملائمة أو غير ملائمة للغة الجاهليين أيام النبي!! ". 3 ص287. 4 ص291، ومع ذلك فقد رأينا فيما تقدم أنه شك في بعض الشعر لسهولة ألفاظه ويسرها وقرب فهمها! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ثم ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن "المقياس المركب" فيقول1: "يجب أن ننبه من الآن إلى أننا لم نوفق بعد لمقياس علمي نستطيع أن نطمئن إليه حقًّا، ولكننا مع ذلك لم نيأس من الوصول إلى مقياس أو مقاييس، إلا تفد اليقين، فقد تفيد الظن، وقد تنتهي أحيانًا إلى الترجيح الذي يقرب إلى اليقين. نحن لا نعتمد على اللفظ وحده، ولا نعتمد على اللفظ والمعنى ليس غير، وإنما نعتمد على اللفظ والمعنى وعلى أشياء أخرى فنية وتاريخية". وهو لا يكتفي باللفظ والمعنى لأنهما وحدهما لا يمنعان "إمكان التقليد والتزييف". أما هذه الأشياء الأخرى التي ذكرها فهي "الخصائص الفنية. وهذه الخصائص الفنية يمكن أن تُلتمس عند شاعر واحد، عند زهير مثلًا، ويمكن أن تلتمس عند طائفة من الشعراء ... " ثم يتحدث عن أن هذه الخصائص الفنية إذا اجتمعت لطائفة من الشعراء أصبحت هذه الطائفة "مدرسة شعرية" ثم يفصل القول في إحدى هذه المدارس وهي المدرسة التي تتألف من: أوس بن حجر وزهير والحطيئة وكعب بن زهير. 3 وكان لكتاب "في الشعر الجاهلي" أثر كبير، ودوي شديد؛ فأشرع كثير من العلماء والأدباء أقلامهم وتناولوا الكتاب وما فيه بالنقد والنقض، وتفاوت نقدهم واختلفت طرائقهم: فاعتدل بعضهم والتزم حدود الموضوع، ومضوا ينقدون في أسلوب هادئ ولفظ عف، وغلا بعضهم فاشتد واشتط، وتجاوزوا الكتاب إلى صاحب الكتاب. ونُشر أكثر ذلك في صحف ذلك العهد، ثم جمع بعضه في كتب هي: كتاب "نقد كتاب الشعر الجاهلي" للأستاذ محمد فريد وجدي، وكتاب "الشهاب الراصد" للأستاذ محمد لطفي جمعة، وكتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" للسيد محمد الخضر حسين، وكتاب   1 ص296-297. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 "محاضرات في بيان الأخطاء العلمية التاريخية التي اشتمل عليها كتاب في الشعر الجاهلي" للأستاذ الشيخ محمد الخضري، وكتاب "النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي" للأستاذ محمد أحمد الغمراوي، وله مقدمة مفصلة بقلم الأمير شكيب أرسلان؛ وفصول كثيرة في كتاب "تحت راية القرآن" للأستاذ مصطفى صادق الرافعي. وتخليص النقد الموضوعي في كل تلك الكتب، ثم تلخيصه، أمران فيهما من المشقة وبذل الجهد شيء كثير. وسنحاول في هذه الصفحات جمع ما تفرق في تضاعيف هذه الكتب، وترتيبه في فصول ذات موضوع واحد أو موضوعات متقاربية يجمعها عنوان واحد. نقد منهج الكتاب وطريقته: 1- فقد أعلن الدكتور منهجه في وضوح حين قال1: "أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه "ديكارت" للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث". فقام بعضهم ينكر عليه فهم هذا المنهج من أساسه، ويرد عليه في صفحات طويلة2، فذهب إلى أن منهج ديكارت لم يكن منهج شك للشك ذاته، وإنما يتخذ الشك وسيلة لليقين، وأن خلاصة هذا المنهج ألا يقبل المرء أمرًا على أنه حقيقة إلا إذا قامت الدلائل البينة على صحته، وأن ديكارت مع ذلك كان يسلم بوجود أشياء لا يجادل فيها، فهو بذلك يكون منهجًا إيجابيًّا لا سلبيًّا، ويستشهد على كل ذلك بقول أحد دارسي تاريخ المذاهب الفلسفية من الفرنسيين3: "وقد آلى ديكارت على نفسه أن لا يقبل المعلومات مهما كانت صفتها وقوة الثقة الملازمة لها، ما عدا الحقائق الخاصة   1 في الأدب الجاهلي: 74. 2 محمد لطفي جمعة، الشهاب الراصد: 10-25. 3 المصدر السابق: 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 بالعقيدة فإنه لم يطبق عليها هذه الطريقة". 2- ولكن آخرين ردوا عليه من وجه آخر فقالوا إنه لم يلتزم المنهج الذي أعلن أنه يريد أن يصطنعه، وهذا صاحب كتاب "في الشعر الجاهلي" على الرغم من قبضه على منهج ديكارت، ونعيه الاطمئنان إلى ما يقوله القدماء، قد اطمأن في كثير من هذا النحو الجديد من البحث إلى ما يرويه صاحب الأغاني وغيره ... 1، "ولكنه بغلوه في تحري أسباب الاختلاق على الجاهليين التقط من كتب المحاضرات جميع ما فيها مما يتعلق بالاختلاق، وبالعوامل التي حملت عليه، وبالمطامع التي دفعت إليه، ولم يسر في ذلك على ما يقضي به عليه مذهب ديكارت من النقد والتمحيص، بل وثق به ثقة مطلقة حملته على إصدار الأحكام جزافًا ... "2 وكان من أثر ذلك أن الدكتور أورد في كتابه أخبارًا وروايات كانت جديرة أن تنال منه بعض عنايته في الوقوف عندها ونقدها وتمحيصها وتبيين زائفها ثم ردها، وقد أورد ناقدوه أمثلة كثيرة على ذلك نكتفي بالإشارة إلى بعض أرقام الصفحات التي وردت فيها في كتبهم3. 3- وذهب بعضهم إلى أن مؤلف الكتاب قد جافى الطريقة العلمية، ولم يؤسس "لنظريته بالتثبت أولًا من الحقائق قبل أن يدخل في دور الفرض ... "4 وأنه يبدأ بالفرض، ثم يبني عليه فرضًا آخر، ثم ينتهي بالقطع والجزم والثبوت. وقدموا لذلك أمثلة كثيرة منها: أنه يورد ثلاث جمل يبرهن على الأولى منها بقوله: "فليس يبعد! " وعلى الثانية بقوله: "فليس ما يمنع! " وعلى الثالثة بقوله: "فما الذي يمنع! " ويبني على هذه الكلمات الثلاث قوله: "أمر هذه القصة إذًا واضح"!   1 محمد الخضر حسين، نقض كتاب في الشعر الجاهلي: 11. 2 محمد فريد وجدي، نقد كتاب الشعر الجاهلي: 2. 3 انظر مثلًا: الخضر حسين: 199-201، 271، 276 والخضري: 38-41. 4 الغمراوي: 141-146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 ويعقب الناقد على ذلك بقوله1: "نعم قد اتضح بنفي البعد في الأولى! وعدم المانع في الأخريين! وما علمنا بمنطق في العالم يكتفي في إقامة البرهان على عدم صحة خبر من الأخبار بأنه لا يبعد ضده أو أنه لا مانع من ضده! ". ومن ذلك أن الدكتور طه يحتج في نفي الشعر المستشهد به على القرآن بقوله: "أليس من الممكن أن تكون قصة ابن عباس ونافع بن الأزرق قد وضعت في تكلف وتصنع؟ ثم قال: "بل أليس من الممكن أن تكون قصة ابن عباس هذه قد وضعت في سذاجة وسهولة ويسر، لا لشيء إلا لهذا الغرض التعليمي اليسير؟ " فأجابه ناقده بقوله2: "بلى! هذا ممكن، كما يمكن أن يكون الخبر صحيحًا ... كما يمكن أن يكون بعضه صحيحًا وبعضه غير صحيح، كل ذلك ممكن. ولكن الذي يجب أن تجيب عنه هو: بم ترجح عندك أن الخبر مكذوب كله؟ أهو غير معقول؟ أم هو مخالف لطبائع التعليم؟ ... " ومن ذلك أيضًا أن الدكتور طه قال: "وعلى هذا النحو تستطيع أن تحمل كل ما تجد من هذه الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلى الجاهليين والتي يظهر بينها وبين ما في القرآن والحديث من شبه قوي أو ضعيف". فعقب عليه الناقد بقوله3: "من شاء أن ينظر إلى قاعدة تمتد إلى غير نهاية، ولا تتصل بما يمسكها أن تزول إلا إرادة هذا المؤلف، فلينظر إلى هذه الفقرة التي تمثل قلمًا يشتهي أن يكتب فينتكس ويرمي بالحديث في غير قياس. كل شعر أو خبر أو حديث يضاف إلى الجاهليين ويكون بينه وبين آية من القرآن شبه قوي أو ضعيف فهو مصنوع! أليس من الجائز أن ينطق العرب بحكمة فيأتي القرآن بهذه الحكمة على وجه أبلغ وأرقى؟ أمن الحق أن ننكر أن العرب قالوا مثلًا: القتل أنفى للقتل، لمجرد شبهه بقول القرآن {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} . أوَمن الحق أن ننكر أن   1 الخضري: 8. 2 الخضري: 25. 3 الخضر حسين: 212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 زهيرًا قال: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم لأن له شبهًا قويًّا أو ضعيفًا بقول القرآن: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} . ومما يتصل بهذا أنه ينص على النتائج من غير ذكر للمقدمات، فهو مثلًا يعقد فصلًا كاملًا عن "الشعوبية ونحل الشعر"، ولكنه "لم يأت برواية تدل على أن بعض الشعوبية انتحل "نحل" شعرًا جاهليًّا1". و"قال المؤلف عن الشعوبية ما شاء أن يقول، واغترف من كتاب الأغاني قصصًا عن أبي العباس الأعمى وإسماعيل بن يسار، وقصارى ما تدل عليه هذه القصص أن الأول كان يهجو آل الزبير، وأن الثاني كان يبغض آل مروان، وله شعر يفخر فيه بالأعاجم، وزعم أنه وصل بهذا إلى ما كان يريده من تأثير الشعوبية في انتحال "نحل" الشعر، ولكنه لم يستطع أن يضرب لك مثلًا يريك كيف انتحلت "نحلت" الشعوبية شعرًا جاهليًّا، فضاق بمنهج ديكارت ذرعًا ... 2" وكذلك الفصل الذي عقده عن "السياسة ونحل الشعر"، فقد تحدث فيه عن الأنصار وقريش والخصومات بينهم، فعقب عليه ناقده بقوله3: "كل ذلك مفهوم مفروغ منه، وليس فيه من جديد. أما الجديد الذي فاجأ به القراء فهو قوله بعد ذكر هذه العصبية: "يستطيع الكاتب في تاريخ الأدب أن يضع سفرًا مستقلًّا فيما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير في شعر الفريقين الذي قالوه في الإسلام وفي الشعر الذي انتحله الفريقان على شعرائهما في الجاهلية".   1 الخضر حسين: 247. 2 الخضر حسين: 248-249. 3 الخضري: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 مع أن مقدمته الطويلة لم يوجد بها كلمة واحدة نتصل بأن فريقًا من الفريقين اختلق شعرًا ونسبه إلى شعرائه في الجاهلية، وإنما الأحاديث كلها في الشعراء الذين كانوا في أول العهد الإسلامي يتقارضون الشعر، وفي العهد الذي يلي ذلك". 4- ومن جملة ما أخذوه به التناقض الذي وقع فيه. فهو يقول: "وهذا البحث ينتهي بنا إلى أن أكثر هذا الشعر الذي يضاف لامرئ القيس ليس من امرئ القيس في شيء، وإنما هو محمول عليه ومختلق عليه اختلاقًا". فيعقب ناقده بقوله1 "ذهب المؤلف في بعض الصحف من كتابه إلى أن هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون له ومقتضى تمسكه بأن امرأ القيس يمني مولدًا ونشأةً، وأن لغة قحطان نازلة من لغة عدنان منزلة اللغات غير العربية. أن يكون جميع هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس منحولًا، فإنا لم نجد شيئًا منه على غير اللغة التي ينظم فيها شعراء نجد والحجاز. ولكن المؤلف يقول في هذه الصفحة: إن البحث ينتهي به إلى أن أكثر هذا الشعر ليس من امرئ القيس في شيء ومعنى هذا أن في الشعر المضاف إلى امرئ القيس شعرًا هو منه في شيء. وأظن أن المؤلف سيجد كثيرًا من المشقة والعناء ليحل هذه المشكلة.." وقال الدكتور طه أيضًا: "ولا سيما إذا صحت النظرية التي أشرنا إليها آنفًا وهي نظرية العزلة العربية. وثبت أن العرب كانوا متقاطعين متنابذين، وأنه لم يكن بينهم من أسباب المواصلات المادية والمعنوية ما يمكن من توحيد اللهجة". فتعقبه الناقد بقوله2: "أتدري ما هي نظرية العزلة التي أشار إليها آنفًا؟ هي تلك النظرية التي رماها على أكتاف "الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي في درس الحياة العربية قبل الإسلام"، وشن عليها الغارة بنكير لا هوادة فيه ... أنكر المؤلف نظرية   1 الخضر حسين: 306. 2 الخضر حسين: 99-100، وانظر أيضًا الغمراوي: 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 العزلة العربية حين رآها تعترض ما أراده من أن للجاهليين اتصالًا بالعالم الخارجي وود في هذا الفصل أن تستقيم له لأنها تؤيد نظرية عدم التقارب بين لغات القبائل العربية". وقال الدكتور طه أيضًا إنه يستثني من النحل قصيدتين لعلقمة مع شيء من التحفظ ثم يقول: "وصحة هاتين القصيدتين لا تمس رأينا في الشعر الجاهلي" فيعقب عليه ناقده بقوله1: "ولعله نسي -وأمثاله لا ينسون كثيرًا- ما كتبه تحت عنوان الشعر الجاهلي واللهجات حين قال "ومن المعقول جدًّا أن تكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها ومذهبها في الكلام، وأن يظهر اختلاف اللغات وتباين اللهجات في شعر هذه القبائل الذي قيل قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة ولهجات متقاربة". ومن المعروف أن علقمة من بني تميم، والقصيدتان اللتان استثناهما ورضي بقبولهما لا تخرجان عن هذه اللغة الأدبية التي يسميها لغة قريش، فقبوله لهاتين القصيدتين ينقض أساس ذلك الفصل ... ". ومن ذلك أيضًا قول الناقد إن الدكتور طه قد2 "نبهه النقد منذ أكثر من عام إلى أن ثبوت اختلاف لغة الجنوب عن لغة الشمال، لو ثبت أنهما كانتا مختلفتين في العصر الجاهلي القريب، لا يصلح دليلًا على أن أدب يمانية الشمال موضوع؛ لأن قبائل اليمن في الشمال كانت هاجرت من الجنوب إلى الشمال منذ أمد بعيد، فلم يكن هناك بد لمن نشأ في الشمال من ذرياتها أن ينشأ على لغة الشمال، ويتخذها لغة أدب ولغة خطاب، فجاء صاحب الكتاب هذا العام يجيب على هذا بلهجة المستوثق مما يقول، فهل تدري بماذا أجاب؟ أجاب بأن هجرة فريق من عرب اليمن إلى الشمال غير ثابتة! وأن صحة يمانية من انتسب إلى اليمن من قبائل الشمال غير ثابتة! وإذن يسقط ذلك الاعتراض! إن من المؤلم حقًّا أن يلج الأستاذ في المماراة إلى هذا الحد. فلا يدرك أن جوابه هذا مسقط كل ما قال، وأنه إذا صح أن التاريخ القديم والتاريخ الحديث أجمعا على خطإ فلم تكن هجرة،   1 الحضر حسين: 323. 2 الغمراوي: 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 ولم يكن في الشمال يمانيون لم يكن هناك أدنى شبهة لغوية يمكن أن يعترض بها على صحة كلام مثل امرئ القيس؛ إذ يصير امرؤ القيس ومن معه بذلك مضريين، ويصير من السخف أن يقال بعد ذلك إن كلامهم وشعرهم منحول لأن لغته ليست لغة نقوش حميرية اكتشفت في الجنوب، حتى ولو كانت لغة النقوش تمثل لغة اليمن في عصر امرئ القيس لكن صاحب الكتاب يدافع عن باطل ... ". وحسبنا ما قدمنا من أمثلة التناقض، وتجد طائفة أخرى منها اكتفينا بالإشارة إلى أرقام صفحات الكتب التي تشير إليها في الهامش1. 5- وأمر آخر يتصل بمجافاة الطريقة العلمية، وهو إيراد النصوص على وجه يختلف عما كانت عليه في حقيقتها، والاستدلال بها على ما لا تدل عليه في أصلها لو أوردت كاملة. ومن أمثلة ذلك أن الدكتور طه يقول: "فأما خلف فكلام الناس في كذبه كثير، وابن سلام ينبئنا بأنه كان أفرس الناس ببيت شعر ... " فالدكتور طه يريد أن يتخذ من كلام ابن سلام حجة على كذب خلف، ويريد أن يوجه قوله "أفرس الناس ببيت شعر" توجيهًا يوحي بأنه لتمكنه وقدرته ومهارته كان قادرًا على نحل الشعر ووضعه. ولكن ابن سلام لم يرد إلى هذا بل أراد نقيضه! ونصه بكامله هو: "أجمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت شعر، وأصدقه لسانًا، كنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبرًا أو أنشدنا شعرًا ألا نسمعه من صاحبه. وأي توثيق لخلف أوثق من هذا؟ 2. ومن ذلك أيضًا أن الدكتور يذكر أن أبا عمرو بن العلاء قال: "ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا" ولكن نص ابن سلام هو "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا" فحذف الدكتور قوله "وأقاصي اليمن"، ثم غير قوله "ولا عربيتهم بعربيتنا" فجعله "ولا لغتهم بلغتنا" والفرق بين ما أورد   1 انظر مثلًا: الخضر حسين: 19-20 و 263 و 315 و 346 و 352-356؛ والخضري: 84؛ والغمراوي: 200، 313. 2 انظر لذلك الخضر حسين: 272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 الدكتور وبين النص الحقيقي فرق كبير له دلالته التي بينها ناقده1. ومن ذلك أيضًا أن الدكتور طه يورد شعرًا ثم يقول عنه: "والعجب أن أصحاب الرواية مقتنعون بأن هذا الكلام من شعر الجن، وهم يتحدثون في شيء من الإنكار والسخرية بأن الناس قد أضافوا هذا الشعر إلى الشماخ بن ضرار". وقد أورد أحد ناقديه الروايات التي ذكرت هذا الشعر2، فلم يكن فيها إنكار ولا سخرية، بل نسبته كلها إلى الشماخ أو إلى أخيه مزرد، ما عدا خبرًا واحدًا ذكر أن عائشة حينما سمعت الشعر قالت: "فكنا نتحدث أنه من الجن ... ". وفي آخر الخبر نفسه أن عائشة سألت: من صاحب هذه الأبيات؟ فقالوا مزرد بن ضرار، ولكن مزردًا بعد ذلك أنكر أنها له! والدكتور طه يكتفي أحيانًا بذكر رواية واحدة من روايات متعددة، فقد أورد قصة فيها نحل الشعر، وفيها تجريح لأحد رواته، فعقب عليه ناقده بذكر روايات أخرى تنقضها3، ثم يقول: "أفلا ترى بعد ذلك أن الدكتور اتبع الهوى، فبادر إلى تصديق حكاية سخيفة من غير أن يؤيدها ما يقويها، وذكرها وحدها دون أن يذكر الروايات الأخرى إرادة أن يخدع عقول القراء، فيفهموا أن هذه هي الرواية، فيتبعوه فيما يريد أن يثبته من تجريح الناس وإشاعة السوء فيهم؟ ألا يدعونا ذلك إلى القول بأنه متعصب لرأي معين يصطاد له من الأقوال ما يؤيده، تاركًا التحقيق العلمي الذي يوصل إلى الحق أينما كان؟ ". 6- ومما أخذه ناقدوه أيضًا أن الدكتور طه "أغار على كتب عربية وأخرى غربية فالتقط منها آراء وأقوالًا، نظمها في خيط من الشك والتخيل4". "وأن مؤلف الشعر الجاهلي على الرغم من تعظيمه قدر بحثه بوصفه بالحداثة والطرافة   1 الغمراوي: 180. 2 الخضري: 36-37. 3 الخضري: 41. 4 الخضر حسين: 3-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 والابتداع فإنه لم يبرز فكرة جديدة لامعة، بل لم يُعن بالبحث عناية الذين ألموا به من القدماء والمحدثين، بل أخذ بعض أفكارهم وابتكاراتهم ولم يعرها رونقًا ولا جزالة، وجرد من نظريتهم رسالة"1. وقد سعى بعض ناقديه إلى الكشف عما أخذه الدكتور من مرجوليوث خاصة، فوجوده شيئًا كثيرًا2؛ حتى لقد ذهب بعضهم إلى أن الدكتور طه3 "أغار على نظرية الشك في الشعر الجاهلي، ولم يفترق عن مرجوليوث إلا في تسليمه بأن هناك شعرًا جاهليًّا، فأخذ أصل النظرية وأقوى الشبه التي استند إليها مرجوليوث، وجعل يقول لك: إنني شككت في الشعر الجاهلي، ويداعبك بقوله: ألححت في الشك أو قل ألح عليَّ الشك؛ والحديث في صدق وأمانة خير من هذه المداعبة". وقال ناقد آخر4: "لقد كتب صاحب الكتاب بحثه ليثبت دعوى جديدة ينسبها هو لنفسه وتنتسب في الحقيقة لمرجوليوث". ولا سبيل إلى الإطالة بإيراد ما ذكروه، ولا بعضه، فقد بسطنا رأي مرجليوس وبسطنا رأي الدكتور طه حسين، ثم أشرنا في هامش هذه الصفحة إلى المواطن التي ذكر فيها الناقدون ما رأوا أن الدكتور أخذه من مرجوليوث؛ ومن كل ذلك نستطيع أن نستبين أثر مرجوليوث في كتاب الدكتور طه حسين وخاصة في نقطتين أساسيتين لعلهما عماد بحث الدكتور، هما: الدليل الديني، والدليل اللغوي! نقد الأدلة: وبعد أن عرضنا، في إيجاز شديد، ما أخذه الناقدون على منهج الدكتور وطريقته، نعرض في إيجاز، لعله أشد من سابقه، ما نقدوا به أدلته وحججه.   1 محمد لطفي جمعة: 26. 2 انظر الخضر حسين: 17، 18، 19، 20، 22، 47، 70، 100، 115، 174-177، 212-213، 269، 270، 271، 275، 361؛ والغمراوي: 100. 3 الخضر حسين: 17-18. 4 الغمراوي: 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 1- فقد ذكر الدكتور طه، كما مر بنا، أن الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا لا يمثل الحياة الدينية في الجاهلية، وأن القرآن، وهو عنده مرآة الحياة الجاهلية، يمثل العرب في الجاهلية أمة متدينة قوية التدين. فرد عليه السيد محمد الخضر حسين، وبين أن "هذه الشبهة مما استلبه المؤلف من مقال مرجوليوث"1. ثم أورد ما جاء في مقال مرجوليوث وما جاء في كتاب الدكتور طه ليظهر ما بينهما من تشابه، وبعد أن عرض لرد إدورد براونلش على مرجوليوث، قال2: "وخلاصة الجواب أن معظم شعر العرب كان في الفخر والحماسة وأن المسلمين صرفوا عنايتهم عن رواية الشعر الذي يمثل دينًا غير الإسلام ولا سيما دين اللات والعزى، وعلى الرغم من هذا كله وصلت إلينا بقية من الشعر الذي يحمل شيئًا من الروح الديني، تجده في كتاب الأصنام لابن الكلبي وغيره". وأما الأستاذ محمد لطفي جمعة فقد وجد أن خير رد على الدكتور طه أن يجمع بعض الشعر الجاهلي الذي يشير إلى الحياة الدينية في الجاهلية، فجمع طرفًا منه، لشعراء متعددين3، ثم قال4: "من العجيب أن المؤلف يدعي أن الشعر الجاهلي كله عجز عن تصوير الحياة الدينية، وهو لم يتقدم إلينا بدليل ولم يستقرئ دواوين الشعر الجاهلي". وأما الأستاذ الغمراوي فينكر أن القرآن يصور العرب في الجاهلية أمة متدينة قوية التدين، ويرى أن هذا "لا ينطبق إلا على أهل مكة والمدينة ومن حولهما، ولا ينطبق على من حولهما مثل ما ينطبق عليهما. ومكة والمدينة وما حولهما ليست هي كل بلاد العرب، وأهل مكة والمدينة ومن جاورهم لم يكونوا جملة العرب ولا جمهرتهم، فمن الخطإ الواضح إذن أن يجعل الدكتور ما ينطبق عليهم ينطبق على جميع العرب، وأن يستند في ذلك على القرآن5".   1 ص47. 2 ص48. 3 الشهاب الراصد: 85-92. 4 المصدر السابق: 90. 5 ص147-148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 2- وذكر الدكتور طه أيضًا أن الشعر الجاهلي لا يمثل الحياة العقلية في الجاهلية، ومضى يصف هذه الحياة العقلية كما رآها في القرآن الكريم، فالقرآن الكريم يمثل حياة عقلية قوية، يمثل قدرة على الجدال والخصام أنفق القرآن في جهادها حظًّا عظيمًا ... أفتظن قومًا يجادلون في هذه الأشياء جدالًا يصفه القرآن بالقوة ويشهد لأصحابه بالمهارة، أفتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة بحيث يمثلهم لنا هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين ... ". وقد رد عليه السيد محمد الخضر حسين بقوله1: "في الشعر الجاهلي معانٍ سامية وحكمة صادقة، ومن يقرؤه خالي الذهن من كل ما قيل فيه يقضي العجب من ذكاء منشئيه وسعة خيالهم، وإقصائهم النظر في تأليف المعاني والتصرف في فنون الكلام ... " وأما الأستاذ الغمراوي فينكر أيضًا أن يكون القرآن يمثل العرب في الجاهلية أمة مستنيرة لها حياة عقلية قوية، وبعد أن يتحدث في ذلك يقول2 "فأما الحظ الذي أنفقه القرآن في الجهاد بالحجة فعظيم، لكن عظمة لم يكن ناشئًا عن عظم قدرة على الجدال كانت عند المجادلين، ولا عن حسن بصرهم بمواطن الحجة، بل كان ناشئًا عن عظم رسوخ ما كان يجاهده القرآن فيهم من اعتقادات وعادات تأصلت فيهم على مر القرون، فالقرآن أنفق ذلك الحظ العظيم في جهاد العادة لا في جهاد مقدرة على المخاصمة ... وإنك لو استقريت مواقف المحاجة التي وردت في القرآن لا تكاد تجد فيها موقفًا قابل المجادلون الحجة فيه بالحجة وقارعوا الدليل بالدليل ... " ويرى أيضًا أن الدكتور طه "استشهد على ما يريد بآيتين اثنتين ليس فيهما شاهد على ما يريد، وأنه قد ترك كثيرًا من الآيات التي تنقض معناه الذي أراد ... 3". 3- وذكر الدكتور طه أيضًا أن الشعر الجاهلي يمثل العرب أمة معتزلة   1 ص51. 2 ص148. 3 ص152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 تعيش في صحرائها، لا تعرف العالم الخارجي، ولا يعرفها العالم الخارجي، أما القرآن فيصف عناية العرب بسياسة الفرس والروم وصلاتهم بغيرهم من الأمم. وقد رد عليه السيد محمد الخضر حسين بقوله1: "وهل يصدق أحد أن من يدرسون الشعر الجاهلي يتصورون العرب أمة معتزلة في صحراء ... " ثم يورد شعرًا جاهليًّا فيه دلالات على معرفة العرب بالأمم المجاورة وعلى صلاتهم بهم. أما الأستاذ الغمراوي فقد ذكر أن الدكتور طه "لم يستشهد على ذلك إلا بآيتين اثنتين جرى في تأويلهما على ذلك النحو الذي رأيت ... "2 بل إنه يرى أنه ليس في إحدى الآيتين "المعنى الذي أراد ولا ظله". وقد عجب من أن الدكتور يذهب إلى "أن الأدب الجاهلي على ما هو عليه الآن لا يبين صلة العرب بالعالم الخارجي، وأن القرآن وحده هو الذي يبينها"3، مع أنه لم يستقرئ الأدب الجاهلي ولم يوازن بين ما فيه وما في القرآن. 4- وذكر الدكتور أيضًا أن الشعر الجاهلي لا يمثل الحياة الاقتصادية الخارجية والداخلية لعرب الجاهلية، وأن في القرآن وصفًا لهما يصورهما فيه. وقد رد عليه السيد محمد الحضر حسين بأنه استشهد على الحياة الاقتصادية الخارجية بآية واحدة ليس فيها إلا إشارة موجزة، وأن في الشعر الجاهلي تفصيلًا لهذه الإشارة4. وأورد الأستاذ محمد لطفي جمعة من الشعر الجاهلي ما يرى فيه تصويرًا لحياة العرب الاقتصادية الداخلية في الجاهلية5. أما الأستاذ الغمراوي فيرى أن "الحق أن الأدب الجاهلي لم يخل من هذا. والعجب أن يجهل أستاذ الأدب العربي شيئًا مثل هذا، فلو أنه قرأ القليل المكتوب عن ابن الزبعري في طبقات ابن سلام   1 ص57. 2 ص152. 3 ص153. 4 ص62-63. 5 ص76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 لوجد فيه ما لا يقل في دلالته الاقتصادية عن آية لإيلاف قريش1 ... هذا موضع واحد من الأدب الجاهلي. ولسنا نشك في وجود مواضع أخرى تدل على ما كان هنالك في الجاهلية من اتصال تجاري محدود بين أطراف جزيرة العرب ووسطها2 ... وكما لم يُلم صاحب الكتاب بمواطن الأدب الجاهلي التي تدل على الحياة الاقتصادية الخارجية كما يحب أن يسميها، كذلك لم يلم بمواطن الأدب الجاهلي التي تدل على ما يسميه الحياة الاقتصادية الداخلية.. وكما تكلف واستنتج الحياة الخارجية كلها من آية واحدة في القرآن، فقد تكلف واستنتج الحياة الاقتصادية الداخلية من تحريم القرآن الربا وفرضه الصدقات3. أما عن زعمه أن الأدب الجاهلي كله لم يذكر الربا فنحن على ثقة من أنه هنا أيضًا لم يستعرض الأدب الجاهلي كله فيحكم عليه من هذه الناحية حكمًا مبنيًّا على الواقع. ومع ذلك فمثل هذه النواحي إذا ذكرت في الأدب لا تذكر إلا عرضًا؛ لأن التجارة وما اتصل بها من ربًا أو غيره ليست من الأمور التي تسمو حتى تصير في متناول الشعر والنثر الأدبي في عصرنا هذا فضلًا عن العصر الجاهلي4. فإذا كان الأدب الجاهلي قد خلا حقًّا من ذكر الربا فلن يكون في ذلك دليل على أن الأدب الجاهلي موضوع 5 ... ". 5- الدليل اللغوي: وقد أفاض الناقدون في نقد هذا الدليل ونقضه، وذلك لأنه، لو صح، لكان أقوى الحجج التي ساقها المؤلف وأدلها على ما يريد أن يصل إليه. فالسيد محمد الخضر حسين يرى أن الدكتور طه قد أخذ هذا الدليل من مرجوليوث، فأورد بعض كلام الدكتور وما يقابله من كلام مرجوليوث في مقالته التي بسطنا فيها القول. وليس من سبيل إلى ذكر جميع ما رد به السيد محمد الخضر   1 ص154. 2 ص155. 3 ص156. 4 ص157. 5 ص158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 حسين، فقد فصل القول في رده تفضيلًا1، وحسبنا أن نشير إلى بعضه، قال2 "وأخذ المؤلف يذكر الشاهد الأقوى على اصطناع الشعر الجاهلي، وهو أن اللغة القحطانية غير اللغة العدنانية، والشعر المنسوب إلى بعض شعراء اليمن لا يختلف عن شعر العدنانية، وهذا مما استشهد به مرجوليوث قبله ... لا ننازع فيما دلت عليه الآثار المخطوطة من أن اللغة القحطانية كانت كلغة أجنبية عن العدنانية، كما أن مرجوليوث والمؤلف لا ينازعان في أن اللغتين اشتد الاتصال بينهما بعد ظهور الإسلام وأصبحتا كلغة واحدة. والذي نراه قابلًا لأن يكون موضع جدال بيننا وبين مرجوليوث والمؤلف هو حال الاختلاف بين اللغتين في عهد يتقدم ظهور الإسلام بعشرات من السنين، فنحن لا نرى ما يقف أمامنا إذا قلنا: إن الاختلاف بين اللغتين قد خف لذلك العهد وزال منه جانب من الفوارق ولم تبق القحطانية من العدنانية بمكان بعيد. والذي جعل اعتقادنا يدنو من هذه النظرية ... أن قبول اللغة القحطانية لأن تتحد مع اللغة العدنانية بعد ظهور الإسلام لا يكون إلا عن تقارب وتشابه هيئتهما لأن يكونا لغة واحدة، فإن انقلاب لغة إلى أخرى تخالفها في مفرداتها وقواعد نحوها وصرفها ليس بالأمر الميسور حتى يمكن حصوله في عشرات قليلة من السنين". ثم يرى أن العثور على نقوش باللغة الحميرية يرجع تاريخها إلى المائة الخامسة والسادسة للميلاد لا ينقض هذا الرأي، وذلك لأن التقارب بين اللغتين لم تبدأ به القبائل القحطانية والعدنانية في وقت واحد "بل سبقت إليه القبائل المجاورة للعدنانية ثم أخذ يتدرج فيما وراءها من القبائل ... فالوقوف على أثر مخطوط قبل الإسلام بنحو مائة سنة أو ما دونها إنما يدل على أن سكان الناحية التي انطوت على هذا الأثر لم يزالوا على لسان حمير القديم، وهذا لا ينفي   1 انظر ص70-75، 90، 91-94، 100، 103-104، 30-305، 361-362. 2 ص70-71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 أن يكون غيرها من القبائل القحطانية قد ارتاضت ألسنتهم بلغة تشبه اللغة العدنانية. ومن الممكن القريب أيضًا أن يكون أهل المكان الذي عثر فيه على هذه المخطوطات الأثرية ينطقون باللغة القريبة من اللغة العدنانية، ولكنهم استمروا في الكتابة على لغتهم التي كانت اللسان الرسمي لسياستهم أو ديانتهم، وقد حكى التاريخ لهذا الوجه نظائر ... "1، وبعد أن يسرد هذه النظائر يستدل على تقارب اللغتين بما يُروَى في السيرة من خطب الوافدين من أهل اليمن على الرسول صلى الله عليه وسلم، "ولو كانت اللغتان مختلفتين في المفردات وقواعد النحو والصرف لم يسهل على العدناني أو القحطاني فهم لغة الآخر إلا أن يأخذها بتعلم أو مخالطة غير قليلة"2. ثم يتطرق إلى عبارة أبي عمرو بن العلاء التي أوردها الدكتور طه، وأصلها "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا"، فقال إن الدكتور مسَّ هذه العبارة "بالتحريف مسًّا رفيقًا" و"حوَّل قوله: ولا عربيتهم بعربيتنا، إلى قوله: وما لغتهم بلغتنا، لقصد المبالغة في الفصل بين اللغتين وليصرف ذهن القارئ عن أن يفهم من قول أبي عمرو: ولا عربيتهم بعربيتنا، أن تلك اللغة عربية وإنما تختلف عن العدنانية اختلافًا يسوغ له أن يقول: وما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا. ومس المؤلف عبارة أبي عمرو بالتحريف مرة أخرى، فقد حذف قوله: وأقاصي اليمن، حتى لا يأخذ منها القراء أن لغة غير الأقاصي، وهي القبائل المجاورة للقبائل المضرية، ليس بين عربيتها وعربية مضر هذا الاختلاف3". "هذا شأن الاختلاف بين اللغتين أما تشابه الشعر القحطاني والعدناني فله سبيل غير هذا السبيل، والرأي الذي يوافق إجماع الروايات ويؤيده النظر ولا يعترضه البحث الحديث أن الشعراء في جنوب الجزيرة   1 ص71-72. 2 ص73. 3 ص73-74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وشمالها أصبحوا من قبل الإسلام ينظمون الشعر بلهجة واحدة أو متقاربة"1. ثم يمضي في بيان رأيه هذا وتفصيله. ثم يرد على هذا الدليل من جانب آخر، قال2: "ومما يتعذر قبوله أيضًا أن يضع غير اليمانيين أشعارًا في لهجة قرشية ويعزوها إلى القدماء من شعراء اليمن دون أن يجدوا من اليمنيين أو ممن يعرف لهجة شعراء اليمنيين من ينكر صنيعهم، ويناضلهم بحجة أن هذا الشعر غير منطبق على لهجة أولئك الشعراء". ثم رد عليه حديثه على أن لهجات القبائل العدنانية نفسها، وهي مختلفة، غير ظاهرة في هذا الشعر الجاهلي، فقال3: "هذه الشبهة علقت بذهن المؤلف فيما علق من مقال مرجوليوث، وهي مطرودة بنظرية وجود لغة أدبية يحتذيها الشعراء على اختلاف قبائلهم منذ عهد الجاهلية". وأما الأستاذ محمد لطفي جمعة فيقول4: "اعتمد المؤلف على أقوال الرواة ثم يؤكد لنا أن الرواة يضيفون شيئًا كثيرًا من الشعر الجاهلي إلى قوم ينتسبون إلى عرب اليمن ... ويؤيد مخالفة اللغة القحطانية للغة العرب برواية أحد الرواة وهو أبو عمرو بن العلاء، فكأن الرواة الذين كانوا يعلمون اختلاف اللغتين من أقدم الأزمنة رووا، على الرغم من علمهم هذا، شعرًا كثيرًا بالعربية العدنانية وحملوه على شعراء اليمن ... وهذا الكلام ظاهر البطلان، والتلفيق فيه لا يحتاج إلى برهان؛ لأن الراوية الذي يعرف اختلاف الأمتين واختلاف اللغتين إذا أراد الوضع والاختلاق لا يقع في مثل هذا الخطإ المفضوح سيما وأن المؤلف قال في ص120 عن حماد الراوية: أما حماد فرجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم فلا يزال يقول الشعر يشبه مذهب رجل ويدخله في شعره ...   1 ص92. 2 ص94. 3 ص100. 4 ص136-137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 أفيعقل أن راوية كحماد العالم باللغات والمعاني والمذاهب يخطئ مثل هذا الخطإ؟ " ثم يقول1: "وكيف يثبت لنا المؤلف أن أبا عمرو بن العلاء أراد اختلاف اللغتين في زمن الجاهلية، وقد عجز المؤلف عن تحديد زمن هذا الاختلاف لعلمه بجواز تطبيق هذا القول على زمن الراوية أبي عمرو نفسه، فقد قصد بذلك أن اللهجة العربية الحميرية التي كانت شائعة في زمنه في بقايا حمير في بلاد اليمن تخالف اللهجة العربية الفصحى ... وحينئذٍ يفلت هذا الدليل من يد مؤلف الشعر الجاهلي". وبعد أن يتحدث المؤلف عن "اللغة الأدبية" التي كان ينظم بها شعراء الجاهلية أورد أبياتًا من الشعر الجاهلي ما تزال تظهر فيها بقايا من اختلاف اللهجات العدنانية2. وأما الأستاذ الشيخ الخضري فبعد أن تحدث عن هذا الموضوع وأورد أدلة الدكتور وأشار إلى تحريفه في النص الذي ذكره أبو عمرو بن العلاء، قال3: "وأكثر الشعر اليماني إنما هو لشعراء من سبأ كانوا بالشمال، إما بالمدينة وإما بالعراق، وإما بالصحراء الشمالية وإما بالشام، أو لعرب عدنانيين ... فالأستاذ يرى بعد ذلك أنه إذا سلمت مقدمته بأنه كان هناك خلاف بين لغة حمير ولغة عدنان، فإن ذلك لا ينتج شيئًا؛ لأن العربية القديمة عربية حمير لم يؤثر شيئ من شعرها، وابن سلام في الطبقات إنما ساق عبارة أبي عمرو في هذا الصدد وهو نفي أن يكون هناك شعر تصح نسبته إلى عاد وثمود.."، ثم يقول عن اختلاف اللهجات4: "لا ندري كيف يظهر في الشعر تباين اللهجات؟ فإن اللهجة كما قدمنا إنما هي ما يرجع إلى الأداء، والشيء الواحد قد يؤدَّى بلهجات مختلفة، وهو هو في حركاته وسكناته، كما اختلف الأداء في القرآن نفسه،   1 ص139. 2 ص154-157. 3 ص10-11. 4 ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 والقرآن هو هو". "لا ندري كيف يكون اختلاف اللهجات مؤثرًا في الشعر، في أوزانه وتقاطيعه وبحوره وقوافيه بوجه عام؟ ... لا أفهم تأثير الإمالة والتفخيم في بحر الشعر وقافيته. فإن مفخم الألف ينشد "قفا نبك في ذكرى حبيب ومنزل" بألف مفخمة كما ينشدها المميل بألف ممالة، فلا يتغير في البيت حركة ولا سكون، وهما اللذان تُبنى عليها تفاعيل الشعر. وكما لا يتغير شيء من ذلك بالإمالة والتفخيم لا يتغير بالإدغام والإظهار ... 1". وأما الأستاذ الغمراوي فيتحدث عن هذا الموضوع في صفحات متفرقة من كتابه2، وقد عرض لذكر بعض ما قدمناه ثم قال3: إن الدكتور طه قد "نبهه النقد منذ أكثر من عام إلى أن ثبوت اختلاف لغة الجنوب عن لغة الشمال، لو ثبت أنهما كانتا مختلفتين في العصر الجاهلي القريب، لا يصلح دليلًا على أن أدب يمانية الشمال موضوع لأن قبائل اليمن في الشمال كانت هاجرت من الجنوب إلى الشمال منذ أمد بعيد فلم يكن هناك بد لمن نشأ في الشمال من ذرياتها أن ينشأ على لغة الشمال ويتخذها لغة أدب ولغة خطاب. فجاء صاحب الكتاب هذا العام يجيب على هذا بلهجة المستوثق مما يقول فهل تدري بماذا أجاب؟ أجاب بأن هجرة فريق من عرب اليمن إلى الشمال غير ثابتة! وأن صحة يمانية من انتسب إلى اليمن من قبائل الشمال غير ثابتة! وإذن يسقط ذلك الاعتراض! إن من المؤلم حقًّا أن يلج الأستاذ في المماراة إلى هذا الحد، وينزل به اللجاج إلى هذا الدرك، فلا يدرك أن جوابه هذا مسقط كل ما قال، وأنه إذا صح أن التاريخ القديم والتاريخ الحديث أجمعا على خطإ، فلم تكن هجرة ولم يكن في الشمال يمانيون، لم يكن هناك أدنى شبهة لغوية يمكن أن يُعترض بها على صحة كلام مثل امرئ القيس. إذ يصير امرؤ القيس ومن معه بذلك مضربين،   1 ص18. 2 ص162-163، 166، 170-171، 174، 188. 3 ص188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 ويصير من السخف أن يقال بعد ذلك إن كلامهم وشعرهم منحول لأن لغتهم ليست لغة نقوش حميرية اكتشفت في الجنوب ... ". ويتحدث الأستاذ الغمراوي حديثًا مفصلًا عن اللهجات جاء فيه أن الدكتور طه حسين ذكر في الطبعة الثانية من كتابه "أن اللغة الفصحى الموجودة في القرآن والحديث لغة قريش، فإذا اعترض القارئ بأن هذه اللغة قد كانت تُفهم في غير قريش في قبائل الحجاز ونجد، كقيس وتميم المضريتين، والأوس والخزرج اليمنيتين، وقبائل اليهود في شمال الحجاز، كان جواب صاحب الكتاب أنك قد عرفت رأيه "في النسب وانتماء هذه القبائل إلى اليمن أو إلى مضر"! يشير إلى رأيه الذي أورده في فصل الأدب الجاهلي واللغة. وغفل هنا كما غفل هناك عن أن إنكاره نسبة تلك القبائل إلى غير قريش يدخلها في قريش ويذهب باعتراضه على الشعر الجاهلي العدناني من طريق اللهجة كما ذهب هناك باعتراضه على الشعر الجاهلي القحطاني من طريق اللغة"1. نقد أسباب النحل: وننتقل بعد ذلك إلى عرض آراء النقاد فيما ذكره الدكتور طه حسين من أسباب نحل الشعر الجاهلي، وقد جعلها الدكتور، كما مر بنا خمسة: السياسة، والدين، والقصص، والشعوبية، والرواة. 1- السياسة ونحل الشعر: أجمع النقاد على أن الدكتور طه لم يورد شيئًا من الشعر الجاهلي الذي دعت السياسة إلى نحله، مع أن فصله معقود لهذا، ومع أنه أطنب في الحديث عن المقدمات الظنية والفروض المتخيلة، ولكنه لم ينته بها إلى النهاية التي يدل عليها عنوان الفصل. قال السيد محمد الخضر حسين2   1 ص201. 2 ص185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 "عقد المؤلف الفصل في نحو عشرين صحيفة قضاها في الحديث عن أمر كتب فيه القدماء والمحدثون، وهو شأن العصبية في صدر الإسلام وعهد الأمويين، وما كان من التهاجي بين بعض شعراء الأنصار وآخرين من قريش ... ولم يستطع المؤلف أن يضرب في هذا الفصل الطويل مثلًا لشعر جاهلي اخترعته نزعة سياسية ... ومن أراد أن يقرر أن من الشعر الجاهلي ما افتعل لغرض سياسي، ويضع لذلك عنوانًا يكتبه بأحرف ممتازة، فليأت ولو بمثل أو مثلين واضحين ويريح القارئ من أقوال لا تقع في عين الموضوع فضلًا عما فيها من صبغ بعض الوقائع بألوان لا تلائمها ... " وقال الأستاذ محمد لطفي جمعة1 "وقد سود المؤلف تسع صفحات في هذه المسألة وحدها "يقصد المهاجاة بين الأنصار وقريش" وعنوان "الفصل السياسة وانتحال الشعر" اسم فخم وعنوان ضخم، ولكن اللب منعدم والمقصد غامض ... أين السياسة من بحثه وأين الشعر المنتحل ومن واضع الشعر المحمول؟ " وقال أيضًا2: "إلى هنا ولا نجد في هذا الفصل الطويل الذي عنونه المؤلف "السياسة وانتحال الشعر" يقصد بذلك الشعر الجاهلي- شيئًا خاصًا بانتحال ذلك الشعر الجاهلي ... " وقال الشيخ محمد الحضري إن الدكتور طه قال: "يستطيع الكاتب في تاريخ الأدب أن يضع سفرًا مستقلًّا فيما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير في شعر الفريقين الذي قالوه في الإسلام وفي الشعر الذي انتحله الفريقان على شعرائهما في الجاهلية"، ثم عقب عليه بقوله3: "مع أن مقدمته الطويلة لم يوجد بها كلمة واحدة تتصل بأن فريقًا من الفريقين اختلق شعرًا ونسبه إلى شعرائه في الجاهلية، إنما الأحاديث كلها في الشعراء الذين كانوا في أول العهد الإسلامي يتقارضون الشعر،   1 ص184. 2 ص193. 3 ص32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وفي العهد الذي يلي ذلك". ويقول أيضًا1: "وبعد ذلك كله ألم يكن من واجب المؤلف، وهو أستاذ كبير، أن يذكر لقراء كتابه بعض الشعر الذي وضعته قريش في الإسلام ونسبته إلى بعض شعرائهم في الجاهلية وكان الداعي إلى وضعه السياسة؟ إنما لم يذكر شيئًا من ذلك، وكل كلامه حول الشعر الذي قيل في العهد الإسلامي، وليس لهذا وضع الشيخ كتابه". 2- الدين ونحل الشعر: قال السيد محمد الخضر حسين2: "ينكر المؤلف كل ما يُروَى من الشعر والأخبار الممهدة للبعثة النبوية، وإنكارها على هذا الوجه إنما تسمعه ممن ربط قلبه على نفي النبوة، إذ ليس من المحتمل عنده أن يقال فيها شعر أو يرد عنها خبر قبل أن يدعيها صاحبها. أما الذين يعتقدون بأن نبوة أفضل الخلق حق فمن الجائز عندهم أن يسبقها شعر أو خبر يتصل بها وشأنهم أن يفحصوا ما يرد في هذا الصدد ويضعوه بمنزلته من الوضع أو الضعف أو الصحة، وكذلك فعل علماء الإسلام فحكموا على جانب مما كان من هذا القبيل بالوضع، كالأخبار والأشعار المعزوة إلى قس بن ساعدة". ثم يعرض لما ذكره الدكتور طه من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن رواية شعر أمية، وأن هذا وحده كاف لأن يضيع هذا الشعر. فرد عليه بأن في الحديث الصحيح أن النبي استنشد رجلًا شعر أمية فظل ينشده حتى أنشد مائة بيت. وقال إنه لو صح أن النبي نهى عن شعره لكان هذا النهي مقصورًا على قصيدة أمية التي رثى بها قتلى قريش في وقعة بدر، "على أنا نجد هذه القصيدة التي يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن روايتها واردة في بعض كتب السير والمغازي، وقد رواها ابن هشام في نحو ثلاثين بيتًا ... "3 وقال الأستاذ محمد لطفي   1 ص34. 2 ص188. 3 ص220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 جمعة1: "يريد مؤلف كتاب الشعر الجاهلي أن يخدع القارئ ويوهمه أن كل ما ورد في الأدب العربي من نثر وشعر عن الجن ووجودها وأخبارها إنما وضع بعد الإسلام وضعًا لتبرير سورة الجن التي جاءت في الكتاب المنزل على أفصح العرب ... وأن كل ما نسب إلى العرب في أدبهم من هذه الناحية إنما اصطنع اصطناعًا مجاراةً للعقيدة التي اقتضتها هذه السورة القرآنية. والحقيقة أن عرب الجاهلية كانوا يعتقدون بالجن، ونظموا شعرًا جاهليًّا كثيرًا عن علاقة الجن بالشعر والشعراء، وذكرنا بعضه في ص52 من هذا الكتاب ... ولم تكن أمة سامية أو آرية تخلو من الاعتقاد بالجن أو الأرواح الخيرة والشريرة". ثم تحدث عن شعر أمية بن أبي الصلت، ونفى أن المسلمين محوه أو حاربوه، وأورد شيئًا من شعره ... 2، وأما الشيخ الخضري، فيعرض لما تحدث به الدكتور طه من أمر الشعر الممهد للبعثة النبوية، فيقول الشيخ الخضري إن انتظار بعض علماء العرب وكهانهم وأحبار اليهود ورهبان النصارى لبعثة نبي عربي من المسائل التي ذكرها القرآن، "والمؤلف نفسه قال في الصحيفة الثامنة من كتابه: وأنا أزعم مع هذا كله أن العصر الجاهلي القريب من الإسلام لم يضع، وأنا نستطيع أن نتصوره تصورًا واضحًا قويًّا صحيحًا، ولكن بشرط ألا نعتمد على الشعر بل على القرآن من ناحية، والتاريخ والأساطير من ناحية أخرى ... "3، وعرض بعد ذلك لقول الدكتور طه: "وفي سيرة ابن هشام وغيرها من كتب التاريخ والسير ضروب كثيرة من هذا النوع"، فقال الشيخ الخضري4 "وهذا الكلام غير صحيح، فقد قرأنا هذه السيرة مرارًا، ولا سيما فيما يمهد لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم نجد بيتًا واحدًا في الموضوع الذي ذكره، وإنما الشعر الذي   1 ص212. 2 ص226-230. 3 ص34-35. 4 ص35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 رأيناه في فصل عنوانه: أمر الأربعة المتفرقين عن عبادة الأوثان في طلب الأديان، وفي هذا الفصل قطع شعرية كلها في التوحيد وترك عبادة الأوثان". ثم قال1: "ذكر الأستاذ بعد ذلك من منحول الشعر ما أورده المفسرون زاعمًا أنهم أوردوه لإثبات عربية القرآن! ثم غلا فقال: فحرصوا أن يستشهدوا على كل كلمة من كلمات القرآن بشيء من شعر العرب يثبت أن الكلمة عربية لا شك في عربيتها". فعقب على ذلك بقوله: "وهذه الجملة فيها غلو وفيها خطأ: أما الغلو ففي قوله إنهم استشهدوا على كل كلمة منه؛ بين أيدينا التفسيران الكبيران اللذان عُنيا بهذا الاستشهاد أتم عناية، وهما تفسير الإمام الكبير أبي جعفر الطبري وتفسير الكاتب العظيم أبي عمر الزمخشري، ومع ما فيهما من الشواهد الكثيرة فإن ادعاء الاستشهاد على كل كلمة لا يؤيده الواقع، إن شواهد الكشاف عددها 727 شاهدًا، وليس هذا عدد كلمات القرآن ... وأما الخطأ ففي ظنه أن هذه الشواهد كلها جاهلية جيء بها لإثبات عربية القرآن! أكثر هذه الشواهد لشعراء إسلاميين، وقليل منها ما هو لشعراء جاهليين أو مجهولين ... وليس الاستشهاد لإثبات عربية القرآن كما يزعم، وإنما هو لبيان مفهوم الكلمات التي يعدها الناس أحيانًا غريبة، على أن هذا المعنى قد يُلحظ أحيانًا، وهو أن القرآن ليس ببدع في اللغة، وإنما جاء بلغة العرب لم تشذ فيه كلمة عن مناهجهم". 3- القصص ونحل الشعر: وقد ذهب هؤلاء النقاد إلى أن الدكتور لم يأت بشيء جديد لم يذكره القدماء، ولكنه زاد عليهم بأن عمم وأطلق أحكامًا كلية، قال السيد محمد الخضر حسين2: "كتب المؤلف في القصص ولم يأت بجديد، وإنما مد يده إلى ما تحدث به الكتَّاب من قبله وسماه نظرية له، ثم انهال علينا بكليات عرضها ما بين اليمامة   1 ص41-42. 2 ص245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وحضرموت ... " وقال الشيخ محمد الخضري 1: "قد ذكر المؤلف نفسه ما كان من نَقَدَة الآداب أمام هذا الشعر فقال: "وقد فطن العلماء إلى ما في هذا الشعر من تكلف حينًا ومن سخف وإسفاف حينًا آخر، وفطنوا إلى أن بعض هذا الشعر يستحيل أن يكون قد صدر عن الذين ينسب إليهم" وهذا هو الذي نريد أن نقوله، وهو أن النقاد في العصور الماضية لم يقصروا في تمييز طيب الشعر من خبيثه، وقد عبدوا الطريق لم يخلفهم حتى لا يزعجهم كذب كاذب، أو تلفيق ملفق، فيرفضون جميع ما روي من الشعر، كما فعل مؤلف الشعر الجاهلي، بل يتبعون سيرة أولئك الأسلاف في النقد الأدبي الذي أساسه الرواية والدراية ... ". 4- الشعوبية ونحل الشعر: قال السيد محمد الخضر حسين إن الدكتور طه عقد فصلًا للشعوبية ونحل الشعر الجاهلي، ولكنه "لم يقم دليلًا على التلازم بينهما، بل لم يأت برواية تدل على أن بعض الشعوبية انتحل شعرًا جاهليًّا ... "2، وقال أيضًا بعد أن ذكر أن الدكتور أورد قصصًا عن أبي العباس الأعمى وإسماعيل بن يسار "وزعم أنه وصل بهذا إلى ما كان يريده من تأثير الشعوبية في انتحال الشعر، ولكنه لم يستطع أن يضرب مثلًا يريك كيف انتحلت الشعوبية شعرًا جاهليًّا.."3، وكذلك قال الأستاذ محمد لطفي جمعة4: "لا نجد في هذا الفصل ما يدل على انتحال الشعر الجاهلي"، وأما الشيخ محمد الخضري فذهب إلى أن حديث الدكتور في هذا الفصل عن الشعوبية ونحل الشعر الجاهلي قائم على الفرض والتخيل لا على الحقائق، وبعد أن رد عليه قال5: "ومتى كان الأمر كذلك   1 ص53. 2 ص247. 3 ص249. 4 ص248. 5 ص54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 ضعف مقدار هذا التخيل وسقط الفرض من أساسه". 5- الرواة ونحل الشعر: أشار السيد محمد الخضر حسين إلى ما في حديث الدكتور في هذا الفصل -وفي غيره من الفصول- من تعميم ومبالغة، وذلك حين قال الدكتور إن الرواة "بين اثنتين: إما أن يكونوا من العرب، فهم متأثرون بما كان يتأثر به العرب، وإما أن يكونوا من الموالي فهم متأثرون بما كان يتأثر به الموالي ... " وعقب عليه السيد محمد الخضر حسين بقوله1: "ويريد من التأثير -بطبيعة السياق- الوجه الذي يحمل على صنع الشعر وعزوه إلى الجاهلية، ومعنى هذا نفي أن يكون لطائفة من الرواة خطة ثابتة وهي ألا يتأثروا بشيء من هذه الأسباب تأثرًا يستهينون معه أن بموبقة الافتراء على الناس كذبًا. وهذه المبالغة لا تأويل لها إلا أن المؤلف يحب أن يكون هذا الشعر الجاهلي منحولًا". ثم تعرض لما تعرض له الدكتور من ذكر حماد الراوية وخلف الأحمر، وقال إنهما ليسا "مرجع الرواية كلها ولا أن الطعن فيهما طعن في الرواية جميعًا"2. ومع ذلك فقد ذكر بعض الروايات التي تطعن في حماد وخلف ونقدها وبيَّن ضعف بعضها. ثم ذكر أن الدكتور رمى أبا عمرو الشيباني بالكذب والوضع، مع أن أحدًا من القدماء لم يرمه بذلك حتى إن خصومه قد وثقوه، ولم يكتف الدكتور بذلك بل قال عنه: "وأكبر الظن أنه كان يأجر نفسه للقبائل يجمع لكل واحدة منها شعرًا يضيفه إلى شعرائها" فقال السيد محمد الخضر حسين إن إيجار عالم كأبي عمرو الشيباني لا يمكن أن يكون قد حدث من غير أن يتنبه له القدماء ويشيروا إليه3، وأن الدكتور لم يبنِ حكمه هذا إلا على الظن والتخيل.   1 ص264-265. 2 ص267. 3 ص274-275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 أما الأستاذ محمد لطفي جمعة فقد رد عيه من وجه آخر وذلك قوله1: "وإن كان بعض المتعاصرين والأنداد من الرواة طعن بعضهم في بعض، فليس في الطعن حجة أو دليل على صحة التهمة؛ لأن اتحاد الحرفة والمنافسة في الشهرة والمزاحمة على نيل الحظوة قد تدفع ببعض الرواة إلى الحسد والغيرة، لهذا قال الأقدمون "إن المعاصرة حجاب"، حتى إن رواة ثقات كالأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد كانوا يتطاعنون ويضعِّف كل منهم رواية صاحبه، ولكن المحققين ينزهونهم عن الكذب ... فلا يجوز إذن أن نأخذ بما يقوله الرواة بعضهم في بعض، وقد عقد ابن جني فصلًا في كتابه "الخصائص" على ما يكون من قدح أكابر الأدباء بعضهم في بعض وتكذيب بعضهم بعضًا، كرواية المفضل الضبي في حق حماد، وهي لم تمحص ولم تنتقد وإن صح إسنادها فوليدة أحقاد معاصرة، فإن كلام الأقران بعضهم في بعض لا يقدح في العدالة، وهذا رأى علماء الحديث وجاراهم فيه أهل الأدب حتى قالوا: إن المعاصرة حجاب، كما قدمنا".   1 ص271-272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 الفصل الخامس: توثيق الرواة وتضعيفهم -1- إن كان شيء أولى بالشك، وأحرى بالتوقف، وأجدر بالبحث والتمحيص، فهو هذه الأخبار والروايات المتناثرة في صفحات الكتب العربية، التي تدور حول بعض رواة الشعر: تتهمهم بالوضع والنحل، وترميهم بالكذب والافتعال. وسنقصر حديثنا في هذه الصفحات على تلك الأخبار والروايات، وعلى ما فيها من أحكام على الرواة أنفسهم: فيها توثيق لهم حينًا، وتجريح وتضعيف في أكثر الأحيان؛ وذلك لأن بحثنا إنما هو مصادر الشعر الجاهلي، والرواية مصدر أصيل من مصادر هذا الشعر، أو هي المصدر الأصيل إذا أخذناها بمعناها الواسع الذي وضحناه في فصل سابق. أما ما بسطنا فيه القول من دواعي الشك في الشعر الجاهلي وأسباب نحله، فحسبنا ما قدمنا من آراء المؤيدين والمفندين. ولا بد لنا، حتى يستقيم بين أيدينا وجه البحث وندخل فيه من بابه، من أن نشير إلى قيام مدرستين فكريتين مختلفتين، قامت إحداهما في الكوفة، وقامت الأخرى في البصرة. وقد أدى الخلاف بين هاتين المدرستين إلى أن يتعصب علماء كل مدرسة لمدرستهم، وأن يجرحوا هم وتلاميذهم علماء المدرسة الأخرى وتلاميذها ويضعفوهم ويرموهم بالوضع والكذب والتزيد. ولسنا نحب أن نوسع مجال البحث فنعرض للقبائل العربية التي استوطنت كل مصر من هذين المصرين، وما أدى إليه ذلك من عصبية قبلية قد يكون لها أثر فيما نحن بسبيله من بحث، ولا نريد كذلك أن نعرض للاتجاه السياسي في البصرة والكوفة منذ زمن عثمان وعلي ثم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 زمن بني أمية، فإن ذلك كله سيقودنا إلى إطالة نحن في غنى عنها في هذا المجال. ولكننا نحب أن نبين في وضوح وجلاء، الطابع الفكري المميز الذي تفردت به كل من البصر والكوفة في الفقه، واللغة والنحو، والشعر والأخبار. أما الكوفة فيبدو أنها كانت أسبق من البصرة إلى العناية بالحديث والفقه، وذلك لأنه "هبط الكوفة ثلاثمائة من أصحاب الشجرة، وسبعون من أهل بدر"1؛ وكان فيها أيضًا ستون شيخًا من أصحاب عبد الله "بن مسعود"2". وكان في بني ثور الذين نزلوا الكوفة "ثلاثون رجلًا ما فيهم رجل دون الربيع بن خثيم"3 وكان من أثر نشاط حركة الفقه والفتيا في الكوفة أن شهد لها بعض علماء المدينة -وهم من مدرسة في الحديث مخالفة- فمن ذلك ما روي عن "عبد الجبار بن عباس عن أبيه قال: جالست عطاء فجعلت أسائله، فقال لي: ممن أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة؛ فقال عطاء: ما يأتينا العلم إلا من عندكم"4. بل لقد شهد لهم بالتقدم بعض علماء البصرة، فقد: "قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، أهل البصرة أو أهل الكوفة؟ قال: كان عمر يبدأ بأهل الكوفة، وبها بيوتات العرب كلها وليست بالبصرة"5. وقال مسعر: قلت لحبيب بن أبي ثابت: هؤلاء أعلم أم أولئك؟ قال: أولئك "يعني أهل الكوفة"6. ومع ذلك فقد كان الحديث وروايته في الحجاز أسبق وأقدم من الكوفة "فأكثر الصحابة كانوا بالمدينة، وهم أعرف الناس بحديث رسول الله، وأخبر بقوله وعمله، وحتى من رحل منهم إلى العراق وسائر الأمصار فإنما كانوا عارية   1 ابن سعد، الطبقات 6: 4-5. 2 المصدر السابق: 5. 3 المصدر السابق: 5. 4 المصدر السابق: 5. 5 المصدر السابق: 6. 6 المصدر السابق: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 من الحجاز"1. وقد كان علماء المدينة يتمسكون بالحديث تمسكًا كبيرًا، ويلجئون إليه -بعد القرآن- فيما يحزبهم من أمر أو يحتاجون إليه من نص، ولا يكادون يتجاوزونه إلى الاجتهاد وإبداء الرأي والفتيا. وقد ساعدهم على ذلك كثرة ما بين أيديهم من أحاديث، وبقاء الحالة الاقتصادية والاجتماعية على ما كانت عليه في عهد رسول الله ومن بعده الصحابة، أو قريبة من ذلك، فلم يصبها من التعقيد والتطور ما أصاب حياة المسلمين في العراق أو الشام، ولذلك كانوا يجدون لكل أمر من أمورهم حديثًا من أحاديث رسول الله يقضون به في ذلك الأمر. أما الحياة في الكوفة فقد كانت على غير حياة المدينة، فقد نزل المسلمون فيها بيئة جديدة، فيها أخلاط من أجناس شتى بعضها له ماض عريق في الحضارة والحياة الفكرية والاجتماعية، ولذلك كانت حياة الكوفة، إذا قيست بحياة المدينة، معقدة، جد فيها من المسائل الاقتصادية والاجتماعية ما لم يكن معروفًا في المدينة. ولذلك اضطر علماء الكوفة حينما يعرض لهم أمر من أمور حياتهم لا يجدون فيه نصًّا واضحًا في القرآن أو الحديث إلى أن يجتهدوا ويفتوا برأيهم، وهذا الاجتهاد والإفتاء بالرأي هو "القياس". و"أصل القياس أن يُعلم حكم في الشريعة لشيء فيقاس عليه أمر آخر لاتحاد العلة فيهما، ولكنهم توسعوا في معناه أحيانًا فأطلقوه على النظر والبحث عن الدليل في حكم مسألة عرضت لم يرد فيها نص، وأحيانًا يطلقونه على الاجتهاد فيما لا نص فيه، وبعبارة أخرى جعلوه مرادفًا للرأي، ويعنون بالرأي والقياس بهذا المعنى أن الفقيه من طول ممارسته للأحكام الشرعية تنطبع في نفسه وجهة الشريعة في النظر إلى الأشياء، وتمرن ملكاته على تعرف العلل والأسباب، فيستطيع إذا عرض عليه أمر لم يرد فيه نص، أن يرى فيه رأيًا قانونيًّا متأثرًا بجو الشريعة التي ينتمي إليها، وبأصولها وقواعدها التي انطبعت.   1 أحمد أمين، ضحى الإسلام 2: 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 فيه من طول مزاولتها، ومن أجل هذا ذموا الرأي الذي يصدر ممن ليس أهلًا للاجتهاد ... 1". وخلاصة ذلك أنه كانت هناك مدرستان، الأولى: مدرسة الحديث، وهي في الحجاز وخاصة في المدينة، وعلى رأسها مالك بن أنس وتلاميذه. والثانية: مدرسة الرأي، وهي في العراق وخاصة في الكوفة وعلى رأسها أبو حنيفة. وتعصب علماء كل مدرسة لمدرستهم حتى لقد كاد أبو حنيفة أن يفضل أحد التابعين من علماء الكوفة على صحابي جليل هو عبد الله بن عمر، فقد قال مرة لمناظرة "إبراهيم "النخعي-كوفي" أفضل من سالم "بن عبد الله بن عمر"، ولولا فضل الصحبة لقلت علقمة أفضل من ابن عمر". وأخذ الحجازيون يطعنون على علماء الكوفة ويعيبونهم ويرموهم بالتزيد في الحديث الصحيح والإكثار من الموضوع، فقال مالك: "إذا جاوز الحديث الحرتين ضعفت شجاعته"، وكان مالك يسمي الكوفة "دار الضرب" يعني أنها تصنع الأحاديث وتضعها كما تخرج دار الضرب الدراهم والدنانير، وقال ابن شهاب: يخرج الحديث من عندنا شبرًا فيعود في العراق ذراعًا2. وقد سقنا ما تقدم لنخلص منه إلى أمرين؛ الأول: أن الطابع الذي يميز أهل الكوفة في الفقه أنهم "أهل الرأي"، وأنهم لا يلجئون إلى الرأي إلا إذا عرض لهم عرض لم يجدوا له نصًّا في الكتاب أو الحديث، ومعنى ذلك أنهم قد عنوا بالحديث وجمعه وروايته واستقصائه عناية كبيرة لأنه مصدر أساسي من مصادر الفقه التشريع، ولكنهم بعد ذلك كانوا أكثر حرية من غيرهم وأكثر جرأة على استخدام العقل، فكانوا يقولون برأيهم، حيث يتوقف غيرهم، إذا لم يجدوا نصًّا في القرآن أو الحديث. والأمر الثاني: أن المدرسة الأخرى وهي مدرسة أهل الحديث في المدينة قد اتهمت مدرسة الكوفة بوضع الأحاديث والتزيد فيها،   1 ضحى الإسلام 153-154. 2 انظر المرجع السابق 2: 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وقد يكون ما استجد في حياة الكوفة مما لم يجدوا له ذكرًا أو أصلًا في الحديث حافزًا لهم على الوضع أو التزيد رغبة في أن يدعموا رأيهم بحديث نبوي؛ ولكن أغلب ما أنكره أهل المدينة على أهل الكوفة مرده إلى أن بعض التابعين وتابعي التابعين في الكوفة قد أخذوا الأحاديث عن الصحابة الذين نزلوا الكوفة، فكان هؤلاء الصحابة يحدثون بأحاديث لم يسمع بعضها علماء المدينة ممن كان فيها من الصحابة فجهلوها. وليس كل ما كان يحدث به صحابي بل يحدث به غيره، بل إن بعض الصحابة كان يحدث بحديث نسخه حديث آخر لم يبلغه غيره من الصحابة1. فلم يكن مرد اتهام الكوفيين بالوضع إلى أنهم وضعوا كل ما اتُّهموا به، ولم يكن مرده كله إلى عصبية أهل الحديث لمدرستهم على مدرسة الرأي، وإنما كان بعض هذا الاتهام مرده إلى أنهم وضعوا حقًّا، وكان مرد بعضه إلى العصبية، ثم كان مرد بعضه الآخر إلى اختلاف مصادر الرواية، أي اختلاف الصحابة الذين أخذ عنهم علماء كل مدرسة من التابعين وتابعيهم. أما في اللغة والنحو فقد كانت البصرة أسبق إلى العناية بهما ثم تبعتها الكوفة، فقامت في المصرين مدرستان متمايزتان: مدرسة البصرة، ومدرسة الكوفة. "وربما كان أهم الفروق الأساسية بين المدرستين أن مدرسة البصرة رأت أن أهم غرض وضع قواعد عامة للغة ... تلتزمها وتريد أن تسير عليها في دقة وحزم؛ وإذ كانت اللغات لا تلتزم القواعد العامة دائمًا بل فيها مسائل لا يمكن أن تجري على القاعدة، وخصوصًا اللغة العربية التي هي لغات قبائل متعددة تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا ... أراد البصريون تمشيًا مع غرضهم أن يهدروا الشواذ، فإذا ثبتت صحتها قالوا إنها تحفظ ولا يقاس عليها. بل جرءوا على أكثر من ذلك فخطئوا بعض العرب في أقوالهم إذا لم تجر على القواعد ... فهم في الواقع أرادوا أن ينظموا اللغة بإهدار بعضها، وأرادوا أن يكون ما سمع من العرب مخالفًا لهذا   1 انظر المرجع السابق: 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 التنظيم مسائل شخصية جزئية يتسامحون فيها نفسها ولا يتسامحون في مثلها والقياس عليها حتى لا تكثر فتفسد القواعد والتنظيم، هذا إذا لم يتمكنوا من أن يؤولوا الشاذ تأويلًا يتفق وقواعدهم ولو بنوع تكلف. أما الكوفيون فلم يروا هذا المسلك، ورأوا أن يحترموا كل ما جاء عن العرب، ويجيزوا للناس أن يستعملوا استعمالهم، ولو كان الاستعمال لا ينطبق على القواعد العامة، بل يجعلون هذا الشذوذ أساسًا لوضع قاعدة عامة ... فهم أكثر تجويزًا للوجوه المختلفة في المسائل ... 1. وكان من أثر هذا الخلاف في المنهجين أن تعصب كل فريق لمدرسته، وأخذ يتهم ويضعف علماء المدرسة الأخرى، وخاصة البصريين الذين كانوا يرون أنهم أخذوا اللغة عن العرب الخلص وأن الكوفيين أخذوها عن الأعراب الذين فسدت لغتهم وسيلقتهم. قال الرياشي-وهو بصري2-: "إنما أخذنا اللغة من حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وهؤلاء أخذوا اللغة من أهل السواد أكلة الكواميخ والشواريز". وافتخر البصريون بأنهم لم يأخذوا عن الكوفيين في هذا الميدان شيئًا، وأن الكوفيين هم الذين كانوا يأخذون عن البصريين، فقال أبو سعيد3: "لا أعلم أحدًا من علماء البصريين في النحو واللغة أخذ عن أهل الكوفة شيئًا من علم العرب إلا أبا زيد فإنه روى عن المفضل الضبي.."، وقال أبو زيد4: "قدم الكسائي البصرة فأخذ عن أبي عمرو ويونس وعيسى بن عمر علمًا كثيرًا صحيحًا، ثم خرج إلى بغداد فقد أعراب الحطمة فأخذ عنهم شيئًا فاسدًا فخلط هذا بذاك فأفسده ... ". وقال أبو الطيب اللغوي5: "وكذلك أهل الكوفة كلهم يأخذون عن البصريين ولكن أهل البصرة يمتنعون عنهم لأنهم لا يرون الأعراب الذين يحكون عنهم حجة". وربما كان من أوضح الأمثلة التي تدل   1 ضحى الإسلام 2: 294-295. وانظر أيضًا كتاب "العربية" ليوهان فك، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار ص61-63. 2 ابن النديم، الفهرست: 86. 3 المصدر السابق: 81. 4 السيرافي، أخبار النحويين البصريين: 56. 5 مراتب النحويين، ورقة: 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 على مدى ما جرت إليه هذه المنافسة بين المدرستين من خصومات واتهامات ما قاله أبو حاتم السجستاني1: "لم يكن لجميع الكوفيين عالم بالقرآن ولا كلام العرب، ولولا أن الكسائي دنا من الخلفاء فرفعوا من ذكره لم يكن شيئًا، وعلمه مختلط بلا حجج، ولا يملك إلا حكايات عن الأعراب مطروحة لأنه كان يلقنهم ما يريد، وهو على ذلك أعلم الكوفيين بالعربية والقرآن، وهو قدوتهم وإليه يرجعون.." وقال أبو حاتم أيضًا2: "فإذا فسرت حروف القرآن المختلف فيها، أو حكيت عن العرب شيئًا فإنما أحكيه عن الثقات عنهم مثل أبي زيد والأصمعي وأبي عبيدة ويونس وثقات من فصحاء الأعراب وحملة العلم، ولا ألتفت إلى رواية الكسائي والأحمري والأموي والفراء ونحوهم، وأعوذ بالله من شرهم!! ". وقد بادلهم الكوفيون اتهامًا باتهام وخصومة بخصومة، فمن أمثلة ذلك أنه "لما مات المازني خلفه أبو العباس المبرد، وبقي ذلك ببغداد وسامرا لا يغض أحد منه إلى أن ذكره ابن الأنباري في بعض مصنفاته، وأراد أن يضع منه، ويرفع من صاحبه أبي العباس، أحمد بن يحيى ثعلب، جاريًا على عادته في العصبية للكوفيين على البصريين"3. ومن ذلك أيضًا أن ابن الأعرابي الكوفي "كان يزعم أن الأصمعي وأبا عبيدة لا يحسنان قليلًا ولا كثيرًا"4، وأنه كان يقول في كلمة رواها الأصمعي "سمعت من ألف أعرابي خلاف ما قاله الأصمعي"5. وقال ثعلب "انتهى علم اللغة والحفظ إلى ابن الأعرابي" ... والشواهد على ذلك كثيرة وكلها تكشف عن مدى ما قادت إليه هذه الخصومة المنهجية من تبادل الاتهام والتضعيف. ويعنينا من كل ذلك الأمران اللذان أشرنا إليهما عند حديثنا عن الحديث والفقه، وأولهما: أن الكوفيين أكثر حرية في منهجهم وأكثر جرأة حيث يتقيد   1 مراتب النحويين: 121. 