الكتاب: الجامع لأحكام الصلاة المؤلف: أبو إياس محمود بن عبد اللطيف بن محمود (عويضة)   [الكتاب مرقم آليا] ---------- الجامع لأحكام الصلاة محمود عبد اللطيف عويضة الكتاب: الجامع لأحكام الصلاة المؤلف: أبو إياس محمود بن عبد اللطيف بن محمود (عويضة)   [الكتاب مرقم آليا] الطبعة الأولى 2001م الطبعة الثانية 2002م الطبعة الثالثة 2003م الطبعة الأخيرة مزيدة ومنقحة المملكة الأردنية الهاشمية رقم الإيداع لدى دائرة المكتبة الوطنية (2680/12/2003) 262,2 عويضة، محمود عبد اللطيف الجامع لأحكام الصلاة/ محمود عبد اللطيف عويضة.- ط 3.- عمان: المؤلف، 2004. 880ص. ر. إ.: 2680/12/2003 الواصفات: /الصلوات//الإسلام//العبادات/ رقم الإجازة المتسلسل لدى دائرة المطبوعات والنشر 341/2/2001 هذا الكتاب يوزع مجاناً، ولا حقوق محفوظة لصاحبه، فيصح لأي شخص أن يطبعه طبعة جديدة ويقوم بنشره وتسويقه وبيعه متى شاء شرط أن يطبعه كما هو دون أي تغيير مطلقاً، فلا يزيد عليه كلمة ولا يحذف منه كلمة. دار الوضاح للنشر والتوزيع - عمان الأردن - 4613076 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على رسول الله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد، فهذا كتابٌ في أحكام الصلاة سميته [الجامع لأحكام الصلاة] لأنني دونت فيه جميع مسائل الصلاة التي تناولتها النصوص دون تلك الأبحاث التي دونها الفقهاء مستدلين عليها بالقياس أو بالاستحسان وما إلى ذلك مما لا يصح الاعتماد عليه في العبادات، ذلك أن العبادات توقيفية تُؤخذ من النصوص فحسب: الكتاب والسنة ولا يصح أخذها من سواهما، ولهذا جاءت الأحكام في هذا الكتاب بمثابة فقه النصوص ليس غير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وقد راعيت عند أخذ النصوص أخذها من مصادرها من كتب الحديث وليس من كتب الفقه، إذ أن هناك تفاوتاً في الألفاظ بين الأحاديث في كتب الفقه وبين الأحاديث في كتب الحديث بشكل عام. وقد التزمت عند الاستدلال بالحديث بوضع صاحب اللفظ المثبَت في الكتاب - عند تعدد الرواة - في مقدمة الرواة، فإذا قلت رواه مسلم وأحمد والترمذي مثلاً، فإن اللفظ المُثْبَت في الكتاب هو لفظ مسلم، وإذا قلت رواه الترمذي ومسلم وأبو داود، فإن اللفظ المُثْبَت هو لفظ الترمذي، وهكذا، وإذا وجدتم في سياق الحديث فراغاً مملوءاً بالنقط، فإن ذلك يدل على جزءٍ محذوفٍ من الحديث لا يلزم إثباته عند الاستدلال، خاصةً إذا كان الحديث طويلاً. أما الأحاديث التي رواها الإمام أحمد فقد أخذتها إمَّا من مُسنده مباشرة، وإمَّا من كتاب [الفتح الرَّبَّاني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني] لمؤلفه أحمد عبد الرحمن البنَّا، وقد نوَّهت بهذا الأمر لأن [الفتح الرَّبَّاني] ربما أورد أحاديث المسند بطريق الاقتباس أو اقتطاع أجزاء من الأحاديث، سيما عند تكرار وضعها في الكتاب حسب أبواب الفقه فيه. وإذا قلتُ روى هذا الحديث مسلم مثلاً فإن ذلك لا يعني أن الحديث انفرد مسلم بروايته وأن أحداً غيره لم يروه، وكذلك إذا قلت إن الحديث رواه البخاري والنَّسائي مثلاً، فإن ذلك لا يعني أن الراويَيْن قد انفردا بروايته وأن غيرهما لم يرووه، ففي هذا الأمر لم ألتزم بقاعدة ثابتة، فربما ذكرت راوي الحديث صاحب اللفظ فقط، وربما ذكرت صاحب اللفظ ورواةً آخرين شاركوه في الرواية، وإذا حصل ذلك فإنما هو من أجل زيادة المعلومات لدى القاريء، وإلا فكما قلت لا يكون اللفظ إلا لصاحبه الأول فحسب، وأما الرواة الآخرون فإن ألفاظهم ربما تطابقت مع لفظ الراوي الأول وربما اختلفت عنه قليلاً، فالمعتمد في الاستدلال هو لفظ الراوي الأول فحسب، راجياً أن يكون هذا الأمر واضحاً تماماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 وقد التزمت في الاستدلال بأخذ الأحاديث الصحيحة والحسنة التي صحَّت وحسُنت عند جمهرة المُحَدِّثين أو بعضهم، ولم أستدلَّ بأي حديثٍ علمت أنه ضعيف عند جميع المُحَدِّثين، أما الحديث المختلَفُ عليه من حيث الصحة والضعف فربما أخذته وربما تركته، والأخذ والترك متعلقان بموافقة الحديث أو مخالفته للأحاديث الصحيحة والحسنة. وهذه الأحكام المدوَّنة كلها قد توصلَّتُ إليها باجتهادٍ شخصي فلم آخذها من اجتهادات المجتهدين، وإنما هي أحكام مستقلة عن اجتهاداتهم، ربما تطابقت معها وربما اختلفت قليلاً أو كثيراً. فعلى المتَّبعين في مسائل الصلاة للأئمة الأربعة أو لغيرهم أن يبقوا متَّبعين لأئمتهم إن هم اتبعوهم بعد معرفة أدلتهم، واعتبروهم أصحَّ اجتهاداً، أما إن هم قلَّدوهم تقليداً - بمعنى أنهم أخذوا الأحكام منهم، وعملوا بها دون الاطِّلاع على أدلَّتها - فهؤلاء يمكنهم الانتقالُ إلى هذه الأحكام المقترنة بالأدلةِ ووجوهِ استنباطها، واتِّباعُها، وأما غير هؤلاء وأولئك فشأنهم في الأخذ بهذه الأحكام أو تركها، شرط أن لا يراعوا في ذلك الأسهل والأوفق لهواهم ومصالحهم، فإن ذلك حرام لا يجوز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 إن الغاية من وضع هذا الكتاب، وخاصة الجزء الأول منه هي أنني أردت أن أضع نموذجاً لكتابة الفقه، رأيت أنه الأنسب والأصح، يبرز فيه استعراض النصوص كلها في المسألة الواحدة، واستحضار الأحكام التي استنبطها الفقهاء لمحاكمتها، ومن ثَمَّ التوصُّل إلى الحكم الصحيح وبيان الحكم الخطأ، حتى يأخذ المسلم الحكم بقناعةٍ واطمئنان نفسٍ، وينأى بذلك عن التقليد الأعمى لهذا الفقيه أو ذاك، فالتقليد الأعمى آفة أصابت المسلمين في عهودهم الأخيرة، فسببت لهم الهبوط ولا أقول الانحطاط، ولم أقصد من وضع هذا الكتاب أن أضع مجرد كتابٍ في الفقه، وذلك لأن كتب الفقه المطبوعة دون المخطوطة تزيد كثيراً عن حاجة المسلمين، فهذا الكتاب ليس سوى محاولة مني لوضع النموذج الصحيح الذي أراه لكتابة الفقه، راجياً من الله سبحانه أن أكون قد وُفِّقتُ فيما سعيت إليه. كما أنني بوضع هذا الكتاب إنما أشارك عدداً من العلماء الذين ثاروا على واقع هذه الأمة الإسلامية الكريمة، ورفضوا الإذعان لغلق باب الاجتهاد الذي أدى إلى هبوط الأمة فكرياً ومن ثَمَّ سياسياً، أُشارك هؤلاء المجتهدين بفتح باب الاجتهاد على مصراعيه للعلماء المخلصين المالكين لأدوات الاجتهاد وهم بأعداد لا بأس بها، ولا تنقص معظمهم إلا الجرأة والإقدام على طَرْق هذا الباب والولوج فيه. وليعلم هؤلاء أن المجتهد غير عالم أصول الفقه، فكما أن الأديب غير عالم النحو والصَّرف، إذ يستطيع أن يكتب القطع الأدبية دون إتقانٍ منه لعلوم اللغة كإتقان عالم النحو والصرف، فكذلك المجتهد يستطيع أن يستنبط الأحكام من أدلتها دون إتقانٍ منه لعلم أُصول الفقه كإتقان عالم أصول الفقه، فهذا وذاك يحتاجان من هذه العلوم إلى قدر معقول ومناسب دون الإتقان التام والإحاطة الكاملة لهذه العلوم، فربما اجتهد مجتهد في عشر مسائل وعشرين مسألة دون أن يحتاج من علم أصول الفقه إلا للقدر اليسير منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 لقد وضعت هذا الكتاب ابتداءً في عام 1407 من الهجرة و1987 للميلاد، وقد حالت ظروفٌ دون نشر الكتاب من قبل، وفي هذا العام وقد تيسَّر لي نشره قمت بمراجعته وإدخال إضافاتٍ كثيرة نافعة عليه، راجياً أن يلقى من القراء جميعاً الرضى والقبول. واللهَ أسأل أن يتقبَّل مني ما بذلت وما نويت وما إليه هدفت، والحمد لله أولاً وآخراً. تمهيد الطهارة في اللغة النقاوة والتنزُّه من الأدناس. وفي الشرع رفعُ ما يمنع الصلاة والطواف ومسَّ المصحف من حَدَثٍ بالماء، أو رفع حكمه بالتراب، وإزالة النجاسة بهما أو بغيرهما. فأغسال الجنابة والحيض والنفاس تدخل تحت رفع الحدث الأكبر، والوضوء يكون لرفع الحدث الأصغر، وكلاهما يدخل تحت مدلول الطهارة، فالمسلم يكون طاهراً طهارة كاملة بالغسل والوضوء إضافةً إلى إزالة النجاسة. والطهارة عبادة وعمل من الأعمال، فتفارق المعاملات التي هي تصرفات قولية، ولذلك احتاجت إلى النية لقوله عليه الصلاة والسلام «إنما الأعمال بالنِّيَّة، وإنما لامريءٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» رواه مسلم والبخاري من طريق عمر بن الخطاب. وقد جاءت النصوص تعيِّن الماء لرفع هذين الحدثين دون سواه، خلافاً لرأي أبي حنيفة الذي يجيز الوضوء بالنبيذ، فإن عدم الماء قام التراب في التيمُّم مقامه مؤقتاً في جميع الأغسال والوضوء ريثما يوجد الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أما إزالة النجاسة فلا تفتقر إلى النية، خلافاً لمالك وأحمد، وأن المطلوب فقط هو زوال النجاسة بأي شكل أو أداة أو مادة، خلافاً لمالك والشافعي وأحمد الذين أوجبوا إزالة النجاسة بالماء فحسب. فالجسم نجس ما حمل نجاسة، وطاهر ما خلا منها، والحكم إنما يكون في الحال لا في المآل ولا في سابق الوقت، فإذا كان جسم لا يحمل نجاسة حكمنا بطهارته دونما حاجة لمعرفة ما إذا كان من قبلُ نجساً أو لا، ولا كيف زالت نجاسته إن علمنا أنه كان من قبلُ نجساً، كما أننا نعُدُّه طاهراً ما دام لم يتنجس. والنجاسات تسع: أربعٌ من الإنسان هي البول والغائط والمذي والودي، وثلاث من الحيوان هي الكلب والخنزير والميتة، وواحدة مشتركة بينهما هي الدم المسفوح، وواحدة من غيرهما هي الخمر. والنجاسات هذه لا تُطَهَّر، وإذا خالطت جسماً طاهراً نجَّسته، فصار هذا الجسم الطاهر متنجِّساً، وعلى المتنجِّس مدار البحث في إزالة النجاسة. هذا هو مجمل الكتاب، وإليكم البيان والتفصيل. الفصل الأول أحكام المياه خلق الله سبحانه الأرض وغطى ثلثيها بالماء، وخلق الحيوان والنبات - وهما طعام الإنسان - خلقهما من الماء، وتوَّج مخلوقاته بالإنسان، وجعل ثلاثة أرباع بدنه ماء، وصدق الله إذ يقول {وجَعَلْنا من الماءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ} الآية 30 من سورة الأنبياء. فالله سبحانه قد كرَّم الماء إذ جعل مدار الحياة في الأرض عليه، وجعله طَهوراً، وعلَّق به وبوجوده العديد من العبادات، فبالماء يزيل المسلم جنابته، وبه يتوضأ لتكتمل بذلك طهارته من الحدثين كي يتسنى له الوقوف أمام ربه في أجلِّ عبادة هي الصلاة، ويطوف في حجِّه حول الكعبة مبتدئاً بالحجر الأسود يمينِ اللهِ في الأرض، ويلمس المصحف المجيد، وبالماء يزيل معظم ما يصيبه من النجاسات، وبالماء ينظف بدنه وثيابه وأشياءه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ولما كان مدار الطهارة عليه فقد جعله الله سبحانه وتعالى كلَّه طَهوراً، فماء المطر طَهور لقوله تعالى {ويُنزِّل عليكم من السَّماءِ ماءً ليُطهِّرَكم به} الآية 11 من سورة الأنفال. ولقوله سبحانه {وأنزلنا من السَّماءِ ماءً طَهوراً} الآية 48 من سورة الفرقان. وماء البحر طَهور لما رُوي عن أبي هريرة أنه قال «سأل رجلٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو الطَّهور ماؤُه الحِلُّ ميتتُه» رواه أحمد ومالك وأبو داود والنَّسائي والترمذي. وصححه البخاري والترمذي وغيرهما. وماء الآبار والينابيع طَهور لما رُوي عن أبي سعيد أنه قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أنتوضأ من بئر بُضاعة - وهي بئر يُطرح فيها الحِيَض ولحم الكلاب والنتن - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الماء طَهور لا ينجِّسه شيء» رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه. وصحَّحه أحمد ويحيى بن معين. والطَّهور هو الطاهر في نفسه المطهِّر لغيره، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام «الماء طَهور لا ينجِّسه شيء» عام في كل ماء، سواء نزل نقياً من السماء أو خالطته ملوحة في البحار، أو علِقت به طحالبُ وأتربةٌ في مجاري الينابيع والأنهار، ما دام يحمل اسم الماء، ولذا فإن الأصل في الماء كلِّ الماء الطُّهوريةُ وعدمُ إخراج أي ماء من الطُّهورية. فهذا هو حكم الماء، وذلك لأنه لم يرد في النصوص أي وصف آخر له من حيث الطُّهورية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وتتخرج من ذلك حالتان، الأولى: ما إذا خالطه شيءٌ أو أشياء بحيث يفقد اسمه بتغيُّر أحد أوصافه، بحيث لا يعود يطلق على المزيج الجديد اسم الماء، بل يصبح شيئاً آخر غير الماء، وآنذاك لا يكون ماء طَهوراً، لأنه لم يَعُد ماءً لا في اسمه ولا في وصفه، والثانية أنه قد ورد نصٌّ شرعي يستثني حالة واحدة فحسب من حالات الماء - مع بقائه ماء - من الطُّهورية، هو ما رُوي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَثَ» رواه الترمذي وأبو داود وأحمد. وصححه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان والحاكم. ولأحمد «لم ينجِّسه شيء» . ولأبي داود «فإنه لا ينجُس» . فاستثنى من حالات الماء حالة واحدة هي كون الماء دون قُلَّتين وقد أصابته نجاسة، ففي هذه الحالة فحسب يفقد الماء طُهوريته ويصبح نجساً، أي ينتقل مباشرة من الطُّهورية إلى النجاسة. فالماء ليست له سوى حالتين اثنتين فقط هما حالة الطهورية، وحالة النجاسة المستثناة. هذه ببساطة أحكام المياه، فالماء طَهور ما دام يحمل اسم الماء، ولا يفقد طهوريته إلا في حالة وحيدة هي ما إذا كان دون القُلَّتين وأصابته نجاسة، ففي هذه الحالة يفقد طهوريته ويفقد طهارته لأنه يصير نجساً، وما سوى هذه الحالة يظل طَهوراً صالحاً للغسل من الجنابة، وللوضوء، ولإزالة النجاسات. ولقد تشعَّبت آراء الفقهاء وتعدَّدت كثيراً في هذه المسألة، ونحن سنستعرض هذه الآراء كلها بإذن الله، ونناقشها حتى نقف على الصحيح منها ونطرح ما سواه. قالوا: الماء أقسام عديدة منه الطَّهور ومنه الطاهر، ومنه النجس، ومنه المستعمَل الطَّهور، ومنه المستعمَل الطاهر، ومنه المستعمَل النجس، فجعلوا الماء ستة أقسام، وكان حقه أن يكون قسمين اثنين فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الماء الطَّهور قالوا إن الماء الطهور إذا خالطته مواد طاهرة فغيرت أوصافه، كأن صار لونه أحمر أو أصفر، أو صارت له رائحة، أو تغير طعمه، أو تغير قِوامه، صار هذا الماء طاهراً وفقد طُهوريته، ولم يعد يصلح للاغتسال به من الجنابة أو الحيض أو النفاس، أو للوضوء، ولم يكتفوا بذلك بل فصَّلوه على النحو التالي: أ- ما يوافق الماء في الطُّهورية كالتراب والملح. ب- وما لا يختلط بالماء كالدهن. جـ- وما لا يمكن التحرُّز منه كالطُّحلب. د- وما سوى هذه الأنواع كالزعفران. دون أن يذكروا إن كان الماء دون قلتين أو أكثر، وأعطَوْا لكل حالة حكماً، ودخلوا في تفريعات لا حاجة بنا لذكرها، فنرد عليهم بما يلي: أما ما ذكروه في أول البند فصحيح من وجه وخطأ من وجه آخر، والحالات الأربع داخلة في الصحيح والخطأ دون حاجة لهذه التبويبات. أما أنَّ الماء إذا تغير بمخالطته لمواد طاهرة فَقَدَ طُهوريته فقولٌ صحيح، ولكن أن يقولوا إنه صار ماءً طاهراً فخطأ، لأن الماء هو تلك المادة ذات الصفات والخصائص المعروفة، فإذا اختلفت هذه الصفات والخصائص بشكل بيِّن لا يبقى الماء ماء، ولا يصح إطلاق اسم الماء عليه، وسمِّه آنئذ بما شئتَ من أسماء حسب المادة التي اختلطت به. فقولهم يكون الماء طاهراً ـ هكذا بذكر كلمة (الماء) ـ خطأ، فالنبيذ وهو ماء نُقِع فيه تمر لا يصح أن يقال عنه إنه ماء طاهر غير طَهور، لأنه لم يعد ماء لا في اسمه ولا في واقعه، والشاي المشروب الأحمر لا يسمى ماء، والسوس لا يسمى ماء، والماء إذا غُلي فيه الحمص حتى صار أصفر ذا طعم خاص لا يصح أن يقال إنه ماء، لا ماء طاهر ولا ماء طَهور، فما دامت هذه الأشربة والمحاليل لا تتصف بصفات الماء ولا تحمل خصائصه فيجب إخراجها من هذا البحث، وعدم إدراجها في باب المياه وأقسامها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 والقاعدة الواجب اعتمادها هي أن الماء ما دام ماء - أي اسمه ماء وحقيقته أنه ماء - إن خالطته شوائب طاهرة فلم تسلُبْه اسمَه، ولم تغيِّر أوصافه وخصائصه ظل ماء طَهوراً يصلح لكل حالات التطهير، لا فرق بين الحالة والأخرى من الحالات الأربع. فإذا أُذيب في الماء قَدر كبير من الملح أو خالطته كمية كبيرة من التراب والطين أو الكبريت أو الزعفران بحيث لم يعد يسمى ماء أُخرج من بحث أقسام المياه ودخل في بحث المواد الأخرى التي سلبته اسمه وحقيقته. فشراب الزعفران طاهر، وشراب السوس طاهر، والشاي طاهر، والنبيذ - أي منقوع التَّمر - طاهر، ومحلول الكبريت طاهر، ولكن هذه لا تُبحث في باب المياه ولا تأخذ أحكامها، وبالتالي لا يقال لهذه الأشربة والمحاليل إنها مياه طاهرة غير طَهورة، ولا فرق في ذلك بين ما كان فوق القُلَّتين أو دونهما. وهذا الموضوع كله ليس موضوع نصوص، وإنما هو موضوع تحقيق مناط الماء، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول «الماء طَهور» ونحن نبحث في مناط الماء وعلى ماذا ينطبق هذا اللفظ، ولم يقل عليه الصلاة والسلام شراب الزعفران طاهر أو طَهور حتى يدخل في هذا الباب. وعليه فإن قولهم إن الماء طاهر إن خالطه ما غيَّر أوصافه أو سلبه اسمه صحيح من وجه وخطأ من وجه، وقد بان الوجهان تماماً. وقل مثل ذلك على إدام الطعام وأدوية الصيدليات السائلة والمحاليل الكيماوية والعُصارات والعطور، فكلها لا علاقة لها بأحكام المياه من حيث الطُّهورية والطهارة لا من قريب ولا من بعيد، فلا تصلح للوضوء ولا للأغسال من نفاس وحيض وجنابة. قد يقال إن عكرمة والحسن والأوزاعي وأبا حنيفة أجازوا الوضوء بالنبيذ مستدلين بما رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ليلة الجن «ما في إداوتك؟ قال: نبيذ، قال: تَمْرةٌ طيبةٌ وماءٌ طَهور» رواه أبو داود وأحمد والترمذي وابن ماجة. فنردُّ عليهم من ثلاثة أوجه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أحدها: أنه يعارض الآية الكريمة { ... فلم تجدوا ماءً فتيمَّموا ... } سورة النساء 43، وسورة المائدة 6. ذلك أن الآية قد أوجبت الانتقال إلى التراب عند فقد الماء ولم تجعل بينهما شيئاً آخر. وثانيها: هذا الحديث ضعيف، لأن في إسناده أبا زيد، وأبو زيد هذا قال عنه الترمذي (مجهول عند أهل الحديث) وقال ابن حِبَّان (ليس يُدرَى مَن هو ولا أبوه ولا بلده، ومن كان بهذا النعت ثم لم يروِ إلا خبراً واحداً خالف فيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس استحق مجانبة ما رواه) . وثالثها: إن مسلماً روى أن ابن مسعود نفسه قال «لم أكن ليلة الجنِّ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووددت أني كنت معه» . وروى أبو داود أن ابن مسعود قد سُئل «من كان منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ فقال: ما كان معه منا أحد» . وبذلك يسقط الاحتجاج بالحديث على جواز الوضوء بالنبيذ. قال ابن قُدامة في المغني (فأما غير النبيذ من المائعات غير الماء كالخل والدهن والمرق واللبن فلا خلاف بين أهل العلم فيما نعلم أنه لا يجوز بها وضوء ولا غسل، لأن الله سبحانه أثبت الطُّهورية للماء بقوله {ويُنَزلُ عليكم من السماءِ ماءً ليُطهِّرَكم به} وهذا لا يقع عليه اسم الماء) وهو تلخيص جيد وصحيح. إلا أن الشرع الحنيف قد خفف عن المسلمين في ماء البحر وماء السواقي، فجعل ماء البحر طَهوراً رغم أنه يفقد صفة من صفات الماء لكونه مالحاً، وجعل ماء السواقي طَهوراً رغم ما يعلق به من طين أو شوائب تغيِّر لونه، فهذان الماء إن حالة استثنائية فيُقْتَصَرُ عليهما ولا يقاس عليهما، ويبقى ما سواهما يعامَل كما سبق بحثه، ولذلك قال الفقهاء والأئمة إن الماء إذا خالطه ما يختلط به عادة يظل طَهوراً كالملح والتراب، وما سوى ذلك إذا خالط الماء فسلبه صفة من صفاته بطل عدُّه ماء، ولا يجري تصنيفه في أقسام المياه الطَّهورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 من كل ما سبق يتبين لنا أنه لا يوجد شيءٌ اسمه الماء الطاهر غير الطَّهور، وبذلك يسقط القسم الثاني من أقسام الماء. الماءُ النَّجِس أما القسم الثالث من تقسيماتهم وهو الماء النجس فهو صحيح جُملةً، أي أنه موجود في الواقع، ولكن فيه تفصيل لا بد من الوقوف عليه. لقد افترق الفقهاء في هذه المسألة ثلاث فرق: فرقتين كبيرتين وفرقة ثالثة هي أبو حنيفة وأصحابه. فذهب ابن عباس وأبو هريرة وحذيفة والحسن البصري وسعيد بن المسيِّب وعطاء وعكرمة وجابر بن زيد وابن أبي ليلى والثوري وداود وإبراهيم النخعي ويحيى القطان والأوزاعي وعبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن المنذر ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل في رواية عنه والشافعي في رواية عنه إلى أن الماء إذا خالطته نجاسة فغلبت عليه وسلبته اسمه وغيَّرت أوصافه صار نجساً، وإذا خالطته نجاسة فلم تغيِّر أوصافه ولم تسلبه اسمه ظل طَهوراً، سواء كان الماء قليلاً أو كثيراً. وذهب عبد الله بن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد وإسحق وأبو عبيد، والشافعي وأحمد في المشهور عنهما إلى أن الماء إذا كان قُلَّتين فأكثر وخالطته نجاسة فغلبت عليه وسلبته اسمه وغيَّرت أوصافه صار نجساً، وإذا كان دون القُلَّتين تنجَّس بحلول النجاسة فيه، سواء غيرت اسمه وأوصافه أو لم تغيِّر، قليلةً كانت أو كثيرة. وسنعرض لرأي كلٍّ من هذين الفريقين ونناقشهما، ثم نعرض لرأي أبي حنيفة وأصحابه. استدل الفريق الأول على رأيهم بالأحاديث الآتية: 1 - عن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قال «قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بُضاعة؟ - وهي بئر يُلقى فيها الحِيَض ولحومُ الكلاب والنتنُ - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الماء طَهور لا يُنجِّسه شيء» رواه الترمذي وحسَّنه. ورواه أبو داود، وصححه أحمد ويحيى بن معين وابن حزم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة، فقيل له: إن الكلاب أو السباع تَرِدُ عليها؟ فقال: لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطَهور» رواه الدارقطني. ورواه الطبراني من طريق سهل. ورواه البيهقي من طريق أبي سعيد الخدري وقال: إسناده حسن. إلا أن الهيثمي والحاكم وابن الجوزي قد ضعَّفوه. 3- عن أبي أُمامة الباهلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الماء لا يُنجِّسه شيء إلا ما غَلَب على ريحِه وطعمِه ولونِه» رواه ابن ماجة والبيهقي. ورواه الدارقطني أيضاً من طريق ثوبان دون قوله «ولونه» . وجميع طرق هذا الحديث ضعيفة. فقالوا إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفرِّق بين القليل والكثير، ولأنه لم تظهر على الماء إحدى صفات النجاسة، فلم ينجس بها كالزائد عن القُلَّتين، وردُّوا حديث القُلَّتين لأنه ضعيف. واستدل الفريق الثاني بالأحاديث التالية: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال «سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَث» رواه الترمذي وأحمد وأبو داود. وفي رواية ثانية لأبي داود «فإنَّه لا ينجس» ورواية ثالثة للحاكم وأحمد «لم يُنجِّسه شيءٌ» وسنعرض بعد قليل لدرجة هذا الحديث. 2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي. ورواه البخاري ولم يذكر العدد ثلاثاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فلْيغسله سبع مرات» رواه مسلم والبخاري وأحمد. وفي روايةٍ لمسلم «طُهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهنَّ بالتراب» . فقالوا: تحديد الحديث الأول بالقُلَّتين يدل على أن ما دونهما ينجس، إذ لو استوى حُكم القُلَّتين وما دونهما لم يكن التحديد مفيداً. وقالوا عن الحديث الثاني إنه لولا أنه يفيد منعاً لم ينه عنه. وعن الحديث الثالث قالوا: أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بغسل الإناء من ولوغ الكلب وإِراقةِ سُؤْرِه، ولم يفرِّق بين ما تغير وما لم يتغير، مع أن الظاهر عدم التغيُّر، وردُّوا حديث أبي أُمامة الذي رواه ابن ماجة وغيره لأنه ضعيف. واستشهد الفريقان بأشياءَ أخرى، وقالوا كلاماً آخر دون الكلام الأول سنعرض له في المناقشة بإذن الله. من استعراض أدلة الفريقين وما استنبطوه من أحكام يتبين أن الخلاف بينهما ليس واسعاً فالماء قسمان - ما دون القُلَّتين، وقُلَّتان فأكثر - أما ما كان قُلَّتين فأكثر فقد اتفق الفريقان على أنه لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، إلا إذا غيَّرت النجاسة أوصافه وسلبته اسمه، أما إذا وقعت فيه فلم تسلبه اسمه ولم تغير أوصافه بقي طَهوراً - أما أبو حنيفة وأصحابه فإن لهم رأياً مختلفاً سنعرض له فيما بعد كما قلنا - أما ما كان دون القُلَّتين فقد اتفقوا أيضاً على أنه إذا وقعت فيه نجاسة فغيَّرته وسلبته اسمه صار نجساً، وهذا قول صحيح أيضاً. قال محمد بن المنذر (أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيَّرت له طعماً أو لوناً أو ريحاً فهو نجس) . بقي الماء دون القُلَّتين وأصابته نجاسة قليلة لم تغير وصفه ولا سلبته اسمه، هذا الماء فقط هو مدار الخلاف بين الفريقين هذين، ونناقش هذه المسألة فنقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 إن الماء إذا بلغ قُلَّتين فأكثر وخالطته نجاسة يسيرة فلم تغيِّر وصفه ولم تسلبه اسمه بقي طَهوراً، وإذا كثرت النجاسة بحيث سلبته اسمه وغيَّرت وصفه صار نجساً، وهذا الأخير واضح فيه خروجه من أقسام المياه، وأنه بالتالي لا يصح إدراجه في أقسام المياه، لأنه خرج عن كونه ماء، فيكون مثل الماء الذي خالطته أشياء طاهرة فغيَّرت أوصافه وسلبته اسمه، والذي أخرجناه من قبلُ من أقسام المياه. وما قلتُه عن هذا الماء أقوله عن الماء الذي دون القُلَّتين وخالطته نجاسة فغيَّرت وصفه وسلبته اسمه، فإنه يخرج هو الآخر عن كونه ماء، وبالتالي لا يصح إِدراجه في أقسام المياه. أما الماء النجس المتبقي والذي يُدْرَج في أقسام المياه فهو ما كان دون قُلَّتين وخالطته نجاسة يسيرة لم تغيِّر وصفه ولم تسلبه اسمه، فهذا يُدرج في أقسام المياه، وهذا الماء هو المختَلَف فيه بين الفريقين: فريق يقولون بنجاسته، والآخرون يقولون بطُهوريته. وبالنظر في أدلة الفريقين يتبين أن الفريق الأول أخذوا بعمومات الأدلة، بينما استشهد الفريق الثاني بالأدلة المخصِّصة، ولذا بقي الخلاف بينهما، وكان يمكن لهذا الخلاف أن ينتهي لو وافق الفريق الأول الفريق الثاني على أدلة التخصيص هذه، ولكنهم رفضوا منها ما رفضوا وتأوَّلوا منها ما تأوَّلوا، ولهذا السبب استمر الخلاف ولم ينته. ونحن سنعمل على استعراض هذه الأحاديث من حيث السند والمتن، ثم ننظر في دلالاتها منطوقاً ومفهوماً كي نصل في هذه المسألة إلى الرأي الراجح بإذن الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 1- حديث أبي سعيد «إن الماء طَهور لا يُنجِّسه شيء» يصلح للاحتجاج، لأن أحمد وابن معين وابن حزم قد صحَّحوه. هذا الحديث منطوقه يفيد العموم، لأن كلمة (الماء) المعرَّفة بأل الجنس عامة تشمل كل ماء، فالحديث عام ليس فيه تخصيص، وحديث الحياض الذي فيه «لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطَهور» مطلق في الماء من حيث الكمية، لأن كلمة «لنا ما بقي» مطلقة دون تقييدٍ بحجم أو كيل فتظل على إطلاقها، فليس في الحديثين تخصيص وإنما هما يفيدان العموم والإطلاق. على أن حديث الحياض ليس سوى إسنادٍ للحديث الأول، فليس فيه جديد، ولذا فلو طعن فيه المُحدِّثون وأسقطوه لما تأثر حكم القائلين بعدم التخصيص، فالأمر سيَّان العملُ به أو ردُّه. أما الحديث الثالث فنصفه الأول «إن الماء لا ينجِّسه شيء» يماثل في لفظِهِ الحديثَ الأول، وأما الاستثناء في آخره «إلا ما غَلَب على ريحه وطعمه ولونه» فأقول: حيثما ورد الاستثناء في روايات هذا الحديث فهو ضعيف، فقد رواه ابن ماجة والدارقطني من طريق أبي أُمامة وفي سنده رشدين بن سعد وهو متروك، ورواه الدارقطني أيضاً من طريق ثوبان بلفظ «الماء طَهور إلا ما غَلَب على ريحه أو على طعمه» وفي سنده أيضاً رشدين بن سعد، وهو متروك كما ذكرنا. وروى البيهقي هذا الحديث عن أبي أُمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إن الماء طاهر إلا إنْ تغيَّر ريحُه أو طعمُه أو لونُه بنجاسةٍ تَحدُث فيه» وفيه أيضاً رشدين. قال الشافعي: وما قلت من أنه إذا تغيَّر طعم الماء ولونه وريحه كان نجساً يُروى عن النبي من وجه لا يُثبِت أهل الحديث مثلَه. وقال الدارقطني (لا يَثبُت هذا الحديث) وقال النووي (اتفق المُحدِّثون على تضعيفه) . فيسقط الاحتجاج بالحديث. ومع ذلك يبقى الحكم قائماً ودليله الحديث الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وأود أن أشير هنا إلى أن هذا الحديث وإن كان ضعيفاً، أو كان الاستثناء الذي فيه ضعيفاً إلا أن معناه صحيح، وهو ما حققناه من قبل في بحث تحقيق مناط الماء. قال الشافعي والبيهقي وغيرهما: الإجماع على أن التغيُّر بالنجاسة ريحاً أو لوناً أو طعماً نجس. وهم يعنون بالإجماع هنا إجماع العلماء، وقد سقنا من قبل قول ابن المنذر بهذا الخصوص فلا نعيد، وأثبتنا هناك أن هذا الأمر لا يحتاج إلى نصوص. 2- رد الفريق الأول حديث القُلَّتين وقالوا إنه ضعيف لأنه مضطرب سنداً ومتناً، فلا ينتهض عندهم لتخصيص الحديث الأول، فيظل الحكم على عمومه، وقالوا إن مدارَه على الوليد بن كثير عنه عن محمد بن جعفر بن الزبير، وقيل عنه عن محمد بن عباد بن جعفر، وقيل عنه عن عبيد الله بن عمر، وقيل عنه عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وهذا اضطراب في السند. وقالوا إنه قد رُوي أيضاً بلفظ «إذا كان الماء قدر قُلَّتين أو ثلاث لم ينجِّسه شيء» كما في روايةٍ لأحمد والدارقطني. وبلفظ «إذا بلغ الماء أربعين قُلَّة فإنه لا يحمل الخَبَث» كما في روايةٍ للدارقطني من طريق جابر بن عبد الله. وهذا اضطراب في المتن. فنجيبهم على دعوى الاضطراب في الإسناد بأن هذا لا يُعدُّ اضطراباً لأنه انتقالٌ من ثقة إلى ثقة. قال ابن حجر (وعند التحقيق أنه عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن عمر المكبر، وعن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر المصغر وما سوى ذلك وهْمٌ) وهؤلاء كلهم ثِقات. وللحديث طريق ثالثة عند الحاكم جوَّد إسنادها يحيى بن معين، وقال الحاكم (صحيح على شرطهما وقد احتجَّا بجميع رواته) وقال ابن منده: إسناد حديث القُلَّتين على شرط مسلم. وبذلك يتضح أن سنده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 أما دعوى الاضطراب في المتن فهي ساقطة أيضاً، فإن رواية «وثلاث» شاذة، ورواية «أربعين قُلَّة» ضعيفة ضعَّفها الدارقطني بالقاسم بن عبد الله العُمَري فلا يُحتج بها، وهذا لا يهمُّ ما دامت رواية القُلَّتين ذات إسناد جيد. 3- ولكنهم لم يتوقفوا عن الطعن في هذا الحديث، فقالوا إن القِلال غير معلومة المقدار، وإنَّ تقييد من أخذوا بالحديث للقِلال بقِلال هَجَر غير مقبول، وردوا الرواية التي قيدتها بقِلال هَجَر بأنها من رواية المغيرة بن صقلاب وهو منكر الحديث. هذه حجتهم في الرد أيضاً، وهي حجة واهية لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حينما يذكر كيلاً أو وزناً يُفسَّر ويُحدَّد بمعرفة ما كان الناس عليه زمنه عليه الصلاة والسلام، ولا يلزم أن يقع ذلك في حديثه عليه الصلاة والسلام. فبالرجوع إلى ما كان عليه المسلمون زمن الرسول عليه الصلاة والسلام نجد أن قِلال هَجَر هي التي كانت شائعة فيهم، فلا يُصار إلى غيرها إلا بنص، فقد كثر استعمال العرب لها في أشعارهم كما قال أبو عبيد في كتاب الطهور، وروى البيهقي عن مالك ابن صعصعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر حديث المعراج وفيه «ثم رُفِعتُ إلى سِدْرة المُنْتَهى، فحدَّث نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أن ورقها مثل آذان الفيلة وأن نَبقَها مثل قِلال هَجَر» وقال بعد ذلك (مخرَّج في الصحيحين من حديث ابن أبي عروبة) ، وهذا يدل على أنها كانت مشهورة فعلاً، ولذا لا يضيرنا ضعف رواية المغيرة بن صقلاب لأنها ليست بلازمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 إذن حديث القُلَّتين صالح للاحتجاج ولا يضيره أن عدداً من الأئمة ضعَّفوه، لأنه لا يكاد يخلو حديث من تضعيف إمام أو أكثر، ولو شئنا أن نردَّ عليهم بمثل ردهم لقلنا بضعف حديث أبي سعيد «الماء طَهور لا يُنجِّسه شيء» لأن الدارقطني قال عنه إنه ليس بثابت، وأعلَّه ابن القطان بجهالة راويهِ عن أبي سعيد واختلاف الرواة في اسمه واسم أبيه ولكننا لا نفعل وإلا تعطل العديد من الأحكام. فهذا الحديث صحيح ويُحتج به لأن أحمد قال: حديث بئر بُضاعة صحيح. وصححه أيضاً يحيى بن معين وابن حزم والحاكم، حتى إن ابن القطان قال بعد تضعيف الحديث: له طريق أحسن من هذه. فالمطلوب حين العمل بالأحاديث أن تصح منها رواية واحدة ولو ضُعِّفت سائر رواياتها، وهذا الحديث قد صحت منه أكثر من رواية، فيُعمل به وهو صالح للتخصيص. قال الشَّوكاني (والحاصل أنه لا معارضة بين حديث القُلَّتين وحديث الماء طَهورٌ لا ينجِّسه شيء، فما بلغ مقدار القُلَّتين فصاعداً فلا يحمل الخبث ولا ينجس بملاقاة النجاسة، إلا أن يتغير أحد أوصافه فنجس بالإجماع، فيخص به حديث القُلَّتين وحديث لا ينجِّسه شيء، وأما ما دون القُلَّتين فإنْ تغير خرج عن الطهارة بالإجماع وبمفهوم حديث القُلَّتين، فيخص بذلك عموم حديث لا ينجِّسه شيء، وإنْ لم يتغير بأن وقعت فيه نجاسة لم تغيره، فحديث لا ينجِّسه شيء يدل بعمومه على عدم خروجه عن الطهارة لمجرد ملاقاة النجاسة، وحديث القُلَّتين يدل بمفهومه على خروجه عن الطُّهورية بملاقاتها) . 4- ما قلناه عن الحديث الثاني والحديث الثالث من أدلة الأولين من أنهما غير لازمَيْن لإثبات رأيهم نقوله عن حديثي الاستيقاظ وولوغ الكلب، وذلك بعد ثبوت الحجة بحديث القُلَّتين هذا عدا عن أن حديث الاستيقاظ ليس منطبقاً على المشكلة لأنه ليس بحثاً في النجاسة، وإنما هو بحث في الاستقذارِ، والنجاسةُ فيه مرجوحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 أما حديث الولوغ فهو في النجاسة وإن كان المالكية صرفوه عنها بادِّعاء الناحية التعبدية فيه حتى تطرَّفوا في الحكم، فاعتبروا سُؤر الكلب طاهراً يجوز التوضؤ به. وثانياً لو افترضنا أنهما في لبِّ المشكلة فليس فيهما تحديدٌ لكمية الماء التي تتنجس إن أصابتها نجاسة، فإن كلمة (إناء) الواردة في حديث الولوغ وفي حديث الاستيقاظ في رواية له «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يُدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، فإنَّ أحدكم لا يدري أين باتت يده أو أين كانت تطوف يده» رواه أبو داود من طريق أبي هريرة. ورواه الترمذي وابن ماجة. هذه الكلمة لا تفيد تحديداً كحديث القُلَّتين، وكل ما تفيده أن الماء قليل، فيقتضي منا بعدئذ البحث عن دليل آخر يحدد هذا القليل، وهكذا نعود أدراجنا إلى حديث القُلَّتين. ولسوف نناقش هذين الحديثين بما يغني في باب الماء المستعمَل وباب النجاسات بإذن الله. 5- حشد الفريق الثاني زيادةً على ما سبق مجموعةَ أدلة لا تغني شيئاً ولا تُثبت حجة أُوردها هنا التزاماً بالنقل فقط، ولن أطيل الوقوف عندها لأنها ظاهرة في عدم انطباقها على موضوع البحث وهاكم الأحاديث: أ - عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي وأبو داود. ب - عن وابصة بن مَعْبَد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له «يا وابصة استفتِ قلبك واستفتِ نفسك، ثلاث مرات، البِرُّ ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتَوْك» رواه أحمد والدارمي، وحسنه السيوطي والنووي. ج - سُئل الحسن بن علي «ما حفظتَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: حفظتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك ... » رواه التِّرمذي وصحَّحه، وصحَّحه أحمد وابن حِبَّان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ما الحديث الأول فالقول فيه هو القول نفسه في حديثي الاستيقاظ والولوغ، فهو لا يفيد تحديداً سوى تخصيصه بالماء الراكد فقط، ويظل عاماً دون تحديد في الماء الراكد، وبذلك لا يصلح للاحتجاج، لأنه هو يحتاج إلى دليل يحدده، وذلك على اعتبار أن الحديث يفيد تنجيس الماء. وأما إن كان الاغتسال فيه هو المقصود فإنَّا نقول إن الاغتسال المنهي عنه هنا ليست النجاسة علته، وإنما العلة هي احتمال الاستقذار والتلوُّث، فيسقط الاحتجاج به أيضاً. وسوف نفصِّل هذه الأمور بشكل وافٍ بإذن الله حين بحث الماء المستعمَل. أما الحديثان الثاني والثالث فليس فيهما ما يصلح للحجة لأنهما عامَّان، ليس في الماء فقط بل في سائر الأحكام الشرعية الظنية، وهما في أمور تقديرية مدارُها على القلب، والمطلوب هنا غير ذلك، وحتى لو استشهد بها هؤلاء فإن الآخَرين يمكنهم الاستشهاد بها بدورهم، وكان الأَحرى والأَوْلى بهم أن لا يذكروهما هنا، وأن يكتفوا بحديث القُلَّتين، ولا حاجة بهم وقد صح حديث القُلَّتين إلى أن ينقِّبوا في بطون كتب الحديث عن مثل هذه النصوص فالبساطة والوضوح أساس الفقه، وأساس الشرع كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وبالبساطة أقول إن ملخص ما جاء على أَلْسِنة الفريقين إنما هو: هل يُعمل بالحديث العام «إن الماء طَهور لا يُنجِّسه شيء» لأن حديث التخصيص لم يصح، أم أن حديث التخصيص صحيح يصلح لتخصيص الحديث العام؟ والأحاديث التسعة التي أوردوها كان بالإمكان الاقتصار منها على هذين الحديثين فقط. وبالعمل بالحديث المُخصِّص وهو حديث القُلَّتين نخرج بالرأي القائل إن هناك ماءً نجساً وإنه موجود، وبالتالي يُصنَّف في باب أقسام المياه، ولكنه فقط ما كان دون القُلَّتين وأُصيب بنجاسة يسيرة، وما سوى ذلك من الماء، إن أصابته نجاسة كثيرة فغيرت اسمه وصفاته صار نجساً، ولكنه صار كسائر النجاسات الأخرى غير الماء، أي ما دام ليس ماء لا في الاسم ولا في الصفات فلا يُصنَّف في باب أقسام المياه، اللهم إلا إن كان للأحناف رأي أقوى في هذه المسألة فلْننظر في أدلتهم ودلالاتها. 6- انفرد أبو حنيفة وأصحابه بالرأي الآتي (الماء الكثير ينجس بالنجاسة إلا أن يبلغ حداً يغلب على الظن أن النجاسة لا تصل إليه) واختلفوا في حدِّه، فقال أبو حنيفة: هو ما إذا حُرِك أحدُ طرفيه لم يتحرك الآخر. وقال أبو يوسف: هو ما بلغ عشرة أذرع في عشرة أذرع، وما دون ذلك ينجس وإن بلغ ألف قلَّة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يبولن أحدُكم في الماء الدائم ثم يتوضأ فيه» فنهى عن الوضوء في الماء الراكد بعد البول فيه ولم يفرق بين قليله وكثيره، ولأنه ماء حلَّت فيه نجاسة لا يُؤمن انتشارها إليه فينجس بها كاليسير. أي أن ما دون ما حدَّدوه ينجس بأدنى نجاسة، وما فوق ما حددوه لا ينجس إلا بالتَّغيُّر. والجواب عليه من وجوه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 أ - إن قولهم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفرق في الماء بين قليلِه وكثيرِه يُبطل رأيهم بأن حدود الماء الكثير هي عشرة أذرع في عشرة، أو هي ما إذا حُرِّك أحدُ طرفيه لم يتحرك الآخر إذ ما دام الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحدِّد كثير الماء باعترافهم فكيف جاز لهم هم تحديده؟. ب - إنهم هم أنفسهم اختلفوا في تحديد الماء الكثير، فإذا كانوا هم اختلفوا في هذا التحديد فكيف يمكن إقناع الآخرين به أو تقليدهم فيه؟. ج - إن حديث القُلَّتين نصٌ في تحديد قليل الماء الذي ينجس بمخالطة النجاسة، وكثيره الذي لا ينجس، وما دام الحديث صحيحاً فقد بطل القياس والرأي. د - حديث بئر بُضاعة صحيح هو الآخَر وهو نصٌّ أيضاً، وبئر بُضاعة لا تبلغ الحد الذي ذكروه قال أبو داود (وسمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قيِّم بئر بُضاعة عن عمقها، قال: أكثر ما يكون فيها الماء إلى العانة، قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة، قال أبو داود: وقدَّرت أنا بئر بُضاعة بردائي، مددته عليها ثم ذرَعْتُه، فإذا عرضها ستة أذرع وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه: هل غُيِّر بناؤُها عما كانت عليه؟ قال: لا، ورأيت فيها ماءً متغيِّر اللون) فبئر بُضاعة كانت النجاسات تُلقى فيها، فيتغيَّر لون مائها قليلاً، ومع ذلك تبقى طاهرة الماء كما أفاد الحديث الشريف مع أن هذه البئر دون الحد الذي ذكروه، فهذا الحديث أيضاً ينقض رأيهم في التحديد. هـ - هذا التحديد للماء الكثير وللماء القليل طريقه التوقيف، فلا يُصار إليه إلا بنصٍّ أو إجماع صحابة، وليس معهم نص ولا إجماع صحابة، فمِن ذلك كله يتضح خطأ هذا الرأي. وإذن فقد ثبت القول السابق وهو أن الماء النجس الذي يُصنَّف في باب أقسام المياه هو فقط ما كان دون القُلَّتين وأصيب بنجاسة، وما سوى ذلك يظل طَهوراً على أصل حكمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وقبل الانتقال إلى الماء المستعمَل بفروعه الثلاثة أود أن أُثْبِت ملاحظة هي أن هذه الأدلة والمناظرات الواقعة بين الفريقين إنما كانت من الفقهاء والأئمة دون صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل دون سائر التابعين، ولكنني قرنت بين الأئمة والتابعين والصحابة لاشتراكهم في الرأي. الماءُ المستعمَل اختلف العلماء في الماء المستعمَل كثيراً، وذهبوا فيه مذاهب شتى، وحتى يسهل علينا أن نناقش آراءهم فقد جمعت هذه الآراء في أصول ثلاثة، تاركاً التفاصيل والتفريعات إلى نهاية البحث، إلا ما لا بد من ذكره، فأقول: الماء المستعمل قسمان: قسمٌ مستعمَلٌ في رفع الحدث الأكبر والحدث الأصغر، وقسمٌ مستعمَل فيما سوى ذلك، ونحن سنناقش القسم الأول ثم ننتقل لمناقشة القسم الثاني. 1) ذهب الأئمة في هذا القسم مذاهب ثلاثة، فذهب الليث والأوزاعي ومالك في رواية، وأبو حنيفة في المشهور عنه، والشافعي وأحمد إلى أن الماء المستعمَل في رفع الحدث طاهر ولكنه غير مطهِّر لا يرفع حدثاً ولا يزيل نجاسة، واستدلوا على رأيهم بالأحاديث التالية: أ- عن الحَكَم بن عمرو - وهو الأقرع – «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طَهور المرأة» رواه أبو داود والترمذي وأحمد. وفي رواية لأحمد وابن ماجة عن الحَكَم بلفظ «وضوء المرأة» . وحسنه الترمذي وصححه ابن ماجة وابن حِبَّان. ب- عن رجل صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو يغتسل الرجل بفضل المرأة، ولْيغترفا جميعاً» رواه أبو داود والنَّسائي. وصححه ابن حجر. ج- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يغتسل أحدُكم في الماء الدائم وهو جُنُب، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً» رواه مسلم وابن ماجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 د- عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه» رواه البخاري وأحمد وأبو داود وابن حِبَّان والنَّسائي. هـ- عن عبد الله بن زيد المازني «أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمضمض، ثم استنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويده اليمنى ثلاثاً، والأخرى ثلاثاً، ومسح برأسه بماء غير فضل يده، وغسل رجليه حتى أنقاهما» رواه مسلم وابن حِبَّان. و عن عبد الله بن زيد «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ لرأسه ماءً جديداً» رواه الترمذي. ز- عن نمران بن جارية عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «خذوا للرأس ماءً جديداً» رواه الطبراني في المعجم الكبير. عن الحديثين الأول والثاني قالوا إنَّ نهيَ الرسول عليه الصلاة والسلام عن الوضوء بفضل وَضوء المرأة، ونهيه عن الاغتسال بفضل الرجل وبفضل المرأة إنما هو لعلَّة الاستعمال - والنهي يقتضي فساد المنهيِّ عنه - ولو لم يكن الوضوء والغسل فاسدين هنا لما نهى عنهما، وقالوا عن الحديثين الثالث والرابع: إن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الاغتسال في الماء الدائم، أي الانغماس فيه، وهذا النهي يدل على أنه يؤثِّر في الماء تأثيراً يمنع من التوضؤ به، وأن اقتران نهي الاغتسال بالنهي عن البول يقتضي التسوية في أصل الحكم لا في تفصيله، ومعنى ذلك أن التسوية هنا إنما تكون في المنع من الوضوء بالماء الذي يُبال فيه والذي يُغتسل فيه، وهذا هو أصل الحكم، ولا يلزم الاقتران هنا التسوية في تفصيل الحكم، وهم يعنون بذلك أنه لو كانت التسوية في تفصيل الحكم لوجب القول بنجاسة الماء الذي يغتسل فيه كنجاسة الماء الذي يُبال فيه، وهم لا يقولون ذلك. وقالوا لولا أن النهي يفيد منعاً لم ينه عنه، ولأنه أُزيل به مانعٌ من الصلاة فلم يَجُز استعماله في طهارة أخرى كالمستعمل في إزالة النجاسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 والأحاديث: الخامس والسادس والسابع أخذوا منها أن فعل الرسول عليه الصلاة والسلام في أخذ ماء جديد لرأسه في الوضوء، وأمرَه المسلمين بأخذ ماء جديد لمسح الرؤوس في الوضوء إنما هو لعلَّة الاستعمال، وقالوا هذا يدل على أن غير الجديد لا يصح مسح الرأس به، وغير الجديد يعني المستعمل. 2) وذهب أبو يوسف القاضي وأبو حنيفة في روايةٍ عنه، إلى أن الماء المستعمَل في الوضوء والاغتسال الواجبة نجس، واستدلوا على ذلك بما يلي: أ - بالحديث الرابع من أحاديث الفريق السابق. ب- بقولهم إن الماء الذي تُزال به الجنابة أو يُتوضأ به هو ماء يُزال به مانعٌ من الصلاة، فانتقل المنع إليه كغُسالة النجس المتغيرة. ج - إن الغسل أو الوضوء يسمى طهارة، والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة، إذ تطهير الطاهر لا يُعقل. وعن الحديث الأول قالوا إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قرن في هذا الحديث بين النهي عن التبوُّل في الماء الدائم وبين الاغتسال فيه، وحيث أن النهي عن التبوُّل إنما هو لعلَّة التنجيس، فكذلك النهي عن الاغتسال هو أيضاً لعلَّة التنجيس بدلالة الاقتران. 3) وذهب الباقون إلى أن الماء المستعمَل في رفع الحدثين الأكبر والأصغر يظل على طُهوريته، وأصحاب هذا الرأي هم: الحسن البصري وعطاء وسفيان الثَّوْري وأبو ثَوْر وإبراهيم النخعي والزُّهري ومكحول ومالك وأهل الظاهر، والأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد في روايةٍ عن كلٍ منهم. وأصحاب هذا الرأي استشهدوا بعموم أحاديث طُهورية الماء، وبعددٍ من الأحاديث الصريحة في ذلك، وردوا على استشهادات الفريقين السابقين. وأَدَعُ ردودهم الآن لأنكم سترونها في أثناء مناقشة الرأيين السابقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 4) نناقش الآن الرأي الأول فنقول: الحديث الأول فيه نهي الرجل عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة فقط، والحديث الثاني فيه نهي الرجل عن الاغتسال بفضل المرأة، ونهي المرأة عن الاغتسال بفضل الرجل، وليس في الحديثين ما يفيد نهي الرجل عن الوضوء أو الاغتسال بفضل الرجل، أو المرأة بفضل المرأة، فهذه قرينة صارفة لعلَّة الاستعمال، إذ لو كانت العلَّة هي الاستعمال لما كان لتخصيص النهي برجال مع نساء أو نساء مع رجال فائدة، ولو كان الحكم عموم النهي لقال الحديث مثلاً: نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء أو الاغتسال بفضول الماء، أو لقال: أنهاكم عن التوضؤ بفُضول وضوئكم مثلاً، فلما انعطف الحديثان عن صيغة العموم دل ذلك على معنى خاص مقصود وهو هنا يعالج عملاً بيتياً، وخاطب فيه الرجل مع المرأة والمرأة مع الرجل، فكان ذلك قرينة صارفة عن عموم التوضؤ بفضل الوضوء، وعموم الغُسل بفضل الغُسل، فإذا اقترن ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام «ولْيغترفا جميعاً» في آخر الحديث الثاني بان القصدُ واضحاً، وهو أن هذين الحديثين يعالجان عملاً بيتياً خاصاً بالأزواج، الرجال وزوجاتهم، فهما خاصَّان بهذا الأمر فحسب، وذلك لأنه إذا ذُكر الرجل إلى جانب المرأة في عمل بيتي كان قرينة على العلاقة بين الأزواج، فإذا كان العمل يصحبه تعرٍّ كاملٌ عند الاغتسال ولا يكون تعري الرجل والمرأة معاً إلا في حالة الزوجية فقط، كان قرينةً قطعية على أن الحديثين يعالجان موضوعاً خاصاً بالأزواج، لأن المرأة لا تستطيع أن تتوضأ مع الرجل من إناء واحد في وقت واحد لما في عملية الوضوء من انكشاف شعرها ويديها ورجليها إلا مع محارمها، ومع زوجها، ولا تستطيع الاغتسال وهي عارية مع الرجل إلا إذا كان زوجها فقط، فطلب الحديث من الرجل والمرأة في الاغتسال أن يغتسلا من إناء واحد في وقت واحدٍ بقوله «ولْيغترفا جميعاً» ، وهما عاريان طبعاً، كان ذلك بالقطع دليلاً على أن هذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الحديثين خاصان بالزوج والزوجة فحسب، وهذا ينفي بالجزم عموم الحكم وتنتفي بالتالي علَّة الاستعمال، فلا يصلح الحديثان دليلاً على أن الماء المستعمل لا يصلح للوضوء أو الغسل، ويظل للمسلمين أن يتوضأوا بفضولهم ويغتسلوا بفضولهم من الوضوء والغسل، فيُردُّ الاستشهاد بالحديثين من هذه الناحية. ومن ناحية ثانية ورد ما يلي: أ - عن ابن عباس «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة» رواه مسلم. ب - عن ابن عباس عن ميمونة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ بفضل غُسلها من الجنابة» رواه أحمد وابن ماجة. فهذان حديثان يعارضان الحديثين السابقين، وهما مثلهما في القوة أو أعلى، وإنه وإن أعلَّ بعضهم الحديث الأول إلا أن البخاري ومسلماً رويا عن عبد الله بن عباس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة كان يغتسلان من إناء واحد» والحديث الثاني صححه ابن خُزَيمة وغيره كما قال الحافظ ابن حجر، فهما إذن صالحان للاحتجاج وهذان الحديثان معارِضان للحديث الأول وللحديث الثاني في النهي عن الوضوء والاغتسال بفضل الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ولا يقال هنا إن الحديثين الأوَّلين قول، وإن الحديثين التاليين فعل، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام مُقدَّم على فعله، وإذا تعارضا حُمل الفعل على خصوصية الرسول عليه الصلاة والسلام ووجب العمل بالقول، لا يُقال ذلك هنا، لأن عندنا حديثاً ثالثاً يصرف فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الخصوصية، هو ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال «اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جَفْنَةٍ، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ منها - أو يغتسل - فقالت له: يا رسول الله إني كنت جُنُباً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الماء لا يُجْنِب» رواه أبو داود وأحمد. ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. فهذا الحديث ينفي الخصوصية، بتعليله الجواز بأن الماء لا يُجْنِب، وهذا التعليل يدل على عدم اختصاص ذلك بالرسول عليه الصلاة والسلام، لأن قوله «إن الماء لا يُجْنِب» عامٌّ في كل فضل وضوء أو فضل غسل، ثم هو قول وليس فعلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ومن ناحية ثالثة هم يقولون إن النهي عن الوضوء وعن الاغتسال من فضول الوضوء والأغسال إنما هو لعلَّة الاستعمال، ويقولون إن فضل الوضوء والغسل هو ما يبقى في الإناء بعد أخذ ماء الوضوء منه، والمعلوم أن معنى ذلك أن المسلم كان يأخذ بيده ماء فيتوضأ به، وتبقى في الإناء بقية ماء بعد الاغتراف، وهو مايطلق عليه فضل الوضوء، فيقولون إنَّ هذا الماء الفضل صار بالاغتراف مستعمَلاً، وكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى عن الوضوء بالفضول، فإنه يدل على عدم صلاح الفضول للوضوء أو الغسل، ولا علَّة لهذا النهي إلا لأنه صار مستعمَلاً بالاغتراف منه. فنقول لهم: لو سلَّمنا بما تقولون، لكان قول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الثاني «ولْيغترفا جميعاً» خطأ، وهو مُنتفٍ عنه عليه الصلاة والسلام، فيكون هذا القول منه معارِضاً لقولكم وفهمكم، وذلك لأن الاغتراف معاً من إناء واحد يجعل ما في الإناء في أثناء الوضوء أو الغسل من قِبَل اثنين مستعمَلاً أيضاً بالمقياس نفسه، أي ما أن يغمس أحدهما يده مرة أو مرتين في أثناء الوضوء أو الغسل حتى يجعله مستعمَلاً، فإذا جاء الآخر ليأخذ لوضوئه منه أو لغسله يكون ما يأخذه حينئذ ماءً مستعمَلاً، بل إن الشخص الواحد إذا اغترف لوضوئه وحده صار الماء مستعمَلاً من أول غَرفة غرفها من الإناء، فبطل وضوؤه، وهذا يرد عليكم قولكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ولكن بعضهم يقولون إنه لا يصبح مستعمَلاً إلا بعد أن يفرغ الشخص من الاغتراف لجميع وُضوئه أو لجميع غُسله، ولا يكون مستعمَلاً قبل الفراغ، لأنه لا يُسمى مُزيلاً لحدثه إلا بعد تمام العمل لا قبل ذلك، وأن المنهيَّ عنه هو الماء المتبقي في الإناء بعد إزالة الحدث منه لا قبله ولا في أثنائه فنقول لهؤلاء: كيف تفسرون قول الرسول عليه الصلاة والسلام «ولْيغترفا جميعاً» ؟ والمعلوم أن الاغتراف جميعاً يقتضي من أحد المغترفَيْن أن يفرغ قبل الآخر، فإذا فرغ الأول وزال حدثه صار ما بقي في الإناء آنذاك فضلاً مستعمَلاً لا يجوز الوضوء منه أو الغسل، فكيف يتسنى للثاني أن يكمل وضوءه أو غسله منه؟ هذا تناقض. ومن هذه الناحية يسقط احتجاجهم أيضاً، وبذلك يسقط الاحتجاج بالحديثين من وجوه ثلاثة. بقيت نقطة هي: كيف العمل أو التوفيق بين هذه الأحاديث؟ فنقول إن أحاديث النهي تُحمل على التنزُّه عن المستقذَر لأن الغسل والوضوء قد يُقَذِّران الماء والأَوْلى للمسلم أن يستعمل ماء نظيفاً خاصةً في عبادته، فالنهي إنما هو لأجل ذلك أو لأجل أن المرأة إذا فرغت من الماء أو الرجل إذا فرغ منه في بيته قلَّ اهتمامه بنظافته، وربما أدى عدم اهتمامهما إلى إصابته بنجاسة أو قذر، فكان النهي لأجل ذلك أي لأجل احتمال الاستقذار أو النجاسة، وليس لعلَّة الاستعمال فنهاهما عن الاغتسال منفردَيْن، وطلب منهما الاغتسال مجتمعَيْن حتى ينتفي احتمال النجاسة واحتمال الاستقذار بعدم الاهتمام، سيما وأن قوله عليه الصلاة والسلام في فضل الغسل «إن الماء لا يُجْنِب» صريح في صلاحه للغسل والوضوء، وبذلك تنتفي علة الاستعمال تماماً. ولسوف نعود لحديث «إن الماء لا يُجْنِب» بعد قليل لنستقرأه في موضوع آخر قريب بإذن الله. 5) أما الحديث الثالث والحديث والرابع، فقد رُويا بستة ألفاظ فيها بعض اختلاف، لا بأس بإيرادها كلها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 رواية البخاري «لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه» ورواه النَّسائي إلا أنه قال (منه) بدل (فيه) . ورواية أحمد وابن حِبَّان والترمذي «لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه» قال الترمذي: حسن صحيح. ورواية أبي داود «لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة» . ورواية مسلم «لايبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه» ورواها أيضاً أبو داود. ورواية ثانية لمسلم وأحمد «لا تَبُلْ في الماء الدائم الذي لا يجري ثم تغتسل منه» . ورواية ثالثة لمسلم «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً» ورواها أيضاً ابن ماجة. فهذا كله حديث واحد روي بألفاظ مختلفة، ويبعُد أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد لفظ جميع هذه الروايات، لا سيما وأنها جميعها مروية من طريق أبي هريرة وحده، فالحديث فيه اختلاف في المتن، ولا بد من أن متناً منها أقوى من سائر المتون فيُعمل به ويرجَّح على غيره، والمعلوم أن البخاري التزم في رواية جميع الأحاديث باللفظ كما لم يلتزم به غيره، فرواية البخاري تقدَّم على سائر الروايات الأخرى. هذه واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 والثانية هي أن الروايات الخمس الأولى قد قرنت في النهي بين البول في الماء الدائم والاغتسال فيه أو منه، أو الوضوء منه، إلا الرواية السادسة فقد انفردت بالنهي عن الاغتسال في الماء الدائم دون أن تذكر النهي عن البول فيه، فهي جزء من الحديث، وليست حديثاً منفصلاً، لا سيما وأن أبا هريرة راوي هذه الرواية هو الراوي نفسه للرواية التي تقرن بين النهيين، ولا يبعد أن تكون الرواية السادسة كلها من لفظ أبي هريرة موقوفة عليه، وأنه قالها في مناسبة وقعت أمامه، يشهد لهذا الاحتمال أن آخر الرواية حوى سؤالاً، وحوى جواباً من أبي هريرة هو قوله «يتناوله تناولاً» فالرواية تقول «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال يتناوله تناولاً» . فصياغة هذه الرواية تجعل المدقق يميل إلى وقفها على أبي هريرة لهذا السبب، ولأنها شذت عن سائر الروايات، فيُعمل بروايات النهيين وتُترك رواية النهي الواحد. هكذا يُفعل عادة حين تقع اختلافات في الأحاديث ويصبح لا بد من ترجيحٍ وردٍّ لا سيما وأن هذه الرواية معناها موجود كله في الروايات الخمس الأخرى وليس فيها معنى جديد زائد عن الروايات الأخرى، ولذا فإني أكتفي بمناقشة روايات النهيين وأترك رواية النهي الواحد. الحديث ينهى عن البول في الماء الدائم وبعد ذلك يأمر بعدم الاغتسال فيه، وقد ورد في أربع روايات من خمس «لا يبولنَّ ... ثم ... » و «لا تَبُل ... ثم ... » وورد في الثالثة «لا يبولنَّ ... ولا ... » بدون (ثم) فتحمل رواية «ولا» على الروايات الأربع «ثم» وتفسر بها، لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضاً، وأربعة أحاديث تكفي لتفسير حديث واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وثانياً لأن الواو في اللغة تفيد الترتيب عند الفرَّاء وثعلب وأبي عبيد والشافعي في رواية عنه ولا تفيد الترتيب عند سائر اللغويين والأئمة، ولكن اللغة تجعل الواو تفيد الترتيب إذا وُجدت قرينة، وقد وُجدت هنا قرينة، وهي الروايات الأربع التي فيها «ثم» فهذه الروايات الأربع قرينة على أن «ولا» هنا تفيد الترتيب والتعقيب، فيكون معنى الحديث إذن: لا تبولوا في الماء، وبعد التبوُّل فيه لا تتوضأوا منه ولا تغتسلوا فيه. فالنهي عن الوضوء أو الاغتسال إنما جاء لوجود البول في الماء وليس لأي سبب آخر. والماء الدائم إما أن يكون دون قُلَّتين فيتنجس بالبول وإما أن يكون أكثر من قُلَّتين فيتقذَّر، ولا احتمال آخر، فالحديث إذن ينهى عن الاغتسال من الماء النجس أو الماء القذر، فتكون علَّة النهي النجاسة فيما دون القُلَّتين والقذارة فيما فوق القُلَّتين، ولا يوجد في الحديث أية علَّة أخرى. أما ما يدَّعونه من أن علَّة النهي عن الاغتسال أو الوضوء هي الاستعمال، فهو مرجوح وبعيد، فاقتران النهيين لم يجيء عبثاً، ولو كان الاستعمال هو العلَّة لما لزم اقتران البول بالاغتسال، فوجود النهي عن البول في الحديث مقترناً بالنهي عن الوضوء أو الاغتسال قرينة صارفة لعلَّة الاستعمال إلى القذارة والتلوث بالنجاسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وأُضيف من وجه آخر ما يلي: روى أبو داود وأحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه قال «اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جَفْنة، فجاء النبي يتوضأ منها، أو يغتسل فقالت له: يا رسول الله إني كنت جُنُباً، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: إن الماء لا يُجْنِب» . وبالتدقيق في نصِّ الحديث يتبين لنا أن زوجة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد اغتسلت في جَفْنة، وخلَّفت فيها فضل غُسل، فلما جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليغتسل مما فضل في الجَفْنة من ماء غُسلها، أخبرته أنها اغتسلت من هذا الماء وأن هذا الماء هو فضل غُسلها، فلم ير الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن فعلها مانع له من الاغتسال بفضل الماء، وقال لها «إن الماء لا يُجْنِب» أي أن الماء الذي يُغتسل منه لا يُجنب. ولا شك في أن هذا الماء قد غمست فيه يديها حين الاغتراف، وأصابه شيء من رشاش ماء الغسل، ولولا ذلك لما أخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها اغتسلت في الجفنة، فهذا الحديث ينفي علَّة الاستعمال. فقول الرسول عليه الصلاة والسلام حين ذكر الماء المستعمَل «إن الماء لا يُجْنِب» هو قول صارف لعلَّة الاستعمال، وصارف أيضاً لادِّعاء من يقول إن الحديث هذا من خصوصياته. وأُضيف من وجه ثالث أنهم قالوا إن اقتران النهي عن البول بالنهي عن الاغتسال في الماء يقتضي التسوية في أصل الحكم لا في تفاصيله، وجعلوا المنع من الوضوء في حالة البول في الماء متساوياً مع المنع من الوضوء في حالة الاغتسال فيه، أي أنهم قالوا إنه لا يجوز التوضؤ بالماء الذي اغتسل فيه لأنه لا يرفع الحدث، كما أن الماء الذي خالطه البول لا يرفع الحَدَث، ونفَوْا التسوية في التفاصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فنجيبهم بأننا أثبتنا أن الاغتسال في الماء لا يمنع الاغتسال منه ثانية كما في حديث الجَفْنة وهذا يدل على عدم التسوية في هذا الحديث بين الأمرين، فالاغتسال في الماء لا يمنع رفع الحدث به بينما البول في الماء يمنع رفع الحدث، فزالت التسوية من هذا الوجه. ونحتاج إلى إثبات هذه التسوية مع شيء آخر، فنقول إن هذا الأمر الآخر هو الاستقذار كما أسلفنا، ونبسط الموضوع قليلاً. قلنا إن الماء إما أن يكون دون قُلَّتين وإما أن يكون قُلَّتين فأكثر، ولا ثالث لهما، فإن كان الماء دون قُلَّتين، فإن النهي عن البول فيه إنما هو لأجل تحاشي منع رفع الحدث به، لأن نجاسة الماء تمنع رفع الحَدَث به، وفي هذه الحالة فإن النهي عن الاغتسال من هذا الماء إنما هو لبيان أن الماء لا يصلح له لنجاسته. وإذن فإن النهي عن الاغتسال منه إنما هو لنجاسة هذا الماء قبل بدء الاغتسال منه أو فيه، ولا يزيده الاغتسال شيئاً، فالنجس لا ينجس، ولا ينجس إلا الطاهر، ولذلك جاءت ألفاظ الحديث (منه) و (فيه) أي لا يحل التوضؤ بالماء الذي خالطته نجاسة وكان دون قُلَّتين، يدل على ذلك أن النهي عن الاغتسال منه ولو بالاغتراف قد بقي وهذا التعليل يصرف علَّة الاستعمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وإذا كان الماء قُلَّتين فأكثر فإن البول فيه لا ينجِّسه، وبالتالي يجوز التوضؤ منه، فلما نُهينا عن التوضؤ منه أو الاغتسال فيه، وقد أُجيز لنا التوضؤ والاغتسال في الماء المستعمل كما جاء في حديث الجَفْنة، فهمنا من ذلك أن ذلك كان لأن الماء صار قذراً فقط ولم يصِر نجساً، فيكون النهي للاستقذار وليس للنجاسة، وبالتالي يكون حكم النهي عن الاغتسال فيما دون القُلَّتين للتحريم، ويكون فيما فوق القُلَّتين للتنزيه فحسب. ولولا أن الماء قد خالطه بول لما كان هناك نهي، بدليل حديث الجَفْنة، فإن الجَفْنة لما لم يكن فيها بول لم يمتنع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الاغتسال منها، وقال «إن الماء لا يُجْنِب» أو قال «إن الماء ليس عليه جنابة» كما ورد في روايةٍ لأحمد. وهذا يعني أن الماء النازل من أعضاء المتوضِّيء أو المغتسِل يبقى على حاله وهو الطُّهورية. وإن أصرَّ هذا الفريق على الاستشهاد بحديث انفراد النهي عن الاغتسال في الماء، أجبناهم بحملِهِ على النظافة ومنع الاستقذار، لأن المغتسِل عموماً لا يخلو بدنه من وسخ ودرن يَعْلق بالماء، فاستحبَّ الرسول عليه الصلاة والسلام أن يخلو ماء الوضوء والغسل من القذارة، ولو بكمية قليلة بقرينة ما جاء في الحديث «يتناوله تناولاً» وبذلك يسقط الاحتجاج بهذا الحديث على اختلاف رواياته على ما ذهبوا إليه من أن المستعمل في رفع الحدث لا يرفع حدثاً. فالحديث ينهى عن الاغتسال في الماء الذي فيه بول وينهى عن التبول في الماء الذي يغتسلون فيه، هذا هو معنى الحديث وهذا هو الفقه فيه. 6) بقي للنقاش من الأحاديث: الخامس والسادس والسابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الحديثان الخامس والسادس، موضوعهما واحد، هو مسح الرأس بماء غير مستعمَل، فالرسول عليه الصلاة والسلام حين أراد مسح رأسه في الوضوء أخذ له ماء جديداً من غير فضل يده، أي أنه بعد أن غسل يده اليسرى في الوضوء، تناول ماء جديداً لمسح الرأس، ولم يمسحه ببقية الماء في يديه، فقالوا لولا أن الماء المستعمَل في غسل يديه لا يرفع حدثاً، ولا يُستعمل في الوضوء لمسح الرسول عليه الصلاة والسلام رأسه به دون حاجة منه إلى غَرفة ماء جديد لمسح الرأس. هكذا علَّلوا الحديثين، وقالوا إنهما صحيحان يُحتجُّ بهما. وجوابنا على ذلك هو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما فعل هذا الفعل قد فعل عكسه أيضاً، وجاء ذلك بأحاديث صحيحة أيضاً، فعن ابن عباس رضي الله عنه «أنه توضأ فغسل وجهه، أخذ غَرفة من ماء فمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غَرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بهما وجهه، ثم أخذ غَرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غَرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه، ثم أخذ غَرفة من ماء، فرشَّ على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غَرفة أخرى فغسل بها رجله - يعني اليسرى - ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ» رواه البخاري. فهذا الحديث يصف فيه ابن عباس فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء، وفيه أنه كان يغرف غَرفة ماء لكل عمل من أعمال الوضوء، فغَرفةٌ للمضمضة والاستنشاق، وغَرفة لغسل الوجه، وغَرفة لغسل اليدين وغَرفة لغسل الرجلين، ولم يذكر أنه اغترف غَرفة لمسح الرأس، مما يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه بماءٍ فَضَل في يديه ولم يمسحه بماء جديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 نعم قد يقال إن هذا ردٌّ على المنطوق بالمفهوم وهو ضعيف، فنقول: هو ضعيف لو كان المفهوم يعارض المنطوق ولا يمكن الجمع بينهما، وهنا لا تعارض، فالرسول عليه الصلاة والسلام وقد مسح رأسه بماء جديد، ثم جاء عنه أنه مسح رأسه بماء مستعمَل لا يقال عنه هذا تعارض، وإنما يقال إن الفعلين جائزان لوقوعهما منه عليه الصلاة والسلام فلا يقبل ردهم على هذا القول. وعلى أية حال فإننا كي نقطع الحُجَّة عليهم نورد لهم حديث الرُبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عفراء الذي يصف كيف كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، وجاء في الحديث «ومسح - أي الرسول عليه الصلاة والسلام - رأسه بما بقي من وَضوئه في يديه مرتين، بدأ بمُؤَخَّرِه، ثم ردَّ يده إلى ناصيته وغسل رجليه ثلاثاً ... » رواه أحمد. ورواه أبوداود بلفظ «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه من فضل ماء كان في يده» ولم يختلف الأئمة في رُواة سنده إلا في عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، وقد رد عليهم الترمذي فقال (عبد الله ابن محمد بن عقيل صدوق ولكن تكلم فيه بعضهم من قِبَل حفظه) وقال فيه البخاري (كان أحمد وإسحق والحُمَيدي يحتجُّون بحديثه) وبذلك صلح هذا الحديث للاحتجاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 فهذا الحديث ردٌّ بالمنطوق على المنطوق، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مسح رأسه من فضل ماء كان بيديه، فماذا بقي بعد ذلك من حجة في الاستشهاد بالحديثين على أن الماء المستعمَل في الوضوء لا يصلح للاستعمال؟ فيسقط احتجاجهم بالحديثين، ولم يبق لهم إلا حديث واحد هو السابع، وهو حديث جارية الذي رواه الطبراني، وهو قول من الرسول عليه الصلاة والسلام «خذوا للرأس ماءً جديداً» فهذا هو بقية شُبُهاتهم في منع استعمال المستعمل. هذا الحديث قال عنه الهيثمي: فيه دهثم بن قران ضعفه جماعة، وذكره ابن حِبَّان في الثقات، فهو إذن مختَلَف فيه، حتى إن ابن حِبَّان هذا لم يُثْبته في صحيحه، ومع ذلك فلآخذه على أنه صالح للاحتجاج. هذا الحديث هو في موضوع الحديثين السابقين نفسه باستثناء أن الحديثين السابقين وردا في فعل الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا نص في قوله عليه الصلاة والسلام، فالموضوع واحد. وقد روينا حديثين عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لم يأخذ لمسح رأسه ماء جديداً، أحدهما جاء فيه «مسح برأسه من فضل ماء كان في يده» وهو منطوق، وجاء في الآخر أنه لم يغْرِف لرأسه غَرفة جديدة كما كان يفعل في كل عمل من أعمال الوضوء وهو مفهوم، وقد تضافر المنطوق والمفهوم على مغايرة حديثي الباب «مسح برأسه بماء غير فضل يده» و «أخذ لرأسه ماء جديداً» وهما منطوقان، وتغايُرُ الأحاديث هنا يدل على نفي علَّة الاستعمال، إذ لو كان المستعمَل لا يُستعمل لما ورد استعمال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فضل الماء في حديثين . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وقد يقال إن هذا منه يدل على أنه من خصوصياته، فنجيب بأن هذه دعوى غير صحيحة، لأنه لا يصح اعتبار ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - من خصوصياته إلا أن يقوم الدليل على أن الفعل هو من خصوصياته، ولم يقم الدليل هنا على ذلك. والمعلوم للصحابة ومَن بعدهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يصلي فيأخذ الصحابة عنه كيفية الصلاة، وكان يتوضأ فيتعلم منه المسلمون الوضوء، وإن معظم أحاديث الوضوء التي عمل بها المسلمون هي أفعال منه عليه الصلاة والسلام، أو أفعال من الصحابة ذكروا أنها تشبه أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانوا يجاهرون صراحة حين يتوضَّأون بأنهم توضَّأوا كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يتوضأ، وكان منهم من يقول: إني أَشْبَهُكم وضوءاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا الفرض الشرعي أُخذ من الرسول عليه الصلاة والسلام من فعله أكثر مما أُخذ من قوله، ثم يأتي من يقول إن هذا المسح للرأس من فضل ماء اليدين هو من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، ما هكذا تفهم النصوص! من هذه الأرضية السابقة ننطلق إلى القول بأن حديث جارية على فرض صحته يُحمَل على مَحْمل الأحاديث السابقة لأنه في موضوعها، والمقصود منه واضح وهو أن يمسح المسلم رأسه بماء جديد، أي بغير ما فضل في يديه، وهذا يضاف إلى الحديثين السابقين اللذين يذكران ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام، وليس فيه جديد، فقد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المسلم المخاطَب بأن يفعل في مسح رأسه كما مسح هو رأسه بماء جديد، كما جاء في حديثي الباب وهما اللذان خالفهما حديثان آخران، واختلاف الأحاديث يدل على إباحة مسح الرأس بماء جديد وإباحة مسحه بماء يفضل في اليدين، فالأمر فيه سعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 هكذا يجب أن تفهم النصوص، لا أن تُحَمَّل ما لا تحتمل، حتى استنبطوا منها علَّة الاستعمال، وهي غير موجودة في النص لا منطوقاً ولا مفهوماً اللهم إلا لرجلٍ وضع هذه العلَّة في ذهنه وبدأ يبحث لها عن سند. ولقد اختلف الفقهاء كثيراً في موضوع مسح الأذنين، واستشهدوا بالأحاديث وأعمال الصحابة واستعانوا بمعاجم اللغة، ومدار النقاش يدور حول: هل الأذنان من الرأس، أم هما مستقلَّتان عنه؟ فمَن قالوا إنهما من الرأس، وإنهما بالتالي جزء من عضوٍ، قالوا: إن الأُذُنين تُمسحان مع الرأس مسحة واحدة مشتركة ولا يُؤخذ لهما ماء جديد، ومَن قالوا إن الأُذُنين ليستا من الرأس قالوا بوجوب أخذ ماء جديد لهما. وهكذا أوجبوا لكل عضو مستقلٍّ في الوضوء أن يُؤخذ له ماءٌ جديد، وذلك من أجل الفصل بين الأعضاء، واعتبروا الفصل علَّة لأخذ الماء الجديد، وتركوا هنا علَّة الاستعمال، وبما أن الرأس عضو مستقل فقد وجب عندهم أن يُؤخذ له ماءٌ جديد مستقل عن ماء اليدين، وهكذا أخذوا علَّة الاستعمال مرة وعلَّة الفصل بين الأعضاء مرة أُخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وكمثال على ذلك أقدِّم لكم مقطعاً من كتاب المغني لابن قُدامة (مسألة: قال: [وأَخْذُ ماء جديد للأذنين ظاهرهما وباطنهما] المستحب أن يأخذ لأذنيه ماء جديداً، قال أحمد: أنا أستحب أن يأخذ لأذنيه ماء جديداً، كان ابن عمر يأخذ لأذنيه ماء جديداً، وبهذا قال مالك والشافعي، وقال ابن المنذر: هذا الذي قالوه غير موجود في الأخبار، وقد روى أبو أُمامة وأبو هريرة وعبد الله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الأذنان من الرأس» رواه ابن ماجة، وروى ابن عباس والرُّبيِّع بنت مُعوِّذ والمقدام بن معد يكرب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه وأذنيه مرة واحدة، رواهن أبو داود، ولنا أن إفرادهما بماء جديد قد رُوي عن ابن عمر، وقد ذهب الزُّهري إلى أنهما من الوجه، وقال الشعبي ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس، وقال الشافعي وأبو ثَوْر: ليس من الوجه ولا من الرأس ففي إفرادهما بماء جديد خروج من الخلاف فكان أولى، وإنْ مسحهما بماء الرأس أجزأه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله) . فهذا القول الذي ذكره صاحب المغني عن الشافعي وأحمد وغيرهما صريح في أن ما كان عضواً مستقلاً في الوضوء يُؤخذ له ماء جديد، وهم أصحاب القول بفقد المستعمَل في الوضوء للطُّهورية، فقد ذهبوا إلى أن العضو المستقل يؤخذ له ماء جديد، وهذا دليل واضح على أنهم فهموا من أخذ الماء الجديد ابتداء العمل بعضوٍ جديد مستقل في الوضوء، فعلَّة أخذ الماء الجديد عندهم هي الفصل بين الأعضاء، ثم هم مع ذلك يقولون إن طلب الرسول عليه الصلاة والسلام أخذَ ماءٍ جديد للرأس يدل على منع المستعمل في الوضوء من رفع الحدث؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 نخلص من ذلك كله إلى أن المستعمَل يجوز استعماله في الوضوء لأنه يظل ماء، وحكم الماء أنه لا يُجنِب وأنه طَهور، إلا ما غُلب على صفاته وسُلب اسمُه، والوضوء لا يغيِّر صفات الماء ولا يسلبه اسمه، ولذا يظل طَهوراً وإن أصابه بعضُ الدنس القليل من أعضاء الوضوء، إلا أن يكون المتوضِّيء ملطَّخاً بالقَذَر، فيخرج ماء وضوئه ملطخاً وقد غُيِّرت صفاتُه وسُلب اسمه، فحينذاك لا يجوز التوضؤ به، أو أن يكون المتوضيء مُلطَّخاً بالنجاسة فيخرج ماء وضوئه نجساً، وهذا أندر من الكبريت الأحمر. وبذلك نفرغ من مناقشة رأي القائلين بأن المستعمَل في رفع الحدث طاهر غير مطهِّر، وقد بان الصواب في هذه المسألة. 7- وننتقل الآن لمناقشة الرأي الأخير. اعتمد أبو يوسف القاضي وشيخه أبو حنيفة في رواية عنه على حديث «لا يبولَنَّ أحدكم ... » فقالا: اقترن النهي عن الاغتسال من الماء الدائم بالنهي عن البول فيه، وبدلالة الاقتران والتسوية بين الأمرين نخرج بحكم تنجيس الماء بالاغتسال فيه مثل تنجيسه بالبول فيه، وعند هذين الإمامين أن دلالة الاقتران تفيد التسوية في أصل الحكم، وفي تفاصيله. ونجيب على هذه الشبهة إضافة إلى ما سبق بأن دلالة الاقتران ضعيفة عند الأصوليين، وحتى من يقولون بها، لا يشترطون التسوية بين طرفي الاقتران، فقد يقترن نهيان أو أكثر، ويكون حكم الأول التحريم وحكم غيره الكراهة، وقد يقترن أمران أو أكثر، ويكون حكم أحدهما الوجوب وحكم الآخر الندب أو الإباحة، فهذه القاعدة التي استندا إليها ضعيفة بل خاطئة لا يجوز أن يُعوَّل عليها، وقد سبق أن أشرنا إلى هذه النقطة بما يكفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ثم إن هذا التنجيس من الاغتسال في الماء ليس منطوقاً، وإذا عارضه منطوق نفاه، لأن المنطوق أقوى في الحجة والعمل، وحديث الجَفْنة المار وهو «إن الماء لا يُجْنِب» منطوق فيُعمل به ويُترك العمل بالمفهوم من حديث «لا يبولَنَّ ... » هذا على فرض التسليم بصحة هذا المفهوم وبذلك يسقط الاستدلال بهذا الحديث على ما ذهبوا إليه. أما قولهما إن الماء الذي تُزال به الجنابة أو يُتوضأ منه هو ماء يُزال به مانع من الصلاة فانتقل المنع إليه كغُسالة النجس المتغيرة، فإن هذا حكم عقلي وليس حكماً شرعياً، ثم إن هذا الحكم يقابله نص فلا يصح، وهذا مُجمَع عليه عند جميع الفقهاء والأصوليين، قال الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا برأيي عُرضَ الحائط. وقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على طهارة الماء المستعمَل، فيُعمل بها ويُترك العمل بالقياس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 أما قولهما الأخير إن الغسل أو الوضوء يسمى طهارةً والطهارةُ لا تكون إلا عن نجاسة إذ تطهير الطاهر لا يُعقل، فإنا نقول إن هذه القاعدة خطأ، فما يُبنى عليها لا يصح، إذ الطهارة ليست بالضرورة عكس النجاسة، فقوله تعالى {فمَن شاءَ ذَكَرَهُ. في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مرفوعةٍ مُطَهَّرة} وقوله تعالى {رسولٌ من الله يتلو صُحُفَاً مُطَهَّرة} وقوله سبحانه {خُذْ من أموالِهِم صَدَقةً تُطهِّرهم وتُزكِّيهم بها} وقوله جل جلاله {أولئك الذين لم يُرِد اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قلوبَهم} وقوله سبحانه لآل الرسول عليه الصلاة والسلام {ولكنْ يُريدُ لِيُطَهِّرَكم ولِيُتِمَّ نعمتَه عليكم} وقوله سبحانه {أَخْرِجوا آلَ لوطٍ من قريتِكم إنهم أُناسٌ يَتطهَّرون} وكثيرٌ غيرها في كتاب الله لا تعني أن الطهارة هي ضد النجاسة الحسية، فالله سبحانه لم يُرد من وصف الصحف بأنها مطهَّرة أنها أُزيلت منها النجاسة، ولا أراد سبحانه أن تكون الصدقة مزيلةً من الناس النجاسة، ولا أراد من قوله أنْ يُطهِّر قلوبَهم أن يزيل النجاسة من القلوب، ولا إلى آخر ما ورد، فهذه كلها طهارات ليست مقابلةً للنجاسة ولا بوجه من الوجوه. وحين جاء مسلمٌ خاطيء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يقول له: يا رسول الله طهِّرني، لم يكن يقصد أن يزيل الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام نجاسته، بل قصد إقامةَ الحد عليه وسماها طهارة وهذه معلومة بالضرورة، فالطهارة تكون ضد النجاسة الحسية وتكون ضد النجاسة المعنوية، وتأتي بمعان متعددة، فتخصيصُها بالنجاسة الحسية في رفع الحدث يحتاج إلى مخصِّص ولا مخصِّص. بل إن عندنا أحاديث تنفي النجاسة الحسية عن المسلم وهو جُنُب، وعن المرأة وهي حائض، ونمثِّل للحالتين بما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أ- روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لقيه وهو جُنُب فحاد عنه، فاغتسل ثم جاء فقال: كنت جُنُباً، قال: إن المسلم لا ينجَس» رواه مسلم. ورواه أحمد والبخاري من طريق أبي هريرة. ب - وعن عائشة رضي الله عنها قالت «قال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ناوليني الخُمْرةَ من المسجد، قالت: فقلت: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك» رواه مسلم وأبو داود وأحمد. ج - وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كنت أشرب وأنا حائض، ثم أُناوله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيضع فاه على موضع فِيَّ فيشرب، وأتعرَّق العَرْقَ وأنا حائض، ثم أُناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فِيَّ» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي. ورواه أبو داود بتقديم وتأخير. فالحديث الأول يدل بمنطوقه على أن الجُنُب غير نجس، والحديثان الثاني والثالث يدلان بمفهومهما على أن الحائض ليست نجسة، وإذن فمجيء الأحاديث بألفاظ الطهارة والتَّطهُّر على إزالة الجنابة لا يعني أنَّ الطهارة والتطهُّر يعنيان إزالة النجاسة، وإنما يعني شيئاً آخر هو التخلص من الآثام وإزالة المانع من الصلاة، يدل عليه الحديث التالي: عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال «إذا توضأ العبدُ المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كلُّ خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قَطْر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قَطْر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قَطْر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب» رواه مسلم ومالك. وروى الدارمي جزءاً منه. فالوضوء يغسل الخطايا والذنوب وليس النجاسة كما يتوهَّمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ثم إن المسلم لو كان بالوضوء يتطهَّر من النجاسة، لقلنا إنه نجسٌ قبل الوضوء، وهذا منافٍ لقوله عليه الصلاة والسلام وقد مرَّ «إن المسلم لا ينجَس» ولكان مَن يلمسُه من المسلمين يتنجس وهذا لا يقوله مسلم. وبذلك يسقط الاحتجاج بهذه القاعدة ويسقط الرأي المبني عليها، هذا إضافةً إلى أنها حكمٌ عقليٌّ محض (إذ تطهير الطاهر لا يُعقل) والأحكام الشرعية لا تُستمدُّ من العقل، وإنما تستنبط من نصوص الشرع. وأخيراً نقول إن كل الردود التي أوردناها على أصحاب الرأي الأول هي ردود على أصحاب هذا الرأي، وبذلك يظهر أنه لا وجه لقول من يقول بعدم طُهورية الماء المستعمَل في رفع الحدث الأكبر والحدث الأصغر من أصحاب الرأي القائلين بطهارته دون طُهوريته، ومن أصحاب الرأي الذين تطرَّفوا فقالوا بنجاسته. والصواب هو أن الماء المستعمَل في رفع الحدث طاهر مطهِّر طَهور، وهذا هو رأي الفريق الثالث، وقد بانت صحته. 8- وعوداً على بدء نقول إنهم قسموا الماء إلى ستة أقسام هي: الماء الطَّهور والماء الطاهر والماء النجس والمستعمَل الطَّهور والمستعمَل الطاهر والمستعمَل النجس. وقد بينا القسم الأعظم، وبقي القليل. لقد قالوا إن الماء المستعمَل في رفع الحدث إذا كان في المرة الثانية أو الثالثة في الوضوء يظل طَهوراً، على خلافٍ بينهم، لأنه لم يُستعمل في رفع الحدث، بل الحدث ارتفع في الغسلة الأولى لأعضاء الوضوء، أما الثانية والثالثة فليستا واجبتين، وبالتالي لم تشاركا في رفع الحدث، فيظل الماء المستعمَل بهما طَهوراً أشبه ماء التبرُّد. وذلك يعني أنهم اشترطوا في الماء المستعمَل الذي يفقد طُهوريته أن يكون مستعمَلاً في الأغسال الواجبة دون المسنونة (على خلاف بينهم كما قلت) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فالوضوء واجب ويحصل الوجوب بغسلته الأولى وما سواها فمستحبة، وأغسال الجنابة والحيض والنفاس واجبة، وبهذه الأغسال الواجبة يفقد الماء المستعمَل فيها طُهوريته. هكذا يُفرِّعون وهكذا يفكِّرون دون أن يأتوا بأي دليل من القرآن أو الحديث. ولا بأس بأن أعرض عليكم صورة لهذه التفريعات لتجدوا فيها الخلافات والآراء المختلفة دون وجود أدلة تدل عليها. قال ابن قُدامة في كتاب المغني ما يلي (وجميع الأحداث سواء فيما ذكرنا - الحدث الأصغر والجنابة والحيض والنفاس، وكذلك المنفصل من غسل الميت إذا قلنا بطهارته، واختلفت الرواية في المنفصل عن غسل الذمية من الحيض، فرُوي أنه مُطهِّر لأنه لم يُزل مانعاً من الصلاة أشبه ماءً تبرَّد به، ورُوي أنه غير مطهِّر لأنها أزالت به المانع من وطء الزوج، أشبه ما لو اغتسلت به مسلمة، فإن اغتسلت به من الجنابة كان مُطهراً وجهاً واحداً، لأنه لم يُزل مانعاً من الصلاة ولا استُعمل في عبادة أشبه ما لو تبرَّد به - ويحتمل أن يُمنع استعماله لأنه استُعمل في الغُسل من الجنابة، أشبه ما لو اغتسلت به مسلمة. [فصل] وإن استعمل في طهارة مستحبة غير واجبة كالتجديد والغسلة الثانية والثالثة في الوضوء والغسل للجمعة والعيدين وغيرهما ففيه روايتان [إحداهما] أنه كالمستعمَل في رفع الحدث لأنها طهارة مشروعة أشبه ما لو اغتسل به من جنابة، [والثانية] لا يمنع لأنه لم يُزِل مانعاً من الصلاة أشبه ما لو تبرَّد به، فإن لم تكن الطهارة مشروعة لم يؤثر استعمال الماء فيها شيئاً وكان كما لو تبرَّد به أو غسل به ثوبه، ولا تختلف الرواية أن ما استُعمل في التَّبرُّد والتنظيف أنه باق على إطلاقه، ولا نعلم فيه خلافاً. [فصل] فأما المستعمل في تعبُّد من غير حدث كغسل اليدين من نوم الليل فإن قلنا ليس ذلك بواجب لم يؤثر استعماله في الماء، وإن قلنا بوجوبه فقال القاضي هو طاهر غير مطهِّر، وذكر أبو الخطاب فيه روايتين [إحداهما] أنه يخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 عن إطلاقه لأنه مستعمل في طهارةِ تعبُّدٍ أشبه المستعمَل في رفع الحدث، ولأن النبي- صلى الله عليه وسلم - نهى أن يغمس القائم من نوم الليل يده في الإناء قبل غسلها فدل ذلك على أنه يفيد منعاً [والرواية الثانية] أنه باقٍ على إطلاقه لأنه لم يرفع حدثاً أشبه المُتبرَّد به، وعلى قياسه المستعمَل في غسل الذكر والأنثيين من المذي إذا قلنا بوجوبه لأنه في معناه) . وليس عندي من تعليق على ما سبق فيما يتعلق بالماء المستعمَل أفضل من كلمة قالها الشوكاني في نيل الأوطار (وللحنفية والشافعية وغيرهم مقالات في المستعمَل ليس عليها أثارةٌ من علم وتفصيلاتٌ وتفريعاتٌ عن الشريعة السمحة السهلة بمعزل، وقد عرفت بما سلف أن هذه المسألة أعني خروج المستعمَل عن الطُّهورية مبنية على شفا جُرُفٍ هارٍ) . رابعاً: قلنا في بداية البحث ما يلي: [الماء المستعمَل قسمان: قسم مستعمَل في رفع الحدث الأكبر والحدث الأصغر، وقسم مستعمَل فيما سوى ذلك، ونحن سنناقش القسم الأول ثم ننتقل لمناقشة القسم الثاني] وها قد فرغنا من مناقشة القسم الأول، وهو الماء المستعمَل في رفع الحدث الأكبر والحدث الأصغر، وتوصلنا إلى الرأي القائل بأن المستعمَل في رفع الحدث بقسميه طاهر طَهور. وننتقل الآن إلى موضوع القسم الثاني، وهو الماء المستعمَل فيما سوى رفع الحدث. الماء المستعمَل في غير رفع الحدث يُحصر في حالات ثلاث، حالة إزالة النجاسة، وحالة إزالة القذارة والأوساخ، وحالة ثالثة غير هاتين الحالتين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 1- أما الماء المستعمَل في إزالة النجاسة فنقول فيه: إذا حمل محلٌ كثوبٍ مثلاً نجاسةً وأُريد تطهيره بالماء وأخذنا في صبِّ الماء عليه نُظر، فما انفصل عن المحلِّ والنجاسةُ باقيةٌ فهو نجس، سواء تغير بالنجاسة تغيراً ظاهراً أو خفيفاً، لأن الماء إذا كان دون قُلَّتين، وأصابته نجاسة ولو يسيرة تنجس لحديث القُلَّتين، وهذا ماء أصابته نجاسة، فصار نجساً. أما ما انفصل بعد ذهاب عين النجاسة فقد مرَّ على مكان طاهر، ولم يتغير بنجاسة ولم تصبه ولم يُسلَب اسمُه ولم تتغير أوصافه، فيظل طَهوراً على أصله. أما إذا كانت النجاسة واقعة على الأرض، فإن الماء الذي يُراق عليها بحيث يزيل أثرها يُتجاوَز عن حاله، ويُحيل المكان طاهراً، ودليل ذلك حديث بول الأعرابي الذي رواه أنس بن مالك قال «بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مه مه، قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تَزْرِمُوه، دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القَذَر، إنما هي لذِكْرِ الله عزَّ وجلَّ والصلاة وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلوٍ من ماء فشنَّه عليه» رواه مسلم والبخاري وأحمد وابن حِبَّان. 2- وأما الماء المستعمَل في التنظيف من القذارة والوسخ فيُنظَر فيه، فإن كان الماء الذي أزيلت به قذارة المحل كالثوب مثلاً وقد تلطخ بالأوساخ قد انفصل عنه وقد تغير كثيراً من القذارة، بحيث غلبت على اسمه وغيرت أوصافه، فإنَّ ما انفصل لا يُعدُّ ماء، وأما إن هو انفصل عن المحل وقد تغير قليلاً أو لم يتغيَّر فإنه يظل على أصله من الطُّهورية سواء بقيت القذارة أو لم تبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 3- وما سوى هاتين الحالتين من استعمالات الماء فإن ظل الماء ماء، أي لم يتغير وصفه ولا سُلب اسمه، بقي طَهوراً دونما حاجة إلى تفصيل، وما سوى ذلك لا يكون ماء. ولْنكتف بمثال واحد عليه: إذا وضعنا حبوب الحمَّص في إناء فيه ماء لتطريتها قبل أكلها، ثم أخرجناها بعد فترة من الإناء، ونظرنا في الماء، فإن وجدناه ماء لم يتغيَّر وصفه وظل يحمل اسمه، ولم تخالطه الصُّفْرة كثيراً حكمنا عليه بالطُّهورية على أصله، وأما إن وجدنا الماء قد صار أصفر ظاهر الصُّفْرة، أو شممنا رائحته فوجدناها رائحة الحمص المنقوع، أو ذقناه فوجودنا له طعماً، حكمنا عليه بأنه ماء حمص، وأخرجناه آنذاك من أقسام الماء، وهكذا في كل استعمالٍ للماء. ودليل هذه المسألة حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - «الماء طَهور» وهو ما سبق وبيناه عند تحقيق مناط الماء. هذه هي حالات استعمال الماء في غير العبادات، وبالتدقيق فيها يتبين أن الماء في الأمثلة الثلاثة لا يخرج عن إحدى حالات ثلاث، إما أن يظل ماء طَهوراً، وإما أن يصير ماء نجساً، وإما أن يخرج عن كونه ماء، وبذلك يظهر تماماً من هذه الاستعمالات أيضاً أنه ليس للماء سوى حالتين أو قسمين لا غير: إما أن يكون طَهوراً، وإما أن يكون نجساً وبذلك أيضاً نكون قد فرغنا من تحديد أنواع الماء، وتوصلنا إلى اختصار الأنواع الستة إلى اثنين فقط، هما الطَّهور والنجس. تطبيقاتٌ على الماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 1- قلنا إن الماء إذا بلغ قُلَّتين فأكثر لا ينجس، ونريد الآن أن نبين مقدار القُلَّتين، فنقول: إن القُلَّتين تعادلان اثنتي عشرة تنكة أو صفيحة مما نستعمله هذه الأيام لحفظ الزيت فيه. وقد وجدتُ البيهقي يروي عن ابن جُرَيْج - وهو عبد الملك بن عبد العزيز فقيه الحرم المكي في القرن الثاني للهجرة - قوله (وقد رأيت قِلال هَجَر، فالقُلَّة تسع قِربتين، أو قِربتين وشيئاً) وأضاف، أي البيهقي (قال الشافعي: كان مسلم يذهب إلى أن ذلك أقل من نصف القربة، أو نصف القربة، فيقول خمسُ قِرَب هو أكثر ما يسع قُلَّتين وقد تكون القُلَّتان أقل من خمس قِرَب، قال الشافعي: فالاحتياط أن تكون القُلَّة قربتين ونصفاً فإذا كان الماء خمس قِرَب لم يحمل نجساً ... ) إذن فالقُلَّتان خمس قِرب، وقدَّرها الخبراء - أي القِرَب الخمس - باثنتي عشرة تنكة، وهذه تعادل برميلاً كبيراً تقريباً، فإذا وُجد ماءٌ مِلءَ برميل وبال فيه شخص، أو سكب فيه دماً، أو ألقى فيه ميتةً ظل الماء طَهوراً، إلا إذا تغير وصف الماء، فإذا لم يتغير وصفُه ولا سُلب اسمُه ظل الماء على أصله من الطَّهارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 2- ما دون قُلَّتين - أي ما دون برميل - إذا وقعت فيه نجاسة نجَّسته، ووجبت حينئذ إراقتُه، قليلةً كانت النجاسة أو كثيرةً، فلو قُطر فيه بضعُ قَطَرات من بولٍ تنجَّس دون اعتبارٍ لتغيُّر اللون أو الطعم أو الرائحة، ويُستثنى من ذلك حالة ما إذا وقعت فيه نجاسة جدُّ يسيرة كنقطة بول واحدة أو نقطة دم واحدة، أو وقع فه صرصور أرجلُه ملطَّخةٌ بنجاسة، ففي مثل هذه الحالة لا ينجس الماء بل يظل طهوراً. وكذلك إذا وقع في الماء من الدوابِّ ما لا دمَ سائلاً له، كالذبابة والجُنْدُب والخنفساء وأشباهها فإن الماء يظل طَهوراً، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فلْيغمسه كله ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاءً وفي الآخر داءً» رواه البخاري وأبو داود. ولما رُوي عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أُحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد ... » رواه أحمد وابن ماجة. وسيأتي بتمامه. دلالة الحديث الأول أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر بإراقة الطعام الذي يقع فيه الذباب، ولو كان الطعام يتنجس بوقوعه فيه لما أذن بأكله، ودلالة الحديث الثاني أن الجراد وهو ميت يُؤكل، ولو كان يتنجس بالموت لما جاز أكله، وهكذا كل الدوابِّ التي لا دم سائلاً لها، فكلها طاهرة حيَّة وميتة. وقد روى البيهقي عن إبراهيم النخعي أنه رخَّص في الخنفساء والعقرب والجراد والجُدْجُد إذا وقعن في الرِّكاء فلا بأس به، وقال البيهقي (روينا معناه عن الحسن البصري وعطاء وعكرمة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ومن زاوية أخرى فإنه إذا وقع أي حيوان سوى الكلب والخنزير في الماء وخرج حياً ظل الماء على أصله من الطهارة، سواء أكان فأراً أم قطاً أم طيراً، لأن جميع الحيوانات الحية طاهرة باستثناء الكلب والخنزير. أما إن وقع فيه الحيوان فمات نُظر، فإن كان من الذباب أو العقارب أو الخنافس أو الصراصير- ومثلها جميع الحيوانات البحرية كالسمك والسرطانات - ظل الماء طاهراً قليلاً كان أو كثيراً، أما إن كان مما سوى هذه الأصناف التي يطلق عليها وصف [ما ليست لها نفسٌ سائلة] ومثلُها الحيوانات البحرية، إن هي وقعت في الماء فماتت، تنجس الماء وفقد طهارته. وإذا شربت من الماء القليل الحيواناتُ كلها سوى الكلب والخنزير، ظل الماء طَاهراً لا فرق بين الهرة والحمار والضبع وغيرها وسيأتي دليل ذلك في بحث [سُؤْر الحيوان] . 3- الماء الآجِن، وهو الماء الذي يظهر عليه تغيُّرٌ نتيجة طول المكث، ومثله الماء العَكِر، كلاهما طاهر طَهور ما داما يحملان اسم الماء. قال ابن المنذر (أجمع كل من يُحفظ قوله من أهل العلم على أن الوضوء بالماء الآجن من غير نجاسة حلَّت فيه جائز غير ابن سيرين فإنه كره ذلك، وقول الجمهور أولى، فإنه يُروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ من بئرٍ كأنَّ ماءها نُقاعة الحنَّاء) وقال ابن قدامة في كتاب المغني (وحكى ابن المنذر عن الزُّهري في كِسَرٍ بُلَّت بالماء غيرت لونه أو لم تغير لونه لم يتوضأ به، والذي عليه الجمهور أولى لأنه طاهر لم يُغيِّر صفة الماء فلم يمنع كبقية الطاهرات إذا لم تغيره، وقد اغتسل النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوجته من جَفْنة فيه أثر العجين، رواه النَّسائي وابن ماجة والأثرم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 4- الأصل في الماء الطُّهورية، ولذا فإنَّ المسلم إن شكَّ في نجاسة الماء أيِّ ماء، لم يمنعه الشك من التوضُّؤ به وإزالة النجاسات به، سواء وجده متغيراً أو غير متغير، إلا إذا غَلَب التغيُّرُ عليه وسلبه اسمه، وعلى هذا فإن ماء الميازيب طاهر طَهور ولو كان متغيِّراً، لأن المارَّ في الطريق لا يتيقَّن من نجاسته أو طهارته فيبني على الأصل، ولا يجب على المارِّ أن يسأل صاحب الميزاب عن الماء النازل إن كان طاهراً أو نجساً. وإذا كان المسلم في مكان وليس عنده سوى إنائي ماء، وأُخبر بأن أحدهما نجس دون تعيين والثاني طاهر وأراد أن يتوضأ، لم يَجُز له التوضؤ من أيِّ من الإناءين، بل يجب عليه إراقتهما وأن يتيمَّم، لأنه ربما توضأ بالنجس فيتنجس ولا يرتفع حدثه، وهذا بخلاف ما إذا لم يكن عند المسلم سوى ثوبين أحدهما نجس والآخر طاهر دون تمييز بينهما وأراد الصلاة، فإنه يلبس أحدهما ويصلي، ثم يخلعه ويلبس الآخر ويصلي، ففي هذه الحالة يكون قد ضمن لنفسه صلاة على الوجه الصحيح. 5- إذا جاء مسلم إلى حوض ماء فأخبره فاسق أو كافر أو صبي أو مجنون أن الماء نجس لم يَقبل قولهم، لأن هؤلاء ليسوا أهلاً للشهادة، أما إن أخبره بنجاسة الماء من هو أهلٌ للشهادة، وهو المشهود له بالعدالة، أو كان غير مجروح العدالة من الرجال أو النساء، وجب عليه قبول خبره إن هو عيَّن سبب النجاسة، أما إن وصف الماء بالنجاسة دون بيِّنة، فإن المسلم لا يجب عليه قبول قوله، لأن هذا المُخبِر ربما جهل أسباب النجاسات، أو لم يكن متيقناً من نجاسة الماء، وحكم على الماء بالنجاسة خطأً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 6- إذا تنجس ماء وأُريد تطهيرُه وإزالةُ نجاسته نُظر، فإن كان دون قُلَّتين، أي دون برميل، نُظر، فإن كان غير متغيرٍ بالنجاسة فيكفي أن يضاف إليه ماء طاهر حتى يبلغ قُلَّتين، أي برميلاً، فيصبح الماء طاهراً كله، وإن كان الماء متغيراً بالنجاسة صب عليه الماء حتى يبلغ قُلَّتين، أي برميلاً، فإن زال التغير فقد زالت النجاسة، وإن لم يزُل التغير يُزَد الماء حتى يزول التغير دون اعتبارٍ للكمية المضافة. أما إن كان الماء قُلَّتين، أي برميلاً فأكثر، فإنه لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، إلا أن تغيِّره، فإن لم يتغير بقي على أصله من الطَّهارة، وإن هو تغير بالنجاسة أُضيف إليه ماء حتى يزول التغيُّر دون اعتبارٍ للكمية المضافة. ولا فرق في كل ذلك بين أن يُصَبَّ الماء النجس على الماء الطاهر أو الطاهرُ على النجس، كما لا فرق بين الصَّبِّ دفعة واحدة وبين الصَّبِّ بالتدريج، فكل ذلك سواء. سُؤْر الحيوان السُّؤْر - بالهمز - هو ما يبقى في الإناء بعد شرب الحيوان، أو أكله منه. قال النووي (مُرادُ الفقهاء بقولهم - سُؤر الحيوان طاهر أو نجس - لعابُه، ورطوبةُ فمه) . وقال ابن المنذر (أجمع أهل العلم على أن سُؤر ما أُكل لحمه يجوز شربُه والوضوءُ به) . وهذا يعني أن سُؤر الإبل والأغنام والأبقار والغزلان وأمثالها طاهر يجوز استعماله في سائر استعمالات الماء. وافترقوا فيما سوى ذلك على ثلاثة آراء: أ- ذهب أبو حنيفة والثوري وإسحق بن راهُويه والشعبي وابن سيرين إلى نجاسة أسآر السباع من الحيوان والجوارح من الطير والحُمُر الأهلية والبغال، واستدلوا على رأيهم بالأدلة الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 1- عن عبد الله بن عمر قال «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَث» رواه الترمذي وأحمد وأبو داود. فقالوا: لولا أن سُؤر السباع والدواب نجس لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام هذا القول، لأن السُّؤر لو كان طاهراً لما كان لقوله عليه الصلاة والسلام «إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَث» معنى ولكان عبثاً، فدل قوله هذا على نجاسة سُؤر السباع والدواب. 2- عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «السِّنَّوْر سَبُع» رواه البيهقي وأحمد والدارقطني. واستدلوا به على نجاسة الهرة، لأن الهرة كما جاء في الحديث سبع، والسبع كما جاء في حديث القُلَّتين سُؤره نجس. 3- عن أنس قال «لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، أصبنا حُمُراً خارجاً من القرية فطبخنا منها، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا إنَّ الله ورسوله ينهيانكم عنها فإنها رجس من عمل الشيطان، فأُكْفِئت القدور بما فيها، وإنها لتفور بما فيها» رواه مسلم والبخاري. فاستدلوا بقوله عن الحمير وهي هنا الأهلية «فإنها رجس» على أن الحمير نجسة. 4- وقالوا إن السباع حيوانات حُرِّم أكلها، مثلها مثل الكلاب، ولأن السباع والجوارح الغالب عليها أكل الميتات والنجاسات فتنجس أفواهها، ولا يتحقق وجود مطهِّرها. ب- وذهب مالك والأوزاعي وداود إلى طهارة أسآر جميع الحيوانات والطيور دون استثناء حتى الكلب والخنزير. وذهب الزُّهري إلى كراهة سُؤر الكلب وقال: يتوضأ به إذا لم يجد غيره. وذهب ابن الماجَشُون إلى كراهة سُؤره وقال: يتوضأ به ويتيمَّم. واستدلوا على رأيهم بالأدلة التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة، فقيل له إن الكلاب والسباع ترد عليها فقال: لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطَهور» رواه الدارقطني. ورواه الطبراني من طريق سهل. والبيهقي من طريق أبي سعيد. 2- عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه سُئل: أنتوضأ بما أفضلت الحُمُرُ؟ قال: نعم وبما أفضلت السباعُ كلها» رواه الشافعي والبيهقي. 3- عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب «أن عمر بن الخطاب خرج في رَكْب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضاً، فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض هل تَرِدُ حوضَك السباعُ؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض لا تخبرنا، فإنَّا نَرِدُ على السباع وتَرِدُ علينا» رواه مالك والبيهقي والدارقطني. 4- عن ابن عمر قال «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره فسار ليلاً، فمرُّوا على رجل جالس عند مِقْراةٍ له - وهو الحوض الذي يجتمع فيه الماء - فقال عمر: يا صاحب المِقراة أَوَلَغت السباعُ الليلة في مِقْراتك؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا صاحب المِقْراةِ لا تخبره، هذا متكلِّف، لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب وطَهور» رواه الدارقطني. 5- عن كبشة بنت كعب «أن أبا قتادة دخل عليها ثم ذكرت كلمة معناها فسكبت له وَضوءاً، فجاءت هرة فشربت منه فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها ليست بنجس، إنما هي من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات» رواه النَّسائي ومالك وأبو داود وأحمد وابن ماجة. ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه العُقَيلي والبخاري والدارقطني وابن حِبَّان وابن خُزَيمة والحاكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 6- وعن حديث ولوغ الكلب قالوا: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بغسل الإناء سبعاً إحداهن بالتراب تعبُّداً وليس لإزالة النجاسة، وإن الخنزير لم يرد في نجاسته نص، وحيث أنه لا نصَّ في نجاسة أي حيوان، فيبقى الحِل والطهارة على الأصل. ج - وذهب الشافعي وأحمد وربيعة والحسن البصري وعطاء، ومن الصحابة عمر وعلي إلى طهارة أَسْآر جميع الحيوانات والطيور سوى الكلب والخنزير، إلا أن أحمد كره سُؤر البغل والحمار وقال: إذا لم يجد المسلم غيره يتوضأ به ويتيمَّم. وكره ابن عمر سُؤر الحمار، وكره ابن أبي ليلى سُؤر الهرة، واعتبر ابن المنذر وطاووس سُؤر الهرة نجساً. واستدلوا على رأيهم بالأحاديث الخمسة الأولى التي استشهد بها الفريق الثاني، وفارقوهم في البند السادس. وسيأتي تفصيل ذلك في أثناء مناقشة رأي الفريق الأول ورأي الفريق الثاني بإذن الله. وأبدأ بمناقشة رأي الفريق الأول فأقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 1- من استعراض أدلة هذا الفريق يتبين أن ما يصح اعتباره دليلاً هو الحديث الأول فحسب، والمستغرب أن هؤلاء قد رفضوا هذا الحديث حين بحث الماء النجس والماء الطَّهور، واعتبروه ضعيفاً للاضطراب في سنده وفي متنه، وها هم الآن يحتجون به على ما ذهبوا إليه من نجاسة سُؤر السبع والجارح من الطير، وسنغض الطرف عن هذا التناقض الواضح بين الموقفين. هذا الحديث له منطوق وله مفهوم، أما منطوقه فهو أن الماء الذي يبلغ قُلَّتين لا يتنجس بحلول النجاسة فيه، وهذا المنطوق لا يسعفهم في القول بنجاسة سؤر السباع والدواب، وأما مفهومه فهو أن الماء الذي يقل عن قُلَّتين يتنجس بحلول النجاسة فيه، وهذا المفهوم أيضاً لا يسعفهم في القول بنجاسة سؤر السباع والدواب. أما قولهم: لولا أن سؤر السباع والدواب نجس لما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث، فنجيبهم بأننا لا نسلِّم لهم بهذا الاستنتاج، إذ هناك أمر آخر أراده الرسول - صلى الله عليه وسلم -، هو إعطاء المسلمين قاعدة عامة في المياه تقول إن الماء الكثير الذي يبلغ قُلَّتين لا يتنجس، دون أن يذكر إنْ كان سُؤر السباع والدواب نجساً أو لا، ولو أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى الذي يقولونه لبيَّنه. ومن ناحية أخرى نقول: إن قولهم محتمل وليس قطعياً، والقاعدة الأصولية تقول: مع الاحتمال يسقط الاستدلال. وإذن فإن هذا الحديث ليس دليلاً على نجاسة سؤر السِّباع والدواب، وإنَّ أقصى ما يقال فيه إن فيه شبهة دليل فحسب. والآن لننتقل إلى الأدلة الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أما الحديث الثاني فهو لا يفيدهم شيئاً، وغاية ما فيه أن الهرة حكمها حكم السباع، وهذا مسلَّم به، لأن واقع الهرة أنها سبُع، وأنها من الحيوانات المفترسة ذوات الناب، وحكمها حكم السباع سواء بسواء، ولكنهم أفردوه بالاستشهاد ليُقوُّوا رأيهم في نجاسة سُؤر السباع، إلا أن ذلك لا يُلحَظ، إذ لا يفيد هذا الحديث حكماً، لا بالطهارة ولا بالنجاسة، فليس فيه أن سُؤر الهرة نجس ليقيسوا عليه أسآر السباع ويخرجوا بحكم نجاستها، وكل ما فيه أنه ذكر فرداً من أفراد السباع فقط وسكت عن الحكم، فأيَّة دلالة فيه على ما يدَّعون؟! إنْ ثبت أنَّ حكم سُؤر السباع الطهارة انسحب هذا الحكم على سُؤر الهرة، وإن ثبت أن سُؤر السِّباع نجس، انسحب ذلك على سُؤر الهرة، وهذا مسلَّم به بدون هذا الحديث، فكان الأَوْلى بهم عدم الاستشهاد به. أما الحديث الثالث فهو ليس حجة لهم على دعواهم، فهم يريدون إثبات أن سُؤر الحمير نجس، ولا يتحقق لهم ذلك إلا بطريقتين لا غير: فإما أن يأتوا بنصٍّ يتناول سُؤر الحمير يبين نجاسته، وإما أن يثبتوا أن الحمير نفسها نجسة فيستنبطوا من ذلك نجاسة سُؤرها. هذا هو ما يحتاجون إليه. وبالعودة إلى الحديث لا نجد فيه أياً من الطريقتين، فالحديث ذكر حادثة حصلت مع الصحابة في غزوة خيبر. ولنفسِّر هذا الحديث تفسيراً يزيل اللَّبس تماماً إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 كان المسلمون يستحلُّون أكل لحم الحمير، فكانوا يذبحونها ويطبخونها ويأكلونها لأنها حلال لهم طاهرة عليهم، فحينما نزل حكم التحريم نزل وهم في حالة ذبح الحمير ووضعِها في القدور وطبخِها، فجاء قول الرسول عليه الصلاة والسلام «فإنها رجس من عمل الشيطان» فالقول إنها رجس إنما نزل على لحم الحمير المذبوح المطبوخ وليس على الحمير وهي حية، إذ المعلوم أن الحمير حين كانت حلالاً كانت طاهرة وهي حية، وكانت طاهرة وهي مذبوحة مُذَكَّاة، ولكنها كانت نجسة وهي ميتة لأن الميتة نجسة بالاتفاق لا أعلم أحداً خالف في هذا. فالحمير وهي حلال الأكل ومذبوحة طاهرة بالاتفاق أيضاً، أما عندما تكون الحمير غير حلال الأكل وماتت أو ذُبحت أو كما يقولون ذُكِّيت فإن ذبحها وذَكاتها لا يجعلانها طاهرة، بل تكون نجسة لأنها تكون ميتة. أرأيتم لو ذكَّينا فأرة أو ذبحناها وسمَّينا عليها أتكون بذلك طاهرة حلال الأكل؟ قطعاً لا، وهذا لا يخالف فيه أحد أيضاً، فالحمير في هذا الحديث جاء حكمٌ بتحريم أكلها، وإذن فإن ذبحها وذَكاتها - وهي حرامٌ أكلُها - لا يُحِلاَّنها ولا يجعلانها طاهرة، وإنما تأخذ حكم النجاسة لأنها تكون ميتة، وحكمهما في هذه الحالة البطلان. أي أن الذبح لِمُحرَّم الأكل لا يفيد شيئاً، بل يكون المذبوح نجساً لأنه ميتة، فذبح النمر يبقيه نجساً، وذبح النسر يبقيه نجساً، وهذا معلوم بالضرورة، فما جاء به الحديث إنما هو إبطال حكم الحِلِّ للحم الحمير والإعلان بالتحريم، وبذلك يسقط حكم الذبح والذكاة عما كان في قدروهم، ويصير المذبوح من الحمير ميتة والميتة نجسة، فجاء قول الرسول عليه الصلاة والسلام «فإنها رجس» فالقول إنها رجس هو بوصفها ميتة، لأن ما حُرِّم أكلُه لا يعطيه الذبح طهارة ولا يفيده حِلاَّ، بل يظل حراماً ويظل نجساً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 هذا هو ما يُفهم من الحديث، فالاستشهاد بالحديث على نجاسة الحمير هو استشهاد باطل، فالحديث جاء في نجاسة الميتة، وألحق لحم الحمير الميتة بها، وهذا ينسحب على الشاة الميتة، وعلى الجمل الميت، وعلى الغزال الميت، فكلها وهي ميتة نجسة، وكلها وهي حية طاهرة. ولذا يسقط استشهادهم بهذا الحديث على دعواهم. بقي الاستشهاد الأخير وهو قياسُهم السباع على الكلب وإعطاؤُها حكمَه، وزادوا على ذلك أنها - أي السباع - تأكل النجاسات ولا مُطهِّر لها، فتكون لذلك نجسة. وردُّنا عليهم أن القياس في العبادات لا يجوز إلا أنْ تكون العلة ظاهرة في النص، ولا علة ظاهرة هنا. وإن كان لا بد لهم من القياس هنا فإنه يتوجب أن يتوفَّر في طرفيه التماثل وإلا فلا قياس، فالكلاب نجاسة أسآرها مغلَّظة تجب إزالتها بغسل ما أُصيب بها سبع مرات مع التراب، وهذا مسلَّم به عندهم فلماذا لا يقولون بوجوب إزالة نجاسة أسآر السباع كالأسود والصقور والنمور بالغسل سبعاً مع التراب؟ إن الاختلاف بين الكلب وسائر السباع اختلاف ظاهر يلغي التماثل الذي هو شرط لصحة القياس، فالواجب عليهم أن يقولوا إن السباع كالكلب تأخذ سائر أحكامه في النجاسة، وحينئذ يكون للقياس وجه، أما إنْ هم اعترفوا بوجود اختلاف بينها وبين الكلب، فعندئذ يمتنع القياس. أما قولهم إنها تأكل النجاسات ولا مُطهِّر لها فتكون نجسة، فنردُّ عليهم بأن الضِّباع تأكل النجاسات لأنها حيوانات مفترسة طعامها الجِيَف النجسة، وهي لا مُطهِّر لها أيضاً، فلماذا أحلَّ الله لنا أكلها، واعتُبرت من ثَمَّ طاهرة كالشياه والبقر والإبل؟ عن ابن أبي عمَّار قال «قلت لجابر: الضَّبُعُ أصيدٌ هي؟ قال: نعم، قلت: آكُلُها؟ قال: نعم، قلت: أقاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم» رواه الترمذي وأحمد والنَّسائي. قال الترمذي (هذا حديث حسن صحيح) . وبذلك تسقط حججهم، ولا يبقى لهم إلا شُبهتهم فحسب في الحديث الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 2 - أما أصحاب الرأي الثاني فقالوا بطهارة أسآر كل الحيوانات بما فيها الكلب والخنزير. ومن استعراض أدلتهم يتبين أن الدليل الثالث هو قولٌ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، أي أن الحديث موقوف، وأقوال الصحابة ليست أدلة وإنما هي أحكام شرعية يجوز تقليدها، هذا فضلاً عن أن إسناده منقطع، فيحيى لم يدرك عمر كما قال النووي. وقال يحيى ابن معين: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عمر باطل. لهذا فإنه لا يصلح للاستدلال فنطرحه ونطرح كذلك الحديث الثاني الذي رواه الشافعي والبيهقي لأنه ضعيف جداً. قال النووي (هذا الحديث ضعيف لأن الإبراهيمَين ضعيفان جداً عند أهل الحديث لا يُحتج بهما) . أما الحديث الأول والحديث الرابع فيكادان يكونان حديثاً واحداً، إذ لفظ الرسول عليه الصلاة والسلام فيهما لفظ واحد، فنعاملهما معاملة حديث واحد. هذا الحديث وإن ضعَّفه بعضهم فقد حسَّنه البيهقي فيصح الاحتجاج به، وهو دليل على طهارة أسآر السباع، ودلالته واضحة، ومثله في وضوح الدلالة الحديث الخامس، فالهرة حيوان مفترس، وسبع من السباع آكلةِ الجيف، وكون الحديث يقرِّر طهارة سُؤرها، فذلك دليلٌ على طهارة أسآر السِّباع. ثم ما لنا نبتعد كثيراً فنبحث عن دليلٍ على طهارة أسآر السباع، وكأن طهارة الأشياء بحاجة إلى دليل، فالشرع قد أعطى حكم الطهارة لكل شيء إلا ما استثناه، وأسآر الدواب والسباع هي أشياء داخلة في عموم الأشياء الطاهرة، فعلى من يقول إنها نجسة أن يأتينا بدليل، لا أن نُجهد أنفسنا في إثبات طهارتها والبحث عن الأدلة لذلك. نخلص من كل ذلك إلى أن أسآر البهائم والسباع والدواب طاهرة، وباستثناء الكلب والخنزير يلتقي أصحاب هذا الرأي مع أصحاب الرأي الثالث في طهارة أسآر جميع الحيوانات. وإذن فإن المناقشة الآتية في حكم سُؤر كلٍّ من الكلب والخنزير ستتناول كلا الرأيين في وقت واحد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 3- قولهم في حديث ولوغ الكلب إن الأمر بغسل الإناء سبعاً معها التراب هو أمرٌ تعبُّدي وليس بسبب النجاسة، هذا القول أراه خطأ. نعم ربما قبلنا رأيهم هذا لو كان الحديث الشريف يطلب الغسل فقط، أما وأن الحديث وردت في رواية له عبارة (فَلْيُرِقْه) مضافةً إلى الأمر بالغسل، فإننا لذلك لا نستطيع قبول رأيهم هذا، وهذه العبارة وردت في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فلْيُرِقْه، ثم ليغسله سبع مِرارٍ» رواه مسلم والنَّسائي. فهذا الأمر بالإراقة ينفي الناحية التعبُّديَّة وأنا لا أعلم أحداً يقول إن الأمر بالإراقة هو أيضاً تعبُّديٌّ. وحيث أن الحديث يأمر بإراقة الشراب أو الطعام الذي يلغ فيه الكلب، ثم بغسل الإناء سبعاً مع التراب، وحيث أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يأمر بإتلاف مال حلال طاهر، ولا يأمر بإراقة ما يلغ فيه الكلب إلا لأنه لم يعد حلالاً ولم يعد طاهراً يحل أكله أو شربه، فإن ذلك يدل على نجاسة سُؤر الكلب. أما استشهادهم على طهارة سُؤر الكلب بالآية {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} الآية 4 من سورة المائدة. وبما رُوي عن أبي ثعلبة الخُشني قال «قلت: يا رسول الله إني أصيد بكلبي المُعلَّم وبكلبي الذي ليس بمُعلَّم، قال: ما صدت بكلبك المُعلَّم فاذكر اسم الله وكل، وما أَصَّدْتَ بكلبك الذي ليس بمُعلَّم فأدركت ذكاتَه فكل» رواه أبو داود. ورواه البخاري وابن ماجة وأحمد باختلاف في الألفاظ، قائلين: لم يُذكر غُسل لا في الآية ولا في الحديث، ولم يفرَّق بين كلب الصيد المُعلَّم وغير المُعلَّم، فهذا دليل على طهارة الكلاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 فالجواب عليه أن هذين النصين - الآية والحديث - سكتا عن الطلب من المسلمين غسل ما أمسك الكلب من الصيد، وحديث الولوغ لم يسكت عن هذا الطلب بل نطق بطلب الغسل، والمعلوم أن السكوت لا يقوى على معارضة النطق وإبطاله، ثم إن الآية والحديث قد جاءا في موضوع الصيد من حيث جواز استعمال الكلاب في الصيد، وجواز أكل ما تصيده هذه الكلاب، ولم يأتيا في موضوع الطهارة والنجاسة، فهذا موضوع وذاك موضوع آخر. ولا يمتنع عقلاً ولا شرعاً أن يعالج نصٌ جانباً من موضوع ويعالج نصٌّ آخر جانباً آخَر، إذ لا يجب أن يعالج النص جميع ما يتعلق بالموضوع الذي جاء لمعالجته ما دامت هناك نصوص أخرى تكمل المعالجة، وهذا أمرٌ معروف. بل إن عندنا دليلاً على نجاسة الكلب كله وليس سُؤره فقط، هو ما رُوي عن أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أصبح يوماً واجماً، فقالت ميمونة: يا رسول الله لقد استنكرتُ هيئتك منذ اليوم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني، أَمَ واللهِ ما أخلفني، قال فظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومه ذلك على ذلك، ثم وقع في نفسه جروُ كلبٍ تحت فسطاط لنا، فأمر به فأُخرج، ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل، فقال له: قد كنتَ وعدتَني أن تلقاني البارحة قال: أجل ولكنَّا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ فأمر بقتل الكلاب، حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير ويترك كلب الحائط الكبير» رواه مسلم وأبو داود والبيهقي والنَّسائي. قوله الحائط: أي البستان. فكون الرسول عليه الصلاة والسلام يأخذ بيده ماء فينضح مكان الكلب إنما هو من أجل تطهير الموضع، فهذا دليل على نجاسة الكلب. وبذلك يثبت أن الكلب نجس، وأن سُؤره مِن ثَمَّ نجس، وأن نجاسته مغلَّظة، ويثبت أيضاً أن استثناء سُؤر الكلب من أسآر السباع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الطاهرة واجب شرعاً، ويُثبِت الحديثُ بمنطوقه الصريح أن الهرة طاهرة، وإذن فإن سُؤْرها طاهر. بقي سُؤر الخنزير. إنه ليس لدينا نص في نجاسة سُؤر الخنزير، وإنما لدينا نصَّان اثنان في نجاسة الخنزير كله، وإنَّ ثبوت نجاسة الخنزير كله يستلزم ثبوت نجاسة سُؤره بالضرورة، فلنستعرض هذين النصين: أ- عن أبي ثعلبة الخُشني أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إنَّا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها فارحَضوها بالماء، وكلوا واشربوا» رواه أبو داود بإسناد صحيح. وفي روايةٍ للترمذي «قال أَنْقُوها غُسلاً واطبخوا فيها» . وفي روايةٍ للدارقطني «قال: قلت: يا رسول الله إنَّا نخالط المشركين وليس لنا قدور ولا آنية غير آنيتهم قال: فقال: استغنوا عنها ما استطعتم، فإن لم تجدوا فارحضوها بالماء فإن الماء طهورها، ثم اطبخوا فيها» . وحديث أبي ثعلبة الخُشني رواه البخاري وأحمد والدارمي وابن ماجة وابن حِبَّان بروايات متعددة. ب - قال تعالى: {قُل لا أَجِدُ في ما أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّماً على طاعِمٍ يَطْعَمُه إلا أن يَكُوْن مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوْحَاً أَو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنه رِجْسٌ أو فِسْقاً أُهِلَّ لغيرِ اللهِ بِهِ} الآية 145 من سورة الأنعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الحديث يطلب من المسلمين أن يَرْحَضوا القُدور التي طُبخ فيها لحم الخنزير بالماء، والرَّحض معناه الغسل، ويطلب الحديث منهم أن يُنقوها غسلاً، أي يبالغوا في غسلها كما جاء في روايةٍ للترمذي، ولا يكون طلب الغسل والمبالغة فيه إلا لأنها نجسة، وليس أدلَّ على ذلك من أن الرواية الثالثة للدارقطني جاء فيها «فارحضوها بالماء فإن الماء طُهورها» ولا يقال طهَّرتُ الإناء أو طهَّرتُ الثوب أو طهَّرتُ النعل إلا إذا عنيت إزالة النجاسة منها. وأما الآية الكريمة فإنها وصفت لحم الخنزير بأنه رجس، ولفظة رِجس في العربية تعني القذر والنتن، هذا هو أصل معناها، إلا أن العرب توسَّعوا في استعمالها حتى صارت لفظةً محتمِلةً لمعانٍ عدة، فصارت تطلق على الإثم وتطلق على النجاسة وتطلق على السُّخط والغضب وتطلق على معانٍ أخرى، حتى صار ذكرها لا يؤدي معنى محدداً إلا بقرينة تعيِّنه وتنفي غيره، فمثلاً قوله سبحانه وتعالى {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وغَضَبٌ} رجس هنا بمعنى سخط، وقوله سبحانه وتعالى {إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُم الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيَراً} لفظةُ (رجس) هنا تعني الإثم والمعصية. أما الآية الكريمة التي نحن بصددها فتُفَسَّر لفظةُ (رجس) الواردة فيها بأنها نجس، أما لماذا؟ فلأن المعلوم أن الحديث يفسر القرآن ويبيِّنه، وهنا جاء الحديث مفسِّراً للفظة رجس الواردة في الآية بأنها تعني النجس بمنطوقه وبمفهومه، فقول الحديث «فإن الماء طهورها» هو منطوق، وكون الحديث يأمر بالمبالغة في غسل القدور التي تحتوي على لحم الخنزير هو مفهوم، ذلك أن المبالغة في الغسل هي قرينة على أن لحم الخنزير نجس، وإذن فقد تضافر المنطوق والمفهوم على اعتبار لحم الخنزير نجساً، وعلى تفسير الآية بأنها تعني نجاسة لحم الخنزير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ورب قائل يقول: إن الآية وصفت لحم الخنزير بأنه رجس، ولم تصف عظمه ولا شعره مثلاً بأنه رجس، وكذلك الحديث، فلماذا لا نعتبر النجاسة في النَّصَّين تنسحب على الخنزير الميت والمطبوخ، وليس على الخنزير الحي؟ فنجيبه بما يلي: أولاً: ما دام قد ثبت أن لحم الخنزير نجس حتى ولو طبخه أهل الكتاب، فإن ذلك يدل على أن نجاسة لحم الخنزير هي نجاسة أصلية فيه، إذ أن الشرع الحنيف قد أقرَّ ذبحَ أهل الكتاب واعتبر ذبائحهم مُذكَّاة، أي طاهرة، يحل للمسلمين أكلها، فلما ذكَّى أهل الكتاب لحم الخنزير وجاء الشرع يصف هذا المُذكَّى بأنه نجس، فإن ذلك يدل على أن نجاسة هذا الخنزير هي نجاسة أصلية لم تنفع فيها الذكاة أي التطهير، ولهذا نقول إن لحم الخنزير نجس لأنه نجس، وليس لأنه مذبوح أو ميت. ثانياً: إننا لو قلنا إن لحم الخنزير النجس، يعني الخنزير الميت وليس الخنزير الحي، لكان تفسيرنا في غاية التهافت، إذ أنَّ الآية الكريمة مُصدَّرة بلفظة (ميتة) فلا حاجةَ لذكر الخنزير الميت حينئذ، لأنه يكون داخلاً في لفظة (ميتة) في صدر الآية، فإضافة الخنزير الميت إضافة غير مفيدة، فهذا التفسير لا يليق بنا القول به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ثالثاً: أمَّا وقد ثبت أن لحم الخنزير نجس، سواء منه ما كان بعد الموت أو قبله، فإن ذلك يدل على نجاسة الخنزير كله، لأن شعر الخنزير وعظمه وسائر أجزائه مختلطة كلها باللحم فلا تُتصور طهارتُها مع نجاسة اللحم، فنجاسة اللحم تنسحب حتماً على كل أجزاء الخنزير فيكون الخنزير كله نجساً. أما لماذا ذُكِر لحمُ الخنزير في الآية ولم يُذكر الخنزير؟ فلأن الآية تحدثت عن المطعومات المحرَّمة، والمعلوم أن المطعوم في الخنزير هو لحمه فذُكِرَ اللحمُ ليتناسب مع سياق الآية، وذُكِرت نجاسة الخنزير كله زيادة في المعنى. وإذن وقد بان أن الخنزير نجس فإنا نقول إن لحمه وشعره وعظمه وكل جزء فيه نجس، وهذا يستلزم اعتبار سُؤره نجساً أيضاً، وبذلك يسقط رأيهم بطهارة سُؤر الخنزير. وفي ختام البحث أُلفت النظر إلى أنني لم استدلَّ على نجاسة الخنزير بما استدل به العديد من الفقهاء من قياس الخنزير على الكلب، ذلك أن هذا القياس خطأ، لأن لفظة (الكلب) لا تشمل الخنزير، ولأنه لا عِلَّةَ ظاهرةً لنجاسة الكلب فيقاس عليها، فقياس الخنزير على الكلب قياس دون علَّة ظاهرة مشتركة، ودون أن تتوفر فيه شرائط القياس الصحيحة. أما الاستثناءات الواردة في رأي الفريق الثاني من قِبَل الزُّهري وابن الماجَشُون في سُؤر الكلب فتسقط هي الأخرى بعدما تبين بوضوح نجاسة سُؤر الكلب. وأما الاستثناءات الواردة في رأي الفريق الثالث من قِبَل أحمد في سُؤر البغل والحمار، وابن عمر - فيما رُوي عنه - في سُؤر الحمار فقط، وابن أبي ليلى في كراهة سُؤر الهرة، وابن المنذر والحسن وطاووس في تحريم ونجاسة سُؤر الهرة فتسقط كلها، لأن طهارة سُؤر البغال والحمير تدخل في طهارة أسآر عموم الدواب. وكما أسلفنا من قبل فإن الطهارة لا تحتاج إلى دليل خاص، وطهارة سُؤر الهرة ورد فيه نص خاص بطهارته، هو حديث كبشة الصحيح الذي رواه أصحاب السنن، وقد مرَّ، إضافة إلى دخوله في طهارة أسآر عموم السباع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وثمَّةَ نقطةٌ أخرى هي أننا سجلنا للفريق الأول شُبهة في نجاسة أسآر السباع مأخوذة من حديث القُلَّتين، فردُّنا عليها الآن هو أننا أثبتنا في المناقشة طهارة أسآر السباع مستدلِّين بحديث أبي هريرة الذي أخرجه الدارقطني «لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور» وهذا منطوق في طهارة الأسآر، وما دام أن حديث القُلَّتين ظني الدلالة على نجاسة الأسآر، فيُعمل بحديث طهارة الأسآر، ويُرجَّح على حديث النجاسة الظني الدلالة، لا سيما إذا علمنا أن الأصل في الأشياء الطهارة ومنها الأسآر، إلا ما استثناه الشرع بدليل خاص، ولا دليل هنا صالحاً على نجاسة أسآر السباع والدواب. نخلص من المناقشة إلى صحة رأي الفريق الثالث القائل بطهارة أسآر البهائم والسباع والحيوانات والطيور كلها سوى سُؤر الكلب والخنزير فحسب، بعد إسقاط ما ورد فيه من استثناءات لبعض الأئمة، وهو رأي الفريق الثاني نفسُه باستثناء سُؤر الكلب والخنزير الذين أخطأوا في اعتباره طاهراً. وعليه فإن الماء قَلَّ أو كَثُر، إذا شرب منه أيُّ حيوان يُؤكل لحمه أو لا يُؤكل، أو أيُّ طيرٍ جارح أو غير جارح - باستثناء الكلب والخنزير - يظل طاهراً طهوراً يصلح للوضوء والأغسال وإزالة النجاسات، ويُصنَّف في باب أقسام المياه تحت قسم الماء الطَّهور. وما أقوله عن سُؤر هذه الحيوانات أقوله عن سائر أجسامها، فلو غمس أي حيوان نفسه في الماء وخرج منه حياً ظل الماء طَهوراً، وهذا القول الأخير ربما أتينا على بحثه مستقبلاً. بقيت نقطة كان الأصل فيها عدم بحثها لوضوحها، إلا أن الفقهاء اختلفوا فيها، فرأيت من الواجب إبداء الرأي فيها وهي: هل سُؤر الآدمي طاهر أم نجس؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ذهب عدد من الفقهاء إلى القول بنجاسة سُؤر الكافر، وزاد بعضهم بنجاسة سُؤر الجُنُب والحائض، مستدلين بقوله تعالى {إنَّمَا المُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوْا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} الآية 28 من سورة التوبة. على نجاسة الكافر ومن ثَمَّ سُؤره، وبالحديث الذي رواه أبو ثعلبةَ الخُشني وقد سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن آنية الكفار - في روايةٍ من أهل الكتاب، وفي روايةٍ ثانيةٍ من المشركين – «فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنْ وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء ... » الحديث وقد سبق. مستدلين به على نجاسة آنيتهم وقدورهم ومن ثَمَّ على نجاسة أبدانهم، وأخذوا من أحاديث تطهُّرِ الجُنُب والحائض نجاستهما ما داما جُنُباً وحائضاً، ومن الآيات مثل قوله سبحانه وتعالى {وإنْ كُنْتُمْ جُنُبَاً فاطَّهَّروا} وقوله سبحانه {ويَسْأَلُونَكَ عَن المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذَىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في المَحِيضِ ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فإذا تَطَهَّرْنَ فاْتُوهُنَّ مِن حَيْثُُ أَمَرَكُمُ اللهُ} الآية 222 من سورة البقرة نجاسةَ الجُنُب والحائض أيضاً، وقالوا إن القرآن الكريم وصف الكافر بأنه نجس، وإنَّ الآيات والأحاديث طلبت من الجُنُب والحائض التَّطهُّر، ولا يكون التَّطهُّر إلا من نجاسة، فدلَّ ذلك على نجاستهما ومن ثم نجاسة سُؤرهما. هذا هو مجمل ما قالوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وقبل الإجابة نُذَكِّر بأن قسماً من قولهم هذا قد سبق ذِكْره في بحث [الماء المستعمَل] ، وكشفنا هناك عن خطأ ما ذهبوا إليه، فلا نعيده بتفصيله، وإنما نكتفي بالإشارة إلى أن الحديث يقول «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقيه - أي حذيفة راوي الحديث - وهو جُنُب فحاد عنه فاغتسل، ثم جاء فقال: كنت جُنُباً، قال: إن المسلم لا ينجُس» وأن الحديث يقول: عن عائشة قالت «كنت أشرب وأنا حائض، ثم أُناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيَّ فيشرب، وأتعرَّق العَرْقَ وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيضع فاه على موضع فيَّ» رواهما مسلم وغيره. وقد مرَّا. وهذان دليلان صالحان على طهارة الجُنُب والحائض. بقيت نجاسة الكافر، هل الآية الكريمة تفيد النجاسة الحسية أم النجاسة المعنوية؟ إنه لم يَرِدْ في كتاب الله العزيز لفظة (نجس) إلا مرة واحدة فحسب، هي الواردة في قوله سبحانه وتعالى {إنَّمَا المُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا} الآية 28 من سورة التوبة وهذه اللفظة الوحيدة في الكتاب العزيز لم تجيء على ظاهر معناها، وإنما جاءت بمعنى النجاسة المعنوية، ومعناها هو نجاسة الاعتقاد وسوء الباطن والسريرة. والأدلة على أن نجاسة الكافر نجاسة معنوية ما يلي: أ - روى البخاري وأحمد والنَّسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثُمامة بن أُثال، فربطوه بسارية من سَواري المسجد ... » . ب - زواج المسلم من النصرانية واليهودية وما يستتبعه ذلك من المضاجعة وانتقال عرقها إليه، وغمس يديها في طعامه وشرابه، وقيامها بسائر الأعمال البيتية ببدنها، وإنجابها منه أولادَه المسلمين الطاهرين. ج - قوله تعالى {وَطَعَامُ الذِيْنَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية 5 من سورة المائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 د - عن أنس رضي الله عنه «أن يهودياً دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خبز شعير وإهالةٍ سَنِخةٍ فأجابه» رواه أحمد. قوله إهالة: أي شحمٌ وزيت. وقوله سَنِخة: أي متغيرة الرائحة. هـ - عن جابر رضي الله عنه قال «كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنُصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها، فلا يعيب ذلك علينا» رواه أبو داود وأحمد. الحديث الأول يدل على أن المشرك - وهو هنا ثُمامة - طاهرٌ، وإلا لَما أدخله المسلمون إلى المسجد ولَما ربطوه فيه. والبند (ب) دلالته ظاهرة ظهور الشمس على أن أبدان الكفار طاهرة، والآية الكريمة في البند (ج) تماثل في وضوح دلالتها البند (ب) إذ لو كانت أبدان الكفار من اليهود والنصارى وأيديهم نجسة لما جاز تناول طعامهم، لأنه يكون عندئذ نجساً، يؤكِّده ما جاء في البند (د) أما البند (هـ) فواضح الدلالة على أن آنية المشركين وأسقيتهم طاهرة. فالكفار طاهرةٌ أبدانهم، طاهرةٌ أسآرهم، طاهرةٌ آنيتهم، إلا أن هذه الآنية إن عُلِم أنهم يطبخون فيها طعاماً نجساً أو شراباً نجساً اعتُبرت متنجسةً ووجب عندئذ غسلها وتطهيرها فعن أبي ثعلبة الخُشني أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إنَّا نُجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها فارحَضُوها بالماء، وكلوا واشربوا» رواه أبو داود. وقد سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أما الكفار من غير أهل الكتاب، كالمجوس والمشركين والهندوس والبوذيين والملحدين، فتُعامل أوانيهم وقدورُهم معاملةَ أواني أهل الكتاب وقدورِهم، سواء بسواء، فنقوم بغسلها وتطهيرها إن علمنا أنهم وضعوا فيها مواد نجسة، لما رُوي عن أبي ثعلبة قال «سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قدور المجوس، قال: أنقوها غسلاً واطبخوا فيها ... » رواه الترمذي. فالواجب المساواة في التعامل بين أواني أهل الكتاب وأواني سائر الكفار من مجوس وغيرهم، يدل عليه أيضاً ما رُوي عن أبي ثعلبة الخُشني مرفوعاً « ... قلت: إنَّا أهلُ سفر نمرُّ باليهود والنصارى والمجوس ولا نجد غير آنيتهم، قال: فإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها واشربوا» رواه أحمد. الفصل الثاني أعيانُ النجاسات القذارة أو القذر منها ما هو بالغُ السوء ويسمى النجاسة، ومنها ما هو دون ذلك وهو الدَّنس والوسخ وما في معناهما، وجاء الشرع يحرِّم المُغلَّظ منها وهو النجاسة، ويكره ما دون ذلك وهو الوسخ. فالنجاسة قذارة، والقذارة ليست بالضرورة نجاسة، فقد تكون نجاسة، وقد تكون وسخاً أو دَرَناً أو ما في هذا المعنى. والقَذَر المخفَّف جاء الشرع يأمر بإزالته وغسله واجتنابه أمراً غير جازم، وهو ما يسمى النَّدب، وسَمَّى ذلك تنظيفاً ونظافة. فالنظافة في البدن وفي الثوب وفي المكان كلها أمور حث الشرع عليها، وجعل لمن يقوم بها ثواباً، دون أن يتوعده بالإثم إن هو لم يفعل ذلك. أما النجاسة فقد أمر الشارع باجتنابها أمراً جازماً وجعل اجتنابها فرضاً، وهي قسمان: نجاسة حسِّيَّة، ونجاسة حُكميَّة. أما الحِسِّيَّة فكالبول والغائط والدم والكلب وغيرها، وأما الحُكميَّة فكالجنابة والحيض والنفاس، وانتقاض الوضوء. وهذه النجاسة بشِقَّيها الإثنين يجب اجتنابها في عبادات ثلاث تشريفاً لهن، وهن الصلاة والطواف ومسُّ المصحف، ولم يشترط الشرع ذلك في سواهن على تفصيلٍ في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فقراءةُ القرآن اشترط لها الشرع زوال الجنابة دون الوضوء، وذكرُ الله لم يشترط له ذلك، وكذلك الجهاد وهو عبادة، والزكاة وهي عبادة، وسائر التصرفات من بيع وهبة ووكالة، والنكاح والسفر والأكل والنوم والصيد لم يشترط لها ذلك أيضاً. فكل العبادات والتصرفات تُقبل من المسلم دون اشتراط الطهارة الحُكميَّة إلا الصلاة والطواف ومس المصحف فقط. أما النجاسة الحسِّية فقد أمر الشارع باجتنابها وعدم التعامل بها على أية حال، فالماء النجس لا يجوز استعماله بحال، والدم والبول وما سواهما من النجاسات حكمها الاجتناب وجوباً، إلا ما رخَّص في كلب الصيد وكلب الحراسة، لما رُوي عن ابن عمر أنه قال: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول «مَن اقتنى كلباً إلا كلباً ضارياً لصيدٍ، أو كلبَ ماشية - فإنه ينقص من أجره كلَّ يوم قيراطان» رواه البخاري ومسلم وأحمد. وإلا ما رخَّص في جلد الميتة وسيأتي. إن السُّنة النبوية - فضلاً عن القرآن الكريم - لم يرد فيها تفصيل قطعيٌّ لأعيان النجاسات وأنواع المُطهِّرات، ولذا اختلفت فيها آراء المجتهدين. قال ابن رشد المالكيُّ المذهب: وأما أنواع النجاسات فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة: ميتة الحيوان ذي الدم السائل الذي ليس بمائي، وعلى لحم الخنزير بأي سبب اتفق أن تذهب حياته، وعلى الدم نفسه من الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو الميت إذا كان مسفوحاً، أعني كثيراً، وعلى بول ابن آدم ورجيعه، وأكثرهم على نجاسة الخمر، وفي ذلك اختلاف عن بعض المُحدِّثين، واختلفوا في غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وقال الشوكاني (والنجاسات هي غائط الإنسان مطلقاً، وبوله - إلا الذَّكر الرضيع- ولُعاب كلب، وروث، ودم حيض، ولحم خنزير، وفيما عدا ذلك خلاف، والأصل الطهارة فلا يَنْقُل عنها إلا ناقلٌ صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يُقدَّم عليه) وفي كتاب الكافي لابن قُدامة أن النجاسات هي بول الآدميِّ، وما لا يؤكل لحمه من الحيوان، و الغائط ، والودي، والقيء، والدم، والقيح، والخمر، والكلب، والخنزير، والميتة، ودخان النجاسة وبخارها. وذكر رأيين في المذي، والعلقة، ورطوبة فرج المرأة، والمني. وقال غيرهم غير ذلك. وإنما اختلفوا في هذا الباب اختلافاً كثيراً، لأن السُّنة كما ذكرنا لم تُفصِّل أعيان النجاسات، وقلما ذكرت نجاسةً بالتنصيص الصريح. وقد شدد الشافعيون والحنابلة في موضوع الطهارة والنجاسة، في حين خفف المالكيون كثيراً في هذا الموضوع، ووقف الأحناف بين هؤلاء وأولئك، فشددوا في أمور وخففوا في أمور أخرى. ونحن نبحث بإذن الله هذه المسألة، مسترشدين بالأدلة الصحيحة، ومجتنبين الأخذ بالأدلة الضعيفة، أو القياس الفاسد أو الشُّبهات، أو التقليد لمذهب أو إمام، فلعل الله يُمكِّننا من كشف القناع عن هذه المسألة الشائكة، واستخلاص الصحيح الذي تطمئن له النفس. قلنا في تمهيد [والنجاسات تسع: أربع من الإنسان هي البول والغائط والمذي والودي، وثلاث من الحيوان هي الكلب والخنزير والميتة، وواحدة مشتركة بينهما هي الدم المسفوح، وواحدة من غيرهما هي الخمر] هذه هي النجاسات التي استخلصناها من النصوص، وسنورد الأدلة على كل نجاسة منها بشيء من التفصيل، وبعدئذ نناقش ما قاله الآخرون مما خالفونا فيه دون ما وافقونا فيه. النجاساتُ من الإنسان البول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وردت فيه أحاديث كثيرة رواها عدد من الصحابة أذكر منها ما رُوي عن ابن عباس أنه قال «مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: إنهما ليُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي. هذا الحديث نصٌّ في بول الإنسان، ومعاقبةُ من لا يستنزه من البول قرينة على نجاسة البول، لأن المعلوم أن الله سبحانه لا يعذب على دنسٍ أو وسخٍ، وما دام الحديث يقرر عذاب من لا يجتنب البول فهو يقرر إذن نجاسته، وكذلك ما رُوي عن أبي هريرة أنه قال «قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه وهَريقوا على بوله سَجْلاً من ماء - أو ذَنُوباً من ماء - فإنما بُعثتم مُيسِّرين ولم تُبعثوا مُعسِّرين» رواه البخاري وأحمد وأبو داود. قوله سَجْلاً وذَنُوباً: أي الدلو المملوءة. وكذلك انعقد إجماع الصحابة على نجاسة البول، إلا أن الشرع خفف في بول الرضيع الذكر واكتفى في تطهيره بالرش، لحديث أم قيس «أنها أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابنٍ لها لم يبلغ أن يأكل الطعام، قال عبيد الله: أخبرتني أن ابنها ذاك بال في حِجْر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بماء فنضحه على ثوبه ولم يغسله غسلاً» رواه مسلم والبخاري وأحمد. ولحديث علي رضي الله عنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم - «بول الغلام يُنضح عليه، وبول الجارية يُغسل. قال قتادة: هذا ما لم يَطعما، فإذا طَعما غُسل بولُهما» رواه أحمد والترمذي وأبو داود. وصححه ابن حجر والحاكم والذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 قال الصَّنعاني صاحب كتاب سُبُل السلام (واعلم أن النضح كما قاله النووي في شرح مسلم هو أن الشيء الذي أصابه البول يُغمر ويُكاثَر بالماء مكاثرة لا تبلغ جريان الماء وتردُّدَه وتقاطُرَه، بخلاف المكاثرة في غيره، فإنه يشترط أن تكون بحيث يجري عليها بعض الماء، ويتقاطر في المحل وإن لم يشترط عصره، وهذا هو الصحيح المختار) . الغائط : دليله إجماع الصحابة، فقد انعقد إجماعهم على نجاسته، ولم يخالف أحد منهم في هذا. وثانياً أحاديث الاستنجاء من الغائط أدلة من السُّنَّة، أذكر كمثالٍ الحديث التالي: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلْيذهب معه بثلاثة أحجار يستطبُّ بهن، فإنها تُجْزِيءُ عنه» رواه أبو داود وأحمد والنَّسائي والدارمي. ورواه الدارقطني وقال: إسنادٌ صحيح. فالأمر بالاستطباب بالأحجار الثلاثة وأنها تُجزيء عنه دليل على نجاسة الغائط. ج. المَذِي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 هو سائل أبيض لزج، يخرج عند تحرك الشهوة بفعلٍ أو قولٍ أو نظرٍ أو تفكُّر. دليل نجاسته ما رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال «كنت رجلاً مَذَّاءً فأمرت رجلاً أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته، فسأله فقال: توضأ واغسل ذَكَرَك» رواه البخاري وأحمد وغيرهما. إلا أن الشرع خفف في المذي إن أصاب الثوب، وجعل حكمه كحكم بول الذكر الرضيع، لما رُوي أن سهل بن حُنَيف قال «كنت ألقى من المذي شدةً وعناء فكنت أُكثر منه الغسل، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسألته عنه فقال: إنما يُجْزِئُك من ذلك الوضوء، فقلت: يا رسول الله كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفَّاً من ماء فتنضح به ثوبك، حيث ترى أنه أصاب منه» رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد وأبو داود. قال الترمذي (حسن صحيح) . فكون الرسول عليه الصلاة والسلام يأمر بغسل الذَّكَر في الحديث الأول وبنضح الثوب في الحديث الثاني، فهو دليل على نجاسة المذي. د. الوَدِي: الودي هو سائل أبيض ثخين يخرج عقب البول، وهو نجس بغير خلاف أعلمه، وذلك لكونه يخرج عقب البول مباشرة فيكون مختلطاً به، فيأخذ حكمه في النجاسة. والودي لم يَرِد فيه حديثٌ، إلا أن عدداً من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تحدثوا عن نجاسته. قال ابن المنذر (قالت عائشة «وأما الودي فإنه يكون بعد البول فيغسل ذكره وأُنثييه ويتوضأ، ولا يغتسل» ) وعن ابن عباس قال «المني والودي والمذي، أما المني فهو الذي منه الغُسل، وأما الودي والمذي فقال: اغسل ذكرك أو مذاكيرك، وتوضأ وضوءك للصلاة» رواه البيهقي والأثرم. النجاساتُ من الحيوان ا لكلب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الكلب نجس كله:سُؤرُه وشعرُه ولحمُه ولُعابُه، وكلُّ عضو منه، وقد تقدم بحثه، والدليل هو ما روى مسلم « ... ثم وقع في نفسه جروُ كلبٍ تحت فسطاط لنا فأمر به فأُخرج ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه ... » وقد سبق بتمامه في بحث [سُؤر الحيوان] . وما روى مسلم والنَّسائي بلفظ «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فلْيُرِقْه، ثم لِيغسلْه سبعَ مِرارٍ» وقد سبق هو أيضاً في بحث [سُؤر الحيوان] . 2. الخنزير : الخنزير نجس، وقد تقدم تحقيق ذلك، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أمر بغسل آنية أهل الكتاب وقدورهم المستعملةِ في شرب الخمر وأكل لحم الخنزير وبالغ في طلب الغسل، وكذلك آية سورة الأنعام 145، ما يدل على نجاسة الخنزير كله. يُراجع بحث [سُؤر الحيوان] . 3. الميتة : الميتة هي الحيوان الذي مات حتف أنفه ودون تذكية، وهي نجسة. ويلحق بها ما انفصل من الحي من أعضاء، لحديث أبي واقد الليثي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما قُطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه. ودليل نجاسة الميتة إجماع الصحابة، وقد سبق تحقيق القول في حديث لحوم الحُمُر الأهلية وأن الرسول عليه الصلاة والسلام اعتبرها نجسة لأنها أخذت واقع الميتة، وكذلك رُوي أن ابن عباس رضي الله عنه قال «أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ من سِقاء، فقيل له: إنه ميتة، قال: دِباغُه يَذهب بخَبَثِه أو نَجَسِه أو رِجْسِه» رواه ابن خزيمة. ورواه البيهقي والحاكم وصححاه. كما صححه الذَّهَبي. فهو منطوق في نجاسة الميتة، كما أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «دِباغ جلد الميتة طُهورها» رواه ابن حِبَّان والطبراني والدارقطني. النجاسةُ المشتركة بين الإنسان والحيوان الدم المسفوح وهو نجس للحديثين التاليين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أ- عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت «جاءت فاطمة بنت حُبَيْش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني امرأة أُستحاض فلا أطهر، أفأدعُ الصلاة؟ فقال: لا، إنما ذلك عِرْقٌ وليس بالحَيضة، فإذا أقبلت الحَيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلِّي» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأبو داود. فهذا الحديث نصٌ في غُسل دم المستحاضة، والمعلوم أن المستحاضة ينزف دمها من عرق، فهو دم صافٍ مغايرٌ لدم الحيض. والمستحاضة تغسل دمها وتتوضأ لكل صلاة، وهذا الأمر بالغسل يدل على نجاسة الدم. ب- عن أسماء قالت «جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ قال: تَحُتُّه ثم تَقْرُصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه» رواه مسلم والبخاري. وهذا نصٌّ في دم الحيض والتشديد في غسله دليل قوي على نجاسته «تحُتُّه ثم تَقْرُصه بالماء ثم تنضحه» ويدخل في حكم الدم العَلَقة لأنها دمٌ متجمِّع يخرج من الفرج أشبه الحيض، ويدخل كذلك القيح لأنه دم فاسد، أو هو مادة نتجت من الدم فيأخذ حكمه. ويُستثنى من الدمِ النجسِ دمُ السمك، والكبدُ، والطحالُ، ودمُ ما لا نفسَ له سائلةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 أما دم السمك فلأنَّ ميتة السمك طاهرة والدم جزء منها فيكون طاهراً. وكذلك الكبد والطحال، لما رُوي أن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أُحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» رواه أحمد وابن ماجة. وصحَّحه ابن حجر وأبو حاتم. ولما رُوي أن أبا هريرة قال «سأل رجلٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو الطَّهور ماؤُه الحِلُّ مَيْتَتُه» رواه أحمد والترمذي. وصححه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان والترمذي. فهذان الحديثان يدلان على حِلَّ ميتةِ البحر كالسمك، ودمُه منه فيأخذ حكمه. ويدل الحديث الأول على طهارة الكبد والطحال، لأن حِلَّهما يعني طهارتهما. أما الدليل على طهارة دم ما لا نفس له سائلة، فالحديث المار في بحث [تطبيقات على الماء] وهو ما روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فلْيغمسه كله، ثم ليطرحه، فإنَّ في أحد جناحيه شفاءً وفي الآخر داءً» رواه البخاري وأبو داود. والحديث المار قبل قليل عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أُحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» رواه أحمد وابن ماجة. أما قدر الدم المسفوح الذي يعتبر نجساً، فالحكم فيه راجع لتقدير الشخص، ولكن الاعتدال في التقدير أن يقال: إنه الذي يسيل إذا صادف سطحاً مائلاً، فتخرج منه النقطة والنقطان، لأنهما ليستا دماً مسفوحاً، والشرع يعفو عن القليل. النجاسةُ من غير الإنسان والحيوان الخمر : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 دليلها هو دليل نجاسة الخمر نفسه، وهو حديث أبي ثعلبة الخُشني في وجوب غسل آنية أهل الكتاب وقدورهم التي يستعملونها في طبخ لحم الخنزير وشرب الخمر، وهذا الحديث قد مرَّ في بحث [سؤر الحيوان] . شُبُهات والآن نود أن نزيل شُبُهاتٍ تثور في أثناء استعراض أعيان النجاسات، ونبدأ بشُبهة نجاسة بول الحيوان. أولاً: بول ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل: ذكر عدد من الأئمة أن بول ما يُؤكل لحمه طاهر، وأن بول ما لا يُؤكل لحمه نجس، وذكر آخرون أن بول ما يُؤكل لحمه وما لا يُؤكل لحمه نجسٌ كله. فذهب إلى الرأي الأول مالك وأحمد والزُّهري والنخعي والأوزاعي والثوري والشوكاني، وجماعة من الأحناف منهم محمد ابن الحسن وزُفَر، وجماعة من الشافعيين منهم ابن المنذر وابن خُزيمة وابن حِبَّان والإصطخري والروياني. وذهب إلى الرأي الثاني الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور والحسن. وقد استدل أصحاب الرأي الأول بما يلي: أ - عن أنس قال «قدم أُناس من عُكَلٍ - أو عُرَينة - فاجتَوَوْا المدينة، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلِقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها» رواه البخاري ومسلم وأحمد. قوله اجتوَوْا: أي استوخموا. وقوله اللقاح: أي النوق ذوات اللبن واحدتها لِقحة. فكون الرسول عليه الصلاة والسلام يأمرهم بشرب أبوال الإبل وهي من مأكول اللحم فهو دليل على طهارة بولها وبول ما يُؤكل لحمه. أي أنهم قد استنبطوا من هذا الحديث علة كون الإبل يُؤكل لحمها، فقاسوا عليها كل ما يُؤكل لحمه كالغنم والبقر والغزلان والدجاج والحمام وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ب - عن أنس رضي الله عنه قال «كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل أن يُبنى المسجد في مرابض الغنم» رواه البخاري ومسلم. فقالوا هذا دليل ثانٍ على طهارة بول الغنم والبقر، لأن الصلاة في مرابض الغنم دليل على طهارتهما، إذ لا يخلو المِرْبض من البول والبعَر، وكون الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي في مكان فيه بول وبعر من الغنم فهو دليل على طهارتهما، وقاسوا عليهما سائر أبوال ما يُؤكل لحمه. ج - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه «أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تَوَضَّأ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا» رواه مسلم وأحمد والبيهقي. د - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الغنم من دوابِّ الجنة، فامسحوا رُغامها وصلوا في مرابضها» رواه البيهقي والخطيب، وإسناده حسن. وفي روايةٍ للبيهقي وابن عديٍّ عن أبي هريرة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال «صلوا في مُراح الغنم، امسحوا رُغامَها فإنها من دوابِّ الجنة» . قوله مُراح: أي مأوى. وقوله رُغامها: أي مُخاطها. فهذه نصوص أُخر في جواز الصلاة في مرابض الغنم مع ما فيها من أبوال ورجيع، وهو دليل على طهارتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وأما نهيه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في معاطن الإبل فإنه ليس للنجاسة، وإنما هو معلَّل بأن الإبل من الشياطين. فعن البراء بن عازب قال « ... وسُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين، وسُئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: صلوا فيها فإنها بركة» رواه أبو داود. ورواه ابن ماجة وأحمد وابن حِبَّان من طريق عبد الله بن مغفل بلفظ «صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلُّوا في أعطان الإبل، فإنها خُلقت من الشياطين» وفي لفظٍ لأحمد من طريقه «فإنها من الجن خُلقت» فكون الحديث ينهى عن الصلاة في معاطن الإبل لعلة أنها من الشياطين - بمعنى أنها تُؤذي من يقترب منها إذا نفرت - فهو بذلك ينفي علَّة النجاسة. هـ - عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن الله لم يجعل شفاءَكم في حرام» رواه ابن حِبَّان وأبو يعلى والبزَّار. و عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء، فتداوَوْا ولا تداوَوْا بحرام» رواه أبو داود والبيهقي. ز- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدواء الخبيث» رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وبهذه الأحاديث ردُّوا على من يقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم أَذِنَ بأبوال الإبل للدواء، وأنَّ هذا خاص بالعلاج، وإلا فأبوال الإبل نجسة. وقالوا إن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن التداوي بالخبيث أي بالنجس وبالحرام عموماً، وكونه أذن بالتداوي بالأبوال فهو دليل على خروجها على حكم النجاسة والتحريم. واستدل بعضهم بالحديث المرفوع الذي رواه البراء وجابر ولفظه «لا بأس ببول ما أُكل لحمه» رواه الدارقطني بسندٍ واهٍ جداً. وأورده ابن حزم في الموضوعات. هذا هو مُجمل رأيهم في طهارة أبوال ما يُؤكل لحمه من الحيوان، وهذه هي أدلتهم. أمّا قولهم إن ما سوى ما يُؤكل لحمه نجس، فلهذه الأدلة التي عللوها بأنها مأكولة اللحم وقالوا: بما أن ما سواها غير مأكول فيكون نجساً. وللحديث الآتي: عن عبد الله ابن مسعود قال «أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت رَوْثة فأتيته بها فأخذ الحجرين وألقى الرَّوْثة وقال: هذا رِكْس» رواه البخاري وأحمد والترمذي. ورواه ابن خُزَيمة عنه هكذا «أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتبرَّز فقال: ائتني بثلاثة أحجار، فوجدت له حجرين وروثة حمار، فأمسك الحجرين وطرح الرَّوْثة وقال: هي رِجْس» . فقالوا: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد وصف الرَّوْثة بأنها رِكْس أو رِجْس، أي نجسة، وهي رَوْثة حيوان لا يُؤكل لحمه، فدل ذلك على أن بول أو روث أو رجيع ما لا يُؤكل لحمه نجس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 أما أصحاب الرأي الثاني وهم الشافعيون والأحناف الذين اعتبروا رجيع وأبوال ما يُؤكل لحمه وما لا يُؤكل نجس كله، فقد استندوا إلى حديثين: هذا الحديث الذي ذكرناه قبل قليل، أي حديث الرِّكس، فعمَّموه على أبوال وأرواث كل الحيوانات، وحديث القبرين وهو: عن ابن عباس قال «مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: إنهما ليُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ... » رواه البخاري وأحمد. وفي رواية لابن ماجة وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - «أكثر عذاب القبر من البول» . وفي روايةٍ للدارقطني عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «تنزَّهوا من البول، فإن عامَّة عذاب القبر منه» فعمَّموا البول على سائر الإنسان والحيوان، لأن لفظ (البول) اسم جنس فيعمُّ، وأن البول ينسحب على بول الإنسان وبول الحيوان، فدل ذلك على نجاستهما. أما صلاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك أمره بالصلاة في مرابض الغنم، فقال الشافعي هذا محمول على أن تكون الصلاة بعيداً عن البَعَر والبول. وأما شُرب أبوال الإبل فقالوا هذا للعلاج، وفي العلاج يجوز شرب النجِس، وحمَلوا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في النهي عن الدواء الخبيث أو التداوي بالحرام على حالة الاختيار، أما في حالة الضرورة فلا بأس، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى {وقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلا مَا اضْطُرِرتُمْ إليه} الآية 119 من سورة الأنعام. هذه هي آراء الفريقين وأدلتهما، وبالنظر يتبين أنهما يلتقيان عند نجاسة بول ما لا يُؤكل لحمه كبول الأسد والذئب والنمر والحمار والبغل وغيرها، ويفترقان عند بول ما يُؤكل لحمه من الأنعام والغزلان والدواجن والطيور المأكولة وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وقبل أن نناقش هذين الرأيين بالتفصيل، نذكر في المسألة رأياً ثالثاً قال به الشعبي وداود ومال إليه البخاري يقول: إن جميع أبوال الحيوانات طاهرة دون استثناء، ولم يُنقل عنهم إن كانوا استثْنَوْا بول الكلب والخنزير أو لا. وإنما قلت مال إليه البخاري ولم أقل قال به، وذلك لأنه اكتفى بأنْ عقد في صحيحه باباً سمَّاه [باب أبوال الإبل والدوابِّ والغنم ومرابضها، وصلى أبو موسى في دار البريد والسِّرقين، والبرية إلى جنبه، فقال: ها هنا وثَمَّ سواء] ولم يُفصح بالحكم، ولكنَّ إيراده حديث العُرَنيين يُشعر باختياره الطهارة، ويدل على ذلك قوله في حديث صاحب القبر (ولم يذكر سوى بول الناس) قال ابن بطال: أراد البخاري أن المراد بقوله كان لا يستتر من البول بول الإنسان لا بول سائر الحيوان، فلا يكون حجة لمن حمله على العموم في بول جميع الحيوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ولست أريد في المناقشة أن أتناول كل رأي من الآراء الثلاثة على حدة، وإنما سأناقش المسألة كلها دفعة واحدة، ليتضح من ثَمَّ الرأي الصواب بإذن الله، فأقول: إنَّ استشهاد من استشهد على نجاسة أبوال الحيوانات بحديث البخاري وروايتي ابن ماجة والدارقطني هو استشهاد غير دقيق، فقولهم إن كلمة البول تشمل بول الإنسان وبول الحيوان إنما هو كالقول: الماء كله طَهور بدليل قوله عليه الصلاة والسلام «الماء طَهور لا يُنجِّسه شيء» دون التفاتٍ إلى حديث القُلَّتين الذي خصص العموم. فقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - «لا يستتر من البول» أو قوله في رواية أخرى «لا يستنزه من البول» أخرجها أحمد. وفي روايةٍ «لا يستبريء» أخرجها النَّسائي. هو عام في جميع الأبوال بلا خلاف أعلمه، إلا ممن قال إن البول هنا للعهد، وإنَّ كلمة (أل) هنا جاءت نيابة عن المضاف إليه. وإذن فإنَّ البول يعني بول الإنسان، أو من مثل القرطبي الذي يقول (قوله من البول اسم مفرد لا يقتضي العموم، ولو سُلِّم فهو مخصوص بالأدلة المقتضية لطهارة بول ما يؤكل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ولكنَّ هذا القول مجمل، وجاءت روايات أُخر للأحاديث السابقة نفسها تبينه بأنه بول الإنسان، ففي روايةٍ للبخاري «لا يستتر من بوله» وفي رواية لأحمد وابن ماجة «لا يستنزه من بوله» وهذان نصان في بول الإنسان، وهما مبيِّنان للمُجمَل في الأحاديث الأخرى، والمعلوم عند الأصوليين العملُ بالمُبيِّن وحمل المُجمَل عليه، وهذا ما خفي على أصحاب الرأي القائل بنجاسة جميع الأبوال لدخولها تحت لفظ البول. فالأحاديث التي استشهدوا بها لا تصلح لتأييد دعواهم لأنها مجملة وروايات لفظة (بوله) تردُّ هذا الرأي، وتبين أن البول الوارد في تلك الأحاديث هو بول الإنسان. وهذا التفسير والفهم لألفاظ الأحاديث ينسجمان مع أحاديث طهارة بول الغنم وبول الإبل وأبعارها. والمعلوم أن الأصل في جميع الأشياء الطهارة، بدلالة قوله تعالى في سورة الحج {أَلَمْ تَرَ أنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا في الأَرْضِ} الآية 65. وقوله في سورة الجاثية {وسَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمواتِ ومَا في الأَرْضِ جَمِيْعَاً مِنْهُ} الآية 13. فالله سبحانه قد سخَّر لنا ما في الأرض وما في السموات جميعاً، والتسخير يقتضي الاستعمال والاستفادة، والنجس لا يُستعمل ولا يُستفاد منه، وإذن فإنَّ الطهارة هي الأصل، ونجاسة أي شيء هي التي تحتاج إلى دليل. قال ابن المنذر (إن الأشياء على الطهارة حتى تثبت النجاسة) ولذا فإنهم إما أن يأتوا بدليل ينص منطوقه أو يُؤخذ من مفهومه أن أبوال الحيوانات نجسة، وإما أن تظل على أصلها من الطهارة. وقد أتوا بحديث ظنُّوه نصاً في نجاسة بول الحيوان، هو حديث الرَّوْثة الذي رواه البخاري وغيره عن ابن مسعود، فإنْ بان بعد المناقشة أن الحديث ليس حجة لهم ولا يسند لهم رأياً، وأنه ليس لهم سواه من أدلة بان خطأُ رأيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الحديث الذي رواه البخاري وغيره وصفَ الروثة بأنها رِكس بالكاف، وحديث ابن خُزَيمة الذي رواه ابن ماجة أيضاً وصف الروثة بأنها رِجس بالجيم، وذكر ابن خُزَيمة أن الروثة كانت روثة حمار. والجواب عليه ما يلي: إن الرواية الصحيحة القوية تُقدَّم على الرواية الأضعف منها، حتى وإن كانت هي الأخرى صحيحة. فرواية البخاري أقوى من رواية ابن خُزَيمة وابن ماجة، فالأصل العمل بحديث البخاري دون حديث ابن خُزَيمة وابن ماجة، ومع ذلك، وإقامةً للحُجَّة على هؤلاء، سنَعمل بالروايتين معاً، ولنبدأ برواية البخاري. إن كلمة رِكس الواردة في الحديث وصفاً للروثة لا تعني النجاسة، ومن فسرها بذلك فقد أخطأ، فاللغة العربية لم تُستعمل فيها كلمة رِكس بمعنى نجِس، وما ورد في بعض المعاجم من تفسيرها بنجس إنما كان بتأثيرٍ من أقوال الفقهاء. فالقاموس المحيط فسرها بمعنيين رِكس بالكسر: رِجس، ورَكس بالفتح: ردُّ الشيء مقلوباً وقلب أوَّله على آخره. وجاء في لسان العرب لابن منظور: الرَّكس: قلب الشيء على رأسه أو ردُّ أوله على آخره، وجاء في مكان ثانٍ له: الرَّكس: ردُّ الشيء مقلوباً. قال ابن حجر العسقلاني (الأوْلى أن يُقال ردٌّ من حالة الطعام إلى حالة الروث) ونُقل عن أبي عبد الملك أن معناه الردُّ كما قال تعالى: أُرْكِسوا فيها، أي رُدُّوا. وعلَّق ابن حجر على هذا القول (ولو ثبت ما قال لكان بفتح الراء يقال أركسه رَكساً إذا ردَّه) وبمثل هذا فسرها ابن عباس فقال: أَرْكَسهم ردَّهم. وقال ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى {كلَّ ما رُدُّوا إلى الفتنةِ أُركِسوا فيها} قال (يقول الله كلما رُدوا إلى الفتنة أُركِسوا فيها، يعني كلما دعاهم إلى الشرك بالله ارتدوا، فصاروا مشركين مثلهم) وقال النَّسائي (الرِّكس طعام الجن) فعقَّب عليه ابن حجر العسقلاني بقوله (وهذا إن ثبت في اللغة فهو مُريحٌ من الإشكال) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 إذن أئمة اللغة والحديث اختلفوا في تفسير هذه اللفظة، وجُلُّهم يفسرها بالردِّ والقلب، وما ترددهم إلا لأن اللغة استعملت اللفظة بالفتح، والحديث قُرئت فيه الكلمة بالكسر، وإذا اختلفت الآراء فلا بد من مُرجِّح وإلا ظل تفسيرها يحتمل أكثر من وجه، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال كما يقول الأصوليون. أي إما أن يظل الاحتمال قائماً فلا تصلح للاحتجاج، وإما أن يُزال الاحتمال بمرجِّح فيصح الاستدلال. وبالرجوع إلى القرآن الكريم والحديث الشريف نجد المرجِّح واضحاً تماماً. أما القرآن الكريم فقد استعمل جذر هذه الكلمة في موضعين: الأول في الآية 88 من سورة النساء، والثاني في الآية 91 من السورة نفسها. الآية الأولى تقول {فَمَا لَكُمْ في المنَافِقِيْنَ فِئَتَيْنِ واللهُ أَرْكَسَهم بما كَسَبُوا} والآية الثانية تقول {كُلَّ مَا رُدُّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيْها} وهاتان الآيتان تشيران إلى معنى واحد للرَّكس هو الرد والقلب، وهو ما يوافق تفسير القاموس المحيط وتفسير لسان العرب، وتفسير ابن عباس وابن حجر وابن جرير وأبي عبد الملك. فالصواب هو أن كلمة رَكس بالفتح معناها القلب والرد. هذا هو معناها في القرآن الكريم، وهو معناها في اللغة. فإن قالوا إن القرآن استعمل جذر كلمة ركس بالفتح، أما الحديث فقد ورد فيه اللفظ بالكسر رِكس، ورِكس معناها نجس، قلنا لهم: وأين اللغة التي تحدد هذا المعنى أيضاً؟ فالقاموس المحيط فسَّر كلمة رِكس بالكسر بأن معناها رِجس وكذلك فسرها مختار الصحاح، ولم يُفسِّراها بنجس، وكلمة رِجس لا تعني النجس إلا بقرينة، ولا قرينة هنا. والآن لننتقل إلى تفسير كلمة رِجس، وهي اللفظة الواردة في رواية ابن ماجة وابن خُزَيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ب- قالت معاجم اللغة إن كلمة رِجس معناها القَذَر، وإن القذر منه المادِّي، ومنه غير المادي من الأعمال، وقد فسَّرتها بالغضب وبالقبح وبالإعاقة وبالاختلاط وبالالتباس وبالشك وبالعقاب، وفسرتها بعض المعاجم بالنجس. فهي إذن ذات معانٍ متعددة ليست النجاسة أبرزها. هذا في اللغة. أما في القرآن الكريم فقد وردت هذه اللفظة في عشرة مواضع في تسع آيات، لا بأس بأن أذكرها كلها: 1- {إنما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأَنْصَابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطَانِ} الآية 90 من سورة المائدة. 2- {كذلك يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلى الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} الآية 125 من سورة الأنعام. 3- {إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتةً أو دَمَاً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنَّه رِجْسٌ} الآية 145 من سورة الأنعام. 4- {قال قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ ربِّكُمْ رِجْسٌ وغَضَبٌ} الآية 71 من سورة الأعراف. 5- {فأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنَّهُمْ رِجْسٌ} الآية 95 من سورة التوبة. 6- {ويَجْعَلُ الرِّجْسَ على الذِينَ لا يَعْقِلُونَ} الآية 100 من سورة يونس. 7- {فاجْتَنِبوا الرِّجْسَ مِن الأَوْثَانِ واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} الآية 30 من سورة الحج. 8- {إنَّمَا يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُم الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} الآية 33 من سورة الأحزاب. 9- {وأَما الذِينَ في قُلُوْبِهِمْ مَرَضٌ فزَادتْهُمْ رِجْسَاً إلى رِجْسِهِمْ} الآية 125من سورة التوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وبالتدقيق في هؤلاء الآيات يتبين أن كلمة رِجس الواردة فيها لها عدة معان، ليس منها النجاسة إلا في موضعٍ واحد وبالقرينة، كما سبق بحثه في بحث [سُؤر الحيوان] هو الآية الثالثة {إلا أَنْ يَكُوْنَ مَيتةً أو دَمَاً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنَّه رِجْسٌ} وجميع المعاني الباقية تغاير هذا المعنى. ففي الآية الأولى ليس الميسر وليست الأنصاب نجسة، وفي الثانية تفيد معنى السوء، وفي الرابعة تفيد معنى العذاب، وفي الخامسة تفيد نجاسةً معنوية كما سبق تحقيقه، وفي السادسة تفيد عقاباً وسوءاً، وفي السابعة لم يقل أحد إن الأوثان نجسة، وفي الثامنة لا يقول أحد إن الله يريد أن يُذهب النجاسة عن أهل البيت، وفي التاسعة لا تفيد لفظة رِجس النجاسةَ في موضعيها من الآية. ولو شئتُ أن أجمع هذه المعاني كلها في كلمة واحدة لقلت إن معناها (سوء) ، وخذ الآيات كلها وفسِّرها بهذا المعنى فستجد انطباقها عليه. فكلمة رِجس تعني السوء، ولا تعني النجاسة إلا بقرينة كما أسلفنا. إذن فليس في القرآن ما يوجب تفسير الرِّجس بأنه النجس، فيكون معنى الحديث أن الروثة رَكس أي ردٌّ وقلبٌ، أو رِجس، بمعنى سوء. هذه هي دلالتها في اللغة وفي القرآن الكريم. أما الحديث فقد فسَّر هذه اللفظة بأوضح بيان وأجلى عبارة، ونحن نعلم أن الحديث يفسر بعضه بعضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 1- عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، قال فانطَلَق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذُكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكلُّ بعرة علفٌ لدوابِّكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم» رواه مسلم وأحمد. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «فلا تستنجوا بالعظم ولا بالبعر فإنه زاد إخوانكم من الجن» . ورواه الترمذي ولفظه «لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجنِّ» وقال (والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم) . 2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يُستنجَى بروثٍ أو عظمٍ وقال: إنهما لا تُطهِّران» رواه الدارقطني وقال: إسنادٌ صحيح. 3- عن أبي هريرة «أنه كان يحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إِداوةً لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: مَن هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة، فقال: ابغني أحجاراً أستنفضُ بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بالُ العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجنِّ، وإنه أتاني وفد جنِّ نَصِيبِين - ونعم الجنُّ - فسألوني الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمرُّوا بعظم، ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً» رواه البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 4- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «سأَلَت الجنُّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر ليلة لقيهم في بعض شعاب مكة الزاد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلُّ عظم يقع في أيديكم قد ذُكر اسمُ الله عليه أوفرُ ما يكون لحماً، والبعرُ يكون علفاً لدوابكم، فقال: إن بني آدم يُنَجِّسونه علينا، فعند ذلك قال: لا تستنجوا بروث دابَّة ولا بعظمٍ، إنه زاد إخوانكم من الجن» رواه الطَّحاوي. ففي هذه الأحاديث الدليل القوي الواضح على أن كلمة رِجس وكلمة ركس هنا لا تعنيان النجاسة، وأن علة منع الاستنجاء بالعظم وبالروث هي أنهما من طعام الجن وليس لأنهما نجستان. القرآن الكريم استعمل كلمة رَكس بمعنى الردِّ والقلب، واستعمل كلمة رِجس بمعانٍ عدة يجمعها كلها كلمةُ سوء، والرسول عليه الصلاة والسلام حين أُتي بالروثة قال عنها: أ- إنها رَكس، أي ردٌّ وقلبٌ، بمعنى أنها سترتدُّ وستنقلب، أي ستتحول من حال إلى حال. وجاءت الأحاديث الأخرى تبين ماهية التحول هذا، وأن ذلك يعني تحولَها من جديد إلى طعام أي سترتدُّ إلى حالها الأُولى من الغذاء. هذا هو معنى الردِّ والقلب كما جاء في معاجم اللغة، وكما جاء في استعمالات القرآن الكريم. فالقرآن الكريم والسنة الشريفة ومعاجم اللغة التقت كلُّها عند معنى واحد لكلمة رَكس، هو الارتداد والانقلاب إلى ما كان عليه من قبل. وإذا التقت هذه الثلاثة على معنى واحد لم يجُزْ لأحدٍ كأنناً مَن كان أن يخالف ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ب- إنها رِجس، ورِجس معناها سوء، ومعناها سُخط كما فسَّرها عبد الله بن عباس. والسوء عكس الصلاح، قال سبحانه {وآخَرونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطَوا عَمَلاً صَالِحَاً وآخَرَ سيِّئاً} الآية 102 من سورة التوبة. وقال سبحانه {ومَنْ يُؤْمِنْ باللهِ ويَعْمَلْ صَالِحَاً يُكفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ} الآية 9 من سورة التغابن. وقال جلَّ جلاله {ومَا يَسْتَوِي الأعْمَى والبَصِيرُ والذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ولا المُسِيءُ} الآية 58 من سورة غافر. فهؤلاء الآيات الكريمات قد ذكرن الصلاح والسوء وجعلن الصلاح عكس السوء، فالسوء غير الصلاح والسَّيِّءُ غير الصالح فهما متضادتان. وإذن فإن لفظة (رِجس) معناها سوء وسخط وعدم صلاح. هذه هي أجمع معانيها، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام عن الروثة إنها رِجس، يفيد أنها سيئةٌ في الاستنجاء، أو أنها سُخط، أو أنها غير صالحة. هذه هي معاني رِجس هنا، وليس من معانيها هنا النجاسة لا من قريب ولا من بعيد. وباختصار نقول إن الرسول عليه الصلاة والسلام حين أُتي بروثةٍ أراد أن يبين أنها لا تُستعمل في الاستنجاء، فاستعمل كلمة رَكس ومعناها أنها ستتحول إلى حالها الأولى من الطعام أي أنها ستكون طعام الجنِّ بعد تحولها في أيديهم إلى طعام، وإذا أوردنا لفظة رِجس قلنا إنه عليه الصلاة والسلام أراد بها إظهار رفضه لاستعمالها فقال إنها سيئة أي غير صالحة وإنها سخط أي مخالفة للوعد الذي قطعه عليه الصلاة والسلام لإخواننا الجن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 هذه هي معاني الحديث بلفظتيه رَكس ورِجس، وهي معانٍ متعاضدةٌ متناسبة مع استعمال القرآن الكريم والأحاديث النبوية الكثيرة التي اجتزأنا بعضاً منها، وليس منها معنى النجاسة. بل لماذا نذهب بعيداً والحديث الرابع يقول «إن بني آدم يُنجِّسونه علينا» فهذا نصٌّ يدلُّ دلالة قطعية على طهارة الروث والعظم، لأن ما كان نجساً لا يُطلب عدم تنجيسه، فكون الحديث يقول ما قال فهو دليل أكيد على طهارتهما. وإذن وبعد أن ظهر خطأُ استشهادهم على نجاسة الروث، فإن الرَّوث يظل على أصله من الطهارة، ويظل بول الآدمي فحسب هو النجس، وهذا وحده يكفي للتدليل على طهارة جميع الأبوال لجميع الحيوانات، باستثناء أبوال الكلاب والخنازير، لما سبق تحقيقه من نجاسة الكلب ونجاسة الخنزير، إذ أنهما ما داما نجسين فأبوالهما نجسة قطعاً. وإنَّ الأمر ليزيد عن حد الكفاية إلى حد الاطمئنان حين نستشهد بالأحاديث الثلاثة التي سبق أن استشهد بها أصحاب الرأي الأول على طهارة أبوال ما يُؤكل لحمه، فهي في الواقع يُستشهد بها للاطمئنان على صحة الرأي القائل بطهارة أبوال وأزبال الدوابِّ كلها، وأن هذه النصوص الثلاثة إنما تناولت أفراداً من المباح ولم تستقص المباح كله، فالمباح ثبت حين أبطلنا أدلة من قال بنجاسة الأبوال، لأن الأصل في الأشياء أن تكون طاهرة. بقيت النقطة الأخيرة، وهي التداوي: هل يجوز التداوي بالدواء الخبيث أو النجس، أو الحرام أم لا يجوز؟ الصحيح أن التداوي بالنجس أو بالمُحرَّم حرام لا يجوز لما يلي: أ- عن وائل الحضرمي أن طارق بن سويد الجعفي «سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر، فنهاه أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ب - عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء فتداوَوْا ولا تَداوَوْا بحرام» رواه أبو داود والبيهقي وقد سبق. ج - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام» رواه ابن حِبَّان وأبو يعلى والبزَّار وقد سبق. د - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدواء الخبيث» رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والترمذي وقد سبق. فقوله عليه الصلاة السلام (في حرام) وقوله (الدواء الخبيث) وكذلك نهيه عن التداوي بالخمر يشمل كل نجس وحرام، ولم يستثن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أية نجاسة أو أي مُحَرَّم من هذا العموم، ولذا يظل الحكم عاماً في كل حرام وكل نجس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وأما حديث العُرَنيين الذي سمح بالتداوي بأبوال الإبل، فهو متَّسق مع هذا الحكم العام لأن أبوال الإبل طاهرة فلا يشملها النهي، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن في أبوال الإبل وألبانها شفاءً للذَّرِبَةِ بطونُهم» رواه أحمد. ورواه ابن المنذر بلفظ «اشربوا من ألبانها وأبوالها» . قوله الذَّرِبة - من الذَّرَب بالتحريك -: هو داء يصيب المعدة فيمنعها من هضم الطعام فيفسد فيها. وقال ابن المنذر تعقيباً على حديث العُرَنيين (فإن قال قائل بأن ذلك للعُرَنيين خاصة، قيل له: لو جاز أن يقال في شيء من الأشياء خاصة بغير حجة لجاز لكل من أراد فيما لا يوافق من السنن مذاهب أصحابه أن يقول ذلك خاص ... واستعمال الخاصَّة والعامَّة أبوالَ الإبل في الأدوية، وبيع الناس ذلك في أسواقهم، وكذلك الأبعار تباع في الأسواق، ومرابض الغنم يُصلَّى فيها، والسنن الثابتة دليل على طهارة ذلك، ولو كان بيع ذلك محرماً لأنكر ذلك أهل العلم، وفي ترك أهل العلم إنكار بيع ذلك في القديم والحديث، واستعمال ذلك معتمدين فيها على السُّنة الثابتة بيان لما ذكرناه) وهكذا فهم المسلمون الأوائل أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا يصنعون الأدوية من أبوال الإبل وهم يعلمون نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن التداوي بالنجس، مما يوضح أنهم كانوا يعتبرون أبوال الإبل طاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أما استشهاد بعضهم بحديث ترخيص رسول الله عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن ابن عوف بلبس الحرير في الحكة مع أن لبس الحرير للرجال حرام، فنزيل هذه الشبهة بإيراد نص الحديث ثم بيان دلالته. عن أنس قال «رخَّص النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير لحكَّة بهما» رواه البخاري وأحمد والنَّسائي والترمذي وأبو داود. ورواه مسلم ولفظه «إن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شَكَوَا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القمل، فرخص لهما في قُمُص الحرير في غزاة لهما» . فهذا الحديث ليس في موضوع العلاج، وليس هو في باب التداوي، ولا يُدرج هنا، بل مكانه باب الرخص للمريض، فلبس الحرير ليس دواء وليس علاجاً، ولا يُصنَّف في قائمة العلاجات والأدوية لمرض الحكَّة، وإنما يقال إن الحكَّة مرض يُرخَّص لصاحبها في لبس الحرير، وبحث الرخص معلوم في الفقه، وهو حالات استثنائية يجوز فيها للمريض ما لا يجوز لغيره، فالمريض في رمضان يُرخَّص له في الإفطار، ولا يقال إن الإفطار - وهو في الأصل إثم - علاجٌ للمريض الصائم، وإنما يقال هو رخصة، والمريض يُرخَّص له في الصلاة قاعداً، ولا يقال إن الصلاة قاعداً علاج، وإنما يُقال إنها رخصة، والمريض إذا كان الماء يضرُّه يُرخَّص له في التيمُّم مع وجود الماء، ولا يقال إن التيمُّم علاج، وكذلك المريض بالحكَّة يُرخَّص له في لبس الحرير، ولبس الحرير ليس علاجاً، وإنما هو رخصة، وهكذا الرُّخص كلها حالات استثنائية يباح فيها فعل الحرام أو ترك الواجب، وليست علاجات وليست أدوية، والقاسم المشترك بينها هو دفع المشقَّة والأذى عن المريض، فالصيام مشقة، والوضوء بالماء مشقة وأذى، ولبس الملابس الخشنة مشقة. هكذا يجب أن يُفهم حديث لبس الحرير للحكَّة، وهو أنه رخصة في حالة مرض الحكة وليس علاجاً وليس دواء. وبذلك يظل الحكم العام قائماً، وتظل النصوص كلها منسجمة بعضها مع بعض. فالتداوي بالحرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 حرام، والتداوي بالنجس حرام، ولا يجوز استعمالهما في العلاج مطلقاً، وليس في النصوص أيُّ نسخٍ لهذا الحكم ولا أي مخصِّص ولا أي معارِض. أما قولهم إن الدواء الخبيث يُحمل على حالة الاضطرار، والدواء الخبيث لا يحل في حالة الاختيار، فهو تأويل يشبه تأويلهم لحديث الصلاة في مرابض الغنم من أنه يُحمل على الصلاة في الأماكن التي ليس فيها بول أو بَعَر، وتأويلهم لحديث التداوي بأبوال الإبل من أنه يُحمل على حالة الاضطرار، فهم يتبنَّون حكماً يرونه صحيحاً ثم يؤولِّون الأحاديث والنصوص التي تخالف هذه الحكم، وكان الواجب عليهم العمل بجميع النصوص عندما تكون منسجمة بعضها مع بعض ولا تَعارُض بينها. أما هذه الحالة التي وضعوها للدواء - وهي حالة الاختيار والاضطرار - فإنا نقول إن الله سبحانه أباح لنا في حالة الاضطرار أن نفعل الحرام، فنأكل الميتة ونشرب الخمر ونسرق الطعام ولكن هذا شيء والتداوي بالخبيث في حالة الاضطرار شيء آخر، بمعنى أنه لو وُجد شخص أشرف على الموت عطشاً وليس عنده شراب إلا الخمر جاز له شُربُها لينقذ نفسه، وإذا كان المسلم سجيناً ومنع السَّجَّان عنه الطعام حتى أوشك على الهلاك جاز له أن يقتل السَّجَّان ويخلِّص نفسه، فهذا هو غير الباب الذي نحن بصدده، وهذا هو معنى الآية الكريمة التي استشهدوا بها على خطأ رأيهم {وَقَدْ فَصَّلَ لكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ إلا مَا اضطُرِرتُمْ إليه} . فالاضطرار حالة غير حالة المرض، وأدلتها غير أدلة المريض وأدلة العلاج، لأن الاضطرار هو الحالة التي يشرف فيها الإنسان على الموت، وهو الحالة التي أشارت إليها الآية الكريمة {فمَنْ اضطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ} ففي حالة الاضطرار يجوز فعل الحرام من أجل الخروج والخلاص منها، أما موضوعنا فشيء آخَرُ تماماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 فالمرض ليس حالة اضطرار ولا يجوز خلط الاضطرار بحالة المرض أو الدواء للاختلاف بينهما، ففي حالة المرض يظل الحكم عاماً، وهو حرمة التداوي بالنجس أو بالحرام. وهكذا فإنه ليس لهم حجة على ما أوردوه، ويظل الأمر كله بجميع فروعه منسجماً مع بعضه، فأبوال الإبل طاهرة، ولذلك يجوز التداوي بها، والخمر نجسة ولذلك لا يجوز التداوي بها. ونحن نستطيع الوصول إلى الحكم نفسه بأن نقول إن الشرع حرَّم الانتفاع بالنجس، وإن الشرع حرَّم الحرام بداهة، وجعل الانتفاع بالنجس وفعل الحرام حراماً وليس مباحاً ولا مكروهاً، وما دام الدواء النجس نجساً فإنه يحرم الانتفاع به وما دام الدواء محرَّماً فإنه يحرُم تعاطيه. ويجوز أن نستثني من هذه الحكم العام ما نشاء إن وجدنا نصوصاً مخصِّصة ومستثنِية، ولكننا رغم بحثنا لم نجد أي نص مخصِّص أو مُستثنٍ، فالتداوي بأبوال الإبل ليس مُخصِّصاً، والترخيص بلبس الحرير ليس مستثنياً، وإذن فإن انتفاء التخصيص والاستثناء يقود بالضرورة إلى إعمال الحكم العام، وهو حرمة التداوي بالنجس وبالحرام. وما قلناه من عدم وجود التخصيص وعدم وجود الاستثناء نقوله أيضاً من عدم وجود التعارض، فليس في النصوص أي نص يعارض الحكم بالتحريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ومن أجمل ما قرأت في هذا الموضوع كلمات كتبها ابن القيم في كتاب الطب النبوي أنقلها إليكم كما وردت (إنما حرَّم الله على هذه الأمة ما حرَّم لخبثه، وتحريمه له حمية لهم وصيانة عن تناوله، فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل، فإنه وإن أثَّر في إزالتها لكنه يُعقِب سَقَماً أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه، فيكون المداوي به قد سعى في إزالة سُقْم البدن بسَقَم القلب، وأيضاً فإن تحريمه يقتضي تجنَّبه والبعد عنه بكل طريق وفي اتخاذه دواءً حضٌّ على الترغيب فيه وملابسته، وهذا ضد مقصود الشارع) وأضاف ابن القيم (إن في إباحة التداوي به ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها مزيلٌ لأسقامها جالب لشفائها، فهذا أحبُّ شيء إليها، والشارع سدَّ الذريعة إلى تناوله بكل ممكن، ولا ريب أن بين سدِّ الذريعة إلى تناوله وفتحِ الذريعة إلى تناوله تناقضاً وتعارضاً، وأيضاً فإن هذا الدواء المُحرَّم من الأدواء ما يزيد على ما يظن فيه من الشفاء) وأضاف (ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها وبين حسن ظنه بها وتلقِّي طبعه لها بالقبول، بل كلما كان العبد أعظم إيماناً كان أكره لها وأسوأ اعتقاداً فيها، وطبعه أكره شيء لها فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء له لا دواء) فهو قول مُشرقٌ بليغ. وبذلك لا نكون في حالة نحتاج معها إلى التأويل الذي يؤدي إلى تعطيل الأدلة الشرعية، أو صرفها عن الجهة التي جاءت لعلاجها. من كل ذلك نخلص إلى القول إن أصحاب الفريق الأول أصابوا وأخطأوا وإنَّ أصحاب الفريق الثاني أخطأوا ولم يُصيبوا، وإنَّ أصحاب الفريق الثالث أصابوا ولم يُخطئوا، اللهم إلا إذا لم يستثنوا الكلب والخنزير، وهو استثناءٌ لا أعلم إِن كانوا قالوه أو لا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وبعد أن فرغنا من إزالة الشُّبهات في موضوع الأبوال، نودُّ أن نبحث موضوع الميتة وما يتعلق بجلدها وعظمها وشعرها، وهل هذه الثلاثة تلحق بالميتة من حيث النجاسة، أم أن لها حكماً آخر؟ ثانياً: الميتة وأجزاؤها من حيث النجاسة: لقد اختلف الأئمة والفقهاء في موضوع الميتة وأجزائها من حيث النجاسة اختلافاً كبيراً، وذهبوا في ذلك مذاهب شتَّى، وقد ظهر ذلك في موضوعين رئيسيين منها: أ - عظمها وشعرها وما يلحق بهما من العاج والسِّنِّ والقرن والوبر والصوف. ب - جلدها. فذهب إلى نجاسة عظمها مالك والشافعي وإسحق وأحمد، وذهب إلى حكم الكراهة فيها عطاء وطاووس والحسن وعمر بن عبد العزيز، وذهب إلى طهارتها ابن سيرين وابن جُرَيْج والثوري وأبو حنيفة والزُّهري، ومن الصحابة ابن عباس. فالفقهاء والأئمة اختلفوا في العظم على ثلاثة آراء، واختلفوا في جلد الميتة هل يَطْهُر بالدباغ أم لا يَطْهُر وأيُّ الجلود تَطْهُر، على آراءٍ كثيرة نفصِّلها كما يلي: 1- ذهب عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيِّب وعطاء والحسن والشعبي وسالم والنخعي وقتادة والضحاك وسعيد بن جبير ويحيى بن سعيد ومالك والليث والثوري وأبو حنيفة وابن المبارك والشافعي وأحمد في آخر قوليه إلى أن جلود الميتات تَطهر بالدباغ ما عدا جلد الكلب وجلد الخنزير. 2- ورُوي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعِمران بن حصين وعائشة أم المؤمنين وأحمد في أُولى الروايتين عنه، ومالك في رواية عنه إلى أن الدباغ لا يُطَهِّر جلد الميتة إطلاقاً. 3- وذهب الأوزاعي وأبو ثور وإسحق بن راهُوَيه إلى تطهير جلد الميتة لمأكول اللحم فقط. 4- وذهب مالك إلى أن الدِّباغ يُطَهِّر ظاهر الجلد دون باطنه، بمعنى أنه لا يصلح لوضع المائعات والسوائل فيه. 5- وذهب داود وأبو يوسف ومالك في رواية عنه إلى أن الدِّباغ يُطَهِّر جميع الجلود حتى جلد الكلب والخنزير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 6- وانفرد الزُّهري بالرأي القائل بطهارة جلود الميتة دون دباغ. هذه هي الآراء في هذه المسألة، فلنناقشها للوقوف على الرأي الصحيح بتوفيق الله سبحانه. الذي ظهر لي هو أن عظم الميتة وشعَرها وسِنَّها وظِلْفها كله طاهر، وأن جلود الميتات جميعها تطهر بالدباغ لما يلي: 1- قوله تعالى {قُلْ لا أجِدُ في مَا أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّماً على طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أنْ يكون مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لحمَ خِنزيرٍ فإنَّه رِجْسٌ أو فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} الآية 145 من سورة الأنعام. 2- عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «يا ثوبان اشتر لفاطمة قلادة من عَصَبٍ وسِوارين من عاج» رواه أبو داود وأحمد. 3- عن ابن عباس قال «تُصُدِّق على مولاةٍ لميمونة بشاة فماتت، فمرَّ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حَرُمَ أكلُها» رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة. 4- عن ميمونة زوج النبي عليه الصلاة والسلام قالت «مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجال من قريش يجُرُّون شاة لهم مثل الحمار، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو أخذتم إهابَها قالوا: إنها ميتة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يُطهِّرها الماء والقَرَظُ» رواه أحمد والدارقطني وابن حِبَّان ومالك. وصححه الدارقطني والحاكم وابن السكن. قوله القَرَظ: هو مادَّةٌ يُدبغ بها. 5- عن ابن عباس «أن داجنةً لميمونة ماتت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا انتفعتم بإهابها، ألا دبغتموه فإنه ذكاتُه» رواه أحمد. وقال ابن حزم: إسناده في غاية الصحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 6- عن عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس رضي الله عنه قال «قلت له: إنا نغزو فنُؤتى بالإهاب والأَسْقية، قال: ما أدري ما أقول لك، إلا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أيُّما إهابٍ دُبغ فقد طَهُر» رواه أحمد ومسلم وابن ماجة وابن حِبَّان والبيهقي. 7- عن ابن عباس رضي الله عنه قال «أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ من سِقاء، فقيل له: إنه ميتة، قال: دباغه يذهب بخَبَثه أو نجَسه أو رِجْسه» رواه ابن خُزَيمة. ورواه البيهقي والحاكم وصححاه، وقد سبق. 8- عن عائشة رضي الله عنها قالت «سُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جلود الميتة، فقال: دباغها طُهورها» رواه أحمد والنَّسائي. 9- عن ابن عباس رضي الله عنه قال «ماتت شاة لسَوْدة بنت زِمْعة، فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة، يعني الشاة، فقال: فلولا أخذتم مَسْكَها، فقالت: نأخذ مَسْك شاة قد ماتت؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما قال الله عز وجل {قُلْ لا أَجِدُ فِيْما أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّماً علي طاعِمٍ يَطْعَمُه إلا أَنْ يكُونَ مَيْتةً أو دماً مَسْفُوحاً أَو لَحْمَ خِنْزِيرٍ} فإنكم لا تطعمونه أن تدبغوه فتنتفعوا به، فأرسلت إليها فسلخت مَسْكها فدبغته فأخذت منه قِربة حتى تخرَّقت عندها» رواه أحمد بإسناد صحيح. ورواه البخاري والنَّسائي. ووردت أحاديث أخرى في تطهير الجلود بالدباغ، إلا أننا اقتصرنا على هذا القدر للكفاية فلا نطيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 باستعراض الأدلة التسعة نجد أن الدليل التاسع هو تفسيرٌ فقهي للدَّليل الأول وهو الآية، وعلى هذين الدليلين مدار البحث إلا قليلاً. قول الرسول عليه الصلاة والسلام «فإنكم لا تطعمونه أن تدبغوه فتنتفعوا به» إذا أضيف إلى نصِّ الآية الكريمة {قُلْ لا أَجِدُ في ما أُوحيَ إليَّ مُحَرَّماً على طاعمٍ يَطْعَمُه} نخرج منه بفهمٍ لطيف، هو أن التحريم الواقع على الميتة إنما هو على أكلها وعلى المأكول منها «وأنتم لا تطعمونه» ، «على طاعمٍ يطعمه» فالتحريم هو على أكل الميتة، والمادة المحرَّمة في الأكل منها هي ما يُؤكل منها. هذا هو فقه الحديث التاسع مقروناً بالآية الكريمة، وإذن فإنَّ كل ما يصلح للأكل من الميتة حرام أكله ونجس أيضاً، وهو الذي يحتوي على أحكام الميتة لا غير، فيخرج من الموضوع ما لا يُؤكل منها كعظمها وظِلْفها وشعرها وسنِّها. وعلى ذلك فكل ما في الميتة مما لا يؤكل لا ينطبق عليه حكم الميتة من حيث التحريم والنجاسة، بل يظل على البراءة الأصلية من الطهارة، وهذا الفهم أيضاً هو لشيخ الإسلام ابن تيمية. وأيضاً فإن أدلةً عدة على جواز استعمال ما سوى المأكول من الميتة واعتبارها طاهرة تدعم وتقوي هذا الفهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أ - حديث ثوبان بند 2 السابق نصٌّ في جواز استعمال العاج، والعاج هو عظم الفيل، وحكم العاج حكم العظم في الحلِّ والحرمة وهو دليل على طهارته لأنه لو كان نجساً ما جاز استعماله، فإذا عُلم أن تجارة العاج لم تكن زمن الرسول عليه الصلاة والسلام فيما بين المسلمين وحدهم - لأن الهند وإفريقية لم تكونا دخلتا بعدُ في دولة الإسلام - بل كان المسلمون يشترون العاج من الكفار الهندوس في الهند والوثنيين في إفريقية، وهؤلاء لم يكونوا يذبحون أو يُذكُّون الفيلة ذكاةً يقرها الإسلام، هذا إن كانوا أصلاً يذبحون، وإنما كانت أنياب الفيلة تقطع منها وهي ميتة، وتظل مع ذلك طاهرة مستعملة زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا دليل واضح على استثناء العظم من الميتة يؤيد الفهم السابق. ورُبَّ قائلٍ يقول: إن العاج يُقطع من الفيلة وهي حية، وبالتالي تظل طاهرة لأنها لم تقطع من ميتة، فنجيبه بإجابتين: إحداهما: أنه لم يكن المسلمون يفرِّقون أو يسألون إن كان العاج الوارد إليهم هو من فيلة حية أو ميتة، ولو سألوا لما حصلوا على جواب أكيد، مما يدل على عدم الفارق عندهم. والثانية: أن أبا واقد الليثي قال «قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وبها ناسٌ يعمدون إلى أليات الغنم وأسْنِمة الإبل فَيَجُبُّونها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما قُطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة» رواه أحمد. ورواه الترمذي وقال (هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زيد بن أسلم، والعمل على هذا عند أهل العلم) فهذا الحديث يدل بما لا يدع مجالاً للشك على أن أي عضو يُقطع من الفيلة وهي حية هو ميِّت وهو نجس، والنجس حرام استعماله، فلما جاز استعمال العاج دلَّ ذلك على أنه شيء آخر لا ينطبق عليه الحديث، وما ذلك إلا لأنه ليس ميتة، ولا ينطبق عليه حكم الميتة. وبذلك يسقط القول بأنه طاهر لأنه قُطع من حيوان حيٍّ طاهر، وإنما هو طاهر لأنه ليس ميتة فحسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 هذا في العاج، ويلحق به السنُّ والظِّلف والعظم. قال الزُّهري في عظام الموتى من الحيوان كالفيل (أدركتُ ناساً من سَلَف العلماء يمتشطون بها ويدَّهِنون فيها لا يرون به بأساً) ذكره البخاري. والمعلوم أن الزُّهري تابعي، وإذن فإنَّ سَلَفَ العلماء الذي أدركهم هم من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ب - إجماع الصحابة واتِّفاق العلماء سلفاً وخلفاً على طهارة الشعر والصوف والوبر. والمعلوم إنها تُجَزُّ من الأنعام وهي حية كما تُجَزُّ منها بعد ذبحها، وتعامل كلها معاملة واحدة من حيث الطهارة وجواز الاستعمال دون أي فارق. وحيث أن ما يُؤخذ من الحي ميت ونجس كما بيَّنا، وحيث أن بعض هذه الأصناف الثلاثة تؤخذ من الأنعام وهي حية ومع ذلك تعتبر طاهرة، فإن ذلك يدل على أن حكم الميتة لا ينطبق عليها، وأن الميتة هي ما يُؤكل فقط، والشَّعَر والصوف لا يُؤكلان، وينطبق عليهما ما ينطبق على العاج الذي يقطع من الفيلة ويكون طاهراً، وصدق الله العظيم إذ يقول {ومِنْ أََصْوافِها وأَوْبارِها وأَشْعَارِها أَثاثاً ومَتَاعَاً إِلى حِين} الآية 80 من سورة النحل، ولم تفرِّق الآية بين صنف وصنف من حيث الجزُّ والقطعُ. ج - قول الحديث 3 «فقالوا إنها ميتة، فقال: إنما حَرُم أكلُها» هذا نص صريح لا يحتمل التأويل بأن التحريم إنما ينطبق على الأكل، وحيث أن الأكل لا يقع من الميتة إلا على المأكول فقد دل ذلك على صواب فهمنا. بقي جلد الميتة: قُلت من قبل (وعلى هذين الدليلين مدار البحث إلا قليلاً) فالقليل هو هذا البحث الخاص بجلد الميتة. إن الجلد يؤكل، ولذلك يشمله تحريم الأكل والنجاسة، لأنه يدخل في مدلول الميتة، وهذا الدخول آتٍ من ناحيتين: أ - تحقيق المناط. ب - النصوص الصريحة في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 أما تحقيق المناط، فحيث أن الجلد يُؤكل أو يمكن أن يُؤكل، فإنه يدخل تحت قوله تعالى {عَلَى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ} وتحت قول الرسول عليه الصلاة والسلام «إنما حَرُم أكلُها» فجلد الطير كالدجاج والحمام والبط يُؤكل، وجلد الأرنب يُؤكل، وهذا ظاهر، أما جلود المواشي فيمكن أن تُؤكل، فقد روى البخاري ومسلم والترمذي وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال « ... إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا قريشاً إلى الإسلام، فأبطأوا عليه فقال: اللهم أعِنِّي عليهن بسبعٍ كسبعِ يوسُف، فأخذتهم سَنةٌ، فحَصَّت كلَّ شيء حتى أكلوا الميتة والجلود، حتى جعل الرجل يرى بينه وبين السماء دخاناً من الجوع ... » وإذن فما دام الجلد يُؤكل أو يمكن أن يُؤكل فهو داخل في حكم الميتة تحريماً ونجاسة. أما من حيث النصوص الصريحة، فإنَّ قراءةً متأنِّية للحديث الخامس «ألا دبغتموه فإنه ذكاته» وللحديث الرابع «يُطهِّرها الماءُ والقَرَظ» وللحديث السابع «دباغه يذهب بخَبَثِه أو نَجَسِه أو رِجْسِه» وللحديث السادس «أيُّما إهابٍ دُبغ فقد طهُر» وللحديث الثامن «دِباغُها طُهُورها» تكشف المعنى المراد، فكون الرسول عليه الصلاة والسلام يقول عن الجلد إن الدِّباغ هو ذكاة له، وإنه يُطهَّر بالماء والقَرَظ - والقَرَظُ مادةٌ تُستعمل في الدِّباغة - وإن الدباغ يُزيل نجسه، وإن طُهور الجلد دِباغُه، فإن ذلك يدل بشكل جازم على أن جلد الميتة نجس، وإلا لما طَلب تَطْهِيرَه بالدِّباغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وأصرح نصٍّ في ذلك الحديث (7) فكون الرسول عليه الصلاة والسلام يقول إن جلد الميتة نجس فإن ذلك يدل على إلحاقه بالميتة في النجاسة، وأنه بالتالي يأخذ حكمها، وأنه بالتالي أيضاً ليس مستثنىً من الميتة كالشعر والعظم بل هو من الميتة يأخذ حكمها في التحريم والنجاسة. وأيضاً فإن العظم والشعر والصوف يستعمل دون تطهير، إذ لم يُرو عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه أمر بتطهيره قبل استعماله، ولم يقع إجماع الصحابة على ذلك، في حين أن الرسول عليه وآله الصلاة والسلام طلب في أحاديث عديدة صحيحة متضافرة تطهيرَ الجلد بالدباغ قبل الانتفاع به، فهذا فارق واضح بين الجلد وبين العظم والشعر، وبذلك يتبين وجه الاختلاف بين العظم والجلد. ومن ناحية ثانية فإن الجلد مستثنىً من عموم منع الاستعمال والانتفاع بالميتة وبالنجس، فهو حكمٌ استثنائي، وكان حقه أن يكون ممنوعاً من الاستعمال لنجاسته، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استثناه من الميتة استثناءً خاصاً، فبيَّن أن هذا الجزء النجس من الميتة يجوز الانتفاع به دون سائر أجزاء الميتة بشرطٍ واحد هو تطهيره بالدباغ، ولم يُجِزْ ذلك في غيره من أجزاء الميتة، فهو حكم خاصٌّ لا يقاس عليه. وقد يَرِدُ سؤال: إن القول باستثناء الجلد من الميتة غير مسلَّم به، وإن للموضوع وجهاً آخر هو أنه يجوز استعمال الجلد من الميتة، لأنه يُنتفع به في غير الأكل، ولو كان استعماله في الأكل لأخذ حكم الميتة سواء بسواء؟ وربما كان السؤال: إنَّ علة جواز استعمال الجلد إنما هي لكونه لا يُؤكل، وبالتالي فإنه يقاس عليه كل عضو من الميتة يُنتفع به في غير الأكل؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فنرد بالقول: إن هذا السؤال وجيه وصحيح لو لم يكن لدينا نصٌّ يمنع منه، وهذا النص هو: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكة «إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة، فإنه يُطلى بها السفن ويُدهنُ بها الجلود ويَستصبحُ بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرَّم شحومها جَمَلوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه» رواه البخاري وأحمد وأصحاب السُّنن. قوله جَمَلوه: أي أذابوه. فهذا الحديث ذكر جزءاً من أجزاء الميتة داخلاً في حكمها من حيث التحريم والنجاسة هو الشحوم لأنها مما يُؤكل، هذا الجزء سُئل عنه الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن السؤال عن الأكل وإنما عن انتفاعٍ آخر هو استعماله في طلاء السفن ودهن الجلود والإضاءة في البيوت، فجاء الرد الحاسم «لا هو حرام» أي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أبقاه على أصله من التحريم، وبالتالي أبقاه على أصله من النجاسة، فالميتة نجسة وحرامٌ الانتفاع بها على أي وجه وعلى أية حالة. قال الجصَّاص: والتحريم يتناول سائر وجوه المنافع فلا يجوز الانتفاع بالميتة على وجه، ولا يُطعمها الكلاب والجوارح، لأن ذلك ضرب من الانتفاع بها، وقد حرَّم الله الميتة تحريماً مُعلَّقاً بعينها، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها إلا أن يُخصَّ بدليل يجب التسليم له. وبذلك يظهر بوضوح أن الميتة النجسة والمُحرَّم أكلها والانتفاع بها على أي وجه من وجوه الانتفاع - وهي ما سوى العظم والشعر - يُستنثى منها الجلد فحسب إذا دُبغ. وننتقل الآن إلى استعراض الأدلة التي استشهد بها من قالوا خلاف ما قلنا، ومناقشتها وبيان خطأ استدلالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أ - عن عبد الله بن عُكَيم قال «كَتَب إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته بشهرٍ أن لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عَصَبٍ» رواه أحمد وأبو داود. وعند أحمد وأبي داود والنَّسائي وابن ماجة روايةٌ أخرى ليس فيها تقييدٌ بزمن. وعند أحمد رواية ثالثة بلفظ «قبل وفاته بشهْرٍ أو شهرين» . ورواه الترمذي بلفظ «قبل وفاته بشهرين» . ب - عن عبد الله بن عُكَيم قال «كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في أرض جُهَينة: إني كنت رخَّصت لكم في جلود الميتة، فلا تنتفعوا من الميتة بجلد ولا عَصَب» رواه الطبراني. وفيه فضالة بن مفضل قال عنه أبو حاتم: لم يكن أهلاً أن يُروى عنه. وقال العُقَيلي: في حديثه نظر. ج - عن عبد الله بن عُكَيم قال: حدثني أشياخُ جُهينة قالوا «أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قُرِئ علينا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن لا تنتفعوا من الميتة بشيء» رواه الطَّحاوي. د - الحديث الذي مرَّ سابقاً تحت رقم (5) الذي رواه أحمد «أنَّ داجنةً لميمونة ماتت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا انتفعتم بإهابها ألا دبغتموه فإنه ذَكاتُه» . هـ - قوله تعالى {وضَرَبَ لنا مثَلاً ونَسِيَ خَلْقَهُ قال مَنْ يُحْيِي العِظامَ وهِيَ رَمِيمٌ. قُل يُحْيِيها الذِي أََنْشأََها أَوَّلَ مَرَّةٍ وهُو بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} الآيتان 78 و79 من سورة يس. و قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُم المَيْتَةُ ... } الآية 3 من سورة المائدة. ز- الحديث الذي مرَّ سابقاً والذي رواه أحمد والترمذي «ما قُطع من البهيمة وهي حيَّة فهي ميتة» . هذا ما تمسَّكوا به من أدلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 أما الأحاديث الثلاثة الأولى (أ، ب،ج) فهي حديثٌ واحد رُوي بألفاظ متعددة، وكلُّها من طريق عبد الله بن عُكَيم، وهذا الحديث هو مستنَد مَن لم يُجيزوا دباغة جلود الميتة، ولم يجيزوا تطهيرها من النجاسة. وبالنظر في هذا الحديث نجد أنه ضعيف سنداً ومضطرب متناً. أما من حيث السند، فقد رُوي مرة بلفظ «قُرِيء علينا كتاب رسول الله» رواه أبو داود. ومرة بلفظ «أتانا كتاب النبي» رواه ابن ماجة. ومرة بلفظ «حدَّثني أشياخ جُهَينة» رواه الطحاوي. وهذه الألفاظ كلها تدل على أن عبد الله قد نقل الحديث عن مجهولين، إضافة إلى أن الحديث (ب) في إسناده راو ضعيف. وأما من حيث المتن فقد رُوي مرة مقيَّداً بزمن ومرة أخرى غير مقيَّد، وحتى المقيَّد بزمن رُوي مقيَّداً بشهر، ومقيَّداً بشهرين، وجاء في روايات أخرى مقيَّداً بأربعين يوماً ومقيَّداً بثلاثة أيام، وحيث أن الراوي لهذه الأحاديث كلها هو راو واحد هو عبد الله بن عُكَيم وحصل هذا التفاوت في المتن فإن ذلك كافٍ لوصفه بالاضطراب في المتن. فالحديث ضعيف سنداً مضطرب متناً، فلا يقوى على معارضة أحاديث الدباغ الكثيرة الصحيحة فيردُّ. قال الترمذي (سمعت أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لِما ذُكِر فيه: قبل وفاته بشهرين، وكان يقول: هذا آخِر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ترك أحمد هذا الحديث لمَّا اضطربوا في إسناده، حيث روى بعضهم وقال: عن عبد الله بن عُكَيم عن أشياخٍ من جهينة) . وقال الخلال: لما رأى أبو عبد الله - أي أحمد - تزلزلَ الروايةِ فيه توقف. وقال ابن تيمية: أكثر أهل العلم على أن الدباغ يُطهِّر في الجملة، لصحَّة النصوص به، وخبر ابن عُكَيم لا يقاربها في الصحة والقوة لينسخها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 أما الحديث (د) الذي فيه «ألا دبغتموه فإنه ذكاته» فقد استدل به مَن قالوا إن الدباغ يُطهِّر جلود ميتات ما يُؤكل لحمها دون ما لا يُؤكل، فهؤلاء نظروا في قوله - صلى الله عليه وسلم - «فإنه ذكاته» فقالوا إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شبَّه الدَّبغ بالذكاة، والذكاة تعمل في مأكول اللحم، ولأنه أحد المُطهِّرَين للجلد فلم يُؤثِّر في غير مأكولٍ كالذبح. وقد نُقل عن أحمد بن حنبل أنه قال: إن كل طاهر في الحياة يُطَهَّر بالدبغ لعموم لفظه في ذلك، ولأن قوله عليه الصلاة والسلام «أيُّما إهابٍ دُبغ فقد طَهُر» يتناول المأكول وغيره خرج منه ما كان نجساً في الحياة، لكون الذبح إنما يؤثِّر في دفع نجاسةٍ حادثةٍ بالموت، فيبقى ما عداه على قضية العموم. فأقول: أما القول الأول وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام شبَّه الدبغ بالذكاة، والذكاة تعمل في مأكول اللحم، فهو قول صحيح إن كان الجلد الذي يُدبغ إنما يُدبغ من أجل أكله، وهذا ما لا يقولون به، فهم أرادوا أن يكون التشبيه كاملاً، وهذا يقتضي أن الذكاة تطهير، وأن التطهير يكون في المأكول، وأن الدِّباغ يُحوِّل غير المأكول لنجاسته إلى مأكولٍ لطهارته، وهذا اقتضاء فاسد، إذ لو كان القول في الدِّباغ لعضوٍ نجس في الميتة يُراد تحليله للأكل لصحَّ قولهم، فلما لم يَعْنُوا ذلك ولم يقولوا به، وأن الجلد لا يُدبغ لأجل الأكل، دلَّ ذلك على أن تشبيه ذكاة الجلد بذكاة الحيوان مأكول اللحم تشبيهاً كاملاً هو خطأ، وأن الصواب هو أن الذكاة للجلد لا تزيد عن كونها تعني التطهير فحسب، أي هي كلمة لغوية وليست هنا شرعية، وأن الدباغ لا يزيد عن كونه يُطهِّر الجلد، أي يُزيل نجاسته فحسب، أي يطيِّبه ليصبح صالحاً للاستعمال بعد أن كان نجساً لا يصح الانتفاع به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 هذا هو معنى الحديث ولا يصح أن تُفَسَّر التذكية بأنها ما تزيل عن النَّجِس نجاسته ليصلح للأكل. فلما أخطأوا في تفسير كلمة الذكاة هنا، فقد أخطأوا في الحكم، فتاهوا في موضوع مأكول اللحم وغير المأكول. أما ما رُوي عن الإمام أحمد من قول فهو وجه آخر من وجوه التأويل البعيد، إذ أننا لم نسمع أن هناك نجاسة حادثة ونجاسة قديمة يختلف حكماهما، وإنما النجاسة نجاسة، قديمةً كانت أو حادثةً لا فرق بينهما، ولم يرد هذا التفريق في نصٍّ من القرآن أو الحديث، وما دعاهم إلى هذا القول إلا ليستطيعوا تفسير كلمة التطهير أو الذكاة تفسيراً ينسجم مع سابق رأيهم، وهو أن مأكول اللحم طاهر، وغير المأكول نجس، وهذا غير صحيح. وليته رحمه الله توقف عند أول عبارته وعند آخرها، واستغنى عن الكلام المتوسط بينهما إذن لصح قوله، فقوله «أيُّما إِهاب» عام، ولا يوجد نصٌّ يخصِّص، وهذا ما قاله في أول عبارته وآخرها، والتخصيص الذي أتى به لم يسنده بدليل. وقد فطن ابن قدامة لهذا المعنى، إلا أنه تلطُّفاً مع قول إمامه أحمد بن حنبل صاغه بصيغة الاحتمال، فقال (وحديثهم يحتمل أنه أراد بالذكاة التطييب من قولهم رائحة ذكية أي طيبة، وهذا يطيب الجميع، ويدل على هذا أنه أضاف الذكاة إلى الجلد خاصة، والذي يختص به الجلد هو تطييبه وطهارته، أما الذكاة التي هي الذبح فلا تضاف إلا إلى الحيوان كله، ويحتمل أنه أراد بالذكاة الطهارة فسمى الطهارة ذكاة، فيكون اللفظ عاماً في كل جلد فيتناول ما اختلفنا فيه) . محصِّلة القول هي أن الرسول عليه الصلاة والسلام عنى بالذكاة الذكاة اللغوية، أي مجرَّد التطهير والتطييب دون الذكاة الشرعية للحيوانات، فيكون التشبيه ناقصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 أما البند (هـ) وهو قوله تعالى {قُلْ يُحْيِيها الذي أَنشأَها} فقد استدلوا به على أن العظام تدخلها الحياة وتحل فيها، وأن العظم يحيا ويموت بحياة الحيوان وموته، وبالتالي فإنَّ عظم الحيوان الميت ميت، فيدخل في الميتة ويأخذ حكمها من حيث النجاسة والتحريم. هكذا حمَّلوا الآية، وهكذا استدلوا بها على مذهبهم. والذي دفعهم إلى هذا الغوص هو ما انتهى إليه اجتهاد الإمامين الثوري وأبي حنيفة من القول بطهارة عظام الميتة، لأن الموت لا يحل فيها فلا تنجس به كالشعر، ولأن علة التنجيس في اللحم والجلد اتصال الدماء والرطوبات به، ولا يوجد ذلك في العظام، فردُّوا عليهما بالقول إن هذا القول منهما خطأ، والدليل على ذلك قوله تعالى {قال مَنْ يُحْيِي العِظامَ وهِي رَمِيمٌ ... } وقالوا إن ما يحيا فهو يموت، ولأن دليل الحياة الإحساس والألم، والألم في العظم أشد من الألم في اللحم والجلد، والضِّرس يألم ويُحس ببرد الماء وحرارته، وما تحلُّ فيه الحياة يحل فيه الموت إذ الموت مفارقة الحياة، وما يَحل فيه الموت ينجس به كاللحم ... إلخ. وهكذا لما جاء أبو حنيفة رحمه الله بهذا التعليل أخطأ الآخرون في الرد عليه، وخرج الاثنان عن فقه حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي بيَّن العلَّة في ذلك، وهي ما يؤكل من الحيوان دون ما لا يؤكل، دون نظرٍ في الحياة والممات والإحساس والألم والحلول وغيره. أما الآية الكريمة في البند (و) {حُرِّمَتْ عليكُم المَيتةُ} والحديث الأخير في البند (ز) «ما قُطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة» فهذه نصوص عامة تُستنبط منها أحكام عامة صحيحة لا يختلف عليها أحد، ولكن الأدلة والشواهد التي اعتمدنا عليها هي أدلة تخصِّص هذا العموم، والخاص يُعمل به ويبقى العام فيما سواه. أما الاستشهاد على العموم بأدلة تفيد العموم فإنه لا يفيدهم في الرد على أدلة الخصوص وأحكام التخصيص، ولا نطيل أكثر من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 بقيت مسألتان لا بد من ذكرهما هما: أ - البيضة تُؤخذ من دجاجة ميتة هل هي طاهرة أم نجسة؟ ب - لبن الميتة وأَنْفِحَّتُها، هل هما طاهران أم نجسان؟ فأقول: إن البيضة إن كانت مكتملة النمو بحيث يطلق عليها اسم البيضة إذا وجدت في بطن دجاجة أو حمامة ميتة، فهي طاهرة غير نجسة، وحال البيضة في هذه الحالة كحال شاة أو بقرة أو ناقة ماتت وفي بطنها جنينُها فشُقَّ بطنُها وأخرج جنينها حياً، فهو طاهر يجري عليه ما يجري على أي وليد، والبيضة كهذا الوليد تعتبر طاهرة يحلُّ أكلها وبيعها وترقيدها. أما لبن الميتة وأنِفحَّتُها فهما نجسان، قولاً واحداً، لأنهما مادَّتان من مواد الميتة أخذا حكمها في الطهارة والنجاسة، وذلك أن الميتة نجسة فضرعها ينجس بالموت، فيكون ما حوى من اللبن نجساً لذلك بالاحتواء والمخالطة، وكذلك الأنْفِحَّة - وهي ما نسميها (المسَاة) ، وهي تُستعمل في تخثير الحليب لصنع الجبن - هي نجسة للسبب نفسه. وقد ذهب إلى طهارة البيضة من الميتة أبو حنيفة وبعض الشافعيين كابن المنذر، وابن قُدامة من الحنابلة، وكرهها مالك والليث وبعض الشافعيين. وذهب إلى نجاسة لبن الميتة وأنفِحَّتِها أحمد ومالك والشافعي. وقال أبو حنيفة وداود إنهما طاهران. ثالثاً: نجاسة الدم: وأخيراً نقف وقفة قصيرة مع نجاسة الدم. لقد استدلَّ بعض الفقهاء على طهارة الدم بالآثار التالية: أ - عن عائشة رضي الله عنها قالت «كنا نأكل اللحم والدم خطوط على القِدْر» . ب - قال الحسن «ما زال المسلمون يُصَلُّون في جراحاتهم» ذكره البخاري. ج - عن المِسْور بن مَخْرَمة قال « ... فصلى عمر وجرحه يثعب دماً» ذكره مالك والدارقطني. د - كان أبو هريرة لا يرى بأساً بالقطرة والقطرتين في الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ولم يأتوا بأي نصٍّ من القرآن أو الحديث. فنقول: إن جميع هذه الآثار وما يشبهها هي أقوال وأفعال من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا تعارضت مع الأحاديث النبوية لم تصمد أمامها، فقد صحَّ عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه أمر بغَسل الدم للصلاة، وأن الأحاديث التي سُقناها فيما سبق تدل على نجاسة الدم، فيُعمل بالأحاديث، ويُترك ما رُوي عن الصحابة من آثار مخالِفة. وأيضاً فإننا لا نُسلِّم بأن هذه الآثار تدل على طهارة الدم، فرأْيُ أبي هريرة من أنه لا يرى بأساً بالقطرة والقطرتين في الصلاة، يفيد نجاسة الدم وليس طهارته، إذ لو كان الدم عنده طاهراً لما قيَّده بالنقطة والنقطتين، فالطاهر لو سال على الثياب وجرى بغزارة لا يؤثِّر في الصلاة، فلا يقال لا بأس بالقطرتين من الماء أو الزيت على الثوب أو البدن في الصلاة. أما قول عائشة في دم القِدْر، فهو أيضاً ليس دليلاً على طهارة الدم، لأن الشرع عفا عما لا يمكن التحرُّز منه، واللحم لا يمكن التَّحرُّز من الدم القليل الذي يخالطه، وإلا للزم تحريم أكل اللحم، فهذا القول من عائشة والرأي من أبي هريرة يُحملان على الدم اليسير غير المسفوح، لأن المحرَّم النجس هو الدم الكثير المسفوح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 أما ما صحَّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أنه صلى والدم يثعب من جُرحه، فهذا الأثر ليس مكانه هنا، وإنما مكانه في موضعين: حالة الاضطرار، وحالة السيلان غير المنقطع كالمستحاضة ومَن به سَلَسُ البول. لأن عمر حين طُعن واندلقت أمعاؤه أيقن أنه ميت وأنه في حالة النزع، وأن دمه سيظل ينزف حتى يموت، ولن يمهله الطب أو العلاج شيئاً، ولا يستطيع أن يغسل جراحه، لأن غسلها ربما يُعجِّل في القضاء عليه فصلَّى على حاله، وهذا أمر مقبول في مثل حاله، فلا يُستدل به على طهارة الدم. وكذلك فإنه ما دام الدم يسيل بشكلٍ متواصل ولا يمكن وقفه، فإنه يأخذ حكم من به سَلَس البول أو حكم المستحاضة، فيصلي ولو قطر البول ولو سال الدم، ولا يدل ذلك في الحالتين على طهارة البول أو على طهارة الدم، فلا يصلح ما حصل من عمر دليلاً على طهارة الدم. فلم يبق إذن سوى ما رواه البخاري من قول الحسن «ما زال المسلمون يصلُّون في جراحاتهم» . والحسن هذا هو الحسن البصري وهو تابعي، وهذا القول منه على فرض أنه يشمل الصحابة رضوان الله عليهم فإنه ليس قولاً وليس نصاً في طهارة الدم، بل ليس فيه ذِكرٌ للدم، وإنما فيه أنهم كانوا يصلُّون وهم جرحى، والجريح قد يكون دمه يسيل، وقد يكون جرحه مربوطاً باللفائف، وقد يكون جرحه قد أوشك على الاندمال، وكل هؤلاء جرحى، ثم قد يكون الجرح يسيل دماً كثيراً، وقد يكون الجرح يرشح قليلاً، فكيف يُراد من هذا القول أن يُستنبط منه حكمٌ في طهارة الدم؟. رابعاً: ما يُظنُّ أنه نجس: أما الأشياء التي يُظَنُّ أنها نجسة، وهي النبيذ ولحوم الحُمُر الأهلية والصديد والمني والقيء فنفرد لها هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أ - النبيذ : هو منقوع التمر، وذلك أنهم ينبذون حباتٍ من التمر في إناء فيه ماء في المساء ويتركونه حتى الصباح، ثم يدعكونه ويفرُكونه في الماء، ثم يُصفُّونه، يصنعون منه شراباً حلواً فهذا هو النبيذ. فهو ماء وتمر لا غير، وإذا استمر المزيج فوق يومين أو ثلاثة أيام خاصةً في الجو الحار صار يَنِشُّ، أي صار له نشيشٌ وتخمَّرَ، وخرجت منه رائحة نفاذة، فإذا حصل ذلك صار خمراً وبطل كونه نبيذاً، وآنذاك يُراق ولا يستعمل لنجاسته وحرمته. وبهذا الوصف والشرح يتضح أن النبيذ طاهر وليس نجساً، والرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة كانوا يصنعونه ويشربونه، فعن أنس قال «لقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدحي هذا الشراب كلَّه: العسل والنبيذ والماء واللبن» رواه مسلم. وهذا معلوم لدى جميع الأئمة والفقهاء، حتى إن أبا حنيفة والحسن والأوزاعي وعكرمة وإسحق يُجيزون الوضوء به لشهرة طهارته وحِلِّه، وبذلك لا يكون هناك أدنى شك في طهارة النبيذ. أما إن هو تخمَّر بطول المُكْث حتى صار خمراً فقد خرج عن كونه نبيذاً وصار آنذاك خمراً نجسة. أي أنه لا يكون نجساً ما دام نبيذاً، فلعلَّ مَن اعتبروه نجساً إنما عنَوْا به النبيذ بعد التَّخمُّر، أو لعلهم عَنَوْا به صنفاً من الخمر الموجودة الآن تحت اسم النبيذ، فهذا وذاك نجسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ب - لحوم الحُمُر الأهلية: لقد صنَّفها ناسٌ في باب النجاسات مستقلَّة بنفسها واستنبطوا حكم نجاستها من حديث أَمْرِ الرسول عليه الصلاة والسلام المسلمين في غزوة خيبر بإراقة ما طبخوه من لحوم الحُمُر الأهلية، أي من قوله في الحديث «فإنها رِجس» وقد سبق هذا الحديث في بحث [سُؤر الحيوان] فنقول ما يلي: أما أن هذه اللحوم نجسة فهذا لا يخالف فيه فقيه، ولكن ذلك لا يعني إفرادها في باب النجاسات، بل الصواب وضعها أو إدراجها في باب نجاسة الميتة، فكل حيوان لا يُؤكل شرعاً لا يُذبح، ولو ذُبح لما جاز أكله، ولما ذكَّاه الذبح، وفي هذه الحالة يصبح ميتة يجري عليه ما يجري على أية ميتة، فالحمار الميت نجس، والثور الميت نجس، والأسد الميت نجس، وهكذا، وهذه كلها تدخل تحت مدلول كلمة ميتة، ولا حاجة لوضعها في بند منفصل. ج - الصَّديد: هو سائل يفرزه الجلد المحروق أو المجروح. هذا السائل طاهر، وليس بنجس لأنه لم تثبت نجاسته في القرآن ولا في الحديث ولا بإجماع الصحابة، ولذلك يظل حكمه على أصله من الطهارة، ولم يضعه فقيه في باب النجاسات إلا بالقياس على الدم، ولا قياس هنا لأنه ليس دماً ولا يشبه الدم في أوصافه وخصائصه، وليست بينهما علة مشتركة فيظل طاهراً. د - المني: لقد وردت فيه الأحاديث التالية: 1- عن عائشة رضي الله عنها قالت «كنت أفرُكُ المنيَّ من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يذهب فيصلي فيه» رواه أحمد وأبو داود. وفي رواية ثانية لأحمد «أَحُتُّ المنيَّ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 2- عن عبد الله بن شهاب الخَوْلاني قال «كنت نازلاً على عائشة فاحتلمت في ثوبيَّ فغمستهما في الماء، فرأتني جاريةٌ لعائشة فأخبرَتها، فبعثت إليَّ عائشة فقالت: ما حملك على ما صنعتَ بثوبيك؟ قال قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه قالت: هل رأيتَ فيهما شيئاً؟ قلت: لا قالت: فلو رأيتَ شيئاً غسلتَه، لقد رأيتُني وإني لأحكُّه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يابساً بظُفري» رواه مسلم. ورواه الترمذي وأحمد بلفظ «ربما فركْتُه» . 3- عن عائشة رضي الله عنها قالت «كنت أغسله من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيخرج إلى الصلاة وأَثر الغسل في ثوبه بُقَعُ الماء» رواه البخاري. 4- عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلِتُ المنيَّ من ثوبه بعرق الإذْخِر، ثم يصلي فيه، ويحتُّه من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه» رواه أحمد والبيهقي. 5 - عن ابن عباس رضي الله عنه قال «سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المنيِّ يصيب الثوب، قال: إنما هو بمنزلة المُخاط والبُزاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقةٍ أو بإذْخِرة» رواه الدارقطني والبيهقي والطحاوي. وأخرجه أيضاً البيهقي موقوفاً على ابن عباس وقال (الموقوف هو الصحيح) . 6 - عن عائشة رضي الله عنها «أنها كانت تحُتُّ المنيَّ من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي» رواه ابن خُزَيمة. وروى ابن حِبَّان عن عائشة رضي الله عنها بلفظ «لقد رأيتُني أفرك المنيَّ من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فيه» ورجاله رجال الصحيح. وقد وردت أحاديث أخرى لا تخرج في محتواها عن هذه الأحاديث، فاقتصرنا على هذا القدر منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وقد فهمت طائفة من الفقهاء من هذه الأحاديث أن المنيَّ نجس، وهؤلاء هم: أبو حنيفة ومالك والليث والأوزاعي والثوري. وذهب إلى طهارته الشافعي وأحمد وداود وأبو ثور وسعيد بن المسيِّب، ومن الصحابة علي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وعائشة وابن عباس فيما رُوي عنهم. والحق أن هذه المسألة شائكة ودقيقة، ذلك أن مجمل الأحاديث ورد فيها الغَسل والحتُّ والفَرك والسَّلت والمسح، ولكن المتفحِّص والمدقِّق يكتشف أشياء تُنير سبيل البحث، فالحديث الأول بروايتيه فيه أن عائشة كانت تفرُك المنيَّ وتحتُّه، دون بيان إن كان المنيُّ رطباً أو يابساً، والحديث الثاني بروايتيه فيه أن عائشة كانت تحُكُّ المنيَّ وهو يابس، وأنها كانت تفْرُكه وهو يابس وأنها قد خطَّأت عملية الغَسل، ولكنها في الحديث الثالث قامت بعملية الغَسل، دون أن تبين إن كان المنيُّ رطباً أو يابساً. أما الحديث الرابع ففيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قام بنفسه بعملية السَّلت وبعملية الحتِّ للمنيِّ اليابس. وأما في الحديث السادس، فقد ورد فيه الحتُّ في رواية ابن خُزَيمة، والفرك في رواية ابن حِبَّان، دون بيان إن كان المنيُّ رطباً أو يابساً. إذن قد ورد الغَسل والفرك والحكُّ والحتُّ والسَّلت حيناً مقيدةً بالمنيِّ اليابس وحيناً آخر مطلقةً غير مقيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 أما الغسل فلا خلاف في أنه يُزيل المنيَّ الرطب واليابس، وأما السَّلْت فقد يزيل وقد لا يزيل، ولْنقل بغلبة الظَّنِّ إنه يُزيل المنيَّ الرطب واليابس. إذن الغَسل والسَّلت إنما قُصد منهما إزالة المنيِّ، وهذا يدل في ذاته وحده على نجاسة المنيِّ، وهذا هو دليل من قالوا بنجاسة المنيِّ، وهو دليل وجيه لو كان وحده أي لو اقتصرت النصوص عليهما فحسب، ولكن ورد الفرك والحكُّ والحتُّ للمنيِّ اليابس، والمعروف أن المنيَّ اليابس يُمسِك بالثوب ويُصَلِّبه ويُقسِّيه فضلاً عن كونه يعطي المكان اصفراراً خفيفاً، وحيث أن الفرك - وهو أقوى في الإزالة من الحك والحتِّ - لا يزيل المنيَّ ولا يقلعه، وإنما يخفِّفه فحسب، فذلك يدل على أن الأمر بهذه الأفعال الثلاثة إنما قُصد منه التخفيف، وهذا ما استدلَّ به من قالوا بطهارة المنيِّ، فقد قالوا: إن الفرك لا يزيل المنيَّ، وذلك يدل على أن الإزالة غير مطلوبة، وبالتالي فالمنيُّ طاهر، وحملوا الأمر بالفرك على الاستحباب والنظافة. ولكن المُنْصِفَ لا تكفيه هذه الحجة للقول بطهارة المنيِّ، إذ تقابلها حجة أقوى هي ما ورد في الأحاديث من فعل الغَسل، والغَسل يزيل المنيَّ تماماً، وهذا دليل من قالوا بنجاسة المنيِّ وحملوا الفرك على عدم التشديد كعدم التشديد في غَسل الثوب من المذي مع أن المذي نجس. ولكن الموضوع لم ينته عند هذا المدى، فالحديث السادس يقول «أنها كانت تحتُّ المنيَّ من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي» ورواية ابن حِبَّان «لقد رأيتُني أفرك المنيَّ من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فيه» والحديث صحيح وهو يحسم الخلاف، لأنه يدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد صلى وفي ثوبه منيٌّ، فلو كان المنيُّ نجساً لما ابتدأ الصلاة به، وهذا دليل قوي على طهارة المني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ولا يقال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم بوجود المنيِّ في ثوبه. لا يقال ذلك، لأن الذي يقول هذا القول يجب أن يُثْبته أولاً وهو لا يملك إثباتاً، وثانياً إن الله سبحانه قد عصمه من الصلاة وهو يحمل النَّجاسة كما حصل معه حين نزل الوحي يخبره أن نعله تحمل نجاسة، فنزعها وهو في الصلاة، فالحديث قوي في الاحتجاج على طهارة المني. فإذا أُضيف إلى هذا الحديثِ الحديثُ الخامس المروي من طريق ابن عباس رضي الله عنه حصل اطمئنان إلى صحة القول بطهارة المنيِّ، فالحديث يقول «إنما هو بمنزلة المُخاط والبُزاق» وهو صريح في طهارة المنيِّ، لأن المُخاط والبُزاق طاهران بلا خلاف أعلمه. وقد يقال إن البيهقي قد روى الحديث موقوفاً على ابن عباس، وأنه قال (الموقوف هو الصحيح) والحديث الموقوف هو قول صحابي وهو ليس حُجة، وأن الدارقطني قد انفرد برفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام. فنقول: إن الدارقطني لم ينفرد برفع الحديث بل شاركه في ذلك الطَّحاوي والبيهقي أيضاً. إنَّ الدارقطني بعد أن ساق الحديث قال (لم يرفعه غير إسحق الأزرق عن شريك) فإذا علمنا أن إسحق إمامٌ مُخرَّج عنه في الصحيحين كما يقول ابن تيمية وابن الجوزي، فذلك يعني أن انفراده بالرفع لا يضرُّ، وأن رفع الحديث زيادة، والزيادة يتعين المصير إليها كما هو معلوم. فالحديث صحيح ومرفوع، وهو كاف في ترجيح حُجَّة من يقول بطهارة المنيِّ. وبذلك يظهر وجه الحق في هذه المسألة، وتُحمل أحاديث الغَسل والفرك والسَّلت وغيرها على إزالة الوسخ والتنظيف المندوب فحسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 بقيت شُبهةٌ هي قولهم إن المنيَّ نجسٌ باستثناء منيِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو عندهم طاهر، فنقول لهؤلاء: من أين لكم هذا التفريق؟ وأين هو الدليل على نجاسة منيِّ مَن سواه؟ ولا دليل سوى ما أوردناه من أحاديث منيِّه عليه الصلاة والسلام بل إن حديث عائشة الثاني يساوي بين منيِّه عليه الصلاة والسلام ومنيِّ مَن سواه، فتبطُل هذه الشبهة، ويَثبت حكم طهارة المنيِّ. أما ما خاض فيه الفقهاء من طهارة منيِّ الحيوانات أو نجاسته، وتفريقهم بين منيِّ مأكول اللحم ومني غير المأكول، فلا أجدني محتاجاً للخوض فيه، وحسبي أن أقول إنه لم يرد أي دليل على نجاسته، فهو باق على أصله من الطهارة. هـ- القيء : إنه لم يَرِد في القيء نصٌّ صحيح ولا حسن ولا إجماع صحابة على نجاسته فيظل على أصله من الطهارة. ولقد اعتمد القائلون بنجاسة القيء على أمرين: أحدهما: هو ما رواه مَعْدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر فتوضأ، فلقِيتُ ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له، فقال: صدق أنا صببتُ له وَضوءه» رواه الترمذي وقال (هذا أصح شيء في هذا الباب) . وما رواه ابن أبي مُلَيكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - «من أصابه قَيءٌ أو رُعافٌ أو قَلَسٌ أو مَذِي فلْينصرف فلْيتوضأ، ثم لِيَبْنِ على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم» رواه ابن ماجة والدارقطني. وضعفه الهيثمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الثاني: أنهم وضعوا قاعدة تقول (أن الخارج من البدن من غير السبيل ينقسم قسمين: طاهراً ونجساً، فالطاهر لا ينقض الوضوء على حال ما والنجس ينقض الوضوء في الجملة رواية واحدة) ذكرها صاحب المغني، وذكروا أن ذلك مروي عن عدد من الصحابة والتابعين والفقهاء، فطبَّقوا الأمر الأول وهو الحديث على الأمر الثاني وهو القاعدة، فخرجوا بحكم نجاسة القيء، أي أنهم قالوا إن الحديث يدل على أن القيء ينقض الوضوء، وأن القاعدة تقول إن أي خارج من غير السبيل ينقض إن كان نجساً، وإذن فالقيء نجِس. فنجيبهم بأن هذه القاعدة غير مُسلَّم بها، فها هو المنيُّ ينقض خروجه الوضوء، بل ويُوجب الغُسل رغم طهارته، وأما قولهم إن النجس ينقض الوضوء في الجملة روايةً واحدة والطَّاهر لا ينقض الوضوء، فقد خالفهم فيه آخرون، فقد قال مكحول: لا وضوء إلا فيما خرج من قُبُل أو دُبر. ومالك وربيعة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر لا يُوجبون من القيء وضوءاً. فالقاعدة التي وضعوها ليست صحيحة وغير مُسلَّم بها، فلا يصح استنباط الأحكام بحسبها. أما الحديثان اللذان استشهدوا بهما، فالثاني منهما ضعيف فلا يصلح للاحتجاج، وأما الأول فإن غاية ما فيه أن القيء ينقض الوضوء فحسب على افتراض أن الفاء التي في (فتوضأ) هي فاء السَّببية. نعم روى البزَّار والدراقطني والبيهقي وأبو نعيم وابن عديٍّ وأبو يعلى من طريق عمار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «يا عمَّار، إنما تغسل الثوب من الغائط والبول والقيء والدم» إلا أن هذا الحديث يبلغ من الضعف درجة جعلت المُحدِّثين يرمونه بالوضع، وقد جاء هذا الاتهام من كون ثابت بن حمَّاد أحدَ رُواته وهو متَّهم بالوضع. قال البيهقي (هذا باطل لا أصل له) . وأضاف (ثابت بن حمَّاد مُتَّهم بالوضع) . وقال الهيثمي (ضعيف جداً) . فالحديث لا يصلح للاحتجاج، فلا يصلح دليلاً على نجاسة القيء. الفصل الثالث أحكامُ النجاسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 يتضمَّن هذا الفصل ست مسائل وال تمهيد لها، وهذه المسائل هي: 1 - حكم الانتفاع بالنجس . 2 - هل يجب العدد في إزالة النجاسة؟ 3 - المواطن الثلاثة التي ورد فيها عدد 4- ما يُستعمل في إزالة النجس. 5 - تطهير المتنجِّس. 6 - الاستحالة. تمهيد قلنا في بحث [أعيان النجاسات] إن حكم النجاسة هو الاجتناب وجوباً، وإن الشرع لم يستثن من النجاسات من حيث الاجتناب سوى كلب الصيد وكلب الحراسة وجلد الحيوان الميت عند معالجته بالدباغ، وما سوى ذلك من النجاسات يظل الحكم في حقه وجوب الاجتناب. وهذا الاجتناب للنجاسات وكيفيته - وهو ما يسمى إزالة النجاسة - لا يحتاج إلى نية، بل تكفي فيه الإزالة فحسب، فسواء زالت النجاسة بنية أو بدون نية، وسواء زالت بفعلٍ منا أو بفعل غيرنا فقد تم المطلوب وقُضي الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 والنَّجِس عكسه الطاهر، فما سوى النجاسات التي سبق تحديدها فهو طاهر دون حاجة إلى دليل على طهارته، أي إذا لم يكن لدينا دليل على نجاسة شيء حكمنا بطهارته، لأن الله سبحانه سخَّر لنا كلَّ شيء، الأرضَ والحيوان والنبات، وحتى السموات قد سخَّر الله سبحانه ما فيها للإنسان، قال الله تعالى في سورة الجاثية {وسَخَّرَ لكُم ما في السَّمواتِ ومَا في الأرضِ جميعاً مِنْهُ} والتسخير يقتضي جواز الاستعمال والانتفاع، ولا يكون الاستعمال وارداً مع النجاسة، ولذا فإنَّ كلُّ ما في السموات وما في الأرض مُسخَّر وطاهر إلا ما استثناه النص. فالطهارة هي الأصل والنجاسة خروجٌ عليه جاء الشرع يطلب نبذها وعدم التعامل معها. ثم إن الله سبحانه خلق الكون وعرض عليه التكليف فأبى وأشفق من حملِه، إلا الإنسان الظالم لنفسه الجاهل لمصير هذا الحمل، فقد وافق عليه، ولذا فإن كل ما في الوجود يسير في طاعة الله والإنسان المؤمن الصالح يسير مع الكون في طاعة الله، ولا يخرج على هذه المسيرة ويشذُّ عنها سوى الكافر من البشر، فهو الشاذ الخارج على الأصل، الذي هو طاعة الله، ويلحق به الكافر من الجنِّ والشياطين، فليس غريباً ولا مفاجئاً أن يُطلِق الشرع على الكفار لفظة النَّجَس تشبيهاً لهم بالنجاسات الخارجة على الأصل، فكما أن النجاسات خرجت على أصل الأشياء من الطهارة وسميت نجسة، فكذلك الكفار خرجوا على أصل الأشياء من الطاعة وسُمُّوا نَجَسَاً، قال سبحانه {إنما المُشْرِكونَ نَجَسٌ فلا يَقْرَبوا المَسجِدَ الحرامَ بعدَ عامِهم هذا} الآية 28 من التوبة. ولم يستعمل القرآن لفظة نجس سوى مرة واحدة هي هذه في وصف الكفار المشركين، ولذا فإن الأصل أن يُنبذ الكافر المشرك كما تنبذ النجاسات، ولكن باختلافٍ بين النبذين. أما التعامل مع الكافر فليس هذا مكانه، وأما التعامل مع النجاسات فهو مدار هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 هناك نجِسٌ، وهناك متنجِّسٌ،فأعيان النجاسات السابق بحثها وتحديدها هي من فئة النَّجِس، وإذا خالط النَّجِس غيره نجَّسَه فصار متنجِّساً، والحكم بالاجتناب والإزالة إنما يتعلق بالنَّجِس دون المتنجِّس، فالمتنجِّس يمكن إعادته إلى أصله من الطهارة بتخليصه من النَّجِس إلا أشياء نادرة، وأما النَّجِس فأصله النجاسة، ويظل نجِساً ولا يَطْهر إلا في حالة واحدة نادرة أيضاً. حكمُ الانتفاعِ بالنَّجِس حرَّم الشرع الانتفاع بالنَّجِس تحريماً عاماً مطلقاً، وأوجب على المسلمين الابتعاد عنه دون إيجابه على الكافرين، فالكافرون سمح الإسلام لهم بالانتفاع بالنجس، فقد سمح لهم بالانتفاع بالخمر وهي نجسة، وسمح لهم بالانتفاع بالخنزير وهو نَجِس، وسمح لهم بالانتفاع بما يشاءون من النَّجاسات دون ممانعة من دولة الخلافة، فلو شربوا أبوالهم وخلطوا دماءهم في أدويتهم وأكلوا الميتة لم يعترض المسلمون عليهم، فالإسلام أمر المسلمين بترك الكفار وما يعبدون وما يأكلون، أما المسلمون فهم طاهرون متطهِّرون يأنفون من النجاسات ويعافون الاقتراب منها، ويلزمهم إزالتُها وعدمُ الانتفاع بها بأي وجه من وجوه الانتفاع، إلا ما خصَّه الدليل ككلب الصيد وكلب الحراسة، وكجلد الميتة بعد دباغه، وما سوى هذه الثلاثة لا يجوز الانتفاع بالنَّجِس مطلقاً. ونسوق عدداً من الأدلة على ذلك: أ - عن جابر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح وهو بمكة «إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخِنزير والأصنام فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة، فإنها يُطلَى بها السفن ويُدهنُ بها الجلود ويَستصبحُ بها الناس، فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لمَّا حرَّم شحومها جَمَلوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه» رواه البخاري وأحمد وأصحاب السُّنن. وقد سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ب - عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لعن الله اليهود - ثلاثاً - إن الله حرَّم عليهم الشُّحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرَّم على قومٍ أكل شيء حرَّم عليهم ثمنه» رواه أبو داود وأحمد والبيهقي. ج - عن عون بن أبي جُحَيفة عن أبيه «أنه اشترى غلاماً حجَّاماً فأمر بمحاجمه فكُسِرت، فقلت له: أتكسرها؟ قال: نعم، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البَغِيِّ، ولعَنَ آكِلَ الربا ومُوكِله والواشمة والمستوشمة ولعن المُصوِّر» رواه أحمد والبخاري ومسلم. قوله المحاجم - واحدتها مِحْجَم: هي الأداة التي يُحجَم بها. د - عن ابن عباس قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب، وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفَّه تراباً» رواه أبو داود. ورجاله ثِقات، ورواه أحمد بلفظ «ثمن الكلب خبيث، قال: فإذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفيه تراباً» . هـ - عن ميمونة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: أَلقوها وما حولها، فاطرحوه وكلوا سمنكم» رواه البخاري ومالك وأحمد والنَّسائي وأبو داود. … و- عن وائل الحضرمي «أن طارق بن سُويد الجُعفي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء» رواه مسلم وأحمد والدارمي وأبو داود والترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الحديث الأول ذكر ثلاثة أصناف من النجاسات هي الخمر والميتة والخنزير، وفرَّع على الثاني وهو الميتة الشحوم، وذكر أن هذه النجاسات حرام بيعها، وحرام الانتفاع بالشحوم في طلاء السفن ودهن الجلود والإضاءة، فالحديث نص صريح في عدم الانتفاع بهذه النجاسات بيعاً واستعمالاً. وفي الحديث الثاني قاعدة فقهية عريضة في موضوع الانتفاع بالمحرَّمات، ومنها النجاسات، هي أن كل مُحرَّم الأكل مُحرَّم البيع. وفي الحديث الثالث تحريم بيع صنفين من النجاسات هما الدم والكلب، والبيع انتفاع. والحديث الرابع يدل على تحريم بيع الكلب «إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً» والحديث الخامس أمر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإتلاف السمن المتنجس بالميتة. وفي الحديث السادس رفض الرسول - صلى الله عليه وسلم - الانتفاع بالخمر حتى ولو صُنعت واستعملت كدواء. فهذه أمثلة على تحريم الانتفاع بالميتة وشحومها، وتحريم الكلب والخنزير والدم والسمن المتنجس، ولو لم يكن من أدلة سوى الحديث الخامس لكفى، ذلك أن الأصناف السابقة هي من فئة النجس سوى ما جاء في الحديث الخامس، فهو من فئة المتنجس، ومع ذلك أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإلقائه وعدم الانتفاع به فإذا كان المتنجِّس يُتْلف فكيف بالنَّجس؟ ثم إذا علمنا أن الشرع قد نهى عن إتلاف المال، بل عن إتلاف أو إضاعة أدنى كمية منه، كاللقمة تسقط من اليد، لما روى جابر أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول «إذا طَعِم أحدكم فسقطت لقمته من يده، فلْيُمط ما رابه منها ولْيطعمها ولا يدعها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق يده، فإن الرجل لا يدري في أي طعامه يبارَك له ... » رواه ابن حِبَّان ومسلم وأحمد. أقول إذا كان الشرع قد نهى عن إضاعة اللقمة تسقط من اليد فكيف يأمر بإتلاف ما هو أثمن منها كالسمن تقع فيه نجاسة لولا أن الانتفاع به لا يجوز؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ولقد أجاز عدد من كبار الأئمة الانتفاع بالنجس منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي والليث، مستدلين على رأيهم بالأدلة التالية: أ - الحديث الأول المشار إليه آنفاً وهو حديث البخاري وغيره من طريق جابر. ب - عن ابن عمر «أن الناس نزلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحِجْر، أرض ثمود، فاستَقَوْا من آبارها، وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهريقوا ما استقَوْا، ويعلفوا الإبل العجين ... » رواه مسلم والبخاري. ج - عن مُحيِّصة أخي بني حارثة «أنه أستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إجارة الحَجَّام فنهاه عنها، فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى قال: اعلفْهُ ناضحَك وأَطْعِمْه رقيقَك» رواه الترمذي وحسنه. فنرد عليهم بأن الحديث الثاني الذي رواه الشيخان، والحديث الثالث الذي رواه الترمذي لا يصلحان للاستدلال في موضوعنا، فهما ليسا في موضوع النجاسات والانتفاع بها، وإنما موضوعهما استعمال المُحرَّم، والمُحرَّم ليس بالضرورة نجساً، فالحشيشة محرَّمة ولكنها ليست نجسة، والصُّلبان محرمة وهي ليست نجسة، والتصاوير، أي التماثيل، محرمة وهي ليست نجسة، فكذلك كسب الحجَّام، وماء آبار من ظلموا أنفسهم، بل إن كسب الحجَّام لم يتفق الفقهاء على تحريمه، فقد أباحه قوم وكرهه آخرون. ولست أريد أن أدخل في هذا الباب حتى لا أخرج عن الموضوع، ولذا أقول إن الحديثين الثاني والثالث لا يصلحان هنا، وليست فيهما دلالة على جواز الانتفاع بالنجس، فيُتركان ويسقط الاحتجاج بهما في المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 بقي الحديث الأول، وهو الذي رواه البخاري وغيره من طريق جابر، هذا الحديث لا يصلح للاستشهاد به على جواز الانتفاع بالنجس بل هو على العكس من ذلك تماماً. الحديث يقول «إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة فإنه يُطلى به السفن ويُدهن به الجلود ويَستصبحُ به الناس، فقال: لا هو حرام» نظروا في الحديث وتساءلوا: هل الضمير (هو) في قوله (هو حرام) راجع إلى البيع (إن الله ورسوله حرَّم بيع) ، أم هو راجع إلى الانتفاع (يُطلى ... يُدهن ... يَستصبح) ؟ فقالوا: الظاهر أن مرجع الضمير للبيع، لأنه المذكور صريحاً والكلام فيه، ويؤيد ذلك قوله في آخر الحديث (باعوه) ومن قال إن الضمير يرجع إلى البيع، قال بجواز الانتفاع بالنجس مطلقاً، ولكن فقط يحرم بيعه. ويستدل أيضاً بالإجماع على جواز إطعام الميتة للكلاب، وقالوا: إذا كان التحريم للبيع جاز الانتفاع بشحوم الميتة والأدهان المتنجسة في كل شيء غير أكل الآدمي ودهن بدنه، فيحرمان كحرمة أكل الميتة والترطُّبِ بالنجاسة. هكذا قالوا، وهكذا استدلوا واستشهدوا، ولكن الناظر في النص يتبين خطأ هذا الاستدلال لما يلي: أ - إن الضمير لغةً يعود إلى أقرب اسم، وليس إلى أبعده، والأقرب هنا هو ما جاء من ألفاظ تفيد الانتفاع (يُطلى ... يُدهن ... يَستصبح) وليس لفظةَ البيع التي هي أبعد كلمة في النص. ب - إن قولهم الضمير يعود إلى البيع لأنه المذكور صريحاً قول غير دقيق، لأن الشحوم وما اتصل بها من أفعال هي أيضاً صريحة. ج - إننا لو فسرنا الحديث على ضوء عودة الضمير إلى البيع لما أفاد القول الأخير شيئاً، لأن شحوم الميتة تابعة للميتة في حكم تحريم البيع لأنها منها، في حين أن تفسيره على ضوء عودة الضمير إلى الشحوم يفيد معنى جديداً، وهذه الإضافة أولى من إلغائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 د - إن النصف الأول من الحديث مكتمل تام بنفسه «إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» وهو ليس بحاجة إلى تكملة، ولو لم يُسأل عليه الصلاة والسلام عن شحوم الميتة لانتهى الحديث عند كلمة الأصنام، ولكن لما سُئل عن الشحوم التي يُفعل بها كذا وكذا، أي يُنتفع بها بكذا وكذا وكذا قال (لا، هو حرام) والضمير (هو) يبعد أن يعود إلى البيع، لأن الحديث جملتان تامتان منفصلتان، فكلمة (إن الله ورسوله حرَّم) أفادت تحريم الأربعة المذكورة أولاً، وكلمة (لا، هو حرام) أفادت تحريم الطلاء والدهن والاستصباح بالشحوم. هكذا يجب فهم الحديث، وهكذا يفهمه من أخذ بظاهره وترك التعمق والتكلف. ومن ذلك يظهر خطأ الرأي القائل بجواز الانتفاع بالنجس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 أما ما يقولونه بخصوص إطعام الميتة للكلاب،فهو ليس من باب الانتفاع الذي نبحث فيه، فالكلاب نجسة وإطعامها الميتة النجسة هو حالة خاصة، إذ هو ضم نجاسة إلى نجاسة ولا مانع من ذلك، أما إطعامها للحيوانات الطاهرة، أو استعمالها في شيء طاهر فهو تنجيس له، وهذا لا يجوز. وقد ورد النهي عن ركوب الجَلاَّلة وأكل لحمها وشرب لبنها، لا لشيء إلا لأنها تأكل العذرة النجسة. فعن ابن عباس قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبن شاة الجَلاَّلة، وعن المُجثِّمة، وعن الشرب مِن في السِّقاء» رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائي. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحُمُر الأهلية وعن الجَلاَّلة وعن ركوبها وأكل لحومها» رواه أحمد والنَّسائي بسند جيد رجاله ثقات ما عدا مؤمِّل وثَّقه ابن مُعين. فإذا أكلت الإبل والأبقار والأغنام والدجاج النجاسات فقد نُهينا ليس عن أكلها فحسب، بل عن ركوب ما يُركب منها أيضاً، فانظر إلى أي أثرٍ لاستعمال النجاسة في الأشياء الطاهرة. ويُكره أكل الجَلاَّلة إلا أن تُعلف بالعلف الطاهر فترة تكفي لتخلِّصها مما أكلت من النجس. هل يجب العدد في إزالة النجاسة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 إن إزالة عين النجاسة هي التطهير أو الطهارة، وهذه الطهارة لا يلزمها تحديد عدد الغسلات، وإنما المطلوب فحسب هو إزالة النجاسة. أمَّا أَن تُزال النجاسة بعدد محدد من الغسلات فليس بلازم، فجميع النصوص التي ورد فيها الأمر بإزالة النجاسة أو غسل الأشياء المتنجسة لم تطلب عدداً محدداً من الغسلات إلا في ثلاثة مواضع لا غير: هي الاستنجاء بأحجار ثلاثة، وغسل اليدين بعد نوم الليل ثلاث مرات، وغسل ما ولغ فيه الكلب من الآنية سبعاً أُولاهن بالتراب، وما سوى هذه المواطن الثلاثة جاءت النصوص مطلقة دون تقييد الغسلات بعدد محدد. فحديث بول الأعرابي لم يرد فيه عدد، وأحاديث غسل دم الحيض ودم المستحاضة لم يرد فيها عدد، وأحاديث غسل المذي والبول وآنية الكفار مما وضع فيها من لحم الخنزير والخمر لم يرد فيها عدد مطلقاً، ولم يرد العدد إلا في المواطن الثلاثة المارة فحسب، وإذن فإنَّ الأصل في الطهارة أو التطهير أن تُزيل أعيان النجاسات فقط، بمعنى أن يُغسل الثوب أو البدن أو الأرض أو أي شيء حتى تزايله النجاسة، سواء احتجنا في إزالتها إلى غسلة واحدة أو ثلاثٍ أو عشرين، فالعدد غير مقصود وغير مطلوب، وإنما المطلوب فقط الغسل الذي يزيل النجاسة. المواطنُ الثلاثة التي ورد فيها عدد أ - غسل اليدين حين الاستيقاظ من نوم الليل: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - «إذا استيقظ أحدكم من الليل فلا يُدخلْ يدَه في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، فإنه لا يدري أين باتت يده» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ب - الاستنجاء من الغائط: عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « ... لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار» رواه أحمد ومسلم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا ذهب أحدكم للحاجة فلْيَسْتطبَّ بثلاثة أحجار فإنها تُجْزِئه» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والدارمي. ورواه الدارقطني وصحَّحه. ج - غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «طُهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أُولاهن بالتراب» رواه مسلم والترمذي وأبو داود. أما الحديث الأول فإنه معلَّل «فإنه لا يدري أين باتت يده» فالأمر بغسل اليدين حين الاستيقاظ من نوم الليل معلَّل بوَهْمِ النجاسة أو بالشك في النجاسة، ولولا ذلك لما أمر بالغسل فضلاً عن أن يأمر بالغسل ثلاثاً، وكون العلَّة هي وَهْمُ النجاسة، فهي قرينة صارفة للأمر عن الوجوب، لأن الواجب هو غسل المتيقَّن من نجاسته، وحيث أن النجاسة هنا غير متيقنة، فإن الأمر في الحديث يُحمل عن الندب فقط. فغسل اليدين عقب القيام من النوم مندوب، فيكون غسلهما ثلاثاً داخلاً في المندوب وليس ذلك واجباً، فالعدد هنا مندوب ولا يجب. وقد روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلْيستنثر ثلاث مرات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي. ولم يقل الفقهاء والعلماء بوجوب الاستنثار هذا، وإن هذا الطلب إنما قُصد منه إذهاب ما يلصق بمجرى النفس من الأوساخ، ليكون سبباً في نشاط القارئ وطرد الشيطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وقد ذكر الشافعي وغيره من العلماء أن السبب في حديث غسل اليدين أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالأحجار وبلادهم حارة، فإذا نام أحدهم عرق فلا يأمن النائم أن تطوف يده على دُبُره الذي فيه أثر الغائط. وقد روى ابن خُزَيمة هذا الحديث بلفظ يقوِّي هذا الفهم، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في إنائه أو في وَضوئه حتى يغسلها، فإنه لا يدري أين أتت يده منه» أي من جسده. فالأمر إذن إنما هو لدفع وهْم النجاسة بالغائط، فإذا نام أحدنا الآن وقد لبس ملابس تحول دون وصول يديه إلى دُبُره، فإن غسل يديه حين الاستيقاظ يكون غير مطلوب إلا أن يفعله تعبُّداً محضاً، سيما ونحن اليوم نستنجي بالماء الذي ينقِّي الدبر من الغائط تماماً. فالعدد إذن هنا غير واجب، وهو لا يزيد عن كونه يعالج وهم النجاسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 أما الحديث الثاني فهو في موضوع تنظيف الدُّبُر من الغائط وقد طلب الحديث استعمال ثلاثة أحجار على الأقل وقال «فإنها تُجْزِئه» ففهم من هذا النص جماعة من العلماء أن العدد هنا واجب وأن الاستجمار لا يجوز بأقل من ثلاثة، واعتبروا أن العدد يدخل في إزالة النجاسة وقاسوا غسل النجاسات كلها على هذا الحديث فقالوا بغسل كل نجاسة ثلاثاً، وقد وَهَمَ هؤلاء جميعاً، فإن لدينا حديثاً يردُّ عليهم ويبطل العدد حتى في الاستنجاء، فقد روى الدارقطني بسند حسن عن سهل بن سعد «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن الاستطابة، فقال: أَوَلا يجد أحدُكم ثلاثة أحجار: حجرين للصَّفحتين، وحجرٍ للمسربة؟» فأي نصٍّ أبلغ وأوضح من هذا النص الذي يقرر أن تنظيف الموضع الواحد يكفيه حجر واحد؟ فقد جعل حجراً واحداً للمسربة، وحجراً واحداً للصفحة اليمنى، وحجراً واحداً للصفحة اليسرى، أي أن هذا الحديث اكتفى في الاستنجاء بحجر واحد للموضع الواحد ولم يطلب عدداً، وبيَّن في الوقت نفسه سبب طلب الأحجار الثلاثة للاستنجاء، وأنها ثلاثة أحجار لثلاثة مواضع، فأي تفسير أبلغ من هذا التفسير؟ وأي رد أبلغ من هذا الرد على من اشترطوا العدد في الاستنجاء وعمَّموه على سائر الأغسال؟ ونحن نعلم أن الحديث يفسر بعضه بعضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 هذا هو منطوق الحديث، وهو واضح الدلالة على نفي العدد في إزالة النجاسة، فإذا علمنا أن المسربة مثلاً يكفيها حجر واحد، علمنا أن المسربة سيظل بها أثر الغائط، ومع ذلك لم يطلب الشرع إتْباع الحجر الأول بحجر ثان، فإذا كان الموضع يبقى فيه أثر النجاسة، ومع ذلك لا يطلب منا إزالته بحجر ثان أو ثالث، فأي رد أبلغ عليهم من ذلك؟ وما هذا العدد الذي أَتوْا به في إزالة النجاسات؟ وكيف يقال إن الغسل يجب له عدد؟ وهذا هو ما يفسِّر قول الشافعي وغيره في سبب طلب الرسول عليه الصلاة والسلام غسل اليدين عند الاستيقاظ، وهو أن الدبر يظل فيه أثر النجاسة. وبذلك ينتفي استدلالهم بهذا الحديث وبالذي قبله على وجوب العدد في إزالة النجاسات. وإذا أضفنا إلى ما سبق القول، إن الغسل هو مجرد إزالة النجاسة لتنقية الموضع فحسب وليس للتعبُّد بعدد مخصوص، وإن ما جاء في الأحاديث هو طلب إزالة النجاسة دون أية إضافة أدركنا تماماً عُقم القول بوجوب العدد. وليس أدل على هذا من حديث أبي ثعلبة الخشني وقد مرَّ، فهذا الحديث يطلب غسل آنية الكفار وقدورهم ولا يطلب عدداً، وقد بيَّن الغاية من الغسل وهي الإنقاء «فقال أَنْقُوها غسلاً واطبخوا فيها» رواه الترمذي. فالغاية من كل غسل هي الإنقاء، وهكذا يجب عند غسل أي شيء متنجس تحقيق هذه الغاية فحسب، ولا بأس بعدئذ من بقاء آثار يسيرة من النجاسة، فالشرع يسَّر على الناس، وتجاوز عن اليسير والنادر. بقي الحديث الثالث، والجواب عليه من وجهين: أ- إن العدد الوارد في أحاديث ولوغ الكلب غير معلَّل، وإذن فلا يجب الوقوف عنده ولا يصح قياس غيره عليه، فنجاسة الإناء من ولوغ الكلب تُزال بالغسل بعدد، ولا يُزال غيرها به، فالعدد محصور ومقصور على غسل نجاسة الولوغ. ب - ورد حديث الولوغ أو أحاديث الولوغ بألفاظ وروايات عديدة نجتزيء منها ما يفي بالغرض هكذا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 1- «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فلْيغسلْه سبعاً» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي ومالك. 2- «طُهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسلَه سبع مرات أُولاهنَّ بالتراب» رواه مسلم والترمذي وأبو داود. 3 – «إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفِّروه الثامنة في التراب» رواه مسلم وابن ماجة وأبو داود والنَّسائي. 4 – «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فلْيُرقه ثم ليغسله سبع مرارٍ» رواه مسلم والنَّسائي والبيهقي. 5- «إذا ولغ الكلب في إناء أحدٍ فلْيغسله سبع مرات أحسبه قال: إحداهن بالتراب» رواه البزَّار. 6- «إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرَّات، السابعة بالتراب» رواه أبو داود والدارقطني. 7 – «يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أُولاهن أو أُخراهن بالتراب» رواه الترمذي والشافعي بسند صحيح. جميع هذه الروايات مرويَّة من طريق أبي هريرة إلا الثالثة «وعفِّروه الثامنة في التراب» فمرويَّة من طريق عبد الله بن مغفل - مسلم وابن ماجه وأبو داود والنَّسائي -. وقد اختلف الأئمة حيال هذه الروايات اختلافاً واسعاً، فقال أحمد ومالك في رواية عنه، إن الغسل يكون بالماء سبع مرات والثامنة بالتراب، وقال الأحناف بعدم وجوب التتريب وعدم وجوب التسبيع بالماء. وقال المالكيون بوجوب التسبيع بالماء دون وجوب التتريب. وقال الشافعي بوجوب التسبيع بالماء، ووجوب التتريب في الغسلة الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وقد بحث الصنعاني في كتابه سبل السلام هذه المسألة بحثاً جيداً، أنقل لكم قوله كله فيه (بعض من قال بإيجاب التسبيع قال: لا تجب غُسلة التراب لعدم ثبوتها عنده، وَرُدَّ بأنها قد ثبتت في الرواية الصحيحة بلا ريب، والزيادة من الثقة مقبولة، وأورد على رواية التراب بأنها قد اضطربت فيها الرواية، فرُوي أولاهن أو أخراهن أو إحداهن أو السابعة أو الثامنة، والاضطراب قادح فيجب الاطِّراح لها، وأجيب عنه بأنه لا يكون الاضطراب قادحاً إلا مع استواء الروايات وليس ذلك هنا كذلك، فإن رواية أُولاهن أرجح لكثرة رواتها، وبإخراج الشيخين لها، وذلك من وجوه الترجيح عند التعارض، وألفاظ الروايات التي عورضت بها أولاهن لا تقاومها، وبيان ذلك أن رواية أُخراهن منفردة لا توجد في شيء من كتب الحديث مسندة، ورواية السابعة بالتراب اختُلف فيها فلا تقاوم رواية أولاهن بالتراب، ورواية إحداهن رواها الراوي على الشك، فهي إذن ضعيفة لا تصلح للاحتجاج، ثم إن هذه الرواية مطلقة فيجب حملها على المقيدة، ورواية أولاهن أو أخراهن بالتخيير، إن كان ذلك من الراوي فهو شك منه فيرجع إلى الترجيح، ورواية أُولاهن أرجح، وإن كان من كلامه - صلى الله عليه وسلم - فهو تخيير منه - صلى الله عليه وسلم -، ويرجع إلى ترجيح أولاهن لثبوتها فقط عند الشيخين كما عرفت) وأضاف في موضع آخر (وقد ثبت عند مسلم - وعفِّروه الثامنة بالتراب - قال ابن دقيق العيد: إنه قال بها الحسن البصري، ولم يقل بها غيره ولعل المراد بذلك من المتقدمين) فالصنعاني يأخذ بأرجح الروايات عنده وهي رواية رقم (2) المتقدمة، ورأيه صحيح، وهو يطابق رأي الشافعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وأُضيف لمزيد بيان: إن الرواية رقم 1 والرواية رقم 4 ذكرتا أن الغسل سبعٌ دون أن تأتيا على ذكر التراب، وجاءت روايات أخرى بذكر التراب وهذه زيادة يتعين المصير إليها والعمل بها. أما السادسة فجعلت التراب في المرة السابعة، والثالثة جعلته في الثامنة، والثانية جعلته في الأولى. أما رواية أبي داود وهي السادسة فلا تستوي مع الروايتين الثانية والثالثة من حيث السند فتقدمان عليها. نأتي للروايتين الثانية والثالثة فنقول: أما الرواية الثالثة «الثامنة في التراب» فقد أضافت غسلة ثامنة، بينما جميع الروايات الأخرى ذكرت أن الغسلات سبع، فهي رواية منفردة خالفت جميع الروايات، فهي إذن شاذَّة فتترك، فتبقى الرواية الثانية، وهذه حوت ما حوت جميع الروايات من حيث عدد الغسلات السبع، وهي التي تقول «أُولاهن بالتراب» فهي رواية محفوظة وصحيحة يُحتجُّ بها. قال البيهقي (إن أبا هريرة أحفظُ مَن روى الحديث في دهره فروايته أولى) يعني أولى من الرواية الثالثة، فلم تبق سوى الرواية الثانية التي تقول بجعل التراب في الأولى، والرواية السابعة التي تقول بالتخيير بين الأولى والأخرى، ونحن نرجح الرواية الثانية لأمرين: أحدهما أن الثانية أقوى إسناداً والأقوى مقدَّم حين التعارض أو الاختلاف. وثانيهما أن التخيير فيه معنى التردُّد، في حين أن تحديد التراب في الأولى حسم، والحسم أقوى من التردُّد. فتقدَّم الرواية الثانية على رواية التخيير ويُعمل بها، وبالعمل بها لا نكون خالفنا العمل برواية التخيير، وهذا مرجِّح ثالث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 والمحصِّلة أنه لا يجب في غسل أية نجاسة أي عدد سوى نجاسة ولوغ الكلب، فتحتاج إلى سبعٍ أُولاهن بالتراب والست الباقية تكون بالماء، وما دام أن جميع هذه الروايات لم تظهر فيها علَّة فالحكم غير معلَّل، فلا يصلح لتقاس عليه إزالة سائر النجاسات. ثم إن غسل الإناء من الولوغ من حيث هو غسل ليس تعبُّديَّاً محضاً، بل هو مثل إزالة أية نجاسة، ولكن ذكر العدد بهذا البيان هو الناحية التعبدية المحضة فيه، فيُعمل بهذا العدد المخصوص تعبُّداً وطاعة دون إعمال الذهن في الأسباب والعلل الموجِبة، كتلك التي أوردها الأطبَّاء مؤخراً من أن في لُعاب الكلاب جرثومةً ضارَّة لا يزيلها إلا التراب والماء، فهذا لا يعنينا في شيء، ولا يُلتفت إليه، وليحذر المسلمون من التعليلات العلمية الحديثة لأحاديث وآيات سكتت عن التعليل ولْيعلموا أن الشرع وقد سكت عن التعليل إِنما سكت عن قصد، ولو أراد التعليل لعلَّل، فكونه لم يعلِّل فهو يعني أنه أراد أمراً أخفى علته عنا فلا ينبغي لنا أن نحاول كشفها فإن ذلك تطاول على النص. وإذن فإن تطهير الثوب المتنجِّس والأرض المتنجِّسة والبدن المتنجِّس، والأداة والوعاء والحذاء والورق والخشب والحبوب المتنجِّسة إنما يُطلب له إزالة النجاسة دون اعتبارٍ للعدد مطلقاً، وحتى الكلب لو أقعى في إناء ماء، أو وضع رجله فيه، أو أدلى ذنبه فيه، أو غمس بعض شعره فيه، فإنه يُغسل مرَّة واحدة كسائر النجاسات، والعدد إنما هو فحسب في ولوغ الكلب، وهو عبادة غير معلَّلة، فلا يقاس عليها غيرها من أجزاء الكلب أو الخنزير أو سائر النجاسات. ما يُستعمل في إزالة النَّجِس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 حيث أن الشرع أراد من إزالة النجاسات عن الشيء الإنقاء، فإن كل ما يصلح للإنقاء يعتبر صالحاً لإزالة النجاسة عنه وتطهيرِه، دون تخصيص ذلك بالماء أو بالتراب كما ذكر عدد من الأئمة، فكل ما يصلح لإزالة النجاسة وإنقاء المحلِّ به يصح التطهير به شرعاً. ولننظر في النصوص الدالة على هذا الرأي: 1 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت «جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ قال: تحتُّه ثم تقرُصُه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه» رواه مسلم. ورواه البخاري وأحمد بألفاظ متقاربة. 2 - عن أم ولدٍ لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت «إني أمرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر، قالت أم سَلَمة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يطهِّره ما بعده» رواه أبو داود وأحمد وابن ماجة والدرامي. وسنده جيد. 3- عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إذا دُبِغ الإهاب فقد طهُر» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي ومالك. 4 - عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا وطيء أحدكم بنعليه الأذى فإن التراب له طهور» رواه أبو داود وابن حِبَّان. 5 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا ذهب أحدكم للحاجة فلْيستطبَّ بثلاثة أحجار، فإنها تُجزئه» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والدارمي. ورواه الدارقطني وصحَّحه. الحديث الأول يفيد أن الماء يصلح لإزالة النجاسة «ثم تقْرُصُه بالماء» والحديثان الثاني والرابع يفيدان أن التراب أو مطلق الأرض يصلح للتطهير «يطهِّره ما بعده» ، «فإن التراب له طهور» والحديث الثالث يفيد أن الدِّباغ يصلح للتطهير. وفي الحديث الخامس أن الحجارة تصلح للتطهير «فلْيستطبَّ بثلاثة أحجار» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وإذن فالماء والتراب والدباغ والحجارة كلها أشياء تصلح للتطهير وإزالة النجاسة بنصوص شرعية. إذن فالتطهير لا يقتصر على مادة واحدة أو مادتين كما يقول بعضهم بل يصح التطهير بهذه الأشياء وبغيرها أيضاً كالصابون والخل، وبالحك والحرق، وأي شيء وأي فعل يؤدي إلى إزالة النجاسة، لأن إزالة النجاسة هي المطلوبة، فكل ما يحققها مشروع ومُجزيء، فلو غسلنا ثوباً متنجِّساً بصابونٍ سائل فزالت نجاسته، أو غسلناه بالخل فزالت، أو حككناه فزالت، صار طاهراً. ولو حرقنا خشباً متنجِّساً فصار رماداً صار طاهراً، ولو سخَّنَّا حديداً متنجِّساً بالنار حتى زالت نجاسته صار الحديد طاهراً، ولو مسحنا سطح مرآة عليها نجاسة بورقة ناعمة، أو خِرقة قماش أو حتى باليد فزالت صارت المرآة طاهرة، ولو التقطنا النجاسة العالقة بثوبٍ باليد، أو بملقط فزالت عنه، ولم يبق منها شيء صار الثوب طاهراً، وهكذا من أشياء جامدة أو سائلة أو أدوات مختلفة أو أفعال، كلها تصلح للتطهير بشرط وحيد هو أن تزول النجاسة بها. والآن لنستعرض الآراء المختلفة في هذه المسألة وأدلة القائلين بها ومناقشتها: قال الشافعي ومالك ومحمد بن الحسن وزُفَر إن الطهارة من النجاسة لا تحصل إلا بما تحصل به طهارة الحدث لدخوله في عموم الطهارة. وقال أبو حنيفة وأحمد تجوز إزالة النجاسة بكل مائع طاهر مزيلٍ للعين والأثر، كالخل وماء الورد ونحوهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وقد استدل أصحاب الرأي الأول بما رُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأةٍ سألته عن دم الحيض يصيب الثوب «كيف تصنع به؟ قال: تحتُّه ثم تقرُصُه بالماء، ثم تنضحه ثم تصلي فيه» رواه مسلم والبخاري وأحمد. وقد مرَّ قبل قليل، وبحديث بول الأعرابي في المسجد وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذَنوبٍ من ماء فأُهريق على بول الأعرابي، وقالوا هذا أمر يفيد الوجوب ولأنها طهارة تُراد للصلاة فلا تحصل بغير الماء كطهارة الحدث، واستدلوا كذلك بقوله تعالى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الآية 6 من سورة المائدة، والآية 43 من سورة النساء. واستدل أصحاب الرأي الثاني بالحديث «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فلْيغسله سبعاً» رواه البخاري ومسلم وغيرهما من طريق أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما. وقد مرَّ، فأطلق الحديثُ الغسلَ، وتقييده بالماء يحتاج إلى دليل، ولأنه مائع طاهر مزيل فجازت إزالة النجاسة به كالماء، فأما ما لا يزيل كالمرق واللبن فلا خلاف في أن النجاسة لا تُزال به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 والجواب على أصحاب الرأي الأول هو أن حديث دم الحيض ليس دليلاً على الحصر، وأن وجوب امتثال أمره - صلى الله عليه وسلم - بإِهراق الماء على بول الأعرابي في المسجد لا يفيد حصراً أيضاً، ولا يدل على أن الماء وحده تجب به إزالة كل نجاسة، لأن حادث بول الأعرابي هو واقعة حال وليس قاعدة كلِّيَّة للتطهير، وقد بيَّنا سابقاً أن إزالة النجاسة لا تشترط فيها النِّية، وما دام أن المطلوب شرعاً هو إزالة النجاسة وهي ما يطلق عليها التطهير أو الطهارة، فإن الإزالة تحصل بكل مزيل لها حسب اختلاف الأحوال كما أسلفنا أيضاً، فقول حديث دم الحيض «تحتُّه ثم تَقْرُصُه بالماء» ليس فيه أداة من أدوات الحصر وليست صياغته مفيدة للحصر، وقد ذَكر الماء وذِكْرُه خرج على الأعمِّ الأغلب، ذلك أن الماء هو الغالب في التطهير وهذا مُسَلَّم به، وما قلته عن حديث دم الحيض أقوله عن حديث بول الأعرابي، ففيه «أَمَر بذَنوبٍ من ماء» فهذا النص ليست فيه دلالة على حصر التطهير بالماء، وبذلك لا يصلح الحديثان للاحتجاج بهما على حصر التطهير بالماء مطلقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أما عن استشهادهم بالآية {فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا} فأقول: نعم هذا نصٌ يفيد حصر الوضوء والاغتسال من الجنابة والحيض والنفاس بالماء، وهذا لا خلاف فيه بيننا، لأن طلب الآية عدم الانتقال إلى التراب إلا إذا عدم الماء، دليل على وجوب استعمال الماء في هذا الصنف من الطَّهارات، ولكن أَنْ يُستشهد بهذه الآية وهذا الحصر على موضوع البحث فهو خلط وخطأ، لأن البحث موضوعه إزالة النجاسة وليس الوضوء والأغسال المطلوبة شرعاً، فهذان موضوعان مختلفان. فالوضوء والأغسال عبادات محضة تحتاج إلى نيَّة، وإزالة النجاسات ليست كذلك فافترقا، وإذن فلا قياس. فالماء واجبٌ وحده في الطَّهارات الخاصة بالعبادة، ولكنه ليس واجباً مطلقاً في إزالة النجاسات، لأن الاثنين مختلفان تماماً فيسقط الاستدلال بهذه الآية الكريمة على ما ذهبوا إليه. أما الرأي الثاني فهو صحيحٌ جملةً ولكنَّ أصحابه وقعوا في أخطاء، فاستشهادهم بحديث الولوغ ضعيف ولا يفيدهم، وكان الأَوْلى بهم أن يستشهدوا بما استشهدنا به من أدلة مختلفة على إزالة النجاسات بوسائل متعددة ويكتفوا به، أما قولهم إن الحديث أطلق الغسل ولم يقيده بالماء فهو تعِلَّة، فإن معظم أحاديث إزالة النجاسات ذكرت الماء، فماذا يقولون بها؟. والخلاصة هي أن كل ما يصلح لقلع النجاسة من المكان المراد تطهيره يصح استعماله في الإزالة شرعاً، وأن الشرع طلب قلع النجاسة دون تحديد ودون تقييد. تطهيرُ المتنجس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الأصل في تطهير المتنجِّس إزالة عين النجاسة وقلعها من الموضع الذي حلت فيه دون أن تُخلِّف أثراً، ولكن هناك نجاسات إذا أصابت الموضع أحدثت فيه أثراً ثابتاً يصعب خلعه أو قلعه كلِّيَّة من الموضع كدم الحيض مثلاً وكالدَّم عموماً، خاصة إن جفَّ، ولكن الله الرحيم اللطيف خفف عن المسلمين في هذه الحال، فعفا عن بقاء الأثر بعد عملية الغسل، فعن أبي هريرة «أن خولة بنت يسار أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حج أو عمرة فقالت: يا رسول الله ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض فيه، قال: فإذا طهُرتِ فاغسلي موضع الدم ثم صلي فيه، قالت: يا رسول الله إن لم يخرج أَثرُه؟ قال: يكفيك الماء ولا يضرُّك أثره» رواه أحمد والبيهقي وأبو داود. فقول رسول الله عليه الصلاة والسلام «ولا يضرُّك أثره» صريح الدلالة على العفو عن بقاء أثر الدم في الثوب بعد عملية الغسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ولكن الأفضل والأَوْلى أن يُغسل بموادَّ حادةٍ تزيله أو تغيِّر لونه على الأقل، لما رُوي عن معاذة قالت «سألتُ عائشة رضي الله عنها عن الحائض يصيب ثوبَها الدم، قالت: تغسله، فإن لم يذهب أثره فلْتغيِّره بشيء من صُفْرة، قالت: ولقد كنت أحيض عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث حِيَضٍ جميعاً لا أغسل لي ثوباً» رواه أبو داود والدارمي. ولما رُوي عن عدي بن دينار أنه قال: سمعت أم قيس بنت محصن تقول «سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن دم الحيض يكون في الثوب قال: حُكِّيه بضِلْع واغسليه بماء وسدر» رواه أبو داود وأحمد والنَّسائي وابن ماجة ورواه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان. قال ابن القطان: إسناده في غاية الصحَّة. قوله الضلع - بتسكين اللام وفتحها -: أي هو العود. فقول الحديث «اغسليه بماء وسِدْر» يدل على طلب استعمال الحادِّ لأن السِّدر آنذاك يماثل الصابون عندنا، فهذا الحديث يطلب من المسلم أن يجتهد في إزالة أثر النجاسة باستعمال مادَّة حادَّة. وروى سليمان بن سُحيم عن أمية بنت أبي الصَّلت عن امرأة من بني غِفار قد سمَّاها لي، قالت «أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حقيبة رحله، قالت: فوالله لم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبح فأناخ، ونزلتُ عن حقيبة رحله فإذا بها دم مني، فكانت أول حيضة حضتها، قالت: فتقبَّضْتُ إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بي ورأى الدم قال: ما لك لعلك نُفِستِ؟ قلت: نعم قال: فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحاً، ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك ... » رواه أبو داود. فهذه الأحاديث متعاضدة في الطلب من المسلمين إزالة النجاسة باستعمال الموادِّ الحادَّة، ولكن سائر الأحاديث تطلب استعمال الماء فحسب في الإزالة، مما يدل على أن المواد الحادَّة ليست واجبة بل مستحبَّة فحسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 أما ما يقوله بعض الأئمة من تطهير السمن المتنجِّس بصبِّ ماء كثير عليه وخضِّه فيه، ثم تركه يهدأ حتى يطفو فوق الماء فيُؤخذ طاهراً فلا أذهب إليه، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين سُئِل عن السمن وقعت فيه فأرة فماتت فنجَّسته قال «ألقوها وما حولها فاطرحوه، وكلوا سمنكم» رواه البخاري وغيره وقد مرَّ. فقد أمر بإلقاء الميتة وما حولها من السمن وطرحه ولم يأمرهم بتطهيره. وأما ما قاله الفقهاء من أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يأمر، أو لم يأذن بتطهيره لأن ذلك أمرٌ يشق على الناس فهو قولٌ لا دليل عليه. أما تطهير النِّعال، فيكفي فيه الدلك بالأرض دون الغسل، خلافاً لمن أوجبوا الغسل، لحديث أبي هريرة المار «إذا وطيء أحدكم بنعليه الأذى فإن التراب له طهور» رواه أبو داود وابن حِبَّان. وقولهم بغسل النعل هو قياس على غسل ما أصابه الدم والخمر وغيرهما، والقياس لا يصمد أمام النص القائل بالوطء والمسح بالأرض. وحبل الغسيل المتنجِّس تطهِّره الشمس بالتجفيف، والأرض التي بال فيها الإنسان أو الكلب مثلاً تطهِّره الشمس كذلك بالتجفيف دون فعلٍ من الإنسان، والأرض المتنجِّسة تطهِّرها مياه الأمطار دون فعلٍ من الإنسان، لأن إزالة النجاسة كما أسلفنا لا تحتاج إلى نيَّة، ولا تحتاج بالضرورة إلى فعل الإنسان، فكل متنجِّس يمكن تطهيره بفعل الإنسان بالماء وبغير الماء كما يمكن اعتباره طاهراً بغير فعل الإنسان، خلافاً للوضوء وأغسال الجنابة وأمثالها التي لا تحصل إلا بفعل الإنسان وبِنيَّة معاً. فالمسلم إذا انتقض وضوؤه أو أصابته جنابة ثم سبح في بركة ماء أو في البحر لا يصير متوضئاً ولا رافعاً للحدث الأكبر بمجرد السباحة، خلافاً لرأي بعض الفقهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 إن كل متنجِّس - وقد نُطلق عليه كلمة نجِس تجاوزاً - يمكن تطهيره إلا أشياء وحالات نادرة لا ينفع فيها التطهير، كما أشرنا إلى ذلك في آخر بحث [تمهيد] وهذه الأشياء الطاهرة التي إن تنجست لا يُستطاع تطهيرها هي: العجين إذا عُجن بماء نجس، أو الحبوب التي تُنقع في الماء النَّجس حتى تزول يبوستها، وتصبح طريَّة متشرِّبة بالنجاسة، وأمثال هذه الأشياء لا يمكن تطهيرها، وليس لها إلا الإتلاف، لأن النجاسة تشرَّبتها ولا يُستطاع إخراجها منها، وما سوى هذه الحالات النادرة فإن كل متنجِّس يمكن تطهيره. أما النقطة الأخيرة فهي الشك في نجاسة الشيء، فلو شككنا في نجاسة ثوب مثلاً فإن الشرع لا يُلزمنا بغسله وتطهيره، ولكن لو فعلنا ذلك احتياطاً فلا بأس، ولا نُلْزَم بتطهيره إلا إذا تيقَّنَّا من نجاسته. وقريبٌ منه الثوب وقد أصابته نجاسة يسيرة، كأن وقعت عليه ذبابة أو صرصور كانا قد وقعا على نجاسةٍ كغائط مثلاً، أو أصاب الثوبَ رشاشٌ جِدُّ يسير من البول لا يتجاوز النقطة مثلاً، وهو ما يطلق عليه (ما لا يدركه الطَّرْف) ففي هذه الحالة يظل الثوب طاهراً ولا يجب غسله، ولا يخالف في هذا إلا المُوَسْوَسون. الاستحالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 المقصود من الاستحالة هو تحويل المادة النجسة إلى مادة طاهرة كالخمر تُحوَّل إلى خلٍّ مثلاً، وكالبول والغائط يُحوَّلان، أو يؤخذ منهما ماء نقي بالتقطير، وكشحوم الميتة تُحوَّل بالصناعة إلى صابون، وأشباه ذلك. هذا الأمر لا يحل القيام به شرعاً، لأن النجس كما أسلفنا لا يجوز الانتفاع به مطلقاً لا بالاستعمال ولا بالبيع ولا بالإهداء ولا بالإرث، ولا يُعدُّ مالاً محترماً مُقوَّماً شرعاً، بمعنى أنه لو سرق مسلم خمراً أو خنزيراً من مسلم فإنه لا يُحدُّ ولا يعاقب، ولا يحاسب إلا من حيث كونه صار يملك خمراً ويحملها ويستعملها، لأن الأحاديث قد نصَّت على حرمة الانتفاع بالنجاسات، ولم تسمح إلا بكلب الصيد وكلب الحراسة، وجلد الميتة بعد دباغه لا غير، وهذا الحكم عامٌّ في كل نجاسة، ولم يرد نص يستثني منه شيئاً من النجاسات، ومن قال غير ذلك طالبناه بالدليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 والمعروف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين نزل قوله تعالى {إنَّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأَنْصَابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ} الآية 90 من سورة المائدة. بتحريم الخمر طاف عليه الصلاة والسلام في أسواق المدينة يُريق الخمر في الطرقات، ويشقُّ دِنانها بمُدية كانت بيده، ولم يأذن لأحد من المسلمين بالانتفاع بها كدواء أو بتحويلها إلى خل. أما الدليل على عدم إذنه عليه الصلاة والسلام بالانتفاع بها كدواء، فالحديث الذي رواه مسلم والترمذي وأبو داود والدرامي وأحمد من طريق طارق الجُعفي، وقد مرَّ، ولفظه «إنَّ طارق بن سُويد الجُعفي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر، فنهاه أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء» . وأما الدليل على عدم إذنه بتحويلها إلى خل، فما روى أنس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن الخمر تُتَّخذ خلاً، فقال: لا» رواه مسلم والترمذي. وما روى أنس أيضاً «أن أبا طلحة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أيتام ورثوا خمراً، فقال: اهرِقْها، قال: أفلا نجعلها خلاً؟ قال: لا» رواه أحمد وأبو داود. وهذا كافٍ لإثبات حُرمة الانتفاع بالخمر وحرمة تحويلها إلى أشياء نافعة أو طاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ولكن السؤال الذي لا بد منه هو: كيف أحل الإسلام الخل وهو متحوِّل عن خمر؟ فالجواب على هذا السؤال هو أن الخل يُصنع بوضع العنب أو التفاح مثلاً في إناء، ويُترك شهراً أو شهرين حسب حرارة الجو وتعرُّضِه لأشعة الشمس ليتحول إلى خل، فالعنب والتفاح مثلاً يتحولان إلى خل بفعل الزمن، وبالتخمُّر الذاتي، دون فعلٍ أو تدخل من الإنسان. هذه هي الطريقة الشائعة لصنع الخل، وهذه الطريقة قد أحلَّها الإسلام. والفرق بين هذه الطريقة وبين تحويل الخمر إلى خل، هو أن الشخص حسب هذه الطريقة لا يفعل سوى وضع عنب أو تفاح طاهرين في إناء طاهر، وتركه فترةً زمنية ليستخرج منه خلاً طاهراً، فكانت جائزة. أما الطريقة التي حرَّمها الإسلام فهي وضع الخمر وهي نجسةٌ في إناء، وتركها فترة حتى تتحول إلى خل، إمَّا بإضافة مواد أخرى وإما بدون إضافة. والفارق بين الطريقتين هو أن الطريقة الأولى هي استعمال شيء طاهر للوصول إلى شيء طاهر، وأما الثانية فهي استعمال شيء نجس للوصول إلى شيء طاهر، فالفارق واضح لا سيما إذا علمنا أن الله سبحانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - قد حرَّما الخمر، وحرَّم الرسول عليه الصلاة والسلام في الخمر عشرة منها حملُها وعصرُها، ولا تتم الطريقة الثانية إلا بحملها وإلا بعصرها أو شرائها، وما دام أنه لا يحل لمسلم أن يعصرها أو أن يشتريها أو أن يحملها فإنه لا يتسنى له أن يصنع منها الخل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أما الطريقة الأولى فليس فيها أي فعل من المسلم يتعلق بالخمر، فالمسلم حين وضع العنب أو التفاح مثلاً في الإناء، تحوَّل العنب أو التفاح بفعل نفسه، لا بفعل المسلم إلى خمر، ثم تحول الخمر بفعل نفسه لا بفعل المسلم إلى خل، ولذا جازت هذه الطريقة. روى الطحاوي في كتابه مُشْكل الآثار عن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب رضي الله قال «لا نأكل من خمرٍ أُفْسِدت حتى يكون الله تعالى بدأ فسادَها» . وفي رواية أُخرى « ... لا نشرب خلاً من خمر أُفْسِدت حتى يبدأ الله عزَّ وجلَّ فسادَها، فعند ذلك يطيب الخل ... » . ومن جواز صنع الخل بالطريقة الأولى نستنبط حكماً شرعياً هو أن الشيء النجس إن تحوَّل بغير فعل المسلم إلى شيء طاهر جاز استعماله كسائر الطاهرات، لأن هذا الشيء الطاهر الذي خرج من النجس بالتحوُّل هو طاهر وليس نجساً، فلا يصح اعتباره نجساً عند ذلك، والمحظور على المسلم فيما يتعلق بالنجاسات هو الانتفاع بها ما دامت على حالها من النجاسة، وإنَّ من الانتفاع بها تحويلها بفعل نفسه، وهو لا يجوز. أما إن حوَّلها كافر، أو تحوَّلت ذاتياً إلى طاهرة صار حكمها في التعامل حكم الطاهرات وهو ما يفسر حِلَّ الخل الذي يستعمله المسلمون، ذلك أنه قد وصلهم خلاً طاهراً من طريقتين: من الطريقة الأولى التي ذكرناها، ومن طريقة ثانية هي شراء الخل من الكفار، والكفار إما أنهم قد صنعوه حسب طريقتنا، وإما أنهم صنعوه بتحويل الخمر إلى خل، واشتريناه نحن منهم خلاً طاهراً دون أن نسألهم عن الطريقة التي استخدموها في صناعة الخل، مما يدل على أن النجس إن تحول بفعل غير المسلم إلى طاهر حل استعماله والانتفاع به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 والنتيجة هي أن الشيء النجس إن تحول بغير فعل المسلم إلى شيء طاهر جاز استعماله والانتفاع به وحكمنا بطهارته، سواء حصل التحوُّل ذاتياً دون فعل الإنسان، أو حصل بفعل كافر. وبتطبيق هذه القاعدة على بعض الأشياء نقول: إن المسلمين لا يحل لهم أن يقطِّروا الأبوال والعِذَر كمياه مجاري المدن ليستخرجوا منها الماء المقطَّر، فإن هذا حرام لا يجوز، ولكن إنْ قطَّر كافرٌ مياه المجاري، واستخلص منها ماء نقيَّاً مقطَّراً، جاز للمسلمين شراؤه واستعماله والتَّطهُّر به، ولكن شرطَ أن لا يقوم به الكافر وِكالةً عن المسلم، وإنما يفعله بنفسه دون تكليف منه، وذلك لأن الفعل في حالة الوكالة يظل للمسلم ومن المسلم، ويكون الكافر مجرد أجير أو وكيل، والفعل يُنسَب لصاحب الأمر وليس للأجير فحسب، ولو حصل ذلك لكان تحايلاً لا يجعل الحرام حلالاً، وإلا لجاز للمسلم أن يسلِّم ماله لكافر ليرابي له فيه، أو لينشيء له به مزرعة خنازير، ويفعل سائر المحرمات. والخمر نجسة لا يحل الانتفاع بها مطلقاً إلا إن تحولت من ذاتها أو حوَّلها كفار إلى ماهيَّة طاهرة جديدة، فتأخذ الماهية الجديدة حكماً آخر هو الحِل والطهارة، لأنها لم تعد خمراً، ولم تعد نجسة. ولنقف هنا وقفة نفصِّل فيها القول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الخمر لغةً: هي كل مُسكرٍ مُخامرٍ للعقل مغطٍّ عليه، من خمر الشيء إذا ستره، وأخمر توارى، وخامر الشيء خالطه. وفي اصطلاح الفقهاء: هي كل ما كان مُسكراً، سواء كان متَّخَذاً من الفواكه كالعنب والرُّطب والتين والزبيب، أو من الحبوب كالقمح والشعير والذرة، أو من الحلويات كالعسل، وسواء كان مطبوخاً أو نيئاً. والخمر صنفان: صنف يُصنع بالطريقة التقليدية وهي المشروبات المخمَّرة كنبيذ البيرة أو الجعة المصنوعة من الشعير ونبيذ المزر المصنوع من القمح ونبيذ السَّكركة المصنوع من الذرة ونبيذ البتع المصنوع من العسل، وصنف ثانٍ هو المشروبات المقطَّرة كالوسكي والبراندي والجِن وأمثالها، وهذه المشروبات الأخيرة تعتمد على فكرة التقطير. أما الكحول - ويسميه العرب الغَوْل - فهو جملة عديدة من المركَّبات الكيماوية لها خصائص متشابهة، ومن الكحول صنف اسمه الإثيلي وهو مسكر، ومنه صنف يسمى المثيلي وهو سامٌّ. والإثيلي هو المستعمل في المشروبات المسكرة، أما المثيلي فلا يستعمل في الشراب لأنه سامٌّ قاتل، وسبيرتو الوقود هو من النوع المثيلي، ويؤخذ من نشارة الخشب وغيرها، وشربه يسبب العمى ويؤدي إلى الوفاة خلال أيام. ومن ذلك يظهر أن المثيلي كسبيرتو الحريق ليس خمراً، ولا يأخذ حكم الخمر من حيث النجاسة والحرمة فنخرجه من البحث. فيبقى الإثيلي (والسبيرتو الطبِّي هو من هذا النوع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الإثيلي هو الموجود في المشروبات المتخمِّرة والمشروبات المقطَّرة، وهذا الصنف يستعمل أيضاً في الصناعة فهو يستعمل كحافظٍ لبعض المواد، وكمادة منشِّفة للرطوبة، وكمُذيب لبعض القَلَويات والدُّهنيات، وكمقاوم للتَّجمُّد، وكمذيب لبعض الأدوية، وكمذيب للمواد العِطرية كالكالونيا والروائح، ويدخل في صناعة بعض مواد النِّجارة. وهذه الاستعمالات قسمان: قسم يُستعمل فيه الكحول كمذيبٍ فحسب، أو كمُضاف إلى بعض المواد، وهذا الاستعمال لا يُفقد الكحول ماهيته ولا خصائصه، وإنما يظل على حاله من التركيب ومن الإسكار، فهذا القسم حرام استعماله مطلقاً، وكمثالٍ عليه الكالونيا، فالكالونيا لا يحل إستعمالها وتظل نجسة، لأن النجاسة خالطتها وظل فيها الكحول المسكر على حاله، فهي مواد مخلوطة بخمرٍ نجسة. أما القسم الثاني الذي يستعمل فيه الكحول، ففيه يتحوَّل الكحول عن ماهيته، ويفقد خاصِّيته في الإسكار، ويتشكل منه ومن المواد الأخرى مادة جديدة لها مواصفات غير مواصفات الكحول، ففي هذه الحالة يجوز شرعاً استعمال هذه المواد وتعتبر طاهرة لأنه لم يعد فيها كحول بعد أن استحال فيها إلى مادة أخرى مختلفة كما تستحيل الخمر إلى خل. هذا من حيث الطهارة والنجاسة، واستعمال المواد بعد الخلط في الحالتين. أما من الذي يتولى عملية الخلط في الحالتين؟ فالجواب هو أنه لا يجوز أن يتولاها المسلم مطلقاً، فالمسلم لا يحل له أن يحمل الكحول ليخلطه بغيره، أما إن خلطه كافر وكان من القسم الثاني فإن هذه المادة الجديدة يجوز للمسلم استعمالها، وذلك كبعض مواد النِّجارة في الدِّهان، ففيها يختلط الكحول بمادة أخرى ليخرج من الخليط مادة جديدة، فهذه المادة لا يجوز للمسلم أن يصنعها، ولكن إن صنعها كافر جاز للمسلم أن يشتريها منه، ويستعملها كسائر المواد الطاهرة المباحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 هذه هي القاعدة في الخمر، وهذه هي الاستحالة، وحسب هذه القاعدة يُسار في جميع الحالات وجميع المواد. وإِنَّ من أعظم ما ابتُلي به المسلمون في هذه الأيام صناعة الأدوية وصناعة العطور، ففي الكثير منهما يدخل الكحول، لذا فالواجب على المسلم أن يتحرى حين شرائهما، فإن كان الدواء أو العطر يظل الكحول فيه على ماهيته وخاصِّيته فإن الدواءَ هذا والعطرَ لا يحل استعماله ويظل نجساً، أما إن استحال الكحول فيهما إلى مادة جديدة ذات خاصية جديدة فإنه يجوز حينئذ استعماله. وما يقال عن الخمر يقال عن شحوم الخنزير وشحوم الميتة مثلاً، فهذه الشحوم قد تدخل في صناعة الصابون فتفقد في هذه الصناعة ماهيَّتها وخصائصَها، ففي هذه الحالة يكون الصابون حلالاً ويكون طاهراً، ولا شيء في الانتفاع به، لأن الشحوم في صناعة الصابون تتحول إلى مادة أخرى مغايرة في الوصف والخاصِّية للشحوم فتحل لأجل ذلك. وكما قلنا في الخمور نقول في الشحوم، وهو أنه في صناعة الصابون لا يحل لمسلم أن يستعمل هذه الشحوم النجسة، أما إن صنعها الكافر وحوِّلها مع مواد أخرى إلى صابون، فإنه يجوز للمسلم حينئذ أن يستعملها وتكون طاهرة. فالقاعدة في الاستعمال والانتفاع هي أن النجاسات لا يحل لمسلمٍ الانتفاع بها استعمالاً أو بيعاً أو شراء أو هبة أو تحويلاً، ولكن إن تحولت ذاتياً إلى مواد جديدة، أو حوَّلها كفار إلى مواد جديدة حلَّت حينئذ، لأنها لم تعد نجاسات، وصار حكمها حكم أي شيء طاهر. الفصل الرابع أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة هناك أحكام وآداب تتعلق بقضاء الحاجة في البر والخلاء، وهناك أحكام وآداب تتعلق بقضاء الحاجة في البيوت والعمران. وقديماً أطلق الفقهاء على هذا الفصل آداب التَّخلِّي، يعنون بذلك أحكام الأفعال التي يُقام بها حين التبوُّل والتَّغوُّط. أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة في الخلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 1- يُسنُّ لمن أراد التبوُّل أو التغوُّط في الخلاء أن ينطلق بعيداً عن أعين الناس خاصة إذا أراد التغوط، بحيث لا يرى عورته أحد، ولا يُسمَع منه صوت، ولا تُشَمُّ منه رائحة، لحديث جابر قال «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأتي البرَاز حتى يتغيَّب فلا يُرى» رواه ابن ماجة. ورواه أبو داود ولفظه «انطلق حتى لا يراه أحد» وهذا الحديث رجاله رجال الصحيح، إلا إسماعيل بن عبد الملك قال فيه البخاري (يُكتب حديثه) . وروى النَّسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذهب المذهب أبعد» قال الترمذي (حديث حسن صحيح) . 2- ويُسن أن يستتر بشيء وأن يطلب مكاناً منخفضاً - وهو ما يسمى لغة بالغائط، إذ الغائط هو المكان المنخفض - بحيث يختفي عن الأنظار. وقد جرى التوسُّع في استعمال لفظة الغائط حتى صارت تطلق على البِراز نفسه، وعلى عملية التبرُّز، فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يرتاد لبوله مكاناً منخفضاً يتوارى فيه، وكان يتَّخذ لحاجته سِتراً، فعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال « ... وكان أحبَّ ما استتر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجته هَدَفٌ أو حائشُ نخل» رواه مسلم وابن ماجة والبيهقي وابن حِبَّان. قوله الهدف: أي كل مرتفع من كُومة رمل أو صخر أو جبل. وقوله الحائش: أي مجموعة أشجار متقاربة تستر مَن يقف خلفها. وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فلْيستدبرْه فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج» رواه أحمد والبيهقي. ورواه ابن ماجة وأبو داود جزءاً من حديث. قال ابن حجر (إسناده حسن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 3- وإذا لم يكن مع المسلم ماء أخذ معه ثلاثة أحجار أو أكثر، إلا أن تكون الأرض ذات حجارة فيأخذ الحجارة منها، ويُغْني عن الأحجار أيُّ صلب طاهر أملس يصلح للإنقاء. أَمَّا أنْ يكون صلباً فلأنَّ المَدَر من التراب مثلاً إذا ابتلَّ تفتت فلم يُزِل النجاسة، وأَمَّا أن يكون طاهراً فواضح، فالنجس لا يصلح للتطهير، وأَمَّا أَنْ يكون أملس صالحاً للإنقاء فلأن الحجارة الخشنة مثلاً لا تصلح لإزالة النجاسة، وربما جرحت الموضع. قد يُقال بوجوب الاستطباب بالحجارة فحسب دون سواها من الأشياء لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر سواها، ولم يُنقل أنه استعمل غيرها فتكون هي المطلوبة وحدها، فنجيب على ذلك بالحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنما أنا لكم مثل الوالد أُعلِّمكم، إذا ذهب أحدكم إلى الخلاء فلا يستقبل القِبلة ولا يستدبرها ولا يستنج بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الرَّوث والرِّمَّة» أخرجه النَّسائي وابن ماجة وابن خُزَيمة والبيهقي. قوله الرِّمَّة: أي العظم البالي، والمراد مطلق العظم. فهذا الحديث استثنى الروث والرِّمَّة من المواد الصالحة للاستجمار، وتخصيصهما بالنهي هو دليل على صلاح ما سواهما، إذ لو كان الأمر بالاستجمار محصوراً بالأحجار فقط لنهى الرسول عليه الصلاة والسلام عما سواها مطلقاً ولم يخصِّص، ولَمَا كان لتخصيص الرَّوث والرِّمَّة بالنهي فائدة. وبذلك يظهر أن كل ما يصلح لإزالة النجاسة يجوز الاستجمار به كالخشب والورق والخِرق والمعدن، وما ذِكْرُ الحجارة في الأحاديث إلا من باب الأعمِّ الأغلب لا غير. وقد سبق أن بيَّنَّا أن الغاية من الغسل، أيِّ غسلٍ، هي الإنقاء، ونقول هنا إن ثلاثة من الأحجار ليست مقصودة لذاتها بقدر ما يُقصد بها الإنقاء، فإن تحقَّق الإنقاء بثلاثة أو أكثر أو أقل فقد حصل المطلوب، ولا يجب فيه عدد مخصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 4- ويُسنّ لمن أراد التخلي أن يرتاد المكان الرَّخو حتى لا يصيبه رشاش البولِ للحديث الذي مرَّ سابقاً وفيه «أما أحدهما فكان لا يستتر من البول» ومدلول القول هذا أن من بال في موضع صلب لم يأمن رَشاش البول، فيقع تحت النهي الوارد في الحديث، ولذا وجب أن يبول في مكان رخو ذي تراب ناعم، إلا أن يبول على سطح صلب مائل يبعد عنه الرَّشاش فلا بأس. فالعبرة هي الاستتار والتَّنزُّه من رشاش البول، فهو العلة، فكل ما يحقق الاستتار والتَّنزُّه واجب. 5- ولا يجوز لمسلم أن يتخلَّى في ظلٍّ يستظلُّ فيه الناس، أو في طريق يسلكها الناس، أو في مكان يجلسون فيه، لأن فيه إضراراً بالناس وهو لا يجوز، وللحديث الذي رواه أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «اتَّقوا اللعَّانَيْن، قالوا: وما اللعَّانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلَّى في طريق الناس، أو في ظلهم» رواه مسلم وأحمد. ورواه أبو داود والبيهقي بلفظ «اتَّقوا اللاعِنَيْن، قالوا: وما اللاعِنان؟» . قال الخطَّابي: المراد باللاعِنَيْن الأمران الجالبان للَّعن الحاملان الناس عليه والداعيان إليه، وذلك أن مَنْ فعلهما لُعن وشُتم، يعني عادة الناس لعنه، فلمَّا صارا سبباً أُسند اللعن إليهما على طريق المجاز العقلي. أما إن كان الظِّلُّ لا يصل إليه الناس أو لا يستظلون فيه فلا بأس بالبول فيه. 6- ويُكره للمسلم أن يتخلى في الحُفَر والشقوق والجُحور، لأنها مساكن كائنات حيَّة أخرى يُؤذيها البول، فتؤذي المتبوِّل مِن ثَمَّ، لما روى قتادة عن عبد الله بن سرجس أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يبولنَّ أَحدكم في جُحر، قالوا لقتادة: وما يُكره من البول في الجُحْر؟ قال: يقال إنها مساكن الجن» رواه النَّسائي وأحمد وأبو داود والبيهقي. وصححه ابن خُزَيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 7- يُشرع للمسلم أن يستعمل يده اليسرى لا اليمنى في الاستنجاء والاستجمار لما رُوي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال «قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم يعلمكم، حتى يعلمكم الخِراءَة، فقال: أجل، إنه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه، أو يستقبل القِبلة، ونهى عن الرَّوث والعظام وقال: لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار» رواه أبو داود والبيهقي. ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ولما رُوي عن أبي قتادة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يمسَّ الرجل ذَكَره بيمينه» رواه الترمذي وقال (هذا حديث حسن صحيح) . 8- ويُكره أن يتكلم مع غيره أو مع نفسه بصوت مسموع، لما رُوي عن ابن عمر «أن رجلاً مرَّ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يبول، فسلم فلم يرد عليه» رواه مسلم وابن ماجة والنَّسائي وأبو داود والترمذي. وقد يتساءل أحدهم: لماذا لا يكون حكم الكلام في أثناء التَّغوُّط التحريم وليس الكراهة للحديث الذي رواه أبو سعيد، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفَيْن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك» رواه أحمد والبيهقي وأبو داود وابن ماجة؟ فأجيب: إن هذا الحديث لا يدل على أن المقت واقع على الكلام في أثناء التغوط، وإلا لكان الحديث صالحاً للدلالة على التحريم، وإنما يدل الحديث على أن المقت واقع على كشف العورة للغير والحديث معه وهو على حاله فهذا لا شك حرام، فقد روى ابن حِبَّان الحديث بسياق يفيد هذا المعنى «لا يقعد الرجلان على الغائط يتحدثان، يرى كل واحد منهما عورة صاحبه فإن الله يمقت على ذلك» فالمقت الذي يفيد التحريم واقع على رؤية كل واحد منهما عورة صاحبه، وليس على مجرَّد التحدُّث والكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ويدل على كراهة الكلام أيضاً أن حديث ابن عمر المارَّ رواه أبو داود ثم قال: ورُوي عن ابن عمر وغيره «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تيمَّم، ثم ردَّ على الرجل السلام» ورواه أيضاً ابن ماجة. وكذلك الحديث المروي عن المُهاجِر بن قُنفذ «أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلم عليه فلم يردَّ عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه فقال: إني كرهت أن أذكر الله عزَّ وجلَّ إلا على طُهر أو قال: على طهارة» رواه أبو داود وأحمد. فهذان الحديثان يبيِّنان العلَّة من عدم التكلم وهي كراهة ذكر الله بدون طهارة وهذه قرينة صالحة لصرف الحكم إلى الكراهة فحسب، وإلى هذا ذهب عامة الفقهاء قديماً وحديثاً. 9- ويُكره أن يستقبل القبلة وأن يستدبرها في أثناء قضاء الحاجة، إلا أن يستتر بشيء فلا بأس، هذا إن كان قضاء الحاجة في الخلاء. أما إن كان ذلك في المراحيض المتَّخَذة في البيوت فلا بأس من الاستقبال والاستدبار، لأن الجدران تستر مَن خلفها. وقد وردت عدة أحاديث تعالج هذا الموضوع، فلْنستعرضها لاستنباط الأحكام منها: 1- عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القِبلة ولا يستدبرها» رواه مسلم وأحمد والدارمي. 2- عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القِبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شَرِّقوا أو غرِّبوا، قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بُنيت قِبَل القِبلة فننحرف عنها ونستغفر الله، قال: نعم» رواه مسلم وأحمد والبخاري وابن ماجة وأبو داود. 3- عن ابن عمر قال «رَقِيتُ على بيت أختي حفصة، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعداً لحاجته مستقبل الشام مستدبر القِبلة» رواه مسلم والبخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 4- عن أبن عمر قال « ... فحانت مني التفاتة، فرأيت كنيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبل القِبلة» رواه البيهقي وابن ماجة بسند ليِّن. 5- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال « ... فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لَبِنَتين مستقبل بيت المقدس لحاجته» رواه ابن حِبَّان والدارقطني والنَّسائي وابن ماجة. 6- عن عائشة رضي الله عنها قالت «ذُكِر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومٌ يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القِبلة، فقال: أراهم قد فعلوها، استقبلوا بمقعدتي القبلة» رواه ابن ماجة وأحمد. ورواه الدارقطني وقال (هذا أضبط إسناد) ، وحسَّنه النووي. 7- عن مروان الأصفر قال «رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبِل القِبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نُهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نُهي عن ذلك في الفضاء فإذا كان بينك وبين القِبلة شيء يسترك فلا بأس» رواه أبو داود والبيهقي وابن خُزَيمة. قال ابن جحر (أخرجه أبو داود والحاكم بسند لا بأس به) . 8- عن جابر بن عبد الله قال «نهى نبي الله- صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القِبلة ببول فرأيته قبل أن يُقبَض بعام يستقبلها» رواه أبو داود وأحمد وابن ماجة. ورواه التِّرمذي وحسَّنه وصحَّحه البخاري وابن خُزَيمة. 9 - عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من أتى الغائط فلْيستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فلْيستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج» رواه أحمد والبيهقي. ورواه ابن ماجة وأبو داود جزءاً من حديث. وقد مرَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الحديث الأول يفيد عموم النهي عن استقبال القِبلة واستدبارها، وكذلك الحديث الثاني والشطر الأول من الحديث الثامن دون تخصصٍ بالفضاء - أي بالخلاء - أو بالعمران. والحديث الثالث والحديث الرابع والحديث الخامس والحديث السادس والشطر الثاني من الحديث الثامن، تفيد كلها استقبال القِبلة أو استدبارها من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقوله، وجاء الحديث الثامن خاصةً بتوقيت الاستقبال بعامٍ قبل وفاته عليه الصلاة والسلام. والناظر في هذه النصوص يتوهم للوهلة الأولى أن هناك تعارضاً بينها يستوجب الذهاب بسببه إلى القول بالنَّسخ، فيقول إن أحاديث الاستقبال نسخت أحاديث النهي، لا سيما وأن الحديث الثامن هو المتأخر، والمتأخر ينسخ المتقدم. ولكن حيث أن إعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها، وحيث أنه لا يُقال بالنسخ إلا عند تعذُّر الجمع، وبالتدقيق في هذه النصوص نجد أن الجمع والتوفيق بينها ممكن، وأن أحاديث النَّهى تُحمل على الفضاء والصحراء، وتبقى أحاديث الاستقبال والاستدبار معمولاً بها في البيوت والعمران. ذلك أن أحاديث الاستقبال والاستدبار تصلح لتخصيص عموم النهى الوارد في عدد من الأحاديث ولا تنسخها، والقول بالتخصيص أولى من القول بالنسخ، يشهد لهذا الفهم أمران اثنان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 أ - إنَّ الأحاديث التي ذكرت الاستقبال والاستدبار واضح فيها بالقرائن أنها في البيوت والعُمران بدلالة «فرأيت كنيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» و «على لَبِنَتين مستقبلَ بيت المقدس» و «استقبلوا بمقعدتي القِبلة» فهذه النصوص تعالج الاستقبال والاستدبار في البيوت، لأن الكُنُف واللَّبِنات تكون في البيوت والعُمران، وحديث ابن عمر الثالث يفيد المعنى نفسه، إذ يقول ابن عمر «رَقِيتُ على بيت أختي حفصة، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعداً لحاجته» والمعلوم أن بيت حفصة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقع في وسط بيوت المدينة إلى جوار المسجد، ولا يُتصوَّر أن يرى ابن عمر وهو على ظهر بيت أخته رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يبول أو يتبرَّز، إلا أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قريباً منه في أحد البيوت وليس في الصحراء، لا سيما وأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا ذهب لحاجته أبعد وتغيَّب حتى لا يُرى. ب - الحديث السابع نصٌّ صريح في التفريق بين الصَّحراء وبين العمران، فقول ابن عمر «إنما نُهي عن ذلك في الفضاء» وإن كان قولاً لصحابي، إلا أنه يأخذ حكم الرفع بدلالة لفظة (نُهي) ، فهذه اللفظة تدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي نهى عن ذلك في الفضاء، ومفهوم النص هذا أن النهي لا يشمل البيوت والعمران، أي بدلالة مفهوم المخالفة. فهذان الأمران يفيدان أن النهي عن الاستقبال والاستدبار إنما هو في الفضاء، أي في الخلاء وليس في البيوت، وعلى هذا المعنى يُحمل الحديث الثامن، أي أن جابراً لا بد وأن يكون قد رآه في البيوت وليس في الصحراء، أي يُحمل الحديث العام على الأحاديث المخصِّصة. بقيت شُبهتان لا بد من التنويه بهما، هما: أ - من أين جاء القول إن اللَّبِنَات والكُنُف تكون في العمران؟ ب - كيف نفسر قول أبي أيوب الأنصاري «فوجدنا مراحيض قد بُنيت قِبَل القِبلة فننحرف عنها ونستغفر الله» ؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 أما الشبهة الأولى فإنه وإن كان الواقع يكشفها، فإن عندنا نصاً يزيلها، هو ما جاء على لسان عائشة في حديث الإفك الطَّويل « ... فخرجتُ أنا وأم مِسْطح قِبَل المناصع مُتَبَرَّزِنا، لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتَّخذ الكُنُف قريباً من بيوتنا ... » رواه البخاري ومسلم وأحمد. والدلالة واضحة. وأما الشبهة الثانية فهي أن قول أبي أيوب وفعله وفعل عدد من الصحابة تحتمل أن هؤلاء الصحابة لم يصلهم التخصيص، فظلوا يعممون حكم النهي، وهو على أية حال لا يخرج عن كونه فهماً لصحابةٍ، وليس دليلاً يصمد أمام الأحاديث المرفوعة. بقي الحديث التاسع «من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج» فهذا النص هو قرينة تصرف أحاديث النهي إلى الكراهة، وليس إلى التحريم كما يقول مالك والشافعي، وأحمد في إحدى الروايات عنه، وإسحق والشعبي. والخلاصة هي أن المكروه هو استقبال القِبلة أو استدبارها في أثناء قضاء الحاجة في الخلاء دون اتخاذ سترة، أما إن اتخذ سُترة له ثم استقبلها أو استدبرها فلا حرج عليه بعد ذلك، كما أنه لا حرج عليه في استقبال القِبلة واستدبارها في البيوت، لأن الكُنُف لا قِبلة لها. أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة في البيوت والعُمران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 1- يُسن للمسلم إذا أراد الدخول إلى المرحاض أن يقدِّم رجله اليسرى، ويؤخِّر اليمنى تكريماً لها، ويقول [بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث] لما روى أنس بن مالك «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث» رواه البخاري وأحمد ومسلم والتِّرمذي والنَّسائي. وفي رواية للبيهقي بلفظ «إذا أراد أن يدخل» . ورواه ابن أبي شيبة بلفظ «كان إذا دخل الكنيف قال: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث» بزيادة «بسم الله» . يشهد لهذه الزيادة ما رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله» رواه ابن ماجة بسند صحيح. قوله الخُبُث: أي ذُكْران الجن. وقوله الخبائث: أي إناثُهم. وإذا خرج الشخص قدَّم الرِّجل اليمنى إكراماً لها وأخَّر اليسرى وقال [غُفْرانَك] لما روى يوسف بن أبي بُردة قال: سمعت أبي يقول: دخلت على عائشة فسمعتها تقول «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الغائط قال: غُفرانَك» رواه ابن ماجة والترمذي وأحمد وأبو داود وابن خُزَيمة. 2- الأصل في المراحيض والحمَّامات أن يكون فيها ماء، أو أن يكون الماء قريباً منها، والمستحبُّ أن يستنجي بالماء لأنه أبلغ في الإنقاء، ولكن إن استجمر بالأحجار في البيت جاز له ذلك، وإنْ جمع بين الأحجار والماء جاز له ذلك أيضاً، لأن الأحاديث ورد فيها الأمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 3- يكره له أن يبول في مُسْتَحَمِّه، وهو المكان الذي يستحم فيه عادة، لأن البول ربما بقي على أرض الحمَّام، فإذا استحمَّ فيه أصابه منه رشاشٌ فتنجَّس، وقد نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عنه، فعن عبد الله بن مغفَّل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يبولَنَّ أحدُكم في مُستَحَمِّه، فإنَّ عامَّة الوسواس منه» رواه ابن ماجة والنَّسائي وأبو داود وأحمد والترمذي. وهذا إن لم يكن للمُسْتَحَمِّ بالوعةٌ أو لم تكن أرضه ليِّنة تشرب البول فإن كان هذا أو ذاك فلا كراهة. 4- يجوز التبول في الأواني للحاجة خاصةً لمن به مرض، للحديث الذي روته أُميمة بنت رُقَيْقة قالت «كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - قدح من عَيْدانٍ تحت سريره يبول فيه بالليل» رواه البيهقي وأبو داود والنَّسائي. قوله العَيْدان: أي خشب النخل. ولما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «يقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى إلى علي لقد دعا بالطَّسْت ليبول فيها فانْخَنَثَتْ نفسُه وما أشعر، فإلى مَن أوصى؟» رواه النَّسائي والبيهقي. ورواه مسلم والبخاري من طريق الأسود بن يزيد قال «ذكروا عند عائشة أن علياً كان وصيَّاً فقالت: متى أَوْصَى إليه؟ فقد كنت مُسْنِدَتَه إلى صدري، أو قالت: حَجْري، فدعا بالطَّست، فلقد انخنثَ في حَجْري وما شعرت أنه مات، فمتى أَوْصَى إليه؟» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 5- يجوز للمسلم البول جالساً وقائماً أيَّهما فعل جاز ولكن إن كانت الأرض التي يبول عليها صلبة، وخشي من رشاش البول بال جالساً، فقد رُوى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه بال واقفاً في مكان رخو، فعن أبي وائل قال «كان أبو موسى يُشدِّد في البول ويبول في قارورة ويقول: إن بني إسرائيل كان إذا أصاب جِلدَ أحدهم بولٌ قرضه بالمقاريض، فقال حذيفة: لَوَدِدْتُ أن صاحبكم لا يُشدد هذا التَّشديد، فلقد رأيتُني أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتماشى، فأتى سُباطةً خلف حائط، فقام كما يقوم أحدكم، فبال فانتبذت منه، فأشار إليَّ، فجئت فقمت عند عَقِبِه حتى فرغ» رواه مسلم والبخاري وأحمد. قوله سُباطة: أي كُناسة ومزبلة. ورُوي أنه - صلى الله عليه وسلم - بال جالساً، فعن عبد الرحمن بن حَسَنة قال «خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يده كهيئة الدَّرَقة فوضعها ثم جلس خلفها فبال إليها، فقال بعض القوم: انظروا يبول كما تبول المرأة ... » رواه النَّسائي والبيهقي. قوله الدَّرَقة: أي التُّرس إذا كان من الجلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 أما حديث جابر بن عبد الله قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبول الرجل قائماً» رواه البيهقي وابن ماجة. فهو ضعيف جداً، في سنده عدي بن الفضل وهو متروك متفق على تضعيفه. وأما ما رُوي أن عائشة رضي الله عنها قالت «مَن حدَّثكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال قائماً فلا تُصدِّقوه، ما كان يبول إلا جالساً» رواه النَّسائي وأحمد وابن ماجة والترمذي. فلا يقوى على معارضة حديث حذيفة، لأن حديث حذيفة أصح من حديث عائشة الذي فيه شَرِيك، وشريك صدوق يخطيء كثيراً، على أن حديث عائشة يدل على مبلغ علمها فحسب، وهي تحدَّثت عن بول الرسول عليه الصلاة والسلام جالساً ولم تره يبول واقفاً، والمعلوم أن الرجل يبول جالساً في الكنيف، ويبعُد جداً أن يبول فيه قائماً لصلابة أرضه عادة، ولذا فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يبول في الكنيف إلا جالساً، وهذا ما علمت به عائشة ورأته وتحدثت عنه، فلا ينفي بولَه عليه الصلاة والسلام في العراء واقفاً لرخاوة الأرض هناك، وبذلك فلا تعارض بين الحديثين. قال ابن حجر (لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن البول قائماً شيء) . والخلاصة هي أن البول قائماً يجوز كجواز البول جالساً، ويتحرَّى في الحالتين ألا يصيبه رَشاش البول. الفصل الخامس سُنَنُ الفِطرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 اختلف العلماء في معنى لفظة الفِطْرة، فقال الخطَّابي: ذهب أكثر العلماء إلى أنها السُّنَّة، أي سنن الأنبياء. وقال أبو هريرة والزُّهري وأحمد: هي الإسلام. قال ابن عبد البرِّ: وهو المعروف عند عامَّة السلف. وقال ابن حجر: هي الدين، وعزاه إلى طائفة من العلماء. وجزم به أبو نُعيم. وقد استدل الفريقان من جملة ما استدلا به بقوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ للدِّيْنِ حَنِيْفاً فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيْلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّيْنُ القَيِّمُ ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُوْنَ} الآية 30 من سورة الروم. وبما روى مسلم عن عياض بن حمار المُجاشِعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خُطبته «ألا إنَّ ربي أمرني أن أُعلِّمكم ما جهلتم مما علَّمني يومي هذا، كل مال نَحلتُه عبداً حلال، وإني خلقتُ عبادي حُنفاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ... » . وذكر ابن عطيَّة في تفسيره أن جماعة من العلماء قالوا: إن الفطرة هي الملَّة، دون أن يُسمِّيهم، ويظهر أنهم استدلُّوا على رأيهم بما رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «ما من مولود يولد إلا وهو على الملَّة» . وفي رواية ثانية له «إلا على هذه الملَّة حتى يبين عنه لسانُه» . وقال أبو شامة: أصل الفطرة الخِلقة المبتدأة، ومنه قوله عزَّ وجلَّ {فاطِرَ السمواتِ والأرضِ} أي المبتديء خلقهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 والناظر في هذه الأقوال يجد أنها غير متعارضة، فالخلقة المبتدأة هي أصل الفطرة، والسُّنة والدين والإسلام والملَّة هي المقصودة من هذه اللفظة في الأحاديث كقوله عليه الصلاة والسلام «كل مولود يولد على الفطرة ... » وقوله عليه الصلاة والسلم «عشْرٌ من الفطرة ... » ذلك أنَّ السُّنة والدين والإسلام والملة قد جاءت متوافقة مع فطرة الإنسان وخَلْقِهِ، وإن شئتَ قلتَ إن معناها في الأحاديث النبوية الإيمان الفطري. أما السُّنن فالمقصود بها مجموعة الأفعال التي اتفقت عليها الشرائع كلها. وهذه السنن كثيرة نصَّت الأحاديث على إحدى عشرة سُنة منها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «عشرٌ من الفطرة: قصُّ الشارب، وإعفاءُ اللحية، و السواك ُ، واستنشاقُ الماء، وقصُّ الأظفار، وغسلُ البراجم، ونتفُ الإبط، وحلقُ العانة، وانتقاصُ الماء، قال زكرياء: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة» رواه مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة والنَّسائي. قوله البراجم: أي عُقَد الأصابع. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «الفِطرة خمسٌ: الاختتان والاستحداد وقصُّ الشارب وتقليمُ الأظفار ونتفُ الإبط» رواه مسلم والبخاري وأحمد. قوله الاستحداد: أي حلق العانة. وهذه السنن في الأحاديث بلغت إحدى عشرة سُنَّة، وقد سبق أن بحثنا الاستنجاء، وسنبحث بإذن الله الاستنشاق والمضمضة في بحث الوضو، فيتبقى منها ثمانٍ هي: السواك و قص الشارب وإعفاء اللحية ونتف الإبط وقصُّ الأظفار وغسل البراجم وحلق العانة والختان. ونبدأ بالسواك. السواك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 السِّواك - بكسر السين - يطلق على الفعل، ويطلق على العود أو الشيء الذي يُتسوَّك به فيقال ساك فمه يسُوكُه سَوْكاً إذا نظَّفه بالسواك، والجمع سُوُكٌ ككُتُب، هذا في اللغة. ولا يختلف تعريفه في اللغة عنه في اصطلاح الفقهاء، فقد عرفوه بأنه استعمال عود ونحوه في الأسنان لإزالة ما يعلق بها من فضلات الطعام، وما يعلوها من صُفرة. وقد وردت في السواك الأحاديث التالية: 1- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «السِّواك مَطْهرةٌ للفم مرضاةٌ للرَّبِّ» رواه أحمد والنَّسائي وابن حِبَّان وابن خُزَيمة. وصحَّحه النووي. 2- عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» رواه مسلم والبخاري وابن خُزَيمة وأبو داود والترمذي. وفي روايةٍ لأحمد « ... لأمرتهم بالسواك مع الوضوء» . وفي رواية للبيهقي « ... لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء» . 3- عن المِقْدام بن شريح عن أبيه قال «سألت عائشة قلت: بأي شيء كان يبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته؟ قالت: بالسِّواك» رواه مسلم وأبو داود وأحمد والنَّسائي والبيهقي. 4- عن حذيفة قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام ليتهجَّد يشُوصُ فاهُ بالسواك» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأبو داود والنَّسائي. 5- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه « ... فقال ائتني بكوز من ماء، فغسل كفَّيه ووجهه ثلاثاً، وتمضمض ثلاثاً، فأدخل بعض أصابعه في فيه، واستنشق ثلاثاً، وغسل ذراعيه ثلاثاً، ومسح رأسه واحدة ... فقال: أين السائل عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ كذا كان وضوء نبي الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه أحمد وحسَّنه ابن حجر. 6- عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا أعُدُّ وما لا أُحصي يستاك وهو صائم» رواه أحمد وأبو داود. ورواه الترمذي وحسَّنه هو وابن حجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 7- عن أبي سعيد رضي الله عنه قال «أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يَستنَّ، وأن يمَسَّ طيباً إن وجد» رواه البخاري ومسلم وأحمد. ووردت أحاديث أخرى، إلا أننا نكتفي بهذه الأحاديث السبعة لأن فيها الغُنية. هذه الأحاديث كلها تفيد مشروعية السواك، وتحثُّ عليه وتندب إليه حتى عدَّه الفقهاء من السُّنن المؤكَّدة. قال النووي (بإجماعِ مَن يُعتدُّ به في الإجماع) وتشدَّد داود وإسحق بن راهُويه في السواك، فرُوي عن داود أنه قال بوجوبه في الصلاة، إلا أن الصلاة لا تبطل بتركه، وقال إسحق بن راهُويه إنه واجب تبطل الصلاة بتركه عمداً. والسواك مسنون في كل وقت لهذه الأحاديث، ولقد أحسن النووي في بحثه لهذا الموضوع بقوله (السواك مستحبٌّ في جميع الأوقات، ولكن في خمسة أوقات أشد استحباباً: أحدها عند الصلاة سواء كان متطهِّراً بماء أو تراب أو غير متطهِّر، كمن لم يجد ماء ولا تراباً، الثاني عند الوضوء، الثالث عند قراءة القرآن، الرابع عند الاستيقاظ من النوم، الخامس عند تغيُّر الفم، وتغيُّره يكون بأشياء منها ترك الأكل والشرب، ومنها أكل ما له رائحة كريهة، ومنها طول السكوت، ومنها كثرة الكلام) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 أما أن السواك مندوب وليس فرضاً، فلأن الحديث الأول يقول «مرضاة للرب» ولا تكون مرضاة الله سبحانه إلا بالقيام بواجب أو بمندوب، فجاء قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الثاني «لولا أن أشقَّ على أمتي» قرينة تصرف الأمر إلى الندب، وعلى ذلك يُحمل الحديث السابع على إفادة الندب، والحديث الخامس يدل على أن التسوك لا يجب له عود الأراك ولا حتى فرشاة بل يكفي فيه إمرار الأصابع على الأسنان «فأدخل بعض أصابعه في فيه» وروى أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «تُجْزِيء من السواك الأصابع» رواه البيهقي من عدة طرق. ورواه ابن عدي والدارقطني. وقال فيه ابن حجر (لا أرى بسنده بأساً) فإذا كانت الأصابع تكفي لنيل الثواب، فإن ما هو أفضل منها في التنظيف كالفرشاة أو وضع معاجين خاصة على الأصابع لدلك الأسنان بها هو أولى وأحق، لأن النظافة هي المطلوبة وهي بالعود أو بفرشاة الأسنان تتحقق بشكل أفضل. ولسنا نريد أن نذكر فوائد المسواك الطِّبِّيَّة التي توصل إليها الطب الحديث، فهذا ليس عملنا، ويمكن تصنيفه في باب دلائل النبوَّة. والسواك مسنون في الليل والنهار، وفي الإفطار والصوم على السواء، وإن ما ذهب إليه الشافعي والحنابلة وإسحق وأبو ثور ونُسب إلى عطاء ومجاهد، من كراهية السواك بعد الزوال للصائم مستدلين عليه بحديث رواه أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال « ... والذي نفسي بيده لَخُلوفُ فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك ... » رواه البخاري ومسلم. هو رأي غير صحيح خالف الشافعيَّ فيه حتى أتباعه، أذكر منهم أبا شامة والعِزَّ بن عبد السلام والنووي والمُزَني وابن حجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 قال العِزُّ: وقد فضَّل الشافعي تحمُّل الصائم مشقة رائحة الخُلوف على إزالته بالسواك، مستدلاً بأن ثوابه أطيب من ريح المسك، ولا يُوافَق الشافعيُّ على ذلك، إذ لا يلزم من ذكر ثواب العمل أن يكون أفضل من غيره، لأنه لا يلزم من ذكر الفضيلة حصول الرُّجحان بالأفضلية، ألا ترى أن الوِتر عند الشافعي في قوله الجديد أفضل من ركعتي الفجر، مع قوله عليه الصلاة والسلام «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» وكم من عبادة قد أثنى الشارع عليها وذكر فضيلتها وغيرُها أفضلُ منها، وهذا من باب تزاحم المصلحتين اللتين لا يمكن الجمع بينهما، فإن السواك نوع من التَّطهُّر المشروع لأجل الرَّبِّ سبحانه، لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الأفواه تعظيم لا شك فيه، ولأجله شُرع السواك، وليس في الخُلُوف تعظيم ولا إجلال فكيف يقال إن فضيلة الخُلُوف تربو على تعظيم ذي الجلال بتطييب الأفواه؟ . وخلص العزُّ إلى القول: والذي ذكره الشافعي رحمه الله تخصيصٌ للعام بمجرد الاستدلال المذكور المعارَض بما ذكرنا. وقال ابن حجر العسقلاني (استدلال أصحابنا بحديث خُلُوف فم الصائم على كراهة الاستياك بعد الزوال لمن يكون صائماً فيه نظر) . والصحيح هو أن استدلال هؤلاء على كراهة الاستياك بعد الزوال للصائم بحديث الخُلُوف هو استدلال لا يصلح لتخصيص الأحاديث الحاثَّة على استحباب السواك على العموم لأن حديث الخُلُوف هو في موضوع مغاير لموضوع أحاديث الاستياك، فلا يصلح مخصِّصاً. وممن ذهب إلى عدم كراهة الاستياك بعد الزوال إبراهيم النخعي وابن سيرين وعروة ومالك بن أنس وأصحاب الرأي، ورُوي عن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أجمعين. قصُّ الشَّارب وردت في قص الشَّارب الأحاديث التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 1- عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «خالفوا المشركين، وَفِّروا اللحى وأَحفُوا الشَّوارب» رواه البخاري. ورواه مسلم بلفظ «خالفوا المشركين، أَحفوا الشوارب وأَوفُوا اللحى» . 2- عن زيد بن أرقم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «مَن لم يأخذ من شاربه فليس منا» رواه أحمد والنَّسائي. ورواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. 3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «جُزُّوا الشَّوارب وأَرْخوا اللحى، خالفوا المجوس» رواه مسلم وأحمد. 4- عن أنس رضي الله عنه قال «وُقِّتَ لنا في قصِّ الشَّارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة» رواه مسلم وابن ماجة والترمذي وأحمد. 5- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «أَعْفُوا اللحى، وخُذوا الشَّوارب، وغيِّروا شيبكم ولا تشبَّهوا باليهود والنصارى» رواه أحمد وسنده حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وقد ذهب الفقهاء في تفسير ألفاظ الأحاديث هذه ودلالاتها مذاهب شتى، فقال النووي (المختار أنه يقُص حتى يبدو طرف الشَّفة ولا يُحفيه من أصله) وفسَّر رواية «أَحفُوا الشوارب» بأنها تعني أَحفُوا ما طال عن الشَّفتين. وتعقَّبه الشَّوكاني فقال (الإحفاء ليس كما ذكره النووي من أن معناه أَحفوا ما طال عن الشفتين، بل الإحفاء الاستئصال كما في الصِّحاح والقاموس والكشَّاف وسائر كتب اللغة) . وقال مالك (يُؤخذ من الشَّارب حتى تبدو أطراف الشَّفة) وذهب إلى منع الحلق والاستئصال، بل كان يرى تأديب من حلق الشارب، ورُوي عنه أنه قال: إحفاء الشارب مُثْلَة. وذهب أبو حنيفة وتلاميذه زُفَر وأبو يوسف ومحمد إلى أن الإحفاء أفضل من التقصير. وإلى قولهم ذهب المُزَني والربيع من الشافعيين، ورُوي عن أحمد أنه كان يُحفي شاربه إحفاءً شديداً، ويُفتي بجواز الإحفاء والقص، وبالتخيير بينهما. وممن ذهب إلى الإحفاء من الصحابة عبد الله بن عمر وأبو هريرة وجابر وأبو سعيد ورافع بن خديج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وبالرجوع إلى ألفاظ الأحاديث والتدقيق فيها يتبين أنها في مجملها تفيد التَّقصير الذي يتحقق فيه قطع ما يصل إلى الشَّفة والفم، وأن هذه الألفاظ لا تخرج عن هذا المعنى، فالقصُّ والأخذ من الشارب والإحفاء والجزُّ كلها تؤدِّي معاً هذا المعنى، ولا يخرج عنه إلا الحلق، وإلا التطويل بحيث يتهدَّل الشارب على الشَّفة والفم. والدليل على هذا الاستثناء الحديث الرابع «وُقِّت لنا في قصِّ الشارب ... ألاَّ نترك أكثر من أربعين ليلة» فهذا التوقيت للقصِّ بأربعين ليلة يدل على عدم الحلق وعدم التطويل، أما كيف؟ فذلك أن من يترك شاربه أربعين ليلة دون قصٍّ لا شك سيطول بحيث يتنافى مع القول بحلق الشارب، إذ لو كان الحلق هو المطلوب لكان التوقيت لا يتعدَّى الأسبوع، ثم إن التوقيت بأربعين ليلة يتنافى أيضاً مع القول بالتطويل إلى درجة التَّهدُّل على الشَّفة والفم، فالحكم المستنبط من مجمل النصوص هو التقصير وليس الحلق ولا التطويل الكثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 أما حكم التقصير وقصِّ للشارب فهو الندب، وهو سُنَّة مؤكدة، لا أعلم فقيهاً خالف هذا. أما ما جاء في الأحاديث من ألفاظ مثل «ولا تَشَبَّهوا باليهود والنصارى» و «خالفوا المشركين» و «خالفوا المجوس» و «مَن لم يأخذ من شاربه فليس منا» فهي لا تدل على الوجوب، وهي لا تخرج عن كونها تفيد تشديداً في طلب هذا المندوب ليس غير، فهذه مثلها مثل ما جاء في الحديث المروي عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. فهذا الحديث طلب مخالفة اليهود والنصارى في صبغ الشعر الأشيب، ولم يقل فقيه إن صبغ الشيب فرض، ولا نُقل القول بالوجوب عن أحد من الصحابة. ومثل ما جاء في الحديث المروي عن شدَّاد بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «خالفوا اليهود فإنهم لا يُصلُّون في نعالهم ولا خِفافهم» رواه أبو داود. ولم يقل فقيه إن الصلاة في النعال والخفاف واجبة. وقد روى أحمد حديثاً - قال عنه الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا القاسم وهو ثقة - يجمع ما سبق ويزيد عليه أنقله بتمامه، عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مشيخة من الأنصار بيض لِحاهم فقال: يا معشر الأنصار حمِّروا وصفِّروا وخالفوا أهل الكتاب، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأْتزرون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تسرولوا واتَّزِروا، وخالفوا أهل الكتاب، قال، فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتخفَّفون ولا ينتعلون، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فتخفَّفوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب، قال فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يقصُّون عثانينهم ويُوفِّرون سِبالَهم، قال فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قُصُّوا سِبالَكم ووفِّروا عثانينَكم، وخالفوا أهل الكتاب» . ولا يجهل أحد أن صبغ الشعر بالأحمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 كالحنَّاء أو بالأصفر كالكَتَم، ولبس السراويل والأُزُر، والصلاة في النعال والخفاف كل ذلك غير واجب، فكذلك قصُّ السِّبال أي الشوارب وتوفير العثانين أي اللحى غير واجبين، وإن جاء النص بأن يُفعل كله من باب مخالفة أهل الكتاب. والخلاصة، هي أن قص الشارب وتقصيره، بحيث لا يطول كثيراً، أو لا يتهدل على الشفتين هو سُنَّة مؤكدة، وأنَّ كلا الحلقِ والتطويلِ مخالف لهذه السُّنَّة. إعفاءُ اللحية وردت في إعفاء اللحية الأحاديث التالية: 1- حديث عائشة المار، وفيه «عشْرٌ من الفطرة: قصًّ الشارب، وإعفاء اللحية ... » رواه مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة والنَّسائي. 2- حديث ابن عمر المار، وفيه «خالفوا المشركين، وفِّروا اللحى ... » رواه البخاري. ورواه مسلم بلفظ «خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوْفُوا اللحى» . 3- حديث أبي هريرة المار وفيه «جُزُّوا الشوارب وأَرخوا اللحى، خالفوا المجوس» رواه مسلم وأحمد. هذه الروايات تتضمن الألفاظ التالية: إعفاء، وفِّروا، أَوفوا، أرخوا، وكلها تعني معنى واحداً هو تركها تطول دون حلق أو قصٍّ أو إحفاء، أي افعلوا فيها عكس ما تفعلون في الشوارب، وقد كان من عادة الكفار قصُّ اللحية فنهى الشارع عن ذلك، وأمر بإعفائها وتوفيرها مخالفة لهم. وإعفاء اللحية من سُنن الفطرة، وهو سُنَّة مؤكَّدة كقص الشارب، قال القاضي عياض: يُكْره حلق اللحية وقصها وتحليقها. وقال الشوكاني عند كلامه على حديث عشر من الفطرة ما يلي (الكلمات العشر ليست واجبة) . وقال شمس الدين بن قُدامة في الشرح الكبير (ويُسْتحب إعفاء اللحية) . وما قلته في قص الشارب أقوله في إعفاء اللحية، فحكمهما واحد وقرائنهما واحدة وإن كان التشديد على قصِّ الشارب أكثر منه على إعفاء اللحية لوجود «مَن لم يأخذ من شاربه فليس منا» فهذا التشديد لا يوجد ما يضارعه في إعفاء اللحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 والسُّنَّة أن تُترك اللحية حتى تظهر وتبرز على الوجه. ولا حدَّ لطولها، وإنَّ ما كان ابن عمر يفعله من قص لحيته بحيث لا تزيد على قبضة اليد يمكن الأخذ به، قال البخاري (كان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه) وهذا الفعل من ابن عمر ليس دليلاً، ولكنه يُعتبر حكماً شرعياً يجوز اتِّباعه. وفي المقابل لا يتحقق المطلوب بتقصيرها تقصيراً يؤدي إلى ظهور لون الجلد تحتها، ولذلك فالأصل الاعتدال، وحدُّه أن يتوارى لون بشرة الوجه خلف شعر اللحية، وله بعدئذ أن يقص أو يدع ما يزيد على ذلك. وإعفاء اللحية اهتم به المتصوِّفة والمشايخ اهتماماً جاوز حد الاعتدال إلى الغلو، حتى عدُّوا الحليق فاسقاً لا تُقبل شهادته ولا يُصلى خلفه وكأنه أتى معصية من أكبر المعاصي، رغم أن الأحاديث ذكرت إعفاء اللحية ضمن العشر من الفطرة، ولم تحُثَّ عليه بأكثر من مخالفة المشركين كحال الحث على قصِّ الشارب، ومع ذلك لم يُولِ المشايخ اهتماماً بأي من السنن العشر اهتمامهم بإعفاء اللحية، والأصل أن لا تصل هذه المسألة إلى حجم أكبر من حجمها، وأن ما يقوله بعضهم من أنها علامة على الرجولة والفحولة هو قول ساقط متهافت. وكمثال على هذا التَّشدُّد أُورد رأياً للشيخ محمد ناصر الدين الألباني في هذه المسألة أنقله بكامله من كتابه [آداب الزفاف] وأناقشه بالتفصيل: حلق اللحى. الخامس: ومثلها في القُبح ـ إن لم تكن أقبح منها عند ذوي الفِطَر السليمة ـ ما ابتُلي به أكثر الرجال من التَّزين بحلق اللحية بحكم تقليدهم للأوروبيين الكفار، حتى صار من العار عندهم أن يدخل العروس على عروسه وهو غير حليق وفي ذلك عدة مخالفات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 أ- تغيير خلق الله، قال تعالى في حق الشيطان {لعَنَهُ الله وقال لأتَّخِذَنَّ مِنْ عبادِك نصيباً مفروضاً ولأُضِلَّنَّهم ولأُمنِّينَّهم ولآمُرنَّهم فَلَيبتِّكُنَّ آذانَ الأنعام ولآمُرنَّهم فلَيُغيِّرُنَّ خلقَ الله ومَنْ يتَّخِذ الشيطانَ وليَّاً من دونِ الله فقد خَسِرَ خُسراناً مُبيناً} فهذا نص صريح في أن تغيير خلق الله بدون إذن منه تعالى إطاعة لأمر الشيطان وعصيان للرحمن جل جلاله، فلا جَرَم أنْ لعنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغيِّرات خلقَ الله للحُسن كما سبق قريباً، ولا شك في دخول حلق اللحية للحسن في اللَّعن المذكور بجامع الاشتراك في العلة كما لا يخفى، وإنما قلت: بدون إذن من الله تعالى، لكي لا يُتوهم أنه يدخل في التَّغيير المذكور مثل حلق العانة ونحوها مما أذن فيه الشارع بل استحبه وأوجبه. ب- مخالفة أمره - صلى الله عليه وسلم - وهو قوله «أَنهِكوا الشوارب وأَعْفوا عن اللحى» ومن المعلوم أن الأمر يفيد الوجوب إلا لقرينة، والقرينة هنا مُؤكِّدة للوجوب وهو: ج - التَّشبُّه بالكفار، قال - صلى الله عليه وسلم - «جُزُّوا الشوارب وأَرخوا اللحى خالفوا المجوس» ويؤيد الوجوب أيضاً: د - التَّشبُّه بالنساء، فقد «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبِّهين من الرجال بالنساء، والمتشبِّهات من النساء بالرجال» ولا يخفى أن في حلق الرجل لحيته التي ميَّزه الله بها على المرأة أكبر تشبُّه بها، فلعل فيما أوردنا من الأدلة ما يقنع المُبتَلَيْن بهذه المخالفة، عافانا الله وإياهم من كل ما لا يحبه ولا يرضاه. وقال في هامش الكتاب ما يلي (ومما لا ريب فيه ـ عند من سلمت فطرته وحسُنت طويته - أنَّ كل دليل من هذه الأدلة الأربعة كاف لإثبات وجوب إعفاء اللحية وحُرمة حلقها فكيف بها مجتمعة؟!) . والجواب عليه من وجوه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 أـ أقف عند قوله (من التَّزيُّن بحلق اللحية بحكم تقليدهم للأوروبيين الكفار) فهو قد جعل حلق اللحية زينة ولم يذكر أن إعفاء اللحية زينة هو الآخر، إذ ربما كان إعفاء اللحية أجمل من حلقها، ثم إنه اعتبر التَّزيُّن بحلق اللحية داخلاً تحت تقليد الكفار، وهذا يضطرنا إلى تبيين معنى تقليد الكفار وحكمه. تقليد الكفار تقليدان:تقليد في شؤون الدين، وتقليد في شؤون الحياة، فما كان من تقليدٍ لأفعالهم وأُمورهم المتصلة بدينهم فهو تقليد في شؤون الدين، وما كان من تقليدٍ لأفعالهم وأُمورهم غيرِ المتصلة بالدين عندهم فهو تقليد في شؤون الحياة. أما ما كان من تقليدٍ في شؤون دينهم فهو حرام، ومخالفته واجبة، وأما ما كان من تقليدٍ لهم في شؤون الحياة فليس بحرام ولا إثم فيه، وإن كان الأَوْلى تركه، إلا أن يكون ذاتُه محرَّماً في ديننا نحن فيحرم. فتقليدهم بلبس البدلات وربطات العنق، وتقليدهم بإلباس جنودنا ما يلبسه جنودهم من غطاء الرأس، وتقليدهم باستقبال رؤساء الدول الأجنبية بإطلاق إحدى وعشرين طلقة واصطفاف حرس الشرف لهم، وتقليدهم بافتتاح المشاريع الحيوية بقص الشريط، وأمثال ذلك كله تقليد لا إثم فيه وليس بحرام، لأن هذه الأفعال والأمور ليست من دينهم هم، وهم لا يفعلونها ولا يتخذونها امتثالاً لعقيدتهم، ثم هي ليست مما ورد في شرعنا تحريم له، وما دام ذلك كذلك فتقليدهم فيها لا حرمة فيه، وإن كان الأولى تركه، بينما تقليدهم بجعل التعليم مختلطاً في الجامعات وتقليدهم بتبرُّج النساء حرام لا يجوز، وإن كان ذلك ليس من شؤون الدين عندهم ولكنه حرام عندنا فيظل حراماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 أما تقليدهم بلبس المسوح التي يلبسها كهنتهم واتِّخاذ رجال دين عندنا، وتقليدهم باتخاذ شجرة عيد الميلاد، وتقليدهم باتخاذ التوابيت الخشبية للموتى، وأمثال ذلك فهو حرام لا يجوز، ومخالفتهم فيه واجبة، لأن هذه الأفعال والأمور هي من شؤون الدين عندهم، فتقليد الكفار في كفرهم أو تقليدهم بوصفهم كفاراً حرام. أما تقليدهم فيما سواه فلا حرمة فيه إلا ما كان حراماً عندنا، وإن كان الأولى تركُه. فالمسلم حين يحلق لحيته تقليداً للأوروبيين لا يقلدهم فيه بوصفهم كفاراً، ولا يقلدهم في شأن من شؤون دينهم، وإنما هو مظهر دنيوي بحت مقطوع الصلة بالدين، فتقليدهم فيه ليس حراماً، وهكذا سائر الأفعال والأمور التي لا علاقة لها بشؤون دينهم، ومن ذلك يظهر أن تقليد الأوروبيين في حلق اللحية لا يفيد تحريماً. وأما قوله (حتى صار من العار عندهم أن يدخل العروس على عروسه وهو غير حليق) هذه العبارة فيها غلو، فالعارُ هو الشيء أو الفعل الذي يشين صاحبه ويجلب عليه الخزي والهوان، وهذا المعنى غير موجود هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ب ـ نأتي الآن لمناقشة الأدلة الأربعة التي يقول عنها (إن كل دليل من هذه الأدلة الأربعة كاف لإثبات وجوب إعفاء اللحية) إن الآية التي استشهد بها الشيخ الألباني على أنها دليل صالح على تحريم حلق اللحية وردت في سورة النساء، وحتى نتبين إن كانت هذه الآية تدل على دعواه أو لا، لا بد من وضعها في موضعها من السورة، ثم نستدل بها على ما تدل عليه {إن اللهَ لا يَغفرُ أن يُشْرَكَ به ويَغفرُ ما دون ذلك لِمَنْ يَشاء ومَنْ يُشْرِكْ باللهِ فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً. إنْ يَدْعونَ مِن دونِهِ إلا إناثاً وإنْ يَدْعُونَ إلا شيطاناً مَريداً. لعَنَهُ الله وقال لأتَّخِذَنَّ مِن عِبَادِك نَصِيباً مَفْرُوضاً. ولأُضِلَّنَّهم ولأُمنِّينَّهم ولآمُرَنَّهم فلَيُبتِّكُنَّ آذانَ الأَنعامِ ولآمُرنَّهم فلَيُغيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ومَن يتَّخذ الشيطانَ ولياً مِن دون اللهِ فقد خسرَ خُسراناً مُبيناً. يعِدُهم ويُمنِّيهم وما يعِدُهُمُ الشَّيطان إلا غُرُوراً. أولئكَ مَأْواهُمْ جهَنَّمُ ولا يجدونَ عنها مَحِيْصاً} بالتدقيق في هذه الآيات يظهر أنها وردت في موضوع العقيدة وليس في موضوع الأحكام الشرعية، انظر في أيَّة آية منها تجد ذلك واضحاً، فالآية الأولى هي في موضوع الشِّرك وهو من العقيدة، والآية الثانية هي في موضوع الأصنام والشيطان وهو من العقيدة، والآية الثالثة هي في موضوع إخراج قسمٍ من المؤمنين إلى جماعة الكفار وهو من العقيدة، والآية الرابعة هي في موضوع تبتيك آذان الأنعام للتقرب إلى الأصنام وهو من العقيدة، والآية الخامسة هي في موضوع أماني الشيطان وغروره وهو من العقيدة، والآية السادسة هي في موضوع العقيدة لأنها تحدثت عن دخول جهنَّم والاستقرار فيها، فالآيات كلها سِيقت في موضوع واحد هو العقيدة، وليس منها آية واحدة في موضوع الأحكام الشرعية الفرعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وثانياً: الآيات هذه تحدثت صراحة عن الضَّلال في بدء الآية الرابعة {ولأُضِلَّنَّهم} ، والضلال عكس الهُدى، وهو من أفكار العقيدة، فالضَّالُّ هو من خالف العقيدة في مجملها أو أصولها أو فروعها، أما من خالف الحكم الشرعي فهو الفاسق أو العاصي أو الفاجر أو الآثم، وهذا التفريق لا بد من إدراكه، ولست أُريد أن أسوق الآيات الدالة على هذا الأمر، فلْيرجع إليها من يشاء. وإذن فالآية التي استشهد بها هي في موضوع العقيدة وليست في موضوع الأحكام، ولا تقاس العقائد على الأحكام ولا الأحكام على العقائد، فكلٌّ منهما موضوع غير موضوع الأخرى، ولذلك فإن قوله تعالى {فَلَيُغيِّرُنَّ خَلْق الله} يُقْصر على العقيدة والأعمال التي في معناها، وليس على الأعمال التي تفيد حراماً وحلالاً، لأن الآية والحديث إن جاءا في موضوع معين وجب قصرهما عليه. ولا يقال العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لأن الموضوع غير السبب، فهذه الآيات ليست العقيدة سبباً في نزولها، وإنما العقيدة هي الموضوع الذي نزلت الآيات فيه، وبين السبب والموضوع فارق كبير. وإلى هذا المعنى الدقيق أشار عدد من المفسِّرين لهذه الآيات، فقد فسرها عدد منهم بقولهم: إن المراد بهذا التغيير هو أن الله سبحانه خلق الشمس والقمر والأحجار والنار ونحوها من المخلوقات لما خلقها له، فغيَّرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، وبمثل هذا القول قال الزَّجَّاج. ويدعم هذا القول الآية الثانية {إنْ يدْعُون مِن دونه إلا إناثاً} وفسرها أبو مالك فيما رواه عنه ابن جرير الطبري وابن المنذر وغيرهما بقوله: اللات والعُزَّى ومَناة كلها مؤنثة. وفسرها أُبيُّ بن كعب فيما رواه عنه عبد الله بن أحمد بن حنبل وابن المنذر وغيرهما بقوله (قال مع كل صنم جِنِّيَّة) وفسرها الحسن بقوله (كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونها يسمونها أُنثى بني فلان، فأنزل الله إن يدعون من دونه إلا إناثاً) ذكره سعيد بن منصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وابن جرير وابن المنذر. وقال الضحَّاك (قال المشركون: إن الملائكة بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زُلفى) ذكره ابن أبي حاتم. ونقل ابن جرير الطبري عن قتادة قوله في تفسير {فليُبتِّكُنَّ آذانَ الأَنعامِ} (التبتيك في البَحِيرة والسَّائبة يُبتِّكون آذانها لطواغيتهم) وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس في قوله تعالى {ولآمُرنَّهم فلَيُغيِّرنَّ خَلْق الله} قال (دين الله) وروي مثل ذلك عن الضحَّاك وسعيد بن جبير. هذا هو معنى التغيير، وهذا هو الموضوع الذي جاءت فيه الآية، ولذا فان تفسيرها بغير هذا خطأ، فقولهم إنها تعني الخصاء أو الوشم أو غير ذلك مثل حلق اللحية هو خروج على موضوع الآية وسياقها وإطارها. نخلص من ذلك إلى أن هذه الآية لا تصلح مطلقاً للاستدلال بها على تحريم اللحية، فالآية في موضوع، وحلق اللحية في موضوع آخر، وما دام حلق اللحية أو إعفاؤها من غير العقائد فإن الاستدلال بها هنا استدلال غير صحيح. ج- قوله: (ومن المعلوم أن الأمر يفيد الوجوب إلاّ لقرينة) غير مُسلَّم به وفيه لَبس، فالقارئ العادي حين يقرأ هذا القول (ومن المعلوم) يظن أنها قاعدة مُجمَعٌ عليها لدى عامة الفقهاء والأصوليين، لأنه جعلها قاعدة معلومة علماً مطلقاً دون تقييد، في حين أنه من المعلوم أن هذه القاعدة لا يقول بها جميع الفقهاء والأصوليين، ولذلك كان الأَوْلى أن يُقال (ومن المعلوم عندنا) أو (ومن المعلوم أن عدداً من الفقهاء يقولون) أو (الأمر يفيد الوجوب عند فلان وفلان) أو ما يشبه ذلك حتى لا يقع القارئ في لبس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 د- قوله (والقرينة هنا مؤكِّدة للوجوب وهو التَّشبُّه بالكفار) يعني أن الأمر إن اقترن بالتَّشبُّه بالكفار كان واجباً، فقد جعل التَّشبُّه بالكفار قرينة على الوجوب أو قل قرينة على التأكيد على الوجوب. فماذا يقول في الحديث التالي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود؟ فالحديث يطلب منا أن نصبغ شعرنا الأبيض وأن نخالفهم في ذلك، فهل مخالفة الكفار هنا تصلح قرينة على وجوب الصَّبغ؟ لا أظن أن أحداً قال بوجوب صبغ الشعر الأشيب. وماذا يقول في الحديث الذي رواه شداد بن أوس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «خالفوا اليهود فإنهم لا يُصلُّون في نعالهم ولا خِفافهم» رواه أبو داود. ولم يقل فقيه إن الصلاة في النعال والخفاف واجبة؟ فكذلك التَّشبُّه بالكفار هو من هذا القبيل. وأُذكِّر بما سبق من التفريق في التقليد أو التَّشبُّه بالكفار بين التَّشبُّه بهم في شؤون الدين عندهم وبين التَّشبُّه بهم في شؤون الحياة. وهذا يعني أن الكفار لو كانوا يتركون الشعر الأشيب تعبُّداً وجئنا نتشبَّهُ بهم في هذا الأمر لكان ذلك حراماً ولصلُح ذلك قرينة على الوجوب ولو أن الكفار يحلقون لحاهم تعبداً، وجئنا بحلق اللحى تشبُّهاً بهم في عبادتهم ودينهم لكان ذلك حراماً، ولصلُح قرينةً على الوجوب، ولكن لم يقل أحد إن الكفار يحلقون لحاهم تعبداً، فلا يصلح ذلك إذن قرينة على الوجوب. وبذلك ينتفي صلاح الدليلين الثاني والثالث على وجوب إعفاء اللحية. هـ ـ قوله (ويؤيد الوجوب التَّشبُّه بالنساء) وساق حديث التَّشبُّه، وعقَّب بقوله (ولا يخفى ... أكبر تشبُّه بها) فهو يرى ويقرر أن حلق اللحية هو تشبُّه بالنساء وبالغ بقوله (أكبر تشبُّه بها) . والرد عليه من عدة وجوه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 1 - إن التَّشبُّه بالنساء يعني التَّشبُّه بمطلق النساء وليس بنساء مخصوصات، ويعني الخروج من أوصاف الرجال جنس الرجال، وليس من أوصاف الرجال المسلمين أو من أوصاف رجالٍ مخصوصين، لأن الحديث يقول «المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال» فعمَّم ولم يخصِّص، أي أن الحديث يقول إن الرجل الذي يتشبَّه بالأنثى ملعون، ويحصل هذا إن خرج الرجل فيما فعل من صفة الرجال مطلق الرجال، وتشبَّه بعموم الإناث. هذا هو معنى الحديث، ولا تخصيص فيه ولا تقييد، فهل من حلق لحيته فقد خرج مما يوصف به مطلق الرجال؟ الجواب بالنفي من الواقع، ومن نصوص الأحاديث. أما الواقع فإن معظم الرجال في العالم يحلقون لحاهم، وإذن فحلق اللحى صفة شائعة في الرجال، ولم يدَّعِ أحدٌ أن هؤلاء الملايين الملايين من الرجال خلعوا صفة الرجولة في هذا الأمر وتشبَّهوا بالنساء. أما الحديث فيقول: خالِفوا المجوس، أي خالِفوا رجال المجوس بإطلاق اللحى، ومفهوم هذا الحديث أن رجال المجوس كانوا يحلقون لحاهم، ومفهومه أيضاً أن من يحلق لحيته فإنما يتشبَّه برجال المجوس، وهذا يدل على أن حلق اللحية ليس فيه تشبُّه بالنساء بقدر ما فيه تشبُّه بالرجال من المجوس، بل إن الحديث يحصره في التَّشبه بالرجال من المجوس، ولا يتطرق إلى التَّشبُّه بالنساء لا من قريب ولا من بعيد. فهل يصح له بعدئذٍ أن يقول إن حالق اللحية متشبِّه بالنساء؟ وكيف يُجيز لنفسه أن يقول هذا القول المغاير لما يفيده الحديث والواقع؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 2 - إن التَّشبُّه بالنساء لا يكون تشبُّهاً إلا إذا انتفت به عن الرجل صفة من صفاته ودخل به في صفةٍ من صفات النساء، فمثلاً النساء يلبسن العقود والأساور والرجال لا يلبسونها، وهذا عام في كل زمن وكل قوم وكل شعب إلا ما كان من الأقوام البدائية التي لا يُؤبه بما تفعله، بحيث أن من يلبس العقود والأساور من الرجال فإنما يتخلى بلبسها عن صفة من صفات الرجال ويدخل في صفة ملازمة للنساء، فيكون لبس الأساور والعقود تشبُّهاً، في حين أن الاكتحال صفة مشتركة بين الرجال والنساء، فمن اكتحل لا يكون قد تشبَّه بالنساء، لأنه لم يترك صفة من صفات الرجال، وقُل مثل ذلك في حلق اللحية، فإنها صفة شائعة في الرجال، فمن حلق لا يكون قد تخلى عن صفة الرجال واتصف بصفة النساء، أي لا يكون متشبِّهاً بالنساء، ومَن تضمخ بالطيب فإنه يفعل فعلاً مشتركاً بين الرجال والنساء، فلا يكون المتطيِّب قد تشبَّه بالنساء، هكذا يجب أن يُفهم التَّشبُّه بالنساء. إن حلق اللحية صفة ملازمة من صفات الرجال قديماً وحديثاً، ولا يقول أحد إن الملايين من الرجال في العالم الذين يحلقون لحاهم يتشبَّهون بالنساء، بل إن قول رسول الله عليه الصلاة والسلام «خالفوهم» فيه دلالة على أنهم لم يكونوا قبل هذا الأمر يخالفونهم، بل كانوا يوافقونهم بحلق لحاهم، وكانوا رجالاً لا يتصفون أو يتشبَّهون بالنساء. 3 - وحيث أنه قد بان تماماً أن من يحلق لحيته لا يكون قد فارق صفة الرجال إلى صفة النساء، فقد بطل الدليل الأخير الذي استدل به الشيخ الألباني على حُرْمة حلق اللحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 و بقيت نقطة تتعلق بتغيير خلق الله أود أن أبحثها من زاوية أخرى. استدل الشيخ الألباني بما رُوي عن ابن مسعود «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمِّصات والمتفلِّجات للحسن المغيِّرات خلق الله، ما لي لا ألعن من لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في كتاب الله» رواه البخاري. على أن تغيير خلق الله علة لتحريم ما جاء في الحديث، وقاس عليها حلق اللحية لأنها حُسنٌ يُغير خلق الله فيدخل في اللعن، وأكد ذلك بقوله (ولا شك) وبقوله (كما لا يخفى) وكأن أحداً لا يخالفه فيما يقول. لقد قال هو نفسه إن تغيير خلق الله ليس حراماً كله، فقوله (لكي لا يتوهم أنه يدخل في التغيير المذكور مثل حلق العانة ونحوها مما أذن فيه الشارع) يدل على أن هناك تغييراً لخلق الله محرَّماً، وأن هناك تغييراً غير محرَّم. فلْننطلق من هذه القاعدة التي وضعها هو، فنقول: إن هذه القاعدة تنقض القول بأن تغيير خلق الله هو علة للتحريم، وذلك أن العلة في علم الأصول تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، وهذا يقضي بأن تحرِّم هذه العلة - وهي تغيير خلق الله -كلَّ فعل فيه تغيير، ولا تحرم أي فعل لا تغيير لخلق الله فيه، هذا هو معنى العلة وهذا هو مقتضاها. وحيث أن هناك أفعالاً فيها تغييرٌ لخلق الله ومع ذلك أجازها الشرع، فهذا دليل على أن التغيير ليس علة، لأن العلة مطَّردة دائماً، فإذا تخلَّفت مرة واحدة بطل كونها علة، وحيث أن الشرع نفسه أبطلها في حلق العانة ونتف الإبط وقص الأظافر وحلق شعر الرأس فقد دل ذلك على أن التغيير ليس علة لتحريم حلق اللحية. أما القول إن النصوص استثنت هذه الأحكام فهو ليس رداً على موضوع العلة، ومن هذه المقدمة ننطلق إلى شرح حديث «لعن الله الواشمات ... المغيرات خلق الله» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الحديث الشريف يذكر أن الواشمات والمستوشمات والمتنمِّصات والمتفلِّجات للحُسن المغيرات خلق الله ملعونات، وما دام أن التغيير قد ثبت أنه قد تخلف مرات فقد ثبت أنه ليس علة، وأن هذه القاعدة تنسحب إذن على كل موضوع ومنها هذا الحديث، فتغيير خلق الله ليس علة للتحريم في هذا الحديث، بمعنى أن التحريم منصبٌّ على ما ذُكِر وليس لعلة التغيير، وعلى هذا فإن التغيير هنا لم يُذكر إلا على أنه وصفٌ ملازم لهذه الأفعال ليس غير، كما ذكر ذلك ابن حجر. والسؤال هنا: لماذا ذُكر هذا الوصف في الحديث؟ والجواب عليه هو أنَّ ذِكْرَ هذا الوصف في هذا الحديث إنما جاء قيداً وتحديداً للقدر الذي تصبح معه هذه الأفعال محرمة، بمعنى أن الوشم والنمص والتفلج لا تكون حراماً إلا إذا وصلت حد التغيير لخلق الله، فإن لم تصل إلى هذه الحد وهذا القدر فإنها لا تكون حراماً وتكون مباحة، فلو أخذت المرأة من حاجبيها عدة شعرات، ولو وضعت المرأة على وجهها أو يدها نقطة أو نقطتين من الوشم، ولو بردت المرأة إحدى أسنانها مقداراً يسيراً فإنها لا تكون قد فعلت حراماً لأنها لا تكون قد فعلت ما يصل إلى حد تغيير خلق الله، فهذا هو القصد من ذكر هذا الوصف، وهو أنه لتحديد المقدار الذي تصبح معه هذه الأفعال محرمة، وليس ليكون علة للتحريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ثم إن هذا الحديث يخاطب النساء ولا يخاطب الرجال، والقاعدة اللغوية والشرعية هي أن خطاب المذكَّر خطاب للرجال وللنساء، ولكن خطاب المؤنَّث لا يدخل فيه الرجال، فالقرآن حين يقول بصيغة المذكَّر {يا أيها الذين آمنوا كُتبَ عليكُمُ الصِّيامُ} فإن هذا الأمر بالصيام يشمل الرجال كما يشمل النساء، وحين يقول {يا أيها الذين آمنوا اتَّقُوا اللهَ وقولوا قَوْلاً سَديداً} فإن هذا الأمر بالتقوى والقول السَّديد يشمل الرجال والنساء، ولكن القرآن حين يقول بصيغة المؤنث {وقَرْن في بيوتِكُنَّ} فإن هذا الأمر لا يشمل الرجال، بمعنى أنه لا يطلب من الرجال البقاء في البيوت، وحين يقول {ولا يُبدين زينَتَهُنَّ} فإن هذا الأمر لا يعني مطالبة الرجال بذلك، ولا يدل على منع الرجال من إبداء زينتهم، وحين يقول {والمُطلَّقات يتربَّصن بأنفسهنَّ} فإن هذا الطلب لا يعني الرجال، ولا يطالبهم بالتربُّص عند الطلاق. والحديث النبوي حين يقول «عليكُنَّ بحافَّات الطريق» رواه أبو داود. فهو خاص بالنساء ولا يشمل الرجال وهكذا مما هو معلوم ومعروف. وهذا الحديث «لعن الله الواشمات» هو من هذا القبيل، فهو خاص بالنساء، ولا يعني أن الله يلعن الواشمين، فمن أين القول إن (المُغيِّرات خلق الله) يشمل الرجال؟ الصحيح والصواب أن هذا الحديث خاص بالنساء وأنه لا يصح سحبه على الرجال لهذا السبب أيضاً. ولهذين السببين سببِ عدم علِّيِّة التغيير، وسببِ اختصاص النص بالنساء، فإنه لا يجوز القياس، ولا يصح إدخال الرجال ولحاهم في هذا الحديث مطلقاً. وهكذا تتساقط الأدلة الأربعة على وجوب حلق اللحية، ويبقى الحكم الصحيح المذكور آنفاً، وهو أن الإعفاء سُنَّة وليس واجباً. نتفُ الإبط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 نتف الإبط مندوب باتفاق العلماء، لما رُوي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «عشْرٌ من الفِطرة: قصُّ الشارب ونتفُ الإبط ... » رواه مسلم وغيره. ولما روى أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «الفِطرة خمسٌ: ... ونتفُ الإبط» رواه مسلم وغيره. وقد مرَّ هذان الحديثان بتمامهما. ورغم أن الوارد في الأحاديث هو النَّتف إلا أنَّ كون القصد من ذلك النظافة، وهي تحصل بالحلق وتحصل بالقصِّ، يجعلنا نقول بجواز الحلق والقص، وإنَّ توقيت نتف الإبط بأربعين يوماً هو قرينة على جواز ذلك، لأن من ترك شعر إبطيه أربعين يوماً طال ووصل إلى حالة التقصير والقص وربما زاد. قال يونس ابن عبد الأعلى: دخلت على الشافعي وعنده المزيِّن يحلق إبطه فقال الشافعي: علمتُ أن السُّنَّة النتف ولكن لا أقوى على الوجع. وقال النووي (الأفضل فيه النتف إن قَوِي عليه ويحصل أيضاً بالحلق والنُّورة) ووافقه ابن قدامة. وقد سُئل إسحق: نتف الإبط أحبُّ إليك أو بنُورة؟ قال: نتفه إن قدر. فهؤلاء استحبوا النتف على الحلق أو النُّورة. والنُّورة هي ما يُستخلص من الجِير ويُطلَى به موضع الشعر فيسقط. وكلُّهم مع ذلك أجازوا الحلق والحفَّ لأن القصد هو النظافة، وهي تتحقق بكل ذلك. ويستحب في النتف أو الحلق أن لا يتأخر عن أربعين يوماً للحديث السابق المروي عن أنس المذكور في المسألة الثانية الخاصة بقص الشارب، وإن نَتَف في أقلَّ من ذلك جاز وربما كان أفضل، كما يُستحبُّ أن ينتف إبطه الأيمن أولاً ثم الأيسر، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمُّن في تنعلُّه وترجُّله وطُهوره وفي شأنه كلِّه» رواه البخاري ومسلم. قصُّ الأظفار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 قص الأظفار مندوب لما رُوي أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «عشر من الفِطرة ... وقص الأظفار ... » رواه مسلم وغيره. ولما روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «الفِطرة خمس ... وتقليم الأظفار ... » رواه مسلم وغيره. وقد مرَّ هذان الحديثان بتمامهما. وقص الأظفار أوتقليمها إنما حُدَّ لنا بأربعين يوماً كحدٍّ أقصى، فإن قصَّها في أقل من ذلك كان أبلغ في التنظيف المقصود من القص، لأن الأظفار إن طالت تجمَّع الوسخ تحتها، فربما خالط الطعام والشراب، فعن أبي أيوب العتكي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يَسأل أحدُكم عن خبر السماء وهو يدع أظفاره كأظافير الطير يجتمع فيها الجنابة والخَبَث والتَّفَث» رواه أحمد والطبراني. قال الهيثمي (رجاله رجال الصحيح خلا أبا واصل وهو ثقة) . قوله الخَبَث والتَّفَث: أي الوسخ. ثم إن طالت الأظفار ربما سبَّبت أذى وأحدثت جِراحاتٍ فجاء الأمر بقصها، فعن سوادة بن الربيع قال «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألته، فأمر لي بذَوْدٍ، ثم قال لي: إذا رجعتَ إلى بيتك فمُرهم فلْيُحْسِنوا غِذاء رِباعهم، ومُرْهم فلْيقلِّموا أظفارهم، ولا يعبطوا بها ضُروع مواشيهم إذا حلبوا» رواه أحمد. قوله الذَّوْد: هو من الإبل ما بين الثنتين إلى التسع. وقوله الرِّباع جمع رُبَع: هو ما وُلد من الإبل في الربيع. وقوله يعبطوا: أي يجرحوا. فهذان الحديثان يبيِّنان القصد من قص الأظفار ويدلاَّن من ثم على أن القص سُنَّة، إضافةً إلى كون قص الأظفار من الفطرة. ويُسنُّ تقليم أظافر أصابع اليد اليمنى أولاً ثم أصابع اليد اليسرى، ثم أصابع الرِّجل اليمنى أولاً ثم أصابع الرِّجل اليسرى، وذلك لحديث التَّيامن المار في البحث السَّابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وبهذه المناسبة فإنه لا بد من التنبيه إلى نقطة مهمة خاصة بالنساء هي طلاء الأظفار بما يُسمَّى المناكير، فهذا الطلاء يشكِّل طبقة سميكة تحول دون وصول ماء الوضوء والأَغسال إلى الأظفار مما يؤدي إلى فساد الوضوء والأَغسال، فلْتنتبه النساء إلى هذا وليَدَعْن هذه الزينة، ويمكنهنَّ استعمال الحنَّاء بدلاً منه، إلاَّ أن يمسحن هذا الطِّلاء عند كل وضوء وغُسل، وهذا يشق عليهنَّ. ولمعرفة المزيد يُراجع فصل [الوضوء] بحث [صفة الوضوء] . غسل البراجم البراجم: هي العُقَد التي في ظهور الأصابع، تقابلها الرَّواجب: وهي مفاصل الأصابع من الداخل، واحدتها راجبة. والبراجم غسلها مندوب لحديث عائشة المتقدم «عشر من الفِطرة ... وغسل البراجم ... » رواه مسلم وغيره. وغسل الرَّواجب مندوب هو الآخر لما رُوي عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له «يا رسول الله لقد أبطأ عنك جبريل عليه السلام. فقال: ولِمَ لا يُبطيء عني، وأنتم حولي ولا تستنُّون ولا تُقلِّمون أظفاركم، ولا تقصُّون شواربكم، ولا تُنَقُّون رواجبكم» رواه أحمد بسند حسن. ورواه الطبراني. ويكفي لتنظيف البراجم والرواجب تنظيف اليد، إذ ما دام المسلم يتوضأ عدة مرات في اليوم والليلة، ويغتسل الأغسال الواجبة والمسنونة، ويغسل يديه عقب الأكل، فإن غسل البراجم والرواجب يتحقق بذلك، فلا يعود في حاجة لإفرادها بالغسل. حلقُ العانة ويسمَّى أيضاً الاستحداد، وهو سُنَّة لحديث عائشة المتقدم «عشر من الفِطرة ... و حلق العانة ... » رواه مسلم وغيره. ولحديث أبي هريرة المتقدِّم «الفطرة خمس ... والاستحداد ... » رواه مسلم والبخاري وأحمد. ولما رُوي عن رجل من بني غِفار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من لم يحلق عانته ويقلِّم أظفاره ويجزَّ شاربه فليس منا» رواه أحمد بسند حسَّنه السيوطي. والرجل المبهم صحابي، وجهالة الصحابي لا تضرُّ فكلُّهم عدول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وحلق العانة ونتفها وحفُّها بالنُّورة أو الزرنيخ كل ذلك جائز ما دام يحقِّق الغاية وهي إزالة الشعر وتنظيف الموضع. قيل لأحمد بن حنبل: ترى أن يأخذ الرجل سافِلتَه بالمقراض - أي بالمقصِّ - وإن لم يستقص؟ قال: أرجو أن يُجزئه إن شاء الله، قيل: يا أبا عبد الله: ما تقول في الرَّجل إذا نتف عانته؟ فقال: وهل يقوى على هذا أحد؟ وهذا صحيح، فإن نتف العانة يسبب وجعاً لا يقوى عليه عامة الناس. فالعبرة بإزالة الشعر، فما يزيل الشعر يجوز استعماله ويحقِّق المندوب. ولسنا في حاجة هنا للاستدلال بما روى ابن ماجة وغيره من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يطَّلِي بالنُّورة، فهذا الحديث ضعيف، وهو غير لازم. الخِتان الخِتان بكسر الخاء: مصدر ختن بمعنى قطع. والخَتْن بفتح وسكون: قطعُ بعضٍ مخصوصٍ من عضوٍ مخصوصٍ. قال الماوَرْدي: ختان الذَّكَر قطعُ الجلدة التي تغطي الحَشَفَة. وقال: ختان الأنثى قطع جلدة تكون في أعلى فرجها كالنَّواة أو كعرف الديك. ويسمى ختان الرجل والمرأة إعذاراً، وختان الأنثى خاصة خَفْضاً. والمُجْزِيء في ختان الذكر قطع جميع القُلْفة بحيث لا يبقى منها شيء وتنكشف الحَشَفَة كلها. وقد وردت في الختان الأحاديث التالية: 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اختتن إبراهيم خليل الرحمن بعدما أتت عليه ثمانون سنة، واختتن بالقَدُوم» رواه أحمد والبخاري ومسلم والبيهقي. والقَدُوم: هي الأداةُ المعروفة. 2 - رُوي عن سعيد بن جبير أنه قال «سُئل ابن عباس: مِثل مَن أنت حين قُبض النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أنا يومئذٍ مختون، قال: وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك» رواه البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 3 - عن عُثَيم بن كليب عن أبيه عن جده «أنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد أسلمتُ، قال: ألقِ عنك شعَر الكفر، يقول: احلق، قال: وأخبرني آخر معه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لآخر: ألق عنك شعر الكفر واختتن» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي. 4 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا جلس بين شُعَبها الأربع ومسَّ الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل» رواه مسلم وأحمد وأبو داود. ورواه الترمذي ولفظه «إذا جاوز الختانُ الختانَ وجب الغُسل» وقال حديث حسن صحيح. 5 - عن جابر رضي الله عنه قال «عَقَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين، وختنهما لسبعة أيام» رواه البيهقي. 6 - عن أم عطية الأنصارية «أن امرأة كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تُنْهِكي، فإنَّ ذلك أحظى للمرأة وأحبُّ إلى البعل» رواه أبو داود والبيهقي. 7 - عن ابن عمر قال «دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نسوة من الأنصار فقال: يا نساء الأنصار اختضبْنَ غَمْساً واخفِضْنَ ولا تُنْهِكْن، فإنه أحظى عند أزواجكن، وإياكم وكُفرَ المُنعَمين» رواه البزَّار. قوله لا تنهكن: أي لا تبالغن في القص. 8 - عن أبي المليح بن أُسامة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال «الختان سُنَّة للرجال مَكْرُمةٌ للنساء» رواه أحمد والبيهقي وأبو داود. وقد افترق الأئمة والفقهاء في حكم الختان للرجال والنساء على النحو التالي: فقال الشافعي إنه واجب في حق الرجال والنساء، ورُوي عن ابن عباس التشديد في ذلك وأنَّ مَن لم يختتن لا حجَّ له ولا صلاة. وقال أبو حنيفة ومالك إنه سُنَّةٌ لهما. وقال أحمد إنه واجب على الرجال دون النساء. ورُوي عن الحسن أنه رخَّص في تركه، وقال: قد أسلم الناس الأسود والأبيض ولم يُفتَّش أحدٌ منهم ولم يختتنوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وقد احتج الأوَّلون - الشافعي ومن قال بقوله - بحديث أبي هريرة الأوَّل وبحديث عُثَيم الثالث، وبحديث أم عطية السادس على وجوب ختان الأنثى، قائلين إنه لولا أن الختان كان واجباً في حق إبراهيم الخليل لما اختتن وهو في سن الثمانين، وكون القرآن الكريم يقول {أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيمَ حنيفاً} فهو دليل على وجوب الاختتان. وهذه الأدلة هي أدلة الفريق الثالث نفسها في حق الرجال دون النساء باستثناء الحديث السادس. واحتج الفريق الثاني بحديث أبي المليح الثامن، لأن الحديث عندهم وصف ختان الرجال بأنه سُنَّة، ووصف ختان النساء بأنه مَكرُمة، وهو بمعنى السُّنَّة أيضاً. وبهذا الحديث استدل الفريق الثالث على رأيهم في ختان النساء بأنه سُنَّة، وزاد الفريق الأول والفريق الثالث على ما سبق القول إن كشف العورة حرام ولا يجوز ذلك إلا لأمرٍ واجب، ولولا أن الختان واجب لما جاز ختان البالغ وكشف عورته، والحديث الثاني دليل على ختان البالغين. هذا مجمل آرائهم واستدلالاتهم. ونحن قبل النظر في هذه النصوص من حيث الاستدلال لا بد لنا من النظر فيها من حيث صحة الإسناد وعدمها فنقول: حديث عُثيم الثالث فيه انقطاع، وعُثيم وأبوه مجهولان، قاله ابن حجر وابن القطان، فالحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج. وحديث أم عطية اختُلِف فيه على عبد الملك بن عمير، فقيل عنه عن الضحاك، وقيل عنه عن عطية القُرَظي، وقيل غير ذلك، ثم هو معلول بمحمد بن حسَّان، قال أبو داود (ومحمد بن حسان مجهول وهذا الحديث ضعيف) فهو إذن غير صالح للاحتجاج. وحديث عبد الله بن عمر السابع أيضاً ضعيف ضعَّفه ابن حجر والبخاري، وقال الهيثمي (فيه مندل ابن علي وهو ضعيف) وحديث أبي المليح الثامن، قال البيهقي (هو ضعيف) وأعلَّه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم فلا يصلح للاحتجاج. فتبقى الأحاديث التالية: الأول والثاني والرابع والخامس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 أما الحديث الأول فليست فيه دلالة على وجوب الاختتان، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يفعلون الواجبات كما يفعلون المندوبات، فإن قال قائل إن اختتان إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو في سن الثمانين يدلُّ على الوجوب قلنا: إن اختتانه عليه الصلاة والسلام وهو في سن الثمانين يدل على عدم الوجوب، إذ لو كان واجباً عليه لما أخَّره إلى هذا الوقت. وثانياً إنَّ شَرْع مَن قبلنا ليس شرعاً لنا، واختتان إبراهيم لو صح فهمه على أنه واجب فإن المسلمين غير مخاطبين بالاقتداء به فيه. فإن قال قائل إن القرآن طالبنا بالاقتداء به أجبناه بأن الآية التي استشهد بها لا تدل على دعواه، لأن اتباع ملَّة إبراهيم غير اتباع شريعته فنحن مأمورون باتباع ملَّةِ إبراهيم وملَّةِ عيسى وملَّةِ موسى وملَّةِ نوح، وهي كلها ملة واحدة، ومعنى الملة أصل الدين والتوحيد، وهذا هو المقصود بالآية الكريمة {إنَّ الدِّين عند الله الإسلام} فالدين والملَّة والتوحيد شيء واحد عند جميع الأنبياء، ولكننا لسنا مأمورين باتِّباع شرائعهم، لأنَّ لكلِّ نبي شريعةً تغاير شريعة الآخر. فنحن المسلمين لسنا مخاطبين باتباع الشرائع سوى شريعة الإسلام. قال تعالى {لكلٍّ جعلنا مِنْكُمْ شِرْعةً ومِنْهاجاً} . والختان من الشريعة وليس من العقائد فلا يدخل في طلب الآية. فالآية والحديث لا يدلان على ما ذهبوا إليه، ولا يدل الحديث إلا على العلم فقط بأن سيدنا إبراهيم عليه السلام قد اختتن وهو ابن ثمانين سنة دون أية إضافة أُخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أما الحديث الرابع فهو تقريرٌ لواقعٍ موجود عند المسلمين، وهو أنهم كانوا يختتنون، وهذا أمرٌ لا نشك فيه، ولا يشك فيه أحد من المسلمين، فقول الحديث «ومسَّ الختانُ الختانَ» يدل على أن المسلمين يختتنون رجالاً ونساء، ولا يدل على وجوب ولا ندب، بل هو لا يبحث حكم هذه المسألة أصلاً. وكذلك الحديث الخامس هو من القبيل نفسه يدل على أن المسلمين يختتنون، وقد أضاف إضافة جديدة هي أن اختتان الحسن والحسين حصل في سن مبكرة هي اليوم السابع، وهو خلاف ما جاء في الحديث الثاني، وهذه واقعة عين، وواقعة العين لا عموم لها، ولا يؤخذ منها تعميمٌ للحكم على غيرها، بمعنى أن الحسن والحسين خُتنا في اليوم السابع، وهذا الفعل من الرسول عليه الصلاة والسلام لا يفيد أمراً منه للمسلمين أن يختنوا أبناءهم وهم في سنِّ اليوم السابع. أما ما استشهد به القائلون بوجوب الاختتان من أن كشف العورة لا يكون إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 لواجب - وهم يعنون به ختان البالغين - فنجيبهم بأن ذلك غير لازم، فالشرع قد حرَّم النظر إلى بدن المرأة والكشف عنه، ومع ذلك فقد أجاز للشاب الباحث عن خطيبة له أن ينظر إلى أي عضو من أعضاء الفتاة التي يرغب في الزواج منها، بل وأن يكشف عن العضو الذي يرغب في رؤيته من بدن فتاته. فعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فلْيفعل، قال: فخطبتُ جارية من بني سلمة، فكنت أختبئ لها تحت الكَرَب حتى رأيت منها بعضَ ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها» رواه أحمد وأبو داود. فهذا نصٌّ صريح في جواز نظر الخاطب إلى أي عضو من المرأة التي يرغب في خطبتها، فقول الحديث «ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها» عام لم يخصِّصه نصٌّ في هذا الباب، فله أن ينظر إلى شعرها وصدرها ورقبتها وساقها وساعدها إن كان يرغب في معرفة ذلك من زوجته المقبلة، وكل ذلك مباح رغم أن الخطبة غير واجبة، فضلاً عن خطبة فلانة بالذات، فهنا أجاز الشرع النظر إلى عورة المرأة لأمرٍ غير واجب هو الخطبة والزواج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 أما ما يقوله بعض الفقهاء من أن المطلوب في هذا الحديث هو النظر إلى الوجه فحسب فهو قول متهافت، وهو قولٌ يُلغي العمل بالحديث ويبطله، ويجعله من لغو القول، لأن النظر إلى الوجه جائز دونما حاجة إلى هذا النص. ثم إن راوي الحديث يقول إنه كان يختبئ للفتاة حتى رأى منها ما دعاه لنكاحها، ولا يُتصوَّر أن جابراً كان يختبيء لهذه الفتاة بين النخيل حتى يرى وجهها فحسب. ثم قد ذكر أبو جعفر قال «خطب عمر إلى علي ابنته فقال إنها صغيرة، فقيل لعمر: إنما يريد بذلك منعها، قال ـ أي أبو جعفر ـ فكلَّمه فقال عليٌّ: أَبعثُ بها إليك فإن رضيتَ فهي امرأتُك، قال فبعث بها إليه، قال: فذهب عمر فكشف عن ساقها فقالت: أَرسِل، فلولا أنك أميرُ المؤمنين لصككتُ عنقَك» رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور. وبذلك يسقط قولهم إن كشف العورة لا يكون إلا لواجب، وبسقوط هذه الشبهة تسقط جميع شُبُهاتِهم وحُججِهم في وجوب الختان، فلا يبقى إلا أن الختان من سنن الفِطرة، وأنه يُقام به لأجل النظافة والحدِّ من قوة الشهوة، وهذه طبعاً ليست واجبة. الفصل السادس السُّننُ المُلحقة بالفِطرة وهذا الفصل يشمل مسألتين: الأولى أحكام الشَعَر، الثانية الاكتحال والتَّطيُّب. أحكامُ الشَّعَر وفيه سبعة أبحاث: 1. إكرام الشعر . 2. نتف الشعر الأبيض . 3. صبغ الشعر الأبيض. 4. وصل الشعر. 5. نفش الشعر. 6. فَرق الشعر. 7- حكم الاكتحال والتطيب. 1. إكرام الشعر: معنى إكرام الشعر: الاعتناء به من حيث نظافته وترجيله، أي تمشيطه وإصلاحه. وقد وردت في إكرامه وإصلاحه الأحاديث التالية: عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون الجُمَّة وفوق الوَفْرة» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. ورواه التِّرمذي وصحَّحه. والوفْرة هي الشعر المجمَّع على الرَّأس وتدلَّى على الأُذنين، فإن جاوز شحمة الأذنين فهو اللِّمَّة، فإن طال حتى بلغ المنكبين فهو الجُمَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 2ـ عن أنس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضرب شعرُه منكبيه» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي. ولأحمد ومسلم والنَّسائي عنه أنَّه قال «كان شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أنصاف أُذنيه» وفي لفظ «لا يجاوز أُذنيه» . 3ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من كان له شعر فلْيُكْرمه» رواه أبو داود بسند حسن. قاله ابن حجر. 4 ـ عن عطاء بن يسار قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده أن اخرج، كأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته، ففعل الرجل ثم رجع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟» رواه مالك. 5 ـ عن عبد الله بن مغفَّل المزني «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الترجُّل إلا غِبَّا» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي. ورواه الترمذي وابن حِبَّان وصحَّحاه. قوله الترجُّل: أي تسريح الشعر وتمشيطه. وقوله الغِبُّ: أي عدم التوالي. 6ـ عن أحد الصَّحابة رضي الله عنهم أجمعين قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمتشط أحدُنا كلَّ يوم ... » رواه أبو داود وأحمد والنَّسائي. 7ـ عن أبي قتادة قال - كانت له جُمَّةٌ ضخمة - «فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمره أن يُحسن إليها وأن يترجَّل كل يوم» رواه النَّسائي ورجاله رجال الصحيح. وفي رواية لمالك «قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لي جُمَّة أفأُرَجِّلها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم وأكرمها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 8 ـ عن نافع عن ابن عمر «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القزع، قال: قلت لنافع: وما القزع؟ قال: يُحلَقُ بعضُ رأسِ الصبي ويُترك بعضٌ» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأبو داود. ولأبي داود وأحمد والنَّسائي بإسناد صحيح عن ابن عمر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى صبياً قد حلق بعض رأسه وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك وقال: احلقوه كله أو اتركوه كله» . 9 ـ عن عبد الله بن جعفر «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمهل أل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم أو غداً، إليَّ ابنَيْ أخي، قال فجيء بنا كأنَّا أَفْرُخ، فقال: ادعُوا إليَّ الحلاق، فجيء بالحلاق فحلق رؤوسنا» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي. ورجال أحمد رجال الصحيح. مجمل القول في الشعر أنه يُسن غسله وتمشيطه وتهذيبه بين الفينة والفينة دون مبالغة، وأنه يجوز تطويله ليضرب المنكبين، ويجوز أن يصل إلى منتصف الأذنين، ويجوز أن يكون أقصر من ذلك، ويجوز حلقه بالكامل، وفي كل ذلك وردت أحاديث أشرت إليها أعلاه. فالحديثان الأول والثاني يفيدان جواز تطويله ليصل إلى الأذنين أو المنكبين، والحديث الثامن - الرواية الثانية - يفيد جواز حلقه، إلا أن الشرع نهى في الحلق عن حالة وحيدة هي حالة القزع، وهي حلق جزء من الرأس وترك جزء، وهو ما يفعله بعض البدو من حلق رأس الصبي سوى قصة أو جزء في أعلى الرأس، وما يفعله الشباب الذين يقلدون الشباب الغربيين في هذه الأيام، يدل عليه الحديث الثامن بروايتيه الاثنتين. فالرأس يجوز حلقه كله ويجوز تقصيره كله، ويجوز تطويله كله، إلا أنه لا يجوز ذلك في جزء منه فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 أما ما رُوي عن أبي موسى «أنه أُغمي عليه فبكت أم ولد له، فلما أفاق قال لها: أمَا بلغك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فسألناها فقالت، قال: ليس منا من سلق وحلق وخرق» رواه النَّسائي وأحمد ومسلم وأبو داود. فهذا ليس نهياً عن مطلق الحلق بل هو مقيَّد بحالة مصيبة الموت، أي يحرم الحلق حداداً في حالة مصيبة الموت، كما يحرم الصراخ وتمزيق الثياب حداداً وحزناً، ولا يفيد الحديث مطلق النهي عن الحلق. ففي الحديث التاسع أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخَّر حلق رؤوس أبناء جعفر إلى ما بعد ثلاثة أيام من الوفاة، أي هو انتظر حتى انصرمت مدة الحداد. قال ابن عبد البر: قد أجمع العلماء على إباحة الحلق. والحديثان الثالث والرابع يفيدان استحباب غسل الشعر وتنظيفه وترجيله وعدم تركه وسخاً مهملاً. ويفيد الحديثان الخامس والسادس أن يكون الترجيل والتنظيف دون مبالغة ودون اهتمام زائد، والاكتفاء بالاعتدال، وهذا لا يتنافى مع طلب ترجيل الشعر يومياً إن كانت الحاجة تدعو لذلك كحال من له جُمَّة ضخمة كما جاء في الحديث السابع. فالغاية من ذلك طلب الاهتمام بالشعر والعناية به حيناً بعد حين دون مبالغة كما يفعله الشبان في هذه الأيام من حمل الأمشاط في جيوبهم لتسريح شعورهم كل ساعة وكلما هبَّت نسمةُ هواء، أو عقب كل حركة تُخلُّ بترتيب شعورهم المصفوفة بعناية، فإن هذا وأمثاله يدخل تحت النهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أما ما يفعله الرجال في أيامنا هذه من قص شعورهم وتقصيرها، وحلق أسفل شعر القفا فجائز ولا إثم فيه ولا يدخل تحت النهي، وكذلك لا يدخل تحت النهي ما يفعله الشبان أحياناً من إطالة السالفين، فهذا أيضاً جائز، ولا يدخلان تحت القزع المنهي عنه. فقد روى البخاري عن عبيد الله بن حفص أن عمر بن نافع أخبره عن نافع مولى عبد الله أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقول «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن القَزَع، قال عبيد الله قلت: وما القَزَع؟ فأشار لنا عبيد الله قال: إذا حلق الصبي وترك ها هنا شعرة وها هنا وها هنا، فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته وجانبي رأسه، قيل لعبيد الله: فالجارية والغلام؟ قال: لا أدري هكذا قال - الصبي - قال عبيد الله وعاودته فقال: أما القَصَّة والقفا للغلام فلا بأس بهما، ولكن القَزَع أن يُترك بناصيته شعر وليس في رأسه غيره، وكذلك شق رأسه هذا وهذا» فالقَزَع هو أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه الآخر، لا أن يقص شعر رأسه ويقصره ويبقى شعر ناصيته أكثر طولاً، أو شعر عارضيه أكثر طولاً. فالذؤابة جائزة ما دام شعر الرأس لم يُحلق حلقاً، أما إن حُلِق الشعر تماماً فلا يصح أن تبقى الذؤابة على حالها من الطول. أما ما رواه الطبراني عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حلق القفا إلا للحِجامة» فهو حديث ضعيف لا يصلح للاستدلال. 2. نتف الشعر الأبيض : ورد فيه ما يلي: 1 ـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كُتب له بها حسنة، ورُفع بها درجة أو حُط عنه بها خطيئة» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. ورواه الترمذي وحسَّنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 2 ـ عن كعب بن مرة قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول «من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة» رواه الترمذي وحسَّنه. 3 ـ عن فضالة بن عبيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من شاب شيبة في سبيل الله كانت نوراً له يوم القيامة، فقال رجل عند ذلك: فإن رجالاً ينتفون الشيب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن شاء فلْينتف نوره» رواه أحمد والبزَّار والترمذي والنَّسائي. هذه الأحاديث تدلُّ على كراهة نتف الشيب، وبها قال المالكيون والشافعيون والحنابلة، لا فرق في النتف بين نتف الشارب واللحية والحاجبين والرأس، لأن الأحاديث حثت على عدم النتف، ووصفت الشيب بأنه نور، وبأن كل شيبة يُكتب لصاحبها حسنة أو يُحط عنه بها خطيئة إلى آخر ما جاء، فهذا الحث والترغيب قرينة على أن ترك الشيب فيه ثواب، وعلى كراهة النتف. 3. صبغ الشعر الأبيض : وردت فيه أحاديث عديدة نذكر منها ما يلي: 1 ـ عن جابر بن عبد الله قال «جِيءَ بأبي قُحافة يوم الفتح إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأنَّ رأسَه ثَغامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهبوا به إلى بعض نسائه فلْتغيِّره بشيء، وجنِّبوه السواد» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. والثَّغامة: هي شجرة بيضاء الزهر والثمر تنبت في أعالي الجبال. 2 ـ عن عثمان بن عبد الله بن مَوْهب قال «دخلت على أم سلمة، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنها، فأخرجت إلينا شعراً من شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخضوباً بالحِنَّاء والكَتَم» رواه أحمد وابن ماجة. ورواه البخاري دون أن يذكر الحناء والكَتَم. قوله الكتم - بالتحريك: نباتٌ صبغُهُ أسودُ يميل إلى الحمرة يُدق ويُخضب به. والحناء: معروف ولونه أحمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 3 ـ عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن أحسن ما غُيِّر به هذا الشيب الحنَّاء والكَتَم» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح. 4 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود. وقد مرَّ. وقد اختلف العلماء من السلف والخلف في حكم الخضاب، أي صبغ الشيب، فقال بعضهم: ترك الخضاب أفضل، رُوي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وآخرين. وقال آخرون: الخضاب أفضل، رُوي ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة، وعليٍّ في رواية عنه، وعثمان وسعد والحسن والحسين وعقبة بن عامر وابن سيرين. وقد علَّل الطبري هذا الخلاف بقوله (الصواب أن الأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتغيير الشيب وبالنهي عنه كلها صحيحة وليس فيها تناقض، بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب أبي قحافة، والنهي لمن له شمطٌ فقط) . والشَّمط هو القليل من الشعر الأبيض. وأضاف الطبري (واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك، مع أن الأمر والنهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع، ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض) وقال أحمد - وقد رأى رجلاً قد خضب لحيته -: إني لأرى رجلاً يُحيي ميْتاً من السُّنَّة. وفرح به، وهذا يدل على أنه يرى الخضاب سُنَّة، أي مندوباً. وقال النووي وهو من الشافعية (مذهبنا استحباب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصُفْرة أو حُمْرة، ويحرم خِضابه بالسواد على الأصح) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 والذي أذهب إليه هو أن الخِضاب سُنة، وأنه أفضل من تركه، وهذا هو ما تدل عليه الأحاديث، فطلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن نخالف بالصبغ اليهود والنصارى يكفي قرينة على الندب، وهذا الطلب عام يشمل شعر الرأس وشعر اللحية، ويشمل الشيب الكثير والشيب القليل، وتتحقق السُّنة باستعمال أية مادة صالحة للصّباغ، أمّا ما ذُكر في الأحاديث من أن الصباغ بالحناء والكَتْم حسن، فإنه لا يدل على أن الصباغ بغيرهما غير حسن، فقد ورد في َآثار الصحابة أنهم كانوا يصبغون بالورس، ويصبغون بالزعفران، وما ذكر في الأحاديث من مواد صابغة إنما خرج على الأعم الأغلب لا غير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 أما ما أشار إليه النووي بقوله (ويحرم خضابه بالسواد على الأصح) فقد استنبطه من حديث أبي قُحافة « ... وجنِّبوه السواد» كما استدل عليه هو ومن قال بقوله بما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسَّواد كحواصل الحمام لا يَريحون رائحة الجنة» رواه أبو داود وأحمد والنَّسائي. فالجواب عليه هو أن حديث أبي قُحافة لا يدل على التحريم، وإنما هو بيان بأن أبا قُحافة - وهو شيخ كبير- لا يناسب شعرَه السوادُ، فطلب أن يُصبغ بغير السواد، أما الحديث الذي رواه أبو داود عن ابن عباس فإنه لا يدل على كراهة الخضاب بالسواد، بل هو إخبارٌ عن قومٍ هذه صفتهم، وذلك لسببين: أحدهما، أنه يشبه الحديث الذي قيل في الخوارج «سيماهم التحليق» فجعله علامة لهم فحسب دون أن يكون التحليق هو سبب الذم. والثاني، أن عدداً كبيراً من الصحابة والتابعين قد صبغوا بالسواد وقد ذكرهم الطبري، وهم: الحسن والحسين وعثمان وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن جعفر وعقبة بن عامر والمغيرة بن شعبة وجرير بن عبد الله وعمرو بن العاص من الصحابة، وعمرو بن عثمان وعلي بن عبد الله بن عباس وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن بن الأسود وموسى بن طلحة والزُّهري وأيوب وإسماعيل بن معد يكرب من التابعين، ولو كان حراماً لما صبغ كل هؤلاء. ثم إنَّا وجدنا حديثاً مروياً عن صهيب الخير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنَّ أحسن ما اختضبتم به لَهَذا السواد، أرغَبُ لنسائكم فيكم، وأهيب لكم في صدور عدوِّكم» رواه ابن ماجة. قال الهيثمي (إسناده حسن) فهو الفيصل في محل النزاع. 4. وصل الشعر : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ذهب الجمهور إلى أنه يحرم على النساء أن يَصِلْن شعورهن بأي شيء، سواء كان شعراً أو صوفاً أو حريراً أو أي شيء آخر، واستدلوا على هذا التحريم بما روى أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول «زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تصل المرأة برأسها شيئاً» رواه مسلم وأحمد. وبما رُوي أن معاوية قال ذات يوم «إنكم قد أحدثتم زي سَوْءٍ، وإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الزُّور، قال: وجاء رجل بعصا على رأسها خرقة، قال معاوية: ألا وهذا الزُّور، قال قتادة: يعني ما يُكثِّر به النساء أشعارَهن من الخِرَق» رواه مسلم وأحمد. قال ابن حجر (هذا الحديث حُجة للجمهور في منع وصل الشَّعر بشيء آخر سواء كان شَعراً أم لا) وذهب أحمد بن حنبل والليث وكثير من الفقهاء إلى أن النهي هو فقط عن وصل الشعر بالشعر دون غيره من الأشياء، واستدلوا على هذا الحكم بعموم الأحاديث التي نهت عن الوصل بالشعر، مثل ما رُوي عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان عام حجٍّ وهو على المنبر وهو يقول «- وتناول قُصَّةً من شَعر كانت بيد حَرَسيٍّ - أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن مثل هذه ويقول: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤُهم» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي والترمذي. قوله القُصَّة: أي الخصلة. والحَرَسي هو المنسوب إلى الحرس. ووقع في رواية من طريق سعيد بن المسيِّب قال «قدم معاوية المدينة آخر قَدْمة قدمها فخطبنا، فأخرج كُبَّة من شعر قال: ما كنت أرى أحداً يفعل هذا غير اليهود، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماه الزُّور، يعني الوصلة في الشعر» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي. قوله الكُبَّة: أي الشعر المكفوف بعضُه فوق بعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وأصرح من هاتين الروايتين ما رواها النَّسائي عن معاوية بلفظ « ... إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أيما امرأةٍ زادت في رأسها شعراً ليس منه فإنه زور تزيد فيه» فهذه الأحاديث تنهى عن وصل الشعر بالشعر وتسمِّيه الزُّور. واستأنسوا بما رُوي عن سعيد بن جبير قوله (لا بأس بالقرامل) ذكره أبو داود. والقرامل: خيوط من حرير أو صوف أو كتان يعمل ضفائر تصل به المرأة شعرها. وقال آخرون: إن الحرام هو وصل الشعر بشعر الآدمي دون غيره من شعور الحيوانات الطاهرة، وذلك أن أجزاء الآدمي حقُّها الإكرام وعدم الامتهان بالاستعمال. وقال غيرهم: إن الوصل جائز إن كان لضرورة أو كان بإذنٍ وموافقةٍ من الزوج. والمدقق في هذه النصوص وهذه الأقوال يخرج بالرأي القائل بتحريم وصل الشعر بالشعر فحسب دون غيره من الأشياء، بمعنى أن الوصل بالشعر هو فقط المُحرَّم وأمَّا الوصل بالخِرَق والقرامل وما إلى ذلك فإن حكمه الإباحة. ذلك أن النصوص قد بيَّنت العلة من النهي، والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فإذا وجدت العلة وجد الحكم وإذا عدمت عدم الحكم، وهذه العلة هي منع التزوير، أي التدليس والكذب، وهذه العلة لا توجد إلا في وصل الشعر بالشعر الذي يماثله، أو بأية مادة صناعية تشبه الشعر كما هو حاصل هذه الأيام، فإذا وصلت المرأة شعرها بشعر آدمي، أو وصلته بشعر صناعي مشابه للشعر الآدمي، أو بشعر حيواني مشابه للشعر الآدمي فإن ذلك حرام، وهو تزوير وتدليس يدخل تحت النهي والتحريم. أما إن كان الموصول به مادة غير ذلك بحيث لا تخفى على الناظر أنها ليست شعراً للمرأة الواصلة، فلا يعدو كونه مجرد زينة مباحة لا نصَّ يُحرِّمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ويدخل تحت النهي أن تضع المرأة فرواً أو خِرقة أو أي شيء تخفيه تحت شعرها بحيث يظهر شعرها وقد تنامى وبدا كثيفاً، لأنه أيضاً تزوير وتدليس، كما يدخل تحت النهي أن تضع المرأة فوق شعرها غطاء مصنوعاً من شعر الآدمي أو من شعر مشابه لشعر الآدمي وهو المسمى بالباروكة، بحيث يظن الناظر أن شعر الباروكة هو شعر المرأة، لأنه هو الآخر تزوير وتدليس، أما إن كانت الباروكة مصنوعة من فروٍ أو وَبَرٍ أو خيوط من صوف بحيث لا تخفى على الناظر أنها ليست شعر المرأة فلا شيء فيها، وهي لا تخرج عن كونها مجرد غطاء للرأس كالعمامة والطاقية وشبههما. فالعبرة بتحقق العلة من النهي، فما كان تدليساً وتزويراً فهو حرام، وما لم يكن كذلك فهو زينة مباحة لا إثم فيها. أما حديث جابر «زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تصل المرأة برأسها شيئاً» فإن اللفظ لجابر فلا نلتزم بحرفيته، وهذا الحديث يقابله حديث معاوية عند النَّسائي «أيما امرأةٍ زادت في رأسها شعراً ليس منه فإنه زور تزيد فيه» وهو لفظ للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيصبح عندنا لفظان يبدو بينهما تعارض أو اختلاف، لفظٌ لجابر ولفظٌ للرسول عليه الصلاة والسلام، فإن قلنا بوجود اختلاف أو تعارض وجب طرح حديث جابر والعمل بحديث معاوية، وإن قلنا بإمكان التوفيق بينهما عملنا بالإثنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وبالنظر في الحديثين نجد أنه يمكننا أن نجمع بينهما ونعمل بالإثنين معاً فنفسر لفظ جابر بأنه يعني شيئاً من الشعر وليس شيئاً من الأشياء، أي شيئاً من الشعر قليلاً كان أو كثيراً، فيستقيم الحال، إذ لو أننا فسرنا اللفظ بأنه يعني شيئاً من الأشياء لوُجد اختلاف بينه وبين حديث معاوية الذي هو لفظ للرسول عليه الصلاة والسلام، فنُضطر للعمل بلفظ الرسول عليه الصلاة والسلام وطرح لفظ جابر، إضافة إلى أن هذا التفسير يتعارض مع العلة من النهي الواردة في حديث معاوية وهي التزوير، إذ أن التزوير منتفٍ بوصل الشعر بالخرق وأشباهها، فلا يكون مندوحة عن التفسير الأول أو طرح الحديث برُمَّته، وتفسيره الأول أولى من طرحه بلا شك، فالقائلون بتحريم الوصل بالخرق لا يستطيعون قبول حديث معاوية المعلَّل إلا بتكلُّف شديد، لأنهم لا يستطيعون التوفيق بين تحريم الوصل بالخرق وتحريم الوصل الموصوف بالتزوير، وهذا ظاهر تماماً. أما استشهادهم بحديث معاوية عند مسلم وأحمد «وجاء رجل بعصا على رأسها خِرقة، قال معاوية: ألا وهذا الزُّور» فمردود من وجهين: أحدهما أنه فهمٌ لمعاوية، وفهم معاوية ليس دليلاً شرعياً، وثانيهما أن هذه الرواية تقابلها رواية أخرى تقول إن الذي استشهد به معاوية هو قُصَّة من شعر، ورواية ثالثة تقول إن معاوية قد استشهد بكُبَّة من شعر، فكيف نأخذ بالرواية المنفردة وندع الروايتين المتعاضدتين؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 أما قول بعض الفقهاء إن الوصل إذا كان لضرورة كمرضٍ مثلاً فلا بأس به، فهو مردود بحديث أسماء قالت «سألت امرأةٌ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إن ابنتي أصابتها الحصبة فامَّرَقَ شعرُها وإني زوَّجتها أَفأَصِلُ فيه؟ فقال: لعن الله الواصلة والموصولة» رواه البخاري. ورواه بلفظ ثان « ... أفأصل رأسها؟ فسبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواصلة والمستوصلة» فهنا روايتان إحداهما تضمنت اللعن، والأخرى تضمنت السَّبَّ، وهما أبلغ ما يكون في النهي. ثم إن الضرورة هي أن يكون الوصل يعالج مرضاً لا أن يعالج حالة نتجت عن مرض، والفرق بينهما واسع. ثم من أين جاءت إباحة هذا الحرام لضرورة هنا؟. إن هذا القول لا شك يتصادم مع الحديث الشريف ويبطله، وهو قول لا يحل لأحد أن يقوله. بقي قول من قال إن وصل الشعر جائز إن كان بعلم الزوج وبإذنه، فهذا القول مردود بعموم الأحاديث التي تنهى عن الوصل دون تخصيص أو تقييد برضا الزوج وبعلمه، ومردود بما وقع في رواية عند مسلم « ... إني زوجت ابنتي، فتمرَّق شعر رأسها وزوجُها يستحسنها، أفأصل يا رسول الله؟ فنهاها» قال ابن حجر في فتح الباري (وذهب الليث ونقله أبو عبيدة عن كثير من الفقهاء أن الممتنع من ذلك وصل الشعر بالشعر، وأما إذا وصلت شعرها بغير الشعر من خرقة وغيرها فلا يدخل في النهي) وأضاف (وفصل بعضهم بين ما إذا كان ما وصل به الشعر من غير الشَّعر مستوراً بعد عقده مع الشَّعر بحيث يظن أنه من الشَّعر، وبين ما إذا كان ظاهراً فمنع الأولَ قومٌ فقط لما فيه من التدليس وهو قوي، ومنهم من أجاز الوصل مطلقاً سواء كان بشَعر أو بغير شَعر إذا كان بعلم الزوج وبإذنه، وأحاديث الباب حُجة عليه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 والخلاصة هي أن وصل الشعر بما يماثله من شعر الآدمي، أو يشابهه من شعر الحيوان أو الخيوط الصناعية حرام كله، وما سوى ذلك مما لا يخفى ويبدو متمايزاً مغايراً للشعر فجائز لا إثم فيه، وهو من الزينة التي أباحها الله سبحانه للنساء كالقرامل، وغرز الأزهار الصناعية والطبيعية، ولبس الأطواق وتوشيته بأصناف الزخارف التي تبدو أنها ليست شعراً، فكل ذلك جائز. 5. نفش الشعر : إن ما تفعله النساء في هذه الأيام من رش شعورهن بمواد تُصلِّب الشعر فيبدو كثيفاً منتصباً، أو تسليطِ هواء ساخن يخرج من أداة كهربية يسمينها السِّشْوار يؤدي إلى نفش الشعر وجعله يبدو أكبر من حجمه، هو جائز ولا يدخل تحت النهي عن الوصل، ولا يقال إنه تغيير في شكل الشعر وحجمه وإنه بالتالي تزوير وتدليس، لا يقال ذلك وإلا لكان دهن الشعر وتلبيده وتضفيره حراماً، لأنه يغير من شكله وحجمه، والتلبيد جائز لما روى البخاري «كان ابن عمر يقول: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُلبِّداً» وضغط الشعر لتسكين ثائِرِه جائز لحديث عطاء بن يسار المارِّ في بحث [إكرام الشعر] . 6. فرق الشَّعَر: يجوز فرق الشعر لما رُوي أنَّ ابن عباس رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يُؤْمر فيه، وكان أهل الكتاب يَسْدِلون أشعارهم، وكان المشركون يفرُقون رؤوسهم، فسدل النبي - صلى الله عليه وسلم - ناصيته ثم فرق بعد» رواه البخاري ومسلم والنَّسائي. حكمُ الاكتحال والتَّطيُّب وردت في الاكتحال والتًّطيُّب أحاديث كثيرة نذكر منها ما يلي: 1- عن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له مكحلة يكتحل بها كل ليلة، ثلاثة في هذه وثلاثة في هذه» رواه الترمذي وحسَّنه. ورواه ابن حِبَّان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 2- عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «خير أكحالكم الإِثْمِد، يجلو البصر ويُنبت الشَّعر» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والدارمي وابن ماجة. والإِثمِد هو حجر الكحل المعروف لونه أسود يضرب إلى الحمرة. 3- عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «حُبِّبَ إليَّ من الدنيا النساءُ والطِّيبُ، وجُعِل قُرَّةُ عيني في الصلاة» رواه أحمد والنَّسائي والبيهقي. ورواه الحاكم وصحَّحه، وحسنه ابن حجر والسيوطي، وجوَّد العراقي إسناده. 4- عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من عُرض عليه طيبٌ فلا يردَّه، فإنه خفيف المحمل طيِّب الرائحة» رواه النَّسائي وأبو داود. ورواه مسلم بلفظ «من عُرض عليه ريحان فلا يردَّه ... » ورواه الترمذي عن النهدي بلفظ «إذا أُعطي أحدكم الرَّيْحان فلا يردَّه ... » . 5- عن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قال «ذُكر المِسك عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هو أطيب الطِّيب» رواه أحمد ومسلم والحاكم ومالك والنَّسائي. 6- عن محمد بن علي قال «سألتُ عائشة: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتطيَّب؟ قالت: نعم بذِكارة الطِّيب: المسكِ والعنبر» رواه النَّسائي. والذِّكارة: ما يصلُح للذكور. 7- عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «طِيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه» رواه النَّسائي والبيهقي وأبو داود. ورواه الترمذي وحسنه. 8- عن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «غُسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطّيب ما قدر عليه ... ولو من طِيب المرأة» رواه مسلم وأحمد. وروى البخاري من طريق سلمان بلفظ «ويدَّهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج» . 9- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التَّزعفر للرجال» رواه الترمذي وأبو داود والبخاري ومسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 10- عن يعلى بن مرة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً مُتخلِّقاً قال: اذهب فاغسله، ثم اغسله، ثم لا تَعُد» رواه التِّرمذي والنَّسائي وأحمد. قال التِّرمذي: هذا حديث حسن. قوله متخلِّقاً: أي مطليَّاً بالخَلوق، وهو طيب تغلب عليه الحُمرة والصُّفرة. 11- عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كل عينٍ زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرَّت بالمجلس فهي كذا وكذا، يعني زانية» رواه الترمذي والنَّسائي وأحمد والدَّارمي. قال التِّرمذي: حديث حسن صحيح. والاكتحال هو وضع الكُحل في الجفون لتقويتها وتجميلها، وهو يتحقق باستعمال أية مادة صالحة وليس الإِثْمِد فحسب، فكل مادة سوداء ناعمة تثبت في الأجفان يجوز الاكتحال بها، فيجوز الاكتحال بالكحل السائل الذي يوضع بالفرشاة، ويجوز الاكتحال بالكحل الصلب المصنوع على هيئة الأقلام، كما يجوز الاكتحال بالكحل المسحوق باليد أو بالمِيل. والكحل زينة مشتركة للرجال والنساء فلا يكون أحدهما مُتَشَبِّهاً بالآخر إن هو اكتحل. ويُندب للرجل وللمرأة إن هما اكتحلا أن يُوتِرا، بأن يكتحلا في كل عين ثلاثاً أو خمساً أو أقل أو أكثر، وذلك للحديث الأول، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام يحثّ على الوتر « ... إن الله وتر يحب الوتر» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأصحاب السُّنن. وهذا الفعل من قبل الرجال قد أوشك على الانقراض. والاكتحال يجوز للنساء الظهور به على أن لا يكون صارخاً يُلفت نظر الرِّجال، فيكون من التبرُّج المُحرَّم. أما التَّطيُّب فهو أيضاً مشترك بين الرجال والنساء، وحكمه الندب، فالحديث الرابع يقول «مَن عُرض عليه طيبٌ فلا يردَّه» وهو عام يشمل الرجال والنساء، وكذلك الحديث الخامس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 إلا أن هناك فارقاً بين طيب الرجال وطيب النساء ذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابع، وهو أن طيب الرِّجال له رائحة وليس له لون، كالمسك والعنبر والعود والعطور والبخُّور التي لا لون لها، وأن طيب النساء ما له لون وليست له رائحة، كالزَّعفران والخَلوق وأشباههما، يدل على هذا الحديثان التاسع والعاشر، اللهم إلا أن تستعمل النساء ما له رائحة في بيوتهن وأمام محارمهن والنساء فحسب فإن ذلك جائز، لأن هؤلاء يحل لهم الاطِّلاع على زينة المرأة، فإن فعلت فلا يحل لها الظهور به أمام الرجال الأجانب ولا الخروج به، وإلا وقعت تحت تحذير الحديث الحادي عشر الذي يفيد التَّشديد في التَّحريم، والحديث الذي رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أيُّما امرأةٍ أصابت بخُّوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. وفي المقابل فإنه يجوز للرجال التَّطيُّب بما له لون إن عدم ما له رائحة دون لون، ودليل ذلك الحديث الثامن. ولكن ينبغي أن يكون ذلك في أضيق الحدود، كما لو استعمله في أيام عرسه، بدليل ما رُوي عن أنس «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه رَدْعُ زعفران، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَهْيَم؟ فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة، قال: ما أصدقتَها؟ قال: وزن نواةٍ من ذهب، قال: أولِم ولو بشاة» رواه أبوداود. ورواه أحمد ولفظه «لقي عبد الرحمن بن عوف وبه وَضَرٌ من خَلوق ... » والرَّدع هو أثر الطيب. وكلمة مهيم كلمة استفهام معناها ما شأنك؟ والوضَر هوالأثر. فهذا الحديث يذكر مرة الزعفران، وهو نبات يُصبغ به فيعطي صفرة، ومرة الخَلوق، وهو يعطي حمرة وصفرة. والزعفران والخَلوق من طيب النساء إلا أن عبد الرحمن قد استعملهما في أيام عرسه، فلم ينكر عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 والاكتحال والتعطر مندوبان للرجال والنساء إلا في حالة الحداد فيَحْرُمان، فلا يصح للمعتدَّة المتوفَّى عنها زوجها أن تكتحل وتتطيب طيلة فترة العدة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام وسائر النساء ثلاثة أيام فحسب، وقد وردت عدة أحاديث تبين هذا الحكم أذكر منها: 1 - عن أم سلمة رضي الله عنها «أن امرأة توفِّي زوجها فخشوا على عينيها، فأتَوْا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنوه في الكُحل، فقال: لا تكتحل، قد كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها - أو شرِّ بيتها - فإذا كان حولٌ فمرَّ كلبٌ رمت ببعرة، فلا حتى تَمضي أربعةُ أشهر وعشرٌ» رواه البخاري ومسلم وأحمد. والأحلاس: هي الثياب. 2 - عن زينب بنت أبي سلمة قالت «دخلت على أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين توفي أبوها أبو سفيان، فدعت أم حبيبة بطيبٍ فيه صُفرة خَلوق أو غيره، فدهنت منه جارية ثم مست بعارضَيْها، ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحدُّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ... » رواه مسلم والبخاري وأحمد. ولكن رُخِّص للمعتدَّة إذا طهرت من الحيض وأرادت الاغتسال أن تمس شيئاً من المواد المُزيلة للروائح لإزالة رائحة دم الحيض، لما روت أم عطية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال « ... ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلا إذا طهُرت نُبْذة من قُسْطٍ أو أَظفار» رواه مسلم. والقُسط والأظفار: هما نوعان من البخور. أما المطلَّقة فإنه لم يرد فيها أي نصٌّ يفيد وجوب امتناعها عن التزيُّن ومنها الاكتحال والتطيُّب، فلا يحرم عليها ذلك، لا فرق بين المدخول بها وغيرها، ولا بين الرجعية والبائنة خلافاً لعدد من الفقهاء الذين يُلحقونها بالمعتدَّة في وجوب الامتناع عن التَّزين. ونحن هنا لسنا بصدد بحث هذه المسألة تفصيلاً، وحسبنا هذه الإشارة فحسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 بقيت نقطة هي ما عمَّ هذه الأيام وشاع من استعمال العطور التي تدخل الكحولُ المسكرة في صناعتها، فهذه العطور يحرم استعمالها، وقد تقدم بيان ذلك في مسألة الاستحالة، فليحذر المسلمون من استعمالها لأنها نجسة ومحرَّمة، ويمكنهم التَّحرِّي عنها بسؤال الصيدلي الخبير الموثوق عند شرائها، فما دخلت الكحول المسكرة في تركيبها تركوها وما سواها فجائز. الفصل السابع الأغسالُ المستحبَّة بالنصوص وإنما قلنا (بالنصوص) لأجل التفريق بين الأغسال التي وردت نصوص خاصة بها تحث عليها، وبين الأغسال المستحبة التي لم ترد فيها نصوص خاصة بها. لقد حث الشرع على النظافة، فدخلت عموم الأغسال تحت هذا الحث، فكانت مندوبة لأجل هذا، إلا أن الشرع قد خصَّ مناسباتٍ معينةً بنصوص خاصة، ولم ينصَّ على ما عداها لتبقى داخلة فقط تحت عموم النصوص الحاثة على النظافة. ونحن هنا في هذا الفصل نتناول فقط المناسبات المخصوصة بالنصوص. وهذا الفصل وهذا القول يتناولان المستحبَّ المندوب من الأغسال، دون الواجب منها كغسل الجنابة وغسل الحيض مثلاً، لأن لهذه موضعاً آخر غير هذا الموضع. باستعراض الأدلة الصالحة نجد أن الشرع قد حدد أربع مناسبات فقط يُغتسل فيها هي: أ- يوم الجمعة. ب- عند الإحرام ودخول مكة. ج- عقب الإفاقة من الإغماء. د- عقب تغسيل الميت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 هذه هي المناسبات الأربع فحسب التي خصَّها الشرع بنصوص تحث على الاغتسال فيها، أما ما سواها من المناسبات كالعيدين ويوم عرفة والاعتكاف وحلق العانة والحجامة وغيرها فلم ترد فيها نصوص صالحة للاستدلال تحثُّ على الاغتسال فيها. فمثلاً روى أحمد وابن ماجة عن الفاكِهِ بن سعد «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم الفطر ويوم النحر، قال: وكان الفاكِهُ بن سعد يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام» فهذا الحديث في إسناده يوسف بن خالد متَّهم بالكذب والزَّندقة. ومثلاً روى البيهقي عن ابن عباس قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل يوم الفطر ويوم الاضحى» فهذا الحديث في إسناده حجاج بن تميم قال عنه ابن عدي: روايته ليست بمستقيمة. وفي إسناده أيضاً جُبارة ضعَّفه البخاري والنَّسائي، ورماه ابن معين بالكذب. ومثلاً روى البيهقي وأحمد وأبو داود والدارقطني عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «يُغتسل من أربع: من الجنابة ويوم الجمعة ومن غسل الميت والحجامة» قال التِّرمذي (سألت البخاري عنه فقال: إن ابن حنبل وعلي بن عبد الله قالا: لا يصح في هذا الباب شيء وليس بذاك) . ومثلاً روى البيهقي أنَّ عائشة رضي الله عنها تقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الغسل من خمسة: من الجنابة والحِجامة وغسل يوم الجمعة وغسل الميت والغسل من ماء الحمَّام» قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله - يعني ابن حنبل- يتكلم في مصعب - هو مصعب بن شيبة أحد الرواة - ويقول: أحاديثه مناكير، وسمعته يتكلم في هذا الحديث بعينه. ولكنني أقول: لئن لم يثبت حديثٌ في غسل العيدين ولا في الحجامة ولا في يوم عرفة ولا في غيرها غير ما ذُكر من مناسبات أربع، فإن الغسل في هذه المناسبات إن كانت تحصل منه نظافة وإزالة دَرَن ووسخ فإنه مندوب لعموم الأدلة، دونما حاجة لسوق أدلة ضعيفة أو واهية تدلُّ عليه. ونذكر الآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 هذه المناسبات الأربع بشيء من التفصيل: غسلُ يوم الجمعة وردت في غسل يوم الجمعة أحاديث عديدة نذكر منها ما يفي بالغرض ثم نذكر الآراء المتعددة في حكمه، ثم نستخلص الحكم الراجح بحول الله. 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال «إذا جاء أحدكم الجمعة فلْيغتسل» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. ووقع في رواية أُخرى عند مسلم «إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل» . 2 - عن أبي سعيد قال: أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يَسْتنَّ، وأن يمسَّ طيباً إن وجد» رواه البخاري ومسلم وأحمد، وقد مرَّ في بحث السواك. 3- عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «حقٌّ لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده» رواه مسلم والبخاري وأحمد والنَّسائي. 4- عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «على كل مسلم غُسلٌ في سبعة أيام كلَّ جمعة» رواه أحمد والنَّسائي وابن خُزَيمة. 5- عن ابن عمر «أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجل من المهاجرين الأوَّلين من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - فناداه عمر: أية ساعة هذه؟ قال: إني شُغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد أن توضأت، فقال: والوضوء أيضاً؟ وقد علمتَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل» رواه البخاري ومسلم وأحمد والتِّرمذي ومالك. 6- عن سَمُرَة بن جندب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فهو أفضل» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن خُزَيمة. ورواه التِّرمذي وحسَّنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 7- عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم من العوالي، فيأتون في العَبَاء ويصيبهم الغبار فتخرج منهم الريح، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو أنكم تطهَّرتم ليومكم هذا» رواه مسلم والبخاري. وروى أحمد الحديث مختصراً، وجاء في آخره «فقيل لهم لو اغتسلتم» والعَبَاء: جمع عباءة، وهي معروفة. والعوالي: قرى خارج المدينة على مسافة أربعة أميال. 8- عن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول «من غسَّل يوم الجمعة واغتسل ثم بكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يَلْغُ، كان له بكل خطوةٍ عملُ سنة أجر صيامها وقيامها» رواه أبو داود وأحمد والنَّسائي. ورواه التِّرمذي وقال: حسن. ورواه الطبراني بإسناد حسَّنه العراقي. 9- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غُفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسَّ الحصى فقد لغا» رواه مسلم وأحمد. 10- عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من اغتسل يوم الجمعة وتطهَّر بما استطاع من طُهر، ثم ادَّهن أو مسَّ من طيب، ثم راح فلم يفرِّق بين اثنين، فصلى ما كُتب له، ثم إذا خرج الإمام أنصت، غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» رواه البخاري. ورواه أحمد وأبو داود من طريق أُخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 اختلف الأئمة والفقهاء في حكم غُسل الجمعة، فذهب أهل الظاهر وأحمد في قول له وابن خُزَيمة والشوكاني، ومن التابعين الحسن، ومن الصحابة فيما رُوي عنهم عمر وأبو هريرة وعمَّار إلى وجوب غسل الجمعة، واستدلوا على الوجوب بالحديث الثاني وفيه أن غسل الجمعة واجب، وبالثالث وفيه أن غسل الجمعة حقٌّ لله على كل مسلم، وبالخامس وفيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّب عثمان رضي الله عنه لتركه الغسل، وهو المَعْنِيُّ في الحديث، يشهد له ما وقع في روايةٍ لمسلم عن أبي هريرة قال «بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس يوم الجمعة إذ دخل عثمان بن عفان فعرَّض به عمر، فقال: ما بال رجال يتأخرون ... » وقالوا لولا أن ترك الغسل إثم لما أنَّبه عمر، وعن الحديث التاسع «من توضأ فأحسن الوضوء» قالوا: ليس فيه نفي الغُسل، وردُّوا على بقية الأحاديث التي استدل بها من قالوا بالندب بأنها ليست في مستوى أحاديثهم من حيث القوة والصحة، وأنها لا تصلح لمعارضة الأحاديث القائلة بالوجوب. قال الشوكاني بعد أن استعرض أقوال القائلين بالندب (وبهذا يتبين لك عدم انتهاض ما جاء به الجمهور من الأدلة على عدم الوجوب، وعدم إمكان الجمع بينها وبين أحاديث الوجوب، لأنه وإن أمكن بالنسبة إلى الأوامر لم يمكن بالنسبة إلى لفظ واجب وحق إلا بتعسُّف لا يلجيء طلب الجمع إلى مثله، ولا يشك من له أدنى إلمام بهذا الشأن أن أحاديث الوجوب أرجح من الأحاديث القاضية بعدمه، لأن أوضحها دلالة على ذلك حديث سَمُرة وهو غير سالم من مقال وسنبيِّنه، وأما بقية الأحاديث فليس فيها إلا مجرد استنباطات واهية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وذهب جمهور العلماء من السلف والخلف وفقهاء الأمصار: الأوزاعي والثوري ومالك والشافعي وأحمد في رواية أخرى وابن المنذر وابن قُدامة وأصحاب الرأي والتِّرمذي إلى أن غسل الجمعة مندوب وليس بواجب، واستدلوا على رأيهم بالأحاديث: الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر، وحملوا قوله عليه الصلاة والسلام «الغُسل يوم الجمعة واجب» وقوله في الحديث الثالث «حقٌّ لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام» حملوهما على تأكيد الاستحباب، وفسروا الحديث الخامس بأن عثمان لو كان يعلم أن غسل الجمعة واجب لما تركه، ولو تركه لما سمح له عمر بالصلاة ولأخرجه من المسجد، وقالوا إن غسل يوم الجمعة معلل بالنظافة للحديث السابع، وهذه العلة تصرف الأمر إلى الندب، وقالوا إن الحديث الثاني فيه ثلاثة أوامر منها السواك والتطيُّب وهما مندوبان، وأن ذلك دليل على أن الغسل مندوب، واستدلوا أيضاً بالحديث السادس وهو صريح في الندب، وبالحديث التاسع الذي لم يأت على ذكر الغسل ولو كان واجباً لذُكر. هذه هي أدلة الفريقين على ما ذهبا إليه. والذي يترجَّح لديَّ هو أن غسل يوم الجمعة مندوب وليس بواجب، وذلك لما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 1- إن الموضوع ليس موضوع مجموعتين من الأحاديث تعارضتا ولا يمكن الجمع بينهما فلا بد من ترجيح إحداهما على الأخرى، حتى يأتي قول من يقول إن الأحاديث الدالة على الوجوب أصح إسناداً من الأحاديث الدالة على الندب، فتؤخذ هذه وتُترك تلك، وإنَّ قول الشوكاني (عدم إمكان الجمع بينهما) وتعليله ذلك بأن أحاديث الوجوب فيها لفظتا (واجب وحق) وقوله (إن أحاديث الوجوب أرجح من الأحاديث القاضية بعدمه) هو قول غير مسلَّم به، وذلك لأن الأحاديث القاضية بالندب هي أحاديث صحيحة وحسنة لا يجوز طرحها وإسقاطها بهذه السهولة بحجة عدم إمكان الجمع بينها وبين الأحاديث الأخرى، والمعلوم أن الجمع بين الأدلة وإعمالَها كلها خير من إهمال بعضها، وهنا الأحاديث يمكن الجمع بينها، خاصة وأن الفريقين لم يقولا بالنسخ. 2- إن لفظتي (واجب وحق) لا تفيدان بالضرورة الوجوب الشرعي الذي هو أحد الأحكام الخمسة في الإسلام، فقد تفيدان ذلك وقد لا تفيدان، والقرائن هي التي تعيِّن وتحدِّد أياً من ذلك هو المقصود، وهنا قرائن لا بد من الالتفات إليها وستأتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 3- بالنظر في الأحاديث نجد ما يلي: الحديث الأول فيه طلب الاغتسال، وهذا الطلب بحاجة إلى قرينة أو قرائن تعيِّن المراد منه هل هو للوجوب أم للندب أم للإباحة؟ والحديث الثاني يقول: الغسل يوم الجمعة واجب، ثم يقول: وأن يستنَّ ثم يقول: وأن يمسَّ طِيباً. وهذا السِّياق يعني أن الغسل واجب، وأن يستنَّ أي يتسوَّك واجب، وأن يمسَّ طيباً واجب، أي أن الغسل والسواك والتَّطيُّب واجبات. هذا هو ما يدل عليه ظاهر الحديث لو لم توجد قرائن تصرف الحديث عن هذا المعنى الظاهر، غير أن لدينا أحاديث تفيد غير ذلك، وقرينة تصرف الحديث عن ظاهره. أما القرينة فهي أن الثابت من النصوص هو أن السِّواك مندوب، وأن الثابت كذلك هو أن التطيُّب مندوب، وهذا الحديث يفهم منه أن الغسل واجب والسواك واجب والتطيُّب واجب، وكأن معنى الحديث هو أنَّ السواك المندوب واجب، وأنَّ التطيُّب المندوب واجب، وهذا غير ممكن طبعاً، ولذا وجب فهم الحديث بصرف لفظة واجب عن الواجب الشرعي، وحمل هذه اللفظة على مجرد الحث والتشديد فيه دون أن تصل إلى الوجوب الشرعي. وإذا كان ذلك كذلك فقد بطلت حجة من يقول بوجوب الغسل للجمعة من هذا الحديث، وإلا لَلَزمهم القول بوجوب السِّواك وبوجوب التطيُّب، وهم لا يقولون بذلك. أما دليلهم الثاني وهو الحديث الثالث «حقٌّ لله على كل مسلم أن يغتسل» فهو أيضاً لا يصلح للاستدلال به على وجوب غسل الجمعة، وإن غاية ما يفيد هي الحث على الاغتسال، وذلك أن المباح حق، والمندوب حق، كما أن الواجب حق، والحق ضد الباطل أي الحرام. وكلمة حق ليست واحدة من الأحكام الشرعية الخمسة، فالأحكام الخمسة هي المباح والمندوب والفرض أو الواجب والمكروه والحرام، وليس منها الحق، ولذا فإنه يجب عند ورود هذه اللفظة في نص أن يُبحث لها عن قرينة تعيِّن الحكم الذي تدلُّ عليه، ولا يصح صرفها إلى الواجب الشرعي رأساً، لأنها ليست متلازمة معه وإلا خرج المندوب والمباح عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 كونهما حقاً، فلم يبق إلا أن يدخلا في الباطل، وهذا نظر فاسد لا يصح. وقد استعمل العرب هذه اللفظة للدلالة على مطلوبات لازمةٍ أدبياً كقولهم حقُّك عليَّ أن أزورك، أو حقِّي عليك أن تساعدني في محنتي، وأمثال ذلك مما لا يصح أن يفهم منه الوجوب والحتم، وهذا الحديث هو من هذا القبيل. قال مجد الدين عبد السلام بن تيمية صاحب المنتقى (وهذا يدل على أنه أراد بلفظ الوجوب تأكيد استحبابه، كما تقول حقُّك عليًّ واجب والعِدةُ دَيْن، بدليل أنه قرنه بما ليس بواجب بالإجماع وهو السِّواك والطيب) ومما يشهد لصحة فهمنا حديث أورده ابن حِبَّان عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «حقًّ على كل مسلم أن يغتسل كل سبعة أيام، وأن يمسَّ طيباً إن وجده» فقد أطلق هذا الحديث لفظة (حق) على الغسل وعلى التطيًّب، والمعلوم عند الجميع أن التطيًّب ليس واجباً في الشرع، فهذا دليل ناصع على أن إطلاق لفظة (حق) على الغسل لا يعني بالضرورة أن الغسل واجب شرعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 أما الحديث الخامس فهو محتمل فلا يصلح للاحتجاج به على أيٍّ من الرأيين إلا بنوعٍ من التأويل، فبالتأويل يمكن اعتباره دليلاً على وجوب الاغتسال يوم الجمعة، بالقول إن عمر ما كان له أن يعنِّف رجلاً مثل عثمان أمام المسلمين ويقطع خطبة الجمعة إلا لتركه فرضاً، ولو كان عثمان قد ترك مندوباً لما قطع عمر الخطبة وعنَّفه، خاصة وقد استشهد بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالغسل. وبالتأويل أيضاً يمكن اعتباره دليلاً على عدم الوجوب لأن عثمان لم يغتسل، ومثله يبعد أن يترك واجباً، فكما أنه لم يترك فرض الوضوء كذلك لا ينبغي له أن يترك الغسل لو كان فرضاً. أما تعنيف عمر له على ترك الغسل وقطع الخطبة لذلك، فيُرد عليه بأن عمر لم يقطع الخطبة لأجل ترك عثمان الغسل، وإنما قطعها لأجل تأخر عثمان في الوصول إلى المسجد لصلاة الجمعة، ثم انتقل الحديث إلى الغسل والوضوء، وإن الحديث يدل على أن الصحابة كانوا يحرصون على السنن والنوافل، ويحاسب بعضهم بعضاً عليها، فالحديث إذن محتمل، فلا يصلح دليلاً على أيٍّ من الرأيين. أما الحديثان السادس والسابع فهُما نصٌّ في محل النزاع لا يحتاجان إلى تأويل، ولا يسهل دفعهما، وهما دليلان صريحان على استحباب غسل الجمعة ونفي الوجوب عنه، كما أنهما قرينة على حمل حديث الحق على الاستحباب. ولم يستطع أصحاب الرأي القائل بالوجوب تأويلهما، ولم يجدوا سوى ردِّهما بحجة أن إسنادهما أضعف من إسناد أحاديث الوجوب، وقد أخطأوا خطأً بيِّناً، لأن إسناد الأول إن كان حسناً فإن إسناد الثاني في غاية الصحة والقوة، ولأن هذه الأحاديث يمكن الجمع بينها عكس ما ذهبوا إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الحديث السادس يقول «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فهو أفضل» وهو نصٌّ فيصلٌ في جواز ترك الغسل، وهو دليلٌ رادٌّ للوجوب ودالٌّ في الوقت نفسه على الندب، لأنه وصف الغسل بأنه أفضل. والحديث السابع فيه قرينتان صارفتان الغسلَ عن الوجوب: الأولى التعليل بأن غسل الجمعة إنما هو لأجل إزالة الأوساخ والروائح، أي لأجل النظافة، وإن إزالة الأوساخ مندوبة وليست واجبة، والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فالمسلم إذا كان نظيفاً لا يحمل وسخاً، ولا تنبعث منه رائحة كريهة لا يلزمه الاغتسال، لأن الغسل معلَّل بإزالة الوسخ، ولا وسخ يزال فيسقط التكليف. والقرينة الثانية هي قوله عليه الصلاة والسلام «لو أنكم تطهَّرتم ليومكم هذا» فهو عرض، وهو أخف من الأمر، وهو يدل على التخفيف في الطلب، ولو كان واجباً لما قال ما قال. ومما يدل على عدم وجوب الغسل يوم الجمعة دلالةً أكيدة وأن الغسل معلَّل بإزالة النظافة إضافةً إلى ما سبق، هو ما رُوي عن عكرمة «أن أُناساً من أهل العراق جاءوا فقالوا: يا ابن عباس أترى الغُسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدءُ الغسل: كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مُقارِب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم حارٍّ، وعرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضُهم بعضاً، فلما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الريح قال: أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا، وليمسَّ أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه. قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف وكُفُوا العمل ووُسِّع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضاً من العرق» رواه أبو داود وأحمد والبيهقي. ورواه الحاكم وصححه هو والذهبي على شرط البخاري، وحسَّنه النووي وابن حجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وبذلك يترجح الرأي القائل بالندب على الرأي القائل بالوجوب، وبذلك لا نحتاج للنظر في الأحاديث: الثامن والتاسع والعاشر، لنستدل بها أيضاً على مطلوبنا كما فعل أصحاب الرأي القائلين بالندب، لأنها ليست من الوضوح في الدلالة بحيث يُستطاع بها إقناع الآخرين بصلاحيتها لإثبات حكم الندب، كما أنه ينبغي أن يُعلم أننا تركنا الاستدلال بها لأن الآخرين لم يستدلوا بها على الوجوب، وإلا لوجب النظر فيها والتوقف عندها، فلما لم يستشهد بها الآخرون استشهاداً يدعم رأيهم، ولما كان استشهاد الفريق الأول بها استشهاداً احتاج إلى نوع من التأويل، فقد تركنا الوقوف عندها والاكتفاء بما سبق من أدلة. والخلاصة هي أن الشرع حث المسلمين على الاغتسال يوماً في الأسبوع كما جاء في الحديثين الثالث والرابع، وتحدَّد وتعيَّن في الأحاديث الأخرى بأنه يوم الجمعة، فالأصل أن يُصار إلى الاغتسال يوم الجمعة لا غيره، وكون العلَّة هي النظافة، فإن الغسل وإن كان مندوباً في أية ساعة من يوم الجمعة إلا أن الأحاديث خصَّصته وحضَّت على أن يكون قبل الصلاة، فالأصل أن يُصار إلى ذلك، فيغتسل المسلم يوم الجمعة قبل الصلاة دون تحديدٍ بساعةٍ معينة من ساعات ما بين الفجر والزوال. غُسل الإحرام ودخول مكة وردت فيه الأحاديث التالية: 1- عن زيد بن ثابت «أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرَّد لإهلاله واغتسل» رواه التِّرمذي وحسَّنه. ورواه أيضاً الدارقطني والبيهقي والطبراني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 2- عن عائشة رضي الله عنها قالت «نُفِسَتْ أسماءُ بنتُ عُمَيس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن تغتسل فتُهلَّ» رواه أبو داود وابن ماجة ومالك ومسلم. ولمسلم وابن حِبَّان وابن ماجة من طريق جابر بلفظ « ... فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحُلَيْفة، فولدت أسماءُ بنتُ عُمَيس محمدَ بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثْفِرِي بثوبٍ وأَحْرِمي ... » قوله استثفري: أي تحفَّظي بخِرقة قماش لمنع نزول الدم. 3- عن نافع «أن ابن عمر كان لا يَقْدم مكة إلا بات بذي طُوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهاراً، ويَذْكُر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله» رواه مسلم وأحمد وأبو داود. ورواه البخاري ولفظه «كان ابن عمر رضي الله عنه إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي به الصبح ويغتسل، ويحدِّث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك» وذو طوى: هو موضع في مدخل مكة تُفتَح طاؤُه أو تُضمُّ أو تُكْسر. قال ابن المنذر (الاغتسال عند دخول مكة مستحبٌّ عند جميع العلماء) وبه أقول. وإنما قلت بالغُسل عند دخول مكة والإحرام معاً، لأن الأصل في المسلم أن يدخل مكة مُحْرِماً وليس دون إحرام، ولكن إن دخلها دون إحرام فالمستحب له أيضاً الاغتسال، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اغتسل لدخول مكة عام الفتح وهو حَلالٌ يُصيب الطِّيب، ذكر ذلك الشافعي في الأم. وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه كان يغتسل إذا دخل مكة ويأمرهم بذلك» رواه ابن أبي شيبة. وإنَّ أوضحَ دليلٍ على استحباب الغُسل هو الحديث الثاني إذ فيه الطلب من أسماء أن تغتسل رغم أنها نُفَسَاء وهذا وحده كافٍ للاستدلال على استحباب غُسل الإحرام ودخول مكة، وما سواه فدونه في الدلالة. غُسل مَن أُغمي عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ورد فيه الحديث الطويل الآتي: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال «دخلتُ على عائشة فقلت: ألا تُحدِّثيني عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: بلى، ثَقُل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أَصلَّى الناسُ؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك، قال: ضَعوا لي ماء في المِخْضَب، قالت: ففعلنا، فاغتسل فذهب لينوءَ فأُغميَ عليه، ثم أفاق فقال - صلى الله عليه وسلم -: أَصَلَّى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ضعوا لي ماءً في المِخْضَب قالت: فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأُغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلَّى الناسُ؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: ضعوا لي ماءً في المِخْضَب، فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأُغمي عليه ثم أفاق فقال: أصلَّى الناس؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله - والناس عكوفٌ في المسجد ينتظرون النبي عليه السلام لصلاة العشاء الآخرة - فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر بأن يُصلِّي بالناس ... » رواه البخاري ومسلم. وروى أحمد والنَّسائي والدارمي وابن خُزَيمة هذا الحديث باختلاف في الألفاظ. قوله المِخْضَب: أي الإناء الذي تُغسل فيه الثياب. وقوله ينوء: أي ينهض بجهد ومشقة. هذا الحديث يفيد مشروعية غسل من أفاق من إغماء، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رغم مرضه الشديد قد اغتسل ثلاث مرات عقب إغماءاته الثلاث المتتالية، فدلَّ حرصه على الاغتسال مع وجود المشقة على مشروعيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 أما أن هذا الاغتسال سُنة وليس فرضاً فلِما روى ابنُ خُزَيمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه «صُبُّوا عليَّ من سبع قرب لم تُحْلل أَوكِيَتُهُنَّ لَعلِّي أستريح فأعهد إلى الناس، قالت عائشة: فأجلسناه في مِخْضَبٍ لحفصة من نحاس، وسكبنا عليه الماء منهن، حتى طفق يُشير إلينا أن قد فعلتنَّ، ثم خرج» فقوله عليه الصلاة والسلام «لعلِّي أستريح» يدل على القصد من اغتساله، وأنه بالتالي لم يكن اغتسالَ فرضٍ واجب. غُسل من غسَّل ميتاً وردت فيه الأحاديث التالية: 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من غَسَّل مَيْتاً فلْيغتسل، ومن حمله فلْيتوضأ» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حِبَّان والبيهقي. 2- عن عبد الله بن الزُّبير عن عائشة أنها حدَّثته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «يُغتَسَلُ من أربع: من الجنابة ويوم الجمعة وغُسل الميت والحِجامة» رواه ابن خُزَيمة والبيهقي وأبو داود. 3- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من غسَّل ميتاً فلْيغتسل» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وابن ماجة. ورواه التِّرمذي وحسنه. وصحَّحه ابن حزم. 4- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ليس عليكم في غُسل ميتكم غُسل إذا غسَّلتموه، إنه مسلم مؤمن طاهر، وإن المسلم ليس بنجس، فحسبُكم أن تغسلوا أيديكم» رواه البيهقي. 5- عن عبد الله بن أبي بكر «أنَّ أسماء بنت عُمَيس غَسَّلت أبا بكر الصِّدِّيق حين توفي، ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت: إني صائمة وإنَّ هذا يوم شديد البرد، فهل عليَّ مِن غُسل؟ فقالوا: لا» رواه مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 6- عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال «دخل علي بن أبي طالب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره بموت أبي طالب، فقال: اذهب فاغسله، ولا تُحْدِثنَّ شيئاً حتى تأتيني، فغسلته وواريته ثم أتيته، فقال: اذهب فاغتسل» رواه البيهقي. 7- عن ابن عمر رضي الله عنه قال «كنا نغسل الميت فمنَّا مَن يغتسل ومنَّا من لا يغتسل» رواه البيهقي والخطيب. وصححه ابن حجر. وقد اختلف الأئمة في حكم الاغتسال من غسل الميت، فذهب علي وأبو هريرة في رواية عنهما، وابن حزم إلى وجوب الاغتسال. وذهب مالك وأحمد وأصحاب الشافعي إلى أن الاغتسال مُستحبٌّ، وذهب أبو حنيفة والليث إلى أن الاغتسال لا يجب ولا يُستحب. وقبل أن نعمد إلى استنباط الحكم، لِننْظُر في هذه النصوص حتى نتبين الصالح منها للاستدلال من غير الصالح. الحديث الأول قال فيه البيهقي (قال البخاري: إن أحمد بن حنبل وعلي بن عبد الله قالا لا يصح في هذا الباب شيء) ، وقال (هو الصحيح موقوفاً على أبي هريرة كما أشار إليه البخاري) . والحديث الثاني ضعَّفه أحمد بن حنبل والبخاري وأبو داود. والحديث الرابع رواه البيهقي من طريقين، وقال عن إحداهما (لا يصح رفعه) ، وقال عن الأخرى (هذا ضعيف) . والحديث السادس ضعَّفه البيهقي، فقد قال (فيه علي بن أبي علي اللهبي، ضعيفٌ جرَّحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وجرَّحه البخاري وأبو عبد الرحمن النَّسائي) . وإذن فإن الأحاديث: الأول والثاني والرابع والسادس ضعيفة، فتسقط عن مرتبة صلاحها للاستدلال، فيبقى عندنا الحديث الثالث والحديث الخامس والحديث السابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 أما الحديث الثالث فيقول «من غسَّل ميتاً فلْيغتسل» فهو يأمر بالاغتسال، والأمر يفيد مجرد الطلب، والقرينة هي التي تحدِّد أياً مِن أنواع الطلب هو المقصود، وليس في هذا الحديث قرينة، ولكننا نجد القرينة في الحديث الخامس والحديث السابع. أما الخامس فإن عدداً من الصحابة المهاجرين أفتَوْا زوجة أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنهما بأنه لا غُسل عليها من تغسيل الميت، وقد أفتَوْها بعد أن قالت «إني صائمة وإن هذا يومٌ شديد البرد» وهذا الجواب من الصحابة ينفي وجوب الغُسل. وأما السابع فهو أن ابن عمر قال «منا من يغتسل ومنا من لا يغتسل» وهذا الفعل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفي أيضاً وجوب الغسل، فلا يبقى أمامنا إلا الإباحة وإلا الندب فحسب. وحيث أن الغُسل مندوب لأنه تنظيف، فإن قوله عليه الصلاة والسلام «مَن غسَّل ميتاً فلْيغتسل» يجعله يُحمَل على الندب والاستحباب، والمندوب يصح تركه، وهذا ما يفسر ترك ناس من الصحابة لهذا الغسل، وما يفسر فتواهم لامرأة أبي بكر - وكانت صائمة وكان اليوم آنذاك شديد البرد - بأن لا غُسل عليها. ومن ذلك يترجح رأي مالك وأحمد والشافعية القائل بالاستحباب. الفصل الثامن الغُسل الغُسل بالضم اسم للاغتسال، والماء الذي يُغتسل به، وبالفتح المصدر، وحقيقة الغُسل جريان الماء على الأعضاء دون الحاجة إلى الدلك. وقد جاء الأمر به في القرآن الكريم، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تَقْرَبوا الصَّلاةَ وأَنتم سُكَارى حتى تَعلَمُوا ما تَقُولُون ولا جُنُباً إلا عابِري سبيلٍ حتى تَغْتَسِلوا} الآية 43 من سورة النساء. كما جاءت الأحاديث تأمر به وتبيِّن صفته وكيفيته. صفة الغُسل وردت في صفة الغسل الأحاديث التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 1- عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يُفرغ بيمينه على شماله فيغسل فَرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء فيُدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أنه قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه» رواه مسلم والبخاري. وفي روايةٍ للبخاري « ... ثم يخلِّل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ... » . 2- عن ميمونة رضي الله عنها قالت «وضعتُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماء يغتسل به، فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيرَه، ثم دلك يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ويديه، وغسل رأسه ثلاثاً، ثم أفرغ على جسده، ثم تنحَّى من مقامه فغسل قدميه» رواه البخاري ومسلم. وفي روايةٍ للبخاري عن ميمونة رضي الله عنها « ... قالت: فأتيته بخِرقة فلم يُرِدْها، فجعل ينفض بيده» . وفي روايةٍ لمسلم « ... ثم أتيته بالمنديل فردَّه» . 3- عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتوضأ بعد الغسل» رواه النَّسائي وأبو داود وأحمد وابن ماجة. ورواه التِّرمذي وقال: حسن صحيح. 4- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت «قلت يا رسول الله إني امرأة أشدُّ ضَفْرَ رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تُفيضين عليك الماء فتطهرين» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. 5- عن ثوبان أنهم استفتَوْا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك - يعني الغسل من الجنابة - فقال «أما الرجل فلْينشر رأسه فلْيغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضَه، لتغرف على رأسها ثلاث غَرَفات بكفَّيها» رواه أبو داود بسند قوَّاه الشوكاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 6- عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها أنها وصفت غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة، وفيه « ... ثم مضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ثم صبَّ على رأسه وجسده الماء، فإذا فرغ غسل قدميه» رواه البيهقي وصححه ابن حجر. 7- عن أبي سلمة قال «دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة فسألها أخوها عن غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعت بإناءٍ نحوٍ من صاع فاغتسلتْ وأفاضتْ على رأسها، وبيننا وبينها حجاب» رواه البخاري. 8- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قالت ميمونة «وضعتُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ على شماله فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق، وغسل وجهه ويديه ثم أفاض على جسده، ثم تحول من مكانه فغسل قدميه» رواه البخاري. وفي رواية أخرى له عنها «توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءَه للصلاة غير رجليه، وغسل فرجه وما أصابه من الأذى، ثم أفاض عليه الماء، ثم نحَّى رجليه فغسلهما ... » . وفي رواية ثالثة له عنها «أفرغ بيمينه على يساره فغسلهما ثم غسل فرجه، ثم قال بيده الأرض فمسحها بالتراب ثم غسلها ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه وأفاض على رأسه، ثم تنحَّى فغسل قدميه ... » . وفي رواية رابعة له عنها «فصبَّ على يده فغسلها مرة أو مرتين، ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه، ثم دلك يده بالأرض أو بالحائط، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه، وغسل رأسه ثم صبَّ على جسده، ثم تنحى فغسل قدميه..» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 9- عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحِلاب فأخذ بكفِّه، بدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه» رواه مسلم والبخاري. قوله الحِلاب: أي إناءٌ يُحلَب فيه. وبالنظر والتدقيق في هذه الأحاديث التسعة يتبين أن الغسل منه ما هو مُجْزِئ ومنه ما هو أعلى وأكمل، وكلاهما مشروع. الغُسل المُجْزئ أما الغسل المُجزئ فهو كالتالي: ينوي المغتسل رفع الحدث الأكبر، ثم يفيض الماء على رأسه، ثم على سائر بدنه، يفعل ذلك مرة واحدة. وقد استُخلِص هذا الغسل من الأدلة الآتية: أ- حديث «إنما الأعمال بالنية» وقد مرَّ في أول الكتاب، وهو صالح لإثبات النية لكل عبادة ومنها الوضوء والغسل. ب- حديث ميمونة برواياته المتعددة: 1- «ثم أفاض على جسده» ولم يذكر عدداً، ولم يذكر الرأس، فيدخل غسل الرأس في غسل الجسد ويأخذ حكمه وصفته. 2- «ثم أفاض عليه الماء» ولم يذكر الجسد ولم يذكر عدداً، فدلَّ على أن الرأس وسائر الجسد شيء واحد. 3- «وأفاض على رأسه» فذكر الإفاضة على الرأس، ولم يذكر الجسد ولم يذكر عدداً، فدل على أن الرأس له حكم الجسد، والجسد له حكم الرأس. 4- «وغسل رأسه ثم صب على جسده» فذكر غسل الرأس وصبَّ الماء على الجسد، ولم يذكر عدداً. وإذن فإن إفاضة الماء إنما تكون على الرأس وعلى سائر الجسد دون تحديد عدد. ج- حديث أم سَلَمة الرابع «ثم تُفيضين عليك الماء فتطهرين» ولم يذكر غسل الرجلين أو تنحيتهما، فدل على أن ذلك يدخل في غسل البدن، ودل حديث ميمونة برواياته المتعددة على أن غسل الرأس ثلاثاً الوارد في أحاديث أخرى لا يجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وحيث أن الغسل المُجزئ هو الغسل الأدنى، أي هو الذي يتضمن ما يجب في الغسل فقط دون زيادات وإضافات مسنونة، فإن هذه الأحاديث الثلاثة قد أتت على أدنى الغسل، وبالتالي تبين منها أن الغسل المُجزئ هو: النية، وغسل الرأس مرة، وغسل سائر البدن مرة فقط، دون أية إضافة أخرى، فمن أتى به فقد أزال الجنابة وجازت له به الصلاة ومسُّ المصحف والطواف دون أن يحتاج معه إلى وضوء، يدل على ذلك حديث عائشة الثالث «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتوضأ بعد الغسل» . ورب قائل يقول: إن الأحاديث في عمومها ذكرت غسل الرأس ثلاثاً والبدن مرة، فلِمَ لا يكون غسل الرأس ثلاثاً هو المُجزئ، سيما وأن حديث أم سلمة يقول «إنما يكيفك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تُفيضين عليك الماء فتطهُرين» فأدخل غسل الرأس ثلاثاً في الغسل الذي وُصف بالكفاية، بمعنى أن ما هو أقل منه غير كافٍ؟ والجواب هو أن حديث عائشة التاسع يقول «فأخذ بكفه بدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأسر ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه» فهو يبين بشكل صريح أن الجزء الواحد من الرأس لم يغسل ثلاثاً، لأن ما أُفيض من الماء على ميمنة الرأس لم يصب الميسرة، وهذا ينفي وجوب غسل الرأس ثلاثاً، وبالتالي يفهم منه أن التثليث غير واجب. هذا هو الغسل المُجزئ. الغُسل الأكمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 أما الغسل الأكمل فصفته أو كيفيته كما يلي: ينوي رفع الحَدَث الأكبر، ثم يسمِّي الله، ثم يغسل يديه ثلاثاً، ثم يغسل فرجه، ثم يتمضمض ثلاثاً، ثم يستنشق ثلاثاً، ثم يغسل وجهه ثلاثاً، ويخلل لحيته، ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم يخلل شعر رأسه حتى يبلغ البلل أصول الشعر، ويصب الماء على رأسه ثلاثاً، ثم يفيض الماء على سائر بدنه مرة واحدة، ثم يغسل رجليه. وبذلك يرتفع الحدث الأكبر، ويكون قد اغتسل أفضل غسل وأكمله. هذا الغسل حوى واجبات الغسل وسننه كلها، لذا فإن المسلم يُندب له أن يغتسل هذا الغسل، وإذا اختار أحدٌ هذا الغسل ولكنه فعله مرة واحدة فإنه يكون قد أتى بغسلٍ أدنى من الأكمل وأعلى من المُجزئ. والمرأة في الغسل كالرجل، إلا أن الرجل يُندب له أن يخلل شعر رأسه ولا يُندب ذلك للمرأة، فحديث أم سلمة الرابع يقول «أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا» فقوله عليه الصلاة والسلام «لا» يدل على أن النقض غير واجب وغير مستحب. تفصيلات تتعلق بالغسل 1- اختلف العلماء في موضوع الوضوء أو ما سُمِّي بالوضوء للصلاة الوارد في حديث عائشة الأول، هل هو وضوءٌ مستقل أم هو جزء من الغسل، اختلفوا على رأيين: فذهب أبو ثور وداود إلى أن الوضوء مستقل، وأوجبوا على المسلم أن ينوي له نية رفع الحدث الأصغر، ثم إذا أفاض الماء على رأسه وبدنه نوى رفع الحدث الأكبر، أي هم أوجبوا عليه نيتين لفعلين أحدُهما مستقلٌّ عن الآخر. وذهب سائر العلماء إلى أن أفعال الوضوء ليست مستقلة عن أفعال الغسل، ولذا أوجبوا لهما نية واحدة. وتردد ابن حجر في هذه المسألة فقال (يُحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سُنَّة مستقلة بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد، ويحتمل أن يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو، وإنما قدم غسل أعضاء الوضوء تشريفاً لها ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 والذي أرجِّحه هو أنه لا يلزمه إلاَّ نيَّة واحدة فحسب، وهي تُستحضر عند غسل أول عضو من البدن، وأن ما سمته عائشة وضوءاً وجاءت ميمونة على ذكره فليس هو الوضوء المعروف، لأن الوضوء المعروف فيه مسح الرأس، وهذا الذي يسمونه وضوءاً لا مسح للرأس فيه كما يظهر في جميع الأحاديث، وهو ما تمسك به الإمام مالك، ثم إنَّ رواية ميمونة ذكرت غسل الرجلين بعد إفاضة الماء على البدن، وبذلك فصلت أعمال الوضوء بعضها عن بعض، وهذا أمرٌ لا يرد في الوضوء، ولا يرد إلا في الغسل. لهذه الفروق أقول إن ما سمَّته عائشة وضوءاً هو سُنة من سنن الغُسل، وإن هذه السُّنَّة لا مسح للرأس فيها، ولا موالاة بين أجزائها، ودخلت تحت غسل الجنابة كجزءٍ مسنون منه، وكل ما في الأمر أن سُنَّة الغسل تشابهت في معظمها مع أعمال الوضوء. وأزيد فارقاً آخر هو أن من يفعل هذه السنَّة لا يجب حين يفيض الماء على جميع بدنه أن يُفيض الماء على ما غسل من أعضاء الوضوء أو أعضاء هذه السُّنة، وتُجزئه إفاضة الماء على ما سواها من أعضاء البدن. وربما كانت الدقة والوضوح أن يقال: يبدأ المغتسل بمواضع الوضوء بدل أن يقال: يبدأ بالوضوء، يدل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم وأهل السنن عن أم عطية قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهنَّ في غسل ابنته «ابدأْنَ بميامنِها ومواضعِ الوضوء منها» . وهذا قول منه - صلى الله عليه وسلم -، قاله لمن كنَّ يغسلن إحدى بناته عند وفاتها، في حين أن جميع الروايات التي ذكرت الوضوء هي أقوال صحابة، وقول الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الحجة. ولقد أفرد البخاري باباً سماه (من توضأ في الجنابة ثم غسل سائر جسده، ولم يُعِد غسل مواضع الوضوء منه مرة أخرى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 2- اختلف العلماء في تكرار الغسل للبدن، فقال بعضهم يُستحب ذلك قياساً على غسل الرأس ثلاثاً، وقال بعضهم لا يُستحب ذلك وهو الصحيح، لأنه لم تُنقل أية رواية صحيحة أو حسنة أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أفاض الماء على جسده أكثر من إفاضة واحدة، في حين أن رواياتٍ صحيحةً عديدةً ذكرت إفاضة الماء على الرأس ثلاثاً، ما يدلُّ على المغايرة بين الإفاضتين، فالسُّنة غسل الرأس ثلاثاً، وغسل سائر الجسد مرة واحدة. 3- اختلف الأئمة في موضوع غُسل الرِّجْلين على رأيين، فقال الشافعي إنَّ غسل الرجلين قبل إفاضة الماء على الرأس أفضل حتى يكتمل الوضوء أولاً ويتصل بعضه ببعض، واستدلَّ بحديث عائشة الأول. وقال الجمهور إن غُسل الرجلين في نهاية الغُسل أفضل، لأن قول ميمونة صريح في ذلك، وحتى قول عائشة في الحديث الأول فإنه يذكر تأخر غسل الرجلين. وقال بعض علماء المالكية بتأخير غسل الرجلين إن كان الموضع وسخاً، قاله ابن الحاجب وغيره. وقال الأحناف إنْ كان في مستنقع أَخَّر رجليه وإلا فلا، فالتقى بعضُ المالكية مع الأحناف على أن علَّة تأخير غسل الرجلين هي النظافة. والصواب هو أن الحديث الذي روته عائشة، والحديث الذي روته ميمونة بل وجميع الأحاديث الواردة في الغسل لم تأت على ذكر النظافة أو المستنقعات، فهذه إضافة أضافوها من عند أنفسهم، ذلك أن الأحاديث قد أخرت غسل الرجلين نصاً، فهو منطوق، والأحاديث التي لم تذكر ذلك كان تقديم غسل الرجلين فيها مفهوماً محتملاً، والمنطوق يُقدَّم على المفهوم المحتمل، وإذا وجد النص وجب المصير إليه والوقوف عنده، ولا يصح القول بما يخالفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وقد يقال إن حديث عائشة ذكر الوضوء في أول الغسل ولم يستثن غسل الرجلين، ثم ذكر غسل الرجلين في آخر الغسل، فصار المطلوب غسل الرجلين مرتين: مرة في الوضوء، وأخرى في نهاية الغسل، فنقول: كلا، لأن حديث ميمونة ذكر المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه وغسل اليدين فقط، ولم يذكر مسح الرأس كما لم يذكر غسل الرجلين، وحديث ميمونة الثامن في إحدى رواياته جاء أصرح من حديثها الثاني حين قال «يتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه للصلاة غير رجليه» . بل إن عائشة في الحديث السادس ذكرت المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه واليدين ولم تذكر مسح الرأس ولا غسل الرجلين، تماماً كما ذكرت ميمونة، ما يدل على أن غسل الرجلين لا يُطلب منا مرتين، وليس في الأحاديث إلا غسلهما مرة واحدة وفي نهاية الغسل فقط. إذن فالواجب حمل الحديث الأول على الأحاديث الأخرى، والقول بغسل الرجلين فقط في نهاية الغسل. 4- ورب قائل يقول إن صفة الغسل هي كالآتي: يغسل يديه أولاً ويغسل أعضاء الوضوء المذكورة ثانياً ثم يغسل فرجه، ثم يُفيض الماء على رأسه وسائر بدنه، أي يؤخر غسل الذَّكَر أو الفرج إلى ما بعد الوضوء أو ما يسمى بالوضوء، ويستدل على ذلك بحديث رواه ابن عباس عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت «توضَّأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه للصلاة غير رجليه، وغسل فرجه وما أصابه من الأذى، ثم أفاض عليه الماء، ثم نحَّى رجليه فغسلهما، هذا غُسله من الجنابة» رواه البخاري. فهذا الحديث ذكر غسل الفرج عقب الوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 فنرد عليه بأنَّ في هذا الحديث تأخيراً وتقديماً، وأنَّ الواو في هذا الحديث لا تفيد الترتيب، وذلك لأنَّ الأحاديث الصحيحة المارة ذكرت غسل الفرج قبل الوضوء، وكذلك الحديث الآتي الذي رواه ابن عباس عن ميمونة رضي الله عنها قالت «سترتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يغتسل من الجنابة فغسل يديه، ثم صبَّ بيمينه على شماله فغسل فرجه وما أصابه، ثم مسح بيده على الحائط أو الأرض، ثم توضأ وضوءَه للصلاة غيرَ رجليه، ثم أفاض على جسده الماء، ثم تنحَّى فغسل قدميه» رواه البخاري. وله من طريقها روايات عديدة تجدون أربعاً منها في البند الثامن، وكلها باستثناء هذه الرواية تجعل غسل الفرج قبل غسل أعضاء الوضوء، فيُعمل بالروايات العديدة، وتُحمل هذه الرواية عليها. وعلى أية حال فنحن نتحدث هنا عن مندوبات الغسل، لأن الترتيب في الغسل مندوبٌ وليس بواجب. فمن شاء الإتيان بالمندوب جاء بالغسل مرتباً كما ورد في الأحاديث. 5- بخصوص نقض شعر الرأس: اختلفوا على مذاهب شتى. فقال الحسن وطاووس وأحمد: يجب النقض في الحيض دون غسل الجنابة، ورجَّح جماعة من أصحاب أحمد أن النقض في غسل الحيض هو للاستحباب، وكذلك النقض في غسل الجنابة. وقال ابن قُدامة (لا أعلم أحداً قال بوجوبٍ فيهما إلا ما رُوي عن عبد الله بن عمر) فأضاف ابن عمر إلى أصحاب هذا الرأي، وقال النووي (حكاه أصحابنا عن النخعي) يعني الوجوب، فأضاف النخعي اليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وقد استدل هؤلاء على دعواهم بحديث عائشة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها وكانت حائضاً: انقضي شعرك واغتسلي» رواه ابن ماجة بإسناد صحيح. وقال الجمهور بعدم وجوب النقض مطلقاً، واستدلوا على رأيهم بالحديثين الرابع والخامس، وهو الصحيح، وذلك لأن الحديث الرابع يقول «أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا» وهو منطوق في عدم النقض في غسل الجنابة. وقد وقع في بعض ألفاظ حديث أم سَلَمة قالت «قلت يا رسول الله: إني امرأة أشدُّ ضَفْرَ رأسي، أفانقضه للحيضة والجنابة؟ فقال: لا، إنما يكفيك أن تَحثي على رأسك ثلاث حَثَيَات ثم تُفيضين عليك الماء فتطهُرين» رواه مسلم. وهذا منطوق في عدم النقض بغسل الحيض أيضاً، وهذه الزيادة يتعين قبولها والمصير إليها، وهو صريح في نفي الوجوب. ومثله ما روت عائشة رضي الله عنها «أن أسماء سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسِدْرتها فتَطَّهَّر فتُحسن الطُّهور ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء ... وسألته عن غسل الجنابة فقال: تأخذ ماء فتطَّهَّر فتحسن الطُّهور أو تبلغ الطُّهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤونَ رأسها، ثم تفيض عليها الماء ... » رواه مسلم. فلم يطلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها أن تنقض شعرها في غسل المحيض وفي غسل الجنابة، ولو كان واجباً لطلبه. والحديث الخامس يقول «فلا عليها أن لا تنقضه» وهو منطوق أيضاً في عدم النقض، وهذا كله رد حاسم على من أوجبوا نقض شعر المرأة في غسل الجنابة وغسل المحيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 أما القائلون بوجوب النقض فسندهم كما أسلفنا حديث عائشة المار، وفيه «انقضي شعرك واغتسلي» فنرد عليهم بأن هذا الحديث لا يصلح للاحتجاج به على دعواهم، لأنه جاء في غير الموضوع الذي تكلموا عليه، فموضوعه غسل الحائض عند الإهلال بالحج، وقد رواه ابن ماجة مبتوراً، وتمامُه أن عائشة أحرمت بعمرة، ثم حاضت قبل دخول مكة، فأمرها الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أن تنقض شعرها وتمتشط وتغتسل، وتُهِلَّ بالحج وهي ما زالت في حيضتها، فهذا الغُسل ليس غسل المحيض الذي تكلموا عليه، فلا يصلح لمعارضة حديث أم سَلَمة. فقد روى النَّسائي وأبو داود وأحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت « ... فقدمتُ مكة وأنا حائض فلم أطُفْ بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأَهِلِّي بالحج ودَعِي العُمرة ... » . فالحديث ينص على أنها تغتسل وهي حائض، وأن هذا الغسل إنما هو لأجل الإهلال بالحج، ومثله أو قريب منه ما روى أبو داود عن عائشة قالت «نُفِست أسماء بنت عُميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن تغتسل فتُهِلَّ» . فهو غُسلُ حجٍّ للنفساء وليس غُسلَ تطهُّر من النفاس. وهذان الغسلان يُحملان على أنهما لأجل النظافة وأنهما مستحبان، فلا يصلحان للاحتجاج على ما ذهبوا إليه من وجوب النقض في غُسل المحيض. قال البيهقي بعد أن روى حديث عائشة الأول (وهي أن اغتسلت للإهلال بالحج وكان غُسلها غُسلاً مسنوناً، وقد أُمرت فيه بنقض رأسها وامتشاط شعرها، وكأنها أُمرت بذلك استحباباً كما أُمرت أسماء بنت عُميس بالغسل للإهلال على النفاس استحباباً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أما ما رواه الطبراني في المعجم الكبير والدارقطني في الإفراد عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها وغسلته بخَطْمِيٍّ وأُشْنان، وإذا اغتسلت من جنابة صبت على رأسها الماء وعصرته» والخَطْمِيُّ - بفتح الخاء وسكون الطاء وتشديد الياء -: هو نبات يُدقُّ ورقه يابساً ويُغسل به الرأس. والأشنان -بضم أوله وكسره- هي مادة تُغسل بها الأيدي. فهذا الطلب يُحمل على أنه للاستحباب، لقرينةِ طلب الخطمي والأشنان، وهو طلب ندب لأجل النظافة، ولقرينة حديث أم سَلَمة القائل «إنما يكفيك» . ويدل أيضاً على عدم وجوب النقض ما رواه مسلم وأحمد «بلَغَ عائشةَ أن عبد الله ابن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن فقالت: يا عجباً لابن عمرو هذا، يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن، لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد على أن أُفرغ على رأسي ثلاث إفراغات» . فهذا الحديث ينص على أن ابن عمرو كان يأمر النساء بنقض الشعر دون تفريق بين حيض وجنابة، وجواب عائشة وإن كان في الجنابة إلا أنها أنكرت عليه مطلق قوله ولم تُقيده ولم تخصِّصه، ولو كان النقض في الحيض واجباً لنوَّهت به ولَما أنكرت على ابن عمرو قوله كله. وهذا يدل على عدم وجوب نقض الشعر في غسل الحيض وغسل الجنابة. ومثله في الدلالة الحديث المروي من طريق عائشة رضي الله عنها «أنَّ امرأة سألت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غُسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، قال: خذي فِرْصةً من مِسك فتطهَّري بها. قالت: كيف أتطهَّر؟ قال: تطهَّري بها. قالت: كيف؟ قال: سبحان الله تطهَّري، فاجتذبتُها إليَّ فقلت: تتبَّعي بها أثر الدم» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي. قوله الفِرصة: هي القطعة من كل شيء. فهذا الحديث يذكر صنفاً آخر من التنظيف عند الاغتسال من الحيض، وهو كغيره تنظيفٌ مستحب ليس غير. وما قلناه في نقض الشعر وتخليل شعر الرأس للرجل نقوله في تخليل شعر اللحية، فهو مندوب لما روى عثمان رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُخلل لحيته» رواه الترمذي وقال حسن صحيح. وهذا الحكم عام في الغسل وفي الوضوء، وهو رأي الإمام مالك. أما الآخرون فقد فرقوا بين الوضوء والغسل، فقال أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد والأوزاعي والليث وإسحق وأبو ثور وداود والطبري إن تخليل اللحية واجب في غسل الجنابة دون الوضوء، وهؤلاء استدلوا على رأيهم بما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأَنْقُوا البَشَر» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي. وبما رُوي عن عليٌّ رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء فُعل بها كذا وكذا من النار. قال عليٌّ: فمن ثمَّ عاديت رأسي، وكان يجزُّ شعره» رواه الدارمي وأبو داود وأحمد. وجوابنا على الحديث الأول قول راويه أبي داود (الحارث بن وجيه حديثه منكرٌ، وهو ضعيف) وعلى الحديث الثاني إن الصواب وقفه على عليٍّ، والحديث ضعَّفه النووي، وذكر ثلاثة ضعافاً في سنده. ثم إن حديث أم سلمة ردٌّ عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 6- واختلفوا في الدلك وإمرار اليد على الجسد في الغسل، فذهب الإمام مالك إلى وجوب الدلك باليد إلى حيث تصل من بدنه، وبمثل قوله هذا في وجوب الدلك قال أبو العالية وعطاء ودليلهم قوله تعالى {حتى تغْتَسِلوا} وقالوا: لا يقال اغتسل إلا لمن دلك نفسه. وقال الحسن والنخعي والشعبي وحمَّاد والثوري والأوزاعي وإسحق وأصحاب الرأي والشافعي والحنابلة إنه لا يجب إمرار اليد على الجسد في الغسل والوضوء، وهو الصحيح، لأن الأحاديث الشريفة ذكرت إفاضة الماء، فحديث أم سَلَمة «ثم تُفيضين عليك الماء فَتَطهُرين» وليس فيه ذِكرُ الدلك، ثم إن الغسل لغة لا يتضمن الدلك يقال: غسل الإناء إذا صب عليه الماء وإن لم يُمِرَّ يده عليه، والسَّيل يُسمى غاسولاً، ويقال عن الشيء: غسلته الأمطار إذا سقطت عليه. قال الشوكاني (لم نجد في كتب اللغة ما يُشْعِر بأن الدلك داخل في مسمَّى الغسل، فالجواب ما صدق عليه اسم الغسل المأمور به لغة، اللهم إلا أَنْ يقال حديث «بلُّوا الشعر وأنقوا البشر» - على فرض صحته - مُشعرٌ بوجوب الدلك لأن الإنقاء لا يحصل لمجرد الإفاضة. ولا يقال إذا لم يجب الدلك لم يبق فرق بين الغسل والمسح، لأنَّا نقول إنَّ المسح هو الإمرار على الشيء باليد يصيب ما أصاب ويخطيء ما أخطأ فلا يجب فيه الاستيعاب بخلاف الغسل فإنه يجب فيه الاستيعاب) . 7- والسنَّة في الغسل استعمال القليل من الماء لما رُوي عن سفينة قال «كان رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الله - صلى الله عليه وسلم - يُغَسُّله الصاع من الماء من الجنابة ويوضِّئه المُدُّ» رواه مسلم. ولما رُوي عن أنس قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمُدِّ ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمدادٍ» رواه مسلم وأحمد. ولما رُوي عن عائشة رضي الله عنها قالت «كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد من قدح يقال له الفَرق» رواه البخاري ومسلم وأحمد. والفرق ـ بتسكين الراء وفتحها - ستةَ عشرَ رطلاً بالعراقي. والمُدُّ: حفنة بكفَّي الرجل المتوسطتين. والصاع: أربعة أمدادٍ وهو خمسة أرطال وثلث بالعراقي، والمدُّ ربع ذلك وهو رطل وثلث. وهذا قول الحنابلة ومالك والشافعي وإسحق وأبي عبيد وأبي يوسف. أما أبو حنيفة فقال: الصاع ثمانية أرطال. ولسنا نريد الدخول في تفاصيل ليست بذات موضوع، لأن الأمر كله لأجل التقريب. وباختصار نقول: بمعادلة هذه المكاييل بالمكاييل الحديثة نجد أن المُدَّ يعادل ربع لِتر تقريباً، والصاع يعادل حوالي اللتر الواحد. وبتقريب أكثر نقول إن المُدَّ يعادل حوالي سدس قارورة ماء من قوارير المياه المعدنية، وهذه الكمية تكفي للوضوء، في حين أن حوالي قارورة واحدة من الماء تكفي للغسل، وهذا على رأي الحنابلة والشافعية والمالكية. غير أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها روت الحديث «كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد من قدح يقال له الفَرق» . وبما أن الفرق ستة عشر رطلاً، فيكون نصيب الواحد منهما ثمانية أرطال، وهو تقدير أبي حنيفة، وبمعادلتها بالمكاييل الحديثة نجد أن الأرطال الثمانية تعادل قارورة ونصف القارورة تقريباً، هي الكمية التي كان يستعملها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غسله من الجنابة حسب حديث عائشة، وإذن فالغسل يكفي له من الماء ما بين قارورة واحدة وقارورة ونصف، ويكفي للوضوء سدس قارورة ماء فحسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وقد ذكرتُ هذه المكاييل والمقادير على وجه التقريب وذلك لعدم الحاجة لأكثر من ذلك وهذه المقادير لا يجب التقيد بها، وهي لم تُذكر إلا لمعرفة حدود الاعتدال في استعمال الماء للوضوء والغسل، واستعمال الماء باعتدال خير من تجاوزه بزيادة أو نقص سيما إن كانا كبيرين. 8- الترتيب في الغُسل مندوب، ويدخل فيه من حيث الحكم غسل أعضاء الوضوء، فلا يجب الترتيب فيه، لأنه جزء من الغسل وليس هو وضوءاً حتى يجب فيه الترتيب بل هو مندوب، فيُندب البدء بغسل الميامن قبل المياسر، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت «أنْ كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليُحب التَّيَمُّنَ في طهوره إذا تطهَّر، وفي ترجِّله إذا ترجَّل - وفي انتعاله إذا انتعل» رواه مسلم. ويبدأ برأسه أولاً ثم يُفيض الماء على سائر بدنه. أمّا الموالاة فواجبة، وحدُّها أن يباشر بغسل العضو التالي قبل جفاف العضو السابق، أي يباشر بغسل التالي والبلل لا يزال في العضو السابق. ولا يعجبني قول من قال إن الموالاة لا تجب لأن الترتيب في الغُسل لا يجب، فاعتبروا الموالاة تابعة للترتيب. والصحيح أن الموالاة أمر مستقل عن الترتيب، فالترتيب في الغسل لا يجب كما يقول الجمهور، وهذا صحيح، لكن الموالاة لا بد منها وتظل واجبة، ولكن بالكيفية التي ذكرت، وإلا جاز للمسلم أن يغسل رأسه ويخرج من الحمام، ثم بعد ساعة يعود فيغسل صدره ثم يخرج، وهكذا حتى يفرغ من غسل جميع بدنه، وهذا كما لا يخفى ليس غُسلاً، بل لا بد من غسل العضو اللاحق قبل جفاف ماء العضو السابق حتى يصح اعتبار العملية كلها فعلاً واحداً هو الغسل وهذا لا يحتاج إلى نصٍّ، وإنما هو من باب تحقيق واقع ما يسمَّى غُسلاً. 9- هناك أمور بسيطة أودُّ ذكرها هنا تتميماً للبحث هي: أ- يجوز للمسلم الاستعانة بغيره في الغسل، لما روت ميمونةُ رضي الله عنها زوجُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت «أدنيتُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غُسله من الجنابة ... » رواه مسلم. ب- يجوز للزوج وزوجته الاغتسال معاً من إناء واحد، لما روت معاذة عن عائشة رضي الله عنها قالت «كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناءٍ بيني وبينه واحدٍ، فيبادرني حتى أقول: دع لي، دع لي. قالت: وهما جنبان» رواه مسلم. ج- لا يجوز لمسلم ولا لمسلمة الاغتسال على مرأى من الآخرين، لما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يُفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تُفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد» رواه مسلم. ولما روى يعلى «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يغتسل بالبَرَاز بلا إزار، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: إن الله عزَّ وجلَّ حَييٌّ سِتِّير يحب الحياء والسِّتر، فإذا اغتسل أحدكم فلْيستتر» رواه أبو داود والنَّسائي ورجاله رجال الصحيح. والبَرَاز: هو الفضاء الواسع الخالي من الشجر. د- يجب حين البدء بالغسل أن ينوي رفع الحدث الأكبر، لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال «إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى ... » رواه مسلم والبخاري. هـ- إذا أجنب المسلم مرة ولم يغتسل، ثم أجنب ثانية أو ثالثة ولم يغتسل اغتسل مرة واحدة فحسب، ولا يجب عليه الاغتسال مرتين أو ثلاثاً بعدد المرات التي أجنب فيها، وذلك لما روى أنس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على نسائه بغُسل واحد» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على جميع نسائه في ليلة، ثم يغتسل غُسلاً واحداً» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 و يُسَنُّ للمغتسل أن يذكر اسم الله عند بدء الاغتسال، فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم وهذه التسمية ليست بحاجة إلى دليل خاص بها، وإنما المسلم يسمى الله عند كل فعل ذي بال. ز- إن قلَّم أظافره ونتف إبطه وحلق عانته وأخذ من شاربه وتسوَّك وتطيَّب عند غسله كان ذلك أبلغ في النظافة وكان جمع سُنناً إلى الفرض. ح- لا يُجزئ في الوضوء والغسل سوى الماء دون سائر المانعات، خلافاً لإزالة النجاسات التي يجوز فيها غير الماء مما يصلح للإزالة. قال تعالى {فلم تَجِدُوا ماءً فتيَمَّمُوا} فالله سبحانه لم يتركنا نختار أي مائع عند فقد الماء، وإنما طلب منا حينذاك التيمُّمَ. وقد روى أبو ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إن الصعيد الطيب طَهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فلْيُمِسَّه بشرته فإن ذلك خير» رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. ورواه أحمد وابن ماجة. وهذا الحديث يفيد المعنى نفسه المستفاد من الآية الكريمة، فالوضوء والأغسال محصورة في استعمال الماء دون سائر السوائل والمائعات، فإن عدم الماء انتقلنا إلى التيمم بالتراب، وهذا القول لا أعلم أحداً قال بخلافه. الفصل التاسع مُوجباتُ الغُسل يجب الغسل للأسباب الآتية: 1) الجنابة: وتكون بالتقاء الختانين في الجماع، وتكون بنزول المني في الاحتلام، وتكون بنزول المني في حالة اليقظة. 2) إسلام الكافر. 3) الموت. 4) الحيض. 5) النفاس والولادة. أولاً: الجنابة وجوب الغسل من الجنابة مُجمعٌ عليه من المسلمين، وهو معلوم من الدين بالضرورة، وقد دلَّت عليه النصوص من القرآن الكريم والسُّنة النبوية المشرفة، نذكر منها ما يلي: 1- {يا أيها الذين آمنوا لا تَقْرَبُوا الصلاةَ وأنتُم سُكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جُنُباً إلا عابِري سبيلٍ حتى تغتسلوا..} الآية 43 من سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 2- {يا أيها الذين آمنوا إذا قُمْتُم إلى الصَّلاةِ فاغْسِلوا وجوهَكُم وأيديَكُم إلى المرافق وامْسَحُوا برؤوسِكُم وأَرْجُلكم إلى الكعبين وإنْ كُنتم جُنُباً فاطَّهَّروا ... } الآية 6 من سورة المائدة. 3- عن خولة بنت حكيم قالت «سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة تحتلم في منامها فقال: إذا رأت الماء فلْتغتسل» رواه النَّسائي وأحمد. وروى النَّسائي ومسلم عن أنس «أنَّ أم سُلَيم سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل قال: إذا أنزلت الماء فلْتغتسل» . 4- عن عليٍّ رضي الله عنه قال «سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المذي؟ فقال: مِن المذي الوضوء ومِن المني الغُسل» رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه النَّسائي وأبو داود. ولفظ النَّسائي «قال: كنت رجلاً مذَّاء فسألتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إذا رأيت المذي فتوضأ واغسل ذَكَرَك، وإذا رأيت فضخَ الماء فاغتسل» . 5- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا جلس بين شُعَبها الأربع ومس الختانُ الختانَ فقد وجب الغُسل» رواه مسلم وأحمد. ورواه الترمذي ولفظه «إذا جاوز الختان الختان وجب الغُسل» وقال: حديث حسن صحيح. الآيتان الكريمتان قد ذكرتا الغُسل من الجنابة {ولا جُنُباً إلا عابِري سبيلٍ حتى تغتسِلوا} ، {وإنْ كنتم جُنُباً فاطَّهَّروا} وجاءتا بإجمالٍ دون تفصيل، والأحاديث جاءت مُجملة ومفصلة، فحديثا خولة وأم سُلَيم ذكرا الاحتلام مع الإنزال للرجل وللمرأة، وحديث علي بروايتيه ذكر إنزال المني مطلقاً دون تقييده بجماعٍ، أو احتلامٍ أو يقظةٍ دون جماع، وحديث عائشة ذكر مسَّ الختان للختان ومجاوزة الختان للختان، وهذا في الجماع دون ذكر الإنزال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 فهذه الأحاديث الشريفة قد ذكرت الأنواع التي تشكِّل الجنابة، فالجنابة تكون بالتقاء الختانين - حديث عائشة - وتكون بالاحتلام مع نزول المني - حديثا خولة وأم سُلَيم - وتكون بنزول المني مطلقاً - حديث علي-. هذه هي الجنابة، وهذه هي الحالات الثلاث التي تحصل فيها الجنابة التي يجب منها الغسل، فلو تفكَّر رجل بامرأة أو نظر إليها، أو قبَّل زوجته فأمنى، فقد وجب عليه الغسل، ولو جامع زوجته فأمنى أو لم يُمن فقد وجب عليه الغسل، ولو احتلم فأمنى فقد وجب عليه الغسل وكلُّ ذلك جنابة. وبالتدقيق نجد أن هذه الحالات يمكن دمجها في حالتين اثنتين فقط هما إنزال المني، وتغييب الحَشَفة في فرج الأنثى أو ما يسمى بمسِّ الختان الختان أو الإيلاج، فإنزال المني والإيلاج هما الحالتان الجامعتان للجنابة، وفيهما الغسل. فعن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت «أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجامع أهله ثم يُكْسِل هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل» رواه مسلم. فهو نصٌّ صريح واضح في الإيلاج دون إنزال، وفيه الغسل بالنص. أما ما يقوله بعضهم من أن الإيلاجَ أو الجماعَ أو مسَّ الختان للختان إذا كان دون إنزال فيكفي فيه الوضوء، ولا يجب منه الغسل، مستدلين على ذلك بحديث عثمان رضي الله عنه الذي رواه زيد بن خالد الجهني «أرأيتَ إذا جامع الرجل امرأته فلم يُمْنِ؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره، قال عثمان: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألت عن ذلك علي ابن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وأبيَّ بن كعب رضى الله عنهم، فأمروه بذلك» رواه البخاري. وبالحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري قال «خرجت مع رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الإثنين إلى قُباء، حتى إذا كنا في بني سالم وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب عِتبان، فصرخ به فخرج يجرُّ إزاره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعجلنا الرجلَ، فقال عِتْبان: يا رسول الله أرأيت الرجل يُعْجل عن امرأته ولم يُمْنِ ماذا عليه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الماء من الماء» رواه مسلم. ومعنى «إنما الماء من الماء» : إنما الغسل من المني. فالرد عليه من وجوه: 1- إن حديث عائشة «ثم مسَّ الختان الختان فقد وجب الغسل» لم يذكر الإنزال، وأوجب الغسل من الجماع فحسب، ولو كان الإنزال واجباً لبيَّنه - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وربما يقال إن هذا غير صريح ولا دلالة فيه، فنأتي لهم بحديث أبي هريرة «إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جلس بين شُعَبها الأربع ثم جَهَدها فقد وجب عليه الغسل وإنْ لم يُنْزل» رواه مسلم وأحمد. وهو نصٌّ صريح الدلالة على ما نقول. 2- روى جابر عن أم كلثوم عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت «إن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجامع أهله ثم يُكْسل - أي يضعُفُ عن الإنزال - هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل» وقد مرَّ، فهذا نص صريح في الغسل من الجنابة بمجرد الجماع دون إنزال. 3- إن حديث «الماء من الماء» كان معمولاً به فترة ثم نُسخ لما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 أ- عن أبيِّ بن كعب قال «إن الفُتيا التي كانوا يُفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخَّصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بدء الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد» رواه أبو داود وأحمد. وفي لفظ «إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نُهِيَ عنها» رواه ابن حِبَّان وابن ماجة وابن خُزَيمة. ورواه الترمذي وقال (هذا حديث حسن صحيح) . وقال الإسماعيلي: هو صحيح على شرط البخاري. وقد كان النسخ عقب فتح مكة لما روي عن الزًّهري قال «سألت عُروة عن الذي يجامع ولا يُنْزِل؟ قال: على الناس أن يأخذوا بالآخِر، والآخِر من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حدثتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك ولا يغتسل، وذلك قبل فتح مكة، ثم اغتسل بعد ذلك، وأمر الناس بالغسل» رواه ابن حِبَّان. ب- عن أبي موسى قال «اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل، قال، قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت فاستأذنت على عائشة فأُذن لي، فقلت لها: يا أماه، أو يا أم المؤمنين، إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أَستحييكِ، فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلاً عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك، قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جلس بين شُعَبها الأربع ومسَّ الختان الختان فقد وجب الغسل» رواه مسلم. فهذان حديثان صحيحان ينسخان الحكم المأخوذ من حديث «إنما الماء من الماء» وحديث عثمان عند البخاري. وبذلك يظهر بوضوح لا لبس فيه أن قولهم إن الجماع دون إنزال لا يوجب الغسل هو خطأ بعد أن ثبت نسخُ دليلهم. وقد ذهب إلى ما نقول الخلفاء الأربعة وجمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 قال ابن عبد البر: إن بعضهم قال انعقد إجماع الصحابة على إيجاب الغسل من التقاء الختانين، وليس ذلك عندنا كذلك، ولكنا نقول إن الاختلاف في هذا ضعيف، وإن الجمهور الذين هم الحجة على من خالفهم من السلف والخلف انعقد إجماعهم على إيجابِ الغسل من التقاء الختانين، أو مجاوزة الختان الختان، وأما القائلون بأن الإنزال فقط هو السبب لوجوب الغسل فهم أبو سعيد الخدري وزيد بن خالد وسعد ومعاذ ورافع ابن خديج وعمر بن عبد العزيز وداود الظاهري، ولا يبعد أن يكون هؤلاء الصحابة والتابعون لم يصلهم خبر النسخ. انتهى قوله. أحكامُ الجُنُب للجُنُب أحكام نفصلها كما يلي: 1- لا يجوز للجُنُب أن يمكث في المسجد، ويُرخَّص له في اجتيازه والمرور منه فقط أخذاً من الآية الكريمة {يا أيها الذين آمنوا لا تَقْرَبوا الصلاةَ وأنتم سُكَارى حتى تَعْلَموا ما تقولون ولا جُنُباً إلا عابِرِي سبيلٍ حتى تغتسلوا وإنْ كُنتم مَرضى أو على سَفَرٍ أو جاء أحدٌ منكم مِن الغائِطِ أو لامستم النساءَ فلم تجدوا ماءً فتيمَّمُوا صَعيداً طيِّباً فامسحوا بوجوهِكم وأيديكُم إنَّ اللهَ كان عفُوَّاً غفوراً} الآية 43 من سورة النساء. فالآية الكريمة تقول {ولا جُنُباً إلا عابري سبيلٍ حتى تغتسلوا} أي إذا كنتم جُنُباً فاعبروا المساجد عبوراً فقط حتى تغتسلوا، وآنذاك يمكنكم المُكث فيها والصلاة، هذا هو التفسير الراجح، وليس هو تفسير عابري سبيل بالمسافرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وقد أعجبني تفسير ابن جرير الطبري لهذه الآية أنقله لكم من كتابه [جامع البيان] (وأَولى القولين بالتأويل لذلك تأويل من تأوَّله ولا جُنُبَاً إلا عابري سبيل إلا مجتازي طريقٍ فيه وذلك أنه قد بيَّن حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جُنُب في قوله وإن كنتم مرضى أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً، فكان معلوم بذلك أنَّ قوله ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا لو كان معنيَّاً به المسافر لم يكن لإعادة ذلك في قوله وإن كنتم مرضى أو على سفر معنى مفهوم، وقد مضى ذِكْرُ حكمه قبل ذلك، وإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مُصلِّين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضاً جُنُباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل، والعابر السبيل المجتاز مَرَّاً وقطعاً) . وقد أخرج ابن جرير عن يزيد بن أبي حبيب «أن رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممراً إلا في المسجد فأنزال الله تبارك وتعالى {ولا جُنُباً إلا عابِرِي سبيلٍ} » . وهذا يوضح ويقوي رأينا السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ومما يدل على ذلك أيضاً ما رواه جابر قال «كان الجُنُب يمر في المسجد مُجْتَازاً» رواه ابن أبي شيبة. ورواه ابن المنذر ولفظه «كان أحدنا يمر في المسجد وهو جُنُب» . أما ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووجوه بيوت أصحابه شارعةٌ في المسجد فقال: وجِّهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن تنزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعدُ فقال: وجِّهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أُحلُّ المسجد لحائض ولا جُنُب» رواه أبو داود وابن خُزَيمة. وما رُوي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت «دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صَرْحةَ هذا المسجد، فنادى بأعلى صوته: إنَّ المسجد لا يحلُّ لجُنُب ولا لحائض» رواه ابن ماجة والطبراني. فأقول: حديث ابن ماجة هذا ضعيف، جاء في الزوائد (إسناده ضعيف، محدوج لم يوثَّق، وأبو الخطَّاب مجهول) فلا يصلح للاحتجاج. فيبقى الحديث الأول الذي رواه أبو داود، فهذا الحديث يجب حمله على المُكث دون المرور، لأن هذا عام وأحاديث المرور مخصِّصة، والخاص يُعمل به. وممن ذهب إلى جواز مرور الجنب في المسجد ابن مسعود وابن عباس والشافعي والطبري. أما من ذهب إلى عدم الجواز فمالك وأبو حنيفة. وقال أحمد وإسحق بالجواز للجُنب إنْ توضأ، واستدلا بحديث رواه عطاء بن يسار «رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يجلسون في المسجد وهم مُجْنِبون إذا توضأوا وضوءَ الصلاة» عزاه الشوكاني لسعيد بن منصور. فنرد عليهما بأن في الحديث هشام بن سعد قال عنه أبو حاتم إنه لا يُحتجُّ به، وضعَّفه يحيى بن مُعين والنَّسائي وأحمد، فالحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج. وهكذا يثبت أن الجُنُب يجوز له أن يجتاز المسجد ويمر منه مروراً دون مُكْث. وهكذا أيضاً يظهر خطأ الرأيين الآخرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 2- يجوز للجُنُب الاختلاط بالناس ومصافحتهم ومحادثتهم وما إلى ذلك، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه «أنه لقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريق من طرق المدينة وهو جُنُب، فانسلَّ فذهب فاغتسل، فتفقده النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما جاء قال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: يا رسول الله لقيتَني وأنا جُنُب، فكرهتُ أن أُجالسك حتى أغتسل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سبحان الله إنَّ المؤمن لا ينجس» رواه مسلم. الرسول عليه الصلاة والسلام أنكر على أبي هريرة انسلاله مِن أمامِهِ كراهةَ مجالسته لأنه جُنُب، وهذا الإنكار منه يفيد جواز مصافحة الجُنُب ومجالسته ومحادثته. 3- يجوز للجُنُب أن يجاهد، وقصة غسيل الملائكة مشهورة، ففي سيرة ابن هشام «فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ صاحبكم، يعني حنظلة، لتُغَسِّلُه الملائكة، فسألوا أهله ما شأنه، فسُئلت صاحبته عنه، فقالت: خرج وهو جُنُب حين سمع الهاتفة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لذلك غسلته الملائكة» . ورواه أيضاً ابن حِبَّان من طريق عبد الله بن الزبير رضي الله عنه. قوله الهاتفة: أي الصوت الشديد. 4- يجوز لمن أصبح جُنُباً أن يُتِمَّ صومه، لما رُوي عن عائشة وأم سلمة زوجي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهما قالتا «إنْ كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليصبح جُنُباً من جِماعٍ غير احتلام في رمضان ثم يصوم» رواه مسلم والبخاري وأحمد. وهو رأي الجمهور، ويكاد يبلغ حد الإجماع بين الفقهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 أما ما رُوي بأن أبا هريرة كان يفتي بأن من أدرك الفجر جُنُباً فلا صوم له، فإنه قد رجع عنه، فهذه الفتوى وهذا الرجوع ذكرهما مسلم في صحيحه في حديث واحد رواه من طريق عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي بكر، وكذلك روى ابن أبي شيبة أن أبا هريرة قد رجع عنه، فيُترك العمل به، وهذا في الجُنُب من جماع. أما جواز الصوم لمن أصبح جُنُباً من احتلام فلم يختلف عليه اثنان من العلماء، ولست أُطيل أكثر، لأن هذا البحث مكانه باب الصوم وليس باب الطهارة. 5- يجوز للجُنُب أن يأكل ويشرب دون أن يتوضأ، قالت عائشة رضي الله عنها «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام وهو جُنُب توضأ وضوءَه للصلاة، فإذا أراد أن يأكل أو يشرب غسل كفيه ثم يأكل أو يشرب إن شاء» رواه أحمد والنَّسائي ومسلم. وروى ابن خُزَيمة من طريق عائشة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يطعم وهو جُنُب غسل يديه ثم طعِم» . فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يغسل يديه وهو جُنُب ثم يأكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وكذلك يجوز للجُنُب أن يجامع أهله وينام دون أن يتوضأ، لما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصيب من أهله من أول الليل ثم ينام ولا يمس ماء، فإذا استيقظ من آخر الليل عاد إلى أهله واغتسل» رواه أحمد وأصحاب السُّنن. وعن عائشة بلفظ «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينام وهو جُنُب ولا يمسُّ ماء» رواه البيهقي وصححه. والحديث هذا ضعَّفه عدد من أئمة الحديث بقولهم إن الحديث من رواية أبي إسحق عن الأسود عن عائشة، وإن أبا إسحق لم يسمعه من الأسود، ولكن البيهقي قال (إن أبا إسحق بيَّن سماعه من الأسود) وأضاف (قد صح عندنا حديث الثوري عن أبي إسحق عن الأسود) فيُعمَل به إذن. فهذه الأحاديث لم تذكر وضوءاً ولا غُسلاً لمعادوة الجماع أو للنوم أو للأكل أو للشرب، إلا أن الأفضل لهذه الأفعال أن يتوضأ وضوءه للصلاة، لما رُوي عن عائشة أنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جُنُباً فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة» رواه مسلم والبخاري. ولما رُوي عن عبد الله بن أبي قيس أنه قال «سألت عائشة عن وِتْر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث، قلت: كيف كان يصنع في الجنابة؟ أكان يغتسل قبل أن ينام أم ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل، ربما اغتسل فنام، وربما توضأ فنام. قلت الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة» رواه مسلم. ولما رُوي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أتى أحدُكم أهلَه ثم أراد أن يعود فلْيتوضأ» رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن. ولما رُوي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال «استفتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أينام أحدُنا وهو جُنُب؟ قال: نعم إذا توضأ» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن. ولما روى ابن عمر عن عمر رضي الله عنه «أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أينام أحدُنا وهو جُنُب؟ قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ينام ويتوضأ إن شاء» رواه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان. فهذه الأحاديث تذكر تارة أنه عليه الصلاة والسلام كان يأكل وهو جُنُب ولا يزيد على غسل يديه، وتذكر تارة أخرى أنه كان يأكل وهو جُنُب بعد أن يتوضأ وضوءه للصلاة، ما يدل على أن المسلم بالخيار بين الوضوء وتركه، يؤكد ذلك الحديث الذي رواه ابن عمر المار وفيه «ويتوضأ إن شاء» وكذلك كان عليه الصلاة والسلام يأمر الجُنُب إذا أراد المعاودة بالوضوء، وكان هو يفعل ذلك أحياناً، ولكنه كان أحياناً أخرى يعاود دون وضوء «يصيب من أهله من أول الليل ثم ينام ولا يمس ماء، فإذا استيقظ من آخر الليل عاد إلى أهله» . وإنما قلنا بالاستحباب، لأن الوضوء نفسه مندوب في كل حال، وما دام مندوباً فهو في حالة الجنابة مندوب، وهذا طبعاً غير الوضوء الواجب، فالجُنُب يباح له الأكل والشرب ومعاودة الجماع والنوم دون وضوء، إلا أنه إن توضأ كان أفضل. 6- لا يجوز للجُنُب أن يصلي، ومن الصلاة سجود الشكر وسجود التلاوة، والطواف حول الكعبة. أما الصلاة عموماً فلقوله جلَّ وعزَّ {ولا جُنُباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} . هذا عدا عن الأحاديث الكثيرة، وهذا الأمر معلوم من الدين بالضرورة. أما الطواف حول الكعبة خاصة، فلأنه صلاة فيأخذ حكمها، وذلك لما روى طاووس عن رجل قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إنما الطواف صلاة، فإذا طُفتم فأقِلُّوا الكلام» رواه أحمد والنَّسائي. ولما روى عبد الله بن عباس رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إن الطواف بالبيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير» رواه ابن خُزَيمة والدارمي، ورواه الحاكم وصحَّحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 7- لا يجوز للجُنُب مسُّ المصحف، وقد ورد فيه الحديث التالي: عن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه كتب إلى أهل اليمن بكتابٍ فيه الفرائضُ والسننُ والدياتُ، وبعث فيه مع عمرو بن حزم، فذكر الحديث، وفيه: ولا يمس القرآنَ إلا طاهراً» رواه البيهقي والدارقطني والحاكم والطبراني، وحسَّنه الحازمي. هذا الحديث طعن فيه كثيرون وضعَّفوه، ولكن في المقابل صححه كثيرون وقبلوه، فابن حجر قال فيه (كتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول) وقال ابن عبد البر: إنَّه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول. وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتاباً أصحَّ من هذا الكتاب فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين يرجعون إليه ويَدَعُون رأيهم. وقال الحاكم (قد شهد عمر بن عبد العزيز والزهري لهذا الكتاب بالصحة) فكفى بعمر بن عبد العزيز والزهري شاهدين على صحة هذا الحديث فالحديث صالح للاحتجاج. بقي وجه الدلالة فيه. قال الشوكاني مُعقِّباً على كلمة طاهر (إن الراجح كون المشترك مُجمَلاً في معانيه فلا يعين حتى يبين، وقد دلَّ الدليل ههنا أن المراد به غيره لحديث «المؤمن لا ينجس» ولو سُلِّم عدم وجود دليل يمنع من إرادته، لكان تعيينه لمحلِّ النزاع ترجيحاً بلا مرجح، وتعيينه لجميعها استعمالاً للمشترك في جميع معانيه وفيه الخلاف، ولو سُلِّم رجحان القول بجواز الاستعمال للمشترك في جميع معانيه لما صح لوجود المانع وهو حديث «المؤمن لا ينجس» ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فالشوكاني يعتبر كلمة طاهر لفظةً مشتركةً، ولا بد من وجود دليل يعين المراد منها، لأنها تشمل المؤمن، وتشمل مَن تطهَّر من الجنابة، وتشمل مَن توضأ، وتشمل مَن غسل النجاسة عن بدنه، وكل هذه المعاني يفيدها لفظ طاهر، فلا بد من معرفة أي هذه المعاني هو المقصود من الحديث. هذا مجمل رأي الشوكاني في رد الاحتجاج بهذا الحديث على موضوعنا وهو مثال على رأي القائلين بقوله. ونرد عليه بما يلي: صحيح أن كلمة طاهر تشمل المعاني المذكورة كلها، ولكن لا بد من وجود قرينة تُعيِّن المعنى المراد، أو تصرف اللفظة عن معنى معين أو معان معينة، ولا يُتصور أن يكون هذا الحديث خالياً من قرينةٍ فيه، أو في غيره من الأحاديث، وإنَّ حديثاً يكاد يبلغ التواتر لشُهرته وتلقِّي الناسِ صحابةً وغيرَ صحابةٍ له بالقبول لا يُتصور أن لا تكون فيه ولا في غيره قرينة تعين المعنى المقصود، لأن تلقي الناس له بالقبول يدل على أنهم أخذوه وعملوا به، ولا يدل على أنهم سمعوه فقط واحتاروا في فهمه، وما كان لهذا الحديث أن يكون مشهوراً ويُتلقَّى بالقبول لو كان معناه محتمَلاً ودلالته مجمَلَة غامضة، فهذا افتراض مرفوض. وقد اتفق المسلمون أو كادوا على أن معناه لا يمس القرآن إلا من رفع الحدثين الأكبر والأصغر، وحتى الأئمة الذين يُجيزون لفاقد الوضوء مسَّ المصحف لم ينكروا هذا التفسير، وإنما ردوا الحديث ووصفوه بالضعف، ولم يحتجوا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 أما أن من معاني لفظ [الطاهر] المؤمن، أخذاً بالحديث «المؤمن لا ينجس» كما يقول الشوكاني فهو صحيح، ولكن القرينة تصرفه عن هذا المعنى، فالحديث قولٌ أرسله الرسول عليه الصلاة والسلام لليمن وأهله مسلمون، أي وأهله طاهرون، وهو خطاب لهم، فعلى تفسير لفظ الطاهر بالمؤمن يكون الحديث كالآتي: أيها الطاهرون لا يمس المصحف أحد منكم إلا إذا كان طاهراً. وبصيغة المفرد: لا تمس أيها الطاهر المصحف إلا إذا كنت طاهراً. وهذا من التأويل الفاسد وهو مردود، إذ لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام أراد هذا المعنى، أي لو أراد أن لا يمسَّه إلا المؤمنون لقال: لا يمسّ القرآنَ مشركٌ، أو لا يمسّ المصحف كافرٌ، فلما عدل عن هذا التعبير دل على أن للحديث معنى آخر. وأما أن من معاني لفظ (الطاهر) مَن تطهَّر من النجاسة كما يقول الشوكاني فهو أيضاً صحيح، ولكن من تطهر من النجاسة اثنان وليس واحداً، فالذي أزال النجاسة عن بدنه متطهِّر وطاهر، والذي أزالها عن ثوبه طاهر أيضاً ومتطهِّر، فهل الحديث أراد من المتطهِّر مِن النجاسة الأول أم الثاني؟ إنه ليس من صحابي ولا تابعي قال إن مسَّ المصحف يحتاج إلى طهارة البدن والثوب أو طهارة أحدهما مستدلاً بهذا الحديث، فقد اتفقت كلمة المسلمين سلفاً وخلفاً على اطِّراح هذا المعنى لهذا الحديث، فإيراد الشوكاني لهذا الاحتمال إيراد نظري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وأيضاً فإن عندنا العديد من النصوص التي تطلب طهارة البدن وطهارة الثوب من النجاسة، وتُبرز هذه النصوص الحالةَ المقصودة من الحالتين في كل مرة، فالآية الكريمة تقول {وثِيابَكَ فَطَهِّرْ} فنصَّت على الثياب، والحديث يقول «كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح به ثوبك» فذكر الثوب مرتين، والحديث يقول «فتغسل من ذلك فرجك وأُنثييك» فذكر الجزء المقصود من البدن، والحديث يقول «فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض» ولم يقل إحدانا يصيبها من دم الحيض، والحديث يقول «سألت عائشة عن الحيض يصيب ثوبها الدم» والحديث يقول «فاغسلي موضع الدم» وهكذا يذكر نجاسة الموضع ويعيِّنه بصريح اللفظ، فمن تأمَّل النصوص وكانت عنده دراية بها فَهِم أن الطهارة لا تأتي بمعنى غسل النجاسة، إلا مقرونة بقرينة تصرفها إلى إزالة النجاسة، وحديثنا يجب فهمه على ضوء هذه الملاحظات. فلم يبق وقد استُبعد تفسير الطاهر بالمؤمن وبالمتطهِّر من النجاسة إلا الحَدَث بشقيه الأكبر والأصغر فحسب، وجاء الحديث يطلب أحد الشقين أو يطلبهما معاً، ولا ثالث لهذين الاحتمالين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وبالوصول إلى هذه النقطة نجد أن المسألة صارت سهلة متقاربة، لأن أياً من المعنيين ليس منفصلاً عن الآخر ولا بعيداً عنه، فإنَّ ما بينهما من فارق ليس كما بين الحَدَث والمؤمن، وليس كما بين المؤمن والمتطهِّر من النجاسة، وإنما هما شيء واحد أو جنس واحد من شقين، ولذا سُميا الحدث الأكبر والحدث الأصغر، فكلاهما حدث، ويدخل الأصغر في الأكبر حين القيام بالأكبر إلى غير ذلك، فحين يريد الشرع أن يطلبهما يقول: تطهَّروا أو ارفعوا الحدث مثلاً، أما إن أراد أحدهما نص عليه وعيَّنه فقال: توضأوا للأصغر، وارفعوا الجنابة للأكبر وهكذا، فحين يقول الحديث أيها المؤمن لا تمسَّ المصحف إلا إذا تطهَّرت، أو إلا إذا كنت طاهراً يجب صرفه إلى الإثنين وعدم صرفه إلى أحدهما إلا بقرينة، ولا قرينة هنا لهذا الصرف. ثم إنَّ الطهارة من الحَدَث الأكبر هي طهارة ناقصة لا تصلح وحدها للصلاة ولا للطواف، وهذا معلوم، وبرفع الحدث الأصغر تكتمل الطهارة وتتم، فحين يطلب الحديث شيئاً فإن المعنى الذي ينبغي أن يقفز إلى الذهن هو الشيء بتمامه، ولا يصح فهمُه على النقص إلا بقرينة، فالرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منا أن لا نمس المصحف إلا ونحن طاهرون، وحيث أن طهارتنا تكتمل بالوضوء، فالأصل وسلامة الفهم تدفعنا إلى القول بكامل الطهارة، سيما وأنه لا قرينة هنا على صرفها إلى النقص. من كل ما سلف يترجح لدينا أن مسَّ المصحف لا يصح إلا من رافعٍ للحدث بشقيه الأكبر والأصغر، وهذا هو رأي جمهور الأئمة والفقهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 بقي أن أشير إلى أن عدداً من الفقهاء لم يكتفوا بالاستدلال بالحديث السابق، وإنما استدلوا على هذا الرأي بالقرآن الكريم قائلين إنَّ الآيات التي تقول {إنَّه لَقُرآنٌ كريمٌ. في كتابٍ مكنونٍ. لا يمسُّه إلا المُطهَّرون. تَنْزيلٌ مِن ربِّ العَالمين} الآيات من 77-80 من سورة الواقعة. تدل على أن المسلم يجب أن يتطهر لمسِّ المصحف {لا يمسُّهُ إلا المُطهَّرون} وقالوا إن الآيات صُدِّرت بلفظ (القرآن الكريم) ثم أتت على أوصافه الثلاثة وهي أن القرآن {في كتابٍ مَكْنُونٍ} وأنه {لا يمسُّهُ إلا المُطهَّرون} وأنه {تَنْزيلٌ مِنْ ربِّ العَالمين} جاعلين الضمير في يمسُّه يعود إلى القرآن، واعتبروا هذه الآيات دليلاً لهم. والذي أراه هو أن هذه الآيات لا تدل على ما ذهبوا إليه، وكان الأَولى بهم الاقتصار في الاستدلال على الحديث السابق. وقد ذهب ابن تيمية في الاستدلال بهذه الآيات مذهباً غريباً بقوله (إنَّ الآية تدل على الحكم من باب (الإشارة) فإذا كان الله تبارك وتعالى يخبر أن الصحف المطهَّرة في السماء لا يمسُّها إلا المطهَّرون، فالصحف التي بأيدينا كذلك ينبغي ألا يمسَّها إلا طاهر) فهو يقرر أن الآيات لا تدل على رأيه إلا من باب الإشارة، وذلك لأنها في الحقيقة تدل على الملائكة المطهرين وليس البشر المتطهرين لمسِّ المصحف. وقد أخطأ حين لم يقف عند مدلولات هذه الآيات وقام بعملية قياس غير صحيحة، إذ قاس البشر على الملائكة من حيث الطهارة، والمعلوم أن الإشارة هذه لها باب في أصول الفقه يسمونه باب مفهوم الإشارة، وهذا المفهوم لا يُعمل به هنا، لأن الأصوليين لم يقولوا بقياس الإنسان على الملائكة فأتى بقوله هذا غريباً من القول، وهو بيِّن الضعف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وبالنظر في هؤلاء الآيات الكريمات نجد أن الآية {لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرون} تتحدث عن الكتاب المكنون الموجود في السماء، والذي تمسه الملائكة المطهَّرون، وليس عن القرآن الكريم الذي يمسه المسلمون المتطهِّرون، والدليل على ذلك ما يلي: أ- المعلوم أن الضمائر في اللغة تعود إلى أقرب اسم يصلح لعودتها إليه، ويمكن للضمائر أن تعود إلى اسم أبعد إن كان الاسم الأقرب لا يصلح لعودتها إليه، أو كانت هناك قرينة تعيِّن الاسم الأبعد ليعود الضمير إليه، وما عدا هاتين الحالتين فالأصل في الضمير ما ذكرنا، وفي هذه الآيات الكريمات نجد أن ضمير يمسُّه - وهو مذكَّر غائب - قد سبقه اسمان: القرآن وكتاب، والقرآن هو الاسم البعيد، والكتاب هو الاسم القريب، والضمير المذكر الغائب يصلح أن يعود إلى الكتاب، وحيث أنه هو الاسم الأقرب، فالأصل أن يعود الضمير إليه لهذين السبين، ولأنه لا توجد قرينة تصرف عودته إلى القرآن، بل القرينة تؤكِّد عودته إلى الكتاب، وبذلك يكون معنى الآيات كما يلي: إنَّه لقرآنٌ موجود في كتاب، هذا الكتاب لا يمسُّه إلا المطهَّرون. أما الآية الأخيرة {تَنْزيلٌ مِنْ ربِّ العالمين} فهي وصفٌ للقرآن وليس للكتاب لقرينة {تنزيل} فهذا المعنى لا يصلح لوصف الكتاب المكنون به، لأن الكتاب المكنون لم ينزل، ولم ينزل إلا القرآن، فاستحق وصفه به دون وصف الكتاب المكنون. قلنا قبل قليل (بل القرينة تؤكِّد عودته إلى الكتاب) ونقول هنا إنَّ هذه القرينة هي لفظة {المُطهَّرون} فهذه اللفظة وصفٌ للملائكة وليست وصفاً للإنسان، وحتى نقف على الدليل على ذلك لننظر في الآيات القرآنية التالية: 1- {ولهم فيها أزواجٌ مُطهَّرةٌ وهم فيها خالدون} الآية 25 من سورة البقرة. 2- {خالدين فيها وأزواجٌ مُطهَّرةٌ ورِضْوانٌ مِن الله} الآية 15 من سورة آل عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 3- {لهم فيها أزواجٌ مُطهَّرةٌ ونُدْخِلُهم ظِلاً ظليلاً} الآية 57 من سورة النساء. 4- {فمن شاء ذَكَرَهُ. في صُحُفٍ مُكرَّمةٍ. مرفوعةٍ مُطهَّرةٍ} الآيات 12، 13، 14 من سورة عبس. 5- {رسول من الله يتلو صحفاً مُطهَّرة} الآية 2 من سورة البيِّنة. 6- {لا يَمَسُّهُ إلا المُطهَّرون} الآية 79 من سورة الواقعة. لنجد أن الآية الأولى وصفت نساء الجنة بأنهنَّ مطهَّرات، وكذلك الآية الثانية والآية الثالثة. أما الآيات في البند الرابع فوصفت الصحف بأنها مطهَّرة، وكذلك الآية الخامسة. والآية السادسة وصفت من يمسُّون بأنهم مطَهَّرون. وبالتدقيق نجد أن هناك قاسماً مشتركاً بين هذه الكلمات، وهو أن هذا التطهير حصل بفعل من الله دون مشاركة من غيره، فأزواج الجنة طهَّرهن الله فهن مطهَّرات أبداً، والصحف طهَّرهن الله، والملائكة طهَّرهم الله، ولم تشارك الأزواج ولا الصحف ولا الملائكة بفعل التطهير، فجاء الوصف كما رأيتم. ثم لننظر في الآيتين القرآنيتين التاليتين: 1- {فإذا تطهَّرنَ فأْتوهنَّ مِنْ حيثُ أَمَرَكُمُ الله إنَّ الله يحبُّ التَّوابين ويحبُّ المُتَطَهِّرين} الآية 222 من سورة البقرة. 2- {فيه رجالٌ يُحِبُّون أنْ يَتَطَهَّروا والله يُحِبُّ المُطَّهِّرين} الآية 108 من سورة التوبة. لنجد أن الآية الأولى ذكرت النساء في الدنيا بقولها {تطهَّرن} واسم الفاعل من تطهَّر هو مُتطهِّر، ووصفت المسلمين بقولها {المتطهرين} وأن الآية الثانية وصفت الرجال الذين يتطهرون بأنهم [المُطَّهِّرين} بتشديد الطاء المفتوحة والهاء المكسورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وبالتدقيق في هذه الألفاظ نجد أن بينها قاسماً مشتركاً هو التطهُّر الذي حصل بفعل الإنسان نفسه، ولذلك جاءت الألفاظ {المُطَّهِّرين} و {المُتَطَهِّرين} و {تطهَّرْنَ} ، واسم الفاعل هو متطهرات، أي أن من قام بتطهير نفسه وُصف بأنه متطهِّر أو مُطَّهِّر، ولم يوصف بأنه مُطَهَّر، في حين أنَّ من طهَّرهم الله لم يوصف أحد منهم بأن متطهِّر أو مُطَّهِّر، وإنما مُطَهَّر ومُطَهَّرون، وهكذا، والفرق واضح تماماً، وإذن فكل من طهَّره الله دون مشاركة من غيره فهو مُطَهَّر، وكل من طهَّر نفسه فهو مُتَطَهِّر ومُطَّهِّر. هذه هي استعمالات القرآن الكريم وبتطبيقها على آية سورة الواقعة نجد أن قوله تعالى {لا يمسُّه إلا المُطَهَّرون} يعني الذين طهَّرهم الله، وبذلك يتعين تفسير هذه اللفظة بالملائكة وليس بالناس. من ذلك كله يتضح أن آية الواقعة عنت الملائكة ولم تَعنِ الناس، وإلى هذا المعنى مال الإمام مالك فيما رواه عنه القرطبي في تفسيره (وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله {لا يمسه إلا المُطهَّرون} أنها بمنزلة الآية التي في عبس وتولى {فمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. في صُحُفٍ مُكَرَّمةٍ. مَرْفُوعةٍ مُطهَّرةٍ. بأَيْدِي سَفَرةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ} يريد أن المُطهَّرين هم الملائكة الذين وُصفوا بالطهارة في سورة عبس) . وممن فسَّروا الآية {لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرون} بأنهم الملائكة وأن الكتاب المكنون هو الذي في السماء فيما رواه عنهم الطبري في تفسيره هم: ابن عباس ومجاهد والضحاك وجابر بن زيد وابن نهيك وسعيد بن جبير وعكرمة وأبو العالية. وقد سبق أن ذكرنا أن ابن تيمية قال بذلك وإن خالف هؤلاء في الاستدلال. وبذلك يظهر بوضوح أن آيات القرآن الكريم فيها دلالة على أن مس المصحف يحتاج إلى وضوء، فلم يبق إذن سوى الحديث المشار إليه وفيه الغُنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 والخلاصة هي أن مس المصحف يحتاج إلى وضوء وليس فقط إلى رفع الحدث الأكبر الذي هو موضوع بحثنا. وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يمسَّ المصحف، ولم يخالف في ذلك سوى داود. أما الذين اشترطوا لمس المصحف أن يكون طاهراً من الحَدَثين معاً فهم: علي وابن مسعود وسعد وسعيد وابن عمر والحسن وعطاء وطاووس والقاسم بن محمد ومالك والزُّهري والحكم وحماد والشافعي وأصحاب الرأي وأحمد. وقال ابن قُدامة (ولا نعلم مخالفاً لهم إلا داود فإنه أباح مسَّه، واحتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب في كتابه آية إلى قيصر. وأباح الحكم وحماد مسَّه بظاهر الكف لأن آلةَ المس باطنُ اليد فينصرف النهي إليه دون غيره) . أما الحكم وحماد فهما مع القائلين بعدم جواز المسِّ إلا أنهما قصراه على باطن اليد دون ظاهرها. أما دليل داود فهو ضعيف جداً لأننا نتحدث عن مس المصحف وليس عن مسِّ ورقة فيها آية أو بضع آيات، والمصحف كلمة لها دلالة معلومة، فما كان مصحفاً حرم مسه دون وضوء، وما لا فلا، فتخرج كتب التفسير وكتب الفقه رغم ما فيها من آيات من القرآن لأنها ليست مصاحف فيجوز مسُّها، وكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهرقل ليس مصحفاً فجاز مسُّه، وكلامنا كله هو في مسِّ المصحف دون سواه، فما سوى المسِّ يجوز على إطلاقه فالنظر إليه وحمله بعلاَّقة ومسُّه بعود كل ذلك جائز، وهو رأي أبي حنيفة وابن قدامة، ورُوي عن الحسن وعطاء وطاووس والشعبي والقاسم والحكم وأبي وائل وحماد. ومنعه الأوزاعي ومالك والشافعي قياساً للحمل على المسِّ وتعظيماً للقرآن، ولا يصح قياسهم، لأن حمله بعلاَّقة ومسَّه بعود لا يشاركان المسَّ في العلة، ثم هما فعلان لا ينافيان التعظيم للقرآن. وفي مسِّ طلاب المدارس رأيان أرجحهما عندي المنع إلا إن كانوا دون البلوغ فلا بأس لأنهم غير مكلفين. 8- ورد في قراءة الجُنُب للقرآن الكريم حديثان هما: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 أ- عن علي رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته ثم يخرج فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه عن القرآن شيءٌ ليس الجنابة» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. ورواه النَّسائي بلفظ «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن على كل حال ليس الجنابة» وحسنه ابن حجر. ب- عن علي رضي الله عنه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثم قرأ شيئاً من القرآن ثم قال: هذا لمن ليس بجُنُب، فأما الجُنُب فلا ولا آية» رواه أحمد وأبو يعلى. وقال الهيثمي (رجاله موثَّقون) . وقد ذهب الأئمة الأربعة وغيرهم إلى تحريم قراءة القرآن على الجُنُب، وروي ذلك عن ابن عمر وعطاء وطاووس، وقال الشافعي بتحريم قراءة الآية وما دونها وما فوقها، وقال أبو حنيفة بتحريم قراءة آية فما فوقها وأجاز قراءة دون آية إذ ليس بقرآن، وأجاز بعض أصحابه قراءة القرآن للجُنُب لغير التلاوة، وخالفهم آخرون قائلين بجواز قراءة الجُنُب للقرآن منهم ابن عباس والشعبي والضحاك والبخاري والطبري وابن المنذر وداود، والشوكاني وقال (إنه لم يصح خبرٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلح لتحريم قراءة القرآن) واستشهد بما روى البخاري عن ابن عباس أنه لم ير في القراءة للجُنُب بأساً، وبما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه» رواه مسلم. وأضاف (وبالبراءة الأصلية حتى يصح ما يصلح لتخصيص هذا العموم وللنقل عن هذه البراءة) . والذي أذهب إليه أن الجُنُب يحرم عليه أن يقرأ القرآن، وأن الشوكاني ومن يقول بقوله لم يصيبوا فيما ذهبوا إليه، وذلك: 1- إن قول الشوكاني إنه لم يصح خبرٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلح لتحريم قراءة القرآن مردود بحديث علي الأول الذي رواه أحمد وغيره وصححه ابن حِبَّان وابن السكن والبغوي، وحسَّنه ابن حجر، ومثل هذا الحديث يصلح للاحتجاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 2- إن استشهاده بما روي عن عبد الله بن عباس أنه لم ير في القراءة للجُنُب بأساً هو استشهاد لا يصح، لأن قول الصحابي ليس دليلاً، خاصة إذا عارضه حديث مرفوع صحيح أو حسن كحديث علي الأول وحديث علي الثاني. 3- أما استشهاده بما روته عائشة رضي الله عنها أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله على كل أحيانه، فهو استشهادٌ مخصَّص بحديثي علي السابقين، لأن حديث عائشة عام بينما حديثا علي مُخصِّصان، والمخصِّص مقدَّم على العام، ولا تعارض بين الأحاديث، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله على كل أحيانه ومنها حالة الجنابة بشتى أنواع الذكر إلا بالقرآن. 4- أما قوله (وبالبراءة الأصلية حتى يصح ما يصلح لتخصيص هذا العموم) فنرد عليه من وجهين: أ- لقد صح ما يخصص هذا العموم كما أسلفنا. ب- إن قوله بالبراءة الأصلية هنا غير صحيح، لأن البراءة الأصلية إنما تكون في الأشياء والموجودات من حيث الحكم دون الأفعال، فالشيء إن لم نجد له حكماً ورد بدليل ألحقناه بالبراءة الأصلية أي بالإباحة، أما الأفعال فلا بد من أن يكون لها أحكامٌ بنصوص أو بقياس، فالقاعدة الأصولية تقول (الأصل في الأشياء الإباحة والأصل في الأفعال التقيُّد) ولم يخالف هذه القاعدة إلا القليل من العلماء، ولست هنا بصدد إثبات صحة هذه القاعدة، لأن الأصل في المسلم التقيد في الأفعال بحكم الشرع، فإن عرفنا حكم الفعل التزمنا به، وإن لم نعرف توقفنا عنه حتى نجد نصاً أو نجد قياساً، ولا يُتصور وجود فعل لا نصَّ فيه ولا قياس لأن الشريعة كاملة، وهنا قراءة الجُنُب فعل، فلا بد من أن يكون فيها نصٌّ أو قياس. وبذلك يظهر ضعف رأي الشوكاني ومن وافقه، ويكون رأي الجمهور هو الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وننتقل إلى بحث ما اختلف فيه الشافعي وأبو حنيفة في القدر الذي يجوز للجُنُب قراءته من القرآن، فالشافعي يمنع الجُنُب من أن يقرأ آية وما دونها، أما أبو حنيفة فيبيح قراءة ما دون الآية. والحق الذي يجب الأخذ به هو أن نقول إن الجُنُب ممنوع من قراءة القرآن، أي من قراءة ما يطلق عليه اسم القرآن، ويباح له قراءة ما لا يطلق عليه اسم القرآن. هذا هو الرأي الذي يجب المصير إليه، لأن الحديث يقول «لم يكن يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة» ولكن يبقى علينا معرفة القدر الذي يطلق عليه اسم القرآن لنستطيع من ثَمَّ معرفة الصواب والخطأ في رأيي أبي حنيفة والشافعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 إن آيات القرآن الكريم تتفاوت في الطول والقصر، ففي حين أن آية الديْن أو آية الكرسي مثلاً في سورة البقرة تتضمن العديد من الأسطر، فإنَّ هناك آيات مثل آية {قل يا أيها الكافرون} وآية {فسبِّح بحمدِ ربِّك واستغفره إنَّه كان توَّاباً} تتضمن سطراً أو بعض سطر، فنحن إذا قرأنا نصف آية الديْن أو ربعها فإن السامع يتحقق من أننا قرأنا قرآناً، وكذلك قل في قراءة نصف آية الكرسي أو ربعها مثلاً، فلو قرأنا منها {الله لا إله إلا هُو الحيُّ القيُّومُ لا تأْخُذُه سِنةٌ ولا نومٌ له ما في السَّمَواتِ وما في الأرض} فإننا نكون قد قرأنا قرآناً، ويكون السامع قد تحقق أننا قرأنا قرآناً وإن كان المقروء جزءاً من آية، ولكن إن قرأنا (يا أيها الكافرون) أو قرأنا (سبح بحمد ربك) أو (إنه كان تواباً) فإن السامع لا يفهم أننا قرأنا قرآناً، وحيث أن المُحرَّم على الجُنُب قراءة القرآن، أي قراءة ما يُطلق عليه أنه قرآن فإن الجُنُب يَحرُم عليه أن يقرأ ما سبق من آية الكرسي وما هو من مثله من أجزاء الآيات الطويلة، ولا يحرم عليه قراءة ما لا يطلق عليه أنَّه قرآن من أجزاء الآيات القصيرة من مثل أجزاء آية سورة [الكافرون] وآية سورة [النصر] وغيرهما مما هو مثلهما في القِصَر، وهكذا فالعبرة هو في القدر المسمى قرآناً، وهذا كله في أجزاء الآيات. أما الآيات الكاملة وما هو أكثر منها فإن الحديث الشريف قطع علينا البحث حين قال «فلا ولا آية» فأيَّة آية مهما صغرت وقصرت لا يحلُّ للجُنُب أن يقرأها كاملة مطلقاً، وعلى هذا فإن الشافعي مصيب إنْ هو عنى الآياتِ الطويلة التي إن اجتُزِيء منها قدر ظل القدر المتبقي قرآناً، وأبو حنيفة مصيب إنْ هو عنى الآيات القصيرة التي إن اجتُزِيء منها قدر كان القدر المتبقي غير قرآن، وما سوى ذلك فالقولان غير دقيقين. هذا ما ترجَّح لدىَّ، وهذا ما يدل عليه الحديثان الشريفان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 9- إن الجنابة تكون من التقاء الختانين، أي من ولوج حَشَفة الذكر في فرج الأنثى بإنزال وبدون إنزال، وتكون من الإنزال مطلقاً في اليقظة وفي المنام. وخروج المني من ذَكَر الرجل ومن فرج المرأة يدل على البلوغ، ويعتبر علامة على أن الذكر والأنثى قد دخلا مرحلة التكليف الشرعي. فعن علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «رُفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل» رواه أبو داود والبخاري والترمذي وابن ماجة والدارمي. وإذا بلغ الذكر أو الأنثى نبتت عانتاهما بالشعر الخشن، فكان هذا الشعر علامة ثانية على البلوغ، فعن عطية القُرَظي قال «كنت من سَبْي بني قريظة، فكانوا ينظرون، فمن أنبت الشعر قُتِل، ومن لم يُنبت لم يقتل، فكنت فيمن لم يُنبت» رواه أبو داود وابن ماجة والدرامي وأحمد. ورواه الترمذي وقال (حديث حسن صحيح) وكان هذا عند الحكم على رجال بني قريظة بالقتل عقب هزيمتهم أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان المسلمون يكشفون عن عانات غلمان يهود بني قريظة، فمن وجدوه أنبت - أي بلغ - قتلوه، ومن لم ينبت اعتبروه صبياً وكفوا عن قتله وضموه إلى السَّبْي. فخروج المني من القبل، وظهور الشعر الخشن حول الذكر والفرج هما علامتان دالتان على البلوغ عند الذكر والأنثى على السواء. إلا أن الأنثى لها علامتان أُخريان خاصتان بها إضافة إلى ما سبق هما الحيض والحمل، فمن حاضت أو حملت حكمنا عليها بأنها بلغت، وصارت امرأةً مكلَّفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 هذه هي العلامات الحسية الدالة على انتقال الصبيان إلى مرحلة البلوغ والتكليف، وهي علامات اتفق عليها الأئمة الأربعة باستثناء الإنبات الذي رفضه أبو حنيفة كدليلٍ على البلوغ، وحديث عطية السابق يرد عليه، كما يرد عليه ما كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العمل به، فقد روى أبو عُبيد في كتابه [الأموال] عن أسلم مولى عمر أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد «أن يضربوا الجزية، ولا يضربوها على النساء والصبيان، ولا يضربوها إلا على من جرت عليه الموسى» . أمّا من حيث السن الدالة على البلوغ، فالذي عليه الجمهور أن من بلغ خمس عشرة سنة ذكراً كان أو أنثى فقد بلغ، وخالفهم أبو حنيفة فأوجب مرور ثماني عشرة سنة على الذكر وسبع عشرة سنة على الأنثى للحكم ببلوغهما، والصحيح هو رأي الجمهور، والدليل عليه ما رُوي عن ابن عمر أنه قال «عرضني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجِزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني» رواه مسلم والبخاري وأبو داود أحمد. وفي لفظ أصرح «عُرضتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجِزْني ولم يرني بلغتُ، ثم عُرضت عليه وأنا ابنُ خمسَ عشرةَ سنةً فأجازني» رواه ابن حِبَّان والبيهقي. ورواه الترمذي وأضاف (قال نافع: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال: هذا حدُّ ما بين الصغير والكبير ثم كتب أن يُفرض لمن بلغ الخمسَ عشرة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وهذه السن هي العلامة التي أرى أن تعتبرها الدولة في أحكامها، فمن بلغ الخامسة عشرة من عمره فرضت عليه دولة الخلافة التدريب العسكري وأوجبت عليه الجهاد، وطالبته بسائر التكاليف الشرعية، في حين أن العلامات الحسية السابقة هي العلامات المعتبرة في حق أصحابها، فمن احتلم بأن أمنى، أو من حاضت ألزم نفسه بجميع التكاليف الشرعية من صلاة وصيام وغضِّ نظر عن العورات وستر العورة وغيرها، ولو لم يبلغ السن التي تعتبرها الخلافة، لأن الدولة تحكم بالظاهر وتعمم الحكم الواحد على الجميع، والاحتلام والحيض هي أمور خاصة بأصحابها لا يكاد يطلع عليها أحد، وتختلف من شخص لآخر. وقد اختلف الأئمة والعلماء في أقل السن التي تبلغ فيه الأنثى، فذهب كثيرون إلى أن الأنثى قد تحيض لتسع سنين، لما روى الربيع عن الشافعي قال (أعجلُ ما سمعتُ به من النساء يحضن، نساءٌ بتهامة، يحضن لتسع سنين) . ولما رُوي عن عائشة أنها قالت «إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة» . ولما روى حرملة عن الشافعي قوله (رأيت بصنعاء جدة بنت إحدى وعشرين سنة، حاضت ابنة تسع وولدت ابنة عشر، وحاضت البنت ابنة تسع وولدت ابنة عشر) . روى هذه الأقوال الثلاثة البيهقي في السنن الكبرى. والصحيح هو أنه لا حدَّ لأقل سنٍ للحيض، فمنطقة حارة كتهامة يمكن أن تحيض فيها الأنثى وهي بنت تسع سنين، ولكن منطقة باردة كتركية يغلب أن تحيض الإناث فيها بعد هذه السن بعدد من السنين، وقد حصلت في إفريقية حالات حيض لإناث بلغن ستَّ سنين فقط، وإذن فإن تعيين أقل سنٍّ للحيض والبلوغ غير ممكن، ولم يَجْرِ في الشرع تحديد له. أما أعلى سنٍّ لانقطاع الحيض فقد اختلفوا فيه أيضاً، وغالبيتهم يقدرونه بما بين الخمسين والستين، والأصح عدم التحديد، فأيَّة أنثى ترى الدم فهي حائض سواء بلغت الأربعين أو السبعين ما دام الدم دم حيض. ثانياً: إسلام الكافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وهذا البحث يشمل من أسلم من الكفار ابتداءً ومن أسلم بعد ردَّةٍ سواء كان ذكراً أو أنثى. وقد اختلف الأئمة في حكم اغتسال الكافر إذا أسلم على ثلاثة آراء رئيسية: 1- فذهب أبو حنيفة والشافعي في رواية عنه إلى استحباب غسل الكافر إذا أسلم عموماً. وفي رواية عن أبي حنيفة الوجوب على من أجنب ولم يغتسل حال كفره، فإن اغتسل لم يجب. 2- وذهب الشافعي في رواية ثانية إلى وجوب الغسل على الكافر إن أجنب سواء اغتسل أو لم يغتسل. 3- وذهب أحمد ومالك وأبو ثور والشوكاني إلى وجوب اغتسال الكافر إطلاقاً سواء أجنب أو لم يجنب، اغتسل أو لم يغتسل. وبالتدقيق في هذه الآراء الثلاثة نجد أن مدار البحث إنما هو على جنابة الكافر، فالرأي الأول عمَّم استحباب اغتسال الكفار، وحيث أن الاغتسال حكم شرعي وتكليف، وأن الصبيان غير مكلفين، فيتخرج عندنا أن استحباب الاغتسال قد عُمم على البالغين من الكفار، والبالغ منهم جُنُب كما لا يخفى، فيكون الرأي الأول قد عُمِّم على من أجنب من الكفار، ورواية أبي حنيفة في الرأي الأول واضح فيها أن مدار الاغتسال إنما هو على الجنابة. أما الرأي الثاني فواضح فيه أن مدار البحث هو جنابة الكفار. وأما الرأي الثالث فمداره على الجنابة سلباً وإثباتاً (أجنب أو لم يجنب) ، أمَّا إثباتاً فواضح، وهو يماثل الرأي الثاني، وأما سلباً فهو يُخرج البحث عن مدار الجنابة وإن بقي له تعلُّق بها. وهذا التدقيق يوصلنا إلى أن الاغتسال هنا إنما هو اغتسال من الجنابة عند الكفار إذا أسلموا، ولولا الجنابة لما كان اغتسال. والواجب هنا هو أن البحث يجب أن يُحصر في البالغين من الكفار وعدم إدخال صبيان الكفار فيه، لأن الاغتسال كما أسلفنا قبل قليل هو تكليف، والصبي الكافر غير مكلَّف، وجميع النصوص الواردة في هذا الاغتسال يجب أن تُحمل على البالغين فحسب، ولا يوجد نصٌّ واحد يطلب من صبي كافر أن يغتسل إذا أسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وبالتسليم بهذا الرأي نقول إن أصحاب الرأي الثالث قد أخطأوا حينما قالوا (أو لم يجنب) لأن هذا القول يعني الصبيان، والأصل عدم إدخال الصبيان، سيما وأنهم جعلوا الاغتسال واجباً، ولا يصح أن يُوجبوا على الصبيان تكليفاً، وهذا الخطأ هو قسم السلب الذي أشرنا إليه، فإذا أخرجناه من البحث لم يبق سوى القول إن الآراء الثلاثة مدارها على جنابة الكفار. هذه واحدة. أما الثانية فهي أن الرواية عن أبي حنيفة ضمن الرأي الأول قد تضمنت خطأ بيِّناً، هذا الخطأ هو اعتبار غسل الكفار غسلاً شرعياً، والمعلوم الذي ينبغي أن لا يغيب عن ذهن فقيه هو أن الغسل عبادة، والعبادة لا تصح من كافر، فالأصل أن لا يُعتبر غسل الكفار غسلاً شرعياً سيما وأنه يحتاج إلى نية، والكفار حين يغتسلون إنما يغتسلون لأجل النظافة وليس تعبُّداً مقروناً بنيَّة، وحتى لو جاء من يقول إن الكفار أهل الكتاب يغتسلون بنية ويغتسلون تعبُّداً فإنا نقول له إن الإسلام لا يعتبر عبادتهم عبادة شرعية. نعم إن الإسلام يعترف لأهل الأديان بحقهم في التعبُّد، ولكن هذا الاعتراف معناه السماح لهم به وعدم منعهم منه، ولا يعني أنه يعتبره عبادة تصح شرعاً ويترتب عليها ما يترتب على عبادتنا، فكان الأصل في أبي حنيفة ومن يقول بقوله أن لا يرتِّب نتيجة على عبادة باطلة، وحيث أن الكفار لا قيمة لغسلهم، فإننا نعتبر غُسلهم وعدمه سواء دون أي فارق مطلقاً. وبالتسليم بهذه الفكرة نقول إن هذه الرواية يبقى منها الوجوب على من أجنب، وهذا الباقي داخل في الرأي الثالث. وبذلك يبقى عندنا رأيان اثنان فحسب يستحقان الوقوف والمناقشة: الأول يقول باستحباب غسل الكافر إذا أسلم، والثاني يقول بوجوب غسله. وحتى نعرف أياً من هذين الرأيين هو الصحيح يتوجب علينا استعراض النصوص التي تعالج هذه المسألة، وهذه النصوص هي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه «أنَّ ثمامة بن اُثال أو أُثالة أسلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمُرُوه أن يغتسل» رواه أحمد وعبد الرزاق والبيهقي وابن خُزَيمة وابن حِبَّان. 2- عن خليفة بن حصين بن قيس بن عاصم عن أبيه «أن جده قيس بن عاصم أسلم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمره أن يغتسل بماء وسِدْر» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن حِبَّان. 3- جاء في سيرة ابن هشام فيما رواه محمد بن إسحق من قصة إسلام أُسيد بن حضير قول أُسيد «كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا- أي مصعب ابن عُمَير وأسعد بن زُرارة - تغتسل فتطَّهَّر وتُطهِّر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي» . ونحن نكتفي بهذه النصوص الثلاثة ونطرح حديثين رواهما الطبراني في إسلام واثلة وقتادة الرَّهاوي، وحديثاً رواه الحاكم في إسلام عقيل بن أبي طالب، لأن هذه الأحاديث الثلاثة ضعيفة الإسناد كما ذكر الحافظ ابن حجر، فلا تصلح للاحتجاج. الحديث الأول فيه أمرٌ من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن أسلم - وهو ثُمامة - بالاغتسال، وحينما رجعنا إلى أصل الحديث في الصحيحين وجدنا أن ثُمامة قد ذهب فاغتسل أولاً، ثم عاد فأسلم على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يعني أن اغتسال ثُمامة حصل قبل النطق بالشهادتين، ودلالة هذا الحديث في الصحيحين لا تختلف عنها في النص المروي عند أحمد وعبد الرزاق والبيهقي وابن حِبَّان وابن خُزَيمة، لأنه لا يُتصور أن يكون ثُمامة قد اغتسل دون أمرٍ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أمرٍ من صحابته وإقرار منه عليه الصلاة والسلام، فيكون الاغتسال منه قد سبقه أمرٌ شرعي، وهذا هو مستفاد رواية أحمد وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 والحديث الثاني فيه أمرٌ من الرسول عليه الصلاة والسلام لمن أسلم، وهو قيس بن عاصم بالاغتسال. وأنا لا اذهب إلى قول من يقول إن الأمر يفيد الوجوب إلا أن تصرفه قرينة إلى الندب أو الإباحة، وإلا لانتهى الأمر ولبان أن الاغتسال واجب، ولكني أذهب إلى القول إن الأمر يفيد مطلق الطلب، والقرينة هي التي تصرفه إلى الإيجاب أو الندب أو الإباحة، وعلى ذلك أقول: الحديثان فيهما أمرٌ، والأمر فيهما يفيد الطلب، ولذا وجب البحث عن قرينة تحدد الحكم المستفاد، أما القرينة على أن هذا الأمر في الحديثين يفيد الوجوب فهي موجودة في حديث السيرة، فهذا الحديث وإن كان موقوفاً على صحابيين إلا أن له حكم الرفع، إذ يبعد جداً أن يكون الصحابيان قد قالا ما قالا اجتهاداً منهما، فالحديث يقول «تغتسل فتَطَّهَّر وتطهِّر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي» ومن هذا الحديث يُؤخذ ما يلي: 1- هذا القول ردٌّ على من أسقطوا عن الكافر إذا أسلم الغسل من الجنابة مستدلين بما رواه أحمد من طريق عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له « ... إن الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله» لأن حديثهم عام، وحديثنا هذا خاص، والمعلوم بداهة تقديمُ العمل بالخاص. 2- وهو دليل على أن الغسل إنما هو غسلٌ من الجنابة، لأن الحديث أمر بالقيام بعدة أعمال قبل الصلاة، فجعل الاغتسال والتَّطهُّر وغسل الثوب والنطق بالشهادة تسبق الصلاة، مما يفيد أنه لا صلاة إلا بالاغتسال والتَّطهُّر وغسل الثوب والإسلام، فإذا اقترن الأمر بالاغتسال بأداء الصلاة دل على أن الغسل هو غسل الجنابة، أو ما في حكمه بالنسبة للنساء وهو غسل الحيض، فإذا علمنا أن الغسل من الجنابة والغسل من الحيض شرط لصحة الصلاة أدركنا أن هذا الغُسل واجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 3- إن الطلب من الكافر إذا أسلم أن يغسل ثوبه يدل على أن الكافر هذا يُطلب منه القيام بكامل التَّطهُّر قبل أداء الصلاة، وكاملُ التَّطهُّرِ يعني الغسل من الجنابة وغسل الثوب والبدن من النجاسة، والوضوء يدخل كما لا يخفي في الغسل وإلا لنُصَّ عليه، وهذا يفيد أن الكافر يجب عليه أن يأتي بمستلزمات الصلاة قبل القيام بها، والطلب منه أن يغسل ثوبه ردٌّ حاسم على من قالوا إن الكافر لا يجب عليه شيء قبل إسلامه مستدلين بحديث «إن الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله» إذ لو كان هذا الحديث يُعمل به في هذا الموضوع لما طلب منه أن يغتسل، ولما طلب منه أن يتطهر ولما طلب منه أن يغسل ثوبه، بل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نزلت عليه الرسالة وأُمر بالتبليغ عن ربه نزل عليه قوله تعالى {وثيابَكَ فطَهِّر} . لهذه البنود الثلاثة نقول إن الغسل هو غسل الجنابة وإنه لا يسقط عن الكافر إذا أسلم، وحيث أن هذا الغسل هو غسل الجنابة، فإن الأمر الوارد في حديثي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن يُحمل على الوجوب. وهكذا يتبين وجه الحق في هذه المسألة. أما قول القائلين بالاستحباب: إنَّ كثيرين ممن أسلموا من الكفار لم يُرْوَ عنهم أنهم اغتسلوا أو طُلب منهم الاغتسال، وإن ذلك دليل على أن الاغتسال غير واجب وأنه مندوب فحسب، فنرد عليهم بأننا لو سلَّمنا بصحة ما قالوا لكان الاغتسال يتردد بين المندوب والمباح، فمن أين لهم حكم الندب وردُّ الإباحة؟ اللهم إلا أن يستشهدوا بأحاديثنا هذه؟ وهذه الأحاديث واضح فيها أنها تفيد الوجوب، فغسل الكافر إذا أسلم هو غُسل واجب لا شك فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 بقيت نقطة جديدة هي قول بعضهم إن المستحب هو حلق شعر الكافر إذا أسلم مستدلين بحديث عُثَيم بن كليب عن أبيه عن جده «أنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد أسلمت، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألق عنك شعر الكفر، يقول: احلق. قال: وأخبرني آخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لآخر معه: ألق عنك شعر الكفر واختتن» رواه أبو داود والطبراني وأحمد. فنقول إن هذا الحديث ضعيف لأن فيه مجهولاً، فابن جُريج أبهم اسم الشخص الذي أخبره بالحديث عن عثيم، ولم يرد من طريق صحيح حديث واحد يُحتج به على أن الكافر إذا أسلم يحلق رأسه. ثالثاً: الموت يفترق غُسل الميت عما سواه من الأغسال الواجبة بما يلي: 1- إن وجوبه يقع على غير صاحبه في حين أن الأغسال الأخرى يقع وجوبها على أصحابها. 2- هو فرضٌ على الكفاية في حين أن الأغسال الأخرى فروض عين. 3- يكون واجباً أحياناً - وهو لعموم الأموات - ويكون غير واجب أحياناً أخرى - وهو للشهيد - في حين أن الأغسال الأخرى واجبة في كل حين. وقد ذهب جمهور الأئمة والفقهاء إلى وجوب غسل الميت، وخالفهم المالكيون فقالوا: هو مستحب فقط لأنه غسل تنظيف وليس غسل عبادة، والصحيح هو أن غسل الميت فرض، وأنه حق واجب على الأحياء تجاه الأموات لا بد من الوفاء به. وقد ورد في هذا الغسل أحاديث أذكر منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 1- عن أم عطية قالت «دخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسل ابنته فقال: اغسِلْنَها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك، إنْ رأيتُنَّ ذلك، بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغْتُنَّ فآذِنَّني، فلما فرغنا آذنَّاه، فألقى إلينا حَقْوه فقال: أشْعِرْنَها إياه» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأهل السنن. وروى البخاري ومسلم عن أم عطية رضى الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غسل ابنته «ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها» . وفي رواية قالت « ... فَضَفَرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناها خلفها» رواه البخاري. والحَقْو: هو الإزار. وقوله أشعِرْنها: أي أُلْفُفْنَها فيه، والشِّعار من الثياب: هو ما يلي الجسد. وهذا الحديث برواياته أصلٌ في غسل الميت. 2- عن ابن عباس رضي الله عنه قال «بينما رجل واقف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة إذ وقع من راحلته فأقْصَعته - أو قال فأقعصته - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اغسلوه بماء وسدر وكفِّنوه في ثوبين، ولا تُحنِّطوه، ولا تُخَمِّروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة مُلبِّياً» رواه البخاري ومسلم. وهو أصلٌ في غسل المُحْرِم، وأنه يُكفَّن في ملابس الإحرام ولا يحنَّط ولا يُغطى رأسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 3- عن جابر بن عبد الله «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أُحُدٍ في ثوب واحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أُشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللحد وقال: أنا شهيد على هؤلاء، وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصلِّ عليهم ولم يغسِّلهم» رواه البخاري والنَّسائي والترمذي. وروى أحمد عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال في قتلى أُحُد «لا تُغَسِّلوهم، فإن كل جرح أو كل دم يفوح مِسكاً يوم القيامة، ولم يصل عليهم» . وهذا الحديث أصلٌ في عدم غسل الشهيد، وأنه يُدفن بثيابه ولا يُصلى عليه، فإن دماءه ستفوح مِسكاً يوم القيامة. الحديث الأول يبين كيف يغسل الميت، وأن الغاسل له يبدأ بميامنه ومواضع الوضوء منه ثم يغسل سائر بدنه، ويُستحب أن يُغسل ثلاثاً أو أكثر ولا يُزاد على السبع، ويُجعل في الماء القليلُ من السدر للتنظيف وهو اليوم الصابون، والقليل من الكافور للتحنيط والتطييب، ولا بأس بوضع أي طيب آخر. ولإتمام الفائدة أذكر عدداً من أحكام غُسل الميت، رغم أن هذا الموضوع مكانه كتاب الجنائز وليس كتاب الطهارة، فأقول: يلي غسلَ الميت زوجتُه إن كان متزوجاً، أو زوجها إن كانت متزوجة، والأقارب: الأقرب فالأقرب، وإن كان المتوفَّى في غير أهله غسَّله الرجال إن كان رجلاً، والنساء إن كانت امرأة، ولا يحل لهؤلاء النظر إلى عورته، لأن حُرمة العورة سواء للحي والميت، ويَلُفُّ الغاسلُ على يده خرقةً يغسل بها عورته حتى لا يمسَّها، وتكون العورة مغطَّاة، فيُدخل يده من تحت الغطاء. والحديث الثاني يبين كيفية غسل من مات وهو مُحْرِمٌ بالحج، وكذا العمرة، وهو واضح لا حاجة إلى شرحه. والحديث الثالث يبين أن الشهيد لا يُغسَّل ولا تُنزع ثيابه، وإنما يدفن بها بما عليها من دماء، ولا يُصلَّى عليه. رابعاً: الحيض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 الحيضُ لغةً: السيلان والجريان، فيقال حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً ومحاضاً إذا سال دمها، والمرأة حائض وحائضة، ومنه يقال للحوض حوض لأن الماء يحيض إليه أي يسيل ويجري. وفي الشرع: جريان دم المرأة من رحمها بعد بلوغها في أوقات معتادة. والحيض يجب له الغسل بلا خلاف، وهو معلوم من الدين بالضرورة، وقد وردت في غسل الحيض النصوص التالية: 1- عن أنس بن مالك «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يُؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عن المَحيضِ قل هو أذىً فاعتزلوا النِّساءَ في المَحِيض} ، إلى آخر الآية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اصنعوا كل شيء إلا النكاح، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أُسيد بن حُضَير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا فلا نجامعهن، فتغيَّر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننَّا أن قد وَجَدَ عليهما فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أنْ لم يَجِدْ عليهما» رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنَّسائي. قوله: لم يجامعوهن: أي يتركونهن وحدهن. وقوله: وَجَد عليهما: أي غضب عليهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 2- عن عائشة رضي الله عنها «أن أسماء سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل المحيض فقال: تأخذ إِحداكنَّ ماءها وسِدْرتها فتطَّهَّر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فِرْصةً مُمَسَّكةً فتطَّهَّر بها فقالت أسماء: وكيف تَطَهَّر بها؟ فقال: سبحان الله تطهَّرين بها، فقالت عائشة كأنها تُخفي ذلك: تَتَبَّعين أثَر الدم ... » رواه مسلم. وفي لفظٍ « ... قال: خذي فِرصة مُمَسَّكةً فتوضَّئي ثلاثاً، ثم إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - استحيا، فأعرض بوجهه أو قال: توضَّئي بها، فأخذتُها فجذبتُها، فأخبرتُها بما يريد النبي - صلى الله عليه وسلم -» رواه البخاري. قوله شؤون رأسها: أي أصول شعر رأسها. وقوله الفرصة - مثلَّثة -: أي القطعةٌ من الصوف أو القطن أو ما إلى ذلك. وقوله مُمسَّكة: أي مُطيَّبة بالمسك. وأسماء الواردة في الحديث هي أسماء بنت شَكَل الأنصارية. 3- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت «قلت يا رسول الله: إني امرأة أشدُّ ضَفْر رأسي أفأنقضه للحيضة والجنابة؟ فقال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حَثَيات ثم تُفيضين عليك بالماء فتَطْهُرين» رواه مسلم. وقد مرَّ. ووردت في الحيض أحاديث أخرى منها الصحيح ومنها الضعيف، إلا أننا اكتفينا بهذه الأحاديث الثلاثة لأنها تفي بالغرض. الحديث الثالث يدل على أنَّ صفة الغسل من الحيض تماثل تماماً صفة الغسل من الجنابة، ففي الحديث إجابة واحدة من الرسول عليه الصلاة والسلام على سؤال أم سلمة عن غسل الجنابة والحيض. فالحائض تغتسل كما تغتسل من الجنابة ولا يجب عليها نقض شعرها في غسل الحيض، كما لا يجب عليها نقضه في غسل الجنابة. وقد مرَّ بحثُه فلا نعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 والحديث الثاني فيه حث الحائض على المبالغة في التنظيف والتطيُّب حتى يزول أثر الدم ورائحته، فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسِدرتها، فتطَّهَّر فتحسن الطهور ... فتدلكه دلكاً شديداً ... ثم تأخذ فِرصة مُمَسَّكة ... فالرسول عليه الصلاة والسلام طلب استعمال السدر إلى جانب الماء، وهو يعادل الصابون في زمننا، وقال تطَّهَّر، ثم أضاف: فتحسن الطهور، وقال: تدلكه، وأكده بقوله: دلكاً شديداً، وطلب تطييب الموضع بالطيب لتذهب رائحة الدم، ولكن هذه الطلبات كلها مندوبات وليست واجبة لأنها تنظيف وتطييب. أما الحديث الأول فدلالته من دلالة الآية الكريمة التي تضمَّنها، وهي قوله سبحانه تعالى {ويَسْأَلونَكَ عَنِ المَحِيض قُلْ هو أذىً فاعتَزِلوا النِّساءَ في المَحِيضِ ولا تَقْرَبوهن حتى يَطْهُرن فإذا تطهَّرنَ فأْتُوهنَّ مِن حيثُ أَمَرَكُم اللهُ إنَّ اللهَ يُحبُّ التَّوابين ويُحبُّ المُتطهِّرين} الآية 222 من سورة البقرة. والتَّطهُّر في هذه الآية هو الغسل من الحيض. أحكام الحائض تشترك الحائض مع الجُنُب في جميع أحكامه التي مرَّت، وتختلف عنه في الصوم والوطء والطلاق، فالجُنُب إن أصبح صائماً أتمَّ صومه، في حين أن الحائض لا تُتمُّ صومها، والجُنُب من الرجال والنساء يجوز لهم الجماع في حين يحرم وطء الحائض، والجُنُب من النساء يجوز طلاقها، في حين أن الحائض لا يحل طلاقها. ونذكر أحكام الحائض بشيء من التفصيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 1- عدم المُكث في المسجد وجواز المرور فيه فقط. دليل عدم المُكث هو ما روته عائشة رضي الله عنها قالت «جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووجوه بيوت أصحابه شارعةٌ في المسجد فقال: وجِّهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصنع القوم شيئاً رجاءَ أن تنزل فيهم رُخْصة، فخرج إليهم بعدُ فقال: وجِّهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أُحِلُّ المسجد لحائض ولا جُنُب» رواه أبو داود وابن خُزَيمة وحسَّنه ابن القطَّان. وقد مرَّ في بحث [أحكام الجُنُب] . أما دليل جواز اجتياز الحائض المسجد فما رُوي عن ميمونة رضي الله عنها أنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل على إحدانا وهي حائض فيضع رأسه في حِجْرها، فيقرأ القرآن وهي حائض، ثم تقوم إحدانا بخُمْرته فتضعها في المسجد وهي حائض ... » رواه أحمد والنَّسائي. وما رُويَ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ناوليني الخُمْرة من المسجد، قالت: فقلت إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك» رواه مسلم وأحمد وأبو داود. والخُمْرة هي السجادة أو الحصير الذي يُسجد أو يُصلى عليه. والاستدلال واضح بالحديثين. وقد ذهب إلى ما ذهبنا إليه زيد بن ثابت ومالك والشافعي وأحمد وأهل الظاهر. وذهب سفيان وأبو حنيفة ومالك في رواية عنه إلى عدم جواز العبور للحائض مستدلين بقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا أُحلُّ المسجد لحائض ولا جُنُب» فنرد عليهم بأن هذا الحديث عام، وحديثا ميمونة وعائشة يستثنيان الاجتياز من عموم النهي، والأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى وقفة أطول. 2- تجوز للحائض مخالطة الناس ومحادثتهم والأكل والشرب والنوم وسائر الأعمال المعاشية إلا ما استثناه الشرع مما يأتي من المحظورات، والأدلة من الأحاديث ما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 أ- الحديث المار الذي رواه أنس عن سبب نزول الآية {ويَسْأَلونَكَ عَنِ المَحِيضِ} الذي يقول «إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت ... » أي لم يأكلوا معهن، ولم يخالطوهن، فنزلت الآية، وفسرها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: اصنعوا كلَّ شيء إلا النكاح، أي افعلوا ما كانت تتركه يهود مما ذُكر في صدر الحديث وأكثر منه سوى النكاح. ب- عن عائشة رضي الله عنها قالت «كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيَّ فيشرب، وأتعرَّق العَرْق وأنا حائض، ثم أُناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع فاه على موضع فيَّ» رواه مسلم وأحمد. قوله أتعرَّقُ العَرْق: أي آكل ما على العظم من لحم. ج - عن عبد الله بن سعد قال «سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مؤاكلة الحائض، فقال: واْكِلْها» رواه أحمد. ورواه الترمذي وقال (حسن غريب) . والحديث يدل على مؤاكلة الحائض. 3- لا يجوز للحائض الصلاة والطواف ومسُّ المصحف وقراءة القرآن. دليل ترك الصلاة ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «إن فاطمة بنت أبي حُبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: إني أُستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال: لا إن ذلك عِرْق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلِّي» رواه البخاري ومسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 أما ما الذي تصليه الحائض بعد الطُّهر، فقد أجاب عن هذا السؤال ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، فابن عباس قال (إذا طهُرت الحائض بعد العصر صلَّت الظهر والعصر وإذا طهُرت بعد العشاء صلَّت المغرب والعشاء) وعبد الرحمن قال (إذا طهُرت الحائض قبل أن تغرب الشمس صلَّت الظهر والعصر، وإذا طهُرت قبل الفجر صلَّت المغرب والعشاء) . قال الإمام أحمد مُعقِّباً على القولين: عامة التابعين يقولون بهذا القول إلا الحسن. فسماهما قولاً، وهو صحيح، وذلك أنهما طلبا من الحائض أن تصلي الفرضين الذين يسبقان الطهر، ولا أرى ذلك منهما إلا أخذاً بالأحوط، وإلا فإن الواجب عليها صلاة الفرض الذي يعقب الطهر لا الذي يسبقه. ودليل عدم الطواف هو ما مر في فصل الجنابة من أن الطواف صلاة فيرجع إليه، وأيضاً ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج، حتى جئنا سَرِفَ فطمِثتُ، فدخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال ما يُبكيك؟ فقلت: والله لوددت أني لم أكن خرجت العام، قال: مالكِ لعلكِ نَفِستِ؟ قلت: نعم. قال: هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، افعلي ما يفعل الحاجُّ غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ... » رواه مسلم وأحمد. وروى أحمد وأبو داود والترمذي من طريق عبد الله بن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن النُّفَسَاء الحائض تغتسل وتُحْرِم وتقضي المناسك كلها غير أن لا تطوف بالبيت حتى تطهر» وقال الترمذي (حسن غريب) . ودليل عدم مسِّ المصحف هو دليل عدم مسِّ الجُنُب للمصحف «لا يمس القرآن إلا طاهر» والحائض ليست طاهرة لقوله تعالى {حتَّى يَطْهُرْنَ فإِذا تَطَهَّرْنََ فأْتُوهُنَّ مِن حيثُ أمركم الله} وللحديث المار وفيه «لا تطوفي بالبيت حتى تطهُري» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 أما أن الحائض لا تقرأ القرآن، فقال الترمذي (هو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومَن بعدهم مثل: سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق قالوا: لا تقرأ الحائض ولا الجُنُب من القرآن شيئاً إلا طرفَ الآية والحرفَ ونحوَ ذلك ... ) وروى الدارمي في سننه بطريق الرواية عن إبراهيم وسعيد بن جبير وعامر، وعن عمر بن الخطاب وأبي العالية قولهم بمثل قول من ذكرهم الترمذي، أي لا تقرأ الحائض شيئاً من القرآن. ولسنا نستدل بما رُوي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يقرأ الجُنُب ولا الحائض شيئاً من القرآن» رواه الترمذي وابن ماجة والدارقطني. لأنه حديث ضعيف لضعف إسماعيل بن عيَّاش إذا روى عن الحجازيين أو العراقيين، وفي هذا الحديث روى عن موسى بن عقبة وهو حجازي، فلا يصلح للاحتجاج. ورواه الدارقطني أيضاً من طريق عبد الملك بن مسلمة وهو ضعيف، ومن طريق جابر وفيه يحيى بن أبي أنيسة وهو ضعيف. 4- ذكرنا في أحكام الجُنُب أن الذَّكَر إذا أنزل أول مرة انتقل لمرحلة الرجولة ودخل في جماعة المكلَّفين، ونذكر هنا أن الأنثى إذا حاضت حيضتها الأولى انتقلت لمرحلة البلوغ ودخلت في جماعة النساء المكلَّفات، وجرى عليها ما يجري على سائر النساء من أحكام. فقذفُ المنيِّ من الذَّكَر، وحيض الأنثى كلاهما علامة على البلوغ والدخول في مرحلة التكاليف الشرعية، فيحرم على الأنثى عندئذ كشف ما سوى الوجه والكفين لقوله تعالى {ولا يُبدين زينتَهنَّ إلا ما ظهر منها} وقد رُوي بطرق صحيحة عن عمر وابنه عبد الله وعبد الله بن عباس أنهم فسروها بالوجه والكفين. ويَحْرُم على الحائض - أي من بلغت سن البلوغ - الخَلوة بالرجال الأجانب، لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال «لا يخلُوَنَّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم ... » رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من التكاليف والأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وقد سبق في بحث أحكام الجُنُب البند التاسع علامات البلوغ عند الذَّكَر والأنثى، وأقل سنٍّ للحيض وأعلى سنٍّ لانقطاع الحيض، وما أرى أن تعتبره دولة الخلافة وعلماء المسلمين من السنٍّ الدالة على البلوغ، فيُرجع إليه. الأمور الثلاثة التي تختلف فيها الحائض عن الجُنُب هذه الأمور الثلاثة هي ما يلي بالتفصيل: 1- لا يجب على الحائض الصوم، ولا يحلُّ لها ذلك، لما روته معاذة قالت: «سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحَرُوريةٌ أنت؟ قلت: لستُ بحَرورية ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنُؤمر بقضاء الصوم ولا نُؤمر بقضاء الصلاة» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأصحاب السُّنن. قولها أحَرورية أنت؟: أي هل أنت من الخوارج؟ والخوارج يقولون بوجوب إِعادة الصلاة على الحائض. ودلالة الحديث أن الحائض لا تصوم خلال حيضها، وتقضي صومها عقب طُهرها، ولو كانت الحائض تصوم لما ورد القول بقضاء الصوم عليها. ولما روته حمنة بنت جحش قالت «كنت أُستحاضُ حيضةً كثيرةً شديدةً، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه وأُخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، فقلت يا رسول الله: إِني امرأة أُستحاضُ حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها، قد منعتني الصلاة والصوم؟ فقال: أنعَتُ لك الكُرْسفُ فإِنه يُذهب الدم ... » الحديث، وهو طويل، رواه أبو داود. ورواه أحمد والترمذي وصحَّحاه، والكُرْسفُ هو القطن. فقولها «قد منعتني الصلاة والصوم» وعدم إِنكار الرسول عليه الصلاة والسلام لقولها وإِرشادها فقط لما تفعل، هو إِقرار لها ودليل على أن الحائض لا تصوم. وأصرح من الحديثين ما رواه أبو سعيد أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للنساء « ... أليس شهادة المرآة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصُم؟ قلن: بلى: قال: فذلك من نقصان دينها» رواه البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 2- يَحْرُم على الزوج وطءُ زوجته الحائض دون زوجته الجُنُب، وهذا الحكم معلوم من الدين بالضرورة، وهو أمرٌ تنفر منه الطباع السليمة، والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى {يَسْأَلونَكَ عن المحيضِ قُل هو أذىً فاعتزلوا النِّساءَ في المَحيضِ ولا تَقْربوهنَّ حتى يَطْهُرن فإِذا تطهَّرنَ فأْتوهنَّ من حيثُ أَمَرَكُمُ الله إِنَّ اللهَ يحبُّ التَّوَّابين ويحبُّ المُتطهِّرين} الآية 222 من سورة البقرة. هذه الآية الكريمة تطلب اعتزال النساء في الميحض، أي عدم وطئهن ريثما يَطْهُرن بانقطاع الدم ويتطهَّرن بالغسل، فِإذا تم ذلك حل حينئذ وطؤُهن. وسيأتي بإِذن الله مزيد تفصيل في دلالة هذه الآية بعد قليل. والدليل أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - «اصنعوا كل شيء إِلا النكاح» وقد مرَّ. ويعني الحديث: دعوا نكاح الحائض وافعلوا بها ما تشاءون من تقبيل وضم وعناق ومباشر، تشهد ذلك الأحاديث التالية: 1- عن عكرمة عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إِذا أراد من الحائض شيئاً أمرها، فألقت على فرجها ثوباً، ثم صنع ما أراد» رواه البيهقي وأبو داود بسند رجاله ثقات. 2- عن حكيم بن عقال أنَّه قال: سألتُ عائشةَ أمَّ المؤمنين « ... ما يحرم عليَّ من امرأتي إذا حاضت؟ قالت: فرجها» رواه البيهقي. ورواه البخاري في تاريخه من طريق مسروق. 3- عن جُمَيع بن عُمَير قال: دخلت على عائشة مع أُمي وخالتي فسأَلتاها «كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع إِذا حاضت إِحداكن؟ قالت: كان يأمرنا إِذا حاضت إِحدانا أن تتَّزر بإِزار واسع، ثم يلتزم صدرها وثدييها» رواه النَّسائي فهذه الأحاديث تدل على تحريم جماع الحائض في الفرج، وجواز مباشرتها فيما سواه على الإِطلاق، لا فرق بين ما هو فوق السرة وما هو تحتها، ولا ما هو فوق الركبة وما هو تحتها، فللزوج أن يتمتع بجميع جسد زوجته الحائض باستثناء الفرج فحسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وثَمَّةَ مسألةٌ أُخرى هي أن أبا حنيفة يقول: إِذا انقطع الدم لأكثر الحيض حل وطؤُها، وإِلا لم يحل حتى تغتسل أو تتيمَّم أو يمضي عليها وقت صلاة، لأن وجوب الغسل لا يمنع الوطء كالجنابة. وقد رد على هذا الرأي شمسُ الدين بنُ قُدامة بقوله (ولنا قوله تعالى {ولا تَقْرَبوهُنَّ حتى يَطْهُرنَ فإِذا تطَهَّرنَ فأْتُوهُنَّ} قال مجاهد: حتى يغتسلن، وقال ابن عباس فإِذا اغتسلن، ولأنه قال {فإِذا تطَهَّرنَ} والتَّطهُّر تفعُّل والتفعُّل إِذا أضيف إِلى من يصح منه الفعل اقتضى إِيجاد الفعل منه كما في النظائر وانقطاع الدم غير منسوب إِليها، ولأن الله سبحانه وتعالى شرط لحل الوطء شرطين – انقطاع الدم والغسل- فلا يباح بدونهما، ولأنها ممنوعة من الصلاة لحديث الحيض فمنع وطؤها كما لو انقطع لأقلِّ الحيض، وبهذا ينتقض قياسهم، وحَدَثُ الحيضِ آكدُ من حدث الجنابة، فلا يصح الإلحاق) . وبتوضيح أكثر أقول إن الآية الكريمة طلبت عدم إتيان الحُيَّض {حتى يَطْهُرْنَ فإِذا تَطَهَّرْنَ فأْتُوهُنَّ} فقولها {حتى يَطْهُرْنَ} يعني: حتى ينقطع دمهن، ولم تكتف الآية الكريمة بذلك بل أضافت قيداً آخر هو القول {فإذا تطَهَّرْنَ} والتطهُّر هنا الاغتسال، فكان إتيان الحائض حراماً حتى ينقطع دمها، وحتى تغتسل، والاقتصار على أحد الاثنين إلغاءٌ للآخر، وهذا معارض ومعاند للآية الكريمة، وقد جاء الفعل الأول يَطْهُرن من طَهُر، وجاء الفعل الثاني تطَهَّرن من تطهَّر، أما طَهُر فمعناها صار طاهراً، وأما تطهَّر فمعناها جلب لنفسه الطهارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 أما ما يقوله بعضهم من الاكتفاء بالوضوء أو حتى بغسل الفرج بدل الغسل، وحجتهم أن التطهُّرَ كلمةٌ عامة تشمل الوضوء وتشمل الغسل وتشمل غسل النجاسة، فبأيِّها أتت الحائض فإنها تكون قد تطهرت وحل حينئذ وطؤُها، فهو قول مَن لم يُحِط بالموضوع إحاطة كافية، ذلك أنَّ هذا القول هو أخذُ جزءٍ من النص وفصله عن أجزائه الأخرى فصلاً تاماً حيث لا يصح الفصل، لأن الآخر له تعلقٌ بالأول، ذلك أن الآية تتحدث عن الحائض من حيث الاعتزال، وانقطاع الدم والتطهُّر، والإتيان، ففصل أي معنى من هذه المعاني عن حالة الحيض خطأ، فهذه الآية جعلت كل هذه المعاني في موضوع الحيض، فوجب قصرها عليه وربطها به، فإذا قيل اعتزلوا وجب قصرُه على الحائض، وإذا قيل يَطْهُرن وجب قصر الطهارة عليه، وإذا قيل تطهَّرن وجب قصر التَّطهُّر عليها، وهذا القصر على الحائض إنما هو قصرٌ عليها بوصفها حائضاً وليس بوصفها أنثى فقط، فإذا قيل {فإذا تَطَهَّرْنَ} وجب تفسيره بأن الحائض بوصفها حائضاً تتطهر، أي أن التَّطهُّر مطلوب منها بوصفها حائضاً، أي هو مربوط بحيضها، وأنه يجب قصره على حالة الحيض، وبمعنى آخر جعله مُزيلاً لحالة الحيض، وليس لأية حالة أخرى كحالات نقض الوضوء أو التنجيس أو التنظيف. أرأيت لو قيل: الجُنُب يتطهَّر، أيُفهم منه أن الجُنُب يغسل ثوبه؟ أكان يصح هذا الفهم؟ أرأيت لو قيل: صاحب الثوب النجس يتطهر، أيفهم منه غير إزالة نجاسة ثوبه؟ فكذلك القول: الحائض تتطهَّر لا يصح أن يفهم منه أن على الحائض إزالة دم الفرج، أو أن عليها أن تتوضأ، تماماً كما لا يصح أن يفهم من قوله تعالى {وإِنْ كُنتم جُنُباً فاطَّهَّروا} غير أمر الجُنُب بالاغتسال، وهذا ما جاء صريحاً في القرآن الكريم في الآية الكريمة {ولا جُنُباً إلا عابِرِي سَبيلٍ حتى تَغْتَسِلوا} فالقرينة هنا - وهي حالة حيض الحائض- هي التي تحدد أي المعاني المقصودة لكلمة تطهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أما ما يقوله أبو بكر الجصَّاص في تفسير هذه الآية من أن معناها إباحة وطء الحائض بمجرد انقطاع الدم فهو قولٌ لا تحتمله هذه الآية الكريمة، فقد قال ما يلي (قوله تعالى {حتى يَطْهُرن} إِذا قريء بالتخفيف فإنما هو انقطاع الدم لا الاغتسال، لأنها لو اغتسلت وهي حائض لم تطهر فلا يحتمل قوله {حتى يَطْهُرن} إلا معنى واحداً، وهو انقطاع الدم الذي به يكون الخروج من الحيض، وإذا قُرئ بالتشديد احتمل الأمرين من انقطاع الدم ومن الغسل لما وصفنا آنفاً، فصارت قراءة التخفيف محكمةً، وقراءة التشديد متشابهة، وحكم المتشابه أن يُحمل على المحكم ويرد إليه، فحصل معنى القراءتين على وجه واحد، وظاهرهما يقتضي إباحة الوطء بانقطاع الدم) فهذا القول مضطرب وناقص. أما أنه مضطرب فهو قوله إن قراءة يطَّهَّرن بالتشديد احتمل الأمرين من انقطاع الدم ومن الغسل، وعدَّ ذلك من المتشابه، وهذا خطأ، لأن قراءة يطَّهَّرن - بالتشديد - لا تحتمل إلا معنى واحداً فحسب وهو الغسل، ولا تحتمل انقطاع الدم مطلقاً، فهو فعل من أفعال الإنسان، وانقطاع الدم ليس فعلاً من الإنسان، فيسقط القول بالتشابه، فقوله إن هذا الفعل متشابه قول فاسدٌ، وقوله بحمل المتشابه على المُحكم فاسد هنا، لأن ما بُني على فاسد فهو فاسد. وثانياً: إن اجتهاده في إثبات معنى {يَطْهُرن} بأنه انقطاع الدم لا يكفيه ولا يثبت حجته إلا أن تكون الآية قد انتهت عند هذا الحد، ولكن حيث أن الآية أضافت {فإذا تَطَهَّرْنَ فأْتُوهُنَّ ... } وحيث أن الله لا يقول شيئاً عبثاً، فما يقول فيه غير أن التَّطهُّر هنا يفيد الاغتسال؟ أليس تركه شطر الآية هذا نقصاً؟ وهل في الآية تناقض؟ ذلك أن أول الآية علَّق الوطء على انقطاع الدم، ونحن نسلم له به، ولكن آخر الآية طلب الغسل قبل الوطء، فما يقول فيه؟ إن إغفاله لهذا الشطر الأخير نقص واضح ما كان ينبغي عليه أن يقع فيه. إن معنى الآية هو: لا تقربوهن حتى ينقطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 دمهن، فإذا انقطع الدم واغتسلن منه فاقربوهن، هذا هو معنى الآية، ولا معنى لها غير هذا. أما ما الذي يُستفاد من كون الآية بهذه الصياغة، فهو أنه تحذيرٌ للمسلمين من الطلب من الحُيَّض الاغتسال في أثناء الحيض لنكاحهن، فبيَّنت الآية أن الاغتسال المُبيح للوطء له وقت هو عقب انقطاع الدم، فالآية الكريمة إذن طلبت الغسل المبيح للوطء وبينت وقته، فقوله تعالى {حتى يَطْهُرْنَ} يفيد التوقيت، وقوله {فإذا تطَهَّرْنَ} يفيد طلب الفعل، فالآية وحدة واحدة لا يجوز فصل جزئها الأول عن جزئها الثاني. وبذلك يظهر صواب القول إن وطء الحائض لا يجوز إلا بعد اغتسالها عقب انقطاع دمها. ويشهد لهذا الفهم ما قاله ابن عباس رضي الله عنه «إذا أصابها في أول الدم فدينارٌ، وإذا أصابها في انقطاع الدم فنصفُ دينار» رواه أبو داود. فهو يقرِّر أن من أتى الحائض في انقطاع الدم كفَّر بنصف دينار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 بقيت آخر نقطة في البحث،وهي هل في وطء الحائض كفارة أم لا؟ فذهب عطاء والشعبي والنخعي ومكحول والزهري وأبو الزناد وربيعة وسفيان الثوري والليث ومالك وأبو حنيفة والشافعي في أصح الروايتين عنه إلى أن من وطئ زوجته وهي حائض فلا كفارة عليه والواجب الاستغفار والتوبة، وهؤلاء حجتهم أن الأحاديث الواردة في طلب الكفارة مضطربة لا تصلح للاحتجاج، وأن الأصل البراءة فلا يُنقل عنها إلا بحجة، والحجة ضعيفة. كما استشهدوا بما رواه ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من أتى حائضاً أو امرأةً في دُبُرِها أو كاهناً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد» . فقالوا إن الحديث لم يذكر كفارة، وإنه نَهْيٌ نُهِيَ عنه لأجل الأذى أشبه الوطء في الدبر. وذهب عبد الله بن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير وقتادة والأوزاعي وإسحق بن راهُوَيه وأحمد في المشهور عنه، والشافعي في القديم إلى وجوب الكفارة، واستشهدوا بما ورد من الأحاديث الدالة على ذلك. وحتى نناقش هذين الرأيين لمعرفة الصحيح منهما لا بد من استعراض الأحاديث الواردة: 1- حديث ابن ماجة السابق «من أتى حائضاً أو امرأة في دُبُرها ... » . 2- عن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينارٍ أو بنصف دينارٍ» رواه أحمد والنَّسائي وابن ماجة. ورواه أبو داود وقال (هكذا الرواية الصحيحة قال دينار أو نصف دينار) ورواه الترمذي بلفظ «إذا كان دماً أحمر فدينار، وإذا كان دماً أصفر فنصف دينار» . 3- عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا أتى أحدُكم امرأتَه في الدم فلْيتصدق بدينار، وإذا وطِيَها وقد رأت الطُّهرَ ولم تغتسل فلْيتصدَّق بنصف دينار» رواه البيهقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الحديث الأول ضعيف ضعفه البخاري فلا يصلح للاحتجاج فيرد، وبرده يرد الاستشهاد به. فالقول إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر كفارة بناء على هذا الحديث قول ساقط لسقوط الحديث عن مرتبة الاحتجاج. أما قياسهم بالقول: قد نُهي عنه لأجل الأذى، أشبه الوطء في الدبر، فهو قياس لا يصح لعدم صحة الحديث أولاً، ولعدم الاشتراك في العلة ثانياً، فالنهي عن الوطء في الحيض إنما هو لعلة الأذى كما جاء في الآية، أما تحريم الوطء في الدبر فليس لعلة الأذى، وإنما لأن الدبر ليس محلاً للزرع والولد، فاختلفت العلتان فلا قياس. الحديث الثاني رواه أيضاً الدارقطني وابن الجارود، وكل رواته مخرَّجٌ لهم في الصحيح إلا مقسماً الراوي عن ابن عباس انفرد به البخاري. وقد اختلف العلماء اختلافاً كبيراً في هذا الحديث. فذهبت جماعة إلى وصمه بالاضطراب، قال ابن حجر (والاضطراب في إسناد هذا الحديث ومتنه كثير جداً) . وقال غيره إن هذا الحديث مرسل أو موقوف على ابن عباس، وقال النووي (إن الأئمة كلهم خالفوا الحاكم في تصحيحه، وإنَّ الحق أنه ضعيف باتفاقهم) وتابعه ابن الصلاح. والصواب الذي ينبغي الذهاب إليه هو أن هذا الحديث صحيح وليس ضعيفاً، وأن النووي وابن الصلاح وابن حجر قد أخطأوا في تضعيفِه ووصمِه بالاضطراب. فهذا الحديث صححه الحاكم كما ذكر النووي، وصحَّحه أبو داود، وحسَّنه أحمد واحتج به، وصحَّحه أبو الحسن بن القطان، وأجاب على دعوى الاضطراب بأن الإعلال بالاضطراب خطأ، والصواب أن يُنظر إلى رواية كلِّ راو بحسبها، ويُعلم ما خرج عنه فيها، فإن صح من طريق قُبل، ولا يضره أن يُروى من طرق أُخَر ضعيفة وقد صحَّت لهذا لحديث رواية دون غيرها من الروايات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 أما عن دعوى الإرسال أو الوقف على ابن عباس، فقال الخطابي: والأصح أنه متصل مرفوع. ويُجاب أيضاً على دعوى الاختلاف في رفعه ووقفه بأن يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي رفعوه عن شعبة، وكذلك ذهب ابن جرير وسعيد بن عامر والنَّضْر بن شميل وعبد الوهاب الخفاف. وقال ابن سيد الناس: من رفعه عن شُعبة أجلُّ وأكثر وأحفظ ممن وقفه. وقال أبو بكر الخطيب: اختلاف الروايتين في الرفع والوقف لا يؤثر في الحديث ضعفاً، وهو مذهب أهل الأصول، لأن إحدى الروايتين ليست مكذِّبة للأخرى، والأخذ بالمرفوع أخذٌ بالزيادة وهي واجبةُ القبول. فالحديث إذن صحيح ويصلح للاحتجاج. أما رواية الترمذي «إذا كان دماً أحمر فدينار أو كان دماً أصفر فنصف دينار» فهي ضعيفة، لأن في رواتها عدداً فيهم مقال. قال البيهقي عن ابن أبي المخارق عبد الكريم (هو مُجمع على ضعفه) . والحديث الثالث يصح الاحتجاج به. وإذن فإن عندنا حديثين صالحين للاحتجاج، بمعنى أن عندنا الحجة، وهم يقولون (والأصل البراءة فلا ينتقل عنها إلا بحجَّة) وقد صحت عندنا الحجة، فالواجب عليهم الانتقال إلى حيث تدل الأحاديث. وهكذا تسقط حججهم كلها، ويثبت الحكم المستنبط من نصَّين صالحين، وهو أنه لا بد من كفارة على من وطئ الحائض. وهذا الوطء الذي تجب فيه الكفارة لم يأت من الشرع ما يقيده بحالة العمد، أو يستثني منه النسيان والسهو، فيجب القول بالكفارة على من وطئ الحائض عمداً أو سهواً. إلا أن العامد آثم ويخرج كفارة، والساهي غير آثم ولكنه يخرج هو الآخر كفارة، لأن النص عام في الاثنين ولا مخصِّص. ثم إن الكفارة واجبة على الرجل والأنثى إلا أن تكون الأنثى مكرهة فلا كفارة عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 قلنا إن الحديث الأول لابن عباس، والحديث الأخير للبيهقي يصلحان للاحتجاج، الحديث الأول يقول «يتصدق بدينار أو بنصف دينار» على التخيير والإطلاق، والحديث الأخير يقول «إذا أتى أحدكم امرأته في الدم فلْيتصدق بدينار، وإذا وطِيَها وقد رأت الطُّهر ولم تغتسل فلْيتصدق بنصف دينار» الحديث الأول أطلق الدينار ونصف الدينار، والحديث الثاني قيَّد الدينار بالوطء في فورة الدم، ونصف الدينار بالوطء بعد انقطاع الدم وقبل الغسل، فيُحمل المطلق على المقيد. وعلى هذا فإن من وطيء الحائض ودمها يسيل كفَّر بدينار، وإن وطئها قبل الاغتسال وبعد انقطاع الدم كفَّر بنصف دينار. والدينار الشرعي من الذهب الخالص، ويعادل أربعة غرامات وربع الغرام، ويعادل نصفه غرامين وثمن الغرام. وبمعرفة سعر الغرام من الذهب في وقت الوطء والكفارة يعرف المسلم مقدار الكفارة بعملة بلده. 3- يَحْرُم على الزوج أن يطلق زوجته في فترة حيضها، بدليل ما روي عن ابن عمر «أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمرُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: مُرْه فلْيراجعها، ثم لِيطلقها طاهراً أو حاملاً» رواه مسلم وأحمد وأبو داود. وفي رواية ثانية أن عبد الله بن عمر قال «طلقت امرأتي وهي حائض، فذكر ذلك عمرُ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فتغيَّظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: مُرْهُ فلْيراجعها حتى تحيض حيضة أخرى مستقبلة، سوى حيضتها التي طلقها فيها، فإن بدا له أن يطلقها فلْيطلقها طاهراً من حيضتها قبل أن يمسَّها، فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله. وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة فحُسِبت من طلاقها ... » رواه مسلم. وروى قريباً منه البخاري وأحمد والنَّسائي وأبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 والتطليق في الحيض يدعى الطلاق البدعي، وعكسه يدعى الطلاق السُّنِّي، وهو الواقع على الوجه الشرعي، وذلك أن يطلق الزوج زوجته في طهرٍ لم يَمَسَّها فيه. والطلاق البدعي فضلا عن كونه حراماً لا يقع عند الظاهرية وابن عقيل وابن تيميَّة وابن القيم وأبي قُلابة وطاووس وسعيد بن المسيب شيخ التابعين، وهو ما أراه أنا، ويقع عند جمهور الأئمة والفقهاء. ولسنا هنا بصدد بحث أحكام الطلاق، فبابه غير باب الطهارة، فقط أحببنا الإشارة إلى بعض هذه الأحكام هنا. دمُ الحيض ومدَّته لقد كثرت الآراء وتشعَّبت في تحديد أقلِّ الحيض وأكثره، وإني أكتفي باستعراض أقوال الأئمة الأربعة، وأضرب صفحاً عما سواها، لا سيما وأن معظم تلك الأقوال لا دليل عليها: 1- قال أبو حنيفة: إن أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة. 2- وقال مالك إنه لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره، والعبرة بعادة النساء. 3- وقال الشافعي وأحمد إن أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوماً. والصحيح هو أن الشرع الحنيف لم يحدد مدةً لأقلِّ الحيض ولا لأكثره يجب الالتزام بها، وإنما جعل ذلك راجعاً لما عليه عادة كل امرأةٍ في كل عصر وفي كل مكان، فلكلِّ امرأةٍ عادةٌ خاصةٌ بها يجب عليها أن تلتزم بها. ولكن عندما نستعرض النصوص نجدها تذكر أن غالب الحيض عند النساء هو ستة أيام أو سبعة، فعن حمنة بنت جحش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها « ... فتحيَّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي ... » رواه أبو داود والترمذي وأحمد. وسيأتي بعد قليل بإذن الله تعالى في بحث [المستحاضة] . وقد ورد في لون الدم أحاديث نذكرها كما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 1- عن فاطمة بنت أبي حبيش «أنها كانت تُستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود يُعرف، فإذا كان ذلِكِ فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلِّي فإنما هو عِرق» رواه أبو داود والبيهقي وابن حِبَّان. ورواه الحاكم وصححه. 2- عن أم عطية - وكانت بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم -- قالت «كنا لا نعدُّ الكُدرة والصُّفرة بعد الطُّهر شيئاً» رواه أبو داود. 3- عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه مولاة عائشة أم المؤمنين أنها قالت «كان النساء يبعثن إلى عائشة أم المؤمنين بالدِّرَجةِ فيها الكُرْسُفُ فيه الصُّفرةُ من دم الحيض يسألنها عن الصلاة، فتقول لهن: لا تَعْجَلْن حتى ترين القَصَّة البيضاء، تريد بذلك الطهر من الحيضة» رواه مالك. وذكره البخاري تعليقاً. الدِّرَجة: وعاء. القَصَّة: القطعة من قطن توضع في الفرج لمعرفة أثر الحيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 الحديث الأول يفيد أن دم الحيض أسود، وقوله يُعْرَف بضم فسكون ففتح يعني أن ذلك معروف لدى النساء. والحديث الثاني وإن روي موقوفاً على أم عطية إلا أنَّ له حكم الرفع إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأن قولها «كنا لا نعدُّ» لا يُتصور أن يكون باجتهاد منهن دون علم من الرسول عليه الصلاة والسلام. والحديث ذكر أن الصُّفرة والكدرة بعد الطهر ليستا من الحيض منطوقاً، ومفهومه أنهما من الحيض في أثناء فترة الحيض. وأثر علقمة مفهومه أن ما قبل انقطاع السائل الملون يكون حيضاً، وهذا أعمُّ من السابق، فالأسود والأحمر والأصفر والكَدِر إن كان في أثناء فترة الحيض فهو حيض، وما دامت الأحاديث تذكر أن دم الحيض له هذه الألوان، فإن المرأة ذات العادة المتكررة إن استمر السائل ينزل منها وله لونٌ خلال فترة عادتها اعتبرت ذلك حيضاً وأن أيامه أيام حيض، فإذا زال اللون وصار ما تضعه المرأة في فرجها يخرج أبيض دون لون فإنَّ ذلك يعني أن الحيض انتهى وانتهت فترته، وأن واجبها آنذاك أن تغتسل وتصلي وتصوم. والمرأة الحائض لا تعدو أن تكون إحدى ثلاث: مُبتدَأة، ومعتادة، وذات تلفيق. أ- أما المُبتَدَأة - أي المُبْتَدَأُ بها الدم - فلها الحالات التالية: 1- المُبتَدَأُ بها الدم في سنٍّ تحيض النساء لمثله إذا نزل منها دم أسود تدع الصوم والصلاة، وترصد الأيام التي تمضي على ذلك النزول، وتبقى جالسة ما دام الدم ينزل فإن تكرَّر نزول الدم في الشهر التالي كما حصل في الشهر الفائت علمت أن ذلك حيضُها وعادتُها فانتقلت إليه وأخذت الأحكام بموجبه. وانقطاع الدم قد يكون لأسبوعين، وقد يكون لعشرة أيام، وقد يكون لسبعة، أو لثلاثة أو لأقل، فما مضى على نزوله في المرة الأولى إن تكرَّر فهو العادة، وآنئذ تنتقل من حالة المبتدَأة إلى حالة المعتادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 2- ثمَّ إن عبَر الدمُ بعد ذلك حيضها وعادتها وكان لونه أحمر علمت أنها مستحاضة فتغتسل وتقضي ما قد يكون فاتها من صلاة وصوم في الأيام التي تلت مدة حيضها، ولكن إنْ نزل الدم وتكرر نزوله وكان أسود بعد انقضاء مدة حيضها وعادتها فإنها تجلس ريثما ينقطع الدم الأسود فحسب، ثم تغتسل وتصلي ولو استمر نزول الدم أحمر أو أصفر، وآنذاك تنتقل إلى عادتها الجديدة، وتتصرف في الحيض بغير ما تتصرف به في الاستحاضة. والدليل على ذلك ما روت عائشة رضي الله عنها «أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تُستحاض، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ذلك عِرْق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي» رواه البخاري. وإقبال الحيضة: سواد الدم ونتنه. وإدبارها: رقة الدم وحمرته. 3- وهذا كله إن كانت الحائض مميِّزةً تستطيع تمييز دم الحيض من دم الاستحاضة، فإنها تجلس ستة أيام أو سبعة أيام مثلاً ثم تغتسل وتصلى، لما روت حمنة بنت جحش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها - بعد أن استفتته في استحاضتها الشديدة – « ... إنما هذه رَكْضةٌ من ركضات الشيطان، فتحيَّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي، حتى إذا رأيتِ أنكِ قد طَهُرتِ واستنقأتِ فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلة وأيامها وصومي، فإن ذلك يجزيك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يَطهُرن ... » رواه أبو داود. ورواه الترمذي وأحمد وصحَّحاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ب- أما المعتادة - وهي الحائض التي استقرت عادتها على كيفية ثابتة ومدة محددة كل شهر - فإن ما تراه من ألوان خلال فترة حيضها فهو حيض، لا فرق بين الأسود والأحمر والأصفر، ولا بين الثخين والرقيق، ما دام خلال فترة عادتها المستقرة، لما روى علقمة بن أبي علقمة عن أمه مولاة عائشة أم المؤمنين أنها قالت «كان النساء يبعثن إلى عائشة أمِّ المؤمنين بالدِّرَجةِ فيها الكُرْسُف فيه الصُفرةُ من دم الحيض يسألنها عن الصلاة فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القَصَّة البيضاء، تريد بذلك الطُّهر من الحيضة» رواه مالك. وقد مرَّ قبل قليل. أما إن كان اللون أصفر أو ذا كُدرة عقب فترة الحيض المعتادة فإنه ليس حيضاً، وتظل صاحبته طاهرة لما روت أم عطية - وكانت بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم -- قالت «كنا لا نعد الكُدرة والصُّفرة بعد الطُّهر شيئاً» رواه أبو داود. وقد مرَّ قبل قليل. أما إن تغيرت عادة المعتادة فإنها لا تخرج عن إحدى الحالات التالية: 1- أن ترى الطُّهر - أي انقطاع الدم - تماماً قبل تمام فترة الحيض المعتادة، ففي هذه الحالة تغتسل وتصلي لأنها صارت طاهرة بانقطاع الدم، فلا يحل لها أن تبقى جالسة دون اغتسال وصلاة. فإن عاودها الدم في خلال عادتها فإنها تتحيَّض فيه لأنه دم صادف العادةَ فكان حيضاً فتجلس، حتى إذا انقطع اغتسلت ثانية وصلَّت. أما إن عاودها الدم بعد انقضاء فترة حيضها فهو استحاضة، فتجلس مدَّة عادتها فحسب، وتغتسل وتصلِّي بقية المدَّة التي يظلُّ الدم فيها ينزل. أما إن استمر نزول الدم وكان أسود، كأن يستمر نزوله ثلاثة أيام أخرى وتكرر في الشهر التالي فهو حيض وتنتقل الحائض إلى عادتها الجديدة هذه، وإن لم يتكرر فليس بحيض، فتقضي ما قد يكون فاتها من صوم في تلك الأيام الثلاثة وتقضي ما فاتها من صلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 2- أن ترى الدم في غير عادتها، إما قبل الفترة وإما بعدها مع استمرار عادتها على حالها فإنها تجلس، فإن تكرر منها في مستقبل أيامها ولو مرة واحدة قادمة صارت عادةً جديدةً لها، وإن لم تتكرر قضت ما فاتها من صلاة وصوم. 3- أن ينضم إلى عادتها ما إذا جُمع معها زادا بمجموعهما على أكثر الحيض لديها، فإن كانت تعرف عادتها جلست قدر العادة ثم اغتسلت وصلت، لما روى البخاري ومسلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة بنت أبي حبيش « ... ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي» . وقد مرَّ بتمامه في بحث أحكام الحائض. أما إن لم تعد تذكر عادتها - أي نسيتها - فإنها تسمى متحيِّرة، ففي هذه الحالة تجلس سبعة أيام، ثم تغتسل وتصلي، وتستمر على ذلك إلا أن تعود الناسية فتذكر عادتها، ففي هذه الحالة تجلس قدر عادتها. ج - بقيت حالة قليلة تسمى حالة التلفيق، ومعناها ضم الدم إلى الدم الذي يفصله عنه طهر. وهذه الحالة هي كالتالي: 1- إذا رأت الحائض يوماً دماً ويوماً طهراً، أو رأت يومين دماً ويوماً طهراً أو يومين، ثم رأت يومين دماً يعقبهما يوم طهر أو يومان وهكذا، فإن الحائض في هذه الحالة تغتسل عقب كل حيض أو في كل طهر يتخلل فترة الحيض، وتصلي وتصوم، وإذا استمر ذلك في خلال أكثر حيضها، أي عادتها، فجميعه حيض تغتسل عقب كل يوم أو يومين نزل فيهما الدم. أما إن عبر أكثر حيضها، أي عادتها، فهي مستحاضة تُردُّ إلى عادتها، فإن كانت عادتها خمسة أيام مثلاً جلست في هذه الأيام الخمسة التي ينزل فيها الدم، واغتسلت وصلت في أيام الطهر، وإن كانت مميِّزة ترى مرة دماً أسود وأخرى دماً أحمر أو أصفر رُدَّت إلى التمييز، فيكون حيضها زمن الدم الأسود فحسب، فتجلس فيه وتغتسل وتصلي فيما سواه. المستحاضة وأحكامها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 المستحاضة هي التي ينزف دمها من فرجها في غير فترة حيضها، أو هي التي ترى دماً ليس بحيض ولا نفاس. والمستحاضة حكمها حكم الطاهرات في وجوب العبادات من صلاة وصوم وطواف، لأن الاستحاضة نجاسة غير معتادة مثلها مثل سلس البول، وقد مرَّ في بحث دم الحيض ومدته أنواع الاستحاضات كلها، فلا نعيد، وللمستحاضة الأحكام التالية: 1- الغُسل: اختلف العلماء والأئمة في غسل المستحاضة على رأيين رئيسيين، وثالث صغير. فذهب ابن مسعود، وعلي وابن عباس في رواية عنهما، وعائشة في رواية، وعُروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن والأئمة الأربعة إلى وجوب غسل المستحاضة مرة واحدة في وقت انقطاع حيضها. وذهب ابن عمر وابن الزبير وعطاء بن أبي رباح، وعلي وابن عباس في رواية أخرى إلى وجوب غسل المستحاضة لكل صلاة. وانفرد سعيد بن المسيب والحسن بالقول إن المستحاضة تغتسل من صلاة الظهر إلى صلاة الظهر في اليوم التالي، أي مرة كل يوم وليلة. وروى أبو داود عن عائشة أنها قالت «تغتسل كل يوم مرة» . وحتى يتبين لنا صواب الرأي الأول نستعرض الأحاديث التي تعالج هذا الموضوع: أ- عن عائشة رضي الله عنها «أن فاطمة بنت أبي حُبَيش كانت تُستحاض، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ذلك عِرْق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي» رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة وأحمد. ب - عن عائشة قالت «إن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف شكت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدم، فقال لها: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتُكِ ثم اغتسلي، فكانت تغتسل عند كلِّ صلاة» رواه مسلم وأحمد وأبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ج - عن أم سلمة رضي الله عنها «أن امرأة كانت تُهراق الدم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتت لها أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لِتنظر عِدَّةَ الليالي والأيام التي كانت تحيضُهن من الشهر، فإذا بلغت ذلك فلْتغتسل ثم تَسْتَثْفِر بثوب ثم تصلي» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. د- عن حمنة بنت جحش قالت «كنت أُستحاض حيضةً شديدةً كثيرةً، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استفتيه وأُخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، قالت: فقلت يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: وما هي؟ فقلت: يا رسول الله إني أُستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها، قد منعتني الصلاة والصيام؟ قال: أنعتُ لك الكُرْسُف فانه يُذهب الدم قالت: هو أكثر من ذلك، قال: فتلَجَّمي، قالت: إنما أثجُّ ثجاً، فقال لها: سآمرك بأمرين أيهما فعلتِ فقد أجزأ عنك من الآخر فإن قويت عليهما فأنت أعلم، فقال لها: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيَّضي ستة أيام أو سبعة في علم الله ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستيقنت واستنقأت فصلي أربعاً وعشرين ليلة أو ثلاثاً وعشرين ليلة وأيامَها وصومي فإن ذلك يُجزئك، وكذلك فافعلي في كل شهر، كما تحيض النساء وكما يطهرن بميقات حيضهن وطُهْرِهن، وإنْ قَويتِ على أن تؤخري الظهر وتعجِّلي العصر فتغتسلين، ثم تصلين الظهر والعصر جميعاً، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر وتصلين، وكذلك فافعلي وصلي وصومي إنْ قدرتِ على ذلك. وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وهذا أعجب الأمرين إلي» رواه أحمد والترمذي وأبو داود، وحسنه البخاري والذهبي، قال الترمذي (هذا حديث حسن صحيح ... وهكذا قال أحمد بن حنبل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 حديث عائشة الأول يقول «وإذا أدبرت فاغتسلي وصلِّي» وحديث عائشة الثاني يقول «امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي» وحديث أم سلمة يقول «فإذا بلغت ذلك فلْتَغْتسل ثم تستثفر بثوب ثم تصلِّي» . أما حديثا عائشة فصحيحان، وأما حديث أم سلمة فالنووي يقول: إسناده على شرطهما، إلا أن هذا الحديث ضعَّفه البيهقي وقال (إن سليمان بن يسار لم يسمعه من أم سلمة) وأيده المنذري بقوله: لم يسمعه سليمان. وساق الدارقطني الحديث بسند هكذا: عن صخر بن جويرية عن نافع عن سليمان بن يسار أنه حدثه رجل عن أم سلمة، فهؤلاء أثبتوا ضعف هذا الحديث لأن فيه مجهولاً. إلا أن موسى بن عقبة قال: عن نافع عن سليمان عن مرجانة عن أم سلمة، فوضع بدل الرجل المجهول امرأة وسماها مرجانة، وهذا مخالف لسند الدارقطني وغيره، فالحديث ضعيف على كل حال فنطرحه، ونكتفي بحديثي عائشة الصحيحين، وندع حديث حمنة إلى وقت لاحق. الحديثان يفيدان اغتسال المستحاضة مرة واحدة عقب انتهاء فترة حيضها، ولو كان الاغتسال لكل صلاة لنصَّت الأحاديث على ذلك كما نصَّت على الوضوء لكل صلاة، كما جاء مثلاً عن عائشة قالت «جاءت فاطمة بنت أبي حُبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أُستحاضُ فلا أَطهر أفأدع الصلاة؟ قال: لا، إنما ذلك عِرْق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي» ، قال أبو معاوية في حديثه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 «وقال توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت» رواه الترمذي وقال (حسن صحيح) . ودافع الحافظ ابن حجر العسقلاني عن هذه الزيادة، وروى الأمر بالوضوء لكل صلاة أحمد والدارمي. فهذا الحديث جاء فيه الأمر بالوضوء لكل صلاة، فحديثا عائشة ذكرا الاغتسال ولم يذكرا الوضوء، وذكرا الاغتسال دون تقييده بكل صلاة، في حين أن الحديث عندما ذكر الوضوء قيده بقوله «لكل صلاة» مما يدل على وجود فارق بين الأمر بالاغتسال والأمر بالوضوء. فالاغتسال يجب مرة واحدة، والوضوء يجب عند كل صلاة. قد يقال إن حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «المستحاضة تدع الصلاة أيام أَقْرائِها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصوم وتصلي» الذي رواه ابن ماجة وأبو داود والترمذي، يأمر بالاغتسال والوضوء لكل صلاة، قد يقال ذلك، فنقول إن هذا الحديث ضعيف لا يصلح للنظر والاحتجاج لضعف راويه عن عدي وهو أبو اليقظان، قال عنه يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء. وقال أبو حاتم: ترك ابن مهدي حديثه. وقال عنه أيضاً: إنه ضعيف الحديث منكر الحديث. وكذلك ضعَّفه الحاكم ويحيى بن سعيد والنَّسائي والدارقطني على اختلاف بينهم في العبارة. يتضح مما سبق أن المطلوب من المستحاضة هو أن تغتسل عند انقضاء فترة حيضها مرة واحدة فحسب، ثم تصلي بوضوء لكل صلاة. أما ما رواه الآخرون عن عائشة رضي الله عنها «أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها بالغسل لكل صلاة» رواه أبو داود، فهذا الحديث فيه محمد بن إسحق وقد عنعن، فالحديث إذن ضعيف، وما رواه أحمد والنَّسائي عن عائشة رفعته بلفظ. «.. فلْتنظر قدر قَرئِها التي كانت تحيَّض له فلْتترك الصلاة، ثم لتنظر ما بعد ذلك فلْتغتسل عند كل صلاة ولتُصَل» فهو مخالف للحديث الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 2- «فتحيضي ستة أيام إلى سبعةٍ في علم الله ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستيقنت واستنقأت فصلي ... فإن ذلك يُجْزِئُك» . 3- «وإن قويتِ على أن تؤخري الظهر وتعجِّلي العصر فتغتسلين، ثم تصلين الظهر والعصر جميعاً، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين، وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر وتصلين، وكذلك فافعلي وصلي وصومي إن قدرت على ذلك ... وهذا أعجب الأمرين إليَّ» . فقد خيَّر الرسول عليه الصلاة والسلام حمنة في العبارة الأولى بين فعلين، مبيناً أنها إن فعلت أحدهما سقط عنها وجوب الآخر، وهي عبارة جد واضحة. ونجد في العبارة الثانية الخيار الأول، وفيه أمرها بالغسل عقب انتهاء الحيض ثم الصلاة، وليس في العبارة أي أمر بتكرار الغسل، وأكد بقوله «فإن ذلك يُجْزِئُك» . ونجد في العبارة الثالثة الخيار الثاني، وفيه أمرها بالاغتسال لكل صلاتين من الصلوات الأربع الأولى والاغتسال لصلاة الفجر كلَّ يوم وحبَّبه إليها بقوله «وهذا أعجب الأمرين إلي» إذن فالخيار الأول هو ما قلناه من قبل وهو الغسل مرة واحدة، وأن هذا مُجْزِئ، والخيار الثاني الغسل ثلاث مرات كل يوم وأنه أفضل، ولكنه غير لازم. هذا هو مجمل حديث حمنة، فليس فيه وجوب تكرار الغسل، وإنما فيه استحبابه فحسب، فهو دليل لنا أيضاً على أن الواجب يسقط بالغسل مرة واحدة. إذن حديث حمنة يفيد أن الغسل مرة واحدة يُجْزِيء، وأنَّ غُسلها كل صلاتين في الجمع أفضل، وإذن فإن الغسل لكل صلاتين مندوب. وبالرجوع إلى ما مرَّ فانَّا لو تساهلنا في حديث عائشة السابق الذي فيه «اغتسلي لكل صلاة» واعتبرناه يصلح للاحتجاج كما مال إلى ذلك عدد من الأئمة، فإن غاية ما يفيده استحباب الغسل لكل صلاة، تماماً كاستحباب الغسل لكل صلاتين، وهذا القول أعدل الأقوال وأَوْلاها بالأخذ جمْعاً بين الأدلة وإعمالاً لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 أما رأي ابن المسيَّب والحسن، وعائشة فيما رُوي عنها، وهو وجوب الاغتسال مرة كل يوم أو كل يوم وليلة، فلم أجد له نصاً صحيحاً ولا حسناً يدل عليه فيترك. 2- الوضوء: ذهب الجمهور إلى وجوب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة، وانفرد مالك بالقول: إنَّ الوضوء لكل صلاة مستحب، ولا يجب إلا بحدث آخر. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، لأن النصوص تدل عليه. وقد سبق حديث الترمذي الحسن الصحيح «توضئي لكلِّ صلاة حتى يجيء ذلك الوقت» فهو نص صريح في الوضوء لكل صلاة، فيجب المصير إليه والعمل بموجبه. أما أنه فرض وليس سنة، فذلك أن نزول الدم من الفرج ناقضٌ للوضوء لا أعلم فيه خِلافَاً، والمستحاضة ينزف دمها باستمرار، فهي في حالة نقضٍ دائم للوضوء لا تطهر منه، وبالتالي لا تستطيع الصلاة، فجاء الشرع يطالبها بالصلاة وبالوضوء لكل صلاة، ولو استمر الدم في النزول في أثناء الصلاة، فمطالبتها بالوضوء لكل صلاة إنما هو لأجل قيامها بواجب الصلاة، وإذن فلا يتصور أن يكون سنة، لأن السُّنَّة يجوز تركها، وهنا لا يجوز ترك الوضوء لأنه لو ترك لكان الناقض مستمراً ولما جازت معه الصلاة، وهذه الحالة هي حالة ضرورة وحالة عذر، تماماً كَسَلَسِ البول والريح، فهي قرينة على أن الأمر هنا يفيد الوجوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 أما قول مالك الذي شاركه فيه عكرمة وربيعة باستحباب الوضوء للمستحاضة، فقد استدلوا عليه بحديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة بنت أبي حبيش « ... ثم اغتسلي وصلي» قائلين إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يأمرها بالوضوء لكل صلاة، ولأنه ليس بمنصوص عليه، فنرد عليهم بأن حديث عائشة السابق جاء فيه «توضئي لكل صلاة» وهذه زيادة يجب قبولها ويتعين المصير إليها، وهي ردُّ على قولهم (ليس بمنصوص عليه) وكما أن روايتهم صالحة - فقد رواها البخاري - فروايتنا هي أيضاً صالحة رواها الترمذي وقال (حسن صحيح) ثم إن روايتهم فيها سكوت وروايتنا فيها نطق، والنطق مقدَّم على السكوت. أما إن جاء من يجادل في أن نزول الدم للمستحاضة لا شيء فيه، وأنه ليس بناقض فلا يجب له الوضوء، قلنا: وكيف تفسر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحمنة بنت جحش «أنعت لك الكُرْسُف» أي ضعي قطناً لمنع نزول الدم؟ فلما قالت: هو أكثر من ذلك - أي لا يمنع القطنُ نزوله - قال «فتلجَّمي» أي أكثري من وضع ما يحول دون نزوله أجل كيف تفسر هذين الأمرين إن كان نزول الدم من الفرج غير ناقض؟ وحيث أن الوضوء هنا مشروعٌ لعذر وضرورة فإنه يقيَّد بقدرهما، فيكون هذا الوضوء المشروع لكل صلاةِ فريضةٍ صالحاً طيلة وقت الصلاة المفروضة، فبالوضوء الواحد تصلي في وقت الصلاة ما شاءت من صلوات، فإذا انتهى الوقت بطل وضوؤها، فإذا أرادت صلاة جديدة توضأت لها وضوءاً جديداً، وهكذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ثم يجب أن تتوضأ بعد دخول الوقت لا قبله، حتى يصح القول أنها تتوضأ لوقت كل صلاة، ولو جاز وضوؤها قبل دخول الوقت لكان هذا الوضوء قد جاز لوقتين وهذا لا يجوز، لأنه يخالف كونه وضوء عذر وضرورة يُقدَّر بقدرهما. وهذا رأي الأحناف وابن قُدامة من الحنابلة، وهو الصحيح. قال ابن حجر في فتح الباري (وعند الحنفية أن الوضوء متعلق بوقت الصلاة فلها أن تصلي به الفريضة الحاضرة وما شاءت من الفوائت ما لم يخرج وقت الحاضرة، وعلى قولهم المراد بقوله «وتوضئي لكل صلاة» أي لوقت كل صلاة) . والآخرون قالوا بالوضوء لكل صلاةِ فريضةٍ ولكل صلاةٍ مقضية أخذاً بظاهر الحديث، وهذا تشدد في الأخذ بالظاهر، لأنَّا لو أردنا مجاراتهم في قولهم هذا لقلنا لهم كيف أجزتم بوضوء واحد أداءَ صلاة الظهر مثلاً وركعتين قبلها، أو ركعتين بعدها؟ وهذه ثلاث صلوات وليست صلاة واحدة؟ فإن قالوا: دخلت في مسمى واحد هو صلاة الظهر، قلنا: وأين النص في ذلك؟ وما الفرق بين هذه الصلوات الثلاث وصلاة الظهر وقضاء صلاة الفجر في وقت واحد؟ لا هذه فيها نصٌ ولا تلك. فإن توسعتم في فهم النص قلنا: ليكن التوسع بشكل يشمل الصلوات المؤدَّاة في وقت الصلاة الواحدة. ثم إن حديث حمنة فيه الأمر بالجمع بين الصلاتين، صلاة الظهر وصلاة العصر، وصلاة المغرب وصلاة العشاء، ولم يأمرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوضوء، واكتفى بطلب الغسل للصلاتين، ولو كان أَمَرَها بالوضوء للصلاة الثانية لنُقِل، فلما لم يحصل دل ذلك على أن الوضوء غير لازم، ودل الحديث على أن الغسل أو الوضوء يقام فيه بصلاتين، وهذا دليل آخر على أن الوضوء يكفي لأكثر من صلاة في الوقت الواحد، وينقض قولهم المذكور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ولسنا نريد التشدد فنقول إن هذا الحديث يفيد أن الوضوء يكفي لوقتين وفريضتين، لأن الجمع الذي أمرت به حمنة كان جمعاً صورياً، بحيث تصلي الظهر في آخر وقت الظهر وتصلي العصر في أول وقت العصر، وكلُّ ذلك بغسل، أو بوضوء واحد، لسنا نقول هذا القول لأن الجمع الذي أمرت به حمنة ليس مقطوعاً به أنه جمع صُوْرِيٌّ وإنما هو محتمل، فلا يصلح للاستدلال. فبالوضوء الواحد تصلي المستحاضة صلاة الفريضة وسننها والصلوات المقضَّية وما تشاء من النوافل، وتقرأ القرآن وتمس المصحف ما دام ذلك كله في وقت صلاة فريضة. فإن أذَّن المؤذن لصلاة جديدة فإن وضوءها يبطل، ويلزمها وضوء جديد تفعل فيه ما فعلته في وضوئها السابق، ويتعلق بهذا الوضوء ما سبق وأتينا عليه من وجوب غسل الفرج مما أصابه من دم، ثم تحفُّظها بشكل تجتهد به أن تمنع نزف الدم، فإن نزف بعد بذل الوسع فلا بأس. 3- الوطء: يجوز لزوج المستحاضة أن يطأها ولو كان الدم ساعة الوطء يسيل، وهو رأي الأئمة الأربعة خلافاً لرأي ابن سيرين والشعبي والنخعي والحاكم وأحمد في رواية عنه، فقد قالوا بالمنع إلا أن يخاف الزوج العنت والوقوع في محذور. وقد استدل مَن قالوا بالتحريم بما رواه الحاكم في كتابه [معرفة علوم الحديث] والخلاَّل بإسناده عن عائشة أنها قالت «المستحاضة لا يغشاها زوجها» وقالوا إن بها أذى فيحرم وطؤها كالحائض، فقد قاسوا المستحاضة على الحائض للعلة المشتركة بينهما وهي الأذى {قل هو أذى فاعتزلوا النِّساءَ في المحيض} وهذا الرأي ظاهر الضعف لأن ما رووه عن عائشة هو قولٌ لصحابية، وقول الصحابي أو الصحابية ليس دليلاً. أما قياسهم المستحاضة على الحائض فلا يصح، لأن واقع الحيض يختلف عن واقع الاستحاضة، فدم الحيض أسود نتن، في حين أن دم الاستحاضة أحمر عادي غير فاسد، فهذا فارق، ثم إن الله حرم على الحائض الصلاة في حين أمر المستحاضة بالصلاة، فهذا فارق ثانٍ، فالقياس لا يصح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وقد يُسأل عن دليل جواز وطء المستحاضة، فأجيب بأنه لا يلزم دليلٌ لذلك لأن المستحاضة زوجةٌ تُوطأ، ولا يُمنع الزوج من وطء زوجته إلا في حالة الحيض والنفاس، وما سواهما لا يوجد دليل بالحظر والتحريم، والأصل إباحةُ الوطء لعموم الأدلة، ولا يصار إلى التحريم إلا بدليل ولا دليل. وقد روى أبو داود عن عكرمة عن حمنة بنت جحش «أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها» وإسناده حسن. وحمنة زوجة طلحة بن عبيد الله، وروى أبو داود عن عكرمة أيضاً «كانت أم حبيبة تُستحاض فكان زوجها يغشاها» وأم حبيبة زوجة عبد الرحمن بن عوف كما ذكر مسلم في صحيحه. وروى عبد الرزاق في مصنَّفه في باب المستحاضة عن عكرمة عن ابن عباس قال «لابأس أن يجامعها زوجها» فهذه المرويات من الآثار وإن كانت ليست أدلة لأنها أقوالُ صحابةٍ إلا أنها يُستَأنَسُ بها ويُطمئَنُّ بها على سلامة الرأي. 4- المستحاضة تصلي وتصوم، وتفعل كل شيء كما تفعل الطاهرات سواء بسواء: وقد مرَّ في الأحاديث الأمر بالصلاة وبالصوم، ففي حديث حمنة السابق «وكذلك فافعلي وصلِّي وصومي» وحيث أن الصلاة والصوم شرطهما الطهارة، وقد طُلِبا من المستحاضة فقد دل ذلك على أن المستحاضة طاهرة كسائر الطاهرات، تفعل ما تفعله الطاهرات دون أي تمييز. وهذا رأي العلماء والأئمة دون مخالف. خامساً: النفاس والولادة أ- النِّفاس: هو الدم الخارج من الفرج بسبب الولادة شرط أن يتبين في المولود خلق إنسان سواء ولد حياً أو ميتاً. فيخرج من هذا التعريف ما يقذفه الرحم من نطفة أو علقة أو بداية مضغة، فهذا ليس ولادة وليس نفاساً، ولا تندرج النطفة أو العلقة أو بداية المضغة تحت لفظ المولود. والدليل على ذلك القرآن الكريم والسنة النبوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 أما القرآن الكريم فقد قال الله عزَّ وجلَّ في سورة الحج، الآية 5 {يا أيها الناسُ إنْ كُنتم في رَيْبٍ مِن البَعْثِ فإنَّا خَلَقْنَاكم مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ مُخَلَّقةٍ وغيْرِ مُخَلَّقَةٍ لنُبَيِّنَ لكم ونُقِرُّ في الأَرحَامِ ما نَشَاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} فجعلت الآية التخلق في مرحلة المضغة، وبالتالي فقد نفته عن النطفة والعلقة، فالمضغة بدء التخلُّق، أي بدء خلق الإنسان، وما قبلها ليس تخلُّقاً، وليس بدء إنسان، والولادة هي إنزال مولود مُخلَّق، وليس إنزال دم سائل أو جامد، لأن النطفة معناها المني، والعلقة معناها الدم الجامد، في حين أن المضغة هي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضغ، فما كان دماً فليس بمولود، وما صار لحماً فهو مولود، وإن أردنا الدقة أكثر قلنا إن المضغة هي بداية مولود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وأما الحديث فقد رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال «حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: إنَّ أحدكم يُجمع خلْقُه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقةً مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغَةً مثل ذلك، ثم يُرسَلُ المَلَكُ فينفخ فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلمات بِكَتْبِ رزقِه وأجَلِهِ وعملِهِ وشقيٌّ أو سعيدٌ ... » رواه مسلم والبخاري. فالحديث فسر الآية وبيَّن أن نفخ الروح إنما يحصل عقب تحوُّل العلقة إلى مضغة، بل عقب اكتمال تخلق المضغة، فالحديث يقول «ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يُرْسَل المَلَكُ فينفخ فيه الروح» فقد قال «ثم» وهي تفيد التعقيب والترتيب، فنفخُ الروح إنما يتم عقب حصول المضغة، أي عقب التَّخلُّق الحاصل في المضغة وليس في أثناء تخلُّقها، فلا تُنفخ الروح إلا بعد اكتمال خلق المضغة، فالتَّخلُّق مُصاحِبٌ للمُضغة تماماً، بمعنى أن العلقة بمجرد تحولها تدريجياً إلى مضغة يحصل التَّخلُّق تدريجياً، فالمضغة مصاحبة للتَّخلُّق، ولا يقال لها مضغة إلا إذا اكتملت، ولا تكتمل إلا إذا اكتمل تخلقها، وإذا اكتملت أو اكتمل تخلقها، فقد آن أوان نفخ الروح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ومن هذا الفهم نخرج بالرأي التالي: إن المرأة إن أسقطت نُطفة أي عقب مرور أربعين يوماً كأقصى وقت لبدء الحمل، فإنها لا تكون قد أسقطت مولوداً، وإن أسقطت علقة أي عقب مرور ثمانين يوماً كأقصى وقت لبدء الحمل، فإنها أيضاً لا تكون قد أسقطت مولوداً، وهذا أمر ظاهر الوضوح. أما إن أسقطت مضغةً كاملةً التَّخلُّقِ بعد مرور ما يزيد على مائة وعشرين يوماً ولو بيوم واحد، فإنها تكون قد أسقطت مولوداً فيه روح، وهذا إسقاطٌ لإنسان وهو نفاس قطعاً لا شك فيه. فتبقى الفترة ما بين ثمانين يوماً ومائة وعشرين يوماً، وهي فترة تخلق المضغة، فهذه الفترة مرحلة انتقالية من جسم لا شك في أنه ليس مولوداً، ولم تحل فيه الروح، لأنه قطعة دم جامد كالكبد والطحال وليس لحماً، إلى جسم من لحم مخلَّق حلَّت فيه الروح. هذه الفترة اختلف فيها الفقهاء، فمنهم من اعتبر إسقاط المضغة قبل اكتمال تخلقها إسقاط مولود، وبالتالي سمَّوْه نفاساً، ومنهم من اعتبر إسقاطها إسقاطاً مماثلاً لإسقاط النطفة والعلقة، أي ليس إسقاط مولود وليس نفاساً، والصحيح هو أن المضغة قبل اكتمال تخلُّقِها حكمُها حكم ما قبلها، لأن الروح لا تحل فيها قبل التَّخلُّق. أما ما يتعلق بالنفاس من حيث الحكم للصلاة والطهارة والجماع فإنَّا نقول إن المرأة إن أسقطت بعد مائة يوم فَحَصْنا الساقط، فإن تبيَّنَّا فيه تخلق المولود بشكل بيِّن اعتبرناها في حالة نفاس وإلا فلا. قال ابن قدامة في المغني (إذا رأت المرأة الدم بعد وضع شيء يتبين فيه خلق الإنسان فهو نفاس نُصَّ عليه، وإن رأته بعد إلقاء نطفة أو علقة فليس بنفاس، وإن كان الملقى بضعة لم يتبين فيها شيء من خلق الإنسان ففيها وجهان - أحدهما - هو نفاس لأنه بدء خلق آدمي فكان نفاساً كما لو تبين فيها خلق آدمي - والثاني- ليس بنفاس لأنه لم يتبين فيها خلق آدمي فأشبهت النطفة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ب- مدة النفاس: اختلف الأئمة والفقهاء في أكثر النفاس، فذهب مالك والشافعي إلى أن أكثره ستون يوماً، وقد رُوي عن الأوزاعي أنه قال: عندنا امرأة ترى النفاس شهرين. ورُوي مثله عن عطاء. وقال الشافعي: غالبه أربعون يوماً. وذهب علي وعمر وابن عباس وعثمان بن أبي العاص وأنس وأم سلمة والشعبي والثوري وإسحق وأصحاب الرأي وأحمد والشوكاني والمزني وأبو عبيد إلى أن أكثره أربعون يوماً. وهذا الرأي الأخير هو الصحيح، والدليل عليه ما يلي: 1- قال الترمذي (قد أجمع أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومَن بعدهم على أن النُّفَسَاءَ تَدَعُ الصلاة أربعين يوماً، إلا أن ترى الطُّهْر قبل ذلك، فإنها تغتسل وتصلي) فهو إذن إجماع الصحابة، وهذا دليل. 2- عن علي بن عبد الأعلى عن أبي سهل عن مُسَّة الأزديَّة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت «كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين يوماً، فكنا نطلي وجوهنا بالوَرْس من الكلف» رواه الترمذي وأحمد وأبو داود وابن ماجة. قال المُباركْفُوري شارح الترمذي (الحديث حسن صالح) . وقال الخطابي: أثنى البخاري على هذا الحديث. والحديث صححه الحاكم. 3- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت « ... كانت المرأة من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - تقعد في النفاس أربعين ليلة، لا يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقضاء صلاة النفاس» رواه أبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 أما إجماع الصحابة فهو كاف كدليل على أن حدَّ النفاس الأعلى أربعون يوماً، وهذا وحده كافٍ للرد على أصحاب الرأي الأول، كما أن حديث أم سلمة الأول صريح الدلالة على الأربعين. وهذا القول من أُم سلمة يأخذ حكم الرفع لأنها قالت «كانت النُّفَسَاء تجلس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» فهي قد أضافت الفعل إلى عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الإضافة تجعل الحديث يأخذ حكم الرفع كما يقول جمهور المُحدِّثين والأُصوليين. أما أصحاب الرأي الأول فقد قالوا به بالاستقراء، وبِردِّ حديث أم سلمة الثاني واصفين إياه بأنه مُنْكَرُ المتن، لأن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما منهن مَن كانت نُفَسَاء أيام كونها معه سوى خديجة، وخديجة كانت زوجة له قبل الهجرة، وإذن فلا معنى لقول أم سلمة هذا كما يقولون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 أما الاستقراء فإنه لا يفيدهم، لأن الصعيد الذي بحثوه عليه هو غير الصعيد الذي كان عليهم بحثه عليه، وذلك أنهم علَّقوا أحكام النفاس على ما توصلوا إليه من دراسة ما عليه النساء، مِن حيثُ أكثرُ ما يكون نزول الدم عندهن دون أي اعتبار آخر، وهذا خطأ وقعوا فيه، وأوقعهم من ثَمَّ في خطأ الحكم المترتب عليه، ذلك أن الشرع نفسه قد حسم هذه المسألة حسماً قاطعاً، فقال إن حكم النفاس أقصاه أربعون يوماً كما جاء بإجماع الصحابة وهو دليل، وكما جاء بالحديث أيضاً، وكان ينبغي عليهم وقد قال الشرع كلمته أن يتوقفوا عن البحث عن أكثر زمنٍ لنزول دم النفاس إنْ هم أرادوا من ذلك تعليق حكم النفاس به، أما لو هم أرادوا مطلق المعرفة بأكثر وقت النفاس من حيث الواقع دون ربط ذلك بحكم النفاس فلا بأس، ولكنهم بحثوا عن أقصى النفاس، فوجوده عند عدد من النساء يزيد على الخمسين، وقد يصل إلى الستين والسبعين، فقالوا إن المرأة تدع الصلاة والصوم والجماع طيلة هذه الفترة الطويلة، وهذا خطأ لأن هذا القول معاندٌ صريحٌ للشرع، فالشرع علق الحكم بأربعين كحدٍّ أقصى، وما دام علق الحكم بالأربعين فإن تعليقه بالخمسين أو بالستين أو بالسبعين هو نسخ له، وهم لا يملكون النسخ. أما ردهم حديث أم سلمة الثاني الذي فيه «كانت المرأة من نساء النبي» واصفين إياه بأنه مُنْكَر المتن، فرغم أن الشوكاني أوَّله بقوله (نساؤه أعمُّ من الزوجات لدخول البنات وسائر القرابات تحت ذلك) فإني أُقرُّهم على هذا الرد ولا أميل إلى تأويل الشوكاني، وبالتالي يُترك الحديث ولا يُحتج به. ولكن هذا الرد لا يفيدهم لأن الحديث الأول لا يمكن إنكار متنه لأن النفساء فيه غير مقيدة بكونها من نساء الرسول عليه الصلاة والسلام، وحيث أن الحديث صحيح وصريح فلا يجوز تركه وإعمال الذهن فيما جاء فيه نص، أو الاجتهاد في مورد النص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 لكن تبقى تساؤلات لا بد من الإجابة عليها وهي: هل الشرع حدد الأربعين على اعتبار أن الدم لا ينزل أكثر من أربعين؟ أم أن الشرع حدد الأربعين وهو يعلم أن الدم قد يحتاج لدى بعض النساء إلى أكثر من ذلك ولكنه عفى عن الزيادة؟ وهل هذه الزيادة على الأربعين نفاس معفى عنه أم هو شيء آخر؟. الذي يترجح لديَّ هو أن دم النفاس فعلاً لا يزيد على أربعين يوماً، فإذا استمر نزول الدم أكثر من ذلك كان إمَّا مرضاً وهو استحاضة - أي انقطاعُ عرقٍ نتيجة ما قاسته الوالدة من تشنجات عضلية وعصبية - وإمَّا أنَّه صادف فترة الحيض، وحينئذ ينزل أسود يُعرف، فيكون في هذه الحالة حيضاً يأخذ حكمه، وليس في حاجة للنص عليه في حالة النفاس، لأن النص عليه موجود في حالة الحيض، فلا تصلي المرأة عقب انقضاء الأربعين، وإنما تستمر على عدم الطهارة وعدم الصلاة حتى تنتهي حالة الحيض، وهذا لا يخالف ما سبق من تحديد النفاس بالأربعين لأنه ليس نفاساً. قال الإمام أحمد: إذا استمر بها الدم فإن كان في أيام حيضها الذي تقعده أمسكت عن الصلاة ولم يأتها زوجها، وإن لم يكن لها أيام كانت بمنزلة المستحاضة يأتيها زوجها وتتوضأ لكل صلاة وتصوم، وتصلي إن أدركها رمضان ولا تقضي. وهو تلخيص جيد، وأحمد كما سبق بيانه هو ممن يقولون بالأربعين كحدٍّ أقصى للنفاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 هذا هو الحدُّ الأعلى للنفاس. أما الحد الأدنى فقد قال محمد بن الحسن من الأحناف، وأبو ثور: أقلُّه ساعة. وقال أبو عبيد: أقلُّه خمسة وعشرون يوماً. وقال الأئمة الأربعة والثوري والأوزاعي: إذا لم تر دماً تغتسل وتصلي. أي هم لم يحدوا حداً لأقله وهو الصحيح. وذلك لأن الشرع لم يحد له حداً معلوماً فوجب الرجوع فيه إلى أحوال النساء. فلو ولدت امرأة وتوقف نزول الدم بعد مضي ثلاثة أيام فإنها تغتسل وتصلي، بل لو ولدت وتوقف نزول الدم مباشرة نهضت واغتسلت وصلت. فقد رُوي أن امرأة ولدت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تر دماً فسميت ذات الجفوف، وهذه حالة نادرة طبعاً. أما إن نزل الدم عشرة أيام مثلاً وتوقف عشرة أيام اغتسلت فيها وصلت، ثم إن عاودها الدم بعد توقف العشرة الأيام هذه فإنه دم نفاس، تتوقف فيه عن الصلاة ما دام ينزل، فإن توقف اغتسلت وصلَّت. وقد استغربت تناول الأئمة لهذه المسألة واختلافاتهم فيها، فقد قال مالك: إنْ رأت الدم بعد يومين أو ثلاثة فهو نفاس، وإن تباعد ما بينهما فهو حيض. وقال أصحاب الشافعي: إذا رأت الدم يوماً وليلة بعد طُهر خمسة عشرة يوماً ففيه رأيان: أحدهما يكون حيضاً، والثاني يكون نفاساً. ونُقل عن أحمد روايتان: إحداهما أنه حيض، والأخرى أنه نفاس. وأنا لا أدري ما وجه الحكمة في هذا الخلاف؟ وما قيمة اعتبار الدم هذا حيضاً أو نفاساً؟ إذ لو كان للحيض حكم غير حكم النفاس لوجب الاهتمام بهذه المسألة، أما وأنه لا فرق بين أن يكون الدم حيضاً أو نفاساً فلماذا هذا البحث وهذا الخلاف؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 بقيت نقطة أخيرة اختلف فيها الفقهاء هي: إذا ولدت المرأة توأمين فكيف تحسب فترة النفاس؟ أيكون النفاس كله من المولود الأول أوله وآخره، أم يكون من المولود الأول أوله ومن الآخر آخره؟ أم يكون من الآخر أوله وآخره؟ فذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية عنه إلى أن النفاس من الأول كله أوله وآخره، وعللوا ذلك بقولهم: متى انقضت مدة النفاس من حين وضعت الأول لم يكن ما بعده نفاساً، لأن ما بعد ولادة الأول دم بعد الولادة فكان نفاساً كالمنفرد وآخره منه، لأن أوله منه فكان آخره منه كالمنفرد. وقال أبو الخطاب والشريف أبو جعفر من الحنابلة: إن أوله من الأول وآخره من الثاني. وقالا: إن الثاني ولد فلا تنتهي مدة النفاس قبل انتهائها منه كالمنفرد، فعلى هذا تزيد مدة النفاس على الأربعين في حق من ولدت توأمين. وقال القاضي أبو الحسين من الحنابلة وزُفَر من الأحناف: إن النفاس من الثاني فقط لأن مدة النفاس مدة تتعلق بالولادة فكان ابتداؤها وانتهاؤها من الثاني كمدة العدة. ولأصحاب الشافعي ثلاثة أقوال كالسابقة. والذي أراه هو الرأي القائل بأن النفاس يبدأ بولادة الأول، وهذا ظاهر تماماً والأصل أن نفاسه هو النفاس في أوله وآخره، وأول نفاسه لم يجر عليه ما يلغيه أو يغيره فيستمر، ولكن طرأ على آخر نفاسه نفاس آخر لمولود آخر، وحيث أن الآخر مولود فإن له نفاساً له أول وله آخر، أما أوله فقد دخل في نفاس أخيه الأول، وظل آخره قائماً لم يغيره شيء أما آخر نفاس الأول فقد دخل في نفاس أخيه الثاني، فنفاس ذات التوأمين يبدأ بأول نفاس الأول وينتهي بآخر نفاس الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ج - حكم النفساء حكم الحائض سواء بسواء من حيث عدم الطهارة، وسقوط الصلاة والصوم، وتحريم الجماع دون أي فرق لا اعلم في هذا خلافاً بين الأئمة. والدليل إجماع الصحابة وقد مرَّ. إنما الخلاف في الكفارة على من وطيء زوجته في نفاسها، والذي يترجح لدي هو أنه لا كفارة عليه، لأنه لم يرد في الكفارة نص، وما ورد من نصٍّ في كفارة وطء الحائض لا يشمل النفساء، ولا يصح القياس لاختلاف الحالتين. د- أما غسل النُّفَسَاء فهو غسل الجنب وغسل الحائض نفسه، وما جاء من استحباب زيادة التنظيف في غسل الحائض نقول به في غسل النفساء لإزالة أثر الدم، ومثل هذا لا يحتاج إلى نص يخصه بالذكر لاندراجه تحت عموم الأدلة الحاثة على النظافة. والدليل على غسل النفساء إجماع الصحابة وقد مرَّ. الفصل العاشر الوضوء تعريف الوضوء ومشروعيته أـ تعريف الوضوء: الوضوء بضم الواو مصدر وَضُؤَ بمعنى حَسُنَ، ويطلق على الفعل، والوضوء بفتح الواو: الماء الذي يُتَطهَّر به. هذا في اللغة. وفي الشرع: غسل الوجه بالماء واليدين إلى المرفقين والرِّجلين إلى الكعبين ومسح الرأس بترتيب مخصوص وموالاة مع سبق النية لرفع الحدث الأصغر المبيح للصلاة ومسِّ المصحف والطواف. ب ـ مشروعيته: الوضوء مشروع بالقرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الصحابة، ففي القرآن الكريم قوله عزَّ وجلَّ {يا أيها الذينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجوهَكم وأَيْدِيَكُم إلى المرَافِقِ واْمْسَحُوا برؤوسِكم وأرجلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ} الآية 6 من سورة المائدة. وفي السنة الشريفة ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تُقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» رواه مسلم والبخاري وأبو داود والترمذي وأحمد. وقد انعقد إجماع الصحابة على وجوب الوضوء للصلاة، ولم يخالف فيه أحد منهم بل ولم يخالف فيه أحد من المسلمين، فهو معلوم من الدين بالضرورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 فضلُ الوضوء وردت في فضل الوضوء أحاديث كثيرة نذكر منها ما يلي: أـ عن نعيم بن عبد الله المُجْمِر قال «رأيت أبا هريرة يتوضأ، فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضُد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضُد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ. وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتم الغُرُّ المُحَجَّلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فلْيُطل غُرَّته وتحجيله» رواه مسلم. ب- عن أبي هريرة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المقبرة فقال: السلام عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنَّا قد رأينا إخواننا، قالوا: أَوَ لَسْنا إخوانَك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعدُ من أمتك يا رسول الله؟ فقال: أرأيت لو أنَّ رجلاً له خيلٌ غُرٌّ محجَّلة بين ظَهرَيْ خيلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون غُرَّاً مُحجَّلين من الوضوء، وأنا فَرَطُهم على الحوض، ألا ليُذادَنَّ رجالٌ عن حوضي كما يُذاد البعير الضال، أُناديهم: ألا هَلُمَّ، فيقال إنهم قد بدَّلوا بعدك، فأقول: سُحقاً سُحقاً» رواه مسلم وابن ماجة ومالك. قوله دُهمٌ بُهمٌ: أي سُودٌ لم يخالط لونَها لونٌ آخر. ج - عن أبي حازم قال «كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى تبلغ إِبطَه، فقلت له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فَرُّوخ أنتم ههنا؟ لو علمت أنكم ههنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: تبلغ الحِلْية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» رواه مسلم. قوله يا بني فَرُّوخ: أراد بهذا النداء الموالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 د- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «ألا أدلكم على ما يمحو اللهُ به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغُ الوضوء على المكاره، وكثرةُ الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط» رواه مسلم ومالك والترمذي والنَّسائي. هـ- عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «مَن توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس أو مع الجماعة أو في المسجد غفر الله له ذنوبه» رواه مسلم. و عن عبد الله الصُنَابِحِيِّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فِيه، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشْفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أُذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه، ثم كان مشيُه إلى المسجد وصلاتُه نافلةً له» رواه النَّسائي وأحمد ومالك وابن ماجة. ز- عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقَدٍ، يضرب كل عقدة مكانها عليك ليلٌ طويلٌ فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلَّت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عُقَدُهُ كلُّها، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي ومالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الأحاديث الثلاثة الأولى بينت أن المسلمين يتميزون بالوضوء عن سائر الناس يوم القيامة بما أنعم الله به عليهم من إلباسهم الزينة والحلية على قدر ما أسبغوا وضوءهم بحيث يبدون غُرَّاً مُحجَّلين. والأحاديث الثلاثة التالية ذكرت أن الوضوء يكفِّر الخطايا والذنوب. والحديث الأخير ذكر أن الوضوء يحل عقدة من عُقَد الشيطان الثلاث، فكفى بما يجلبه الوضوء في الآخرة من حلية، وبما يكفِّر من الخطايا والذنوب، وما يحل من عُقَدِ الشيطان من فضل وأي فضل! صفةُ الوضوء كما أن الغُسل منه المُجْزِيء ومنه الأكمل، فكذلك الوضوء منه المُجْزِيء ومنه الأكمل، والمُجْزِيء يُقتصر فيه على الفروض بحيث لو نقص منها فرض واحد بطل والأكمل يضم زيادة على الفروض السنن كلها. والوضوء المُجْزِئ هو: استحضارُ نيَّةِ رفع الحَدَث الأصغر، وغسل الوجه بالماء، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، والموالاة، والترتيب. فمن أتى بهذه الفروض فقد أتى بالوضوء المُجْزِئ، وصح به الطواف ومسُّ المصحف والصلاة واكتملت به طهارته. والأدلة على ذلك ما يلي: 1- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرِئ ما نوى، فمَن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» رواه مسلم وأحمد والبخاري. وحيث أن الوضوء عبادة وأنه عمل فإنه يدخل في هذا الحديث، فهذا دليل فرض النية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 2- قوله تعالى {يا أيُّها الذين آمنوا إذا قُمتم إلى الصَّلاةِ فاغْسِلوا وجوهَكُم وأَيْدِيَكُم إلى المرافِقِ وامْسَحُوا برؤوسِكُمْ وأَرْجُلَكم إلى الكعبين} الآية 6 من سورة المائدة. فهذه الآية أتت على الفروض الأربعة (غسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين) . وقد قلت (غسل الوجه بالماء) فذكرت الماء لأُخرج سائر المائعات، فالوضوء لا يصح بغير الماء كما أن الغسل لا يصح بغير الماء، والدليل على ذلك قوله تعالى: 3- {يا أيُّها الذين آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى حتى تَعْلَمُوا ما تقُولُون ولا جُنُباً إلا عابرِي سبيلٍ حتى تَغْتَسِلوا وإنْ كنتم مرضى أو على سَفَرٍ أو جاءَ أحدٌ منكم مِن الغَائِطِ أو لامَسْتُم النِّساءَ فلم تَجِدوا ماءً فتيمَّمُوا صَعِيداً طَيِّبَاً فامْسَحُوا بوجُوهِكُم وأَيْدِيكُم إنَّ الله كان عَفُوَّاً غَفُوراً} الآية 43 من سورة النساء. فهذه الآية الكريمة أمرت بالتَّيمُّم عند فقد الماء، ومفهومها أن الماء هو المستعمل في الغسل والوضوء، وأنه لا يُصار إلى التراب إلا إذا عدم الماء. وقلت في الوضوء المُجْزِيء (والموالاة) لأُبيِّن أن الموالاة فرض، بحيث إن لم توجد لا يصح الوضوء، والدليل عليها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 4- عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدَمِهِ لمعةٌ قدرَ الدرهم لم يُصبها الماء، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء» رواه أحمد وأبو داود وزاد «والصلاة» . قال الأثرم: قلت لأحمد: هذا إسناده جيد؟ قال: جيد. ودلالة الحديث على وجوب الموالاة واضحة، فالرجل حين تبين الرسول عليه الصلاة والسلام أن بظهر قدمه قدر الدرهم لم يصبه الماء أمره أن يعيد الوضوء ولم يأمره بغسل اللمعة فحسب، مما يدل على أن الوضوء باطل وأنه لا يكفي لتصحيحه أن يعود لغسل رجله، لأن غسلها بعد المدة الطويلة يجعله بدون موالاة، فلما حصل ذلك فهمنا أن الموالاة واجبة. وختمتُ الفروض بـ (الترتيب) والدليل عليه الآية الكريمة التي جعلت مسح الرأس يتوسط غسل اليدين إلى المرفقين، وغسل الرجلين إلى الكعبين، ولا يكون هذا التوسط وقطعُ النظير عن نظيره إلا لفائدة، ولا فائدة هنا سوى الترتيب. وبذلك يظهر أن الوضوء المُجْزِيء يجب أن يتحقق فيه ما يلي: 1- النِّيَّة. 2- استعمال الماء. 3- غسل الوجه. 4- غسل اليدين. 5- مسح الرأس. 6- غسل الرِّجلين. 7- الموالاة. 8- الترتيب. فإن نقص واحد من هذه الثمانية فقد بطل الوضوء ووجبت إعادته. أما الوضوء الأكمل فهو هذه الفروض مضافة إليها السنن. وهذه السنن هي ما حوته النصوص بخصوص الوضوء مما زاد على الفروض. والمعلوم أن أعمال العبادة إما أن تكون فروضاً، وإما أن تكون سُنناً. وحيث أن النصوص قد ذكرت أعمالاً في الوضوء غير ما جاء من الفروض فإن هذه الأعمال لا شك أنها سنن ومندوبات، وقد ذكرت هذه الملاحظة اكتفاءً من وصف كل عملٍ مُقبل منها بأنه سنة، وآخذ في التدليل على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 أما الوضوء الأكمل فهو كالتالي: ينوي رفع الحَدَث الأصغر، ثم يسمي الله، ثُم يغسل كفيه بالماء ثلاثاً، ثم يتمضمض باليمين ثلاثاً، ويتسوَّك ولو بإصبع يده، ثم يستنشق باليمين ويستنثر بالشمال ثلاثاً، ثم يغسل وجهه ثلاثاً، ويُخلِّل لحيَتَه، ويتعاهد المأْقين، ثم يغسل يده اليمنى حتى يشرع في العضد ثلاثاً، ثم يغسل يده اليسرى حتى يشرع في العضد ثلاثاً، ثم يمسح رأسه يبدأ بمُقدَّم رأسه بيديه الاثنتين حتى تصلا إلى قفاه ويعيدهما إلى مُقدَّم رأسه، ثم يمسح أُذنيه بيديه ظاهرهما وباطنهما، ثم يغسل رجله اليمنى ويخلل أصابعها بخِنْصَر يده اليسرى حتى يشرع في الساق ثلاثاً، ثم يغسل رجلَه اليسرى كما فعل في اليمنى، ويفعل كل ما سبق بالترتيب نفسه، ويبدأ باليمين ثم بالشمال، ويوالي بين أعضاء الوضوء في الغسل والمسح، ثم يقول (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التَّوَّابين واجعلني من المتطهرين، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفِرُك وأتوب إليك) . هذه هي أعمال الوضوء الأكمل ولا مزيد عليها، فهي تجمع الأمور التالية: 1- النية. 2- التسمية. 3- غسل الكفين. 4- المضمضة. 5- التسوُّك. 6- الاستنشاق باليمين والاستنثار بالشمال. 7- غسل الوجهِ وجزءٍ من شعر الرأس وتعاهد المأْقين وتخليل اللحية. 8- غسل اليدين إلى المرفقين والوصول في الغسل حتى الشروع في العضدين وتخليل الأصابع. 9- مسح الرأس ذهاباً وإياباً. 10- مسح الأُذنين ظاهرهما وباطنهما. 11- غسل الرجلين إلى الكعبين والتخليل بخِنصر اليد اليسرى بين الأصابع. 12- غسل الأعضاء سوى الرأس والأُذنين ثلاثاً ثلاثاً. 13- الترتيب. 14- التيمُّن. 15- الموالاة. فمن توضأ هذا الوضوء فقد أتى على جميع فروض الوضوء ومندوباته، ونال أعظم ثواب يناله متوضئ بإذن الله. وقد أتى على معظم هذه الأمور الحديثان التاليان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 1- أخبر حُمْران مولى عثمان «أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دعا بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاث مرات، ثم مضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم غسل اليسرى مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه غُفر له ما تقدم من ذنبه. قال ابن شهاب: وكان علماؤنا يقولون هذا الوضوء أسبغُ ما يتوضأ به أحدٌ للصلاة» رواه مسلم والبخاري وأحمد. 2- عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري وكانت له صحبة قال «قيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بإناء فاكفأ منها على يديه فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض واستنشق من كفٍّ واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه مسلم والبخاري ومالك وأحمد. وعلى هذين الحديثين مدار البحث إلا قليلاً. ونشرع في تفصيل القول في هذه الأعمال وسَوْقِ بقية الأدلة، والمرور بخلافات الأئمة بنداً بنداً، فنقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 1ـ النِّيَّة: معناها القصد يقال: نوى فلان السفر أي قصده، والنية شرط من شروط الطهارة للأحداث كلها، بحيث لا يصح وضوء ولا غسل إلا بها، وممن أوجب النية عليٌّ وربيعة ومالك والشافعي والليث وإسحق وابن المنذر وأحمد وابن قُدامة، ودليلهم حديث عمر رضي الله عنه «إنما الأعمال بالنية» رواه الشيخان وأحمد والنَّسائي. وفي رواية «إنما الأعمال بالنيات» رواها البخاري وأحمد والنَّسائي والترمذي. والوضوء عمل فلا بد له من نية. وخالفهم الثوري وأصحاب الرأي، ودليلهم قوله تعالى {يا أيُّها الذين آمنوا إذا قُمتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدَيَكُمْ إلى المَرَافِقِ وامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ وأَرْجُلَكُم إلى الكَعْبَيْن} الآية 6 من سورة المائدة. فقالوا: إن الآية ذكرت الفروض في الوضوء ولم تذكر النية، ولو كانت النية شرطاً لذكرتها. والرد عليهم هو أن النية جاءت في الأحاديث ولم تأت في الآية، وهذا جائز ومعلوم عند الأصوليين، وهذا القدر كاف للرد. والنية محلها القلب فلا يجب التلفظ بها وإنما يجب استحضارها في القلب، فلو تلفظ بها المسلم ولم يستحضرها قلبه لم تنعقد، ولو تلفظ بألفاظ النية إلا أنَّه أخطأ فقال غير ما يريده ويقصده وكانت النية منعقدة في القلب فإنه لا يضيره خطأ اللفظ. وإذن فاللفظ ما دام غير مطلوب فإنه لا لزوم له، وما يفعله الناس من التلفظ إنما هو عادة اعتادوها وألزموا بها أنفسهم دون سند شرعي أو دليل، وكل ما قاله بعض الفقهاء من التلفظ بالنية إنما قصدوا به إعانةَ القلب على استحضارها لا غير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وصفة نية الوضوء هي أن يقصد الوضوء الشرعي، أو يقصد رفع الحدث الأصغر، أو يقصد التَّطهُّر لاستباحة الصلاة والطواف ومسِّ المصحف، أو يقصد إزالة المانع من فعل الصلاة فأية صيغة أو صفة من هذه الصفات تجزيء، ولا يجب جمع صفتين أو أكثر معاً للوضوء الواحد فلو نوى بقلبه أن يتوضأ، أو نوى رفع الحدث الأصغر، أو نوى التطهر للصلاة، أو نوى إزالة المانع من الصلاة كفاه ذلك. ويُشترط في النية استصحابُها طيلة فترة قيامه بأعمال الوضوء، إلا أن ذلك لا يعني دوام أن تبقى ماثلةً في الذهن، وإنما يعني عدم قطعها في أثناء الوضوء. فلو أنه نوى عند بدء الوضوء التطهر لاستباحة الصلاة، ثم في أثناء غسل الأعضاء قلب نيته وجعل الغسل للتبرد والنظافة، فإن وضوءه يبطل لأنه بذلك قطع النية، أما إن لم يقطعها اعتُبرت نيَّتُهُ مستمرة طيلة الفعل. أما وقت النية فهو قبل بدء الوضوء ولو بلحظة، وإن نوى قبل سُنَّة من سُنن الوضوء الأولى دخلت السُّنَّة في الوضوء، وإن نوى بعد سُنَّة الوضوء الأولى وقبل الفروض صح وضوؤه وخرجت السُّنَّة الأولى من الوضوء. فما يؤديه المسلم من سنن قبل النية يخرج من الوضوء، وما يؤدِّيه من سنن بعد النية يدخل فيه، أما إن نوى عقب فرض من الفروض، كأن نوى عقب غسل الوجه خرج غسل الوجه من الوضوء، وحيث أنه فرض فإن الوضوء حينئذ يبطُل، ولا يُجبر بإعادة غسل الوجه، بل لا بد من إعادة الوضوء من جديد، وإذا غسل الوجه وبدأ بغسل اليدين مثلاً ثم شك في النية هل عقدها أم لا أعاد الوضوء من أوله وجوباً، لأن الوضوء باطل. 2ـ التسمية : أي قول (بسم الله) وقتها عقب استحضار النية وقبل الشروع في الفعل. وقد ذهب إلى وجوب التسمية أهل الظاهر وإسحق بن راهُويه والحسن. وذهب إلى أنها سُنَّة الشافعية والحنفية ومالك وربيعة وأحمد والثوري وأبو عبيد. وقد وردت في التسمية للوضوء الأحاديث التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 أ- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي. ب- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يا أبا هريرة إذا توضأت فقل بسم الله والحمدُ لله، فإنَّ حفَظَتَكَ لا تبرحُ تكتب لك الحسنات حتى تُحْدِث من ذلك الوضوءِ» رواه الطبراني. ج - عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من توضأ فذكر اسم الله على وضوئه كان طهوراً لجسده، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله على وضوئه كان طهوراً لأعضائه» رواه الدارقطني والبيهقي. وروياه أيضاً من طريق أبي هريرة وعبد الله بن مسعود. د- عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بدأ بالوضوء سمَّى» رواه البزَّار. هـ- عن أنس قال «نظر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَضوءاً فلم يجدوه، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ها هنا، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضع يده في الإناء الذي فيه الماء ثم قال: توضأوا بسم الله، قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، والقوم يتوضأون حتى توضأوا عن آخرهم ... » رواه البيهقي. وقد رُويت أحاديثُ أخرى عديدة اكتفينا بإيراد هذه عنها. وقد اختلف علماء الحديث في رد هذه الأحاديث وإثباتها، فمنهم مَن ردها كلها ومنهم من أثبت شيئاً منها. فمثلاً قال أحمد: ليس في هذا الباب شيءٌ يثبت. وقال: لا أعلم في التسمية حديثاً صحيحاً. وقال العقيلي: الأسانيد في هذا الباب فيها لين. وبالمقابل قال أبو بكر بن أبي شيبة: ثبت لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله. وقال ابن سيد الناس: لا يخلو هذا الباب من حسن صريح وصحيح غير صريح. وقال ابن حجر (والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلاً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 والذي أريد قوله هو أن التسمية عند الوضوء ليست بحاجة إلى دليل حتى نُكثر أحاديثها ونغرق في الخلافات فيها، فالتسمية عند كل أمر ذي بال سُنَّة، نسمي الله عند الأكل وعند الزرع وعند الذبح وعند بدء الكلام، وما إلى ذلك من الأعمال، فلماذا لا نسمي الله عند الوضوء؟ أجل كان بإمكان الفقهاء أن يتفقوا على أن التسمية سُنَّة عند الوضوء كغيره من الأعمال، ثم إن وجدوا حديثاً صحيحاً أو حسناً ذكروه، وإن لم يجدوا ظلوا يقولون باستحباب التسمية. فالتسمية للوضوء كالتسمية لكل أمر ذي بال بديهية من بديهيات الإسلام. وعلى أية حال فإن كان لا بد من مناقشة الأحاديث الستة الواردة فإني أقول بإيجاز: أما الحديث الأول فقد رُوي من طريق يعقوب بن سلمة عن أبيه عن أبي هريرة، قال البخاري (لا يُعرف له سماع من أبيه، ولا لأبيه من أبي هريرة) فهو إذن منقطع بل مُعْضَل فيترك. ورواه أحمد وابن ماجة من طريق ربيح بن عبد الرحمن، قال البخاري عنه (إنَّه منكر الحديث) وقال أحمد: إنه مجهول هو وأبوه. والحديث الثاني قال عنه الهيثمي (إِسناده حسن) والحديث الثالث فيه عبد الله بن حكيم وهو أيضاً متروك ومنسوب إلى الوضع فيترك الحديث. والحديث الرابع فيه حارثة قال البزَّار (ليِّن الحديث) وقال ابن حجر (ضعيف) فيترك. والحديث الخامس قال البيهقي عنه (هذا أصحُّ ما في التسمية) وهكذا فقد وجدنا حديثين صالحين للاستدلال هنا هما الحديث الثاني والحديث الخامس، وهما يفيدان أن التسمية للوضوء سُنَّة. ولا يصح رأي من أوجب التسمية لأن حديثهم الأول الذي استشهدوا به ضعيف لا يصح. فالتسمية للوضوء ولغيره سنة، وهذا ما سار عليه الصحابة وسائر المسلمين من افتتاح كل أمر من الأمور بالبسملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 3 ـ غسل الكفين : أي غسل الكفين قبل المضمضة - وهو سُنَّة لما روى أوس بن حُذيفة الثقفي قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ واسْتَوْكفَ ثلاثاً، أي غسل كفيه» رواه أحمد والنَّسائي وإسناده جيد. ولما روى حُمْران مولى عثمان، وقد مرَّ « ... فغسل كفيه ثلاث مرات ... » . ولما روى عبد الله الأنصاري وقد مرَّ أيضاً « ... فأكفأ منها على يديه فغسلهما ثلاثاً ... » . والدليل على أن هذه الأحاديث تفيد الندب وليس الوجوب قوله سبحانه {إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وجُوْهَكُم} فبدأ بغسل الوجوه ولم يطلب غسل الكفين، أي أن الآية الكريمة لم تُدخل غسل الكفين في الوضوء المُجْزِيء فدل ذلك على عدم الوجوب. وقد ذهب إلى هذا الرأي أبو حنيفة ومالك والشافعي وعطاء وإسحق وابن المنذر وابن قدامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 أمّا ما درج عليه الفقهاء من الاستدلال على غسل الكفين في الوضوء بالحديث الذي رواه مسلم والبخاري وأهل السنن من طريق أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال «إذا استيقظ أحدكم من نومه - وفي رواية للترمذي وابن ماجة من الليل - فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنَّه لا يدري أين باتت يده» - إلا أن البخاري لم يذكر العدد- وما نتج عن هذا الاستدلال من اختلافهم في حكم غسل الكفين في الوضوء، فذهب مَن ذكرناهم إلى أنه سُنَّة لأن تعليل غسل اليدين في الحديث بوهم النجاسة يخرجه عن الوجوب إلى الندب. وذهب أحمد وابن عمر وأبو هريرة والحسن البصري فيما رُوي عنهم إلى أنه واجب مستدلين بهذا الحديث، لأن الأمر عندهم يقتضي الوجوب والنهي يقتضي التحريم، والحديث فيه نهيٌ عن غمس اليدين في الماء قبل أن يغسلهما ثلاثاً، وإذن فغسل الكفين في الوضوء واجب، فإنهم جميعاً جانبوا الصواب، لأن الصحيح هو أن هذا الحديث لا يصلح للاستدلال على الموضوع أصلاً، لأنه لم يجيء في موضوع الوضوء، ولذا فإن اختلافهم في هذا الأمر هو في غير محله. فالحديث هو في موضوع الاستيقاظ من النوم، فإنَّ ألفاظ الحديث صريحة في ذلك ولم يأت الحديث على ذكر الوضوء، ولذا يجب استبعاد هذا الحديث من الاستدلال على موضوعنا والاقتصار على الأحاديث السابقة الكافية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 أما ما رواه الشافعي «فلْيغسل يده قبل أن يُدخلها في وَضوئه» وابن ماجة «فلا يُدخل يده في وَضوئه حتى يغسلها» فإنه لا يغير من الأمر شيئاً، ولا ينقل الحديث إلى موضوع الوضوء، فهذا اللفظ يدل على أن على المسلم أن يغسل كفيه حين الاستيقاظ، وأنَّ غُسلهما يكون قبل البدء بالوضوء. وبمعنى آخر فإن من أراد الوضوء وغمس يديه في الماء المعد له عليه أن يكون قد غسل كفيه قبل ذلك، فلفظة (وضوء) في هذا الحديث ليست صارفة له عن غسل الاستيقاظ إلى غسل الوضوء. فغسل الكفين أو اليدين في هذا الحديث غير غسل الكفين الوارد في أحاديث الوضوء السابقة، فهذا الغسل شيء، وذاك شيء آخر. ولسنا نريد الخوض في خضمِّ اختلافات الفقهاء واستنباطاتهم من هذا الحديث من مثل أنه عبادة تفتقر إلى نية، أو أنه تنظيف من وهم النجاسة لا يحتاج إلى نية، وهل الحديث في نوم الليل فحسب فيقتصر عليه، أم هو عام في كل نوم؟ وهل من يغمس يده في الماء قبل الغسل ينجسه أم لا؟ إلى غير ذلك مما اختلف الفقهاء فيه، فهذا كله لا يلزمنا. وإذا كان لا بد من كلمة في الموضوع فإنَّا نقول إن الحديث يحث على غسل الكفين عند الاستيقاظ من النوم أيِّ نوم، لا فرق بين نوم الليل ونوم النهار وإن من يغمس يده في الإناء لا ينجِّس الماء ولا يأثم. فالعلة «فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» عامة في كل نوم، وهي تعليل بوهم النجاسة وليست تعليلاً بتحقُّق النجاسة، والأصل في الشيء أنه طاهر ولا يحكم عليه بالنجاسة إلا بالتحقق واليقين، ولا يقين هنا. 4 ـ المضمضة : المضمضة لغة: تحريك الماء في الفم، قاله صاحب القاموس. وهو معناها الشرعي. فالتحريك في اللغة شرط فيها، فيظهر من ذلك خطأ ما عليه الجمهور من عدم اشتراط إدارة الماء في الفم. ودليل المضمضة في الوضوء حديث حُمْران « ... ثم مضمض ... » وحديث عبد الله بن زيد الأنصاري « ... فمضمض ... » وقد مرَّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وقد اختلف الأئمة والفقهاء في حكم المضمضة في الوضوء، فذهب أحمد وإسحق وأبو عبيد ومجاهد وأبو ثور وابن المنذر والشوكاني إلى وجوب المضمضة، وقالوا إن المضمضة من تمام غسل الوجه، فالأمر بغسله هو أمر بها، وإن حديث لقيط بن صَبَرة الذي رواه أبو داود والبيهقي بإسناد صححه ابن حجر والنووي فيه «إذا توضأت فمَضْمِض» يأمر بالمضمضة، والأمر يفيد الوجوب. وذهب مالك والشافعي والأوزاعي والليث والحسن والزهري وعطاء إلى أن المضمضة في الوضوء سُنَّة. وهؤلاء استدلوا على رأيهم بما يلي: 1- حديث «عشر من الفطرة» وجاء فيه « ... إلا أن تكون المضمضة» وقد مرَّ في فصل سُنن الفطرة بتمامه. 2- عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «المضمضة والاستنشاق سنة» رواه الدارقطني. 3- ليس في آيات القرآن الكريم ذكرٌ للمضمضة، ولو كانت واجبة لذُكرت. والذي يترجح لديَّ أن المضمضة سنة وليست فرضاً، وأن الحديث الذي استدل به من قالوا بالوجوب يُصرف إلى الندب، لأنه أمرٌ في غير الوضوء المجزيء. ونحن لا نُسلِّم لهم بأن الأمر يفيد الوجوب، والأصح أن يقال إن الأمر يفيد مجرد الطلب، والقرينة هي التي تعين المراد منه، وهنا القرينة تصرفه إلى الندب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 أما قولهم (إن المضمضة من تمام غسل الوجه، فالأمر بغسله هو أمرٌ بها) فلا نسلم لهم فيه هو الآخر، ذلك أن الوجه يطلق على ما يظهر دون ما يخفى، فوجه الشيء ظاهره الأمامي ومنه المواجهة والواجهة. فداخل الفم ليس من الوجه، أرأيت لو حصل جرح في داخل الفم أيصح لغة أن يقال إن الجرح في الوجه؟ أيصح لغةً أن يقال إن الأسنان تنبت في الوجه؟ إن الأمر بغسل الوجه ينسحب على غسل الوجنتين والشفتين والحاجبين والجبهة والذقن والأنف الخارجي وما يظهر فحسب، ولا ينسحب على غسل الأسنان واللسان وتجويفي الأنف، ولو كانت المضمضة جزءاً من غسل الوجه لما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها في العديد من الأحاديث، ولاكتفى بالأمر بغسل الوجه. فمثلاً لم يُرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه أمر بغسل الشفتين أو غسل الحاجبين، فدل كل ذلك على أن داخل الفم له حكم مستقل، وأنه أمر مستقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وأيضاً فإن الحديث الآتي يدل على أن داخل الفم وداخل الأنف ليسا من الوجه، عن عمر بن عبسة قال « ... قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء، قال: ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرَّت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر، ثم يغسل وجهه كما أمره الله تعالى إلا خرجت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ... » رواه أحمد. فهذا الحديث فرَّق بين المضمضة والاستنشاق وبين غسل الوجه، ودلالته واضحة. وأيضاً حديث عبد الله الصُنَابِحي عند النَّسائي وأحمد ومالك وابن ماجة، وقد مر بتمامه في بحث فضل الوضوء، وفيه «إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه ... » ودلالته واضحة كذلك. وبذلك يظهر خطأ القول إن الأمر بغسل الوجه هو أمرٌ بالمضمضة. على أن أدلة القائلين بأن المضمضة سُنَّة هي أيضاً ليست بذاك وإن كان رأيهم صحيحاً، فحديث عشر من الفطرة، وذِكرُ المضمضةِ فيه لا يصلح للاستدلال هنا، لأن الحديث لم يأت في موضوع الوضوء، وكل ما جاء فيه يجب فصله عن الوضوء، فالمضمضة الواردة في الحديث هي من الفطرة كنتف الإبط وحلق الحانة، فهي صنف من أصناف التنظيف، وما جرت عليه عادة المرسَلين والناس سابقاً ولاحقاً لأنها من جِبِلَّة البشر، وهي ليست مضمضة وضوء ولا مضمضة عبادة. وأما حديث ابن عباس «المضمضة والاستنشاق سُنَّة» ففيه إسماعيل بن مسلم ضعيف قاله الدارقطني. وضعفه ابن حجر. فليس يبقى لهم سوى الآية كدليل صالح للاحتجاج والدلالة وهي كافية. فالمضمضة سُنَّة، والوضوء دونها مُجزئ، ولا إعادة على تاركها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 قال الطبري (الوجه الذي أمر الله جلَّ ذكره بغسله القائم إلى صلاته كل ما انحدر عن منابت شعر الرأس إلى منقطع الذقن طولاً، وما بين الأذنين عرضاً مما هو ظاهر لعين الناظر دون ما بطن من الفم والأنف والعين، ودون ما غطَّاه شعر اللحية والعارضين والشاربين فستره عن أبصار الناظرين ودون الأذنين، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب وإن كان ما تحت شعر اللحية والشاربين قد كان وجهاً يجب غسله قبل نبات الشعر الساتر عن أعين الناظرين على القائم إلى صلاته) . أما أخذُ الماء للمضمضة فإن المسلم بالخيار بين المضمضة ثلاثاً من غرفة واحدة وبينها ثلاثاً من غرفات ثلاث، فحديث عبد الله بن زيد ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلاثاً، وفي لفظ للشيخين « ... ثم أدخل يده في التَّوْر فمضمض واستنشق واستنثر بثلاث غرفات ... » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ويسن الابتداء بالمضمضة ثم بالاستنشاق قبل غسل الوجه، لأن جميع الأحاديث الصحيحة وردت به. وأما ما ورد من أحاديث خلاف ذلك مثل ما رواه المقدام بن معد يكرب قال «أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وغسل رجليه ثلاثاً» رواه أحمد وأبوداود والطحاوي. وما رواه عبد الله بن محمد بن عقيل عن الرُّبيِّع بنت معوّذ بن عفراء قال «فأتيتها فأخرجت إليَّ إناءً فقالت: في هذا كنت أُخرج الوضوء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيبدأ فيغسل يديه قبل أن يدخلهما ثلاثاً، ثم يتوضأ فيغسل وجه ثلاثاً، ثم يمضمض ويستنشق ثلاثاً، ثم يغسل يديه، ثم يمسح برأسه مقبلاً ومدبراً، ثم يغسل رجليه» رواه الدراقطني. فهذان الحديثان يخالفان جميع الأحاديث الصحيحة الواردة في وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيتركان ويُعمَل بالأحاديث الصحيحة، هذا فضلاً عن أن حديث الدارقطني الذي رواه أيضاً أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد جميع طرقه مدارها على عبد الله بن محمد بن عقيل وفيه مقال، فالحديث لا يصلح للاستدلال هنا. والأحاديث الصحيحة تقول: 1- عن عثمان بن عفان رضي الله عنه «أنه دعا بوضوء فتوضأ، فغسل كفيه ثلاثَ مرات، ثم مضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمنى ... وقال - أي عثمان - رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وُضوئي هذا» رواه مسلم والبخاري وأحمد. وقد مرَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 2- عن عبد الله الأنصاري قال «قيل له توضأ لنا وُضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بإناء فأكفأ منها على يديه فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض واستنشق من كفٍّ واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثاً ... ثم قال - أي عبد الله - هكذا كان وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه مسلم. وقد مرَّ. 3- عن ابن عباس رضي الله عنه «أنه توضأ فغسل وجهه، أخذ غَرفةً من ماء فمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غَرفةً من ماء فجعل بها هكذا، أضافها إلى يده الأخرى فغسل بهما وجهه ثم أخذ غَرفةً من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غَرفةً من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه، ثم أخذ غَرفةً من ماء فرشَّ على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غَرفةً أخرى فغسل بها رجله - يعني اليسرى - ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ» رواه البخاري. وفي هذا الحديث إشكال، إذ ورد فيه غسل الوجه مرتين، ولولا أنه أعاد غسل الوجه مرة ثانية بغَرفة مستقلة لأمكن القول إن المضمضة والاستنشاق هما من غسل الوجه، ولكان ذلك داعماً للرأي القائل بوجوب المضمضة والاستنشاق، فإعادة ذِكر الوجه قد نفت هذا الاحتمال. وعلى أيَّة حال فإن الأشبه أن يُروى الحديث بوضع لفظة (كفَّيْه) بدل (وجهه) في المرة الأولى فيزول الإشكال، ويتفق مع سائر الأحاديث. وفي هذا الحديث يذكر ابن عباس أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ كما توضأ. 4- عن أبي حيَّة قال «رأيت علياً توضأ فغسل كفيه حتى أنقاهما، ثم مضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه مرة، ثم غسل قدميه إلى الكعبين ثم قام، فأخذ فضل طهوره فشربه وهو قائم ثم قال: أحببتُ أن أُريَكم كيف كان طُهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه الترمذي وقال (حسن صحيح) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الحديث الأول فيه شهادة عثمان، والثاني فيه شهادة عبد الله الأنصاري، وفي الثالث شهادة ابن عباس، والرابع حمل شهادة علي، وهؤلاء كبار الصحابة يروون ويشهدون أن المضمضة والاستنشاق هما قبل غسل الوجه في وضوء الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف نترك هذه الأحاديث التي هي في قمة الصحة وحوت شهادات أربعة من كبار الصحابة لحديث أحمد السابق، وحديث الدارقطني الضعيف؟. 5- التَّسوُّك: يُسن التَّسَوُّك في الوضوء لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتهم بالسِّواك مع الوضوء» رواه أحمد ومالك وأبو داود وابن ماجة وابن حِبَّان. ويكفي فيه إمرار الأصابع على الأسنان لما رُوي عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «تُجْزِيء من السواك الأصابع» رواه البيهقي من عدة طرق. ورواه الدارقطني. وقال فيه ابن حجر (لا أرى بسنده بأساً) ولما روى أحمد عن أبي مطر يذكر وضوء عليٍّ رضي الله عنه، وفي الحديث « ... وتمضمض ثلاثاً فأدخل بعض أصابعه في فيه واستنشق ثلاثاً ... فقال ... كذا كان وضوء نبي الله - صلى الله عليه وسلم -» وقد مرَّا. 6- الاستنشاق والاستنثار: الاستنشاق إدخال الماء في الأنف، والاستنثار إخراج الماء منه. وقد يطلق الاستنثار فيعم الاستنشاق أيضاً، فيكون الاستنثار إدخال الماء في الأنف وإخراجه منه، فالاستنثار أعم من الاستنشاق، وقد وردت الأحاديث بكل منهما. والأدلة على الاستنثار هي الأدلة التي أوردناها في بحث المضمضة نفسها، وأيضاً: أ- عن عليٍّ رضي الله عنه «أنَّه دعا بوَضوء، فتمضمض واستنشق، ونثر بيده اليسرى ففعل هذا ثلاثاً ثم قال: هذا طُهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه النَّسائي وأحمد. ورجاله ثقات. ب- عن أبي هريرة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال « ... وإذا توضأ أحدكم فلْيجعل في أنفه ماء ثم لِينتثر» رواه مسلم وأحمد والبخاري وأبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 ج - عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثاً» رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم، وصححه ابن القطان. ومع التفريق بين الاستنشاق والاستنثار نقول: إن السُّنَّة قد مضت في الاستنشاق باليمين والاستنثار بالشمال، لحديث عليٍّ الأول وفيه «فتمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى» وهذا اللفظ يدل على أنه تمضمض بيده اليمنى ونثر بيده اليسرى. والسُّنَّة في الاستنشاق الإبلاغ فيه إلا أن يكون المتوضيء صائماً، فيُسَنُّ له عدم الإبلاغ، لما روى لقيط ابن صبرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال « ... وبالِغْ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» رواه أبو داود وابن ماجة، وصححه ابن حجر. 7- غسل الوجه: هو الفرض الثاني من فروض الوضوء بعد النية. دليله الآية {فاغْسِلُوا وجوهَكم} والوجه الواجب غسله هو ما انحدر من منابت شعر الرأس إلى ما انتهى في أسفل الذقن طولاً، وما بين الأذنين عرضاً مما يظهر دون ما يخفى، فيخرج ما غطاه شعرُ اللحية والشاربان الكثيفان وباطن الفم والأنف، ولا اعتبار للأصلع أو الأقرع أو الأفرع. فالأصلع - وهو من انحسر شعر رأسه عن مُقدَّم رأسه -، والأقرع - وهو من سقط شعر رأسه لآفةٍ ومرض - والأفرع - وهو من نزل شعر رأسه على جبينه -، كلُّ هؤلاء يغسلون الوجه على غالب الناس. فالأصلع والأقرع يغسلان من منبت شعر الرأس قبل سقوطه أو انحساره، والأفرع يغسل الشعر النابت على الجبهة. هذا من حيث الوجوبُ والإجزاءُ، إلا أنَّ المستحب غسل الشعر المجاور للجبهة لدلالة حديث أبي هريرة المار الذي رواه مسلم وجاء فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 « ... أنتم الغُرُّ المُحَجَّلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فلْيُطِل غُرَّته وتحجيله» والمعلوم أن الغُرَّة هي شعر الرأس المجاور للجبهة، وأن إطالة الغُرَّة في الوضوء إنما تكون بغسل شيء من مُقَدَّم الرأس أو ما يجاوز الوجه زائداً على الجزء الذي يجب غسله، فكون غسل شيء يزيد على الوجه من أعلاه يزيد في طول الغرَّة فهو داخل تحت طلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم «فلْيُطِل غُرَّته» وحيث أن الطلب هو فيما هو خارج عن محل الفرض فهو دال على أن زيادة الغسل وإطالة الغُرَّة مندوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ومن السُنَّة تعاهدُ المأْقين، لما رُوي عن أبي أُمامة أنَّه وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومما جاء في الحديث « ... وكان يمسح المأْقين من العين ... » رواه أحمد وابن ماجة. وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني هذا الحديث ولم يرمه بضعف ولا علَّة، ورواه أيضاً الطبراني في المعجم الكبير وإسناده حسن، ذكر ذلك الهيثمي. والمأقان - مثنى مُؤق العين - هو مجرى الدمع منها أو مُقدَّمها أو مُؤخَّرها. قاله صاحب القاموس، والجمع آماق. وقال الأزهري: أجمع أهل اللغة على أن المُؤق والمأق مؤخر العين الذي يلي الأنف. فيُندب للمسلم أن ينظف أطراف عينيه حين الوضوء. ولا يجب ولا حتى يندب مسح أو غسل الأذنين مع غسل الوجه خلافاً لمن قال ذلك، وحجة هؤلاء الحديث الذي رواه ابن عباس أن علياً رضي الله عنه قال «يا ابن عباس ألا أتوضأ لك وضوءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: بلى فداك أبي وأمي، قال: فوضع له إناء فغسل يديه ثم مضمض واستنشق واستنثر، ثم أخذ بيديه فصكَّ بهما وجهه، وأَلْقَمَ إبهاميه ما أقبل من أذنيه، قال: ثم عاد في مثل ذلك ثلاثاً، ثم أخذ كفاً من ماء بيده اليمنى فأفرغها على ناصيته، ثم أرسلها تسيل على وجهه، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً، ثم يده الأخرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه وأذنيه من ظهورهما، ثم أخذ بكفيه من الماء فصكَّ بهما على قدميه وفيهما النعل ثم قلبها بها، ثم على الرِّجل الأخرى مثل ذلك، قال: فقلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين. قلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين قلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين» رواه أحمد. ورواه أبو داود بمعناه، ورواه ابن حِبَّان مختصراً. فهذا الحديث قال عنه المنذري: في هذا الحديث مقال. وقال الترمذي (سألت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - عنه فضعَّفه وقال: ما أدري ما هذا) فالحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج. ثم إن متن هذا الحديث مخالف لما جاء في الأحاديث الصحيحة، فكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 الحديث يذكر أن علياً غسل وجهه ثلاثاً ثم زاد بأن أخذ كفاً بيده اليمنى فأفرغها على ناصيته، ثم أرسلها تسيل على وجهه - وهذه غسلة رابعة - فهذا يخالف ما جاء في الأحاديث الصحيحة من عدم الزيادة على ثلاث، ويخالف ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال «جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدَّى وظلم» رواه النَّسائي وابن ماجة وأحمد. ورواه ابن خُزَيمة، وصححه هو وابن حجر. وما جاء في الحديث من مسح النعل فهذا شاذ، قال ابن حجر (إن رواية المسح على النعل شاذة لأنها من طريق هشام بن سعد ولا يحتج بما تفرد به، وأبو داود لم يروها من طريقه، ولكن رواها من طريق محمد بن إسحق عنعنةً وفيه مقال مشهور إذا عنعن) فالحديث لا يصلح للاحتجاج مطلقاً. وعليه فلا يصح القول بغسل الأذنين مع الوجه. بقيت اللحيةُ وأحكامُها في الوضوء: اللحية إمَّا كثيفة تستر البشرة وإما خفيفة تَظْهَر البشرةُ من خلالها، وهي إما طويلة تزيد على الذقن وإما قصيرة تظل ضمن حدود الوجه، ولهذه الحالات الأحكام التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 1ـ إن كانت اللحية كثيفة تستر البشرة فإنها تغسل ولا يغسل ما تحتها، لأن كثافة الشَّعر تقوم مقام الجزء المستور من الوجه فتأخذ حكمه، والدليل على ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنه من حديث أخرجه البخاري - وقد مرَّ في بحث المضمضة - وجاء فيه « ... ثم أخذ غَرفةً من ماء فجعل بها هكذا، أضافها إلى يده الأخرى فغسل بهما وجهه ... » . ووجه الدلالة لهذا الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام وكانت لحيته كَثَّةً - قال القاضي عياض: ورد ذلك في أحاديث جماعة من الصحابة بأسانيد صحيحة. ورُوي عن جابر بن سمرة وصفُه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال « ... وكان كثير شعر اللحية ... » رواه مسلم. وعن علي قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بالطويل ولا بالقصير ضخم الرأس واللحية ... » رواه أحمد. وكثيرٌ غير ذلك ـ قد غسل وجهه ومن ثم لحيته العظيمة الكثة بغَرفة يد واحدة، مما يجعلنا لا نتصور أن يكون قد استوعب بها غسل الوجه وظاهر اللحية وباطنها، ولا بد من أن يكون الغسل للوجه وظاهر اللحية فحسب. وممن قال بذلك أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي والثوري والليث. وخالفهم عطاء وسعيد بن جبير وأبو ثور وإسحق وأهل الظاهر. وحجة هؤلاء هو ما جاء من تخليل اللحية في الأحاديث مثل: عن عثمان رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل لحيته» رواه الترمذي وقال (هذا حديث حسن صحيح) وحسنه البخاري. ومثل: عن أنس «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته وقال: هكذا أمرني ربي عزَّ وجلَّ» رواه أبو داود. وعن هؤلاء أن هذين الحديثين يفيدان وجوب تخليل اللحية، وهذا غير صحيح، ذلك أن الله سبحانه لم يأمر به في كتابه حين أمر بواجبات الوضوء، ثم إن الأحاديث التي ذكرت وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تذكره، ولو كان واجباً لذُكر هنا وهناك، وغاية ما في الحديثين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 أنهما يفيدان استحباب التخليل فحسب. قال الشوكاني (والإنصاف أن أحاديث الباب ـ أي أحاديث التخليل - بعد تسليم انتهاضها للاحتجاج وصلاحيتها للاستدلال لا تدل على الوجوب لأنها أفعال، وما ورد في بعض الروايات من قوله - صلى الله عليه وسلم - «هكذا أمرني ربي» لا يفيد الوجوب على الأمة لظهوره في الاختصاص به، وهو يتخرج على الخلاف المشهور في الأصول، هل يعم الأمة ما كان ظاهر الاختصاص به أم لا؟ والفرائض لا تثبت إلا بيقين، والحكم على ما لم يفرضه الله بالفرضية كالحكم على ما فرضه بعدمها لا شك في ذلك، لأن كل واحد منهما من التَّقوُّل على الله بما لم يقل، ولا شك أن الغَرفة الواحدة لا تكفي كثَّ اللحية لغسل وجهه وتخليل لحيته، ودفع ذلك كما قال بعضهم بالوجدان مكابرة منه. نعم الاحتياط والأخذ بالأوثق لا شك في أولويته، لكن بدون مجاراةٍ على الحكم بالوجوب) . وأُلفت النظر إلى أن قوله (والفرائض لا تثبت إلا بيقين) لا يعني يقين ثبوت الدليل، وإنما يقين دلالة النص. وممن رُوي عنهم أنهم لم يكونوا يخللون لحاهم إبراهيم النخعي والحسن البصري ومحمد بن الحنفية وأبو العالية والشعبي والقاسم وابن أبي ليلى. وأما ما رُوي من أن ابن عباس وابن عمر وأنساً وعلياً وسعيد بن جبير وأبا قُلابة والضحاك وابن سيرين كانوا يخللون لحاهم، فإن ذلك يُحمل على الأخذ بالاستحباب، وهذا مشهور عن هؤلاء وأمثالهم، فضلا عن أن أفعالهم ليست أدلة. 2- أما إن كانت اللحية خفيفة بحيث تَظهر البشرةُ من خلالها فإنها في هذه الحالة تُغسل ويُغسل ما تحتها من البشرة، لأن اللحية في هذه الحالة لم تقم مقام البشرة في المواجهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 3- وإذا كانت اللحية طويلة تزيد على الذقن فالواجب منها في الغسل ما حاذى الوجه دون ما زاد وناف، وهذا رأي أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وهو الصحيح، لأن ما زاد عن الوجه من شعر اللحية خرج من الوجه، وحيث أن اللحية تُغسل لأنها تقوم مقام الجزء المستور بها من الوجه، وحيث أن ما زاد منها عن الوجه لا يستر شيئاً منه، فإن غسله يصبح غير واجب وغير مطلوب وليس في النصوص غسل اللحية لذاتها. 4- ولا خلاف في وجوب غسل اللحية إن كانت قصيرة لا تزيد عن الوجه. 8- غسل اليدين إلى المرفقين: هذا ثالث فرضٍ من فروض الوضوء. وأدلته كثيرة كثرةَ الأحاديث التي ذكرت صفة الوضوء، وقد مرَّ العديد منها، إضافةً إلى أن آية الوضوء ذكرته {وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ} والمرفق فيه وجهان: كسر الميم وفتح الفاء وفتح الميم وكسر الفاء. وقد اختلف العلماء في حكم غسل المرفقين، فذهب زُفَر وابن جرير الطبري وداود إلى أن غسل المرفقين غير واجب عند غسل اليدين. وذهب جمهور العلماء إلى وجوب غسل المرفقين. قال زُفَر: إنما أوجب الله بقوله {وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ} غسل اليدين إلى المرفقين، فالمرفقان غايةٌ لما أوجب الله غسله من آخر اليد، والغاية غير داخلة في الحد، كما الليل غير داخل فيما أوجب الله تعالى على عباده من الصوم بقوله {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلى الليلِ} لأن الليل غايةٌ لصوم الصائم إذا بلغه فقد قضى ما عليه، فكذلك المرافق في قوله {فاغْسِلُوا وجوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ} غاية لما أوجب الله غسله من اليد. انتهى قوله. وقال الطبري (فأما المرفقان وما وراءهما فإن غسل ذلك من الندب الذي ندب إليه - صلى الله عليه وسلم - أمته بقوله أمتي الغُرُّ المُحجَّلون من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يُطيل غُرَّتَه فلْيفعل، فلا تفسد صلاة تارك غسلهما وغسل ما وراءهما لما قد بينا فيما مضى من أن كل غاية حُدَّتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 بـ[إلى] فقد تحتمل من كلام العرب دخول الغاية في الحد وخروجها منه، وإذا احتمل الكلام ذلك لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيه إلا لمن لا يجوِّز خلافه فيما بيَّن وحكم، ولا حكم بأن المرافق داخلة فيما يجب غسله عندنا ممن يجب التسليم بحكمه) . فزُفَر والطبري قالا بعدم وجوب غسل المرفقين، وشاركهما داود الرأيَ، والحجة في ذلك عند زُفَر غيرها عند الطبري، فزُفَر أخذ حرف [إلى] على أن ما بعده غير داخل فيما قبله، بمعنى عدم دخول الغاية في المُغَيَّى، أي أن الآية الكريمة التي تقول {وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ} أخرجت المرافق من الطلب، لأن المرافق غاية وهي خارجة عن الطلب، فيكون معنى الآية عنده اغسلوا أيديكم حتى تَصِلوا أوائلَ المرافق، وشبه ذلك بآية {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إلى الليلِ} ، فالليل غاية وهي خارجة عن طلب الصوم كما هو معلوم. أما الطبري فقد جعل لحرف [إلى] معنيين أحدهما أن إلى بمعنى مع، كالآية التي تقول {ولا تأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} أي مع أموالكم، وكالآية القائلة {مَنْ أَنْصَارِي إلى الله} أي مع الله. والثاني أن [إلى] يخرج ما بعدها عما قبلها، وهذا الأخير هو رأي زُفَر السابق. وبعد أن ذكر الطبري أن [إلى] تفيد المعنيين لغةً قال إن الكلام صار محتملاً، وما دام ذلك كذلك فإنه لا يجوز لأحد أن يقضي بأحد المعنيين دون الآخر إلا الشرع نفسه، ولا شرع في التعيين، فيسقط عنده القول بالوجوب، ويبقى الندب الوارد بحديث الغُرِّ المُحجَّلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 أما أصحاب الرأي الآخر فاستدلوا على دعواهم بوجوب غسل المرفقين بحديث نعيم ابن عبد الله الذي أخرجه مسلم وقد مرَّ، وفيه «ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد» . والإشراع في العضد يفيد قطعاً غسل المرفقين، وهذا عندهم بيان من الرسول عليه الصلاة والسلام بتعيين أحد المعنيين اللغويين لحرف إلى، وهو أن إلى بمعنى مع. واستدلوا أيضاً بحديث عثمان رضي الله عنه قال «هلموا أتوضأ لكم وُضوءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين حتى مسَّ أطراف العضدين، ثم مسح برأسه، ثم أمَرَّ يديه على أذنيه ولحيته، ثم غسل رجليه» رواه الدارقطني. وبحديث جابر رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه» رواه الدارقطني. قال إسحق ابن راهُويه: [إلى] في الآية يحتمل أن تكون بمعنى الغاية وأن تكون بمعنى [مع] ، فبيَّنت السُّنَّة أنها بمعنى [مع] . ورداً على أصحاب الرأيين أقول ما يلي: إن حرف [إلى] يفيد انتهاء الغاية ويفيد معنى [مع] فتحديد زُفَر أحد هذين المعنيين مستدلاً بآية الصوم تحديدٌ منقوضٌ بآية {ولا تَأْكُلُوا أِمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} وبآية {مَنْ أَنْصَارِي إلى الله} وقد رد الطبري عليه تحديده رغم أنه يخلص إلى رأيه نفسه، فبيَّن أنَّ حرف [إلى] في آية {وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ} يحتمل المعنيين، فيسقط استدلال زُفَر. أما استدلال الطبري فهو لا شك أعدل وأنصف من استدلال سابقه، وهذا الاستدلال يرد بالإتيان بإثبات أن حرف [إلى] في الآية يفيد أحد المعنيين وإلا ظلَّ صحيحاً، وسوف أؤخر الرد على هذا الاستدلال إلى ما بعد الرد على أصحاب الرأي المخالف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 أما قول الشافعي من أنه لا يعلم خلافاً، فإني أوردت أسماء ثلاثة من كبار الأئمة خالفوه الرأي، وأما قول إسحق إن السُّنَّة بينت أن [إلى] معناها [مع] فدعوى تحتاج إلى إثبات، وهذه الدعوى قد استدلوا عليها بحديث نعيم بن عبد الله الذي أخرجه مسلم «حتى أشرع في العَضُد» . والحق أن هذا الحديث لا يفيدهم في إثبات دعواهم، لأن غاية ما فيه أنه ندب وليس وجوباً، فالحديث يقول «فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضُد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العَضُد، ثم مسح رأسه ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق ... إلى أن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتم الغُرُّ المُحجَّلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فلْيُطِل غُرَّته وتحجيله» فقد بدأ الحديث بقوله «فأسبغ الوضوء» وعقِب ذلك شرع في ذكر كيفية الإسباغ، فذكر الشروع في غسل العضد عند غسل اليدين، والشروع في غسل الساق عند غسل الرجلين، مشيراً إلى أن هذا الشروع هو الإسباغ، وعقب ذلك بين الرسول عليه الصلاة والسلام أن هذا الإسباغ يؤدي إلى زيادة الغرة وزيادة التحجيل، ثم عطف على ذلك بقوله «فمن استطاع منكم فلْيُطِل غُرَّتَه وتحجيله» وهذا القول يفيد استحباب إطالة الغُرَّة والتحجيل، لأنه لم يعزم عليه، وإذن فالشروع في العضد والشروع في الساق مندوبان غير واجبين. وما دام الحديث يتحدث عن الإسباغ المندوب فإن ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام من غسل العضد والمرفق إنما هو أخذٌ بالاستحباب فحسب، فلا يصلح الحديث هذا دليلاً يسند دعواهم على وجوب غسل المرفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 أما حديث عثمان رضي الله عنه الذي رواه الدارقطني فلا يصلح للاحتجاج، لأن راويه محمد بن إسحق، وقد عنعن، وإذا عنعن ابن إسحق ضُعِّف حديثُه، فالإسناد ضعيف. ثم إنَّ متن الحديث قد شذ عن الأحاديث الصحيحة المعتبرة، فهذا الحديث يذكر غسل اللحية عقب مسح الرأس ومسح الأذنين، في حين أن الأحاديث الصحيحة تذكر غسل اللحية مع غسل الوجه، فالحديث ضعيف الإسناد، شاذ المتن لا يصلح للاحتجاج. أما حديث جابر الذي رواه الدارقطني فهو أيضاً ضعيف، لأن مداره على القاسم بن محمد بن عبد الله. قال أبو حاتم: متروك. وقال أبو زُرْعة: أحاديثه منكرة. وقال أحمد: ليس بشيء. وضعفه ابن معين والمنذري وابن الجَوْزي وابن الصَّلاح والنووي، ولم يوثِّقه غير ابن حِبَّان، ولا يُلتفت لتوثيقه مع تضعيف الأئمة له تضعيفاً شديداً بحيث وصفوه بأنه متروك ومنكر. وبذلك يسقط قول إسحق بن راهُويه: فبيَّنت السنة أنها بمعنى [مع] . قال الزمخشري وأصاب (لفظ [إلى] يفيد معنى الغاية مطلقاً، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمرٌ يدور مع الدليل) إلى أن قال (وقوله تعالى إلى المرافق لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ العلماء بالأحوط، ووقف زُفَر مع المتيقَّن) . والخلاصة هي أنَّ قول الجمهور بأن غسل المرفق كله واجب استناداً إلى الأحاديث غير صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 أما قول الطبري بأن غسل المرفق غير واجب فهو قول غير دقيق، وإليكم البيان: إن الصحيح الذي ترجَّح لديَّ هو أن غسل جزء من المرفق واجب عملاً بالقاعدة الشرعية _ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب] . أما وجه الاستدلال بها على الدعوى فهو أن اليد متصلة تماماً بالمرفق، ولا يوجد حدٌّ فاصل بينهما معلوم بالنظر، وحيث أن الواجب هو غسل جميع اليد دون استثناءِ أيِّ جزء، فإنه لا يتأتَّى أن تُغسل اليدُ كلها دون غسل جزء من المرفق، فبغسل جزء منه يُطمئَنُّ إلى الوصول إلى تحقيق الواجب، فيكون غسل هذا الجزء واجباً، وما عداه يدخل في الندب كسائر الأفعال الزائدة على الوضوء المُجْزِيء كما أسلفنا أكثر من مرَّة، وهذا القول وهذه القاعدة هما ما أخَّرتُ ذكرَهما عند تناول استدلال الطبري. وإذن فغسل جزء من المرفق يعني التَّثبُّتَ من غسل جميع اليد الواجب في الوضوء، ولا يتم غسل جميع اليد حتماً إلا بغسل جزء من المرفق، فوجب غسله لذلك. قال تقي الدين النبهاني رحمه الله في كتابه في الأصول ما يلي (قوله تعالى {فاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ} و {ثم أَتِمُّوا الصِّيامَ إلى الليلِ} فإلى في قوله {إلى المَرَافِقِ} وفي قوله {إلى الليلِ} أفادت أنه ما لم يُغسلْ جُزءٌ من المرفق لا يتم غسل اليد إلى المرفق، فلا بد أن يتحقق حصول الغاية لا أن تدخل الغاية في المُغيَّا، وأنه ما لم يدخل جزء من الليل ولو دقيقة لا يتحقق إتمام الصيام، فصار غسل جزء مهما قلَّ من المرافق، وصيام جزء مهما قلَّ من الليل واجباً، بدلالة الآيتين لأنه لا يتم ما أوجبه - وهو غسل اليدين وصيام النهار - إلا بالقيام به) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وإنما قلت ما قلت سيراً مع البحث الفقهي المجرد، وإلا فإنَّ الأصل في المسلم أن يغسل كلَّ المرفق وقسماً من العضد ابتغاء إطالة التحجيل يوم القيامة، لأن ذلك سُنَّة وهو من إسباغ الوضوء، فالناحية العملية هي أن المسلم يغسل المرفقين، سواء قال بالوجوب أو بالندب، أو بما قلت. ويُسن تخليل أصابع اليدين لأنه أبلغ في إيصال الماء، وإذا خللها بخنصر يده اليسرى كان أولى، لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا توضأت فخلِّل بين أصابع يديك ورجليك» رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد وحسنه البخاري. ولما روى المستورِد بن شداد قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره» رواه أبو داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجة. وصحَّحه ابن القطان، ولما روى لقيط بن صبرة قال «.. فقلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء، قال: أَسبغ الوضوء وخلِّل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» رواه أبو داود والنَّسائي وأحمد وابن ماجة. ورواه الترمذي وصححه، وصححه أيضاً البغوي وابن القطان. وإذا كان الرجل أو المرأة يلبس خاتماً فالواجب تحريكه حتى ينفذ الماء إلى ما تحته، ومثل الخاتم الأساور في اليد والخلاخيل في الرِّجل، إلا أن ينفذ الماء من دون تحريك فلا يجب، فالعلة إيصال الماء إلى جميع أعضاء الوضوء، وما يحقق ذلك واجب وما يحول دونه إثم وغير مُجْزِئ. أما ما تفعله النساء هذه الأيام من وضع الأصباغ الشمعية على أظفار أصابع اليدين والرجلين فإنه يمنع وصول الماء إلى الأظفار في الوضوء وفي الغسل، وهذا لا يجوز، فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 يصح وضوء النساء اللواتي يضعن هذه الأصباغ الشمعية، ووضوؤهن مع وجود هذه الأصباغ باطل وصلاتهن باطلة. والدليل على ذلك ما رواه خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعَةٌ قدرَ الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء والصلاة» رواه أبو داود. ورواه أحمد بدون «والصلاة» قال الأثرم: قلت لأحمد: هذا إسناده جيد؟ قال: جيد. فترك قدر الدرهم في الرِّجل أبطل الوضوء، فما هو أكثر منه وهو ترك عشرة أظفار أو عشرين يبطل الوضوء بلا شك. 9- مسح الرأس: وهو الفرض الرابع من فروض الوضوء. المسح لغةً: تحرُّك العضو الماسح ملتصقاً بالعضو الممسوح. ومنه القول: مسحت رأس اليتيم: إذا أمررتُ اليد على رأسه وهي ملتصقةٌ به. ومسحُ الرأس في الوضوء: تحرُّك اليد أو اليدين المبتلتين بالماء ملتصقتين بشعر الرأس. والفارق بين التعريفين هو إضافة الابتلال بالماء في التعريف الثاني. والدليل على ذلك قوله تعالى {وامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ} فقد أضاف سبحانه (الباء) إلى (رؤوسِكم) ولم يقل وامسحوا رؤوسَكم. وقد اختلف أهل اللغة وأهل الفقه في المعنى المستفاد من وجود الباء فقال بعض الفقهاء إن الباء تفيد التبعيض، فيكون معنى الآية وامسحوا بعضَ رؤوسكم، وتعقَّبهم ابن برهان بقوله: من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه. وأنكره سيبويه. وقال القرطبي (الباء للتعدية يجوز حذفها وإثباتها، كقولك مسحت رأس اليتيم ومسحت برأسه) وقال ابن قدامة (الباء للإلصاق فكأنه قال وامسحوا رؤوسكم أي امسحوا جميع الرأس) وقال الشافعي: احتمل قوله تعالى {وامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ} جميع الرأس أو بعضه، فدلت السنة على أن بعضه يجزيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 والواجب القول إن الباء لم تدخل على الآية عبثاً، وإنما لمعنى مستفادٍ ما كان ليكون بدونها، فقوله {وامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ} لا بد من أن يكون له معنى غير المعنى المستفاد من قول وامسحوا رؤوسَكم، لأن الزيادة في التعبير القرآني لا تكون عبثاً، وهذه الزيادة تمنع مسح الرأس باليد دون بلل، وهو معنى المسح اللغوي، وأنها تفيد مسح الرأس باليد المبتلة بالماء، فالباء أفادت البلل، أي الماء العالق باليد حين المسح، ولو كانت الآية بدون الباء لكفى في الوضوء إمرارُ اليد الجافة على الرأس، لأن هذا هو معنى المسح، فلما أراد سبحانه إمرار اليد المبتلَّة بالماء على الرأس أتى بالباء، والله تعالى أعلم. وإلى هذا المعنى أشار ابن حجر في فتح الباري (وقيل دخلت الباء لتفيد معنى آخر، وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولاً به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحاً به، فلو قال: وامسحوا رؤوسَكم لأجزأ المسح باليد بغير ماء، فكأنه قال وامسحوا بروؤسِكم الماء، فهو على القلب، والتقدير امسحوا رؤوسكم بالماء) . هذا هو الحق، وهو من دقيق الفهم، يشهد له ما روى عبد الله بن زيد من حديثٍ رواه البخاري عن صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاء فيه «ثم أخذ بيده ماء فمسح رأسه فأدبر به وأقبل ... » فهذا النص في غاية الوضوح، فقد جاء بلفظ «أخذ بيده ماء فمسح رأسه» أي مسح رأسه بالماء، فإذا حذفت لفظة الماء من الجملة انتقلت الباء منها إلى رأسه فصارت الجملة هكذا (مسح برأسه) للتدليل على وجود محذوف، وهذا بالضبط ما يُقدَّر في الآية {وامسَحُوا برُؤُوسِكُمْ} فتقديرها هو (وامسحوا بالماء رؤوسكم) ثم بعد حذف الماء انتقلت الباء إلى رؤوسكم، فصارت الآية {وامْسَحُوا برُوُؤسِكُمْ} وتكون الباء أفادت وجود محذوف هو الماء الذي يُمسح به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 نعود للأقوال السابقة للأئمة. أما قول من قال إن الباء تفيد التبعيض فهو قول ساقطٌ، لأنه لا أصل له في لغة العرب، وأما قول القرطبي إن الباء للتعدية فهو قول لا يفيد معنى، وهو يدخل في بحث الإعراب فلا قيمة له هنا، وأما قول ابن قُدامة إن الباء للإلصاق فله وجه، ولكنه استنبط حكماً منه لا يفيده هو وجوب مسح جميع الرأس، لأن (امسحوا رؤوسَكم) لا يفيد لغةً مسحَ جميع الرأس، فلم يبق إلا قول الشافعي، وهذا القول هو ما سنناقشه، والمناقشة إنما هي لقوله (فدلَّت السُّنَّة على أن بعضه يُجْزِئ) . إن الآية أفادت لوجود الباء فيها معنى مستفاداً هو أن المسح يكون بيد مبتلَّة، ولم تفد أكثر من ذلك، فيبقى إتيان الدليل على أن البلل يجب أن يكون من الماء، وإتيان الدليل على أن مسح بعض الرأس يُجْزِئ، أو إتيان الدليل على أن مسح كل الرأس هو المُجْزِئ، هذا هو صعيد البحث والمناقشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 أما أنَّ البلل يجب أن يكون من الماء دون سواه من المائعات فقد قام الدليل عليه من القرآن والسنة، أما من القرآن فقوله تعالى {فلَمْ تجِدُوا مَاءً فتيَمَّمُوا} وقد سبق وجه الاستدلال به على المطلوب، وأما من السُّنَّة فكثير من الأحاديث نكتفي منها بحديث واحد. روى عمران بن حصين قال «كنا في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ... فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصلِّ مع القوم، قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك ... » رواه البخاري وأحمد. فهذا الانتقال من الماء إلى التراب دليل على أنه لا يزيل الجنابة إلا الماء، وأنه إن عدم الماء تيمم بالتراب، وهذا دليل واضح على أن غير الماء لا يُجْزِئ في الطهارات التعبُّدية كالوضوء والغسل من الجنابة، والغسل من الحيض والنفاس. وهذه المسألة خالف فيها أبو حنيفة ومَن قال بقوله، وقد سبقت مناقشة رأيه وإظهار خطئه. فلم يبق إلا الإتيان بالدليل على أن مسح جميع الرأس هو المطلب، أو بالدليل على إجزاء مسح الجزء منه. إنَّ مَن قالوا بإجزاء مسح الجزء إنما استدلوا على دعواهم بتفسير الباء في الآية بأنها للتبعيض، وهذا الاستدلال بيَّنَّا فساده. ثم أتوا بأدلة أُخرى نذكرها ثم نناقشها: 1- عن أنس قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ وعليه عمامة قِطْرِيَّة، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مُقَدَّم رأسه ولم ينقض العمامة» رواه أبو داود وابن ماجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 2- عن المغيرة بن شعبة قال «تخلَّف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتخلَّفتُ معه، فلما قضى حاجته قال: أمعك ماء؟ فأتيته بِمِطْهَرَة، فغسل كفيه ووجهه، ثم ذهب يحسِر عن ذراعيه فضاق كُمُّ الجُبَّة، فأخرج يده من تحت الجُبَّة، وألقى الجُبَّة على منكبيه وغسل ذراعيه ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خُفَّيه، ثم ركب وركبت، فانتهينا إلى القوم وقد قاموا في الصلاة، يصلي بهم عبد الرحمن بن عوف وقد ركع بهم ركعة، فلما أحس بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب يتأخر، فأومأ إليه فصلى بهم، فلما سلَّم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقمت، فركعنا الركعة التي سبقتنا» رواه مسلم. وفي لفظ آخر لمسلم «ومُقدَّم رأسه وعلى عمامته» . 3- عن عطاء «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فحسر العمامة ومسح مقدَّم رأسه - أو قال ناصيته- بالماء» رواه الشافعي مرسلاً. 4- عن نافع عن ابن عمر «أنَّه كان يمسح مُقَدَّم رأسه مرة واحدة» رواه ابن أبي شيبة. أما حديث أنس الأول ففي إسناده أبو معقِل لا يُعرف حالُه، قاله الحافظ ابن حجر، فالحديث فيه مجهولٌ، فهو ضعيف لا يصلح للاحتجاج. وأما حديث المغيرة وفيه «ومسح بناصيته وعلى العمامة» أو «ومُقدَّم رأسه وعلى عمامته» فإنه لا يعضد دعواهم، إذ لو لم يكن فيه «وعلى العمامة» أو «وعلى عمامته» لكان دالاً على المطلوب، أما وأنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام قد مسح الناصية أو مُقَدَّم رأسه، ومسح العمامة معاً، فإن ذلك يدل على حكم جديد لواقع جديد هو جواز المسح على العمامة كجواز المسح على الخفِّ، فلما كان يجوز المسح على العمامة فقد مسحها عليه الصلاة والسلام، ولما كان يظهر من الشعر الناصية فقد مسحها هي الأخرى، وبذلك يكون قد مسح جميع الرأس ما ظهر منه وما خفي، وهذا ليس دليلاً لهم، بل هو في حقيقته حجةٌ عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وأما الحديث الثالث فهو مثل حديث أنس إلا أنه يخالفه في حسر العمامة، وهذا الحديث المرسل اضطر معه ابن حجر لأن يبحث عن حديث آخر يعضده، فوجد حديث أنس الضعيف المار، ثم قال (قد اعتضد كلٌّ من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوة من الصورة المجموعة) . فهو بهذا يعترف أن هذا الحديث المرسل يحتاج إلى دعم، فلم يجد ما يدعمه سوى حديث آخر ضعيف، وهذه القاعدة التي يأخذ بها ابن حجر غير مُسلَّم بها، لأن الحديث غير الصحيح وغير الحسن يحتاج إلى حديث صحيح أو حسن وليس إلى حديث ضعيف لدعمه، وفي هذه الحالة فإن الاحتجاج يكون بهذا الصحيح أو بهذا الحسن، فكيف وأنَّ حديث أنس وحديث عطاء مختلفان؟ الأول يقول إن العمامة لم تُنقض، والثاني يقول بحسرها، فكيف يعضد حديث أنس حديث عطاء؟ وعلى فرض صلاح هذا الحديث للاحتجاج فإنه يُحمل على أنه - صلى الله عليه وسلم - قد حسر العمامة عن مقدَّم رأسه، ومسح مقدَّم رأسه ثم مسح على العمامة، ليتوافق هذا الحديث مع حديث مسلم «ومسح بناصيته وعلى العمامة» أو «ومُقدَّم رأسه وعلى عمامته» . وأما الحديث الرابع فهو فعلُ صحابي، وفعل الصحابي يصلح للتقليد، ولا يصلح كدليل، فمن أراد تقليد ابن عمر فلْيكتفِ بمسح مُقَدَّم رأسه، أما من أراد الاجتهاد فإنه لا يستدل به. قال ابن القيم (إنه لم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 والذي حصل هو أنَّ من قالوا بإجزاء مسح الجزء إنما أجازوا الاستدلال بالأحاديث الضعيفة ونحن لا نقرُّهم على ذلك، ولا نأخذ إلا بالصحيح والحسن فحسب، وممن رُوي عنهم جواز مسح الجزء: ابن عمر وسفيان وإبراهيم النخعي والشعبي والشافعي والطبري وأبو حنيفة وتلميذاه أبو يوسف ومحمد، والحسن والثوري والأوزاعي. وهؤلاء اختلفوا في قدر الممسوح، فأبو حنيفة قال: يجزيء مسح ربعه. والشافعي قال: يجزيء مسح ما يقع عليه الاسم وأقله ثلاث شعرات، وحُكي عنه أقلُّه شعرةٌ واحدة. وأجاز الثوري والشافعي مسح الرأس بإصبع واحدة. وهذه الخلافات بينهم هي في تحقيق مناط الحكم وليس في الحكم نفسه. وممن ذهب إلى وجوب مسح جميع الرأس مالك بن أنس والمُزَني وأحمد بن حنبل وبعض أهل الظاهر، وأدلتهم على ذلك أن الآية طلبت مسح الرأس، والأحاديث الصحيحة جاءت ببيان المسح وأنه يشمل جميع الرأس. وهذه الأحاديث هي: 1- لبيان وضوء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - رُوي عن عبد الله بن زيد « ... ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمُقدَّم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه» رواه البخاري ومسلم. 2- وفي رواية أخرى عن عبد الله بن زيد «أنه أفرغ من الإناء على يديه فغسلهما ثم غسل أو مضمض واستنشق من كفة واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً، فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ومسح برأسه ما أقبل وما أدبر، وغسل رجليه إلى الكعبين ثم قال: هكذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه البخاري، ولم يذكر فيه غسل الوجه. 3- حديث المغيرة السابق وفيه «ومسح بناصيته وعلى العمامة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الحديث الأول فيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه بيديه الاثنتين فأقبل بهما وأدبر، بادئاً بمُقدَّم الرأس حتى وصل إلى قفاه، ولم يكتف بذلك بل ردهما إلى مُقدَّم رأسه، وهذا دليل على مسح جميع الرأس. وأصرح منه ما جاء في الحديث الثاني «مسح برأسه ما أقبل وما أدبر» أي أوله وآخره، أو أعلاه وأسفله، وهذا يشمل الكل، ولذلك جعل البخاري في صحيحه باباً سماه [باب مسح الرأس كله] وساق حديث عبد الله بن زيد، وقال البخاري (سُئل مالك أيُجْزِيء أن يمسح بعض الرأس؟ فاحتج بحديث عبد الله بن زيد) . قال ابن حجر في فتح الباري (قوله وسئل مالك: السائل له عن ذلك هو إسحق ابن عيسى بن الطباع، بيَّنه ابن خُزَيمة في صحيحه من طريقه، ولفظه: سألت مالكاً عن الرجل يمسح مُقدَّم رأسه في وضوئه أيجزئه ذلك؟ فقال: حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال: مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وضوئه من ناصيته إلى قفاه ثم ردَّ يديه إلى ناصيته، فمسح رأسه كله) . وحديث المغيرة يفيد مسح الرأس كله ظاهره وما علاه من العمامة، ولو كان مسحُ مُقدَّم الرأس أي الناصية يُجزيء لما أكمل الرسول عليه الصلاة والسلام المسح على العمامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 فهذه الأحاديث تدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد بيَّن المسح الواجب في الآية، وبيانُه شرحٌ للآية، وأن المسح الواجب هو مسح الرأس كلِّه، ولم يُرْوَ عنه عليه الصلاة والسلام أنه مسح جزءاً من رأسه مطلقاً في حديث صحيح أو حسن، وحيث أن الآية مجملة والسنة قد بينتها بمسح الكل، وأن هذا الفعل لم يقع فيما زاد على الوضوء المُجْزِيء، فإن ذلك كله قرينة على أنَّ هذا المسح لجميع الرأس هو الواجب وهو المتعيِّن. فالآية ذكرت غسل الوجه {فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} والسُّنَّة جاءت تبين غسل الوجه كله، فصار غسل الوجه كلِّه واجباً لأنه بيانٌ لمُجْمَلٍ واجبٍ في الآية، ولم يقل أحد من الفقهاء قديماً وحديثاً إن غسل بعض الوجه مُجْزِيء، وكان ينبغي عليهم أن لا يقولوا ذلك بخصوص مسح الرأس، لأن الآية أجملت غسل الوجه كما أجملت مسح الرأس، فلماذا يُصار إلى إيجاب بيان السُّنَّة لغسل جميع الوجه، دون ايجابها لمسح جميع الرأس؟ الحال واحدة والحكم يجب أن يكون واحداً. إلا أن قولي هذا لا يعني استيعاب كل شعرة من شعر الرأس في المسح كاستيعاب كل بقعة في بشرة الوجه في الغسل، وذلك لأن واقع الغسل أنه يستوعب، في حين أن المسح لا يستوعب، وهذا يعني أن مسح الرأس ليس على سبيل الاستيعاب الكامل لكل شعرة، وإنما على سبيل مسح الجميع من الشعر إلا ما لا يستوعبه المسح بطبيعته، تماماً كالمسح على الجبيرة وكالمسح على ظاهر الخُفِّ، وكتيمُّمِ الوجه بالتراب، فكله لا يستوعب الممسوح، لأن المسح لا يستوعب الأجزاء كلَّها بطبيعته، والواجب هو إمرارُ اليدين على جميع الرأس، وليصل البللُ إلى ما يصل من شعر، وهذا شيءٌ، ومسحُ جزء من الشعر وترك جزء شيء آخَر. هذا هو المسح الواجب، وهذه هي كيفيته. أما كم مرةً يُمسح الرأس كله؟ فالجواب عليه نؤخره حتى نستعرض الأحاديث المتعلقة به. روى البخاري حديث عبد الله بن زيد كما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 1- الرواية الأولى جاء فيها «ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمُقدَّم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه» . 2- الرواية الثانية جاء فيها «ثم أدخل يده فمسح رأسه، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة» . 3- الرواية الثالثة جاء فيه «ومسح برأسه ما أقبل وما أدبر» . 4- الرواية الرابعة ساقها البخاري في باب [مسح الرأس مرة] أنقلها بكاملها: «حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا وهيب قال حدثنا عمرو بن يحيى عن أبيه قال شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بتورٍ من ماء، فتوضأ لهم، فكفأ على يديه فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً، بثلاث غرفات من ماء، ثم أدخل يده في الإناء فغسل وجهه ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء، فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أدخل يده في الإناء فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر بهما، ثم أدخل يده في الإناء فغسل رجليه» وقال البخاري عند هذا الحديث: حدثنا موسى قال حدثنا وهيب قال «مسح رأسه مرة» . 6- وقد روى مسلم هذا الحديث، وجاء فيه «فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر» . 7- عن عثمان رضي الله عنه أنه «دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاثَ مِرارٍ فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاث مِرارٍ، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مِرارٍ إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه غُفر له ما تقدم من ذنبه» رواه البخاري ومسلم وأحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 8- عن أبي حيَّة قال «رأيت علياً توضأ، فغسل كفيه حتى أنقاهما، ثم مضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه مرة، ثم غسل قدميه إلى الكعبين، ثم قام فأخذ فضل طهوره فشربه وهو قائم، ثم قال: أحببت أن أُريكم كيف كان طُهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه الترمذي وقال (هذا حديث حسن صحيح) . 9- عن ابن عباس رضي الله عنه «أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فذكر الحديث كله ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه مسحةً واحدة» رواه أحمد وأبو داود. قال الحسن ابن القطان: إن هذا الحديث إما صحيح أو حسن. ووردت أحاديث أخرى عديدة تذكر المسح مرة واحدة، إلا أننا نكتفي بما أوردناه لأنه يكفي لإثبات أن المسح المشروع في الوضوء هو مسحةٌ واحدةٌ فحسب، فحديث عبد الله بن زيد برواياته الأربع عند البخاري، ورواية مسلم وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر المسح مرة واحدة فهماً من الروايات: الأولى والثالثة والرابعة عند البخاري والسادسة عند مسلم، ونُطقاً في الرواية الثانية، وهذا ما أخذ به البخاري حتى إنه عقد باباً في صحيحه أطلق عليه باب مسح الرأس مرة، مستشهداً براوي الحديث وهيب في قوله «مسح رأسه مرة» ومثل هذا الحديث برواياته المختلفة حديث عثمان البند 7، فقد ذكر هذا الحديث عدداً لأفعال الوضوء باستثناء مسح الرأس. أما حديث أبي حية البند 8 فهو منطوقٌ في المسح مرة واحدة «ومسح برأسه مرة» وكذلك حديث ابن عباس البند9، فقد ذكر المسح مرة واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 فهذا الحشد من الأحاديث الصالحة للاحتجاج يفيد الاقتصار في المسح على واحدة فحسب، وهذه المرة الواحدة وردت بكيفية محددة هي بَلُّ اليدين الاثنتين بالماء، ثم إمرارُهما على الرأس بَدءاً بالناصية وصولاً إلى القفا، ثم العودة من القفا إلى الناصية، وكل ذلك عُدَّ مرةً واحدة، وهو الشائع المعروف عند الفقهاء والمحَدِّثين، ولم تخالف هذه الكيفية سوى رواية البخاري الرابعة من طريق عبد الله بن زيد، فقد ذكرت الكيفية بشكل معكوس «فأدبر به وأقبل» وهذه رواية واحدة تعارض سائر الروايات عن عبد الله ابن زيد نفسه، فالواجب ترجيح الروايات العديدة وترك هذه الرواية، ولا نحتاج إلى التأويل والتحويم لنحاول التوفيق بين هذه الروايات، كما فعل ابن حجر بقوله (إن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية ولم يعين ما أقبل إليه ولا ما أدبر عنه، ومخرج الطرفين متَّحد فهما بمعنى واحد، وعينت رواية مالك البداءة بالمُقدَّم، فيُحمل قوله أقبل على أنه من تسمية الفعل بابتدائه أي بدأ بمُقدَّم الرأس، وقيل في توجيهه غير ذلك) فحار ولم يقطع برأي. قلنا إن كل ذلك عُدَّ مرة واحدة، إلا أن النَّسائي ذكر المسح مرتين من رواية عبد الله ابن زيد، فيُحمل قوله على أنه اعتبر مسح الرأس من الناصية إلى القفا مرة، والعودة من القفا إلى الناصية مرة ثانية، فهذا لا يهم لأن العبرة بصفة المسح المشروع وليس بالتعبير عنه، فلك أن تعتبر ما فعله الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسحة واحدة أو مسحتين ما دامت الكيفية هي هي. والقائلون بالمسح مرة واحدة هم أكثر العلماء والأئمة سلفاً وخلفاً، رُوي ذلك عن عبد الله بن عمر وابنه سالم والحسن وإبراهيم النخعي ومجاهد وأبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه. قال الترمذي (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم) وقال ابن عبد البر: كلهم يقول مسح الرأس مسحة واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وذهب عطاء والشافعي وأحمد في رواية إلى القول باستحباب مسح الرأس ثلاثاً. فلنستعرض أدلتهم وشبهاتهم كلها: 1- عن شقيق بن سلمة قال «رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح رأسه ثلاثاً ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا» رواه أبو داود والبيهقي والدارقطني. 2- عن عبد خير عن علي رضى الله عنه «أنَّه توضأ فغسل يديه ثلاثاً، ومضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل رجليه ثلاثاً، ثم قال: من أحبَّ أن ينظر إلى وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاملاً فلْينظر إلى هذا» رواه الدارقطني والطبراني. 3- قالوا إن كلاً من علي وعثمان وابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن أبي أوفى وأبي مالك والربيع وأُبيِّ بن كعب قد روى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً. هذا ما استدلوا به على استحباب مسح الرأس ثلاثاً. فلْنناقش هذه البنود بنداً بنداً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 الحديث الأول إسناده ضعيف ففي رواية أبي داود والبيهقي والدارقطني عامر بن شقيق، يعني ابن جمرة، وهو مختلف فيه، ورواية للبيهقي وأحمد والدارقطني وابن السكن من طريق ابن دارة وهو مجهول الحال، وللبيهقي رواية من طريق عطاء عن عثمان وفيها انقطاع، وللدارقطني رواية أخرى من طريق ابن البيلماني وهو ضعيف جداً، عن أبيه وهو ضعيف، فهذا الحديث بجميع طرقه ضعيف لا يصلح للاحتجاج. قال البيهقي (وقد رُوي من أوجهٍ غريبة عن عثمان رضي الله عنه ذكر التكرار في مسح الرأس إلا أنها مع خلاف الحُفَّاظ الثِّقات ليست بحجة عند أهل المعرفة، وإن كان بعض أصحابنا يحتجُّ بها) قال أبو داود (أحاديث عثمان رضي الله عنه الصحاح كلها تدل على مسح الرأس أنَّه مرة، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثاً، وقالوا فيها ومسح رأسه ولم يذكروا عدداً كما ذكروا في غيره) والحديث الثاني عند الدارقطني من طريق عبد خير من رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة عن خالد بن علقمة عن علي، وقال (لا نعلم أحداً منهم قال في حديثه إنه مسح رأسه ثلاثاً غير أبي حنيفة، ومع خلاف أبي حنيفة فيما روى لسائر من روى هذا الحديث، فقد خالف في حكم المسح فيما رُوي عن علي رضى الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن السُّنَّة في الوضوء مسح الرأس مرة واحدة) فهو إذن شاذ لا يصلح للاحتجاج. ورواية الطبراني فيها عبد العزيز بن عبيد الله، قال ابن حجر: هو ضعيف، لذا فالحديث شاذ وضعيف فلا يحتج به. وقد رُويت أحاديث أخرى تذكر مسح الرأس ثلاثاً، وهي ضعيفة كلها لا تصلح للاستدلال، ولا حاجة لاستعراضها كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 أما البند الثالث فإن قولهم إن عدداً من الصحابة ـ وذكروهم ـ رووا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً، هذا القول صحيح ولكنه مجمَل، وجاءت الأحاديث الصحيحة تفسر هذا المجمَل وتبينه، وتجعل العدد في المغسول دون الممسوح، وأن الممسوح يُمسح مرة واحدة. والمعلوم أن الأحاديث المُجْمَلة تُحمَل على الأحاديث المُفصِّلة، وهنا أحاديثهم مجمَلة وأحاديثنا مفصِّلة، فتحمل أحاديثهم على أحاديثنا التي جعلت العدد في المغسول واستثنت منه الممسوح. قال ابن قُدامة (الأحاديث التي ذكروا فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً أرادوا بها ما سوى المسح، فإن رواتها حين فصَّلوها قالوا ومسح برأسه مرة واحدة، والتفصيل يُحكم به على الإجمال ويكون تفسيراً له، ولا يعارض به كالخاص مع العام) وقال الشوكاني (والإنصاف أن أحاديث الثلاث لم تبلغ إلى درجة الاعتبار حتى يلزم التمسك بها لما فيها من الزيادة، فالوقوف على ما صح من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث عثمان وعبد الله ابن زيد وغيرهما هو المتعيِّن، لا سيما بعد تقييده في تلك الروايات السابقة بالمرة الواحدة، وحديث «من زاد على هذا فقد أساء وظلم» الذي صححه ابن خُزَيمة وغيره قاضٍ بالمنع من الزيادة على الوضوء الذي قال بعده النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المقالة، كيف وقد ورد في رواية سعيد بن منصور في هذا الحديث التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة ثم قال: مَن زاد) وقال ابن المنذر (إن الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسح مرة واحدة، وبأن المسح مبنيٌّ على التخفيف، فلا يقاس على الغُسل المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأن العدد لو اعتُبر في المسح لصار في صورة الغُسل، إذ حقيقةُ الغُسل جرَيانُ الماء، والدلك ليس بمشترط على الصحيح عند أكثر العلماء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وبهذا يتبين وجه الحق فيما ذهبنا إليه من قبل من أن المسح المشروع هو مرة واحدة، وأن الزيادة على المرة مخالفة للسنة النبوية، وتدخل تحت النهي. والمشروع في الرأس المسح دون الغُسل خلافاً لسائر الأعضاء، فلو غسل أحدهم رأسه بدل المسْح لما أجزأه ولبطل وضوؤه خلافاً لمن أجاز ذلك، لأن العبادة هذه لا يصح تعليلها بالنظافة، وأنَّ الغُسلَ أنظف من المسح، فهذا وإنْ كان صحيحاً في التنظيف إلا أن الله سبحانه أراد المسح فوجب الوقوف عند النص وعدم الاجتهاد فيه، لأن الاجتهاد هذا يعطِّل النص ويلغيه، وهو حرام لا يجوز. أما هل يُمسح الرأس بماء جديد أم بما يفضل مِن ماء في اليدين؟ فللجواب على ذلك نستعرض الأحاديث المتعلقة به: 1- عن واسع الأنصاري أنه سمع عبد الله بن زيد يذكر أنه «رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فأخذ لأُذنيه ماء خلاف الماء الذي أخذ لرأسه» رواه البيهقي وصححه. 2- عن عبد الله بن زيد ـ في صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ «ومسح برأسه بماءٍ غير فضل يده ... » رواه مسلم والترمذي والدارمي وأحمد وأبو داود. 3- عن نمران بن جارية عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «خذوا للرأس ماءً جديداً» رواه الطبراني في المعجم الكبير. 4- عن عبد الله بن زيد ـ في صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ «ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر» رواه مسلم. 5- عن عبد الله بن زيد ـ في صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ «ثم أخذ بيده ماءً فمسح رأسه فأدبر به وأقبل» رواه البخاري. 6- عن عبد الله بن محمد بن عقيل: حدثتني الرُبيِّع بنت مُعوِّذ بن عفراء أن رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الله - صلى الله عليه وسلم - « ... مسح رأسه بما بقي من وضوئه في يديه مرتين، بدأ بمُؤَخَّرِه ثم رد يده إلى ناصيته ... » رواه أحمد. ورواه أبو داود بلفظ «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه من فضل ماءٍ كان في يده» قال الترمذيُّ (عبد الله بن محمد بن عقيل صدوق، ولكن تكلم فيه بعضهم من قِبَل حفظه) وقال فيه البخاري (كان أحمد وإسحق والحميدي يحتجون بحديثه) وبذلك صلح هذا الحديث للاحتجاج. الحديث الأول فيه أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ ماء لمسح رأسه منطوقاً، لأن قوله «خلاف الماء الذي أخذ لرأسه» إثبات أن الرأس أُخذ له ماء، والثاني يفيد الشيء نفسه والحديثان الرابع والخامس أفادا أن الرأس يُؤخذ له ماءٌ جديد. وهذه الأحاديث كلها أفادت أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد فعل ذلك فعلاً، وهي أحاديث تصلح كلها للاحتجاج، وجاء الحديث السادس الذي فيه «مسح رأسه بما بقي من وضوئه في يديه» حسبما جاء في رواية أحمد، و «مسح برأسه من فضل ماءٍ كان في يده» حسبما جاء في رواية أبي داود. وهذان اللفظان لهذا الحديث يفيدان أن مسح الرأس يصح من فضل الماء، وهما أيضاً فعلٌ من أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك تكون عندنا نصوص تفيد مسح الرأس بماء جديد، وأخرى تفيد مسح الرأس بفضل الماء، وذلك دالٌّ على أن المسلم بالخيار بين أن يمسح رأسه في الوضوء بماء جديد وبين أن يمسحه بماء يفضل في يديه عقب غسلهما، فكلا الفعلين جائز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ورب قائل يقول: إن كونه - صلى الله عليه وسلم - أخذ لرأسه ماء جديداً كما وقع في هذه الروايات ينافي ما جاء في حديث ابن عقيل من أنه - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه بما بقي من وضوئه في يده، فنجيبه بأن التنصيص على فعلٍ بصيغة يدل على مجرد الوقوع، ولا يستلزم عدم وقوع غيره لأنه لا يفيد حصراً للمنصوص عليه ولا نفياً عمّا سواه. والخلاصة أنه يجوز في مسح الرأس أن يكون بماءٍ جديد وأن يكون بفضل ماء، ولا ينافي هذا الخيار قول الحديث في البند الثالث «خذوا للرأس ماءً جديداً» لسببين: أحدهما أن هذا الأمر لا توجد فيه قرينة دالة على الوجوب، وثانيهما أن الحديث فيه ضعف كما جاء في بحث [الماء المستعمل] فلا يصلح لصرف حكم الاختيار إلى إيجاب أحدهما. 10- مسح الأذنين: يُسنُّ مسحُ الأذنين للأحاديث التالية: 1- عن ابن عباس رضي الله عنه أنه «رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فذكر الحديث كله ثلاثاً ثلاثاً، قال: ومسح برأسه وأذنيه مسحة واحدة» رواه أبو داود وأحمد. 2- عن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح أُذنيه داخلَهما بالسَّبابتين وخالف إبهاميه إلى ظاهر أُذنيه فمسح ظاهرهما وباطنهما» رواه ابن ماجة والنَّسائي وابن حِبَّان والحاكم وابن خُزيمة. 3- عن الصُّنابِحِيِّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه ... فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أُذنيه ... » رواه مالك. ورواه النَّسائي ورجاله رجال الصحيح. 4- عن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه وأُذنيه ظاهرَهما وباطنَهما» رواه الترمذي وقال (حسن صحيح) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 5- عن عبد الله بن زيد «أنَّه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فأخذ لأُذنيه ماءً خلافَ الماء الذي أَخذ لرأسه» رواه البيهقي وقال: هذا إسناد صحيح. ورواه الحاكم بلفظ « ... فأخذ ماء لأُذنيه خلافَ الماء الذي مسح به رأسه» وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. الأحاديث: 1، 2، 4 تفيد مشروعية مسح الأُذنين منطوقاً، والحديث الثالث يفيد ذلك مفهوماً، لأنَّ مسح الرأس بالماء الذي ينتج عنه خروج الخطايا من الأذنين يشير إلى أن الأُذنين تتبعان الرأس في المسح، وأنه لولا مسحهما لما خرجت الخطايا منهما. هذه واحدة. أما الثانية فإن هذه الأحاديث بينت كيفية مسحهما وأنهما تتبعان الرأس في المسح، ولا يُحتاج لهما إلى ماءٍ جديد، وأنهما يُمسحان من الداخل والخارج، الداخل بالسَّبابتين أو المُسبِّحتين، والخارج بالإبهامين، وأنهما تُمسحان مرة واحدة كالرأس، فمن أراد السُّنَّة عمل بكل هذا. أما الحديث الخامس الذي يفيد أخذ ماء جديد للأُذنين غير ماء الرأس فإنه مختلَف في تصحيحه، فمنهم من صححه كابن حجر، ومنهم من أعلَّه كابن دقيق العيد، وابن القيم يقول (لم يثبت عنه أنه أخذ لهما ماء جديداً، وإنما صح ذلك عن ابن عمر) على أن هذا الحديث لو ثبتت صحته فإنه يدل على جواز أخذ ماء جديد للأُذنين، وإذن فإنَّ من شاء أخذ لهما ماء جديداً، ومن شاء مسحهما بما يتبقى في يديه من فضل ماءِ مسح الرأس، أيَّاً من ذلك فعل جاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وقد ذهب إسحق بن راهُويه وأحمد في رواية عنه، إلى أن مسح الأُذنين واجب، وذهب غيرهما إلى عدم الوجوب. واستدل القائلان بالوجوب بهذه الأحاديث التي فيها فِعلُ الرسول عليه الصلاة والسلام بمسح الأذنين، وعندهما أن أفعاله عليه الصلاة والسلام تفيد الوجوب كأقواله، واستدلا كذلك بحديثٍ رواه ابن ماجة وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الأذنان من الرأس» وقالا: إن هذا الحديث يقول إن الأُذنين من الرأس، فيكون الأمر بمسح الرأس أمراً بمسحهما فيثبت وجوبه بالنص القرآني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 والجواب على ذلك هو أن أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام لا تفيد الوجوب إلا بقرينة ولا قرينة هنا، بل القرينة هي على عدم الوجوب، وهي كون الفعل هنا في غير الوضوء المُجْزِئ، ولذا قلنا باستحباب مسح الأُذنين ولم نقل بوجوبه، وأما أنَّ الأُذنين من الرأس فإن هذا الحديث بجميع طرقه ضعيف لا يصلح للاحتجاج، بل قال ابن حجر (قد ثبت أنه مُدْرَج) أي أنه من قول الرواة وليس من قول الرسول عليه الصلاة والسلام. قال الترمذي (قال قتيبة قال حماد: لا أدري هذا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من قول أبي أمامة) وفي رواية أبي هريرة عند ابن ماجة عمرو بن حصين وهو متروك، ومحمد بن عبد الله بن علاثة وهو ضعيف، وفي رواية أبي أمامة عند ابن ماجة شهر بن حَوشَب وهو ضعيف. والرواية الثالثة لابن ماجة من طريق عبد الله بن زيد حسنة، إلا أنَّ القول «الأذنان من الرأس» مُدْرَج. وفي روايات ابن عمر عند الدارقطني الصحيح منها أنها كلها موقوفة، كما أفاد ذلك الدارقطني نفسه. وفي رواية أبي موسى عند الدارقطني اختلافٌ في الوقف والرفع، وصوَّب ابن حجر الوقف، أي أنَّه من قول الصحابي وزاد (وهو منقطع) وفي رواية عائشة رضي الله عنها عند الدارقطني محمد بن الأزهر وقد كذبه أحمد. قال ابن الصلاح: إن ضعفها كثير لا ينجبر بكثرة الطرق. وإذن فإنه لا يصح الاستدلال بهذه الأحاديث على وجوب مسح الأذنين. قال الشوكاني معقِّباً على هذا القول (وأُجيب بعدم انتهاض الأحاديث الواردة لذلك، والمتيقن الاستحباب فلا يُصار إلى الوجوب إلا بدليل ناهض، وإلا كان من التَّقُّول على الله بما لم يقل) والرواية الثانية عن أحمد أنه لا يجب مسح الأُذنين، قال ابن قُدامة في المغني (وقال الخلاَّل كلهم حكوا عن أبي عبد الله - أي أحمد- فيمن ترك مسحهما عامداً أو ناسياً أنه يُجزِئُه، وذلك لأنهما تبعٌ للرأس، لا يُفهم من إطلاق اسم الرأس دخولهما فيه، ولا يشبهان بقية أجزاء الرأس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 ولذلك لم يُجْزِهِ مسحُهما عن مسحه عند من اجتزأ بمسح بعضه والأَولى مسحهما معه) وهذا يفيد استحبابه لمسحهما دون وجوبه. [مسألة] لم يرد في مسح الرقبة حديث صحيح ولا حسن يصلح للاحتجاج، فما رُوي عن طلحة ابن مصرِّف عن أبيه عن جده «أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح رأسه حتى بلغ القُذال وما يليه من مُقدَّم العنق بمَرَّة. قال القُذال السالفة العنق» رواه أحمد. ففيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، قال ابن حِبَّان (كان ليث يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل ويأتي عن الثقات بما ليس من حديثهم، تركه ابن القطان وابن مهدي وابن معين وأحمد) ، وقال النووي (اتفق العلماء على ضعفه) . وما عزاه الألباني للجُوَيني والغزالي من حديث «مسح الرقبة أمانٌ من الغِلِّ» قال عنه ابن الصلاح: هذا الحديث غير معروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو من قول بعض السلف. وقال النووي (هذا حديث موضوع) وقال (لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء) ، وأضاف (وليس هو بسنَّة بل بدعة) وقال ابن القيم: لم يصح عنه في مسح العنق حديثٌ البتة. ولذا فإن مسح الرقبة غير مشروع، وهو ليس بواجب ولا مندوب، وينبغي تركه. 11- غسل الرِّجلين إلى الكعبين: وهو الفرض الخامس من فروض الوضوء. والأدلة عليه قوله تعالى {وأَرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ} وكذلك إجماع الصحابة، والأحاديث الصحيحة الكثيرة وقد مرت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ولنقف وِقفةً متأنيَّة عند الآية الكريمة {يا أيُّها الذينَ آمنُوا إذا قمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ وامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ} الآية 6 من سورة المائدة. قوله إذا قمتم: أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة، كقوله تعالى {فإذا قَرَأْتَ القُرآنَ فاسْتَعِذْ باللهِ} أي إذا أردت قراءة القرآن. وقد فهم بعضهم من هذه الآية فرض النية للوضوء، فقد قالوا: إن قوله إذا قمتم معناه إذا نويتم القيام، ولكنَّ هذا الفهم ضعيف، ويكفي في النية حديث عمر «إنما الأعمال بالنية» والآية تقول {وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ} بالجمع للمرفق، وتقول {وأَرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ} بالتثنية للكعب. والذي يترجح لديَّ أن سبب ذلك هو ما قاله ابن عطية صاحب التفسير الجليل [المُحرَّر الوجيز] في تفسيره (ويظهر ذلك من الآية من قوله في الأيدي {إلى المَرَافِقِ} أي في كل يد مرفق، ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب، فلما كان في كل رجل كعبان خُصَّا بالذكر) . وقد قرأ نافع والحسن البصري والأعمش {أَرْجُلَكُمْ} بالنصب وقرأها بالجر حمزة وابن كثير وأبوعمرو. أما قراءتها بالنصب فبعطف أرجلكم على أيديكم، وحيث أن الأيدي طُلب غسلها فكذلك الأرجل تُغسل، وعلى هذا التفسير وأن الأرجل تُغسل جمهرةُ المسلمين قديماً وحديثاً والأئمة الأربعة. قال النووي (اختلف الناس على مذاهب، فذهب جميع الفقهاء من أهل الفتوى في الأعصار والأمصار إلى أن الواجب غسل القدمين مع الكعبين، ولا يُجْزِيء مسحُها، ولا يجب المسح مع الغسل ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتدُّ به في الإجماع) وقال ابن حجر (لم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا عن علي وابن عباس وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك) وخالف في ذلك الطبري قائلاً إن الأرجل فيها الغُسل أخذاً بقراءة نصب أرجلكم، وفيها المسح أخذاً بقراءة جرِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 أرجلكم لأنها بالجر تكون معطوفة على رؤوسكم التي طُلب مسحها. وهذا القول منه يعتبر معتدلاً، ولكن رُوي عن عكرمة والشعبي وقتادة غير ذلك، فقد رُوي عن عكرمة أنه قال: ليس في الرِّجلين غسل، إنما نزل فيهما المسح. ورُوي عن الشعبي أنه قال: نزل جبريل بالمسح. وقال قتادة: افترض الله مسحتين وغسلتين. فهؤلاء لم يأخذوا بالقراءة الصحيحة بنصب أرجلكم، وتمسكوا بالقراءة الصحيحة الأخرى بجر أرجلكم وقد أخطأوا في ذلك. وقد تأثّر بقولهم هذا ابن حزم والطحاوي، فقالا بأن المفروض في الأرجل كان المسح في بدء الإسلام ثم نُسخ. وهذه دعوى ينقصها البرهان. وقد رُوي أن علياً وأنساً وابن عباس كانوا يقولون بالمسح، ثم ثبت رجوعهم عنه إلى القول بالغسل، ولم يبق صحابي واحد يقول بالمسح. وللرد على الطبري وقتادة وعكرمة والشعبي أقول إن الأحاديث كلها أفادت غسل الأرجل، ولم يُرو حديث واحد صحيح واضح الدلالة على أن المسلمين كانوا يمسحون أرجلهم في الوضوء، والمعلوم أن السُّنَّة تبين القرآن: تفصِّل مُجمَله، وتقيِّد مطلَقه، وتخصِّص عمومه، ولا تتعارض معه. وجميع الأحاديث تقول بالغسل، فوجب القول إن الآية تُوجب هي الأخرى الغسل، وإنه لا إشكال في الجمع بين القرآن والسُّنَّة هنا بقراءة أرجلَكم بالنصب، وهي قراءة صحيحة قطعية. فهذه القراءة والأحاديث تفيد غسل الأرجل، فلا تعارض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 أما القراءة بالجر فهي التي أشكلت على عدد من الفقهاء، وكان ينبغي الأخذ بالقاعدة التي تقرِّر أن السُّنَّة لا يمكن أن تتعارض مع القرآن، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يأتي بأمر من عنده، وما دام قد ثبت أنه أمر بالغسل فإن ذلك دليل أكيد على أن القرآن قد أتى هو الآخر بالغسل، فوجب تفسير الآية بحسب ذلك، وأنَّ قراءة الجر لا تخرج عن هذا الفهم، ذلك أن جرَّ أرجلكم لا يعني عطفها على رؤوسكم، وبالتالي لا يعني وجوب إلحاقها بالرؤوس في المسح، وإنما جاء الجر للمجاورة لا أكثر، فهي تظل معطوفة على وجوهكم وأيديكم التي طلب فيها الغسل، وبذلك تكون الآية بالقراءتين تفيد الغسل تماماً كما تفيد الأحاديث، وبذلك أيضاً يزول التعارض وتنتفي الشبهة. أما أخذ بعضهم بقراءة الجر وترك قراءة النصب على اعتبار تعارضهما فإنه لا يجوز، لأن القراءتين صحيحتان، وكل قراءة منهما قرآن لا ينبغي هجرة وتركه، ثُم إن هؤلاء كان ينبغي عليهم عدم القول بتعارض القرآن مع السنة، فما دامت السنة تقول بالغسل، فإن الواجب عليهم أن لا يقولوا إن القرآن يخالفها ويأمر بالمسح، بل يجب أخذ الآية بقراءة الجر وحملها على أنها للمجاورة ليظل عطفها على ما سبق من المغسول دون الممسوح. وفي هذا الخطأ وقع القائلون بأن الآية أفادت غسلاً ومسحاً أخذاً بظاهر القراءتين، وخطأ هؤلاء أنهم اعتبروا الآية الواحدة تطلب شيئين مختلفين في موضوع واحد، فكأنهم اعتبروا الآية بقراءتيها متعارضة، ولو حكَّموا القاعدة بأن السُّنَّة والقرآن لا يتعارضان، وأن القرآن لا يعارض نفسه لأمكنهم فهم الآية بالقراءتين وبالسُّنَّة فهماً واحداً، وأنها كلها تفيد غسل الأرجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 قد يقال إن المجاورة تضعف إن كان هناك فاصل كما هو الحال في هذه الآية بوجود الواو العاطفة، وأن المجاورة الشائعة تكون بدون فواصل، فنجيب بأن القرآن وقد استعملها فإنَّه يجب قبولها، لأنه لا يمكننا التوفيق بين القراءتين، ولا بينهما وبين الأحاديث إلا بالأخذ بالمجاورةِ إيماناً منا بأن القرآن لا يعارض نفسه، ولا تعارضه السُّنَّة. إن ابن هشام في كتابه [شذور الذهب] ذهب إلى أن المجاورة مع وجود فاصل أمر شاذ عند العرب، وأن الأصح أن تكون المجاورة حين لا يكون فاصل، ولكنه لم يقطع بخطأ القاعدة، ثم قال إن المجاورة تحصل بوجود فاصل محذوف مقدَّر، فنقول إن القرآن أتى بالمجاورة مع وجود فاصل غير محذوف، وقد جاءت على لسان شاعر: كأنَّ ثبيراً في عرانينِ وبْلِهِ … كبيرُ أُناسٍ في بجادٍ مُزمَّل فظل طُهاةُ اللحم مِن بين مُنضجٍ … صفيفَ شُواء أو قديرٍ معجَّل فـ (قدير) حكمها أن تكون منصوبة لأنها معطوفة بـ (أو) على (صفيف) المنصوبة على الحال، فالواجب أن يقال (صفيفَ شواءٍ أو قديراً معجَّلاً) ولكنه جرَّ (قديراً) لمجاورة (شُواءٍ) المجرورة. وهذا مثال على جواز المجاورة مع وجود الفاصل غير المحذوف وهو العاطف هنا. ويكفينا سيبويه كبير أئمة الإعراب، وكذلك الاخفش، فقد حكما بجواز المجاورة مع وجود العطف، فبالأخذ بقاعدة المجاورة نكون قد أعملنا جميع الأدلة، وأزلنا شبهة القائلين بوجود التعارض. أما ما تمسك به القائلون بالمسح من أحاديث فإنه لا يصمد أمام المناقشة، فهؤلاء استدلوا على شبهتهم بما يلي: 1- عن عبد الله بن عمرو قال «تخلَّف النبي - صلى الله عليه وسلم - عنا في سَفْرة سافرناها، فأَدرَكَنا وقد أرهَقَنا العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويلٌ للأعقاب من النار، مرتين أو ثلاثاً» رواه البخاري ومسلم. قوله أرهقنا العصر: أي اقترب وقت العصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 2- عن عبد الله بن عمرو قال «رجعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء الطريق تعجَّل قومٌ عند العصر، فتوضَّأوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسَّها الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويلٌ للأعقاب مِن النار أسبغوا الوضوء» رواه مسلم. 3- عن أوس بن أبي أوس الثقفي «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى كِظامَةَ قومٍ، فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه» رواه أبو داود. والكِظامة: هي بئر الماء. 4- عن عبَّاد بن تميم عن أبيه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، ويسمح على رجليه» رواه الطبراني. 5- عن ابن عباس رضي الله عنه قال «توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأدخل يده في الإناء فاستنشق ومضمض مرة واحدة، ثم أدخل يده فصبَّ على وجهه مرة واحدة، وصبَّ على يديه مرتين مرتين ومسح رأسه مرة، ثم أخذ حفنةً من ماء فرشَّ على قدميه وهو متنعل» رواه البيهقي. 6 - إضافة إلى قراءة آية الوضوء بجرِّ (أرجُلِكم) عطفاً على (رؤوسكم) . الحديث الأول استدلوا به على المسح لقوله «فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا» وهذا استدلالٌ فاسدٌ لأنهم قطعوا هذه العبارة عن سابقها وعن لاحقها واقتصروا عليها، والواجب عليهم النظر في هذه العبارة بعد وضعها في جوِّها ليسهل فهمها ويصح الاستدلال بها. قال ابن بطَّال: كأن الصحابة أخروا الصلاة عن أول الوقت طمعاً أن يلحقهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصَّلوا معه، فلما ضاق الوقت بادروا إلى الوضوء، ولعجلتهم لم يُسبغوه فأدركهم على ذلك فأنكر عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 هذا هو جو العبارة، وفي هذا الجو صارت العبارة مفهومة، فصارت غير مفيدة لهم، وغير دالة على دعواهم. إن قول الحديث «فأدْرَكَنا وقد أرهَقَنا العصر» صريحٌ في أنهم كانوا على أشدِّ ما تكون العجلة، والمستعجل لا يحسن الوضوء ولا يتقنه، فوصف ابن عمرو حالة القوم بأنهم كانوا لشدة السرعة يظهر عليهم أنهم يمسحون أرجلهم ولا يغسلونها، وفي هذه الحالة وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - فرآهم كأنهم يمسحون، ورأى أماكن مِن أرجلهم لم يصبها الماء فقال بغضب - بأعلى صوته – «ويلٌ للأعقاب من النار، مرتين أو ثلاثاً» والتدقيق في هذا الحديث يوصل إلى أنَّهم كانوا يغسلون ولم يكونوا يمسحون، ولكنْ لسرعة الغسل بدت أجزاء من الأرجل دون ماء، فأنكر الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك منهم، بينما لو أنهم كانوا يمسحون، ولو كان المسح جائزاً لما أبرز ابن عمرو مسح الأرجل كدليل على السرعة دون سائر أفعال الوضوء. فقوله «نتوضأ ونمسح على أرجلنا» واضح فيه التركيز على مسح الأرجل فحسب وأن المسح دليل على السرعة، وهذه دقيقةٌ تحتاج إلى تدبُّر. هذه واحدة. والثانية أن شأن المسح كما لا يخفى لا يستوعب الممسوح عادة، وأن الشيء المطلوب مسحه يجري التخفيف فيه في الإسباغ والاستيعاب، أما إنْ أُريد استيعابه فإنه يُطلب غسله، وهذا ظاهر تماماً، فلو كان المطلوب مسح الأرجل لما أنكر الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم ترك استيعاب الأرجل من حيث إصابتها بالماء، فلما أنكر عليهم ترك جُزء وهو يراهم مستعجلين دل ذلك على وجوب الاستيعاب، وهذا يعني بالضرورة وجوبَ الغسل. والثالثة إنَّ عملية المسح حصلت من الصحابة ولم تحصل إلا والرسول عليه الصلاة والسلام غائب عنهم، فلما حضر أنكر عليهم ولم يقرَّهم عليه، واستعمل أشد ألفاظ الإنكار بتوعدهم بالويل المكرَّر، فكيف يستدلُّون بهذا الحديث على جواز المسح؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 والرابعة إن ابن عمرو نفسه - وهو راوي الحديث - لا يقول بالمسح بل يقول بالغسل فكيف يقول بالغسل ثم يروي هذا الحديث ويعني به المسح، إلا أن يكون قد عنى بالمسح الغسل الخفيف بسبب السرعة، فأطلق هذه اللفظة عليه؟ وهذا الرد يقال بخصوص رواية مسلم «فتوضأوا وهم عجال فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسَّها ماء» فإنه لا يدل على المسح وإنما يدل على الغُسل السريع غير التامِّ. ومما يزيد الأمر وضوحاً وتأكيداً ما روى أبو هريرة في صحيح مسلم «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً لم يغسل عقبيه فقال: ويل للأعقاب من النار» فقد صرَّح بالغسل. وما روى جرير بن حازم عن قتادة عن أنس بن مالك «أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد توضأ وترك على قدمه مثل موضع الظفر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ارجع فأحسِن وضوءك» رواه أحمد وابن خُزَيمة. وروى أحمد ومسلم مثله من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما روى بجير - هو ابن سعد - عن خالد عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعةٌ قدرَ الدرهم لم يُصبها الماء، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء والصلاة» رواه أبو داود. ورواه أحمد بدون «والصلاة» وقد مر. فهذه الأحاديث تفيد وجوب الاستيعاب، ولا يكون استيعابٌ إلا إذا كان غسلٌ، لأن المسح من شأنه أن يخلف شيئاً من الممسوح، فلما حذر الرسول عليه الصلاة والسلام من ترك قدر ظفر أو قدر درهم أو ترك العقب، دل تحذيره على أن المطلوب الغسل لا غير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وقد يقول أحدهم: لماذا لا نقول بالمسح المستوعِب؟. فنجيبه بأن المسح لا يستوعب عادة، وإذا أردنا الاستيعاب قمنا بالغسل. والقول بالمسح المستوعِب لا يختلف في جوهره عن القول بالغسل، فلما طُلب الاستيعاب فقد دل ذلك على أن المراد هو الغُسل لا المسح، إذ لو كان المسح هو المطلوب لما حذرنا عليه الصلاة والسلام من ترك قدر درهم أو قدر ظفر. أما حديث أوس - البند الثالث - فهو ضعيف أعلَّه ابن القطان بالجهالة في عطاء راوي الحديث عن أبيه، وأيضاً في إسناده هُشيم عن يعلى، قال أحمد: لم يسمع هُشيم هذا من يعلى مع ما عرف من تدليس هُشيم. وضعَّفه أيضاً ابن عبد البر. وأما حديث عباد الذي رواه الطبراني فقد ضعَّفه ابن عبد البر وشكَّك في صحبة راوي الحديث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما حديث ابن عباس البند الخامس «أخذ حفنة من ماء فرشَّ على قدميه وهو متنعل» فهو ليس دليلاً على المسح بقدر ما هو دليل على الغُسل، ولكنه الغُسل الخفيف، لأن المسح لا يكون برشِّ الماء وإنما يكون بالبلل العالق باليد، فالرشُّ دليل على الغُسل وليس على المسح. وإذا استحضرنا في الذهن أن الوضوء يكفي فيه مُدٌّ من ماء - هذه الكمية القليلة هي ما كان يستهلكها المسلم في وضوئه - ازداد إدراكنا لمعنى أخذ حفنة ماء للرِّجل أو للرِّجلين للغسل، وأيضاً فإنه جاء حديث صريح بأن الرش يكون في الغُسل، هو ما رواه ابن عباس رضي الله عنه من صفة وضوء نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاء فيه « ... ثم أخذ غَرْفةً من ماء فرشَّ على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غَرفة أخرى فغسل بها رِجله - يعني اليسرى - ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ» رواه البخاري، وقد مرَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 فإذا علمنا أن أحاديث الغسل جاءت كثيرة وفي أعلى درجات الصحة، وقابلناها مع هذه الأحاديث المُعلَّة والضعيفة أدركنا ضعف الرأي القائل بمسح الأرجل، فإذا نحن أضفنا إجماعَ الصحابة كدليلٍ على فرض الغسل دون المسح ازداد اقتناعنا بصواب ما ذهبنا إليه. وإذن فالأحاديث لا تسعف أصحاب الرأي هذا، ولذا نرى ناساً منهم يستدلون بالآية بقراءة النصب على دعواهم، فهؤلاء يقولون إن قراءة نصب أرجلكم تكون بعطف أرجلكم على محل {برُؤُوسِكُمْ} أي أن الآية تقول {وامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ} وفعل امسحوا يتعدى إلى مفعول، والمفعول هو (برؤوسكم) أي الجار والمجرور، والجار والمجرور في محل نصب مفعول به لفعل امسحوا، وأرجلكم معطوفة على محل الجار والمجرور فجاءت منصوبة. وقال ناس من هؤلاء إن الباء في (برؤوسكم) زائدة، وإن الأصل امسحوا رؤوسكم، فجاءت أرجلكم بالنصب عطفاً عليها. ولا يخفى أن هؤلاء قد سلكوا طريقاً وعرةً وأن هذه الإعرابات فيها من البعد ما هو أكبر مما يتهمون به إعراب المجاورة. ولو أننا أردنا أن نقف في منتصف الطريق بيننا وبينهم، وقلنا بأن الآية محتملة، وأنها لا تكفي في الاستدلال على أيٍّ من الرأيين لوجب الاحتكام إلى الأحاديث، والأحاديث الصحيحة قاضية عليهم عدا عن إجماع الصحابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 والواجب في الغسل استغراق القدم بالكامل، والاستغراق الكامل لا يتم إلا بغسل الكعبين أو جزء من الكعبين على الأقل تماماً كغُسل المرفقين أو جزء من المرفقين في غُسل اليدين، لأنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأقل من ذلك لا يتحقق فيه تمام الغُسل. والكعبان هما عظمان ناتئان في جانبي كل قدم خلافاً لقول محمد بن الحسن إنهما في مشط القدم عند معقد الشِّراك من الرِّجل، فهذا القول خطأ ويُخرج جزءاً كبيراً من الرِّجل من الغسل. فقد رُوي عن النعمان بن بشير أنه قال « ... فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه وركبته بركبته ومنكبه بمنكبه» رواه أحمد وأبو داود. وذكره البخاري تعليقاً أي بدون سند. وهذا دليل على صحة ما ذهبنا إليه وخطأ ما قال به محمد بن الحسن، ذلك أن إلزاق الكعاب لا يتم إلا إذا كانت الكعاب هي العظام الناتئة في جوانب الأرجل وليس في أمشاطها. ويسنُّ إسباغ غسل القدمين ومجاوزة الكعبين حتى جزء من الساق أخذاً من حديث الإسباغ وجاء فيه « ... ثم غسل رجله اليمنى حتى أَشْرَع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق ... إلى أن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتم الغُرُّ المُحجَّلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فلْيُطِلْ غُرَّته وتحجيله» رواه مسلم. وقد مر في بحث [فضل الوضوء] . كما يسن تخليل الأصابع، وإذا كان التخليل بخنصر اليد اليسرى فهو أولى، لحديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا توضأت فخلِّل بين أصابع يديك ورجليك» رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد. وحسنه البخاري، ولحديث المستورد ابن شدَّاد قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخِنْصَره» رواه أبو داود والنَّسائي وابن ماجة والترمذي، وصححه ابن القطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 12- غسل الأعضاء سوى الرأس والأُذنين ثلاثاً: قد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ حيناً مرة مرة، وحيناً آخر مرتين مرتين، وحيناً ثالثاً ثلاثاً ثلاثاً، وحيناً رابعاً يغاير بين الأعضاء في العدد. فعن ابن عباس رضي الله عنه قال «توضأ - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة» رواه البخاري وأحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي. وعن عبد الله بن زيد «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين» رواه البخاري وأحمد. وعن عثمان رضي الله عنه قال «ألا أُريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً ... » رواه مسلم والترمذي وأحمد وأبو داود وابن ماجة. وقد مرَّ الحديث الذي رواه مسلم والبخاري عن عبد الله بن زيد، وجاء فيه « ... فدعا بإناءٍ فأكفأ منها على يديه فغسلهما ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض واستنشق من كفٍّ واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» . الحديث الأول دليل الغسل مرة مرة، والثاني مرتين مرتين، والثالث ثلاثاً ثلاثاً، والرابع مغايرة في العدد بين الأعضاء، فغسل الكفين والمضمضة والاستنشاق والوجه ثلاثاً ثلاثاً وغسل اليدين إلى المرفقين مرتين مرتين، وغسل الرجلين دون أن يذكر العدد. وهذه الأحاديث تدل على أن كل ذلك يجوز، وكل ذلك يصيب السُّنَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 إلا أن الواجب في العدد هو مرة واحدة، وأنَّ أعلى المندوب هو ثلاث مرات، وذلك لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً وقال: هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدَّى وظلم» رواه أحمد والنَّسائي وابن ماجة. ورواه ابن خُزَيمة وصححه. قال ابن حجر (رُوي من طرق صحيحة) فالزيادة على الثلاث إساءةٌ وتعدٍّ وظُلم، وهذه الألفاظ تفيد في مجموعها التحريم لأن التَّعدِّي حرام، والظلم حرام، والإساءة محتملة، فمن توضأ أربعاً أو أكثر كان آثماً متعدِّياً ظالماً مسيئاً. قال النووي (أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة، وعلى أن الثلاث سُنَّة) وقال عبد الله بن المبارك: لا آمن إذا زاد في الوضوء على الثلاث أن يأثم. وقال أحمد وإسحق: لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى. لكن روى أبو داود الحديث الأخير بلفظ « ... فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم» وقد أشكل هذا اللفظ على العلماء، لأنَّ أحداً منهم لا يخالف أن مرة مرة، ومرتين مرتين، جائزان ومُجزئان، بينما الحديث يقول «أو نقص» أي نقص عن الثلاث «فقد أساء وظلم» وهذا لا يقول به فقيه، ولذلك أخذوا في التأويل فأغربوا فيه. جاء في نيل الاوطار (وقد أشكل ما في رواية أبي داود من زيادة لفظ (أو نقص) على جماعة، قال الحافظ - أي ابن حجر - في التلخيص ( [تنبيه] يجوز أن تكون الإساءة والظلم مما ذكر مجموعاً لمن نقص ولمن زاد، ويجوز أن يكون على التوزيع، فالإساءة في النقص والظلم في الزيادة، وهذا أشبه بالقواعد، والأول أشبه بظاهر السياق والله أعلم، ويمكن توجيه الظلم في النقصان بأنه ظلم نفسه بما فوَّتها من الثواب الذي يحصل بالتثليث، وكذلك الإساءة لأن تارك السُّنَّة مُسيء، وأما الاعتداء في النقصان فمُشكل فلا بد من توجيهه إلى الزيادة، ولهذا لم يجتمع ذكر الاعتداء والنقصان في شيء من روايات الحديث) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 والصحيح أنه لا حاجة لهذه التأويلات البعيدة التي لا تغني شيئاً، والواجب ردُّ هذه الزيادة الشاذة في حديث أبي داود لأنها تخالف الأحاديث العديدة الصحيحة التي تجيز المرة وتجيز المرتين، فالحديث يُردُّ لمعارضة الأحاديث الصحيحة. ثم إن هذا الحديث ليس من الأحاديث الصحيحة ولا حتى من الحسنة، فهذا الحديث هو مما سكت عنه أبو داود فلم يصحِّحه ولم يحسِّنه، ومثل هذه الأحاديث المسكوت عنها ربما صلحت للاحتجاج إلا أن يعارضها حديث صحيح أو حسن فترد، وما نحن بصدده هو من هذا القبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وقد قرأت رأيا منسوباً لأبي بكر بن العربي مغايراً لما عليه عامة الفقهاء أنقله وأناقشه، وهو (ظن بعض الناس بل كلهم أن الواحدة فرض والثانية فضل والثالثة مثلها والرابعة تعدٍّ، وليس كما زعموا وإن كثروا، وإنما رأى الراوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غرف لكل عضو مرة فقال توضأ مرة، وهذا صحيح صورة أو معنى صورة، إنَّا نعلم قطعاً أنه لو لم يُوعب العضو بمرَّةٍ لأعاد، وأما ما زاد على غرفة واحدة في العضو أو غرفتين فإنَّا لا نتحقق أنه أوعب الفرض في الغرفة الواحدة، وجاء ما بعدها فضلاً، أو لم يوعب في الواحدة ولا في الاثنتين، حتى زاد عليها بحسب الماء وحال العضو في النظافة، وتأتَّى حضور التلطُّف في إدارة الماء القليل والكثير عليها، فيشبه والله أعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يوسِّع على أمته بأن يكرر لهم الفعل، فإن أكثرهم لا يستطيع أن يُوعب بغرفة واحدة، ولأجل هذا لم يوقِّت مالك في الوضوء مرة ولا مرتين ولا ثلاثاً إلا ما أسبغ ... ) إلى آخر ما قال. وغفر الله له، فقد أراد الانتصار لمذهبه المالكي بمثل هذا التأويل البعيد، فإن تحويله المرات في الوضوء إلى غرفات بقدرها هو تحويلٌ لا يصح، وذلك لأن الغرفة الواحدة إن لم تكف غسل العضو كله لا يقال إنه توضأ مرة، أو غسل العضو مرة، لأنه في حالة عدم كفاية الماء لغسل العضو كله لا يكون وضوءٌ ولا يكون غسلٌ، ومن ثم لا يكون مرة، وحين جاءت الأحاديث بالوضوء مرة ومرتين وثلاثاً فُهم منها أن الوضوء يتمَّ بمرة وبمرتين وبثلاث، وأنه لو افترضنا أنه غرف للوجه غرفة فلم تكف فأوعبه بغرفة ثانية لا يقال إنه توضأ مرتين وإنما يقال توضأ مرة بغرفتين، والفارق واضح جداً، ولم تأت الأحاديث بالغرفات ثم ربطتها بالمرات، وإنما أطلقت المرات وربطتها بالوضوء، فبان الفارق بينهما، فحين يقول الحديث توضأ مرتين فإنه يعني غسل وجهه مثلاً مرتين، ولا يعني غسل وجهه مرة بغرفتين، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 كاف في إسقاط هذا الرأي، ولسنا في حاجة لمزيد، فإن الأمر من الوضوح والظهور بحيث لا يخفى. 13- الترتيب: وهو الفرض السادس من فروض الوضوء. وقد ذهب الأئمة فيه مذهبين، فذهب الشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وابن قُدامة إلى وجوب الترتيب. وذهب النخعي ومكحول وأبو حنيفة وداود ومالك والثوري وابن المسيِّب والزهري وعطاء والحسن إلى أنه غير واجب. والصحيح أن الترتيب واجب، ولندخل في المناقشة لبيان صحة هذا الرأي. استدل القائلون بالوجوب بالأدلة التالية: 1- قوله تعالى {يا أيُّها الذين آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ وامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ} الآية 6 من سورة المائدة. 2- عن حُمران مولى عثمان رضي الله عنه «أنه رأى عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مِرارٍ فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات، ثم قال: قال رسول الله: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه غُفر له ما تقدم من ذنبه» رواه مسلم والبخاري وأبو داود، وقد مرَّ. 3- عن عمرو بن عبسة قال «.. فقلت يا نبي الله فالوضوء حدثني عنه، قال: ما منكم رجل يقرِّب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر، إلا خرَّث خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرَّت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرَّت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرَّت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرَّت خطايا رجليه من أنامله مع الماء ... » رواه مسلم. ورواه أحمد وفيه « ... ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله عزَّ وجلَّ ... » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 الآية الكريمة تدل على وجوب الترتيب، فإنه سبحانه وتعالى أدخل ممسوحاً بين مغسولين، والعرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة، ولا فائدة هنا سوى الترتيب. فإن قيل إن هذا القطع يفيد الاستحباب للترتيب دون الوجوب، قلنا إن الآية الكريمة قد جاءت تبين الواجب في الوضوء فقط، ولم تأت على ذِكْر أيِّ مندوب من مندوبات الوضوء، وهذا الترتيب جاء في أثناء بيان الوضوء المُجْزِيء، فكان ذلك قرينة على إفادة الوجوب، ثم إن كل من حكى وُضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حكاه مرتباً، وهو مُفسِّر لما أجملته الآية الكريمة. والحديث السابق الذي رواه عثمان رضي الله عنه ظاهرٌ فيه الترتيب، وكذلك حديث عمرو بن عبسة، وكثير غيرهما كلها جاءت بترتيب مقصود، فهذه الأحاديث يظهر فيها الترتيب لوجود حرف (ثم) وهذا الحرف كما هو معلوم يفيد الترتيب، فحديث عثمان رضي الله عنه جاء فيه «ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض ... ثم غسل وجهه ... ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ... » وحديث عمرو بن عبسة كذلك «ثم إذا غسل وجهه ... ثم يغسل يديه ... ثم يمسح رأسه ... ثم يغسل قدميه ... » وهكذا الأحاديث الأُخر وقد مرت، ولم تكتف هذه الأحاديث بترتيب الأفعال بـ (ثم) بل أضافت «من توضأ نحو وضوئي هذا» فهذا نصٌّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكيفية، لأن كلمة (نحو) تفيدها، فالغسل للوجه واليدين والرِّجلين من الكيفية، ومسح الرأس من الكيفية، والترتيب يدخل في الكيفية، ولا يخرج منها إلا بدليل ولا دليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 فالرسول عليه الصلاة والسلام غسل وجهه، وبعد غسل الوجه غسل اليدين، وبعد غسل اليدين مسح الرأس، وبعد مسح الرأس غسل الرِّجلين، وقال: توضأوا هكذا، أي توضَّأوا بهذه الكيفية، فلو مسح أحدنا وجهه فإنه يخالف الكيفية، ولو غسل أحدنا رأسه لخالف الكيفية، ولو غسل الرِّجلين قبل الوجه لخالف الكيفية ولما صح وضوؤه. ثم إن حديث عمرو بن عبسة يقول في موضعين (كما أمره الله) هكذا «ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله ... ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله عزَّ وجلَّ ... » فهذا النص وإن كان صريحاً في كيفية الأفعال بذاتها دون ترتيبها، فإنه يفيد أيضاً ترتيب هذه الأفعال، لأن غسلها ومسحها إنما كان بأمرٍ من الله، وأن الله سبحانه الذي أمر بهذه الأفعال بكيفيتها هذه قد رتب هذه الأفعال نفسها في الآية الكريمة، فهو قد أمر بأفعال أربعة وأوجبها، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بفعلها، ولم يكتف منه بفعلها دون أن يأمره بفعلها على كيفية معنية، وجاء فعله عليه الصلاة والسلام لتحقيق أمر الله سبحانه، فرتَّبها كترتيب الآية في كل مرة توضأ فيها، ولم تتخلف هذه الكيفية، مما يدل على التزامه بها وإيجابه إياها. فمثلاً كان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة، ثم روى بريدة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعتَ اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، قال: عمداً صنعتُه يا عمر» رواه مسلم. وقد دل الحديث على أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن لا يُوهم المسلمين بأن الوضوء يجب لكل صلاة لكونه يتوضأ لكل صلاة، فحتى يزيل الإشكال وينفي الوجوب تخلف عن عادته في التزام الوضوء لكل صلاة في فتح مكة، وهذا مثل ذاك، فالرسول عليه الصلاة والسلام التزم بترتيب أفعال الوضوء في كل مرة حتى قُبض، فدلَّ ذلك على أنه واجب. فإذا قيل بل ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه توضأ خلاف هذا الترتيب كما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 1- عن المقدام بن معد يكرب قال «أُتي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بوَضوء، فتوضأ فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً» رواه أحمد. 2- عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيِّع بنت معوَّذ بن عفراء قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتينا فحدثتنا أنه قال: اسكبي لي وضوءاً، فذكرت وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت فيه: فغسل كفيه ثلاثاً، ووضَّأ وجهه ثلاثاً، ومضمض واستنشق مرة، ووضَّأ يديه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه مرتين، يبدأ بمؤخَّر رأسه ثم بمقَدَّمه وبأُذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما، ووضَّأ رجليه ثلاثاً ثلاثاً» رواه أبو داود. وروى الدارقطني والترمذي وابن ماجة وأحمد قريباً منه. 3- عن عثمان رضي الله عنه قال «هلمُّوا أتوضأ لكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين حتى مسَّ أطراف العضُدين، ثم مسح برأسه، ثمَّ أمرَّ يديه على أذنيه ولحيته، ثم غسل رجليه» رواه الدارقطني. وقالوا إن الحديث الأول جعل المضمضة والاستنشاق عقب غسل الوجه وغسل اليدين، وإن الحديث الثاني جعل المضمضة والاستنشاق عقب غسل الوجه، وإن الحديث الثالث جعل إمرار اليدين على اللحية عقب مسح الرأس، وهذا مغاير للترتيب. أجل، فإن قيل هذا القول رددنا عليه بما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 الحديث الأول رواه حريز عن عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي، وعن عبد الرحمن هذا قال ابن المُدَيني: مجهولٌ لم يرو عنه غير حريز. فالحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج فيُرد. والحديث الثاني رواه خمسة من رجال الحديث، ولكن جميع هذه الروايات عند الخمسة مدارها على عبد الله بن محمد بن عقيل، قال عنه الشوكاني (فيه مقال) وقال العباس بن يزيد: هذه المرأة التي حدَّثت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بدأ بالوجه قبل المضمضة والاستنشاق وقد حدَّث به أهل بدر منهم عثمان وعليٌّ أنه بدأ بالمضمضة والاستنشاق قبل الوجه والناس عليه. ولا يبعد أن يكون ذلك من قبل عبد الله بن محمد ابن عقيل وليس من قبل المرأة، فقد قال ابن حِبَّان عنه (رديء الحفظ يجيء بالحديث على غير سُننه فوجبت مجانبةُ أخباره) . وقال أبو زُرعة: يختلف عنه في الأسانيد. وقال البخاري (هو مقارب الحديث) . وقال ابن خُزَيمة (لا يُحتجُّ به) . فحديث ابن عقيل ربما صلح للاحتجاج ولكن على أن لا يخالف ما عليه الثقات وهنا قد خالفهم، فوجب طرح هذا الحديث. والحديث الثالث في إسناده محمد بن اسحق وهو ضعيف إذا عنعن، وهنا قد عنعن، فيكون الحديث ضعيفاً، ثم هو معارِضٌ لما رواه عثمان نفسه بالإسناد الصحيح، وعثمان هناك ذكر أنه وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهنا يذكر أنه أيضاً وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحيث أن الراوي واحد والاختلاف موجود بين الروايتين، فيجب أخذ الرواية الصحيحة وردُّ الرواية الضعيفة المخالفة. فهذه الأحاديث الثلاثة إما ضعيفة وإما أنها غير صحيحة، وكلها تعارض الأحاديث الصحيحة فلا تنتهض لمعارضتها والوقوف أمامها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 ولا أريد أن أقول بقول بعضهم إن هذه المخالفات في الترتيب قد حصلت في مندوبات الوضوء، وإنما الترتيب في الفروض، أجل لا أريد أن أقول بهذا القول، لأن الواجب في الترتيب هو في فروض الوضوء ومندوباته، فالوضوء عبادة، وأيَّة عبادة سواء كانت فرضاً أو مندوباً إن أُريد الإتيان بها وجب الإتيان بها بكيفيتها على سواء بين الواجب والمندوب، فصلاة الظهر أربع، وصلاة الاستسقاء ركعتان، الظهر فرض، والاستسقاء سنة، فإن أُتي بهما وجب أن يصلي الظهر أربعاً والاستسقاء اثنتين، وبالكيفية المعهودة. وهكذا كل العبادات ذوات الكيفيات لا بد لإقامتها أو للقيام بها من الالتزام بكيفياتها. فالوضوء فيه فروض وفيه سنن، فإن أُريد الإتيان بسننه وجب الإتيان بها بكيفيتها، فإن أَتَى بها بغير ذلك أثم، فهو إما أن يأتي بسنن الوضوء كما وردت، وإما أن لا يأتي بها مطلقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 أما ما يستدل به القائلون بعدم الوجوب بما روي عن علي رضي الله عنه قال «ما أبالي إذا تمَّمت وضوئي بأي أعضائي بدأت» وبما رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك في الوضوء» رواهما ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي. فنقول: أما الحديث الأول فهو قولُ صحابي، وأقوال الصحابة ليست أدلة، هذه واحدة. والثانية أن هذا الحديث فيه عبد الله بن عمرو بن هند قال عنه الدارقطني (ليس بقوي) وقال البيهقي عن هذا الحديث (والله أعلم على أنه منقطع ... قال عوف ولم يسمعه من علي رضي الله عنه) . فالحديث إذن ضعيف لا يصلح للاستدلال. وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال «ما أُبالي لو بدأت بالشمال قبل اليمين إذا توضأت» رواه الدارقطني والبيهقي. فهذا الحديث أيضاً ضعيف وإن كان معناه مقبولاً، ففي إسناده زياد مولى بني مخزوم قال عنه يحيى بن معين: لا شيء. وأما الحديث الثاني فهو أيضاً قول صحابي، وأقوال الصحابة كما قلنا ليست أدلة، ثم إن هذا الحديث ضعيف هو الآخر، فقد قال عنه الدارقطني (هذا مرسَل ولا يثبت) ونقل البيهقي كلام الدارقطني وأضاف (وهذا لأن مجاهداً لم يدرك عبد الله بن مسعود) فالحديث ضعيف لأنه منقطع فلا يصلح للاستدلال. وبذلك يظهر أن الترتيب في الوضوء واجب لا فرق بين فروضه وسننه، وأن مخالفة الترتيب فيهما إثم ولا يجوز. إلا أن مخالفة الترتيب في فروض الوضوء يختلف عنها في سننه من حيث الإجزاء، فمخالفة الترتيب في الفروض فضلاً عن كونها إثماً تبطل الوضوء، لأنها تعني عدم إتيانٍ بالفروض على وجهها، فكأنه بذلك لا يكون أتى بالفروض، في حين أن مخالفة الترتيب في السنن إثم فقط، وهي تعني الإتيان بالسنن على غير وجهها، وما دام الإِتيان بالسنن ليس واجباً، وليست هي من الوضوء المُجْزِيء، فإن مخالفة الترتيب التي تبطل هذه السنن وتسقطها لا تؤثر في الوضوء من حيث إجزاؤُه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 14- التيمُّن: ونعني به غسل اليد اليمنى قبل اليد اليسرى، وغسل الرِّجل اليمنى قبل الرِّجل اليسرى في الوضوء، ولا يكون التيمُّن في غير اليدين والرِّجلين، فليس في غسل الوجه ولا في مسح الرأس يمين ولا شمال. والتيمُّن سنة وليس فرضاً، وهو ما اتفق عليه العلماء. قال النووي (أجمع العلماء على أن تقديم اليمين في الوضوء سُنَّة، من خالفها فاته الفضل وتمَّ وضوؤه) وعلق ابن حجر على هذا القول بالقول (ومراده بالعلماء أهل السُنَّة، وإلا فمذهب الشيعة الوجوب) وقال ابن قُدامة في المغني (لا نعلم في عدم الوجوب خلافاً) . وقد وردت في التيمُّن النصوص التالية: 1- عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمُّن في تنعُّله وترجُّله وطُهوره وفي شأنه كله» رواه البخاري ومسلم. والتَّرجُّل: تسريح الشعر وتمشيطه. 2- وروى أحمد الحديث السابق بلفظ «كان يحب التيمُّن في الوضوء والترجَّل والتنعُّل» ورواه ابن مندة وصحَّحه. 3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا توضأتم فابدأوا بميامنكم» رواه ابن ماجة وأبو داود وأحمد وابن خُزَيمة وابن حِبَّان، وصحَّحه ابن دقيق العيد وابن عبد البَرِّ. الأحاديث الثلاثة كلها صحيحة تصلح للاحتجاج على المسألة، فقوله «يعجبه التيمُّن في تنعله وترجله وطُهوره» واضح في الاستحباب لقرينة (يُعجب) ولو كان التيمُّن واجباً لما كان اللفظ هكذا. وكلمة (طُهوره) تشمل الغُسل وتشمل الوضوء، لأن كلا الفعلين طهارة وطهور، وأصرح منه الحديث الثاني «يحب التيمُّن في الوضوء» فهو منطوق في الوضوء، وأنه مستحب لقرينة (كان يحب) وللقرينة في الحديث السابق (يُعجب) . أما الحديث الثالث «إذا توضأتم فابدأوا بميامنكم» فهو أمرٌ منه عليه الصلاة والسلام بالبدء باليمين حين الوضوء، وهذا الأمر يفيد الندب للقرينة في الحديثين السابقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 15- الموالاة: هي تتابع غسل الأعضاء بعضِها إثْرَ بعض بحيث لا يؤخر المتوضيء غسل العضو التالي إلى أن يجف ماء غسل العضو السابق، وبحيث لا يقطع وضوءه بعملٍ أجنبي يُعدُّ في العُرف انصرافاً عنه. وهذه الموالاة واجبة في الوضوء. وممن ذهب إلى وجوبها مالك والشافعي في قولٍ له، وأحمد والأوزاعي، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في قولٍ آخر له. ولنستعرض النصوص لنتبين وجه الصحة في وجوبها: 1- عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعةٌ قدرَ الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء والصلاة» رواه أبو داود. ورواه أحمد بدون «والصلاة» . قال أحمد: هذا إسناده جيد. 2- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أنه رأى رجلاً توضأ فترك موضع ظُفر على ظهر قدمه فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ارجع فأحسن وضوءك، فرجع فتوضأ ثم صلَّى» رواه أحمد. ورواه مسلم بلفظ « ... فرجع ثم صلى» . 3- عن أنس بن مالك «أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد توضأ، وترك على قدمه مثل موضع الظُّفْر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ارجع فأحسن وضوؤك» رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وابن ماجة وابن خُزَيمة. وجوَّد أحمد إسناده. 4- عن ابن عمر عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قالا «جاء رجل قد توضأ وبقي على ظهر قدمه مثل ظفر إبهامه لم يمسَّه الماء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ارجع فأتمَّ وضوءك ففعل» رواه الدارقطني. ورواه الطبراني عن أبي بكر رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 الحديث الأول أعلَّه المنذري بالراوي بقية بن الوليد واتهمه بالتدليس إذا عنعن، ولكن أحمد قد روى الحديث مصرِّحاً بتحديث بقية، وبذلك يظهر أن لا وجه لإعلال المنذري، وقال ابن القطان والبيهقي هو مرسل، ورد عليهما الحافظ ابن حجر بقوله (فيه بحث) وذلك أن البحث في ذلك من جهة أن خالد بن معدان قال «عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -» وهذا لقول منه وصلٌ وليس إرسالاً، ثم إن جهالة الصحابي غير قادحة، فالحديث غير معلول وغير ضعيف ويصلح للاحتجاج. والحديث الثاني صالح للاحتجاج، فقد رواه مسلم دون ذِكر (فتوضأ) ورواه أحمد بسند مقبول بزيادة (فتوضأ) والزيادة يتعين المصير إليها، فيُعمل بحديث أحمد. والحديث الثالث هو مثل الحديث الأول جوَّد أحمد إسناده، فالحديث صالح للاحتجاج. أما الحديث الرابع ففيه المغيرة بن سقلاب عن الوازع بن نافع، قال الدارقطني (الوازع بن نافع ضعيف الحديث) وذكره العقيلي في الضعفاء، فالحديث إذن لا يصلح للاحتجاج. فلم يبق إذن سوى الأحاديث الثلاثة الأولى. إنَّ الحديث الأول يقول «فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء والصلاة» والحديث الثاني يقول «ارجع فأحسن وضوءك، قال فرجع فتوضأ ثم صلَّى» والحديث الثالث يقول «ارجع فأحسن وضوءك» وهو جزء من الحديث الثاني، بمعنى أن الحديث الثاني يقوم مقامه، فيبقى معنا حديثان اثنان فقط: الأول والثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 أما الثاني ففيه الأمر بإحسان الوضوء، وأما الأول ففيه الأمر بإعادة الوضوء، والأمر بإعادة الوضوء منطوق، وهو قوي في دلالته على الموالاة، في حين أن الأمر بإِحسان الوضوء في الحديث الثاني محتمِلٌ الإعادة ومحتمِلٌ الإتمام والإسباغ، والمحتمِل يُحمل على الصريح، ويقوِّي جانب الإعادة في هذا الحديث القول «فرجع فتوضأ» ولو كان الصحابي يعلم كفاية الإسباغ أو الإتمام لما توضأ من جديد. فإن قيل ربما أراد الصحابي مزيد ثواب قلنا: حتى يثبت ذلك نقول به. وبذلك يظهر أن حديث الإعادة يجب المصير إليه ويتعين العمل به، وتُحمل أحاديث الإحسان عليه. وحيث أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر من ترك شيئاً من رجله دون غسل أن يعيد الوضوء، فإن ذلك دليل على وجوب الموالاة. وبذلك يترجح لدينا رأي من قالوا بوجوب الموالاة. ولا يقال إنَّ أمره عليه الصلاة والسلام بإعادة الوضوء هو للندب، لا يقال ذلك لأن أمره بالإعادة فيه دلالة على أن الوضوء السابق باطل، وذلك لأن المعلوم أن من توضأ على وضوء صحيح لا يقال عنه إنه أعاد الوضوء، وإنما يقال عنه إنه توضأ ثانية، فالأمر بالإعادة فيه كامل الدلالة على بطلان الوضوء السابق، وكونه باطلاً هو دليل على وجوب الوضوء وليس على الندب. هذا ونُذكِّر بأنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام لم يُرْوَ عنه ولا مرة أنه لم يُوال في وضوئه ولو أراد أن يبين جواز ترك الموالاة لفعل ذلك ولو مرة واحدة، لأن البيان في معرض الحاجة واجب، ولم يأت بيانٌ لترك الموالاة فوجب المصير إلى ما جرت عليه عادته عليه الصلاة والسلام في وضوئه من دوام التزامه بالموالاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 أما ما نراه من الحد الفاصل بين الموالاة وعدمها، فهو أن لا يُؤخِّر المتوضيء غسل العضو التالي إلى أن يجفَّ ماءُ العضو السابق في الظروف الاعتيادية، فلو غسل وجهه ثم توقف عن غسل يديه حتى جف ماء وجهه بطل وضوؤه، ووجب أن يبدأ الوضوء من جديد، إلا أن ينشغل في إزالة الوسخ أو الدلك فلا بأس. وثمَّة شيءٌ آخر يُخلُّ بالموالاة هو أن يقطع المتوضيء وضوءه بعملٍ أجنبي لا علاقة له بالوضوء بشكل يُظهر المتوضيء على أنه انصرف عن إتمامه، كأن يغسل وجهه ثم يترك الماء ليذهب إلى طاولة ويبدأ يخط رسالة، فإن هذا الفعل وأشباهه يبطل الوضوء حتى ولو لم يَنْشَف ماء الوجه في هذه الحالة. أما وجه دلالة الحديثين على الموالاة فهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر من رأى على قدمه جفافاً يدل على أن الماء لم يصله، لم يأمره بغسل ذلك العضو فقط، ولم يأمره بأن يتم ما نقص من وضوئه، بل أمره بالإعادة، وذلك لأن الموالاة قد انتفت، فوجب البدء بالوضوء من جديد. الدعاءُ عقب الفراغ من الوضوء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 يسنُّ للمتوضِّيء عقب الفراغ من وضوئه أن يقول [أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التَّوَّابين واجعلني من المتطهرين، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك] فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «ما منكم من أحدٍ يتوضأ فيبلغ، أو فيُسْبِغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله إلا فُتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيِّها شاء» رواه مسلم وأحمد. وعن عقبة بن عامر الجهني «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال، فذكر مثله، غير أنه قال: من توضأ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» رواه مسلم. ورواه الترمذي والبزَّار والطبراني بزيادة «اللهم اجعلني من التَّوَّابين واجعلني من المتطهرين» . أما ما رواه الطبراني في كتاب [الدعاء] والنَّسائي في كتاب [عمل اليوم والليلة] والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من قال إذا توضأ بسم الله وإذا فرغ قال سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، طُبع عليها بطابع، ثم وُضعت تحت العرش فلم تُكْسَر إلى يوم القيامة» فهي صحيحة إن اعتُبرت موقوفة، ومختلفٌ على صحتها إن اعتُبرت مرفوعة للنبي عليه الصلاة والسلام. ذلك أن النَّسائي صحَّح الموقوف فقط، وضعَّف الحازمي الرواية المرفوعة، وكذلك فعل غيرهما. أما الحاكم فقد قال (صحيحٌ على شرط مسلم ولم يخرجاه) . وأما ابن حجر العسقلاني فقال (أما المرفوع فيمكن أن يضعَّف بالاختلاف والشذوذ، وأما الموقوف فلا شك ولا ريب في صحته، ورجاله من رجال الصحيحين فلا معنى للحكم عليه بالضعف) . والذي أراه هو أن الحديث صالح للاستدلال، أعني بذلك الحديث المرفوع، ذلك أن يحيى بن كثير الذي رفع الحديث هو من رجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 الصحيحين، والزيادة من الثقة مقبولة، ثم إن هذا القول الوارد في الحديث لا مجال للرأي فيه، فله حكم الرفع. هذا هو الوارد في باب الدعاء عقب الوضوء من نصوص صالحة للاحتجاج وللاستشهاد وما سواها لا يصلح ولا يُلتفت إليه، من مثل ما ذكره بعض الشافعية والحنفية من الدعاء عند كل عضو كقولهم عند غسل الوجه (اللهم بيِّض وجهي ... إلخ) قال النووي في الروضة (هذا الدعاء لا أصل له) وقال ابن الصلاح: لم يصحَّ فيه حديث. وقال ابن حجر (رُوي فيه عن علي من طرق ضعيفة جداً) وقال (في إسناده من لا يُعرف) وقال ابن قيم الجوزية (ولم يُحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئاً غير التسمية، وكل حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه فكذب مختلق لم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً منه ولا علَّمه لأمته، ولا يثبت عنه غير التسمية في أوله، وقوله أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين في آخره) . ويبدو أن ابن القيم لم يصحَّ عنده حديث الطبراني الأخير كما صح عندنا فقال ما قال. الصلاة ركعتين عقب الفراغ من الوضوء : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 يسنُّ للمتوضِّيء أن يصلى ركعتين بعد الوضوء لما روى عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه غُفر له ما تقدم من ذنبه» رواه مسلم والبخاري وأبو داود. وقد مرَّ بتمامه في بند الترتيب. ولما روى أبو هريرة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال عند صلاة الفجر: يا بلال حدِّثْني بأرجى عملٍ عملتَه في الإسلام، فإني سمعت دُفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة، قال: ما عملتُ عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طُهوراً في ساعةِ ليلٍ أو نهار إلا صلَّيتُ بذلك الطُّهور ما كُتب لي أن أصلي» رواه البخاري ومسلم وأحمد. ولما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال « ... فأدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً يحدِّث الناس، فأدركت من قوله: ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مُقبلٌ عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة ... » رواه مسلم وأبو داود وابن خُزَيمة والنَّسائي. فهذه الأحاديث الثلاثة الصحيحة تندب إلى الإتيان بركعتين على الأقل عقب الفراغ من الوضوء، وأنهما تجلبان المغفرة وتُدخلان صاحبهما الجنة. مسائل المسألة الأولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 يُسن للمسلم أن يتوضأ لكل صلاة، كما يسن له أن لا يبقى دون وضوء فترة طويلة بل يظل على وضوء، وهذا ما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى بريدة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد ومسح على خُفَّيه، فقال له عمر: لقد صنعتَ اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، قال: عمداً صنعتُه يا عمر» رواه مسلم. وقد مرَّ الحديث ووجه الاستدلال به في بند الترتيب ورواه أحمد بلفظ «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد فقال له عمر: يا رسول الله إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله، قال: إني عمداً فعلت يا عمر» . وعن أنس قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يُجزيء أحدَنا الوضوءُ ما لم يُحدِث» رواه البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائي. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، ومع كل وضوء بسواك» رواه أحمد بسند صحيح. وروى ابن حِبَّان عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع الوضوء عند كل صلاة» . المسألة الثانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 يجوز للمسلم أن يستعين بغيره في الوضوء لما روى المغيرة بن شعبة قال «بينا أنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة إذ نزل فقضى حاجته، ثم جاء فصببتُ عليه من إداوةٍ كانت معي، فتوضأ ومسح على خُفَّيه» رواه مسلم والبخاري. وهذا الحديث ردٌّ على من قالوا بكراهة المعاونة في الوضوء مثل الغزالي وغيره من أصحاب الشافعي، الذين استدلوا على الكراهة بما روى البزَّار وأبو يعلى عن عمر رضي الله عنه أنه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقي ماءً لوضوئه، فقلت: ألا أُعينك عليه؟ قال: لا أُحب أن يعينني على وضوئي أحدٌ» . فهذا حديث باطل لا أصل له، قاله النووي. وهذا الحديث هو من طريق النضر ابن منصور عن أبي الجنوب، وأبو الجنوب والنضر ضعيفان لا يُحتجُّ بحديثهما، قال عثمان الدارمي (قلت لابن معين: النضر بن منصور عن أبي الجنوب وعنه عن ابن أبي معشر تعرفه؟ قال: هؤلاء حمَّالة الحطب) . فحديثهم هذا باطل لا يصلح للاحتجاج والعمل، فضلاً عن أن يصمد أمام حديث الشيخين. وقد استدلوا أيضاً بحديث ابن عباس رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَكِلُ طهوره إلى أحد ... » رواه ابن ماجة. ولكن هذا الحديث ضعيف، لأن فيه مطهر بن الهيثم وهو ضعيف. فمثل هذا الحديث والذي قبله لا يصلحان بحال من الأحوال للاستدلال بهما على كراهة المعاونة. وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - استعان بأسامة بن زيد والربيِّع بنت مُعوِّذ وصفوان بن عسال في صب الماء، إضافة إلى حديث المغيرة الصحيح السابق، وهذا كافٍ في إثبات جواز المعاونة في الوضوء. المسألة الثالثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 يجوز للمتوضيء أن يستعمل المنديل لتنشيف الماء عقب الفراغ من الوضوء، كما يجوز له ترك التنشيف، رُوي ذلك عن الحسن بن علي وأنس وعثمان ومالك والثوري وغيرهم. والدليل على جواز التنشيف ما رواه قيس بن سعد قال «زارنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منزلنا ... فأمر له سعد بغُسل فوُضع، فاغتسل، ثم ناوله، أو قال ناولوه، ملحفةً مصبوغة بزعفران ووَرْسٍ فاشتمل بها ... » رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي. وما رواه سلمان الفارسي «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فقلب جُبَّة صوف كانت عليه فمسح بها وجهه» رواه ابن ماجة بإسناد صحيح. وعن عائشة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له خرقة ينشِّف بها بعد الوضوء» رواه الحاكم. والدليل على جواز ترك التنشيف أن ميمونة رضي الله عنها وصفت غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت « ... ثم أُتي بمنديل فلم ينفض بها» رواه البخاري. وفي لفظ ثانٍ له « ... فناولته خرقة فقال بيده هكذا ولم يُرِدْها» . وفي لفظ ثالث له « ... فناولته ثوباً فلم يأخذه فانطلق وهو ينفض يديه» . ورواه مسلم بلفظ « ... ثم أتيته بالمنديل فردَّه» ورواه أيضاً عن ميمونة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بمنديل فلم يمسَّه، وجعل يقول بالماء هكذا يعني نفضه» . ما يُستحبُّ له الوضوء 1- النوم: إذا أراد المسلم أن ينام استُحب له أن يتوضأ فينام على وضوء، لما روى البراء بن عازب قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا أتيتَ مضجعَك فتوضأ وضوءك للصلاة ... » رواه البخاري ومسلم وأبو داود. ويتأكد استحباب الوضوء قبل النوم للجنب. وإنما قلنا بالاستحباب ولم نقل بالوجوب لما روى ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما «أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أينام أحدنا وهو جنب؟ فقال: نعم ويتوضأ إن شاء» رواه ابن حِبَّان وابن خُزَيمة. ودلالة الحديث واضحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 2- ذِكرُ الله عزَّ وجلَّ: لما روى المهاجر بن قنفذ «أنه سلَّم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ فلم يردَّ عليه حتى توضأ، فرد عليه وقال: إنه لم يمنعني أن أردَّ عليك إلا أني كرهتُ أن أذكر الله إلا على طهارة» رواه الإمام أحمد. ولما روى أبو جهيم بن الحارث قال «أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جَمَلٍ، فلقيه رجل فسلَّم عليه فلم يردَّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه أحمد. وبئر جَمَل: هو موضع قرب المدينة. والدليل على أن ذلك مندوب وليس فرضاً هو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يذكر الله أحياناً دون وضوء ويقرأ القرآن - وهو من الذِّكر - دون وضوء، فقد قالت عائشة رضي الله عنها «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة. وقال علي رضي الله عنه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن على كل حالٍ، ليس الجنابة» رواه النَّسائي. ورواه الترمذي، وقال (حديثٌ حسنٌ صحيح) . 3- معاودة الجماع: أي إذا أراد من جامع أهله مرة أن يعاود الجماع قبل أن يغتسل، استُحبَّ له الوضوء، لما رُوي عن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أتى أحدُكم أهلَه ثم أراد أن يعود فلْيتوضأ» رواه مسلم وأحمد وأبو داود. ورواه الحاكم والبيهقي بزيادة «فإنه أنشطُ للعَوْد» وهذه اللفظة تفرَّد بها شُعبة والتفردُ من الثقات مقبول. فقول الرسول عليه الصلاة والسلام «فإنه أنشط للعَوْد» يصرف الأمر إلى الندب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وهذا هو ما عليه جمهور المسلمين إلا أهل الظاهر، فقد ذهبوا إلى وجوب الوضوء على المعاود متمسكين بالحديث في روايته الأولى، وهو وقوف جامد على اللفظ غير مقبول ولا مستساغ، أعني به قوله «فلْيتوضأ» الذي يفيد الوجوب عندهم غير ناظرين في الروايات الأخرى. الفصل الحادي عشر المسحُ على الملبوس السَّاتر ما يُلبس على الرأس نستعرض الأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بهذه المسألة لنستخلص منها حكم المسح على ملبوس الرأس في الوضوء: أ- عن المغيرة بن شعبة قال «تخلَّف رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وتخلَّفت معه، فلما قضى حاجته قال: أمعك ماء؟ فأتيته بمِطْهَرةٍ فغسل كفيه ووجهه، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كُمُّ الجُبَّة، فأخرج يده من تحت الجُبَّة وألقى الجُبَّة على منكبيه، وغسل ذراعيه ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خُفَّيه، ثم ركب وركبتُ، فانتهينا إلى القوم وقد قاموا في الصلاة، يصلي بهم عبد الرحمن بن عوف وقد ركع بهم ركعة، فلما أحسَّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب يتأخر، فأومأ إليه فصلَّى بهم، فلما سلَّم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقمت، فركعنا الركعة التي سبقتنا» رواه مسلم والبخاري. وقد مرَّ. ب- عن بلال «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخُفَّين والخِمار» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائي. ج- عن عمرو بن أمية قال «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على عِمامته وخُفَّيه» رواه البخاري وابن ماجة وأحمد والدارمي. د- عن المغيرة بن شعبة قال «توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسح على الخفين والعِمامة» رواه الترمذي وقال (حسن صحيح) . هـ- عن ثوبان قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على الخُفَّين وعلى الخِمار ثم العِمامة» رواه أحمد والحاكم والطبراني وأبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 هذه الأحاديث الخمسة هي التي صحَّت عند أئمة الحديث وحسنت، بحيث كانت صالحة للاحتجاج، نكتفي بها ونضرب صفحاً عن الأحاديث الأخرى التي لم تصح ولم تسلم من المطاعن، لأنَّ هذه الأحاديث الخمسة فيها الكفاية أولاً، وحتى لا يطعن أحد في الحكم الذي نستنبطه منها ثانياً. الحديث الأول يقول «ومسح بناصيته وعلى العِمامة» والحديث الثاني يقول «مسح على الخُفَّين والخِمار» والحديث الثالث يقول «يمسح على عِمامته وخُفَّيه» والحديث الرابع يقول «ومسح على الخُفَّين والعِمامة» والحديث الخامس يقول «ومسح على الخُفَّين وعلى الخِمار ثم العِمامة» . من استعراض هذه النصوص نجد أن المسح المتعلق بغطاء الرأس ورد بثلاث حالات: إحداها المسح على العِمامة أو الخِمار فحسب - الثاني والثالث والرابع - والثانية المسح على الناصية وعلى العِمامة معاً - الحديث الأول - والثالثة المسح على الخِمار والعِمامة معاً - الحديث الخامس - وطبعاً نحن أخرجنا المسح على الخُفَّين لأنه هنا ليس موضع بحثنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ونقول إن الأول والثالث والرابع والخامس من الأحاديث ورد فيها لفظ العِمامة، والثاني والخامس ورد فيهما لفظ الخِمار، ليدلَّ ذلك على أن حكم المسح لا يتعلق بالعمائم فقط، بل بكل ما يُلبس على الرأس، وجاءت لفظة الخِمار تعمُّ كل غطاءٍ للرأس، فيدخل في ذلك القَلَنْسُوَةُ والطَّاقيةُ والطربوش وغيرها مما يُلبس على الرأس، والحديث الأول جاء بالمسح على العِمامة وعلى الناصية معاً، والحديث الخامس جاء بالمسح على العِمامة وعلى الخِمار. ومن هذين الحديثين يؤخذ حكمان: الأول أنه لا يجب في ملبوس الرأس الذي يُمسح عليه أن يغطي كامل الرأس ويواري جميع الشعر بدليل ورود المسح على الناصية لأنها كانت ظاهرة غير مغطاة، والثاني أن المسح على العمامة لا يكفي بل لا بد من المسح على بقية الرأس مما لم تغطِّه العِمامة. وأخيراً يُفهم من هذه النصوص حكم جواز المسح على العمائم في الوضوء وكل نص من هذه النصوص يفيد هذا الحكم. وقد مرَّ في بند مسح الرأس في الوضوء أن المسح المُجْزيءَ للرأس ينبغي أن يكون لجميع الرأس، واستدللنا من ضمن ما استدللنا به بالحديث الذي يقول بالمسح على الناصية وعلى العِمامة معاً، فلو كان مسح بعض الرأس يُجْزيء لمسح الرسول عليه الصلاة والسلام على الناصية فحسب ولما مسح على العِمامة، أو لَعَكَس فمسح على العِمامة دون الناصية فكونه مسح عليهما معاً فهو دليل على مشروعية مسح الرأس كله، سواء كان مكشوفاً أو مغطَّى، أو مكشوف الجزء ومغطَّى الجزء الآخر، إذ لا بد من أن يُمِرَّ يديه على رأسه كله دون اعتبارٍ للغطاء أو عدمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 هذه الأحكام استخلصناها من النصوص الصالحة للاستدلال، وهو استخلاص بيِّن الصحَّة، ولا ينبغي العدول عنه والقول بسواه. والمسح على العِمامة كان معلوماً لدى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى ابن أبي شيبة «أن أبا بكر وأبا موسى وأبا أمامة وأم سلمة قد مسحوا على العِمامة والخِمار، وأن عمر وسلمان قد أمرا بالمسح» . وقال الترمذي (وهو قول غير واحدٍ من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو بكر وعمر وأنس) ورواه ابن حجر في فتح الباري عن الطبري وابن خُزَيمة وابن المنذر، وهو رأي أحمد والأوزاعي ومالك وإسحق وأبي ثور وداود بن علي وابن حزم. وتوقف الشافعي في هذه المسألة وقال: إن صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبه أقول. وقد صح الخبر، فوجب ضم الشافعي إلى أصحاب هذا الرأي، أو على الأقل إخراجه من الفريق المعارض. وقد اختلف الأئمة في مشروعية الاقتصار على مسح العِمامة، فذهب سفيان الثوري ومالك وابن المبارك والشافعي وأبو حنيفة إلى عدم جواز الاقتصار على مسح العِمامة، وأنه لا بدَّ مع مسحها من مسح جزء من الرأس، واحتجُّوا بأن الله سبحانه فرض المسح على الرأس، والحديث في العِمامة محتمل التأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل، والمسح على العِمامة ليس بمسح على الرأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 فنقول إن هذا القول هو رفضٌ للمسح على العِمامة من أساسه، لأن قولهم إن المسح على العِمامة ليس بمسحٍ على الرأس، واضح فيه الرفض، إضافة إلى أن وجوب مسح جزء من الرأس مع مسح العِمامة هو رفضٌ آخر له، لأنهم يجيزون مسح الجزء من الرأس على إطلاقه، وهذا الرفض منهم مناهضٌ للنصوص الواضحة الصريحة، وهو إِعمالٌ للعقل فيما قال فيه الشرع قوله. فالمسح على العِمامة جائز ومشروعٌ في الوضوء، فإن كانت العِمامة تغطي جميع الرأس اكتُفي بمسحها وحدَها، وإن كانت تغطي جزءاً وتكشف جزءاً مُسح عليها وعلى الجزء المكشوف، ولا يُجْزيء مسح الجزء المكشوف فقط. قال ابن القيم (إنه لم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة، ولكن كان إذا مسح بناصيته أكمل على العِمامة) . أما كيفية المسح على العِمامة فإن ما قلناه عن مسح شَعَر الرأس نقوله عن مسح العِمامة تماماً، فالواجب إمرار اليدين على سائر العِمامة دون أن يصل البللُ بالضرورة إلى كل جزء منها، لأن المسح من شأنه عدمُ الاستيعاب كما ذكرنا من قبل، وما قلناه ينطبق على النساء كما ينطبق على الرجال سواء بسواء، فالرجل يمسح على ما يعتاده من غطاء الرأس، والمرأة تمسح على ما تعتاده من غطاء رأسها. أما هل يُمسح على العِمامة إذا لُبست على طهارة فحسب، أم يمسح عليها إطلاقاً؟ وهل للمسح على العِمامة توقيت؟ فالجواب أنه لم يرد نصٌّ من القرآن أو الحديث أو إجماعُ صحابةٍ على أيٍّ من الأمرين، فالمسلم فيهما في سعة من الأمر، وأنا لا أقول بقول ابن قُدامة وأبي ثور من اشتراط الطهارة قبل لبس العِمامة إذا أريد المسح عليها قياساً على الخفين، لأنه لا يصح هنا القياس، فالعبادات غير معلَّلة، ولا يصح فيها القياس إلا إذا جاءت معلَّلة، وهنا لم يجيء المسح معلَّلاً. ما يُعْصَب على الجُرح والجَبيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 يتناول هذا البحث ما يُعصب على الجرح من لفائف القطن وأنواع القماش وغيره، وما يُلفُّ به العضو المكسور من قماش وخشب وغير ذلك، وهو المسمى بالجبيرة وجمعها جبائر. إنَّ الواجب في اللفائف أن لا تزيد على موضع الجرح أو الكسر إذا أريد المسح عليها إلا ما تقتضيه الضرورة والعادة ويتطلبه الشدُّ والتثبيت، وهذه العصائب واللفائف إن كانت على عضو من أعضاء الوضوء مسح عليها كالمسح على الخف، وإن كانت على غير أعضاء الوضوء كأن كانت على الصدر أو الساق أو العضد فهي غير داخلة في هذا البحث. وهذه المسألة لم يرد فيها حديث صحيح سوى حديث جابر الوارد في الغسل وهو: عن جابر رضي الله عنه قال «خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجرٌ فشجَّه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصةً في التيمُّم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أُخبر بذلك فقال: قتلوه قتلهم الله، أَلاَ سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العيِّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمَّم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود والبيهقي. وصحَّحه ابن السكن. أما ما قال عليٌّ رضي الله عنه «انكسرت إحدى زنديَّ فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرني أن أمسح على الجبائر» رواه ابن ماجة. ففيه عمرو بن خالد كذَّبه أحمد وابن معين، وقال البخاري (منكر الحديث) . وحديث جابر وإن كان في الغُسل إلا أنه يصلح للاستدلال به على الوضوء، لأن الغُسل والوضوء شيء واحد فيما يتعلق بالجبيرة، والحديث يقول «يتيمَّم ويعصر أو يعصب على جُرحه خِرقة ثم يمسح عليها» فالجرح إذا غُطِّي بلفافة أو جبيرة مسح عليها بدل غسله، وينتقض وضوؤه بنزعها. والمسح على الجبيرة والعصابة يختلف عن المسح على الخف من ثلاث نواحٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 إحداها: أنه لا يجب للمسح على الجبيرة أن تكون موضوعة على طهارة كما هو الحال في الخُفِّ. الثانية: أنه لا وقت للمسح عليها بخلاف المسح على الخُفِّ فإنه مؤقَّتٌ بيوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر. والثالثة: أنه لا بد من التيممِّ عند المسح على الجبيرة بخلاف المسح على الخُفِّ الذي لا يجب معه التيمُّم. أما أنه لا يجب أن تكون الجبيرة موضوعة على طهارة، فلأن حديث جابر لم يشترطها، ولو كانت لازمة لذكرها، لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولأن الغاية من المسح عليها إنما هي منع الضرر من وصول الماء في الغُسل وفي الوضوء إلى الكسر أو الجرح، وهذه الغاية لا تتحقق بإلزام صاحب الجبيرة بتطهير الجرح بالماء قبل لفِّه بها، إذ لو وجب تطهيرُ الجرح بالماء لما كانت هناك حاجة للمسح أصلاً، ويستوي في هذا أن يكون التطهير المقصود هو إزالة نجاسة الدم أو أن يكون قد أُصيب وهو على وضوء، فكل ذلك لا يلزم، لأن من تكسر يده أو تجرح قد يحصل ذلك له وهو على غير وضوء، ولو كانت الطهارة لازمة لوجب أن نطلب منه أن يتوضأ ويغسل جرحه في أثناء الوضوء قبل أن يضع الجبيرة أو اللفافة، وهذا ينافي الغاية من المسح. وإذن فإنَّ مَن كان على غير وضوء إذا جُرح عَصَب على موضع الأذى ومسح عليه وتيممَّ، ولا يجب عليه إيصال الماء لجرحه لتنظيفٍ أو لوضوء. وأما أنه لا وقت للمسح عليها فللغاية السابقة نفسها، إذ لا توقيت لشفاء الجرح أو جبر الكسر بوقت معلوم، فالتوقيت يتنافى مع الغاية من المسح، فما دام الجرح جرحاً والكسر كسراً والماء يضرُّهما فإنه يتيمَّم ويمسح حتى تزول العلة ويتم الشفاء. وأما أنه لا بد من التيمُّم، فواضحٌ من حديث جابر، فقد أضافه إلى المسح على الجرح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 وقد رُوي عن الشافعي اشتراط أن توضع الجبيرة أو العصابة على طُهر، وكذلك رُوي عن أبي حنيفة، واختلفا فيما سوى ذلك، فذهب الشافعي إلى أن الجبيرة إنْ وضعت على غير طهارة لا يُمسح عليها ويلزم لها التيمُّم، وذهب أبو حنيفة إلى أن الجبيرة إن وضعت على غير طهارة لا يمسح عليها ولا تحلُّ بل تسقط كعبادةٍ تعذَّرت، ولأن الجبيرة كعضوٍ آخر، وآية الوضوء لم تتناول ذلك، واعتذر عن حديث جابر بأن فيه مقالاً، فنقول: أما قول الشافعي إنه لا يمسح عليها ويلزمه التيمُّم فقط، فإن حديث جابر يردُّ عليه، وحديث جابر لم يذكر إن كان الجرح قد عُصب على طهارة أو لا، مما يدلُّ على عدم الفارق بينهما، ولم يُسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ولم يبينِّه، فلا فرق إذن بين أن يكون وضع العصابة على طهارة أو غير طهارة، فالتفريق بينهما تحكُّمٌ بالنصِّ بدون وجه حق. وأما قول أبي حنيفة إنها عبادة تعذَّرت فسقطت فكذلك حديث جابر يردُّ عليه، إذ لو سقطت هذه العبادة لما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتيمُّم لها وبالمسح عليها، وأما أنه اعتذر عن حديث جابر بأن فيه مقالاً أو ضعفاً - والمقصود بالضعف هنا أنَّ في سنده الزبير بن مخارق - فإن ابن السكن قد صحَّح هذا الحديث، وابن حِبَّان قد ذكر الزبير في الثقات، فيصلح للاستدلال. والخلاصة أن الجبيرة توضع على الموضع حال الحاجة إليها دون وجوب تطهير الموضع بالماء، أو الوضوء وغسل الموضع في أثنائه، وإذا وضعت وأريد الغُسل أو الوضوء وجب التيمُّم ومسحها وإتمام الغسل وإتمام الوضوء فيما سوى ذلك. ما يُلبس في القدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وهو الحذاء أو النعل، والخُفُّ، والجُرموق، والجورب. أما الحذاء فمعلوم، وأما الخُفُّ فهو نعلٌ من جلد يغطي الكعبين، والجُرموق أكبر من الخُفِّ يُلبس فوقه، وأما الجَوْرب فقال صاحب القاموس: هو لِفافة الرِّجل. وقال ابن العربي: هو ما يلبسه أهل البلاد الشديدة البرد من غزل الصوف. فعن خالد بن سعد قال «كان أبو مسعود الأنصاري يمسح على جوربين له من شعر ونعليه» رواه عبد الرزاق. وروى ابن أبي شيبة «عن عُقبة بن عمرو أنه مسح على جوربين من شعر» . وجامع هذه الأسماء هو ما يلبسه الشخص في رجله من حذاء أو شبهه مما يستر به قدمه ويدفئها ويسِّهل عليها المشي، لا فرق بين أن يكون الملبوس من جلد أو صوف أو كتان أو مواد صناعية حديثة، ولا فرق بين أن يكون صلباً أو ليناً ما دام يستر القدم ويدفئها ويُسهِّل عليها المشي. وإنما قلنا بالستر والتدفئة والتسهيل لأن العادة جرت بأن تتوفر هذه الأوصاف في ملبوس القدم. وهذه الملبوسات منها ما يكون متيناً يتحمل وعورة الأرض في أثناء السير كالنعال، ومنها ما يكون أدنى من ذلك مما يكون من جلدٍ ناعم رقيق أو شعر أو وبَر أو صوف أو قماش، ومنها ما يكون واسعاً يُلبس على غيره، ومنها ما يكون ضيقاً يلبس عليه غيره، وكل هذه الأشياء تدخل في بحث المسح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وقد وردت مشروعية المسح على الأحذية في السنة النبوية المطهرة، ونُقلت عن جمهرة الصحابة واشتهرت في هذه الأمة الإسلامية شهرة واسعة. قال النووي (قد روى المسح على الخفين خلائقُ لا يُحصَوْن من الصحابة) وقال إبراهيم النخعي (مسحَ على الخفين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرُ بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وأبو مسعود الأنصاري وحذيفة والمغيرة بن شعبة والبراء بن عازب) رواه ابن أبي شيبة. وقال ابن حجر (قد صرَّح جمعٌ من الحُفَّاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضُهم رواتِه فجاوزوا الثمانين، منهم العشرة) وقال أحمد: فيه أربعون حديثاً عن الصحابة مرفوعة. وقال ابن المبارك (ليس في المسح على الخفين اختلاف أنه جائز، قال: وذلك أن كل من روي عنه من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كره المسح على الخفين، فقد رُوي عنه غير ذلك) ذكره ابن المنذر، وقال ابن عبد البَر: لا أعلم من روي عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك مع أن الروايات الصحيحة مُصرِّحة عنه بإثباته. أما ما رُوي عن عائشة وأبي هريرة من إنكار المسح فقال ابن عبد البر: لا يثبت. وقال أحمد: لا يصح حديث أبي هريرة في إنكار المسح، وهو باطل. وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه من القول بعدم المسح فمنقوض بما روي من طريق صحيحة عن علي من القول بالمسح، فعن شريح بن هانيء قال «أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم» رواه مسلم والنَّسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 ورغم كل ما سلف فقد ذهب أبو بكر بن داود الظاهري وغيره إلى إنكار المسح على الخفين، واستدلوا على دعواهم بآية المائدة التي ذكرت الوضوء وفيه غُسل الرِّجلين، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بالغسل «واغسل رِجلك» وقوله بعد غُسل الرِّجلين «لا يقبل الله الصلاة من دونه» ، وقوله «ويل للأعقاب من النار» ، وردوا أحاديث المسح بالقول إنها منسوخة بآية المائدة. وهؤلاء قد أخطأوا خطأً كبيراً وتعسَّفوا في الاستنباط والاستدلال. ولقد أحسن الشوكاني في الرد عليهم بقوله (أما الآية فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - المسح بعدها كما في حديث جرير المذكور في الباب، وأما حديث «واغسل رِجلك» فغاية ما فيه الأمر بالغسل وليس فيه ما يشعِر بالقصر، ولو سلم وجود ما يدل على ذلك لكان مخصصاً بأحاديث المسح المتواترة، وأما حديث لا يقبل الله الصلاة بدونه فلا ينتهض للاحتجاج به، فكيف يصلح لمعارضة الأحاديث المتواترة مع أنَّا لم نجده بهذا اللفظ من وجه يُعتدُّ به، وأما حديث «ويل للأعقاب من النار» فهو وعيد لمن مسح رجليه ولم يغسلهما، ولم يَرِد في مسح الخفين، فإن قلت هو عام فلا يقصر على السبب، قلت لا نسلِّم شموله لمن مسح على الخفين، فإنه يدع رجله كلها ولا يدع العقب فقط، سلَّمنا، فأحاديث المسح على الخفين مخصصة للماسح من ذلك الوعيد، أما دعوى النسخ فالجواب أن الآية عامة مطلقة باعتبار حالتي لبس الخف وعدمه، فتكون أحاديث الخفين مخصصة أو مقيدة، فلا نسخ ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وقال ابن حجر في فتح الباري (إن آية المائدة نزلت في غزوة المُرَيْسيع، وحديث المغيرة كان في غزوة تبوك، وتبوك متأخرة بالاتفاق) . وصرَّح أبو داود ومالك بأن حديث المغيرة في غزوة تبوك، وكذلك صرح الشافعي في مسنده. وروى البزَّار والطبراني وأحمد عن عوف بن مالك قال «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك بالمسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم» . أما حديث جرير وحديث المغيرة اللذان وردا في قولي الشوكاني وابن حجر فسنُوردهما بإذن الله مع غيرهما من الأحاديث الشريفة للتدليل على مشروعية المسح على الخفين. 1- عن همام قال «بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل: تفعل هذا؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم توضأ ومسح على خفيه» رواه مسلم وأبو داود وأحمد والنَّسائي والترمذي. 2- عن عبد الرحمن بن أبي نُعم عن المغيرة بن شعبة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين، فقلت: يا رسول الله أنسيت؟ قال: بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي» رواه أبو داود بإسناد صحيح. 3- عن المغيرة بن شعبة عند مسلم بلفظ « ... فغسل ذراعيه ومسح برأسه، ثم أهويتُ لأنزع خُفَّيه فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، ومسح عليهما» . 4- عن عبد الله بن عمر عن سعد بن أبي وقاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه مسح على الخفين، وأن عبد الله بن عمر سأل عمر عن ذلك، فقال: نعم إذا حدثك شيئاً سعدٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا تسأل عنه غيره» رواه البخاري وأحمد وابن خُزَيمة ومالك. 5- عن المغيرة قال «توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسح على الجوربين والنعلين» رواه الترمذي وقال (حسن صحيح) . ورواه ابن ماجة. 6- وسبق في بحث ما يُلبس على الرأس أحاديث بلال وثوبان وعمرو بن أمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 هذه الأحاديث الصحيحة تفيد مشروعية المسح على الخفين والنعلين والجوربين، وهذا صار معلوماً عند الفقهاء السابقين والمتأخرين، فلا يؤبه بقول من خالف ذلك، ويكفي حديث جرير دليلاً على أن الآية لا تفيد النسخ لأن جريراً متأخر الإسلام، فقد روى أبو داود حديث جرير وزاد «قالوا: إنما كان ذلك قبل نزول المائدة؟ قال: ما أسلمتُ إلا بعد نزول المائدة» . وروى الطبراني عن جرير قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين بعد نزول المائدة» . فهذا الحديث متأخر عن آية المائدة القائلة بغسل الأرجل، فلا تكون ناسخة له قطعاً، وكذلك حديث المغيرة متأخر عن نزول سورة المائدة لوقوعه في غزوة تبوك، ذكر ذلك أبو داود. وكذلك ما رواه عوف بن مالك عند البزَّار والطبراني وأحمد « ... أَمَرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك بالمسح على الخفين ... » وقد مرَّ قبل قليل بتمامه، قال أحمد: هذا أجود حديث في المسح على الخفين. وحسَّنه البخاري. وقال الهيثمي (رجاله رجال الصحيح) وهو نصٌّ في وقوع المسح في غزوة تبوك. ثم إن مالكاً روى في الموطأ حديث المغيرة «عن المغيرة بن شُعبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب لحاجته في غزوة تبوك ... فغسل يديه ومسح برأسه ومسح على الخفين ... » فهذا أيضاً نص صريح، فلا معنى للقول بنسخ الآية الكريمة لهذه الأحاديث، لأن المتقدم - وهو هنا الآية الكريمة - لا ينسخ المتأخر - وهو هنا الأحاديث - هذا في المسح عموماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 أما المسح على الجوربين بشكل خاص فقد توقف فيه بعض العلماء والفقهاء، منهم أبو حنيفة طيلة حياته إلا في الأسبوع الأخير، فقال بجواز المسح على الجوربين، وقال لعُوَّاده قبل موته بثلاثة أيام أو بسبعة: فعلت ما كنت أنهى عنه. إلا أن جمهرة العلماء والأئمة جوَّزوا المسح على الجوربين، ونُقل ذلك عن جمهور الصحابة. قال أبو داود (ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب وابن مسعود والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث، ورُوي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس) ورُوي المسح على الجوربين عن عمار وبلال بن عبد الله وابن عمر، وقال الترمذي (وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق قالوا: يمسح على الجوربين وإن لم يكن نعلين إذا كانا ثخينين) . أما توقيت المسح على الأحذية والنعال فنذكر له الأحاديث التالية: 1- حديث عوف بن مالك المار قبل هنيهة، وفيه «ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم» . 2- عن القاسم بن مخيمِرة عن شريح بن هانيء قال «أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله، فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم» رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة والنَّسائي. 3- عن صفوان بن عسَّال قال «أمَرَنا - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طُهر، ثلاثاً إذا سافرنا ويوماً وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما إلا من جنابة» رواه أحمد وابن خُزَيمة. وفي روايةٍ لأحمد والترمذي والنَّسائي « ... إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم» . قال الترمذي (هذا حديث حسن صحيح) وقال (قال محمد بن إسماعيل: أحسن شيء في هذا الباب حديث صفوان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 4- عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه رخَّص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة إذا تطهَّر ولبس خُفَّيه أن يمسح عليهما» رواه الدارقطني وابن خُزَيمة والطبراني وابن حِبَّان والبيهقي. وصححه الشافعي والخطَّابي وابن خُزَيمة. وقال البخاري (حديث أبي بكرة حديث حسن) . 5- عن خُزيمة بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوم وليلة» رواه أبو داود وأحمد. ورواه الترمذي وصححه، وكذلك صححه يحيى بن معين. فهذه الأحاديث الخمسة الصحيحة تبين أن مدة المسح على الأحذية للمقيم في الحضر يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، ومع ذلك فقد اختلف العلماء والأئمة في توقيت المسح، فذهب مالك والليث إلى أنه لا وقت للمسح على الخفين، وأن للمسلم أن يمسح ما بدا له من وقت سواء في ذلك المسافر والمقيم، وروي مثل ذلك عن عمر في رواية، وابنه عبد الله وعقبة بن عامر والحسن البصري. وذهب أبو حنيفة والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحق بن راهُويه وداود والطبري إلى التوقيت، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس وحذيفة والمغيرة وأبي زيد الأنصاري وعمر في الرواية الثانية، ومن التابعين شريح القاضي وعطاء والشعبي وعمر ابن عبد العزيز. قال ابن عبد البر: أكثر التابعين والفقهاء على ذلك. وأدلة هؤلاء هي الأدلة التي ذكرناها من قبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 أما أدلة النافين للتوقيت، فمنها ما أخرجه أبو داود من حديث أبيِّ بن عمارة، أنه قال «يا رسول الله أمسحُ على الخفين؟ قال: نعم، قال: يوماً؟ قال: يوماً: قال: ويومين؟ قال: ويومين، قال: وثلاثة؟ قال: نعم وما شئت» وفي رواية له «حتى بلغ سبعاً، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم وما بدا لك» وما رواه ابن حِبَّان عن خُزَيمة بن ثابت أنه قال «رخَّص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نمسح ثلاثاً، ولو استزدناه لزادنا» وما رواه ابن حِبَّان وابن ماجة « ... ولو مضى السائل على مسألته لجعلها خمساً» . حديث أبي داود من طريق ابن عمارة ضعيف، قال أحمد: رجاله لا يُعرفون. وقال الدارقطني (هذا إسناد لا يثبت، وفي إسناده ثلاثة مجاهيل) وقال ابن عبد البر: لا يثبت وليس له إسناد قائم. وقال أبو داود (إسناده ليس بالقوي) وعدَّه الجوزجاني في الموضوعات. وأما حديث خزيمة بن ثابت بالزيادة المذكورة فلا تقوم به حجة، لأن الزيادة على التوقيت مظنونة، فقوله «ولو استزدناه لزادنا» وقوله «ولو مضى السائل على مسألته» صريح في أنهم لم يسألوا ولم يُزادوا، فلا يصلح للاستدلال على عدم التوقيت. فمثل هذه النصوص الضعيفة وغير المفيدة لمزيدِ رأي لا تصمد أمام الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي ذكرت التوقيت، فيسقط قولهم ويثبت قول القائلين بالتوقيت. أما بدء مدة المسح، فمن حين الحدث وهو لابس وليس من حين المسح، لأن المسح عبادة مؤقتة، فاعتُبر أول وقتها من حين جواز فعلها وليس من حين المسح، وإن كان القول الآخر محتملاً، وليست لدينا نصوص ناطقة بترجيح أيٍّ من الرأيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 والواجب عند المسح على النعال والخفاف أن تكون ملبوسة على طهارة، أي على وضوء، والأدلة على ذلك حديث صفوان بن عسَّال السابق وفيه «نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طُهْر» وحديث المغيرة الأسبق وفيه «دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين» ورواه أبو داود بلفظ «دع الخفين فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان، فمسح عليهما» فهذه النصوص تدل على اشتراط الطهارة عند اللبس، ومقتضاه أن إدخالهما غير طاهرتين يقتضي عدم المسح. وهذا رأي مالك والشافعي وأحمد وإسحق. وخالفهم أبو حنيفة وسفيان الثوري ويحيى بن آدم والمزني وأبو ثور وداود، إذ قالوا يجوز اللبس على حدث ثم يكمل طهارته، وحملوا الأحاديث السابقة على اشتراط الطهارة من النجاسة، وليس الطهارة من الحدث. نعم إن لفظ الطهارة يشمل رفع الحدث ويشمل إزالة النجاسة ويشمل غيرهما، وإن القرينة هي التي تعين المعنى المقصود، وهنا القرينة ورود النصوص في موضوع الوضوء والمسح له، وليس في موضوع التطهُّر من النجاسات وغيرها، فكون النصوص جاءت في موضوع الوضوء فهي قرينة على أن المراد من الطهارةِ الطهارةُ من الحَدَث لا غير، ولا قرينة لديهم على صرف الطهارة إلى إزالة النجاسة، وإنما هو تعيين بدون معيِّن وتحديد بدون محدِّد. واختلف الأئمة في حالة غسل الرجل اليمنى في الوضوء ولبس الخف قبل أن تُغسل الرجل اليسرى ويُلبس الخف الأيسر، هل يجوز مستقبلاً لمن فعل ذلك أن يمسح على خفيه؟ على رأيين الأصح منهما أنه لا يجوز، لأنه بفعله هذا يكون قد لبس الخف الأيمن قبل تمام الطهارة أي قبل تمام الوضوء، في حين أن الواجب على الماسح على الخفين أن يكون قد أدخل رجليه الخفين على طهارة، والطهارة لا تكون قبل اكتمال الوضوء. وقد نصر ابن حجر والنووي هذا الرأي خلافاً للثوري والمزني وابن المنذر. ويَبطُل المسح على الخفين ومن ثم الوضوء بثلاثة أمور: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 أولها: خلع الخفين أو أحدهما ولو لحظة، ويندرج تحته تمزُّق الخف وتخرُّمه بحيث لا يعود يصلح للبس عادة. وخالف المزني وأبو ثور فقالا إنْ نَزَع الخفين غسَل قدميه وصح وضوؤه، وكذا قال مالك والليث إلا إنْ تطاول النزع، وقال الحسن وابن أبي ليلى وغيرهما ليس عليه غسل قدميه ويظل وضوؤه صحيحاً، وقاسوه على من مسح رأسه ثم حلقه أنه لا تجب عليه إعادة المسح، ويظل وضوؤه صحيحاً. وهذا قياس لا يصح، وذلك أن الشعر لا يلبس، ولا يخلع ليعاد لبسه بخلاف الخف الذي من شأنه اللبس والنزع، ثم إن الشعر جزء من الرأس بخلاف الخف، فالواقعان مختلفان، ثم إنَّ القياس في العبادات لا يصح إلا أن وُجدت علةٌ ظاهر. وعلق ابن حجر على هذا القياس بقوله (فيه نظر) . وثانيها: انقضاء مدة المسح التي ذكرناها آنفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وثالثها: الجنابة، لحديث صفوان السابق وفيه «ولا يخلعهما إلا من جنابة» وإذا كان المسلم يلبس خفاً فوقه حذاء ومسح على الحذاء ثم خلعه وبقي الخف بطل وضوؤه، لأن شرط بقاء الوضوء بقاء الممسوح عليه، وإن كان يلبس خفاً ومسح عليه، ثم لبس فوقه خفاً آخر أو حذاء استمر وضوؤه، وإذا كان الخف شديد التَّخرُّق لا يصلح للمسح ولبس فوقه خفاً آخر شديد التَّخرُّق بحيث صار من الخفين المتخرِّقين ملبوس ساتر جاز المسح عليهما وبطل الوضوء بنزع أحدهما، وإنما قلنا (شديد التَّخرُّق) تقييداً، حتى لا نُخرج الأحذية ذات الخروق اليسيرة المعتادة، فالخف أو الحذاء أو الجورب أو النعل إن كانت بها خروق معتادة جاز المسح عليها ما دامت تُلبس عادة. قال الثوري: كانت خِفاف المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخروق كخفاف الناس، فلو كان في ذلك حظر لورد ولنقل عنهم. وإن كان الخف غير ساتر لمحل الفرض كأن يكون حذاء دون الكعبين لا يصح المسح عليه، لأن الجزء المكشوف من القدم يجب غسله في الوضوء، والخف يمسح عليه، ولا يجتمع غسلٌ ومسحٌ لعضو واحد في الوضوء، والواجب حينئذ خلع الحذاء وغسل الرِّجل. أما كيفية المسح على الخفين فنورد لها الأحاديث التي عالجتها، ونبيِّن الحكم الصحيح المستفاد منها بعون الله: 1- عن علي رضي الله عنه قال «لو كان الدين بالرأي لكان أسفلُ الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه» رواه أبو داود والدارقطني. 2- عن عروة بن الزبير عن المغيرة بن شعبة «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على ظهر الخفين» رواه أبو داود وأحمد. ورواه الترمذي وحسَّنه ولفظه «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين على ظاهرهما» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 3- عن ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة عن ورَّاد كاتب المغيرة بن شعبة، عن المغيرة ابن شعبة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح أعلى الخف وأسفله» رواه ابن ماجة وأبو داود وأحمد والترمذي والدارقطني. الحديث الأول حسَّنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، وصححه في التلخيص. والحديث الثاني قال البخاري عنه في كتابه التاريخ (هو بهذا اللفظ أصح من حديث رجاء بن حيوة) أي الحديث الثالث. وعن الحديث الثالث قال الأثرم عن أحمد إنه كان يضعِّفه، وقال نعيم بن حماد: اضربوا على هذا الحديث. وقال أبو داود (وبلغني أنه لم يسمع ثور هذا الحديث من رجاء) فهو إذن منقطع، فالحديث لا يصلح للاحتجاج. يبقى الحديثان الأول والثاني فحسب، وهذان الحديثان يفيدان المسح على ظاهر الخف، وليس فيهما المسح على باطنه. وممن ذهب إلى ذلك وأن المسح المشروع هو مسح ظاهر الخف دون باطنه أو أسفله: الثوري وأبو حنيفة والأوزاعي وأحمد بن حنبل. وذهب مالك والشافعي والزهري وابن المبارك إلى مسح الظهور والبطون، ورُوي عن سعد بن أبي وقاص وعمر بن عبد العزيز، إلا أن الشافعي ومالكاً قالا: إن مسح ظهورهما دون بطونهما أجزأه. وقالا: من مسح باطن الخفين دون ظاهرهما لم يُجزئه وكان عليه الإعادة وليس هو بماسح. فيكون مالك والشافعي يحملان رأي أبي حنيفة وأحمد نفسَه، وهو أن المسح المشروع المُجْزيء هو مسح ظاهر الخفين فحسب. والخلاف إنما هو في مسح الباطن، فعند أحمد وأبي حنيفة لا يُمسح، وعند مالك والشافعي يُمسح استحباباً فقط، فالخلاف يسير. وكما سبق فإن الأحاديث الواردة الصالحة للاحتجاج لا تفيد سوى مسح الظاهر دون الباطن، وأن مسح الباطن لم يرد فيه حديث صحيح يُعتدُّ به. وأما ما روى الشافعي والبيهقي عن ابن عمر أنه كان يمسح أعلى الخف وأسفله فهو فعل صحابي وليس هو بدليل، ولا يصلح إلا عند من يريد تقليد ابن عمر في هذه المسألة والأصل الوقوف عند الأدلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 أما كيف يمسح ظاهر الخف فأبو حنيفة يوجب مسح قدر ثلاث أصابع من أصابع اليد. وأحمد يوجب مسح أكثر الخُفِّ. والشافعي لم يحدد وقال: الواجب ما يسمَّى مسحاً. وابن عقيل قال: سنَّة المسح أن يمسح خفيه بيديه، اليمنى لليمنى واليسرى لليسرى. وهو ما أقول أنا به. والدليل هو ما روي أن المغيرة ذكر وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال « ... ثم توضأ ومسح على الخفين، فوضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ووضع يده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة، حتى كأني أنظر إلى أثر أصابعه على الخفين» رواه الخلاَّل. ذكر ذلك صاحب المغني. أما قدر الممسوح من ظاهر الخف فليس في الأحاديث تحديد له، ولذا فإن رأي الشافعي في هذا الأمر هو الأصح، وهو أن يمسح قدراً من ظاهر الخف يصح به القول إنه مسح ظاهر الخف، والأَوْلى والأكمل أن يمسح جميع الظاهر خروجاً من الخلاف وأخذاً بالأحوط. مسألة المسح على الخفين والجوربين والنعلين خاص بالوضوء دون الغُسل، بمعنى أن الغسل من الجنابة لا يصح فيه مسح الخفين مطلقاً، لا أعلم أحداً خالف ذلك، وادَّعى ابن حجر الإجماع فيه، ومثله المسح على العمامة وما يلحق بها كالطاقية والقلنسوة والطربوش، أما المسح على الجبيرة وعصابة الجرح فعامٌّ في الغُسل والوضوء. الفصل الثاني عشرنواقض الوضوء 1) الخارج من السبيلين الخارج من السبيلين يشمل: أ- البول من القُبُل، والبراز أو الغائط من الدُّبُر. ب- المني من القبل. ج- المذي من القبل. د- الودي من القبل. هـ- الريح - وهو الفُساء أو الضراط- من الدُّبُر. والأدلة على كل ذلك ما يلي: أ. البول والغائط: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 1- عن صفوان بن عسَّال قال» كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنا سَفْراً أن لا ننزع خِفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم» رواه الترمذي وأحمد والنَّسائي. وقال الترمذي (هذا حديث حسن صحيح) . وقد مرَّ في بحث [ما يُلبس في القدم] في [الفصل الحادي عشر] بلفظ أحمد. 2- عن همَّام قال «بال جرير ثم توضأ ومسح على خُفَّيه فقيل: تفعل هكذا؟ فقال نعم، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال ثم توضأ ومسح على خُفَّيه» رواه مسلم وأبو داود أحمد والنَّسائي والترمذي. وقد مرَّ. 3- قوله تعالى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِن الغَائِطِ} الآية 43 من سورة النساء. الحديث الأول نصٌّ في البول والغائط، والحديث الثاني نصٌّ في البول، والنص الثالث يتناول البول كما يتناول البراز، لأن الغائط هو المنخفض من الأرض، وهو كناية عن قضاء الحاجة، وهي تشمل البول والبراز. والبول والغائط كناقِضَيْن معلومان من الدين بالضرورة لا يختلف فيهما مسلمان، ووجه الدلالة في كل نص واضح. ب. المني: المني ليس ناقضاً للوضوء فحسب بل هو ناقض أيضاً للطهارة الكبرى ويُوجب الغُسل. وقد مرَّ بحثه في بحث [الجنابة] في [الفصل التاسع] . ج. المذي: الأدلة على أن المذي ناقض للوضوء هي: 1- عن سهل بن حنيف قال «كنت ألقى من المذي شدة، وكنت أُكثر من الاغتسال، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: إنما يُجْزِيك من ذلك الوضوء ... » رواه أبو داود وابن ماجة. ورواه الترمذي وقال (حديث حسن صحيح) . 2- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال «كنت رجلاً مذَّاءً، فاستحييتُ أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: فيه الوضوء» رواه البخاري ومسلم، وفي روايةٍ لمسلم «يغسل ذَكَره ويتوضأ» وسيأتي في بحث القيء حديث ابن جُرَيج الدال على أن المذي ينقض الوضوء. د. الودي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 دليله دليل البول لأنه يقطرُ من الذَّكَر عُقَيْبَ البول مختلطاً به. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «المني والمذي والودي، فالمني منه الغُسل، ومن هذين الوضوء، يغسل ذَكَره ويتوضأ» رواه البيهقي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة. وروى ابن أبي شيبة عن عائشة مثله، وأقوال الصحابة أحكام شرعية يصح أخذها وتقليدها. هـ. الريح: الأدلة عليه ما يلي: 1- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تُقبل صلاةُ مَن أحدث حتى يتوضأ، قال رجل من حضرموت: ما الحَدَثُ يا أبا هريرة؟ قال: فُساءٌ أو ضراط» رواه البخاري وأحمد ومسلم. قوله لا تُقبل: أي لا تُجْزِيء ولا تصح. 2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخَرَج منه شيء أم لا، فلا يخرجنَّ من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» رواه مسلم والترمذي وأبو داود. وروى البخاري ومسلم قريباً منه من طريق عباد بن تميم عن عمه. 3- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا وضوء إلا من صوت أو ريح» رواه الترمذي وقال (هذا حديث حسن صحيح) . ورواه أحمد وابن ماجة. مسألة البول والغائط ناقضان للوضوء، سواء خرجا من السبيلين أو من غيرهما، فقول الحديث «لكن من غائط وبول ونوم» مطلق غير مقيد بالسبيلين، ولذا لو أُجرِيَتْ لمريضٍ عمليةُ شقِّ البطن وركبَّ الطبيب له أنبوباً لإخراج البول أو الغائط من البطن عن طريقه، فإن البول والغائط الخارجين منه ينقضان وضوء المريض. فالبول والغائط ناقضان على إطلاقهما. 2) خروج الدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 الدم إما أن يخرج من الفرج كدم الاستحاضة، أو من الدبر في حالة المرض بالباسور أو غيره، أو من الفم في حالة مرض السُّل مثلاً، أو من الأنف وهو ما يسمى بالرعاف، أو من سائر أعضاء البدن، فإنَّ هذا الدم الخارج كلَّه ناقض للوضوء. والدليل على ذلك ما روت عائشة رضي الله عنها أنها قالت «جاءت فاطمة بنت أبي حُبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني امرأة أُستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال: لا إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي» رواه مسلم والبخاري وأحمد. ورواه الترمذي وزاد «قال أبو معاوية في حديثه: وقال: توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت» . كما روى الأمر بالوضوء لكل صلاةٍ أحمد والدارمي. وقد سبق إثبات وجوب الوضوء للمستحاضة في بحث [المستحاضة وأحكامها] في [الفصل التاسع] فيراجع هناك. وهنا نَعرض لخروج الدم من عموم البدن سواء من الفرج أو غيره فنقول: ذهب إلى أن خروج الدم من البدن ناقض للوضوء أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد تلميذاه، وأحمد بن حنبل وإسحق، فيما ذهب مالك والشافعي وسعيد بن المسيِّب ومكحول وربيعة - ورُوي عن ابن عباس وأبي هريرة - إلى أن الدم غير ناقض. والذي يترجح لدينا هو أن خروج الدم من أي جزء من البدن ناقض للوضوء، بدليل حديث عائشة المذكور. أما وجه الاستدلال به على دعوانا فهو أن الحديث يقول «إنما ذلك عِرق» أي أن دم الاستحاضة هو دم نازف من عِرق، ومع هذا الوصف أمرها الرسول عليه الصلاة والسلام بأمرين: أن تغسل الدم «فاغسلي عنك الدم» وأن تتوضأ «وتوضئي لكل صلاة» . وإذن فإن الدم إن هو خرج من أيِّ عِرقٍ بدليل تنكير (عِرق) فإن الواجب فيه أن يُغسل، والوضوء. أما الغُسل فلأنه نجس، وأما الوضوء فلأنه ناقض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 ولا يقال إن هذا في موضوع الاستحاضة فيقصر عليه، أو يقال إن هذا الدم خرج من الفرج فيقصر عليه، لا يقال ذلك لأن العبرة بألفاظ الحديث وهي تفيد العموم، وهذه الألفاظ وصفت الدم بأنه من عِرق، وحيث أن أي دم ينزف من البدن إنما يخرج من عِرق مقطوع، فإنه يدخل تحت هذا الوصف ويأخذ حكمه، وهذا ليس من باب القياس، وإنما هو من باب تطبيق العام على أفراده. فالحديث يشمل دم الاستحاضة ودم الجروح ودم الرعاف سواء بسواء، لأن كل ذلك دم عرق، ودم العِرق يُغسل ويَنقُض. هذا هو وجه الاستدلال وهذا هو وجه الفقه فيه. أما أن يقال إنه خرج من الفرج فلا يقاس عليه غيره فهو خطأ، لأن الحديث لو لم يذكر أنه دم عرق، وقال إن دم الاستحاضة يُغسل ويَنقض، أو قال إن دم الفرج يُغسل ويَنقض لكان هذا القول في محله ولانتفى الشمول، أما وأن الحديث ذكر دم الاستحاضة بأنه يخرج من عرق، وأنه نجس وناقض، فإنَّ كل دم يدخل تحت هذا الوصف يأخذ حكمه في النجاسة والنقض، وحيث أن كل الدم الخارج من البدن إنما يخرج من عروق فإن كل دم خارج من البدن يشمله الحديث وينقض الوضوء، ولذا فنحن لسنا في حاجة إلى دليل خاص على أن الرعاف ناقض لأن دليلنا الصحيح هذا كافٍ للدلالة على أنه ناقض للوضوء. أما ما رواه الدارقطني والبيهقي من طريق ابن جريج عن أبيه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من قَلَسَ أو قاء أو رعفَ فلينصرف فليتوضأ، وليُتِمَّ على صلاته» وما رواه الدارقطني وابن ماجة والبيهقي من طريق ابن جريج عن ابن أبي مُليكة عن عائشة، فذكر الحديث أعلاه، وما رواه الطبراني في الأوسط وابن عدي في الكامل عن سلمان رضي الله عنه قال «رعفتُ عندَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: توضأ» . فهذه الأحاديث كلها ضعيفة لا تصلح للاستدلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 أما الحديثان عند الدارقطني وغيره فرواهما إسماعيل بن عياش، وإسماعيل هذا إذا روى عن الحجازيين ضُعِّفت رواياته، وفي هذين الحديثين نجده يروي عن الحجازيين. ثم إن الشافعي قال عن الرواية الأولى [ليست هذه الرواية بثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] وذكر البيهقي عن محمد بن يحيى قوله عن هذه الرواية [إن رواية ابن جريج عن أبيه مرسلة غير متصلة] وقد ضَعِّف يحيى بن معين هذا الحديث بطريقيه، فلا يصلح هذا الحديث للاحتجاج. وأما الحديث الثالث عند الطبراني وابن عدي ففي سنده حسين الاشقر ضعيف، وجعفر بن زياد الأحمر متشيع، فلا يصلح هو الآخر للاحتجاج. على أن مالكاً قد روى عن نافع «أن عبد الله بن عمر كان إذا رعف انصرف فتوضأ، ثم رجع فبنى ولم يتكلم» فهذا الفعل من عبد الله بن عمر يشهد لما ذهبنا إليه. وما قلناه عن الرعاف نقوله عن دم الجروح، لأن واقعهما واحد وهو خروج الدم من عروق في البدن، ومن ثم فإن حكمهما واحد، وهو نقض الوضوء. أما ما استدل به أصحاب الرأي الآخر من أن أنس بن مالك روى «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - احتجم، فصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجِمِه» رواه الدارقطني والبيهقي. فأخذوا منه حكم عدم النقض لخروج الدم، فنقول إن هذا الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج، قال ابن حجر (في إسناده صالح بن مقاتل وهو ضعيف) وقد ادعى ابن العربي أن الدارقطني صححه وليس كذلك، بل قال عقبه في السنن (صالح بن مقاتل ليس بالقوي) وضعَّفه النووي أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وأما ما يستدلون به أيضاً على دعواهم من أقوال الصحابة أو أفعالهم مثل أن صحابياً من الأنصار أصيب بسهام وهو يصلي فاستمرَّ في صلاته، روى قصَّته أبو داود وابن خُزَيمة والبيهقي، ومثل أن ابن عباس رضي الله عنه قال «اغسلوا أثر المحاجم عنكم وحسبَكم» رواه البيهقي. فهذه ليست أدلة أولاً، لأن قول الصحابي أو فعله ليس دليلاً، ثم إن الحديث الأول فيه عقيل بن جابر قال عنه الذهبي: لا يُعرف. وفي الحديث الثاني رجل مجهول، فالحديثان ضعيفان. ثم إن ما سبق وسقناه من فعل ابن عمر أنه كان يتوضأ من الرعاف يخالف ما ذكروه وكلا الأمرين أفعال صحابة. فإذا كان الصحابة مختلفين في هذه المسألة فإن الدواعي تكون أكبر لعدم الاستدلال بآرائهم سيما وأن الحديث النبوي الصحيح يغنينا عن أقوالهم وافعالهم. ويمكن مراجعة بحث نجاسة الدم في [أعيان النجاسات] في [الفصل الثاني] ففيه مزيد بيان وتفصيل. مسألة لم يرد في القيح والصديد نصٌّ يفيد نجاستهما أو نقضهما للوضوء، إلا أننا بتحقيق المناط نتوصل إلى أن القيح نجس وناقض وليس كذلك الصديد، ذلك أن واقع القيح أنه دم فاسد أو متخلق من الدم، وحيث أن أصله نجس وناقض، فإن الفرع يتبع الأصل ويأخذ حكمه، وهذا رأي قتادة ومجاهد، ذكر ذلك عبد الرزاق. أما الصديد فليس كذلك، ولا يندرج تحت أي ناقض للوضوء، ولا تحت أية مادة نجسة، فيأخذ حكم الطاهر وغير الناقض. 3) القَيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 القيء ينقض الوضوء لما روى معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر فتوضأ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له، فقال: صدق أنا صببت له وَضوءه» رواه الترمذي وقال (هذا أصح شيء في هذا الباب) . ورواه أحمد والبيهقي والدارقطني بلفظ «.. قاء فأفطر، قال: صدق، أنا صببت له وَضوءه» قال ابن منده: إسناده صحيح متصل. وجوَّد أحمد إسناده. ورواه أحمد وعبد الرزاق بلفظ آخر هكذا: عن أبي الدرداء قال «استقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفطر، فأُتي بماء فتوضأ» . ولما روى ابن جُريج عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا قاء أحدكم أو قلس أو وجد منيَّاً وهو في الصلاة فلينصرف فليتوضأ، وليرجع فلْيَبْنِ على صلاته ما لم يتكلم» رواه الدارقطني وقال (قال لنا أبو بكر: سمعت محمد بن يحيى يقول: هذا هو الصحيح عن ابن جريج، وهو مرسل) . ورواه أيضاً البيهقي مرسلاً وقال (هذا هو الصحيح عن ابن جريج) . وقد صحح هذه الطريقة المرسلة أيضاً أحمد والذهلي. والحديث المرسل الذي سقط منه اسم الصحابي يصح الاستدلال به، لأن جهالة الصحابي لا تضر، فالحديث صالح للاحتجاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 الحديث الأول فعلٌ، والحديث الثاني قولٌ، وهما يفيدان أن القيء ناقض للوضوء، وهو ما عليه أبو حنيفة وأحمد والثوري والأوزاعي، خلافاً لمالك والشافعي وأصحابهما، وأجابوا عن حديث أبي الدرداء بان المراد بالوضوء غسل اليدين، ويردُّ بأن الوضوء من الحقائق الشرعية، ولا يصرف عن الوضوء الشرعي إلا بقرينة. قالوا: القرينة أنه استقاء بيده، كما ثبت في بعض الألفاظ، فيقال لهم هذه قرينة لا تكفي، إذ ما المانع من أن يستعمل يده في القيء وأن يتوضأ وضوءه للصلاة من ذلك؟ فلو كان القيء باستعمال اليد يمنع من الوضوء الشرعي لكان قرينة كافية، أما وأنه ليس كذلك فإن القرينة غير صالحة لما يذهبون إليه. وأجابوا عن الحديث أيضاً بأنه فِعلٌ وهو لا ينتهض للوجوب، فنرد عليهم بأنكم بهذا لا تنفون عن الحديث كونه في الوضوء الشرعي، وإلا لما أوردتم هذه الحجة. نعم إن الصحيح هو أن الفعل أو القول لا ينتهضان للوجوب إلا بقرينة، وأن القول وحده والفعل وحده لا يكفيان للوجوب، ولذا فإن تقييده بأنه فعل لا يغير من الأمر شيئاً. أما الدليل على وجوب الوضوء من القيء فهو حديث ابن جريج، فإن قوله «إذا قاء أحدكم أو قَلَس أو وجد منيَّاً وهو في الصلاة فلْينصرف فلْيتوضأ» أمرٌ بالانصراف من الصلاة من أجل الوضوء، ولا يكون هذا الطلب إلا لأنه واجب، ولا يصح اعتباره طلباً للندب، أي لا يصح القول إن الحديث طلب ممن أحرم بالصلاة أن يقطعها للقيام بوضوء مندوب، وهذا واضح الدلالة فلا نطيل فيه، وهذا الحديث قرينة أيضاً على أن الفعل الوارد في حديث أبي الدرداء يفيد الوجوب، وبذلك فإن الحديثين كافيان للرد على الشافعية والمالكية ومن يقول بقولهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 نعود للحديث الثاني فنقول: القَلس ـ بفتح القاف واللام، ويُروى بسكونها ـ قال الخليل: هو ما خرج من الحلق ملءَ الفم أو دونه، وليس بقيء، وإن عاد فهو قيء. فالحديث يفيد أن ما يخرج من المعدة إلى الفم ينقض الوضوء سواء خرج دفقة واحدة أو عدة دفقات، أي سواء خرج قليلاً أو كثيراً. 4) مسُّ الفرْج وردت في مس الفرج الأحاديث التالية: أ- عن بُسرة بنت صفوان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من مسَّ ذَكرَه فلا يصلِّ حتى يتوضأ» رواه الترمذيُّ وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة ومالك، وصححه الترمذي وأحمد والدارقطني والبيهقي والحاكم. وفي روايةٍ للنَّسائي عن بُسرة «أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر ما يُتوضأ منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويُتوضأُ من مسِّ الذَّكر» . وفي رواية لابن حِبَّان عن بُسرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا مسَّ أحدُكم فرجه فلْيتوضأ، والمرأة مثل ذلك» . وفي رواية للطبراني عن بُسرة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من مسَّ فرجه فقد وجب عليه الوضوء» . ب- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما سِتر ولا حجاب فلْيتوضأ» رواه ابن حِبَّان والحاكم من طريق نافع بن أبي نعيم عن المقبري عن أبي هريرة. وصححه ابن حِبَّان والحاكم وابن عبد البر. ج - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «أيُّما رجلٍ مسَّ فرجه فلْيتوضأ، وأيُّما امرأةٍ مسَّت فرجها فلْتتوضأ» رواه الدارقطني وأحمد والبيهقي. ونقل الترمذي عن البخاري قوله (هو عندي صحيح) وقال الحازمي: هذا إسناد صحيح. وقوَّاه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 د- عن طلق بن علي قال «قدِمْنا على نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رجل كأنه بدوي فقال: يا نبي الله ما ترى في مسِّ الرجل ذَكَرَه بعدما يتوضأ؟ فقال: هل هو إلا مُضغة منه، أو قال: بَضعة منه؟» رواه أبو داود والنَّسائي وابن ماجة وأحمد والترمذي. وصححه ابن حِبَّان والطبراني وابن حزم. ويُروى أنَّ ابن المديني قال: هو عندنا أحسن من حديث بُسرة. وضعَّفه الشافعي وأبوحاتم وأبو زُرعة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي، وادَّعى ابن حِبَّان والطبراني وابن العربي والحازمي أنه منسوخ. اختلف الأئمة والعلماء ومِنْ قبلهم الصحابةُ في نقض الوضوء من مسِّ الفرج، فذكر الحازمي أن علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وابن عباس في إحدى الروايتين عنه، وحذيفة بن اليمان وعمران بن حصين وأبا الدرداء وسعد بن أبي وقاص في إحدى الروايتين عنه، وسعيد بن المسيِّب في إحدى الروايتين عنه، وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وربيعة بن عبد الرحمن وسفيان الثوري وأبا حنيفة وأصحابه رأوا ترك الوضوء من مسِّ الذَّكر. وخالفهم آخرون ذاهبين إلى إيجاب الوضوء من مسِّه، وممن رُوي عنهم الإيجاب من الصحابة - حسب ما ذكر الحازمي - عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو أيوب الأنصاري وزيد بن خالد وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر وعائشة وأم حبيبة وبُسرة بنت صفوان وسعد بن أبي وقاص في الرواية الثانية عنه وابن عباس في الرواية الثانية عنه، ومن التابعين عروة بن الزبير وسليمان بن يسار وعطاء بن أبي رباح وأبان بن عثمان وجابر بن زيد والزُّهري ومصعب بن سعد ويحيى بن أبي كثير وسعيد بن المسيِّب في أصح الروايتين عنه وهشام بن عروة والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحق والمشهور من قول مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 وقال الشافعيون إن النقض إنما يكون إذا مُسَّ الذكر بباطن الكف لما يعطيه لفظ الإفضاء، وروي عن مالك القول بندب الوضوء من مسِّ الذَّكر، ورُوي عن جابر بن زيد أنه قال بالنقض إن وقع المسُّ عمداً لا إن وقع سهواً. هذه خلاصة الآراء في هذه المسألة. ونستعرض الأحاديث المتعلقة بهذه المسألة، ونستنبط منها الأحكام بإذن الله كما يلي: الحديث الأول: الرواية الأولى تقول «مَن مسَّ ذَكَره فلا يُصلِّ حتى يتوضأ» والرواية الثانية تقول «ويُتوضأ من مسِّ الذَّكر» والرواية الثالثة تقول «إذا مسَّ أحدُكم فرجَه فلْيتوضأ، والمرأة مثل ذلك» والرواية الرابعة تقول «من مسَّ فرجه فقد وجب عليه الوضوء» والحديث الثاني يقول «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ... فلْيتوضأ» والحديث الثالث يقول «أيُّما رجلٍ مسَّ فرجه فلْيتوضأ وأيُّما امرأةٍ مسَّت فرجها فلْتتوضأ» والحديث الرابع يقول «هل هو إلا مُضغة منه، أو قال: بَضعة منه؟» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 من هذا الاستعراض يتبين أن من مسَّ ذَكَره أو فرجه أو ذَكَراً توضأ، وأن ذلك عام في الرجال والنساء، فمن مسَّ ذَكره أو ذَكَر غيره بدلالة الرواية الثانية من الحديث الأول، أو مسَّ فرجه توضأ، والمرأة إن مسَّت فرجها توضأت، ونجد أن الأحاديث ذكرت الذَّكَر وذكرت الفرج، أما الذَّكر فهو قُبُل الرجل، وأما الفرج فيطلق على القُبُل وعلى الدُّبُر للرجال والنساء، لأنه العورة كما في القاموس ولسان العرب، وألفاظ الأحاديث تُفسر باللغة ما لم يكن لها حقائق شرعية مغايرة، وهنا كلمة الفرج وكلمة الذَّكَر ليس لهما في الشرع معنى مغاير لما هو في اللغة فتُفسَّران تفسيراً لغوياً، والقاموس ولسان العرب فسَّرا الفرج بأنه العورة وهي تشمل القبل والدُّبر، فيُعمل بهذا التفسير. وبذلك تكون الأحاديث قد أفادت أن مسَّ القُبُل والدُّبُر للرجل والمرأة ينقض الوضوء، والأحاديث صحيحة تصلح للاحتجاج، وهي أعطت هذا الحكم، أي حكم النقض للوضوء من مسِّ القُبُل والدُّبُر للذَّكَر والأنثى. أما الحديث الرابع فقد استدل به من قالوا بعدم النقض، وهم من ذكرنا من الصحابة والأئمة والعلماء، ولكن الحديث لا يُسعفهم، ولا يصمد أمام أحاديث النقض، قال البيهقي (يكفي في ترجيح حديث بُسرة ـ أي الأول ـ على حديث طلق ـ أي الرابع ـ أن حديث طلق لم يحتجَّ الشيخان بأحد من رواته، وحديث بسرة قد احتجا بجميع رواته) فهذه أولى الحجج في ترجيح الإيجاب على عدمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 والثانية: إن إسلام بُسرة متأخر وإسلام طَلْقٍ متقدِّم. قال ابن حِبَّان الذي روى الحديث (خبر طلق بن علي الذي ذكرناه خبر منسوخ، لأن طلق بن علي كان قدومه على النبي - صلى الله عليه وسلم - أول سنة من سِنِي الهجرة، حيث كان المسلمون يبنون مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة) . في حين أن بسرة أسلمت بعد ذلك بكثير كما هو معلوم عند أئمة الحديث، وحديث أبي هريرة الثاني يعضد حديث بُسرة لأن أبا هريرة هو الآخر متأخر الإسلام كبُسرة. قال ابن حِبَّان (أبو هريرة أسلم سنة سبعٍ من الهجرة، والمتأخر أقوى وأوجب في الأخذ والعمل من المتقدم، والذي يزيد حديث بُسرة قوة أنها حدَّثت بالحديث في دار المهاجرين والأنصار وهم متوافرون) . والثالثة: إن حديث طلق ضعَّفه عدد كبير من الأئمة المعتبرين. قال الشافعي: قد سألنا عن قيس بن طلق فلم نجد من يعرفه. وقال أبو حاتم وأبو زُرعة: قيس بن طلق ممن لا تقوم به حجة. والمعلوم أن حديث طلق بن علي هو من رواية ابنه قيس بن طلق، في حين أن الأئمة الذين ضعَّفوا حديث بسرة إنما ضعَّفوه من طريق عروة عن مروان عن بُسرة، ومروان مطعون في عدالته، ولكن ابن خُزَيمة وغيره جزموا بأن عُروة سمعه من بُسرة مباشرة، ففي صحيح ابن حِبَّان وسنن الدارقطني «قال عروة فسألت بُسرة فصدَّقته» . وبمثل هذا أجاب ابن خُزَيمة والحاكم، فيسقط تضعيفهم هذا. ثم هم قد ضعَّفوه بقولهم إن هشاماً لم يسمع من أبيه عروة، قاله النَّسائي والطَّحاوي، ونحن ندفع هذا التضعيف بأن هشاماً قد رواه مرة عن أبيه عروة، ومرة عن أبي بكر بن محمد، وقد صرَّح أحمد في روايةٍ بأن أباه حدثه، وصرَّح الترمذي في رواية بأن أباه أخبره، وبذلك يكون هشام قد رواه مرة عن أبيه مباشرة، ومرة عن أبي بكر بن محمد بن عمرو، فحدَّث بهذا وحدَّث بهذا، وهذا لا يضعِّف الحديث. فالحديث غير ضعيف بل هو صحيح، في حين أن حديث طلق مشكوك في صحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 والرابعة: إن عدم وجوب الوضوء من مسِّ الفرج أُخذ من حديث طلق بالمفهوم، في حين أن أحاديثنا تفيد الوجوب منطوقاً، والمنطوق أقوى من المفهوم. لهذه الأسباب يترجح حديث بُسرة والأحاديث الأخرى القائلة بإيجاب النقض، ويُترك العمل بحديث طلق لأنه لا يصلح للاستدلال به على هذه المسألة بعد أن بان ما بان. وبذلك يظهر وجه الحق في إيجاب الوضوء من مسِّ الفرج قُبُلاً كان أو دُبُراً، لرجل أو لامرأة، لفرجِهِ أو لفرجِ غيرِهِ. أما رأي الشافعية من أن النقض إنما يكون بباطن الكف دون ظهره فضعيف، قال عالم اللغة ابن سيده في المحكم: أفضى فلان إلى فلان وصل إليه، والوصول أعم من أن يكون بظاهر الكف أو باطنها. وقال ابن حزم (الإفضاء يكون بظاهر الكف كما يكون بباطنها، قال: ولا دليل على ما قالوه من التخصيص بالباطن من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ولا رأي صحيح) أجل إما أن يأتي الشافعيون بدليل على ما يقولون وإما أن رأيهم غير صحيح، فالأدلة الشرعية لا تقول بما يقولون، واللغة لا تسعفهم فيما ذهبوا إليه. أما ما يُروى عن مالك من القول باستحباب الوضوء من المسِّ دون الوجوب، فحديث بُسرة القائل «فقد وجب عليه الوضوء» يردُّه. وأما رأي جابر بن زيد القائل إن النقض إنما يكون بالمسِّ المتعمَّد دون المسِّ سهواً فإن الأحاديث كلها تردُّه، إذ لم تُفرِّق الأحاديث بين العمد والسَّهو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 والأحاديث تفيد أن نقض الوضوء إنما هو من مسِّ فرج الآدمي، فيخرج فرج البهيمة، فمسُّ فرج البهيمة لا ينقض الوضوء، وتخرج كذلك العانة، فلا ينقض مسُّها لعدم انطباق الدليل عليها، أما مسُّ الخصيتين فناقض لما روى البيهقي والطبراني والدارقطني عن بُسرة بنت صفوان قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «من مسَّ ذَكَرَه أو أُنثييه أو رُفُغَه فلْيتوضأ وضوءه للصلاة» . والرُّفُغ: أصل الفخذ القريب من الذَّكر، والأُنثييان: الخصيتان. وهذا الحديث وإن ضعَّفه ناس فقد حسَّنه آخرون فيصح الاستدلال به. والفرج الذي ينقض مسُّه الوضوء هو أي فرجِ آدميٍّ، لا فرق بين فرج الكبير البالغ والصغير دون البلوغ وحتى الرضيع ما دام كل ذلك يدخل تحت لفظ فرج الآدمي، كما أنه لا فرق بين المسِّ بشهوة والمسِّ بدون شهوة لأن الأحاديث لم تُخصِّص أياً من ذلك، فيظل الحكم على عمومه. والمقصود باليد هنا ما كانت إلى الكوع أي الرسغ، وهذا رأي جميع العلماء فيما أعلم، لأن هذه اليد هي أداة المسِّ دون الساعد أو العضد. 