2 المصدر السابق: 147. 3 ياقوت، إرشاد 5: 115. 4 المصدر السابق 18: 190. 5 المصدر السابق 18: 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 غيرهم ويتوقف. ولسنا بسبيل المفاضلة بين المنهجين، ولكنا لا نملك إلا أن نشير إلى أن مذهب البصريين بما فيه من ميل شديد إلى "التقعيد" و"التقنين" أقرب إلى الطريقة التعليمية ومذهب المعلمين والتلاميذ، أما مذهب الكوفيين فهو أقرب إلى فهم طبيعة اللغة فهمًا صحيحًا، وهو بذلك مذهب العلماء لا المعلمين. ونحب أن نشير إلى أن هذا المنهج الذي اتبعه الكوفيون بعدُ كان موجودًا في البصرة أيضًا مع وجود المذهب الثاني "وكانت هاتان النزعتان في البصرة في أيامها الأولى، فهم يقولون: إن ابن أبي إسحاق الحضرمي وتلميذه عيسى بن عمر كانا أشد ميلًا للقياس، وكان لا يأبهان بالشواذ، وكانا لا يتحرجان من تخطئة العرب؛ وكان أبو عمرو بن العلاء وتلميذه يونس بن حبيب البصريان أيضًا على عكسهما: يعظمان قول العرب ويتحرجان من تخطئتهم، فغلبت النزعة الأولى على من أتى بعدُ من البصريين، وغلبت النزعة الثانية على من أتى بعدُ من الكوفيين ... "1. والأمر الثاني في اللغة والنحو كالأمر الثاني الذي ذكرناه في الحديث والفقه، وذلك أن اتهام البصريين للكوفيين بوضع الشواذ ونحلها وتضعيفهم إياهم، لم يكن كله لأن الكوفيين كانوا حقًّا يضعون وينحلون، وإنما كان بعضه لهذه العصبية التي قامت بين المدرستين، وكان بعضه لاختلاف المصادر التي كان يأخذ عنها كل فريق، واختلاف المنهجين في استقاء مادة اللغة، فقد كان البصريون يضيقون على حين كان الكوفيون يتوسعون. فإذا ما انتقلنا إلى الحديث عن الشعر وروايته، وجدنا أن الأمرين اللذين أشرنا إليهما في الحديث والفقه من جانب، وفي اللغة والنحو من جانب آخر قائمان في الشعر أيضًا. فقد اتصف الكوفيون هنا بما اتصفوا به هناك من أنهم أكثر حرية وأكثر جرأة، وأنهم قد توسعوا في الأخذ عن مصادر أسقطها البصريون، ومن هنا كثرت رواية الكوفيين فاتهمهم البصريون بالتزيد والوضع.   1 أحمد أمين، ضحى الإسلام 2: 296، وانظر طبقات فحول الشعراء: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 قال ابن سلام في حديثه عن الأسود بن يعفر بعد أن أورد قصيدة له1: "وله شعر كثير جيد، ولا كهذه. وذكر بعض أصحابنا أنه سمع المفضل يقول: له ثلاثون ومائة قصيدة؛ ونحن لا نعرف له ذلك ولا قريبًا منه. وقد علمت أن أهل الكوفة يروون له أكثر مما نروي ويتجوزون في ذلك بأكثر من تجوزنا". وقال أيضًا2: "وأسمعني بعض أهل الكوفة شعرًا زعم أنه أخذه عن خالد بن كلثوم يرثي به حاجب بن زرارة. فقلت له: كيف يروي خالد مثل هذا وهو من أهل العلم، وهذا شعر متداع خبيث؟ فقال: أخذناه من الثقات. ونحن لا نعرف هذا ولا نقبله". وقال أبو الطيب اللغوي3: "والشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بين في دواوينهم". وقال الثوري4: "اتكل أهل الكوفة على حماد وجناد، ففسدت رواياتهم من رجلين، كانا يرويان ولا يدريان، كثرت رواياتهما وقل علمهما". ومما ذكروه في تعليل كثرة رواية الشعر في الكوفة قصة اكتشاف الأشعار التي نسخت للنعمان في الطنوج فقال ابن جني بعد أن أورد هذه القصة5: "فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة". ونحب أن نعيد ما قررناه سابقًا من أن اتهام البصريين للكوفيين بوضع الشعر ونحله لم يكن مرده كله إلى أن الكوفيين كانوا يضعون وينحلون حقًّا، وإنما كان مرد بعضه إلى هذه العصبية وما سببته من منافسات وخصومات، ثم كان مرد بعضه إلى اختلاف مصادر الفريقين وإلى اختلاف منهجيهما، فقد توسع الكوفيون على حين ضيق البصريون.   1 طبقات فحول الشعراء: 123. 2 المصدر السابق: 123. 3 مراتب النحويين: 119. 4 ياقوت، إرشاد: 7: 207. 5 الخصائص: 392-393. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 وبعد؛ فقد سقنا هذا الحديث كله لنصل إلى ما بدأنا به حديثنا حينما قلنا إنه إن كان شيء أولى بالشك، وأحرى بالتوقف، وأجدر بالبحث والتمحيص، فهو هذه الأخبار والروايات المتناثرة في صفحات الكتب العربية، التي تدور حول بعض رواة الشعر: تتهمهم بالوضع والنحل، وترميهم بالكذب والافتعال. وأحسب أننا نستطيع الآن أن نتبين قيمة قولنا هذا بعد الذي بيناه من أمر هذه العصبية بين البصرة والكوفة، وهذا الخلاف في المصادر التي استقى كل فريق مادته منها، ثم هذا الخلاف في المنهج الذي اتبعته كل مدرسة، وما كان لكل ذلك من أثر في اتهامه كل فريق الآخر بالوضع والنحل، ورميه بالكذب والتزيد. على أن هذا الحديث العام -على ما فيه من خطر وقيمة- لا تتكشف لنا جوانبه إلا حين ندعمه بالحديث عن بعض الرواة، وعرض الأخبار والروايات التي تدور حولهم. -2- وسنبدأ بالحديث عن حماد ثم نتلوه بالحديث عن خلف، فقد نالهما من الاتهام بالوضع والكذب والنحل ما لم ينل غيرهما. ولعل خير ما نصنع أن نعرض الأخبار والروايات التي توثق حمادًا وتضعفه، ونجعلها أقسامًا يجتمع كل قسم منها في قرن: 1- المفضل وحماد: أ- روى أبو الفرج1 عن جماعة من الرواة أنهم كانوا في دار أمير المؤمنين المهدي بعيساباذ، وقد اجتمع فيها عدة من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها، إذ خرج بعض أصحاب اخاجب، فدعا بالمفضل الضبي الراوية فدخل، فمكث مليًّا ثم خرج إلينا ومعه حماد والمفضل جميعًا، وقد   1 الأغاني 6: 89-91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 بان في وجه حماد الانكسار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ثم خرج حسين الخادم معهما فقال: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمادًا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألفًا لصدقه وصحة روايته، فمن أراد أن يسمع شعرًا جيدًا محدثًا فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل. فسألنا عن السبب، فأخبرنا أن المهدي قال للمفضل لما دعا به وحده: إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال: دع ذا وعد القول في هرم ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال له المفضل: ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئًا إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله، أو يروي في أن يقول شعرًا فعدل عنه إلى مدح هرم، وقال: دع ذا، أو كان مفكرًا في شيء من شأنه فتركه وقال: دع ذا، أي: دع ما أنت فيه من الفكر وعد القول في هرم. فأمسك عنه، ثم دعا بحماد فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل، فقال: ليس هكذا قال زهير يا أمير المؤمنين. قال: فكيف قال؟ فأنشده: لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين مذ حجج ومذ دهر قفر بمندفع النحائت من ... ضفوى أولات الضال والسدر دع ذا وعد القول في هرم ... خير الكهول وسيد الحضر قال: فأطرق المهدي ساعة؛ ثم أقبل على حماد فقال له: قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لا بد من استخلافك عليه. ثم استحلفه بأيمان البيعة وكل يمين محرجة ليصدقنه عن كل ما يسأله عنه. فحلف له بما توثق منه. قال له: أصدقني عن هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير. فأقر له حينئذ أنه قائلها. فأمر فيه وفي المفضل بما أمر به من شهرة أمرهما وكشفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 ب- وروى أبو الفرج أيضًا1 "أن ابن الأعرابي قال: سمعت المفضل الضبي يقول: قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدًا. فقيل له: وكيف ذلك؟ أيخطئ في روايته أم يلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، لا ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها، ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويُحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك! ". 2- الأصمعي وحماد: روى أبو الفرج2 أن الرياشي قال، قال الأصمعي: كان حماد أعلم الناس إذا نصح. وزاد ياقوت على ذلك يشرح قول الأصمعي3: يعني إذا لم يزد وينقص في الأشعار والأخبار، فإنه كان متهمًا بأنه يقول الشعر وينحله شعراء العرب. وروى أبو الطيب اللغوي4 أن أبا حاتم السجستاني قال، قال الأصمعي: جالست حمادًا فلم أجد عنده ثلاثمائة حرف، ولم أرض روايته، وكان قديمًا. وذكر أبو الطيب أن الأصمعي روى عن حماد شيئًا من الشعر5؛ وأن أبا حاتم قال، قال الأصمعي: كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس فهو عن حماد الراوية إلا نتفًا سمعتها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء. 3- أبو عمرو بن العلاء وحماد: روى أبو الفرج6 أن أبا عمرو الشيباني قال: ما سألت أبا عمرو بن العلاء   1 الأغاني 6: 89. 2 المصدر السابق 6: 70. 3 إرشاد 10: 265. 4 مراتب النحويين، ورقة: 118. 5 المصدر السابق: 116. 6 الأغاني 6: 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 قط عن حماد الراوية إلا قدَّمه على نفسه، ولا سألت حمادًا عن أبي عمرو إلا قدمه على نفسه. 4- ابن سلام وحماد: قال ابن سلام1 "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية، وكان غير موثوق به: كان ينحل شعر الرجل غيره، وينحله غير شعره، ويزيد في الأشعار، أخبرني أبو عبيدة عن يونس قال: قدم حماد البصرة على بلال بن أبي بردة، وهو عليها، فقال: ما أطرفتني شيئًا. فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة مديح أبي موسى. فقال. ويحك، يمدح الحطيئة أبا موسى لا أعلم به. وأنا أروي شعر الحطئية! ولكن دعها تذهب في الناس". وقال ابن سلام أيضًا: وسمعت يونس يقول: العجب لمن يأخذ عن حماد، كان يكذب ويلحن ويكسر. 5- خلف الأحمر وحماد: ذكر أبو الطيب اللغوي حمادًا 2 فقال إنه كان من أوسع الكوفيين رواية، "وقد أخذ عنه أهل المصرين، وخلف الأحمر خاصة". وذكر أيضًا3 أن أهل الكوفة قرءوا أشعارهم على خلف، "وكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية لأنه كان قد أكثر الأخذ عنه". ونقل ياقوت4 أن خلفًا الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه ..... وذكر أبو الفرج5 أن أبا عبيدة قال، قال خلف: كنت آخذ من   1 طبقات فحول الشعراء: 40-41. 2 مراتب النحويين: 116. 3 المصدر السابق: 76. 4 إرشاد 11: 68. 5 الأغاني 6: 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب وأعطيه المنحول، فيقبل ذلك مني ويدخله في أشعارها؛ وكان فيه حمق. 6- حماد ينتحل الشعر الجاهلي ويدعيه لنفسه: ذكر أبو الفرج1 عن رواته أن حمادًا الراوية قدم على بلال بن أبي بردة البصرة، وعند بلال ذو الرمة، فأنشده حماد شعرًا مدحه به. فقال بلال لذي الرمة: كيف ترى هذا الشعر؟ قال: جيدًا وليس له. قال: فمن يقوله؟ قال: لا أدري إلا أنه لم يقله. فلما قضى بلال حوائج حماد وأجازه، قال له: إن لي إليك حاجة. قال: هي مقضية. قال: أنت قلت ذلك الشعر؟ قال: لا. قال: فمن يقوله؟ قال: بعض شعراء الجاهلية، وهو شعر قديم وما يرويه غيري. قال: فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك؟ قال: عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام. وبعد؛ فهذه خلاصة شاملة لما في المصادر العربية من أخبار حماد الراوية، وهي تميل في أكثرها إلى النيل منه وتضعيف روايته واتهامه بالوضع والنحل. ولكن كل خبر من هذه الأخبار يحمل في تضاعيفه ما يستوقف الباحث ويسترعي انتباهه ويحمله على التقصي في البحث والنقد. ومن أجل ذلك سنعود إلى هذه الأخبار خبرًا خبرًا نستنطقه لعله يكشف لنا عن خبئ فيه ينتهي بنا إلى يقين أو ما يشبه اليقين. 1- المفضل وحماد: أ- أما الخبر الأول ففيه أمران2، يدعم ثانيهما أولهما، وينتهيان بنا إلى أن نشك في هذا الخبر شكًّا يكاد يؤدي إلى رفضه. فالأمر الأول: أن الرواة   1 الأغاني 6: 88. 2 انظر ما قدمناه من رأي ليال في هذا الخبر في الفصل الثالث من هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 قالوا إنهم كانوا في دار أمير المؤمنين المهدي، وأن حسينًا الخادم قال: إن أمير المؤمنين يعلمكم ... فقد جرت هذه القصة إذن والمهدي خليفة؛ أي بعد سنة 158هـ، وذلك لأن المهدي بويع بالخلافة في آخر ذي الحجة من سنة 158 ولم يبق على انقضائها إلا إحدى عشرة ليلة1. ولكن حمادًا توفي قبل أن يتولى المهدي الخلافة بنحو ثلاث سنوات. فقد ذكر ياقوت أن حمادًا توفي سنة 155-2 وذكر ابن النديم أنه توفي سنة 156-3. والأمر الثاني: أن الرواة ذكروا أنهم كانوا في دار المهدي في عيساباذ. ولكن المهدي لم يبن داره في عيساباذ إلا بعد وفاة حماد بنحو تسع سنوات، قال الطبري في حوادث سنة 164-4 "وفيها بنى المهدي بعيساباذ الكبرى قصرًا من لبن إلى أن أسس قصره الذي بالآجر الذي سماه قصر السلامة، وكان تأسيسه إياه في يوم الأربعاء في آخر ذي القعدة". ب- أما الخبر الثاني فهو عندنا ضعيف متهم كذلك؛ وذلك لأن فيه أن حمادًا "رجل عالم بلغات العرب وأشعارها، ومذاهب الشعراء معانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل عنه ذلك في الآفاق". فقد كان حماد إذن شاعرًا، وأي شاعر! كان شاعرًا ذا قدرة على تصريف وجوه القول وفنون الشعر، بل لقد كان شاعرًا جمعت فيه الشعراء، إذا قال قصيدة بلغت من القوة والمتانة ومن الفحولة والجزالة، بل بلغت من الفن الشعري، منزلة تجعلها حقيقة بأن تكون من شعر امرئ القيس أو النابغة أو طرفة أو سائر شعراء الجاهلية، بحيث تُنسب إلى أي شاعر من هؤلاء الشعراء وتدخل في شعره ويُحمل ذلك في الآفاق! وهذا وحده، في الفن، باطل؛ ولكنه باطل من وجه آخر، وهو أن حمادًا لم يعرف بقول الشعر، ولم نجد بين أيدينا مصدرًا واحدًا من هذه   1 الطبري، تاريخ "سنة 158"، وقد أورد كذلك خبرًا آخر لا يكاد يفترق عن هذا، وهو أن المهدي بويع له بالخلافة لست ليال خلون من ذي الحجة سنة 158. 2 إرشاد 10: 266. 3 الفهرست: 135. 4 تاريخ الطبري "سنة 164". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 الكتب العربية ذكر لنا أن حمادًا قال شعرًا أو خلَّف ديوانًا رواه عنه غيره. ولو كان له شعر لحرصوا على ذكره لأنهم عنوا بتسجيل الشعراء وشعرهم ودواوينهم أولًا، ولأن ذلك كان يقوي من رأي من اتهمه بالوضع والنحل ثانيًا. فكيف لم يذكروا شعر حماد وديوانه، وهم يذكرون "أن لخلف ديوان شعر حمله عنه أبو نواس"1؟ ثم، أيكون المرء شاعرًا، في مثل هذه المنزلة من الفحولة والشاعرية، فيصرف كل شعره إلى غيره وينحله إياه، ويضن على نفسه بأن ينسب إليها بعضه؟ ولسنا في حاجة إلى إطالة القول وبين أيدينا خبر آخر إن لم يكن ذا دلالة قاطعة على أن حمادًا لم يكن يحسن قول الشعر، فهو على أقل تقدير مما يستأنس به في هذه السبيل؛ وذلك أن حمادًا حين أراد أن يمدح بلال بن أبي بردة، لم يستطيع أن ينظم شعرًا في مدحه، وإنما انتحل لنفسه شعرًا جاهليًّا قديمًا ووجهه في مدح بلال، ولم يكتشف ذلك إلا ذو الرمة حينما سمع حمادًا ينشده، ثم اعترف به حماد2. ومما يدعم هذا الذي نذهب إليه ويكشف عن مقدار التخبط الذي وقعت فيه هذه الأخبار والروايات، ما ذكره ابن سلام، قال "سمعت يونس يقول: العجب لمن يأخذ عن حماد، كان يكذب ويلحن ويكسر". فيكف يكون حماد بهذا القدر من الشاعرية الفذة التي حاولت الرواية أن تصوره بها ثم يكون بعد ذلك يكسر الشعر ولا يقيم وزنه؟ لا شك أن أحد هذين الخبرين موضوع، ولعلهما كليهما كذلك3. فإذا كان الأمر على ما بينا، وكان هذان الخبران موضوعين، فإن لهما مع ذلك دلالة لا يصح أن نغفلها، وهي أن بين المفضل وحماد منافسة شديدة   1 ياقوت، إرشاد 11: 68. 2 الأغاني: 6: 88. 3 انظر أيضًا كتاب "العربية" تأليف يوهان فك، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار ص62-63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 ربما بلغت حد الخصومة والاتهام، ثم استغلها تلاميذ المفضل ورووا عنها الأخبار: يتهمون حمادًا ويقوون من مكانة أستاذهم المفضل فتقوى بذلك مكانتهم. أما المنافسة بينهما فلعلها كانت لأن المفضل -على ما يروون من أنه كان ثقة كثير الرواية للشعر- كان لا يحسن شيئًا من الغريب ولا من المعاني ولا تفسير الشعر، وإنما كان يروي شعرًا مجردًا1. أما حماد فقد تقدم أنه كان عالمًا "بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم"2، وكان "من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها"3. فكان حماد إذن يروي ما لم يكن يرويه المفضل، ويعرف ما لم يكن يعرفه، فاتهمه بالتزيد بل اتهمه بالوضع والنحل. ولا ينبغي أن ننسى أن حمادًا كان أموي الهوى وكانت "ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره، فيفد عليهم، ويسألونه عن أيام العرب وعلومها، ويجزلون صلته.."4 وجاءه يومًا صديقه مطيع بن إياس يدعوه إلى مجلس جعفر بن أبي جعفر المنصور، فقال له حماد5: "دعني، فإن دولتي كانت مع بني أمية وما لي عند هؤلاء خير ... " أما المفضل فقد كان عباسي الهوى، وقد قربه المنصور وألزمه ابنه المهدي يؤدبه؛ وللمهدي صنع المفضليات. ونحسب أن ما بسطناه من وجوه هذه المنافسة والخصومة يزيدنا اطمئنانًا إلى ما قدمناه في أمر هذين الخبرين عن المفضل وحماد. 2- الأصمعي وحماد: ولقد كان أمر المفضل وحماد بين رجلين من الكوفة نفسها جمعتهما عصبية بلدية واحدة، ثم فرقتهما منافسات وخصومات شخصية وسياسية. أما الأمر بين   1 مراتب النحويين: 115. 2 الأغاني 6: 89. 3 ياقوت، إرشاد: 10: 258. 4 إرشاد 10: 258. 5 الأغاني 6: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 الأصمعي وحماد فيعود بنا إلى المنافسة بين البصرة والكوفة، فالأصمعي بصري، وهذه الأخبار الثلاثة يروي أحدها الرياشي ويروي اثنين منها أبو حاتم، وهما بصريان كذلك. ولم يكن شأن الرياشي وأبي حاتم في عصبيتهما للبصرة على الكوفة شأن الأصمعي، وذلك لأنهما كانا من أكثر البصريين طعنًا على الكوفيين واتهامًا لهم، وقد مر بنا أن الرياشي قال: إنما أخذنا اللغة من حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وهؤلاء أخذوا اللغة من أهل السواد وأكلة الكواميخ والشواريز1. ومر بنا كذلك تضعيف أبي حاتم للكوفيين وقوله2: "لم يكن لجميع الكوفيين عالم بالقرآن ولا كلام العرب، وقوله3: "فإذا فسرت حروف القرآن المختلف فيها أو حكيت عن العرب شيئًا فإنما أحكيه عن الثقات عنهم مثل أبي زيد والأصمعي وأبي عبيدة ويونس وثقات من فصحاء الأعراب وحملة العلم، ولا ألتفت إلى رواية الكسائي والأحمري والأموي والفراء ونحوهم، وأعوذ بالله من شرهم! ". فإذا لم يكف هذا الجانب في تضعيف هذه الأخبار، فإن ما فيها من تناقض ليزيدنا اطمئنانًا إلى أنها من هذه الأخبار التي ساقت إليها هذه العصبية والمنافسات. وذلك أن أبا حاتم يروي أن الأصمعي قال "جالست حمادًا فلم أجد عنده ثلاثمائة حرف، ولم أرض راويته". أما أنه لم يجد عنده ثلاثمائة حرف فأمر لا شأن لنا به في هذا البحث، وأما أنه "لم يرض روايته" فلا نراه يستقيم مع رواية أبي حاتم نفسه عن الأصمعي أنه قال إنه أخذ شعر امرئ القيس كله عن حماد "إلا نتفًا سمعتها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء". ومما يؤيد هذا الذي نذهب إليه من تزيد التلاميذ على شيوخهم في أخبار منافستهم، بل وضعهم عليهم أخبارًا في ذلك، أن الأصمعي قال "كان حماد أعلم الناس إذا نصح" ولم يزد على ذلك، فجاء من يفسر قوله هذا ويشرحه فقال: "يعني إذا لم يزد   1 ابن النديم - الفهرست: 86. 2 مراتب النحويين: 121. 3 المصدر السابق: 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وينقص في الأشعار والأخبار، فإن كان متهمًا بأنه يقول الشعر وينحله شعراء العرب". وكل هذا تفسير لقوله "إذا نصح". ونحن لا نكاد نطمئن إلى هذا التفسير بعد الذي علمناه من أن الأصمعي أخذ عن حماد "شيئًا من الشعر"، وأنه روى عنه ديوان امرئ القيس وأضاف إليه نتفًا سمعها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء. والأصمعي مشهور بتشدده وتحريه وأنه "لا يفتي إلا فيما أجمع عليه العلماء، ويقف عما يتفردون به عنه، ولا يجوِّز إلا أفصح اللغات، ويلج في دفع ما سواه1"، "وأنه، كان لا يفسر شعرًا فيه هجاء ... وكان صدوقًا في كل شيء"2، فمن كان هذا منهجه فإنه لا يأخذ إلى عن ثقة أو عمن يعرف أنه ثقة. والذي نراه في تأويل قوله "إذا نصح" أنه يريد إذا نصح لمن يأخذ عنه وسمحت نفسه في إعطائه وتعليمه، وذلك لأن حمادًا كان مشهورًا بأنه ضنين برواية الشعر وإنشاده3. 3- أبو عمرو بن العلاء وحماد: أما الخبر الذي سقناه عن تقديم أبي عمرو بن العلاء حمادًا على نفسه، وتقديم حماد أبا عمرو على نفسه ففيه توثيق لحماد، وهو -إن صح- يدعم ما ذهبنا إليه من أن رأي العلماء الذين عاصروا حمادًا وكانوا من طبقته -إذا ما جُرِّد من العصبية والتحامل- لم يكن كالرأي الذي شاع بعد أن شوهته الأخبار والروايات. ولرأي أبي عمرو في حماد قيمة خاصة إذ أن أبا عمرو بصري، بل رأس علماء البصرة، وكان ثقة مأمونًا حتى عند الكوفيين وقد يضعِّف من هذا الخبر أن راويه أبو عمرو الشيباني وهو كوفي، ولكن أبا عمرو الشيباني ثقة، لم يضعفه أحد فيما يروي، وإن   1 مراتب النحويين: 80. 2 المصدر السابق: 79. 3 نزهة الألباء: 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 كانوا نالوا منه لاستهتاره في الشراب. ومع ذلك فثمة خبر يدعم هذا الخبر وقد رواه عن أبي عمرو رأس من رءوس علماء البصرة، هو تلميذه الأصمعي قال1، قال أبو عمرو: ما سمع حماد الراوية حرفًا قط إلا سمعته. ومن أجل ذلك كله نميل إلى أن أبا عمرو بن العلاء، ومن في منزلته من علماء الطبقة الأولى، كانوا يقدرون حمادًا حق قدره، وكانوا يوثقونه ويعدلونه. 4- ابن سلام وحماد: أما ما رواه ابن سلام عن يونس من أن حمادًا وضع القصيدة الميمية في مدح أبي موسى الأشعري ونحلها الحطيئة، فمردود من وجهين، الأول: أن المدائني، وهو بصري، وكان معاصرًا لابن سلام رد عليه وذكر "أن الحطيئة قال هذه القصيدة في أبي موسى، وأنها صحيحة، قالها فيه وقد جمع جيشًا للغزو.."2 والوجه الثاني: أن العلماء الذين جمعوا ديوان الحطيئة وشرحوه بعد حماد أثبتوا هذه القصيدة في ديوانه، ولم يأخذوا بالرأي الذي أورده ابن سلام عن يونس. فهذا ابن حبيب قد روى هذه القصيدة عن ابن الأعرابي وعن أبي عمرو الشيباني معًا، وأثبتها السكري عن ابن حبيب في شرحه لديوان الحطيئة3. ويدعم هذين الوجهين أن ابن سلام روى خبر وضع حماد لهذه القصيدة ونحلها الحطيئة عن يونس، ويونس بصري، كابن سلام، وكلاهما يضعف الكوفيين ويتهمهم بالكذب والوضع والتزيد. فيونس ذكر حمادًا في الخبر الثاني الذي أوردناه وقال: العجب لمن يأخذ عن حماد، كان يكذب ويلحن ويكسر. وقد مر بنا أن ابن سلام قال في معرض حديثه عن   1 طبقات النحويين واللغويين: 31. 2 الأغاني 2: 176. 3 ديوان الخطيئة: 34-35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 الأسود بن يعفر "إن أهل الكوفة يروون له أكثر مما نروي ويتجوزون في ذلك بأكثر من تجوزنا". وقال أيضًا في معرض شعر رواه بعض أهل الكوفة: ونحن لا نعرف هذا ولا نقبله. ومن أجل هذا كله لا نملك أن نطمئن إلى ما رُوي من أن حمادًا وضع تلك القصيدة ونحلها الحطيئة، ولا نملك أن نطمئن إلى أحكام يونس وابن سلام على حماد. 5- خلف الأحمر وحماد: أما الأخبار الأربعة التي أوردناها عن خلف وحماد فثلاثة منها توثق حمادًا توثيقًا ما بعده من توثيق، فقد جاء في الخبر الأول أن حمادًا "أخذ عنه أهل المصرين "البصرة والكوفة"، وخلف الأحمر خاصة". وأكد الخبر الثاني ما جاء في هذا الخبر الأول، فذكر أن أهل الكوفة قرءوا أشعارهم على خلف بعد وفاة حماد لأن خلفًا "كان قد أكثر الأخذ عنه". وكذلك جاء في الخبر الثالث أن خلفًا الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه. فإذا كان حماد بهذه المنزلة التي تذكرها هذه الأخبار، وكان أستاذًا لأهل الكوفة، وبعض أهل البصرة وخاصة خلفًا فكيف يستقيم ذلك مع الخبر الرابع الذي يذكر فيه خلف أن حمادًا "كان فيه حمق"، وأن خلفًا قال: كنت آخذ من حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب وأعطيه المنحول، فيقبل ذلك مني ويدخله في أشعارها. وليس هذا التناقض وحده بين هذا الخبر والأخبار الثلاثة قبله هو الذي يكشف عن زيف هذا الجبر، بل إنه كذلك ليتناقض مع ما قدمنا من رأي العلماء في حماد وهو أنه كان عالمًا بلغات العرب وأشعارها، ومذاهب الشعراء معانيهم، فكيف يكون علمه هذا إذا جاز عليه ما تزعمه هذه الرواية من منحول الشعر الذي كان يعطيه إياه خلف؟ بل ثمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 تناقض ثالث: فقد مر بنا أن حمادًا اتهم بأنه -لكثرة علمه بلغات العرب وشعرهم ومذاهب الشعراء ومعانيهم- كان ينظم الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل عنه ذلك في الآفاق. ولكن هذا الخبر يصور لنا حمادًا ثقة فيما يروي لأن خلفًا يعترف بأنه كان يأخذ منه الصحيح من أشعار العرب؛ ثم إنه يصور لنا حمادًا في صورة الجاهل الأحمق الذي يستجهله حتى تلميذه فيعطيه المنحول من الشعر فيقبله ويجوز عليه! فنحن إذن -بعد ما عرضنا هذه الأخبار وبينا ما فيها من زيف- نميل إلى أن نعد أكثر ما اتهم به حماد موضوعًا، دعت إلى وضعه عوامل عدة منها: هذه العصبية التي كانت متأججة بين البصرة والكوفة؛ ومنها: تلك المنافسات والخصومات الشخصية كالتي كانت بين المفضل وحماد؛ ومنها: العصبية السياسية، فقد كان حماد أموي الهوى والنزعة، وكانت دولة بني أمية قد ولت وأقبلت دولة جديدة تناصبها العداء وتريد أن تمحو محاسنها وآثارها وتحط من قيمة من اشتهر فيها أو نال لديها حظوة؛ ومنها أن حمادًا كان -باعتراف الرواة- كثير الرواية واسع الحفظ1: فكان يروي ما لا يعرفه غيره، ويحفظ ما لا يحفظون، فاتهموه بالتزيد والوضع. وقد ساعد على كيل هذا الاتهام له وتضعيفه وتجريحه أنه كان ماجنًا مستهترًا بالشراب مفضوح الحال2.   1 انظر لذلك الأغاني 6: 71، 92-94. 2 انظر المصدر السابق 6: 80، 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 -3- ولكن الروايات والأخبار التي بين أيدينا لا تقتصر على اتهام حماد الكوفي، وإنما تتهم كذلك شيخًا من شيوخ البصرة المقدمين، ورأسًا من رءوس الرواية فيها، هو خلف الأحمر. وسنعرض هذه الأخبار والروايات في سمطين: ينتظم أولهما الأخبار التي تتهمه بالوضع والنحل، وينتظم ثانيهما الأخبار التي توثقه وتعدله. ثم نعقب عليهما بمناقشة الأخبار الأولى ونقدها. 1- الأخبار التي تتهمه بالوضع والنحل: أ- قال محمد بن يزيد "المبرد"1: "كان خلف أخذ النحو عن عيسى بن عمر، وأخذ اللغة عن أبي عمرو، ولم يُرَ أحد قط أعلم بالشعر والشعراء منه، وكان به يضرب المثل في عمل الشعر؛ وكان يعمل على ألسنة الناس فيشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يضعه عليه؛ ثم نسك فكان يختم القرآن في كل يوم وليلة؛ وبذل له بعض الملوك مالًا عظيمًا خطيرًا على أن يتكلم في بيت شعر شكوا فيه فأبى ذلك، وقال: قد مضى لي في هذا ما لا أحتاج إلى أن أزيد فيه. وعليه قرأ أهل الكوفة أشعارهم، وكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية لأنه كان قد أكثر الأخذ عنه، وبلغ مبلغًا لم يقاربه حماد، فلما تقرأ ونسك خرج إلى أهل الكوفة، فعرَّفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة. فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم.   1 مراتب النحويين: 75-71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 ب- قال أبو حاتم عن الأصمعي1: "كان خلف مولى أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ... وكان أعلم الناس بالشعر، وكان شاعرًا، ووضع على شعراء عبد القيس شعرًا موضوعًا كثيرًا، وعلى غيرهم، عبثًا بهم، فأخذ ذلك عنه أهل البصرة وأهل الكوفة". ج- قال أبو حاتم2: "ولما قدم الأصمعي من بغداد دخلت إليه، فسألته عمن بها من رواة الكوفة. قال: رواة غير منقحين، أنشدوني أربعين قصيدة لأبي دؤاد الإيادي قالها خلف الأحمر. وهم قوم تعجبهم كثرة الرواية، إليها يرجعون، وبها يفتخرون". د- وقال أبو عبيدة3: "قال خلف: كنت آخذ من حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب وأعطيه المنحول، فيقبل ذلك مني ويدخله في أشعارها؛ وكان فيه حمق". هـ- قال أبو علي القالي4: "كان أبو محرز أعلم الناس بالشعر واللغة، وأشعر الناس على مذاهب العرب. حدثني أبو بكر بن دريد: أن القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى التي أولها: أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل له، وهي من المقدمات في الحسن والفصاحة والطول، فكان أقدر الناس على قافية". و وقال ابن عبد ربه5: "كان خلف مع روايته وحفظه يقول الشعر فيحسن وينحله الشعراء، ويقال إن الشعر المنسوب إلى ابن أخت   1 مراتب النحويين: 75. 2 المرزباني، الموشح: 251-252. 3 الأغاني 6: 92. 4 الأمالي 1: 156. 5 العقد 6: 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 تأبط شرًّا، وهو: إن بالشعب إلى جنب سلع ... لقتيلا دمه ما يطل لخلف الأحمر، وإنما ينحله إياه". وكان الجاحظ قد ذكر1: "وقال تأبط شرًّا أو أبو محرز خلف بن حيان الأحمر: مسبل بالحي أحوى رفل ... وإذا يعدو فسمع أزل2 وكذلك قال ابن قتيبة إن خلفًا الأحمر هو القائل: إن بالشعب إلى جنب سلع ... لقتيلًا دمه ما يطل "ونحله ابن أخت تأبط شرًّا. وكان يقول الشعر وينحله المتقدمين"3. 2- الأخبار التي توثقه وتعدله: أ- قال ابن سلام:4 "خلف بن حيان، أبو محرز، وهو خلف الأحمر -اجتمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت شعر، وأصدقه لسانًا. كنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبرًا أو أنشدنا شعرًا، ألا نسمعه من صاحبه". وقال أبو زيد الأنصاري أيضًا5 "أتيت بغداد حين قام المهدي محمد، فوافاها العلماء من كل بلدة بأنواع العلوم، فلم أر رجلًا أفرس ببيت شعر من خلف".   1 الحيوان1: 182-183. 2 السمع: ولد الذئب والضبع. والأزل: الأرسح وهو خفيف العجز. يقول: إنه يسبل إزاره خيلاء وكبرًا ويتبختر ذاهبًا في الترفه إلى أرفع الدرجة، أو إنه يسبل شعرًا أحوى أي أسود. 3 الشعر والشعراء 2: 765. 4 طبقات الشعراء: 21. 5 ابن النديم، الفهرست: 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 ب- قال أبو حاتم1: "قال الأصمعي: كأنما جعل علم لغة ابني نزار، ومن كان من بني قحطان على لغة ابني نزار، بين جوانح خلف الأحمر بمعانيها". ج- وقال عيسى بن إسماعيل2: "سمعت الأصمعي -وذكر خلفًا الأحمر أبا محرز- فقال: ذهبت بشاشة الشعر بعد خلف الأحمر. فقيل له: كيف وأنت حي؛ فقال: إن خلفًا كان يحسن جميعه وما أحسن منه إلا الحواشي". د- قال أبو عبيدة3: "خلف الأحمر معلم الأصمعي ومعلم أهل البصرة". هـ- وقال أبو علي القالي4: "وكنت أنا كثير التعطف للأصمعي، فكنت أسأل أبا بكر بن دريد كثيرًا عن خلف والأصمعي: أيهما أعلم؟ فيقول لي: خلف. فلما أكثرت عليه انتهرني، وقال: أين الثماد من البحور! ". و وقال الرياشي5: "سمعت الأخفش يقول: لم ندرك هاهنا أحدًا أعلم بالشعر من خلف والأصمعي. قلت: أيهما كان أعلم؟ قال: الأصمعي. قلت: لم؟ قال: لأنه كان أعلم بالنحو. 3- مناقشة ونقد: أ- ونحب أن نقف قليلًا عند هذا التناقض الواضح بين أخبار الطائفة الأولى وأخبار الطائفة الثانية: فخلف معلم الأصمعي ومعلم أهل البصرة؛ والأصمعي يقول بعد موت خلف: ذهبت بشاشة الشعر،   1 طبقات النحويين واللغويين: 179. 2 المصدر السابق: 180. 3 نزهة الألباء: 70. 4 طبقات النحويين واللغويين: 179. 5 المصدر السابق: 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 ويقدمه على نفسه ثم يقول عنه كأنما جعل علم لغة العرب بين جوانح خلف الأحمر بمعانيها. وأبو بكر بن دريد يفضل خلفًا على الأصمعي ويجعله بحرًا والأصمعي ثمادًا. ومع ذلك فهذا الأصمعي نفسه يذكر أن خلفًا كان يضع الشعر وأنه وضع على شعراء عبد القيس شعرًا موضوعًا كثيرًا وعلى غيرهم عبثًا بهم، وأنه وضع أربعين قصيدة ونحلها أبا دؤاد الإيادي. وابن دريد -على تقديمه خلفًا- يذكر أن خلفًا هو قائل القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى. ولرب معترض يقول: إن وصف أخبار الطائفة الثانية خلفًا بالعلم لا تعني توثيقه في الرواية، وبذلك لا تتناقض مع أخبار الطائفة الأولى. وهذا القول مردود من وجهين؛ الأول: أن من الجائز ألا يعني الوصف بالعلم أن الموصوف به مُوثَّق في الرواية لو نُص على ذلك في الخبر نفسه، كما جاء في الخبر "ب" من الطائفة الأولى حيث قال الأصمعي عن خلف: "كان أعلم الناس بالشعر ... وضع على شعراء عبد القيس شعرًا موضوعًا كثيرًا". أما أن يوصف بالعلم ويوقف عند ذلك ولا يُنص على تضعيفه في الرواية، فإن في هذا الإغفال نفسه دليلًا على التوثيق والتعديل؛ لأن الكلام حينئذٍ ملتبس، ولا بد لإيضاحه من النص على التضعيف والاتهام لو قُصدا. على أن كلامنا هذا يزيد اتضاحه في الوجه الثاني من وجوه ردنا، وذلك هو نص ابن سلام الذي أوردناه. فابن سلام ينص على علم خلف بالشعر وينص كذلك على توثيقه في الرواية، ثم لا يكتفي بأن يجعل ذلك رأيًا خاصًّا به وإنما يذكر أن هذا الرأي هو إجماع علماء البصرة، قال ابن سلام: "اجتمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت شعر، وأصدقه لسانًا، كنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبرًا أو أنشدنا شعرًا ألا نسمعه من صاحبه". ولرأي ابن سلام قيمة خاصة إذ أن ابن سلام هو من نعرف شكًّا في بعض الشعر الجاهلي، ونصًّا على بعض المنحول منه، وذكرًا لبعض الرواة الوضاعين وأخبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وضعهم. والحق أن ابن سلام لم يكتف بكل هذا الذي قاله في توثيق خلف، وإنما أضاف إليه أقوالًا أخرى ذهب فيها إلى أن خلفًا كان ناقدًا للشعر الجاهلي، يميز صحيحه من فاسده، وينص على المنحول منه، ويرد كثيرًا مما كان يُروَى في زمنه. ومن أجل هذا جاءه خلاد بن يزيد الباهلي -"وكان خلاد حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله"- فقال له1: "بأي شيء ترد هذه الأشعار التي تُروَى؟ " فقال له خلف: "هل فيها ما تعلم أنت أنه مصنوع لا خير فيه؟ قال: نعم. قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم بالشعر منك؟ قال: نعم. قال: فلا تنكر أن يعلموا من ذلك أكثر مما تعلمه أنت". وهو يصوره أيضًا أنه -في شكه في بعض الشعر الجاهلي- لا يقطع ولا يجزم، وإنما يقول إن هذه الأبيات أو تلك القصيدة "يقال" إنها لفلان؛ فمن ذلك أن ابن سلام سأله عن بيت من الشعر: من يقوله؟ فأجابه: "يقال للزبير بن عبد المطلب"2. ب- وفي أخبار الطائفة الأولى، وهي التي تتهم خلفًا بالوضع والنحل، أمر غريب حقًّا: فخلف بصري، والعلماء الذين يروون أخبار وضعه ونحله بصريون كذلك -مما يكاد يوهم أن هذه الأخبار صحيحة، فقد شهد بها بصريون على بصري، وبذلك فهي بعيدة عما ذكرناه آنفًا من أمر العصبية وما تدفع إليه من الاتهام. غير أننا حين ننعم في هذه الأخبار النظر نجد أنها لا تتهم حقًّا إلا الكوفيين، وأن خلفًا لا يعدو أن يكون معبرًا يجتازونه ليصلوا منه إلى اتهام علماء الكوفة ورواتها. واتخذوا خلفًا وسيلة لذلك لأنه -كما أسلفنا القول- قد أخذ عن حماد الكوفي، ثم أخذ الكوفيون بعد ذلك عن خلف. ففي الخبر "أ" "وعليه قرأ أهل الكوفة أشعارهم، وكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية لأنه كان قد أكثر الأخذ عنه،   1 طبقات الشعراء: 8. 2 المصدر السابق: 205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وبلغ مبلغًا لم يقاربه حماد، فلما تقرأ ونسك خرج إلى أهل الكوفة، فعرفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس؛ فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة. فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم". وفي الخبر "جـ" جعل الرواة الأصمعي يتهم خلفًا بالوضع ليصلوا إلى أن رواة الكوفة "رواة غير منقحين، أنشدوني أربعين قصيدة لأبي دؤاد الإيادي قالها خلف الأحمر، وهم قوم تعجبهم كثرة الرواية، إليها يرجعون. وبها يفتخرون". وجعل الرواة، في الخبر "د"، خلفًا يعترف بأنه كان ينحل الشعر، ليصلوا إلى أنه أعطى هذا الشعر لحماد الراوية الكوفي، فقلبه، ورواه، وأدخله في أشعار العرب. ومن أجل هذا نجد أن كثيرًا من هذه الأخبار -بالرغم من أن رواتها بصريون يتهمون راوية بصريًّا- قد انتهت إلى غايتها وكشفت بذلك عن عوارها. جـ- ومما يدلنا على مبلغ تجني بعض الرواة على خلف، ومدى ما انتهت إليه هذه الضروب المتعددة من العصبيات والخصومات أنهم وضعوا شعرًا ورجزًا على لسان خلف الأحمر وغيره من العلماء الرواة، ثم نسبوا إليه أنه وضع ذلك الشعر ونحله القدماء. قال الجاحظ1: "ولقد ولَّدوا على لسان خلف الأحمر، والأصمعي، أرجازًا كثيرة؛ فما ظنك بتوليدهم على ألسنة القدماء؟ ". ولعل في هذا ما يكشف لنا عن مدى الثقة التي يجب أن نوليها مثل هذه الروايات والأخبار التي تتهم خلفًا، وعرضنا طرفًا منها.   1 الحيوان 4: 181-182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 د- ونحب أن نكشف عن أمر آخر، يتصل بهذا الذي قالوه من أن خلفًا قال القصيدة اللامية: إن بالشعب إلى جنب سلع ... لقتيلًا دمه ما يطل ونحلها تأبط شرًّا. فقد اختلف القدماء في نسبتها: فنسبها بعضهم، كأبي تمام في حماسته1، إلى تأبط شرًّا، ولم يشر إلى أنها قد تنسب إلى غيره. ونسبها بعضهم إلى الشنفرى2، ولم يشر كذلك إلى أنها قد تنسب إلى غيره. وقد يتداخل بعض شعر الشَّنْفَرَى وتأبط شرًّا، ويُنسب ما قاله أحدهما إلى الآخر لأنهما كانا من اللصوص وصعاليك العرب وفُتَّاكهم، وأكثر ما يتحدثان عنه في شعرهما متشابه. ونسبها بعضهم إلى ابن أخت تأبط شرًّا قالها في خاله. ونحن، في هذا المقام، لا يعنينا التثبت من نسبتها إلى واحد من هؤلاء الثلاثة، فسواء أكانت لتأبط شرًّا أم لابن أخته أم للشنفرى، فهي عندنا -هنا- جاهلية صحيحة وليست منحولة. ولكننا نحب أن نقف قليلًا عند أقوال من ذهبوا إلى أنها منحولة. ولنبدأ بما أورده التبريزي، قال3: "قال النمري4: ومما يدل على أنها لخلف الأحمر قوله فيها: "جلَّ حتى دقَّ فيه الأجل" فإن الأعرابي لا يكاد يتغلغل إلى مثل هذا. قال أبو محمد الأعرابي5: هذا موضع المثل "ليس بعشك فادرجي"، ليس هذا كما ذكره، بل الأعرابي قد يتغلغل إلى أدق من هذا لفظًا ومعنى. وليس من هذه الجهة عُرِف أن الشعر   1 ج1 ص348. 2 الأغاني 6: 86-87، وأمالي المرتضى 1: 280. 3 شرح الحماسة "تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد" 2: 313-314. 4 أحد شراح حماسة أبي تمام المتقدمين، قبل التبريزي. 5 هو الحسن بن أحمد، المعروف بالأسود الغندجاني، علامة نسابة، عارف بأيام العرب وأشعارها، من رجال آخر القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس. "ترجمته في نزهة الألباء: 239، ومعجم الأدباء 7: 261-265". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 مصنوع، لكن من الوجه الذي ذكره لنا أبو الندى1، قال: مما يدل على أن هذا الشعر مولد أنه ذكر فيه سلعًا، وهو بالمدينة، وأين تأبط شرًّا من سلع؟ وإنما قُتل في بلاد هذيل ورُمي به في غار يقال له رخمان". أرأيت إلى إقامة الدليل كيف تكون؟ لقد أحس الأقدمون أنفسهم بضعف قول من قال إن هذه القصيدة لخلف نحلها تأبط شرًّا أو ابن أخته، فمضوا يعتسفون الطريق إلى دليل يدعمون به هذا القول، فكان دليلهم ظنًّا وتوهمًا لم يغنيا شيئًا. قال بعضهم إن في هذه القصيدة نصف بيت -نصف بيت في القصيدة كلها- فيه معنى فلسفي عميق لا يدركه الأعرابي، وما هو هذا المعنى الفلسفي العميق؟ قالوا إنه قوله: جل حتى دق فيه الأجل. فإذا كشفت عن عمق هذا المعنى لم تجده يعني شيئًا غير قوله: إن وفاة هذا الرجل لأمر عظيم يصغر بإزائه كل عظيم من الأمور. فأي عمق في هذا القول لا يدركه الأعرابي ومن هو دون الأعرابي2؛ فلما جاء من دفع هذا القول ورده لم يلبث أن هوى في مزلق دونه المزلق الأول، فقال: إن الدليل على أن هذه القصيدة مصنوعة أن الشاعر ذكر سلعًا، وأن سلعًا جبل في المدينة، ولكن الرجل المذكور في القصيدة قد قتل في بلاد هذيل!! أي عجب يربى على هذا العجب! وماذا يقول أبو الندى -الذي ذهب إلى هذا الرأي ونقله عنه أبو محمد الأعرابي-   1 هو محمد بن أحمد، أبو الندى؛ كان أبو محمد الأعرابي يكثر من الرواية عنه والاعتماد عليه. "ترجمته في معجم الأدباء 17: 159-164". قال عنه ياقوت "7: 262" إنه "رجل مجهول لا معرفة لنا به". وقال: "وكان أبو يعلى بن الهبارية الشاعر يعيره "أي: يعير أبا محمد الأعرابي" بذلك، ويقول: ليت شعري، من هذا الأسود الذي قد نصب نفسه للرد على العلماء، وتصدى للأخذ على الأئمة القدماء؟ بماذا نصحح قوله ونبطل قول الأوائل، ولا تعول له فيما يرويه إلا على أبي الندى، ومن أبو الندى في العالم؟ لا شيخ مشهور، ولا ذو علم مذكور .... ! ". 2 انظر كتاب المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، تأليف الدكتور عبد الله الطيب ص76-77 التعليق رقم: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 لو قيل له: إن سلعًا اسم لعدة مواضع، ومنها -كما قال الأقدمون أنفسهم- "جبل لهذيل"1!! فإذا شككت -كما نشك نحن الآن- في أمر هذا الخبر الذي يتهم خلفًا بوضع هذه القصيدة ونحلها الشنفرى أو تأبط شرًّا أو ابن أخته، وإذا رجح لديك -كما رجح لدينا- أن أكثر هذه القصيدة لا يمكن أن يكون موضوعًا متكلفًا منحولًا لما يظهره فيها النقد الفني الداخلي من أصالة، وصدق فني، وشخصية صادقة - فقد بقي إذن أن نعرف كيف التبس أمرها على القوم. وقد عثرنا على خبر طريف يوضح لنا الأمر من جميع أطرافه: فقد أورد الخالديان اثني عشر بيتًا من هذه القصيدة ونسباها للشنفرى، ثم قالا2 "وقد زعم قوم من العلماء أن الشعر الذي كتبنا للشنفرى هو لخلف الأحمر، وهذا غلط. ونحن نذكر الخبر في ذلك: أخبرنا الصولي عن أبي العيناء قال: حضرت مجلس العتبي، ورجل يقرأ عليه الشعر للشنفرى، حتى أتى على القصيدة التي أولها: إن بالشعب الذي دون سلعٍ ... لقتيلًا دمه ما يطل فقال بعض من كان في المجلس: هذه القصيدة لخلف الأحمر. فضحك العتبي من قوله، فسألناه عن سبب ضحكه فقال: والله ما لآل أبي محرز خلف من هذه القصيدة بيت واحد. وما هي إلا للشنفرى. وكان لها خبر طريف لم يبق من يعرفه غيري. قلنا: وما خبرها؟ قال. جلسنا يومًا   1 الفيروزبادي، القاموس "سلع"؛ وكذلك ياقوت، معجم البلدان "وسلع جبل في ديار هذيل" وأنشد ثلاثة أبيات للبريق الهذلي آخرها: يحط العصم من أكناف شعر ولم يترك بذي سلع حمارًا 2 حماسة الخالديين "مخطوط في دار الكتب المصرية رقم 587 أدب" ورقة: 120-122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 بالمريد، ونحن جماعة من أهل الأدب، ومعنا خلف الأحمر، نتذاكر أشعار العرب، وكان خلف الأحمر أروانا لها وأبصرنا بها؛ فتذاكرنا منها صدرًا، ثم أفضينا إلى أشعارنا، فخضنا فيها ساعة، فبينا خلف ينشدنا قصيدة له في روي قصيدة الشنفرى هذه وقافيتها يذكر فيها ولد أمير المؤمنين عليهم الرحمة، وما نالهم وجرى عليهم من الظلم، إذ هجم علينا الأصمعي، وكان منحرفًا عن أهل البيت، وقد أنشد خلف بعض الشعر، فلما نظر الأصمعي قطع ما كان ينشده من شعره ودخل في غيره إلا أنه على الوزن والقافية، ولم يكن فينا أحد عرف هذا الشعر ولا رواه للشنفرى. فتحيرنا لذلك وظنناه شيئًا عمله على البديهة. فلما انصرف الأصمعي قلنا له: قد عرفنا غرضك فيما فعلت. وأقبلنا نطريه ونقرظه. فقال: إن كان تقريظكم لي لأني عملت الشعر، فما عملته والله، ولكنه للشنفرى يرثي تأبط شرًّا، ووالله لو سمع الأصمعي بيتًا من الشعر الذي كنت أنشدكموه ما أمسى أو يقوم به خطيبًا على منبر البصرة فيتلف نفسي. فادعاء شعر لو أردت قول مثله ما تعذر علي أهون عندي من أن يتصل بالسلطان، فألحق باللطيف الخبير. قال أبو العيناء: فسألنا العتبي شعر خلف الذي ذكره فيه أهل البيت فدافعنا مدة ثم أنشد: قدك مني صارم ما يفل ... وابن حزم عقده لا يحل ينثني باللوم من عاذليه ... ما يبالي أكثروا أم أقلوا "وهي 47 بيتًا أوردها كلها، ثم قال": كتبنا هذه القصيدة بأسرها لأنها في سادتنا عليهم السلام، ولأنها أيضًا غريبة لا يكاد أكثر الناس يعرفها". هـ- وأمر أخير نختم به حديثنا عن خلف الأحمر. وذلك هو الخبر الذي رووا فيه أنه وضع لأهل الكوفة شعرًا كثيرًا رووه عنه "فلما تقرأ ونسك خرج إلى أهل الكوفة، فعرفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس. فقالوا له: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة، فبقي ذلك في دواوينهم". وقد أشرنا إلى أن راوي هذا الخبر بصري ممن كان يتعصب على الكوفيين، وأن الغرض من هذا الخبر توهين رواية الكوفيين للشعر. ونحب في هذا المكان أن نسأل: مَنْ مِنْ رواة الكوفة أبى أن يقبل من خلف اعترافه: أكلهم أم بعضهم؟ فإذا كانوا جميعًا لم يقبلوا ذلك ففي الأمر إجماع واتفاق يعز مثلهما في أمر أيًّا كان؛ وإن كان بعضهم لم يقبل، وبعضهم قبل، فما هي القصائد التي اعترف بها خلف وأين ذكرها علماء الكوفة الذين قبلوا اعتراف خلف؟ ولو تركنا أهل الكوفة وتساءلنا عن أهل البصرة: ألم يسمع بعضهم بما اعترف به خلف لأهل الكوفة؟ فإذا كان أهل الكوفة لم يقبلوا اعترافه، فهل قبل ذلك أهل البصرة؟ وأين نصوا على هذه القصائد التي وضعها؟ ثم، إذا كان أهل البصرة قد علموا بذلك وقبلوا اعتراف خلف فقد ثبت لديهم إذن أن خلفًا كان يكذب ويضع الشعر وينحله الأقدمين؛ فكيف إذن وثقوه وقبلوا روايته؟ بل كيف وثقه الأصمعي وابن سلام -وهما من هما- توثيقًا لم يوثقاه أحدًا؟ والجواب على ذلك واضح، فقد وثقوه لأنه كان ثقة، ولأن هذا الخبر الذي رواه المبرد أو نسب إليه خبر لم يقبله أحد لأنه مما دعت إليه العصبيات والخصومات ... وبعد؛ فلسنا نقصد إلى الحديث عن سائر العلماء من رواة الشعر، فإن حديثنا حينئذٍ لا ينتهي بنا إلى غاية نقف عندها، ونحن نرى أن في حديثنا عن حماد وخلف -وهما أشهر من رُمي بالوضع وأكثر من اتهم بالنحل- ما يغني عنه الاستقصاء والإفاضة. غير أننا نحب أن نشير إلى عالم ثالث من رواة الشعر واللغة، ثقة أي ثقة عند الكثيرين، ومع ذلك لم يعدم من يضغن عليه فيرميه بالوضع والتزيد: ذلك هو الأصمعي. وسنقتصر على خبرين فيهما تأييد لما ذهبنا إليه من أمر هذه الخصومات والمنافسات والعصبيات وما تدعو إليه من اتهام بالوضع ورمي بالكذب. فقد كان ابن الأعرابي، وهو كوفي، ينتقص الأصمعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 -وهو بصري- ويرميه بمثل ما قدمنا؛ وكان يصح أن نرى مرد هذا الاتهام إلى العصبية التي أشرنا إلى بيان أمرها. ولكننا نجد خبرًا ذا قيمة كبيرة لنا في هذا المجال يرجع اتهام ابن الأعرابي الأصمعي إلى خصومة شخصية. قالوا1: "كان أول من أغرى ابن الأعرابي بالأصمعي أن الأصمعي أتى ولد سعيد بن سلم الباهلي، فسألهم عما يروونه من الشعر، فأنشده بعضهم القصيدة التي فيها: سمين الضواحي لم تؤرقه ليلة ... وأنعم أبكار الهموم وعونها2 فقال الأصمعي: ما رواك هذا الشعر؟ قال: مؤدب لنا يعرف بابن الأعرابي. فقال: أحضروه. فأحضروه، فقال له: هكذا رويتهم هذا البيت برفع "ليلة"؟ قال: نعم. فقال الأصمعي: هذا خطأ، إنما الرواية "ليلةً" بالنصب، يريد: لم تؤرقه أبكارًا الهموم وعونها ليلةً من الليالي. فقال الأصمعي لسعيد: من لم يحسن هذا القدر فليس موضعًا لتأديب ولدك! فنحَّاه سعيد. فكان ذلك سبب طعن ابن الأعرابي على الأصمعي". وأما الخبر الثاني فهو حديث لأبي الطيب اللغوي فيه بيان جوانب كثيرة من حديثنا الذي قدمناه، قال في معرض حديثه عن الأصمعي3: "فأما ما يحكيه العوام وسُقَّاط الناس من نوادر الأعراب، ويقولون: هذا مما افتعله الأصمعي، ويحكون أن رجلًا رأى عبد الرحمن ابن أخيه فقال: ما فعل عمك؟ فقال: قاعد في الشمس يكذب على الأعراب. فهذا باطل، ما خلق الله منه شيئًا، ونعوذ بالله من معرة جهل قائليه وسقوط الخائضين فيه. وكيف يقول ذلك عبد الرحمن ولولا عمه لم يكن شيئًا؟ وكيف يكذب عمه وهو لا يروي شيئًا إلا عنه؟ وأنَّى يكون الأصمعي كما زعموا وهو لا يفتي إلا فيما أجمع عليه العلماء ويقف عما يتفردون.   1 السيوطي، المزهر 2: 322 و 380. 2 الضواحي: ما بدا من الجسد. وأنعم: زاد في هذه الصفة. 3 مراتب النحويين ورقة: 80-83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 به عنه ولا يجوِّز إلا أفصح اللغات ويلج في دفع ما سواه..؟.. وكان أبو زيد وأبو عبيدة يخالفانه ويناوئانه كما يناوئهما، فكلهم كان يطعن على صاحبيه بأنه قليل الرواية ولا يذكره بالتزيد؛ وكان أبو زيد أقلهم طعنًا على غيره؛ وكان أبو عبيدة يطعن على الأصمعي بالبخل وضيق العطن؛ فكان الأصمعي إذا ذكر أبا عبيدة قال: ذاك ابن الحائك ... فانظر إلى هذا الإنصاف بينهم من شدة المنافسة، ثم لا يتهم أحدهم صاحبه بالكذب ولا يقرفه بالتزيد، لأنهم يبعدون عن ذاك ... ". وقد ذهب ابن جني إلى مثل ذلك، فقد عقد فصلًا عنوانه "باب في صدق النقلة وثقة الرواة والحملة" قال فيه: "هذا موضع من هذا الأمر لا يعرف صحته إلا من تصور أحوال السلف، وعرف مقامهم من التوقير والجلالة"، ثم ذكر من أخلاق بعض الرواة العلماء مثل أبي عمرو بن العلاء والأصمعي وأبي زيد وأبي عبيدة وأبي حاتم ما يوثقهم به ويدفع عنهم ما رُموا به. وقد قال عن الأصمعي: "وهذا الأصمعي، وهو صناجة الرواة والنقلة، وإليه محط الأعباء والثقلة ... كانت مشيخة القراء وأماثلهم تحضره وهو حدث لأخذ قراءة نافع عنه؛ ومعلوم قدر ما حذف من اللغة فلم يثبته؛ لأنه لم يقوَ عنده إذ لم يسمعه. وأما إسفاف من لا علم له، وقول من لا مسكة به: إن الأصمعي كان يزيد في كلام العرب ويفعل كذا ويقول كذا فكلام معفو عليه، غير معبوء به ... " ثم ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عما قدمناه من أمر العصبية بين البصرة والكوفة والخصومات التي نشأت بين العلماء الرواة، فيرى فيها رأيًا لا بأس من إيراده، إذ يرى في هذا الاتهام الذي كانوا يتبادلونه دليلًا على مدى تحريهم الدقة وتشددهم في الرواية، قال: "فإن قلت: فإنا نجد علماء هذا الشأن من البلدين، والمتحلين به من المصرين، كثيرًا ما يهجن بعضهم بعضًا، فلا يترك له في ذلك سماء ولا أرضًا. قيل: هذا أدل دليل على كرم هذا الأمر ونزاهة هذا العلم؛ ألا ترى إذا سبق إلى أحدهم ظنة، أو توجهت نحوه شبهة، سُبَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 بها، وبرئ إلى الله منه لمكانها. ولعل أكثر ما يرمى بسقطة في رواية، أو غمزة في حكاية، محمي جانب الصدق فيها، بريء عند الله من تبعتها؛ لكن أخذت عنه إما لاعتنان شبهة عرضت له، أو لمن أخذ عنه، وإما لأن ثالبه ومتعيبه مقصر عن مغزاه، مغضوض الطرف دون مداه؛ وقد عرض الشبهة للفريقين، ويعترض على كلا الطريقين. فلولا أن هذا العلم في نفوس أهله والمتفيئين بظله كريم الطرفين ... لما تسابوا بالهجنة فيه، ولا تنابزوا بالألقاب في تحصين فروجه ونواحيه ... وإذا كانت هذه المناقضات والمنافسات موجودة بين السلف القديم ... ثم لم يكن ذلك قادحًا فيما تنازعوا فيه، ولا عائدًا بطرف من أطراف التبعة عليه جاز مثل ذلك أيضًا في علم العرب الذي لا يخلص جميعه للدين خلوص الكلام والفقه له، ولا يكاد يعدم أهله الأنس به والارتياح لمحاسنه". -4- ومع ذلك كله فنحن لا نذهب -ولا يصح لأحد أن يذهب- إلى أن جميع ما في تضاعيف الكتب العربية من شعر منسوب إلى الجاهلية صحيح مبرأ من الوضع والنحل، ولكننا أردنا في حديثنا الذي قدمناه أن نفحص مواطئ أقدامنا حتى نمضي في يقين وثقة، ونصدر عن بصيرة وهدى، وأن نضع في الطريق أعلامًا، حتى لا نضل فيها ولا تعمى علينا معالمها. وقد قادنا البحث إلى أن هذا الشعر المنسوب إلى الجاهلية على ثلاثة أضرب: 1- فضرب موضوع منحول، إما على وجه اليقين القاطع وإما على وجه الترجيح الغالب. وأكثر شعر هذا الضرب ما وضعه القصاص ليحلوا به قصصهم، أو يكسبوه في نفوس السامعين والقارئين شيئًا من الثقة، وما وضعه هؤلاء القصاص على لسان آدم وغيره من الأنبياء أو على لسان بعض العرب البائدة، وما وضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 بعض الرواة ليثبتوا به نسبًا أو يدلوا به على أن لبعض العرب قدمة وسابقة. وقد أشرنا إلى بعض هذا الحديث في فصل مضى، وأشار إليه غيرنا في مواطن متفرقة، بحيث لا نحتاج إلى إعادة القول فيه؛ إذ أننا نراه أيسر هذه الضروب الثلاثة وأهونها لسهولة انكشافه ويسر افتضاحه، بحيث لا يكاد يعمى على أحد. 2- وضرب صحيح لا سبيل إلى الشك فيه أو الطعن عليه. وذلك هو الذي أجمع العلماء الرواة على إثباته بعد أن تدارسوا هذا الشعر وفحصوه ومحصوه. وقد مر بنا أن القدماء كانوا يميزون الراوية من العالم بالرواية والشعر، فيأخذون قول الأول في حذر واحتياط، ولا يقبلون منه إلا ما يطمئنون إلى صحته، ثم يأخذون قول الثاني واثقين مطمئنين إلا أن يظهر لهم من وجوه النقد ما يضعف من ثقتهم واطمئنانهم. وقد فصلنا القول في أمر هؤلاء العلماء بالرواية والشعر، وكيف كانوا -على اختلاف مدارسهم- يجدون في الجمع والاستقصاء، ثم في البحث والتمحيص حتى يميزوا الموضوع من الصحيح، فلا يحفلوا بالموضوع ويسقطوه من مروياتهم وكتبهم، أو يثبتوه وينبهوا عليه. ويحسن بنا أن نذكر بثلاثة أخبار كنا قد قدمناها شاهدة على ما نقول. الأول: أن خلفًا الأحمر كان رأسًا من رءوس الرواية، أخذ عنه البصريون جميعًا، وكان من هؤلاء العلماء الذين لا يقبلون من الشعر إلا ما ميزوا صحته، ولا يروون منه إلا ما اطمأنوا إلى أنه غير موضوع؛ حتى لقد جاءه يومًا خلاد بن يزيد الباهلي، وكان خلاد حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله، فقال له: "بأي شيء ترد هذه الأشعار التي تُروى؟ قال له: هل فيها ما تعلم أنت أنه مصنوع لا خير فيه؟ قال: نعم. قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم بالشعر منك؟ قال: نعم. قال: فلا تنكر أن يعلموا من ذلك أكثر مما تعلمه أنت"1 وحتى لقد قال له قائل يومًا2 "إذا سمعت أنا بالشعر أستحسنه فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك. قال له:   1 ابن سلام، طبقات فحول الشعراء: 8. 2 المصدر السابق: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 إذا أخذت أنت درهمًا فاستحسنته، فقال لك الصراف إنه رديء، هل ينفعك استحسانك له؟ ". ومن هؤلاء العلماء الرواة الذين جدوا في فحص الشعر الجاهلي ودراسته وروايته وتمييز موضوعه من صحيحه: أبو عبيدة معمر بن المثنى. فقد أتى -هو وابن نوح العطاردي- ابن داوود بن متمم بن نويرة لما قدم البصرة. فسألاه عن شعر أبيه متمم، وقاما له بحاجته، فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويضعها لهما، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها. فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله1. وقد قدمنا في الفصل الثاني من هذا الباب بعض تحقيقات أبي عبيدة في كتاب الخيل. وقد بلغ رواة الشعر وعلماؤه من التحقيق والتمحيص، وتمييز منحوله، والنص على الموضوع منه، منزلة جعلت بعض العلماء يفضلونهم على رواة الحديث، فقد قال محمد بن سلام2 "حدثني يحيى بن سعيد القطان قال: رواة الشعر أعقل من رواة الحديث؛ لأن رواة الحديث يروون مصنوعًا كثيرًا، ورواة الشعر ساعة ينشدون المصنوع ينتقدونه ويقولون: هذا مصنوع". وإذا ما سألنا -كما سأل خلاد بن يزيد الباهلي خلفًا الأحمر- عن مقاييس هؤلاء العلماء الرواة في نقد الشعر وتمييز صحيحه من منحوله ظننا بادئ الرأي أنه لم يكن لهؤالاء القوم مقاييس ثابتة معروفة، وأنهم، إذا ما أجابونا عن هذا السؤال، سيفرون من الإجابة الشافية كما فر منها خلف حينما قال لخلاد إنه إذا كان يعلم أن في الشعر ما هو مصنوع، وإذا كان يعلم أن في الناس من هو أعلم بالشعر منه، فعليه ألا ينكر أن يعلموا من ذلك أكثر مما يعلم. وكذلك حين شبه الناقد للشعر بالصراف من غير أن يذكر لنا مقياسًا واضحًا. ولكننا.   1 طبقات فحول الشعراء: 40. 2 ذيل الأمالي: 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 -حين نتعمق بالبحث ونستقصيه- لا نلبث أن نكشف أنه كانت بين أيديهم ثلاثة مقاييس: أ- ذوقهم الشعري الذي اكتسبوه عن علم ودراية بعد طول معاناة ودرس لهذا الشعر، شأنهم في ذلك شأن الصراف الذي أشار إليه خلف، والذي لا يكاد الدرهم يقع بين يديه حتى يميزه لكثرة ما مرن على هذا الضرب من المعاناة والمعرفة. ولكنهم لم يكونوا يستخدمون هذا المقياس وحده، وإنما كانوا يدعمونه ويقوونه بأحد المقياسين التاليين. ب- إجماع الرواة: ولكن هل وقع هذا الإجماع في شيء من الشعر الجاهلي؟ أجل، لقد وقع في كثير منه ولم يختلفوا إلا في بعضه، وقد بينا طرفًا من ذلك فيما مضى، وسنبين طرفًا آخر منه في هذا الفصل وما سيتلوه من فصول. ويتبين لنا مدى إجلالهم لإجماع الرواة في مثل قول ابن سلام1 "وقد اختلفت العلماء في بعض الشعر كما اختلفت في بعض الأشياء، أما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه" وقوله في إجماعهم على الموضوع من الشعر2 "وليس لأحد -إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه- أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي". ومن هنا أوردوا ما أجمع عليه العلماء على أنه صحيح لا سبيل إلى الطعن فيه، فقال ابن سلام3 "وأجمع الناس على أن الزبير بن عبد المطلب شاعر، والحاصل من شعره قليل، فمما صح عنه قوله: ... "وأورد الواقدي أبياتًا بعد أن قال4 "وهي ثبت لم أر أحدًا يدفعها". وأورد رجزًا في موطن آخر وقال5: "ما رأيت من أصحابنا أحدًا يدفعه". وإجماع الرواة الثقات هو الذي ذكره   1 طبقات الشعراء: 6. 2 المصدر السابق: 6. 3 المصدر السابق: 205. 4 المغازي: 150. 5 المصدر السابق: 277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الجاحظ في قوله1: "فالعلماء الذين اتسعوا في علم العرب، حتى صاروا إذا أخبروا عنهم بخبر كانوا الثقات فيما بيننا وبينهم، هم الذين نقلوا إلينا. وسواء علينا جعلوه كلامًا وحديثًا منثورًا، أو جعلوه رجزًا أو قصيدًا موزونًا". جـ- والمقياس الثالث الذي كان يعتمد عليه العلماء في القرنين الثالث والرابع ويزنون به هو: وجود الشعر في ديوان الشاعر أو ديوان القبيلة، فقد دون هذه الدواوين الثقات من العلماء الرواة، ولذلك قبلوا ما جاء فيها حين يجيء في صورة اليقين والقطع، وأما ما ذكره هؤلاء العلماء أنفسهم في تلك الدواوين على أنه مما يُشك فيه أو يتوقف عنده، فقد كانوا ينقلونه كما ذكروه بألفاظهم، وقد يبيحون لأنفسهم بحثه والنظر فيه. ومما يدل على مدى ثقتهم بما دونه العلماء في الدواوين الشعرية أن أبا الفرج ذكر شعرًا لامرئ القيس وقال2: "وهي قصيدة طويلة وأظنها منحولة" ثم قدم لظنه هذا بسببين الأول: "لأنها لا تشاكل كلام امرئ القيس"، وهو نقد داخلي، والثاني: لأنه "ما دونها في ديوانه أحد من الثقات"، وهو هذا النقد الخارجي الذي نحن بسبيله، وكذلك أورد أبو الفرج أشعارًا لدريد بن الصمة رواها ابن الكلبي، ثم قال أبو الفرج إنها "موضوعة كلها"، واستدل على ذلك بقوله3: "ما رأيت شيئًا منها في ديوان دريد بن الصمة على سائر الروايات". وأورد الآمدي أبياتًا نسبها إلى امرئ القيس بن مالك الحميري، ثم قال4: "وهي أبيات تُروَى لامرئ القيس بن حجر الكندي، وذلك باطل، إنما هي لامرئ القيس هذا الحميري"، ثم يقدم على ذلك دليله وهو أن هذه الأبيات مذكورة في ديوان القبيلة، قال: "وهي ثابتة في أشعار حمير".   1 الحيوان 4: 184. 2 الأغاني 9: 97. 3 المصدر السابق 10: 40. 4 المؤتلف والمختلف: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 فإذا ما استخدم العلماء هذه المقاييس الثلاثة، أو اكتفوا ببعضها -وكثيرًا ما يكون الثاني أو الثالث- اطمأنوا إلى ما يوردون، وثبتت عندهم صحته وقدمه. فمن ذلك أنك ترى أبا عبيدة يورد شعرًا جاهليًّا ويصفه بقوله إنه1 "الشعر الثابت الذي لا يُرَدُّ". ومن ذلك أيضًا أن الواقدي يورد شعرًا لحسان ويصفه بقوله2: "ثبت قديمه". وأن الجاحظ يطمئن إلى أنه يستشهد على بعض الأخبار "بالشاهد الصادق"3 و"بالأشعار الصحيحة"4، ويصف بعض ما يذكر من أشعار العرب وأخبارهم بأنها "أشعارهم المعروفة وأخبارهم الصحيحة"5. 3- وأما الضرب الثالث من ضروب الشعر الجاهلي، فهو المختلف عليه، الذي قال عنه ابن سلام "وقد اختلفت العلماء في بعض الشعر، كما اختلفت في بعض الأشياء". وفي هذا الضرب الثالث نقاط ينبغي أن ننبه عليها لنحيط بالموضوع من أطرافه. أ- أولها أن هذا الضرب يبدو -للقارئ العابر للكتب العربية- عظيمًا كبير القدر، وذلك لكثرة ما يقرأ من النص على أن هذا البيت موضوع وأن تلك الأبيات منحولة، ولكثرة ما يمر به من اتهام للرواة بالوضع والكذب والتزيد. ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها عند من ينعم النظر ويستقصي في البحث أن هذا الضرب ليس بالكثرة التي يبدو بها، وسيمر بنا في الباب التالي عند حديثنا عن الدواوين أن الراوية العالم من الطبقة الثانية أو الثالثة، يروي ديوان شاعر عن راويتين أو ثلاثة من الطبقة الأولى، فيورد كثيرًا من قصائد الديوان والإجماع منعقد على صحتها، ثم يشير في قصائد قليلة إلى أن هذه القصيدة قد رواها فلان.   1 النقائض: 238. 2 المغازي: 282. 3 البيان والتبيين 2: 4. 4 الحيوان 2: 107. 5 المصدر السابق 2: 320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 ولم يروها فلان، أو أن تلك القصيدة قد تُنسب إلى فلان وهو غير صاحب الديوان. وقد يجمع هذا الراوية -الذي قلنا إنه من الطبقة الثانية أو الثالثة- أبياتًا متفرقة ومقطعات صغيرة يضمها عنوان هو "المنحول من شعر فلان". وهو يقصد بالمنحول ما لم يروه هؤلاء الرواة العلماء الذي رووا هذا الديوان. فإذا ما أحصيت هذه الأبيات التي نص في تضاعيف الديوان أنها مما رواه فلان دون فلان، وضممت إليها ما جُمع في آخر الديوان بعنوان "المنحول من شعره" وجدتها كلها لا تكاد تعد شيئًا مذكورًا إذا قيست بالقصائد التي أجمع الرواة على صحتها، وسنبين تفصيل الأمر حينما نتحدث عن هذا الموضوع في حينه. أما ما يمر به القارئ من كثرة الروايات التي ترمي الرواة بالوضع والكذب والتزيد، فقد تحدثنا عنها حديثًا مفصلًا. ولكننا نحب هنا أن نزيد أمرًا جديدًا، وهو أن هذا القدح وذلك التهجين لم يمنعا العلماء والرواة من الأخذ عن بعضهم، فكأنما كان المقصود بأكثر هذا القدح والتهجين النيل من الرواة أنفسهم -لأسباب قد بيناها- دون أن ينال ذلك مما يروون من شعر. وقد مر بنا طرف من اتهام البصريين للكوفيين وإسقاطهم روايتهم ورميهم بالكذب والوضع والنحل، ولكن ذلك لم يحل بين البصريين والأخذ عن الكوفيين بل إن رأسين من رءوس الرواية البصرية قد أخذوا عن أكثر الكوفيين حظًّا من الاتهام، ونقصد خلفًا الأحمر والأصمعي وأخذهما عن حماد الراوية -كما قدمنا- بل إن اتهام البصريين لخلف نفسه -وقد عرضنا هذا الاتهام وفندناه- لم يمنعهم من الأخذ عنه، ولم يحل دون أن يكون خلف "معلم أهل البصرة"! والأمثلة على ذلك كثيرة. ولكننا نحب أن نشير إلى مثل أخير يكشف لنا عن حقيقة هذا الاتهام، وكيف أن المقصود منه الزراية بالشخص نفسه والنيل منه في حياته للأسباب التي ذكرناها، حتى إذا مات، وانتفت تلك الأسباب، عاد الذي أزرى به ونال منه وهجنه، فإذا به يقر له بالعلم ويوثقه. فهذا أبو محمد يحيى بن مبارك اليزيدي يتعصب للبصريين على الكوفيين، وقد نظم قصيدة يمدح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 نحويي البصرة ويهجو الكوفيين، وخاصة الكسائي، ويعيب مذهبهم، قال فيها بعد أن مدح نحاة البصرة1: وقل لمن يطلب علمًا ألا ... ناد بأعلى شرف ناد: يا ضيعة النحنو به مغرب ... عنقاء أودت ذات إصعاد أفسده قوم وأزروا به ... من بين أعتام وأوغاد ذوي مراء وذوي لُكنة ... لئام آباء وأجداد لهم قياس أحدثوه هم ... قيام سوء غير منقاد فهم من النحو ولو عمروا ... أعمار عادٍ في أبي جاد أما الكسائي فذاك امرؤ ... في النحو حارٍ غير مراد2 وهو لمن يأتيه جهلًا به ... مثل سراب البيد للصادي وهجا الكسائي وأصحابه من الكوفيين بقصيدة أخرى منها3: كنا نقيس النحو فيما مضى ... على لسان العرب الأُول فجاءنا قوم يقيسونه ... على لغى أشياخ قطربل فكلهم يعمل في نقض ما ... به يصاب الحق لا يأتلي إن الكسائي وأشياعه ... يرقون في النحو إلى أسفل فإذا ما بحثت عن سبب هذا الهجاء، ولم تكتف بهذه العصبية البصرية، وجدت أن بين اليزيدي والكسائي خصومة شخصية ومنافسة، وذلك لأن اليزيدي "كان مؤدب المأمون، والكسائي مؤدب أخيه محمد الأمين، وبينه وبين الكسائي مقارضة بسبب تأديبهما الأخوين"4. ومن أجل هذا كان كل همه في أن   1 السيرافي، أخبار النحويين البصريين: 41-44. 2 مراد: هكذا في الأصل، ولعل صوابها؛ حار غير مزداد، أي ينقص ولا يزيد، والحري: النقصان بعد الزيادة. 3 السيرافي: 40 4 مصدر السابق: 44-45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 يعيبه وينال منه، فلما مات الكسائي وانقضت تلك المنافسة والخصومة عاد اليزيدي واعترف للكسائي بالعلم، فقال، في أبيات، يرثيه ويرثي محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة1: وأقلقني موت الكسائي بعده ... وكادت بي الأرض الفضاء تميد فأذهلني عن كل عيشٍ ولذةٍ ... وأرق عيني والعيون هجود هما عالمانا أوديَا وتخرمَا ... وما لهما في العالمين نديد ب- وأمر آخر جدير بالعناية، وهو أن كثيرًا من النص على "النحل" لا يعني أن هذا الشعر منحول موضوع حقًّا، وإنما غاية ما يعني أن هذا الراوية العالم يذهب إلى أن هذا الشعر منحول على حين يذهب غيره إلى أنه صحيح. فمرد الأمر إذن إلى خلاف في الحكم والرأي، مرجعه إلى اختلاف المصادر التي كان يأخذ عنها الرواة، وإلى اختلاف المناهج التي كان يحتكم إليها العلماء. وسنضرب لذلك بعض الأمثلة: 1- فقد مر بنا أن ابن سلام روى عن أبي عبيدة عن يونس بن حبيب أن حمادًا الراوية قال قصيدة في مدح أبي موسى الأشعري، وأنشدها بين يدي بلال بن أبي بردة بعد أن نحلها الحطيئة2. ولكن المدائني، وهو بصري مثل هؤلاء الثلاثة، يخالفهم في الرأي، وقد ذكر "أن الحطيئة قال هذه القصيدة في أبي موسى، وأنها صحيحة، قالها فيه وقد جمع جيشًا للغزو"3. 2- وقد ذكر أبو خليفة الفضل بن الحباب أنه رُوي لعباس بن مرداس بيت في عدنان، قال4:   1 السيرافي: 46. 2 طبقات الشعراء: 41. 3 الأغاني 2: 176. 4 طبقات الشعراء: 10-11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 وعك بن عدنان الذين تلعبوا ... بمذحج، حتى طردوا كل مطرد ثم قال "والبيت مريب عند أبي عبد الله" يعني ابن سلام. ولعل ابن سلام ارتاب في البيت لذكره عدنان "ولم يذكر عدنان جاهلي غير لبيد بن ربيعة". على حين أورده ابن هشام على أنه صحيح غير مريب، وذكر أنه أخذه عن أبي محرز خلف الأحمر وعن أبي عبيدة1. وكذلك أورده أبو عبد الله المصعب الزبيري على أنه صحيح ولم يشر إلى ارتيابه فيه كما أشار إلى ارتيابه في غيره من الأبيات التي تذكر الأنساب2. 3- وقد أورد المصعب الزبيري أبياتًا من الرجز تجعل نسب قضاعة في حمير لا في معد3، وذهب إلى أن هذه الأبيات موضوعة فقال "وزوروا ذلك شعرًا". وأورد الأبيات أيضًا أبو الفرج وروى عن مؤرج بن عمرو أنه قال4: "هذا قول أحدثوه بعدُ وصنعوا شعرًا ألصقوه به ليصححوا هذا القول ... وهذا شيء قيل في آخر أيام بني أمية". ومع ذلك فابن هشام الذي ولد بعد أيام بني أمية. والذي تعقب ابن إسحاق فيما أورد من الشعر ونقده وأسقط بعضه لأنه لم ير "أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرفها" ابن هشام هذا يورد الأبيات السابقة على أنها صحيحة، وعلى أنه يستدرك بها ما فات ابن إسحاق ذكره5. 4- وأورد ابن هشام قصيدة لأبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي، آخرها قوله6: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا   1 السيرة 1: 9. 2 نسب قريش: 5. 3 المصدر السابق: 5. 4 الأغاني 8: 91. 5 السيرة 1: 11-12. 6 المصدر السابق: 67-69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 وقال ابن هشام إن هذه القصيدة تُروَى لأمية بن أبي الصلت، وبعد أن أورد الأبيات مع هذا البيت الأخير قال "هذا ما صح له مما روى ابن إسحاق منها، إلا آخرها بيتًا ... فإنه للنابغة الجعدي". ولكن ابن سلام يذهب غلى غير هذا المذهب فقد عرض لهذا البيت وقال1 "ترويه عامر للنابغة، والرواة مجمعون أن أبا الصلت بن أبي ربيعة قاله". وقد أتى به مثلًا على أن الشاعر قد يستزيد في شعره بيتًا قاله من قبله كالمتمثل حين يجيء موضعه من غير أن يقصد اجتلابه أو سرقته. 5- وقد قال الرياشي2: "يقال إن كثيرًا من شعر امرئ القيس ليس له، وإنما هو لفتيان كانوا يكونون معه مثل عمرو بن قميئة وغيره". ولكن ابن سلام ينفي ذلك ويقول3: "وبنو قيس تدعي بعض شعر امرئ القيس لعمرو بن قميئة، وليس ذلك بشيء". جـ- ومما قد يوهم بالنحل والوضع أيضًا اختلاف الرواة في نسبة الشعر، فتراهم ينسبون بعضه إلى شاعرين أو ثلاثة شعراء جاهليين؛ والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا لا يعنينا إلا ما سنذكره بعد أن نورد مثلين عليها: الأول- أن الأبيات التي في وصف المطر ومنها: دانٍ مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح نسبها يونس بن حبيب لعبيد بن الأبرص، وعلى ذلك كان إجماع أهل البصرة4. "فلما قدم المفضل صرفها إلى أوس بن حجر". والثاني- أن القصيدة التي منها: من سبإ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سبيله العرما نسبها يونس للنابغة الجعدي، ونسبها أبو عبيدة لأمية، ثم سئل خلف الأحمر.   1 طبقات الشعراء: 48-49. 2 الموشح: 34. 3 طبقات الشعراء: 134. 4 المصدر السابق: 76-77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 عنها فقال: "للنابغة، وقد يقال لأمية"1. ونجب أن نلحظ أن الشعر في هذين المثلين -وفي كثير من الأمثلة غيرهما- نُسب إلى شعراء جاهليين، وأن الخلاف في نسبته لم يخرجه عن نطاق الشعر الجاهلي. فجاهلية هذا الشعر إذن ثابتة لا شك فيها عند هؤلاء الرواة العلماء، وإن كانوا اختلفوا في الشاعر الجاهلي نفسه -ربما لاختلاف المصادر التي استقى منها كل راوية منهم نسبة الشعر- وقد كان هؤلاء الرواة العلماء، لطول تمرسهم بالشعر الجاهلي ومدارستهم إياه، يعرفون الشعر الجاهلي ويميزونه من الإسلامي بمجرد سماعهم إياه -وإن كانوا يختلفون أحيانًا في نسبته، بل إنهم أحيانًا ليعرفون أنه شعر جاهلي ولكنهم يعجزون عن ذكر الشاعر نفسه، ومثال ذلك ما رُوي من أن حمادًا أنشد بلال بن أبي بردة شعرًا مدحه به، فقال بلال لذي الرمة: كيف ترى هذا الشعر؟ قال ذو الرمة: جيدًا وليس له. قال بلال: فمن يقوله؟ قال: لا أدري إلا أنه لم يقله ... فلما قضى بلال حوائج حماد وأجازه قال له: أنت قلت ذلك الشعر؟ قال: لا. قال: فمن يقوله؟ قال: بعض شعراء الجاهلية وهو شعر قديم وما يرويه غيري. قال: فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك؟ قال: عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام2. وكانوا أحيانًا -حينما يطمئنون إلى أن الشعر جاهلي- ينسبونه إلى شاعر بعينه، وربما كان ذلك لأنهم عرفوا أن هذا الشعر أقرب إلى روح ذلك الشاعر لكثرة ما درسوه وعرفوه، وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفسر بعض الروايات التي قد يُفهم منها الاتهام بالوضع أو الرمي بالكذب، في حين لا وضع ولا كذب إذا فهمناها على ما قدمنا. فمن ذلك أن حمادًا جاءه أعرابي فأنشده قصيدة لم يدر لمن هي. فقال حماد: اكتبوها، فلما كتبوها وقام الأعرابي، قال حماد: لمن ترون أن نجعلها؟ فقالوا أقوالًا، فقال حماد: اجعلوها لطرفة3. وقال   1 طبقات الشعراء: 106. 2 الأغاني 6: 88. 3 مراتب النحويين ورقة: 117-118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 الأصمعي: ما أروي للأغلب إلا اثنتين ونصفًا .... قال أبو حاتم: طلب إسحاق بن العباس الهاشمي من الأصمعي رجز الأغلب، فطلبه مني، فأعرته إياه، فأخرج منه نحوًا من عشرين قصيدة. فقلت للأصمعي: ألم تزعم أنك لم تعرف إلا اثنتين ونصفًا؟ فقال: بلى، ولكن انتقيت ما أعرف، فإن لم يكن له فهو لغيره ممن هو ثبت أو ثقة1. د- وبعد؛ فمنذ مطلع القرن الثاني الهجري، وبعده بقليل، قامت طائفة من العلماء الرواة من أمثال أبي عمرو بن العلاء وحماد الراوية ثم المفضل وخلف الأحمر وهم الطبقة الأولى من العلماء الذين عرفتهم العربية في تاريخها الحافل؛ فتلقوا تراث الجاهلية: شعرها وأخبارها وأنسابها؛ وصلهم بعضه مدونًا في دواوين كاملة ضمت تراث القبيلة كله أو شعر شاعر فرد من شعرائها، ووصلهم بعضه مكتوبًا في صحف متفرقة، ثم وصلهم بعضه عن طريق الرواية الشفهية التي كان يتناقلها الخلف عن السلف. فحملوا الأمانة، ومضوا يجمعون ما تفرق من هذا التراث. وينظمون منه ما تجمع، ويضيفون إليه ما لم يكن فيه مما ثبتت لهم صحته، وينفون عنه ما ثبت لهم زيفه وفساده. ولم يألوا جهدًا في التثبت والتحقيق والتمحيص والمدارسة، حتى استقام لكل منهم ما تيقن صحته، فمضى يذيعه على تلامذته في حلقات دروسه، ويشيعه في رواد مجالس علمه، فخلف من بعدهم خلف هم الطبقة الثانية من العلماء الرواة تأسَّوا بشيوخهم واقتفوا سبيلهم، يجمعون ويدرسون ويمحصون ويفحصون، ثم يستقيم لكل منهم ما يتيقن صحته، فيذيعه على تلاميذه من علماء الطبقة الثالثة. ومع ذلك فقد كان لا بد لبعض هؤلاء العلماء من أن يختلفوا: فقد وقع لبعضهم من الصحف المكتوبة، أو الدواوين المدونة، أو الرواة من الشيوخ العلماء ومن الأعراب الفصحاء مالم يقع كله لغيره، ثم كان لكل طائفة من   1 الموشح: 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 هؤلاء العلماء منهج في الأخذ والتلقي -على ما بيناه في صفحات تقدمت. ولكن هذا الخلاف في المصادر أولًا وفي المنهج ثانيًا لم يمنع العلماء من أن يأخذ بعضهم عن بعض، ومن أن يرحل علماء المصر إلى المصر المجاور ليأخذوا منهم ويرووا عنهم، ثم ينقلوا ما تيقنوا صحته إلى تلاميذهم ويكتبوه فيما يجمعون من دواوين. فهذه الدواوين المنسوبة المسندة التي يرتفع إسنادها إلى الطبقة الأولى أو إلى تلاميذهم من علماء الطبقة الثانية هي التي تحوي بين دفتيها الشعر الجاهلي الذي تيقنوا صحته بعد تحرٍّ واستقصاء وجمع وتمحيص ونقد. وسيكون كل ذلك موضوع حديثنا في الباب التالي من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 الباب الخامس: دواوين الشعر الجاهلي الفصل الأول: الدواوين المفردة مدخل ... الفصل الأول: الدواوين المفرودة -1- كان حديثنا -فيما مر بنا من أبواب هذا البحث وفصوله- عن المصادر الأولى التي استقى منها العلماء الرواة في القرن الثاني الهجري ما بين أيديهم من شعر جاهلي. وبيان ذلك أننا -حين قطعنا شوطًا في دراسة هذا الموضوع - وجدنا أن أخطر ما فيه وأشده غموضًا -على خطره كله وغموضه- هو تلك الفترة التي انقضت على نظم الشاعر الجاهلي لشعره إلى أن دُوِّن هذا الشعر في القرن الثاني الهجري في هذه الدواوين التي وصلت إلينا روايتها. هذه الفجوة الزمنية التي امتدت قرنًا وبعض قرن -من آخر العصر الجاهلي إلى مطلع القرن الثاني الهجري- هي التي استنفدت القسم الأعظم من جهدنا واستغرقت الجزء الأكبر من بحثنا هذا. وذلك لأن موضوعنا "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية" فلم نجد من المعقول ولا من المقبول أن نسقط من حسابنا تلك الفترة التي سبقت تدوين هذه المصادر التي بين أيدينا، ولا أن نمر بها مرًّا هينًا عابرًا، بل لقد استبان لنا أننا مضطرون -من أجل معرفة هذه المصادر معرفة حقه وبيان قيمتها التاريخية بيانًا واضحًا- إلى أن نكشف عن الموارد التي استقت هذه الدواوين منها، والمناهل التي اغترف منها جامعوها وصانعوها. فدرسنا آخر العصر الجاهلي والقرن الأول الهجري دراسة نرجو أن تكون دقيقة عميقة، وجمعنا ما عثرنا عليه متفرقًا في المظان العربية مما يتصل ببحثنا هذا، ثم انتهينا إلى نتائج ثلاث: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 الأولى: أننا رجحنا أن هذا الشعر الجاهلي -أو بعضه- قد كُتب، في صحائف متفرقة أو في دواوين مجموعة، منذ عهد مبكر جدًّا، وربما كتب بعضه منذ العصر الجاهلي، ونحب أن نؤكد أننا لا نلقي الكلام على عواهنه، ولا نعتسف الطريق إليه اعتسافًا، وأن هذه النتيجة الأولى ليست مجرد افتراض نفترضه، ولا مجرد ظن توهمناه، ولكنها نتيجة علمية نهجنا إليها منهجًا سليمًا بعد أن حشدنا لها حشدًا كبيرًا من المقدمات التي تتمثل فيما عثرنا عليه من نصوص وأخبار؛ فهي إذن ترجيح قوي له مرجحاته الكثيرة، بل لقد كدنا أن نقول إنها يقين قاطع لولا هذا المنهج الذي نلتزمه والذي يفرض علينا الحذر في التعبير. وأين اليقين القاطع في مثل هذه الأبحاث الأدبية وخاصة في مثل هذا الموضوع وفي مثل ذلك العصر!! والثانية: أن بعض هذه المدونات الشعرية الأولى قد وصلت إلى علماء الطبقة الأولى من الرواة، وأنهم قد اعتمدوها مصدرًا من مصادر تدوينهم لهذه الدواوين التي رواها عنهم تلاميذهم، وأن هؤلاء العلماء الرواة في القرن الثاني الهجري كانوا يعتمدون -هم وتلاميذهم- نسخًا مكتوبة من هذه الدواوين في مجالس علمهم وحلقات دروسهم، وأن الشيخ منهم كان يقرأ شعر الشاعر من نسخه، أو يقرأها أحد تلاميذه، ثم يعقب الشيخ على الشعر بالشرح والنقد والتحقيق والتمحيص. وقد بيَّنا عند حديثنا عن هذا الموضوع أن هذه المدونات لم تكن هي المصدر الوحيد، وإنما كانت أحد مصدرين. أما المصدر الثاني فقد كان الرواية الشفهية. وذلك أن العالم الراوية كان يأخذ بعض الشعر الجاهلي عن الرواة من الأعراب الذين كان يطمئن إلى صدقهم ويعتمدهم مصدرًا من مصادره، وبعض هؤلاء الرواة الأعراب كانوا من قبيلة الشاعر الذي يروون شعره، تناقلوه جيلًا بعد جيل، وتوارثوه خلفًا عن سلف؛ أو كان ذلك العالم الراوية يسمع بعض الشعر الجاهلي من غيره من العلماء، يرحل إليهم أو يرحلون إليه إن كانوا في بلدين متباعدين، أو يفد عليهم ويفدون عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 إن كانوا في بلد واحد، وكان عند هؤلاء العلماء الآخرين بعض ما لم يكن عنده، أو كان عنده بعض ما لم يكن عندهم، وذلك لاختلاف النسخ المدونة التي بين أيديهم، أو لاختلاف الرواة من الأعراب الذين سمعوهم واعتمدوهم مصدرًا من مصادرهم، أو لاختلاف الشيوخ الذين أخذوا عنهم. فكان من نتيجة ذلك أن كل عالم يعود على ما بين يديه من نسخة لديوان الشاعر الجاهلي بالتصحيح والتحقيق، فيضيف إليها بعض ما وجده عند غيره واطمأن إلى صحته، ويحذف منها بعض ما انتهى إلى أنه نسب إلى ذلك الشاعر خطأ أو نحله عمدًا، ويكتب من كل ذلك نسخته التي اطمأن إليها، ثم يقرأها لتلاميذه أو يقرءونها عليه، فإذا ما انتهوا منها أجاز لهم أو لبعضهم أن يرووها عنه. ثم يرويها هؤلاء لتلاميذهم بعد أن يجروا فيها بعض ما أجراه شيخهم في نسخته الأولى من تحقيق وتمحيص. ثم جاء علماء الطبقة الثالثة ومن تلاهم من العلماء -بين منتصف القرن الثالث ونهاية القرن الخامس الهجري- فوجدوا بين أيديهم نسخًا متعددة لديوان واحد، رُويت كل نسخة عن واحد من علماء الطبقة الأولى في البصرة أو الكوفة، فصنع هؤلاء العلماء المتأخرون نسخًا جديدة أفرغوا فيها جميع روايات العلماء السابقين، وأشاروا في مواطن كثيرة إلى أن هذه القصيدة من رواية فلان أو فلان، أو أن هذه الأبيات لم يروها فلان، أو أن فلانًا قال إن هذه القصيدة أو تلك الأبيات ليست لهذا الشاعر وتنسب إلى شاعر غيره يسميه. والثالثة: أن رواية هذه الدواوين التي بين أيدينا -حينما يكون الديوان مسندًا- تنتهي إلى أحد هؤلاء العلماء من رواة الطبقة الأولى أو إلى أحد تلاميذهم، ثم تقف عندهم ولا تتجاوزهم. ومن أجل هذا ذهب كثير من الباحثين إلى أن ثمة فجوة واسعة -تزيد على القرنين- تفصل بين زمن الشعر الجاهلي نفسه وزمن تدوينه، وإلى أن العلماء الرواة الذين دونوا ذلك الشعر بعد تلك الفجوة الزمنية الواسعة لم يجدوا إلا أبياتًا متفرقة أو مقطعات قصيرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 أشبه ما تكون بالأوصال الممزقة، التقطوها التقاطًا من أفواه بعض الأعراب والرواة، وأن هذا الزمن الطويل الذي انقضى قبل تدون الشعر الجاهلي كفيل وحده بأن يجعلنا نشك في الكثير مما دوِّن منه. ولكننا نحن، بعد هذه الدراسة التي بذلنا فيها الجهد لملء تلك الفجوة نذهب إلى أن هذه الدواوين المسندة إلى العلماء من رواة الطبقة الأولى، والتي لا تتجاوزهم في الإسناد، موصولة الأسباب بالعصر الجاهلية وبالشاعر الجاهلي نفسه، وأن تلك الحقبة -التي بدت لبعض الباحثين فجوة فارغة- تبدو لنا سلسلة ذات حلقات متصلة، لم تنقطع فيها قط حلقة من حلقات المصدرين اللذين وردهما علماء الطبقة الأولى، واستقوا منهما في تدوين دواوين الشعر الجاهلي، وهما: الرواية الشفهية، والمدونات: سواء أكانت صحائف متفرقة أم دواوين مجموعة. وكل ذلك قد بيناه وفصلنا فيه القول تفصيلًا. أما السبب الذي من أجله وقف إسناد هذه الدواوين عند علماء الطبقة الأولى ولم يتجاوزهم، فقد اشرنا إليه أيضًا في فصل مضى، وهو -في رأينا- أن دراسة الشعر الجاهلي دراسة تقوم على التحقيق والتمحيص والبحث اللغوي والتتبع المستقصي والشرح والنقد، ثم الاقتصار على ذلك اقتصارًا يكاد يكون تخصصًا -هذا الضرب من الدراسة لم يوجد قبل مطلع القرن الثاني أو منتصفه عند علماء الطبقة الأولى. وأما قبل ذلك فقد كانت العناية بالشعر الجاهلي مقصورة على مجرد روايته وجمع بعضه، وكثيرًا ما تكون تلك الرواية وذلك الجمع وسيلة لما كان معروفًا آنئذ من العلوم، فكان يُتخذ الشعر الجاهلي وسيلة للاستشهاد والتمثيل والاحتجاج والزينة؛ ولم يكن من بين علماء القرن الأول الهجري من نصب نفسه لتدريس الشعر الجاهلي والبحث فيه وتحقيقه وتمحيصه؛ ولذلك كان جميع ما خلفه هذا القرن الأول من شعر الجاهلية مرويًّا أو مكتوبًا، عناصر أولية ومواد خامة، تسلمها علماء الطبقة الأولى في القرن الثاني فصاغوا منها الدواوين التي نسبت إليهم ورويت عنهم. وسنعرض في الصفحات التالية ديوانين من هذه الدواوين الجاهلية التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 بقيت على الزمن وغالبت صروفه وأحداثه حتى وصلت إلينا، هما: ديوان امرئ القيس، وديوان زهير بن أبي سلمى. وسيكون عرضنا مبنيًّا على دراسة مفصلة تكشف في وضوح المنهج الذي نرى أن ينهج في تناوله هذه الدواوين، وتؤيد ما انتهينا إليه من نتائج بسطنا القول فيها، بحيث يكون حديثنا عن هذين الديوانين تطبيقًا لما سقناه من حديث في الفصول السابقة. -2- أما ديوان امرئ القيس فقد وجدنا أمامنا ثلاث سبل لتتبع رواياته ورواته: السبيل الأول: ما ذكرته المصادر العربية، وخاصة كتاب الفهرست لابن النديم، في مواطن متفرقة عن روايات هذا الديوان وهي: 1- رواية الأصمعي1 2- رواية أبي عمرو الشيباني2 3- رواية خالد بن كلثوم3 4- رواية محمد بن حبيب4 5- عمل ابن السكيت5 6- صنعة أبي سعيد السكري6 7- صنعة أبي العباس الأحول7 8- صنعة أبي الحجاج الأعلم الشنتمري وشرحه8 9- صنعة الوزير أبي بكر عاصم بن أيوب البطليوسي وشرحه9   1 ابن النديم - الفهرست: 223. 2 المصدر السابق. 3 المصدر السابق. 4 المصدر السابق. 5 المصدر السابق. 6 المصدر السابق: 117و 223و 224، ونزهة الألباء 145، وإنباه الرواة 1: 292. 7 المصدر السابق. 8 فهرس ابن خير: 388. 9 فهرس ابن خير: 389. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 والسبيل الثانية: ما بقي مخطوطًا إلى يومنا هذا وعثرنا عليه مما لم تذكره المصادر العربية التي اطلعنا عليها، فعرفناه عن طريق الرؤية والمشاهدة لا عن طريق القراءة في المصادر. ولم نعثر -في هذه السبيل الثانية- إلا على روايتين لهذا الديوان هما: 10- رواية أبي الحسن الطوسي1. 11- صنعة ابن النحاس وشرحه2. والسبيل الثالثة: ما عثرنا عليه من إشارات إلى روايات هذا الديوان ورواته، متفرقًا في مواطن مختلفة من هذه الدواوين نفسها التي قدمنا ذكرها، مما لم نعثر له على ذكر فيما اطلعنا عليه من مصادر عربية، ولم نعثر له على أثر فيما بين أيدينا من فهارس للمكتبات. فوجدنا لهذا الديوان الروايات التالية: 12- رواية المفضل الضبي وهي الرواية التي اعتمدها أبو الحسن الطوسي أصلًا من أصول نسخته التي صنعها لديوان امرئ القيس، فأورد في نسخته اثنتين وأربعين قصيدة ومقطعة ثم قال3: "هذا آخر رواية المفضل". وقد أكد أن هذا الجزء من الديوان هو من رواية المفضل في موطنين، الأول فيه تأكيد إيجابي حين قال في القصيدة الأولى: "أحار بن عمرو كأني خمر" إنها: "رواها أبو عمرو والمفضل". والثاني فيه تأكيد سلبي، حين ذكر في القصيدة العشرين وهي: "أذود عني القوافي ذيادًا" أنها: "ليست في رواية المفضل".   1 معهد المخطوطات العربية - رقم: 860. 2 معهد المخطوطات العربية - رقم: 143. 3 ورقة: 91 "ظ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 ومن الأدلة أيضًا على رواية المفضل لديوان امرئ القيس أن الأعلم الشنتمري، بعد أن يورد في نسخته رواية أبي حاتم السجستاني عن الأصمعي، يورد "قصائد متخيرات مما لم يرو أبو حاتم ورواه أبو عمرو الشيباني والمفضل وغيرهما"1. 13- رواية ابن الأعرابي: وقد ذكرها الطوسي أيضًا، فقد قال في نسخته بعد القصيدة التاسعة والثلاثين "إلى هاهنا قرأت على أبي عبد الله بن الأعرابي"، ثم أورد بعد ذلك ثلاث قصائد: نص في الأولى على أن ابن الأعرابي لم يعرفها، ونص في الثانية على أنه قرأها على ابن الأعرابي وعرفها، ونص في الثالثة على أن ابن الأعرابي لم يروها. 14- رواية أبي عبيدة: وتبدو لنا رواية أبي عبيدة لديوان امرئ القيس واضحة مما ذكره الطوسي وابن النحاس. أما الطوسي فقد ذكر -بعد أن انتهى من رواية المفضل- أن "الذي يلي هذا ما رواه أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي والأصمعي". ثم قال في القصيدة التالية إنها "من رواية أبي عبيدة وأبي سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي". وأما ابن النحاس فقد بين روايات أبي عبيدة لأبيات كاملة في ديوان امرئ القيس، أو لألفاظ في أبيات، في أكثر من خمسين موضعًا في صفحات مختلفة من نسخته، لعل أوضحها أنه أورد بعد قوله2: له أذنان تغرف العتق فيهما ... كسامعتي مذعورةٍ وسط ربرب بيتين قال إنهما رواهما الأصمعي وأبو عبيدة، ثم أورد بعدها بيتًا قال عنه إن أبا عبيدة وحده رواه، ثم أورد بعده أبياتًا قال إن أبا عبيدة والأصمعي روياها. وفضلًا عن ذلك فقد أورد ابن النحاس شروحًا وافية لأبي عبيدة على   1 الأعلم، ورقة: 64، ورقة: 81. 2 السكري: 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 أبيات كاملة أو ألفاظ متفرقة من ديوان امرئ القيس في أكثر من عشرين موضعًا من نسخته. 15- رواية اليزيدي: أبي عبد الله محمد بن العباس بن محمد بن يحيى بن المبارك اليزيدي "المتوفى سنة 310". وقد اعتمد ابن النحاس -فيما يبدو لنا- نسخة اليزيدي أصلًا لنسخته التي بين أيدينا، فنراه يشير إليها إشارات كثيرة في مواطن متعددة، وهي إشارات تدل على أنه يرجع في كتابه نسخته إلى نسخة اليزيدي فيثبت ما فيها من اختلاف عما يورد، أو ما فيها من زيادة ونقص. فهو يقول مثلًا إن هذه اللفظة أو تلك هي كذا في نسخة اليزيدي1. أو أنه كان في نسخة اليزيدي كذا وهو خطأ2. أو أن هذا البيت أو ذاك ليس في نسخة اليزيدي3. أو أن هذا البيت زيادة على اليزيدي4. أو أن هذه القصيدة دفعها فلان، وهي في أصل اليزيدي5. أو أن هذا البيت في نسخة اليزيدي قبل ذلك البيت6. 16- رواية ابن دريا: أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد "المتوفى سنة 321". ولابن دريد رواية أيضًا لديوان امرئ القيس، وقد نص على وجودها ابن النحاس في نسخته التي بين أيدينا، وذكر أن أبا عمران قرأ ديوان امرئ القيس على ابن دريد، ثم أورد ما وجده في رواية ابن دريد زائدًا على نسخة اليزيدي أو مخالفًا لها، وقد تكرر استدراكه على ما في اليزيدي من أبيات ناقصة رواها ابن دريد، وأثبتها، فمن ذلك قوله7: "هذا البيت ليس في نسخة اليزيدي، وقد قرأه   1 ابن النحاس، شرح ديوان امرئ القيس ورقة: 53 و126. 2 المصدر السابق: 49. 3 المصدر السابق: 58، 91. 4 المصدر السابق: 109. 5 المصدر السابق: 53. 6 المصدر السابق: 38. 7 المصدر السابق: 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 أبو عمران على ابن دريد"، وقوله1: "زيادة على اليزيدي قرأها أبو عمران"، وقوله2: "وروى الأصمعي وقرأه أبو عمران على ابن دريد". وقوله3: "هذا البيت ليس في اليزيدي، وقد قرأه أبو عمران". وفضلًا عن ذلك فقد أورد في ثنايا نسخته روايات متعددة لألفاظ مختلفة قال إنها رواية ابن دريد. فإذا ما عدنا إلى هذه الروايات الست عشرة لديوان امرئ القيس، وحاولنا أن نصنفها وفق أوليتها وأصالتها من جانب وتدرجها التاريخي من جانب آخر، وجدنا أنها تقسم ثلاثة أقسام: "أولًا" الأصول: وهي على ضربين كذلك: أصول بصرية، وأصول كوفية. 1- الأصول البصرية: ولم يبق لنا منها إلا رواية واحدة كاملة هي رواية الأصمعي، وسنتحدث عنها حديثًا مفصلًا بعد صفحات، ورواية أخرى ناقصة بقيت منها أجزاء مبعثرة أشير إليها إشارات عابرة في مواطن متفرقة، هي رواية أبي عبيدة. وإذ كنا نعتقد أن روايتي الأصمعي وأبي عبيدة في جوهرهما رواية واحدة أو روايتان متقاربتان، وأن الخلاف بينهما لا يعدو قصائد قليلة أو أبياتًا من قصيدة، لذلك سنكتفي بالإشارة إلى مواطن الاختلاف بين هذه الرواية ورواية الأصمعي حين نتحدث عن رواية الأصمعي. 2- الأصول الكوفية: وقد بقيت لنا منها رواية واحدة هي رواية المفضل بن محمد الضبي "المتوفى سنة 168"، ولم تصل إلينا هذه الرواية مستقلة وحدها قائمة بنفسها، ولكنها جاءتنا عن طريق تلميذيه: أبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني "المتوفى سنة 206"،   1 المصدر السابق: 109. 2 المصدر السابق: 122. 3 المصدر السابق: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وأبي عبد الله محمد بن زياد الأعرابي "المتوفى سنة 231"، ثم حفظها لنا أبو الحسن على بن عبد الله بن سنان الطوسي "المتوفى نحو سنة 250" في نسخته التي سنتحدث عنها بعد قليل. وقد أورد الطوسي اثنتين وأربعين قصيدة ومقطعة لامرئ القيس ثم قال بعدها1: "هذا آخر رواية المفضل". غير أنه ذكر في المقطعة رقم 20 وهي ثلاثة أبيات مطلعها "أذود عي القوافي ذيادًا" أنها "ليست في رواية المفضل"2. وبذلك تكون رواية المفضل إحدى وأربعين قصيدة ومقطعة. قرأ منها الطوسي تسعًا وثلاثين على أبي عبد الله بن الأعرابي كما ذكر3. ويبدو أن هذه الأبيات التي ذكر أنها ليست في رواية المفضل كان الطوسي قرأها -فيما قرأ- على ابن الأعرابي فأقرها، فلذلك أدخلها في نسخته وأشار إلى أنها ليست في رواية المفضل. أما القصائد الثلاث الأخيرة من رواية المفضل في نسخة الطوسي فقد ذكر أنه عرض اثنين منها على ابن الأعرابي فلم يعرفها4، أما الثالثة فقد قرأها عليه وعرفها5. أما أبو عمرو الشيباني فلا يذكره الطوسي في نسخته إلا في موضعين، الأول: عند حديثه عن قصيدة امرئ القيس الرائية "أحار بن عمرو كأني خمر" فقد قال6: "رواها أبو عمرو والمفضل وغيرهما"، والثاني: عند حديثه عن قصيدته "أمن ذكر سلمى أن رأتك تنوص" فقد قال7: "وليست في رواية الأصمعي، وإنما هي من رواية أبي عمرو الشيباني". ويبدو أن هذا العرض الموجز لنسخة الطوسي أنها اعتمدت رواية المفضل في جوهرها أصلًا، وأن الطوسي قد أخذ هذه الرواية عن تلميذي المفضل:   1 ورقة: 91 "ظهر". 2 ورقة: 73-74. 3 ورقة: 85. 4 ورقة: 86، ورقة 89 "ظهر". 5 ورقة: 89. 6 ورقة: 1. 7 ورقة: 54 "ظهر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 أبي عمرو الشيباني، وأبي عبد الله بن الأعرابي، والمعروف عن ابن الأعرابي أنه كان "ربيبًا للمفضل الضبي، وسمع منه الدواوين وصححها"1. أما أبو الحسن الطوسي فمع أنه أخذ عن مشايخ الكوفيين والبصريين2، إلا أن "أكثر مجالسته وأخذه عن ابن الأعرابي"3 وسنعود إلى الحديث عن نسخة الطوسي بعد قليل. "ثانيًا" روايات التلاميذ: وهي أيضًا على ضربين: روايات بصرية، وروايات كوفية. فقد كان علماء البصرة يقرءون دواوين الشعراء على شيوخهم البصريين ويروونها عنهم، وكان علماء الكوفة يقرءون دواوين الشعراء على شيوخهم الكوفيين ويروونها عنهم، فمن علماء البصريين من رجال الطبقة الثانية الذين أخذوا عن الأصمعي أبو نصر أحمد بن حاتم الباهلي، وأبو حاتم سهل بن محمد السجستاني. فقد كان صاحب الأصمعي، وحين قدم إلى أصبهان "نقل معه مصنفات الأصمعي وأشعار شعراء الجاهلية والإسلام مقروءة على الأصمعي"4. وكان مما أخذه أبو نصر عن الأصمعي ديوان امرئ القيس غير أن روايته لم تبق لنا كاملة، وإنما بقيت لنا منها إشارة عابرة حفظت في النسخة التي سميناها نسخة الطوسي. وأما أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني "المتوفى سنة 255" فقد بقيت لنا روايته لديوان امرئ القيس عن الأصمعي كاملة في نسخة الأعلم الشنتمري، فقد أورد الأعلم ثماني وعشرين قصيدة ومقطعة، ثم قال5: "قال أبو حاتم: هذا آخر ما صحح الأصمعي من شعر امرئ القيس". ثم قال: "كملت رواية أبي حاتم عن الأصمعي والحمد لله". ومن تلامذة أبي حاتم الذين أخذوا عنه رواية دواوين الشعر: أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد.   1 نزهة الألباء: 106، وياقوت - إرشاد 18-190. 2 الفهرست: 106، ونزهة الألباء: 125-126. 3 المصدران السابقان. 4 ياقوت إرشاد 2: 285. 5 ورقة: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 "المتوفى سنة 321"، وقد أخذ ابن دريد عن غير أبي حاتم من علماء البصريين مثل: الرياشي والتوزي والزيادي1. وسنرى عند حديثنا عن نسخة الأعلم ورواية الأصمعي أن أبا علي القالي هو الذي أدخل رواية الأصمعي هذه لديوان امرئ القيس إلى الأندلس، وأنه أخذها عن شيخه ابن دريد تلميذ أبي حاتم السجستاني. وكذلك بقيت لنا إشارات متفرقة من رواية ابن دريد في نسخة ابن النحاس على ما سنبينه بعد قليل. أما رواة الكوفيين فقد تحدثنا منهم عن المفضل وتلميذيه: أبي عمرو الشيباني، وأبي عبد الله بن الأعرابي. وقد خلف بعد هذين خلف أخذوا عنهم، منهم: محمد بن حبيب "المتوفى سنة 245"، ويعقوب بن السكيت "المتوفى سنة 246"، وقد مر بنا أن النديم ذكر في فهرسته أن ممن روى ديوان امرئ القيس: محمد بن حبيب ويعقوب بن السكيت2، وهما من علماء بغداد الذين أخذوا عن الكوفيين خاصة3، ولا سيما أبي عمرو الشيباني وابن الأعرابي4 ولم تصل إلينا رواية هذين العالمين لديوان امرئ القيس إلا إشارات عابرة لبعض رواية ابن حبيب وشرحه أوردها ابن النحاس في نسخته5، وإن كنا نرجح أن السكري قد اعتمد روايتهما أو رواية أحدهما أصلًا من أصول نسخته على ما سنبينه عند حديثنا عن رواية السكري. ومن هذا العرض الموجز لروايات التلاميذ يبدو لنا -مما بقي لنا من رواياتهم- أنهم لم يدخلوا أنفسهم فيما رووه عن شيوخهم من علماء الطبقة الأولى، بل اكتفوا بمجرد الرواية والنقل، كما رأينا في حديثنا عن أبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي وأبي حاتم السجستاني في روايتهما لديوان امرئ القيس عن الأصمعي؛   1 الفهرست: 91. 2 الفهرست: 223. 3 الفهرست: 108، وطبقات اللغويين والنحويين: 153 حيث عد ابن حبيب من الكوفيين. 4 نزهة الألباء: 123، وياقوت، وإرشاد 18: 112. 5 انظر مثلًا ورقة: 6و 10و 12 و 15 و 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 أو أنهم قد علقوا تعليقات يسيرة حين كانت تقرأ عليهم هذه الدواوين من رواية شيوخهم وكانوا في بعض هذه التعليقات ينصون على أنهم لا يعرفون هذه القصيدة، أو تلك الأبيات، أو أنهم يشكون فيها أو ينكرونها، ولكنهم مع ذلك يبقونها كما جاءت عن شيوخهم ويثبتون معها تعليقاتهم، كما رأينا عند حديثنا عن رواية أبي عمرو الشيباني لديوان امرئ القيس وقراءة الطوسي هذا الديوان برواية المفضل الضبي على أبي عبد الله بن الأعرابي. ومن هنا حق لنا أن نذهب إلى أن هؤلاء التلاميذ قد حفظوا لنا روايات شيوخهم لدواوين الشعراء كما خلفها أولئك الشيوخ، وأن عمل التلاميذ في رواية هذه الدواوين ونقلها وشرحها والتعليق عليها، لم يطمس معالم الرواية الأصلية التي صنعها علماء الطبقة الأولى من الرواة. "ثالثًا" الروايات المجموعة: ونقصد بها نسخة الديوان التي ضم فيها جامعها روايات مختلفة لرواة مختلفين من مدرستي البصرة والكوفة معًا. وقد رأينا بعد درسها أنها ضربان، الضرب الأول: ما جمعت فيه قصائد من روايات مختلفة جمعًا مختلطًا متداخلًا، فترى قصيدة من رواية أبي عبيدة بين قصائد من رواية الأصمعي، تكتنفها جميعًا قصائد من رواية المفضل وأبي عمرو الشيباني، ثم قصيدة أو قصائد من رواية الأصمعي وهكذا ... ولا ينص في الغالب على رواية القصيدة نفسها، وإنما عرفنا ذلك من النسخ الأخرى التي عنيت بالنص على الرواية، ويكثر في هذا الضرب النص على روايات بعض الألفاظ في الأبيات المختلفة. ومن أجل هذا نرى أن الغاية من هذا الضرب الأول الجمع والاستقصاء وحدهما، وتتبع كل ما نسب من الشعر لامرئ القيس وحشره بين دفتي ديوان، من غير عناية برواية القصيدة في مجموعها. والضرب الثاني: ما جمعت فيه قصائد رواية واحدة في نسق متتابع، ينص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 في أولها على أنها رواية فلان، وينص في آخرها على أنه "كمل شعر امرئ القيس من رواية فلان". ثم يختار الجامع قصائد من روايات أخرى يضعها بعد القصائد الأولى، وينص كذلك على أنها من رواية فلان أو فلان. مع أن شرط الجمع متوافر في هذا الضرب إلا أنه ليس غاية في ذاته، وإنما الغاية جمع رواية بعينها ثم اختيار قصائد من روايات أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 الضرب الأول: الروايات المختلفة المتداخلة : 1- نسخة السكري: أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري "ولد سنة 212 وتوفي سنة 275"، وهو ممن خلط المذهبين1: البصري والكوفي، فأخذ عن أبي حاتم السجستاني والعباس بن الفرج الرياشي، وهما من علماء المذهب البصري، وأخذ عن محمد بن حبيب ويعقوب بن السكيت، وهما من علماء المذهب الكوفي. وكان مشهورًا بكثرة الجمع والاستقصاء فيه، حتى قالوا عنه إنه "كان إذا جمع جمعًا فهو الغاية في الاستيعاب والكثرة"2. وعرَّفوه بأنه "الراوية الثقة المكثر3". أما نسخته من ديوان امرئ القيس فليست -لسوء الحظ- بين أيدينا حتى ندرسها عن عيان ويقين. غير أن أهلوارد الذي طبع "العقد الثمين" ذكر في مقدمته أنه اطلع على هذه النسخة واعتمدها أصلًا في طبع شعر امرئ القيس الذي في مجموعته. ومخطوطة هذه النسخة موجودة في مكتبة ليدن وقد ذكر أهلوارد أنها كتبت سنة 545هـ4، وأن لكثير من القصائد التي تضمها مقدمات. غير أن طبعة أهلوارد قد خلت من هذه المقدمات التي تسبق عادة القصائد،   1 الفهرست: 117. 2 ياقوت، إرشاد 8: 94. 3 المصدر السابق. 4 مقدمة العقد الثمين: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 وإن كان أهلوارد جمعها، أو جمع بعضها، في آخر الديوان1. غير أن هذه المقدمات التي جمعها في آخر الديوان قد خلت خلوًّا تامًّا من الإشارة إلى الرواية والرواة، وهي لا تعدو أن تكون شرحًا مقتضبًا لمناسبة بعض القصائد أو سبب نظمها. ومع هذا كله فقد قال أهلوارد في مقدمة طبعته2 "يبدو أن نسخة السكري مروية عن أبي عبيدة معمر بن المثنى البصري الذي يحتمل أنه رواها عن شيخه أبي عمرو معمر بن المثنى البصري الذي يحتمل أنه رواها عن شيخه أبي عمرو بن العلاء". ولسنا ندري ما الذي حمل أهلوارد على هذا الظن فليس فيما أورده في طبعته أية إشارة إلى إسناد أو رواية. ومع أن النسخة الأصلية ليست بين أيدينا، فإننا نرجح أن الأمر قد التبس على أهلوارد، ونكاد نذهب إلى أن نسخة السكري هذه ذات روايات مختلفة أكثرها كوفية، ولنا على ذلك ثلاثة أدلة: أولها جوهري ويكاد يكون يقينًا، وهو أن في هذه النسخة سبعًا وستين قصيدة ومقطعة لامرئ القيس، بينما شعر امرئ القيس في رواية الأصمعي ثمان وعشرون قصيدة ومقطعة فقط، وهو في نسخة الطوسي من الرواية الكوفية سبع وأربعون قصيدة، منها اثنتان وأربعون من رواية المفضل نفسه، والخمس الأخرى جمعها الطوسي من رواية غيره من الكوفيين، ونص في إحداها على أنها من رواية أبي عمرو الشيباني. وشعره في نسخة ابن النحاس 56 قصيدة ومقطعة، وفي النسخة التي سميناها نسخة الطوسي قصائد كثيرة ألحقها جامع مجهول بنسخة الطوسي فجاء شعر امرئ القيس في هذه النسخة في ست وسبعين قصيدة. فإذا علمنا أن منهج البصريين التضييق في الرواية والتحري والتدقيق في مصادرها، وأن منهج الكوفيين التوسع في الرواية والمصادر معًا، وإذا قرنا هذا بما رأيناه من أن رواية الأصمعي البصري لشعر امرئ القيس جاءت في ثمان وعشرين قصيدة ومقطعة فقط -وهي أقل روايات هذا الشعر كافة- علمنا   1 العقد الثمين: 220-223. 2 مقدمة العقد الثمين: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 أن نسخة السكري بقصائدها ومقطعاتها السبع والستين لا يمكن أن تكون عن بصري أو عن أبي عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء. والدليل الثاني: هذا النص الصريح الواضح الذي ذكره ابن النديم في معرض حديثه عن ديوان امرئ القيس ورواياته المختلفة، فقد قال1: "وصنعه من جميع الروايات أبو سعيد السكري فجود". وأما الدليل الثالث: فهو أن السكري -على أخذه عن البصريين- قد كان، فيما يبدو لنا، أميل إلى الكوفيين وأكثر أخذًا عنهم، فهو متفق معهم في المنهج الذي يرمي إلى التوسع في المصادر، والتكثر في الرواية والجمع على ما بيناه في صدر حديثنا عن السكري. ومن أجل هذا نراه أكثر الأخذ عن محمد بن حبيب كما ذكر ياقوت2. ومحمد بن حبيب روى كتب ابن الأعرابي تلميذ المفضل. ودليل رابع: فرع للدليل الثالث يدعمه ويقويه، وهو أن الدواوين التي بين أيدينا من صنعة السكري إنما رواها كلها عن محمد بن حبيب الكوفي المذهب، ومنها ديوان حسان بن ثابت3، وديوان الحطيئة4، وديوان جران العود5. ومن أجل هذا كله -وخاصة من أجل الدليل الأول والثاني- نرجح أن نسخة السكري هذه صنعها من جميع الروايات كما ذكر ابن النديم، وأن معتمد هذه النسخة -لكثرة قصائدها- على الروايات الكوفية، وأنها لا يمكن أن تكون كلها من رواية أبي عبيدة وحده. 2- نسخة ابن النحاس: وهي مما صوره -على ميكروفيلم- معهد إحياء المخطوطات العربية   1 الفهرست: 223. 2 إرشاد 18: 112. 3 طبعة ليدن سنة 1910. 4 طبعة مطبعة التقدم بتصحيح أحمد بن الأمين الشنقيطي. 5 طبعة دار الكتب سنة 1931. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 بجامعة الدول العربية من مكتبة الأسكوريال، وأوراقها 151 ورقة مكتوبة بخط النسخ، وليس عليها تاريخ كتابتها ولا اسم كاتبها، وإن كان الأرجح أنها كتبت في القرن السابع أو الثامن. وأول إشكال يفجئونا في هذه النسخة هو تحقيق اسم صاحبها. فقد جاء في الورقة الأولى: "شرح ديوان امرئ القيس المسمى بالتعليقة للعلامة ابن النحاس" ثم كتب بجوار هذه الكنية بخط مائل "بهاء الدين أبي العباس أحمد"، وبجانبه علامة التصحيح والاستدراك "صح". وقد بذلنا جهدنا لمعرفة صاحب هذا الاسم، فلم نعثر له على أثر فيما بين أيدينا من كتب الرجال والتراجم والطبقات. وليس في هذه الكتب ممن يسمي ابن النحاس إلا اثنان، أولهما أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس. والثاني: أبو عبد الله بهاء الدين بن النحاس محمد بن إبراهيم بن محمد. فرجحنا أن يكون الكاتب الذي استدرك في نسختنا على اسم ابن النحاس فجعله أبا العباس أحمد قد أخطأ وأنه كان يقصد أبا عبد الله محمدًا هذا الذي ذكرناه، ولقبه بهاء الدين كما أثبته كاتب الاستدراك. فإذا كان ترجيحنا هذا صحيحًا -إذ لم نعثر على بهاء الدين أبي العباس أحمد، ولعله لا وجود له- فإننا نريد أن نرجح ترجيحًا آخر وهو أن صاحب هذا الشرح هو أبو جعفر بن النحاس المشهور، وليس البهاء بن النحاس. وتفصيل ذلك أن البهاء بن النحاس "ولد سنة 627 وتوفي سنة 698" كان شيخ الديار المصرية، وأكثر شهرته في النحو و"لم يصنف شيئًا إلا ما أملاه شرحًا لكتابه المقرب"1. فهو إذن من رجال القرن السابع، بينما لا نجد في النسخة التي بين أيدينا ذكرًا لأحد من الرواة بعد النصف الأول من القرن الرابع. بل إن في هذه النسخة نصين جديرين بالوقوف عندهما ودرسهما. الأول قوله2: "قال أصحابنا البصريون". والثاني قوله3: "سمعت ابن دريد   1 بغية الوعاة 6. 2 تعليقة ابن النحاس ورقة: 5. 3 المصدر السابق: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 قال: ... "وهما من أسباب ترجيحنا أن أبا جعفر بن النحاس هو صاحب هذه التعليقة، وذلك أن أبا جعفر قد رحل إلى بغداد، وروى عن المبرد، والأخفش علي بن سليمان، والزجاج1، وهم جميعًا من علماء المذهب البصري. وروى من الأخبار ما فيه تضعيف للكوفيين ونيل منهم2. فمن المعقول إذن أن يقول من كان هذا شأنه "قال أصحابنا البصريون". ثم إن أبا جعفر بن النحاس توفي سنة 377هـ، وتوفي ابن دريد سنة 321، وأخذ أبو جعفر عن شيوخ ابن دريد وعمن هم في طبقته مثل المبرد والأخفش والزجاج، وابن دريد بصري المذهب مثل ابن النحاس وشيوخه، فمن المعقول إذن لمن كان هذا شأنه أن يأخذ عن ابن دريد، وأن يقول "سمعت ابن دريد". وشيء ثالث في النسخة نفسها، وذلك كثرة ما يرويه من شرح للألفاظ والأبيات عن أبي الحسن ونحن نستبعد أن يعني بأبي الحسن: الطوسي، وذلك لأنه ذكر الطوسي صراحة في مواطن كثيرة ولم يكنه. أما هذه الكنية التي تدل على الألفة والشهرة بحيث يُكتفَى بها ويُستغنَى عن التسمية فالمقصود بها -في رأينا- علي بن سليمان الأخفش، وهو أستاذ أبي جعفر بن النحاس "وله سماع كثير عنه"3. فإذا أضفنا إلى هذا كله ما ذكرناه من أن البهاء بن النحاس "لم يصنف شيئًا إلا ما أملاه شرحًا لكتاب المقرب"، بينما نجد أن أبا جعفر بن النحاس يُعنَى عناية كبيرة بالشعر ويؤلف فيه، فله "شرح المعلقات" و"شرح المفضليات"4، و "فسر عشرة دواوين وأملاها"5، وله "كتاب أخبار   1 طبقات اللغويين والنحويين: 239، وياقوت، إرشاد 4: 224. 2 طبقات اللغويين والنحويين: 94. 3 إنباه الرواة 1: 101. 4 السيوطي، البغية. 5 إنباه الرواة 1: 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 الشعراء1" إذا ذكرنا ذلك كله استبانت لنا الأسباب التي من أجلها رجحنا أن يكون أبو جعفر بن النحاس هو صاحب هذه النسخة وليس البهاء بن النحاس. أما النسخة نفسها ففيها ست وخمسون قصيدة ومقطعة لامرئ القيس، وهي مجموعة من روايات مختلفة متداخلة: بصرية وكوفية، وفي كثير منها نص على راويها، أو نص على أن فلانًا؟؟؟ وأنكر نسبتها لامرئ القيس، أو أن فلانًا لم يعرفها. ويبدو أن ابن النحاس قد اعتمد نسخة اليزيدي من ديوان امرئ القيس أصلًا، وهو أبو عبد الله محمد بن العباس بن محمد بن يحيى بن المبارك اليزيدي المتوفى سنة 310هـ. ويبدو كذلك أن نسخة اليزيدي هذه قد قرئت على ابن دريد، قرأها رجل كنيته أبو عمران فاعتمد ابن النحاس نسخة اليزيدي أصلًا ثم أضاف إليها ما ذكره ابن دريد وغيره من الزيادات أو الشروح أو الاستدراكات. وحديث ابن النحاس عن هذه النسخة يدل على هذا الذي ذكرناه، فهو يقول2: "كان في نسخة اليزيدي كذا وهو خطأ وحقه كذا ... "، و"في نسخة اليزيدي كذا..3"، و"قال ابن دريد: دفعها الأصمعي ورواها قوم لابن أحمر، وهي في أصل اليزيدي"4، و"هذا البيت ليس في اليزيدي ... وقد قرأه أبو عمران"5، و"هذا البيت ليس في نسخة اليزيدي وقد قرأه أبو عمران على ابن دريد"6، و"زيادة على اليزيدي قرأها أبو عمران"7، و"روى الأصمعي وقرأه أبو عمران على ابن دريد"8، و "كذا هو في اليزيدي9".   1 المصدر السابق 1: 103. 2 تعليقة ابن النحاس ورقة: 49. 3 المصدر السابق: 53. 4 المصدر السابق: 53. 5 المصدر السابق: 58. 6 المصدر السابق: 91. 7 المصدر السابق: 109. 8 المصدر السابق: 122. 9 المصدر السابق: 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 أما الرواة العلماء الذين يرد ذكر رواياتهم أو شروحهم في هذه النسخة فهم: الأصمعي وأبو عبيدة وأبو حاتم والفراء والطوسي وأبو سعيد السكري وابن حبيب والمفضل وأبو عمرو الشيباني وابن الأعرابي وابن دريد واليزيدي. وفي هذه النسخة أمر جدير بالنظر انفردت به نسخة ابن النحاس دون غيرها من النسخ والروايات، وهو ترتيب القصائد على حروف الروي. غير أنه بدأ بالمعلقة، ثم أورد جميع القصائد اللامية، ثم أتبعها بالرائيات، ثم البائيات، ثم تسلسل مع حروف الهجاء إلى الياء، غير أنه قدم الضاد على الصاد. ويبدو أن سبب هذا الترتيب أنه بدأ بالمعلقة لشهرتها وقيمتها، ولما كانت المعلقة لامية فقد أتبعها بجميع القصائد اللاميات، ثم ثنَّى بالرائيات لأنها أكثر عددًا من قصائد الحروف الأخرى، فلما انتهى منها تساوت عنده القصائد الباقية فسردها على تتابع حروف الهجاء. وأمر آخر جدير بالنظر ويدل على عناية ابن النحاس بالترتيب والتبويب والتقسيم: أنه يذكر بعد كل بيت ثلاثة عناوين: "ما فيه من الغريب"، و"ما فيه من الروايات"، و"ما فيه من المعنى.." ثم يذكر بعد كل عنوان ما يجده في بابه، وهو يتبع هذا التقسيم بعد كل بيت ولا يكاد يخرج عنه إلا حيث لا يجد شيئًا يذكره بعد أحد هذه العناوين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 الضرب الثاني: الروايات المجموعة مدخل ... الضرب الثاني: الروايات المجموعة أما الضرب الثاني من هذه الروايات المجموعة فهو ما جمع فيه أحد العلماء الرواة شعر امرئ القيس من الروايات المختلفة للرواة البصريين والكوفيين معًا، غير أنه بدأ مجموعته برواية واحدة لعالم راوية واحد، حتى إذا استقصى ما جاء في هذه الرواية من شعر امرئ القيس نص ذلك العالم على أن رواية فلان قد انتهت، ثم يورد لنا مختارات انتقاها من الروايات الأخرى. وبذلك يختلف هذا الضرب عن الضرب السابق في أنه يقدم لنا رواية واحدة مستقلة قائمة بنفسها واضحة المعالم. وقد بقي لنا من هذا الضرب ثلاثة نسخ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 1- نسخة الطوسي: وفي تسميتنا لها بنسخة الطوسي شيء من التجاوز، وذلك لأن هذه النسخة -وهي مكتوبة في سنة 403هـ، وعدد أوراقها 104، ومحفوظة في مكتبة لاله لي في تركيا، ومصورة على ميكروفيلم في معهد إحياء المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية- قد جمعها جامع مجهول ليس في النسخة ما يدل عليه. وقد عثر -فيما يبدو- على نسخة الطوسي فجعلها الأصل الذي اعتمد عليه في نسخته، ثم أضاف إلى نسخته بعد ذلك ستًّا وعشرين قصيدة ومقطعة مما لم يذكره الطوسي في نسخته، وقد ميز بين نسخة الطوسي وما أضافه هو من الشعر بقوله: "تمت نسخة أبي الحسن الطوسي من القديم الصحيح والمنحول، ومما كتبناه عن غيره من منحول شعره، وهو المنحول الثاني: ... " ثم جعل عنوان مجموعته كلها: "ديوان امرئ القيس، رواية أبي الحسن الطوسي وأبي نصر أحمد بن حاتم عن الأصمعي عبد الملك بن قريب عن أبي عمرو الشيباني". وهو عنوان غير مستقل وصحته -فيما نرى-: "ديوان امرئ القيس رواية أبي الحسن الطوسي عن أبي عمرو الشيباني، وأبي نصر أحمد بن حاتم عن الأصمعي عبد الملك بن قريب". وقد وجدنا بعد دراسة هذه النسخة وما فيها من روايات أنها أصلًا نسخة الطوسي وروايته، وأن جامع النسخة المجهول قد علق على بعض القصائد التي وجدها في نسخة الطوسي تعليقات أخذها من نسخة أخرى رواها أحمد بن حاتم عن الأصمعي، ومع تداخل هذه التعليقات والإشارات إلا أن الفصل بين الروايتين وتمييزهما سهل. أما نسخة الطوسي "أبو الحسن على بن عبد الله بن سنان المتوفى في نحو سنة 250هـ" فهي قسمان، أورد في القسم الأول منهما رواية المفضل بن محمد الضبي - الكوفي "المتوفى سنة 168" لشعر امرئ القيس، وقد درسنا هذا القسم حين تحدثنا عن الأصول الكوفية لرواية ديوان امرئ القيس، ولا حاجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 بنا إلى إعادة هذا الحديث. وأما القسم الثاني من نسخة الطوسي فهو مختارات انتقاها من غير رواية المفضل، فقد قال بعد القصيدة الثانية والأربعين من نسخته "هذا آخر رواية المفضل، والذي يلي هذا ما رواه أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي والأصمعي" ثم يذكر سبع قصائد. ويبدو أن في هذه الجملة التي أنهى بها رواية المفضل نقصًا لا بد من إثباته حتى يستقيم الكلام مع رواية القصائد السبع التالية. وذلك لأن ثلاث قصائد فقط من هذه السبع رواها الأصمعي حقًّا، أما الأربع الأخرى فلم ترد في رواية الأصمعي، وإنما ذكر اثنتين منها الأعلم في نسخته بعد أن أورد رواية الأصمعي لشعر امرئ القيس، ونص على أن هاتين القصيدتين -مع قصائد أخرى ذكرها- هما من القصائد المتخيرات مما لم يرو أبو حاتم عن الأصمعي، وإنما "مما روى أبو عمرو والمفضل وغيرهما ... "، وإذ قد نص الطوسي في نسخته، وكذلك الأعلم في نسخته، على أن إحدى هاتين القصيدتين وهي: "جزعت ولم أجزع من البين مجزعًا" من رواية أبي عمرو الشيباني، فلعل هذه القصائد الأربع الأخيرة -من القصائد السبع التي أوردها الطوسي في نسخته من غير رواية المفضل- هي من رواية بعض الكوفيين، أو لعلها مما روى أبو عمرو الشيباني ذاته. ومن أجل هذا قلنا إن في عبارة الطوسي التي أنهى بها رواية المفضل نقصًا، ونرى أن هذه العبارة تكمل وتستقيم مع رواية القصائد التالية لو أضفنا إليها كلمة "وغيرهما" فتصبح عبارته "هذا آخر رواية المفضل، والذي يلي هذا ما رواه أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي والأصمعي وغيرهما". 2- نسخة عاصم: هو الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب البطليوسي البلوي النحوي، المتوفى في سنة 464هـ. ونسخته من ديوان امرئ القيس جزء من مجموعته لدواوين الشعراء الستة: امرئ القيس والنابغة وعلقمة وزهير وطرفة وعنترة. وهذه المجموعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 قد وصلتنا كاملة، ومخطوطاتها موجودة في بعض المكتبات، ومنها مخطوطة في مكتبة فيض الله بتركيا صورها على ميكروفيلم معهد إحياء المخطوطات العربية. أما ديوان امرئ القيس وحده من هذه المجموعة فقد طبع عدة طبعات: طبع في تونس سنة 1282هـ، وطبع في القاهرة بمطبعة هندية مرتين: سنة 1906م وسنة 1928م. وسنتحدث عن شعر الشعراء الستة وعن نسخة عاصم من شعر امرئ القيس، حين نتحدث عن نسخة الأعلم فإن النسختين: نسخة عاصم والأعلم، قد اتخذتا من رواية الأصمعي لشعر امرئ القيس أصلًا اعتمدناه، وقد اتفقت النسختان في هذا القسم من الشعر، غير أن الأعلم اختار بعد ذلك ست قصائد من غير رواية الأصمعي، بينما لم يختر عاصم إلا قصيدة واحدة من رواية المفضل وأبي عمرو الشيباني بدأ بها الديوان هي "أحار بن عمرو كأني خمر"، ثم أورد القصائد التي أوردها الأعلم من رواية الأصمعي غير أن في ترتيب بعض القصائد اختلافًا. ثم إن الأعلم نص على أن ما أورده هو من رواية الأصمعي، وميز بين هذه الرواية ورواية غيره، ولكن عاصمًا لم يشر إلى رواية الأصمعي بل لم يُعنَ بالرواية جملةً. وسبب هذا الاتفاق بينهما أنهما أخذا عمن أخذ عن أبي علي القالي على ما سنبينه حين نتحدث عن الأعلم. وقد ذكر الوزير أبو بكر عاصم أنه اطلع على نسخة لهذا الديوان قوبلت بنسخة أبي علي1، وأشار في موطن آخر -في معرض حديثه عن لفظ- إلى أنه وجده في النسخة الصحيحة2، فلعله يقصد نسخة أبي علي أيضًا. 3- نسخة الأعلم: هو العالم اللغوي يوسف بن سليمان بن عيسى الشنتمري، أبو الحجاج الأعلم، المتوفى سنة 476هـ. وله هذه المجموعة الشعرية التي تشتمل على دواوين الشعراء الستة الذين ذكرناهم، ومنها نسخ كثيرة في مكتبات العالم: ففي مكتبة باريس   1 شرح ديوان رئيس الشعراء، ط. هندية 1906 ص135. 2 المصدر السابق: 0107 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 مخطوطتان هما رقم 1424 و 1425، وقد اعتمدهما دي سلان أصلًا في طبعته لديوان امرئ القيس التي طبعت في باريس سنة 1836-1837م، وسماها "نزهة ذوي الكيس وتحفة الأدباء في قصائد امرئ القيس"، وكذلك اعتمدها أهلوارد أصلًا في طبعته لدواوين الشعراء الخمسة -عدا امرأ القيس- التي طبعت في لندن سنة 1870 وسماها "العقد الثمين في دواوين الشعراء الستة الجاهليين". وقد وصفهما دي سلان وأهلوارد في مقدمتيهما وصفًا مفصلًا. وكتبت أولاهما سنة 571، وثانيتهما في القرن الحادي عشر الهجري. وفي مكتبة غوطة مخطوطة أخرى رقمها 547 وصفها أهلوارد ورجع إليها. وفي دار الكتب المصرية مخطوطتان من هذه المجموعة الأولى رقمها 450 تيمور وكتبت سنة 1268هـ، والثانية رقمها 81 ش. وقد اتبع الأعلم في جميع دواوين مجموعته خطة واحدة، فكان يبدأ في كل ديوان برواية الأصمعي حتى إذا استوفاها نص على انتهائها وميز آخرها، ثم يذكر قصائد يختارها من رواية الكوفيين لشعر ذلك الشاعر، قد ذكر خطته هذه ذكرًا واضحًا في مقدمته، قال1: "واعتمدت فيما جلبته من هذه الأشعار على أصح رواياتها وأوضح طرقاتها، وهي رواية عبد الملك بن قريب الأصمعي، لتواطؤ الناس عليها واعتيادهم لها، واتفاق الجمهور على تفضيلها. وأتبعت ما صح من رواياته قصائد متخيرة من رواية غيره، وشرحت جميع ذلك شرحًا يقتضي تفسير جميع غريبه، وتبيين معانيه وما عمض من إعرابه ... ". أما سبب اختيار هؤلاء الشعراء الستة بذواتهم فقد أشار إليه الأعلم كذلك في مقدمته قال1 " ... رأيت أن أجمع من أشعار العرب ديوانًا يعين على التصرف في جملة المنظوم والمنثور، وأن أقتصر على القليل، إذ كان شعر العرب كله متشابه الأغراض، متجانس المعاني والألفاظ، وأن أوثر بذلك من الشعر ما أجمع الرواة على تفضيله، وإيثار الناس استعماله على غيره ... " وقد بحث   1 شرح الأعلم ورقة: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 ذلك أيضًا أهلوارد في مقدمته، فذهب إلى أن اختيار هؤلاء الستة يعود إلى ثلاثة أمور1: قيمة شعرهم الفنية، وكثرة قصائدهم وطولها إذا قيست بقصائد معاصريهم، وعنايتهم بالحوادث ذات الذكريات المجيدة وبالأشخاص ذوي المكانة التاريخية السامة، فلم تطغ على شعرهم وحياتهم الحوادث المحلية الصغيرة كما طغت على حياة الشعراء الذين سبقوهم أو عاصروهم. أما رواية الأعلم لهذه الدواوين فهي متصلة السند إلى الأصمعي نفسه، وقد ذكر ابن خير الأموي إسناد هذه الرواية في فهرسته2 فقال: "كتاب الأشعار الستة الجاهلية شرح الأستاذ أبي الحجاج يوسف بن سليمان النحوي الأعلم، رحمه الله حدثني بها أيضًا قراءة مني عليه لها ولشرحها: الوزير أبو بكر محمد بن عبد الغني بن عمر بن فندلة رحمه الله عن الأستاذ أبي الحجاج الأعلم مؤلفه رحمه الله يرويها الأستاذ أبو الحجاج الأعلم المذكور، عن الوزير أبي سهل بن يونس بن أحمد الحراني، عن شيوخه أبي مروان عبيد الله بن فرج الطوطالقي وأبي الحجاج يوسف بن فضالة وأبي عمر بن أبي الحباب، كلهم يرويها عن أبي علي القالي، عن أبي بكر بن دريد، عن أبي حاتم، عن الأصمعي رحمه الله. أما نسخة الأعلم من ديوان امرئ القيس -وهو أول دواوين هذه المجموعة -فتضم أربعًا وثلاثين قصيدة ومقطعة جعلها قسمين، الأول: ما رواه أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي، وهي ثمان وعشرون قصيدة ومقطعة استثنينا منها واحدة، وهي "ألا إلا تكن إبل فمعزى"، وذلك لأن الأعلم نفسه ذكر أن الأصمعي كان يقول: "امرؤ القيس ملك ولا أراه يقول هذا، فكأن الأصمعي أنكرها". ولأن الوزير أبا بكر عاصم بن أيوب ذكر حين أورد هذه المقطعة أن الأصمعي قال3: "امرؤ القيس لا يقول مثل هذا، وأحسبه للحطيئة".   1 العقد الثمين - المقدمة: 2-3. 2 فهرست ابن خير: 388. 3 شرح ديوان امرئ القيس: 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 فرأينا أن قول الأصمعي يسقط هذه الأبيات من جملة ما رواه له، ويسلكها في عداد الأبيات والقصائد التي كان يشرحها، ولكنه ينص على أنها ليست لامرئ القيس وبذلك تكون رواية الأصمعي لشعر امرئ القيس سبعًا وعشرين قصيدة فقط، قال في ختامها: "قال أبو حاتم: هذا آخر ما صحح الأصمعي من شعر امرئ القيس، والناس يحملون عليه شعرًا كثيرًا وليس له، إنما هو لصعاليك كانوا معه" ثم قال: "كملت رواية أبي حاتم عن الأصمعي والحمد لله". أما القسم الثاني من نسخة الأعلم فيشتمل عن ست قصائد اختارها من رواية الكوفيين، ونص في ثلاث منها على أنها مما روى أبو عمرو الشيباني. وقد قدم لهذا القسم بقوله "قال أبو الحجاج يوسف بن سليمان: ونذكر قصائد متخيرات مما لم يرو أبو حاتم ... "، وقد ذكر الطوسي في نسخته أربعًا من هذه القصائد من رواية المفضل، ثم ذكر اثنتين من رواية غيره من الكوفيين. رواية الأصمعي والمفضل: رأينا من كل ما قدمنا من حديث عن نسخ ديوان امرئ القيس ورواياته أن الأصلين الأوليين والمصدرين الرئيسيين اللذين اعتمدت عليهما هذه النسخ هما: رواية الأصمعي البصري ورواية المفضل الكوفي، وأن ما جاء في بعض النسخ من القصائد الزائدة على هاتين الروايتين مما جمعه بعض الجامعين، فقليل جدًّا منها مروي عن أبي عمرو الشيباني، أما الباقي فقد نص على كثير منه بأنه منحول لامرئ القيس، وأن صحة نسبته إلى فلان أو فلان من الشعراء. ومن أجل هذه سنقصر حديثنا الآن على هاتين الروايتين، وبيان مصادرهما، ووصف طبيعتهما، ثم نعقب بذكر مطالع القصائد التي رواها الأصمعي، أولًا، والتي رواها المفضل ثانيًا، ونذكر في كل مطلع النسخ الأخرى التي ترد فيها هذه القصيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 مصادر الروايتين: فإذا كانت نسخ ديوان امرئ القيس المسندة تنتهي روايتها -كما رأينا- عند الأصمعي البصري، وعند المفضل الكوفي، فمن أين انحدرت إليهما قصائد هذا الديوان؟ وكيف وصلهما هذا الشعر الذي حُفظ لنا في روايتهما؟ أما الأصمعي فيبدو أن طريقنا إلى معرفة مصادره أوضح من طريقنا إلى معرفة مصادر المفضل؛ لأن الأصمعي قد نص على هذا الطريق وكشف لنا عن تلك المصادر، وذلك أن أبا حاتم قال1: "قال الأصمعي: كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس فهو عن حماد الراوية، إلا نتفًا سمعتها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء". فقد استقى الأصمعي إذن شعر امرئ القيس من ثلاثة مصادر: حماد، وهو المصدر الأكبر، والأعراب، وأبي عمرو بن العلاء. فإذا كان ذلك صحيحًا -وليس بين أيدينا ما يدفعه- فعلينا أن نقبله جملة كما هو، إذ من العسير أن نعرف القصائد التي استقاها من كل مصدر من هذه المصادر الثلاثة. ومع ذلك فقد بقيت لنا بعض الإشارات التي تؤيد هذا القول، وذلك أن الأصمعي يشير في روايته المحفوظة في نسخة الأعلم إلى أبي عمرو بن العلاء في موضعين، الأول: حين روى عنه قصيدة امرئ القيس التي مطلعها: ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرض تحرى وتدر فقد ذكر الأصمعي أن أبا عمرو بن العلاء أخذ هذه القصيدة من ذي الرمة. والموضع الثاني: حينما روى عنه أيضًا خبر منازعة امرئ القيس والتوءم اليشكري وأنصاف أبياتهما. وفي نسخة الطوسي يشير الأصمعي أيضًا إلى أبي عمرو بن العلاء في معرض حديثه عن القصيدة التي نسبها المفضل الضبي وأبو عمرو الشيباني وغيرهما من الكوفيين إلى امرئ القيس ومطلعها: أحار بن عمرو كأني خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر.   1 مراتب النحويين، ورقة 116-117، والمزهر 2: 406. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 فقد أنكرها الأصمعي وقال: "أنشدنيها أبو عمرو بن العلاء لرجل من النمر بن قاسط يقال له ربيعة بن جشم". وأشار الأصمعي أيضًا إلى بعض ما أخذه عن الأعراب من شعر امرئ القيس، فمن ذلك أن التبريزي حينما أورد بيت المعلقة: ترى بعر الأرءام في عرصاتها ... وقيعانها كأنه حب فلفل قال1: "وهذا البيت وما بعده مما يزاد في هذه القصيدة"، ثم قال: "قال الأصمعي: والأعراب ترويهما". وقد تكون ثمة إشارات أخرى -لم نعثر نحن عليها- إلى أبي عمرو بن العلاء وإلى الأعراب في رواية الأصمعي، غير أنها مع ذلك لا تعدو أن تكون أمثلة ونماذج تدعم القول الذي سقناه للأصمعي يبين فيه مصادر روايته لشعر امرئ القيس، ولكنها لا يمكن أن تبين -على وجه الحصر- ما أخذه الأصمعي عن أبي عمرو، وما أخذه عن الأعراب، ثم ما أخذه عن حماد. ومن أجل هذا قلنا قبل قليل إنه لا مفر لنا من أن نقبل قوله هذا جملة كما هو، فتكون بذلك أكثر رواية الأصمعي لشعر امرئ القيس عن حماد الراوية ثم أضاف إليها نتفًا أخذها عن أبي عمرو بن العلاء وسمعها من الأعراب. وقد تحدثنا في الفصل الثاني من الباب الثاني عن عناية أبي عمرو بن العلاء وحماد الراوية بالتدوين والمدونات، ورجحنا أن يكون قد وصلت إليهما بعض مدونات الشعر الجاهلي من العصور التي سبقتهما، ولا نحب أن نعيد هنا ما ذكرناه هناك، غير أننا نريد أن نذكِّر بأن حمادًا كان في بيته كتابا قريش وثقيف، وأنه نظر فيهما ليستذكر ما فيهما من شعر حين استقدمه الخليفة الأموي الوليد بن يزيد2. وأنه كان في بيته كذلك ديوان العرب، فلما أراد هذا الخليفة نفسه "أن يجمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها، استعار من حماد، ومن جناد بن واصل الكوفي، ما عندهما من الكتب والدواوين فدونها.   1 شرح القصائد العشر: 7. 2 الأغاني 6: 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 عنده، ثم رد إليهما كتابهما"1. وأن حمادًا كان عنده جزء من شعر الأنصار2. وأن أبا حاتم السجستاني رأى بعض كتب حماد في الشعر الجاهلي فرجع إليها وأثبت ما وجده فيها زائدًا على ما جمع من الشعر وإن كان نص على أن هذه الزيادات هي من الشعر المصنوع3. فرواية الأصمعي لشعر امرئ القيس -حين يرتفع سندها إلى حماد الرواية وأبي عمرو بن العلاء- إنما تعتمد، بعض الشيء، على صحائف متفرقة، أو دواوين مجموعة، كانت عند هذين العالمين، وربما وصلتهما من العصور السابقة على عصرهما، فضلًا عن اعتمادها على السماع والرواية الشفهية. غير أن الأصمعي لا يمكن أن يكون قد قبل كل ما سمعه من حماد، فإن ذلك مخالف لمنهج الأصمعي وطبيعة روايته مما سنتحدث عنه بعد قليل. إنما المرجح أن الأصمعي قد سمع ما عند حماد من شعر امرئ القيس ودوَّنه، ثم سمع ما عند شيخه أبي عمرو بن العلاء وعرض عليه بعض ما سمعه من حماد ودوَّن رواية أبي عمرو وتعليقاته، ثم دوَّن النتف التي سمعها من الأعراب، وعاد على كل ذلك بالنقد والتحقيق والتمحيص، فأسقط منه ما أسقط، ولعله كثير جدًّا، ثم دوَّن نسخته الخاصة من شعر امرئ القيس وأثبت فيها ما اطمأن هو نفسه إلى صحة نسبته إلى هذا الشاعر، وهذه النسخة هي التي حفظها لنا الأعلم والتي ذكر أبو حاتم في نهايتها أن "هذا آخر ما صحح الأصمعي من شعر امرئ القيس". ومما يؤيد ما نذهب إليه من اتصال رواية الأصمعي بالمدونات أننا نجد الأصمعي ينكر أن تكون القصيدة جملة لامرئ القيس، وينسبها لشاعر آخر، أو يقبل القصيدة وينكر أبياتًا منها، ومع ذلك نجده يشرح هذه القصائد التي   1 الفهرست: 134. 2 الأغاني 6: 87. 3 مختارات ابن الشجري: 123، 127، 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 أنكرها، وتلك الأبيات التي دفعها؛ وتعليل ذلك -فيما نرجح- أن ديوان امرئ القيس قد وصل مدونًا مكتوبًا إلى عصر الأصمعي، وأن الأصمعي -وغيره من الرواة العلماء- كانوا يقرءون هذا الديوان الذي وصلهم مدونًا، أو يقرؤه عليهم بعض تلاميذهم، فيضطرون إلى التعرض لكل قصيدة في ذلك الديوان بالنقد والتعليق: يدفعون من قصائده أو أبياته ما يشكون فيها، وقد ينسبونها إلى الشاعر الذي يرجحون أنه قالها، ويثبتون منها ما يطمئنون إلى صحته، ولكنهم مع ذلك يشرحون لتلاميذهم في مجالس علمهم جميع ما في ذلك الديوان من شعر صحيح ومنحول. ومن هنا وجدنا شرحًا للأصمعي على قصائد وأبيات أنكر نسبتها لامرئ القيس. أما المفضل الضبي فيبدو كذلك أن روايته متصلة بالمدونات التي وصلت إليه من العصور السابقة، وسنفصل القول في ذلك حين نتحدث عن المفضليات في الفصل الثالث من هذا الباب؛ وسنجد هناك أن المفضل قد اختار قصائده من الدواوين المدونة، واستخرجها من الكتب التي كانت في مكتبته. وإن كان يعوزنا النص الصريح على ذلك في روايته لديوان امرئ القيس ذاته، إلا أننا نحمل هذا على ذاك. طبيعة الروايتين ومنهجهما: وكان من نتيجة ما قام به الأصمعي من نقد وتحقيق ونحل وتمحيص لما استقاه من شعر امرئ القيس من تلك المصادر الثلاثة أن جاءت روايته لديوانه في سبع وعشرين قصيدة ومقطعة فقط، وهي أقل الروايات التي عثرنا عليها كافةً. وتعليل ذلك في هذا المنهج الذي أخذ به البصريون عامةً أنفسهم ولا سيما الأصمعي. وهو منهج يقوم -كما قدمنا في غير هذا الفصل- على التضييق في المصادر التي يستقون منها، والتحري في الرواية التي يقبلونها. وأخذ الأصمعي نفسه -في حدود هذا المنهج- بأكثر مما أخذ به البصريون عامةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 نفوسهم، فقد قال ابن مناذر1: "كان الأصمعي يجيب في ثلث اللغة، وكان أبو عبيدة يجيب في نصفها، وكان أبو زيد يجيب في ثلثيها، وكان أبو مالك "عمرو بن كركرة الأعرابي" يجيب فيها كلها". وقد فسر أبو الطيب اللغوي المقصود بهذا الكلام، فقال "وإنما عنى ابن مناذر توسعهم في الرواية والفتيا؛ لأن الأصمعي كان يضيِّق ولا يجوِّز إلا أفصح اللغات، ويلح في ذلك ويمحك، وكان مع ذلك لا يجيب في القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا يزيد بعضهم على بعض". ومع أن الكوفيين عامةً كانوا أكثر توسعًا في المصادر -على ما ذكرناه في فصل سابق- وأكثر تساهلًا وتجوزًا في قبول الروايات، غير أن المفضل بن محمد كان يأخذ نفسه بمثل المنهج البصري من التضييق والتحري، ومن أجل هذا وثقه البصريون أنفسهم وأخذوا عنه2. وكان من نتيجة تضييقه وتحريه أن جاءت روايته لديوان امرئ القيس في أربعين قصيدة ومقطعة. وهي أكثر من رواية الأصمعي، ولكنها نقل كثيرًا عما جاء في النسخ التي جمعت روايات ديوان امرئ القيس المختلفة -وأكثرها روايات كوفية- مثل نسخة السكري ونسخة ابن النحاس. والحق أن هذه الزيادة في رواية بعض الكوفيين لا تعني أنهم كانوا يضعون ويصنعون، أو ينحلون ويتزيدون، ونحن نقصد بطبيعة الحال الثقات منهم من أمثال: المفضل الضبي وأبي عمرو الشيباني ومحمد بن زياد الأعرابي. فلقد مر بنا توثيق البصريين أنفسهم للمفضل وأخذهم عنه، وأما أبو عمرو الشيباني فقد كان ثقة ثبتًا عند أصحاب المذهبين معًا يوثقونه جميعهم، ولم نجد لأحد طعنًا عليه في روايته أو توهينًا له؛ وأما ابن الأعرابي فكان ربيب المفضل وتلميذه وقد أخذ عنه دواوين الشعر وصحيحها، وقالوا فيه إنه "لم يكن في الكوفيين أشبه   1 مراتب النحويين: 67. 2 أخبار النحويين البصريين: 56-57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 برواية البصريين منه"1. وإنما مرد هذه الزيادة في الرواية -كما ذكرنا من قبل في مواطن متعددة- إلى اختلاف مصادر المدرستين واختلاف منهجيهما، فقد ذكرنا أن الكوفيين كانوا يأخذون عن أعراب رواة لم يكن البصريون يأخذون عنهم، وأخذ الكوفيون عن علماء وشيوخ من أهل البصرة وزادوا فأخذوا عن علماء وشيوخ لم يأخذ عنهم البصريون، ووقع بين أيدي أهل الكوفة من الصحف المدونة ما لم يقع مثله لأهل البصرة. وكان من نتيجة هذا الاختلاف في المصادر وفي المناهج أن اختلف بعض الشعر الذي رواه علماء كل من المدرستين، وأن جاء الشعر في رواية الكوفيين أكثر منه في رواية البصريين. وكما كان البصريون ينقدون ويمحصون كان كذلك الكوفيون ينقدون ويمحصون، وكان علماء المدرستين معًا لا يقبلون كل ما يسمعون أو يقرءون، وإنما كانوا يعرضونه على محك النقد والتمحيص. حتى إن الكوفيين -على توسعهم في المصادر وتكثرهم في الرواية- أسقطوا بعض القصائد التي رواها الأصمعي لامرئ القيس وأنكروها. فلم يرو المفضل سبع قصائد ومقطعات رواها الأصمعي وإسقاطها من روايته دليل على أنه لم يعدها من شعر امرئ القيس الصحيح في رأيه، وكذلك روى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قصيدة لامرئ القيس مطلعها: أماوي هل لي عندكم من معرس ... أم الصرم تختارين بالوصل نيئس فأنكرها أبو عمرو الشيباني -أو غيره من الكوفيين- وقال إنها ليست لامرئ القيس وإنما هي لبشر بن أبي خازم2. وكذلك أنكر الكوفيون قصيدة أخرى رواها الأصمعي وأبو عبيدة ومطلعها: يا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسبا   1 طبقات النحويين واللغويين: 213. 2 القصيدة: 44 من نسخة الطوسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 وقالوا إنها منحولة. ولقد كانت كثرة رواية الكوفيين مطعنًا عليهم عند البصريين، فاتهموهم بالتكثير والتزيد، غير أننا رأينا أنها كثرة لا تكثر، وزيادة لا تزيد، وأن الثقات الأثبات من الكوفيين كانوا كالثقات الأثبات من البصريين: ينقدون ويمحصون ويتحرون، غير أن اختلاف المصدرين واختلاف المنهجين أدَّيا إلى أن يكون ما عند الكوفيين أكثر مما عند البصريين. ومع ذلك فإن ثمة أمرًا تحسبه من الوضوح والبداهة بحيث لا يحتاج إلى تفصيل في القول طويل، وهو أن توثيقنا للعلماء الرواة من الكوفيين وللعلماء الرواة من البصريين لا يعني أن كل ما يروون شعر صحيح مقطوع بصحته، لا سبيل إلى الشك فيه أو الطعن عليه. وإنما أردنا أن نؤكد تأكيدًا واضحًا أن هؤلاء العلماء الرواة لا يمكن أن يكونوا كذابين يتعمدون الكذب، ولا وضاعين يحترفون الوضع، وأن رواية هؤلاء العلماء الرواة في مجموعها رواية صحيحة أو قريبة من الصحة، وأن هؤلاء العلماء الرواة قد أفرغوا جهدهم وبذلوا أقصى طاقتهم في النقد والتمحيص حتى استقام لهم ما استقام من شعر اطمأنوا إلى صحته وفقًا لمنهجهم العلمي فرووه، ورواه عنهم تلاميذهم، حتى وصل إلينا منسوبًا إليهم، مرويًّا عنهم. فحديثنا إذن عن الرواية في مجموعها، وأحكامنا على الرواية في جملتها، أما أجزاؤها ومفرداتها فلا بد لها من أن تخضع لنقد مفصل ذي شقين: خارجي يبحث في سند الرواية وتوثيق الرواة، وداخلي يبحث في الخصائص الفنية للشاعر ومدى تحققها في قصائده. فالأصمعي وتلميذه أبو حاتم السجستاني البصريان من جانب، والمفضل وتلميذاه أبو عمرو الشيباني وابن الأعرابي الكوفيون من جانب آخر كلهم ثقات أثبات مأمونون، مختصون في موضوعهم، لهم منهجهم في النقد والتحقيق والتمحيص، وروايتهم لديوان امرئ القيس -من أجل ذلك- رواية لها قيمتها العلمية التاريخية. ولو اتفقوا جميعًا على رواية واحدة لأخذنا بها وقبلناها، ولكن روايتهم مختلفة، تتسع رقعة الخلاف حين يكون الرواة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 من مدرستين مختلفين، وتضيق حين يكونون من مدرسة واحدة. ومن أجل هذا الخلاف كان لا بد لنا من أن نتوقف ونتريث، ونصطنع لأنفسنا منهجًا كما اصطنعوا، ونحتكم إلى قاعدة إن لم تنته بنا إلى يقين نقطع به، فستنهي بنا إلى شبه يقين نطمئن إليه. ونحسب أن خير منهج نملك الآن أسبابه -بعد هذه القرون التي باعدت بيننا وبين عصر الشعر الجاهلي وعصر العلماء الذين دونوه ورووه- هو أن نسلِّم بصحة ذلك القدر من الشعر الذي اتفق عليه العلماء الرواة جميعهم واشتركوا في روايته، وأن نتخذ من هذا القدر المشترك المتفق عليه أصلًا لديوان الشاعر: ندرسه دراسة دقيقة لنستشف منه روح الشاعر وخصائصه الفنية، ثم نتخذ من هذا المقياس الفني الذي نستخرجه محكًّا نعرض عليه القصائد المتفرقة التي انفرد كل راوية عالم بروايتها، فما استقام منها مع مقياسنا رجحنا صحته وضممناه إلى الديوان، وما لم يستقم رجحنا أنه مما اختلطت نسبته على ذلك الراوية العالم. فلو طبقنا هذا المنهج على شعر امرئ القيس لوجدنا أن المفضل الكوفي والأصمعي البصري قد اتفقا معًا على رواية عشرين قصيدة ومقطعة لامرئ القيس، وهي موضحة في الثبت الملحق بهذا الفصل، ثم لوجدنا أيضًا أن هذه القصائد العشرين التي اتفق على روايتها المفضل والأصمعي قد برئت من طعن الرواة الآخري، وأن الإجماع بذلك منعقد على صحتها. ومن هنا جاز لنا أن نتخذها أصلًا صحيحًا -أو أقرب ما يكون إلى الصحة- لديوان امرئ القيس، ثم نعود على هذه القصائد العشرين بالدراسة النقدية لنستخرج منها روح الشاعر وخصائصه الفنية، ونتخذ من ذلك مقياسًا فنيًّا نعرض عليه القصائد السبع التي انفرد بروايتها الأصمعي، والقصائد العشرين التي انفرد بروايتها المفضل، والقصائد المتفرقة القليلة التي انفرد بروايتها أبو عبيدة أو أبو عمرو الشيباني أو ابن الأعرابي، فما وجدناه منها متفقًا مع مقياسنا رجحنا صحته وأدخلناه في الديوان، وإلا شككنا فيه ودفعناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 قصائد امرئ القيس ومقطعاته مرتبة كما جاءت في رواية الأصمعي : ومقارنتها بما في الروايات الأخرى 1- قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوي بين الدخول وحومل 1- القصيدة رقم 3 في نسخة الطوسي من رواية المفضل الضبي. 2- وهي القصيدة الأولى في نسختي السكري وابن النحاس. 2- ألاعم صباحًا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي 1- القصيدة الثانية في نسخة الطوسي من رواية المفضل الضبي. 2- وهي كذلك الثانية في نسختي السكري وابن النحاس. 3- خليلي مرَّا بي على أم جندب ... نقض لُبانات الفؤاد المعذب 1- القصيدة الرابعة في نسخة الطوسي من رواية المفضل. 2- القصيدة السادسة في نسخة السكري. 3- القصيدة السادسة والعشرون في نسخة ابن النحاس. 4- سما لك شوق بعدما كان أقصرَا ... وحلت سليمي بطن قو فعرعرا 1- القصيدة الخامسة في نسخة الطوسي من رواية المفضل، وفي نسخة السكري. 2- والسادسة عشرة نسخة ابن النحاس. 5- أعني على برقٍ أراه وميض ... يضيء حبيًّا في شماريخ بيض 1- في نسخة الأعلم قبل القصيدة "ويقال إنها لأبي دؤاد الإيادي"، ونحن نرجح أن هذا ليس من كلام الأصمعي نفسه، وأن الأصمعي لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 يشك فيها، وإنما نسبها إلى امرئ القيس. وليس في الروايات والنسخ الأخرى ما يشير إلى شك الأصمعي فيها. فلعل هذا من كلام الأعلم نفسه. 2- القصيدة التاسعة في نسخة الطوسي من رواية المفضل، وفي نسخة السكري. 3- القصيدة التاسعة والثلاثون في نسخة ابن النحاس. 6- غشيت ديار الحي بالبكرات ... فعارمة فبرقة العيرات 1- القصيدة الثالثة عشرة في نسخة الطوسي من رواية المفضل. 2- القصيدة الثامنة والثلاثون في نسخة السكري، والحادية والثلاثون في نسخة ابن النحاس. 7- ألا إن قومًا كنتم أمس دونهم ... هم منعوا جاراتكم آل عدوان 1- لم يروها المفضل ولا أبو عمرو الشيباني ولا ابن الأعرابي ولم ترد أصلًا في نسخة الطوسي فكأن الكوفيين كانوا يدفعونها. 2- القصيدة الثالثة والخمسون في نسختي السكري وابن النحاس. 8- لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخط زبور في عسيب يمان 1- القصيدة السابعة في نسخة الطوسي من رواية المفضل. 2- والثالثة عشرة في نسخة السكري، والخمسون في نسخة ابن النحاس. 9- قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان ... ورسم عفت آياته منذ أزمان 1- القصيدة الثامنة في نسخة الطوسي من رواية المفضل. 2- والحادية عشرة في نسخة السكري، والثانية والخمسون في نسخة ابن النحاس. 10- دع عنك نهبًا صيح في حجراته ... ولكن حديثًا ما حديث الرواحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 1- القصيدة السادسة والثلاثون في نسخة الطوسي من رواية المفضل. 2- والثانية والثلاثون في نسخة السكري، والرابعة في نسخة ابن النحاس. 11- أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب 1- لم يروها المفضل ولا أبو عمرو الشيباني ولا ابن الأعرابي وأوردها الطوسي في نسخته "رقم 45" مما اختاره من رواية الأصمعي، فكأن الكوفيين كانوا يدفعونها. 2- القصيدة الثامنة عشرة في نسخة السكري. 3- والتاسعة والعشرين في نسخة ابن النحاس ونص على أن الأصمعي أنشدها عن أبي عمرو بن العلاء. 12- أماوي هل لي عندكم من معرس ... أم الصرم تختارين بالوصل نيأس 1- لم يروها المفضل ولا أبو عمرو الشيباني ولا ابن الأعرابي ودفعها الكوفيون، وقالوا إنها لبشر بن أبي خازم الأسدي، وقد أوردها الطوسي "رقم 44" مما اختاره من رواية الأصمعي. 2- القصيدة السادسة عشرة في نسخة السكري، والسابعة والثلاثون في نسخة ابن النحاس. 13- ألما على الربع القديم بعسعسا ... كأني أُنادي أو أُكلم أخرسا 1- القصيدة رقم 14 في نسخة الطوسي من رواية المفضل ومطلعها عنده: تأوبني دائي القديم فغلسا ... أحاذر أن يرتد دائي فأنكسا وهو البيت الخامس من القصيدة في رواية الأصمعي. 2- جاءت في نسختي السكري وابن النحاس على الرواية الكوفية، رقم 19 في السكري، ورقم 36 في ابن النحاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 14- لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر ... ولا مقصر يومًا فيأتيني بقر 1- القصيدة السادسة عشرة في نسخة الطوسي من رواية المفضل. 2- والثامنة في نسخة السكرى، والثامنة عشرة في نسخة ابن النحاس. 15- لمن الديار غشيتها بسحام ... فعمايتين فهضب ذي إقدام 1- القصيدة الحادية عشرة في نسخة الطوسي من رواية المفضل. 2- والعاشرة في نسخة السكري، والخامسة والأربعون في نسخة ابن النحاس. 16- يا دار ماوية بالحائل ... فالسهب فالخبتين من عاقل. 1- القصيدة الثامنة عشرة في نسخة الطوسي من رواية المفضل ولم يرو الطوسي منها غير بيتين مطلعهما: وهن أرسال كمثل الدبا ... أو كقطا كاظمة الناهل وقال جامع نسخة الطوسي إن أبا نصر أحمد بن حاتم قال: روى الأصمعي أول هذه الأبيات: يا دار سلمى دارسًا رسمها ... بالرمل فالخبتين من عاقل وهو البيت السابع في رواية الأصمعي. ومن أجل هذا ذكرها جامع نسخة الطوسي فيما سماه "المنحول الثاني من شعر امرئ القيس" ورقمها فيه 52، فكأن الكوفيين كانوا يدفعونها. 2- القصيدة الخامسة عشرة في نسخة السكري، والثانية عشرة في نسخة ابن النحاس. 17- رب رام من بني ثعل ... متلج كفيه في قترة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 1- القصيدة السابعة عشرة في نسخة الطوسي من رواية المفضل. 2- والسابعة في نسخة السكرين، والسابعة عشرة في نسخة ابن النحاس. 18- يا هند لا تنكحي بوهةً ... عليه عقيقته أحسبا 1- لم يروها المفضل ولا أبو عمرو الشيباني ولا ابن الأعرابي ولم ترد أصلًا في نسخة الطوسي، فكأن الكوفيين كانوا يدفعونها. وذكر الآمدي أنها لامرئ القيس بن مالك الحميري. 2- القصيدة السابعة عشرة في نسخة السكري. 3- والثامنة والعشرون في نسخة ابن النحاس وذكر فيها "وزعموا أنها منحولة، ورواها أبو عبيدة". 19- ألا قبح الله البراجم كلها ... وجدع يربوعًا وعفر دارما 1- القصيدة الأربعون في نسخة الطوسي من رواية المفضل، ونص على أن ابن الأعرابي لم يعرفها. 2- التاسعة والثلاثون في نسخة السكري، والثامنة والأربعون في نسخة ابن النحاس. 20- إن بني عوف ابتنوا حسبَا ... ضيعه الدخللون إذ غدروا 1- لم يروها المفضل ولا أبو عمرو الشيباني ولا ابن الأعرابي، وذكرها الطوسي في نسخته رقم "43" فيما اختاره من رواية أبي عبيدة والأصمعي. فكأن الكوفيين كانوا يدفعونها. 2- القصيدة الرابعة عشرة في نسخة السكري، والتاسعة عشرة في نسخة ابن النحاس. 21- والله لا يذهب ... شيخي باطلا "رجز" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 1- القصيدة التاسعة والعشرون في نسخة الطوسي من رواية المفضل، ومطلعها عنده: "يا لهف هند إذ خطئن كاهلا" وهو البيت الخامس في رواية الأصمعي. 2- القصيدة الخامسة والعشرون في نسخة السكرى، والحادية عشرة في نسخة ابن النحاسن وهما يوردان مطلعها كما في الرواية الكوفية. 22- ألا يا لهف هندٍ إثر قوم ... هم كانوا الشفاء فلم يصابوا 1- القصيدة التاسعة عشرة في نسخة الطوسي من رواية المفضل. 2- والسادسة والعشرون في نسخة السكري، والسابعة والعشرون في نسخة ابن النحاس، وقال "رواها الأصمعي وأبو عبيدة". 23- كأني إذ نزلت على المعلى ... نزلت على البواذخ من شمام 1- القصيدة الثانية والثلاثون في نسخة الطوسي من رواية المفضل. 2- والتاسعة والعشرين في نسخة السكري. 3- لم يوردها ابن النحاس في نسخته. 24- لنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره ... طريف بن مال ليلة الجوع والخصر 1- القصيدة الخامسة والثلاثون في نسخة الطوسي من رواية المفضل. 2- القصيدة الثلاثون في نسخة السكري، والعشرون في نسخة ابن النحاس. 25- أبعد الحارث الملك بن عمرو ... له ملك العراق إلى عُمان 1- القصيدة الرابعة والثلاثون في نسخة الطوسي من رواية المفضل. 2- والسادسة والثلاثون في نسخة السكري، والرابعة والخمسون في نسخة ابن النحاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 26- ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرض تحرى وتدر 1- رواها الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمة. 2- القصيدة الثالثة والثلاثون في نسخة الطوسي من رواية المفضل. 3- والرابعة في نسخة السكري، والخامسة عشرة في نسخة ابن النحاس. 27- أحار ترى بريقًا هب وهنا ... ................................. 1- أنصاف أبيات لامرئ القيس أكمل أعجازها التوءم اليشكري في منازعتهما الشعر؛ وقد رواها الأصمعي على أبي عمرو بن العلاء. 2- لم يروها المفضل، ولا أبو عمرو الشيباني، ولا ابن الأعرابي، ولم ترد أصلًا في نسخة الطوسي، فكأن الكوفيين كانوا يدفعونها. 3- القصيدة الثانية عشرة في نسخة السكري، والثالثة والعشرون في نسخة ابن النحاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 قصائد امرئ القيص ومقطعاته من رواية المفضل ... قصائد امرئ القيس ومقطعاته من رواية المفضل: مرت بنا -في رواية الأصمعي- جملة قصائد مما رواه المفضل لامرئ القيس، فهي بذلك مما اتفق الشيخان: الأصمعي البصري، والمفضل الكوفي، على روايتها وصحتها نسبتها. وهي: القصائد الست الأولى، ثم الثامنة، والتاسعة، والعاشرة، ثم الثالثة عشرة، والرابعة عشرة، والخامسة عشرة، ثم السابعة عشرة، ثم التاسعة عشرة، ثم من القصيدة الحادية والعشرين إلى القصيدة السادسة والعشرين. وبذلك يكون ما اتفق الشيخان على روايته عشرين قصيدة ومقطعة لامرئ القيس. ونذكر الآن سائر رواية المفضل من القصائد التي لم يوردها الأصمعي في روايته، وهي: 1- أحار بن عمرو كأني خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 1- رواها المفضل وأبو عمرو الشيباني، أما الأصمعي فقد أنكر نسبتها لامرئ القيس، وقال: أنشدنيها أبو عمرو بن العلاء لرجل من النمر بن قاسط يقال له ربيعة بن جشم. وأولها عن الأصمعي: لا وأبيك ابنة العامر ... ي لا يدعى القوم أني أفر 2- اختارها الأعلم فيما اختاره من رواية المفضل وأبي عمرو، وهي القصيدة التاسعة والعشرون في نسخته. وأوردها الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب في نسخته لديوان امرئ القيس وهي أول ما أورده له. 3- القصيدة الثالثة في نسخة السكري، ومطلعها عنده من رواية الأصمعي، والقصيدة الرابعة عشرة في نسخة ابن النحاس. 2- ألا انعم صباحًا أيها الربع وانطق ... وحدث حديث الركب إن شئت فاصدق 1- اختارها الأعلم فيما اختار من رواية المفضل وأبي عمرو، وهي القصيدة الثلاثون في نسخته. 2- القصيدة الثانية والأربعون في نسخة السكري، والثالثة والأربعون في نسخة ابن النحاس. 3- أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص ... فتقصر عنها خطوة أو تبوص 1- اختارها الأعلم فيما اختار من رواية المفضل وأبي عمرو، ورقمها في نسخته الحادية والثلاثون. 2- القصيدة الثامنة والأربعون في نسخة السكري، والأربعون في نسخة ابن النحاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 4- تطاول ليلك بالإثمد ... ونام الخلي ولم ترقد 1- اختارها الأعلم فيما اختار من رواية المفضل وأبي عمرو، وهي القصيدة الثانية والثلاثون في نسخته. 2- القصيدة التاسعة والأربعون في نسخة السكري، والثالثة والثلاثون في نسخة ابن النحاس. 5- عيناك دمعهما سجال ... كأن شأنيهما أوشال 1- القصيدة الواحدة والأربعون في نسخة السكري، والسابعة في نسخة ابن النحاس وقد نص على أن الأصمعي لم يعرفها. 6- لا تسلمني يا ربيع لهذه ... وكنت أراني قبلها بك واثقا 1- القصيدة السابعة والأربعون في نسخة السكري، والرابعة والأربعون في نسخة ابن النحاس. 7- يا ثعلًا وأين مني بنو ثعل ... ألا حبذا قوم يحلون بالجبل 1- القصيدة الرابعة والثلاثون في نسخة السكري، والسادسة في نسخة ابن النحاس. 8- أحللت رحلي في بني ثعلٍ ... إن الكرام للكريم محل 1- القصيدة الثالثة والثلاثون في نسخة السكري، والخامسة في ابن النحاس. 9- ألا يا عين بَكِّي لي شنينَا ... وبَكِّي لي الملوك الذاهبينا 1- القصيدة الواحدة والخمسون في نسخة السكري، والخامسة والخمسون في ابن النحاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 10- عفا شطب من أهله وغرور ... فمربولة إن الديار تدور 1- القصيدة الخامسة والخمسون في نسخة السكري، ولم يوردها ابن النحاس في نسخته. 11- إذا ما لم تكن إبل فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي 1- أوردها الطوسي "رقم 22" في نسخته فيما أورده من رواية الأصمعي، غير أنه قال: "كان الأصمعي يقول: امرؤ القيس ملك ولا أراه يقول هذا، فكأن الأصمعي أنكرها". وأوردها كذلك الوزير أبو بكر في نسخته ص165 ولكنه قال: "قال الأصمعي: امرؤ القيس لا يقول مثل هذا وأحسبه للحطيئة". ومن أجل هذا أسقطناها من رواية الأصمعي. 2- القصيدة الخامسة والثلاثون في نسخة السكري، والسادسة والخمسون في نسخة ابن النحاس. 12- أبعد زبدان أمسى قرقرًا جلدًا ... وكان من جندل أصم منضودا 1- القصيدة الستون في نسخة السكري، ولم يوردها ابن النحاس في نسخته. 13- تنكرت ليلى عن الوصل ... ونأت ورث معاقد الحبل 1- القصيدة الخامسة والأربعون في نسخة السكري. 2- والتاسعة في نسخة ابن النحاس، وذكر فيها "قال ابن دريد: دفعها الأصمعي، ورواها قوم لابن أحمر، وهي في أصل اليزيدي". 14- أرى ناقة القيس قد أصبحت ... على الأين ذات هباب نوارا 1- القصيدة الرابعة والأربعون في نسخة السكري، والخامسة والعشرون في نسخة ابن النحاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 15- ولقد بعثت العنس ثم زجرتها ... وهنًا وقلت عليك خير معد 1- القصيدة الثانية والثلاثون في نسخة ابن النحاس، ولم يوردها السكري. 16- أني على استتب لومكما ... ولم تلوما حجرًا حجرًا ولا عصما 1- القصيدة السابعة والثلاثون في نسخة السكري، والسادسة والأربعون في نسخة ابن النحاس. 17- لعمري لقد بانت بحاجة ذي هوى ... سعاد وراعت بالفراق مروعا 1- القصيدة الخمسون في نسخة السكري، والحادية والأربعون في نسخة ابن النحاس. 18- أبلغ شهابًا وأبلغ عاصمًا ... ومالكًا هل أتاك الخبر مال 1- القصيدة الثالثة والأربعون في نسخة السكري، والثامنة في نسخة ابن النحاس، ووزن هذه الأبيات مختلط، ويختلف في النسخ المختلفة. 19- ألا أبلغ بني حجر بن عمرو ... وأبلغ ذلك الحي الحريدا 1- القصيدة السادسة والخمسون في نسخة السكري، والرابعة والثلاثون في نسخة ابن النحاس. 20- قد أتاني عن مريء مالك ... لابنة الحصاء أن هبها فجد 1- آخر رواية المفضل. وقد قال الطوسي عن هذه القصيدة "لم يروها ابن الأعرابي" فكأنها من القصائد التي أسقطها ابن الأعرابي حينما كان يصحح رواية شيخه المفضل. 2- لم ترد في نسخة السكري، ولا في نسخة ابن النحاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 وبذلك تكون قصائد امرئ القيس ومقطعاته في رواية المفضل بن محمد الضبي -الكوفي- أربعين قصيدة ومقطعة، اتفق هو والأصمعي على رواية عشرين منها، وانفرد برواية العشرين الأخرى. -3- وقد كفانا مئونة تفضيل الحديث عن سائر دواوين الجاهلية ما قدمناه من حديث عن ديوان امرئ القيس، حيث فصلنا القول تفصيلًا يكشف عن المنهج الذي نرى أن ينهج في تتبع روايات هذه الدواوين الجاهلية، وإرجاعها إلى اصولها، وتفسير ما في رواياتها من اختلاف. أما ديوان زهير بن أبي سلمى فلا تذكر لنا المصادر العربية -من العلماء الذين جمعوا هذا الديوان- غير ستة، هم: 1- يعقوب بن إسحاق السكيت1. 2- أبو الحسن علي بن عبد الله بن سنان الطوسي2. 3 محمد بن هبيرة الأسدي المعروف بصعوداء3. 4- أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري4. 5- أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري5. 6- يوسف بن سليمان، الأعلم الشنتمري6. والعجيب أنه ليس من بين هذه الأسماء عالم واحد من رواة الطبقة الأولى.   1 ابن النديم: 224. 2 المصدر السابق: 224. 3 البغدادي، الخزانة 3: 3. 4 ابن النديم: 117، 223، 224؛ ونزهة الألباء: 145، وإنباه الرواة 1: 293. 5 ابن النديم: 112، وياقوت، إرشاد 19: 313. 6 الخزانة 3: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 ممن يعدون أصولًا، وإنما هم جميعًا إما من تلاميذ هذه الطبقة: مثل ابن السكيت وهو كوفي المذهب أخذ عن أبي عمرو الشيباني والفراء وابن الأعرابي، وإما من الجماع الذي جمعوا بين الروايات المختلفة، فرجحوا كفة الكوفيين حينًا مثل: صعوداء والطوسي وابن الأنباري، أو رجحوا كفة البصريين حينًا آخر مثل: السكري والأعلم. فأين إذن روايات ديوان زهير التي تعد أصولًا؟ لقد أغفلت ذكرها المصادر العربية؛ ولكنها بقيت، مع ذلك، فيما وصل إلينا من نسخ هذا الديوان، أو فيما تضمنته هذه النسخ من إشارات للرواة والروايات. وهذه الأصول لديوان زهير -كما كانت أصول ديوان امرئ القيس- قسمان: أصول بصرية، وأصول كوفية. الأصول البصرية: وهي أصلان: رواية أبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي، ورواية أبي سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي. 7- رواية أبي عبيدة: أما رواية أبي عبيدة فلم تُحفظ لنا كاملة، ولم يبق لنا منها إلا قصائد متفرقة ذُكر في مقدمتها أنها من رواية أبي عبيدة، أو ألفاظ في أبيات من قصائد أشير فيها إلى رواية أبى عبيدة كما أشير فيها إلى رواية غيره من العلماء. فقد ذكر الأعلم عند حديثه عن قصيدة زهير: أبلغ بني نوفل عني فقد بلغوا ... مني الحفيظة لما جاءني الخبر أن أبا حاتم قال "لم يعرفها الأصمعي، وعرفها أبو عبيدة". وكذلك ذكر عند حديثه عن قصيدته: أبلغ لديك بني الصيداء كلهم ... أن يسارًا أتانا غير مغلول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 أن أبا حاتم قال: "لم يعرفها الأصمعي، وعرفها أبو عبيدة". وذكر ثعلب عند حديثه عن قصيدته: شطت أميمة بعدما صقبت ... ونأت وما فني الجناب فيذهب أنه "لم يروها أبو عمرو لزهير ولا لكعب، ورواها أبو عبيدة لزهير"1. وذكر عند حديثه عن قصيدته: فعد عما ترى إذ فات مطلبه ... أضحى بذاك غراب البين قد نعقا أن هذه الأبيات لم يملها أبو عمرو ولا أبو نصر، ولم يعرفها الأصمعي، ولكن "رواها أبو عبيدة وهي صحيحة عنده"2. وأنكر أبو عبيدة قصيدة زهير: إن الرزية لا رزية مثلها ... ما تبتغي غطفان يوم أضلت وقال إنها لقراد بن حنش من شعراء غطفان، وأن زهيرًا ادعى هذه الأبيات3. أما روايات أبي عبيدة لبعض الألفاظ في أبيات من قصائد زهير فكثيرة جدًّا وقد أشار إليها الأعلم وثعلب في مواطن كثيرة من شرحيهما. 8- رواية الأصمعي: أما رواية الأصمعي فقد حُفظت لنا كاملة، حفظها الأعلم الشنتمري في مجموعته "دواوين الشعراء الستة"4. وقد مر بنا أن الأعلم ذكر في مقدمة   1 شرح ديوان زهير "ط. دار الكتب" ص368. 2 معهد إحياء المخطوطات العربية، فيلم 822، ورقة: 133. انظر ديوان زهير "دار الكتب": 41. 3 ابن سلام، طبقات الشعراء: 568. 4 طبع ديوان زهير -من نسخة الأعلم- ثلاث طبعات، الأولى: ضمن كتاب العقد الثمين في دواوين الشعراء الستة الجاهلية، تحقيق أهلوارد ط. لندن سنة 1870، وهو شعر مجرد من غير شرح. والثانية: أصدرها لاندبرج G. Landberg وهي الطريقة الثانية" من سلسلة طرف عربية"، ط. ليدن سنة 1889 وفيها شرح الأعلم9 والثالثة: طبعت بالمطبعة الحميدة بمصر سنة 1323هـ: وفيها شرح الأعلم كذلك. أما نسخة الأعلم من مجموعة الدواوين الستة الكاملة، فقد ذكرنا عند حديثنا عنها قبل صفحات أن منها مخطوطتين في دار الكتب المصرية برقم 450 تيمور و 81 ش، وذلك غير النسخ التي ذكرها أهلوارد في طبعته وأشرنا إليها في حديثنا عن ديوان امرئ القيس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 مجموعته أنه اعتمد -في نسخته لدواوين هؤلاء الشعراء- على أصح رواياتها، وهي رواية الأصمعي، قال: "واعتمدت فيما جلبته من هذ الأشعار على أصح رواياتها، وأوضح طرقاتها، وهي رواية عبد الملك بن قريب الأصمعي، لتواطؤ الناس عليها، واعتيادهم لها، واتفاق الجمهور على تفضيلها؛ وأتبعت ما صح من رواياته قصائد متخيرة من رواية غيره ... " ومن عادة الأعلم في مجموعته هذه أنه يستوفي رواية الأصمعي كاملة في كل ديوان من هذه الدواوين، ثم يتبعها بقصائد مختارة للشاعر يختارها من غير رواية الأصمعي، ثم ينص على هذه المختارات من رواية الكوفيين وخاصة المفضل وأبا عمرو الشيباني. وعلى هذا الأساس الواضح أورد الأعلم ثماني عشرة قصيدة ومقطعة لزهير ثم ذكر في ختامها ما يلي1: "كمل جميع ما رواه الأصمعي من شعر زهير، ونصل به بعض ما رواه غيره إن شاء الله". ثم يورد قصيدتين ذكر أنهما مما رواه أبو عمرو والمفضل، ويختم نسخته بقوله2: "كمل جميع شعر زهير مما رواه الأصمعى وأبو عمرو والمفضل..". وسنورد مطالع هذه القصائد في ثبت نلحقه بهذا الحديث. غير أن الأعلم قد أورد -فيما أورده من رواية الأصمعي لشعر زهير- ثلاث قصائد ليست من رواية الأصمعي، وقد نص في الأوليين منها -وقد مر ذكرهما قبل قليل- على أن أبا حاتم السجستاني قال: "لم يعرفها الأصمعي وعرفها أبو عبيدة". وذكر في حديثه عن القصيدة الثالثة، وهي: ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا   1 شرح ديوان زهير للأعلم. المطبعة الحميدية سنة 1323هـ، ص90. 2 المصدر السابق: 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 أن الأصمعي قال1: "ليست لزهير، ويقال: هي لصرمة الأنصاري ولا تشبه كلام زهير" فإذا كانت هذه القصيدة الثالثة من رواية أبي عبيدة أيضًا، جاز لنا أن نفرض أن الأعلم قد أورد في القسم الأول من نسخته ما صح من رواية شيخي البصرة: الأصمعي وأبي عبيدة، وإن كان قد جعل جل اعتماده على رواية الأصمعي. وسنعود إلى الحديث عن رواية الأصمعي بعد أن نستوفي حديثنا عن الأصول الكوفية. الأصول الكوفية: 9-11- أما علماء الكوفة من الطبقة الأولى من الرواة الذين رووا ديوان زهير فهم: حماد الراوية، والمفضل بن محمد الضبي، وأبو عمرو الشيباني. غير أن روايات هؤلاء العلماء لم تصلنا منفردة، مستقلة، بل جاءتنا مختلطة متداخلة في مجموعة نُسبت مع شرح أبياتها إلى ثعلب، وقد طبعت هذه المجموعة من الروايات بدار الكتب المصرية، وفي مقدمتها حديث مفصل عن ترجيح نسبتها إلى أبي العباس ثعلب. وقد اعتمدت هذه الطبعة على عدة نسخ خطية ذكرت أوصافها وأرقامها في مقدمتها. ودراسة هذه الطبعة تدلنا على أن ثعلبًا قد جمع في مجموعته بين الروايات الكوفية والروايات البصرية، فكثيرًا ما يورد في شرحه شروحًا للأصمعي وأبي عبيدة، وكثيرًا ما يورد رواياتهما المختلفة في الألفاظ والأبيات، وحسبنا أمثلة قليلة عن ذلك: فقد أورد سبعة وثلاثين بيتًا من قصيدة زهير: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعري أفراس الصبا ورواحله ثم قال2: "وهذه آخر رواية أبي عمرو، وروى أبو عبيدة والأصمعي.."   1 شرح ديوان زهير للأعلم: 86. 2 ص142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 ثم يورد سبعة أبيات من روايتهما. أما في قصيدته: إن الخليط أجد البين فانفرقا ... وعلق القلب من أسماء ما علقا فهو يثبت في أصل أحد أبياتها وهو قوله: وقابل يتغنى كلما قدرت ... على العراقى يداه قائمًا دفقا رواية أبو عبيدة، وينص على ذلك بقوله1: "روى أبو عبيدة قائمًا بالنصب، وروى غيره بالرفع. ثم يذكر بيت زهير2: وذاك أحزمهم رأيًا إذا نبأ ... من الحوادث آب الناس أو طرقا. وهو من غير رواية أبي عمرو، ثم ينص على أن البيت في رواية أبي عمرو هو: ومن يفوقهم أمرًا إذا فرقوا ... من الحوادث أمرًا آب أو طرقا ثم يورد ستة أبيات ينص على أنها من رواية أبي عمرو3، وأربعة أبيات أخرى ينص على أنها مما روى أبو عمرو والأصمعي4، ويورد في آخرها بيتين يذكر أنهما "من غير هذه الرواية" و"أن الأصمعي لم يروهما"5. وكذلك ذكر ستة عشر بيتًا من قصيدة زهير: لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر ثم يقول6: "هذا آخر رواية أبي عمرو"، ويكمل القصيدة في اثنين وعشرين   1 ص40. 2 ص48. 3 ص49-52. 4 ص53-54. 5 ص55. 6 ص94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 بيتًا من غير رواية أبي عمرو. وكثيرًا ما يثبت في أصل البيت لفظة أو ألفاظًا من غير رواية أبي عمرو، وينص على ذلك، ثم يذكر روايته في تلك الألفاظ1. وأكثر من ذلك أنه يورد قصيدة "لم يروها أبو عمرو لزهير ولا لكعب، ورواها أبو عبيدة لزهير2". فيتضح لنا من كل ذلك أن هذه النسخة قد جمعت من قصائد زهير ما رواه البصريون وما رواه الكوفيون. غير أن هذا الجمع بين روايات المدرستين لا ينفي نسبة هذه النسخة إلى أبي العباس ثعلب. وذلك أن ثعلبًا -مع أنه كان كوفي المذهب بل إمام أهل الكوفة في زمنه- قد روى كتب علماء البصرة أيضًا، فروى "عن ابن نجدة كتب أبي زيد، وعن الأثرم كتب أبي عبيدة، وعن أبي نصر كتب الأصمعي.."3 وقد ذكر أبا نصر والأثرم في مواطن كثيرة من نسخته هذه4. وقد تضمنت هذه النسخة ثلاثًا وخمسين قصيدة ومقطعة لزهير، روى خمسًا منها عن حماد الراوية5؛ ونص على واحدة منها بقوله: "وهي متهمة عند المفضل" ومع ذلك رواها أبو عمرو6. وذكر في أربع أخرمنها أنها يُشَك في نسبتها إلى زهير، وأنها قد تروى لغيره7. ويبدو أن هذه النسخة -بالرغم من جمعها بين روايات مختلفة- قد اتخذت من رواية أبي عمرو الشيباني أصلًا، ثم أضاف جامع هذه النسخة عليها.   1 انظر مثلًا ص70-71، 78، 82، 84، 89، 90، 93، 125، 129. 2 ص369. 3 ياقوت، إرشاد 5: 119. 4 انظر مثلًا ص81، 123، 172، 235، 309، 339، 350. 5 ص260، 268، 283، 321، 327. 6 ص265. 7 ص253، 283، 358، 369. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 ما وجده عند غيره من تعليقات أو اختلاف في روايات الألفاظ. وقد جعلنا نذهب إلى هذا الافتراض أننا عثرنا على نسخة مصورة على ميكروفيلم في معهد إحياء المخطوطات العربية -وأصلها محفوظ في مكتبة نور عثمانية بتركيا1 - وقد نص في آخر هذه النسخة على ما يلي: " فهذا جميع ما رواه أبو عمرو، وأبو نصر، والأصمعي، لزهير من الشعر ... وكتب محمد بن منصور بن مسلم رحمه الله بمنبج سنة خمسة "كذا" وسبعين وخمسمائة، والأصل الذي نقله منه كتب من أصل ابن كيسان النحوي رحمه الله في سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، وكان قد قرأ جميعه على أحمد بن يحيى ثعلب، وكان قد قرئ على أبي عمرو الشيباني ... " وفي هذه النسخة سبع وخمسون قصيدة، خمس منها غير موجودة في النسخة المطبوعة، وتمتاز هذه النسخة -على النسخة المطبوعة- بكثرة ما فيها من إشارات إلى الشك في صحة نسبة بعض القصائد إلى زهير. فقد ذكر قصيدته: أثويت أم أجمعت أنك غاد ... وعداك عن لطف السؤال عواد وقال: "أبو عمرو لم يرو هذه القصيدة وقال إنها لكعب ابنه". مع أن هذه التعليقة غير مذكورة في المطبوعة. وذكر كذلك قصيدته: ألا أبلغ لديك بني سبيع ... وأيام النوائب قد تدور وقال: إن أبا عمرو قال: "هذه لرجل من بني عبد الله بن غطفان". وليست هذه التعليقة في المطبوعة. وذكر قصيدته: وخالي الجبا أوردته القوم فاستقوا ... بسفرتهم من آجن الماء أصفرا2   1 فيلم رقم: 8220. 2 مطلعها في ديوان كعب المطبوع ص122: أبت ذكرة من حب ليلى تعودني ... عباد أخي الحمى إذا قلت أقصرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 وقال: "قال أبو عمرو الشيباني: هذه لكعب ابنه". وليست في المطبوعة أيضًا. وذكر مقطعته: أرادت جوازًا بالرسيس فصدها ... رجال قعود في الدجى بالمعابل وقال: "ويروى أنها لكعب بن زهير، وهي في شعره طويلة". وليست هذه التعليقة في المطبوعة. وذكر قصيدته: هل تبلغني إلى الأخبار ناجية ... تخدي كوخد ظليم خاضبٍ زعر وقال: "ويقال هي منحولة". وذكر قصيدته: لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا1 وقال: "ولم يملها أبو نصر، ويقال هي لأبي الجويرية العبدي، وهي في شعره طويلة". وذكر قوله: هاج الفؤاد معارف الرسم ... قفر بذي الهضبات كالوشم وقال: "ولم يملها أبو نصر. قال أبو عمرو الشيباني: هي لأوس بن أبي سلمى". وجميع هذه التعليقات, زيادة في هذه النسخة، غير مذكورة في النسخة المطبوعة. أما التعليقات المذكورة في المطبوعة فموجودة أيضًا في هذه النسخة. فإذا أضفنا هذه القصائد التي نص على الشك في صحة نسبتها لزهير -وهي سبع- إلى القصائد الخمس التي نص في المطبوع على هذا الشك فيها، كان مجموع هذه.   1 مطلعها في المطبوعة: هل في تذكر أيام الصبا فند ... أم هل لما فات من أيامه ردد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 القصائد المشكوك فيها اثنتي عشرة قصيدة من ثلاث وخمسين وبذلك تكون رواية الكوفيين - في مجموعها- لقصائد زهير إحدى وأربعين قصيدة ومقطعة، وهي تتضمن القصائد التي أوردها الأعلم من رواية الأصمعي وأبي عبيدة، والقصيدتين اللتين اختارهما من رواية أبي عمرو والمفضل. فإذا عدنا إلى الحديث عن رواية الأصمعي، وجدنا أنها خمس عشرة قصيدة ومقطعة فقط، وذلك أن الأعلم قد أورد -كما مر بنا، وكما سيمر بعد قليل- ثماني عشرة قصيدة ذكر في ختامها أنها رواية الأصمعي، ولكن الأعلم ذكر -في معرض حديثه عن ثلاث من هذه القصائد- أن الأصمعي لم يعرفها وأنه أسقطها من روايته. وبذلك يكون ما صححه الأصمعي، في روايته، من شعر زهير خمس عشرة قصيدة ومقطعة. وقد وجدنا أن هذه القصائد الخمس عشرة كلها مضمنة في القصائد التي رواها علماء الكوفة لزهير، وأن أحدًا من العلماء لم يطعن عليها في صحة نسبتها بشيء، وإن كان ثمة خلاف في نسبة أبيات قليلة من بعض هذه القصائد. وبذلك نستطيع أن نطمئن إلى أن هذه القصائد الخمس عشرة هي التي أجمع الرواة، من البصريين والكوفيين، على صحة نسبتها لزهير، فنتخذها أصلًا صحيحًا لديوانه، ندرسها دراسة فنية تكشف خصائصها وتبين ما فيها من عناصر شخصية الشاعر، لنتخذ من كل ذلك مقياسًا فنيًّا نحتكم إليه في القصائد الأخرى التي رواها الكوفيون، فما انطبق منها على هذا المقياس رجحنا صحة نسبته إلى زهير وضممناه إلى ديوانه، وما لم يستقم منها مع هذا المقياس رجحنا أنه مما نسب خطأ إلى زهير أو وضع عليه. فإذا ما بحثنا عن الجذور الأولى لديوان زهيرن وجدناها جذورًا عميقة تضرب في القدم حتى لتكاد تتصل بزهير نفسه، ثم تمتد منه خلال القرآن الأول حتى تتصل -في مطلع القرن الثاني- بأبي عمرو بن العلاء، وبحماد الراوية، ثم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 بعدهما بالأصمعي، وسائر علماء البصرة والكوفة. فقد ذكر السكري1 أن ديواني زهير وكعب كانا عند بني غطفان، فكانوا يحفظون شعرهما، وذلك لأن زهيرًا وابنه كعبًا كانا مقيمين في بني عبد الله بن غطفان. وكان عمر بن الخطاب يقدم زهيرًا ويفضله، وقد حكم على شعره حكمًا يدل على معرفة به ودراسة له، قال2: "كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه". وكان يحب أن يسمع شعره واستنشد ليلةً ابن عباس شعر زهير فأنشده حتى برق الفجر3؛ وكان جرير أيضًا يقدم زهيرًا ويفضله وقال عنه إنه أشعر الجاهلية4. ولا تعنينا هذه الأحكام إلا من حيث دلالتها على معرفة القوم آنذاك بشعر زهير معرفة تتيح لهم الحكم عليه. وقد مر بنا كذلك أن الحطيئة كان راوية زهير، وأن الشعر اتصل في ابنه كعب بن زهير، وابن كعب: عقبة المضرب، وابن ابنه: العوام بن عقبة، حتى لقد قرأ أبو عمرو الشيباني شعر زهير أو بعضه على بعض بني زهير5، وحتى لقد روى التبريزي قصيدة كعب: "بانت سعاد" من طريق أحد أبنائه سندًا، وهو: الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن عقبة بن كعب بن زهير. وكان ممن درس شعر زهير ودرسه منذ مطلع القرن الثاني: أبو عمرو بن العلاء؛ قال المازني6: "قال لي أبو زيد: قرأت هذه القصيدة -يعني معلقة زهير- على أبي عمرو بن العلاء، فقال لي: قرأت هذه القصيدة منذ خمسين.   1 أشار إلى ذلك كرنكر krenko في مقالته عن "استعمال الكتابة في حفظ الشعر العربي القديم" ص266، ولم يشر إلى مصدره، ولم نجد هذا النص فيما بين أيدينا من مصادر، فلعل كرنكر اطلع عليه في إحدى مخطوطات ديوان زهير أو كعب التي كانت بين يديه. 2 طبقات فحول الشعراء: 52. 3 الأغاني 10: 291. 4 المصدر السابق 10: 289. 5 مصورة معهد إحياء المخطوطات العربية فيلم رقم 822، في معرض الحديث عن البيت الأول من المعلقة، وانظر أيضًا الأغاني 10: 287. 6 التبريزي، شرح المعلقات: 126، وانظر كذلك شرح ديوان زهير لثعلب: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 سنة فلم أسمع هذا البيت إلا منك" يعني بيته: ومن لا يزل يستحمل الناس نفسه ... ولم يغنها يومًا من الناس يسأم ولم يكن أبو زيد وحده هو الذي قرأ شعر زهير على أبي عمرو بن العلاء، وإنما قرأه أيضًا الأصمعي، وقد روى عن أبي عمرو في مواطن متعددة، بعضها فيه نقد أدبي طريف، فمن ذلك أنه يذكر بيت زهير: إذا لقحت حرب عوان مضرة ... ضروس تهر الناس أنيابها عصل ثم يقول1: "سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: قال زهير "حرب مضرة"، ولو كان إلي لقلت "حرب مصرة" أي تعتزم وتمضي". ومن أمثالة ذلك أيضًا أنه يذكر بيته: هناك إن يستخبلوا المال يخبلوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا ثم يقول الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء2 "ولو أنشدتها لأنشدتها: هنالك إن يستخولوا المال يخولوا" ويبدو أن الأصمعي لم يكتف برواية شعر زهير عن أبي عمرو بن العلاء وحده -كما لم يكتف بروايته شعر امرئ القيس على ما مر بنا- وإنما أضاف إلى روايته ما أخذه عن غيره من العلماء أو ما سمعه من الأعراب الرواة، ثم قرأ ذلك كله وقرئ عليه، وآية ذلك أننا نجد للأصمعي روايات لبعض الألفاظ وشروحًا لبعض الأبيات في القصائد التي أسقطها من روايته ونص على أنها ليست لزهير3. ولذلك فنحن نرجح هنا -كما رجحنا في حديثنا عن رواية الأصمعي لديوان   1 شرح ديوان زهير لثعلب: 104. 2 المصدر السابق: 112. 3 المصدر السابق: 146، 147، 148، 154، 157، 158، 204، 225، 230، 234وغيرها ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 امرئ القيس- أن الأصمعي قد وجد أمامه ديوان امرئ القيس تراثًا يتناقل ويروى ويتدارس، فكان لا بد له -في مجالس علمه- من أن يقرأه جميعه، ويقرئه تلامذته، ولكنه كان كلما مر بقصيدة نص على رأيه في صحة نسبتها إلى زهير، إثباتًا أو نفيًا، ثم يشرح القصيدة في الحالتين، ويذكر بعض روايات ألفاظها، غير أنه لم يثبت في نسخته من ديوان زهير التي رواها عنه تلاميذه، إلا ما ثبت لديه أنه لزهير حقًّا، فكان مجموع ذلك هذه القصائد الخمس عشرة التي أشرنا إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 قصائد زهير ومقطعاته مرتبة كما جاءت في رواية الأصمعي : ومقارنتها بما في النسخ الأخرى 1- أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتثلم 1- القصيدة الأولى في ثعلب. 2- والأولى كذلك في مخطوطة نور عثمانية، وفيها بعد البيت الاول "قال أبو عمرو: قرأت على بعض بني زهير: الدُّراج برفع الدال". 2- صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو ... وأقفر من سلمى التعانيق فالثقل 1- القصيدة الخامسة في ثعلب. 2- والسادسة عشرة في نور عثمانية، إلا أنها هنا شطرت شطرين، فجعلت قصيدتين لا قصيدة واحدة، وذلك بأن ذكرت بعض أبياتها الأخيرة في هذه المخطوطة "ورقمها 54" وقبلها قوله: "وهذه الأبيات زيادة لم يروها أبو نصر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 وليست في روايته، أنشدها بعض العلماء! ". 3- صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحله 1- آخرها في رواية الأصمعي: يهد له ما دون رملة عالج ومن أهله بالغور زالت زلازله قال الأعلم ص33: "وهذا البيت آخر القصيدة في رواية الأصمعي، ويلحق بالقصيدة البيتان اللذان بعده وهما لحوات بن جبير الأنصاري ... ". 2- القصيدة السابعة في ثعلب، وقد قال في ص142: "وهذه آخر رواية أبي عمرو، وروى أبو عبيدة والأصمعي.." ثم يذكر سبعة أبيات. 3- القصيدة التاسعة في نور عثمانية. 4- إن الخليط أجد البين فانفرقا ... وعلق القلب من أسماء ما علقا 1- آخرها في رواية الأصمعي: يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا وذكر الأعلم ص41 بيتين بعده عن غير الأصمعي. 2- القصيدة الثانية في ثعلب، وقد أورد قبيل آخرها ستة أبيات نص على أنها من رواية أبي عمرو "ص49-52" ثم أربعة أبيات نص على أنها مما روى أبو عمرو والأصمعي "ص53-54"، ثم بيتين في آخرها نص على أنهما "من غير هذه الرواية" وأن الأصمعي لم يروهما "ص55". 3- القصيدة الثانية كذلك في نور عثمانية، وقد ذكر أن أبا عمرو لم يرو آخرها بيتًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 5- بان الخليط ولم يأووا لم تركوا ... وزودوك اشتياقًا أية سلكوا 1- القصيدة التاسعة في ثعلب. 2- والخامسة في نور عثمانية. 6- تعلم أن شر الناس حي ... يُنادى في شعارهم يسار 1- القصيدة الخامسة والعشرون في ثعلب. 2- والثامنة والعشرون في نور عثمانية. 7- 1 قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى، وغيرها الأرواح والديم 1- الثامنة في ثعلب، والسابعة عشرة في نور عثمانية. 8- لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن شهر 1- ذكر الأعلم آخرها بيتًا عن غير الأصمعي، ص64. 2- القصيدة الرابعة في ثعلب، وهو يورد منها ستة عشر بيتًا ثم يقول: "هذا آخر رواية أبي عمرو" ص94، ويكمل عدة القصيدة اثنين وعشرين بيتًا. 3- القصيدة العشرون في نور عثمانية. 9- عفا من آل فاطمة الجواء ... فيمن فالقوادم فالحساء 1- ذكر الأعلم البيت السابع منها عن غير الأصمعي، ص65. 2- القصيدة الثالثة في ثعلب. 3- والثالثة أيضًا في نور عثمانية.   1 جاء في أصل الأعلم -بعد القصيدة السادسة- قصيدتان لم يروهما الأصمعي، ولذلك أسقطناهما، وهما قوله: أبلغ بني نوفل عني فقد بلغوا ... مني الحفيظة لما جاءني الخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 10- لمن طلل برامة لا يريم ... عفا وخلا له حقب قديم 1- القصيدة الثانية عشرة في ثعلب، والتاسعة عشرة في نور عثمانية. 11- ألا أبلغ لديك بني تميم ... وقد يأتيك بالخبر الظنون 1- القصيدة العاشرة في ثعلب، ولم يرو أبو عمرو فيها الأبيات الثلاثة الأخيرة في رواية الأصمعي. 2- القصيدة الرابعة في نور عثمانية. 12- رأيت بني آل امرئ القيس أضفقوا ... علينا وقالوا إننا نحن أكثر 1- القصيدة الثالثة عشرة في ثعلب، والثانية عشرة في نور عثمانية. 13- إن الرزية لا رزية مثلها ... ما تبتغي غطفان يوم أضلت 1- القصيدة الثامنة والثلاثون في ثعلب، والسادسة والعشرون في نور عثمانية. 2- رواها الأصمعي -في الأعلم- في ثلاثة أبيات، وجاءت في ثعلب ونور عثمانية في خسمة أبيات، ووردت في طبقات ابن سلام في أربعة أبيات "ص568-569" وقال ابن سلام: "حدثني أبو عبيدة قال: كان قراد بن حنش من شعراء غطفان وكان جيد الشعر قليله، وكانت شعراء غطفان تغير على شعره فتأخذه وتدعيه، منهم زهير بن أبي سلمى ادعى هذه الأبيات".   1 روى الأعلم "ص49" خبرها عن أبي حاتم وقال: "لم يعرفها الأصمعي وعرفها أبو عبيدة". 2 القصيدة السادسة والعشرون في ثعلب، والسادسة في نور عثمانية وقوله: أبلغ لديك بني الصيداء كلهم ... أن يسارا أتانا غير مغلول 1 قال الأعلم ص50: "قال أبو حاتم: لم يعرفها الأصمعي: وعرفها أبو عبيدة". 2 القصيدة السابعة والعشرون في ثعلب. 3 القصيدة السابعة في نور عثمانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 ولما كان إجماع الرواة منعقدًا على أن زهيرًا قال هذا الشعر فإننا نرجح أن الأبيات الثلاثة التي رواها الأصمعي صحيحة النسبة لزهير، أما البيتان الآخران فلعلهما من شعر قُرَاد بن حنش الذي أدخل في شعر زهير. 14- لعمرك والخطوب مغيرات ... وفي طول المعاشرة التقالي 1- الثالثة والأربعون في ثعلب، والخامسة والثلاثون في نور عثمانية. 15- وقالت أم كعب لا تزرني1 ... فلا والله ما لك من مزار 1- التاسعة والثلاثون في ثعلب. 2- والسابعة والعشرون في نور عثمانية.   1 جاء بعد القصيدة الرابعة عشرة -في أصل الأعلم- قصيدة أنكرها الأصمعي ولذلك أسقطناها من روايته وهي: ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بداليا 1- في الأعلم ص86 "قال الأصمعي: ليست لزهير ويقال: هي لصرمة الأنصاري ولا تشبه كلام زهير". 2- القصيدة الثالثة والعشرون في ثعلب، وقد رواها عن حماد، ثم قال "ص283": "وزعم بعض الناس أنها لصرمة بن أبي أنس الأنصاري". وانظر كذلك كتاب المعمرين لأبي حاتم السجستاني: 66-67. 3- القصيدة العاشرة في نور عثمانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 الفصل الثاني: دواوين القبائل -1- إن أول ما يستوقف الباحث في دواوين القبائل هذا الحشد الهائل من أسماء كتب القبائل ودواوين شعرها، الذي تزخر به بعض كتب القرن الرابع الهجري وخاصة كتابي: الفهرست لابن النديم، والمؤتلف والمختلف للآمدي. فقد ذكر أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي "المتوفى سنة 370هـ" ستين ديوانًا من دواوين القبائل، هي في ترتيبنا لها على حروف الهجاء كما يلي: 1- أشعار الأزد 2- كتاب بني أسد 3- كتاب أسلم 4- كتاب أشجع 5- كتاب بني أعصر 6- كتاب إياد 7- كتاب باهلة 8- كتاب بجيلة 9- كتاب بلي 10- أشعار بني تغلب 11- كتاب جرم 12- كتاب بني جعفي 13- كتاب جهينة 14- كتاب بني الحارث بن كعب 15- أشعار حمير 16- كتاب بني حنيفة 17- كتاب خثعم 18- كتاب خزاعة 19- كتاب بني ذهل بن ثعلبة 20- أشعار الرباب 21- كتاب بني ربيعة بن ذهل 22- كتاب بني سعد 23- كتاب بني سعيد 24- كتاب بني سليم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 25- كتاب السكون 26- كتاب بني شيبان 27- كتاب بني ضبة 28- كتاب بني ضبيعة 29- كتاب بني طهية 30- كتاب طيئ 31- أشعار بني عامر بن صعصعة 32- شعر عبد القيس 33- كتاب بني عبد الله بن غطفان 34- كتاب بني عبس 35- كتاب بني عجل 36- كتاب عدوان 37- كتاب بني عذرة 38- كتاب بني عقيل 39- كتاب عنزة 40- أشعار بني عوف بن همام 41- كتاب غنى 42- كتاب فزارة 43- أشعار فهم 44- كتاب بني قريظة 45- كتاب بني قشير 46- كتاب بني قيس بن ثعلبة 47- كتاب بني القين 48- كتاب بني كلاب 49- كتاب كلب بن وبرة 50- كتاب كنانة 51- كتاب بني محارب 52- كتاب بني مرة بن عوف 53- كتاب مزينة 54- كتاب نهد 55- كتاب بني نهشل 56- كتاب بني هاشم 57- كتاب بني الهجيم 58- شعر هذيل 59- شعر بني يشكر 60- مقطعات الأعراب ولم ينسب الآمدي شيئًا من هذه الدواوين إلى جامع أو صانع من الرواة العلماء، بل أرسلها هكذا غفلًا، إلا ديوانين منها، الأول: أشعار بني تغلب، فقد قال في معرض حديثه عن ابن جعل التغلبي1 "وله فيما تنخلته من أشعار بني تغلب مقطعات حسان". وذلك لا ينفي أنه كان بين يديه ديوان   1 ص83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 لبني تغلب، وأنه قد اختار من هذا الديوان قصائد ومقطعات تنخلها. والثاني: أشعار الرباب، وذلك قوله1: "ووجدت في أشعار الرباب عن المفضل وحماد"، ثم يذكر شعرًا. وهذه الإشارة قد تحتمل أن ديوان الرباب كله عن المفضل وحماد، وقد تعني أن في هذا الديوان شعرًا عنهما كان من جملته هذا الشعر الذي أورده. والعجيب أن الآمدي يذكر أحيانًا في سياق حديثه أن بين يديه ديوانين لقبيلة واحدة: أحدهما صنعه السكري، والآخر يغفل ذكر صانعه. فمن ذلك مثلًا قوله2: "وذكرأبو سعيد السكري بعد حرمة بن عسلة: عبد المسيح بن عسلة والمسيب بن عسلة ... وأنشد لعبد المسيح بن عسلة "ويذكر شعرًا"، وأنشد للمسيب بن عسلة "ويذكر شعرًا" ... وأنشد أبو سعيد لهما مقطعات أخر، ولم أرَ لهما في قبيل شيبان ذكرًا وإنما المذكورة هناك حرملة وحده". فبين يدي الآمدي إذن ديوانان لقبيلة شيبان، أحدهما صنعة السكري وذكر فيه عبد المسيح بن عسلة وأخاه المسيب بن عسلة، وأورد لهما فيه شعرًا. والثاني لم يُسمِّ لنا الآمدي صانعه، ولم يرد فيه ذكر لهذين الشاعرين ولا شعر لهما، وإنما المذكور فيه أخوهما حرملة بن عسلة وحده. أما أبو الفرج محمد بن إسحاق النديم "المتوفى سنة 385"، فقد ذكر في فهرسته ثمانية وعشرين ديوانًا من دواوين القبائل، وكلها منسوبة إلى صانعها، وهو في أكثرها أبو سعيد السكري، ما عدا ديوانًا واحدًا منها نسبه إلى ابن الكلبي، وسنذكر هذه الدواوين كما رتبناها على حروف الهجاء ونضيف إليها بعض ما وجد في غير الفهرست: 1- أشعار الأزد - عمله السكري 2- أشعار بني أسد - عمله السكري   1 ص22. 2 ص158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 3- أشعار أشجع - عمله السكري 4- أشعار بجيلة - عمله السكري 5- أشعار تغلب - عمله السكري1، وعمله أيضًا أبو عمرو الشيباني2. 6- أشعار بني تميم - عمله السكري 7- أشعار بني الحارث - عمله السكري. 8- كتاب أخبار الحر وأشعارهم - هشام بن محمد الكلبي 9- أشعار بني حنيفة - السكري 10- أشعار بني ذهل - السكري 11- أشعار بني ربيعة - السكري 12- أشعار بني شيبان - السكري، ومحمد بن حبيب3. 13- أشعار الضباب - السكري 14- أشعار ضبة - السكري 15- أشعار طيئ - السكري 16- أشعار بني عبد ود - السكري 17- أشعار بني عدوان - السكري 18- أشعار بني عدي - السكري 19- أشعار بني فزارة - السكري 20- أشعار الفند - السكري 21- أشعار فهم - السكري 22- أشعار كنانة - السكري   1 زيادة من الخزانة 2: 150-161. 2 الخزانة 1: 33. 3 زيادة من الخزانة 4: 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 23- أشعار بني محارب - السكري، وأبو عمرو الشيباني1. 24- أشعار بني مخزوم - السكري 25- أشعار مزينة - السكري 26- أشعار بني نهشل - السكري 27- أشعار هذيل - السكري، والأصمعي، وابن الأعرابي2، وإسحاق بن إبراهيم الموصلي. 28- أشعار بني يربوع - السكري 29- أشعار بني يشكر - السكري ومع هذه الوفرة العددية لدواوين القبائل التي حفظت لنا المصادر العربية أسماءها، فهي لا تعدو أن تكون جزءًا مما ذكرت المصادر نفسها أن العلماء الرواة قد صنعوه من دواوين القبائل. فقد عددنا للسكري وحده من هذه الدواوين -كما ذكر ابن النديم- ثمانية وعشرين ديوانًا لثمانٍ وعشرين قبيلة، ومع ذلك فالمعروف أن السكري لم يستوعب القبائل كلها، وأنه لم يصنع إلا "قطعة" منها فقط3. وهذا أبو عمرو الشيباني لم يذكر له ابن النديم -على سبيل المثال- ديوانًا واحدًا من دواوين القبائل التي صنعها، وذكر له صاحب الخزانة ديوانين فقط هما: ديوان بني تغلب، وديوان بني مجارب، ومع ذلك فقد ذكر ابنه عمرو أن أباه جمع أشعار نيف وثمانين قبيلة، كل قبيلة وحدها في ديوان مستقل4. وذكرت لنا المصادر -فضلًا عن ذلك- أن من العلماء الرواة من جمعوا أشعار القبائل، بهذا الإطلاق والتعميم. وممن ذكروهم -غير ما قدمنا-: أبو عبيدة   1 زيادة من الخزانة 1: 32-33. 2 زيادة من مروج الذهب المسعودي 4: 73 قال إن الطوسي قرأ شعر هذيل على ابن الأعرابي. 3 الفهرست: 117. 4 المصدر السابق: 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 معمر بن المثنى1، وخالد بن كلثوم الكلبي2، ومحمد بن حبيب3. ومع كل هذا الجهد الخصب الذي بذله كثير من العلماء الرواة في جمع أشعار القبائل، ومع كثرة الدواوين التي ذكرت المصادر أن هؤلاء العلماء قد صنعوها، فقد قال ابن قتيبة4: "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام أكثر من أن يحيط بهم محيط، أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفد عمره في التنقير عنهم، واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال. ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفة ولا قصيدة إلا رواها.." فإذا كان ذلك كذلك فما أشد حسرة الباحث في دواوين القبائل وروايتها إذا علم أن صروف الدهر لم تبق لنا إلا على ديوان واحد فقط من هذه الدواوين الكثيرة التي زخرت بأسمائها المصادر العربية، وهي ليست إلا جزءًا مما صنعه الرواة، وكل ذلك ليس أيضًا إلا جزءًا مما قاله شعراء القبائل، هذا الديوان الوحيد الذي بقي لنا هو: ديوان هذيل. غير أن حظ قبائل العرب من الشعر لم يكن واحدًا، وإنما كانوا يتفاوتون في كثرة شعرائهم وشعرهم، وفي ذلك يذكر الجاحظ حديثًا طريفًا، قال5: "وبنو حنيفة مع كثرة عددهم، وشدة بأسهم، وكثرة وقائعهم، وحسد العرب لهم على دارهم وتخومهم وسط أعدائهم، حتى كأنهم وحدهم يعدلون بكرًا كلها ومع ذلك لم نر قبيلة قط أقل شعرًا منهم. وفي إخوتهم عجل قصيد ورجز وشعراء ورجازون. وليس ذلك لمكان الخصب وأنهم أهل مدر وأكالو تمر؛ لأن الأوس والخزرج كذلك وهم في الشعر كما قد علمت. وكذلك   1 ياقوت، إرشاد 19: 161. 