5) النوم اختلف العلماء والأئمة اختلافاً واسعاً في حكم النوم من حيث نقض الوضوء على ثمانية مذاهب جمعها النووي في شرح صحيح مسلم كما يلي: الأول: إن النوم لا ينقض الوضوء على أي حال كان، وهو رأي أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وأبي مجلز وحميد الأعرج وشعبة. الثاني: إن النوم ينقض الوضوء بكل حال، وهو مذهب الحسن البصري والمُزَني وأبي عبيد القاسم بن سلاَّم وإسحق بن راهُوَيه وابن المنذر، وروي عن ابن عباس وأنس وأبي هريرة. الثالث: إن كثير النوم ينقض بكل حال، وقليله لا ينقض بحال، وهو مذهب الزُّهري وربيعة والأوزاعي ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 الرابع: إذا نام على هيئة من هيئات المُصلِّين كالراكع والساجد والقائم والقاعد لا ينتقض وضوؤه، سواء كان في الصلاة أو لم يكن، وإن نام مضطجعاً أو مستلقياً على قفاه انتقض، وهو مذهب أبي حنيفة وداود، وهو قول للشافعي غريب. الخامس: إنه لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد، روي هذا عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. السادس: إنه لا ينقض إلا نوم الساجد، ورُوي أيضاً عن أحمد رضي الله عنه. السابع: لا ينقض النوم في الصلاة بكل حال، وينقض خارج الصلاة وهو قول ضعيفٌ للشافعي. الثامن: إنه إذا نام جالساً ممكِّناً مقعدته من الأرض لم ينتقض، وإلا انتقض سواء قلَّ أو كثر، سواء كان في الصلاة أو خارجها، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله تعالى. ونحن سنورد الأحاديث الواردة في موضوع النوم، ونبين صحيحها وحسنها من ضعيفها، ثم نستنبط منها الحكم الراجح بإذن الله: 1- عن صفوان بن عسَّال قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنا سَفْراً أن لا ننزع خِفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم» رواه الترمذي وقال (حسن صحيح) . ورواه أحمد والنَّسائي. وقد مرَّ قبل قليل. 2- عن علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «العين وِكاء السَّهِ فمن نام فلْيتوضأ» رواه ابن ماجة وأبو داود وأحمد والدارقطني. 3- عن معاوية بن أبي سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إنما العينان وِكاءُ السَّهِ فإذا نامت العين استطلق الوكاءُ» رواه الدارمي والدارقطني والبيهقي وأحمد والطبراني. والسَّهُ: اسمٌ لحلقة الدُّبُر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 4- عن ابن عباس رضي الله عنه قال «بتُّ ليلةً عند خالتي ميمونة بنت الحارث، فقلت لها: إذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأيقظيني، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقمت إلى جنبه الأيسر فأخذ بيدي فجعلني من شقه الأيمن، فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني، قال: فصلى إحدى عشرة ركعة ثم احتبى، حتى إني لأسمعُ نَفَسه راقداً، فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين» رواه مسلم. وفي روايةٍ للبخاري عن ابن عباس رضي الله عنه بلفظ «بتُّ عند خالتي ميمونة ليلةً، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل، فلما كان في بعض الليل قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ من شَنٍّ معلَّق وضوءاً خفيفاً ـ يخفِّفه عمرو ويُقلِّله ـ وقام يصلي فتوضأت نحواً مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره ـ وربما قال سفيان عن شماله ـ فحوَّلني فجعلني عن يمينه، ثم صلَّى ما شاء الله، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم أتاه المنادي فآذنه بالصلاة، فقام معه إلى الصلاة فصلى ولم يتوضأ ... » . وفي رواية ثانية لمسلم عن ابن عباس رضي الله عنه بلفظ « ... فقام فصلى فقمت عن يساره، فأخذ بيدي فأدارني عن يمينه، فتتامَّت صلاةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فأتاه بلال فآذنه بالصلاة، فقام فصلَّى ولم يتوضأ ... » وفي رواية ثانية للبخاري عن ابن عباس رضي الله عنه بلفظ « ... ثم صلى ركعتين ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه، ثم خرج إلى الصلاة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 5- عن أنس قال «كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلُّون ولا يتوضأون» رواه أبو داود والشافعي والبيهقي ومسلم والدارقطني. وفي رواية «لقد رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُوقَظون للصلاة حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطاً ثم يصلون ولا يتوضأون» رواها الدارقطني والبيهقي والترمذي. وفي رواية ثالثة عند البزَّار والخلاَّل بلفظ «إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يضعون جنوبهم فمنهم من يتوضأ ومنهم من لا يتوضأ» . وهذا الحديث بجميع رواياته صحيح أو حسن. 6- عن يزيد بن عبد الرحمن [الدالاني] عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ليس على من نام ساجداً وضوء حتى يضطجع، فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله» رواه أحمد. ورواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنه بلفظ « ... قال: فقلت له: صليتَ ولم تتوضأ وقد نمتَ؟ فقال: إنما الوضوء على من نام مضطجعاً، فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله» ورواه الترمذي والبيهقي قريباً منه. وللبيهقي أيضاً «لا يجب الوضوء على من نام جالساً أو قائماً أو ساجداً حتى يضع جنبه، فإنه إذا وضع جنبه استرخت مفاصله» . 7- عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال «كنت في مسجد المدينة جالساً أخفق، فاحتضنني رجل من خلفي، فالتفتُّ فإذا أنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله هل وجب عليَّ وضوء؟ قال: لا حتى تضع جنبك» رواه البيهقي. 8- عن يزيد بن قسيط قال إنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول «ليس على المحتبي النائم ولا على القائم النائم ولا على الساجد النائم وضوء حتى يضطجع، فإذا اضطجع توضأ» رواه البيهقي. 9- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «من استحق النوم فقد وجب عليه الوضوء» رواه البيهقي بإسنادٍ صحيح موقوفاً على أبي هريرة وقال (لا يصح رفعه) . ورواه الدارقطني وقال (وقفُه أصح) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الحديث الأول صحيح، والحديث الثاني سُئل أحمد عنه وعن الحديث الثالث فقال: حديث علي أثبت وأقوى. وقال الجوزجاني: واهٍ. والحديث ضعَّفه أبو زُرعة وأبو حاتم. ولكن المنذري وابن الصلاح والنووي حسَّنوه. ودافع ابن حجر عنه. فالحديث حسن يصلح للاحتجاج، خاصة إذا علمنا أن تضعيف أبي زُرعة له آت من قوله إن عبد الرحمن بن عائذٍ لم يسمع من عليٍّ، وهو قول ردَّه ابن حجر. والحديث الثالث ضعيف، لأن في إسناده بقية عن أبي بكر بن أبي مريم وهو ضعيف، فالحديث لا يصلح للاحتجاج. والحديث الرابع صحيح. والحديث الخامس أيضاً صحيح. والحديث السادس ضعَّفه أحمد والبخاري وأبوداود وإبراهيم الحربي والترمذي، وقال البيهقي (تفرَّد به أبو خالد الدالاني وأنكره عليه جميع أئمة الحديث، وأنكروا سماعه من قتادة) وقال ابن حِبَّان (لا يجوز الاحتجاج به) فالحديث ضعيف فيترك. والحديث السابع تفرَّد به بحر بن كنبز وهو ضعيف، ولا يُحتج بروايته، قاله البيهقي. فالحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج. والحديث الثامن قال عنه الحافظ ابن حجر (إسناده جيد وهو موقوف) وقال البيهقي (هذا موقوف) أي ليس بحديث مرفوع، أي ليس بدليل، لأن أقوال الصحابة وأفعالهم وإن جاز تقليدها واتِّباعُها إلا أنه لا يجوز اعتبارها أدلة. والحديث التاسع موقوف على أبي هريرة، فلا يصلح دليلاً هو الآخر. فيبقى عندنا الحديث الأول والثاني والرابع بألفاظه الأربعة، والخامس برواياته الثلاث، وندع الأحاديث الأخرى وهي الثالث والسادس والسابع والثامن والتاسع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 والآن لنستعرض الأحاديث التي ترجح لدينا صلاحها للاحتجاج فنقول: الحديث الأول فيه «ولكن من غائط وبول ونوم» والحديث الثاني فيه «فمن نام فليتوضأ» والحديث الرابع لفظ مسلم فيه «فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمه أُذني» ولفظ البخاري فيه «ثم اضطجع ـ أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ فنام حتى نفخ ثم أتاه المنادي فآذنه بالصلاة، فقام معه إلى الصلاة فصلى ولم يتوضأ» ومثله لفظ مسلم. ولفظ البخاري الثاني «ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه ثم خرج إلى الصلاة» والحديث الخامس فيه «ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضأون» واللفظ الآخر «يُوقَظون للصلاة، حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطاً ثم يصلون ولا يتوضأون» واللفظ الثالث «كانوا يضعون جنوبهم، فمنهم من يتوضأ ومنهم من لا يتوضأ» . الحديثان الأول والثاني يدلان على أن النوم ينقض الوضوء، الأول بمفهومه والثاني بمنطوقه، والحديث الرابع ـ لفظ مسلم الأول ـ يدل على أن الإغفاء في أثناء الصلاة لا ينقض الوضوء، ووجه الاستدلال ظاهر. والحديث الخامس بلفظه الأول يدل على أن النوم في انتظار الصلاة لا ينقض الوضوء، وكذلك اللفظ الثاني ولكن بزيادة الغطيط، أي أن النوم الذي يصحبه غطيط في أثناء انتظار الصلاة لا ينقض الوضوء. وبجمع ألفاظ الحديث الخامس ولفظي البخاري ومسلم في الحديث الرابع «ثم اضطجع» أقول إن النوم الذي يصحبه خفق الرؤوس والغطيط ووضع الجنوب والاضطجاع في انتظار الصلاة لا ينقض الوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 والخلاصة هي أنه بينما جاء الحديثان الأول والثاني بأن النوم ينقض الوضوء، فقد جاء الحديث الرابع بألفاظه والخامس بألفاظه بأن النوم لا ينقض الوضوء وصاحب هذا النوم إغفاءٌ في أثناء الصلاة، أو خفق رؤوس وغطيط ووضع جنوب واضطجاع في انتظار الصلاة، والأحاديث كلها صحيحة أو حسنة، وإعمال الأدلة أولى من إهمالها أو إهمال أحدها أو بعضها، وهنا إعمال الأدلة ممكنه بل ظاهر، ولا حاجة بنا هنا إلى القول بالتعارض وعدم إمكان الجمع بينها. وبإعمال الأدلة وبالتدقيق والتَّفحُّص نجد أن الأحاديث التي دلت على النقض أفادت مطلق النوم، والأحاديث التي أفادت عدم النقض جاءت مقيدة بحالة الصلاة وانتظار الصلاة، وإنما قلنا حالة ولم نقل حالتين، لأن انتظار الصلاة صلاة كما جاء في الأحاديث، فعن أنس قال «أخَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى ثم قال: قد صلى الناس وناموا، أمَا إنكم في صلاة ما انتظرتموها» رواه البخاري ومسلم وأبو داود. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يُحْدث، اللهم اغفر له اللهم ارحمه، لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة» رواه البخاري ومسلم. وروى مسلم أيضاً من طريقه « ... فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه، والملائكة يُصلُّون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلَّى فيه يقولون: اللهم ارحمه اللهم اغفر له اللهم تُب عليه، ما لم يُؤْذ فيه، ما لم يُحْدِث فيه» . فقد اعتبرت هذه الأحاديث انتظار الصلاة صلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 فانتظار الصلاة صلاة، ويعني ذلك أنها صلاة حكماً وليست فعلاً، فالصلاة المعهودة صلاة فعلاً، وانتظارُها صلاةٌ حكماً فكانتا حالة واحدة في الوصف، وجاءت أحاديث عدم النقض تسوِّي بين الصلاة حكماً والصلاة فعلاً، وتجعلهما شيئاً واحداً من حيث عدم نقض النوم للوضوء فيهما. وإذن فإن هذه الأحاديث قد استثنت النوم في حالة الصلاة من كونه ناقضاً، ويبقى النوم ناقضاً على عمومه وعلى إطلاقه. وعليه فإن النوم ينقض الوضوء لا شك في ذلك، ويستثنى منه النوم في حالة الصلاة. هذا هو الحكم الراجح المستفاد من الأحاديث. وهنا نسجل ملاحظة لا بد منها هي أن النوم الناقض هو ما يستحق وصفه بالنوم، أما نوم الخفقة والخفقتين فقد عفى الشرع عنه ولم يجعله ناقضاً، وهذا ليس نوماً آخر، وإنما هو عفو من الشرع عن القليل منه، تماماً كالدم الناقض للوضوء يُعفى عن يسيره وقليله، ولا يكون صنفاً من الدم لا ينقض، فالشرع عفى عن الأشياء والأفعال القليلة اليسيرة، فالنجاسة اليسيرة عفو، والدم اليسير الخارج من البدن عفو، والنوم يندرج تحت هذه القاعدة، فما كان منه يسيراً فهو عفو. وفي هذا المعنى روى عبد الرزاق عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال «وجب الوضوء على كل نائم إلا من أخفق خفقة برأسه» . والخفقة: هي النعسة. وخَفَق برأسه من النعاس: أماله. فهذا لا ينقض الوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 والآن لنعد إلى الآراء الثمانية السابقة. الرأي الأول يقول إن النوم لا ينقض على أي حال بدلالة حديث أنس، وقد تبين مما سبق أن هذا الحديث بألفاظه الثلاثة لا يفيدهم، بل يفيد عدم نقض النوم في حالة الصلاة، والخطأ آت من كون أصحاب هذا الرأي قد عمموه وأطلقوه. والرأي الثاني لم يستثن حالة الصلاة وانتظارها. والرأي الثالث أيضاً لم يستثن حالة الصلاة وانتظارها، ويقل الخطأ إنْ عنَوا بالقليل من النوم ما أخرجناه منه. أما الرأي الرابع فهو خطأ، فإن إخراج النوم على هيئة من هيئات الصلاة في غير الصلاة من نواقض الوضوء خطأ، والخطأ آت من استدلالهم بحديث ضعيف، ومن تعميم ما جاء فيه على الصلاة وعلى غيرها. والرأي الخامس أيضاً خطأ، فقد قالوا إن الراكع والساجد يكونان في وضع لا يتمكنان فيه من منع خروج الريح، وهذا منهم استدلال فاسد، ولا يسعفهم فيه نص. وأما الرأي السادس فخطأ لما بيَّنَّاه في تخطئة الرأي الخامس. وأما الرأي السابع فصحيح جملة، وليتهم جعلوا النوم في انتظار الصلاة غير ناقض، ورغم أن هذا الرأي صحيح جملة كما قلنا إلا أن الدليل الذي استدلوا به هو الحديث الضعيف جداً الذي رواه الديلمي وابن عساكر من طريق أنس «إذا نام العبد في سجوده باهى الله عزَّ وجلَّ به ملائكته يقول: انظروا إلى عبدي روحُه عندي وجسدُه في طاعتي» . وأما الرأي الثامن فأراه خطأ، وقد استدلوا عليه بحديث علي ومعاوية وأنس، أما حديث معاوية فضعيف لا يصلح للاحتجاج، وأما حديث أنس فهو لا يسعفهم، فهم قد استدلوا باللفظ الأول «تخفق رؤوسهم ثم يصلون» فحملوه على نوم الجالس، ولم ينظروا في اللفظ الثالث «كانوا يضعون جنوبهم» فهو نص صريح في غير الجلوس ولا أراهم يستطيعون تأويله إلا بتكلُّف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وحتى تلمسوا مدى الاضطراب في الاستدلال عندهم أسوق لكم فقرة جاءت في ذيل سنن الدارقطني لأبي الطيب آبادي (ولفظ الترمذي من طريق شعبة «لقد رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُوقَظون للصلاة حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطاً ثم يقومون فيصلون ولا يتوضأون» . قال ابن المبارك: هذا عندنا وهم جلوس. قال البيهقي: على هذا حمله عبد الرحمن ابن مهدي والشافعي. وقال ابن القطان: هذا الحديث سياقه في مسلم يحتمل أن ينزل على نوم الجالس، وعلى ذلك نزَّله أكثر الناس، لكن فيه زيادة تمنع من ذلك رواها يحيى بن القطان عن شعبة عن قتادة عن أنس قال «كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم، فمنهم من ينام ثم يقوم إلى الصلاة» . وقال ابن دقيق العيد: يُحمل على النوم الخفيف، لكن يعارضه رواية الترمذي التي ذكر فيها الغطيط) . فالاضطراب جدُّ واضح، فهم كلما ربطوا ناحية انفرطت أُخرى، فالحديث كما قلنا لا يسعفهم. أما حديث عليٍّ «العين وكاء السَّهِ فمن نام فلْيتوضأ» فقد أخذوا منه أن النوم ليس حدثاً في نفسه وإنما هو حالة يخرج فيها الريح، وقالوا بناء على ذلك إن النائم الجالس لا يُخرج ريحاً فلا ينتقض وضوؤه بالنوم جالساً، أي أنهم استنبطوا من الحديث علةً لنقض النوم للوضوء هي خروج الريح. فنقول: أولاً: إن حديث أنس يرد عليهم فهمهم للحديث، لأنهم كانوا ينامون مضطجعين ولم يكونوا يتوضأون. ثانياً: إن حديث العين وكاءُ السَّهِ لا يصلح للاستدلال به على تعليل نقض النوم بخروج الريح، فإن ألفاظه لا تفيد العِلِّيَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 ثالثاً: إن الشرع جعل النوم ناقضاً تماماً كما جعل خروج الريح ناقضاً، فجعلهما الشرع ناقضَيْن، ولم يجعل أحدهما علَّة للآخر، لأن من شأن ذلك أن يكون الناقض واحداً ويُلغَى الآخر، وهذا الإلغاء نسخ ولا يملكه أحد من المسلمين سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يُرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه ألغى أو أبطل أو نسخ النوم كناقض، فالقول إن النوم معلَّل بخروج الريح فإذا انتفى الخروج بالنوم جالساً زال حكم النوم، هذا القول غير صحيح لما أسلفنا، ما دامت في الشرع نصوص كثيرة تفيد حكم النقض للنوم ولم تُنسخ، بل إن آخر حديثهم يرد على فهمهم لأوَّله، فالحديث يقول «العين وِكاءُ السَّهِ فمن نام فلْيتوضأ» فإن آخر الحديث يقول «فمن نام» ، فلم يقيِّد ولم يخصِّص ولم يفصِّل، والنوم جالساً داخل لا شك في النص، والأشبه أن يقال إن خروج الريح من النائم هو مصاحب محتمل للنوم، فلا يصلح أن يكون علَّة. هذه آراء العلماء والأئمة وهذه أدلتهم، وقد فشلوا في التوفيق والجمع بين الأدلة كلها إلا بتأويل متعسّف، وقد تبين لكم أنه لا يُجمع بين الأحاديث كلها إلا بالقول الذي قلناه، وهو أن النوم في الصلاة الفعلية، وفي الصلاة حكماً لا ينقض، وما سواه ينقض، فهو جمعٌ صحيح وجميلٌ فيه القناعة والطمأنينة، وهو الجمع الوحيد الذي فيه إعمالٌ للأدلة كلها. 6) أكل لحم الجَزور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 لحم الجَزُور هو لحم الجمال. وقد اختلف المسلمون في أكل لحم الجمال من حيث نقضُ الوضوء على رأيين: فنُسب إلى الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأُبيِّ بن كعب وابن عباس وأبي الدرداء وأبي أمامة ومالك وأبي حنيفة والشافعي أن أكل لحم الجَزور لا ينقض الوضوء. وذهب أحمد وإسحق بن راهُوَيه وابن المنذر وابن خُزَيمة والبيهقي وأصحاب الحديث مطلقاً، وجماعةٌ من الصحابة إلى أن أكل لحم الجَزُور ينقض الوضوء، ونُسب هذا الرأي إلى الشافعي في قول له، وإلى محمد بن الحسن من الأحناف. هذا وقد روي عن الإمام الشافعي أنه قال: إن صحَّ الحديث في لحوم الإبل قلنا به. ونحن نقول نعم قد صح الحديث. قال البيهقي وهو شافعيُّ المذهب (بلغني عن أحمد بن حنبل وإسحق بن إبراهيم الحنظلي ـ أي ابن راهُوَيه ـ أنهما قالا قد صح في هذا الباب حديثان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث البراء بن عازب وحديث جابر بن سمرة) ونحن نذكر الأحاديث كما يلي: 1- عن جابر بن سمرة «أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضَّأ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضَّأ من لحوم الإبل، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم. قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا» رواه مسلم وأحمد وابن خُزَيمة. 2- عن البراء بن عازب قال «سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من لحوم الإبل فقال: توضأوا منها، وسُئل عن لحوم الغنم فقال: لا تتوضأوا منها، وسُئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين، وسُئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: صلوا فيها فإنها بركة» رواه أبو داود وأحمد والترمذي وابن ماجة وابن حِبَّان، ورواه ابن خُزَيمة وقال (لم نر خلافاً بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 3- عن ذي الغرَّة قال «عرض أعرابيٌّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير فقال: يا رسول الله تدركنا الصلاة ونحن في أعطان الإبل أفنصلي فيها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا، قال: أفنتوضأ من لحومها؟ قال: نعم، قال: أفنصلي في مرابض الغنم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، قال: أفنتوضأ من لحومها؟ قال: لا» رواه أحمد والطبراني. قال الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد (رجال أحمد مُوثَّقون) . 4- عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ أنه وجد أبا هريرة يتوضأ على المسجد، فقال «إنما أتوضَّأ من أثوار أَقِطٍ أكلتها، لأنِّي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: توضأوا مما مسَّت النار» رواه مسلم والنَّسائي. قوله أثوار ـ جمع ثور ـ: هي القطعة من الأقِط. وقوله الأقِط: هو اللبن الجامد المتحجِّر. وعن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «توضأوا مما مسَّت النار» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائي. 5- عن جابر قال «أكلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر خبزاً ولحماً، فصلوا ولم يتوضأوا» رواه أحمد وابن أبي شيبة. ورواه عبد الرزاق مطوَّلاً. 6- عن جابر قال «كان آخِرَ الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تركُ الوضوء مما مسَّت النار» رواه النَّسائي وأبو داود وابن خُزَيمة وابن حِبَّان. 7- عن بُشَير بن يسار أن سويد بن النعمان أخبره «أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء، وهي أدنى خيبر، فصلى العصر ثم دعا بالأزواد فلم يُؤتَ إلا بالسَّويق، فأمر به فثُرِّي، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكلنا، ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ» رواه البخاري وابن ماجة ومالك. قوله ثُري ـ بالتشديد والتخفيف ـ: أي بُلَّ بالماء لما لحقه من اليبس. والسَّويق: هو دقيق الشعير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 8- عن ميمونة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل عندها كتفاً، ثم صلَّى ولم يتوضأ» رواه البخاري. في هذه الأحاديث مسألتان أو مسألة ذات شقين هما: الوضوء من أكل لحوم الإبل، والوضوء من أكل ما مسَّته النار. وقد ذكرنا من قبلُ الفريقين المختلفين في الشق الأول، ونذكر الآن الفريقين المختلفين في الشق الثاني. إن من ذهبوا إلى أن الوضوء من أكل ما مسَّته النار لا يجب، أي أن أكل ما مسَّته النار لا ينقض الوضوء هم الخلفاء الراشدون الأربعة وعبد الله بن مسعود وأبو الدرداء وابن عباس وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وجابر بن سمرة وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وأبو هريرة وأبيُّ بن كعب وأبو أمامة والمغيرة بن شعبة وجابر بن عبد الله وعائشة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وابن المبارك وإسحق بن راهُوَيه وأبوثور وسفيان الثوري. قال النووي (إن هذا الخلاف الذي حكيناه كان في الصدر الأول، ثم أجمع العلماء بعد ذلك أنه لا يجب الوضوء من أكل ما مسَّته النار) . أما من ذهبوا إلى أن أكل ما مسَّته النار ينقض الوضوء فهم عمر بن عبد العزيز وأبو قلابة والحسن البصري والزُّهري، ورواية ثانية عن عبد الله بن عمر وأنس بن مالك وأبي موسى وعائشة وزيد بن ثابت وأبي هريرة، وإنما قلت رواية ثانية عن عبد الله بن عمر ... إلى أبي هريرة، لأن هؤلاء قد روي عنهم القول الأول وذُكروا مع الفريق الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 الأحاديث الثمانية تصلح للاحتجاج باستثناء السادس منها الذي رواه النَّسائي وغيره، فقد أعلَّه ابن حجر بعلَّتين فنطرحه. الحديث الأول «أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل» والحديث الثاني «سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من لحوم الإبل فقال توضأوا منها» والحديث الثالث «أفنتوضأ من لحومها؟ قال: نعم» والحديث الرابع «توضأوا مما مسَّت النار» والحديث الخامس «أكلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر خبزاً ولحماً، فصلوا ولم يتوضأوا» والحديث السابع «فلم يُؤتَ إلا بالسَّويق فأمر به فَثُرِّي، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكلنا .... ثم صلى ولم يتوضأ» والحديث الثامن «أكل عندها كتفاً ثم صلى ولم يتوضأ» . الأحاديث الثلاثة الأولى فيها أنَّ الأكل من لحوم الإبل ينقض الوضوء منطوقاً وصراحة، والحديث الرابع فيه الوضُوءُ مما مسَّت النار، والحديث الخامس فيه أنَّ أكلَ اللحم من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعل أبي بكر وعمر لا ينقض الوضوء، والحديث السابع فيه أن أكل السَّوِيق من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته لا ينقض الوضوء، والحديث الثامن فيه أن أكل اللحم المطبوخ لا ينقض الوضوء. الأحاديث الثلاثة الأولى تأمر بالوضوء من أكل لحوم الإبل، والحديث الرابع وحده يأمر بالوضوء من أكل ما مست النار، والأحاديث 5، 7، 8 فيها أن أكل ما مسَّته النار لا ينقض الوضوء باختلاف الأحوال، فتارة اللحم، وتارة السَّوِيق ـ وهما مما مسته النار ـ وتارة من فعله عليه الصلاة والسلام، وتارة من فعل أصحابه رضوان الله عليهم، وتارة من فعله وفعل الصحابة معاً. من هذا الاستعراض نستخلص أن الوضوء من أكل ما مسته النار كان مطلوباً، ثم جاءت أحاديث متأخرة تبطل هذا الطلب وتنسخه. فحديث السَّوِيق كان في غزوة خيبر، وغزوة خيبر متأخرة، فيصلح ناسخاً، يشهد لذلك ما روى محمد بن مسلمة «أكل رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 الله - صلى الله عليه وسلم - مما غيرت النار ثم صلى ولم يتوضأ، وكان آخر أمريه» رواه البيهقي. فهو مصرِّح بالتأخر. وإذا وجد تعارض بين الأحاديث أُخذ بالمتأخر، وأحاديثُ إِبطال الوضوء متأخرة فيُعمل بها، وتعتبر ناسخة لأحاديث طلب الوضوء. ولا يقال إن أحاديث الوضوء قول، وأحاديث الترك فعل، لا يقال ذلك لأن حديث السَّويق فعلٌ من الصحابة على مرأى ومسمع من الرسول عليه الصلاة والسلام، بل فعلٌ منهم ومشاركة منه عليه الصلاة والسلام، فهو إقرار منه على فعلهم، إضافة إلى كونه فعلاً منه أيضاً، والإقرار منه يأخذ حكم القول منه، فيكون الموضوع أمراً منه أولاً بالوضوء ثم أمراً منه بالترك، أي يكون حكم الوضوء مما مسته النار منسوخاً. وبذلك يظهر أن القائلين بعدم الوضوء مما مسته النار هم المصيبون. ولا يبعد أن يكون الاختلاف في الصدر الأول على هذا الحكم ناتجاً عن كون القائلين بالوضوء لم يصلهم النسخ لأنه متأخر، ثم لما وصلهم رجعوا إليه وأجمعوا عليه إلا القليل منهم. هذا هو حكم أكل ما مسته النار، وقد بينا أنه لا ينقض الوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 أما أكل لحم الإبل فإنه لا يوجد أي نص ينسخ حكم الوضوء منه. وقد أشكل على عدد من الأئمة كالشافعي قولُ جابر ترك الوضوء مما مست النار، وهو المُعلُّ بعلَّتين وهو «كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مسَّت النار» فقالوا إن حديث جابر متأخر وهو نص في ترك الوضوء مما مسته النار، وإن لحم الجَزور يدخل في ما مسَّته النار، فيكون منسوخاً بهذا الحديث، ومنهم من أوَّلوا الأحاديث الثلاثة بأنها تعني الوضوء اللغوي، وهو غسل اليدين فحسب، وذلك لعلة الدَّسَم والزُّهُومة، فنجيبهم بأن حديث جابر ضعيف، فإن فيه انقطاعاً بين ابن المنكدر وجابر، فهو منقطع، وفيه عمرو بن منصور ضعفه أبو حاتم الرازي وذكر الخطيب أنه روى عن عليّ بن المديني خبراً منكراً، وفي سند أبي داود موسى بن سهم ضعيف، فالحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 قال الشوكاني في كتابه المسمى [إرشاد الفُحول] (قال الشافعية: إن تأخَّر العام عن وقت العمل بالخاص يُبنى العام على الخاص، لأن ما تناوله الخاص متيقن، وما تناوله العام ظاهر مظنون، والمتيقن أولى) فلو حكَّم الشافعيون قاعدتهم الأصولية لما قالوا بعدم نقض الأكل من لحوم الإبل للوضوء. أجل إن قاعدة الشافعي الأصولية صحيحة، وإعمالها يؤدي إلى القول بأن لحم الجَزور ينقض الوضوء. فالنووي وهو من الفقهاء الشافعيين قال (أما النسخ فضعيف أو باطل، لأن حديث ترك الوضوء مما مست النار عام، وحديث الوضوء من لحم الإبل خاص، والخاص يقدَّم على العام سواء وقع قبله أو بعده) وعقَّب الشوكاني على قوله هذا بقوله (وهو مبنيٌّ على أنه يُبنى العام على الخاص مطلقاً كما ذهب إليه الشافعي وجماعة من أئمة الأصول وهو الحق) وقال الشوكاني في [إرشاد الفُحول] وهو كتابه في علم الأصول (وما احتجَّ به بأن العام المتأخر ناسخ من قولهم دليلان تعارضا وعُلِم التاريخ بينهما، فوجب تسليط المتأخر على السابق كما لو كان المتأخر خاصاً، فيجاب عنه بأن العام المتأخر ضعيف الدلالة فلا ينتهض لترجيحه على قويِّ الدلالة، وأيضاً في البناء جمعٌ وفي العمل بالعام ترجيحٌ، والجمع مقدَّم على الترجيح، وأيضاً في العمل بالعام إهمالٌ للخاص وليس في التخصيص إهمالٌ للعام كما تقدم) ثم إن الإمام الشافعي يقول: إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت به. فهذا قول صريح في أنه لا يذهب إلى أن العام ينسخ الخاص، وإلا لما كان لقوله هذا معنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 والحق أن الشافعية كلهم الذين يلتزمون بأصول إمامهم ينبغي عليهم القول بالوضوء من لحوم الإبل بعد أن ثبت أكثر من حديث صحيح في لحوم الإبل، وأن أتباعه لا ينبغي لهم ترك الوضوء من أكل لحوم الإبل بعد ثبوت الدليل، بل الأدلة التي لم تثبت عند الشافعي، وهذا ما تنبَّه له كثير من فقهاء الشافعية، فأخذوا بحكم النقض كابن المنذر والبيهقي وابن خُزَيمة. والنووي الشافعي يقول في كتابه [المجموع] عن حكم النقض (هو القوي أو الصحيح من حيث الدليل، وهو الذي أعتقد رجحانه) . أما الذين تأوَّلوا الأحاديث وعلَّلوها بأنها لأجل الزُّهومة، فنجيبهم بأن الزُّهومة كما هي موجودة في لحوم الإبل، فهي موجودة في لحوم الغنم، ولم يأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالوضوء منها، فتنتفي حجتهم وتعليلهم. وأما قولهم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراد الوضوء اللغوي أي غسل اليد، فنرد عليهم بقول النووي وهو أحدهم (أما حمل الوضوء على اللغوي فضعيف، لأن الحمل على الوضوء الشرعي مقدَّم على اللغوي كما هو معروف في كتب الأصول) وأيضاً إن القول بأن الأحاديث أرادت غسل اليدين يحتاج إلى دليل ولا دليل، وأيضاً إن الأحاديث لو أرادت غسل اليدين لما ترك الرسول عليه الصلاة والسلام الأمر بذلك في لحوم الغنم في الأحاديث الآمرة بالوضوء من أكل لحم الجزور نفسها. والحق أن هذه التأويلات فاسدة وتركٌ للقول بالنقض الوارد في الأحاديث. والخلاصة أن لحم الجزور ناقض للوضوء، وأن أكل ما مسته النار من سائر اللحوم الأخرى ومن أصناف الأطعمة والأشربة لا ينقض بحال. ويدخل في لحوم الإبل كبدها وطحالها دون لبنها وحليبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 أما ما استدل به بعضهم على نقض الوضوء من ألبان الإبل، وهو ما رواه ابن ماجة عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا توضئوا من ألبان الغنم، وتوضئوا من ألبان الإبل» . وما رواه ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «توضئوا من لحوم الإبل، ولا تتوضئوا من لحوم الغنم، وتوضئوا من ألبان الإبل، ولا توضئوا من ألبان الغنم، وصلُّوا في مُراح الغنم ولا تصلوا في معاطن الابل» . فهما حديثان ضعيفان، في الأول حجَّاج بن أرطأة ضعيف، وفي الثاني بقية بن الوليد ضعيف، وخالد بن يزيد بن عمر مجهول الحال، فلا يصلحان للاحتجاج، فيسقط قولهم. مسائل المسألة الأولى ما ينقض الطهارة الكبرى يعتبر ناقضاً للوضوء كالجماع وإنزال المني والردة عن الأسلام والحيض والنفاس، ولم نذكرها في نواقض الوضوء مكتفين بإدراجها في موجبات الغسل، وقد مرَّت. المسألة الثانية إذا شفي دائم الحَدَث مثل مَن به سَلَسُ البول أو الريح أو المستحاضة انتقض وضؤوه بمجرد حصول الشفاء، لأن طهارة هؤلاء طهارة ضرورة تقَدَّر بقدرها، ومثلهم صاحب الجبيرة فإنه إذا شفي جرحه أو جُبر كسره انتقض وضؤوه. وهذه الحالات كحال المتيمِّم طهارتهُ مرهونةٌ بوجود الماء، فإذا وجد الماء بطلت طهارته وبطل تيمُّمه. المسألة الثالثة من تيقَّن الطهارة، أي الوضوء، ثم شك هل انتقض وضؤوه أم لا فهو على طهارته، باق وضؤوُه، لما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخَرج منه شيءٌ أم لا، فلا يخرجنَّ من المسجد حتى يسمع صوتاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 أو يجد ريحاً» رواه مسلم والترمذي وأبو داود. ولما روى عباد ابن تميم عن عمه «شُكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجلُ يخيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأبو داود والنَّسائي. قوله حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً: لا يعني وقوعَ الشيئين بالضبط بقدر ما يعني تيقن الخروج، فقد يحِسُّ بخروج الريح دون أن يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، فينتقض وضؤوه في هذه الحالة أيضاً. والحديثان يفيدان اطِّراح الشكوك والوساوس، والبناءَ على المتيقن، وهما إن ذكرا الريح كناقض فإنما ذكراه كمثالٍ فحسب، وإلا فكلٌّ ناقض يشمله الحديثان أيضاً. فلو شك في أنَّه بال أو شك في أنه تغوَّط، أو شك في أنه مسَّ فرجه فإن وضوءه باق، وهكذا. وأما ذِكْرُ المسجد في الحديث الأول فليس يفيد التقييد، وكذلك القول في ذِكْرِ الصلاة في الحديث الثاني، فالوضوء باق ولا يُنقض بالشك سواء كان ذلك في الصلاة أو خارجها، وسواء كان في المسجد أو خارجه، وهذا مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف، إلا أن عبد الرزاق روى عن الحسن وإبراهيم النخعي قولهما إنه يلزمه الوضوء إن كان الشك حصل خارج الصلاة، ولا يلزمه الوضوء إن كان شكُّه في الصلاة، وهذا رأيٌ ظاهرُ الضعف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 أما إن تيقَّن الحَدَث، أي عدم الوضوء، وشك هل توضأ أم لا، لزمه الوضوء، وهو أيضاً رأي جميع المسلمين، وهذا وما قبله يدخل في القاعدة الشرعية المسمَّاة بقاعدة الاستصحاب، وهي أن الحكم باق على أصله الأول لا يزول بالشك. قال الشيخ تقي الدين النبهاني في كتابه في الأُصول (المراد بالاستصحاب استصحابُ الحال، وقد عرَّفه علماء الأصول بأنه عبارة عن الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على ثبوته في الزمان الأول، أي هو ثبوتُ أمرٍ في الزمن الحاضر بناء على ثبوته فيما مضى، فكل أمر ثبت وجوده ثم طرأ الشك في عدمه فالأصل بقاؤه، والأمر الذي عُلم عدمه ثم طرأ الشك على وجوده فالأصل استمراره في حال العدم) وقال ابن المبارك: إذا شك في الحَدَث فإنه لا يجب عليه الوضوء حتى يستيقن استيقاناً يقدر أن يحلف عليه، أما إذا تيقَّن الحدث وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين. وأنا وإن كنت لا أقول بإجماع المسلمين كدليل، إلا أن ذكر إجماع المسلمين في المسائل يفيدها قوة ويزيدنا اطمئناناً. المسألة الرابعة ذهب قطاع واسع من العلماء إلى أن زوال العقل بجنون أو إغماء أو سُكْر أو دواء ينقض الوضوء قياساً على النوم، وقالوا إن الذهول عند هذه الأسباب أبلغ من النوم. وأنا لا أرى هذا الرأي لأن القياس في العبادات لا يجوز إلا إن وجدت علَّة في النص، ولا علَّة في نقض النوم للوضوء فلا قياس. وأما الذين قاسوا فكانوا قد جعلوا نقض النوم للوضوء لعلَّة خروج الريح، فقالوا إن الجنون والإغماء والسُّكْر مظنَّةٌ لخروج الريح تماماً كالنوم وأنا لا أطيل في هذه النقطة، وحسبي أنني لم أجد نصاً ولو ضعيفاً يفيد نقض الإغماء أو زوال العقل للوضوء، وهذه عبادة، والعبادة يقام بها كما وردت، لا نزيد فيها ولا ننقص منها. المسألة الخامسة: لمس المرأة لا ينقض الوضوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 اختلف الأئمة والفقهاء في لمس المرأة هل ينقض الوضوء أم لا ينقض، على أقوال: فذهب عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر والزُّهري وربيعة والشافعي إلى أن لمس المرأة ينقض الوضوء. وذهب علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأبيُّ بن كعب والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والشعبي وعطاء وطاووس وأبو حنيفة وأبو يوسف وابن جرير الطبري إلى أنه غير ناقض. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إلا إذا تباشر الفرجان وانتشر الذَّكَر وإن لم يُمْذٍ. وذهب مالك وأحمد وإسحق بن راهُويه إلى أن اللمس بشهوة ناقض. وحتى نتبين وجه الحق في هذه المسألة ونقف على الرأي الراجح نستعرض الأدلة كلها: 1- قوله تعالى {أو لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فلم تجِدُوا ماءً فتيَمَّمُوا} وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر، وقُريء {أو لَمَسْتُم} وهي قراءة حمزة والكِسائي. 2- عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال «أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقال: يا رسول الله ما تقول في رجلٍ لقي امرأةً لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها؟ قال فأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآية {أَقِم الصَّلاةَ طَرَفيِ النَّهارِ وزُلَفاً من الليلِ إنَّ الحَسَناتِ يُذهبنَ السَّيِّئاتِ} الآية، قال: فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم -: توضأ ثم صلٍّ، قال معاذ فقلت: يا رسول الله أَلَه خاصةً أم للمؤمنين عامةً؟ قال: بل للمؤمنين عامةً» رواه أحمد والترمذي والدارقطني والبيهقي والحاكم. 3- عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبَّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قال عُروة: قلت لها: مَن هي إلا أنتِ؟ فضحكت» رواه أحمد وابن ماجة والدارقطني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 4- عن عائشة قالت «إنْ كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لَيُصلِّي، وإني لَمعترضةٌ بين يديه اعتراضَ الجنازة، حتى إذا أراد أن يُوتِر مسَّني برجله» رواه النَّسائي وأحمد. 5- عن عائشة قالت «فقدتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً من الفراش، فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك» رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنَّسائي وأحمد. 6- عن عائشة قالت «كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، تختلف أيدينا فيه من الجنابة» رواه مسلم والبخاري. ورواه ابن أبي شيبة بلفظ «كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد نضع أيدينا معاً» ورواه النَّسائي بلفظ « ... من إناء واحد نغترف منه جميعاً» وله أيضاً بلفظ «قالت لقد رأيتُني أُنازع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإناء أغتسل أنا وهو منه» ورواه ابن حِبّان بلفظ «إني كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد تختلف أيدينا فيه وتلتقي» . 7- عن أم سلمة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُقَبِّلها وهو صائم ثم لا يُفطر ولا يُحدث وضوءاً» رواه ابن جرير الطبري وصحَّحه. 8- عن عائشة رضي الله عنها قالت «كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قِبْلته، فإذا سجد غمزني فقبضتُ رجليَّ، فإذا قام بسطتهما» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 الحديث الثاني منقطع لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ، قال الترمذي (هذا حديث ليس إسناده بمتصل، عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ ابن جبل) فالحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج، أعني به الحديث الذي فيه زيادةُ الأمر بالوضوء والصلاة. والحديث الثالث ضعَّفه ناسٌ وصحَّحه آخرون، والحق أن هذا الحديث قد ضُعِّف لأنهم اعتبروا عُروة المذكور هو عُروة المُزَني كما جاء في سنن أبي داود، والمُزَني مجهول، إلا أن أحمد وابن ماجة والدارقطني قد صرَّحوا بأن عُروة هذا هو عُروة بن الزبير، فانتفى بذلك تضعيفهم لهذا الحديث، وأما تضعيف بعضهم للحديث بأن حبيباً لم يرو عن عُروة فغير مسلَّم به، لأن أبا داود قد أورد حديثاً صحيحاً رواه حبيب عن عروة، وهكذا يتضح أن تضعيف هذا الحديث غير صحيح، فيُقبَل ويصح الاستدلال به. والحديث الرابع قال الحافظ ابن حجر فيه (إسناده صحيح) والحديث الخامس صحيح هو الآخر. والأحاديث الثلاثة الأخيرة صحيحة. وبذلك يُطرح الحديث الثاني فحسب، وتبقى الأحاديث الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 نبدأ بالنص الأول لأنه الأصل، قوله سبحانه وتعالى {أو لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فلم تَجِدُوا ماءً فتيمَّمُوا} جاء في الآية 34 من سورة النساء، وفي الآية 6 من سورة المائدة. آية النساء هي {يا أيُّها الذين آمنوا لا تَقْرَبوا الصَّلاةَ وأَنتُمْ سُكَارى حتى تَعْلَمُوا ما تقولون ولا جُنُباً إلا عابِرِي سبيلٍ حتى تغتسلوا وإنْ كُنتم مَرضَى أَو على سَفَرٍ أو جاء أَحَدٌ منكُمْ مِن الغائِطِ أو لامَسْتُمُ النِّساءَ فلم تَجِدُوا ماءً فتيمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فامْسَحُوا بوُجُوهِكُم وأَيْدِيْكُمْ إنَّ الله كان عَفُوَّاً غَفُوراً} وآية المائدة هي {يا أيُّها الذين آمنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيدِيَكُم إلى المرافِقِ وامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ وأَرجُلَكُم إلى الكَعْبَينِ وإنْ كُنْتُم جُنُباً فاطَّهَّروا وإنْ كُنتم مَرضَى أَو على سَفَرٍ أَو جاء أَحَدٌ مِنْكُم مِن الغَائِطِ أو لامَسْتُمُ النِّساءَ فلم تَجِدُوا ماءً فتيمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُم منه ما يرِيدُ اللهُ ليجْعَلَ عليكُمْ مِن حَرَجٍ ولكنْ يُريدُ لِيُطَهِّرَكُم ولِيُتِمَّ نِعمتَهُ عليكُم لعلَّكُمْ تَشْكُرُون} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 آية النساء خطابٌ للمؤمنين أن لا يقربوا مواضع الصلاة ـ أي المساجد ـ وهم سُكارى وأن لا يقربوها إذا كانوا جُنُباً إلا مروراً فقط حتى يغتسلوا من الجنابة. هذا هو صدر الآية، وأما نصفها الثاني فإنه أراد أن يبين للمسلمين حكم التيمُّمِ عند فقْد الماء، فأتى بالحالات التي يكون فيها المسلم محتاجاً إلى التيمُّم عند فَقْد الماء، فقال النِّصفُ الثاني {وإن كنتم مرضى} أي حالة المرض {أو على سفرٍ} أي حالة السَّفر، {أو جاء أحد منكم من الغائط} أي حالة الحَدَث الأصغر {أو لامستم النِّساء} أي حالة ... ، فلم تجدوا ماء فتيمَّموا. فالناظر في سياق الآية يجد أن الفراغ عقب {أو لامستم النساء} لا تناسبه إلا حالةُ الحَدَثِ الأكبر، ولا تناسبه حالة الحَدَثِ الأصغر، فبوضعِ حالة الحَدَثِ الأكبر في الفراغ تكتمل جميع حالات التيمم عند فَقْدِ الماء، ولكن إن وضعنا حالة الحَدَثِ الأصغر فإنَّ الحالات لا تكتمل، ويكون في الآية تكرارٌ لا يفيد معنى جديداً. ولذا فإن الأصل والأكرم للتعبير القرآني أن يُؤوَّل بما يفيد الكمال والتمام. فالصحيح إذن أن نقول إن الفراغ ينبغي ملؤُه بحالة الحَدَثِ الأكبر، أو حالة الجنابة هنا، وإذا كان ذلك كذلك فإنَّ لامستم تُفسَّر بالجماع، ولا تُفسَّر بمسِّ بدن المرأة. أجل إن تركيب الآية وأسلوبها يقتضيان أن يكون المراد بالملامسة الجماع، فإنه سبحانه عدَّ من مقتضيات التيمُّمِ المجيءَ من الغائط تنبيهاً على الحَدَث الأصغر، وعدَّ الملامسة تنبيهاً على الحَدَثِ الأكبر، وهو مقابلٌ لقوله تعالى في الأمر بالغُسل بالماء {ولا جُنُباً إلا عابري سبيلٍ حتى تغتسلوا} ولو حُملت الملامسة على اللمس الناقض للوضوء لفات التنبيه على أن التراب يقوم مقام الماء في رفع الحدث الأكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 وآية المائدة تزيد الموضوع وضوحاً وتقوِّي هذا التفسير لآية النساء، فصدر الآية طلب الوضوء وبيَّنه، ثم طلب إزالة الجنابة، أي طلب رفع الحدثين الأصغر والأكبر، وذلك باستعمال الماء، ثم جاء الشطر الثاني للآية ليبيِّن حكم التيمُّم عند فقْدِ الماء، وليُستوفَى البحثُ كله، فقالت الآية {وإن كنتم مرضى} أي حالة المرض {أو على سفرٍ} أي حالة السفر {أو جاء أحد منكم من الغائط} أي حالة الحَدَث الأصغر {أو لامستم النساء} أي حالة الجنابة أو الحَدَث الأكبر {فلم تجدوا ماء فتيمَّموا} أي تيمَّموا لحالتي الحَدَث الأكبر والحَدَث الأصغر، وهما الحالتان المذكورتان في صدر الآية واستُعْمِل فيهما الماء وأضاف إليهما العُذرين المبيحين للتيمُّمِ وهما حالة المرض وحالة السَّفر. وبذلك تكون الآية تامة أتت على جميع الحالات والأعذار للتيمُّم، ويُستبعد بهذا التفسير النقصُ في ذكر الحالات فيما لو فُسِّرت {أو لامستم} بالمسِّ باليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 وكان يمكن تصوُّرُ آيةٍ من الآيتين تنقُص فيها حالاتُ التيمُّم، أما وأنَّ الآيتين جاءتا لبيان حكم الوضوء والجنابة والتيمُّم، وذكرتا الحالات التي يُستعمل فيها التراب بدل الماء، وكانتا على نسقٍ واحدٍ، فإن النقص في الآيتين للحالات مستبعَدٌ تماماً. وعليه فإن لامستم لا يناسبها إلا تفسيرُها بالجماع. وممن ذهب إلى هذا التفسير علي بن أبي طالب وأبيُّ بن كعب وعبد الله بن عباس وهم أعلم الصحابة بتأويل كتاب الله، وفسَّرها كذلك أبوحنيفة ومجاهد وطاووس والحسن وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة والطبري والشوكاني وهم من أشهر المفسرين لكتاب الله من السلف والخلف ومن أشهر الفقهاء. وهذا التفسير فضلاً عن أنه تفسيرٌ فقهي فهو أيضاً تفسير تحتمله اللغة وورد مثله في عدد من آيات القرآن الكريم، كقوله تعالى {ثم طلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أي تجامعوهن، وقوله {وإنْ طلَّقْتُموهنَّ مِن قَبْلِ أِنْ تَمَسُّوهُن} أي تجامعوهن، وقوله {ولم يَمْسَسْني بَشرٌ} أي لم يجامعْني، ومثلها أو قريبٌ منها قوله تعالى {فالآن باشروهن} أي جامعوهُنَّ. وورد في الحديث عن المرأة التي تزني «لا تردُّ يدَ لامس» كناية عن الجماع بالسفاح. فالقرآن الكريم والسنة النبوية ذكرا اللمس والمسَّ والمباشرة بمعنى الجماع، فهي لغةٌ وهي شرعٌ وهي فقهٌ، وقد جاءت الآيتان الكريمتان بقراءتين {لامَسْتم} و {لمسْتم} وفرَّق محمد بن زيد بينهما في المعنى فقال: الأَولى في اللغة أن يكون لامستم بمعنى قبَّلتم أو نظيره لأن لكل واحد منهما فعلاً. وقال: ولمستم بمعنى غشِيتم ومسستم، وليس للمرأة في هذا فعلٌ. فصارت الآيتان تحتملان المعنيين لغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 وما دام اللمس يحتمل الجماع لغة، كما يحتمل المس باليد لغة أيضاً، فإن القرينة هي التي تحدِّد أيَّاً من المعنيين لهذه اللفظة، وما ذكرناه من سياق الآية الفقهي هو قرينة على أن المعنى المراد من لامستم هو الجماع، وهذا ما تستريح له النفوس. أما تفسيرها بالمس باليد فهو تفسير لغوي دون نظرٍ في القرينة، ودون إنعامِ نظرٍ في سياق الآيتين الكريمتين. والملفت أن الذين فسَّروها بالمس باليد ساقوا أحاديث تثبت أن اللمس يعني المس باليد لغة، وكأن هذه قضية مختلَفٌ عليها يراد الإتيان بالبراهين عليها، فنحن نوافقهم على أن اللمس يعني المسَّ باليد لغة دون حاجة للإتيان بالبراهين عليه، وإنما الواجب عليهم أن يأتوا بالقرائن على أن الآية عنت هذا المعنى دون المعنى الآخر. إذن الآية تفيد الجماع، ولكن حتى لا نغلق بسرعة باب النقاش لننظر في الأحاديث التي تصلح لبيان وتفسير هذه اللفظة القرآنية، وتصلح من ثم كقرائن على المعنى المقصود. استدلوا بالحديث الثاني على أن اللمس ينقض الوضوء، فقالوا إن الرجل في الحديث لمس المرأة وأوشك أن يجامعها إلا أنه لم يفعل، فأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ، وهذا عندهم دليل على أن اللمس ينقض الوضوء. فنرد عليهم بأن هذا الحديث منقطع وضعيف كما أسلفنا فلا يصلح للاستدلال، وأن أصل القصة في الصحيحين، وأن الرسول عليه الصلاة والسَّلام لم يُرو عنه أنه أمر الرجل بالوضوء ولا حتى بالصلاة، فالحادثة واحدة رُويت في الصحاح بدون طلب الوضوء، ورُويت في الحديث الضعيف بالأمر بالوضوء، فتُؤخذ الأحاديث الصحيحة ويُردُّ الحديث الضعيف، فهذا الحديث إذن لا يُسعفهم. واستدلوا أيضاً بقول عمر رضي الله عنه «إن القبلة من اللمس فتوضأ منها» وبأن ابن عمر «كان يرى القُبلة من اللمس، ويأمر فيها بالوضوء» وبقول ابن مسعود «القُبلة من اللمس وفيها الوضوء» روى هذه الآثار الثلاثة الدارقطني والبيهقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 فنقول إن هذه الآثار هي أقوال صحابة، وأقوال الصحابة ليست أدلة، وواقعها أنها أفهام لهم واجتهادات نحن غير ملزَمين به، سيما إذا علمنا أن عدداً من الصحابة والتابعين قالوا بخلاف ذلك، منهم حبر هذه الأمَّة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه، فعن سعيد بن جبير قال «تذاكرنا اللمس فقال أُناس من الموالي: ليس من الجماع، وقال أُناس من العرب: هي من الجماع، فذكرت ذلك لابن عباس فقال: مع أيِّهم كنتَ؟ قلت: مع الموالي، قال: غُلبت الموالي، إن اللمس والمباشرة من الجماع ولكن الله عزَّ وجلَّ يَكْني ما شاء بما شاء» رواه البيهقي. ورواه عبد الرزاق ولفظه « ... أخطأ الموليان وأصاب العربي، وهو الجماع ولكن الله يعفُّ ويَكْنِي» . فهذه تعادل تلك، وهي كلها أفهامٌ واجتهادات وليست أدلة ونصوصاً صالحة للبيان والقرائن. والأدلة هي القرآن وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -. … وقد نظرنا في القرآن الكريم، وننظر الآن في الأحاديث الشريفة المتبقية. الحديث الثالث «قبَّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ» والحديث الرابع «إذا أراد أن يوتِر مسَّني برجله» والحديث الخامس «فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان» والحديث السادس «مِن إناءٍ واحد تختلف أيدينا فيه» ، «من أناء واحد نضع أيدينا معاً» ، «من إناء واحد نغترف منه جميعاً» ، «لقد رأيتُني أُنازع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإناء» ، «من إناء واحد تختلف أيدينا فيه وتلتقي» والحديث السابع «كان يُقبِّلها وهو صائم، ثم لا يُفطر ولا يُحدث وضوءاً» والحديث الثامن «فإذا سجد غمزني فقبضت رجليَّ، فإذا قام بسطتهما» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 الحديث الرابع فيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسَّ عائشة برجله وهو يصلي، والحديث الثامن فيه أنه غمزها وهو يصلي، أي أن الحديثين يدلان على أن الرسول عليه الصلاة والسلام مسَّ عائشة وهو في الصلاة ولم يقطع صلاته. والحديث الخامس فيه أن عائشة مسَّت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيدها وهو في الصلاة فلم يقطعها. والحديث الثالث والحديث السابع فيهما أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقبِّل نساءه ولا يتوضأ، أي أن التقبيل لا ينقض وضوءه. والحديث السادس فيه دلالة على أنه كان يلمس زوجته وتلمسه زوجته ولا ينتقض وضوؤهما. وهذا الحديث بحاجة إلى شرحٍ وبيانِ وجهِ الاستدلال لخفائه فأقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 إن لمس المرأة لو كان ينقض الوضوء لما سمحا لأيديهما بالاغتراف معاً في أثناء الغسل حتى لا يلمس أحدهما الآخر فينتقض وضوؤُهما، فيخرجان من الغُسل غير طاهرين طهارة صغرى، أي يكونان حينئذ قد اغتسلا وخرجا دون وضوء. والمعلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد ثبت عنه أنه لم يكن يتوضأ عقب الغسل، فقد رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة» رواه ابن ماجة والنَّسائي والبيهقي. ورواه الترمذي وقال (حديث حسن صحيح) ورواه الحاكم وقال (هذا حديث صحيح) . والرسول عليه الصلاة والسلام قد أرشد أمته إلى أن الغسل يكفي للصلاة، وأن الوضوء يدخل فيه، فكونه يغتسل مع زوجته من إناء واحد تمتد إليه أيديهما معاً ويتنازعان الإناء وتلتقي أيديهما فيه ثم لا يتوضأ ولا يأمر زوجته بالوضوء، هو دليلٌ وحجةٌ على أن التقاء الأيدي لا ينقض الوضوء، لأنه لا يجوز السكوت في معرَض الحاجة والبيان. فهذا الحديث دليل على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، وهو فِعلٌ منه عليه الصلاة والسلام وفعلٌ من زوجته، وسكوت منه على ذلك وإقرار. فإذا كان الحديث الثالث ـ وهو فعلٌ منه عليه الصلاة والسلام ـ والحديث الرابع ـ وهو فعلٌ ـ والحديث السابع ـ وهو فعلٌ ـ والحديث الثامن ـ وهو فعلٌ ـ تفيد كلها أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يلمس نساءه ولا يتوضأ، أي إذا كانت أربعة أحاديث تقرر أن الرسول عليه الصلاة والسلام لمس النساء ولم يتوضأ، فإن ذلك دليل صريح على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، فثبوت لمس الرسول عليه الصلاة والسلام للنساء وعدم وضوئه حصل بأربعة أحاديث صحيحة وصالحة للاحتجاج، وهذا من أقوى أنواع الإثبات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 وفي المقابل لا يوجد حديث واحد من فعله عليه الصلاة والسلام أو حتى من فعل صحابي أَمامه أنه لمس وتوضأ، أي لمس صحابي وتوضأ بإقرارٍ من الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا قرينةٌ صالحة لتعيين المراد من الآيتين الكريمتين، وأنهما تعنيان الجماع، أو قُل تنفيان النقض من مجرد اللمس بأشكاله المتعددة من التقبيل والمس باليد والغمز بالرِّجل. وقد يقول قائل إن الآيتين أتتا بنقض اللمس باليد، والأحاديث فعلٌ منه عليه الصلاة والسلام بعدم النقض، فتحمَل الأحاديثُ على أنها من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، فنرد عليه: إنَّا لا نسلِّم بهذا القول، لأننا لا نسلِّم بأن الآيتين أتتا بالنقض، بل إنَّا بالتساهل نقول إن الآيتين محتملتان، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال، فأحرى أن لا يُبنى على أيٍّ من المعنيين وتُحمَل الأحاديثُ على دلالة محتملة. فهذا لا يصح القول به. أجل لو كانت الآيتان لا تفيدان إلا النقض، وجاءت أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام بعدم النقض، فإن الفعل أو الأفعال منه عليه الصلاة والسلام يصح حملها على أنها من خصوصياته، أما في حالتنا هذه فلا يصح الحمل. والثانية إنَّ الأحاديث تفسر القرآن ولا تتعارض معه، وكون الآيتين بالتساهل تحتملان المعنيين، فإن الأحاديث إذا جاءت بفعل أو بقول صلحت لتفسير الآيتين وتعيين المراد من المعنيين المحتملين، وهنا أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام صالحة لبيان معنى الآيتين، وتحديد المعنى المقصود منهما، وهذا القول أولى من القول بوجود التعارض بين القرآن والحديث حتى نُضطر للُّجوء إلى القول بخصوصية الأفعال للرسول عليه الصلاة والسلام، ذلك أنَّ القول بالخصوصية لا يُلجأ إليه عادة إلا إذا تحقق التعارض ولم يمكن الجمع والتوفيق، وهنا أمكن الجمع والتوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 والثالثة إن الأحاديث لم تقتصر على فعله عليه الصلاة والسلام بل أتت بأفعال غيره وإقرارِ منه لها، فقد أبانت الأحاديث عن أنَّ نساءه كنَّ يلمسن الرسول عليه الصلاة والسلام بالتقبيل وغيره، ولم يكن يبين لهن أن وضوءهن قد نُقض، مع وجود الدواعي لهذا البيان لو كان اللمس ينقض وضوءهن، فهذا أيضاً قرينة على صحة ما نذهب إليه. والرابعة إن عندنا نصاً يفيد أن نساء الرسول - صلى الله عليه وسلم - كن يفهمن أن تقبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهنَّ دون أن ينتقض وضوؤه ليس من خصوصياته، بل يشمل سائر المسلمين، فقد روى الدارقطني بسند جوَّده الحافظ آبادي عن عائشة رضي الله عنها «أنها بلغها قول ابن عمر: في القُبلة الوضوءُ، فقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّل وهو صائم ثم لا يتوضأ» . بل إن الدارقطني روى عن عائشة ما هو أصرح وأقطع في الحجة، فقد روى عنها بسند سكت عنه، كما سكت عنه الحافظ آبادي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس في القُبلة وضوءٌ» . قال ابن جرير الطبري في تفسيره (وأولى القولين في ذلك بالصواب قولُ من قال عَنَى الله بقوله أو لامستم النساء الجماع دون غيره من معاني اللمس لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قبَّل بعض نسائه ثم صلَّى ولم يتوضأ) ثم ساق الأحاديث: عن عائشة حديثين، وعن زينب السهمية حديثاً، وعن أم سلمة حديثاً وهو المذكور تحت بند 7، وعقب على ذلك فقال (ففي صحة الخبر فيما ذكرنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدلالة الواضحة على أن اللمس في هذا الموضع لمس الجماع لا جميع معاني اللمس) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 لهذا كله فإن لمس المرأة بيدها أو بفمها أو برجلها أو بأيِّ عضو منها لا ينقض الوضوء وإن الناقض هو الجماع لا غير. وبهذا الرأي نكون قد أعملنا الآيتين وجميع الأحاديث الصحيحة والصالحة للاستدلال، سواء منها ما جاء من فعله عليه الصلاة والسلام أو من قوله، أو من فعل صحابته بإقرارٍ منه وسكوت، ونكون قد ابتعدنا عن القول بالتعارض الذي يُلجئنا إلى التأويل أو ادِّعاء الخصوصية. ونحن وقد خطَّأنا الرأي القائل بأن اللمس ينقض نكون قد أظهرنا خطأ الرأي القائل إن اللمس بشهوة ينقض الوضوء، إذ ما دام التقبيل الذي يكون عادة بشهوة لا ينقض، وهو أعلى درجات اللمس بشهوة، فإن اللمس بشهوة لا شك أنه غير ناقض. وأما الرأي القائل إنَّ مَن جلس إلى زوجته وتباشر الفرجان وانتشر الذَّكَر انتقض وضوؤه وإن لم يُمْذِ، فهو رأي لا سند له سوى حديث معاذ، وقد بيَّنا ضعفه وعدم صلاحه للاستدلال والاحتجاج. وبذلك نفرغ من هذه المسألة، ونخلُص إلى الرأي القائل إن لمس المرأة لا ينقض الوضوء سواء كان بشهوة أو بدون شهوة. الفصل الثالث عشر التَّيمُّم تعريف التيمُّم ومشروعيته تعريف التيمُّم التيمُّم لغةً القصد والتَّوجُّه، يقال تيمَّمتُ فلاناً أي قصدته وتوجَّهت إليه، قال تعالى {ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيْثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} ولا تقصدوا. وقال امرؤ القيس: تيمَّمتُها مِن أَذْرُعاتٍ وأهلُها … بيثربَ أَدنى دارِها نَظَرٌ عالي قوله تيممتها: أي قصدتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وفي الشرع [التطهُّر بما نَعُم من أديم الأرض بكيفيةٍ مخصوصةٍ لعدم الماء أو لعذرٍ مانعٍ من استعماله] وهذا التعريف جامع مانع مختصر، وهو أصحُّ من تعاريف أتى بها عدد من الفقهاء من مثل: طهارة بالتراب يقوم مقام الطهارة بالماء عند العجز عن استعماله لعدمٍ أو مرض. ومثل: القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين بنيَّة استباحة الصلاة ونحوها. ومثل: إيصال التراب الطهور إلى الوجه واليدين بشرائطَ مخصوصةٍ. فهذه تعاريف غير دقيقة وغامضة. فالتعريف الأول لم يجمع الأسباب والأعذار المبيحة للتيمم. والتعريف الثاني لم يتطرق لهذه الأسباب والأعذار. والتعريف الثالث استعمل لفظة الشرائط وهي هنا غامضة لأنه أدخل تحتها الكيفية والأعذار وهما متغايران. إضافة إلى أن كلمة التراب في التعريف الأول والتعريف الثاني بحاجة إلى بيان، وكذلك القول في اليدين في التعريفين الثاني والثالث، وكان الأحق أن يقال (الكفين) بدل اليدين. مشروعية التيمُّم الكتاب الكريم والسنة الشريفة وإجماع الصحابة. والتيمُّم معلوم من الدين بالضرورة، بمعنى أن منكره كافر، والنصوص الشرعية الدالة على مشروعيته كثيرة نجتزيء منها ما يلي: 1- عن عائشة رضي الله عنها «أنها استعارت من أسماء قلادةً فهلكت، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناساً من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء، فلما أتَوا النبي - صلى الله عليه وسلم - شكَوْا ذلك إليه، فنزلت آية التيمُّم» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأبو داود وابن ماجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 2- آية التيمُّم وهي قوله تعالى {يا أيُّها الذين آمنوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلى المرافِقِ وامْسَحُوا برُؤُوسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ وإنْ كُنْتُمْ جُنُباً فاطَّهَّروا وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَو على سَفَرٍ أَو جَاء أَحَدٌ مِنْكُمْ مِن الغَائِطِ أو لامَسْتُم النِّسَاءَ فلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيْدَاً طَيِّباً فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيْكُمْ مِنْهُ ما يُرِيْدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عليكُمْ مِنْ حَرَجٍ ولكِنْ يُرِيْدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ولِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عليْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الآية 6 من سورة المائدة. 3- قوله تعالى في الآية 43 من سورة النساء { ... فلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيْدَاً طَيِّبَاً فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيْكُمْ إنَّ اللهَ كانَ عَفُوَّاً غَفُورَاً} . 4- عن أبي أُمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «جُعِلت الأرضُ كلها لي ولأُمتي مسجداً وطَهوراً، فأينما أدركتْ رجلاً من أمتي الصلاةُ فعنده مسجدُه وعنده طَهورُه ... » رواه أحمد بسند رواته ثقات إلا سيَّاراً الأموي وهو صدوق. ورواه البيهقي. 5- عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «أُعطيتُ خمساً لم يُعطَهُنَّ أحدٌ قبلي: نُصرتُ بالرعب مسيرةَ شهر، وجُعلت لي الأرضُ مسجداً وطَهوراً، فأيُّما رجلٍ من أمتي أدركته الصلاة فلْيصلِّ، وأُحلَّت لي المغانم ولم تحلَّ لأحد قبلي، وأُعطيتُ الشفاعة، وكان النبي يُبعَث إلى قومه خاصة وبُعثتُ إلى الناس عامَّة» رواه البخاري وأحمد ومسلم والنَّسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 6- عن عمران بن حصين قال «كنا في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ ونودي بالصلاة، فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجلٍ معتزل لم يُصلِّ مع القوم قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك ... » رواه البخاري وأحمد. ورواه النَّسائي وابن أبي شيبة مختصراً. وجه الاستدلال بهذه النصوص ظاهر، وأُلفت النظر إلى أن الحديث الأول جاء فيه أن الله سبحانه أنزل آية التيمم. وإنني أثبتُّ آية المائدة وليس آية النساء على أنها هي المقصودة، وأنها هي آية التيمم. وقد وقع بين المفسرين والفقهاء خلاف في هذه المسألة، فقال ناس إن آية النساء هي آية التيمُّم، وقال آخرون إن آية المائدة هي آية التيمُّم، وتردد آخرون بين الآيتين ولم يقطعوا برأي. والصحيح هو ما أثبته ابنُ حجر من أنها هي آيةُ المائدة، فهو بعد أن ساق حديث عائشة في البخاري عن التيمُّم قال (قال ابن العربي هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء، لأنَّا لا نعلم أيَّ الآيتين عنت عائشة. قال ابن بطال هي آية النساء أو أية المائدة، وقال القرطبي هي آية النساء، وكذلك قال الواحدي هي آية النساء، وقد خَفي على الجميع ما ظهر للبخاري من أن المراد بها آية المائدة بغير تردد، لرواية عمرو بن الحارث إذ صرح فيها بقوله: فنزلت يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة، أخرجها البخاري في التفسير) . وأزيد على قول ابن حجر ما رواه البخاري من طريق شقيق قال «كنت جالساً مع عبد الله وأبي موسى الأشعري فقال له أبو موسى: لو أن رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً أمَا كان يتيمَّم ويصلي؟ فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة: فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 طيباً ... » الحديث وهو طويل، رواه البخاري في باب التيمُّم تحت عنوان [التيمُّم ضربة] . فقد جاء في هذا الحديث أن الصحابة حين يذكرون التيمُّم يذكرون سورة المائدة، مما يدل على أنها دون سورة النساء هي سورة التيمُّم رغم أن النَّصَّين متشابهان. وقد أجمع الصحابة على مشروعية التيمم، وأجمع من بعدهم العلماءُ لم يخالف فيه أحد من الخلف ولا من السلف، إلا أنه حصل خلاف في: هل التيمُّم يكون لرفع الحَدَث الأكبر والحَدَث الأصغر، أم لرفع الحَدَث الأصغر فقط؟ فذهب جمهور الصحابة وسائر المسلمين إلى مشروعية التيمُّم للصلاة من غير فرق بين الجنب وغيره، ولم يخالف في ذلك إلا ما رُوي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما من عدم جوازه للجُنُب، ذكر ذلك عنهما ابن أبي شيبة. إلا أن ابن أبي شيبة روى عن الضحاك أنه قال «رجع عبد الله عن قوله في التيمُّم» . وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رجع عن قوله هو الآخر. وعلى أية حال فقد جاءت الأحاديث الصحيحة بجوازه فيتعين القول به وطرح ما سواه وقد مر الحديث السادس الصحيح الذي يفيد التيمُّم للجنب، وكذلك روى عمار بن ياسر قال «بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبتُ، فلم أجد الماء فتمرَّغتُ في الصعيد كما تَمَرَّغُ الدابة، ثم أتيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه» رواه مسلم. ورواه البخاري بألفاظ قريبة منه. أما أنه مشروع لرفع الحَدَث الأصغر فلم يختلف فيه مسلمان اثنان، ويكفي أن أشير إلى أن الحديث الأول الذي روته عائشة رضي الله عنها يفيد ذلك إضافةً إلى آية التيمُّم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 والتيمُّم اختصت به هذه الأمة دون سائر الأمم السابقة، يدل عليه الحديث الخامس الذي رواه جابر، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام في أول الحديث «أُعطيتُ خمساً لم يُعطَهُنَّ أحدٌ قبلي» ثم ذكر «وجُعلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً» صريح الدلالة على ذلك. أما سبب نزول آية التيمُّم ـ وهي الآية السادسة من سورة المائدة ـ فهو ما ذكرته عائشة رضي الله عنها قالت «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء ـ أو بذات الجيش ـ انقطع عِقْدٌ لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعٌ رأسَه على فخذي قد نام، فقال: حبستِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكانُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمُّم فتيمَّموا، فقال أُسيد بن الحُضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العِقد تحته» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. كيفية التيمُّم وردت كيفية التيمم في مجموعتين رئيسيتين هما: مجموعة الأحاديث المروية من طريق عمار بن ياسر، ومجموعة الأحاديث المروية من طريق عبد الله بن عمر. ووردت الكيفية من طريق أخرى غيرهما نذكرها كلها بإذن الله كما يلي: أ- مجموعة عمار بن ياسر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 1- قال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه «أما تذكر أنَّا كنا في سفر أنا وأنت، فأما أنت فلم تصلِّ وأما أنا فتمعَّكْتُ فصليتُ، فذكرتُ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّما كان يكفيك هكذا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفَّيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفَّيه» رواه البخاري ومسلم. 2- عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه «بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة، فأجنبتُ فلم أجد الماء، فتمرَّغتُ في الصعيد كما تَمَرَّغُ الدابة، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بكفَّيه ضربة على الأرض ثم نفضها، ثم مسح بهما ظهر كفِّه بشماله أو ظهر شماله بكفِّه، ثم مسح بهما وجهه ... » رواه البخاري. 3- وفي روايةٍ للبخاري «عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه أنه شهد عمر وقال له عمَّار: كنا في سرية فأجنبنا وقال: تفل فيهما» . 4- وفي روايةٍ للبخاري «عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن عبد الرحمن قال: قال عمَّار لعمر: تمعَّكْتُ فأتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يكفيك الوجه والكفان» . 5- وفي رواية للبخاري عن عمَّار قال «فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده الأرض فمسح وجهه وكفيه» . 6- عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال «بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبتُ، فلم أجد الماء فتمرَّغتُ في الصعيد كما تَمَرَّغُ الدابة، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرتُ ذلك له فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه ... » رواه مسلم والنَّسائي وأحمد. 7- وفي رواية للبخاري عن عمار «أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرناه فقال: إنما كان يكفيك هكذا، ومسح وجهه وكفَّيه واحدة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 8- عن عمار قال «سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التيمُّم فأمرني ضربة واحدة للوجه والكفَّين» رواه أبو داود وأحمد. ورواه الدارمي وقال (قال عبد الله صحَّ إسناده) . 9- عن عمار «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالتيمُّم للوجه والكفين» رواه الترمذي وقال (حسن صحيح) . ب- مجموعة عبد الله بن عمر: 1 - عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «التيمُّم ضربتان ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي. 2- عن نافع قال «انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس، فقضى ابن عمر حاجته، فكان من حديثه يومئذ أن قال: مرَّ رجلٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سِكَّة من السِّكك وقد خرج من غائط أو بول، فسلَّم عليه فلم يردَّ عليه، حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السِّكَّة ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، ثم ردَّ على الرجل السلام وقال: إنه لم يمنعني أن أردَّ عليك السلام إلا أني لم أكن على طُهر» رواه أبوداود. 3- عن ابن عمر قال «تيمَّمنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ضربنا بأيدينا على الصعيد الطيب، ثم نفضنا أيدينا فمسحنا بها وجوهنا، ثم ضربنا ضربة أخرى الصعيد الطيب ثم نفضنا أيدينا، فمسحنا بأيدينا من المرافق إلى الأكفِّ على منابت الشعر من ظاهر وباطن» رواه الدارقطني. ج - طريق ثالثة: عن أبي جُهَيم بن الحارث بن الصِّمَّة الأنصاري قال «أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جَمَل، فلقيه رجل فسلَّم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم ردَّ عليه السلام» رواه البخاري وأحمد وأبو داود ومسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 الأحاديث التسعة لعمَّار صالحة للاحتجاج وكذلك حديث أبي جُهَيم بند (ج) . أما الحديث الأول في مجموعة ابن عمر ففي إسناده علي بن ظبيان قال الحافظ ابن حجر (هو ضعيف ضعَّفه القطان وابن معين وغير واحد) وقال عنه أبو داود (ليس بشيء) وقال النَّسائي وأبو حاتم: متروك. وقال ابن حِبَّان (يسقط الاحتجاج بأخباره) . ورواه الدارقطني أيضاً من طريق شَبَّابة، قال أبو حاتم: صدوق يُكتب حديثه ولا يحتجُّ به. وكان أحمد لا يرضاه ويرميه بالإرجاء. وأما الحديث الثاني ففيه محمد بن ثابت وهو ضعيف ضعَّفه ابن معين وأبو حاتم والبخاري وأحمد، وقال أبو داود بعد أن روى هذا الحديث (سمعت أحمد بن حنبل يقول: روى محمد بن ثابت حديثاً منكراً في التيمُّم) . أما الحديث الثالث ففيه سليمان بن أرقم وهو متروك الحديث، قاله أبو داود. وقال أحمد بن حنبل وابن معين: ليس بشيء. وقال البخاري (تركوه) . من ذلك يظهر أن جميع أحاديث ابن عمر ضعيفة لا تنتهض للاحتجاج، فتُطرح ولا يُعمل بها. قال ابن حجر (إن الأحاديث الواردة في صفة التيمُّم لم يصح منها سوى حديث أبي جُهَيم وعمار، وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه والراجح عدم رفعه) . فلم يبق عندنا سوى عشرة أحاديث هي أحاديث عمار التسعة الأولى، وحديث أبي جُهَيم. فلْنستعرض هذه الأحاديث: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 الحديث الأول فيه «ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفَّيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه» والحديث الثاني فيه «ضرب بكفَّيه ضربة على الأرض ثم نفضهما ثم مسح بهما ظهر كفِّه بشماله أو ظهر شماله بكفِّه ثم مسح بهما وجهه» والحديث الثالث فيه «وقال تفل فيهما» والحديث الرابع فيه «يكفيك الوجه والكفان» والحديث الخامس فيه «ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده الأرض فمسح وجهه وكفيه» والحديث السادس فيه «ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه» والحديث السابع فيه «ومسح وجهه وكفيه واحدة» والحديث الثامن فيه «ضربة واحدة للوجه والكفين» والحديث التاسع فيه «أمره بالتيمم للوجه والكفين» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 أما حديث أبي جُهَيم «فمسح بوجهه ويديه» فقد وردت فيه لفظة (اليدين) ، بينما وردت في سائر الأحاديث لفظة (الكفين) . فأقول: أما لفظة (اليدين) فهي مجملة، وجاءت لفظة (الكفَّين) فبيَّنت المقصود من اليدين وأنهما ما بين أطراف الأصابع إلى الرُّسغين، والمبين يُعمل به ويُحْمَل المجمل عليه، وبذلك يظهر أنه لا تعارض بين هذه النصوص، ونحن نعلم أن النصوص يفسِّر بعضها بعضاً، فالنصوص التي ذكرت الكفَّين تفسِّر النصوص التي ذكرت اليدين، فيكون المقصود من اليدين الكفَّين فحسب. ويشبه هذا أن آية السرقة {والسَّارقُ والسَّارِقَةُ فاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فسرتها الأحاديث النبوية بأن اليدين اللتين تقطعان في السرقة هما الكفان، أي اليدان إلى الرسغين فحسب، في حين أنه حينما أُريد غسل ما هو أكثر من الكفين في الوضوء لم يأت ذكر اليدين إلا مقيَّدتين بـ {إلى المَرَافِقِ} وإذن فإن الواجب في التيمُّم هو مسح الكفين فقط، أي مسح اليدين إلى الرسغين، وأنه لا يجب مسح ما هو أكثر من ذلك مطلقاً. فهذا هو ما ترشد إله الأحاديث الصحيحة الصالحة للاحتجاج. وممن ذهب إلى هذا الرأي، أي الاقتصار على مسح الكفين، عطاء ومكحول والأوزاعي والطبري ومالك وإسحق وأحمد وابن المنذر والشافعي في القديم. وذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي والحسن والشافعي في الجديد، وعلي وابن عمر وابنه سالم فيما رُوي عنهم إلى وجوب مسح اليدين إلى المرفقين، واستدلوا بالأحاديث التالية: 1- عن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين» رواه الدراقطني والحاكم. 2- عن الأسلع قال «أراني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أمسح فمسحت، قال فضرب بكفَّيه الأرض ثم رفعهما لوجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه باطنهما وظاهرهما حتى مسَّ بيديه المرفقين» رواه الدارقطني والبيهقي والطبراني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 3- عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «في التيمُّم ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين» رواه البزَّار وابن عديٍّ. 4- عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين» رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي، وقد مر قبل قليل. 5- عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « ... ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ... » رواه أبو داود. وقد مرَّ أيضاً قبل قليل. فنرد عليهم بأن هذه الأحاديث جميعها ضعيفة لا ترقى إلى الصلاح في الاحتجاج، أما الحديثان الرابع والخامس فقد بيَّنَّا ضعفهما عند ذكرهما قبل قليل، وأما الحديث الأول فقال عنه ابن دقيق العيد: رواية عثمان بن محمد هذه شاذة. وقال الدارقطني (والصواب موقوف) أي هو قول صحابي فلا يصلح دليلاً. وأما الحديث الثاني ففيه الربيع بن بدر ضعَّفه الحافظ ابن حجر. وأما الحديث الثالث فقال عنه أبو حاتم: حديث منكر والحريش شيخ لا يُحتج بحديثه. وضعفه أيضاً أبو زُرعة والبخاري. وبذلك يسقط رأيهم بوجوب مسح اليدين إلى المرفقين. وانفرد الزهري بالقول بوجوب المسح إلى الإبطين مستدلاً بأحاديث تأمر بذلك، وقد عقب ابن حجر على هذا الرأي بقوله (وأما رواية الآباط فقال الشافعي وغيره إنْ كان ذلك وقع بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلُّ تيمُّم صح للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعده فهو ناسخ له، وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به. ومما يقوِّي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كون عمار يفتي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد من غيره ولا سيما الصحابي المجتهد) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 ومقتضى كلام الشافعي أن المسح يقتصر على الكفَّين لأن أحاديث الكفَّين قد صحَّت وتأخر القول بها، حتى إن الشوكاني قد ذكر صراحة أن الشافعي قد قال بأن حديث إلى الآباط منسوخ. وعقَّب النووي من الشافعية على هذه المسألة أيضاً فقال (إنه ـ أي مسح الكفَّين ـ أقوى في الدليل وأقرب إلى ظاهر السنة الصحيحة) . وأضعف من هذا الاستدلال القول إن المسح إلى المرفقين إنما يكون بالقياس على الوضوء لأنه بدل منه، فهذا القياس باطل، لأن القياس في العبادات لا يصح أولاً، ولأننا لو أردنا القياس كما يقولون لوجب القول بمسح الرجلين في التيمُّم ما دامت البدلية هي العلة، وكم يريحنا الفقهاء الذي لا يقيسون في العبادات ويقفون عند دلالات النصوص. والصحيح الذي لا مندوحة عنه أن الأحاديث الصحيحة ذكرت الكفَّين ولم تذكر اليدين إلى المرفقين ولا اليدين إلى الإبطين فيوقف عندها، لا سيما وقد جاء حديث منها يقول «يكفيك الوجه والكفان» فالكفاية ضد إيجاب مسح الذراعين قطعاً، إلا أن يدَّعوا أن هذه الأحاديث منسوخة، أو أن أحاديثهم أصح منها، وهم لم يقولوا بهذا ولا بذاك. 2- المجزيء في التيمم ضربة واحدة: ذهب عطاء ومكحول والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحق وابن المنذر وجمهور العلماء إلى أن المُجْزِيء في التيمُّم ضربة واحدة للوجه والكفين. وذهب سعيد بن المسيِّب وابن سيرين إلى وجوب الإتيان بثلاث ضربات، ضربة للوجه، وضربة للكفين، وضربة للذراعين. وذهب الأحناف والشافعيون إلى وجوب ضربتين اثنتين، واحدة للوجه، وأخرى للكفين أو لليدين إلى المرفقين. والصحيح هو ما ذهب إليه مَن يقولون بالاقتصار على ضربة واحدة، لأن الأحاديث الصحيحة والصالحة للاستدلال لا تذكر سوى ضربة واحدة، ولم يصحَّ أيُّ حديث في الضربتين أو في الثلاث، ولذا فإنه لا يجب سوى ضربة واحدة، لأنها هي المذكورة والمطلوبة في الأحاديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 3- النفخ في الكفين قبل البدء بالمسح: الحديث الأول فيه «نفخ فيهما ثم مسح» والحديث الثاني فيه «ثم نفضهما ثم مسح» والحديث الثالث فيه «تفل فيهما» . في هذه الروايات جاء النفخ والنفض والتفل، وهي ذوات معان متقاربة، والغاية منها هي التخفيف من كمية التراب والغبار العالق باليدين قبل المسح. والنفخ وما في معناه وإن لم يَرِد في عدد من النصوص الصحيحة إلا أن هذه النصوص سكتت فلم تنْفِ، والفرق واضح بين المعنيين. فسكوت بعض النصوص عن النفخ لا يعني النهي عنه أو حتى عدم فعله. والحاصل أنَّ نصوصاً سكتت عن النفخ، وأنَّ نصوصاً أُخرى ذكرت النفخ، وفي هذه الحالة نقول إن النصوص الذاكرة فيها زيادةٌ يُصار إليها ويُعمَل بها، وهذه النصوص لا تتعارض مع النصوص الساكتة، وبالتالي فإنَّا نقول إن النصوص جاءت بالنفخ دون وجود معارضة، وبذلك فإنَّه من السُّنَّة للمسلم أن ينفخ أو ينفض أو يتفل أو ما شابه ذلك، ثم يمسح. 4- هل يجب الترتيب في التيمُّم؟ لِننظر في النصوص: الآيتان من سورتي المائدة والنساء جاءتا بتقديم الوجه على اليدين {فامْسَحُوا بوُجُوْهِكُمْ وأَيْدِيْكُمْ مِنْهُ} {فامْسَحُوا بوُجُوْهِكُمْ وأَيْدِيْكُمْ} والروايات العديدة المروية عن عمار جاءت كالتالي «مسح بهما وجهه وكفيه» ، «مسح بهما ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بهما وجهه» ، «يكفيك الوجه والكفان» ، «مسح وجهه وكفيه» ، «مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه» ، «مسح وجهه وكفيه واحدة» ، «ضربة واحدة للوجه والكفين» ، «التيمم للوجه والكفين» . ورواية أبي جُهَيم هي «مسح بوجهه ويديه» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 فعمار بن ياسر رويت عنه ست روايات فيها تقديم الوجه على الكفين، وروايتان اثنتان فقط فيهما تقديم الكفين على الوجه، ورواية أبي جُهَيم عند البخاري ورد فيها تقديم الوجه على اليدين. والملفت للنظر أن الروايتين الوحيدتين اللتين ذكرتا تقديم الكفين على الوجه هما اللتان جاءتا بكيفية مسح الكفين، ونحن لا نتصور أن يكون عمَّار نفسه راوي هذه الروايات العديدة يخالف نفسه ويناقض نفسه، أي لا يُتصوَّر أن يروي عمار هذه الروايات المتعارضة لاسيما وأنه يروي حادثة واحدة، فلا يخرج التفسير عن احتمالين لا غير: إما أنَّ الخطأ والتعارض قد حصل من قِبَلِ الرواة ولم يحصل من عمار، وإمَّا أنَّ عمَّاراً أراد بالروايتين الاثنتين المغايرتين لسائر الروايات أن يركِّز على شرح كيفية مسح الكفين، فقدَّمهما للأهمية ولعدم الخشية من اللبس، وذلك لأن الوجه جاء بنصوص القرآن والأحاديث مقَدَّماً على الكفَّين، أي أنَّه حين كان يريد ذِكْر الكيفية لمسح الكفين يبدأ بهما للأهمية، وحين كان لا يريد ذِكر الكيفية يأتي على ذِكر الوجه أولاً، ثم على ذِكر الكفَّين كالمعتاد في التيمُّم، ولا أتصور احتمالاً ثالثاً. ولا يقال إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مسح الكفين أولاً مرة أو مرتين، ومسح الوجه أولاً مرات أخرى، وأنَّ ذلك منه يدلُّ على التخيير، لا يقال ذلك، لأن الحادثة واحدة والراوي واحد، فلا بد من الترجيح أو التأويل، فبالترجيح نرجِّح روايات تقديم الوجه على الكفين لأنها الأكثر، وبالتأويل نقول ما قلناه من قبل من أن عمَّاراً قدم الكفَّين حين أراد ذِكر كيفية مسحهما للأهمية، ونحن نرجح الاحتمال الثاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 ومما يزيدنا اطمئناناً أن الآيتين الكريمتين بدأتا بالوجه، فنقرر مطمئنين أن التيمُّم ينبغي أن يكون بمسح الوجه أولاً ثم مسح الكفين. فالروايات السَّبع والآيتان الكريمتان تبدأ كلها بذكر الوجه، ولا يعارضها سوى روايتين اثنتين فقط جاء فيهما ذِكرُ كيفية مسح الكفَّين، فيُعملُ بالنصوص التسعة ويُترك العمل بنصين. وهذا القول هو مع افتراض وجود التعارض، أما مع تأويل الروايتين بما سبق فلا تعارض، ويُعمل بمجمل النصوص من تقديم الوجه على الكفين. وعليه فإن الواجب في التيمُّم البدءُ بالوجه ثم بالكفين «ابدأوا بما بدأ الله به» وبهذا الرأي تمسك الشافعي وأحمد. أما أبو حنيفة ومالك فقد اعتبرا البدء بالوجه سُنَّة، ولا وجه لهذا الرأي، لأنهما إما أن يقولا بالوجوب مستدلين بما استدللنا به، وإما أن يقولا بالإباحة استدلالاً بالروايات الصحيحة المتعارضة. 5- كيفية مسح الكفين: وردت الكيفية كما يلي: «ضرب بكفيه ضربة على الأرض ثم نفضهما، ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه» ، «مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه» . الرواية الأولى جاءت بمسح ظهر الكف بالشمال، أو مسح ظهر الشمال بالكف. والحقيقة أن هذه العبارة غامضة، اللهمَّ إلا أن تُفسَّر (أو) بـ (و) . لأن المسح لا بد من أن يكون للكفَّين وليس لكفٍّ واحدة، فيكون الحديث قد أفاد مسح ظاهر الكفَّين بدءاً بالكف اليمنى ثم اليسرى فقوله «ظهر كفه بشماله» يفيد ظهر الكف اليمنى، وقوله «ظهر شماله بكفه» يفيد مسح ظهر الكف اليسرى. أما الرواية الثانية فاقتصرت على القول «ظاهر كفيه» أما ما سبق ذلك من القول «مسح الشمال على اليمين» فيُحمل على أنه لتخفيف الغُبار العالق بباطن اليدين قبل البدء بالمسح، مثله مثل النفخ والتَّفْل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وقد أفادت هاتان الروايتان أن كيفية مسح الكفين هي أن يمرِّر باطن كفه اليسرى على ظهر كفه اليمنى، ويمرِّر باطن كفه اليمنى على ظهر كفه اليسرى، أي يبدأ باليمين ويثنِّي بالشمال، وقد روى أبو داود عن شقيق عن عمار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا: فضرب بيده على الأرض فنفضهما، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه» والروايتان بل وجميع الروايات التي تذكر مسح الكفين لم تأت على ذكرٍ آخرَ في الكيفية، بمعنى أنه لم يأت ذكر البدء حين المسح بالأصابع أو بالرسغ، ولذا فالمسلم بالخيار بين أن يبدأ بأطراف الأصابع ثم ينتهي بالرسغ، أو يبدأ بالرسغ وينتهي بأطراف الأصابع. 6- المشروع في المسح أن يكون مرة واحدة لكلا الكفَّين وللوجه، ولا يصح التكرار والعدد، فجميع الأحاديث لم تذكر عدداً للمسح، ولو كان العدد مطلوباً لذكر، والحديث السابع صريح في ذلك «ومسح وجهه وكفيه واحدة» فيُقتَصرُ على واحدة ولا يزاد عليها. ثم إن الأصل في المسح أن يكون مرة واحدة، فهذا حال المسح على الخفين ومسح الرأس والمسح على الجبيرة، فالمسح تخفيف فلا يتكرر بحال، ومن قال بتكرار المسح فعليه الإتيان بدليل ولا دليل. 7- مسح الوجه: لم يرد في النصوص ذكرٌ لكيفيةٍ مخصوصةٍ لمسح الوجه، ولم يرد سوى مسح الوجه على إطلاقه، ولذا فإن الواجب مسحُ جميع الوجه ولا يُجْزِيء مسحُ بعضه وتركُ بعضه الآخر، وهذا القول مماثل لما قلناه في الوضوء عن غسل الوجه ومسح الرأس، ويُعفى عن مسح داخل الأنف وداخل الفم وداخل العينين وما تحت شعر اللحية والعارضَيْن، ويُكتفى بمسح ما يظهر من الوجه من جلد وشعر دون ما يخفى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 8- المادة المستعملة في التيمُّم: بعد أن استنبطنا الأحكام السابقة من النصوص السابقة بقي أن نبحث مسألة أساسية في التيمُّم لها علاقة بالكيفية، هي المادة التي يُمسح بها، هل هي التراب بمعناه المتعارف عليه عند جمهرة الفقهاء، أم هي مطلق وجه الأرض بما فيه من صخور وتراب وحجارة ورمال؟ هذه المسألة اختلفت فيها المذاهب وجمهور العلماء على الشكل التالي: ذهب الأحناف إلى أن الصعيد الطَّهور الذي طُلب التيمُّم به هو كل ما كان من جنس الأرض من تراب ورمل وحصى وحجر ولو أملس، ولم يجيزوا التيمُّم بالثلج والأشجار والزجاج والمعادن المنقولة واللؤلؤ وإن كان مسحوقاً، والدقيق والرماد والكُحل والكبريت، والتراب إذا خالطه شيء من جنس الأرض وغلب عليه، فإن لم يغلب عليه أو تساويا صح التيمُّم به. وذهب المالكيون إلى أن الصعيد ما صعد أي ظهر من أجزاء الأرض فيشمل التراب وهو الأفضل، والرمل والحجر والثلج والطين والجص وهو عندهم الحجر إذا احترق وصار جيراً، والمعادن إلا الذهب والفضة، والجواهر والمنقول من المعادن كالشَّبِّ والملح والطوب غير المحترق فإن احترق لم يجُز التيمُّم به، ولم يجيزوا التيمُّم بما ليس من أجزاء الأرض كالخشب والحشيش. وإذن فالأحناف والمالكيون اشتركوا في أصل المسألة دون التفاصيل، فقد اشتركوا في أن التيمُّم يجوز بما يعلو سطح الأرض من تراب ورمل وحجارة وغيرها، وبهذا الرأي قال عطاء والأوزاعي والثوري. وذهب الشافعيون إلى أن الصعيد الطَّهور هو التراب الذي له غبار إلا ناساً منهم أجازوا استعمال الرمل، فإن لم يكن له غبار فلا يصح التيمُّم به، والتراب المحترق إلا إذا صار رماداً، وإن اختلط التراب أو الرمل بشيء آخر كدقيق وإن قلَّ لم يجز التيمُّم به، واشترطوا أن لا يكون التراب مستعمَلاً، وعنوا بذلك ما يبقى على العضو الممسوح أو يتناثر منه عند المسح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 وذهب الحنابلة إلى أن الصعيد هو التراب الذي له غبار أيضاً، وأن يكون التراب مباحاً فلا يصح بمغصوب، وأن لا يكون محترقاً، فلا يصح بما دق من خزف ونحوه لأن الطبخ أخرجه عن أن يقع عليه اسم التراب، واشترطوا أن يَعْلَقَ غبارُه لأن ما لا غبار له لا يُمسح بشيء منه، وإن خالطه ذو غبار كالجِصِّ والنُّورة كان حكمه حكم الماء الطَّهور الذي خالطه طاهر، فإن كانت الغلبة للتراب جاز التيمُّم به، وإن كان للمخالط الغَلَبَةُ نُظِر، فإن كان المخالط لا غبار له يمنع التيمُّم بالتراب وذلك كبُرٍّ وشعيرٍ وإن كثُر جاز التيمُّم به، ولا يصح التيمُّم بطينٍ لم يمكن تجفيفه، والتيمُّم به جائز إن كان قبل خروج الوقت لا بعده. وإذن فالشافعية والحنابلة اشتركوا في أن التيمُّم لا يكون إلا بالتراب الذي له غبار ولا يصح بغيره، وبهذا الحكم أخذ داود. والآن لنستعرض النصوص ودلالات الألفاظ لغةً وشرعاً لاستنباط الرأي الراجح بإذن الله سبحانه: 1- عن أبي أُمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «جُعلت الأرض كلها لي ولأُمتي مسجداً وطَهوراً، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاةُ فعنده مسجده وعنده طَهوره ... » رواه أحمد بسند جيد. ورواه البيهقي، وقد مرَّ في بحث [تعريف التيمُّم ومشروعيته] . 2- قوله تعالى {فلم تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طيباً} من الآية 34 من سورة النساء. 3- عن عمران بن حصين قال «كنا في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ... فصلَّى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجلٍ معتزلٍ لم يُصلِّ مع القوم، قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك ... » رواه البخاري وأحمد. ورواه النَّسائي وابن أبي شيبة مختصراً، وقد مرَّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 4- عن عمرو بن العاص قال «احتلمتُ في ليلة باردة في غزوة ذات السَّلاسل، فأشفقتُ إنْ اغتسلت أن أهلك فتيمَّمتُ، ثم صليتُ بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا عمرو صليتَ بأصحابك وأنت جُنُب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت إني سمعت الله يقول: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقُلْ شيئاً» رواه أبو داود والدارقطني وابن حِبَّان والحاكم. 5- عن عليٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أُعطيتُ ما لم يُعطَ أحدٌ من الأنبياء فقلنا يا رسول الله ما هو؟ قال: نصرتُ بالرعب، وأُعطيتُ مفاتيحَ الأرض، وسُمِّيتُ أحمد، وجُعل التراب لي طَهوراً، وجُعلت أمتي خير الأمم» رواه أحمد والبيهقي بسند حسَّنه الهيثمي. 6- عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «فُضِّلنا على الناس بثلاث: جُعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجُعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجُعلت تربتها لنا طَهوراً إذا لم نجد الماء، وذكر خَصْلة أخرى» رواه مسلم وأحمد والبيهقي. 7- حديث أبي جُهَيم وقد سبق وجاء فيه «أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ... حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم ردَّ عليه السلام» رواه البخاري ومسلم. وفي لفظٍ للدارقطني من طريق ابن إسحق عن الأعرج «حتى وضع يده على الجدار» وفي لفظٍ للشافعي من طريق ابن الصِّمَّة « ... قام إلى جدار فحتَّه بعصا كانت معه ثم وضع يده على الجدار ... » . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 الحديث الأول فيه «جُعلت الأرض كلها لي ولأُمتي مسجداً وطَهوراً» والآية الكريمة فيها {فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً طَيِّباً} والحديث رقم 3 فيه «عليك بالصعيد فإنه يكفيك» ، والحديث رقم 4 فيه «فتيمَّمتُ ثم صليتُ» ، والحديث رقم 5 فيه «جُعِل التراب لي طَهوراً» ، والحديث رقم 6 فيه «جُعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجُعلت تربتها لنا طَهوراً» ، والحديث رقم 7 فيه «أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه» . لقد تردَّدت في هذه النصوص الألفاظ التالية: (الأرض كلها، والصعيد، والتراب، والجدار) كموادَّ يُتيمَّمُّ بها، وأغفلت المواد كلها في الحديث رقم 4. وقد اختلف المسلمون في الاستدلال بهذه النصوص واختلفوا في تفسير الصعيد، كما اختلفوا في التراب هل هو مخصِّص أم مقيِّد للصعيد، أم هو قد خرج مخرج الأغلب وأنه مجرد فردٍ من أفراد العام وهو الصعيد؟ وهل التراب يشمل الرمل أم لا يشمله؟ ونتج عن هذه الخلافات الآراء الأربعة للأئمة الأربعة التي ذكرناها من قبل، وشاركهم فيها غيرهم. وحتى نتوصل إلى الرأي الراجح لا بد من معرفة مدلول كلمة الصعيد وآراء أهل اللغة ثم ننظر في النصوص على ضوء ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 قال الزَّجَّاج والخليل وابن الأعرابي وصاحب المصباح: الصعيد: هو وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن. وزاد الزَّجَّاج: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة. وبهذا المعنى فسَّر الصعيد كلٌّ من أبي حنيفة ومالك والثوري. وقال قتادة والطبري: هو وجهُ الأرضِ الخاليةِ من النبات والغروس والبناء. وقال ابن زيد: الصعيد المستوي. والراجح هو رأي الزَّجَّاج وجماعته، وبمقتضى فقه اللغة فالصعيد هو ما تصاعد من الأرض، وقد سُمِّي بهذا الاسم لأنه نهاية ما يُصعد إليه من الأرض، وجمع الصعيد صُعُدات، وتطلق الصُّعُدات على الطرق والسبُل، ومنه الحديث «إياكم والجلوس على الصُّعُدات ... » رواه أحمد من طريق أبي سعيد. وإذن فإن الصعيد هو وجه الأرض أو هو سطحها أو ما يظهر منها، سواء كان صخراً أو حجارة أو تراباً أو جصاً أو أية مادة من مواد الأرض المعروفة. قلنا من قبل إن الآية والأحاديث أتت بالألفاظ (الأرض كلها، والصعيد، والتراب، والجدار) وهذا يعني أن النصوص طلبت التيمُّم بالأرض ظاهرها وباطنها، وطلبت التيمُّم بالصعيد وهو ظاهرها فقط، وطلبت التيمٌّم بالتراب، وهو ما نعُم من أديم الأرض ـ قاله القاموس الوسيط ـ. وجعلت الجدار مما يُتيمَّم به. فالذين أجازوا التيمُّم بالصخور والمعادن والحجارة والأتربة والرمال إنما أَعملوا لفظة الأرض ولفظة الصعيد، وأما الذين قصروا التيمُّم على التراب فقد قالوا بالتخصيص، أي بتخصيص العام وهو الأرض أو الصعيد بالخاص وهو التراب. والسؤال هو: أي الرأيين هو الصحيح؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 إن النصوص حين ذكرت التراب لم تخصِّص به العام وهو الصعيد، وإن النصوص حين ذكرت الصعيد لم تكن تريد تخصيص العام وهو الأرض، كما أن النصوص حين ذكرت الجدار لم تكن تريد تخصيص الأرض أو الصعيد أو التراب به، وكل ما حصل هو أن النصوص ذكرت ألفاظاً عامة، وذكرت أفراداً من هذا العام لا غير، وإنَّ ذكرَ فردٍ من أفراد العام لا يعني تخصيص هذا العام بهذا الفرد، وإنَّ ذكر التراب لا يخرج عن كونه إنما خرج على الأغلب لأنه الجزء الغالب المستعمل من الأرض، وما ذُكِرَ الجدارُ ليكون مخصِّصاً، وإنما هو فرد من أفراد العام، أو قُل هو حالة حصل فيها التيمُّم لا غير. فالقول إن التراب مخصِّص أو مقيِّد هو قولٌ غير صحيح، بل الصحيح هو أن التراب فرد من أفراد العام لا غير، فلا تخصيص ولا تقييد، ويظل العام على عمومه، وتظل الآية التي طلبت الصعيد على عمومها، وتظل الأحاديث التي طلبت الصعيد أو الأرض على عمومها هي الأخرى لم يقع فيها تخصيص ولا تقييد. فالنصوص قد أجازت التيمُّم بالأرض، وبسطحها، وبترابها، وبالجدران، فيُعمل بها كلها. نعم لو جاءت نصوص تقْصُرُ التيمُّمَ على التراب لقلنا بالتخصيص، ولو جاءت نصوص تنهى عما سوى التراب لقلنا بالتخصيص، أمَّا وأن شيئاً من ذلك لم يحصل فلا يصح القول بالتخصيص، فالشافعي وأحمد ومن ذهب مذهبهما أخطأوا حين لم يفرِّقوا هنا بين التخصيص وبين التنصيص على فرد من أفراد العام، رغم أن الفرق بينهما واضح. فقولهم إنه لا يجوز التيمُّم إلا بالتراب اعتماداً على القول بالتخصيص خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 والزمخشري في كتاب التفسير المسمَّى الكشاف اجتهد في هذه المسألة ونحا منحى آخر غير منحى الشافعي وأحمد، ومع ذلك وصل إلى ما وصل إليه الإمامان، فقد ذكر في تفسير آية التيمم {فَتَيَمَّمُوا صَعِيْدَاً طَيِّباً فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأِيْدِيْكُمْ مِنْهُ} أن كلمة (من) للتبعيض وأنه لا يفهم أحد من العرب قول القائل مسحت برأسه من الدهن ومن التراب إلا معنى التبعيض. فقد فهم من الآية أنها تفيد التيمُّم بالتراب فحسب، وأنه هو البعض المقصود، وهو رأي الإمامين نفسه وإن خالفهما في كيفية الاستنباط. والصحيح هو أن الزمخشري جانبه التوفيق في الاستنباط كما جانب الإمامين وإن اختلفوا في وجه الاستدلال. أجل إنَّ (مِن) هنا للتبعيض ولكن أيَّ بعضٍ هو الواجب في التيمُّم؟ هل هو بعضٌ مما ضربت اليد عليه أم هو بعضٌ من أصناف الصعيد؟ بمعنى هل المقصود ذلك الشيء العالق باليد وهو بعضٌ مما ضربت اليد عليه أم هو صنفٌ من أصناف الصعيد كالرمل والتراب والصخور؟ فإن قال هو بالاحتمال الثاني قلنا نحن بالاحتمال الأول، فكما أن الاحتمال الثاني ممكن فكذلك الاحتمال الأول ممكن هو الآخر، أرأيت لو قالت الآية: تيمَّموا تراباً طيباً، أما كان يجوز لغة أن يقال بعد ذلك فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه؟ بالقطع يجوز، بل هو المعنى الراجح من التبعيض هنا، فالاحتمال الأول أرجح وهو أدنى من الثاني إلى قواعد العربية. ولكنَّ كلَّ ذلك وأنَّ وجوه الاستدلال غير صحيحة وغير منطبقة شيءٌ، والقول بأن التراب هو المُجْزيء في التيمُّم شيء آخر. فلئن لم أُوافق الشافعي وأحمد والزمخشري في وجه الاستدلال إلا أن ذلك لا يمنع من الذهاب إلى الرأي نفسه الذي يذهبون إليه، وهو أن التراب وبشكل أدق ما نعُم من أديم الأرض هو المُجْزيء في التيمُّم. أما كيف؟ فهاكم الجواب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 إن الله سبحانه بين لنا في آية التيمُّم أنْ نضرب أيدينا على الأرض أو على الصعيد لتحمل أيدينا منه شيئاً نمسح به وجوهنا وأيدينا، ونوَّه بهذا الشيء بتعبيرين اثنين وإن كان واحد يكفي، وذلك اهتماماً منه سبحانه ولفت نظر. فقال {فامْسَحُوا بوُجُوْهِكُمْ} ولم يقل فامسحوا وجوهَكم، فأدخل حرف الباء على وجوهِكم ليدلِّل ـ وهو أعلم ـ على شيء يُمسح به، ولم يكتف بذلك بل أضاف {مِنْهُ} لينوِّه بالشيء الذي يعلق بالأيدي، فالمسح للوجه والكفَّين إنما هو بما يعلق باليد من مادة الصعيد. هذا هو مدلول الآية، وهذا هو مفتاح الرأي، فالصعيد أيُّ صعيد، والأرضُ أيةُ أرض، وظاهرها وباطنها، إذا ضربنا اليد عليه فحملت شيئاً منه جاز التيمُّم، وإن لم تحمل فلا مسحَ ولا تيمُّم. هذا هو المقياس الدقيق لتحديد الجزء الصالح من الصعيد ومن الأرض في التيمُّم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وبالتطبيق نقول إن اليد إذا ضربت على التراب الطيني حملت منه، وإذا ضربت على الرمل حملت منه، وإذا ضربت على الجِصِّ حملت منه، فجاز التيمُّم بالرمل كما جاز بالتراب وبالجِص، في حين أننا إن ضربنا اليد على الصخر لم تحمل منه، وإن ضربنا اليد على الحجارة أو على الحصى لم تحمل منه فامتنع التيمُّم به، وهذا ينسحب على حديث أبي جُهَيم الذي ذكر الجدار، فلا بد من أن يكون الجدار من تراب الأرض حتى إذا ضربت اليد عليه حملت منه شيئاً، ومما يقوي هذا الفهم ويؤكده أن الإمام الشافعي روى الحديث بزيادة «فحتَّه بعصا كانت معه» فهذه الزيادة تزيل الإشكال تماماً، وتجعل الحديث يتَّسق مع هذه القاعدة. فالجدار حتى يجوز التيمُّم به لا بد من أن تحمل اليد منه شيئاً، ولا يتأتى ذلك إلا بحتِّه أو أن يكون قديماً ليصلح للتيمُّم. وعلى ذلك تفهم أحاديث الأرض كلها، وأحاديث الصعيد، وأحاديث التراب، وبذلك نفهم أن التراب الوارد في الأحاديث إنما هو بيانٌ للصعيد الصالح في التيمُّم، ولكنْ ليس حصراً وقصراً، وإنما هو من باب الأعمِّ الأغلب ومن باب المثال لا غير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 هذا هو الرأي، وهذا هو وجه الاستدلال، وهذا هو ما ينسحب على الحديث الرابع «فتيمَّمتُ وصلَّيتُ» دون ذكر الصعيد أو التراب، إذ لو كان التراب هو المطلوب دون الرمل لسأله الرسول عليه الصلاة والسلام عن المادة التي تيمَّم بها، فلما لم يفعل دل ذلك على أنه لا فرق بين التراب والرمل وشبههما. وكذلك يُفهم حديث عمار بن ياسر في صحيح مسلم: قال «بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبتُ فلم أجد الماء، فتمرَّغتُ في الصعيد كما تَمَرَّغُ الدابة، ثم أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهِرَ كفَّيه ووجهَه ... » فلم يسأله الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن نوع الصعيد الذي تمرَّغَ عليه، مما يدل على عدم الفرق بين صعيد وصعيد ما دامت اليد تحمل منه شيئاً. فهذا هو معنى التَّمرُّغ، لأن الصخر لا يصلح للتَّمرُّغ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 ونلفت النظر إلى أن الجزيرة العربية وهي مهد الإسلام وموطن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضوان الله عليهم هي في مجملها أرض رملية، ونزل القرآن الكريم وجاءت السنة النبوية في هذه الجزيرة العربية الرملية، فلم يُنْقَل أنَّ صحابياً واحداً سأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن حكم التيمُّم بالرمل، ولم يُنقل في ذلك إلا حديثٌ واحد رواه أحمد وسعيد بن منصور وعبد الرزاق عن أبي هريرة قال «جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني أكون في الرمل أربعة أشهر أو خمسة أشهر فيكون فينا النفساء والحائض والجُنُب فما ترى؟ قال: عليك بالتراب» . ولكنَّ هذا الحديث ضعيف لضعف المثنَّى بن الصباح، قاله ابن معين، وقال الهيثمي (الأكثر على تضعيفه) وقال ابن قيِّم الجوزية (كان ـ أي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ـ يتيمَّم بالأرض التي يصلي عليها، تراباً كانت أو سبخة أو رملاً، وصح عنه أنه قال: حيثما أدركتْ رجلاً من أمتي الصلاةُ فعنده مسجدُه وطَهورُه، وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل فالرمل له طَهور، ولما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك قطعوا تلك الرمال في طريقهم وماؤهم في غاية القلة، ولم يُرو عنه أنه حمل معه التراب ولا أمر به ولا فعله أحد من أصحابه، مع القطع بأن في المفاوز الرِّمالَ أكثر من التراب، وكذلك أرض الحجاز وغيره، ومن تدبَّر هذا قطع بأنه كان يتيمَّم بالرمل، والله أعلم، وهذا قول الجمهور) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 نخلص من كل ما سبق إلى أن وجه الأرض، أو الصعيد في أي مكان من الأرض يصح التيمُّم به إن كانت اليد تحمل منه شيئاً إذا ضربت عليه، وبتعبير آخر فالأرض الرملية والأرض الطينية السوداء والحمراء والأرض البيضاء والأرض الكبريتية والأرض الملحية كلها تصلح للتيمُّم، ولا يخرج من أديم الأرض سوى المناطق الصخرية وذوات الحجارة. ولو أننا أخذنا بتفسير القاموس الوسيط للتراب من أنه ما نَعُمَ من أديم الأرض، لأمكننا القول بأن التيمُّم يكون بالتراب وحده لشموله كلَّ أنواع الأرض سوى الصخرية والحجرية فحسب. وبفراغنا من تحديد المادة الصالحة للتيمُّم نكون قد استجمعنا جميع عناصر كيفية التيمُّم، فنقول إن كيفية التيمُّم أو صفته هي كما يلي: 1- النيَّةُ. 2- التسميةُ. 3- ضربُ باطن الكفين على ما نعُم من أديم الأرض ضربة واحدة. 4- تخفيفُ ما يَعْلق بالكفَّين من غبارٍ بالنفخ أو بالنفض أو بالتفل، أو بمسح باطن الكفِّ اليمنى بباطن الكفِّ اليسرى. 5- مسحُ جميع الوجه بباطن كفٍّ واحدة أو بباطن كفَّيه الاثنتين ما ظهر منه، مرة واحدة. 6- إمرارُ باطن الكفِّ اليسرى على ظاهر الكفِّ اليمنى من أطراف الأصابع إلى الرُّسغين، أو من الرُّسغين إلى أطراف الأصابع، ويكون ذلك مرة واحدة. 7- إمرارُ باطن الكفِّ اليمنى على ظاهر الكفِّ اليسرى من أطراف الأصابع إلى الرُّسغين، أو من الرُّسغين إلى أطراف الأصابع مرة واحدة. 8- الترتيبُ، بحيث يمسح الوجه قبل ظاهر الكفَّين. 9- الموالاةُ. أما النية والتسمية والموالاة فما قلناه عنها في الوضوء يصلح للقول هنا دون إضافة، فلا نعيد. والباقي سبق بحثه في النقاط الثماني السَّابقة. والفروض منها ستة هي: النية، وضرب الكفَّين على الأرض، ومسح جميع الوجه، ومسح ظاهر الكفَّين، والترتيب، والموالاة. والمندوبات ثلاثة هي: التسمية، وتخفيف الغبار عن الكفَّين، ومسح ظاهر الكفِّ اليمنى قبل ظاهر الكفِّ اليسرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 هل يشترطُ لصحة التيمُّمِ دخولُ الوقت؟. قال الأحناف: يصح التيمُّم قبل دخول الوقت. وذهب مالك والشافعي وأحمد وداود إلى عدم صحة التيمُّم قبل دخول الوقت مستدلين بما يلي: 1- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «جُعلت لي الأرضُ مساجد وطَهوراً، أينما أدركتني الصلاة تمسَّحتُ وصليتُ ... » رواه أحمد والبيهقي. 2- حديث أبي أُمامة ـ وقد سبق ـ وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «جُعِلَت الأرضُ كلُّها لي ولأمتي مسجداً وطَهوراً، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاةُ فعنده مسجدُه وعنده طَهوره» رواه أحمد والبيهقي. وقد مرَّ. 3- عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « ... وجُعلت لي الأرض طيِّبة طَهوراً ومسجداً، فأيُما رجلٍ أدركته الصلاة صلى حيث كان ... » رواه مسلم والبخاري وأحمد والنَّسائي. 4- الآية 6 من سورة المائدة. 5- قالوا إن التيمُّم طهارةُ ضرورةٍ، ولا ضرورةَ إليه قبل دخول وقت الصلاة. وقالوا إن الحديث الأول ومثله الحديث الثاني والحديث رقم 3 قيَّدت التيمُّم بإدراك الصلاة، وإدراك الصلاة لا يكون إلا بدخول وقتها، فالأحاديث طلبت التيمُّم حين إدراك الصلاة، ومفهومها عدم طلب التيمُّم قبل إدراك الصلاة أي قبل دخول وقتها. وعن الآية الكريمة قالوا: القيام إلى الصلاة لا يكون إلا بعد دخول وقتها، وإنما صح الوضوء قبل دخول الوقت لفعله - صلى الله عليه وسلم -، وبقي التيمُّم على ظاهر الآية. والبند الخامس واضح. هذه أدلة وحجج من اشترطوا لصحة التيمُّم دخول وقت الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 والحق أن هذه الأدلة والحجج لا تصلح لإثبات دعواهم، وأن الاستدلال بها على اشتراط دخول الوقت استدلال بعيد، وليٌّ لها عن ظاهر دلالاتها، وصرفٌ لها إلى غير ما سيقت له. الحديثان الأول والثاني جاء فيهما «أينما أدركتني الصلاة تمسَّحتُ وصليتُ» ، «أينما أدركَتْ رجلاً من أمتي الصلاةُ، فعنده مسجده، وعنده طَهوره» . إنَّ هذين القولين قد صُدِّرا بـ (أين) وأين هنا مكانية وليست زمانية، فلا تفيد توقيتاً ولا تفيد زمناً، ولو أردنا تبسيط القول لقلنا: في أي مكان أدركتني الصلاة فيه تيمَّمت، فهذا القول يفهم منه التيمُّم في أي مكان للصلاة. هكذا يجب فهم النصين أو الحديثين الأولين، فهما قد سيقا لبيان كون التيمُّم للصلاة يقع في أي مكان من الأرض، ولم يأتيا إطلاقاً لبيان توقيت التيمُّم فضلاً عن أن يأتيا لبيان توقيت التيمُّم بدخول الوقت، فهذا التقييد لا يحتمله النصان، وهو اجتهاد غير صحيح لا يستند إلى قواعد اللغة. ثم إن الحديثين قد صُدِّرا بـ «جُعلت لي الأرض مساجد وطَهوراً» و «جُعلت الأرض كلُّها لي ولأُمتي مسجداً وطَهوراً» وهذا يعني أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراد بيان أن الأرض كلها مكان صالح للصلاة والتيمُّم، وحتى يركِّز هذا المعنى أتى ببيان هو: إذا كنتم في أية بقعة من هذه الأرض أمكنكم أن تُصلُّوا فيها وتتيمَّموا. فأواخر النصَّين سيقت لتثبيت أوائلها وتوكيدها ولم تأت لشيء آخر. هكذا يجب فهم هذين الحديثين، وهكذا نجد أنهما لا يفيدان زمانيَّة التيمُّم وتوقيته فضلاً عن توقيته بدخول الوقت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 أما الحديث الثالث فهو وإن جاء بلفظ مغاير قليلاً إلا أنه يفيد المعنى نفسه الذي يفيده الحديثان الأولان، فبعد أن صُدِّر بما صُدِّر به الحديثان الأولان «جُعلت لي الأرض طيِّبةً طَهوراً ومسجداً» قال «فأيُما رجلٍ أدركته الصلاة صلى حيث كان» انظروا إلى لفظة (حيث) فهي ظرفية مكانية، أي هي مماثلة لـ (أينما) في الحديثين الأولين، فيكون معنى الحديث هو: إن الله جعل الأرض صالحة لتكون مسجداً وتكون طَهوراً، وكل رجل أدركته صلاته صلى على هذه الأرض حيثما كان. فالحديث يتحدث عن الأرض وصلاحها للصلاة وللتيمُّم، ولم يُؤت به لتوقيت تيمُّمٍ وزمانِه قطعاً. فالأحاديث الثلاثة لا تصلح لتحديد زمان التيمُّم وتوقيته، والشبهة التي عندهم آتية من الفعل (أدرك) الوارد في الأحاديث الثلاثة، فقالوا إن التيمُّم يحصل حين إدراك الصلاة ولا يكون إدراكٌ دون دخول الوقت، فإذا دخل الوقت بدأ التيمُّم. هكذا منطقوا الحديث بمقدِّمات ونتائج لم تكن صحيحة بلا شك، ولو هم وسَّعوا مجال النظر لما وقعوا فيما وقعوا فيه من خطأ الاستدلال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 أما استنباطهم التوقيت من آية التيمم فهو أيضاً استنباط غير صحيح. فالآية تفسَّر بأن المسلم لا يصلي إلا إذا كان على وضوء، فجاءت بصياغة تفيد أنه إذا أردتم الصلاة فتوضأوا، ومفهومها إذا لم تكونوا على وضوء فلا تصلوا حتى تتوضأوا. وبمعنى آخر إذا كنتم على وضوء فصلُّوا. فالآية سِيقت لبيان الوضوء وأنه شرط لصحة الصلاة، ولم تأت لبيان أن يتوضأ المسلم لكل صلاة، أو أن يتوضأ لدخول وقت كل صلاة. وهذا القول ينسحب على التيمُّم الوارد في آخر الآية، فالآية أرادت أن تبين حكم التيمُّم للصلاة، ولم تأت لطلب التيمُّم لدخول الوقت مطلقاً. بل أكثر من ذلك لم يرد في آخر الآية ذِكْرُ الصلاة فضلاً عن ذِكْرِ دخول الوقت، وإن الآية لم تأت إلا لبيان أنَّ مَن كان مريضاً أو مسافراً، أو أحدث بغائط حَدَثاً أصغر، أو أحدث بالجماع حَدَثاً أكبر فلم يجد الماء تيمَّم. هكذا تُفهم الآية، وهذا ما يحتمله النص، وصرفُ هذا النص إلى بيان حكم التيمُّم لدخول وقت الصلاة هو تحميلٌ للنص أكثر مما يحتمل. ولا أطيل أكثر من ذلك، فالأمر واضح، فالآية لا تُثْبِتُ دعواهم. أما قولهم في البند الخامس فهو ليس دليلاً ولا يصمد أمام النقد، وإني لأتساءل: من أين لكم القول بعدم ضرورة التيمُّم قبل دخول الوقت؟ هل التيمُّم عندكم لا يكون إلا للصلاة فحسب؟ ألا يلزم التيمُّم لمسِّ المصحف؟ ألا يلزم للطواف حول الكعبة؟ بل ألا يُشرع التيمُّم للمسلم الذي يحبَّ أن يكون دائماً على طهارة؟ أما قرأتم الحديث الذي فيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تيمَّم ليردَّ على مسلم السَّلام؟ فلماذا قصرتم التيمُّم على الصلاة هنا فأوجبتم التيمُّم حين دخول الوقت؟ لا شك في أنه نوع من التحكُّم والتَّعَسُّف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 من هذا الاستعراض نصل إلى عدم صلاح الأدلة والحجج السابقة على دعوى اشتراط دخول الوقت لصحة التيمُّم. وبسقوط هذا الاستدلال يثبت قول أبي حنيفة ومَن قال بقوله، حتى ولو لم يكن عندهم دليل على ما ذهبوا إليه، لأن قولهم يدخل في عموم الأدلة القاضية بأن التيمُّم طهارة، وأنها طهارة صالحة للصلاة وغيرها كصلاح الوضوء سواء بسواء، وأن نواقض الوضوء هي نواقض التيمُّم باستثناء وجدان الماء من بعد فقده للمتيمِّم، وما سواه فالنواقض هي والطهارة هي. وقد جاءت الأحاديث الشريفة تصف التيمُّم بأنه طُهور، فعن أبي ذر قال «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أبا ذر إن الصعيد طَهور لمن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأَمِسَّه بشرتَك» رواه الدارقطني. ورواه الترمذي وقال (هذا حديث حسن صحيح) . بل جاءت الأحاديث تصف التيمُّم بأنه وضوء. 1- عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «الصعيد الطيب وَضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسَّه جِلْدَك، فإن ذلك خير» رواه أبو داود وابن حِبَّان. ورواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. 2- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الصعيد وَضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فلْيتق الله وليُمسَّه بَشَرَه، فإن ذلك خير» رواه البزَّار وصححه ابن القطَّان. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 فقد أطلقت الأحاديث لفظة الوضوء على التيمُّم، فهو وضوء لا يختلف عنه إلا بأن وجدان الماء ناقض له، فقد جاء الحديث بلفظ «فإذا وجدت الماء فأمِسَّه جلدك» ومعنى ذلك أنه يظل متيمِّماً أي طاهراً ما دام الماء مفقوداً، ولو كان خروج وقت الصلاة ناقضاً لذُكر هنا، فلما لم يُذكر دل ذلك على عدم وجوده، ثم إن الأصل في التيمُّم أنه قائم مقام الوضوء في جميع أحكامه، فلا يخرج عن ذلك إلا بدليل. والوضوء لا ينتقض بخروج وقت الصلاة، ويجوز قبل دخول الوقت، فكذلك التيمُّم، إلا أن يُؤتَى بدليل صالح. وليس من الأدلة الصالحة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال «من السُّنَّة أن لا يصلِّي الرجل بالتيمُّم إلا صلاة واحدة ثم يتيمَّم للصلاة الأخرى» رواه الدارقطني وعبد الرزاق والبيهقي. أو ما روي عن علي رضي الله عنه قوله «يتيمَّم لكل صلاة» رواه الدارقطني والبيهقي، لأن الحديث الأول مرويٌّ من طريق الحسن بن عمارة وهو ضعيف وقال بعضهم: متروك. وأما قول علي فهو مروي من طريق الحارث الأعور والحارث ضعيف بل كذبه بعضهم، قال البيهقي (إسناده ضعيف) ومثلهما ما رُوي عن ابن عمر أنه كان يتيمَّم لكل صلاة كما رواه عنه الدارقطني والبيهقي، فإن فيه عامر الأحول عن نافع، وعامر ضعَّفه ابن عُيينة وأحمد، وفي سماعه من نافع نظر، وقال ابن حزم (الرواية فيه عن ابن عمر لا تصح) . وجدانُ الماء بعد فقده أبنَّا من قبل أن التيمُّم كالوضوء باستثناءٍ واحد هو أن وجدان الماء من بعد فقده ينقض التيمُّم، إلا أن الأئمة والفقهاء قد اختلفوا في هذا الناقض من حيث التوقيت: هل وجدان الماء عقب أداء الصلاة وقبل خروج الوقت يبطل التيمُّم والصلاة ويوجب الإعادة؟ وهل وجدان الماء في أثناء الصلاة مبطلٌ للتيمُّم وللصلاة وموجبٌ للانصراف عنها وإعادتها؟ وهل وجدان الماء قبل الصلاة مبطلٌ للتيمُّم وموجبٌ للوضوء للصلاة؟ أم أن التيمُّم باق وتصح الصلاة به؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 فذهب أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد إلى أن من صلى بالتيمُّم ثم وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة لا تجب عليه الإعادة، وخالفهم طاووس وعطاء والقاسم بن محمد ابن أبي بكر ومكحول وابن سيرين والزُّهري وربيعة فقالوا إنها تجب مع بقاء الوقت. وذهب جمهور الفقهاء والأئمة إلى أن المتيمِّم إذا وجد الماء قبل الصلاة وجب عليه الوضوء ولا تصح صلاته بالتيمُّم. وخالفهم داود وسلمة بن عبد الرحمن فذهبا إلى عدم الوجوب. وذهب أبو حنيفة والأوزاعي والثوري إلى أن المتيمِّم إذا وجد الماء بعد الدخول في الصلاة قبل الفراغ منها وجب عليه الخروج منها وإعادتها، وخالفهم مالك وداود فقالا لا يجب عليه الخروج بل يحرم، والصلاة صحيحة. والصحيح هو أن وجدان الماء ناقضٌ للتيمُّم. والمعلوم أن الناقض متى وجد نَقَض، لا فرق في ذلك بين كونه وُجِد قبل دخول الوقت أو بعده، ولا فرق بين كونه وُجد قبل الصلاة أو في أثنائها أو بعدها، فكل هذه الحالات حكمها واحد، والتفريق تكلُّفٌ لا دليل عليه. وعليه فإن من صلى بالتيمُّم ثم وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة فصلاته صحيحه ولا إعادة عليه، وأن المتيمِّم إن وجد الماء قبل الصلاة بطل تيمُّمه ووجب عليه الوضوء للصلاة، وصلاته دون وضوء باطلة، وأن المتيمِّم إذا وجد الماء بعد الدخول في الصلاة قبل الفراغ منها وجب عليه الخروج منها وإعادتها. وهذا كله مبني على أن التيمُّم كالوضوء ناقضه كناقضه سواء بسواء، والتفريق بينهما في النواقض تفريق لا دليل عليه، وغاية ما يتمسك به الذاهبون إليه شُبُهات وتأويلات ودلالات بعيدة لا تصمد أمام النقاش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 فمثلاً قال عطاء والقاسم ومكحول وابن سيرين والزُّهري وربيعة وطاووس: تجب الإعادة مع بقاء الوقت، لتوجُّه الخطاب مع بقائه، لقوله تعالى {أَقِم الصَّلاةَ} مع قوله تعالى {إذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ} فشرط في صحتها الوضوء، وقد أمكن في وقتها، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - «فإذا وجد الماء فلْيتق الله ولْيُمِسَّه بَشَره» . وقال داود ومالك: لا يجب الانصراف من الصلاة بل يحرم. مستدلين بقوله تعالى {ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وقالا: ما دامت الصلاة قد افتتحت افتتاحاً صحيحاً فلا يجوز نقضها والانصراف منها. وقال داود: إن المتيمِّم إذا وجد الماء قبل الصلاة لم يجب عليه الوضوء لقوله تعالى {ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} . وتردد الشوكاني في هذه المسألة، وعلَّق على الحديث الذي جاء بلفظ «فإذا وجد الماء فلْيُمِسَّه بشرته فإن ذلك خير» علَّق عليه بقوله (يُشكِل عليَّ الاستدلال بهذا الحديث قوله ـ فإن ذلك خير ـ فإنه يدلُّ على عدم الوجوب المدَّعى) . هذه أقوالهم وهذه شبهاتهم. وقد ورد في هذا الموضوع من النصوص ما يلي: 1- عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال «خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمَّما صعيداً طيباً فصلَّيا، ثم وجدا الماء في الوقت ـ فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يُعِد الآخر، ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له فقال للذي لم يُعِد: أصبت السُّنَّة وأجزأتك صلاتُك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجْرُ مرتين» رواه أبو داود والدارمي والحاكم والدارقطني. ورواه النَّسائي بلفظ «.. فقال للذي لم يُعِد: أصبت السُّنَّة وأجزأتك صلاتُك، وقال للآخر: أما أنت فلك مثل سَهْمِ جَمْع» قوله سَهم جمع: يعني جَمَعَ أجرَ الصلاتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 2- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الصعيد وَضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فلْيتق الله ولْيُمِسَّه بَشَرَه فإن ذلك خير» رواه البزَّار ورجاله رجال الصحيح. وصححه ابن القطان. الحديث الأول رَدٌّ صريح على من أوجب الإعادة مع بقاء الوقت، والمعلوم أنه لا اجتهاد في موضع النص، وهذا نص فلا يحلُّ القول بخلافه، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام للذي لم يُعِدْ «أصبت السُّنة وأجزأئك صلاتك» منطوق في عدم وجوب الإعادة، فيسقط رأيهم أو اجتهادهم. والحديث الثاني ردٌّ على من قال إن المتيمِّم إذا وجد الماء قبل الصلاة لم يجب عليه الوضوء، وعلى من قال إنه لا يجب الانصراف من الصلاة إن وجد الماء في أثنائها. فقوله عليه الصلاة والسلام «فإذا وجد الماء فليتق الله ولْيُمِسَّه بَشَره» عام في كل حالة من حالات وجدان الماء لا فرق بين حالة الصلاة، وحالة ما قبلها وحالة ما بعدها. فوجدان الماء ناقض للتيمُّم كالبول الناقض للوضوء، فكما أن من بال انتقض وضؤوه سواء كان قبل صلاة أو في الصلاة أو بعدها، وسواء كان في وقت الصلاة أو قبل دخول الوقت أو قبل خروجه، فكذلك المتيمِّم إن وجد الماء انتقض تيمُّمُه، سواء كان قبل الصلاة أو في الصلاة أو بعدها، وسواء كان في وقت الصلاة أو قبل دخول الوقت أو قبل خروجه، ومن ادعى التخصيص بحالة من الحالات فليأت بدليل، لا بشبهة ولا بتأويل. أما من كان قبل الصلاة فهو ظاهرٌ جداً، فالتيمُّم ينتقضُ بوجدان الماء، فكيف يصح له أن يصلي دون وضوء؟ وأما من كان في الصلاة فكيف يُتِمُّ صلاته وقد بطل تيمُّمه بوجدان الماء؟ وهل من أخرج ريحاً وهو يصلي يُتِم صلاته مستدلاً بالآية الكريمة {ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ؟ فما شأننا وقد بطلت طهارتنا في إبطال الأعمال؟ ثم أي إبطال للأعمال هذا ونحن نوجب إعادة الصلاة؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 أما ما يستحق الرد فعلاً، فهو تردد الشوكاني في القول بوجوب الوضوء على من يجد الماء، ومبعث تردده راجع إلى أن حديث أبي ذر يقول في إحدى الروايات «فإذا وجد الماء فلْيُمِسَّه بشرته فإن ذلك خير» فقد عقَّب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على طلبه مس البشرة بالماء أي الوضوء بقوله «فإن ذلك خير» فاعتبرها الشوكاني صارفةً الطلبَ عن الوجوب، فقال ما قال، والحق معه لو لم يكن لهذا الحديث لفظٌ فيه زيادة تزيل التردد وتلغي قرينة الصرف عن الوجوب، وقد غفل الشوكاني عن هذه الزيادة الواردة في حديث البزَّار، وهي: «فلْيتق الله» رغم أنه أورد هذا الحديث بهذه الزيادة في مكان، ثم غفل عن الاستدلال به فتردد. ذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام «فليتق الله» قرينة تفيد وجوب الوضوء لمن وجد الماء، لأنه لا يقال اتَّق الله إلا في معرض الواجب أو المحرَّم، ولا يقال ذلك في المندوبات والمباحات والمكروهات، فهذه اللفظة عند البزَّار قرينة تصلح لصرف الأمر إلى الوجوب، وهي مسقطةٌ لرأي من قالوا بالندب وعدم الوجوب. أما استدلاتهم بالآية الكريمة {إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ} على وجوب الإعادة لمن صلى بالتيمُّم ثم وجد الماء في الوقت، فهو استدلال بمفهوم يعارضه منطوق حديث أبي سعيد، والمفهوم لا يقوى على معارضة المنطوق، وقد روى نافع عن ابن عمر «أنه أقبل من الجُرف، حتى إذا كان بالمربد تيمَّم، فمسح وجهه ويديه وصلى العصر، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يُعِد الصلاة» رواه الشافعي بسند حسن. ورواه عبد الرزاق بلفظ « ... فتيمَّم بالصعيد وصلى، ولم يُعِدْ تلك الصلاة» . والجُرف مكان قريب من المدينة. مسألة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 يكون التيمُّم من الجنابة والحيض والنفاس كما يكون من الحَدَث الأصغر، والتيمُّم من الجنابة والحيض والنفاس ينقضه ما ينقض الغسل سواء بسواء، والتيمُّم من الحَدَث الأصغر ينقضه ما ينقض الوضوء سواء بسواء باستثناء وجدان الماء، فهو ناقض لكليهما، ثم زوال العذر المبيح للتيمُّم، فإذا تيمم من الجنابة ثم أحدث حَدَثاً أصغر كأن بال أو تغوَّط انتقض تيمُّمه عن الحَدَث الأصغر، ولم ينتقض تيمُّمه عن الجنابة، وذلك أن ناقض الحَدَث الأصغر ينقض الوضوء لا الغُسل، وبالتالي ينقض ما يقابله، والجماع مثلاً ينقض الطهارة من الحَدَث الأكبر، ولا يصح أن يقال إن البول ينقض التيمُّم القائم مقام الغُسل من الجنابة، كما يقول المالكية الذين قالوا إن البول مثلاً ينقض التيمُّم من الجنابة ومن الحَدَث الأصغر معاً، أي يعود جُنُباً. ولست أريد أن أرد على رأي المالكيين هذا بأكثر من أن أقول إن التيمُّم من الجنابة يقوم مؤقتاً مقام الغُسل من الجنابة ويأخذ أحكامه، والمعلوم أن البول مثلاً ينقض الوضوء ولا ينقض الغُسل، فوجب القول بذلك أيضاً بخصوص التيمُّم من الحدثين الأكبر والأصغر. متى يُشرع التيمُّم؟ يُشرع التيمم في حالتين اثنتين: حالة فقد الماء، وحالة وجود العذر المانع من استعمال الماء مع وجوده. ونفصِّل القول في هاتين الحالتين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 أولاً: حالة فقد الماء وهي الأصل. وهذه الحالة كما تكون في السفر تكون في الحضر وإن كان الأصل فيها أن تكون في السَّفر، لأنه قَلَّما يُفقد الماء في حالة الحضر، ولذا إذا أريد ذِكْرُ فَقْدِ الماء ذُكِرَ بدلَه السفرُ للتغليب، وإذا أريد ذِكر وجود الماء ذُكر بدله الحضر للتغليب كذلك، وهذا يعني أنه إذا ذُكِر السَّفر كسببٍ مبيحٍ للتيمُّم فإن ذلك لا يعني أن السفر بذاته سبب مبيح، وإنما السبب هو فقد الماء فيه، وإذا ذُكر الحضر كسببٍ مانع من التيمُّم فإن ذلك لا يعني أن الحضر في ذاته مانع، وإنما المانع هو وجود الماء فيه. هكذا ينبغي أن تفهم النصوص الشرعية من آيات وأحاديث، وهكذا ينبغي أن تفهم أقوال الأئمة والفقهاء. والأدلة على أن فقد الماء سببٌ مبيحٌ للتيمُّم هي: 1- قوله تعالى {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَو على سَفَرٍ أو جَاء أَحَدٌ مِنْكُمْ مِن الغَائِطِ أَو لامَسْتُم النِّساءَ فلم تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً طَيِّباً} الآية 6 من سورة المائدة. 2- عن عمران بن حصين قال «كنا في سفَر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ... فصلى بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجلٍ معتزل لم يُصلِّ مع القوم قال: ما منعك يا فلان أن تصلى مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك ... » رواه البخاري وأحمد. وقد مرَّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 3- عن أبي ذر قال «إني اجتويت المدينة، فأمر لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذَودٍ من إبلٍ وغنمٍ فكنت أكون فيها، فكنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتُصيبني الجنابة، فوقع في نفسي أني قد هلكت، فقعدت على بعير منها، فانتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وقلت: يا رسول الله هلكت، قال: وما أهلكك؟ فحدثته فضحك ... فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من القوم فسترني، فاغتسلت ثم أتيته، فقال: إن الصعيد الطيب طَهورٌ ما لم تجد الماء ولو إلى عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأَمِسَّ بشرتك» رواه أحمد وأبو داود والدارقطني والنَّسائي. والرجل المجهول في سند أحمد هو عمرو بن بجدان كما جاء في رواية النَّسائي والدارقطني. قوله في حديث عمران «أصابتني جنابة ولا ماء» يدل على أن فقد الماء هو سبب قوله «عليك بالصعيد» وقولُه تعالى {فلم تَجِدُوا ماءً} هو ذكرٌ لسبب قوله تعالى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً طَيِّباً} . وقولُه في حديث أبي ذر «فكنت أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة» سببٌ لقوله «إن الصعيد الطيب طَهور ما لم تجد الماء» بل إن الجواب نفسه يحمل السبب أيضاً، فقد جعلت هذه النصوص فَقْدَ الماء سبباً للتيمُّم كما هو ظاهر، وهذا لا يختلف فيه اثنان من المسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 وتشمل حالة فَقْدِ الماء عدم وجوده في المكان فعلاً، أو وجوده في مكانٍ ناءٍ لا يُوصَل إليه إلا بفَوْت الصلاة، أو حصول مشقة في الوصول إليه لبعده، أو فَوْت الرفقة فيما لو طلبه، أو وجود زحام مانع من الحصول عليه خلال الوقت، أو وجود عدوٍّ من إنسان أو حيوان يحول بينه وبين الحصول عليه، أو وجوده في بئر لا يوصل إلى مائها إلا بدلو وحبل ولا دلو ولا حبل لديه، أو أن يكون سجيناً محجوزاً عن الماء القريب منه، أو وجود قلَّة منه لا تكفي لغير شربه وتحضير طعامه أو طعام رفقائه في سفره أو شُرب دوابه، ويدخل في هذه الحالة ما إذا كان الماء موجوداً ولكن لا يحصل عليه إلا بثمن أكثر من ثمن المثل، فهذه كلها تدخل تحت حالة فقد الماء المبيحة للتيمُّم. ثانياً: وجود العذر المانع من استعمال الماء. وهذه الحالة تشمل: أ- المريض الذي يتضرر من استعمال الماء بزيادة العلَّة أو تأخُّر الشفاء. ب- الجريح الذي يخشى من تأخر التئام جُرحه أو زيادة العلَّة، أو حصول أَلمٍ بليغ من ملامسة الماء لجراحه. ج- من كان في ليلة شديدة البرد ولا يجد سوى ماء شديد البرودة، وليست عنده نار لتسخينه، بحيث لو اغتسل منه ناله ضرر في بدنه، أو خشي على نفسه الهلاك. والأدلة على ذلك ما يلي: 1- قوله تعالى {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى ... } . 2- عن جابر قال «خرجنا في سفَر، فأصاب رجلاً منا حجرٌ فشجَّه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمُّم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أُخبر بذلك فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شِفاء العِيِّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمَّم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود والبيهقي. وصححه ابن السكن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 3- عن عمرو بن العاص قال «احتلمتُ في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقتُ إنْ اغتسلتُ أن أهلك فتيمَّمت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جُنُب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول ـ ولا تقتلوا أنفسَكم إن الله كان بكم رحيماً ـ فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل شيئاً» رواه أبو داود والدارقطني وابن حِبَّان والحاكم. ورواه البخاري تعليقاً. الآية الكريمة في البند الأول دليل على العذر الأول. والحديث رقم 2 دليل على العذر الثاني. والحديث رقم 3 دليل على العذر الثالث. ويستفاد من هذه النصوص أيضاً ما يلي: 1- إن العذر الثالث يختص بالتيمُّم بدل الغُسل، وليس بدل الوضوء، لأن الوضوء بالماء البارد لا يُتصور فيه أن يلحق الضرر في البدن أو يهلك النفس. 