2 الفهرست: 98. 3 الوؤتلف والمختلف: 71-72، 119، 120. 4 الشعر والشعراء 1: 4. 5 الحيوان 4: 380-382. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 عبد القيس النازلة قرى البحرين، فقد تعرف أن طعامهم أطيب من طعام أهل اليمامة. وثقيف أهل دار ناهيك بها خصبًا وطيبًا، وهم -وإن كان شعرهم أقل- فإن ذلك القليل يدل على طبع في الشعر عجيب. وليس ذلك من قبل رداءة الغذاء، ولا من قلة الخصب الشاغل والغنى عن الناس، وإنما ذلك عن قدر ما قسم الله من الحظوظ والغرائز، والبلاد والأعراق مكانها. وبنو الحارث بن كعب قبيل شريف، يجرون مجاري ملوك اليمن، ومجاري سادات أعراب أهل نجد، ولم يكن لهم في الجاهلية كبيرة حظ في الشعر، ولهم في الإسلام شعراء مفلقون. وبنو بدر كانوا مفحمين، وكان ما أطلق الله به ألسنة العرب خيرًا لهم من تصيير الشعر في أنفسهم. وقد يحظى بالشعر ناس ويخرج آخرون، وإن كانوا مثلهم أو فوقهم. وقد كان في ولد زرارة لصلبه شعر كثير، كشعر لقيط وحاجب وغيرهما من ولده. ولم يكن لحذيفة ولا حصن ولا عيينة بن حصن، ولا لحمل بن بدر شعر مذكور". فإذا ما عدنا إلى قول ابن قتيبة الذي ذكرناه وهو "ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولا قصيدة إلا رواها"، استبان لنا صدق هذا القول من الإشارات المبثوثة في صفحات المصادر التي بين أيدينا. فقد رأينا أن الآمدي يذكر في كتابه "المؤتلف والمختلف" ستين ديوانًا لستين قبيلة، وقد رأى هذه الدواوين كلها ورجع إليها، وأخذ منها شعرًا كثيرًا للشعراء الذين أوردهم في كتابه. ومع ذلك فهو كثيرًا ما يذكر أسماء شعراء جاهليين وإسلاميين، ثم ينص على أنه لم يجد لهم -فيما بين يديه من دواوين قبائلهم- ذكرًا أو شعرًا. فمن ذلك أنه يذكر الأغلب الكلبي ثم يقول1: "لم أجد له في أشعار كلب شعرًا، وأظن شعره درس فلم يُدرك". ويذكر ابن أحمر الإيادى ثم يقول إنه لم يجد له في كتاب إياد إلا بيتًا واحدًا   1 ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 ذكره1. ويذكر الحارث بن البرصاء ثم يقول2: "وليس له عندي في كتاب كنانة ذكر". ويذكر عبد المسيح بن عسلة وأخاه المسيب بن عسلة ثم يقول3: "ولم أر لهما في قبيل شيبان ذكرًا، وإنما المذكور هناك حرملة وحده". ويذكر أبا الغول النهشلي ثم يقول4: "ذكر أبو اليقظان ... أنه شاعر ... ولم أر له ذكرًا في كتاب بني نهشل". ويذكر الكيذبان المحاربي ويقول5: "ليس له في كتاب محارب ذكر ولا أدري من أين نقلته وليس له عندي شعر! " ويذكر ملاعب الأسنة الحارثي ويقول6: "ولم أرَ له شعرًا في كتاب بني الحارث" ويذكر الحارث بن بكر الذبياني ويقول7: "وجدت في كتاب بني مرة بن عوف أنه أحد الشعراء النوابع ولم يذكر له شعرًا وأظن شعره درس". والأمثلة على ذلك كثيرة لا داعي لاستقصائها. وبعد، أفيكون ذلك معنى قول أبي عمرو بن العلاء8: "ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير"؟   1 ص38. 2 ص68. 3 ص158. 4 ص163. 5 ص171. 6 ص187. 7 ص192-193. 8 طبقات الشعراء: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 -2- وأمام الباحث سؤالان، في الإجابة عنهما جماع البحث عن دواوين القبائل، هما: ما معنى ديوان القبيلة، وماذا كان يحوي بين دفتيه؟ ثم: متى نشأت دواوين القبائل، ومتى جمعت أول مرة، وما المصادر التي أخذ منها الرواة والعلماء من الطبقة الأولى ما جمعوه من هذه الدواوين؟ أمام السؤال الأول فليس من سبيل إلى الإجابة عنه إلا بتتبع ما ورد في المصادر العربية من إشارات تذكر فيها دواوين القبائل، ودراسة هذه الإشارات دراسة تعين على استنباط صورة واضحة تبين معنى ديوان القبيلة؛ وذلك لأننا ذكرنا من قبل أن هذا الحشد الزاخر من دواوين القبائل قد أتى عليه الدهر، ولم يبق لنا منه إلا ديوان واحد هو ديوان هذيل، وسنخصه بحديث مستقل بعد صفحات. فلا أقل إذن، بعد أن عزت دراسة الدواوين نفسها، من أن ندرس ما بقي بين أيدينا من أخبار عن هذه الدواوين وإشارات إليها. وأول ما نلحظه في هذه الدراسة هي تسمية الديوان؛ فقد كانوا يطلقون على ديوان القبيلة: "أشعار بني فلان"، أو "شعر بني فلان"، أو "كتاب بني فلان". فالآمدى مثلًا يذكر في موطن من كتابه "شعر فزارة"1، ويذكر في موطن آخر "كتاب فزارة"2 وهما بمعنى؛ ويذكر "كتاب بني يشكر3" و"شعر بني يشكر4"، ويذكر "كتاب بني عقيل"5   1 المؤتلف والمختلف: 59. 2 ص65، 76. 3 ص186. 4 ص40. 5 ص118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 و"شعر بني عقيل"1، و"كتاب بني أسد"2 و"أشعار بني أسد"3، و"كتاب طيئ"4 و"أشعار الطائيين"5، و"كتاب بني سليم"6 و"أشعار بني سليم"7، وهكذا. وكتاب القبيلة أو ديوانها يضم بين دفتيه ثلاثة أشياء: 1- يضم شعر شعراء القبيلة أو بعضهم، وفي ذلك يقول الآمدي في سياق حديثه عن بعض الشعراء: "وله أشعار في كتاب بني ربيعة بن ذهل"8، "وله في كتاب أسد أشعار"9، "وهي أبيات من كتاب خزاعة"10، "وله أشعار في كتاب بني عجل"11، "وله في كتاب بني سليم أشعار حسان"12، "وله أشعار جياد في كتاب بني ربيعة بن ذهل وفي بطون قريش"13، "وله في كتاب بني ذهل بن ثعلبة مقطعات حسان"14، "وشعرهم في كتاب بني عقيل"15، "وهذه الأبيات ثابتة في كتاب بجيلة"16، "ووجدت في كتاب طييء الذي نقلت منه شعر الطرماح بن جهم   1 ص128. 2 ص34. 3 ص18. 4 ص148. 5 ص50. 6 ص76. 7 ص17. 8 ص13. 9 ص15. 10 ص52. 11 ص71. 12 ص76. 13 ص79. 14 ص88. 15 ص118. 16 ص119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 السنبسي"1، "وله في كتاب كلب أشعار"2، "وله في كتاب بني ضبيعة أشعار حسان جياد"3. إلى آخر ما يشبه هذه من إشارات. 2- ويضم كتاب القبيلة أو ديوانها أخبارًا وقصصًا وأحاديث؛ وفي ذلك يقول الآمدي: "وهو القائل: مكره أخوك لا بطل، في قصة ... وشرح ذلك في كتاب فزارة"4، "وقتل أخواه في قصة مذكورة في كتاب بني سعد"5 "وله في كتاب فزارة خبر وأشعار ورجز جياد"6، "وله في كتاب بني أسد أشعار وأخبار حسان"7، "وقصتهما مذكورة في كتاب بني شيبان"8، "وخبره مع جاهمة في كتاب بني أعصر"9، "وله في كتاب بني إياد أشعار وأخبار وقصة مع أبيه"10، "وله في هذا حديث وخبر في كتاب بني طهية"11، "والقصة مذكورة في كتاب بني شيبان"12، "في قصة مذكورة في كتاب مزينة"13، "وله أشعار وأخبار في قبيل بلي"14، إلى آخر ما يشبه هذه الإشارات، ويبدو منها أن تلك الأخبار والأحاديث والقصص إنما وردت في كتاب القبيلة لبيان حادثة تاريخية ذكرت في الشعر، أو لتوضيح المناسبة التي   1 ص148. 2 ص153. 3 ص198. 4 ص65. 5 ص69. 6 ص76. 7 ص85. 8 ص102. 9 ص102. 10 ص117. 11 ص163. 12 ص174. 13 ص182. 14 ص182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 نُظمت فيها القصيدة، أو لتفسير بيت من أبياتها. 3- وفي كتاب القبيلة أو ديوانها -فضلًا عن ذلك- نسب أيضًا. ويبدو ذلك واضحًا من هذه الإشارات التي أوردها الآمدي ينفي بها أنه وجد نسب فلان أو فلان في كتاب هذه القبيلة أو تلك، مما يدل على أن نسب غيرهم -ممن لم ينص عليهم- موجود مرفوع في كتب قبائلهم، فهو يقول: "لم يُرفع في كتاب عذرة نسبه"1، و"لم يرفع نسبه في كتاب عنزة"2، و"لم يرفع في كتاب بني الهجيم نسبه"3، "ولم يرفع في كتاب جهينة نسبه"4، "وجدته في بني الحارث بن كعب لم يرفع نسبه.."5، و"لم يرفع نسبه في كتاب السكون"6، و"لم يرفع في كتاب بني عجل نسبه"7، و"لم يرفع نسبه في كتاب جرم"8. وأمر النسب في هذه الكتب كأمر الأخبار والأحاديث والقصص، لم يُذكر لذاته، وإنما ذكر لذكر الشاعر نفسه وشعره. فكتب القبائل إذن -في جوهرها- مجموعات شعرية، تضم بين دفتيها قصائد كاملة، ومقطعات قصيرة، وأبياتًا متفرقة، لشعراء تلك القبيلة أو لبعض شعرائها، وربما ضمت أكثر شعر هؤلاء الشعراء، بل ربما ضمت جميع شعر شاعر منهم وديوانه كاملًا. ثم تضيف إلى ذلك من الأخبار والنسب والقصص والأحاديث ما يتصل بالشاعر نفسه، أو ببعض أفراد قبيلته، وما يوضح مناسبات القصائد، ويفسر بعض أبياتها، ويبين ما فيها من حوادث تاريخية. فيجيء   1 ص65. 2 ص80. 3 ص88. 4 ص89. 5 ص100. 6 ص167. 7 ص179. 8 ص196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 كتاب القبيلة بذلك سجلًا لحوادثها ووقائعها، وديوانًا لمفاخرها ومناقبها، ومعرضًا لشعر شعرائها. فإذا كان ذلك كذلك، فمتى جُمعت هذه الدواوين أول مرة؟ وإلى أي مدى نستطيع أن نتتبع تاريخ تدوينها حتى نصل إلى بداية هذا التدوين، أو إلى قريب من بدايته؟ والإجابة عن ذلك تضطر الباحث إلى أن يسلك مجاهل وقفارًا، تحمله على أن يصطنع الحذر، وأن يتثبت من مواطئ قدميه قبل المضي وفي أثنائه، ولكنه مع ذلك لا يعدم بعض المعالم يقيمها على جانبي الطريق، وينصبها بين يديه ومن خلفه يهتدي بها في سيرة؛ ولا عليه بعد ذلك إن لم يبلغ أقصى الغاية، فحسبه أنه قد بذل الجهد وأخلص النية. وأسلم ما يبدأ به الباحث: هذه الدواوين التي ذكرتها المصادر، ورفعت إسناد روايتها إلى الطبقة الأولى من الرواة العلماء. فقد مر بنا أن أبا عبيدة معمر بن المثنى قد جمع أشعار القبائل في كتاب واحد أو كتب عدة1. وأن الأصمعي قد جمع أيضًا بعض أشعار القبائل، ومنها ديوان هذيل الذي سنتحدث عنه بعد قليل. وأبو عبيدة والأصمعي بصريان. أما علماء الكوفة من رجال الطبقة الأولى الذين جمعوا أشعار القبائل ودواوينهم فهم: حماد الراوية "المتوفى سنة 156هـ"، والمفضل الضبي "المتوفى سنة 168 أو 178"، وقد ذكرهما الآمدي كما مر بنا2، وخالد بن كلثوم الكلبي -وهو في طبقة أبي عمرو الشيباني3- قال عنه ابن النديم، فيما نقله من خط ابن الكوفى4، إنه من علماء الكوفيين و"من رواة الأشعار وعارف بالأنساب والألقاب وأيام الناس، وله صنعة في الأشعار والقبائل ... وله من الكتب ... كتاب أشعار القبائل ويحتوي على عدة قبائل". غير أن أشهر من جمع دواوين القبائل من الكوفيين:   1 ياقوت، إرشاد 19: 161. 2 المؤتلف والمختلف: 22. 3 السيوطي، البغية: 241. 4 الفهرست: 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 أبو عمرو الشيباني الذي جمع أشعار العرب حتى صنع شعر نيف وثمانين قبيلة، "فكان كلما عمل منها قبيلة وأخرجها إلى الناس كتب مصحفًا وجعله في مسجد الكوفة حتى كتب نيفًا وثمانين مصحفًا بخطه"1، "وكان يكتب بيده إلى أن مات"2. وقد قرأ دواوين الشعراء على المفضل3. وبلغ من شهرته في جمع دواوين القبائل أن الناس أخذوا "عنه دواوين أشعار القبائل كلها"4، ولم يبق لنا من هذه الدواوين التي صنعها وجمعها شيء، بل لم تحفظ لنا المصادر من أسمائها إلا ديوانين: أشعار تغلب5، وأشعار قبيلة محارب بن خصفة بن قيس عيلان، وقد رآه عبد القادر البغدادي، وكانت لديه منه نسخة قديمة، قال6: "وهي عندي في نسخة قديمة تاريخ كتابتها في صفر سنة إحدى وتسعين ومائتين، وكاتبها أبو عبد الله الحسين بن أحمد الفزاري، قال: نقلتها من نسخة أبي الحسن الطوسي، وقد عرضت على ابن الأعرابي". ثم أخذ عن هذه الطبقة الأولى من الرواة العلماء تلاميذهم من علماء الطبقة الثانية، فأخذ ابن الأعرابي عن المفضل وعن أبي عمرو الشيباني حتى اشتهر أيضًا بأنه "راوية لأشعار القبائل"7، وأخذ محمد بن حبيب عن أبي عمرو الشيباني، ولم يبق لنا ذكر شيء من دواوين القبائل التي صنعها ابن الأعرابي وابن حبيب إلا "ديوان أشعار بني شيبان صنعه محمد بن حبيب8. ثم أخذ عن هؤلاء من تلاهم مثل السكري، وقد مر بنا ذكر دواوين القبائل التي صنعها، وسنفصل القول فيه حين نتحدث عن ديوان هذيل.   1 الفهرست: 101. 2 المصدر السابق: 102. 3 وفيات الأعيان 1: 65. 4 الفهرست: 101. 5 الخزانة 1: 10. 6 المصدر السابق 3: 165. 7 طبقات النحويين واللغويين: 213. 8 الخزانة 4: 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 هذا هو المعلم الأول في سبيل دراستنا لدواوين القبائل، ونرى منه أن هذه الدواوين كانت موجودة -مكتوبة مدونة- في القرن الثاني الهجري، أي من نهاية الربع الأول من القرن الثاني على التقريب إلى مطلع القرن الثالث، وهي الحقبة التي كان يحيا فيها هؤلاء العلماء الرواة من رجال الطبقة الأولى، وبلغ فيها نشاطهم ذروته. غير أن ذلك لا يعني أن هذه الكتب قد دونت في تلك الحقبة لأول مرة. فقد كانت تلك الدواوين هي النسخ الخاصة بهؤلاء العلماء: كتبوها بأنفسهم، بعد أن نظروا في هذا التراث الشعري الذي وصل إليهم ومحصوه ونقدوه ونخلوه، واستخرجوا ما صح منه لكل واحد منهم، ثم صاروا يقرئون هذه النسخة تلامذتهم في مجالس علمهم، ويقرأها عليهم أولئك التلاميذ، ويتناقلونها جيلًا بعد جيل على أنها رواية ذلك العالم الأول. ولقد ذكرنا في حديثنا عن تدوين الشعر الجاهلي، في الباب الثاني، وعن الدواوين المفردة، في الفصل الأول من هذا الباب أن هؤلاء العلماء الرواة من رجال الطبقة الأولى كانوا يَئُولون إلى نسخ مدونة وصلت إليهم من العصور التي سبقتهم، وأنهم كانوا أحيانًا يجمعون بين هذه النسخ، ويضيفون إليها ما يصلهم بالرواية الشفهية عن شيوخ مدرستهم أو شيوخ المدرسة المخالفة، وعن الأعراب الرواة، ثم ينظرون في كل ذلك نظرة تمحيص ونقد، حتى يستخرجوا منه ما ترجح لديهم صحته، فيضمنوه في نسختهم التي يرويها عنهم تلاميذهم. ذلك في الدواوين المفردة، فهل الأمر نفسه في دواوين القبائل؟ إن بين أيدينا ثلاثة أخبار يحسن بنا أن نعرضها ولاءً لنستبين دلالتها: الأول: ما ذكره أبو العباس ثعلب قال1: "جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها: الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ورد الديوان إلى حماد وجناد". والثاني: ما ذكره حماد نفسه قال2: "أرسل الوليد بن يزيد إلي بمائتي   1 الفهرست: 134. 2 الأغاني: 6: 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 دينار، وأمر يوسف بن عمر بحملي إليه على البريد. قال، فقلت: لا يسألني إلا عن طرفيه: قريش وثقيف؛ فنظرت في كتابي قريش وثقيف، فلما قدمت عليه سألني عن أشعار بلي، فأنشدته منها ما استحسنه..". الثالث: ما ذكره ابن النطاح من أن حمادًا عثر على ديوان فيه "جزء من شعر الأنصار، فقرأه حماد فاستحلاه وتحفظه، ثم طلب الأدب والشعر وأيام الناس ولغات العرب بعد ذلك1 ..... ". ومهما تكن قيمة هذه الأخبار، ومهما يكن مدى الثقة في صحتها، فإن لها -لا شك- دلالتها التي تتسق مع ما قدمنا، في مواطن متفرقة، عن انتشار التدوين واتصاله في تلك الحقبة. ودلالة هذه الأخبار في أنها تصل دواوين القبائل بالدواوين المفردة -التي تحدثنا عنها- في قدم تدوينها، فهي تدل على أن كتب القبائل كانت مكتوبة مدونة قبل مطلع القرن الثاني الهجري، وأن العلماء الرواة من رجال الطبقة -في القرن الثاني- قد وصلتهم هذه المدونات من القرن الأول الهجري، فاعتمدوها مصدرًا من مصادر تدوينهم نسخهم الخاصة التي نُسبت روايتها إليهم. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الوليد بن يزيد لم يكن وحده الذي عُني بجمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها، وإنما شاركه في كل ذلك بعض خلفاء بني أمية، وخاصة عبد الملك بن مروان ومن قبله معاوية بن أبي سفيان؛ وأن هؤلاء الخلفاء كانوا -كما مر بنا- يطلبون من رواة الشعر والأخبار، من تعمر بهم مجالسهم الخاصة والعامة، وأنهم كانوا يأمرون غلمانهم وكتَّابهم بكتابة ما ينشده هؤلاء الرواة والعلماء من الشعر وما يقصونه من الأخبار2؛ إذا أضفنا هذا إلى ما قدمنا رجحت لدينا صحة الأخبار الثلاثة التي ذكرناها، ورجح عندنا أن هذه الدواوين كانت مدونة في القرن الأول نفسه. ونكون بذلك قد   1 الأغاني 6: 87. 2 انظر ص196-202 من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 نصبنا المعلم الثاني الذي نستأنس به في سبيل بحثنا هذا. وبقي معلم ثالث إذا أقمناه، استقام لنا وجه الطريق، وانتهى عنده مطافنا، هذا المعلم الثالث قوامه خبران، أو خبر ونص شعري: 1- أما الخبر ففيه تأييد لما قدمناه من أمر عثور حماد على جزء من شعر الأنصار، وذلك أن أبا الفرج الأصفهاني يروي عن شيوخه في إسناد طويل قوله1: "نهى عمر بن الخطاب الناس أن ينشدوا شيئًا من مناقضة الأنصار ومشركي قريش، وقال: في ذلك شتم الحي بالميت وتجديد الضغائن، وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام". ثم يروي لنا في خبر طويل أن عبد الله بن الزِّبَعْرَي السهمي وضرار بن الخطاب الفهري أنشدا حساب بن ثابت شعرًا مما كانا قالاه قبل الإسلام، فشكاهما حسان إلى عمر ... وكان من نتيجة ذلك أن قال عمر لمن حضر مجلسه: "إني كنت نهيتكم أن تذكروا مما كان بين المسلمين والمشركين شيئًا دفعًا للتضاغن عنكم وبث القبيح فيما بينكم، فأما إذ أبوا، فاكتبوه واحتفظوا به" قال: "فدونوا ذلك عندهم. قال خلاد بن محمد فأدركته والله وإن الأنصار لتجدده عندها إذا خافت بلاه". 2- أما النص الشعري، فقول بشر بن أبي خازم -وهو شاعر جاهلي لم يدرك الإسلام- قال2: وجدنا في كتاب بني تميم ... "أحق الخيل بالركض المعار" وقد تحدثنا عن هذا البيت، وعن ترقيمنا إياه ووضعنا شطره الثاني بين علامتي اقتباس في الباب الثاني من هذا البحث3. ولكننا نحب أن نضيف إلى قولنا السابق شيئًا جديدًا، وهو: أن بعض الباحثين قد شك في هذا البيت،   1 الأغاني 4: 140-141, 2 المفضليات: 98. 3 انظر ص163-164 من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 فقد كتب جولد تسيهر في مجلة الجمعية الآسيوية الملكية -عدد إبريل سنة 1897- يقول1: "ولا بد أن كتاب بني تميم -الذي وجهت الأنظار إليه في مناسبة سابقة- قديم جدًّا، ومع ذلك فإن هذه العبارة من شعر بشر التي يذكر فيها هذا الكتاب، إذا كانت تشير حقيقة إلى مجموعة مدونة عن مآثر بني تميم وأشعارها، تجعل نسبة البيت إلى بشر بن أبي خازم واهية الأساس. فليس من المحتمل -بل من المستحيل- أن توجد مثل هذه المجموعة في عصر مبكر كهذا العصر الذي عاش فيه بشر". ولا نحب أن طيل في الحديث عن هذا البيت، غير أننا لا نملك أنفسنا من أن نلحظ أن كلام جولد تسيهر ليس إلا افتراضًا لم يقدم عليه دليلًا، ولم يدعمه بما يقيمه؛ وأن الأساس الوحيد الذي بنى عليه هذا الافتراض هو أنه "ليس من المحتمل -بل من المستحيل- أن توجد مثل هذه المجموعة في عصر مبكر كهذا العصر الذي عاش فيه بشر". وقد قلنا من قبل، في إسهاب وتفصيل، إن هذا الأساس واهٍ لأنه يعتمد على فكرة شاعت بين جمهرة الباحثين من العرب والمستشرقين، وهي: أن الجاهلية كانت أمية جاهلة -وهو ما سميناه "تجهيل الجاهلية". وقد بينا خطأ هذه الفكرة بما يغني عن إعادة القول فيها. وقد قصدنا أن نؤخر الحديث عن هذا البيت، وأن نقدم الحديث عن الأخبار والنصوص التي تحدثنا عنها قبله، مبتدئين بالحقبة الواضحة بعض الشيء وهي النصف الثاني من القرن الثاني ثم نعود أدراجنا إلى الوراء: إلى العصر الأموي، ثم عصر صدر الإسلام، ثم العصر الجاهلي نفسه، نقول: قصدنا أن نسير في هذه السبيل حتى نمهد بين يدي هذا النص بأخبار وروايات تكشف عن اتصال تدوين هذه الكتب الشعرية، وحتى يبدو هذا البيت متصلًا اتصالًا طبيعيًّا بما تدل عليه تلك الأخبار. ثم إنه من التأويل الواهي الذي لا سند له يدعمه أن   1 انظر ترجمة المقال بقلم الدكتور حسين نصار في مجلسة الثقافة عدد 633، 12 فبراير سنة 1951. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 يشك في أن لفظة "كتاب" في هذا البيت "تشير حقيقة غلى مجموعة مدونة عن مآثر بني تميم وأشعارها"، وذلك لأن اللفظة صريحة واضحة وقد فهمها الأقدمون أيضًا على وجهها الصحيح، فقال المرزباني يشرح بيت بشر بعد أن أورده، قال1: "فمعناه: وجدنا هذه اللفظة مكتوبة". ومع ذلك فقد أوضحنا من قبل أنه ليس من منهجنا في هذا البحث أن نعتسف الطريق اعتسافًا، ولا أن نحمل النصوص فوق ما تحتمل، بل إن منهجنا يقوم على جمع مادة البحث وتتبع نصوصه، ثم ترتيب هذه النصوص، واستنطاقها واستخراج دلالاتها. ونحسب أننا غير مغالين -بعد أن جمعنا هذه النصوص ورتبناها واستنبطنا منها دلالاتها- إذا ذهبنا إلى أن العلماء الرواة في القرن الثاني قد كانت بين أيديهم دواوين القبائل مكتوبة مدونة، وأنهم اعتمدوا هذه المدونات مصدرًا من مصادر تدوينهم نسخهم الخاصة من كتب القبائل التي نُسبت بعد روايتها إليهم. ونحسب أننا كذلك غير مغالين إذا رجحنا -مجرد ترجيح، ولكنه ترجيح قوي تدعمه الأخبار والنصوص التي قدمناها- أن هذه المدونات التي وصلت إلى علماء القرن الثاني قد كتب بعضها منذ مطلع القرن الأول ولعل بعضها الآخر قد كتب منذ الجاهلية نفسها. 3 أما شعر هذيل -وهو الديوان الوحيد الذي وصل إلينا من دواوين القبائل- فنحب قبل الحديث عن رواياته ونسخة، أن نبدأ بالحديث عن عدد ما فيه من الشعراء وأبيات الشعر، ومدى موافقته لما رواه لنا العلماء. فقد قال   1 الموشح: 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 أبو سعيد1: "قيل لحسان بن ثبات الأنصاري -رضي الله عنه-: أي الناس أشعر؟ فقال: رجل بأذنه، أم قبيل بأسره؟ قال: هذيل فيهم نيف وثلاثون شاعرًا أو نحو ذلك، وبنو سنان مثلهم مرتين ليس فيهم شاعر واحد". فإذا كان المقصود من هذه العبارة أن جميع من رُوي له شعر من هذيل "نيف وثلاثون شاعرًا أو نحو ذلك"، يكون ديوان هذيل الذي بين أيدينا قد ضم بين دفتيه جميع هؤلاء الشعراء، إذ أن الشعراء الهذليين فيه نحو أربعين شاعرًا. غير أن أكثر من نصفهم قد رُوي لكل منهم أقل من خمسة وعشرين بيتًا، بل إن بعض هؤلاء لم يُروَ له إلا بيتان أو ثلاثة أو أربعة. أما الشعراء الذين تجاوز شعرهم مائة بيت فسبعة فقط. وإذ كان غير محتمل أن يسمِّي حسان -في عبارته المتقدمة- من لم يقل إلا البيتين أو الثلاثة أو الأربعة شاعرًا، فنحن إذن بين اثنتين: إما أن يكون عدد الشعراء كاملًا أو مقاربًا، ولكن ما رُوي لهم من الشعر ناقص غير مستوفًى؛ وإما أن يكون كثير من الشعراء لم يُذْكروا في الديوان الذي بين أيدينا. وكلا الأمرين ينهيان بنا إلى نتيجة واحدة، هي: أن ما بين أيدينا من شعر هذيل غير كامل. وثمة دليلان على ذلك -غير ما تقدم- أولهما: ما قيل عن الإمام الشافعي أنه2 "كان يحفظ عشرة آلاف بيت من شعر هذيل، بإعرابها وغريبها ومعانيها". والذي بين أيدينا من هذا الشعر -في أطول رواياته- لا يكاد يبلغ ثلاثة آلاف بيت. ولعل قائل هذا القول لا يقصد بالعدد الذي ذكره إلى التعيين الدقيق، وإنما قصد إلى كثرة ما كان يحفظه الشافعي من هذا الشعر، ومع ذلك فإن الشعر الذي بين أيدينا سيبقى أقل من   1 ديوان الهذليين "ط. دار الكتب" 2: 38، والكنية "أبو سعيد" مبهمة قد تعني السكري، وقد تعني الأصمعي!! 2 ابن حجرك توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس، المطبعة العامرة ببولاق سنة 1301 ص59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 نصف ما كان يحفظه الشافعي. وكان الشافعي إمامًا في الحفظ والرواية، وكان صحاب الأدب يأتونه فيقرءون عليه الشعر فيفسره، وذكر الأصمعي أنه قرأ شعر هذيل عليه1. والدليل الثاني أن بعض العلماء قد استدركوا ما فات السكري ذكره من شعر هذيل، ومنهم أبو الفتح عثمان بن جني "المتوفى سنة 392هـ" الذي ألف "كتاب التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري -رحمه الله- وحجمه خمسمائة ورقة بل يزيد على ذلك2". وقد طُبع ديوان هذيل في مجموعتين: الأولى في أوربا، والثانية في مصر. الطبعة الأوربية: أما الطبعة الأوربية، فقد جاءت في أربع مجموعات: 1- "شرح أشعار الهذليين صنعة أبي سعيد الحسن بن الحسين السكري"، طبعت في لندن سنة 1854م، وقد حققها وقد لها بمقدمة قصيرة باللغة الإنجليزية المستشرق جودفري كوزجارتن. 2- "أشعار الهذليين ما بقي منها في النسخة اللغدونية غير مطبوع، طبعت في برلين سنة 1884م، وفيها تعليقات وترجمة للشعر باللغة الألمانية للمستشرق فلهاوزن. 3- "ديوان أبي ذؤيب"، وهو الجزء الأول من "مجموع دواوين من أشعار الهذليين" اعتنى بنشره واستخرجه لأول مرة المستشرق الألماني يوسف هل، وطبعه في هانوفر سنة 1926. 4- "أشعار ساعدة بن جؤية وأبي خراش والمتنخل وأسامة بن الحارث"، وهو الجزء الثاني من "مجموعة أشعار الهذليين" اعتنى بنشرها كذلك يوسف هل وطبعها في ليبزج سنة 1933. وقد طُبعت المجموعتان الأولى والثانية عن نسخة مخطوطة مضبوطة قديمة   1 المزهر 1: 160. 2 ياقوت، إرشاد 12: 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 محفوظة في ليدن كتبت في سنة 529-539هـ، كتبها محمد بن على بن إبراهيم بن زبرج العتابي "ولد سنة 484 وتوفي سنة 556، وكان إمامًا في النحو وعلوم العربية مشهورًا بجودة الخط مع الصحة والضبط، قرأ النحو على أبي السعادات ابن الشجري، واللغة على الجواليقي"1، وقد نقلها من نسخة بخط السمسمي "هو أبو الحسن على بن عبيد الله بن عبد الغفار، كان صدوقًا صاحب خط متقن مرغوب فيه لتحقيقه، تصدر ببغداد للرواية وأقرأ الأدب. توفي سنة 415"2. وذكر العتابي في آخر المخطوطة أنه قابلها أيضًا بنسخ أخرى، منها نسخة بخط شيخه الجواليقي، ونسخة بخط الحميدي3. وقد روى هذه النسخة أبو الحسن على بن عيسى بن على بن عبد الله الرماني "كان في طبقة الفارسي والسيرافى، وأخذ عن الزجاج وابن السراج وابن دريد، ولد سنة 296 وتوفي سنة 384"4، عن أبي بكر أحمد بن محمد بن عاصم الحلواني "بينه وبين أبي سعيد السكري نسب قريب، فروى عنه كتبه وكانت كثيرًا ما توجد بخطه"5، عن أبي سعيد الحسن بن الحسين السكري "المتوفى سنة 275". فهذه النسخة إذن تنتهي في رواياتها إلى السكري، غير أنها ناقصة، والموجودة منها هو الجزء الثاني فقط، وهو المطبوع في لندن سنة 1854م، وفي برلين سنة 1884م. ولهذه النسخة قيمة كبيرة لمن يدرس تاريخ الرواية وتسلسل الإسناد في الشعر، وهي تكشف، في وضوح، عن طريقة السكري في الجمع بين الروايات المختلفة، والنص عليها. وتظهر لنا صدق الأقدمين في وصفهم السكري بأنه   1 إرشاد 18: 251. 2 إنباه الرواة 2: 288. 3 انظر وصف المخطوطة في مقدمة "شرح أشعار الهذليين" ص4. 4 نزهة الألباء: 210-211، وإنباه الرواة 2: 294. 5 ياقوت، إرشاد 4: 187-188، وإنباه الرواة 1: 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 كان الغاية في الجمع. وتفصيل ذلك أننا وجدنا -بعد دراسة النسخة- أن السكري قد اعتمد -في جمعه ديوان هذيل- على ثلاث روايات، هي الروايات التي نص عليها نصًّا صريحًا في مطلع ديوان أبي ذؤيب، وهي. أ- رواية بصرية: الرياشي، عن الأصمعي، عن عمارة بن أبي طرفة الهذلي1. ب- ورواية كوفية: محمد بن حبيب، عن ابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني. جـ- ورواية جمعت بين الروايتين: محمد بن الحسن الأحول2، عن عبد الله بن إبراهيم الجمحي3. ومع أن السكرى قد جمع بين هذه الروايات المختلفة إلا أنه كان حريصًا في جمعه على ألا تضيع معالم كل رواية وعلى ألا تختلط بغيرها فنص من أجل ذلك على كل قصيدة انفرد بها بعض هؤلاء الرواة دون غيرهم، وترك القصائد التي أجمعوا جميعًا عيها من غير أن ينص على روايتها، وحسبنا أمثلة قليلة توضح ذلك: أ- فقد أورد تسعة عشر بيتًا لمالك بن الحارث، اتفق الرواة جميعًا على نسبة الأبيات التسعة الأولى منها له ثم اختلفوا بعد ذلك، فمنهم من جعل بقيتها قصيدة منفصلة نسبوها لتأبط شرًّا يرد بها على مالك بن الحارث، ومنهم من جعلها كلها قصيدة واحدة منسوبة إلى مالك، ولذلك قال السكري عند البيت التاسع منها4   1 لم نعثر لعمارة هذا على ترجمة في كتب الطبقات والرجال، غير أن الأصمعي قد روى عنه أخبارًا وشعرًا، "انظر: ابن قتيبة: عيون الأخبار 2: 68، والشعر والشعراء 1: 271". 2 في ديوان أبو ذؤيب ط هانوفر ص1 "محمد بن الحسن" فقط، وقد استقصينا من اسمه محمد بن الحسن ممن يصح أن يروي عنه السكري، فرجحنا أنه: محمد بن الحسن بن دينار الأحول، وهو ممن جمع بين المذهبين وخلطهما "ابن النديم: الفهرست: 117" وكان العلماء يقرءون عليه دواوين الشعراء في سنة خمسين ومائتين "ياقوت: إرشاد 18: 125" وجمع دواوين مائة وعشرين شاعرًا "المصدر السابق 18: 126". 3 ذكره الجاحظ في الحيوان 5: 587، وروى عنه خبرًا حدثه به. 4 شرح أشعار الهذليين ط. لندن ص4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 "هذا آخر ما في رواية الجمحي وأبي عبد الله، قالا: فأجابه تأبط شرًّا الفهمي ثم العدوي؛ وأما أصحاب الأصمعي فيجعلونها قصيدة واحدة ويروونها لمالك بن الحارث إلى آخرها". ب- وأورد قصيدة لحبيب الأعلم، وقال في مقدمتها1: "لم يروها أبو نصر، ولا أبو عبد الله، ولا الأخفش ورواها الباهلي والجمحي". جـ- وأورد قصيدة لساعدة بن العجلان، وقال في مقدمتها2: "رواها الأصمعي، ولم يروها ابن الأعرابي". د- وأورد عشرة أبيات لساعدة بن العجلان، قال عند البيت السادس منها3: "هذا آخرها في رواية الأصمعي، والباقي عن الجحمي والباهلي ونصران وأبي عمرو، قال أبو نصر: لم يرو الأصمعي من هاهنا إلى آخرها". هـ- وأورد قصيدة لأبي جندب، قال عند البيت الرابع منها4: "هذا أولها عند أبي عبيدة". و وأورد قصيدة لأبي جندب أيضًا قال في مقدمتها5: "رواها الأصمعي، ولم يروها ابن الأعرابي ولا أبو عمرو ولا الجمحي". ز- وقصيدة أخرى لأبي جندب قال في مقدمتها6: "قال الأصمعي: وتروى لأبي ذؤيب". ح- وقصيدة رابعة لأبي جندب قال في مقدمتها7: "لم يروها أبو عبد الله ولا أبو نصر ولا الأخفش، ورواها نصران والجمحي".   1 شرح أشعار الهذليين: 66. 2 المصدر السابق: 70. 3 المصدر السابق: 77. 4 المصدر السابق: 80. 5 المصدر السابق: 83. 6 المصدر السابق: 94. 7 المصدر السابق: 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 والأمثلة على ذلك كثيرة ليس من غايتنا استقصاؤها، وإنما بحسبنا أمثلة توضح ما ذكرنا. وقد بالغ السكري في التحري والتحقيق، فلم يكتف بالنص على رواية القصيدة في جملتها، وإنما زاد على ذلك أن نص على رواية الأبيات التي اختلفوا عليها؛ فكان يذكر البيت -في القصيدة- ثم ينص على أن فلانًا لم يروه، وأن فلانًا رواه، فمن ذلك: أ - أنه أورد بيتًا في قصيدة لصخر الغي ثم قال1: "لم يرو هذا البيت والبيتين بعده الأصمعي، ورواها الجمحي وابن الأعرابي". ب - وأورد بيتًا في قصيدة أخرى لصخر أيضًا، ثم قال2: "رواه أبو عبد الله والجمحي". جـ - وأورد بيتًا لأبي المثلم، ثم قال3: "لم يرو هذا البيت والبيتين اللذين بعده أحد غير الباهلي عن الأصمعي، ولم يرو هذا أبو عمرو ولا أبو عبد الله ولا أبو نصر ولا الأخفش". د - وأورد بيتًا في قصيدة لصخر الغي، وقال 4: "لم يرو هذا البيت والبيت والذي بعده الأصمعي وأبو عبد الله". هـ - وأورد بيتًا في قصيدة لأبي المثلم، وقال5: "رواه الجمحي وأبو عمرو وأبو عبد الله". و وذكر بيتًا آخر من القصيدة نفسها وقال6: "لم يروه والبيت الذي بعده إلا أبو عمرو وأبو عبد الله والجمحي". ز - وأورد أرجوزة لصخر الغي قال عنها7: "وروى الأصمعي من   1 شرح أشعار الهذليين: 16. 2 المصدر السابق: 19. 3 المصدر السابق: 21. 4 المصدر السابق: 25. 5 المصدر السابق: 27. 6 المصدر السابق: 30. 7 المصدر السابق: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 هذه الأرجوزة ثلاثة أبيات عليها صح صح، وسائرها عن أبي عبد الله والجمحي. ح- وقال عن بيت في قصيدة أخرى لصخر1: "لم يروه الأصمعي ورواه أبو عبد الله والجمحي". ط- وقال عن بيت آخر في القصيدة نفسها2: "لم يروه إلا عبد الله وأبو عمرو الجمحي". ي- وأورد بيتًا في قصيدة لعامر بن العجلان ثم قال3: "لم يروه والبيت الذي بعده الأصمعي، ورواهما أبو عمرو الجمحي وأبو عبد الله". ك- وأورد بيتًا في قصيدة لأبي جندب ثم قال4: "لم يروه أبو عبد الله ولا أبو نصر ولا الأخفش ورواه الجمحي وأبو عمرو والأصمعي..". والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا أيضًا، وقد اجتزأنا منها بما قدمنا، وما نحسبها إلا واضحة الدلالة على ما ذكرناه من مبالغة السكري في التحري والتحقيق. بل إن السكري لم يكتف بالنص على رواية القصيدة في جملتها، ولا بالنص على رواية الأبيات التي اختلف عليها الرواة، وإنما ذهب إلى أبعد من ذلك في تحريه ودقته، فقد نص، في داخل البيت نفسه، على روايات ألفاظه المختلفة، فذكر في كثير من الأبيات رواية الأصمعي أو أبي عمرو أو ابن الأعرابي أو ابن حبيب أو الجمحي أو الأخفش لهذه اللفظة أو لتلك، وما نحسب أن المجال هنا يتسع لعرض أمثلة من ذلك، وبحسبنا أن نفتح كتاب "شرح أشعار الهذليين" على أية صفحة لنجد الأمثلة وافرة على ذلك. وقد قدم السكري بذكره رواية الديوان في مجموعه، ثم رواية القصيدة في جملتها، ثم رواية الأبيات المفردة في القصيدة الواحدة، ثم رواية الألفاظ في البيت الواحد قدم السكري بذلك كله للدارس مادة خصبة، فيستطيع الدارس   1 شرح أشعار الهذليين: 47. 2 المصدر السابق: 48. 3 المصدر السابق: 50. 4 المصدر السابق: 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 المتتبع، إذا اهتدى بضوء هذه الروايات، أن يستخرج رواية الديوان البصرية: أي رواية الأصمعي، ويفردها وحدها، ويستطيع كذلك أن يستخرج رواية الديوان الكوفية: أي رواية ابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني، ويفردها وحدها، ثم يثبت ما بينهما من اختلاف واتفاق، وينتهي من كل ذلك إلى دراسة ممتعة لهذا الديوان. ونحسب أننا نزيد الأمر وضوحًا إذا لخصنا إسناد هذه النسخة الثمينة ورواياتها في الجدول الآتي: عمارة بن أبي طرفة الهذلي وبعد؛ فهذه هي النسخة الليدنية التي طُبعت منها المجموعتان الأولى والثانية من الطبعة الأوربية، وأما المجموعة الثالثة، وهي "ديوان أبو ذؤيب" التي طبعها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 يوسف هل في هانوفر سنة 1926، فمع أنه طبعها عن نسخة في دار الكتب -رقمها 19 أدب ش- إلا أن هذه النسخة أيضًا من رواية السكري، ونحن نرجح أنها منقولة عن النسخة الليدنية أو عن نسخة منقولة عنها، فتكون بذلك جزءًا من القسم الأول المفقود من النسخة الليدنية، وترجيحنا قائم على السببين التاليين: أ- أن السكري يذكر في مطلع الديوان الرواة الذين أخذ عنهم، وهم أنفسهم الذين ذكرناهم في النسخة الليدنية وكانوا ثلاثة أصناف: رواة بصريين: الرياشي عن الأصمعي عن عمارة بن أبي طرفة الهذلي؛ ورواة كوفيين: ابن حبيب عن ابن الأعرابي وأبو عمرو الشيباني؛ ورواة جمعوا بين المذهبين: محمد بن الحسن "الأحول" عن عبد الله بن إبراهيم الجمحي. ب- جاء في هذه النسخة أيضًا أنها أخذت عن نسخة الحلواني، وذلك قوله1: "ليس ذكر الأصمعي هاهنا في كتاب الحلواني". ومن أجل هذا كنا في غنى عن أن نتحدث عن هذه النسخة إذ أن ما ذكرناه عن النسخة السابقة ينطبق عليها أيضًا. وأما المجموعة الأخيرة من الطبعة الأوربية، وهي "مجموعة أشعار الهذليين، الجزء الثاني" المطبوعة في ليبزج سنة 1933 بتحقيق يوسف هل، وتشتمل على أشعار ساعدة بن جؤية وأبي خراش والمتنخل وأسامة بن الحارث فمتفقة في إيراد الشعر وترتيبه وشرحه مع ما ورد من أشعار هؤلاء الشعراء الأربعة في طبعة دار الكتب، ولذلك سنستغني عن الحديث عنها بما سنورده من حديث عن هذه الطبعة. طبعة دار الكتب: وأما طبعة دار الكتب فمأخوذة من نسخة خطية محفوظة في الدار برقم 6 أدب ش، مكتوبة بخط مغربي، وكانت ملك الشيخ محمد الشنقيطي، وقد كتب   1 ديوان أبو ذؤيب: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 عليها ملك هذا المجموع ... محمد محمود بن التلاميذ الشنقيطي المدني ثم المكي، ثم وقفه على عصبته بعده كسائر كتبه وقفًا مؤبدًا، فمن بدله أو غيره فإثمه عليه والله تعالى حسيبه، وكتبه مالكه واقفه محمد محمود سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف. وقد كتبت هذه النسخة من أصل بخط يحيى بن المهدي الحسيني كتبه سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة. وفي أول الأصل هذه المقدمة كتاب ديوان الهذليين، وهو يشتمل على ثمانية أجزاء: خمسة منها من رواية أبي سعيد عن الأصمعي، وهي الثاني والثالث والرابع والخامس والسابع. ولم نظفر من نسخة رواية أبي سعيد إلا بهذه الخمسة، وضاع الثاني، وهي ثلاثة من نسخة الأصل، ثم وقفنا بعد ذلك على نسخة أخرى ليست من رواية أبي سعيد، وهي كتاب واحد غير مجزأ يخالف نسخة رواية أبي سعيد في الترتيب وفي رواية بعض الأشعار ونسبتها إلى قائليها، فأخذنا ما وجدناه فيها مما ليس في رواية أبي سعيد، وقسمناه إلى ثلاثة أجزاء وهي: الأول والسادس والثامن، وجعلناه تمامًا لهذه النسخة، وألحقنا كل شيء من ذلك بموضعه اللائق به حسبما أمكن، وبالله تعالى التوفيق. ومع اختلاط هذه النسخة وتداخلها فإن الشرح فيها مختصر موجز، والرواية قليلة لا تكاد تسعف الدارس، وذكر أبي سعيد فيها فيه لبس وإبهام، فهو أحيانًا أبو سعيد السكري، كما في قوله1: "قال أبو سعيد ... وحدثني الرياشي قال: قال الأصمعي ... "، وأحيانًا أخرى أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي، ونستدل على ذلك ممن يروي عنهم، وذلك مثل قوله2: "وأنشدنا أبو سعيد ... قال: وأنشدنا أبو عمرو بن العلاء"، وكثيرًا ما يورد شروحًا أو استشهادات شعرية يرويها عن أبي عمرو بن العلاء ومثل قوله3: "وسمعت   1 ديوان الهذليين 2: 236. 2 المصدر السابق 1: 215. 3 المصدر السابق 1: 187و 2: 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 عيسى بن عمر يقول، "أو حدثني عيسى بن عمر"1، وقوله2: "قال أبو سعيد: وحدثنا شعبة عن سماك بن حرب". وقوله3: "قال أبو سعيد: سألت ابن أبي طرفة عن هذا فلم يعرفه، ولم يكن عند أبي عمرو فيها إسناد"؛ وقوله4: "قال أبو سعيد ... وأنشدنا الهذلي". فهذه كلها قاطعة الدلالة على أن أبا سعيد هنا هو الأصمعي. وهذه الأمثلة التي قدمناها تكشف عن المصادر التي استقى منها الأصمعي وروى عنها. غير أننا لا نريد أن نمضي في دراسة هذه النسخة بأكثر من هذا فقد أغنتنا عنها النسخة الليدنية التي درسناها آنفًا.   1 ديوان الهذليين 1: 149، 187. 2 المصدر السابق 1: 213. 3 المصدر السابق 1: 159. 4 المصدر السابق 3: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 الفصل الثالث: المختارات 1 أما مختارات الشعر العربي فأقدم ما وصل إلينا منها المجموعة التي اختارها المفضل بن محمد الضبي -رأس علماء الكوفة في عصره- والتي عرفت بالمفضليات. ولم يبلغنا أن أحدًا قبل المفضل اختار شيئًا من الشعر وجمعه في مجموعة مستقلة إلا ما قدمناه من أمر المعلقات. وتحتوي المفضليات التي بين أيدينا على مائة وست وعشرين قصيدة -أضيف إليها أربع قصائد وجدت في إحدى النسخ- لسبعة وستين شاعرًا، منهم ستة شعراء إسلاميون، وأربعة عشر مخضرمون، والباقون وهم سبعة وأربعون شاعرًا جاهليون لم يدركوا الإسلام. ويبدو أن كثيرين من تلامذة المفضل رووا هذه المختارات عنه، ولذلك اضطربت روايتها بعض الشيء، وأصح رواياتها هي التي رواها أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي تلميذ المفضل وربيبه، قال ابن النديم1 "وهي مائة وثمانٍ وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص، وتتقدم القصائد وتتأخر بحسب الرواية عنه، الصحيحة التي رواها عنه ابن الأعرابي..". ولم يشرح المفضل هذه المختارات، إذ أن المعروف عنه أنه "إنما كان يروي شعرًا مجردًا، ولم يكن بالعالم بالنحو ولا كان يشدو منه شيئًا2"، "وكان يقول: إني لا أحسن شيئًا   1 الفهرست: 102. 2 مراتب النحويين: 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 من الغريب ولا من المعاني ولا تفسير الشعراء"1. وما في هذه المفضليات من شرح إنما صنعه أبو محمد القاسم بن محمد بن بشار الأنباري "المتوفى سنة 304" وقد أخذها إملاء مجلسًا مجلسًا عن أبي عكرمة عامر بن عمران الضبي "المتوفى سنة 250"، وأخذها أبو عكرمة عن ابن الأعرابي "المتوفى سنة 232"؛ ولم يكتف أبو محمد بن الأنباري بذلك، وإنما كان يرجع إلى علماء آخرين مثل: أبي عمرو بندار الكرخي، وأبي بكر العبدي، وأبي عبد الله محمد بن رستم، وأبي الحسن على بن سنان الطوسي، فيسألهم عن الشيء بعد الشيء منها؛ فلما فرغ منها كلها عرضها على أبي جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح "المتوفى سنة 273" وقرأها عليه: شعرها وغريبها. فلما تم له ذلك أقرأها تلامذته، فكان ممن قرأها عليه ابنه أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، وقرأها على أبي بكر هذا أبو بكر أحمد بن محمد الجراح الخزاز؛ وبذلك تمت لهذه المجموعة روايتها في إسناد متصل من ابن الجراح إلى المفضل الضبي. وقد فصل ذلك كله تفصيلًا دقيقًا في مطلع النسخة التي بين أيدينا، وهذا نصه "أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد الجراح الخزاز قراءة عليه، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنبارين قال: قرأت على أبي هذا الكتاب: الشعر والتفسير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم كثيرًا سرمدًا دائمًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. قال أبو محمد القاسم بن محمد بن بشار الأنباري: أملى علينا عامر بن عمران أبو عكرمة الضبي هذه القصائد المختارة المنسوبة إلى المفضل بن محمد الضبي إملاءً مجلسًا مجلسًا من أولها إلى آخرها، وذكر أنه أخذها عن أبي عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، وذكر أنه أخذها عن المفضل الضبي. قال أبو محمد: وكنت أسأل أبا عمرو بندار الكرخي، وأبا بكر العبدي، وأبا عبد الله محمد بن رستم، والطوسي وغيرهم، عن الشيء   1 مراتب النحويين: 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 بعد الشيء منها، فيزيدونني على رواية أبي عكرمة البيت والتفسير، وأنا أذكر ذلك في موضعه إن شاء الله. فلما فرغنا منها صرت إلى أبي جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح فقرأتها عليه من أولها إلى آخرها شعرها وغريبها، فأنكر على أبي عكرمة أشياء أنا مبينها في مواضعها ومسند إلى أبي جعفر ما فسر وروى في موضعه إن شاء الله؛ والمعين الله جل وعز والحول له والقوة به. وعمود الكتاب على نسق أبي عكرمة وروايته". ومع هذا الإسناد، والرواية الكاملة، والتحقيق والاستقصاء اللذين بلغا الغاية في الدقة، فإن هذه المجموعة من المختارات لم تسلم من الشك في عدد قصائدها وفي أنها جميعًا مما روى المفضل. وتفصيل ذلك: أن أبا علي القالي قال1: "وقرأت على أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش في المفضليات قصيدة عبد يغوث بن وقاص الحارثي ... وقال أبو الحسن علي بن سليمان: حدثني أبو جعفر محمد بن الليث الأصفهاني قال: أملى علينا أبو عكرمة الضبي المفضليات من أولها إلى آخرها، وذكر أن المفضل أخرج منها ثمانين قصيدة للمهدي، وقرئت بعدُ على الأصمعي فصارت مائة وعشرين. قال أبو الحسن، أخبرنا أبو العباس ثعلب: أن أبا العالية الأنطاكي والسدري، وعافية بن شبيب -وهؤلاء كلهم بصريون من أصحاب الأصمعي- أخبروه أنهم قرءوا عليه المفضليات، ثم استقرءوا الشعر فأخذوا من كل شاعر خيار شعره، وضموه إلى المفضليات، وسألوه عما فيه مما أشكل عليهم من معاني الشعر وغريبه فكثرت جدًّا". ونحن نرى من هذا النص أمورًا، منها: أن ثمة تلميذًا غير أبي محمد القاسم بن محمد بن بشار الأنباري، أخذ المفضليات إملاءً عن أبي عكرمة، وهو أبو جعفر محمد بن الليث الأصفهاني. وأن أبا جعفر هذا قال إن أبا عكرمة ذكر أن أصل المفضليات التي اختارها المفضل ثمانون قصيدة فقط، ثم قرئت   1 الأمالي 3: 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 على الأصمعي فصارت مائة وعشرين. ثم إن ثعلبًا روى عن ثلاثة من أصحاب الأصمعي أنهم قرءوا عليه المفضليات، وأنهم بعد ذلك استقرءوا الشعر فأخذوا من كل شاعر خيار شعره وضموه إلى المفضليات وسألوا الأصمعي عن معانيه وغريبه، وبذلك كثرت المفضليات جدًّا. فإذا صحت هذه الرواية، فمعنى ذلك أن ثلثي القصائد المذكورة في هذه المجموعة فقط من اختيار المفضل، وأن سائرها من الزيادات التي أضافها الأصمعي وتلاميذه. غير أن في هذا الخبر ما يستوقف الباحث، وذلك أن أبا محمد القاسم بن محمد بن بشار الأنباري قد أخذ هذه المفضليات إملاء مجلسًا مجلسًا عن أبي عكرمة الضبي، فلو أن أبا عكرمة ذكر في مجالسه "أن المفضل أخرج ثمانين قصيدة للمهدي، وقرئت بعدُ على الأصمعي فصارت مائة وعشرين" لسمعها ابن الأنباري -كما سمعها محمد بن الليث الأصفهاني فيما روى الأخفش- ولأثبتها في هذه المقدمة المفصلة التي بيَّن لنا فيها كيف أخذ المفضليات وشرحها. هذه واحدة؛ ثم إن أبا عكرمة ذكر أنه أخذ هذه القصائد عن ابن الأعرابي ما عدا ستًّا منها وهي في المطبوعة بتحقيق ليل رقم 3و 13 و 16 و 19 و 30 و 32، إذ إن ابن الأنباري لم يروها عن أبي عكرمة وإنما ذكر أنه رواها عن أبي جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح، وأبو جعفر هذا سمع ابن الأعرابي وأخذ عنه، وقد عاصر ابن الأعرابي الأصمعي، ولكنه كان شديد العصبية للكوفيين، ولشيخه المفضل خاصة، خصمًا للأصمعي كثير النيل منه والتنقص له. فإذا كانت هذه القصائد الست والعشرون كلها رواها ابن الأعرابي عن المفضل كما ذكر ابن الأنباري؛ فإن من غير المحتمل أن يكون ابن الأعرابي قد روى -زيادة على ما اختاره المفضل- الإضافات التي زادها الأصمعي وتلامذته. هذه ثانية؛ وأما الثالثة: فإن ابن النديم قد ذكر في كتابه "الذي كتبه سنة 377" أن المفضليات1 "مائة وثمانٍ وعشرون قصيدة .... والصحيحة التي رواها عنه ابن الأعرابي".   1 الفهرست: 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 وقد تنبه ليل لكل ذلك وأورده في مقدمة طبعته من المفضليات1، وانتهى من ذلك إلى قوله "ولهذه الأسباب يبدو أننا لا نستطيع أن نسلم بالخبر الذي رواه الأخفش؛ ومع ذلك فإن هذه المسألة ليست مما يمكن حله حلًّا قاطعًا؛ أما مسألة صحة هذا الشعر ونسبة قصائده إلى قائليها، فإن مكانة الأصمعي في الرواية والحكم على مثل هذه الأمور لا تقل في قيمتها وعلوها عن مكانة المفضل". ولكن يبدو أن الأستاذين أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون لم يطمئنا إلى ما اطمئن إليه ليل، وإنما أعادا -في طبعتهما للمفضليات- هذا الموضوع جذعًا، فأكدا "أن هذه الثمانين هي أصل الكتاب عن المفضلن لم يتجاوزها، ثم قرئت على الأصمعي، فأقرها وزادها قصائد، وزاد في بعض قصائدها أبياتًا، واختار قصائد أخر. ثم جاء من بعد الأصمعي، وزادوا في القصائد -أصلها ومزيدها- أبياتًا دخلت في روايتي المفضل والأصمعي، حتى اختلطت كلها، فلم يكن ميسورًا أن يجزم جازم بما كان أصلًا وما كان مزيدًا، إلا قليلاً، ونحن موقنون أن السبعين التي بُني عليها الكتاب، والعشرة التي زادها المفضل، ليست الثمانين الأولى من هذه المجموعة، وإنما هي ثمانون قصيدة مفرقة في الكتاب، لا نوقن في قصيدة بعينها أنها منها أو من غيرها إلا قليلًا أيضًا2". وواضح أن هذا الكلام مأخوذ من الخبر الذي رواه الأخفش وأورده القالي في أماليه، ولكن الأستاذين المحققين، قد بحثا بحثًا طويلًا، فيه استقصاء دقيق، عن أدلة يؤيدان بها هذا الخبر، وأن قصائد من الأصمعيات أدخلت في المفضليات. وقد فصلا القول في ذلك في مقدمة طبعتهما، ولسنا بحاجة إلى أن نعيده هنا فليراجع في موطنه؛ غير أننا قد نذكر بعضه موجزًا في الحديث التالي.   1 ص15-16. 2 المفضليات ط. دار المعارف: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 2 أما الأصمعيات فاثنتان وتسعون قصيدة ومقطعة1، لواحد وسبعين شاعرًا؛ منهم ستة شعراء إسلاميون، وأربعة عشر شاعرًا مخضرمون، وأربعة وأربعون جاهليون، وسبعة مجهولون ليست لهم في المظان تراجم تكشف عن عصرهم. وليس في النسخة الخطية التي طبع عنها وليم بن الورد الطبعة الأوربية، ولا في النسخة الخطية المحفوظة في دار الكتب التي طبع عنها الأستاذان عبد السلام هارون وأحمد محمد شاكر الطبعة المصرية إسناد يكشف عن الرواية التي انتقلت بها هذه المختارات من الأصمعي. وذلك -في رأينا- عيب النسختين الخطيتين نفسهما، أو عيب النسخة أو النسخ التي نقلت عنها هاتان النسختان، وليس عيبًا في تاريخ الرواية الأدبية؛ لأننا قد رأينا حرص العلماء الرواة على ذكر الإسناد الذي انتقلت إليهم به الدواوين والمجموعات الشعرية؛ ولو وصلت إلينا النسخ الأصلية القديمة التي كتبها العلماء أنفسهم الرأينا في كل نسخة -على عادتهم التي لا يشذون عنها- إسنادًا متصلًا، ورواية تامة يكونان مصدرًا خصبًا للدراسة والبحث. أما إسناد الأصمعي عمن قبله، فقد ذكرنا من قبل أن الأصمعي ومن في طبقته من علماء المدرستين: البصرية والكوفية، كانوا الطبقة الأولى من الرواة العلماء، وأن مَن بعدهم قد روى عنهم وأسند روايته حتى ارتفعت إليهم ثم انتهت عندهم، وأنهم هم لم يكونوا يسندون إلا في القليل النادر، وأضفنا إلى ذلك أن إغفال الطبقة الأولى للإسناد لا يعني انقطاع الرواية، بل لقد وضحنا أن الرواية كانت متصلة مسلسلة من آخر العصر الجاهلي وصدر الإسلام حتى   1 ذلك عددها في الطبعة المصرية بتحقيق الأستاذين عبد السلام هارون وأحمد محمد شاكر، وأما الطبعة الأوربية بتحقيق وليم بن الورد فليس فيها إلا سبع وسبعون قصيدة ومقطعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 زمن هؤلاء الرواة العلماء من رجال الطبقة الأولى، لم تنقطع خلال هذا الزمن فترة مهما تكن قصيرة. وذكرنا في مواطن متفرقة من هذا البحث أن مصادر هذه الطبقة الأولى من العلماء كانت ثلاثة: الصحف والمدونات التي وصلت إليهم من العصور السابقة؛ والأخذ عن الشيوخ العلماء من رجال المدرسة الواحدة أو المدرستين معًا بالرواية الشفهية وبالقراءة وبالإملاء، ثم الرواية عن الرواة من الأعراب. ثم قلنا إن هؤلاء العلماء كانوا يجمعون كل ذلك وينقدونه ويمحصونه ثم يبقون منه ما رجحت لهم صحته، فيدونونه في نسختهم الخاصة التي يرويها عنهم تلاميذهم. ومع هذا كله، فقد كان علماء الطبقة الأولى يسندون أحيانًا، وكذلك فعل الأصمعي في بعض مختاراته هذه، فنص في ست منها على أنه رواها عن أبي عمرو بن العلاء وهي: 1- "قال المنخل بن عامر ... اليشكري، قال أبو سعيد: قرأتها على أبي عمرو بن العلاء1". 2- "قال أبو الفضل الكناني، قال أبو سعيد: أنشدنيها أبو عمرو بن العلاء"2. 3- "قال أبو سعيد، قال أبو عمرو بن العلاء: قال عمرو بن الأسود. هذه القصيدة يوم ذي قار"3. 4- "قال أبو سعيد: سمعت أبا عمرو بن العلاء ينشد هذه القصيدة لامرئ القيس"4. 5- "قال الأصمعي، سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: ساب يزيد   1 الأصمعيات - ط. دار المعارف: 52. 2 المصدر السابق: 75. 3 المصدر السابق: 77. 4 المصدر السابق: 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 ابن الصعق رجلًا من بني أسد، فقال يزيد في ذلك ... ، فأجابه الأسدي1". 6- "وأنشدني أبو عمرو بن العلاء لطرفة بن العبد..2". ونص في واحدة منها على أنه رواها عن خلف الأحمر قال عبد الله بن جنح النكري قال الأصمعي: أنشدنيها خلف الأحمر3". ونص في أخرى على أنه رواها عن أعرابي سماه من أهل نجد عن أبيه عن الشاعر نفسه، وذلك قوله4: "قال أبو سعيد، عن حبيب بن شوذب، ورجل من أهل نجد مسن، عن أبيه، أنشدنيها كعب بن سعد موافقًا لي براذان". وكذلك نص في واحدة على أنه رواها عن راوية من قبيلة الشاعر نفسه، وذلك قوله5: "قال الأصمعي: حدثنا رجل من بني رياح قال: جاء رجل إلى الأخوص والأبيرد -وهما من ولد عتاب بن هرمي- يطلب هناءً، فقالا: إن بلغت عنا سحيم بن وثيل بيتًا وأتيتنا بجوابه. قال: نعم، هاتياه. فأنشداه: إن بداهتي وجراء حولى لذو شق على الحطم الحرون فلما أنشده إياه أخذ عصاه، وجعل يهدج في الوادي ويقول: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ...... "القصيدة". ونص في الأخيرة منها على أنه أخذها عن الحارث بن مطرف، وذلك قوله6: "وقال الأصمعي، خبرني الحارث بن مطرف قال: استب حجل ومعاوية بن شكل عند بعض الملوك.. فقال حجل". بقي أمر آخر يتصل برواية الأصمعيات، وهو ما ذكره ابن النديم في   1 الأصمعيات: 161-162. 2 المصدر السابق: 166. 3 المصدر السابق: 120. 4 المصدر السابق: 94. 5 المصدر السابق: 3-5. 6 المصدر السابق: 153-154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 قوله1: "وعمل الأصمعي قطعة كبيرة من أشعار العرب ليست بالمرضية عند العلماء لقلة غريبها واختصار روايتها". وفي هذا الحكم -الذي انفرد بذكره ابن النديم- إشكالان يبدو أنه لا سبيل إلى حلهما حلًّا قاطعًا يقينيًّا. الأول: ما الذي يقصده ابن النديم بهذه القطعة الكبيرة من أشعار العرب؟ أهي القصائد التي اختارها الأصمعي فنسبت إليه وسميت الأصمعيات؟ أم هي جميع الدواوين الشعرية التي عملها الأصمعي؟ ولقد كان من الجائز أن يكون المقصود بها الأصمعيات -كما ذهب إلى ذلك ليل2- لولا أمران، الأول: أنه وصفها بأنها "قطعة كبيرة" والأصمعيات ليست كذلك، أو على الأقل ما بين أيدينا منها ليس كذلك، والمفضليات أكبر منها كثيرًا3. أما الدواوين التي عملها الأصمعي فهي "قطعة كبيرة" حقًّا. ثم إن ابن النديم يستخدم أحيانًا لفظة "القطعة" من الأشعار ويقصد بها دواوين الشعر، فمن ذلك قوله عن السكري إنه عمل "قطعة من القبائل"4. والأمر الثاني الذي يجعلنا نشك في أنه يريد بقوله هذا الأصمعيات هو أنه ذكره في آخر حديثه عن الأصمعي، بعد أن ذكر أسماء كتبه في اللغة والحديث، ولم يذكر له مما عمله من الشعر إلا كتاب "القصائد الست! "5، فلعله أغفل ذكر الدواوين التي عملها الأصمعي ليجملها في هذا اللفظ العام "قطعة كبيرة من أشعار العرب". هذا هو الإشكال الأول في نص ابن النديم، أما الإشكال الثاني ففي قوله "واختصار روايتها". ونحن نرى أن "الرواية" هنا قد تعني أحد أمرين: إما إسناد الرواية، وإما الشعر المروي نفسه. فإذا كان المقصود: الإسناد، فله وجهان أيضًا:   1 الفهرست: 83. 2 مقدمة المفضليات 2: 16. 3 الأصمعيات 92 قصيدة فيها 1439 بيتًا، والمفضليات: 130 قصيدة فيها 2664 بيتًا. 4 الفهرست: 117. 5 المصدر السابق: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 1- إسناد الأصمعي عمن قبله من العلماء الذي أخذ عنهم؛ وقد فهمه بهذا المعنى ليل في مقدمة طبعة المفضليات1. غير أننا نستبعد أن يكون هذا المعنى هو الذي ذهب إليه ابن النديم؛ لأننا قد عرفنا من دراستنا المفصلة أن علماء الطبقة الأولى كانوا منتهى الإسناد، وأنهم لم يكونوا يسندون إلى من قبلهم من العلماء إلا في القليل النادر، وأن ذلك لم يكن عيبًا ولا نقصًا فيهم، ولا فيما يروون حتى تكون "ليست بالمرضية عند العلماء". 2- إسناد الرواية بعد الأصمعي حتى زمن ابن النديم، ويكون معنى ذلك -إذا كان المقصود به الأصمعيات- أن هذه القصائد المختارة لم يروها عن الأصمعي تلامذته، وأن إسناد الرواية بعد الأصمعي غير مكتمل الحلقات. وأما الأمر الثاني الذي قد تعنيه لفظة "الرواية" في هذا النص، وهو الشعر المروي نفسه، فلعل معناه -إذا كان المقصود به الأصمعيات- أن الأصمعي حين اختار هذه الأشعار، لم يرو في كثير منها القصيدة كاملة، وإنما اختار منها أبياتًا أو قطعة صغيرة، وأغفل ذكر سائرها. وفي الأصمعيات التي بين أيدينا شعراء لم يورد لهم الأصمعي إلا بيتين أو ثلاثة أو أربعة. فلعل هذا معنى قوله "اختصار روايتها". 3 وثمة ضرب آخر من المختارات يختلف عن المفضليات والأصمعيات في أنه بُني على أساس معلوم في اختياره، ثم في تقسيمه وتبويبه. وهذا الضرب مجموعتان: حماسة أبي تمام، وجمهرة أشعار العرب. أما الحماسة فقد بُني اختيار ما فيها من الشعر على أبواب المعاني: فباب لشعر الحماسة وهو أول الأبواب وأكبرها وبه سميت المجموعة كلها، وباب للمراثي، وباب للأدب، وباب للنسيب، وباب للهجاء، وباب للأضياف والمديح، وباب للصفات، وباب للسير والنعاس، وباب للملح، وباب لمذمة   1 ص16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 النساء. وأما جمهرة أشعار العرب فقد قُسم ما فيها من الشعر سبعة أقسام هي: السموط، المجمهرات، المنتقيات، المذهبات، المراثين المشوبات، الملحمات. أما المفضليات والأصمعيات فلم يبين فيهما أساس الاختيار، وليس فيهما تبويب وتقسيم، وقد التقت الحماسة والجمهرة في هذه الصفة وحدها ثم اختلفتا في غيرها؛ فانضمت الجمهرة إلى المفضليات والأصمعيات في أنها قصائد كاملة طوال. أما الحماسة فأبيات مقتطفات ومقطعات قصار؛ ولذلك قال التبريزي2: "ومن أجود ما اختاروه من القصائد المفضليات، ومن المقطعات الحماسة". وليس من شأننا في هذا البحث أن نتناول بالحديث الشعر نفسه من حيث خصائصه وميزاته، وإنما هدفنا أن نقصر الحديث على رواية القصائد ورواية المجاميع جملةً. وسنرى أن حديثنا عن هاتين المجموعتين من المختارات حديث موجز نتخذه معبرًا نصل منه إلى ما سنجمله في آخر هذا الفصل من رواية كتب المختارات وقيمتها التاريخية من حيث هي مصدر من مصادر الشعر الجاهلي. أما الحماسة فليست لها رواية انتقلت بها إلى أبي تمام، ولا رواية أخذت بها عن أبي تمام، وإنما أخذها أبو تمام من الكتب، وانتقاها من الدواوين والمجاميع، في حديث طويل سنذكره بعد قليل. ثم كتب أبو تمام ما اختاره، وبقي كتابه دهرًا مطويًّا لم يقرأه عليه أحدن كما لم يقرأه هو على أحد، إلى أن أتيح له أن يُنشر ويظهر بعد وفاة أبي تمام3؛ فأخذ ما فيه من الصحف المكتوبة نفسها لا عن العلماء. وهذا المرزوقي شارح الحماسة، وبينه وبين أبي تمام نحو مائتي عام، لا يذكر إسنادًا انتقل إليه به الكتاب، بل إنه لينص على أنه أخذه من الكتب، وأنه كانت بين يديه نسخ عدة منه فهو يقابل بينها ويثبت ما يجد فيها4. وليس فقدان الرواية والإسناد هو الأمر الوحيد الذي يباعد بين الحماسة   1 ليست كل الأصمعيات قصائد، بل فيها مقطعات قصار، وإن كانت القصائد أكثر عددًا. 2 شرح ديوان الحماسة: 3. 3 مروج الذهب 4: 74. 4 شرح ديوان الحماسة 1: 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 وبين بحثنا هذا، بل إن ثمة شيئًا آخر لا يقل عن سابقة في المباعدة بين هذا الكتاب وبين بحثنا، وهو صنيع أبي تمام فيما اختاره من تغيير للنص الشعري مما أوضحه المرزوقي في مقدمته، قال1: "وهذا الرجل لم يعمد من الشعراء إلى المشتهرين منهم دو الأغفال، ولا من الشعر إلى المتردد في الأفواه، المجيب لكل داع، فكان أمره أقرب؛ بل اعتسف في دواوين الشعراء جاهليهم ومخضرمهم وإسلاميهم ومولدهم، واختطف منها الأرواح دون الأشباح، واخترف الأثمار دون الأكمام، وجمع ما يوافق نظمه ويخالفه؛ لأن ضروب الاختيار لم تخف عليه، وطرق الإحسان والاستحسان لم تستتر عنه، حتى إنك تراه ينتهي إلى البيت الجيد فيه لفظة تشينه، فيجبر نقيصته من عنده، ويبدل الكلمة بأختها في نقده. وهذا يبين لمن رجع إلى دواوينهم، فقابل ما في اختياره بها". من أجل هذا كله رأينا أننا لا نستطيع أن نتحدث عن الحماسة حديثًا يتصل بموضوعنا، فأوجزنا الكلام إيجازًا يغني عن التطويل، ويكفي لأن نصل به بعد قليل ما يدخل في بحثنا إلى الصميم. وأما الجمهرة فتحتاج إلى بحث مستفيض قائم بذاته مستقل عن بحثنا هذا، فنسبتها إلى صاحبها عقدة تحتاج إلى حل، والتعريف بصاحبها وترجمته عقدة أخرى لا تقل عن الأولى، وأكثر الرواة الذين يروي عنهم مجاهيل لم نجد لهم ذكرًا فيما بين أيدينا من كتب الرجال والطبقات، وهي عقدة ثالثة تنافس في الصعوبة سابقتها. وتفصيل ذلك أن هذا الكتاب -في طبعاته الثلاث: طبعة بولاق سنة 1311هـ، وطبعة المطبعة الخيرية سنة 1331هـ، وطبعة المطبعة التجارية، وهي كلها عن أصل واحد ولا اختلاف بينها- قد نُسب إلى أبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي؛ وهو مجهول ليس له أدنى ذكر في جميع كتب   1 شرح ديوان الحماسة: 13-14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 الطبقات والرجال، فلم يذكر مع المحدثين ورواة الحديث، ولا مع اللغويين والنحويين، ولا مع الشعراء والأدباء، ولا مع مؤلفي الكتب وجامعي الدواوين. ثم تتبعنا ذكره وذكر جمهرته فيما بين أيدينا من كتب الأدب عامة، فوجدناه مذكورًا في خزانة الأدب للبغدادي1، وفي المزهر للسيوطي2، وفي العمدة لابن رشيق3 أما في الخزانة فقد ذكره البغدادي ست مرات لم يسمه في أربع منها، وإنما ذكر الكتاب من غير نسبة مرة، وقال في مرة أخرى: صاحب جمهرة أشعار العرب وقال في المرتين الأخريين: شارح جمهرة أشعار العرب وسماه في الموطنين الباقيين باسم محمد بن أبي الخطاب، ومن غير كنية ومن غير نسبة بعد الاسم. غير أنه في أحد هذين الموطنين نقل اسمه من العمدة، فقال: "وفي العمدة لابن رشيق: قال محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسوم بجمهرة أشعار العرب". فلعله في الموطن الثاني الذي سماه فيه قد تأثر بتسمية ابن رشيق له، ولعله أيضًا كان بين يديه كتاب الجمهرة فنقل منه ما نقل من غير أن يسميه لأنه كان في شك من أمر نسبته إلى صاحبه. وأما السيوطي في المزهر فقد ذكره في موطن واحد، ونقل ما جاء في العمدة عنه. فمرد تسمية صاحب الجمهرة في هذين الكتابين -كما رأينا- إلى ابن رشيق في العمدة حيث سماه في موطنين، فقال مرة: "وقال محمد بن أبي الخطاب في كتابه الرسوم بجمهرة أشعار العرب" وقال مرة أخرى: "وزعم ابن الخطاب". وعند كتاب العمدة ينتهي بحثنا عن صاحب كتاب الجمهرة، ويكون بذلك ابن رشيق أقدم من ذكر محمد بن أبي الخطاب ونسب إليه الجمهرة، فإذا كانت تسمية هذا الرجل مما جرى به قلم ابن رشيق حقًّا، ولم يكن زيادة أقحمها   1 1: 10، 61؛ 2: 55؛ 4: 163، 538، 545. 2 2: 480. 3 1: 78-79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 أحد النساخ، فإن معنى ذلك أن محمد بن أبي الخطاب قد عاش قبل منتصف القرن الخامس الهجري "مات ابن رشيق سنة 463هـ". ثم إننا وجدنا في معهد إحياء المخطوطات العربي صورة من نسخة أصلها في مكتبة كوبريلي، وعنوانها "جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، وما وافق القرآن على ألسنتهم واشتقت بهم لغتهم وألفاظهم". والنسخة مكتوبة في سنة 683 هجرية كما هو مذكور في آخرها. وهي تتفق مع النسخة المطبوعة في العنوان وفي المحتويات، وإن كان بينهما من الاختلاف ما يكون عادة بين النسخ الخطية المتعددة للكتاب الواحد. غير أن هذه النسخة المصورة مذكور في أولها أن مؤلفها وشارحها هو: محمد بن أيوب العزيزي ثم العمري!! وهو مجهول أيضًا لم نعثر له على ترجمة، أفيكون رجلًا آخر غير محمد بن أبي الخطاب؟ أم أنه هو هو؟ ويكون بذلك أبوه أيوب هو أبا الخطاب كنية؟ وأمر ثالث: هل محمد بن أبي الخطاب أو محمد بن أيوب هو مؤلف هذا الكتاب، أو شارحه وراويه؟ ولرب قائل يقول: إن محمد بن أبي الخطاب أو محمد بن أيوب هو مؤلف الكتاب من غير ريب. وأن على ذلك دليلين؛ الأول: نص واضح في أول الكتاب، ففي المطبوعة "هذا الكتاب جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام. تأليف أبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي.."، وفي المخطوطة "ألفه وشرحه محمد بن أيوب العزيزي ثم العمري". والدليل الثاني: أن أكثر الأخبار والروايات في القسم الأول من الكتاب وهو مقدمته، مصدرة بقوله "قال محمد" ثم يذكر إسناد الرواية. ومع أن هذين الدليلين كان يصح أن يكفيا للتدليل على أن هذا الرجل هو مؤلف الكتاب إلا أننا لا نستطيع، بعد الدرس، أن نسلم بهذه النتيجة وذلك لأننا وجدنا أن محمدا هذا يروي الكثرة الغالبة من أخبار مقدمته عن رجل بعينه هو "أبو عبد الله المفضل بن عبد الله بن محمد بن المجبر1 بن   1 في المطبوعات الثلاث "المحبر" وهو تصحيف، صوابه "المجبر" بالجيم المعجمة ففي نسب قريش للمصعب الزبيري ص356 "وأما عبد الرحمن الأصغر "ابن عمر بن الخطاب" فهلك وترك ابنًا له، فسمي به، فسمته حفصة بنت عمر: عبد الرحمن، ولقبته "المجبر"، قالت "يجبره الله" فولده يعرفون ببني المجبر". وانظر أيضا جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب". حتى إذا وصل في مقدمته إلى القسم المهم منها، وهو هذا القسم السباعي للشعر الذي يورده -وهو تقسيم لم يرد في غير هذا الكتاب فيما نعرف- ذكر هذا التقسيم وذكر سبعة شعراء سماهم بأسمائهم في كل قسم، ثم قال1، "قال المفضل: فهذه التسع والأربعون قصيدة عيون أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، وأنفس شعر كل رجل منهم" فيكون إذن هذا التقسيم، مع النص على الشعراء بأسمائهم وذكر القصائد بذواتها، من صنع المفضل هذا، لا من صنع محمد، ويكون فضل محمد في أنه روى هذا التقسيم والشعر عن المفضل، ثم شرحه ذلك الشرح الموجز الموجود في الكتاب. والمفضل بن عبد الله المجبري هذا مجهول كذلك لم تذكره كتب الرجال والطبقات، غير أنه في هذا الكتاب يروي "عن أبيه عن الأصمعي"2، و"عن أبيه عن جده عن أبي عبيدة"3، فيكون المفضل بذلك من رجال القرن الثالث ومطلع القرن الرابع، ويكون محمد راوي الجمهرة وشارحها من رجال القرن الرابع؛ وسائر الأسانيد التي عن غير المفضل في المقدمة تتفق في هذه النتيجة على وجه التقريب. أما ما ذكره سركيس في معجم المطبوعات من أن محمدا توفي في سنة 170هـ فأمر عجيب لا ندري كيف وصل إليه، ولعله استنتجه استنتاجًا حين رأى محمدًا في أول النسخة يروي عن المفضل بن محمد الضبي، وهو خطأ محض، صوابه ما في المخطوطة الأخرى المثبت على هامش الصفحة الثالثة من أنه "المفضل بن عبد الله المجبري" ويؤيد ذلك تكرار هذا   1 جمهرة أشعار العرب: 35. 2 المصدر السابق: 16. 3 المصدر السابق: 17 هامش: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 الاسم بهذا النسب في صفات المقدمة. وهذا التاريخ التقريبي الذي وصلنا إليه من رواية المقدمة -وهو أن محمدًا هذا قد عاش في خلال القرن الرابع الهجري- يؤيده، بعض الشيء، ما ذكرناه من أن مؤلف كتاب جمهرة أشعار العرب لا بد أن يكون قد عاش قبل منتصف القرن الخامس لأن ابن رشيق القيرواني روى عنه في العمدة، وابن رشيق مات سنة 463هـ. ونحب أن نكتفي بهذا القدر من بحث هذا الكتاب ودراسته، ونترك مواصلته وإكماله لمن سيستقل في المستقبل بعبء تحقيقه ونشره. فإذا أضفنا إلى ذلك أن جميع ما في كتاب جمهرة أشعار العرب من إسناد ورواية محصور في المقدمة نفسها وما فيها من أخبار وأحكام نقدية، وأما القسم الثاني من الكتاب وهو الشعر نفسه فخال من أي إسناد ورواية، إذا أضفنا هذا إلى كل ما تقم تبين لنا في وضوح أن فيما أسلفنا من حديث ما يغني عن الإطالة. 4 وبعد، فإننا لم نتحديث عن أخطر ما في مجموعات القصائد المختارة من دلالات تتصل ببحثنا عن تاريخ الرواية ومصادر الشعر، وقد اقتطعنا هذا الجزء من البحث من مواضعه المتفرقة وادخرناه لنختم به هذا الفصل؛ ولا نريد أن نستعجل ذكره وبيانه، وإنما نريد أن نمهد بإيراد بعض النصوص والأخبار التي تنتهي بنا إلى ما نريد: 1- قال التبريزي1: "وكان سبب مع أبي تمام الحماسة أنه قصد عبد الله بن طاهر، وهو بخراسان، فمدحه، وكان عبد الله لا يجيز شاعرًا إلا إذا   1 شرح ديوان الحماسة 1: 3-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 رضيه أبو العميثل وأبو سعيد الضرير؛ فقصدهما أبو تمام وأنشدهما القصيدة التي أولها. أهن عوادي يوسف وصواحبه ... فعزما فقدمًا أدرك السؤل طالبه فلما سمعا هذا الابتداء أسقطاها، فسألهما استتمام النظر فيها، فمرَّا بقوله: وركب كأطراف الأسنة عرسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه لأمر عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه فاستحسنا هذين البيتين وأبياتًا أخرى ... فعرضا القصيدة على عبد الله، وأخذا له ألف دينار. وعاد من خراسان يريد العراق، فلما دخل همذان اغتنمه أبو الوفاء بن سلمة، فأنزله وأكرمه؛ فأصبح ذات يوم وقد وفع ثلج عظيم قطع الطرق ومنع السابلة، فغم أبا تمام ذلك وسر أبا الوفاء، فقال له: وطِّن نفسك على المقام فإن هذا الثلج لا ينحسر إلا بعد زمان. وأحضره خزانة كتبه، فطالعها واشتغل بها، وصنف خمسة كتب في الشعر منها: كتاب الحماسة، والوحشيات وهي قصائد طوال، فبقي كتاب الحماسة في خزانة آل سلمة، يضنون به، ولا يكادون يبرزونه لأحد، حتى تغيرت أحوالهم، وورد همذان رجل من أهل دينور يعرف بأبي العواذل، فظفر به، وحمله إلى أصبهان، فأقبل أدباؤها عليه، ورفضوا ما عداه من الكتب المصنفة في معناه، فشهر فيهم ثم فيمن يليهم". 2- وروي عن المفضل أنه قال1: "كان إبراهيم بن عبد الله بن الحسن متواريًا عندي، فكنت أخرج وأتركه، فقال لي: إنك إذا خرجت ضاق صدري، فأخرج إليَّ شيئا من كتبك أتفرج به. فأخرجت إليه كتبًا من الشعر، فاختار منها السبعين قصيدة التي صدرت بها اختيار الشعراء، ثم أتممت عليها باقي الكتاب".   1 مقاتل الطالبيين: 372-373. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 3- وروى النجيرمي أن العباس بن بكار قال للمفضل1: "ما أحسن اختيارك للأشعار؛ فلو زدتنا من اختيارك! فقال: والله ما هذا الاختيار لي، ولكن إبراهيم بن عبد الله استتر عندي، فكنت أطوف وأعود إليه بالأخبار، فيأنس ويحدثني. ثم عرض لي خروج إلى ضيعتي أيامًا، فقال لي: اجعل كتبك عندي لأستريح إلى النظر فيها، فتركت عنده قمطرين فيهما أشعار وأخبار، فلما عدت وجدته قد علَّم على هذه الأشعار، وكان أحفظ الناس للشعر، فجمعته وأخرجته، فقال الناس: اختيار المفضل". 4- وقال أبو عكرمة الضبي2: "مر أبو جعفر المنصور بالمهدي وهو ينشد المفضل قصيدة المسيب التي أولها: أرحلت، وهي هذه: رحلت من سلمى بغير متاع ... قبل العطاس ورعتها بوداع فلم يزل واقفًا من حيث لا يشعر به، حتى استوفى سماعها؛ ثم صار إلى مجلس له وأمر بإحضارهما. فحدث المفضل بوقوفه واستماعه لقصيدة المسيب واستحسانه إياها، وقال له: لو عمدت إلى أشعار الشعراء المقلين واخترت لفتاك لكل شاعر أجود ما قال لكان ذلك صوابًا؛ ففعل المفضل". وأحسب أن هذه النصوص، بهذا النسق الذي أرودناها فيه، وبهذه الخطوط التي وضعناها تحت بعض عباراتها قد دلت على ما نريد أن ننتهي إليه؛ وخلاصته: أن العلماء في القرن الثاني كانوا قد فرغوا من تدوين أشعار الشعراء المكثرين، ومن دراسة دواوين الشعراء المشهورين، ومن أجل هذا كان لابد لهم من أن يعمدوا "إلى أشعار الشعراء المقلين" فيختاروا منها "لكل شاعر أجود ما قال". ثم إن الرواية عن الشيخ: قراءة وإملاء، كانت وسيلة من وسائل   1 المزهر 2: 319. 2 القالي: الأمالي 3: 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 اختيار بعض هذه المختارات -كما رأينا في بعض القصائد الأصمعيات- غير أن الوسيلة الكبرى التي كانت أكثر اتباعًا في اختيار المختارات كانت الرجوع إلى دواوين الشعراء وكتب الشعر التي كانت متوفرة بين يدي علماء القرن الثاني. فأبو تمام "المتوفى في نحو سنة 228هـ" يجد أمامه في همذان -في شرق الدولة الإسلامية- خزانة كتب، لا كتابًا أو كتابين، فيطالعها ويشتغل بها ويختار منها قصائد ومقطعات تكفي لأن يؤلف منها خمسة كتب. وإذا كان الباحث في تاريخ الرواية الأدبية وتدوين الشعر يأسى لأن الأخبار التي بين يديه لا تعينه على معرفة تاريخ كتابة هذه الكتب الموجودة في خزانة آل سلمة في همذان، ولا تدله على أكثر من أن هذه الكتب كانت مدونة في آخر القرن الثاني الهجري، فإن مما يخفف أسى هذا الباحث أن بين يديه نصًّا آخر، لا يحتمل الشك ولا التأويل، يشير إلى أن خزائن كتب الشعر ودواوين الشعراء كانت موجودة منذ مطلع القرن الثاني وربما نهاية القرن الأول الهجري، وبذلك استطاع المفضل الضبي أن يترك بين يدي إبراهيم بن عبد الله "في نحو سنة 145هـ" "قمطرين فيهما أشعار وأخبار". وأن يعلِّم إبراهيم على سبعين قصيدة منها يصدر بها المفضل اختياره، ثم يتم عليها باقي كتابه حين يدعوه المنصور إلى تأديب ابنه المهدي، ويطلب منه أن يعمد إلى أشعار الشعراء المقلين فيختار لكل شاعر أجود ما قال. إن هذا المعلم الواضح الذي نصبناه في طريق بحثنا في نهاية القرن الأول الهجري ومطلع القرن الثاني ليكشف لنا عن وجود دواوين الشعراء وكتب الشعر منذ هذا العهد المبكر هذا المعلم الواضح يدعم ما قدمنا الحديث عنه من معالم، استخرجناها من النصوص الكثيرة التي جمعناها في طريق بحثنا لتحدد لنا اتجاهه، ولتبين لنا أن مدونات الشعر الجاهلي قد انتقلت إلى القرن الثاني والطبقة الأولى من الرواة العلماء من القرن الأول الهجري، وأن بعضها ربما كتب منذ صدر الإسلام. وبذلك يكون التدوين: في الصحف المتفرقة وفي الدواوين المجموعة رافدًا كبيرًا يساير الرافد الآخر، وهو الرواية الشفهية، ويعاصره، ولا يقل عنه قيمة؛ وهما معًا يكونان هذا الجدول العظيم الذي نسميه: الرواية الأدبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 الفصل الرابع: الشعر الجاهلي في غير الدواوين 1 في الكتب العربية، على اختلاف موضوعاتها وفنونها، شعر كثير، بعضه جاهلي.. ولو قصرنا حديثنا على ما ألف منها في القرنين الثاني والثالث واستخرجنا ما تفرق في صفحاتها من شعر جاهلي وحده، ثم جمعناه معًا، لجاء كثيرًا غزيرًا بحيث يملأ أسفارًا عدة، ومن هنا كانت هذه الكتب جديرة بأن نقف عندها وقفة قصيرة، نختم بها حديثنا عن مصادر الشعر الجاهلي. وإذ كنا نرى أن هذه الكتب ليست مصدرًا أوليًّا من مصادر الشعر الجاهلي -على ما سنبينه بعد قليل- فلم نر ما يدعونا إلى الإحاطة بها كلها والاستقصاء في بحثها، وإنما بحسبنا نماذج قليلة ندل بها على طريقة هذه الكتب في إيراد الشعر الجاهلي، ونخلص منها إلى ما نريد من نتائج تتصل بموضوعنا الأصيل. وقد اخترنا من كتب النحو كتاب سيبويه، ومن كتب اللغة كتابي يعقوب بن السكيت: "إصلاح المنطق" و"تهذيب الألفاظ". أما كتاب سيبويه فقد كان أول ما استوقفنا فيه ما ذكره أبو عمر الجرمي من قوله1: "نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتًا، فأما الألف فعرفت أسماء قائليها، وأما الخمسون فلم أعرف قائليها". ثم جاء عبد القادر البغدادي فأورد قول الجرمي هذا وذكر ما يوضحه قال2: "فإن سيبويه إذا   1 طبقات النحويين واللغويين: 77. 2 الخزانة 1: 333-334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 استشهد ببيت لم يذكر ناظمه، وأما الأبيات المنسوبة في كتابه إلى قائليها فالنسبة حادثة بعده، اعتنى بنسبتها أبو عمر الجرمي ... وإنما امتنع سيبويه من تسمية الشعراء لأنه كره أن يذكر الشاعر، وبعض الشعر يُروى لشاعرين وبعضه منحول لا يعرف قائله لأنه قدم العهد به. وفي كتابه شيء مما يُروى لشاعرين، فاعتمد على شيوخه ونسب الإنشاد إليهم فيقول: أنشدنا، يعني الخليل؛ ويقول: أنشدنا يونس، وكذلك يفعل فيما يحكيه عن أبي الخطاب وغيره ممن أخذ عنه. وربما قال: أنشدني أعرابي فصيح. وزعم بعض الذين ينظرون في الشعر أن في كتابه أبياتًا لا تعرف؛ فيقال له: لسنا ننكر أن تكون أنت لا تعرفها ولا أهل زمانك، وقد خرج كتاب سيبويه إلى الناس والعلماء كثير، والعناية بالعلم وتهذيبه أكيدة، ونظر فيه وفتش فما طعن أحد من المتقدمين عليه، ولا ادعي أنه أتى بشعر منكر، وقد روى في كتابه قطعة من اللغة غريبة لم يدرك أهل اللغة معرفة جميع ما فيها لا رووا حرفًا منها". وكلام البغدادي -على ما فيه من فائدة وغناء- غير ملزم للجرمي، ولا يفهم بالضرورة من كلامه الذي أوردناه. فكلام الجرمي لا يفيد أن سيبويه لم ينسب شيئًا من أبياته التي استشهد بها، وكل ما ذكره الجرمي أنه وجد في كتاب سيبويه ألفًا وخمسين بيتًا، عرف أسماء قائلي ألف منها فأثبتها، ولم يعرف أسماء قائلي الخمسين الباقية. وهذا القول يحتمل أن يكون سيبويه قد عزا بعض هذه الأبيات الألف إلى قائليها ثم جاء الجرمي ونسب ما لم ينسبه سيبويه. ويحتمل أيضًا أن سيبويه لم يعز شيئًا منها وإنما الفضل في نسبتها إلى الجرمي. ولا سبيل إلى ترجيح أحد هذين الاحتمالين من كلام الجرمي وحده. ولكن البغدادي قطع قطعًا يقينيًّا بأن سيبويه لم يعز شيئًا من أبياته وإنما كان الجرمي هو الذي عزاها. ثم مضى البغدادي فعلل لنا امتناع سيبويه من تسمية الشعراء. فإذا عدنا نحن إلى كتاب سيبويه وجدنا فيه نحو تسعمائة وخمسة وأربعين بيتًا، تكرر منها بعضها مرة أو مرتين في نحو مائة وخمسة مواضع، فيكون بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 مجموع الأبيات التي استشهد بها ألفًا وخمسين بيتًا مع المكرر منها. وقد تتبعنا الأبيات التي لم تُعز إلى قائل فوجدنا أنها نحو من مائتي بيت وسبعين بيتًا. فكان لابد لنا أن نتساءل هل معنى ذلك أن سيبويه قد نسب نحو ثمانين وسبعمائة بيت إلى قائليها، ثم جاء أبو عمر الجرمي فتتبع الأبيات التي لم ينسبها سيبوبه فاستطاع أن ينسب منها نحو عشرين ومائتي بيت، فيكون بذلك قد عرف نسبة ألف بيت وعجز عن معرفة قائلي الخمسين الباقية؟ ولقد كان من الجائز أن نجيب عن هذا التساؤل بالإثبات، وأن نقبل هذه النتيجة التي وصلنا إليها عن طريق العد والإحصاء لولا شكنا في أصالة النسخة الخطية التي طبع عنها كتاب سيبويه. فقد راينا في هذه الطبعة من الكتاب مواضع كثيرة تجعلنا نقطع بأن نسخته الخطية ليست النسخة الأصلية التي كتبها سيبويه، وإنما أضيف إليها وأقحم عليها من أقوال تلاميذه ومَنْ بعدهم ممن رووا هذا الكتاب ما لا يجوز بحال أن يكون من أقوال سيبويه نفسه، وخاصة في نسبة الشعر والتعقيب عليه. فمن ذلك ما جاء في صلب الكتاب1 "واعلم أنه ليس شيء من هذا يمتنع من أن يجمع بالتاء، وزعم الخليل أن قولهم ظريف وظروف لم يكسر على طريف كما أن المذاكير لم تكسر على ذكر. وقال أبو عمر أقول في ظروف هو جمع ظريف، كسر على غير بنائه وليس مثل مذاكير، والدليل على ذلك أنك إذا صغرت قلت ظُرَيِّفُون ولا تقول ذلك في مذاكير". وأبو عمر هذا هو أبو عمر الجرمي، وواضح أنه ممن لم يرو عنهم سيبويه فقد "أخذ أبو عمر النحو عن الأخفش وغيره، وقرأ كتاب سيبويه على الأخفش ولقي يونس بن حبيب ولم يلق سيبويه.."2 ومات سنة خمس وعشرين ومائتين3. فإذن كان جميع ما قاله أبو عمر في هذه العبارة مقحمًا على كتاب سيبويه.   1 الكتاب 2: 208. 2 أخبار النحويين البصريين: 72. 3 إنباه الرواة: 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 ومن ذلك أيضًا ما جاء في الكتاب من قوله1: "وقد جاء في الشعر، فزعموا أنه مصنوع"، ثم استشهد ببيتين من الشعر. ونحن نرجح أن قوله "فزعموا أنه مصنوع" مما أضيف على الكتاب وليس في أصله. ومما يجعلنا نرجح ذلك أن المبرد قال عن هذين البيتين2: "وقد روى سيبويه بيتين محمولين على الضرورة، وكلاهما مصنوع، وليس أحد من النحويين المفتشين يجيز مثل هذا في الضرورة". ولو رأى المبرد في أصل الكتاب قوله "فزعموا أنه مصنوع" لما قال ما قال، أو لكان على الأقل أشار إليه. وهذا أبو جعفر النحاس قد وفعت بين يديه نسخة من الكتاب أضيفت إليها هذه العبارة فظن أنها من الأصل ولذلك قال يرد على المبرد3: "وهذا لا يلزم سيبويه منه غلط؛ لأنه قد قال نصًّا: وزعموا أنه مصنوع. فهو عنده مصنوع لا يجوز، فكيف يلزمه منه غلط؟ ". ونحن نرى أن كلام أبي جعفر النحاس مردود لأنه لو كان البيت عند سيبويه مصنوعًا لا يجوز لما استشهد به. ومما نرجح ترجيحًا يقرب إلى اليقين أنه مضاف إلى الكتاب مقحم عليه قوله يستشهد4: وقال وهو مصنوع على طرفة وهو لبعض العباديين: أسعد بن مال ألم تعلموا ... وذو الرأي مهما يقل يصدق ونحن نرى أن الأصل: "وقال: البيت ... " أما عبارة "وهو مصنوع على طرفة وهو لبعض العباديين" فمما زيد على الكتاب بعدُ. ومن أوضح الأمثلة على الزيادة والإقحام أيضًا قوله5: "وقال الآخر "ويقال وضعه بعض النحويين". فإذا كانت الأمثلة التي أوردناها مما زيد على الكتاب، فإننا نرى أن كثيرًا   1 الكتاب 1: 96. 2 الكامل "ليبسك": 205-206. 3 الخزانة: 4: 201-202. 4 الكتاب 1: 336-337. 5 الكتاب 1: 434. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 من نسبة الشعر قد استحدثت بعد سيبويه وأضيفت إلى كتابه، وجاءت في هذه الطبعة كأنها من الأصل، وإن وضعت أحيانًا بين قوسين. فمن ذلك1 "وقال أيضًا.. وهو الشماخ" و"قول الشاعر وهو مقاس العائذي"2 و"قول الشاعر وهو كعب بن جعيل"3 و"قول الشاعر وهو أبو ذؤيب"4 و"قال الشاعر بشر بن أبي خازم"5. والأمثلة على ذلك كثيرة لا مجال لاستقصائها. غير أن من أوضح الدلائل التي قد تجعل الباحث يرجح ما ذهب إليه البغدادي في خزانته من أن سيبويه لم ينسب الشعر الذي استشهد به في كتابه ما جاء في الكتاب6: "وقال المرار الأسدي" ثم يورد بيتين ويقول: "حدثنا به أبو الخطاب عن شاعره". ونحن نرجح أن كلمتي "المرار الأسدي" مضافتان، وأنه اكتفى بقوله "وقال" ثم أرود البيتين، وأسند الرواية إلى أبي الخطاب عن الشاعر الذي لم يسمه، ولو كان من منهجه أن يعزو الشعر إلى قائله لقال "حدثنا به أبو الخطاب عن المرار الأسدي". ونحن نرى ألا سبيل إلى القطع الجازم في هذا الأمر إلا إذا عثرنا على النسخة الخطية الأصلية التي كتبها سيبويه أو رواها عنه أحد تلاميذه ولم يضف إليها شيئًا. ومع ذلك فإنه سيان عندنا -في هذا البحث- أن يكون سيبويه قد أهمل نسبة جميع الشعر الذي أروده أو أهمل نسبة بعضه، فإن ما نريد أن نستنتجه من كتابه هو أن الشعر لم يكن عنده إلا وسيلة للاستشهاد أو الاستئناس، ومن هنا لم يكن هذا الشعر غاية يقصد إليها فينص على نسبته إلى قائله وتحقيق هذه النسبة، وإنما كان يكفيه أن يكون هذا الشعر من القديم الذي يصح أن   1 الكتاب 1: 11. 2 المصدر السابق 1: 21. 3 المصدر السابق 1: 34-35. 4 المصدر السابق 1: 61. 5 المصدر السابق 1: 290. 6 المصدر السابق 1: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 يستشهد به على لغة العرب. ولا عليه بعدُ أن يكون قائله امرأ القيس أو طرقة أو عبيدًا أو رجلًا غير معروف من إحدى القبائل العربية. ومن أجل هذا نجد في الكتاب شعرًا غير منسوب إلى شاعر بعينه بل إلى رجل من القبيلة، ففيه: "وقال رجل من باهلة"1، و"قال بعض السلوليين"2، أو "قال رجل من بني سلول"3، و"قال الهذلي"4، و"قال القرشي"5، و"قول رجل من عمان"6، و"قال رجل من قيس غيلان"7، وغيرها كثير. أما كتابا ابن السكيت: إصلاح المنطق، وتهذيب الألفاظ، فإنهما لا يكادان يختلفان عن كتاب سيبويه فيما عرضنا من أمور. ففي الكتابين إضافات وإقحام وضع بعضها بين علامتين مميزتين، وأرسل بعضها إرسالًا يوهم أنها من أصل الكتاب. ومع ذلك ففي الكتابين شعر كثير غير معزو إلى قائله، وإنما اكتفى ابن السكيت بقوله "قال الشاعر"8، أو "قال الآخر"9، أو "قال الراجز"10، أو "قال"11. روبما أسند إلى من روى عنه مع إهمال النسبة إلى الشاعر مثل "أنشد أبو زيد"12، أو "أنشد الأصمعي"13،   1 1: 11-12، 39. 2 1: 434. 3 1: 358. 4 1: 124، 261/ 2: 307. 5 1: 290. 6 1: 82. 7 1: 86-87. 8 إصلاح المنطق 10، 22، 28، 33، 101، 320 وغيرها كثير؛ وتهذيب الألفاظ 1: 38، 40، 81، 86، 87، 117، 134 إلخ. 9 إصلاح: 29، 34، 41-42، 163. 10 إصلاح: 19، 23، 29، وتهذيب 1: 59، 64، 65، 69، 130 إلخ. 11 إصلاح: 25، 185 وتهذيب 1: 88. 12 إصلاح: 64، 124، 164، وتهذيب 2، 86. 13 إصلاح: 11، 28، 32، 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 أو "أنشد الكسائي"1، أو "أنشدني ابن الأعرابي"2، وربما أورد البيت منسوبًا مرة وأهمل نسبته مرة أخرى3. وكما ورد في كتاب سيبويه شعر معزو إلى رجل من إحدى القبائل العربية مع إغفال النص على الشاعر نفسه، كذلك ورد مثل ذلك في "إصلاح المنطق" و"تهذيب الألفاظ"؛ مثل "قال الهذلي"4، أو "قال الأسدي"5 أو "قال رجل من ربيعة"6، وغيرها كثير. والناظر في كتب النحو واللغة في القرنين الثاني والثالث يجد أنها كلها تسير على هذا النهج، وقد قدمنا أننا سنستغني عن الإحاطة بها واستقصائها -بالبحث في هذه الكتب الثلاثة وحدها إذ أنها تدل على غيرها. وخلاصة بحثنا هذا أن الشعر عامة ومنه الشعر الجاهلي لا يعدو أن يكون في كتب النحو واللغة وسيلة للاستشهاد والاحتجاج، ومن هنا أهملت نسبة الكثير منه إلى قائله، أو نُصَّ على نسبة البيت إلى رجل غير مسمى من إحدى القبائل العربية، ولذلك فنحن نرى أن كتب النحو واللغة وسيلة مصدرا أوليًّا من مصادر الشعر الجاهلي التي تثبت بها نسبة البيت أو الأبيات إلى شاعر بعينه.   1 إصلاح: 113. 2 إصلاح: 34، 50. 3 إصلاح: 34، 35. 4 إصلاح: 8، 45، 54، 58، 70، 74-75، 92، 93، 148، 152، 320، 449؛ وتهذيب 1: 78، 86، 222، 240. 5 إصلاح: 80 وتهذيب 86، 241. 6 إصلاح: 39، 401-402. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 وأمر الشعر الجاهلي في كتب السيرة والتاريخ لا يكاد يختلف -في جوهره- عما قدمنا من حديث عن كتب النحو واللغة. ولو أننا قصرنا حديثنا على كتاب واحد هو ما حفظه لنا ابن هشام من السيرة التي صنعها محمد بن إسحاق لوجدنا فيه شعرًا كثيرًا جديرًا بالبحث والدرس، وأول ما يبدو لنا من شأنه أن محمد بن إسحاق لم يكن أول من أدخل الشعر فيما يروي من أخبار، بل لقد سبقه إلى ذلك كل من كتب في السيرة قبله، مثل: عروة بن الزبير، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، وابن شهاب الزهري، وغيرهم؛ فإن الأخبار التي تروى عنهم تدل على أنهم كانوا من رواة الشعر وحفاظه ومتذوقيه، وما بقي لنا من آثار السيرة التي كتبوها -متفرقة في مواطن عدة من كتب التاريخ والسيرة- يدل على أنهم كانوا يوردون في كتبهم الأشعار التي قالها الرجال الذين يدر ذكرهم في حوادث السيرة1. وقد مر بنا في فصل مضى أن السيرة والتاريخ والقصص عامة كانت مجالًا واسعًا للاستشهاد بالشعر، بل لقد كان الشعر ضرورة لازمة لها يزينها ويكسبها ثقة وقوة في نفوس المستمعين والقارئين، كأنما كان الشعر دليلًا على صدق ما يروى من خبر، حتى لقد رووا أن معاوية بن أبي سفيان طلب من عبيد بن شرية -حينما كان يقص عليه أخباره المتضمنة في كتاب "أخبار عبيد بن شرية"- أن يورد في أخباره وقصصه كل ما يتصل من شعر وقال له2: "وسألتك ألا تمر بشعر تحفظه فيما قاله أحد إلا ذكرته". ومع أن عبيدًا كان لا يقصر في الاستشهاد بالشعر، فقد عاد معاوية يلحف عليه بقول3: "سألتك إلا شددت   1 انظر هوروفتس المغازي الأولى ومؤلفوها: 24، 44، 68. 2 أخبار عبيد بن شرية: 314. 3 المصدر السابق: 318. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 حديثك ببعض ما قالوا من الشعر ولو ثلاثة أبيات! "، وحينما ذكر عبيد أن يعرب كان يقول الشعر قال له معاوية1: "اذكر الشعر الذي قال يعرب"، وكان معاوية كلما سمع الشعر الذي قيل في إحدى الحوادث اطمأن إلى صحة الخبر وقال لعبيد2: "لقد جئت بالبرهان في حديثك يا عبيد"، أو "لله درك فقد جئت بالبرهان"3. ونحن لا يعنينا من كل ذلك تحقيق هذه الأخبار والأقوال، وإنما نريد أن نقول إن الاستشهاد بالشعر في التاريخ عامة والقصص التاريخية خاصة كان من مألوف عادة القوم منذ أقدم ما نعرف من آثارهم. وقد استتبع ذلك أن بعض القصاصين كانوا يجتلبون الشعر اجتلابًا ليضعوه في المكان المناسب له من قصصه، ويطلبون المصنوع ليكثروا به الأحاديث ويستعينوا به على السهر عند الملوك، والملوك لا تستقصي4، أو عند عامة الناس وهم أقل استقصاء وتدقيقًا. ولم يكن جميع كتَّاب السيرة والتاريخ ممن يجتلبون المصنوع اجتلابًا ويطلبون من يصنعه لهم ويضعه، ولكنهم -مع ذلك- اتفقوا جميعًا في إيراد شعر موضوع كثير، بعضهم يعمد إليه عمدًا لما قدمنا من أسباب، وبعضهم يجد هذا الشعر أمامه مرويًّا أو مدونًا، فيضطر إلى الوفاء بواجبه وهو الجمع والتأليف، من غير تحقيق لصحة الشعر ونسبته، ويعتذر في ذلك -حينما يلام عليه- بأنه لا علم له بالشعر وإنما جمع منه ما وجده أمامه أو ما رُوي له. من هذا الضرب الثاني محمد بن إسحاق صاحب السيرة. فقد كان مشهودًا له بالعلم بالمغازي والسيرة حتى قال عنه ابن سلام5: "كان من علماء الناس بالسير"، وقال الزهري6 "لا يزال في الناس علم ما بقي مولى آل مخرمة، وكان   1 أخبار عبيدة: 316. 2 المصدر السابق: 330. 3 المصدر السابق: 349. 4 طبقات الشعراء: 50. 5 المصدر السابق: 9. 6 المصدر السابق: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 أكثر علمه بالمغازي والسير وغير ذلك". ومع ذلك فإنه لم يكن له علم بالشعر، وكان يعتذر عن الأشعار التي أوردها في سيرته بقوله1: "لا علم لي بالشعر، أوتَى به فأحمله"، ولم يقبل منه ابن سلام هذا العذر، وذلك لأنه: "كتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلًا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة ... أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف السنين؟.. فكأن ابن سلام كان يفترض أن هذا القدر من التمييز والعلم بالشعر مما لا يجوز لأحد من العلماء أن يجهله. ومن أجل ذلك نرى في أحكام ابن سلام على ابن إسحاق شيئًا من القسوة والتعميم فهو يقول2: "وكان ممن أفسد الشعر وهجنه وحمل كل غثاء منه: محمد بن إسحاق". وقال3: "فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحق، ومثل ما رواه الصحفيون، ما كانت إليه حاجة ولا فيه دليل على علم". وقال أيضًا في معرض حديثه عن أبي سفيان بن الحارث4: "ولسنا نعد ما يروي ابن إسحاق له ولا لغيره شعرًا، ولأن لا يكون لهم شعر، أحسن من أن يكون ذاك لهم". ومع ذلك كله فإن الأمر في حاجة إلى التقييد بعد هذا الإطلاق الذي ذهب إليه ابن سلام في أمر الشعر الذي أورده ابن إسحاق. فإذا ما عرضنا الشعر الذي أورده ابن إسحاق في سيرته -وبقي لنا بعد تهذيب ابن هشام- وجدنا أن الشعر عنده على ثلاثة ضروب: الأول: الشعر الذي لا خلاف في أنه موضوع مصنوع، وهو الذي نُسب إلى آدم وإسماعيل والأمم القديمة والعرب البائدة. وليس في السيرة التي بين أيدينا إلا القليل منه، وإن كان قسم كبير منه قد حفظ في كتب التاريخ مرويًّا عن   1 طبقات فحول الشعراء: 9. 2 المصدر السابق: 8. 3 المصدر السابق: 11. 4 المصدر السابق: 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 ابن إسحاق، وذلك لأن ابن هشام قد حذف هذا القسم في تهذيبه للسيرة ونص على ذلك في مقدمته1. ومع ذلك فإن الأمثلة التي بقيت في السيرة من هذا القسم تدل على أن ابن إسحاق نفسه لم يكن يثق في صحة هذه الأشعار بل في صحة الأخبار نفسها، ولكنه وجدها أمامه مدونة أو مروية، فأثبتها كما قرأها أو سمعها. وكان يذكر من العبارات ما يبرئ به نفسه من تبعتها، فهو مثلًا حين يذكر خبر انتشار النصرانية في نجران ينص على أن "هذا حديث محمد بن كعب القرظي، وبعض أهل نجران"2 عن ذلك، فليس عليه إذن من تبعته شيء وإنما هو يرويه كما سمعه، وكأنه يؤكد براءته من هذه التبعة بقوله بعد ذلك "والله أعلم أي ذلك كان". وهو يذكر خبر سامة بن لؤي ثم يورد له شعرًا قاله حين أحس بالموت، ولكنه لا يتحمل تبعته، ومن هنا ذكر أن سامة قال ذلك الشعر "فيما يزعمون"3. ويورد رجزًا لثعلبة بن سعد بن ذبيان فيقيده أيضًا بهذا القيد نفسه قال4: "وثعلبة -فيما يزعمون- الذي يقول لعوف حين أبطئ به فتركه قومه". ويروي رجزًا للغوث بن مر، ويحتاط لنفسه فيقول5: "فيما زعموا". ويورد خبر عثور بعض الناس على حجر في الكعبة قبل الإسلام بأربعين سنة مكتوب عليه بعض الحكم، فيدخل بين الكلام قيده الذي يقيد به مثل هذا الروايات فيقول6: "وزعم ليث بن أبي سليم ... إن كان ما ذكر حقًّا..". فكأن ابن إسحاق يرى -بمثل هذا الاحتياط الذي كان يصطنعه- أن هذه الأخبار والأشعار أصبحت من التراث المروي، وأن لا سبيل إلى البحث العلمي في صحتها وصدق نسبتها، بل لو كان إلى ذلك سبيل، فليس هو ذلك الرجل الذي يضطلع بهذا   1 السيرة 1: 4. 2 المصدر السابق 1: 36. 3 المصدر السابق 1: 101. 4 المصدر السابق 1: 102. 5 المصدر السابق 1: 125. 6 المصدر السابق 1: 208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 العبء، فهو ليس عالمًا بالشعر؛ على حفظه له وروايته إياه -وليس من عمله أن يحققه ويمحصه؛ وإنما عمله في أن يورد الأخبار إيرادًا، ويسرد الروايات سردًا، ويزين كل خبر بما يستطيع أن يعثر عليه من شاهد شعري. وكل ما يستطيع أن يأخذ به نفسه في مثل هذا الموضوع هو أن ينثر في حديثه مثل هذه العبارات التي قدمناها كقوله "فيما يزعمون"، أو "إن صح ما قالون"، ليبرئ نفسه من تبعة ما يروى. الثاني: أما القسم الثاني من الشعر الذي تضمنته السيرة فهو الذي قيل قُبيل البعثة أو في السنوات الأولى منها، فهو بذلك أقرب إلى الصحة، بل إن بعضه صحيح لا شك فيه وإن اختلف بعض الرواة في نسبته. وهنا يتجلى لنا أيضًا حذر ابن إسحاق وحيطته، وتبرؤه من التبعة، فكأنه يريد أن يؤكد المعنى الذي لمحناه في القسم الأول وهو أنه ليس من علماء الشعر المحققين له، وإنما يروي منه ما وجده أمامه وينقل ما نقله إليه غيره. ولذلك نراه يتبع إحدى طريقتين في هذا القسم من الشعر؛ الأولى: أنه يستعمل القيود نفسها التي استعملها في القسم الأول، فهو ينقل الخبر أو الشعر ويبدؤه أو يعقب عليه بقوله "فيما يزعمون"1، أو "كما يذكرون"2، أو "فزعم بعض أهل الرواية"3، أو "فهذا الذي بلغني من هذا الحديث"4، أو "فهذا حديث الرواة من أهل المدينة"5 أو ما شاكل هذه العبارات. وأما الطريقة الثانية التي اتبعها في هذا القسم من الشعر فهي نسبة الشعر إلى شاعر بعينه والتقيب على ذلك بأنها قد تروى لغيره. فمن ذلك أنه يورد شعرًا نسبه إلى أبي بكر الصديق ثم يقول6 "ويقال: بل عبد الله   1 السيرة 1: 143، 147/ 2: 246. 2 المصدر السابق 2: 242/ 3: 5. 3 المصدر السابق 1: 209. 4 المصدر السابق 1/ 153. 5 المصدر السابق 1/ 371. 6 المصدر السابق 2/ 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 بن جحش قالها". ويورد شعرًا آخر ويقول1: "فقال عبد الله بن رواحة أبو أبو خيثمة". ويقول2: "وكان مما قيل في بني النضير من الشعر قول ابن لقيم العبسي، ويقال: قاله قيس بن بحر بن طريف". ويقول3: "وقال قائل من بني جذيمة، وبعضهم يقول امرأة يقال لها سلمى" ثم يقول:"فأجابه عباس بن مرداس، ويقال بل الجحاف بن حكيم السلمي". الثالث: وأما القسم الثالث من الشعر الذي أورده ابن إسحاق في السيرة فهو هذه الأبيات المجاهيل والقصائد التي لا يعرف اسم قائلها أو لا ينص عليه؛ ومع أن القسمين الأولين واضحا الدلالة على ما نذهب إليه في أمر الشعر الجاهلي الذي يرد في مثل هذه الكتب، فإن هذا القسم أوضح منهما دلالة لأنه يصلنا بكثير من الشعر الذي ورد في بحثنا عن كتب اللغة والنحو والذي سيرد في بحثنا عن كتب الأدب عامة. ووجه الدلالة في هذا القسم أن قائل الشعر أو تحقيق نسبته ليس من الأمور التي يشغل بها المؤرخ أو كاتب السيرة نفسه، كما لم يشغل بها نفسه اللغوي أو النحوي. فبحسب المؤرخ أو كاتب السيرة أن يجد شعرًا قيل في حادثة من الحوادث أو في رجل من الرجال الذين يذكرهم حتى يسارع إلى إيراده في كتابه، وليس يعنيه بعد ذلك شيء، فقد كفاه أن يجد ما يزين قصته أو يؤيد الخبر الذي ذكره. ومن أجل هذا نرى ابن إسحاق في سيرته يورد شعرًا "لشاعر من العرب"4، أو "رجل من العرب"5، أو "شاعر من قريش أو من بعض العرب"6، أو "قال قائل من العرب"7، أو   1 السيرة 2: 310. 2 المصدر السابق 3: 204-205. 3 المصدر السابق 4: 74-75. 4 المصدر السابق 1: 86، 206. 5 المصدر السابق 1: 88. 6 المصدر السابق 1: 143/ 144. 7 المصدر السابق 1: 215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 "فقالت امرأة من العرب"1، أو "قال رجل من بني جذيمة"2، أو "قال الآخر"3. وأكثر هذا الشعر الذي لا ينص ابن إسحاق على قائله هو ما قيل في رجل من الرجال الذين يرد ذكرهم في السيرة. فيذكر مثلًا جرير بن عبد الله البجلي، فيريد أن يزيده تعريفًا بقوله4: "وهو الذي يقول له القائل"، ويذكر هاشم بن حرملة فيقول5: وهو "الذي يقول له القائل"، ويعرف سعد بن سيل بقوله6: "ولسعد بن سيل يقول الشاعر"، ويذكر أبا سيارة عُميلة بن الأعزل بقوله7: "ففيه يقول شاعر من العرب"، ويذكر المطلب ووفاته فيقول8: "فقال رجل من العرب يبكيه"؛ ومثل ذلك كثير. فنحن نرى إذن أن الشعر في كتب التاريخ والسيرة ليس هدفًا يقصد لذاته، ولم يكن موضعًا للتحقيق والتمحيص، وإنما كان حلية أحيانًا، ودليلًا على القصة أو الخبر أحيانًا أخرى، وكان في جميع هذه الأحايين يُقصد منه التأثير في نفوس السامعين أو القارئين حتى يندمجوا في جو الحوادث نفسها وتصغو إليها أفئدتهم فيصدقوها، أو على الأقل لا يناقشوا أمر صحتها. ومن أجل هذا رأينا أصحاب التاريخ أو السيرة يروون شعرًا لا يكاد يشك أحد في انه مختلق موضوع، بل إنهم هم أنفسهم -كما رأينا في سيرة ابن إسحاق- يشكون في هذا الشعر، ويوردونه بعد عبارات تكشف عن بعض هذا الشك، ولكنهم مع ذلك لا يملكون إلا أن يوردوه لأنه -كما ذكرنا- أصبح تراثًا شعبيًّا، وأصبح لا مفر للمؤرخ من أن يجمعه ويورده مع كل حادثة قيل فيها. ومن أجل هذا وجدنا أيضًا أن   1 السيرة 1: 215. 2 المصدر السابق 4: 77. 3 المصدر السابق 4: 78. 4 المصدر السابق 1: 76. 5 المصدر السابق 1: 105. 6 المصدر السابق 1: 110. 7 المصدر السابق 1: 128. 8 المصدر السابق 1: 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 بعض الشعر الذي ورد في كتب التاريخ والسيرة أرسل إرسالًا، ولم ينسب إلى شاعر، أو لم ينص على نسبته لشاعر، وذلك لأن ما يعني المؤرخ أو كاتب السيرة هو هذا الشعر نفسه وأنه قيل في حادثة بعينها أو في رجل بذاته، أما تحقيق نسبة الشعر فليس مما يصرفون إليه جهدهم. وما أحسبني بعد ذلك مغاليًا إذا ضممت كتب التاريخ أو السيرة إلى كتب اللغة والنحو ولم أعدها كلها مصدرًا من مصادر الشعر الجاهلي يطمأن فيه إلى صحة ذلك الشعر الوراد فيه أو إلى نسبته إلى شاعر بعينه. 3 وكتب الأدب العامة لا تختلف، في طريقة إيراد الشعر، عن كتب النحو واللغة والسيرة والتاريخ، ولو اقتصرنا في حديثنا على كتابين من كتب الجاحظ هما: البيان والتبيين، والحيوان، لوجدنا فيها مصداق ما نذهب إليه. فالجاحظ -شأنه كشأن جميع من ألف في الأدب العام- لا يورد الشعر على أنه غاية تقصد لذاتها، فلا يكلف نفسه مشقة تمحيصه وتحقيقه والتثبت من نسبته وروايته، وإنما يورد الشعر ليكون مثلًا أو شاهدًا يتوسل بهما لتوضيح ما يسوق من أخبار، أو لدعم ما يذهب إليه من مناظرات ومناقشات. ومن أجل ذلك نراه -حين يذكر عادات العرب في الخطابة ويرد على الشعوبية في ذلك- يقول1: "وفي كل ذلك قد روينا الشاهد الصادق والمثل السائر". وحين يتحدث عن أنواع الشعراء وطبقاتهم، يورد على كل نوع وطبقة بيتًا أو أبياتًا من الشعر فيها ذكر لهذه الأنواع والطبقات أو لبعضها متخذًا من هذا الشعر دليلًا على صدق قوله2 والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، بل إننا   1 البيان والتبيين 2: 4. 2 المصدر السابق 2: 9-12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 لنكاد نذهب إلى أن جميع ما أورده الجاحظ في كتابيه هذين إنما ينهج فيه هذا النهج. وإذا كان الجاحظ ومؤلفو كتب الأدب العامة يشتركون مع مؤلفي كتب النحو واللغة والسيرة والتاريخ في هذه الخاصة وهي: إيراد الشعر على أنه دليل أو شاهد، فإن الجاحظ ومع مؤلفو كتب الأدب العامة ينفردون عن مؤلفي الكتب التي ذكرناها بخاصة أخرى، وهي: أنهم لا يرمون من وراء كتبهم التي يؤلفونها في الأدب العام إلى الفائدة العلمية وحدها، ولا يقتصرون فيها على التعليم والتثقيف وحدهما، أو قل إنهم لا ينهجون فيما ينقلون من العلم نهج الأسلوب العلمي الجاف الذي يرمي إلى القارئ بالقول من أقرب السبل، وإنما ينهجون في ذلك نهج الأسلوب الأدبي، ويلجئون إلى الاستطراد والتنويع والتنقل من باب إلى باب، ومن موضوع إلى موضوع، ثم يعودون إلى ما بدءوا به، ولا يكادون يمضون فيه قليلًا حتى يتجاوزوه إلى حديث آخر. فهم بذلك يجمعون بين التعليم والتسلية، وبين التثقيف والإمتاع. ومن كان هذا شأنه لا يعنيه أن يقف عند موضوع بعينه وقفة طويلة يستغرق فيها جميع أطرافه، وليس من شأنه أن يأخذ نفسه ويأخذ القارئ بالتحقيق والتمحيص. ومن أجل هذا نرى الجاحظ حريصًا على أن يوضح طريقته هذه توضيحًا لا لبس فيه فيقول1: "وقد ذكرنا من مقطعات الكلام وقصار الأحاديث بقدر ما أسقطنا به مئونة الخطب الطوال. وسنذكر من الخطب المسندة إلى أربابها مقدارًا لا يستفرغ مجهود من قرأها، ثم نعود بعد ذلك إلى ما قصر منها وخف". ويقول أيضا2: "هذا -أبقاك الله- الجزء الثالث من القول في البيان والتبيين، وما شابه ذلك من غرر الأحاديث، وشاكله من عيون الخطب، ومن الفقر المستحسنة والنتف المستخرجة، والمقطعات المتخيرة، وبعض   1 البيان والتبيين 2: 117. 2 المصدر السابق 3: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 ما يجوز في ذلك من أشعار المذاكرة، والجوابات المنتخبة". ويقول1: "كانت العادة في كتب الحيوان أن أجعل في كل مصحف من مصاحفها عشر ورقات من مقطعات الأعراب ونوادر الأشعار، لما ذكرت عجبك بذلك ... " ويعلل الجاحظ اتباعه هذه الطريقة بقوله2: "وجه التدبير في الكتاب إذا طال أن يداوي مؤلفه نشاط القارئ له، ويسوقه إلى حظه بالاحتيال له، فمن ذلك أن يخرجه من شيء إلى شيء ومن باب إلى باب ... ونقصد من ذلك إلى التخفيف والتقليل، فإنه يأتي من وراء الحاجة، ويعرف بجملته مراد البقية". ويقول بعد أن يورد بعض الأخبار والنوادر3: "فجعلنا بعضها في باب الاتعاظ والاعتبار وبعضها في باب الهزل والفكاهة. ولكل جنس من هذا موضع يصلح له. ولا بد لمن استكده الجد من الاستراحة إلى بعض الهزل". ومن كانت هذه غايته، كان خليقًا أن يجمع بين دفتي كتابه ما يحقق له هذه الغاية، يستوي عنده في ذلك الخبر الصحيح والزائف، والشعر الثابت والمشكوك فيه والموضوع، وربما أورد من الأخبار والأشعار ما يعرف يقينًا زيفها ووضعها، ولكنه يسوقها لأنه يستحسنها أو لأن فيها نادرة تناسب ما قبلها. فمن ذلك أن الجاحظ يورد خبرًا فيه شعر ثم يقول4: "وأخلق بهذا الحديث أن يكون مولدًا، ولقد أحسن من ولده". ومن أجل هذا كله نرى الجاحظ لا يكلف نفسه مشقة التثبت والتمحيص، والرجوع إلى ما بين يديه من كتب ومصادر، وإنما يرتجل القول ارتجالًا، ويسوقه في كثير من التجاوز والتسامح، ويدفعه إلينا كما ورد في خاطره ساعة كتابته أو إملائه، فهو يورد بيتًا من الشعر ثم يقول5: "وهي أبيات لم أحفظ منها إلا هذا البيت". ويقول أيضًا في باب الخطب6: "وخطبة أخرى ذهب عني   1 البيان والتبيين 3: 302. 2 المصدر السابق 3: 366-367. 3 المصدر السابق 3: 222. 4 المصدر السابق 4: 36. 5 الحيوان 2: 13. 6 البيان والتبيين 2: 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 إسنادها". ويقول1: "وإذا صرنا إلى ذكر الخطباء والنسابين ذكرنا من كلام كل واحد منهم بقدر ما يحضرنا". ويقول بلسان صاحب الكلب وهو يرد على صاحب الديك2: "لعلنا إن تتبعنا ذلك وجدناه كثيرًا، ولكنك تقدمت في أمر ولم تشعر بالذي تعني فنلتقط من الجميع أكثر مما التقطت ... وما حضرنا من الأشعار إلا قوله ... ". ولم يكن ارتجال الجاحظ للكلام، ولا إلقاؤه إياه كما حضره في ذاكرته، عن قلة الكتب التي بين يديه، وإنما كان ذلك لأن طريقة التأليف في مثل كتب الأدب العامة لا تستدعي التثبت والتحقيق والرجوع إلى المصادر كما بينا في مواطن كثيرة في هذا الفصل. وإلا فقد عُرف الجاحظ بكثرة ما لديه من كتب وبكثرة ما قرأه واطلع عليه منها، حتى لقد قال أبو هفان3: "ثلاثة لم أر قط ولا سمعت أحب إليهم من الكتب والعلوم: الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضي. فأما الجاحظ فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويثبت فيه للنظر ... " بل إن في كتابيه هذين ذكرًا لبعض الكتب التي استمد منها بعض ما فيها من أخبار وخطب وأشعار4. ومع كل ذلك فقد نثر الجاحظ في كتابيه إشارات متفرقة عبر بها عن شكه فيما أورد من شعر، وهو شك قد يوهم بالتحقيق والتمحيص، ولكن السياق الذي ورد فيه هذا الشك سياق له دلالة خاصة، فالجاحظ مثلًا يورد بيتًا من الشعر ثم يقول5: "فخبرني أبو إسحاق أن هذا البيت في أبيات أخر كان أسامة صاحب روح بن أبي همام هو الذي كان ولدها. فإن اتهمت خبر أبي إسحاق فسم الشاعر،   1 البيان والتبيين 1: 97. 2 الحيوان1: 276-277. 3 ابن النديم، الفهرست: 169. 4 انظر مثلًا: البيان والتبيين 1: 92، 135/ 136، 335، 373، 378؛ 3/ 57-58. 5 الحيوان 6: 278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 وهات القصيدة، فإنه لا يقبل في مثل هذا إلا بيت صحيح، صحيح الجوهر، من قصيدة صحيحة لشاعر معروف". ويورد بيتًا لأوس بن حجر ثم يقول: "وهذا الشعر ليس يرويه لأوس إلا من لا يفصل بين شعر أوس بن حجر وشريح بن أوس". ويورد بيتًا لبشر بن أبي خازم ويقول1: "وقد طعنت الرواة في هذا الشعر الذي أضفتموه إلى بشر بن أبي خازم ... وقالوا: في شعر بشر مصنوع كثير مما قد احتملته كثير من الرواة على أنه من صحيح شعره" ويورد شعرًا للأفوه الأودي ثم يقول2: "وما وجدنا أحدًا يشك في أن القصيدة مصنوعة". وهذه الإشارات الكثيرة إلى وضع الشعر وردت كلها في موطن واحد، وهو حديثه عن علامات النبوة وانقضاض الكواكب، وفي معرض رد الجاحظ على من يزعم أن انقضاض الكواكب أمر معروف في الجاهلية وقد ذكره الشعراء الجاهليون في شعرهم، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أنه: ليس في انقضاض الكواكب دلالة على النبوة. فكان من بين ما رد به الجاحظ على هؤلاء أن شك في هذا الشعر ودفعه وذهب إلى أنه مصنوع. فالجاحظ إذن لم يشك في هذا الشعر لأن تحقيق الشعر وتمحيصه غايته ومقصده، وإنما اتخذ ذلك سبيلًا، من سبل كثيرة اصطنعها، للرد على مناظريه أو المخالفين له في الرأي. ومن أجل هذا نراه لا ينقد الشعر الذي يورده ابتداء، إلا في مواطن قليلة جدًّا حيث يورد عبارة واحدة متكررة هي قوله: "إن كان قالها". فهو يقول3: "وقال أمية -إن كان قالها-" ثم يورد شعرًا، ويقول4: "وقال تأبط شرًّا -إن كان قالها-". ثم يورد أبياتًا؛ ويقول5: "وقال العبدي -إن كان قاله-" وربما كانت هذه العبارة تفيد شكه في نسبة الشعر الذي يورده للشاعر الذي ذكره، ولكنها أيضًا   1 الحيوان 6: 279. 2 المصدر السابق 6: 280. 3 المصدر السابق 3: 49. 4 المصدر السابق 3: 68. 5 المصدر السابق 4: 248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 قد تفيد، فيما نرى، شكه في ذاكرته وحفظه، فقد ذكرنا قبل قليل أن الجاحظ لا يكاد يرجع إلى ما بين يديه من كتب ومصادر، وإنما يكتب أو يُملي ما يرد في خاطره وما يحضر في ذاكرته، فلعله أيضًا في هذه المواطن يقصد بهذه العبارة المتكررة أنه إنما يكتب من ذاكرته، ولذلك فهو يشك في حفظه لنسبة الشعر الذي يورده، فإن كان ذلك كذلك، يكن هذا دليلًا جديدًا على ما نذهب إليه من أن الجاحظ إنما يورد الشعر وسيلة لا غاية، وأنه لا يتكلف مشقة تحقيقه وتمحيصه والتثبت من نسبته وصحته. ومن الأدلة على هذا الذي نذهب إليه ما ورد في الكتابين: الحيوان، والبيان والتبيين، من أخطاء في نسبة الشعر. وهي أخطاء لا يصح أن تقع إلا من السرعة أو الاعتماد على الحافظة لأنها في أغلبها نتيجة لتشابه في الأسماء، فمن ذلك أن الجاحظ ينسب في الحيوان شعرًا لخفاف بن ندبة1، وينسبه في البيان والتبيين للبرجمي2، والصواب أن هذا الشعر لخفاف بن عبد قيس البرجمي3. ومن ذلك أيضًا أنه ينسب بيتين في البيان والتبيين لحميد بن ثور الهلالي، والصواب أنهما لحميد الأرقط4، ونسب في الحيوان لخفاف بن ندبة البيت التالي5: أبا خراشة إما كنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع وأبو خراشة هي كنية خفاف بن ندبة، فليس هو إذن صاحب هذا البيت وإنما هو المخاطب به، وقائله العباس بن مرداس السلمي. ودليل آخر على ما نذهب إليه هو هذا الاختلاف في نسبة الشعر بين الحيوان والبيان والتبيين فمن أمثلة ذلك أن شعرًا نسب في الحيوان إلى أبي ذؤيب الهذلي6، ولكنه نسب في البيان والتبيين إلى المتنخل الهذلي7، ونسب   1 الحيوان 1: 133. 2 البيان والتبيين 2: 11. 3 المصدر السابق، هامش: 6. 4 المصدر السابق 1: 6. 5 الحيوان 5: 24، وهامش: 3. 6 الحيوان 5: 285. 7 البيان والتبيين: 1: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 الجاحظ بيتين في البيان والتبيين للفزاري1، وكان نسبهما في الحيوان لحريز بن نشبة العدوي2، ونسب أبياتًا في البيان لسالم بن وابصة3، بينما نسبها في الحيوان للعرجي4. إلى آخر ما في الكتابين من خلاف في نسبة الشعر. وآخر هذه الأدلة ما ذكرناه آنفًا عند حديثنا عن كتب النحو واللغة والسيرة والتاريخ، وهو: إغفال اسم الشاعر، والاقتصار على قوله "قال الشاعر"5، أو "قال آخر"6، أو "قال أعرابي"7، أو ما شابه ذلك من العبارات التي تدل على أن المؤلف غير حريص على تحقيق نسبة الشعر ولا يعنيه من أمره إلا أنه وجد بيتًا أو أبياتًا تناسب ما أورد من حديث. وكثيرًا ما يغفل اسم الشاعر ويكتفي بذكر القبيلة وحدها مثل قوله "قال بعض القرشيين"8، أو "قال الأسدي"9، أو "قالت امرأة من بني أسد"10، أو "قال الفزاري"11، أو "قال بعض القيسيين"12، أو "قال العبدي"13، وكثيرًا ما يقول في مواطن متفرقة "قال الهذلي" ثم يورد أبياتًا من الشعر لشعراء مختلفين من هذه   1 البيان والتبيين 2: 160. 2 الحيوان 4: 151. 3 البيان والتبيين 1: 223. 4 الحيوان 3: 137. 5 الأمثلة على ذلك كثيرة انظر مثلًا البيان والتبيين 1: 94، 109، 274/ 2: 329 والحيوان 3: 310، 317، 444. 6 انظر مثلًا البيان والتبيين 1: 78، 190، 212، 231، 233/ 2: 284. والحيوان 3: 317، 388، 417، 423. 7 انظر مثلًا البيان والتبيين 1: 212، 213. 8 البيان والتبيين 1: 18. 9 البيان والتبيين 1: 159/ 2: 160، 280. 10 المصدر السابق 1: 180. 11 المصدر السابق 2: 160. 12 الحيوان 1: 134. 13 الحيوان 4: 248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 القبيلة، فحينًا يكون البيت لأبي العيال الهذلي 1، وحينًا ثانيًا لحبيب بن عبد الله الهذلي2، وحينًا ثالثًا لأبي ذؤيب الهذلي3، وحينًا رابعًا لأبي خراش الهذلي4، وهكذا.. وخلاصة كل ما تقدم في هذا الفصل أن الشعر في هذه الضروب المختلفة من الكتب ليس غاية تقصد، وإنما هو وسيلة تلتمس لغيرها من الغايات، فهو يساق حينًا للاستدلال والاحتجاج كما في كتب النحو واللغة، وهو يساق حينًا آخر للاستشهاد والتمثل وتقوية الخبر وتزيينه كما في كتب السيرة والتاريخ والأدب العام. وبذلك لا يُعنى مؤلفو هذه الكتب بتحقيق نسبة الشعر غلى شاعر بذاته، وإنما حسبهم أن يكون هذا الشعر قديمًا قيل في عصر يصح الاستشهاد والاحتجاج به، أو قالته قبيلة من القبائل بحيث يكون شاهدًا على لهجتها كما هو الشأن في كتب النحو واللغة؛ أما كتب السيرة والتاريخ والأدب العام فبحسب مؤلفيها أن يجدوا لديهم شعرًا قيل في الحادثة التي يروونها، أو أبياتًا تناسب الحديث الذي يسوقونه، وليس يعنيهم بعد ذلك تحقيق نسبة الشعر إلى شاعر بعينه، بل لا يعنيهم التثبت من صحة الشعر نفسه، وربما أوردوا شعرًا يدركون هم أنفسهم أنه زائف موضوع، ولكن ذلك لا يمنعهم من إيراده لما فيه من نادرة أو حديث مستطرف. ومن أجل هذا كله لا نحسبنا مغالين إذا قلنا إن هذه الكتب كلها، بأنواعها المختلفة، ليست بطبيعتها مصدرًا أصيلًا من مصادر الشعر التي يُعتمد عليها، وإنما المصدر الأصيل الذي يصح للباحث المحقق أن يطمئن إليه ويعتمد عليه،   1 البيان والتبيين 1: 3. 2 المصدر السابق 1: 275. 3 المصدر السابق 1: 277. 4 المصدر السابق 1: 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 هو هذه الدواوين الشعرية التي اقتصر على الشعر نفسه واتخذته غاية لذاته، وأفرغ جامعوها وصانعوها وشراحها جهدهم في التثبت من صحة كل قصيدة بل كل بيت، والتحقق من نسبة كل ذلك إلى شاعره، ودفع ما لا تثبت لهم صحته أو نسبته، والنص على ما يشكون فيه منه. هذا الجهد الخصب المثمر الذي بذله العلماء الرواة منذ مطلع القرن الثاني الهجري، وبلغ غاية نشاطه في النصف الأخير من القرن الثاني ومطلع القرن الثالث -هذا الجهد الخصيب المثمر من التنقيب والتدقيق والتحقيق والتمحيص للتثبت من صحة الشعر وأصالته ونسبته- هو الذي أخرج لنا هذه الدواوين التي تناقلها التلاميذ من الرواة العلماء عن شيوخهم بالرواية جيلًا بعد جيل حتى وصلت إلينا مروية عن هؤلاء العلماء، مسندة إلى عالم راوية من علماء الطبقة الأولى في النصف الأخير من القرن الثاني. هذه الدواوين وحدها هي المصدر الأولي الوحيد الذي يُعتمد عليه في إثبات صحة الشعر وفي التحقق من نسبته إلى شاعر بذاته. وقد وفينا كل ذلك حقه في البحث في الفصول الثلاثة السابقة من هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 الخاتمة خلاصة البحث ... خاتمة: لهذا البحث -على تشعب طرقه وتباعد أطرافه- وحدة عامة تنتظمه كله تقرب منه ما تباعد، وتجمع ما تفرق. ولهذه الوحدة العامة دعائم ترتكز عليها وتقوم بها: 1 أولها: أن هذا الموضوع، كغيره من الموضوعات، يدور في نطاق إطار معين من الزمان والمكان والسكان. فكان لابد لنا من أن نمهد بين يدي بحثنا بتحديد معالم هذا الإطار. وخلصنا من كل ذلك إلى أن موطن العرب، في جاهليتهم، كان متفاوتًا في طبيعة أرضه، وفي طبيعة مناخه، وفي طبيعة سكانه. أما السكان أنفسهم فكانوا طوائف ثلاثًا: أعرابًا موغلين في الصحراء، يرتادون الكلأ. وينتجعون موافع القطر، ويحيون حياة لا تكاد تعرف من أسباب الحضارة والمدنية شيئًا. ثم سكان الحواضر من أهل المدر الذين كانوا يحيون حياة مسقرة ثابتة، في المدن والقرى. في داخل الجزيرة العربية وعلى أطرافها: في مكة والمدينة والطائف والحيرة والأنبار وقرى اليمامة. ثم طائفة ثالثة هم سكان البادية الذين ابتعدوا عن جوف الصحراء واستوطنوا مشارف المدن والقرى في ظواهرها وضواحيها، يحيون حياة فيها شيء من الاستقرار، وشيء ما الأخذ بأسباب الحضارة والمدنية. والقبيلة العربية نفسها لم تكن شيئًا غير هذا، بل إن هؤلاء العرب بطوائفهم الثلاث لم يكونوا إلا قبائل عربية؛ فليست القبيلة كلها إذن أعرابًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 موغلين في الصحراء، بعيدين عن كل أسباب الحضارة والمدنية، وإنما كانت القبيلة الواحدة في الجاهلية -كما كانت في صدر الإسلام، بل كما هي لعهدنا هذا- ثلاثة أقسام: قسم ما زال ضاربًا في جوف الصحراء، وقسم تحضر واستقر وسكن المدن والقرى، وقسم بين هذين القسمين: يبتعد عن جوف الصحراء ولكنه لا ينزل قلب المدن والقرى، وإنما يستوطن باديتها وظاهرها. وعلى ذلك كانت: قريش والأوس والخزرج وهذيل وعبد القيس وبكر وتغلب وأكثر قبائل العرب؛ يتحضر بعضها ويسكن المدر في: مكة ويثرب والطائف وقرى اليمامة والجزيرة، ويبدوا بعضها فينزل في ظواهر هذه المدن والقرى وضواحيها، ثم يبقى بعضها على ما كان عليه أصلًا في جوف الصحراء. وكما انقسمت القبيلة العربية الواحدة ثلاثة أقسام في موطنها وحياتها الاجتماعية، كانت كذلك في دينها: فقد كانت أكثر القبائل في الصحراء وثنية مشركة، وكان كذلك بعض هذه القبائل في البادية والحواضر، ولكن من هذه القبائل نفسها من كان يعبد الله، إما لأنه دخل في النصرانية أو اليهودية، وإما لأنه ما زال مقيمًا على بعض دين إبراهيم. فاليهود والنصارى في بلاد العرب كانوا في أكثرهم قبائل عربية تهودت أو تنصرت. وكانت هذه المدنية التي عرفها سكان الحواضر وقطان البوادي المطيفة بها -على تفاوت نصيبهم منها في الجاهلية الأخيرة القريبة من الإسلام- نتاج عاملين كبيرين: عامل تليد موروث يحسون به ولا يكادون يستبينونه في وضوح، ويدركون أطرافًا منه، ولكنهم لا يقوون على بعث الحياة فيه، وكانت آثار هذه المدنية الموروثة وشواهدها ماثلة أمام أعينهم، يرونها في حلهم وترحالهم، حتى إذا نزل القرآن ذكَّرهم بها واستمد منها العظة والعبرة. وعامل طريف مقبوس يستمدونه من اتصالهم الوثيق بالحضارات القائمة من حولهم في بلاد فارس والروم ومصر. ومن أجل ذلك كله كان لابد للباحث من أن يتنبه لهذه الفروق الكبيرة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 حياة العرب ومجتمعاتهم في الجاهلية، فلا يُقلِي القول إلقاء عامًّا يشمل عرب الجاهلية كلهم. فإن من الخطإ أن نعمم على سكان الحواضر والبوادي أحكامًا يتصف بها قطان الصحاري وحدهم، أو أن نصم أهل المدر بالجهل والبدائية اللذين كانا من صفات بعض أهل الوبر. وإذ كان ذلك كذلك، كان لابد لسكان الحواضر المستقرين في مدنهم وقراهم، ولقطان البادية القريبة من الحواضر، المطيفة بها من أن يأخذوا بنصيب متفاوت من مظاهر الحضارة التي كانت تعرفها الأمم المجاورة لهم. 2 ومن هنا كان حديثنا في الباب الأول من بحثنا عن أهم مظهر من مظاهر هذه الحضارة، وهو الكتابة والتدوين. فاستقرينا في الفصل الأول النقوش الجاهلية الشمالية، وانتهينا إلى أن هذا الخط العربي -الذي عرف في الإسلام بالخط الكوفي- قد كان معروفًا في الجاهلية منذ مطلع القرن الرابع الميلادي على أقل تقدير، وأن عرب الجاهلية قد كتبوا بهذا الخط الذي كان المسلمون يستطيعون قراءته في يسر، ونستطيع نحن الآن أن نقرأه بعد شيء من المرانة والدربة ثلاثة قرون قبل الإسلام أو تزيد. ثم جمعنا قدرًا صالحًا من النصوص والروايات -بعضها يكاد يكون قاطع الدلالة- وخلصنا منها إلى ترجيح معرفة عرب الجاهلية بالنقط والإعجام. ثم عرضنا آرء بعض القدماء الذين عمموا الحكم على عرب الجاهلية فوصموهم بالجهل والأمية، ورددنا هذه الأحكام ردًّا اطمئننا إلى صوابه، وزاد اطمئناننا حين جمعنا بعض أسماء المعلمين في الجاهلية، وبعض النصوص والأخبار التي تشير إلى قيام مدارس لتعليم الكتابة في الحواضر العربية في الجاهلية نفسها، وزدنا على ذلك أن بعض عرب الجاهلية لم يكونوا يكتفون بتعليم الكتابة العربية وحدها، وإنما كانوا يتعملون أيضًا لغات الأمم التي تربطهم بهم روابط كثيرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 فكان من العرب من يكتب العربية والسريانية والعبرية والفارسية، وكان في بلاد فارس وفي بلاط النجاشي مترجمون من العرب يكتبون بالعربية حين يحتاج الأمر إلى أن يترجموا إليها ويكتبوا بها. واستوفينا في الفصل الثاني بحث هذا الموضوع حين تحدثنا عن الموضوعات التي كان يكتبها عرب الجاهلية، والمواد والأدوات التي كانوا يستخدمونها في كتابتهم؛ فجمعنا من النصوص والروايات ما يشير إلى أن عرب الجاهلية كانوا لا يكادون يتركون شأنًا من شئون حياتهم الخاصة والعامة إلا سجلوه وقيدوه، ولم يتركوا مادة ولا أداة عرفها العالم من حولهم آنذاك إلا استخدموها في كتابتهم. فكانوا يدونون كتبهم الدينية بالعربية وبالعبرية والسريانية، وكانوا يكتبون عهودهم ومواثيقهم وأحلافهم، ويسجلون في الصكوك حساب تجارتهم وحقوقهم ويكتبون رسائلهم في جليل أمورهم وصغيرها، بل كانوا يكتبون مكاتبات رقيقهم وينقشون خواتمهم وشواهد قبورهم. واستخدموا في كتابتهم الجلد: من رق وأديم وقضيم؛ والقماش المصنوع من القطن الأبيض يصقلونه ويُعدونه للكتابة ويسمونه المهارق؛ وأنواع النبات وخاصة العسب، والخشب؛ واستخدوا العظام بأنواعها المختلفة. ثم تحدثنا عن الورق حديثًا مفصلًا انتهينا منه إلى ترجيح استخدام عرب الجاهلية لورق البردي في الكتابة. وكان ختام هذا الباب حديثًا موجزًا عن وصف الخط والكتابة في الجاهلية. وبذلك نكون قد رجحنا ثلاثة أمور لها قيمتها وخطرها؛ أولها: قدم معرفة عرب الجاهلية بالخط العربي معرفة لا تقل عن ثلاثة قرون قبل الإسلام؛ وثانيها: نقط الحروف وإعجامها في الكتابة منذ الجاهلية نفسها، وثالثها: قيام المدارس ووجود المعلمين لتعليم الخط وانتشار الكتابة بين عرب الجاهلية انتشارًا أتاح لهم أن يسجلوا بها كثيرًا من شئونهم وأن يستخدموا لذلك كثيرًا من الأدوات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 3 وكان من الطبيعي بعد ذلك أن نخصص الحديث، في الباب الثاني، بكتابة الشعر الجاهلي وحده. ورأينا أن هذه الكتابة ذات صورتين مختلفتين: صورة ضيقة محدودة لا تعدو مجرد التسجيل على صحيفة واحدة قد تزيد أو تنقص، وسميناها التقييد؛ وصورة واسعة تضم فيها هذه الصحف إلى بعضها حتى يكون منها كتاب أو ديوان، وسميناها: التدوين. ثم رأينا أن بين أيدينا ضربين من الأدلة على تقييد الشعر الجاهلي منذ الجاهلية نفسها؛ وهما: أدلة عقلية استنباطية، وأدلة صريحة نصية. أما الأدلة العقلية الاستنباطية فأربعة: أولها استنتجناه من كل ما قدمناه في الباب الأول عن معرفة عرب الجاهلية بالكتابة، ورأينا أن الشعر كان للقبيلة وللفرد العربي في الذروة العليا من القيمة والخطر: إذ هو ديوان أمجادهم وأحسابهم، وسجل مفاخرهم ومآثرهم. وكانت القبيلة تحرص أشد الحرص على فخر الشاعر إذا كان منها، وعلى مدحه إذا كان من غيرها، وتخشى أشد الخشية هجاءه، تبذل من ذات نفسها ومالها ما تطيق وفوق ما تطيق لتدفعه عن نفسها؛ وكذلك كان الرجل العربي في حرصه على المدح وخوفه من الهجاء. فإذا كان العرب آنذاك يقيدون عهودهم ومواثيقهم ورسائلهم وصكوك حسابهم وسواها من الموضوعات التي تتصل بشئون حياتهم، ألا يرجح ذلك أنهم كانوا كذلك يقيدون هذا الشعر الذي يخلد أمجادهم وأحسابهم ويسجل مفاخرهم ومآثرهم؟ وإذا كان أمر الشعر بهذا الخطر للممدوحين، فهل كان ملوك الحيرة وملوك غسان وإشراف مكة والمدينة والطائف وساداتها وأثرياؤها، وسادات نجران واليمن، هل كان كل أولئك لا يقيدون ما يُمدحون به من الشعر -أو بعضه- مع أنهم كانوا يقيدون سائر أمورهم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 وثانيها: أن الشعر كان له من القيمة والخطر للشعراء أنفسهم ما كان للقبيلة وللممدوحين. فقد كان هذا الشعر عند غير المتكسبين بالمدح واجبًا قبليًّا تفرضه على الشاعر طبيعة ارتباطه بقبيلته، أو واجبًا خلقيًّا تمليه عليه مآثر سلفت من صاحبها لقبيلة الشاعر أو للشاعر نفسه، وأما المتكسبون بالمدح فقد كان الشعر موردًا من موارد ارتزاقهم، أو لعله المورد الوحيد. أليس عجيبًا بعد ذلك ألا يُعنَى الشاعر، وهذه قيمة الشعر عنده، بأن تحفظ الكتابة شعره أو بعضه؟ ولا سيما الشعراء الذين كانوا يعرفون الكتابة ويستخدمونها، وقد عددنا منهم في هذا الفصل طائفة ليست قليلة. وثالث هذه الأدلة العقلية يتناول ضربًا خاصًّا من الشعر الذي وصفه في شعره: امرؤ القيس بن بكر، وكعب بن زهير، ثم وصفه الجاحظ وابن جني -والذي هو نتاج عمل عقلي مركب. فإذا كنا لا ننكر أن بعض الشعراء كانوا يرتجلون الشعر ارتجالًا، وأن بعضهم كان يندلث منهم الشعر اندلاثًا هينًا سمحًا، وأن هاتين الطائفتين أو بعض رجالهما لا تضطرهم طبيعة هذا الضرب من الشعر إلى تقييده وإثباته بالكتابة إذا كنا لا ننكر ذلك، فإنه لابد لنا من أن نتريث قليلًا عند الفئة الأخرى من الشعراء وشعرهم، وأن نتوقف عن أن نسحب عليهم حكم الضرب الأول. ويبدو لنا أنه لابد من أن نرجح أن الشاعر الذي كانت تمكث عنده القصيدة حولًا كاملًا أو زمنًا طويلًا، يردد فيها نظره، ويجيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه؛ والشاعر الذي كان يعرض له في الشعر من الصبر عليه، والملاطفة له، والتلوم على رياضته، وإحكام صنعته نحو مما يعرض لكثير من المولدين؛ والشاعر الذي كانت تكثر عليه القوافي فيذودها عنه ذيادًا، ثم ينتقي منها الجيد انتقاء، وينظر إلى قوافيه وألفاظه نظرة الجوهري إلى لآلئه، يعزل مرجانها جانبًا، ويأخذ المستجاد من درها؛ والشاعر الذي يتنخل كلامه تنخلًا، ويثقف ألفاظه وقوافيه حتى تلين متونها نرجح أن هؤلاء الشعراء لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 يكونوا ليستطيعوا أن يقوموا بهذا العمل العقلي الذي يستغرق هذا الوقت الطويل دون أن يكون الشعر مقيدًا أمامهم على صحيفة يرجعون إليها بين وقت وآخر: يزيدون عليه أو ينقصون منه، ويستبدلون لفظة بلفظة، وقافية بقافية. وآخر هذه الأدلة العقلية هو ما وجدناه من شعر جاهلي يحفل بذكر الكتابة وصورها، والإشارة غلى أدواتها، وتشبيه الأطلال والرسوم ببقايا الخطوط على الرق والمهارق وسائر أنواع الصحف. ولم نذكر من هذا الشعر إلا ما فيه صور شعرية مركبة تنبئ عن أن قائلها لابد أن يكون عالمًا بهذه الصور، وأن الجاهل بها لا يتأتى له ذكرها ووصفها على هذا الوجه المفصل. وبعد أن استوفينا هذه الأدلة العقلية التي استنتجنا منها أن بعض شعراء الجاهلية ربما استخدموا الكتابة في تقييد بعض شعرهم، انتقلنا إلى ذكر الأدلة الصريحة المباشرة، فأوردنا ما يزيد على عشرين نصًّا ورواية، لممنا نثارها، وجمعنا متفرقها، ونظمناها في سلك واحد لنرى أنها واضحة صريحة في أن بعض الشعر الجاهلي كان يقيد، سواء أكان الشعراء الجاهليون أنفسهم هم الذين يقيدونه بخط أيديهم، أم كانوا يستكتبون غيرهم لتقييد شعرهم. أما تدوين الشعر الجاهلي فقد وجدنا أننا لا تستقيم لنا طرائق بحثه إلا إذا عبدنا من حوله سبل الحديث عن نشأة التدوين العام وأوائل المؤلفات المدونة، وذلك لأنه لا تخصيص إلا بعد تعميم، فإذا كان الأصل الكلي -وهو التدوين عامة- ما زال غامض النشأة، مشكوكًا في بداياته، منكورًا قدمه وسبقه، فإن الفرع الجزئي -وهو تدوين الشعر الجاهلي بخاصة- لا يصح أن يقوم وحده معلقًا في الفضاء وحوله سحب الشك والإنكار. ومن أجل ذلك مهدنا بحديث موجز انتهى بنا لى ثلاثة أمور: الأول: أن صحف الكتابة كانت -منذ ظهور الإسلام وفي القرن الأول الهجري- من الكثرة والشيوع بمنزلة يتيسر معها، لمن أراد، أن يشتري منها ما يفي بحاجته، فيستطيع أن يضم بعضها إلى بعض، ويؤلف أجزاءها، ويجعل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 مجموعة هذه الصحف كتابًا أو ديوانًا مؤلفًا. والثاني: استيفاء للأول، وهو بيان المظهر اللغوي، أو الصورة اللغوية للتدوين في ذلك العصر المبكر، فجمعنا من الألفاظ التي وردت في نصوصهم وأخبارهم والتي كانوا يطلقونها ليدلوا بها على مجموعة الصحف المدونة، والتي كانت تختلف عن ألفاظهم الدالة على الصحيفة المفردة جمعنا من كل ذلك ما يدعم معرفتهم بالتدوين. والثالث: أننا عرضنا من الروايات والنصوص عن تدوين الحديث والفقه، والتفسير، والمغازي والسيرة، ما لا يبقى معه شك في أن بعضها كان يدون منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهد صحابته. أما الشعر الجاهلي نفسه فقد دون منذ هذا العهد المبكر تدوينًا عامًّا ضمن هذه الموضوعات التي ذكرناها للاستشهاد به، أو الاحتجاج، أو التمثل، أو تفسير الألفاظ وشرح غريبها. وكان مدونو الحديث والتفسير والمغازي والسيرة هم من رواة الشعر وحفاظه. ودون فضلًا عن ذلك تدوينًا خاصًّا مستقلًا. فجمعنا من الأخبار والروايات ما تقطع بأن الشعر الجاهلي كان مدونًا في القرن الأول الهجري، وأن العلماء الرواة في القرن الثاني قد وصلهم بعض هذه المدونات الشعرية واعتمدوها أصلًا من الأصول التي استقوا منها ما جمعوا لمن هذه الشعر. ثم أصفنا إلى هذه الأخبار والروايات الصريحة دليلًا ثانيًا على أن العلماء الرواة في القرن الثاني قد أخذوا من المدونات، وهو ما وقعوا فيه من تصحيف، ثم جمعنا أمثلة على التصحيف الذي لا يمكن أن يكون من خطإ في السماع، وإنما ينشأ من خطإ في القراءة. وإذا كان ذلك كله ينتهي بنا إلى أن هذا الشعر الجاهلي قد كان مدونًا في القرن الأول الهجري، فقد قطعنا شوطًا آخر قبله، وجمعنا من النصوص والأخبار ما يرجح أن بعض هذا الشعر قد كان مدونًا منذ الجاهلية نفسها، وحين استوى بين أيدينا كل ذلك زدنا عليه حديثًا موجزًا عن كتب القبائل والنسب، وعن كتب العلم التي كانت تشتمل على بعض الحكم والأمثال وجوامع الكلم، وأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 بعضها كان كذلك يدون في الجاهلية. ثم تساءلنا عن السبب الذي جعل علماء القرن الثاني يغفلون ذكر مصادرهم المدونة إذا كانوا قد أخذوا عن الصحف حقًّا. وقد وجدنا جواب ذلك في هذه النصوص والأخبار الكثيرة التي أوردناها، والتي تدل على أن القوم آنذاك كانوا يضعفون كل من يأخذ عن صحيفة أو ينقل من كتاب، وكانوا يلمزونه ويدعونه صحفيًّا، فكان لابد إذن لهذا العالم من أن يأخذ علمه من مجلس العلماء الشيوخ. وحين وصفنا هذه المجالس وضحنا معنى الرواية الأدبية، وقلنا إن الرواية كانت طريقة علمية متكاملة تقوم على دعامتين: الكتاب والسماع. فقد كان العالم الحق الجدير بالثقة هو الذي يتصل بالعلماء من ذوي السن، فيحضر مجالسهم ويلازمهم ويستمع إليهم ويأخذ عنهم، والكتاب في كل ذلك، أو في أكثره، هو الوسيلة أو الأداة: يقرؤه على شيخه، أو يستمع إلى بعض من يقرؤه، وقد تكون في يده نسخة أخرى من الكتاب يتابع قراءة القارئ، والشيخ يستمع: يصحح الخطأ، ويشرح الغريب، ويذكر من وجوه الخلاف في الألفاظ ما بلغ إليه علمه، ويتحدث عما حول النص من جو تاريخي، وقد يقوده اللفظ أو الخبر إلى لفظ في بيت آخر. أو إلى خبر في حادثة أخرى، فيستطرد، ثم يعود إلى حيث كان. ثم إذا بلغ هذا المتعلم من العلم مبلغًا يتيح له أن يجلس منه المتعلمون مجلسه من أولئك العلماء، لم يذكر الصحيفة التي أخذ منها أو الكتاب، لئلا يتوهم فيه أنه صحفي اكتفى بالأخذ عن الصحف وإنما أسند ما يلقيه من العلم إلى شيوخه، فيقول: حدثنا فلان، وأخبرنا فلان، وسمعت فلانًا يقول. وهذه الصيغ المختلفة للتحديث موهمة أنها كانت رواية شفهية، وأن مجلس العلم كان كله حديثًا لا كتاب فيه، ولكن الأمر على غير ذلك، فإن هذه الصيغ كلها إنما تدل على ما ذكرناه من حديث العالم الشيخ في مجلسه، والمتعلمون والعلماء من حوله يقرءون أو يستمعون إلى ما يقرأ، والشيخ العالم يشرح، ثم أوردنا أخبارًا وروايات كثيرة تدل على أن مجالس العلم كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 تقوم على قراءة الكتاب وحديث الشيخ معًا، بل لقد جمعنا أخبارًا أخرى تدل على أن الإسناد وصيغ التحديث قد توهم السماع على حين لا سماع، وإنما هو أخذ من الصحيفة وحدها من غير قراءة على الشيخ وسماع منه. 4 وبعد أن استوفينا -في كل ما تقدم- الحديث عن الدعامة الأولى للرواية الأدبية: وهي الصحيفة المدونة، كان لابد لنا من أن نتحدث عن الدعامة الثانية وهي الرواية الشفهية أو السماع. فانتهينا إلى ثلاثة أمور فصلناها في ثلاثة فصول: أولها: بحث لغوي في دلالة لفظتي: رواية وراوية، وأطوارهما اللغوية التاريخية، دخلنا منه إلى تفصيل الحديث عن التدوين والرواية في حفظ الشعر، وذكرنا أن هذا التدوين الذي ذكرناه -على ما كان من وجوده بل من انتشاره- لم يكن له من سعة هذا الانتشار ما يتيح وجود نسخ كثيرة من الديوان الواحد تفي بحاجة القارئين آنذاك. لقد كان هذا الشعر -أو بعضه- مدونًا، ولكن تدوينه كان مقصورًا على نسخ معدودة هي الأمهات أو المراجع، ينسخها أفراد قلائل من الرواة أو الشعراء أو أبناء قبيلة الشاعر أو الممدوحين من السادة والأشراف، ثم يحفظ هؤلاء جميعًا، أو بعضهم، هذا الشعر، ويتناقلونه إنشادًا -لا قراءة- في مجالسهم ومشاهدهم وأسواقهم، ويرددونه شفاهًا في سمرهم ومحافلهم ومنافراتهم ومواقف فخرهم؛ فيشيع بين العرب، ويتناقله الركبان، عن هذا الطريق من الرواية الشفهية، من فرد إلى فرد، ومن جيل إلى جيل؛ لا عن طريق القراءة والمدارسة من الكتاب أو الديوان. ثم انتهينا إلى الحديث عن أمر له قيمته وخطره، وذلك هو اتصال رواية الشعر الجاهلي من الجاهلية نفسها إلى عصر التدوين العلمي في القرن الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 ومهدنا لحديثنا بقول عمر بن الخطاب: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"، وتعقيب محمد بن سلام عليه بقوله: "فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار؛ راجعوا رواية الشعر، فلم يئولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك وذهب عليهم منه كثير". وقلنا إن كلام ابن سلام هذا ثلاثة أشطر: آخرها حق، وموسطها باطل، وأولها يحتاج إلى فضل بيان يوضحه. أما الحق الذي لا مرية فيه فقوله: "فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير". وقد فصلنا وجه الحق فيه. وأما الباطل الذي لم نعد نشك في بطلانه وفساده فهو هذا التعميم الواسع في قوله: "فلم يئولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب". ولم نكتف بالتدليل على بطلان ذلك بما أوردناه في البابين الأولين من حديث مفصل، وإنما جمعنا من كتاب ابن سلام نفسه نصوصًا تنقض قوله هذا، أو -على الأقل- تضيق ما فيه من تعميم واسع. وأما الشطر الثالث الذي يحتاج إلى فضل بيان يوضحه فهو قوله: "فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر ... وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل". وفصلنا الرد على ذلك باستقراء تاريخي تتبعنا فيه حياة الرواية عند القوم، مبتدئين بالمعالم الواضحة في منتصف القرن الثاني الهجري، ومتدرجين فيها إلى الوراء حتى وصلنا إلى أقصى ما استطعنا الوصول إليه من معالم حياة الرواية الأدبية. فجمعنا من الروايات والأخبار ما يدل عل أن القوم في القرن الأول الهجري لم يكونوا يكتفون برواية الشعر الجاهلي وإنشاده في المجالس والمحافل، وإنما كانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 كذلك يعلمونه الصبيان تعليمًا: يروونهم إياه ويؤدبونهم به. ثم وقفنا وقفة فيها شيء من التفصيل عند شعراء العصر الأموي -وخاصة جرير والفرزدق وسراقة البارقي- وبينَّا، من شعرهم، أنهم كانوا حلقة من حلقات الرواية الأدبية للشعر الجاهلي ولأخبار الجاهلية وأنسابها عامة. وانتقلنا إلى الحديث عن صدر الإسلام عصر الرسول الكريم وصحابته، وفصلنا القول في اتصال رواية الشعر الجاهلي في زمنهم تفصيلًا وافيًا، وحين انتقلنا إلى الجاهلية ذكرنا من الروايات والأخبار ما انتهى بنا إلى أن إنشاد الشعر وروايته كانا دأب العرب في جاهليتهم القريبة المتصلة بالإسلام، حتى حين كانوا -وهم مشركون- يحاربون رسول الله. وبذلك قدمنا من الشواهد والأمثلة ما بين في وضوح أن رواية الجاهلية: أشعارها وأخبارها، لم تنقطع منذ الجاهلية، بل لقد اتصلت في زمن رسول الله وصحابته وخلفائه الراشدين، واستمرت طوال القرن الأول حتى تسلمها العلماء الرواة من رجال القرن الثاني، ولم تكن ثمة فجوة تفصل هؤلاء الرواة العلماء عن العصر الجاهلي، وإنما تلقفوه عمن تقدمهم، وورثوه عمن سبقهم، رواية متصلة وسلسلة محكمة، يأخذها الخلف عن السلف، ويرويها الجيل بعد الجيل، حريصين عليها، معنيين بها وعقدنا الفصل الثاني من هذا الباب على طبقات الرواة، فرأيناهم ست طبقات: الشعراء الرواة، ورواة القبيلة، ورواة الشاعر، ورواة مصلحين للشعر، ورواة وضاعين، ورواة علماء. وفصلنا القول في كل طبقة تفصيلًا، ووقفنا عند الطبقة الأخيرة، وهم: الرواة العلماء، وقلنا إنها طبقة متميزة من الطبقات السابقة، ومدار تميزها وتفردها على أنها اتخذت من الشعر موضوعًا علميًّا، تدرسه دارسة، بعد أن تأخذه عن شيخ أو أستاذ في مدرسة من مدارس علم الشعر وروايته آنذاك، ونعني بها تلك المجالس والحلقات التي كانت تعقد في المساجد أو في منازل الشيوخ، ويجتمع فيها التلاميذ من العلماء والمتعلمين، يتحلقون حول شيخ شُهِد له بالحفظ والرواية ومعرفة كلام العرب والإحاطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 الواسعة بشعرهم، وذلك بالاطلاع الواسع على ما سبق عصره من جهود الرواة في حفظ الشعر وتدوينه، وتكون طريقة الدرس هي الرواية الأدبية بدعامتيها: الكتاب، والسماع. وقلنا إن هذه الطبقة من الرواية العلماء كانت تجمع ما استطاعت جمعه من الشعر الجاهلي من الشيوخ المختلفين، ومن أفواه الرواة من الأعراب، ومن بعض الصحف المدونة ثم تدرسه، وتمحصه، وتفحصه، وتميز صحيحه من فاسده، والثابت النسبة من المشكوك فيه، وتنتهي من ذلك إلى تسجيل ما ترجح لديها صحته في نسخة خاصة تصبح هي رواية ذلك الشيخ الراوية العالم، ينقلها عنه تلاميذه وينسبونها إليه. وذكرنا أن هذه الطبقة من الراوة العلماء -بهذا التعريف الذي قدمناه والتحديد الذي قيدناها به- لم تكن موجودة فيما يبدو قبل مطلع القرن الثاني الهجري، وربما كان أول شيوخها الذين مهدوا الطريق لمن تبعهم فكانوا هم الرواد السابقين: أبو عمرو بن العلاء "المتوفى سنة 154" وحماد الرواية "المتوفى سنة 156". ومن هنا كان قول ابن سلام "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها: حماد الراوية"، ومن هنا أيضًا قالوا: "كان خلف الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه". وخصصنا آخر فصول هذا الباب بالحديث عن الإسناد في الرواية الأدبية، وقابلنا بينه بين الإسناد في الحديث، وشرحنا سبب التزام السند في رواية الحديث والتحلل منه أحيانًا في رواية الشعر والأخبار. ثم عرضنا أمثلة من الأخبار المسندة التي يرتفع إسنادها إلى العصر الجاهلي بل إلى الشعراء الجاهليين أنفسهم؛ ونماذج أخرى يسند فيه العلماء الرواة من الطبقة الأولى إلى من سبقهم وكان فهيم من أدرك الجاهلية. ثم قلنا إن الإسناد في الرواية الأدبية قد أصبح في الغالب قاعدة عامة بعد القرن الثاني الهجري، وأنه كان ينتهي إلى شيخ من شيوخ الطبقة الأولى من العلماء الرواة، وأما هؤلاء العلماء الرواة من الطبقة الأولى فلم يكونوا في الغالب يُسندون إلى من قبلهم، مع وجود الإسناد نفسه مما مثلنا له بالشواهد والأمثلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 5 ثم كان لابد لنا أن نعرض آراء القدماء والمحدثين في صحة الشعر الجاهلي، فمهدنا لهذا الباب بحديث موجز عن "المشكلة الهومرية"، وعرضنا للوجوه الكثيرة من التشابه القريب بين الشعرين: العربي الجاهلي والهومري، وانتهينا إلى بيان جهود الدارسين الأوربيين في ثلاثة أمور؛ أولها: من نظم الإلياذة والأوديسة، وصحة نسبتهما إلى هرمز. وثانيها: وسيلة حفظ الشعر الهومري: أكانت الرواية الشفهية أم الكتابة. وثالثها: المدارس اللغوية القديمة التي درست شعر هومر ونقدته بعد أن جمعته ودونته. ثم تحدثنا في الفصل الثاني عن آراء القدماء، من علماء العرب، في الوضع والنحل، وألممنا بما جاء في كتبهم من إشارات متفرقة إلى ذلك ورتبناها، ثم فصلنا القول في كتاب السيرة لابن إسحاق واستدراكات ابن هشام عليه؛ وفي كتاب طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام. وعقدنا الفصل الثالث لبيان آراء المستشرقين في صحة الشعر الجاهلي، فعرضنا عرضًا مفصلًا لآراء مرجوليوث، وليال، ودلا فيدا، وبذلنا أقصى الجهد في نقل أدلتهم وبراهينهم وردودهم مفصلة واضحة. ثم انتقلنا في الفصل الرابع إلى الحديث عن آراء المحدثين: فعرضنا رأي المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي وهو أول من طرق هذا الموضوع من المحدثين. ثم أسهبنا في بيان رأي الدكتور طه حسين، وردود الذين ألفوا كتبًا في الرد عليه. واستغنينا بردودهم عن التفصيل في الرد لسببين: أولهما: أننا التزمنا -كما نبهنا على ذلك في مواطن متفرقة- منهجًا واضحًا في كتابة هذا البحث، يقوم على الدراسة الخارجية لمصادر الشعر الجاهلي من غير أن نخوض في تفصيلات الدراسة الداخلية وأجزائها، والكثرة الغالبة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 شواهد الدكتور طه حسين إنما تعتمد على الدراسة الداخلية. وثانيهما: أننا رتبنا آراء الذين ردوا على الدكتور ترتيبًا مفصلًا واضحًا بحيث يقابل كل رأي من آرائه رده المفصل، فجاء هذا الترتيب -في جملته ومجموعه- معبرًا عن رأينا، فاستغنينا به عن الإعادة والتكرار. ثم ختمنا هذا الباب بحديث مفصل عن توثيق الرواة وتضعيفهم وعن مدرستي البصرة والكوفة. وجمعنا بعض الروايات والأخبار التي يتهم فيها القدماء بعضهم بعضًا بالكذب والنحل والوضع، وخاصة الأخبار الكثيرة عن حماد الكوفي وخلف الأحمر البصري، ودرسناها دراسة مفصلة انتهينا منها إلى إظهار الوضع والتلفيق في كثير من هذه الأخبار، ثم بينَّا أسباب تحامل تلاميذ كل مدرسة على تلاميذ المدرسة الأخرى، بل تضعيف تلاميذ المدرسة الواحدة أحيانًا لبعض زملائهم. وأرجعنا كل ذلك إلى عصبيات قبلية حينًا، وسياسية حينًا آخر، وخلافات منهجية بين مدرستين مختلفتين حينًا ثالثًا، وخصومات شخصية حينًا رابعًا. وكان لابد لنا من أن نفصل القول في منهجي هاتين المدرستين والمصادر التي استقى منها علماء كل مدرسة الحديث واللغة والشعر الجاهلي، فوجدنا أن المذهب البصري قائم في جملته على التشدد والتضييق والميل إلى التقعيد والقياس، وأن الكوفيين كانوا أكثر حرية، وأكثر جرأة، وأنهم قد توسعوا حين ضيق البصريون وتوقفوا، وأخذوا عن مصادر لم يرتضها البصريون، ومن هنا كثرت رواية الكوفيين فاتهمهم البصريون بالتزيد والوضع. وقلنا إن رواية اللغة والشعر عند الكوفيين كان فيها كثرة لا تكثر وزيادة لا تزيد؛ وانتهينا إلى نفي تهمة الوضع المتعمد والكذب عن هؤلاء العلماء من المدرستين معًا، ومع ذلك فإننا لم ننفِ أن في الشعر الذي رووه ما هو موضوع منحول، غير أنهم لم يكونوا هم الذين وضعوه ونحلوه، وإنما رواه بعضهم كما وجده، ثم قاسه على ما بين يديه من مقاييس نقدية تتفق مع منهجه، فأسقط بعضه وصحح بعضه؛ واختلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 علماء المدرستين فيما أسقطوا وفيما صححوا لما بيناه من اختلاف مناهجهم واختلاف مصادرهم. ثم وقفنا عند كلمة "منحول"، وفرقنا بينها وبين كلمة "موضوع"، وقلنا إن هؤلاء العلماء كانوا يقولون أحيانًا إن هذا الشعر منحول لامرئ القيس، ويقصدون أنه شعر قديم جاهلي لا يشكون في قدمه وجاهليته، ولكنهم يشكون في نسبته إلى امرئ القيس بعينه مثلًا. وذكرنا أيضًا أن هؤلاء العلماء كانوا أحيانًا يسمعون قصيدة جاهلية يرويها أحد الرواة ولكنه لا ينسبها؛ لأنه نسي نسبتها أو لأنه رواها من غير نسبة، فيستمع إليها العالم الراوية ويرجح نسبتها إلى شاعر جاهلي بعينه؛ لأنه رآها أقرب إلى روح ذلك الشاعر وطابعه الفني لكثرة دراسته لشعره ومعرفته بخصائصه. وأوردنا لكل ذلك من الشواهد والأمثلة ما يوضحه. 6 وبعد أن اطمأننا إلى المحاولة التي أفرغنا فيها جهدنا لملء هذه الفجوة بين الشاعر الجاهلي نفسه، والطبقة الأولى من العلماء الرواة، وأظهرنا أن الرواية الشفهية والتدوين كانا يسيران معًا جنبًا إلى جنب في حلقة متصلة من الجاهلية -أو على الأقل من صدر الإسلام- إلى القرن الثاني، كان لابد لنا أن نتحدث عن هذه الدواوين التي رواها هؤلاء العلماء الرواة، ونقلها عنهم تلاميذهم، حتى وصلت إلينا. وكان ذلك موضوع حديثنا في الباب الخامس من هذا البحث؛ فقسمناه إلى أربعة فصول: تحدثنا في الفصل الأول عن الدواوين المفردة بعامة، وديواني امرئ القيس وزهير بخاصة، وتحدثنا في الفصل الثاني عن دواوين القبائل، وأفردنا ديوان هذيل بحديث مفصل. وتحدثنا في الفصل الثالث عن مجموعات المختارات كالمفضليات والأصمعيات وحماسة أبي تمام وجمهرة أشعار العرب. ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 تحدثنا في الفصل الرابع عن الشعر الجاهلي في غير الدواوين، فاسقرأناه في بعض كتب التفسير والحديث، واللغة والنحو، والتاريخ والمغازي، وكتب الأدب العامة. وانتهينا من هذا الباب إلى أمرين: الأول: أن هذه الكتب التي ذكرناها في الفصل الأخير -على كثرة ما فيها من الشعر الجاهلي الصحيح- ليست مصدرًا من مصادر هذا الشعر، وذلك لأن مؤلفيها لم يقصدوا إلى أن يجعلوها مصدرًا يستقي منه الباحثون شعر الشاعر، ولم يتخذوا من الشعر الجالهي هدفًا لهم: يجمعونه ويدرسونه ويصححونه، وإنما اتخذوا من الشعر وسيلة يتوسلون بها إلى الاستشهاد به أو التمثل أو الاحتجاج أو تزيين ما يوردون من قصص وأخبار. وقد درسنا هذه الكتب دراسة مفصلة واستخرجنا منها مناهج مؤلفيها في إيراد الشعر الجاهلي بحيث انتهينا إلى هذه النتيجة. والثاني: أن مصادر الشعر الجاهلي هو الدواوين نفسها، وكتب المختارات الموثوق بروايتها، ولا يعنينا من الدواوين إلا المروية ذات الإسناد إلى عالم رواية. وقد وجدناها على ضربين: ضرب تستقل فيه رواية مفردة قائمة بذاتها: كرواية الأصمعي وحده أو المفضل وحده. وضرب تجتمع فيه روايات مختلفة لعلماء من مدرسة واحدة أو من المدرستين معًا، كتلك الدواوين التي جمعها علماء الطبقة الثانية وعلماء الطبقة الثالثة، فأوردوا فيها روايات متعددة، ولكنهم كانوا ينصون على أن هذه القصيدة من رواية الأصمعي وأن تلك من رواية المفضل، وأن فلانًا انفرد برواية هذا الشعر أو ذلك، أو أنه قد دفع هذه القصيدة أو أنكر تلك. بل لقد نصوا على الاختلاف في رواية الأبيات والألفاظ. والدارس المتتبع يستطيع ببعض الجهد والعناء أن يجرد من هذه الروايات المجتمعة روايات منفردة قائمة بذاتها ترجع، كالضرب الأول، إلى عالم من الطبقة الأولى من الرواة، وخاصة الأصمعي والمفضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 وبذلك نكون قد وضعنا أصول مقياس واضح المعالم لدراسة الشعر الجاهلي ومعرفة صحيحه، وذلك بأن نأخذ من شعر الشاعر القدر الذي اتفقت عليه المدرستان البصرية والكوفية معًا، فنطمئن إلى أن هذا القدر المشترك هو أقرب ما يكون إلى الضحة، ثم ندرسه دراسة فنية داخلية بحيث نستشف روح الشاعر، وطابعه وخصائصه الفنية واللغوية، حتى إذا أقمنا هذا المقياس الداخلي، احتكمنا إليه في صحة الشعر الباقي الذي انفرد بروايته أحد الرواة الأثبات، ثم الذي انفرد بروايته راوٍ آخر، ثم ما رواه غيرهما، فما استقام على هذا المقياس الداخلي رجحنا صحته وضممناه إلى القدر المشترك الأول، وما لم يستقم نفيناه وطرحناه. أما ما حققه هذا البحث من جديد فأرجو أن يكون واضح المعالم بارز القسمات في ما قدمت من فصول وأبواب، بحيث يغنيني عن إعادة الحديث فيه، ويجنبني مزالق الإدلال به والاستكثار بذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 مصادر البحث ومراجعه ... المصادر والمراجع: "1" المطبوعة 1- الآمدي - أبو القاسم، الحسن بن بشر "370هـ". المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء وكناهم وألقابهم وأنسابهم وبعض شعرهم - تصحيح كرنكو، القدسي سنة 1354هـ. 2- أحمد أمين ضحى الإسلام. 3- أحمد محمد الحوفي المرأة في الشعر الجاهلي - مطبعة نهضة مصر، سنة 1954. 4- الأصفهاني - أبو الفرج، علي بن الحسين بن محمد الأموي "356هـ" "1" الأغاني - ط. دار الكتب، وبولاق، والساسي بحسب ما يذكر في الهامش. "2" مقاتل الطالبيين - تحقيق السيد صقر. 5- الأصمعي -أبو سعيد، عبد الملك بن قريب "نحو 215هـ" الأصمعيات - ط. برلين 1902 ط. دار المعارف - تحقيق الأستاذين عبد السلام هارون وأحمد محمد شاكر. 6- الأعشى - ميمون بن قيس ديوانه - شرح م. محمد حسين، نشر مكتبة الآداب بالجماميز. 7- امرؤ القيس بن حجر الكندي ديوانه - طبعة هندية سنة 1906. جمع حسن السندوبي، ط. الاستقامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 8- ابن الأنباري - أبو البركات، عبد الرحمن بن محمد "575هـ" نزهة الألباء في طبقات الأدباء، نشر علي يوسف. 9- البطليوسي - أبو محمد، عبد الله بن محمد بن السيد "521هـ" الاقتضاب في شرح أدب الكتاب - المطبعة الأدبية، بيروت 1901 10- البغدادي - أبو بكر، أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي "463هـ" تقييد العلم - تحقيق يوسف العش، دمشق 1949. 11- البغدادي - عبد القادر بن عمر "1093هـ" خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب - السلفية 1347هـ، وبولاق. 12- بلاشير - الدكتور ريجيس بلاشير تاريخ الأدب العربي - ترجمة الدكتور إبراهيم الكيلاني، مطبعة الجامعة السورية، دمشق 1956 13- البلاذري - أحمد بن يحيى بن جابر "279هـ". فتوح البلدان، مصر، 1901 14- التبريزي - أبو زكرياء، يحيى بن علي "502هـ" 1- شرح القصائد العشر - الطبعة الثانية، المطبعة المنيرية سنة 1352. 2- شرح الحماسة - تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. 15- الجاحظ - أبو عثمان، عمرو بن بحر بن محبوب "255هـ" 1- البيان والتبيين - تحقيق عبد السلام هارون، 1948. 2- الحيوان - تحقيق عبد السلام هارون، 1938. 3- المحاسن والأضداد - الخانجي، 1324. 16- ابن الجزري - شمس الدين، محمد بن محمد "833هـ" النشر في القراءات العشر - ط. دمشق 1345هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 17- ابن جلجل - أبو داود، سليمان بن حسان الأندلسي "القرن الرابع" طبقات الأطباء والحكماء - تحقيق فؤاد سيد، مطبعة المعهد العلمي الفرنسي سنة 1955. 18- ابن جني - أبو الفتح، عثمان بن جني "392هـ". الخصائص - ط. الهلال 1913. 19- الجهشياري - أبو عبد الله، محمد بن عبدوس "331هـ". كتاب الوزارء والكتاب - تحقيق الأساتذة السقا والأبياري وشلبي. الطبعة الأولى، مصطفى البابي الحلبي. 20- جواد علي تاريخ العرب قبل الإسلام - مطبوعات المجمع العلمي العراقي. 21- الجواليقي - أبو منصور، موهوب بن أحمد "539هـ". المعرب - ط. ليبزج. 22- جورجي زيدان "1914" العرب قبل الإسلام الطبعة الثالثة سنة 1939. 23- جولد تسيهر المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن - ترجمة: علي حسن عبد القادر. 24- حاتم الطائي ديوانه - لندن 1872، وضمن "خمسة دواوين العرب". 25- ابن أبي حاتم، محمد بن عبد الرحمن "327هـ". 1- آداب الشافعي ومناقبه. القاهرة 1953هـ. 2- الجرح والتعديل، الهند. 26- حاجي خليفة - مصطفى بن عبد الله كتاب حلبي "1066هـ" كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون - مصر 1274هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 27- ابن حبيب - أبو جعفر، محمد بن حبيب بن أمية "245هـ" المحبر - طبع الهند، 1942. 28- ابن حجر - شهاب الدين، أبو الفضل، أحمد بن علي العسقلاني "852هـ". 1- فتح الباري - بولاق. 2- الإصابة في تمييز الصحابة - مطبعة السعادة 1323. 3- تهذيب التهذيب - الهند، 1325هـ. 29- ابن حزم - أبو محمد، علي بن سعيد "456هـ". جمهرة أنساب العرب - تحقيق وتعليق بروفنسال ط. دار المعارف بمصر، 1948. 30- حسان بن ثابت ديوانه - ط. النيل، 1904. 31- الحطيئة ديوانه - شرح أبي سعيد السكري، مطبعة التقدم بمصر. 32- حميد بن ثور ديوانه - دار الكتب 1951. 33- أبو حنيفة الدينوري - أحمد بن داود "282هـ". الأخبار الطوال - ط. السعادة سنة 1330هـ. 34- خليل يحيى نامي أصل الخط العربي وتاريخ تطوره إلى ما قبل الإسلام - مجلة كلية الآداب - جامعة القاهرة، مايو 1935. 35- ابن أبي داود السجستاني - عبد الله بن سليمان بن الأشعث "316هـ" كتاب المصاحف، مصر 1936. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 36- ابن رشيق - أبو علي، الحسن بن رشيق القيرواني "463 وقيل 456هـ" العمدة في محاسن الشعر وآدابه - تحقيق محيي الدين عبد الحميد 1934. 37- الزبيدي - أبو بكر، محمد بن الحسن "379هـ طبقات النحويين واللغويين - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، 1954. 38- الزبيري - أبو عبد الله، المصعب بن عبد الله بن المصعب "236هـ" كتاب نسب قريش - تحقيق بروفنسال. ط. دار المعارف بمصر. 39- الزجاجي - أبو القاسم، عبد الرحمن بن إسحاق "337هـ" الأمالي - الخانجي 1324. 40- الزمخشري - جار الله محمود بن عمر "583هـ" 1- الفائق في غريب الحديث - تحقيق البجاوي وأبو الفضل إبراهيم، القاهرة سنة 1945. 2- أساس البلاغة. 41- زهير بن أبي سلمى ديوانه - دار الكتب 1944. 42- الزوزني - أبو عبد الله، الحسين بن أحمد "486هـ" شرح المعلقات السبع - التجارية 1938. 43- أبو زيد القرشي - محمد بن أبي الخطاب جمهرة أشعار العرب - بولاق. 44- سراقة البارقي ديوانه - تحقيق حسين نصار - 1947. 45- السجستاني - أبو حاتم، سهل بن محمد "255هـ". كتاب المعمرين من العرب - تصحيح الخانجي، 1905. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 46- ابن سعد - أبو عبد الله، محمد بن سعد بن منيع الزهري "230هـ" كتاب الطبقات الكبير - ط. بريل في ليدن سنة 1322. 47- ابن السكيت - أبو يوسف، يعقوب بن إسحاق "244هـ". 1- إصلاح المنطق - تحقيق أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف. 2- تهذيب الألفاظ - تحقيق الأب شيخو، بيروت 1895. 48- ابن سلام - محمد بن سلام الجمحي "231هـ" طبقات فحول الشعراء - تحقيق محمود محمد شاكر، ط. دار المعارف. 49- سلامة بن جندل. ديوانه - تحقيق الأب شيخو، بيروت 1910. 50- سيبويه - أبو بشر، عمرو بن عثمان "180هـ" الكتاب، المطبعة الأميرية ببولاق. 51- ابن سيده - أبو الحسن، علي بن إسماعيل "458هـ" المخصص - المطبعة الأميرية ببولاق 1316هـ. 52- السيرافي - أبو سيعد، الحسن بن عبد الله "368هـ". كتاب أخبار النحويين البصريين - تحقيق كرنكو سنة 1936. 53- السيوطي - جلال الدين، عبد الرحمن بن أبي بكر "911هـ". 1- المزهر في علوم اللغة وأنواعها، عيسى البابي الحلبي، الطبعة الثانية. 2- الأشباه والنظائر في النحو - الهند، 1359هـ 3- شرح شواهد المغني، مصر 1322. 54- ابن الشجري - أبو السعادات، هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة "542هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 1- مختارات شعراء العرب - المطبعة العامرة 1306هـ. 2- الحماسة الهند، 1345هـ. 55- شوقي ضيف الفن ومذاهبه في الشعر العربي - الطبعة الثانية. 56- شيخو - الأب لويس شيخو اليسوعي "1927م" 1- النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، طبعة ثانية، بيروت 1933. 2- شعراء النصرانية - بيروت 1926. 57- صاعد الأندلسي - القاضي أبو القاسم، صاعد بن أحمد الأندلسي "462هـ" طبقات الأمم - مطبعة السعدة بمصر. 58- الصفدي - صلاح الدين، خليل بن أيبك "764هـ" نكت الهميان، مصر، 1911. 59- الصولي - أبو بكر، محمد بن يحيى "336هـ". أدب الكتاب - تصحيح الأثري، السلفية 1314. 60- طاش كبرى زاده - المولى أحمد بن مصطفى "968هـ" مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم - الهند. 61- الطبري - أبو جعفر، محمد بن جرير "310هـ" 1- التاريخ - الأمم والملوك، طبعة مصر - وطبعة بريل في ليدن. 2- جامع البيان عن تأويل آي القرآن - تحقيق محمود محمد شاكر ط. دار المعارف بمصر. 62- طرفة بن العبد ديوانه - ط. شالون سنة 1900. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 63- طه حسين 1- في الشعر الجاهلي - دار الكتب المصرية، 1926. 2- في الأدب الجاهلي - الطبعة الرابعة، دار المعارف. 64- ابن عبد البر - أبو عمر، يوسف بن عبد البر النمري القرطبي "463هـ" 1- القصد والأمم - القدسي، 1350. 2- مختصر جامع بيان العلم وفضله - مصر، 1320. 65- ابن عبد الحكم - أبو محمد، عبد الله بن عبد الحكم "214هـ". فتوح مصر وأخبارها - ط. بريل 1920 66- ابن عبد ربه - أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي "328هـ". العقد - تحقيق محمد سعيد العريان - ط. الاستقامة، 1940. 67- ابن العبري - أبو الفرج، غريغوريوس بن هارون الملطي "685هـ" مختصر الدول - ط. بيروت. 68- عبيد بن الأبرص. ديوانه - دار المعارف. 69- عبيد بن شرية الجرهمي. أخبار عبيد - ط. الهند، 1347. 70- أبو عبيد - عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي "487هـ" 1- معجم ما استعجم - تحقيق مصطفى السقا، ط. لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1945. 2- اللآلي في شرح أمالي القالي - تحقيق عبد العزيز الميمني سنة 1936. 71- أبو عبيدة - معمر بن المثنى "208، 213هـ" 1- النقائض - تحقيق بيفان، بريل 1905. النقائض - طبع الصاوي 1935م. 2- كتاب الخيل - الهند، 1358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 72- ابن العربي - القاضي أبو بكر، محمد بن عبد الله "546هـ" العواصم من القواصم - ط. الجزائر. 73- عرام بن الأصبغ السلمي "القرن الثالث؟ " كتاب أسماء جبال تهامة وسكانها - تحقيق عبد السلام هارون، 1373هـ. 74- ابن فارس - أبو الحسين، أحمد بن فارس بن زكريا "395هـ". الصاحبي في فقه اللغة - المكتبة السلفية سنة 1910. 75- الفراء - أبو زكرياء، يحيى بن زياد "204هـ" معاني القرآن - ط. دار الكتب. 76- فيليب حتى تاريخ العرب "مطول". 77- القالي - أبو علي، إسماعيل بن القاسم بن عيذون "356هـ". الأمالي - دار الكتب. 78- ابن قتيبة - أبو محمد، عبد الله بن سلم "276هـ" 1- مختلف الحديث - ط. مصر 1326. 2- تأويل مشكل القرآن - تحقيق السيد أحمد صقر - مطبعة عيسى البابي الحلبي، 1954. 3- الشعر والشعراء - تحقيق أحمد محمد شاكر - مطبعة عيسى البابي الحلبي، 1364. 4- الميسر والقداح - تحقيق محب الدين الخطيب - السلفية سنة 1343. 5- المسائل والأجوبة في الحديث واللغة - مكتبة القدسي، سنة 1349. 6- المعارف - تصحيح الصاوي، المطبعة الرحمانية سنة 1935. 79- القفطي - الوزير جمال الدين، أبو الحسن، علي بن يوسف "646هـ" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 إنباه الرواة على أنباه النحاة - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، سنة 1955. 80- القلقشندي - أحمد بن علي بن أحمد "821هـ" صبح الأعشى. 81- قيس بن الخطيم ديوانه - ليبزج 1914. 82- لبيد بن ربيعة العامري ديوانه - فينا، 1880م. بريل، 1891م. 83- المبرد - أبو العباس، محمد بن يزيد "285هـ". 1- الفاضل - ط. دار الكتب "تحت الطبع". 2- الكامل - ط. ليبزج. 84- محمد أحمد الغمراوي النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي، السلفية، 1929. 85- محمد حميد الله الحيدر آبادي. مجموعة الوثائق السياسية - مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1941. 86- محمد الخضر حسين نقض كتاب في الشعر الجاهلي. 87- محمد الخضري محاضرات في بيان الأخطاء العلمية التاريخية التي اشتمل عليها كتاب في الشعر الجاهلي. 88- محمد فريد وجدي نقد كتاب الشعر الجاهلي. 89- محمد لطفي جمعة الشهاب الراصد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 90- المرتضى - الشريف المرتضي، علي بن الحسين "436هـ" أمالي المرتضى "غرر الفوائد ودرر القلائد" تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. الحلبي 1954. 91- المرزباني - أبو عبد الله، محمد بن عمران "384هـ" 1- الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء، السلفية 1343. 2- معجم الشعراء - تصحيح كرنكو، القدسي 1254. 92- المرزوقي - أبو علي، أحمد بن محمد بن الحسن "في القرن الخامس". 1- الأزمنة والأمكنة، ط. الهند 1332. 2- شرح ديوان الحماسة - نشر أحمد أمين وعبد السلام هارون، 1951. 93- المسعودي - أبو الحسن، علي بن الحسين "345هـ" 1- التنبيه والإشراف - تصحيح الصاوي - مصر 1938. 2- مروج الذهب - تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد - المكتبة التجارية - 1948 "الطبعة الثانية". 94- مصطفى صادق الرافعي 1- تاريخ آداب العرب - إخراج محمد سعيد العريان. 2- تحت راية القرآن، مصر 1926. 95- المفضل بن محمد الضبي المفضليات - تحقيق جيمس شارل ليال. المفضليات - تحقيق أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف. 96- المقريزي - تقي الدين أحمد بن علي "845هـ" إمتاع الأسماع - تصحيح محمود محمد شاكر - مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1941. 97- النابغة الذبياني ديوانه - التوضيح والبيان عن شعر نابغة ذبيان - مطبعة السعادة بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 98- ابن النديم - أبو الفرج، محمد بن إسحاق بن يعقوب "385هـ" كتاب الفهرست - المكتبة التجارية، مصر. 99- أبو نعيم - أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني "430هـ" حلية الأولياء، مصر 1932. 100- أبو نواس - الحسن بن هانئ "198" ديوانه - الطبعة الأولى بالمطبعة العمومية بمصر، 1898. 101- الواقدي - أبو عبد الله، محمد بن عمر "207هـ" مغازي رسول الله - جماعة نشر الكتب القديمة سنة 1948. 102- ولفنسون - إسرائيل ولفنسون "أبو ذؤيب" تاريخ اللغات السامية - الطبعة الأولى 1929. 103- هذيل 1- ديوان الهذليين - ط. دار الكتب. 2- شرح أشعار الهذليين - لندن 1854. 3- أشعار الهذليين ما بقي منها في النسخة اللغدونية غير مطبوع - برلين، 1884. 4- ديوان أبي ذؤيب - هانوفر 1926. 5- أشعار ساعدة بن جؤبة وأبي خراش - ليبزج سنة 1933. 104- ابن هشام - أبو محمد، عبد الملك بن هشام "218هـ" السيرة النبوية - تحقيق مصطفى السقا وآخرين - ط. مصطفى البابي الحلبي، 1936. السيرة النبوية - ط. بولاق. 105- الهمداني - أبو محمد، الحسن بن أحمد بن يعقوب، المعروف بابن الحائك "334هـ". صفة جزيرة العرب - بريل 1884. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 106- ياقوت - أبو عبد الله، ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي "626هـ". 1- معجم البلدان - الخانجي. 2- إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب - الرفاعي. 107- يوسف هوروفتس المغازي الأول ومؤلفوها - ترجمة حسن نصار، 1949 ب- المخطوطة: 108- امرؤ القيس 1- شرح ديوانه: تعليقة ابن النحاس - معهد إحياء المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية ميكروفيلم، رقم 143. 2- شرح ديوانه للطوسي - ميكروفيلم في معهد إحياء المخطوطات العربية، رقم 860. 3- شرح ديوانه للأعلم، مخطوطتان بدار الكتب، 450 تيمور و81 ش. 109- البصري - أبو القاسم، علي بن حمزة البصري "375هـ" التنبيهات على أغاليط الرواة - رقم "502 لغة" دار الكتب المصرية. 110- حسان بن ثابت ديوانه - ميكروفيلم في معهد إحياء المخطوطات العربية، رقم 302. 111- حمزة بن الحسن الأصفهاني "360هـ" التنبيه على حدوث التصحيف - مصورة فوتوغرافية بدار الكتب المصرية، رقم 896 أدب تيمور. 112- الخالديان - أبو عثمان، سعيد "350"؛ وأبو بكر محمد بن هاشم "380" حماسة الخالديين - مخطوط في دار الكتب رقم 587 أدب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 113- زهير بن أبي سلمى شرح ديوانه لثعلب عن أبي عمرو - ميكروفيلم في معهد إحياء المخطوطات العربية، رقم 822. 114- أبو الطيب اللغوي - عبد الواحد بن علي "351هـ" مراتب النحويين -مخطوط محفوظ بمكتبة أحمد تيمور -دار الكتب. حـ- الإنجليزية: 1. Abbot,Nabia - The Rise of The North Arabic Script ... , Chicago, I939. 2. Allen, Thomas W. - Homer: The Origins and TheTransmission, Oxford, I924. 3. Bowra C.M. - Tradition and Design in The Ilid,Oxford, I930. 4. Della, Vida, Giorgio Levy - Pre - Islsmic Arabia; The Arab Heritaga, New Jersy, I944. 5. Diodorus Siculus -History, William Heinemann, London. 6. Farmer, H.G. - History, of Arabian Music, Luzac, Lonodon, I929. 7. Geddes, W.D. - The Problem of The Homeric Poems, Lonodon. I878. 8. Grohmann, Adolf - From The World Of Arabic Papyri, Cairo, I952. 9. Hamidullah, M. - Some Inscriptions of Medinah of The Early Years of Hijrah; Islamic Culture, Vol. I3 No. 4, October I939. 10. Jebb, R.C. - Homer: Introduction To The Iliad and The Odyssey, Glasgo, I894. 11. Krenkow - The Use of Writing For The Presrvation of Ancient Arabic Poetry; A Volume of Oriental Studies to E.G. Browne, Edited By J.W. Arnold. 12. Margoliouth, D.S. - The Origins of Arabic Poetry; JRAS, July I925 P. 4I7-449. 13. Miles, G.C. - Early Islamic Inscriptions Near Ta,if in The Hijaz, JNES, Vol. 7, I948. 14. O,Leary, De Lacy - Arabic Before Mohammad, I927. 15. Olinder, Gunnar - kings of Kinda. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 الفهارس فهرس الأعلام ... فهرس الأعلام: آدم - 24، 355، 366، أجا ممنون - 312 379، 465، 601، الأحابن= بنو الحبناء آشور - 12 الأحباش - 12 الآمدي - 264، 469، الأحلاف - 251، 329 519، 543، 544، 545، أحمد بن حاتم الباهلي "أبو نصر"- 549، 551، 555 491؛ 492، 501، أبان بن تغلب -240 518، 528، 532، أبان بن عثمان - 149، 151 533، 534، 538، أبان العطار - 182 566، 567، 568 إبراهيم الخليل - 337، 618 أحمد بن الحارث الحراز - 368 إبراهيم بن عبد الله - 175، أحمد بن حنبل 144، 146، 589، 590، 591 148 إبراهيم بن متمم - 235 أحمد بن عبيد الله بن ناضح "أبو إبراهيم النخعي - 136، 138، جعفر" - 574، 575، 576 256، 391، 432 أحمد بن عبيد الله بن عمار - أبرهة بن الصباح -66 194 الأبيرد -580 أحمد بن محمد بن إسماعيل "أبو أبي بن خلف الجمحي - 115، جعفر" - 497 127 أحمد بن محمد الجراح "أبو بكر" أبي بن زيد - 130 574 أبي بن كعب - 34، 66، 85 أحمد محمد شاكر - 577، 578 الأثرم - 532 أحمد بن محمد بن شجاع "أبو أثينا "الإلهة" - 311 أيوب" – 173 الأثينيون - 308 أحمد بن محمد بن عاصم الحلواني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 "أبو بكر" - 564، بنو الأزد - 153، 543، 545 569، 570 أبو الأزهر - 78 أحمد بن محمد النحاس = أزواج النبي - 90 أبو جعفر النحاس ابن الأزور - 235 أحمد بن يحيى = ثعلب أسامة "صاحب روح بن أبي أحمر بن جندل - 130 همام" - 333، 609 ابن أحمر - 499، 524، 549 أسامة بن الحارث - 570 الأحمري - 446 أبو أسامة = معاوية بن زهير بن الأحوص - 238 قيس الأخطل - 204، 371، إسحاق بن إبراهيم الموصلي - 373 242، 547 الأخفش "علي بن سليمان، إسحاق بن العباس الهاشمي- أبو الحسن" - 176، 477 454، 498، 566، إسحاق بن مرار = أبو عمرو الشيباني 567، 568، 575 576، 577، 594 الأخنس بن شهاب - 77، ابن إسحاق "محمد بن إسحاق" - 150 101 247، 248، 335، الأخوص - 580 336، 337، 338 أخيل - 298، 299 339، 340، 341 إدوارد براونلش - 412 342، 343، 344 أرخيلوخوس - 304 345، 346، 348 أرستارخ - 314، 315، 316 359، 379، 390 أرستوفان - 314 392، 474، 475 أرستونيح - 315، 316 599، 600، 601 أرطاة بن سهية - 273 602، 603، 604 أركتينوس - 304 605، 630 أروى بنت عبد المطلب - 342 أبو إسحاق - 333، 609 ابن أبي إسحاق الحضرمي - 436 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 بنو أسد - 201، 229، 250 بنو أشجع - 543، 546 251، 329، 343، أصحاب الشجرة - 430 396، 543، 545 الأصمعي "عبد الملك بن قريب 552، 553، 580، أبو سعيد" - 80، 99، 612 155، 170، 172، بنو إسرائيل - 73 173، 176، 177، إسفنديار - 52 178، 197، 223، الإسكندريون - 313، 315 236، 240، 242، بنو أسلم - 8، 543 243، 252، 253، أسلم بن سدرة - 37 258، 260، 268، أسماء - 531، 539 272، 275، 326، أسماء بن خارجة الفزاري - 269 327، 328، 332، أسماء بنت أبي بكر - 210، 350، 351، 359، 261 428، 435، 440، أسماء بنت مخربة - 69 445 - 448 ، 452، إسماعيل "عليه السلام" - 454، 455، 457، 24، 214، 355، 461 - 464 ، 471، 601 477، 485، 487، إسماعيل بن إسحاق القاضي - 489، 493، 495، 609 499-524 ، 526، إسماعيل بن عبد الرحمن=السدي 527، 528، 533، إسماعيل بن عبد الله السكري- 535-542 ، 547، 267 555، 562، 563، إسماعيل بن يسار - 406، 426 565-572 ، 575- الأسود - 250، 251، 329 582، 587، 597، الأسود بن سريع التميمي - 246 633 الأسود بن يعفر - 82، 338، الأعاجم - 80، 82، 406 348، 437، 449 الأعراب - 5، 8، 9، 10، أبو الأسود الدؤلي - 35-36، 47 47، 58، 116، 117، أسيد بن أبي العيص - 76 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 128، 143، 155، الأعرج = عبد الرحمن بن هرمز 156، 173، 192، الأعشى "ميمون بن قيس، 193، 200، 252، أبو بصير" - 65، 70، 258، 268، 270، 76، 81، 110، 177، 271، 274، 275، 178، 187، 199، 367، 372، 373، 204، 214، 224، 375، 395، 434، 230، 238، 239، 435، 440، 446، 240، 262، 263، 447، 463، 477، 264، 265، 270، 482، 483، 484، 324، 334، 338، 507، 508، 509، 361، 373، 380، 512، 537، 544، 387، 399، 400 557، 579، 617، الأعشى بن زرارة بن النباش - 629 338 ابن الأعرابي "محمد بن زياد، أبو الأعشيان - 229 عبد الله" - 113، 124، بنو أعصر - 543، 553 172، 173، 177، الأعلم الشنتمري "يوسف بن 192، 193، 252، سليمان، أبو الحجاج" - 268، 359، 368، 39، 92، 485، 487، 435، 440، 448، 491، 492، 502، 462، 463، 487، 507، 509، 515، 490-493 ، 496، 516، 522، 523، 500، 511، 513، 526-530 ، 535، 514، 516، 517، 539، 540، 541 519، 521، 525، أعين الطبيب - 191 527، 547، 556، الإغريق - 59، 60، 289، 565-569 ، 570، 290، 297، 301، 573، 574، 576، 304، 306، 356، 598 الأغلب - 327، 350، الأعرج = سلمة بن دينار 477، 549 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 أفروديت - 311 512-516 ، 518، أفلاطون - 311، 312 521، 522، 524، أفلح "مول أبي أيوب الأنصاري" 526، 527، 537، - 74 538، 579، 597، الأفوه الأودي - 214، 334، 632 610 امرؤ القيس بن عابس - 270 الأقرع بن حابس - 220 امرؤ القيس بن عمرو- 27، أكثم بن صيفي - 166 162 إكزينوفان - 311 امرؤ القيس بن مالك الحميري أكيدر بن عبد الملك السكوني - - 469، 519 50 آل امرئ القيس - 541 الألمان - 292، 318 الأموي - 446 امرؤ القيس بن بكر "الذائد" الأمويون - 141، 154، - 119، 622 170، 422 امرؤ القيس بن حجر - 64، أمير المؤمنين = علي بن أبي 72، 75، 79، 83، طالب 96، 169، 174، أميمة - 528 197، 208، 227، أميمة بنت عبد المطلب - 342 228، 230، 243، الأميون - 7، 44، 45 265، 269، 281، أمية بن خلف - 67 326، 327، 329، أمية بن أبي الصلت - 51، 330، 355، 362، 73، 95، 99، 116، 373، 380-382، 197، 213، 214، 335، 387، 338، 230، 232، 324، 389، 395-397، 328، 337، 338، 407، 409، 420، 340، 343، 344، 440، 443، 446، 387، 423، 424، 447، 469، 475، 475، 476، 610 485-492 ، 493- أمية بن عبد شمس - 218، 497، 499-510 322 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 بنو أمية - 89، 158، 167، بنو أنف الناقة - 110 196، 197، 201، أنيس "أخو أبي ذر الغفاري" - 204، 227، 235، 49 245، 392، 430، أهرن بن أعين القس - 142 445، 450، 474، أهل الكتاب - 7، 45، 55، 558 56، 61-64، 79، أبو أمبة بن المغيرة - 72 92، 140 أناكساجوراس - 311 أهلوارد - 494، 495، ابن الأنباري "أبو البركات" - 257 504، 505 ابن الأنباري "أبو محمد، القاسم أوديسوس - 297 ابن محمد" - 574، الأوربيون - 11، 287، 575، 576 630 ابن الأنباري "أبو بكر، محمد بن أورفيوس - 302 القاسم" - 152، 435، أورليان - 13 526، 527، 574، الأوس - 5، 50، 51، 576 199، 421، 548، الأنباط - 11، 13 618 أنتماخ الكلاري - 313 آل أوس - 229 الأندلسي - 378 أوس بن أبي سلمى - 534 أنس بن زنيم - 332 أوس بن حجر - 176، 222 أنس بن سعد - 132 223، 224، 226، أنس بن مالك - 74، 144، 333، 402، 475، 145، 147، 211، 610 256 الأوسية - 216 الأنصار - 69، 94، 125، أم أوفى - 328، 538 127، 157، 158، أولندر - 162 206، 209، 329، أوليري - 12 344، 388، 406، بنو إياد - 6، 114، 133، 422، 509، 558، 559 216، 543، 549، 553 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 أيمن بن خريم - 273 أبو البركات= ابن الأنباري أيوب "النبي" - 167 بروكلمان - 376 أيوب السختياني - 139 برونابيدس - 302 أبو أيوب = أحمد بن محمد بن بسطام بن قيس - 269، 272 شجاع أبو بسطام = شعبة بن الحجاج أبو أيوب الأنصاري - 73، 74 البسوس - 396 إيومين الثاني - 316 بشر بن أبي خازم - 49، إيون - 312 160، 163، 164، ب 229، 333، 334، البابليون - 60 512، 517، 559، بنو باهلة - 543، 597 560، 561، 596، الباهلي - 566، 567 610 باروا "سيسيل موريس" - بشر بن عبد الملك السكوني - 288، 306، 307، 50 308، 309 بشر بن مروان - 273 باوزان - 312 بشر بن كعب - 168 بجير بن زهير - 115، 126، بشر بن نهيك - 145 127، 327 ابن بشير -117 بنو بجيلة - 543، 546، 552 البصريون - 378، 433، بحير - 139 434، 435، 436، البخاري - 146 437، 446، 456، بنو بدر - 549 457، 466، 471، البراء - 93، 98 492، 495، 496، البراجم - 250، 519 497، 498، 491، أبو بردة بن أبي موسى الأشعري - 500، 510، 511، 452 512، 513، 527، برة بنت عبد المطلب 342 532، 535، 631 برزخ بن محمد العروضي 281 أبو بصير = الأعشى البطحاويون = قريش البطاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 البغدادي= عبد القادر البغدادي 442، 444، 473، بغيض بن عامر - 111 476 بقية - 139 بنو بلي - 157، 217، 543، أبو بكر = أحمد بن محمد الجراح 553، 558 أبو بكر = أحمد بن محمد بن عاصم بنتلي - 293 أبو بكر = ابن الأنباري بندار الكرخي "أبو عمرو" - أبو بكر = ابن دريد 574 أبو بكر = عاصم بن أيوب البهاء بن النحاس - 498، أبو بكر = محمد بن عبد الغني 499 أبو بكر الصديق - 8، 51، 85، بهاء الدين أبو العباس أحمد - 87، 92، 99، 189، 497 209، 211، 219، بوزانياس - 310 220، 325، 341، بولان - 37 603 بوليبيوس - 312 أبو بكر الصولي - 117 بيزيزتراتوس - 302، 303، أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة - 308 183 بيكر - 150 أبو بكر العبدي - 574 أبو بكر بن العربي 34، 35، 36 أبو بكر بن قيس الجعفي - 233 ت أبو بكر الهلالي - 270 تأبط شرًّا - 268، 453، أخو بكر - 217 458، 459، 460، بنو بكر - 6، 65، 69، 110 461، 565، 566، 131، 203، 231، 610 265، 398، 548، ابن أخت تأبط شرًّا - 452، 618 453، 458، 459، بكار بن محمد - 74 460 البلاذري - 50 التابعون - 140، 144، 146، بلال بن أبي بردة - 226، 147، 148، 156، 349، 370، 441، 159، 256، 259، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 432، 433 ثعلب "أبو العباس، أحمد بن تبان أسعد - 339 يحيى" - 170، 180، تبع - 153، 390 193، 252، 435، 528، التبريزي - 80، 458، 508، 530، 532، 533، 538، 536، 583، 588 539، 540، 541، 542، تراجان - 13 557، 575، 576 بنو تغلب - 6، 65، 110، بنو ثعلبة - 273 114، 129، 188، ثعلبة بن سعد بن ذبيان - 602 231، 232، 272، ثعلبة بن كعب الأوسي - 233 396، 398، 543، بنو ثقيف - 6، 50، 53، 68، 545، 546، 547، 153، 157، 164، 232، 556، 618 271، 508، 549، 558، أبو تمام - 174، 458، 582، ثمامة بن الوليد - 232، 233 583، 584، 588، ثمود - 11، 14، 15، 247، 589، 591، 632 248، 336، 346، 390، تميم بن أبي بن مقبل - 94، 419، 601 198، 206، 237، 244 بنو ثور - 430 بنو تميم - 131، 163، 164، 188، الثوري - 437 227، 270، 375، 376، ثوسيديد - 311، 312 408، 421، 541، 546، ثياجن الريجيومي - 311 559، 560، 561 التوءم اليشكري - 507، 521 ج التوزي - 492 جابر بن زيد "أبو الشعثاء" - بنو تيم - 110، 111 136، 180 تيمور - 504 الجاحظ - 42، 65، 81، ث 109، 117، 118، 193، ثابت قطنة - 217 216، 229، 274، 331، ثابت بن قيس بن شماس - 211 332، 333، 379، 393، بنو ثعل - 243، 518، 523 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 453، 457، 469، 470، جرير بن عطية - 155، 548، 606، 607، 608، 191، 192، 204، 227، 609، 610، 611، 612، 622 230، 238، 241، 242، جاهمة - 553 272، 371، 373، 376، جب "المستشرق الإنجليزي" - 536، 628 162 ابن الجزري - 35، 36 جب - 295، 296، 297، بنو جشم - 8 303، 306، 312، 376 جشم بن الخزرج - 327، جبريل - 212 351 جبلة بن الأيهم الغساني - 262 أبو جعفر = أحمد بن عبيد بن جبير بن مطعم - 219 ناصح الجحاف بن حكيم السلمي - أبو جعفر = أحمد بن محمد بن 604 إسماعيل جحدر بن ضبيعة - 198 أبو جعفر = الطبري جديس "وليم" - 247، 296، أبو جعفر = محمد بن الليث 299، 300 الأصفهاني بنو جديلة - 232 جعفر بن أبي جعفر المنصور - 445 جذام - 249، 250 جعفر بن أبي طالب -204 بنو جذيمة - 604، 605 بنو جعفر - 191، 209، 228 جران العود - 496 أبو جعفر المنصور - 590 بنو جرم - 543، 554 أبو جعفر بن النحاس "أحمد بن الجرمي - 177 محمد" - 169، 170، جرهم - 217 486، 487، 488، 492، جروت - 299 499، 496، 497، 498، جرول = الحطيئة 499، 500، 511، 515، ابن جريج - 182، 183، 256 516، 517، 518، 519، ابن جرير = الطبري 520، 521، 522، 523، جرير بن عبد الله البجلي - 524، 525، 595 265، 605 الجعفري - 160، 229 بنو جعفي - 234، 543 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 ابن جعل التغلبي - 544 أبو الجويرية العبدي - 534 آل جفنة - 128 جفينة - 50 ح ابن جلجل - 141 أبو حاتم السجستاني "سهل بن جليلة بن كعب - 233 محمد" - 37، 157، جليلة بنت مرة - 361 173، 174، 176، 178، الجمحي - 270 181، 233، 252، 267، جميل بن معمر العذري - 223، 271، 328، 331، 332، 238 435، 440، 446، 452، جناد بن واصل - 157، 158، 454، 464، 477، 487، 281، 359، 437، 508، 491، 492، 494، 500، 557 502، 505، 506، 507، أبو جندب - 566، 567 509، 513، 527، 528، أم جندب - 515 529 جندل بن المثنى الطهوي - 138 حاتم الطائي - 78، 101، ابن جني "أبو الفتح، عثمان" - 201، 230، 232، 119، 428، 437، 464، 235 563، 622 حاجب بن زرارة - 437، الجهشياري - 52 الحارث الأعور - 135 أبو جهل - 67، 69، 341 الحارث بن البرصاء - 550 أبو جهم بن حذيفة - 220 الحارث بن بكر الذبياني -550 بنو جهينة - 6، 7، 543، 554 الحارث بن حلزة - 65، 81، الجواليقي - 239، 240، 171، 177، 328، 564، 569 362، 385، 398 جوته - 319 الحارث بن خالد بن العاصي- جولدتسيهر - 560 156 جودفري كوزجارتن - 563 الحارث بن أبي شمر الغساني - جورجيوليفي دلافيدا - 374، 630 72، 166، 266 جويدي - 384 72، 166، 266 جويرية - 264، 265 الحارث بن ظالم - 67، 340 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 الحارث بن عباد - 326 الحجازيون - 432 الحارث بن عمرو - 266، حجر - 525 326، 486، 490، 503، بنو حجر بن عمرو - 525 507، 520، 521 حجل - 580 الحارث بن كلدة - 132 حجية بن المضرب الكندي - الحارث بن مارية - 72، 129 210 الحارث بن مطرف - 580 حذيفة بن بدر - 227، 549 الحارث بن معاذ - 125، 126 حرب بن أمية - 220 الحارث بن هشام - 341، أبو الحر - 264 342 بنو الحر - 546 بنو الحارث - 126، 233، حرمل - 132 543، 546، 549، حرملة بن سعد - 114 550، 554 حرملة بن عسلة - 545، 550 حارثة بن بدر الغداني - 330 حريز بن نشبة العدوي - 612 حارثة بن عبيد الكلبي - 234 أبو حزام العكلي - 327 الحارثي - 230 بنو حزم - 165 حاطب بن أبي بلتعة - 71 حزن بن رزاح - 72 بنو الحبناء "الأحابن" - 217 حسان بن ثابت - 49، 90، ابن حبيب = محمد بن حبيب 91، 125، 158، 205، حبيب الأعلم - 566 206، 209، 220، 229، حبيب بن أبي ثابت - 430 230، 261، 262، 338، حبيب بت شوذب - 580 341، 342، 345، 348، حبيب بن عبد الله الهذلي - 613 378، 470، 496، 559، ابن أبي حبيبة = 249 562 أبو الحجاج = الأعلم الشنتمري أبو الحسن = الأخفش أبو الحجاج = يوسف بن فضالة أبو الحسن = الطوسي الحجاج بن ذي الرقيبة 536 أبو الحسن = علي بن عيسى الرماني، الحجاج بن يوسف - 37، 38، الحسن البصري - 90، 136، 50، 138، 197، 198، 146، 148، 180، 199، 273 204، 430 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 الحسن بن الحسين = السكري حمزة بن الحسن الأصفهاني - الحسن بن علي - 324 178 الحسين "رواية جرير" - حمزة بن عبد المطلب - 341 191، 238 حمل بن بدر - 549 الحسين بن أحمد الفزاري "أبو حماد الرواية - 117، 155- عبد الله" - 556 158، 161، 162، حسين الخادم - 369، 435، 164، 169-171، 443 226، 240، 252، 258, ابنة الحصاء – 525 266، 268، 270، 276، حصن بن بدر - 549 281، 346، 349، 359، حصن بن حذيفة - 199، 360، 368-372، 201 379، 394، 418، 419، حطان بن عوف - 78 427، 428، 437- الحطيئة "أبو مليكة، جرول" - 451، 456، 457، 462، 43، 47، 73، 110 471، 473، 476، 477، 111، 119، 173، 176 507-509 ، 530، 189، 202، 206، 223 532، 535، 545، 555، 229، 230، 266، 267 557، 558، 559، 270، 325، 349، 402 629، 631 441، 448، 449، 473 حماد بن بشر النسابة - 217 496، 505، 524، 536 حماد بن ربيعة بن النمر - 236 أبو حفص = عمر بن لجإ حماد بن سلمة - 256 حفضة بنت عمر - 56، 90 حماد بن أبي سليمان - 256 الحكم بن عبدل - 84 حميد الأرقط - 611 أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب حميد بن ثور - 100، 189، -342 611 الحلواني = أحمد بن محمد بن عاصم الحمدي - 564، 569 بنو الحماس - 126، 230 حمير - 11، 66، 249، 384، حمران "مولى عثمان بن عفان" - 51 390، 409، 416، 417، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 419، 469، 474، 543 حنظلة بن أبي سفيان - 71 ابن الحنيفة - 90 أبو حيفة "النعمان بن ثابت" - 257، 432، 473 أبو حنيفة الدينوري - 66 بنو حنيفة - 6، 543، 546، 548 الحنيفية - 337، 391 الحواريون - 361 حويطب بن عبد العزى - 74 أبو حية النميري - 47 حيدة - 273 خ خالد بن عبد العزى - 339 خالد بن عبد الله القسري - 150، 154، 250 خالد بن عرفطة - 55، 62 خالد بن كلثوم - 253، 437، 485، 548، 555 خالد بن معدان - 139 خالد بن الهياج - 158 خالد بن الوليد - 51، 72، 91، 149 خالد بن يزيد بن معاوية - 141 الخالديان - 460 خبيب بن عدي - 342 بنو خثعم - 543 خراش - 234 خراش بن إسماعيل - 232 أبو خراش الهذلي - 338، 570، 613 أبو أبو خراشة = خفاف بن ندية بنو خزاعة -8، 66، 171، 233، 543، 552 الخزرج - 5، 51، 66، 199، 421، 548، 618 خزز بن لوذان - 64، 123 أبو الخطاب الأخفش - 593، 596 الخطاب بن نفيل - 219، 220 الخطفي = حذيفة بن بدر الخطيب البغدادي - 58، 143 خفاف بن عبد قيس البرجمي - 611 خفاف بن ندبة - 611 خلف الأحمر "أبو محرز" - 174، 177، 181، 242، 252، 258، 268، 331، 338، 343، 346، 348، 359، 370، 371، 372، 379، 394، 409، 427، 438، 441، 444، 449-462، 466-468، 471، 474، 475، 477، 580، 629، 631 الخلفاء الراشدون - 32، 204، 220 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 خلاد بن قرة السدوسي - 338 خلاد بن محمد - 158، 559 خلاد بن يزيد الباهلي - 346، 456، 466، 467 ابن خلكان - 370 أبو خليفة "الفضل بن الحباب" - 183، 184، 349، 473 الخليل بن أحمد - 47، 180، 593، 594 الخوارج - 328 خوات بن جبير الأنصاري - 539 أبو خيثمة - 604 ابن خير الأموي - 505 د داحس "اسم فرس" - 268 بنو دارم - 228، 265، 519 دانيال - 55، 62، 63، 100، 140 داود "النبي" - 97 ابن داود بن متمم - 236، 347، 467 أبو داود = عبد الرحمن بن هرمز درهم بن زيد الأوسي - 66 ابن دريد "أبو بكر، محمد بن الحسن" - 271، 452، 454، 455، 488، 489، 491، 492، 497، 498، 499، 500، 505، 524، 564 دريد بن الصمة - 469 دعد - 236 دغفل النسابة - 160، 162، 217، 218، 322 دماذ "رفيع بن سليمة" - 264 ابن دؤاد - 103 أبو دؤاد الإيادي - 200، 202، 229، 230، 330، 331، 452، 455، 457، 515 ديدم - 315، 316 دي سلان - 504 دي فوج - 27 ديكارت - 403، 404، 406 ديودور الصقلي - 9، 302، 312 ديونيس - 302 ذ الذائد = امرؤ القيس بن بكر الكندي بنو ذبيان - 201 أبو ذر الغفاري - 49 ذكوان "أبو عمرو بن أمية" - 218، 322 بنو ذهل -543، 546، 552 ذو الإصبع العدواني - 200، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 203، 232، 236، 261، 363 ذو الأهدام - 228 ذو الرمة - 117، 226، 238، 242، 370، 371، 373، 442، 444، 476، 507، 521 ذو القروح "امرؤ القيس" - 229 أبو ذؤيب الهذلي - 39، 69، 91، 94، 96، 99، 101، 122، 123، 173، 224، 230، 566، 596، 611، 613، ر الراعي 226، 234 أبو رافع - 84 رافع بن خديج - 78 بنو الرباب - 191، 250، 543، 545 ربعي بن خراش - 349 الربعيون - 398، 400 ربيع - 523 الربيع بن أبي الحقيق - 151 الربيع بن خثيم - 430 الربيع بن زياد العيسى - 115، 128، 161 ربيعة بن جشم - 326، 330، 508، 522 أخو ربيعة = دغفل النسابة بنو ربيعة - 380، 385، 398، 399، 400، 546، 598 بنو ربيعة بن حنظلة - 238 بنو ربيعة بن ذهل - 543، 552 بنو ربيعة بن مالك "ربيعة الجوع" - 66، 238 الربيع بنت معوذ - 69 أبو رجاء العطاردي - 272 رزاح بن ربيعة - 72 رسم السنديد - 52 رسول الله = محمد بن عبد الله ابن رشيق - 585، 586، 588 رفيع بن سلمة "أبو غسان"= دماذ الرماني - علي بن عيسى رؤية بن العجاج - 204، 225، 226، 265 روح بن عبادة - 260 روح بن أبي همام - 333، 609 أبو روق - 332 الروم - 16، 194، 196، 221، 382، 391، 414، 618، 627 الرومان - 9، 12، 13، 16 بنو رياح - 580 الرياشي "العباس بن الفرج" - 177، 2، 240، 78 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 434، 440، 446، 454، 475، 492، 494، 565، 569، 570، 571 ز الزباء - 201 الزبرقان بن بدر - 73، 99، 111، 112، 115، 206، 341 أبو زبيد الطائي - 205 آل الزبير - 406 الزبير بن بكار - 262 الزبير بن عبد المطلب - 456، 468 الزجاج - 498، 564 زرارة - 549 زر بن حبيش - 154 أبو زرعة - 180 الزمخشري "أبو عمر" - 35، 36، 49، 80، 99، 126، 425 زمعة بن الأسود - 343 أبو الزناد - 151 ابن أبي الزناد "عبد الرحمن" - 154، 183، 237، 249 الزهري = ابن شهاب الزهري زهير بن جناب - 72، 233 زهير بن أبي سلمى - 79، 87، 95، 119، 127، 169، 174، 187، 206-208، 222، 233، 224، 227، 229، 242، 323، 328، 331، 350، 369، 370، 373، 385، 387، 402، 406، 439، 485، 502، 526-533، 535-538، 541، 542، 632 الزوزني - 81 زياد - 117 زياد بن أبيه - 201، 204 زياد الأعجم - 217 زياد بن علاقة التغلبي - 269 الزيادي - 492 زيد بن أخزم - 103 زيد بن ثابت - 34، 37، 55، 83، 85، 87، 159، 323 زيد بن عمرو بن نفيل - 210، 337 زيد بن الكيس النسابة - 217 زيد بني هلال = زيد بن الكيس النسابة أبو زيد = عمر بن شبة أبو زيد الأنصاري = 177، 258، 260، 268، 339، 428، 434، 435، 446، 453، 464، 511، 532، 536، 537، 597 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 أبو زيد القرشي "محمد بن أبي الخطاب" - 92، 584، 585، 586، 587، 588، زيداء بنت جرير - 227 زينب - 90 زينودوت - 314، 315 زيوس - 289، 311 س ساعدة بن جؤية - 224، 570 ساعدة بن العجلان - 566 ساكسو جراماتيكس - 375 سالم - 198 سالم بن عبد الله بن عمر - 432 سالم بن واصبة - 612 سامة بن لؤي - 602 الساميون - 13 السائب بن ذكوان - 238 سايس - 11 سبأ - 11، 13، 14، 419، 475 بنو سبيع - 533 سبيعة بنت الحب - 344 ستاسينوس - 304 سترابو - 312 سجاج - 327، 350 سحيم بن وثيل - 580 السدي "إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة" - 148 السدري - 575 ابن السراج - 564 سراقة البارقي - 230، 628 سركيس - 587 السريان - 167 سعاد - 525 أبو السعادات = ابن الشجري ابن سعد - 42، 49، 50، 78، 147، 242 سعد بن سعد بن مالك - 83 سعد بن سيل - 605 سعد بن مالك - 114 بنو سعد - 543، 553، 595 سعد بن أبي وقاص - 50، 322، 341 سعدان بن المضر - 210 سعيد بن أوس = أبو زيد الأنصاري سعيد بن جبير - 80، 83، 93، 146، 148، 158، 183 سعيد بن زرارة - 261 سعيد بن سلم الباهلي - 463 سعيد بن العاص - 79، 201، 202 سعيد بن عمرو بن سعيد - 266 سعيد بن المسيب - 180، 219، 256 أبو سعيد = الأصمعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 أبو سعيد = الحسن البصري أبو سعيد = السكري أبو سعيد الضرير - 589 بنو سعيد - 543 سعية بن غريض - 235، 266 سفيان - 103 سفيان الثوري - 180 سفيان بن عيينة - 37 أبو سفيان بن الحارث - 336، 345، 348، 350، 601 أبو سفيان بن حرب - 71، 76، 84، 86، 115، 127، 149، 214 آل أبي سفيان - 86 سقراط - 312 السكري "أبو سعيد، الحسن بن الحسين" - 170، 193، 252، 264، 448، 485، 492، 494، 495، 496، 500، 511، 515، 527، 536، 545، 547، 556، 568، 562-565، 567، 569-571، 581 ابن السكيت "يعقوب بن إسحاق" - 81، 174، 485، 492، 494، 526، 527، 592 السكون - 544، 554 سلامة بن جندل - 82، 95، 99، 101، 130 سلكان بن سلامة "أبو ناثلة" - 251 ابن سلام الجمحي "محمد" - 159، 161، 162، 180، 183، 184، 194-196، 206، 221، 236، 248، 252، 253، 268، 335، 336، 345، 347، 349-351، 378، 388، 490، 392، 409، 414، 419، 437، 441، 444، 448، 449، 453، 455، 456، 462، 467، 468، 470، 473-475، 541، 600، 601، 627، 629، 630 سلمة بن دينار "الأعرج" - 136، 137 آل سلمة - 589، 591 أبو سلمة - 205 أم سلمة "أم المؤمنين" - 72 سلمى - 490، 518، 522، 530، 538، 539، 590، 604 أبو سلمى "والد زهير" - 127، 229، 230 بنو سلول - 597 سليط بن سعد بن معدان - 269 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 سليم بن أسود "أبو الشعثاء" - 136 سليم بن قيس الهلالي - 146 بنو سليم - 8، 543، 552 سليمان "النبي" - 73 سليمان بن يسار -180 سليمي - 515 سماك بن حرب - 240، 263، 270، 572 سماك العكرمي - 216 أبو سمال الأسدي - 249 سمرة - 180 السمسمي "أبو الحسن، علي بن عبيد الله" 564، 569 السموءل بن عادياه - 64، 72، 235، 392 سمير بن أبي خازم - 49 بنو سنان - 562 أم سنبلة الأسلمية - 8 سمار - 129 سنيكا - 300 سهل بن رزاح - 72 سهل بن محمد = أبو حاتم السجستاني أبو سهل بن يونس بن أحمد الحراني - 505 سهيل بن عمرو - 71 سوادة بن أبي خازم - 49 سويد بن الصامت - 62، 63، 115، 140، 169 سويداس - 293 سيبويه - 592، 598 بنو السيد - 273 ابن السيد البطليوسي - 38، 39، 97، 100، 103 السيرافي - 564 سيرين - 74 ابن سيرين - 103، 256 سيف بن ذي يزن الحميري - 338 سيموند السيوسي - 311 سيناثيوس - 308 السيوطي - 178، 257، 585 أبو سيارة = عميلة بن الأعزل ش شأس ين زهير - 269 أبو شأس - 188 الشافعي - 86، 173، 257، 562، 563 شبة بن عقال - 228 شتيم بن خويلد - 82، 99 ابن الشجري "أبو السعادات" - 564 شراحيل بن عبد العزى - 129 شرحبيل بن الحارث - 228 شريح بن أوس - 333، 610 شريح بن الحارث - 116 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 شريح بن هانئ - 233، 273 الشريد بن سويد الثقفي - 213، 232 الشريف المرتضى - 271 أم شريك - 237 شرية بن عبد - 233 شعبة بن الحجاج - 139، 156، 240، 259، 260، 270، 572 الشعبي - 199، 203، 349 أبو الشعثاء = جابر بن زيد أبو الشعثاء = سليم بن أسود الشعوبية - 393، 406، 426، 606 الشفاء بنت عبد الله - 56 شكيب أرسلان - 403 شملة بن مغيث - 234 الشماخ بن ضرار - 102، 410، 596 شمويل - 129 الشنفرى - 173، 452، 455، 458، 460، 461 شنين - 523 شهاب - 525 ابن شهاب الزهري - 80، 93، 137، 138، 150، 154، 165، 325، 432، 599، 600 بنو شيبان - 217، 544، 546، 550، 553، 556 بنو شيبة - 211 شيخو "الأب لويس" - 360، 361 الشيعة - 146 ص أبو صالح - 216 صبح "غلام حويطب بن عبد العزى" - 74 صبيح = صبح الصحابة - 35، 43، 44، 46-48، 58، 75، 78، 85، 91، 93، 94، 97، 98، 131، 140، 143، 146، 148، 150، 158، 160، 168، 204، 205، 210، 211، 214، 220، 246، 259، 261، 322، 344، 364، 366، 388، 430، 431، 433، 624، 628 صحار بن عياش العبدي - 168 صخر الغي الهذلي - 567، 568 صدام "اسم فرس" - 70 صرمة بن أبي أنس الأنصاري - 328، 332، 530 صعصعة بن محمود - 130 صعصعة بن معاوية السعدي - 330 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 صعوداء "محمد بن هبيرة الأسدي" - 526، 527 صفوان بن أمية - 71 صفوان بن عاصم - 269 صفوان بنت عبد المطلب - 342 أبو الصلت بن أبي ربيعة - 337، 340، 474، 475 صولون - 308 الصولي - 97، 138، 279، 460 بنو الصيداء - 527 الصينيون - 88، 89 ض بنو الضباب - 546 ابن ضبة - 160 بنو ضبة - 544، 546 بنو ضبيعة - 132، 544، 553 الضحاك بن مزاحم - 141 ضرار بن الخطاب - 158، 341، 559 ط أبو طالب "عم رسول الله" - 159، 340، 350 أبو طالب = المفضل بن سلمة الطبر "ابن جرير" - 45، 50، 51، 148، 149، 161، 162، 182، 425، 443 ابن الطرامة - 231 طرقة بن العبد - 39، 77، 92، 212، 224، 227، 253، 347، 381، 385، 398، 443، 476، 502، 580، 595، 597 ابن أبي طرفة الهذلي - 268، 275، 565، 569، 570، 572 الطرماح بن جهم السنبسي - 552 الطرماح بن حكيم - 225 طريف بن مالك - 520 طسم - 247 طفيل الغنوي "المحبر" - 120 أبو طفيلة - 268، 272 طلحة بن عبيد الله بن عثمان - 126، 160 طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي - 233 أبو الطمحان القيني - 98، 131، 231 طه حسين - 222، 292، 379-381، 384، 386-389، 395، 403-405، 407-415، 417، 419-424، 426، 427، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 630، 631 بنو طهية - 544، 553 الطوسي "أبو الحسن، علي بن عبد الله بن سنان" - 124، 486، 487، 490، 491، 493، 495، 498، 500-502، 506، 507، 515-521، 524، 525-527، 556، 574 بنو طيئ - 323، 233، 544، 546، 552 أبو الطيب اللغوي - 434، 437، 440، 441، 463، 511 ظ الظواهر = قريش الظواهر ع عاتكة بنت عبد المطلب - 67، 432 عاد - 14، 15، 133، 217، 247، 248، 336، 346، 390، 419، 601 عاصم الأحول - 256 عاصم بن أيوب "الوزير أبو بكر" - 79، 485، 502، 503، 505، 522، 524، 525 عاصم بن عبد الله - 269 عافية بن شبيب - 575 أبو العالية الأنطاكي - 575 عامر - 176 بنو عامر - 250، 475 عامر التغلبي - 198 عامر بن جدرة - 37 بنو عامر بن صعصعة 544 عامر بن الظرب - 165، 203، 271 عامر بن عبد الملك المسمعي - 197، 326 عامر بن العجلان - 568 بنو عامر بن عقيل - 131 عامر بن عمران = أبو عكرمة الضبي ابنة العامري - 326، 522 عاملة - 249 عائشة بنت أبي بكر "أم المؤمنين" - 8، 145، 210، 212، 261، 324، 325، 410 ابن عائشة - 278 العائشي - 206 العباديون - 239، 263، 595 عباد بن بشر - 248 العباس بن بكار - 175، 590 العباس بن عبد المطلب - 67، 71 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 أبو العباس بن الفرات - 278 العباس بن الفرج = الرياشي العباس بن مرداس - 78، 343، 349، 473، 604، 611 أبو العباس = ثعلب أبو العباس = المبرد أبو العباس الأحول - 485 أبو العباس الأعمي - 406، 426 بنو العباس - 392 عبد الأعلى بن عامر الثعلبي - 180 عبد الجبار بن عباس - 430 عبد الحارث بن عبد العزى - 129 عبد الحكم بن عمرو - 141 عبد الحميد بن عبد الواحد - 269 عبد الحميد بن أبي عبس الأنصاري - 233 آل عبد الدار - 211 عبد الرحمن "ابن أخي الأصمعي" - 463 عبد الرحمن بن أبي بكر - 85، 210 عبد الرحمن بن أبي بكرة - 266 عبد الرحمن بن حسان - 125، 230 عبد الرحمن بن أبي الزناد = ابن أبي الزناد عبد الرحمن بن عوف - 67 عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث - 199 عبد الرحمن بن هرمز - 182 ابن عبد ربه - 52، 452 عبد السلام هارون - 577، 578 عبد العزيز بن امرئ القيس - 129 عبد العزيز بن مروان - 145، 273 عبد القادر البغدادي - 43، 169، 556، 585، 592، 593، 596 بنو عبد القيس - 6، 55، 62، 63، 168، 452، 455، 544، 548-549، 618 عبد الله بن إبراهيم الجمحي - 565، 566، 567، 568، 569، 570 عبد الله بن أبي بكر بن حزم - 599 عبد الله بن جحش - 603، 604 عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - 202 عبد الله بن جنح النكري - 580 عبد الله بن الحارث السهمي - 338 عبد الله بن حنش - 93-97-98 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 عبد الله بن أبي ربيعة - 69 عبد الله بن رواحة - 115، 604 عبد الله بن الزبعري - 158، 338، 341، 342، 414، 559 عبد الله بن الزبير - 200، 220 عبد الله بن زيد "أبو قلابة" - 139 عبد الله بن سعد أبي سرح - 323 عبد الله بن طاهر - 588، 589 عبد الله بن عامر -90، 91 عبد الله بن عباس - 37، 45، 51، 80، 83، 84، 93، 139، 144، 146، 147، 148، 152، 153، 203، 207، 208، 405، 536 عبد الله بن عمر - 83، 85، 146، 432 عبد الله بن عمرو بن العاص - 43، 55، 146، 180، 322 عبد الله بن عنمة - 99 بنو عبد الله بن غطفان - 533، 536، 544 عبد الله بن محمد بن عمارة - 165 عبد الله بن مرداس - 136 عبد الله بن مسعود - 35، 63، 64، 100، 139، 148، 154، 430 عبد الله بن مسلم البكائي - 271 أبو عبد الله = ابن الأعرابي أبو عبد الله = ابن سلام ابو عبد الله = المصعب الزبيري أبو عبد الله = اليزيدي عبد المجيد عابدين - 167 عبد المسيح بن عسلة 545، 550 عبد المطلب بن هاشم - 66، 68، 69، 171، 218، 220، 322، 339، 432 بنو عبد المطلب - 67 عبد الملك بن قريب = الأصمعي عبد الملك بن مروان = 34، 116، 148، 149، 158، 159، 170، 182، 183، 197-201، 204، 232، 235، 237، 245، 273، 558 عبد الملك بن هشام = ابن هشام آل عبد مناف - 221 عبد الواحد بن عاصم - 269 بنو عبد ود - 546 عبد يغوث بن وقاص الحارثي - 110، 575 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 عبدة بن الطبيب - 207 العبدي - 610 العبرانيون - 12 ابن العبري - 10 بنو عبس - 544 عبلة - 328 عبيد "راوية الأعشى" - 238-241، 262، 263 عبيد "راوية الفرزدق" - 238 عبيد بن الأبرص - 95، 202، 226، 229، 253، 247، 361، 362، 363، 372، 373، 396، 397، 475، 597 عبيد الله بن أبي رافع - 84 عبيد بن شرية - 159، 168، 245، 246، 247، 599، 600 عبيد الله بن فرج الطوطالقي - 505 عبيدة بن الحارث بن المطلب - 341 عبيدة بن عمرو السلماني -139 أبو عبيدة "معمر بن المثنى" - 49، 90، 110، 136، 174، 177، 178، 198، 227، 236، 250، 252، 253، 264، 268، 269، 271، 323، 326، 328، 329، 340، 343، 347، 349، 359، 376، 428، 435، 441، 446، 452، 454، 464، 467، 470، 473، 474، 475، 487، 489، 493، 495، 496، 500، 502، 511، 512، 514، 519، 520، 527-532، 535، 539، 541، 547، 555، 566، 587 العتبي - 460، 461 عتاب بن هرمي - 580 بنو عتاب - 232 العتابي - 564، 569 ابن أبي عتيق - 86، 202 عثمان بن جني = ابن جني عثمان بن أبي العاصي - 153 عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع - 182 عثمان بن عفان - 32، 34، 35، 37، 50، 51، 53، 78، 85، 90، 205، 429 أبو عثمان = الجاحظ العجاج - 204 بنو عجل - 6، 544، 548، 552، 554 العجلاني = تميم بن أبي بن مقبل العجم - 205، 393 عدنان - 24، 348، 384، 386، 396، 407، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 419، 473، 474 العدنانيون "القبائل العدنانية" - 396، 385، 408، 416، 418، 419 آل عدوان - 516 بنو عدوان - 203، 544، 546 بنو عدي - 138، 191، 546 عدي بن حاتم الطائي - 235 عدي بن رثاث الإيادي - 216 عدي بن أبي الزغباء - 212 عدي بن زيد - 51، 54، 70، 95، 98، 99، 114، 128، 130، 160، 206، 243، 248، 392 بنو عذرة - 544، 554 عرار - 237 العراقيون - 167 العرب - 1، 4-6، 9-13، 15-19، 23، 24، 27، 33، 42-44، 46-48، 53-58، 61، 62، 67، 72، 80، 87-89، 91، 92، 107، 109، 111-113، 116، 118، 129، 140، 142، 151-155، 157-159، 161، 162، 164-171، 190، 191، 193-197، 199-206، 209، 215، 216، 219-221، 225، 227-229، 233، 241، 245، 246، 250-252، 254-256، 269، 289، 290، 321، 338، 340، 346، 351، 353، 355، 356، 359، 360، 362-369، 371، 374-385، 387، 489-394، 397، 399، 400، 405، 407، 408، 412-415، 418، 419، 424، 425، 427، 430، 433-436، 438، 440-443، 445-447، 449، 450، 452، 455، 457، 458، 461، 464، 466، 469، 470، 472، 504، 508، 548-550، 556-558، 581، 587، 597، 604-606، 617-621، 626-628، 630 العرب البائدة - 465، 601، العرب العاربة - 24، 384 العرب المستعمربة - 384 عرام بن الأصبغ - 8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 عرام بن المنذرين بن زبيد - 273 العرجي - 612 عروة بن الزبير - 145، 147، 149، 152، 180، 182، 210، 325، 599 عروة بن الورد - 174، 202، 204، 232 عزرة - 148 العزى "صنم" - 127، 412 العسكري - 178 عصم - 252 عطاء بن دينار - 148، 183، 256، 430 عطاء بن مصعب الملط - 331 ابنة عفزر = ماوية بنت عفزر عقبة المضرب بن كعب - 536 عقبة بن أبي معيط - 218 عقيل بن أبي طالب - 216، 219 بنو عقيل - 544، 551، 552 عكرمة - 147، 153 عكرمة بن أبي جهل - 71 عكرمة بن خالد - 156 أبو عكرمة الضبي "عامرين عمران" - 574، 575، 576، 590 عكرمة بن عامر بن هاشم - 339 عك بن عدنان - 349، 474 علاقة بن كريم الكلابي - 168 علباء بن أرقم - 69، 94 علقمة بن عبدة "الفحل" - 229، 262، 265، 269، 325، 330، 348، 396، 408، 502 علقمة بن علاثة العامري - 214 علقمة بن قيس - 136، 138، 432 علي بن حمزة البصري - 178 علي بن سليمان = الأخفش علي بن أبي طالب - 135، 136، 146، 150، 159، 205، 210، 219، 228، 256، 341، 342، 343، 329، 461 علي بن عبد الله بن سنان = الطوسي علي بن عبد الله بن عباس - 144، 147 علي بن عبيد الله = السمسمي علي بن عيسى الرماني "أبو الحسن" - 564، 569 أبو علي الأسواري - 246 أبو علي القالي - 39، 177، 271، 279، 452، 454، 492، 503، 505، 575، 577 عمارة بن أبي طرفة = ابن أبي طرفة الهذلي عمر بن إبراهيم - 66 عمر بن الخطاب - 40، 50، 53، 55، 56، 62، 63، 79، 85، 90، 10 0، 102، 115، 125، 136، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 138، 140، 152، 158، 159، 194، 203، 206، 207، 208، 218، 219، 255، 256، 259، 349، 388، 430، 536، 559، 627 عمر بن أبي ربيعة - 86 عمر بن شبة - 208، 269 عمر ن عبد العزيز - 142، 273 عمر بن لجإ - 191، 228 أبو عمر = الزمخشري أبو عمر الجرمي - 592، 593، 594 أبو عمر بن أبي الحباب - 505 عمران بن حصين - 168، 169، 205، 259 أبو عمران - 488، 489، 499 عمرة - 133، 211 عمرو بن أحمر - 96، 273 عمرو بن الأسود - 579 عمرو بن أمية الضمري - 145 عمرو بن بحر = الجاحظ عمرو التغلبي - 198 عمرو بن ثعلبة - 331 عمرو بن الحارث - 340 عمرو بن حجر - 266 عمرو بن حممة الدوسي - 203 عمرو بن دينار - 156 عمرو بن زرارة - 50 عمرو بن شأس - 237 عمرو بن شعيب - 144، 180، 237 عمرو بن الصامت 269-270 عمرو بن العاص 153، 237، 245، 342 عمرو بن عبد الله بن جدعان - 342 عمرو بن أبي عمرو الشيباني - 547 عمرو بن قميئة - 397، 475 عمرو بن كركرة الأعرابي = أبو مالك عمرو بن كلثوم - 110، 113، 129، 171، 231، 232، 385، 397، 398 عمرو بن المرادة البلوي - 217 عمرو بن معديكرب - 343 عمرو بن ميمون الأودي - 63 عمرو بن نافع - 90-136 عمرو بن هند - 75 أبو عمرو بن أمية - 218، 322 أبو عمرو الشيباني "إسحاق بن مرار" - 170، 172، 174، 177، 178، 193، 252، 258، 268، 327 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 359، 394، 427، 440، 447، 448، 485-487، 489-493، 500، 501-503، 506، 507، 511-514، 516، 517، 519، 521-523، 527-536، 538-541، 546، 547، 555، 556، 565-570 أبو عمرو بن العلاء - 49، 155، 156، 170، 172-174، 176، 196، 226، 242، 252، 258، 268، 270-272، 274-276، 326، 329، 359، 384، 409، 417-419، 434، 436، 440، 441، 446-448، 451، 464، 477، 495، 496، 507-509، 512، 517، 521، 522، 535-537، 550، 571، 572، 579، 580، 629 العمري - 233 عمليق - 247 أبو العميثل - 589 عمير بن الحباب - 272 عميرة بن جعل - 188 عميلة بن الأعزل "أبو سيارة" - 605 عنترة - 213، 269، 327، 328، 363، 381، 385، 502 بنو عنزة - 234، 544، 554 أبو العواذل - 589 عوف - 602 عوف بن عطية التيمي - 250، 329 بنو عوف - 519، 544 العوام بن عقبة - 536 أبو العيال الهذلي - 613 عيسى بن إسماعيل - 454 عيسى بن عمر - 434، 436، 451، 572 أبو العيناء - 460، 461 عيينة - 188 عيينة بن حصن- 211، 549 غ غالب بن صعصعة - 205، 228 غريض - 266 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 أبو غزية - 262 الغساسنة - 16، 18، 64، 167، 168، 262 غسان - 214، 396 أبو غسان = دماذ بنو غطفان - 201، 208، 251، 253، 323، 329، 350، 528، 541 بنو غفيلة - 132 الغمراوي = محمد أحمد الغمراوي الغنوي - 209 بنو غنى - 544 الغوث بن مر - 602 أبو الغول الأكبر - 269 أبو الغول النهشلي - 269، 550 غيلان بن سلمة - 50، 332 ف فارس - 194، 196، 221، 618، 620، 627 ابن فارس - 47، 48، 120، 234 الفارسي - 564 فارمر - 13 فاطمة - 540 الفتح بن خاقان - 609 أبو الفتح = ابن جني فرات بن زيد الليثي - 255، 256 فراس بن خندق "أبو المختار" - 269 فرتني - 165 أبو الفرج الأصبهاني - 183، 165، 239، 240، 261، 326، 368، 369، 438، 440، 441، 442، 469، 474، 559 فرجيل - 288 فردريك أوغست ولف = ولف الفراء - 37، 446، 500، 527 الفرزدق - 155، 160، 162، 191، 192، 204، 205، 227، 228، 229، 230، 238، 241، 246، 325، 371، 373، 376، 628 الفرس - 12، 16، 81، 161، 382، 391، 414 الفرنسيون - 403 ابن الفريعة = حسان بن ثابت بنو فزارة - 198، 544، 546، 551، 553 الفزاري - 612 الفضل بن الحباب = أبو خليفة أبو الفضل الكناني - 579 فلهاوزن - 563 بنو الفند - 546 بنو فهم - 544، 546 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 الفيروزبادي - 85 الفينيقيون - 60، 303 ق القارظ العنزي - 334 القاسم بن محمد - 140 القاسم بن محمد = ابن الأنباري القالي = أبو علي القالي القبط - 33 قتادة بن دعامة السدوسي - 197، 198، 256 القتبي - 79 قتيبة - 198 ابن قتيبة - 43، 44، 97، 109، 178، 240، 279، 291، 331، 334، 378، 453، 548، 549 قتيلة - 176 ابن أبي قحافة = أبو بكر الصديق قحطان "القحطانيون" - 384، 385، 386، 407، 416، 417، 454 القدار العنزي - 234 قدامة بن موسى - 350 قراد بن حنش - 323، 350، 528، 541، 542 ابن قرة - 63، 139 قريش - 6، 50-53، 66، 71، 73، 93، 127، 147، 149، 151، 157، 164، 165، 171، 209، 214-216، 218، 219، 220، 221، 231، 322، 340، 348، 350، 378، 381، 388-390، 396، 400، 406، 408، 415، 421-523، 508، 552، 558، 559، 604، 612، 618 قريش البطاح - 6 قريش الظواهر - 6 بنو قريظة - 165، 544 بنو قريع - 110 قسامة بن زيد - 256 قس بن ساعدة - 166، 423 أبو قشع - 198 بنو قشير - 544 قصي بن كلاب - 72، 128 قضاعة - 229، 249، 474 القطامي - 217 أبو قلابة = عبد الله بن زيد القلقشندي - 97 قنص بن معد - 219 قيس بن بحرن طريف - 604 قيس بن الخطيم - 66، 94، 202، 211، 262 قيس عيلان - 597 قيس بن غالب - 198 قيس بن معديكرب - 264، 324 أخو بني قيس "طرفة" - 229 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 أبو قيس بن الأسلت - 207، 337 أبو قيس بن عبد مناف - 66، 171 بنو قيس - 200، 229، 385، 421، 475 بنو قيس بن ثعلبة - 199، 269، 338، 544 قيسبة بن كلثوم - 98، 131 قيصر - 214 بنو القين "بلقين" - 165، 544 بنو قينقاع - 165 ك كالسثين - 312 كالينوس - 310 أبو كبير الهذلي - 152 كثير عزة - 222، 238 كثير بن مرة الحضرم ي- 145 كرايست - 302 أبو كرب = تبان أسعد كردين - مسمع بن عبد الملك الكرماني - 66 كريب - 139، 144، 147 كريتس - 316 كزينوفون - 307 الكسائي - 434، 435، 446، 472، 473، 598 كسرى - 18، 55، 56، 114، 130، 133 آل كسرى - 162 كعب بن الأشرف - 115، 215، 248، 341 كعب بن جعيل - 596 كعب بن ربيعة - 273 كعب بن رداة النخعي - 234 كعب بن زهير - 115، 119، 126، 127، 223، 224، 325، 402، 528، 532، 533، 534، 536، 622 كعب بن سعد - 580 كعب بن مالك - 115، 127، 210، 214، 339 أم كعب - 542 بنو كعب - 191 بنو كلاب - 191، 544 بنو كلب - 233، 272، 544، 549، 553 الكلبي - 147، 269 ابن الكبي - 87، 162، 216، 232، 233، 258، 269، 271، 412، 469، 545، 546، كليب بن ربيعة - 327، 396 بنو كليب - 273 الكميت بن زيد - 188، 204، 225، 238 أبو الكناس الكندي - 216 بنو كنانة - 544، 546، 550 بنو كندة - 131، 216، 385، 397 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 ابن الكوفي - 55 الكوفيون - 378، 433، 437، 441، 446، 447، 456، 462، 471، 472، 491، 492، 495، 496، 498، 500، 502، 504، 506، 507، 511، 512، 513، 516-519، 521، 527، 529، 532، 535، 555، 576، 631 الكيذبان المحاربي - 550 ابن كيسان النحوي - 533 الكيس النمري - 217 ل اللات "صنم" - 127، 412 لاخمان - 297، 298 لبيد بن ربيعة - 82، 87، 96، 99، 101، 115، 116، 123، 124، 187، 210، 230، 239، 243، 244، 263، 271، 334، 335، 349، 373، 385، 474 لحيان - 11 بنو لخم - 129، 249، 250 لقمان "الحكيم" - 62، 63، 140، 169، 247 لقيط بن زرارة - 250، 549 لقيط بن يعمر الإيادي - 55، 94، 114، 132، 133 ابن لقيم العيسى - 604 لميس - 95 ليال "شارلس جيمس" - 367، 368، 369، 370، 372، 576، 577، 581، 582، 630 ليمان - 27 الليث - 154 ليث بن أبي سليم - 602 ليفي - 375 ليلى - 47، 82، 94، 324، 524 أبو ليلى = النابغة الجعدي لينوس - 302 م ماثيو أرنولد - 290 بنو مازن - 111 المازني - 243، 281، 435، 536 ماسرجويه - 141 مالك بن أنس - 198، 432، 525 مالك بن الحارث - 565، 566 مالك بن الدخشم - 341 مالك بن دينار - 136 أبو مالك - 511 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 المأمون - 68، 472 ماوية - 512، 517، 518 ماوية بنت عفزر - 201 المبرد "محمد بن يزيد" - 194، 277، 278، 359، 435، 451، 462، 498، 595 ابن متويه "رواية الفرزدق" - 191، 228 مترودور اللمساوي - 311 المتكلمون - 378 المتلمس - 70، 75، 203، 211، 398 متمم بن نويرة - 236، 347، 467 المتنخل - 570، 611 أبو المثلم - 567 مجاشع - 273 مجاهد - 84، 147، 180 بنو محارب - 544، 547، 550، 556 المحبر = طفيل الغنوي أبو محجن الثقفي - 236 محرز بن المكعبر العنبري - 111 أبو محرز = خلف الأحمر محل - 136 آل المحلق - 177 محمد، صلى الله عليه وسلم "أحمد، رسول الله، النبي" 8، 12، 32-35، 44، 45، 48، 53، 52، 55، 56، 58، 62، 63، 66، 68، 71-73، 75، 78-80، 83-85، 87، 93، 94، 97، 98، 102، 115، 126، 127، 131، 140، 143-151، 159، 168، 169، 182، 189، 204، 205، 209-215، 219، 220، 232، 248، 256، 257، 259-261، 267، 272، 277، 278، 321-324، 333، 335، 344، 350، 353-355، 359، 362-364، 366-368، 371، 379، 388-390، 401، 417، 423، 427، 430، 431، 511، 624، 628 آل محمد - 126 محمد أحمد الغمراوي - 403، 412، 413، 414، 420، 421 محمد بن إسحاق = ابن إسحاق محمد الأمين - 472 محمد بن أيوب العزيزي - 586 محمد بن حبيب - 171، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 252، 268، 448، 485، 492، 494، 496، 500، 546، 548، 556، 565، 568، 569، 570 محمد بن الحسن = ابن دريد محمد بن الحسن الأحول - 565، 569، 570 محمد بن الحسن الشيباني - 473 محمد حميد الله - 32، 33 محمد الخضر حسين - 402، 412، 413، 414، 415، 425، 426، 427 محمد الخضري - 403، 419، 422، 424، 426 محمد بن أبي الخطاب = أبو زيد القرشي محمد بن خلف = وكيع محمد بن رستم "أبو عبد الله" - 574 محمد بن زياد = ابن الأعرابي محمد بن زياد الكلبي - 233 محمد بن السائب الكلبي - 233` محمد بن سعيد بن المسيب - 342 محمد بن سلام = ابن سلام محمد بن سهل - 225، 238 محمد بن العباس = اليزيدي محمد بن عبد الرحمن الأنصاري محمد بن عبد الغني بن عمر بن فندلة "أبو بكر" - 505 محمد بن علي بن إبراهيم بن زبرج العتابي - 564 محمد بن عمر = الواقدي محمد فريد وجدي - 402 محمد بن القاسم = ابن الأنباري محمد بن كعب القرظي - 602 محمد لطفي جمعة - 402، 412، 414، 418، 422، 423، 426، 428 محمد بن الليث الأصفهاني "أبو جعفر" - 575، 576 محمد محمود بن التلاميد الشنقيطي - 570، 571 محمد بن منصور بن مسلم - 533 محمد بن المنكدر - 189 محمد بن هبيرة الأسدي = صعوداء محمد بن يزيد = المبرد أبو محمد الأعرابي - 458، 459 محمود بن عمرو "والد صعصعة" - 131 مخارق بن شهاب - 111 المخبل السعدي - 75 المختار بن أبي عبيد - 161 أبو المختار = فراس بن خندق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 مخرمة بن نوفل - 219، 220 آل مخرمة بن المطلب - 336، 600 بنو مخزوم - 547 أبو مخنف - 233 المدائني - 448، 473 مذحج - 349، 474 مرامر بن مرة - 37 مرجليوث - 292، 352، 353، 355، 354، 360، 361، 364، 367، 368، 380، 411، 412، 415، 416، 418، 630 مرداس بن صبيح - 331 المرار الأسدي - 596 مرة - 63 بنو مرة بن عوف - 544، 550 المرزباني - 164، 278، 561 المرزوقي - 583، 584 المرقش الأصغر - 224 المرقش الأكبر - 39، 78، 83، 99، 114، 132، 224، 229 آل مروان - 406 بنو مروان - 161، 195، 198، 201، 204، 245 مزرد بن ضرار - 324، 325، 410 بنو مزينة - 7، 544، 547، 553 مسافع بن عبد مناف - 342 مساور بن هند - 268 المستشرقون - 23، 24، 33، 162، 351، 352، 367، 376، 630 مسحل بن أثاثة - 264، 265 مسحل بن زبداء - 227 مسروق بن عبد الرحمن - 116 مسعر بن كدام - 272، 430 مسعود بن بشر - 278 المسعودي - 52، 53 مسكين الدارمي - 217 مسلم الخزاعي - 213 مسمع بن عبد الملك - 326 مسيلمة الكذاب - 265، 350 المسيب بن عسلة - 545، 550 المسيب بن علس - 224، 333، 590 المشركون - 47، 323 المصريون - 12، 16، 60 مصطفى صادق الرافعي - 377، 379، 403، 630 مصعب بن الزبير - 199 المصعب بن عبد الله الزبيري - 215، 250، 474 بنو مضر - 154، 398، 399، 400، 401، 409، 420، 421 مطر الوراق - 90، 136 مطرف - 205، 256، 259 المطلب - 605 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 بنو المطلب - 66، 171 مطيع بن إياس - 445 معاذ بن العلاء - 156 معاوية بن زهير - 345 معاوية بن أبي سفيان - 40، 90، 125، 153، 159، 168، 171، 197، 200، 201، 204، 218، 219، 235، 236، 245، 246، 247، 322، 558، 599، 600 معاوية بن شكل - 580 معاوية بن مالك - 101 معبد بن زرارة - 250 المعتزلة - 378، 391 بنو معد بن عدنان - 216، 249، 321، 474، 525 معديكرب - 209 المعقر بن أوس - 210، 230 معقل بن خويلد - 77، 124، 163، 270، 338 المعلى - 520 معمر - 93 معرب بن المثنى = أبو عبيدة المغيرة بن عبد الرحمن - 150 المفضل بن سلمة - 291 المفضل بن عبد الله - 486، 587 أبو المفضل العنبري - 117 المفضل بن محمد الضبي - 170، 172، 174، 175، 226، 244، 252، 253، 258، 268، 269، 271، 348، 368، 369، 428، 434، 437-440، 442، 444، 445، 450، 475، 477، 486، 487، 489-493، 495، 496، 500-503، 506، 507، 510، 523، 525، 526، 529، 530، 532، 535، 545، 555، 556، 573-577، 587، 589، 590، 591، 633 مقاس العائذي - 596 ابن مقلة - 100 المقوقس - 33 مكرز بن حفص - 341 المكيون - 364 ملاعب الأسنة الحارثي - 550 ملتون - 288، 308 أبو مليكة = الحطيئة ابن أبي ملكية - 84 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 ابن مناذر - 174، 511 المناذرة - 16، 18، 161 المنخل بن عامر اليشكري - 579 المنذر الأكبر - 72 المنذر بن ساوى - 33 أبو المنذر = هشام بن عروة المنصور "الخليفة العباسي" - 232، 233، 445، 591 ابن منظور - 164 المنقع بن الحصين - 322 المهاجرون - 94، 206، 344، 388 المهدي "الخليفة العباسي" 369، 370، 438، 439، 443، 445، 453، 575، 576، 590، 591 المهلب - 90، 136 مهلهل - 224، 229، 230، 232، 327، 355، 396، 397 بنت مهلهل - 232 الموالي - 390، 393، 394، 427 مؤرج - 240، 474 موسى بن سيار الأسواري - 246 موسى بن عقبة - 139، 144، 147، 150 أبو موسى الأشعري - 100، 349، 441، 448، 452، 473 ميمون بن قيس = الأعشى ميمونة بنت عبد الله - 341 مي - 260 مية - 275 ن النابغة الجعدي - 229، 267، 324، 340، 475، 476 النابغة الذبياني - 49، 64، 79، 80، 115، 128، 160، 173، 174، 178، 188، 208، 227، 253، 262، 332، 349، 362، 373، 443، 502 نافع - 464 نافع بن الأزرق - 405 نائل "حفيد العباس السلمي" - 78 أبو نائلة = سلكان بن سلامة النجاشي - 33، 125، 206، 620 ابن نجدة - 532 أبو النجم العجلى - 117، 279 النجيرمي - 590 ابن النحاس = أبو جعفر بن النحاس النخار بن أوس - 200، 216، 217، 245 النخار بن العقار - 273 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 بنو النخع - 136 أبو الندى - 459 ابن النديم - 68، 76، 87-89، 91، 97، 100، 168، 248، 370، 443، 485، 492، 496، 543، 545، 547، 555، 573، 576، 580-582 ابنا نزار - 454 بنو نزار -266 النصارى - 7، 61، 63، 92، 140، 360، 361، 363، 389، 392، 424، 618 أبو نصر = أحمد بن حاتم الباهلي أبو نصر الأعرابي - 270 آل نصر بن ربيعة - 161، 162 نصران - 566 نصيب - 236، 238 النضر بن الحارث - 52 النضر بن طاهر - 189 بنو النضير - 165، 343، 604 ابن النطاح - 558 النعامة "اسم ناقة" - 327 النعمان بن المنذر - 67، 70، 72، 75، 113، 115، 128، 129، 130، 161، 162، 166، 195، 219، 239، 263، 271، 340، 437 نفطوية - 277 نفيل بن عبد العزى - 220 النقباء - 115، 127 النمر بن تولب - 236 النمر بن قاسط - 326، 508، 522 النمري "أحد شراح الحماسة" - 458 النمري = ربيعة بن جشم بنو نمير - 191 بنو نهد - 7، 72، 544 بنو نهشل - 544، 547، 550 أبو نواس - 181، 444 نوح - 208، 248، 332، 336، 349، 362، 363، ابن نوح العطاردي - 236، 347، 467 نوفل بن مساحق - 138 أبو نوفل بن أبي عقرب - 156، 270 بنو نوفل - 527 ابن نوفيل - 129 نيتش - 298، 299، 302، 319 نيكانور - 315، 316 بنو هاجر - 273 هاجر بن عبد العزى - 233 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 هاشم بن حرملة - 605 بنو هاشم - 66، 171، 219، 544 هانئ - 85 هبل "صنم" - 76، 84 هبيرة بن عبد الرحمن - 145 بنو الهجيم - 544، 554 هدية بن خشرم - 223 بنو هذيل - 7، 8، 50، 53، 152، 191، 199، 234، 241، 459، 460، 544، 574، 548، 551، 555، 556، 561، 562، 563، 618، 632 هرم بن سنان - 208، 369، 439 هرمان - 297، 298 هريرة - 265 أبو هريرة - 145، 146، 182 هسيود - 311 هشام بن عبد الملك - 279، هشام بن عروة - 145، 182، 183 هشام بن محمد الكلبي = ابن الكلي ابن هشام - 147، 247، 248، 335، 336، 337، 338، 339، 340، 342، 343، 344، 345، 351، 389، 423، 424، 474، 475، 599، 602، 609، 630، هكتور - 309 أخو هلال = زيد بن الكيس النسابة بنو هلال - 217 همام بن غالب = الفرزدق همام بن منبه - 142، 146 هند - 512، 519، 520 هند بنت أثاثة - 341 هند بنت عتبة - 342 هند بنت معاوية - 90 الهنود - 12، 16، 358 ابن أبي هنيدة - 147 بنو هوازن - 271، 344 هومر - 387 -290، 292 -310، 312-315، 317-319، 376، 630 هومل - 11 الهيثم بن عدي - 218، 266، 322 هيرا - 311 هيرودوت - 304، 311 هيروديان - 315، 316 هيلانة - 312 والواقدي "محمد بن عمر" - 50، 182، 183، 237، 248، 249، 468، 470 بنو وائل - 327 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 الوثنيون - 358 أبو وداعة - 211 وردان بن مخرمة - 111 ورقة بن نوفل - 55، 61، 210، 337 أبو الوفاء بن سلمة - 175، 589 وكيع "محمد بن خلف" - 136، 368 ولف "فردريك أوغست" - 292، 295، 296، 297، 298، 301، 302، 303، 304، 305، 307، 316، 317، 318، 319 الوليد بن عبد الله الجعفي - 234 الوليد بن عبد الملك - 147، 158 الوليد بن عقبة - 116 الوليد بن المغيرة - 48 الوليد بن الوليد بن المغيرة - 72 الوليد بن يزيد - 154، 157، 158، 164، 508، 557، 558 وليم بن الورد - 578 ونكلر - 11 وهب بن منبه - 142، 150 ي ياقوت - 51، 199، 440، 441، 443، 496 يحيى بن سعيد القطان - 180، 467 يحيى بن المبارك = اليزيدي يحيى بن متى - 239، 240، 241، 262 يحيى بن معين - 180 يحيى بن المهدي الحسيني - 571 يحيى بن يعمر - 89 اليذمر - 231 بنو يربوع - 111، 519، 547 يزيد بن الصعق - 579 - 580 يزيد بن عمرو الحنفي - 230 أبو يزيد = قيس بن الخطيم أبو يزيد "المخبل السعدي" - 299 اليزيدي "أبو عبد الله، محمد بن العباس" - 488، 489، 499، 500، 524 اليزيدي "أبو محمد، يحيى بن المبارك" - 471، 472، 473 يسار - 527، 540 بنو يشكر - 544، 547، 551 يشكر بن وائل اليشكري - 264، 265 يعرب بن قحطان - 247، 600 يعقوب "النبي" - 64 يعقوب بن إسحاق = ابن السكيت يعلى بن الأشدق - 267 أبو اليقظان - 264، 550 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 اليمانيون "اليمنيون" - 399، 400، 409، 418، 420، اليهود - 7، 51، 56، 61، 63، 64، 94، 140، 165، 266، 323، 389، 392، 421، 424، 618 يوحنا - 241 يوسف - 589 يوسف بن الحكم الثقفي - 50 يوسف بن سعد - 159، 196، 350 يوسف بن سليمان = الأعلم الشنتمري يوسف بن عمر - 157، 558 يوسف بن فضالة - 505 يوسف بن الماجشون - 262 يوسف هل - 563، 570 يوسيفوس - 301، 303 اليونان "اليونانيون" - 9، 12، 289، 290، 293، 302، 304، 306، 311، 312 يونس بن حبيب - 226، 229، 349، 434، 435، 436، 441، 444، 446، 448، 449، 473، 475، 593، 594 يونس بن متى - 239، 240، 241، 262 يونس بن يزيد - 150 يوهانس "يوحانس" - 241 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 فهرس الأماكن : آشور - 167 الإثمد - 523 أثينا - 308 أحد - 76، 84، 115، 127، 343، 345 أرجوس - 313 الإسكندرية - 291، 313، 314، 315، 316 الإسكوربال - 497 أصبهان - 491، 589 أعشاش - 279 أكسفورد - 307 ألمانيا - 295، 300، 319، 320 أم الجمال - 27 الأنبار - 24، 37، 51، 52، 103، 107، 617 إنجلترا - 320 الأندلس - 492 أوربا - 88، 318، 563 إيونيا - 313 ب باب بني شيبة - 211 بابل - 12، 167، 239، 263 بارق - 338 باريس - 503، 504 بترا - 11، 13 البحر الأحمر - 1، 13 بحر فارس - 1 البحر الهندي - 1 البحرين - 6، 549 بدر - 53، 83، 149، 212، 214، 215، 246، 342، 345، 423، 430 برجامس "برجامم" - 291، 313، 316 بردي - 230 برقة العيرات - 516 برلين - 563، 564 البصرة - 189، 191، 205، 226، 228، 236، 246، 252، 253، 256، 257، 259، 291، 292، 347، 349، 429، 430، 433، 434، 436، 447، 441، 442، 446، 447، 448، 449، 450، 451، 452، 454، 455، 461، 462، 464، 467، 471، 472، 475، 483، 491، 493، 512، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 530، 532، 536، 629، 631 بطحاء مكة - 6 بطن قو - 515 بغداد - 252، 434، 435، 452، 453، 492، 498، 564 البكرات - 516 بلاد الإغريق - 356 بلاد الروم - 17 بلاد العرب "جزيرة العرب" - 6، 7، 9، 10، 11، 12، 13، 16، 17، 31، 32، 33، 60، 89، 107، 167، 353، 359، 363، 364، 365، 374، 375، 376، 384، 391، 392، 412، 415، 417، 617، 618 بلاد فارس - 17، 55 بلاد هذيل - 459 البندقية - 293، 316 بولاق - 584 ت تثليث - 131 تدمر - 13 تركيا - 501، 503، 533 التعانيق - 538 تونس - 503 تيماء - 82، 102، 266 ث الثقل - 538 ج جبل الدروز - 29 جبل رضوى = رضوى جبل سلع - 32، 33 جبل عزور = عزور جبل ورقان = ورقان جبلا القدسين = القدسان جبلا نهبان = نهبان الجرع - 133 الجزيرة "جزيرة الفرات" - 6، 12، 114، 133، 618 الجناب - 95، 528 جند يسابور - 167 الجواء - 328، 540 جوتنجن - 301 ح الحائل - 518 الحبس - 81، 100 الحبشة - 17، 18، 33، 149، 167، 382 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 الحجاز - 8، 18، 32، 52، 168، 396، 400، 407، 421، 430، 432 الحجر - 11، 27، 439، 531، 540 الحديبية - 7، 66، 148، 149 حران - 32 حران اللجا - 29 الحرة - 145 الحرتان - 432 الحرم - 6 الحساء - 540 حضرموت - 264، 426 حوران - 27، 32 حومانة الدراج - 538 حومل - 230، 515 الحيرة - 16، 24، 50، 52، 70، 88، 103، 107، 112، 114، 115، 128، 161، 162، 167، 239، 241، 263، 348، 617، 621 خ الخبتان - 518 خراسان - 89، 588، 589 الخندق - 32 الخورنق - 338 خبير - 61 الخيف - 126 خيف سلام - 8 د دار الآثار العربية - 32 دار الكتب المصرية - 504، 530، 570، 578 دار الندوة - 127 الدانيمرك - 375 الدثينة - 78 دجلة - 1 الدخول - 230، 515 دمشق - 1، 146 دومة الجندل - 50 الديار المصرية - 497 دينور - 589 ذ ذات الدبر - 173 ذات الدير = ذات الدبر ذات عرق - 266 الذنوب - 347 ذو طوى - 215 ذو قار - 227، 269، 579 ذو المجاز - 81 ر راذان - 580 رامة - 541 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 رحرحان - 250، 329 رخمان - 459 الرس - 87 الرسيس - 87، 534 رضوى - 6، 7 الرقة - 177، 245 الرمل - 518 رملة عالج - 539 الرها - 167 رهاط - 7 ز زبد - 29 زبدان - 524 زمزم - 203 زيونيا - 294 س سامرا - 435 سحام - 518 السدير - 338 سلع - 25، 27، 29، 453، 458، 459، 460 سمرقند - 88 سندار - 338 السهب - 518 السواد - 434، 446 السوارقية - 8 سورية - 9 السوس - 55 سيل العرم - 475 سينوب - 313 ش ااشام - 16، 18، 63، 91، 92، 103، 129، 139، 149، 157، 166، 167، 197، 228، 250، 382، 419، 431 الشجرة - 138، 430 شعب جبلة - 201 شعب الخيف - 86 شمام - 520 ص الصفراء - 7 الصليب - 82، 95 الصين - 88، 89 ض ضرعاء - 7 ضفوى - 439 ط الطائف - 6، 40، 50، 52، 107، 112، 617، 618، 621 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 طروادة - 297، 298، 299، 301، 312 الطور - 78، 357 طورسينا - 25، 27 طيبة - 304 ع عارمة - 516 عاقل - 87، 518 عالج "رملة عالج" - 539 العراق - 51، 81، 161، 167، 175، 197، 250، 323، 419، 430، 431، 432، 520، 589 العربية السعيدة - 9 عرعر - 515 عريتنات - 262 عزور - 6، 7 عسعس - 517 العقنقل - 214 عكاظ - 68 العلا - 32 عُمان - 6، 192، 520، 597 عمايتان - 518 عيساباذ - 369، 370، 438، 443 عين تمر - 51 غ الغبيط - 273 غسان "ماء" - 112، 621 الغور - 539 ف فارس - 52، 89، 114 الفرات - 1، 29 الفرع - 7 فرغانة - 88 فرنسا - 320 ق القاهرة - 32، 503 قبرص - 313 القدسان - 7 قصر السلامة - 443 القطبيات -347 قطربل - 472 القنان - 96 قنسرين - 29 قو "بطن قو" - 515 القودام - 540 ك كاظمة - 518 الكعبة - 66، 86، 87، 169، 170، 171، 220، 602 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 الكوفة - 63، 116، 135، 177، 205، 237، 252، 257، 259، 291، 292، 348، 399، 429، 430، 431، 432، 433، 437، 441، 446، 449، 450، 451، 452، 457، 461، 462، 464، 483، 491، 493، 512، 530، 532، 535، 536، 555، 556، 573، 631 كيوس - 313 ل لعلع - 131 لندن - 504، 563، 564 ليبزج - 563، 570 ليدن - 494، 564 م ما بين النهرين - 6، 12 مأرب - 475 المتثلم - 538 مدافع الريان - 87 مدائن صالح - 27، 32 المدرسة النظامية - 257 مدين - 82 المدينة المنورة "وانظر: يثرب" - 6، 7، 8، 32، 50-51، 52، 55، 56، 67، 72، 78، 107، 112، 115، 151، 201، 220، 238، 252، 262، 327، 344، 350، 412، 419، 430، 431، 432، 433، 459، 603، 617، 621 المربد - 461 مر الظهران - 7 مساليا - 313 المسجد الحرام - 235 مسجد رسول الله - 219 مسجد السور - 76 مسجد المدينة - 344 مسجد موسى بن سيار - 246 مصر - 17، 18، 33، 56، 60، 192، 563، 618 مطبعة هندية - 503 مطرق - 82، 95 معهد إحياء المخطوطات العربية - 496، 501، 503، 533، 586 معين - 11 مكتبة غوطة - 504 مكتبة فيض الله - 503 مكتبة كوبريلي - 586 مكتبة لا له لي - 501 مكتبة نور عثمانية - 533، 538، 539، 540، 541، 542 مكة - 6، 49، 52، 67، 68، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 72، 73، 86، 107، 127، 149، 151، 173، 234، 247، 344، 354، 357، 389، 412، 617، 618، 621 ملحوب - 347 منبج - 533 ميجارا - 308 ميسيا - 316 ن نجد - 8، 32، 270، 400، 407، 421، 549، 580 نجران - 71، 112، 166، 265، 602، 621 النحائت - 439 النحيت - 236، 247 نخل - 223 النسار - 250، 251، 329 نسر - 273 نعاف صارة - 96 النقا - 273 النمارة- 27 نملى - 101 نميل - 102 نهبان - 7 نهر الحيرة - 70 النيل - 1، 129 هانوفر - 570 هجر - 166 هضب ذو إقدام - 518 همذان - 589، 591 الهند - 89، 305 هيدلبرج - 150 ووادي فران - 25 وادي المكتب - 25 ورقان - 7 وزل صنعا - 68 ي يثرب "وانظر: المدينة المنورة" - 49، 94، 199، 339، 618 اليمامة - 6، 425، 549، 617، 618 يمن - 540 اليمن - 6، 9، 11، 24، 66، 69، 71، 112، 167، 168، 264، 340، 380، 382، 384، 396، 399، 400، 408، 409، 416، 417، 418، 419، 421، 549، 621 ينبع - 6، 7 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 فهرست الكتب أخبار الشعراء لابن النحاس - 498، 499 أخبار عبيد بن شربة - 247، 599 أدب الكتاب - 279 أشع ار الأزد - 543، 545 أشعار بني أسد - 545- 552 أشعار أشجع - 546 أشعار بجيلة - 546 أشعار بني تغلب - 543، 544، 545، 546، 547، 556 أشعار بني تميم - 546 أشعار بني الحارث - 546 أشعار حمير - 469-543 أشعار بني حنفة - 546 أشعار بني ذهل - 546 أشعار الرباب - 543، 545 أشعار بني ربيعة - 546 أشعار الستة الجاهلين - 505 أشعار بني سليم - 552 أشعار بني شيبان - 545، 546، 556 أشعار الضباب - 546 أشعار ضبه - 546 أشعار الطائيين - 552 أشعار طيئ - 546 أشعار بني عامر بن صعصعة - 544 أشعار بني عبد ود - 546 أشعار بني عدوان - 546 أشعار بني عدي - 546 أشعار بني عوف بن همام - 544 أشعار بني فزارة - 546 أشعار الفند - 546 أشعار فهم - 544، 546 أشعار كلب - 549 أشعار كنانة - 546 أشعار بني محارب - 547-556 أشعار بني مخزوم - 547 أشعار مزينة - 547 أشعار بني نهشل - 547 أشعار الهذليين ما بقي منها في النسخة اللغدونية غير مطبوع - 563 أشعار هذيل - 547 أشعار بني يربوع - 547 أشعار بني يشكر - 547 إصلاح المنطق - 592، 597، 598 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 الأصمعيات - 577، 578، 580، 581، 582، 583، 591، 632 الأصنام - 412 الأغاني - 183، 261، 404، 406 أغنية رولاند - 307 الإلياذة - 288، 291، 292، 293، 294، 295، 296، 297، 298، 299، 300، 302، 304، 305، 306، 307، 308، 309، 310، 311، 315، 316، 317، 630 أمالي القالي - 177، 577 الأمثال لصحار العبدي - 168 الأمثال لعبيد بن شرية - 168 الأناجيل - 361 الإنجيل - 61، 64، 140 الإنصاف في مسائل الخلاف - 257 الإنيادة - 288 الإوديسة - 288، 291، 292، 293، 295، 296، 298، 299، 300، 304، 305، 307، 310، 315، 317، 630 إيون لأفلاطون - 312 ب البارع - 279 بلاد العرب قبل محمد - 12 البيان والتبيين - 606، 607، 611، 612 بيوولف - 307 ت تارخ آداب العرب للرافعي - 377 تاريخ الطبري - 149، 182 تاريخ اليونان لكالسثين - 312 تأويل مشكل القرآن - 279، 378 تحت راية القرآن - 403 التصحيف والتحريف للعسكري - 178 التعليقة لابن النحاس "شرح ديوان امرئ القيس" - 497، 498 تفسير الحسن البصري - 148 تفسير السدي - 148 تفسير سعيد بن جبير - 148، 158، 183 تفسير الطبري - 148، 425 تفسير عروة بن الزبير - 147، 149 تقييد العلم - 58، 143 التنبيه على حدوث التصحيف للأصفهاني - 178 التنبيهات على أغاليط الرواة للبصري - 178 تهذيب الألفاظ - 592، 597، 598 التوراة - 61، 64، 140، 362 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 ج جمهرة أشعار العرب - 582، 583، 584، 585، 586، 588، 632 جمهورية أفلاطون - 311 ح حماسة أبي تمام - 174، 175، 458، 582، 583، 584، 588، 589، 632 الحيوان - 332، 379، 393، 606، 608، 611، 612 خ خزانة الأدب للبغدادي - 43، 547، 585، 596 الخصائص - 428 الخيل - 329، 467 د ديوان امرئ القيس - 447، 469، 485، 486، 487، 488، 489، 491، 492، 493، 494، 495، 496، 499، 501، 502، 503، 504، 505، 506، 507، 509، 510، 511، 513، 514، 522، 526، 527، 537، 538، 632 ديوان جران العود - 496 ديوان حسان بن ثابت - 496 ديوان الحطيئة - 448، 496 ديوان خلف الأحمر - 444 ديوان دريد بن الصمة - 469 ديوان أبي ذؤيب - 563، 565، 569 ديوان زهير بن أبي سلمى - 485، 502، 526، 527، 530، 535، 536، 538، 632 دواوين الشعراء السنة - 502، 503، 528 ديوان طرفة - 92، 502 ديوان عبيد بن الأبرص - 372 ديوان علقمة - 502 ديوان عنترة - 502 ديوان كعب بن زهير - 536 ديوان لبيد - 124 ديوان النابغة الذبياني - 79، 502 ديوان هذيل - 548، 551، 555، 556، 562، 563، 565، 571، 632 ر الرامايانا - 287 رسائل الحواريين - 361 الرواسيم "كتب جاهلية" - 76 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 ز الزبور - 64، 83، 96، 140، 230 س سفر أيوب - 167 السيرة النبوية لابن إسحاق "تهذيب ابن هشام" - 147، 150، 247، 248، 335، 336، 337، 339، 345، 346، 351، 359، 389، 424، 599، 600، 601، 602، 603، 604، 605، 630 ش شرح أشعار الهذليين للسكري - 563، 568 شرح ديوان الأعشى للآمدي - 264 شرح ديوان امرئ القيس - 497 شرح ديوان الحطيئة للسكري - 448 شرح المعلقات لابن النحاس - 498 شرح المفصل 378 شرح المفضليات لابن النحاس - 498 شعر الأنصار - 157، 509، 558، 559 شعر عبد القيس - 544 شعر بني عقيل - 552 شعر فزارة - 551 شعر هذيل - 544، 561 شعر بني يشكر - 544، 551 الشعر والشعراء لابن قتيبة - 344 شعراء النصرانية لشيخو - 361 الشهاب الراصد - 402 ص الصادقة "صحيفة عبد الله بن عمرو" 144، 146 صحيفة جابر - 180 صحيفة دغفل في النسب - 162 الصحيفة الصحيحة "صحيفة همام بن منبه" - 146 صحيفة قريش - 66، 171 صحيفة المتلمس - 75، 211 ط طبقات ابن سعد - 42، 147 طبقات فحول الشعراء - 194، 195، 253، 335، 351، 378، 390، 414، 419، 541، 627، 630 ع العقد الثمين في دواوين الشعراء الستة الجاهليين - 494، 504 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 العمدة لابن رشيق - 585، 588 العواصم من القواصم - 34 العين للخليل - 180 ف الفاضل للمبرد - 278 الفردوس المفقود لملتون - 288، 308، الفهرست لابن النديم - 370، 485، 492، 543، 545 فهرست ابن خير - 505 في الشعر الجاهلي - 402، 402، 410، 419، 424، 426 ق القرآن الكريم "المصحف، كتاب الله" - 13، 14، 15، 34، 35، 36، 37، 38، 44، 45، 50، 51، 53، 55، 57، 58، 62، 63، 64، 71، 79، 80، 83، 84، 85، 87، 90، 92، 93، 94، 96، 98، 103، 136، 138، 139، 140، 143، 147، 148، 152، 153، 154، 158، 169، 199، 203، 246، 259، 260، 276، 335، 353، 355، 356، 357، 358، 360، 361، 362، 363، 364، 365، 366، 367، 374، 375، 378، 380، 381، 382، 383، 384، 385، 386، 390، 391، 396، 401، 405، 460، 408، 412، 413، 414، 415، 419، 420، 421، 424، 425، 431، 432، 435، 446، 451، 511، 586، 618 ك الكتاب لسيبويه - 592، 593، 594، 595، 596، 597، 598 كتاب أخبار الحر وأشعارهم - 546 كتاب بني أسد - 543، 552، 553 كتاب أسلم - 543 كتاب أشجع - 543 كتاب أشعار القبائل - 555 كتاب بني أعصر - 543، 553 كتاب أهرن بن أعين - 142 كتاب إياد - 543، 549، 553 كتاب باهلة - 543 كتاب بجيلة - 543، 552 كتاب بلى - 543، 553 كتاب التمام في تفسير أشعار هذيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 مما أغفله أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري - 563 كتاب بني تميم - 163، 164، 559، 560 كتاب ثقيف - 157، 164، 508، 558 كتاب حرم - 543، 554 كتاب بني جعفي - 543 كتاب جهينة - 543، 554 كتاب بني الحارث - 543، 550، 554 كتاب بني حنيفة - 543 كتاب خثعم - 543 كتاب خزاعة - 543، 552 كتاب دانيال - 55، 62، 63، 100، 140 كتاب داود "الزبرر" - 97 كتاب بني ذهل بن ثعلبة - 543، 552 كتاب بني ربيعة بن ذهل - 543، 552 كتاب الزهري عن مشاهد الرسول - 150 كتاب بني سعد - 543، 553 كتاب بني سعيد - 543 كتاب السكون - 544، 554 كتاب بني سليم - 552 كتاب سليم بن قيس - 146 كتاب بني شيبان - 544، 550، 553 كتاب بني ضبة - 544 كتاب بني ضبيعة - 544، 553 كتاب بني طهية - 544، 553 كتاب طيئ- 544 - 552 كتاب ابن عباس في أحكام القرآن - 147 كتاب ابن عباس في التفسير - 147 كتاب ابن عباس في نزول القرآن - 147 كتاب بني عبد الله بن غطفان - 544 كتاب بني عبس - 544 كتاب بني عجل - 544، 552، 554 كتاب عدوان - 544 كتاب بني عذرة - 544، 554 كتاب بني عقيل - 544، 551، 552 كتاب عنزة - 544، 554 كتاب غنى - 544 كتاب فزارة - 544، 551، 553 كتاب قريش - 157، 164، 508، 558 كتاب بني قريظة - 544 كتاب بني قشير - 544 كتاب بني قيس بن ثعلبة - 544 كتاب بني القين - 544 كتاب بني كلاب - 544 كتاب كلب - 544، 553 كتاب كنانة - 544، 550 كتاب بني محارب - 544، 550 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 كتاب بني مرة بن عوف - 544، 550 كتاب مزينة - 544، 553 الكتاب المقدس - 361 كتاب النسب للزهري - 154 كتاب نهد - 544 كتاب بني نهشل - 544، 550 كتاب بني هاشم - 544 كتاب بني الهجيم - 544، 554 كتاب بني يشكر - 551 كتاب يوسف بن سعد - 159، 196، 350 الكشاف للزمخشري - 425 الكوميديا الإلهية - 308 ل لسان العرب - 164 م المثالب - 218، 322 المجاز لأبي عبيدة - 264 مجلة الثقافة الإسلامية - 33 مجلة الجمعية الملكية الآسيوية - 352، 353، 368، 560 مجلة لقمان - 62، 63، 140، 169 مجلة المجمع العلمي بدمشق - 146 مجموعة أشعار الهذليين - 570 محاضرات في بيان الأخطاء العلمية التاريخية التي اشتمل عليها كتاب في الشعر الجاهلي - 403 "محمد" لمرجوليوث - 368 المختصر في علم اللغة العربية الجنوبية القديمة - 384 المزهر للسيوطي - 178، 585 مسند أحمد بن حنبل - 144، 146 معجم المطبوعات - 587 المعرب للجواليقي - 239 معلمة الدين والأخلاق - 368 المعمرين من العرب للسجستاني - 233 المغازي لوهب بن منبه - 150 مغازي رسول الله للواقدي - 248 المفضليات - 368، 370، 445، 510، 573، 574، 575، 576، 577، 581، 582، 583، 632 المقدمة لولف - 292، 295، 296، 301، 302، 307، 316، 318، 319 المقرب لبهاء بن النحاس - 497، 498 مقطعات الأعراب - 544 الملاهي وأسماؤها - 291 المهابهارتا - 287، 294 المؤتلف والمختلف للآمدي - 543، 549، 551 الميسر والقداح - 291 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 ن نزهة ذوي الكيس وتحفة الأدباء في قصائد القيس - 504 نسب قريش - 165، 215 النقائض - 269، 376 النقد التحليلي لكتاب الأدب الجاهلي - 403، 420 نقد كتاب الشعر الجاهلي - 402 نقض كتاب في الشعر الجاهلي - 402 نوادر أبي زيد - 177 والوحشيات لأبي تمام - 175، 589 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 فهرس الشعر : الهمزة جلاء زهير بن أبي سلمى 206 فالحساء = 540 الولاء الحارث بن حلزة 197 الظباء = 177 والكفلاء = 65، 81 الأشقياء = 362 ب مذهب النابغة الذبياني 208 والحوب أبو داود الإيادي 330 مطلوب امرؤ القيس 329 يصابوا = 520 العتاب الحارث بن كلدة 132 كاتب الأخنس بن شهاب 78 الكاتب معقل بن خويلد 77، 124، 163 الأريب عبيد بن الأبرص 202 فالذنوب = 347 يخيب = 362 فيذهب زهير 528 مذاهبة عميرة بن جعل 188 طالبه أبو تمام 598 الركابا معاوية بن جعفر 101 ملحبا الأعشى 110 أبا الحطيئة 43 الذنبا = 10 كلابا جرير 191 طنبا أوس بن حجر 191 آبا بشر بن أبي خازم 334 أحسبا امرؤ القيس 512، 519 العواقب النابغة 64 قرهب امرؤ القيس 79 ربرب = 487 المعذب = 515 وبالشراب = 517 القشيب حسان بن ثابت 90 كالكتاب عبيد بن الأبرص 95 ذنب عبد العزى بن امرئ القيس 129 راكب قيس بن الخطيم 211 المذاهب = 262 مذنب علقمة بن عبدة 330 الكوكب بشر بن أبي خازم 333 ت شتات مرداس بن صحيح 331 شواته 176 والتابوت السموءل 64 الوصرات 70 الرواة الفرزدق 192 فزلت الغنوي 209 العيرات امرؤ القيس 516 أضلت زهير 323، 528، 541 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 ج الشاحج الحارث بن حلزة 328 ح جحاجح أمية بن أبي الصلت 214 قارح عمرو بن كلثوم 113، 129 متمنح ابن مقبل 198 أنواحي السموءل 235 وتصفاح عبيد بن الأبرص 361 بالراح عبيد بن الأبرص 475 د فجد امرؤ القيس 525 تميد يحيى بن المبارك اليزيدي 473 قعدوا زهير 534 مدادها عبد الله بن عنمة 99 أنشدا الأعشى 65، 81 جرادا امرؤ القيس بن الحارث الكندي 119 منضودا امرؤ القيس بن حجر 524 الحريدا = 525 مسرد زهير بن أبي سلمى 79 المخلد = 87 بمخلد = 207 عواد = 533 مطرد عباس بن مرداس 349، 474 ترقد امرؤ القيس 523 معد = 525 واد عوف بن عطية 250، 329 الأسود عوف بن عطية 251، 329 إياد لقيط بن يعمر 114، 133 يجرد طرفة 92 تزورد = 212 ناد يحيى بن المبارك اليزيدي 472 مفسد خالد بن عبد العزى 339 وتغتدي الأعشى 263 سنداد الأعشى أو الأسود بن يعفر 338 مزود النابغة الذبياني 275 بعدي النمر بن ثولب أو نصيب 236 القصائد الطرماح 225 حرمد تبع 153 ر بواكر الحطيئة 47 تامر = 176 أقر امرؤ القيس 326، 522 منتشر = 330 وتدر = 507، 521 يأتمر = 507، 521 بقر = 518 والخصر = 520 الكبير سبيعة بنت الأحب 344 وازورار عمرو بن ثعلبة 331 زبر عمرو بن أحمر 96 والزبر أمية بن أبي الصلت 95 المزبر 99 السفاسير 128 الدفتر دندل بن المثنى 138 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 زاجر حميد بن ثور 189 الفقير عروة بن الورد 202 المعار بشر بن أبي خازم 163، 559 المعار 164 مستنير عدي بن زيد 206 غدروا امرؤ القيس 519 تدور = 524 الخبر زهير 527 تدور = 533 يسار = 540 أكثر = 541 وقصورها الفرزدق 228 أوصارا عدي بن زيد 70 أسطرا الشماخ 102 قفرا ذو الرمة 242 مظهرا النابغة الجعدي 267 تزارا الأعشى 324 فعرعرا امرؤ القيس 515 نوارا = 524 أصفرا زهير 533 الجماخير حسان بن ثابت 126 عبد الدار 211 الأزور متمم بن نويرة 235 قصر عباد بن بشر 248 تتزر 249 أخبار 260 السمر جرير 273 دهر زهير بن أبي سلمي 439، 531 زعر = 534 شهر = 540 مزار = 542 قتره امرؤ القيس 518 ستره امرؤ القيس 243 س والهاجس 181 أنفسا امرؤ القيس 243 أخرسا = 517 فأنكسا = امرؤ القيس 517 الجرجس = 75 نيأس = 512 نيأس = 517 الفرس الحارث بن حلزة 81 بالنقس حميد بن ثور 100 ص تبوص امرؤ القيس 522 ض بيض امرؤ القيس 515 الأرض ذو الأصبع العدواني 203 والنقض = 326 ع الصوانع النابغة الذبياني 79 ترتفع عدي بن زيد 95 واقع كعب بن مالك 127 متتعتع 214 فاصطنعوا 131 المراتع ذو الإصبع 200 الضبع العباس بن مرداس 611 سمعا لقيط بن يعمر الإيادي 95، 114 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 والوجعا لقيط بن يعمر 132 صعصعا سلامة بن جندل 130 مروعا امرؤ القيس 525 والهاع أبو قيس بن الأسلت 207 بوداع المسيب 590 ف كالخرف أبو النجم 117 الصحف أبو نواس 181 والصحف درهم بن زيد الأوسي 66 والصحف قيس بن الخطيم 66 قضف = 202 ضعيف أبي بن زيد 130 الألف أبو نواس 181 عبد مناف 211 ق ويأفق الأعشى 70 سملق = 82 تفهق = 177 عروقها أبو محجن الثقفي 236 ذائقها أمية بن أبي الصلت 328 شملقا 177 ساقا أبو داود 201 واثقا امرؤ القيس 523 نعقا زهير 528 علقا = 531، 539 الأخلاق سلامة بن جندل 82 فمطرق = 82، 95 بقي 152 العوارق عمرو بن المرادة 217 خلق أبو محجن الثقفي 236 الممزق مزرد بن ضرار 324 فاصدق امرؤ القيس 522 يصدق طرفة 595 ك سلكوا زهير 540 لكا كعب بن زهير 126 ل الأحول عدي بن زيد 95 بالوحل لبيد 187 أضل = 239، 263 الفحل عدي بن أبي الزغباء 212 بالجبل امرؤ القيس 523 محل = 523 جرول كعب بن زهير 119 قليل حسان بن ثابت 126 الجمال قيسبة بن كلثوم 131 دغفل الفرزدق 160 وجرول = 229 ينحل = 325 غول 177 العثل الأعشى 178 زجل = 265 الحمل أبو شأس 188 المبسل الكميت 188 وتأميل عبدة بن الطبيب 207 دغفل القطامي 217 صقيل 272 السحل غيلان بن سلمة 332 المحاصل لبيد 334 لأميل الشنفرى 452 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 بطل تأبط شرًّا 435، 458، 460 يحل خطف الأحمر 461 أوشال امرؤ القيس 523 يدلوا زهير 537 عصل = 537 فالثقل = 538 طولا الربيع بن زياد 128 الأباطيلا النعمان بن المنذر 129 تفعلا مرقش 132 الرجلا الأعشى 239، 263 مهلا = 334 أبوالا أبو الصلت بن أبي ربيعة 340، 474 باطلا امرؤ القيس 519 مضلل المتلمس 71 الشواكل 128 للارامل أبو طالب 159 نابل امرؤ القيس 197، 265 واغل = 243، 362 منزل = 395 البالي = 395 فلفل = 508 وحومل = 515 الرواحل = 516 الحالي = 515 عاقل = 518 الناهل = 518 عاقل = 518 الحبل = 524 مال = 525 المأكل عنترة 213 الشمال مسكين الدرامي 217 هلال ثابت قطنة 217 دغفل زياد الأعجم 217 مهلهل سراقة البارقي 230 خمال الأعشى 239 اتنحل مزرد 325 حيالي الحارث بن عباد 327 للأرامل أبو طالب 350 لي جليلة بنت مرة 361 الأول يحيى بن المبارك اليزيدي 472 مغلول زهير 527 بالمعابل = 534 التقالي = 542 نوافلة المخبل السعدي 75 فعاقله زهير بن أبي سلمى 87 ورواحله = 530، 539 عاذله جرير 242 وإيغالها الأعشى 187 جريالها = 239، 263 م قلم المرقش 39، 78 بدائم خزز بن لوذان 64 ظلم علباء بن أرقم 69 التمائم = 123 ختم الأعشى 76 كالقلم عدي بن زيد 98 بالقلم = 99 علم = 130 العمم عمرو بن شأس 337 والقلم أمية بن أبي الصلت 51 ميم ذو الرمة 117 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 والمختوم لبيد 123، 244 أحزم بجير بن زهير 127 سالم 198 الإعدام أبو دواد الإيادي 202 علموا أبو سمال الأسدي 249 والديم زهير 540 قديم = 541 دما حسان بن ثابت 49 منمنما حاتم الطائي 78 القلما شتيم بن خويلد 82 الأحزما أوس بن حجر 176 الدما جرير 192 ليعلما المتلمس 203 نما السموءل أو ابنه سعية 212 ظلما النابغة الجعدي 324 العرما = 475 دارما امرؤ القيس 519 عصما = 525 فينقم زهير بن أبي سلمى 95 يسأم = 331، 537 يسلم = 406 كالوشم = 534 فالمتثلم = 538 بأقلام الزبرقان بن بدر 99 مغرم الربيع بن أبي الحقيق 151 كلثوم 110، 231 توهم عنترة 327 واسلمي = 328 مظلم 333 إقدام امرؤ القيس 518 شمام = 520 يشمه طرفة 39، 77 سلامها لبيد 87 أقلامها = 96 ن السفن أبو كبير الهذلي 152 الظنون النابغة الذبياني 208 يخون = 332، 349، 362 الظنون زهير 541 تمنينا تميم بن أبي بن مقبل 94 ومسانا أمية بن أبي الصلت 213 اليقينا سماك العكرمي 217 مصلتينا عدي بن زيد 244 الذاهبينا امرؤ القيس 523 رهبان امرؤ القيس 64، 96 اليماني = 83، 96 عدوان = 516 يمان = 516 أزمان = 516 عمان = 520 مدين الأسود بن يعفر 82 وبان لبيد 83، 101 يمان = 96 سبعين = 350 عني النابغة الذبياني 188 المبن = 262 الماني سويد بن عامر 213 الطين صعصعة بن معاوية 330 الحرون 580 وعونها 463 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 ي الهدي أبو ذؤيب الهذلي 39 الحميري = 69، 96، 123 محي = 91 العصي امرؤ القيس 524 لسانيا عبد يغوث 111 المتاليا زهير بن أبي سليم 187 ليا = 529 ناجيا 246 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717