2- إن الجرح لا يكفيه أن يُتيمَّم له فحسب، بل لا بد من أن يضم إلى التيمُّم عَصْب الجرح والمسحَ عليه، ثم غسل سائر جسده في الغسل من الجنابة ونحوها، أو المسح عليه والإتيان بسائر أفعال الوضوء، ودليله النص الثاني. أما إن كان الغسل يُلحق ضرراً بالجرح كمن أُجريت له عمليةُ شقِّ بطنٍ أو صدر فإن التيمُّم يكفيه لإزالة الجنابة، ودليله النص الثالث. مسألة إذا زال العذر المانع من استعمال الماء بطل التيمُّم فوراً، ووجب أن يغتسل بالماء، أو يتوضأ بالماء على حسب حاله. مسألة التراب والرمل وسواهما مما يُتَيمَّم به يجوز التَّيمُّم به مرَّات ومرَّات، ولا يُفقده استعماله في التيمُّم طُهوريته وصلاحه للتيمُّم ثانية وثالثة، ولم يرِد أيُّ دليل يمنع من استعماله أكثر من مرة، فيبقى على طُهوريته. مسألة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 قال عدد من الفقهاء منهم ابن قُدامة: إن كانت على بدن المسلم نجاسة وعجز عن غسلها لعدم الماء أو خوف الضرر باستعماله تيمَّم لها وصلى، واستدلوا بالحديث: الصعيد الطيب طَهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين. وهذا استدلال فاسد لا يصح، لأن التيمُّم هو عبادة تقوم مقام الغُسل والوضوء، فيقتصر على ما ورد لأجله. أما قولهم هو داخل في عموم الأخبار، فهو قول لا يفيد شيئاً، لأن هذا القول هو من العموم بحيث يستطيع المسلم أن يضع تحته ما يشاء من الفرضيات والتأويلات. صلاة فاقد الطَّهُورين المقصود بالطَّهورين الماء والصعيد، وقد جاءت النصوص بوجوب الوضوء بالماء، فإن لم يوجد الماء أو منع مانع من استعماله فبالتيمُّم بالصعيد. ونحن نبحث الآن حالة ثالثة هي حالة فَقْدِ الماء وفَقْدِ الصعيد معاً. وكمثالٍ على هذه الحالة أنْ يُوجَد سجينٌ في حاشرة لا ماء عنده ولا صعيد، ولا جدار لحاشرته يصلح للتيمُّم، وأراد هذا السجين الصلاة، فماذا يفعل؟ هل يصلي دون طهور أم لا يصلي؟ وهل إذا صلى ثم بعد حين وجد أحد الطَّهورين، تجب عليه إعادة الصلاة؟ هذه هي المسألة. وقد اختلف الأئمة الأربعة فيها على النحو التالي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 الأحناف قالوا: يصلي صلاة صُورية، أي يقوم المصلي بحركات الصلاة من وقوف وركوع وسجود وجلوس دون قراءة أو تسبيح أو تشهُّد، ودون نيَّة، وتبقى الصلاة في ذمته، يقضيها متى وجد الماء أو الصعيد، وشاركهم في وجوب القضاء الثوري والأوزاعي. والمالكيون قالوا: تسقط عنه الصلاة، فلا يصلي ولا يقضي إذا وجد الماء أو الصعيد. والشافعيون قالوا: إن كان جُنُباً يصلي الصلاة، ولكن يقتصر على قراءة الفاتحة فقط، ويعيدها إذا وجد الماء أو التراب، وإن كان مُحْدِثاً حَدَثاً أصغر يصلي صلاة تامة معتادة، ويعيدها متى وجد الماء أو التراب. والحنابلة قالوا يصلي ولا يعيد إذا وجد الماء أو التراب، ولكن يقتصر في صلاته على الفروض، وشاركهم في عدم وجوب الإعادة المُزَني وسَحنون وابن المنذر والشوكاني. والرأي الذي يترجح لدينا هو رأي الحنابلة ومَن شاركهم، فالسجين الذي لا ماء عنده ولا صعيد، والمريض الذي لا يقوى على مغادرة فراشه لوضوء أو تيمُّم، ولا أحدَ عنده يستعين به على إحضار الماء أو الصعيد، يصليان صلاة تامة صحيحة معتادة، ويكونان قد أدَّيا واجبهما، ولا يلزمهما قضاء الصلاة أو إعادتها بعد خروج الوقت، ويمكنهما أن يصليا دون طهارة ما شاءا من النوافل أيضاً. والدليل على ذلك ما روت عائشة رضي الله عنها «أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناساً من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة، فصلُّوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - شَكَوْا ذلك إليه، فنزلت آية التيمُّم» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأبو داود والنَّسائي. ودلالة هذا الحديث أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صلوا دون وضوء، وطبعاً دون تيمُّم، لأن التيمُّم لم يكن قد شُرع بعد، فلم ينكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك عليهم فكان ذلك إقراراً منه لفعلهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 والآن وبعد أن شُرع التيمُّم لا يكون أحد يشبههم في فعلهم إلا مَن صلى دون وضوء ودون تيمُّم لعدم وجود الماء والصعيد، أي إلا من كان فاقد الطَّهورين معاً، وحينئذ يكون قد صلى دون طهارة مثلهم، وبمعنى آخر فإن إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الأوَّلين هو إقرار ينسحب على من صلى وهو فاقد الطَّهورين. وإلى هذا الاستدلال ذهب العديد من الفقهاء، فابن حجر يقول (الحديث ليس فيه أنهم فقدوا التراب، وإنما فيه أنهم فقدوا الماء فقط، ففيه دليل على وجوب الصلاة لفاقد الطَّهورين، ووجهه أنهم صلُّوا معتقدين وجوب ذلك، ولو كانت الصلاة حينئذ ممنوعة لأنكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -) والشوكاني يقول (ليس في الحديث أنهم فقدوا التراب، وإنما فيه أنهم فقدوا الماء فقط، ولكن عدم الماء في ذلك الوقت كعدم الماء والتراب لأنه لا مُطهِّر سواه) . فالفاقد للطَّهورين يصلي دون طهارة، وهذا الدليل يردُّ رأي أبي حنيفة ورأي مالك. أما بخصوص رأي مالك فواضح، وأما بخصوص رأي أبي حنفية فهو أن الإتيان بحركات الصلاة دون نية ودون قراءة ليس صلاة، بمعنى أن من يفعل ذلك لا يكون صلَّى، فرأيه في النتيجة هو رأي مالك، والحديث ردٌّ عليهما. يبقى سؤال: هل يعيد من صلى دون طهارة أم لا يعيد؟ يدلُّ هذا الحديث على أن الإعادة غير واجبة، وإلا لبيَّنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما لم يبيِّن ذلك فقد دل على عدم وجوب الإعادة، لأن الحاجة اقتضت منه أن يُبيِّن وجوب الإعادة لو كانت واجبة، فلما سكت دل ذلك على عدم الوجوب، وبذلك يُرَدُّ رأي أبي حنيفة والشافعي في وجوب الإعادة. الفهرس الموضوع … … … … … … … الصفحة مقدمة … 6 تمهيد … 8 الفصل الأول أحكام المياه … 9 الماء الطَّهور … 10 الماء النجس … 12 الماء المستعمل … 18 تطبيقات على الماء … 30 سُوْر الحيوان … 32 الفصل الثاني أعيان النجاسات … 42 النجاسات من الإنسان … 43 أ. البول … 43 ب. الغائط … 44 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 ج. المذي … 44 د. الودي … 44 النجاسات من الحيوان … 44 1- الكلب … 44 2- الخنزير … 45 3- الميتة … 45 النجاسة المشتركة بين الإنسان والحيوان – الدم المسفوح … 45 النجاسة من غير الإِنسان والحيوان – الخمر … 76 شُبُهات: أولاً- بول ما يُؤكل لحمه وما لا يُؤكل … 46 ثانياً- الميتة وأجزاؤها من حيث النجاسة … 55 ثالثاً- نجاسة الدم … 62 رابعاً- ما يُظنُّ أنه نجس … 63 الفصل الثالث أحكام النجاسة … 68 تمهيد … 68 حكم الانتفاع بالنجس … 69 هل يجب العدد في إزالة النجاسة؟ … 72 المواطن الثلاثة التي ورد فيها عدد … 72 ما يُستعمل في إِزالة النجس … 75 تطهير المتنجِّس … 78 الاستحالة … 79 الفصل الرابع أحكام وآداب قضاء الحاجة … 83 أحكام وآداب قضاء الحاجة في الخلاء … 83 أحكام وآداب قضاء الحاجة في البيوت والعمران … 87 الفصل الخامس سُنن الفطرة … 89 السواك … 89 قصُّ الشارب … 91 إعفاء اللحية … 93 نتف الإبط … 99 قصُّ الأظفار … 100 غسل البراجم … 100 حلق العانة … 101 الختان … 101 الفصل السادس السنن الملحقة بالفطرة … 105 أحكام الشَّعَر … 105 1) إكرام الشَّعَر … 105 2) نتف الشَّعَر الأبيض … 107 3) صبغ الشَّعَر الأبيض … 107 4) وصل الشَّعَر … 109 5) نفش الشَّعَر … 111 6) فرق الشَّعَر … 111 7) حكم الاكتحال والتَّطيُّب … 111 الفصل السابع الأغسال المستحبَّة بالنصوص … 115 غُسل يوم الجمعة … 116 غُسل الإِحرام ودخول مكة … 120 غُسل من أُغمي عليه … 120 غُسل من غسَّل ميتاً … 121 الفصل الثامن الغُسل … 123 صفة الغُسل … 123 الغُسل المُجزْيء … 124 الغُسل الأكمل … 125 تفصيلات تتعلق بالغُسل … 125 الفصل التاسع موجبات الغُسل … 132 أولاً: الجنابة … 132 أحكام الجنب … 134 ثانياً: إسلام الكافر … 145 ثالثاً: الموت … 147 رابعاً: الحيض … 149 أحكام الحائض … 150 الأمور الثلاثة التي تختلف فيها الحائض عن الجُنُب … 152 دم الحيض ومدَّته … 157 المستحاضة وأحكامها … 160 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 خامساً: النفاس والولادة … 165 الفصل العاشر الوضوء … 169 تعريف الوضوء ومشروعيته … 169 فضل الوضوء … 169 صفة الوضوء … 170 الدعاء عقب الفراغ من الوضوء … 205 الصلاة ركعتين عقب من الوضوء … 206 مسائل … 207 ما يُستحبُّ له الوضوء … 208 الفصل الحادي عشر المسح على الملبوس الساتر … 209 ما يُلبس على الرأس … 209 ما يُعصب على الجُرح والجبيرة … 211 ما يُلبس في القدم … 212 الفصل الثاني عشر نواقض الوضوء … 220 1) الخارج من السبيلين … 220 2) خروج الدم … 222 3) القيء … 224 4) مسُّ الفرج … 225 5) النوم … 227 6) أكل لحم الجَزور … 232 مسائل … 236 المسألة الخامسة: لمس المرأة لا ينقض الوضوء … 237 الفصل الثالث عشر التيمم … 244 تعريف التيمم ومشروعيته … 244 تعريف التيمم … 244 مشروعية التيمم … 244 كيفية التيمم … 246 هل يُشترط لصحة التيمم دخول الوقت … 257 وجدان الماء بعد فقده … 259 متى يُشرع التيمم؟ … 262 صلاة فاقد الطَّهورين … 264 الطبعة الأولى 2001م الطبعة الثانية 2002م الطبعة الثالثة 2003م الطبعة الأخيرة مزيدة ومنقحة المملكة الأردنية الهاشمية رقم الإيداع لدى دائرة المكتبة الوطنية (2680/12/2003) 262,2 عويضة، محمود عبد اللطيف الجامع لأحكام الصلاة/ محمود عبد اللطيف عويضة.- ط 3.- عمان: المؤلف، 2004. 880ص. ر. إ.: 2680/12/2003 الواصفات: /الصلوات//الإسلام//العبادات/ رقم الإجازة المتسلسل لدى دائرة المطبوعات والنشر 341/2/2001 هذا الكتاب يوزع مجاناً، ولا حقوق محفوظة لصاحبه، فيصح لأي شخص أن يطبعه طبعة جديدة ويقوم بنشره وتسويقه وبيعه متى شاء شرط أن يطبعه كما هو دون أي تغيير مطلقاً، فلا يزيد عليه كلمة ولا يحذف منه كلمة. دار الوضاح للنشر والتوزيع – عمان الأردن - 4613076 الجَامِع لأَحْكَامِ الصَّلاة لأبي إياس مَحمُود بن عَبدالَّلطيف بن مَحمُود (عُويضَة) الجزُء الثَّاني أحْكَام الصَّلاة دار الوضاح مؤسسة الرسالة عمان - الأردن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 الفصل الأول الصلاةُ: حكمُها ومواقيتُها فرضُ الصلاة الصلاةُ لغةً الدعاءُ، ورجلٌ صلَّى إذا دعا، وسُميت الصلاة المشروعة صلاةً لاشتمالها على الدعاء. وقد فُرضت الصلاة ليلة الإسراء خمسين في اليوم والليلة، ثم خُفِّضت إلى خمس صلوات تَعْدل في ثوابها الخمسين، فعن أنس رضي الله عنه قال: «فُرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ أُسْرِي به الصلواتُ خمسين ثم نقصت حتى جُعلت خمساً، ثم نُودي يا محمد إنه لا يُبدَّل القولُ لديَّ وإنَّ لك بهذه الخمس خمسين» رواه الترمذي وابن المنذر وعبد الرزاق. وروى البخاري وأحمد والنَّسائي عن أنس حديثاً طويلاً عن الإسراء، وجاء فيه « ... هنَّ خمسٌ وهنَّ خمسون، لا يُبدَّلُ القولُ لديَّ ... » وروى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال «فُرض على نبيكم - صلى الله عليه وسلم - خمسون صلاة، فسأل ربه عزَّ وجلَّ فجعلها خمساً» . فالصلوات المفروضات في اليوم والليلة خمس، وهذه معلومة من الدين بالضرورة، وحسبي أن أذكر حديثاً واحداً يذكرهنَّ هو ما رُوي عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه قال «جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجدٍ ثائرَ الرأس يُسمَع دويُّ صوتِه ولا يُفقَه ما يقول حتى دنا، فإذا هو يَسأل عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمسُ صلوات في اليوم والليلة فقال: هل عليَّ غيرُها؟ قال: لا إلا أنْ تَطوَّع ... » رواه البخاري ومالك والبيهقي وابن المنذر. فضلُ الصلاة الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد ركن الشهادتين، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بُني الإسلامُ على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» رواه البخاري ومسلم والترمذي والنَّسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وهي أول ما يحاسَب به الناسُ يوم القيامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «أول شئ مما يحاسَب به العبدُ يوم القيامة صلاتُه المكتوبة، فإن أتمَّها وإلا زِيد فيها من تطوُّعه، ثم يُفعَلُ بسائر الأعمال المفروضة كذلك» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي والنَّسائي. والصلاة أحبُّ الأعمال إلى الله سبحانه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العملِ أحبُّ إلى الله؟ قال: الصلاةُ على وقتها، قال: ثم أيُّ؟ قال: ثم بِرُّ الوالدين، قال: ثم أيُّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: حدثني بهنَّ ولو استزدتُه لزادني» رواه البخاري. ورواه أحمد بمعناه عن رجل من الصحابة. والصلاةُ تمحو الخطايا وتُذهب السيئات، فعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كلَّ يوم خمساً ما تقول ذلك يُبقي من دَرَنِه؟ قالوا: لا يُبقي من درنه شيئاً، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا» رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول «إن العبد إذا قام يصلي أُتيَ بذنوبه فوُضعت على رأسه أو عاتقه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه» رواه ابن حِبَّان والبيهقي. وعن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «مَن جاء بالصلوات الخمس قد أكملهن لم ينقص من حقهن شيئاً كان له عند الله عهدٌ أن لا يُعذِّبه ... » رواه ابن حِبَّان. حكمُ الصلاة المكتوبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 الصلاة ركن من أركان الإسلام، وهي فرضٌ واجبةٌ على كل مسلم عاقل بالغ ذكراً كان أو أنثى، أما الصبي الذي لم يبلغ الحُلُم فهو غير مكلَّف شرعاً بأي تكليف، ومع ذلك فإنه فيما يتعلق بالصلاة قد طُلب من وليِّ أمره أن يأمره بأداء الصلاة، ولا شئ على وليِّ أمره أكثر من الأمر حتى يبلغ الصبي عشر سنين، فحينئذ يُطلب من وليِّ الأمر أن يضرب صبيه إن هو لم يمتثل للأمر ولم يصلِّ، ليدل كلُّ ذلك على ما للصلاة من أهمية ومكانة عند المسلمين، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع» رواه أبو داود وأحمد والحاكم. وعن سبرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «علِّموا الصبي الصلاةَ ابن سبع سنين، واضربوه عليها ابن عشرة» رواه الترمذي. ورواه أحمد بألفاظ مختلفة. فالصبي ابن سبع سنوات يؤمر شرعاً بالصلاة، ويُضرب عليها إن هو بلغ عشر سنوات، رغم أنه غير مكلَّف شرعاً لأن البلوغ شرطٌ في التكليف، وهذا الأمر وهذا الضرب إنما هما لتعويد الصبي على الصلاة وتمرينه عليها وليس ذلك تكليفاً له بها، فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «رُفع القلم عن ثلاث، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقِل» رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنَّسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 أما تارك الصلاة فهو إما أن يكون تَرَكها كسلاً وتهاوناً، وإما أن يكون تركها إنْكَاراً لوجوبها وجحوداً لها، فأَما إن هو تركهاً كسلاً وتهاوناً فهو فاسق عاصٍ يُعاقَب على فعله تعزيراً بعقوبةٍ يراها الحاكم والقاضي زاجرة، وأَما إنْ هو تركها جحوداً وإنكاراً فهو كافر مرتد عن دين الله سبحانه، وهذا يُستتابُ ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل، فعن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال «خمس صلوات افترضهن الله على عباده، فمن لقيه بهن لم يضيِّع منهن شيئاً لقيه وله عنده عهد يُدخِله به الجنة، ومن لقيه وقد انتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهنَّ لقيه ولا عهد له، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له» رواه أحمد وابن ماجة. ورواه أبو داود بلفظ «خمسُ صلوات افترضهن الله تعالى، مَن أحسن وضوءَهنَّ وصلاَّهنَّ لوقتهنَّ وأتمَّ ركوعهنَّ وخشوعهنَّ كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه» فلو كان ترك الصلاة كفراً كما يقول بذلك عدد من الأئمة لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن شاء غفر له» لمن يترك الصلاة بالانتقاص منها كما يفيد النص الأول، وبعدم الفعل لها كما يفيد النص الثاني، فالانتقاص ترك لقسم منها، وعدم الفعل ترك لها كلها، وهذا وذاك يبقيان تحت رحمة الله ومشيئته بالمغفرة، فإذا علمنا أن الله سبحانه لا يغفر للكافر ولا يغفر للمشرك ولا يغفر للمرتد عن دينه، وأن ذلك معلوم من الدين بالضرورة، وأن في القرآن دليل ذلك - فالله سبحانه يقول {إن الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلك لِمْنْ يَشَاءُ ومَنْ يُشْرِكْ باللهِ فَقَد افْتَرَى إثْمَاً عَظِيْمَاً} الآية 48 من سورة النساء، ويقول عزَّ وجلَّ {إنَّ الذين كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيْلِ الله ثُمَّ مَاتُوا وهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ الله لهم} الآية 34 من سورة محمد، ويقول سبحانه { ... ومَنْ يَرْتَدِدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 مِنْكُمْ عَنْ دِيْنه فَيَمُتْ وهُو كَافِرٌ فأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ في الدُّنْيا والآخِرَةِ وأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ} الآية 217 من سورة البقرة - أدركنا أنَّ تارك الصلاة جزئياً أو كلياً غير كافر وغير مشرك وغير مرتد، فلم يبق إلا أن يكون مسلماً عاصياً وفاسقاً فحسب. ورب قائل يقول إن النص الأول وهو الانتقاص لا يدل على الترك جزئياً للصلاة وإنما يدل على لحوق النقص في صلواته من خشوع وقنوت واطمئنان وما إلى ذلك، وإن النص الثاني لا يدل كذلك على الترك الكلي، وإن قوله «ومن لم يفعل» ينصرف إلى عدم إحسان الوضوء والصلاة في غير وقتها، وعدم إتمام الركوع والخشوع، فنقول له إنَّ عندنا نصاً فيصلاً لا يحتمل إلا الترك الكلي للصلاة، وهذا هو: عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «خمس صلوات كتبهن الله عزَّ وجلَّ على العباد، فمَن جاء بهنَّ لم يضيِّع منهن شيئاً استخفافاً بحقهنَّ كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومَن لم يأت بهنَّ فليس له عند الله عهد، إن شاء عذَّبه وإن شاء أدخله الجنة» رواه مالك وأبو داود والنَّسائي والبيهقي. ورواه أحمد ولفظه « ... إن شاء عذبه وإن شاء غفر له» . وتحضرني في هذا المقام أحاديث صحيحة انصرف الكثيرون من الفقهاء عنها ولا أقول جميعهم، واضطربوا في فهم دلالاتها، ولم يقفوا عندها أذكر منها ما يلي: أ - عن أبي بكر عن أبيه أبي موسى الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من صلى البَرْدَين دخل الجنة» رواه مسلم والبخاري ومالك وعبد الله بن أحمد. والبردان هما صلاتا الفجر والعصر. ب - عن عمارة بن رُؤيبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «لن يلج النار أحدٌ صلَّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، يعني الفجر والعصر» رواه مسلم وأبو داود وابن خُزَيمة وأحمد والنَّسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 ج - عن فُضالة رضي الله عنه قال: علَّمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان فيما علمني «وحافِظْ على الصلوات الخمس، قال قلت: إنَّ هذه ساعاتٌ لي فيها أشغالٌ فمُرْني بأمرٍ جامعٍ إذا أنا فعلتُه أَجْزأ عني، فقال: حافظ على العصرين، وما كانت من لغتنا، فقلت: وما العصران؟ فقال: صلاةٌ قبل طلوع الشمس وصلاةٌ قبل غروبها» رواه أبو داود وأحمد. فأقول: أليس من اقتصر على صلاتي الفجر والعصر يُعتبر تاركاً للصلوات الخمس تركاً جزئياً ومع ذلك يبقى مسلماً؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 أمَّا الأحاديث التي هي من مثل ما رواه بُرَيدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» رواه أحمد وابن ماجة والنَّسائي والترمذي. وما رواه جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «بين الرجل وبين الشِّرك والكفر ترك الصلاة» رواه مسلم وأحمد والترمذي. فإنها تُحمل على التغليظ الشديد على من ترك الصلاة، فهي من مثل ما رُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» رواه البخاري ومسلم. وما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت» رواه مسلم وأحمد. وما رُوي عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «ليس مِن رجلٍ ادَّعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله ... » رواه البخاري ومسلم. وما رُوي عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من أُعطي عطاءً فوجَدَ فلْيَجْزِ به، ومن لم يجد فَلْيُثْنِ، فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر ... » رواه الترمذي وأبو داود وابن حِبَّان والبيهقي. وقال الترمذي (ومعنى قوله ــ ومن كتم فقد كفر ــ يقول: كفر تلك النعمة) . وما رُوي عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال « ... وأُريتُ النارَ فلم أرَ منظراً كاليومِ قطُّ أفظعَ، ورأيتُ أكثر أهلِها النساء، قالوا: بمَ يا رسول الله؟ قال: بكفرهنّ، قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرنَ العشير ويكفرن الإحسان ... » رواه البخاري ومسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 فقتال المسلم والطعن في النسب والنياحة على الميت وادّعاء الشخص لغير أبيه وكتمان العطاء وجحود المرأة فضل زوجها وإحسانه هي بلا شك معاصٍ فحسب وليست أفعالاً تُخرج من الملة، وما إطلاق الكفر عليها إلا لمجرد التغليظ الشديد عليها. وقد أُستُعملت لفظة الكفر هنا بمعناها اللغوي وتعني السّتر والغطاء، يقال كفر الشّئ إذا ستره وغطاه، ويقال كفر الزارع البذر بالتراب إذا غطّاه، وقد ورد استعمال هذه اللفظة في كتاب الله بهذا المعنى، فقال تعالى {وَعَدَ اللهُ الذّينَ آمنوا مِنْكمْ وَعَمِلوا الصّالحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهمْ في الأرضِ ... ومنْ كَفَرَ بعْدَ ذلك فَأولئِكَ هُمُ الفَاسِقون} الآية 55 من سورة النور. فقوله - ومن كفر - فسّرها المفسرون بأنها كُفر النعمة، وقال سبحانه {أَفَبِالباطِلِ يؤْمِنون وَبِنِعْمَةِ اللهِ همْ يكْفُرون} الآية 72 من سورة النحل. فسّرتها الآية التي قبلها { ... أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدون} . فالكفر يطلق على الخروج من الملّة، وقد يطلق على أفعالٍ محرّمة لا تُخْرِجُ من الملّة، والقرينةُ هي التي تحددُ أيّاً من المعنيين هو المقصود، وحيث أن النصوص التي وصفت ترك الصلاة بأنهُ كفر قد وُجِدت قرينةٌ منها تصرفها إلى المعنى اللغوي فحسب، وهي التي ذكرناها سابقاً، فإنه لا يصح معها أن نعتبر ترك الصلاة خروجاً من الملة، وأن من اعتبروا ترك الصلاة كفراً إنما أخطأوا فيما ذهبوا إليه. الصلوات المكتوبة ومواقيتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 فرَض الله سبحانه على المسلمين خمس صلوات في اليوم والليلة هي صلاة الفجر أو صلاة الصبح أو صلاة الغداة وهي ركعتان، وصلاة الظهر وهي أربع ركعات، وصلاة العصر أو الصلاة الوسطى وهي أربع ركعات، وصلاة المغرب وهي ثلاث ركعات، وصلاة العشاء أو صلاة العَتَمَة وهي أربع ركعات، فعن معاذ رضي الله عنه قال «بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأَعْلمْهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ... » رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وقد عين الشرع لكل صلاة من هذه الصلوات الخمس ميقاتاً، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه جبريل فقال: قم فَصَلِّه، فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر فقال: قم فَصَلِّه، فصلى العصر حين صار ظل كل شئ مثله، ثم جاءه المغرب فقال: قم فَصَلِّه، فصلى حين وجبت الشمس، ثم جاءه العشاء فقال: قم فَصَلِّه، فصلى حين غاب الشفق، ثم جاءه الفجر فقال: قم فَصَلِّه، فصلى حين برق الفجر، أو قال حين سطع الفجر، ثم جاءه من الغد للظهر فقال: قم فَصَلِّه، فصلى الظهر حين صار ظل كل شئ مثلَه، ثم جاءه للعصر فقال: قم فصَلِّه، فصلى العصر حين صار ظل كل شئ مِثْليه، ثم جاءه للمغرب حين غابت الشمس وقتاً واحداً لم يزل عنه، ثم جاءه للعشاء حين ذهب نصف الليل، أو قال ثُلُث الليل، فصلى العشاء، ثم جاءه للفجر حين أسفر جداً فقال: قم فصَلِّه، فصلى الفجر، ثم قال: ما بين هذين وقت» رواه أحمد والنَّسائي. وقال البخاري (هو أصح شئ في المواقيت) . وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «وقت الظهر ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفرَّ الشمس، ووقت المغرب ما لم يَسقط ثَوْرُ الشَّفَق، ووقت العشاء إلى نصف الليل، ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي. وبالنظر في هذين الحديثين يتبين أن مواقيت الصلاة هنا هي المواقيت المختارة دون المواقيت الجائزة، أي هي المواقيت التي يُندَب للمسلمين أداء الصلوات فيها، وهي المواقيت نفسها التي واظب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أداء الصلوات المفروضة فيها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت «ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة لوقتها الآخر حتى قبضه الله» رواه الحاكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 أما ما زاد عن هذه المواقيت مما جاء في نصوص أخرى ستأتي لاحقاً فهي المواقيت التي يجوز للمسلمين فيها أداء صلواتهم، وهي التي تُسمى أوقات الجواز أو أوقات الضرورة أو أوقات الكراهة. ونذكر الآن ميقات كل صلاة من هذه الصلوات الخمس بشئ من التفصيل: 1ــ وقت صلاة الظهر : يبدأ وقت صلاة الظهر من زوال الشمس - أي من صُعود الشمس إلى قُبَّة السماء - وينتهي عندما يصير ظل كل شئ مثله في الطول، أي عندما يبدأ وقت صلاة العصر كما جاء في حديث جابر المار. وصلاة الظهر هذه لها وقت واحد كله وقت اختيار، فتؤدَّى هذه الصلاة في أيِّ حينٍ خلال هذه الفترة دون وجود فضل لأي منه على الآخر. وصلاة الظهر هي الصلاة الأولى من الصلوات المفروضة التي صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإمامةِ جبريل عليه السلام في مكة بدلالة حديث جابر، وبما روى نافع بن جبير وغيره «لما أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - من ليلته التي أُسري به فيها لم يَرُعْه إلا جبرئيل، فنزل حين زاغت الشمس، فلذلك سُمِّيت الأولى، قام فصاح بأصحابه: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلى جبرئيل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس، طوَّل الركعتين الأوليين ثم قصَّر الباقيتين، ثم سلَّم جبرئيل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسلَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس، ثم نزل في العصر على مثله ... » رواه عبد الرزاق. وبما روى نافع بن جُبير بن مطعم عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أمَّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس، وكانت قدر الشِّراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرُم الطعام والشراب على الصائم ... » رواه أبو داود وابن المنذر والترمذي والحاكم وابن أبي شيبة. فقد بدأ بصلاة الظهر. قوله قدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 الشِّراك: الشِّراك هو أحد سيور النعل التي تكون على وجهها. والمراد بذلك بيان أقل ما يكون من الظل وقت الزوال. وحيث أن صلاة الظهر تكون في منتصف النهار، فإنها تكون في الوقت الذي تشتدُّ فيه الحرارة في البلاد الحارة، مما يجعل الصلاة تشق على المصلين، لهذا ودفعاً للمشقة، ولِكَوْنِ وقتِ هذه الصلاة كله وقت اختيار فإنه يُسن تأخير صلاة الظهر في أيام الحر إلى أن تنكسر حدَّته، وهو المسمى بالإبراد، لا فرق في ذلك بين المنفرد والجماعة، ولا بين مَن هم في المسجد ومَن هم خارجه، فحكم الندب عام في جميع الحالات، فعن أنس رضي الله عنه قال «كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إذا كان الحر أَبْرَدَ بالصلاة وإذا كان البرد عجَّل» رواه النَّسائي وابن عبد البر. وعن أبي ذرٍّ قال «أذَّن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالظهر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَبْرِدْ أَبْرِدْ، أو قال: انتظر انتظر وقال: إن شدة الحر من فَيْحِ جهنم، فإذا اشتد الحر فأبْرِدوا عن الصلاة» رواه مسلم. ورواه البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي باختلاف في الألفاظ. 2ــ وقت صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى : يبدأ وقت صلاة العصر من حين يصير ظل كل شئ مثله في الطول وينتهي بغروب الشمس. وإنما قلنا بغروب الشمس وليس باصفرارها كما جاء في حديث مسلم المار، ولا بصيرورة ظل كلِّ شئ مثليه كما جاء في حديث أحمد المار، لأن هذين الحديثين كما أسلفنا حدَّدا للعصر وقت الاختيار فحسب، دون تمام الوقت، كما جاء في نصوص أخرى. فالعصر له وقت اختيار ينتهي باصفرار الشمس، وله وقت ضرورة أو وقت جواز يبدأ باصفرار الشمس إلى أن تغرب في الأفق الغربي، وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «.. ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 فأفضل وقت لصلاة العصر يقع ما بين أول الوقت إلى أن يبدأ اصفرار قُرص الشمس، فهو الوقت المختار، وهو الذي صلى فيه جبريل عليه السلام الصلاتين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يعقبه الوقت الجائز الذي يمتد إلى غياب الشمس، ويُسمى وقت الضرورة، أو وقت الكراهة. ونقصد بالغروب غيابَ كاملِ قرصِ الشمس، بمعنى أن وقت العصر يمتد حتى يتوارى قرص الشمس كله. وقد سميت صلاة العصر بالصلاة الوسطى لفضلها، فهي الصلاة الوسطى على الرأي الراجح الأصح، فعن عليٌّ رضي الله عنه أنه قال «لمَّا كان يوم الأحزاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ملأ الله قُبورهم وبيوتهم ناراً كما حبسونا وشغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» رواه مسلم والبخاري. ووقع عند مسلم التصريح بصلاة العصر في حديثين: عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ... » وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ... » . كما وقع التصريح بصلاة العصر عند البخاري في رواية له عن علي رضي الله عنه «كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق، فقال: ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس وهي صلاة العصر» . ووقع التصريح بها عند ابن المنذر وعبد الرزاق والبيهقي عن علي رضي الله عنه «لما كان يوم الأحزاب صلينا العصر بين المغرب والعشاء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وأجوافهم ناراً» . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «صلاة الوسطى صلاة العصر» رواه الترمذي. ورواه أحمد والبيهقي من طريق سمرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وقد خصها الله سبحانه بمزيد ذِكْرٍ فقال {حَافِظُوا على الصَّلَوَاتِ والصَّلاةِ الوُسْطَى وقُوْمُوا لله قَانِتِيْنَ} الآية 238 من سورة البقرة. كما خصها الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بمزيد ذِكْرٍ وتفضيل، فقال «الذي تفوته صلاة العصر كأنما وُتِرَ أهلَه ومالَه» رواه مسلم من طريق ابن عمر. وعن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه قال «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر بالمُخَمَّص فقال: إن هذه الصلاة عُرِضت على مَن كان قبلكم فضيَّعوها، فمن حافظ عليها كان له أجرُهُ مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد - والشاهد النجم» رواه مسلم والنسائي وأحمد. 3ــ وقت صلاة المغرب : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 جاء في حديث جابر المارِّ في المواقيت أن للمغرب وقتاً واحداً صلى فيه جبريل عليه السلام في يومين متتاليين هو «حين غابت الشمس» وجاء ذلك أيضاً في الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنه «أن جبرئيل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى به الصلوات وقتين إلا المغرب» رواه الحاكم. ولكن جاء في حديث عبد الله بن عمرو المار في المواقيت أن «وقت المغرب ما لم يسقط ثَوْرُ الشفق» فنقول إن حديث جابر حدَّد وقت الاختيار وهو المشار إليه في حديث ابن عباس، وهو عند غياب الشمس مباشرة، وأما حديث عبد الله ابن عمرو فقد حدَّد كامل وقت المغرب، وأنه يبدأ من غياب الشمس وينتهي بغياب الشفق الأحمر، وإلى هذه النهاية أشار الحديث الذي رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تزال أمتي بخير، أو على الفطرة، ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم» رواه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي. ورواه ابن ماجة والحاكم أيضاً من طريق العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، فجعل اشتباك النجوم نهاية وقت المغرب. واشتباكُ النجوم: انتشارُ الظلام عقب غياب الشفق الأحمر بحيث تبدو جميع النجوم فتتشابك لكثرتها. وروى بريدة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن رجلاً سأله عن وقت الصلاة، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: صل معنا هذين، يعني اليومين ... - وجاء في الحديث - ... ثم أمره - أي بلالاً - فأقام المغرب حين غابت الشمس ... وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق ... ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال: وقت صلاتكم بين ما رأيتم» رواه مسلم. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب حين غابت الشمس يوماً، وصلاها قبل أن يغيب الشفق يوماً آخر، وجعل ذلك وقت صلاة المغرب، فهو نص قاطع في الدلالة على ما نقول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 ويُسنُّ التبكير بصلاة المغرب وأداؤها في أول الوقت قبل أن يشتد الظلام وتنتشر النجوم في السماء، لحديث جابر ولحديث ابن عباس المشار إليهما في أول البحث، ولما روى سَلَمةُ بن الأكوع رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب» رواه مسلم والبخاري. 4ــ وقتُ صلاة العشاء: يبدأ وقت صلاة العشاء من غياب الشفق الأحمر إلى أن ينشقَّ الفجر الصادق، وبعبارة أخرى يبدأ الوقت عند سقوط القمر، أي غيابه لثالثة الشهر الهجري، لما روى النعمان بن بشير رضي الله عنه قال «إني لأعلمُ الناس بوقت هذه الصلاة صلاة العشاء الآخرة، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليها لسقوط القمر لثالثةٍ» رواه الحاكم وأحمد وابن حِبَّان. وينتهي بظهور الفجر المستطير، أي المنتشر معترضاً في الأفق عكس المستطيل الذي يبدو ممتداً إلى الأعلى، ويسمى الأول الفجر الصادق تمييزاً له عن الفجر الكاذب، فعن سَمُرة بن جُندُب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يغرَّنَّكم من سحوركم أذانُ بلال ولا بياضُ الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا ... » رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 وحيث أن صلاة الفجر تعقب صلة العشاء فإن وقت العشاء يمتدُّ حتى صلاة الفجر وليس إلى ثلث الليل أو شطر الليل فحسب كما يُفهم من حديث جابر المار في المواقيت. فكما قلنا بخصوص صلاة العصر وبخصوص صلاة المغرب في البندين 2، 3 من أن التحديد الوارد في حديث جابر إنما هو لوقت الاختيار وليس لوقت الضرورة، فإننا نقول القول نفسه بخصوص صلاة العشاء. فالتحديد بثلث الليل أو بشطر الليل إنما هو تحديد وقت الاختيار أي وقت الأفضلية فحسب. ثم إن الطحاوي قد روى عن عائشة رضي الله عنها بسند صحيح قولها «أَعْتَمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة حتى ذهب عامَّة الليل وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى وقال: إنه لوقتها لولا أن أشقَّ على أمتي» فقد جاء في حديث عائشة «حتى ذهب عامَّة الليل» وهذا يعني أنه تجاوز شطر الليل. وعن أبي قتادة رضي الله عنه، من حديث طويل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أَمَا إنه ليس في النوم تفريطٌ، إنما التفريط على من لم يُصلِّ الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى» رواه مسلم. ولولا ورود أحاديث تدل على انتهاء وقت صلاة الفجر بطلوع الشمس لصلح هذا الحديث للاستدلال به على أن صلاة الفجر تمتد إلى صلاة الظهر، فصلاة العشاء تصح حتى حلول وقت صلاة الفجر. أما الوقت المختار فينتهي عند منتصف الليل، أو حوله قليلاً، ليبدأ بعد ذلك وقت الجواز حتى صلاة الفجر، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال «سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن وقت الصلوات، فقال ... ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل» رواه مسلم وأحمد وأبو داود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 ويُفضَّل تأخير العشاء إلى ما بين ثلث الليل ونصفه للمنفرد وللجماعة على السواء، إلا أَنْ تُوجَد مشقَّةٌ فتُؤدَّى في أول وقتها، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لولا أن أشقَّ على أمتي لأخَّرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل أو نصف الليل» رواه ابن ماجة وأحمد. ومن المشقة ضعف الضعيف ومرض المريض وأمثالهما، لما رُوي عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال «صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العَتَمة، فلم يخرج حتى مضى نحوٌ من شطر الليل فقال: خذوا مقاعدكم، فأخذنا مقاعدنا فقال: إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف وسقم السقيم لأخَّرت هذه الصلاة إلى شطر الليل» رواه أبو داود وأحمد والنَّسائي. والمقصود بصلاة العَتَمة في هذا الحديث صلاة العشاء. والأفضل تسميتها صلاة العشاء، وذلك لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَغْلِبَنَّكُم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب الله العشاء، فإنها تُعْتِم بحِلاب الإبل» رواه مسلم وابن ماجة وأحمد وأبو داود والنَّسائي. ورواه ابن ماجة أيضاً من طريق أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ «لا تَغْلِبَنَّكُم الأعراب على اسم صلاتكم فإنما هي العشاء، وإنما يقولون العَتَمةَ لإعتامهم بالإبل» . فقدكان الأعراب يؤخِّرون حِلاب الإبل إلى أن يشتد الظلام، أي العتَمَة، فأطلقوا على صلاة العشاء صلاة العَتَمَة لهذا السبب. 5 ــ وقت صلاة الفجر : يبدأ وقت صلاة الفجر، أو صلاة الصبح، أو صلاة الغداة، من انشقاق الفجر الصادق إلى أن تطلع الشمس - أي إلى أن يظهر أول جزء منها - فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ... » رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 والمسلم بالخيار بين التبكير بها في أول وقتها - وهو المسمى بالتَّغْليس - وبين الإسفار - وهو تأخيرها إلى قُرْب نهاية وقتها - فعن أنس رضي الله عنه قال «سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وقت صلاة الغداة، فصلى حين طلع الفجر ثم أسفر بعد، ثم قال: أين السائل عن وقت صلاة الغداة؟ ما بين هذين وقت» رواه البزَّار. ولكن التغليس، أي التبكير، أفضل قليلاً، فعن عائشة رضي الله عنها «كنَّ نساءُ المؤمنات يشهدن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر متلفِّعات بمُرُوطِهنَّ، ثم ينقلبن إلى بيوتهنَّ حين يقضين الصلاة، لا يعرفهنَّ أحدٌ من الغَلَس» رواه البخاري وأحمد ومسلم. وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « ... صلى الصبح مرةً بغَلَسٍ، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التَّغليس حتى مات، ولم يعُد إلى أن يُسْفِر» رواه أبو داود. ورواه ابن حِبَّان وابن خُزَيمة والبيهقي جزءاً من حديث طويل. فالتغليس أفضل، خاصةً في ليالي الشتاء الطويلة التي يأخذ النائم فيها حاجته من النوم، أما في ليالي الصيف فلو أسفر فيها المصلي بصلاة الفجر لأحسن صنعاً، لأن الليل قصير والناس ينامون، فيمهلهم الإمام حتى يدركوا الصلاة. أمَّا ما ورد من أحاديث تأمر بالإسفار، وأنه أعظم للأجر، فإنها تُحمَل على معنى آخر غير التأخير، هو التحقُّق والتثبُّت من حلول الفجر. إذا أخَّر الإمام الصلوات عن مواقيتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 يُندب لأئمة المساجد وحكام الدولة أداءُ جميع الصلوات في المساجد في أوائل مواقيتها، وعدم تأخيرها إلى أن تنتهي أوقات الاختيار، فإن عُرف مِن إمامٍ أو حاكمٍ تأخيرُ الصلاة شُرع للمصلِّين أن لا ينتظروا الصلاة معه بل يصلونها منفردين، ثم إن هم أرادوا الصلاة مع الإمام أو مع الحاكم بعد ذلك في المسجد فلا بأس، وتكون صلاتهم في هذه الحالة نافلة، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو يُميتون الصلاة عن وقتها؟ قال قلت: فما تأمرني؟ قال: صلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلِّ فإنها لك نافلة» رواه مسلم. وعن أبي عالية البراء قال «أخر ابن زياد الصلاة، فجاءني عبد الله بن الصامت، فألقيت له كرسياً فجلس عليه، فذكرت له صنيع ابن زياد، فعضَّ على شفته فضرب إلى فخذي وقال: إني سألت أبا ذر كما سألتني، فضرب فخذي كما ضربت فخذك وقال: إني سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني، فضرب فخذي كما ضربت فخذك وقال: صلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركت الصلاة معهم فصلِّ ولا تقُل: إني قد صليت فلا أُصلي» رواه مسلم وأحمد النسائي وابن حِبَّان. وعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لعلكم ستدركون أقواماً يصلُّون الصلاة لغير وقتها، فإن أدركتموهم فصلُّوا في بيوتكم للوقت الذي تعرفون، ثم صلُّوا معهم واجعلوها سُبْحةً» رواه ابن ماجة. والسُبْحة هي صلاة النافلة أو التطوُّع. وروى عُبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «سيكون أمراء تُشغلهم أشياء، يؤخِّرون الصلاة عن وقتها، فاجعلوا صلاتكم معهم تطوعاً» رواه ابن ماجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 أما لماذا تكون نافلة ولا تكون مكتوبة ما دام يأتمُّ بإمام يصلي المكتوبة؟ فلأن المسلم لا يحلُّ له أن يصلي الصلاة المكتوبة في اليوم الواحد مرتين، فلا يجوز له شرعاً أن يصلى الظهر مرتين أو المغرب مرتين، أو أية صلاة مكتوبة أكثر من مرة واحدة في اليوم، فعن سليمان بن يسار مولى ميمونة قال «أتيت على ابن عمر وهو قاعدٌ على البلاط والناس في الصلاة، فقلت: ألا تصلي؟ قال: قد صليتُ، قلت: ألا تصلي معهم؟ قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تصلوا صلاةً في يومٍ مرتين» رواه ابن خُزَيمة وأحمد وأبو داود والنَّسائي وابن حِبَّان. إِدراكُ ركعة من الصلاة في وقتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 من أدرك ركعة من أية صلاة مفروضة قبل خروج وقتها فقد أدرك الصَّلاة، ويُتمُّها في وقت الصلاة التي تليها، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» رواه مسلم. ورواه البخاري بلفظ «إذا أدرك أحدُكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فلْيُتمَّ صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فلْيُتمَّ صلاته» وليس هذا خاصاً بصلاتي الصبح والعصر فحسب، وإنما هو حكم عام في كل صلاة مكتوبة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» رواه البخاري. ورواه أحمد بلفظ «.. فقد أدركها كلها» . ولا يعني هذا أنه يجوز للمسلم تأخير صلاته حتى يضيق وقتها إلى هذا الحد، فإنه إن فعل ذلك اعتُبر مُفَرِّطاً ولحقه إثم، ويكون قد تشبَّه في صلاته بالمنافقين، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرنَي الشيطان قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله إلا قليلاً» رواه مسلم. وتُدرك الركعة بإدراك ركوعها، فإنْ فاته الركوع فقد فاتته الركعة ووجب عليه عدم اعتدادها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سُجود فاسجدوا ولا تعدَّوها شيئاً، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة» رواه الحاكم وصححه. ورواه الدارقطني. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «مَن فاته الركوع فلا يعتد بالسجود» رواه عبد الرزاق. مواقيت الصلاة في الدائرة القطبية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 الدائرة القطبية هي دائرة وهمية تحيط بالقطب الشمالي تشكّل حدّاً فاصلاً بين البلدان التي يتشكل الليل والنهار فيها كل أربع وعشرين ساعة، وبين البلدان التي يمتد فيها النهار وحده أكثر من أربع وعشرين ساعة والليل وحده أكثر من أربع وعشرين ساعة تزاد كلما اتجهنا نحو الشمال حتى يغدو نهار القطب وحده ستة أشهر وليلة ستة أشهر كاملة. ومن البلدان الواقعة في الدائرة القطبية شمال فنلنده وشمال النرويج وشمال السويد في شبه الجزيرة الاسكندنافية وأصقاع سيبيريا الشمالية في روسيا، ومعظم جزيرة غرينلند والأرخبيل في شمالي كندا وغيرها، فهذه البلدان يزيد النهار فيها عن أربع وعشرين ساعة، والليل كذلك. والسؤال هو: كيف يؤدي المسلمون في تلك البلدان صلاتهم المفروضة، وكيف تُعرف مواقيت الصلاة هناك؟ والجواب على هذا السؤال هو أن الشرع قد عيّن وحدَّد مواقيت الصلاة المفروضة في النهار وفي الليل، وأوجب علينا الالتزام بهذه المواقيت والتقيد التام بها، قال تعالى: { ... إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} من الآية 103 من سورة النساء، وقد مرّت الأدلة على هذه المواقيت ووجوب التقيد بها في البحث السابق، ولم يرد في الشرع أي استثناء ولا أي نسخ لهذه المواقيت، فتبقى ثابتة كما هي لا تُقدَّم ولا تُؤخَّر دون أي اعتبار لموقع البلد على خريطة الأرض، تبقى ثابتة كما هي، وتلتزم في البلدان الواقعة في النصف الشمالي والبلدان الواقعة في النصف الجنوبي على السواء. وهذه المواقيت هي أسباب وجود الصلوات المفروضة، بمعنى أن هذه الصلوات لا تُوجد ولا تؤدى إلاّ إذا دخلت مواقيتها، وأن صلاة أُدِّيت في غير ميقاتها تعتبر باطلة غير مقبولة، وهذا هو ما سار عليه المسلمون وعملوا به لا يخالفهم فيه أحد منهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وبناء على ذلك نقول إن سكان هذه المناطق من المسلمين ينطبق عليهم ما ينطبق على سائر المسلمين من وجوب مراعاة هذه المواقيت دون أي اعتبار لقصر النهار والليل في بلد أو طولهما، فيصلي سكان تلك المناطق صلاة الغداة في ميقات صلاة الغداة وهو ما بين انشقاق الفجر الصادق وإلى أن تطلع الشمس، ثم ينتظرون ميقات صلاة الظهر، وهو ما بين استواء الشمس في قبة السماء إلى أن يصير ظلّ كل شئ مثله في الطول، ثم ينتظرون ميقات صلاة المغرب ويبدأ منذ غياب قرص الشمس إلى غياب الشفق الأحمر فيبدأ ميقات صلاة العشاء وهكذا، ولا ينبغي ملاحظة أية زيادة في طول الميقات أو قصره، لأن الزيادة هذه تحصل عندنا في الصيف، ويحصل النقص عندنا في الشتاء، ولا ضير في ذلك ولا إشكال. إن الذي يحصل في تلك البلدان أن الشمس تطلع صباحاً، ثم تتوسط قبة السماء إلى الجنوب قليلاً، ثم إنها إذا أوشكت أن تغرب مالت نحو الشمال فوق الأفق وقامت بإكمال دورتها العادية حتى تعود إلى المشرق دون أن تتوارى في الأفق الغربي أو الشمالي أو الشرقي، ثم تعاود الكرة فتتوسط قبة السماء إلى الجنوب قليلاً، وهكذا تبقى ساطعة في السماء في القسم الجنوبي سطوعاً عادياً يظهر خلاله ميقات الظهر وميقات العصر، ثم بدلاً من أن تغرب فيحلّ ميقات المغرب وبعده ميقات العشاء تقوم بالانحراف نحو الأفق الشمالي فوقه قليلاً دون أن تتوارى إلى أن تكمل دورتها في أربع وعشرين ساعة لا تغيب فيها الشمس وتبقى ساطعة بدورة كاملة كل أربع وعشرين ساعة تتكرر مرتين أو ثلاثاً أو عشر مرات أو مائة مرة تبعاً لصعودنا نحو شمال الأرض في الدائرة القطبية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وبملاحظة هذه الظاهرة نجد أننا نستطيع أن نصلي صلاة الغداة، في بداية هذه الدورات المتكررة مرة واحدة، ثم نقوم بأداء صلاة الظهر وصلاة العصر في ميقاتهما المعتادين في كل دورة، ولكننا لا نقوم بأداء صلاة المغرب ولا أداء صلاة العشاء لأن ميقاتهما لم يحلاّ، فالشمس تبقى ساطعة عدة دورات ولا تغيب ولا يحصل ليل، وهكذا بتوالي دورات الشمس سواء كانت كثيرة في الشمال أو أقل من ذلك كلما اتجهنا إلى الجنوب ضمن الدائرة القطبية نقوم بأداء صلاة الظهر وصلاة العصر فقط، ولا نصلي المغرب ولا العشاء لأن الليل لم يحلّ، وبالتالي لم يحل ميقاتهما. هذا هو الحكم في تلك البلاد، وهو الحكم نفسه في بلادنا من وجوب التقيد بالمواقيت، فإن حلّ الميقات قمنا بالصلاة، وإن تأخر الميقات أو تقدّم أخرنا الصلاة أو قدمناها تبعاً لذلك، وإن لم يحلّ الميقات خلال يوم أو يومين أو أسبوع أو شهر أو أكثر لصلوات الغداة والمغرب والعشاء فلا صلاة علينا واجبة عندئذٍ، ويمكن لسكان تلك البقاع أن يكثروا من صلاة التطوع لسعة الوقت عندهم، والله سبحانه يهبهم من الثواب ما يهب سكان تلك المناطق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وقد يسأل أحدهم: لماذا لا نقدر لصلاتنا هناك قدر مواقيت البلدان المجاورة ذات النهار والليل العاديين، أي البالغين معاً أربعاً وعشرين ساعة مراعين حركة الشمس في الجهة الشمالية، فعندما تقترب الشمس من الأفق الغربي وتبدأ بالانحراف عنه قليلاً نصلي المغرب، وبعد ذلك نصلي العشاء، وعندما تقترب الشمس من مكان شروقها المعتاد في الأفق الشرقي نصلي الغداة وهكذا، استدلالاً بالحديث الصحيح الذي رواه النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: «ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدجال ذاتَ غداة فخفَّض فيه ورفَّع حتى ظنناه في طائفة النخل ... إلى أن قال عليه الصلاة والسلام ... يا عباد الله فاثبتوا، قلنا: يا رسول الله وما لَبْثُه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً، يومٌ كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال؛ لا، اقدروا له قدره ... » رواه مسلم وأبو داود والترمذي وأحمد من حديث طويل، فهنا يطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقدروا لتلك الأيام الطويلة في زمن خروج الدجال قدرها في الأزمنة العادية، فهو دليل صحيح على وجوب التقدير لسكان تلك المناطق، كما هو دليل على وجوب التقدير على من يدركون أيام الدجال؟ وللجواب على هذا السؤال الطويل نقول ما يلي: 1- أن ما ورد في الأحاديث التي تذكر الدجال من خوارق ليس على حقيقته، وإنما هو تشبيه وتمثيل، ولا أدل على ذلك من ورودها في عدد من الأحاديث على سبيل المجاز، نذكر منها ما يلي: أ- عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لأنا أعلم بما مع الدجال منه، معه نهران يجريان أحدهما رأي العين ماءٌ أبيض والآخر رأي العين نار، تأجج فإما أدركنّ أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً وليغمّض ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد» رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 ب- وعنه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إن الدجال يخرج وان معه ماءً وناراً، فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحُرق، وأما الذي يراه الناس ناراً فماء بارد عذاب ... » رواه مسلم. جـ- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ألا أخبركم عن الدجال حديثاً ما حدّثه نبي قومه، إنه أعور وإنه يجئ معه مثل الجنة والنار، فالتي يقول إنها الجنة هي النار ... » رواه مسلم. فهذه الأحاديث يُفهم منها بشكل واضح تماماً أن الخوارق التي يأتي بها الدجال كالجنة والنار ليست على الحقيقة، وأنها لا تعدو كونها مجرد مجاز وتمثيل لا غير، وقل مثل ذلك بخصوص حديثنا «يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة ... » فهذه الأيام ينبغي أن تفهم على المجاز وليس على الحقيقة، وتعني أن تلك الأيام ستكون عصيبة وبالغة الشدة على المسلمين وكأن اليوم الأول منها يضارع سنة كاملة من الشدائد والأهوال، وكأن اليوم الثاني منها يضارع شهراً كاملاً من الشدائد والأهوال، وهكذا يتوجب فهم هذا الحديث وغيره من أحاديث الدجال. 2- بل إن عندنا حديثاً يخالف حديثنا هذا إن هو أُخذ على الحقيقة، هو ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يتقارب الزمان وينقص العمل، ويُلقى الشحُّ، ويكثر الهرج، قالوا: وما الهرج؟ قال: القتلُ القتل» رواه البخاري ومسلم. فهذا الحديث الذي يتحدث عن أيام آخر الزمان ومنها أيام الدجال طبعاً يذكر أن الأيام تمضي متقاربة مسرعة، أي كأنها أقصر من الأيام الاعتيادية وتقل بركة ذلك الزمان، وهذا المعنى إن أُخذ هو الآخر على الحقيقة فإنه يتصادم مع حديثنا «يوم كسنة ... » فلا يبقى عندنا مندوحة سوى فهم هذه الأحاديث على أنها واردة على سبيل المجاز لا غير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 3- أن الله سبحانه خلق الكون وسيّره بنواميس وقوانين ثابتة لا تتغير إلاّ أن تقع معجزة لنبي من الأنبياء، وما سوى ذلك فإنه لا يستطيع البشر ومنهم الدّجّال مهما أوتوا من قوى وجبروت أن يغيروا هذه القوانين. إن الله سبحانه قد خلق الشمس وفرض عليها نظاماً ثابتاً، وإنه سبحانه قد خلق الليل والنهار - تبعاً لحركتها الظاهرة، ولسوف يستمر حالها وحال الليل والنهار كما أرادها الله سبحانه إلى أن يرث الأرض وما عليها والسموات وما فيها، فلا الدجال ولا غير الدجال من البشر بمستطيعين أن يُحدثوا تغييراً في هذه النواميس والقوانين، ولن يستطيع الدجال ولا غير الدجال أن يعجِّلوا من سرعة الشمس الظاهرية أو يبطئوا منها، وبالتالي فإن الدجال يستحيل عليه إحداث تغيير في طول الأيام والليالي مهما كان التغيير يسيراً، فكيف وقد ورد في الحديث أن اليوم الأول كسنة!! إنه لأمر يستحيل على البشر فعله قطعاً. وهكذا لا يبقى لنا إلاّ أن نفسّر هذا الحديث على أنه وارد على سبيل المجاز والتمثيل فقط. 4- إن التصديق حتى يكون عقيدة لا بد من أن يكون جازماً، وإن هذه العقيدة وهذا الطريق الجازم لن يقبل إلاّ إذا ورد في آية قطعية الدلالة أو حديث متواتر قطعي الدلالة. فالقول إن اليوم الأول في زمن الدجال يبلغ سنة، واليوم الثاني يبلغ شهراً، واليوم الثالث يبلغ جمعة أي أسبوعاً لا نستطيع أن نعتقده ونصدّقه تصديقاً جازماً لأنه ورد في حديث غير متواتر، وهذا على إطلاقه وعمومه، فكيف وقد تصادم هذا التصديق مع نواميس الكون الثابتة، بل لقد تصادم مع حديث آخر مثله في الصحة كما ذكرنا ذلك قبل قليل. وبالتالي فإننا لا نستطيع الاستدلال به على تقدير تلك الأيام بأيامنا نحن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 5- ونأتي الآن لسند هذا الحديث، ونستميح المسلمين عذراً لأننا لم نقبله رغم وروده في صحيح مسلم، فنجد مداره على الراوي الوليد بن مسلم القرشيّ الدمشقي فهذا الراوي قد انفرد برواية هذا الحديث عند مسلم وأبي داود والترمذي وأحمد، ولم أجده مروياً من غير طريق، وما انفرد بروايته راو واحد لا يستطاع الاطمئنان إليه لا سيما إن جاءنا بعقائد أو مرويات تتضمن خوارق ومعجزات. وأيضاً فإنني لدى مراجعة كتب تراجم الحديث وجدت أن كثيرين من علماء الحديث قد وثّقوه وعدلوه، ونحن نعترف بذلك ونذكره، ولكنني وجدت في المقابل أقوالاً كثيرة مغايرة نُسبت لعلماء أفذاذ وأئمة أعلام في علم الحديث تجعلنا لا نقبل روايته هذه التي انفرد بها، ورواها مسلم وغيره، ونحن نعلم أن الجرح مقدَّم على التعديل، لا سيما بخصوص حديث تضمّن حصول خوارق ومعجزات لم تنسب لنبي ولا رسول!! وهذه طائفة من أقوال هؤلاء العلماء: قال أبو داود: (الوليد روى عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل منها عن نافع أربعة) وقال الذهبي: (إذا قال الوليد عن ابن جريج أو عن الأوزاعي فليس بمعتمد، لأنه يدلّس عن كذابين) . وقال أحمد بن حنبل (كان الوليد رفَّاعاً) أي يذكر الأحاديث دون إسنادٍ كلي أو جزئي. وقال أحمد أيضاً كما روى عنه المروزي (كان الوليد كثير الخطأ) . وقال مهنا: سألت أحمد عن الوليد فقال (اختلطت عليه أحاديث ما سمع وما لم يسمع، وكانت له منكرات) . وقال الدارقطني (كان الوليد يرسل عن الأوزاعي أحاديث عند الأوزاعي عن شيوخ ضعفاء عن شيوخ قد أدركهم الأوزاعي، فيسقط أسماء الضعفاء ويجعلها عن الأوزاعي) وقال علي بن المديني (حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الوليد، ثم سمعت من الوليد، وما رأيت من الشاميين مثله، وقد أغرب بأحاديث صحيحة لم يشركه فيها أحد) . وقال ابن سعد (ثقة بعضهم يستنكر حديثه) . وقال أبو مسهر (كان الوليد يأخذ من ابن أبي السَّفَر حديث الأوزاعي، وكان ابن أبي السفر كذاباً) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 وإذن فإن الوليد هذا كثير الخطأ، ويدلِّس، ويروي أحاديث باطلة، واختلطت عليه الأحاديث، ويروي عن كذابين ويخفيهم من السند، الخ، فهل يصح لنا بعد كل هذا التجريح من كبار علماء الحديث أن نقبل بروايته التي انفرد بها وتتضمن معجزات وخوارق؟ ثم نقوم بالبناء عليها فنستنبط حكم التقدير ونقول به؟ لهذه الأسباب الخمسة نقرر مطمئنين أن هذا الحديث لا يصلح للاستدلال على مسألتنا، فيبقى الحكم العام وهو المواقيت المعلومة الثابتة، يجب القول بها بخصوصنا وبخصوص سكان أية بقعة من بقاع الأرض، لأن هذه المواقيت كما أسلفنا لم تنسخ ولم يقع فيها استثناء. فضل صلاتي الصبح والعصر قلنا في بحث [وقت صلاة العصر] إن الله سبحانه قد خص صلاة العصر بمزيد ذكرٍ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خص صلاة العصر بمزيد ذكرٍ وتفضيل، ونقول هنا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر لصلاتي الصبح والعصر فضلاً مشتركاً زائداً على فضل سائر الصلوات، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون» رواه مسلم. ورواه أحمد والبخاري والنَّسائي وابن خُزَيمة باختلاف في الألفاظ. قضاء الصلاة الفائتة إذا خرجت الصلاة عن وقتها اعتُبرت فائتة، والفائتة قد تكون لنسيانٍ أو لنومٍ، وقد تكون لتقصيرٍ متعمَّد، فإن كانت الصلاة قد فاتت لنوم أو لنسيان، فيجب أداؤها على النحو التالي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 1- تُؤدَّى صلاة النوم والنسيان وقت الاستيقاظ مباشرة ووقت تذكُّرِها، لأن ذلك هو وقتها لا يحل تأخيرها عنه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فلْيصلِّها إذا ذكرها فإن الله يقول: أَقِم الصلاة لذكري» رواه مسلم وأحمد. 2- إذا أراد المسلم أداء صلاة منسيَّة فائتة لتشاغلٍ أو نوم في وقت صلاة مكتوبة لم يُصلِّها بعدُ، قدَّم الصلاة الفائتة، ثم صلى المكتوبة، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن عمر بن الخطاب يوم الخندق جعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدتُ أن أُصلي العصر حتى كادت أن تغرب الشمس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فوالله إن صليتُها، فنزلنا إلى بُطْحان، فتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوضأنا، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب» رواه مسلم. وهذه الصلاة الفائتة لنوم أو نسيان وتشاغل إن أُدِّيت على النحو السابق لم يلحق صاحبها إثم، لأن صاحبها بأدائه لها يكون قد كفَّر عن صلاته الفائتة هذه، فقد روى أنس رضي الله عنه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «مَن نسي صلاةً فلْيُصَلِّها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك - قال قتادة {وأقِم الصَّلاةَ لِذِكْرِي} » رواه مسلم والبخاري وأحمد. أمَّا من فاتته صلاةٌ بتقصيرٍ متعمَّد دون عذر شرعي، فإنه يأثم إثماً عظيماً ويحتاج عند ذلك إلى توبة نصوحٍ من ذنبه الكبير هذا، وهذه الصلاة الفائتة لا كفارة لها، لأن الكفارة لا تكون إلا لفوات صلاة بسبب شرعي كنوم أو نسيان وغفلة لا غير، وإذا قضى هذا المقصِّر صلاته الفائتة، فإن الإثم الذي لحقه لا يسقط عنه، وأرجو أن ينتفع من القضاء هذا، وأن يكون ذلك دالاً على صدق توبته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 وإذا كان قضاء المسلم لصلواته الفائتة في حالة الترك المتعمد لا يُسقط الإثم عنه، فأحرى بقضاء غيره عنه في حالة وفاته وعليه صلواتٌ متروكة أن لا يُسقط الإثم عنه، فالصلاة المقبولة تكون من صاحبها وتكون في وقتها، قال تعالى {إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ على المؤْمِنِيْنَ كِتَابَاً مَوْقُوْتَاً} الآية 103 من سورة النساء. ولم يثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بأن يقضي المسلم صلاة فائتة عن غيره المسلم، أو أن أحداً قضى عن مسلمٍ صلاةً فائتة وأقرَّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على فعله، والعبادات توقيفية لا يصح فيها القياس إلا إذا وُجدت العلة الظاهرة في النص. أما عن كيفية صلاة الفائتة فكما يلي: من صلى الفائتة صلاها على حالها وعلى هيئتها كما لو كانت غير فائتة وفي وقتها، فيصليها كما هي من حيث الجهر والإسرار والإقامة والجماعة، فلو فاتته صلاة الصبح وصلاها في النهار عقِبَ طلوع الشمس، شُرع له أن يقيم ويصليها جهرية ويصليها في جماعة، وإن فاتته صلاة العصر وذكرها في الليل صلاها بإقامةٍ صلاةً سِرِّية، وصلاها في جماعة، فعن أبي قتادة رضي الله عنه في قصة نومهم عن صلاة الفجر قال « ... ثم أذَّن بلالٌ بالصلاة، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ثم صلى الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم» رواه مسلم. والمقصود بالركعتين ركعتا السُّنَّة لصلاة الفجر، والمقصود بالغداة صلاة الفجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال «حُبِسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب هُوِيَّاً، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل، فلما كُفينا القتال، وذلك قوله {فَى اللهُ المؤْمِنِيْنَ القِتَالَ وكانَ اللهُ قَوِيَّاً عَزِيْزَاً} أَمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالاً فأقام الظهر، فصلاها كما يصليها في وقتها، ثم أقام العصر فصلاها كما يصليها في وقتها، ثم أقام المغرب فصلاها كما يصليها في وقتها» رواه أحمد والنَّسائي وابن خُزَيمة. والأذان في هذه الحالة يُشرع عندما تُشغَلُ الجماعةُ أهلُ المِصر عن الأذان في الوقت نتيجةَ حرب، كما حصل مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجماعة المسلمين في المدينة المنورة في معركة الخندق، أو يُشْغَل أهلُ بلد عن الأذان نتيجة كارثة زلزالٍ مدمِّر أو طوفان مثلاً، فيؤذن عند إقامة الصلاة الفائتة، أما إن أذَّنت الجماعة القاطنة في بلد، وأراد صاحب الفاتئة أن يصلي في غير وقتها المعتاد فلا يحتاج لأذان، وتكفيه الإقامة فحسب. النومُ قبل صلاة العشاء والسَّمَرُ بعدها يُكرَه النومُ قبل العشاء والسَّمَرُ بعدها، فالمسلم يُندب له أن لا ينام قبل أن يصلي صلاة العشاء، وإذا صلاها كُره له أن يسمُر، ونُدب له أن ينام بعدها، فعن أبي بَرزةَ رضي الله عنه قال «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها» رواه البخاري والترمذي. ورواه أبو داود وابن ماجة جزءاً من حديث. وعنه رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبالي بعض تأخير صلاة العشاء إلى نصف الليل، وكان لا يحب النوم قبلها ولا الحديث بعدها» رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 ويباحان لحاجة مثل أن ينام في مصلاه منتظراً الصلاة، فقد كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون في المسجد ينتظرون الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن أنس رضي الله عنه قال «أخَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء ذات ليلة إلى شطر الليل، أو كاد يذهب شطْرُ الليل، ثم جاء فقال: إن الناس قد صلوا وناموا، وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة ... » رواه مسلم والبخاري. ومثل أن يكون مسافراً أو يريد مزيد صلاة أو ما شاكل ذلك، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا سَمَرَ بعد الصلاة، يعني عشاء الآخرة، إلا لأحدِ رجلين: مُصلٍّ أو مسافر» رواه الطبراني، ذكر ذلك الهيثمي، وقال (رجاله ثِقات) . ومثل أن يكون عليه عمل يتطلب منه إنجازه فلا بأس، لما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمُر مع أبي بكر في الأمر مِن أمر المسلمين وأنا معهما» رواه الترمذي وأحمد. الفصل الثاني المساجدُ وأماكن الصلاة فضلُ المساجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 إن مما تفضَّل الله به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المسلمين أن جعل لهم الأرض كلها مسجداً دون الأمم الماضية يُؤدُّون فيها صلواتهم حيثما حلوا أو ارتحلوا، وهذه توسعةٌ ما بعدها توسعةٌ، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «فُضِّلنا على الناس بثلاث: جُعِلتْ صفوفُنا كصفوف الملائكة وجُعِلت لنا الأرضُ كلُّها مسجداً، وجُعِلت تربتها لنا طَهُوراً إذا لم نجد الماء، وذكر خَصلة أخرى» رواه مسلم. وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «جُعِلت لي الأرض طَهوراً ومسجداً، فأيُّما رجلٍ أدركته الصلاة فلْيصلِّ حيث أدركته» رواه أحمد. وكلمة ـ مسجد ـ هنا تعني مكان السجود، أي مكان الصلاة، فأية بقعة من الأرض صلحت للصلاة عليها جاز إطلاق كلمة مسجد عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 أما المسجد، وهو المكان المُعدُّ والمخصَّص للعبادة، فقد ورد في فضله الكثير من النصوص نذكر منها على سبيل المثال قوله تعالى {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ ... } الآية 18 من التوبة. فقد نسب الله سبحانه وتعالى المساجد إليه، وجعل عُمرانها دليلاً على الإيمان به وباليوم الآخر. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قلت: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: المساجد، قلت: وما الرَّتع يا رسول الله؟ قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» رواه الترمذي. وكفى بهذا الوصف فضلاً. وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «مَن غدا إلى المسجد وراح أعد الله له نُزُلَه من الجنة كلما غدا أو راح» رواه البخاري وأحمد. وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من راح إلى مسجد جماعة، فخطوتاه خطوة تمحو سيئة، وخطوة تكتب حسنة، ذاهباً وراجعاً» رواه ابن حِبَّان وأحمد والطبراني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من تطهَّر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه: إحداهُما تحطُّ خطيئة، والأخرى ترفع درجة» رواه مسلم وابن حِبَّان والبيهقي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه ... ورجلٌ قلبُه مُعَلَّق في المساجد ... » رواه البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 أما بناء المساجد فهو شرف وفضل يجزي الله سبحانه عليه الجزاء الأوفى، فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول «من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة» رواه البخاري ومسلم وأحمد. وهذا لا - صلى الله عليه وسلم - يعني أن بناء المساجد هي من التكاليف الفردية، بل إن هذه المهمة هي من الواجبات المفروضة على الدولة الإسلامية، وللمسلمين بعدئذٍ أن يساهموا في بناء المساجد من أموالهم الخاصة. الذهاب إلى المسجد يُستحب لمن سمع الإقامة في المسجد أو عرف حصولها أن يسعى للمسجد بسكينة ووقار ولا يسرع في المشي، ولْيعلم أنه ما دام ساعياً وماشياً فهو في صلاة، أي في حكم المصلي، فيستحب له أن يعتمد ما ينبغي للمصلي اعتماده، ومنه السعي بالسكينة والهدوء وعدم العجلة، فما أدركه من صلاة الجماعة صلاه معهم، وما فاته منها أتمه وحده، فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال «بينما نحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ سمع جَلَبَةَ رجالٍ فلما صلى قال: ما شأنُكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتِمُّوا» رواه البخاري ومسلم وأحمد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار ولا تُسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا ثُوِّبَ للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعَوْن، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتمُّوا، فإنَّ أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة» رواه مسلم. أدب المسجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 المسجد بيت لله عزَّ وجلَّ، فعلى مَن يزوره أن يتأدَّب فيه، ويراعي جملة من الآداب الشرعية، وأول هذه الآداب التَّجمُّل في اللباس والهيئة والتعطُّر، واجتنابُ أكلِ ما تنبعث منه روائح تؤذي المصلِّين، قال تعالى {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... } الآية 31 من سورة الأعراف. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من أكل من هذه البقلة الثوم، وقال مرة: من أكل البصل والثوم والكُرَّاث فلا يقربَنَّ مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم» رواه مسلم. ويُسنُّ الدخول إلى المسجد مبتدئاً بالرِّجل اليمنى، والخروج منه مبتدئاً باليسرى لما رُوى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يقول «من السُّنَّة إذا دخلتَ المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى» رواه الحاكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 وتقول عند الدخول [بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك] وإن زِدْتَ على ذلك بالقول [أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم] فهو خير. وتقول إذا خرجت [اللهم صلِّ وسلِّم على رسول الله، اللهم إني أسألك من فضلك] وإن زدت بالقول [اللهم اعصمني مِن الشيطان الرجيم، أو: اللهم أَجِرني من الشيطان الرجيم] فهو خير، فعن أبي حميد أو أبي أسيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا دخل أحدكم المسجد فلْيقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فلْيقل: اللهم إني أسألك من فضلك» رواه مسلم. ورواه الدارمي بلفظ «إذا دخل أحدكم فليُسلِّم على النبي، ثم ليقل ... » . ورواه ابن ماجة من طريق أبي هريرة، فزادا التسليم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا دخل أحدكم المسجد فلْيصلِّ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليقُل: اللهم أَجِرني من الشيطان الرجيم» رواه الحاكم. فزاد الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم قال: أَقط؟ قلت: نعم، قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان حُفِظ مني سائر اليوم» رواه أبو داود. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلِّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولْيقُل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فلْيسلِّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم» رواه ابن ماجة. ورواه ابن حِبَّان بلفظ «اللهم أَجِرْني» بدل «اللهم اعصمني» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 ويُسن خفض الصوت في المسجد، فلا يرفع المسلم صوته بحديثٍ ولا بدعاءٍ ولا بقراءة القرآن، ولو كان ذلك في أثناء صلاته الفردية، وذلك حتى لا يشوِّش على غيره من المصلِّين، فعن البياضي «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على الناس وهم يصلُّون، وقد علت أصواتُهم بالقراءة فقال: إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعضٍ بالقرآن» رواه مالك وأحمد. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال «اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: ألا إنَّ كلَّكم مناجٍ ربه، فلا يؤذينَّ بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعضٍ في القراءة - أو قال - في الصلاة» رواه أبو داود وأحمد والبيهقي وابن خُزَيمة. أما إن خلا المسجد من ناسٍ يصلون، أو كان المصلون بعيدين عنه فلا بأس بأن يرفع صوته فيه، فعن كعب «أنه تقاضى ابن أبي حَدرَدٍ دَيْنَاً كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سِجْفَ حجرته، فنادى: يا كعب، قال: لبيك يا رسول الله، قال: ضع من دَينك هذا، وأومأ إليه، أي الشطر، قال: لقد فعلتُ يا رسول الله، قال: فقم فاقضه» رواه البخاري ومسلم. فقد ارتفعت أصواتهما في المسجد فلم ينكر عليهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 ويُكره التشبيك بين الأصابع في المسجد لما رُوي أنَّ كعب بن عُجرة قال «دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد، وقد شبَّكت بين أصابعي، فقال لي: يا كعب إذا كنت في المسجد فلا تُشبِّك بين أصابعك، فأنت في صلاة ما انتظرت الصلاة» رواه أحمد. ولما رُوي عن أبي هريرة أنه قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - «إذا توضأ أحدكم في بيته، ثم أتى المسجد، كان في صلاة حتى يرجع، فلا يقل هكذا، وشبَّك بين أصابعه» رواه الحاكم وابن خُزَيمة. ولما رُوي عن أبي سعيد الخُدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا كان أحدُكم في المسجد فلا يُشبِّكنَّ، فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه» رواه أحمد. ويكره اتخاذ المسجد للبيع والشراء، كما يُكره عقدُ الحلقات فيه يوم الجمعة قبل الصلاة، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التحلُّق يوم الجمعة قبل الصلاة، وعن الشراء والبيع في المسجد» رواه النَّسائي. ويحرم التنخم والبصاق في أرض المسجد وجدرانه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «البُزاق في المسجد خطيئة وكفَّارتها دفنُها» رواه البخاري ومسلم وابن خُزَيمة وأحمد وأبو داود. فالتشويش بكلامٍ وإلحاق الأذى بإلقاء القاذورات وأمثال ذلك منهيٌّ عنه، ويشتدُّ النهي عند إقامة الصلوات، أما ما سوى ذلك مما لا يعدُّ تشويشاً، وما ليس فيه تحقيرٌ للمسجد مخالفٌ لواجب احترامه والتأدب فيه فلا بأس به. وقد وردت أعمال وأمور عديدة مما فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته في المسجد كدليل على جوازها، نجتزئ منها ما يلي [النوم، والأكل، والتَّصدُّق على الغير، والتقاضي، واللعب المباح، ومداواة المرضى والجرحى] وهذه أدلتها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 أ- عن عباد بن تميم عن عمه «أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى» رواه البخاري وأحمد ومسلم. ب - عن سهل بن سعد قال «جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شئ فغاضبني فخرج، فلم يَقِلْ عندي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإنسان: انظر أين هو، فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شِقِّه وأصابه تراب، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب» رواه البخاري. ج - عن عبد الله بن الحارث الزبيدي قال «كنا نأكل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الخبز واللحم» رواه ابن ماجة. د - عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: دخلت المسجد فإذا أنا بسائلٍ يسأل، فوجدت كِسرة خبز في يد عبد الرحمن، فأخذتها منه فدفعتها إليه» رواه أبو داود. هـ - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «اليهودُ أتَوْا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم في رجلٍ وامرأة زنيا منهم» رواه أبو داود. وقد مرَّ قبل قليل تقاضي كعب وابن أبي حَدرَد، وقضاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد والحبشة يلعبون فزجرهم عمر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعهم يا عمر فإنهم بنو أرفِدة» رواه أحمد. والمقصود بقوله بنو أرفِدة: أن اللعب عادة هؤلاء الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 ز - عن عائشة رضي الله عنها قالت «أُصيب سعد يوم الخندق في الأكحل، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - خيمةً في المسجد ليعوده من قريب ... » رواه البخاري. ولو علِمنا أن المسجد كان مكان سكنٍ لفقراء المسلمين، وهم المُسمَّون بأهل الصُّفَّة، لأدركنا أنَّ كل الأعمال التي يُقام بها في البيوت مما له علاقة بالعيش، جائزٌ فعلُها فيه، ولو تذكَّرنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وهو رئيس الدولة - كان يتخذ المسجد دار حكم يدير فيه شؤون دولته من عقد الرايات، وبعث السرايا والبعوث، وربط الأسرى واستقبال الوفود، وتوزيع الأموال، وتصفُّح أعمال الولاة والعمال والموظفين، وتعليم المسلمين أحكام دينهم، لأدركنا أنَّ كل أعمال المسلمين من رعايا وحكام جائزٌ فعلُها في المسجد، ويُخْطِئ مَن يَقْصُر المساجد على أداء الصلوات ومتعلقاتها فحسب. أما ما عليه المساجد وما يفعله المسلمون فيها في أيامنا المعاصرة من تشييدٍ وزخرفةٍ، وتعليقِ آيات القرآن الكريم وكتابتها على الجدران، وتنميقِ المنابر والمحاريب، بحيث تبدو كالقصور الفخمة وقاعات الاستقبال في جمالها وزخارفها، فهو خلاف السنَّة، وربما وصل إلى حد الحرمة، وذلك لأن مثل هذه الأمور تفتن المُصلَّين وتشغلهم وتُلهيهم عن الصلوات وما فيها من خشوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 وأُنوِّه هنا بتعليق أسماء الله سبحانه وآياتِ القرآن الكريم وكتابتها على الجدران والمحاريب والمنابر، فأقول إنَّ هذه أمورٌ ما عُهدت في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا في زمن الخلفاء الراشدين، ولو كان فيها الخير، أو لو كانت مستحبَّةً لسبقونا إليها، وهم السبَّاقون إلى كل فضل وفضيلة، لهذا فإن المساجد ينبغي أن تخلو من كل هذه الكتابات والزخارف لتعود إلى بساطتها الأولى، فقد روى ابن عباس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «ما أُمرتُ بتشييد المساجد. قال ابن عباس: لَتُزَخْرِفُنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى» رواه أبو داود. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» رواه أحمد والدارمي. وروت أُم عثمان بنت سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال « ... إنه لا ينبغي أن يكون في البيت شئ يُلهي المُصلِّين» رواه أحمد. والبيت هنا هو المسجد الحرام. أفضل المساجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 كل المساجد تستوي في الفضل إلا أربعة، فإن لها مزيد فضل، وهذه المساجد مرتَّبةً حسب الفضل هي: المسجد الحرام بمكة والصلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة، والمسجد النبوي بالمدينة والصلاة فيه تعدل ألف صلاة، والمسجد الأقصى بالقدس واختلفت الروايات في فضل الصلاة فيه، فورد أن الصلاة فيه تعدل ألف صلاة، وورد أن الصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة، ثم مسجد قُباء بالمدينة، والصلاة فيه تعدل عُمرة. والمساجد الثلاثة الأولى هي وحدها التي تُشَدُّ إليها الرِّحال، أي يُسافَر إليها قصدَ العبادة فيها والصلاة، ولا يُشرع السفر قصدَ العبادة إلى غيرها من المساجد، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تُشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجدِ الحرام، ومسجدِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومسجدِ الأقصى» رواه البخاري. وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «صلاةٌ في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاةٌ في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه» رواه ابن ماجة. وعن ميمونة مولاةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت «قلت: يا رسول الله أَفتِنا في بيت المقدس، قال: أرض المَحْشَر والمَنْشَر ائتوه فصلُّوا فيه، فإن صلاةً فيه كألف صلاة في غيره، قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمَّل إليه؟ قال: فتهدي له زيتاً يُسرَج فيه، فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه» رواه ابن ماجة. قوله أتحمَّل إليه: أي أرتحل إليه. وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة» رواه البزَّار. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أن سليمان بن داود سأل الله تبارك وتعالى ثلاثاً، فأعطاه اثنتين، وأرجو أن يكون قد أعطاه الثالثة، سأله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 مُلْكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده فأعطاه إياه، وسأله حكماً يُواطئ حكمَه فأعطاه إياه، وسأله مَن أتى هذا البيت يريد بيت المقدس لا يريد إلا الصلاة فيه أن يخرج منه كيوم ولدته أمُّه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأرجو أن يكون قد أعطاه الثالث» رواه ابن حِبَّان. وعن أسيد بن ظهير الأنصاري رضي الله عنه - وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - - يُحدِّث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «صلاةٌ في مسجد قُباء كعُمْرةٍ» رواه ابن ماجة. ورواه الترمذي بلفظ «الصلاة في مسجد قُبا كعُمْرةٍ» بدون الهمزة. الصلاةُ على غير الأرض تجوز الصلاة على أي شئ طاهر، تراباً كان أو صخراً أو ثلجاً أو خشباً أو بساطاً كان أو حصيراً أو ثياباً أو فراشاً دون فارق بينها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال «سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في السفينة؟ فقال: كيف أصلي في السفينة؟ فقال: صلِّ فيها قائماً إلا أن تخاف الغرق» رواه البزار. والصلاة في السفينة هي صلاة على الخشب. وعن أبي سعيد رضي الله عنه «أنه دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فرأيته يصلي على حصير يسجد عليه ... » رواه مسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيت أُمِّ حرامٍ على بساط» رواه أحمد والبيهقي. وعنه رضي الله عنه قال «كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدُنا أن يُمكِّن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه» رواه البخاري ومسلم. وروت عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي، وهي بينه وبين القِبْلة، على فراشِ أهله اعتراض الجنائز» رواه البخاري. وروى البخاري أن ابن عمر رضي الله عنه صلى على الثلج. الصلاة على الكرسي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 منذ سني التسعينيات من القرن المنصرم انتشرت ظاهرة الصلاة على الكراسي في المساجد وفي البيوت، حتى لم تعد ترى مسجداً يخلو من أعدادٍ من الكراسي المعدَّة للصلاة، ولم تكن هذه الظاهرة تُلحظ قبل ذلك إلا نادراً، والسؤال هنا هو ما حكم الصلاة على الكرسي، وهل من دليل شرعي على جوازها؟ وللجواب على هذا السؤال أقول ما يلي: باستعراض النصوص ذات العلاقة بهذه المسألة نتبين أن الصلاة على الكرسي غير مشروعة في صلاة الفريضة أو المكتوبة، وجائزة ومشروعة فقط في صلاة التطوع أو النافلة، وللمريض الذي إذا جلس على الأرض لا يستطيع السجود على الأرض. وهذه هي الأدلة: أ - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته حيث توجهت، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة» رواه البخاري ومسلم. ب - عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبِّح وهو على راحلته، ويومئ إيماءً قِبَلَ أيَّ وجهٍ توجَّه، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة» رواه البيهقي والبخاري ومسلم. ج - عن سالم بن عبد الله عن أبيه - عبد الله بن عمر - رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبِّح على الراحلة قِبلَ أيِّ وجهٍ توجَّه ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة» رواه مسلم والبخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 تدل هذه الأحاديث الثلاثة على وجود فارق في الصلاة بين المكتوبة والتطوع، هذا الفارق هو أن صلاة التطوع - وعُبِّر عنها بالتسبيح في الحديثين ب، ج - يصح تأديتها على ظهر الدابة، بينما يتوجب أداء الفريضة على الأرض، وطبعاً على هيآتها المعلومة، «فإذا أراد الفريضة نزل» «ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة» «غير أنه لا يصلي عليها - أي على الدابة - المكتوبة» وهذه نصوص بالغة الوضوح على أن صلاة الفريضة لا تؤدَّى إلا على الأرض، ولا يُشرع أداؤها على ظهر الدابة. وحيث أن الجلوس على ظهر الدابة والجلوس على الكرسي شئ واحد وفعل واحد، لأن كلا الفعلين جلوس المرء على مقعدته وترك رجليه تتدليان إلى أسفل، فإن هذين الفعلين يشتركان في حكم شرعي واحد، وأن ما ينطبق على أحدهما ينطبق على الآخر، هذا الحكم الشرعي هو الجواز والإباحة في صلاة التطوع فحسب، فمن أراد أن يصلي تطوعاً ونافلةً جاز له ذلك وهو جالس على الكرسي، كما جاز له ذلك وهو جالس على ظهر دابة سواء بسواء، وتكون صلاته صحيحة متقبَّلة. أما صلاة الفريضة أو المكتوبة فلم يُشرع أداؤها على ظهر الدابة، كما لم يشرع أداؤها على الكرسي، لأن الفعلين فعل واحد في واقعهما، ولم يُرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صلى الفريضة أبداً وهو على ظهر دابته، أو وهو جالس على كرسي، وإنما جاءت النصوص تذكر فقط أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي على ظهر دابته صلاة التطوع فحسب. وليس ذلك فقط، وإنما تذكر هذه النصوص أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يصلي الفريضة وهو راكبٌ دابته نزل عنها وصلاها على الأرض، ولو كانت صلاة الفريضة تصح على ظهر الدابة لأدَّاها ولو مرة واحدة ليدل ذلك على الجواز، فلما لم يفعل ذلك مرة واحدة، والتزم في كل مرة بأداء المكتوبة على الأرض فإن ذلك دليل واضح على أن الصلاة المكتوبة تُؤدَّى على الأرض فحسب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 أما لماذا جعلنا الجلوس على ظهر الدابة كالجلوس على الكرسي وأعطيناهما حكماً واحداً غير ما مرَّ، فالجواب عليه ما رواه معاذ بن أنس، وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه ذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «اركبوا هذه الدواب سالمةً وابتدعوها سالمةً، ولا تتخذوها كراسي» رواه أحمد والدارمي والطبراني والحاكم وأبو يعلى. وفي رواية أخرى لأحمد بلفظ «إركبوها سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق ... » فقد ذكر لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ركوب الدابة هو اتخاذها كرسياً، وأن الجلوس على ظهور الدواب هو جلوس على الكراسي، وبذلك يكون قد ثبت لنا واقعياً وشرعياً أن ركوب الدواب والجلوس على الكراسي فعل واحد، وبالتالي يكون قد ثبت لنا أن ما ينطبق على أحدهما ينطبق على الآخر دون أي فارق، وأن حكم أحدهما هو حكم الآخر تماماً. والخلاصة هي أن الصلاة على الكرسي جائزة ومشروعة فقط في صلاة التطوع، وغير جائزة وغير مشروعة في صلاة الفريضة، وهذا الحكم عامٌّ ينطبق على السليم كما ينطبق على المريض، فكما أن السليم يصلي الفريضة على الأرض فإن المريض يتوجب عليه هو الآخر أن يصلي الفريضة على الأرض. ونقف هنا وقفة عند صلاة المريض فنقول: إن الأصل في المريض أن يمكِّن جبهتَه من الأرض في سجوده، سواء كان يصلي واقفاً كالسليم أو جالساً إن كان لا يقوى على الوقوف، إلا أنْ لا يتمكن هذا المريض من السجود على الأرض فيومئ عندئذٍ إيماءً، وهذا الموضوع تجدونه مفصَّلاً في بحث [صلاة المريض] في [الفصل العاشر] فلا نعيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 فالمريض ينبغي عليه أن يسجد على الأرض في كل أحواله إن كان قادراً على ذلك، ولا عذر له بترك السجود على الأرض إلا في حالة عدم تمكُّنِهِ من ذلك، وبدون هذه الحالة فإنه مطالَبٌ بالسجود على الأرض، فإن ترك السجود ولم يُؤدِّه على الأرض فقد بطلت صلاته إلا في حالة عجزه عن ذلك كما أسلفنا. وهنا نقول بخصوص صلاة المريض على الكرسي ما يلي: هذا المريض الجالس على الكرسي في صلاة الفريضة يُنظَرُ فيه فإن كان يستطيع السجود على الأرض في أية كيفية من كيفيات الجلوس كالجلوس متربعاً أو مفترشاً أو متورِّكاً فإنه لا يعذر بترك السجود مطلقاً، وعندئذٍ لا تصح صلاته على الكرسي لأن هذه الصلاة لا يستطيع المريض فيها من السجود على الأرض، فصلاته على الكرسي تحول بينه وبين أداء السجود الواجب عليه والقادر عليه. أما إن كان المريض لا يقوى على السجود على الأرض مطلقاً مهما حاول ذلك واتخذ أوضاعاً عدة لجلوسه، فعندها، وعندها فقط يجوز له أن يصلي على الكرسي، لأن صلاته على الكرسي لم تحُلْ دون قيامه بالسجود على الأرض الذي لم يَعُدْ يقوى عليه، فهي رخصة له أرجو الله سبحانه أن يقبلها منه. المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 هذه المواضع هي المقبرة، والحمَّام، والمكان النجس كالمرحاض والمزبلة، والمكان الذي فيه تماثيلُ لأُناسٍ أو حيوانات، والمسجد الذي بُني للإضرار بالمسلمين وبالإسلام كمسجد الضِّرار، وما سوى ذلك من المواضع لا تحرم الصلاة فيها، فعن أبي مرثد ألغَنَوي رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» رواه مسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي وأحمد. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الأرض كلُّها مسجد إلا الحمَّام والمقبرة» رواه أبو داود وابن حِبَّان وابن خُزَيمة، ورواه الدارمي وزاد «قيل لأبي محمد: تجزئ الصلاةُ في المقبرة؟ قال: إذا لم تكن على القبر فنعم» . وجاء في صحيح البخاري «ورأى عمر أنس بن مالك يصلي عند قبر، فقال: القبرَ القبرَ، ولم يأمره بالإعادة» . وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت أبا طلحة يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة تماثيل» رواه البخاري. وروى البخاري «كان ابن عباس يصلي في بيعة إلا بيعةً فيها تماثيل» . والمعلوم أن الأصنام كانت عبارة عن تماثيل، قال تعالى {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيْلُ التي أَنْتُمْ لهَا عَاكِفُونَ} الآية 52 من سورة الأنبياء. وقد كثرت التماثيل في بيوت المُسلمين في زمننا هذا زيَّنوا بها صالاتِ بيوتهم، وغرفَ استقبال ضيوفهم، مما يجعل الصلاة في هذه البيوت حراماً، دون أن يتنبَّه المسلمون إلى هذا الذنب الكبير، وقال تعالى {والذِيْنَ اتَّخَذُوا مَسْجِدَاً ضِرَارَاً وكُفْرَاً وتَفْرِيْقَاً بيَن المُؤْمِنِيْنَ وإرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ ورَسَولَهُ مِنْ قَبْلُ ولَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلا الحُسْنَى واللهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُوْنَ. لا تَقُمْ فِيْهِ أَبَدَاً ... } الآيتان 107، 108 من سورة التوبة. فمسجد الضِّرار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 يطلق على كل مسجد بُني لغير وجه الله سبحانه مثل أن يُقصَدَ من بنائه الإضرارُ بالمسلمين، واتخاذُه مركزاً للتآمر عليهم أو على دينهم، فهذا المسجد لا يكفي عدم الصلاة فيه، بل يُهدم ويُنقض من أساسه. أما حرمة الصلاة في المكان النجس فمعلومةٌ من الدين بالضرورة، ويمكن مراجعة الموضوع في بحث [حكم النجاسة في الصلاة] في الفصل الرابع. هذه هي الأماكن الخمسة التي تحرم فيها الصلاة ولا تجوز، ولكن إن صلى المسلم في أحد هذه الأماكن صحت صلاته مع الإثم ولا إعادة عليه، لأنه لم يَرِد في أيٍّ منها نصٌّ يعتبرها من مبطلات الصلاة. المواضعُ التي تُكره فيها الصلاة هي أربعة مواضع: أـ المكان الذي فيه إلهاءٌ وإشغالٌ للمصلِّي: كأماكن اللهو واللعب، والمساكن ذات الرسومات والنقوش، والطرق العامرة بالناس، والأسواق الصاخبة وغيرها. ب ـ معاطن الإبل. ج ـ ما بين السواري وأعمدة المساجد. د ـ المكان المُوَطَّن لصاحبه. فهذه المواضع الأربعة تُكره فيها الصلاة، دون أن تصل إلى حدِّ الحُرمة. أما كراهة الصلاة في المكان الذي فيه إلهاءٌ وإشغالٌ للمصلِّي فلِما روى مسلم والبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت «قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في خميصةٍ ذاتِ أَعلام، فنظر إلى عَلَمها، فلما قضى صلاته قال: اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جهم ابن حُذَيفة، وائتوني بأَنْبِجَانِيَّة، فإنها ألهتني آنفاً في صلاتي» . والأنبِجانِيَّة: هي كساء غليظ لا رسوم فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 أما كراهة الصلاة في معاطن الإبل فلِعلَّة خوف الأذى ولحوق الضرر بالمصلي من شرور الإبل، لأن مَن يصلي بين الإبل تبقى نفسه متوترة خائفة مما يؤثِّر في الخشوع والطمأنينة في الصلاة، فعن ابن مُغَفَّل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «لا تُصلُّوا في عطن الإبل فإنها من الجن خُلقت، ألاَ ترون عيونها وهِبابها إذا نفرت؟ وصلوا في مُراح الغنم فإنها هي أقرب من الرحمة» رواه أحمد والطبراني. قوله هِبابها: أي نشاطها وكثرة حركتها. فالعلة هي الخوف من نفور الإبل وما يستتبع ذلك من إيذاء الناس. أما كراهة الصلاة في المساجد بين الأعمدة فلِما رُوي عن عبد الحميد بن محمود أنه قال «صليت مع أنس بن مالك يوم الجمعة فدُفعنا إلى السواري، فتقدمنا أو تأخرنا، فقال أنس: كنا نتَّقي هذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه أحمد وأبو داود. ورواه الترمذي بلفظ «صلينا خلف أمير من الأمراء، فاضطرنا الناسُ، فصلينا بين الساريتين، فلما صلينا قال أنس بن مالك: كنا نتَّقي ... » ولِما رُوي عن معاوية بن قُرَّة عن أبيه أنه قال «كنا نُنهَى عن الصلاة بين السواري، ونُطرد عنها طرداً» رواه ابن خُزَيمة وابن ماجة وابن حِبَّان. وهذا الحكم خاص بصلاة الجماعة، أما صلاة المنفرد فجائزة بين السواري دون كراهة، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال «دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت، وأسامة بن زيد وعثمان ابن طلحة وبلال، فأطال ثم خرج، وكنت أول الناس دخل على أَثَرِهِ، فسألت بلالاً: أين صلى؟ قال: بين العمودين المُقَدَّمَين» رواه البخاري ومسلم وأحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وأما اتخاذ موطنٍ واحدٍ في المسجد دون غيره للصلاة فيه فمكروه، وذلك لِما رُوي عن عبد الرحمن بن شبل أنه قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُوَطِّن الرجل المكان يصلي فيه كما يوطِّن البعير» رواه ابن أبي شيبة. ورواه أحمد وابن ماجة بلفظ «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى في الصلاة عن ثلاث: نَقْر الغراب، وافتراش السَّبُع، وأن يوطِّن الرجل المقام الواحد كإيطان البعير» . قوله نَقْر الغراب: هو كناية عن تخفيف السجود والإسراع فيه. ومعنى قوله فرشة السبُع في رواية ابن ماجة وافتراش السبُع في رواية أحمد: هو أن يبسُطَ المصلي ذراعيه على الأرض في السجود ولا يرفعهما كفعل الكلب والذئب. ومعنى أن يوطِّن الرجل المقام الواحد: هو أن يتخذ من المسجد مكاناً معيناً يصلي فيه دون غيره، كما يفعل البعير، لا يبرك إلا في مبركٍ واحد لا يغيِّره. ومما يدل على أن النهي للكراهة دون التحريم هو ما رُوي عن سلمة بن الأكوع «أنه كان يأتي إلى سُبحة الضحى، فيعمد إلى الاسطوانة دون المصحف فيصلي قريباً منها، فأقول له ـ الراوي عنه ـ: أَلاَ تصلي ها هنا؟ وأشير إلى بعض نواحي المسجد، فيقول: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرَّى هذا المقام» رواه ابن ماجة. فكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتحرى مكاناً يصلي فيه يصرف النهي عن التوطين إلى الكراهة. حُرمةُ اتخاذ القبور مساجد قلنا في بحث [المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها] إن المقبرة لا تجوز فيها الصلاة، ونريد هنا أن نفصِّل القول في هذا الموضوع الخطير الذي تجاوز فيه كثير من المسلمين كل حدٍّ، فبَنَوْا مساجد على القبور، وصاروا يتوسَّلون إلى الله بأصحابها في أدعيتهم، ويقيمون حولها الطقوس الوثنية فنقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 هنالك فارق بين من يصلي في مقبرة، وبين مَن يصلي في مكان فيه قبر أو عدة قبور من أجل هذا القبر أو القبور ظناً منه أن الصلاة هناك أفضل وأعظم بركة وأَدعَى للقبول والاستجابة، ذلك أن الصلاة في المقبرة حرام - ونعني بالمقبرة الأرض المخصصة لدفن الموتى، وأما الأرض التي دفن فيها ميت أو اثنان وبقيت مستعملة في غير شأن الدفن من زراعة وبناء وعمران فهي ليست مقبرة، وبالتالي فإن الصلاة تصح فيها ولا تحرم، فالمكان المخصص لدفن الموتى ودُفن فيه أموات بالفعل هو المقبرة بغض النظر عن كثرة القبور فيها أو قلَّتِها - نعم إن الصلاة في المقبرة حرام، بغض النظر عن كون المصلي يصلي فوق القبر أو في بقعة من المقبرة لا قبور فيها ما دامت مقبرة وتحمل اسم المقبرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 أما الصلاة على القبر لذات القبر رجاء نوال بركته أو اتخاذه مسجداً فالحرمة أعظم والذنب أكبر، فعن جُندُب رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول « ... إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتَّخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك» رواه مسلم. وعن عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن عباس رضي الله عنه قالا «لما نزلت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمَّ كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: لعنةُ الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يُحذِّر مثل ما صنعوا» رواه مسلم. ورواه أحمد بمعناه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» رواه مسلم والبخاري. وفي رواية أخرى لمسلم والبخاري من طريق أبي هريرة «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» رواه ابن حِبَّان وأحمد والنسائي. وعن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتدَّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» رواه مالك بسند سقط منه اسم الصحابي، وسقوط اسم الصحابي لا يضرُّ لأنهم كلَّهم عدول. وعن عبد الله - بن مسعود - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن مِن شرار الناس مَن تدركهم الساعة وهم أحياء، ومَن يتخذ القبور مساجد» رواه ابن خُزَيمة وأحمد وابن حِبَّان. فقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد، أي أماكن للصلاة، وذم من يفعل ذلك، وقال [لعنة الله] ، [قاتل الله] [لعن الله] ، [اشتد غضبُ الله] ، [إن من شرار الناس] ، وهذه أبلغ صيغٍ ممكنة في النهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 والذم، وفي التحريم. وهذه الصيغ العديدة الشديدة المشار إليها وهذا التغليظ في التحريم لم يصل إليها النهي عن الصلاة في المقابر مما يشعر بالفارق بينهما. فكل مسجد بُني على قبر نبي أو قبرِ صالحٍ من صحابة وأئمة من أجل ذلك القبر لا تجوز الصلاة فيه، ويجب هدمه مثله مثل مسجد الضِّرار، وانظر في قوله عليه الصلاة والسلام «اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد» . ففيه إشارة إلى الوثنية المتَّخَذة حيال هذه القبور، من طوافٍ حولها، وتقديمٍ للأموال عندها، وتمسُّحِ بها، وتوسُّلِ بها وعندها، إلى غير ذلك من الطقوس الوثنية. وكأمثلة على هذه القبور، وما بُني عليها من مساجد: المسجد الإبراهيمي في الخليل، ومساجد الصحابة في غور الأردن وفي مُؤتة، ومساجد في القاهرة، ومساجد كثيرة في العراق وإيران، فهذه المساجد لا تحلُّ الصلاة فيها، ويجب هدمها أو على الأقل إغلاقها، وتخليص المسلمين من فتنتها. وكما قلنا بخصوص مسجد الضِّرار والمقبرة والحمام والمكان النجس والمكان الذي فيه تماثيل، نقول بخصوص المساجد على القبور، فهذه الأماكن كلها تحرم الصلاة فيها، ولكن من صلى فيها صحت صلاته مع الإثم، ولا تجب عليه الإعادة، يراجع صدر البحث [المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها] المار قبل قليل. تحويلُ معابد الكفار ومقابرهم إلى مساجد يجوز تحويل كنائس النصارى وبِيَع اليهود ومعابد الهِندوس وسائر معابد الكفار إلى مساجد، بعد إزالة ما فيها من منكرات: كالأصنام والتماثيل والصُّلبان وشعارات الكفر، فعن عثمان بن أبي العاص «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجعل مساجد الطائف حيث كانت طواغيتهم» رواه أبو داود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 كما يجوز تحويل مقابر الكفار إلى مساجد بعد نبشها وتنظيفها من رُفاتهم، فقد روى أنس رضي الله عنه ـ في قصة بناء الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسجده عند قدومه إلى المدينة ـ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «يا بني النجار ثامِنوني بحائطكم هذا، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، فقال أنس: فكان فيه ما أقول لكم قبور المشركين، وفيه خِرَبٌ، وفيه نخل فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين فنُبشت ثم بالخِرَب فسُوِّيت، وبالنخل فقُطع، فصفُّوا النخل قِبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون ... » رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي. ولا يكون هذا التحويل لمعابد الكفار جبراً عنهم وتعدياً على حقوق أهل الذمة في العبادة، فإن هذا لا يجوز شرعاً، وإنما يجوز ذلك بعدما يُسلم الكفار، أو يهجروا المعبد، أو يكونوا قد بنوا معبدهم خلاف أحكام أهل الذمة، ففي هذه الحالات يقوم المسلمون بتحويل هذا المعبد إلى مسجد، أو إلى أية دائرة من دوائر الدولة. الفصل الثالث الأذان: حكمُها وألفاظُه فرضُ الأذان وألفاظُه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 فُرِض الأذان في السنة الأولى للهجرة في المدينة المنورة، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال «كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيَّنون الصلوات وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتَّخِذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: قَرناً مثل قَرن اليهود، فقال عمر: أَوَلا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا بلال قم فنادِ بالصلاة» رواه مسلم والبخاري وأحمد والنَّسائي والترمذي. وقد رأى صيغةَ الأذان صحابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فأقرَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بلالاً ينادي بها بالصلاة، فعن عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه قال «لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس لِيُضرَبَ به للناس في الجمع للصلاة - وفي رواية وهو كاره لموافقته النصارى - طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده، فقلت له: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: ما تصنع به؟ قال فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلُّك على ما هو خير من ذلك؟ قال فقلت له: بلى، قال تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أنَّ محمداً رسول الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله ثم استأخر غير بعيد، ثم قال: تقول إذا أُقيمت الصلاة: الله أكبر، الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أنَّ محمداً رسول الله حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح قد قامت الصلاةُ، قد قامت الصلاةُ الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 فلما أصبحتُ أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما رأيت، فقال: إنها لَرُؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فأَلقِ عليه ما رأيت فَلْيُؤذِّن به فإنه أندى صوتاً منك، قال فقمت مع بلال، فجعلت أُلقيه عليه ويُؤذِّن به، قال فسمع بذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيتُ مثل الذي أُرِي، قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلله الحمد» . وعنه من طريق ثان بنحوه - وزاد «ثم أمر بالتأذين، فكان بلال مولى أبي بكر يؤذن بذلك ويدعو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة، قال، فجاءه فدعاه ذات غداة إلى الفجر فقيل له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نائم، قال: فصرخ بلال بأعلى صوته: الصلاةُ خيرٌ من النوم، قال سعيد بن المسيِّب: فأُدخلتْ هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر» رواه أحمد وابن ماجة وابن خُزَيمة وابن حِبَّان. وأخرج الطريق الثانية أحمد والحاكم. حديث عبد الله بن زيد هذا يذكر كلمات الأذان - وهو ما كان بلال يؤذِّن به - خمس عشرة، ويذكر كلمات الإقامة إحدى عشرة، وهذا هو ما نذهب إليه ونقول به فبلال رضي الله عنه كان مؤذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - طيلة حياته، وإذن فإن أذان بلال هو المعتبر والأخذ به متعيِّن. إلا أن عدداً من الأئمة والفقهاء لم يأخذوا بهذا الأذان، وإنما أخذوا بأذان أبي محذورة، بدعوى أن أبا محذورة تعلَّم الأذان عند فتح مكة في السنة السابعة للهجرة، في حين أن أذان عبد الله بن زيد قد شُرع عند بدء الهجرة، فيكون أذان أبي محذورة متأخراً على أذان عبد الله بن زيد، فوجب عندهم الأخذ به - أعني أذان أبي محذورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 والناظر في الأحاديث يجد أن الروايات عن أبي محذورة لم تتفق على صيغة واحدة كما هو الحال في الروايات عن عبد الله بن زيد، فنجد روايةً تأتي بتسع عشرة كلمة، وأخرى تأتي بسبع عشرة. فعن أبي محذورة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علَّمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة، الأذان: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله والإقامة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي والدارمي. وقد أخذ الإمام الشافعي بهذه الصيغة للأذان، أي بصيغة التسع عشرة كلمة. وعن أبي محذورة «أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - علَّمه هذا الأذان. الله أكبر، الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله ــ مرتين أشهد أن محمداً رسول الله ــ مرتين حيَّ على الصلاة ــ مرتين حيَّ على الفلاح ــ مرتين زاد إسحق: الله أكبر ــ الله أكبر لا إله إلا الله» رواه مسلم والنَّسائي. وقد أخذ الإمام مالك بهذه الصيغة للأذان، أي بصيغة السبع عشرة كلمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وإذن فإن الروايات المروية عن أبي محذورة لم تتفق على صيغة واحدة، في حين أن الروايات المروية عن عبد الله بن زيد قد جاءت بصيغة واحدة، هي صيغة خمس عشرة كلمة للأذان، وهذا مرجِّح معتبر. ثم إن الناظر المدقق في روايات أبي محذورة يجد أنه يمكن الجمع بينها وبين رواية عبد الله ابن زيد لتصبح الصيغة المشتركة بينها جميعاً خمس عشرة كلمة، وذلك بالقول إن التكرار الوارد في روايات أبي محذورة - أعني تكرار الشهادتين - ليس القصد منه أن يكون ثابتاً مكرَّراً في الأذان كما فهم الكثيرون، وإنما حصل هذا التكرار من أجل التعليم، فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما لقَّن أبا محذورة كلمات الأذان، ونطق أبو محذورة بالشهادتين، نطقهما بصوت منخفضٍ مغايرٍ لصوته عند النطق بالتكبير، فأمره بالإعادة وأن يرفع صوته، فظنَّ أن تكرار النطق بالشهادتين مقصودٌ لذاته وليس ذلك كذلك، وإنما هو من فعل معلِّم مع تلميذه عندما يؤدي التلميذُ المطلوبَ منه بشكل خاطئ، فيقوم المعلم بتصحيحه بالأمر بالإعادة، وبهذا الفهم نقوم بالجمع بين روايات أبي محذورة وعبد الله بن زيد بخصوص كلمات الأذان. استمعوا إلى أبي محذورة وهو يقول إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - «علَّمه هذا الأذان» ، «علَّمه الأذان» ووقع في رواية عند النَّسائي «أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: اذهب فأذِّن عند البيت الحرام، قلت: كيف يا رسول الله؟ فعلَّمني كما تؤذِّنون الآن بها» . ثم إن النَّسائي أورد رواية أخرى ذكر فيها كيف التقى أبو محذورة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفرٍ ببعض طريق حنين، إلى أن قال « ... فألقى عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - التأذين هو بنفسه، قال قل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله ثم قال: ارجع فامْدُد صوتك، ثم قال قل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صُرةً فيها شئ من فضة ... » . ووقع في رواية لأبي داود «ثم ارجع فمُدَّ من صوتك» وفي رواية لأحمد «ارجع فامْدُدْ من صوتك» وفي رواية لابن ماجة «ارفع من صوتك» . فقوله (ارجع) واضح فيه التعليم، وأنه أراد من أبي محذورة أن يتدارك الخطأ في الأداء بالعودة إلى الأداء الصحيح، وهو رفع الصوت ومدُّهُ عند التأذين، وإذن فإن القصد من التكرار هو تصويب الخطأ في الأداء، وليس زيادة كلماتٍ بتكرارها بالأذان، وبهذا الفهم يصبح أذان أبي محذورة كأذان عبد الله بن زيد تماماً خمسَ عشرةَ كلمةً، والجمع بين الأحاديث واجب ما دام ممكناً، وهنا أمكننا أن نجمع بين الروايات المنقولة عن أبي محذورة وعن عبد الله بن زيد. وقد ذهب الأحناف إلى هذا الفهم. وإذا أُذِّن لصلاة الصبح زيدت كلمة [الصلاةُ خيرٌ من النوم] مرَّتين عقب كلمة [حيَّ على الفلاح] لما جاء في حديث عبد الله بن زيد، ولما روى أبو محذورة رضي الله عنه قال «قلت: يا رسول الله علِّمني سُنَّة الأذان، قال ... فإن كان صلاةُ الصبح قلتَ: الصلاةُ خيرٌ من النوم، الصلاةُ خيرٌ من النوم» رواه أبو داود وأحمد وابن حِبَّان والبيهقي وابن خُزيمة. ولما روى أبو محذورة رضي الله عنه قال «كنت أُؤَذِّن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح، فإذا قلتُ: حيَّ على الفلاح قلتُ: الصلاةُ خيرٌ من النوم، الصلاةُ خيرٌ من النوم، الأذان الأول» رواه أحمد والنَّسائي والبيهقي. ولما رُوي عن أنس أنه قال «من السُّنَّة إذا قال المؤذن في أذان الفجر: حيَّ على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم» رواه ابن خُزيمة والدارقطني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 هذه هي كلمات الأذان المختار فحسب، فيُوقف عندها ولا يُزاد عليها من مثل [حيَّ على خير العمل] عقب [حيَّ على الفلاح] ، ومن مثل الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الأذان، فهذه الزيادات وأمثالها لم تصحَّ فيها أحاديثُ فتترك، ولا ينبغي أن يُلحِق المؤذِّنُ بالأذانِ الصلاةَ على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحجة ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا عليَّ ... » رواه مسلم. وسيمرُّ بتمامه قريباً، فإن هذا النص لا دلالة فيه على ذلك، وإنما يدل على أن الصلاة هذه يقولها من سمعوا الأذان وليس المؤذن نفسه، فإن أحب المؤذن أن يقولها فلا بأس بشرط أن لا يجعلها من صيغة الأذان، وإنما يقولها في نفسه ولا يرفعها بصوت عال. فضلُ الأذان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 فضل الأذان عظيم وثوابُ رفعِهِ كبير، فقد روى البَرَاء بن عازب رضي الله عنه «أنَّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال ... والمُؤذن يُغفرُ له مدَّ صوته، ويصدِّقه مَن سمعه من رطبٍ ويابس، وله مثل أجر من صلى معه» رواه أحمد والنَّسائي. ويتحصل كمال الفضل للمؤذن إن هو لم يأخذ أجرةً على التأذين وأدَّاه احتساباً، فعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال «يا رسول الله اجعلني إمامَ قومي، قال: أنت إمامُهم واقتدِ بأضعفهم، واتَّخذْ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً» رواه أبو داود وأحمد. ويكفي المؤذن شرفاً وفضلاً أنه يكون بين الناس يوم القيامة أطولهم عنقاً، فعن معاوية قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «المؤذنون أطولُ الناس أعناقاً يوم القيامة» رواه مسلم. ولكن إنْ أخذ المؤذن أُجرة على التأذين فإنَّ ذلك يجوز، فعن أبي محذورة - من حديث طويل - قال « ... فألقى إليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - التأذين هو نفسه ... ثم دعاني حين قضيتُ التأذين، فأعطاني صُرَّةً فيها شئ من فضة ... » رواه أحمد والنَّسائي وابن ماجة وابن حِبَّان وأبو داود. حكمُ الأذان الأذان فرضٌ على الكفاية على أهل الأمصار من مدن وقرى دون مَن كانوا في مزارعهم ومتنزهاتهم أو كانوا مسافرين، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «ما مِن ثلاثةٍ في قرية فلا يُؤذَّن ولا تُقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان ... » رواه أحمد. فقد قال (في قرية) . وروى مالك أن ابن عمر كان يقول «إنما الأذان للإمام الذي يجتمع الناس إليه» . وروى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «إقامةُ المِصر تكفي» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 والأذان من شعائر الإسلام، فقد روى أنس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كفَّ عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم» رواه البخاري. وإذا كان التأذين فرض كفاية على سكان البلدان، فإنه مندوب للمسافرين والمنفردين والمنتشرين في الحقول، فعن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري أن أبا سعيد الخُدري قال له «إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فارفعْ صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جنٌّ ولا إنس ولا شئ إلا يشهد له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه البخاري وأحمد والنَّسائي وابن ماجة ومالك. وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «يُعجَب ربُّك من راعي غنم في رأس الشَّظيَّة للجبل يؤذِّن للصلاة ويصلي، فيقول الله: انظروا إلى عبدي هذا يؤذِّن ويقيم الصلاة يخاف مني، قد غفرتُ لعبدي وأدخلته الجنة» رواه ابن حِبَّان وأحمد وأبو داود والنَّسائي. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً وهو في مسيرٍ له يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: على الفطرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حَرُم على النار، فابتدرناه فإذا هو صاحب ماشية أدركته الصلاة فنادى بها» رواه ابن حِبَّان ومسلم وأحمد والترمذي وابن خُزيمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 والتأذين عبادة مفروضة على الرجال دون النساء، وهذا الحكم معلوم عند جميع المسلمين، قال ابن عمر رضي الله عنه «ليس على النِّساء أذانٌ ولا إقامة» رواه البيهقي. وكونه مفروضاً على الرجال لا يعني أنه لا يجوز للمرأة أن تُؤذن أو تُقيم في جماعة النساء، فقد روى البيهقي عن عائشة رضي الله عنها «أنها كانت تؤذن وتقيم وتؤُم النِّساء، وتقوم وسطهن» وطبعاً كان ذلك يحصل في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فالأذان جائزٌ للنساء. أحوال المؤذن يُسنُّ للمؤذن أن يرفع الأذان واقفاً، لأن ذلك أبلغ في توصيل الصوت، وهذا قبل أن تُعرف مكبِّرات الصوت، ولكن الاستمرار على هذه السنَّة أفضل وأولى، فعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «يا بلال قُم فنادِ بالصلاة» رواه البخاري ومسلم. كما يُسنُّ له أن يستقبل القبلة إلا عند الحيعلة، فيلتفت يميناً ويلتفت شمالاً، فعن أبي جُحَيفة رضي الله عنه قال «رأيت بلالاً خرج إلى الأبطح فأذَّن، فلما بلغ حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح، لوى عنقه يميناً وشمالاً ولم يَستَدِر ... » رواه أبو داود. ولا بدَّ من أن بلالاً كان يفعل هذا بإقرارٍ من الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهذا كله إن رُفِعَ الأذانُ بغير مكبِّر الصوت، أمّا إن رُفِعَ بمكبِّر الصوت فلا يلزم ذلك. ولا بأسَ بأن يضع المؤذن أصبعيه في أُذنيه في أثناء التأذين، فذلك يساعده على تحسين أدائه، فعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال «رأيت بلالاً يؤذن ويدور، وأتتبع فاه ههنا وههنا - يعني يميناً وشمالاً - وأصبعاه في أذنيه» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 ويُندب للمؤذن أن يؤذِّن على طهارة لأن الأذان ذِكرٌ، وتُسنُّ للذِّكر الطهارة، فقد روى المُهاجر بن قُنفذ رضي الله عنه «أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلم عليه فلم يردَّ عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه فقال: إني كرهتُ أن أذكر الله عزَّ وجلَّ إلا على طهارة» رواه أبو داود. ويُفضَّل أن يكون صوت المؤذن حسناً نَدِيَّاً قوياً، فقد جاء في حديث عبد الله بن زيد المار في [فرض الأذان وألفاظه] «فقم مع بلال فأَلقِ عليه ما رأيت فلْيؤذن به، فإنه أندى صوتاً منك» . وجاء في حديث البراء بن عازب المار في [فضل الأذان] «والمؤذن يُغفرُ له مدَّ صوته، ويُصدِّقه مَن سمعه من رطب ويابس» . ويرفع الأذان أيُّ رجل مسلم ولو كان فاسقاً، ولو كان جاهلاً، ولو كان أعمى، فعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال «أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن شبيبة متقاربون، فأقمنا معه عشرين ليلة، قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيماً رفيقاً، فظنَّ أنَّا قد اشتقنا أهلنا، فسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلِّموهم ومروهم إذا حضرت الصلاة، فلْيؤذن لكم أحدُكم، ثم ليؤمَّكُم أكبرُكم» رواه أحمد. فقوله عليه الصلاة والسلام «فليؤذن لكم أحدُكم» هو دليل على عدم وجود شروط في المؤذن سوى أن يكون واحداً منهم، أي مسلماً. وقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذن أعمى هو ابن أُم مكتوم. والأذان فرض على الرجال دون النساء كما مرَّ في بحث [حكم الأذان] ، ويصح الأذان من صبي قادر قوي الصوت لأنه يدخل تحت لفظة (أحدكم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 ويُسنُّ ترتيل الأذان، بمعنى أن تُمدَّ حروفُ المد فيه مداً مناسباً يُضفي على الأذان جمالاً، فتُمَدُّ حروفُ الألف والواو والياء دون سواها من الحروف، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نرتِّل الأذان ونحذف الإقامة» رواه الدارقطني. إلا أنه يجب أن يُعلَم أن الترتيل لا تنبغي المبالغةُ فيه إلى أن يتحول إلى غناء وتطريب، فإنه إن وصل إلى هذا الحدِّ مُنع، فعن ابن عباس رضي الله عنه «كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذِّن يُطرِّب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأذان سهلٌ سمحٌ، فإن كان أذانك سهلاً سمحاً وإلا فلا تؤذن» رواه الدارقطني. وأنا لستُ عالماً بفن الغناء والطرب حتى أخوض فيه وأُبيِّن الفارق بينه وبين الترتيل، ولكن لا بأس من أن أقول: إن الحروف إذا جرى مدُّها على وتيرة واحدة فهو ترتيل، وإذا جرى مدُّها مُكسَّرةً ذات ترددات متفاوتة في القوة والضعف فهو الغناء، والله أعلم. الأذانُ أولَ الوقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 لا يجوز تقديم الأذان عن أول الوقت إلا في حالتين، إحداهما: النداء لصلاة الجمعة، فيجوز رفع النداء الأول قبل دخول الوقت، وتجدون هذا مفصَّلاً في بحث [النداء ليوم الجمعة] فصل [صلوات مفروضة عدا الصلوات الخمس] ، والأُخرى: النداء لصلاة الفجر في رمضان فحسب، ففي هذه الحالة أيضاً يجوز تقديم الأذان ليُتِمَّ المُتهجِّدُ صلاته ويستيقظ النائم، ويتمكن الغافل من تناول طعام السحور. والدليل على أن التأذين يكون في أول الوقت هو ما رواه جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كان بلال يؤذن إذا زالت الشمس لا يَخرِم، ثم لا يقيم حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال فإذا خرج أقام حين يراه» رواه أحمد. وأما الدليل على استثناء الفجر في رمضان فما رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لا يمنعنَّ أحدَكم أو أحداً منكم أذانُ بلالٍ من سَحوره، فإنه يؤذن أو ينادي بليل، ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم» رواه البخاري. وفي هذه الحالة فإنه يجب رفع أذان ثان عند دخول الميقات لصلاة الصبح، ويفصل بين الأذانين مقدار يسير قدر تناول وجبة طعام، أو قدر ما يحتاجه المرء لقضاء حاجته والوضوء، وتُقدَّر في زمن استعمال الساعات الحديثة بعشر دقائق أو بربع ساعة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أذَّن بلال فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن اُم مكتوم قالت: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا» رواه النَّسائي. ما يقال عند التأذين وعقب الفراغ منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 يُندب للمسلم عند سماع الأذان أن يقول مثل ما يقول المؤذن إلا أن يقول المؤذن [حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح] فيقول [لا حول ولا قوة إلا بالله] لما رُوي عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدُكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أنَّ محمداً رسول الله قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حيَّ على الصَّلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال: حيَّ على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله قال: لا إله إلا الله، مِن قلبه دخل الجنة» رواه مسلم وأبو داود وابن خُزيمة وابن حِبَّان. وعن أبي سعيد الخُدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن» رواه البخاري وأحمد ومالك وأبو داود. أمَّا عقب فراغ المؤذن من الأذان فيُسنُّ للمسلم أن يقول ما يلي: 1- [اللهم صلِّ وسلِّم على رسول الله] أو أية صيغة من صيغ الصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 2- [اللهم رب َّهذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته] . 3- [أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله رضيتُ بالله رباً وبمحمدٍ رسولاً وبالإسلام ديناً] . 4- [اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة] . والأدلة على ذلك ما يلي بالترتيب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 1- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليَّ، فإنه مَن صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلَّت له الشفاعة» رواه مسلم وأحمد وأبو داود. 2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من قال حين يسمع النداء: اللهم ربَّ هذه الدعوة التامةِ والصلاة القائمةِ آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلَّت له شفاعتي يوم القيامة» رواه البخاري وأحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي. 3- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «مَن قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله رضيتُ بالله رباً وبمحمدٍ رسولاً وبالإسلام ديناً، غُفر له ذنبه» رواه مسلم وأحمد. أما عقب أذان المغرب خاصةً فيُندب للمسلم أن يضيف إلى ما سبق الكلمة التالية: [اللهمَّ إنَّ هذا إقبالُ ليلك وإدبارُ نهارك وأصواتُ دُعاتِك فاغفر لي] لما رُوي عن أُم سلمة رضي الله عنها أنها قالت «علَّمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقول عند أذان المغرب: اللهم إنَّ هذا إقبالُ ليلك وإدبارُ نهارك وأصواتُ دُعاتِك فاغفر لي» رواه أبو داود والحاكم. 4- كما يندب للمسلم أن يُكثر من الدعاء عقب الأذان وقبل الإقامة، لأن الدعاء في هذا الوقت مستجاب لا يُرد، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الدعاء لا يُردُّ بين الأذان والإقامة، قالوا: فماذا نقول يا رسول الله؟ قال: سلُوا الله العافيةَ في الدنيا والآخرة» رواه الترمذي. ورواه أحمد بلفظ «الدعاء لا يُردُّ بين الأذان والإقامة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 مغادرةُ المسجد عقب الأذان يحرم على من سمع الأذان وهو في المسجد، أو من دخل المسجد عقب الأذان، أن يخرج منه قبل أن يؤدي الصلاة المفروضة إلا لعذرٍ شرعي كقضاء الحاجة أو الوضوء، وهو ينوي العودة إليه لأداء الصلاة، فعن أبي الشعثاء قال: سمعت أبا هريرة ـ ورأى رجلاً يجتاز المسجد خارجاً بعد الأذان - فقال «أمَّا هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -» رواه مسلم والبيهقي. وعن أبي الشعثاء عن أبي هريرة «أنه كان في المسجد، فأذَّن المؤذن فخرج رجل، فقال أبو هريرة: أمَّا هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -، أمَرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعنا النداء أن لا نخرج من المسجد حتى نصلي» رواه أبو داود الطيالسي وأحمد. قال الترمذي (وعلى هذا العملُ عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَن بعدهم أن لا يخرج أحدٌ من المسجد بعد الأذان إلا مِن عذر أن يكون على غير وضوء أو أمر لا بد منه) . الأذانُ في عصرنا الحديث تقوم بعض الإذاعات برفع الأذان للصلوات الخمس، فيسمعه الناس من المذياع والتلفاز، فهذا الأذان لا يجوز لأهل مدينة أو قرية أو مُجَمَّعِ إسكانٍ أن يقتصروا عليه فلا يُرفع فيهم الأذان من مساجدهم، فالأذان من المذياع والتلفاز لا يغنيهم عن رفع الأذان، بل لا بد لأهل الأمصار من أن يرفعوا بأنفسهم الأذان، إذ ما دام الأذان فرض كفاية عليهم فلا بد من أن يُؤدُّوه بأنفسهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 ويقوم الناس بتسجيل أذان بعض المؤذنين، خاصةً مؤذني المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوي بالمدينة، فمثل هذا التسجيل لا يجوز أن يوضع في إذاعات المساجد وإسماع الناس الأذان المسجَّل عوضاً عن رفعه مِن قِبَل مؤذن المسجد، ذلك أن رفع الأذان فرض كفاية على أهل المصر، فلا بد لهم من تأدية هذا الفرض، أما إدارةُ آلة التسجيل وإسماعُ الناس الأذان المسجَّل فإنه لا يُسقط عن أهالي المدينة أو القرية الفرض عليهم، فالمسجد الذي يُذاع منه الأذان المسجَّل لا يُعتبر أنَّ أحداً من الأهالي قام بأداء الفرض فيه. والبُلدان إما أن تتعدد فيها المساجد، وإما أن لا يكون فيها سوى مسجد واحد، فإن كان في المدينة أو القرية مسجدٌ واحد فلا بد شرعاً من أن يَرفع الأذانَ فيه شخصُ المؤذن حيَّاً على الهواء مباشرة، ولا يجوز له ولا لغيره أن يسجِّلوا أَذانهم، ثم يقوموا ببثه بواسطة آلة التسجيل وإذاعة المسجد عند دخول كل وقت من أوقات الصلاة، فهذا لا يُسقط الفرض عنهم. أمَّا في المدينة أو القرية الكبيرة التي تضمُّ عدداً من المساجد، فإن قيام مؤذنِ مسجدٍ منها برفع الأذان يُعتَبَر قياماً بالفرض من أهل مدينته أو قريته، وفي هذه الحالة لو قامت المساجد الأخرى ببث الأذان المسجَّل فلا بأس، ويكون عملها في هذه الحالة مجرد إعلامِ الناس بدخول وقت الصلاة، ولا يُعتبر فعلُها هذا تأديةً لفرض الأذان، فلا ينال فاعلُه ثوابَ التأذين الذي يناله لو قام هو بنفسه برفع الأذان. ومثل هذه الحالة الثانية أن تُربَطَ مساجدُ المدينة الواحدة بشبكة إذاعةٍ موحَّدة تقوم ببث الأذان من مؤذن إحداها، فيسمع أهل المدينة الواحدة صوت مؤذن واحد في مسجد واحد فحسب من سمَّاعات المساجد كلها، فهذه الحالة جائزة شرطَ أن يَرفع الأذان مؤذنٌ بشخصه وليس من شريط مسجَّل، أما إن حصلت هذه الحالة بواسطة شريط مسجَّل فإنها لا تفي بالغرض، ويأثم أهل المدينة جميعُهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 فالعبرة في هذه الحالة وفي الحالة الثانية التي سبقتها هي أن يَرفع الأذانَ في البلد الواحد شخصٌ واحد بنفسه على الأقل، ثم لا يضير أهلَ البلد أن يستعملوا الأذان المسجَّل في المساجد الأخرى بعدئذٍ، أمَّا أن لا يَرفع الأذانَ في البلد الواحد أيُّ مُؤذِّن بنفسه فإنه لا يجوز، ويأثم جميع السكان. ويحصل أن تقع قريتان في منطقة ضيقة لا يفصل بينهما سوى ميلين أو ثلاثة أميال مثلاً، بحيث لو أُذِّن في مسجد إحدى القريتين سمع أهلُ القرية الأخرى الأذان هذا، فإن الأذان هذا يُسقط الفرض عن أهل القرية الأولى، ولا يُسقطه عن أهل القرية الأخرى، إذ لا بد لأهل القرية الأخرى مِن أن يرفعوا هم أيضاً الأذان في قريتهم، أي لا بد لأهل كل قرية من القريتين من القيام بفرض التأذين، سواء وصل أذان إحداهما إلى الأخرى أو لم يصل. الإقامةُ: حكمُها وألفاظها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 الإقامة حكمها حكم الأذان فرضٌ على الكفاية على أهل الأمصار، ومندوبة لمن هم خارج حدود الأمصار من مسافرين ومزارعين ورعاة ومتنزهين، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «ما من ثلاثةٍ في قريةٍ ولا في بدوٍ لا تُقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة» رواه الحاكم وأبو داود والنَّسائي والبيهقي. ورواه أحمد بلفظ «ما من ثلاثة في قرية فلا يُؤذَّنُ ولا تُقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان ... » وفي رواية ثالثة لأحمد «ما من خمسة أبيات لا يُؤذَّن فيهم بالصلاة وتقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، وإن الذئب يأخذ الشَّاذَّة، فعليك بالمدائن ... » فقد وردت الألفاظ التالية (في قرية ولا في بدو) (في قرية) (خمسة أبيات) وهذه الألفاظ كلها تدل على السكن في البلدان والسكن في البوادي، وهذا قيدٌ ينبغي المصير إليه. ثم إنه قد جاء في نصين من الثلاثة اشتراكُ الأذان والإقامة بالأمر، فوجب إعطاؤُهما حكماً واحداً لعدم وجود قرينة أو دليل بالتفريق بينهما في الحكم. ويُسن الفصل بين الأذان والإقامة بجلسة، وعدم الموالاة بينهما، فمن أراد أن يُقيم سُنَّ له أن يمكث قليلاً بعد الفراغ من التأذين، فعن ابن أبي ليلى - من حديث طويل - قال «وحدثنا أصحابنا ... فجاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله إني لمَّا رجعت لما رأيت من اهتمامك رأيت رجلاً كأنَّ عليه ثوبين أخضرين فقام على المسجد فأذَّن، ثم قعد قعدة، ثم قام فقال مثلها، إلا أنه يقول قد قامت الصلاة ... ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد أراك الله عزَّ وجلَّ خيراً ... » رواه أبو داود. فقد جاء فيه (ثم قعد قعدةً) بين الأذان والإقامة. وتُؤدَّى الإقامة بسرعة دون مدٍّ ولا ترتيل لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الوارد في بحث [أحوال المؤذن] وجاء فيه «ونحذف الإقامة» أي نسرع بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 ومَن أراد أن يصلي الفائتة منفرداً أو في جماعة سُنَّ له أن يقيم فقط، ولم يُسنَّ له أن يؤذن لها حتى لا يُغرِّر بالناس وتختلط عليهم مواقيت الصلوات، إلا أن يكون في الفلاة فمسنون، وإذا تعددت الفوائت تعددت بتعددها الإقامات، فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال «حُبسنا يوم الخندق عن الصلاة، حتى كان بعد المغرب هُويَّاً وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل، فلما كُفينا القتال وذلك قوله {وكَفَى اللهُ المؤمِنِيْنَ القِتَالَ وكَانَ اللهُ قَوِيَّاً عَزِيْزَاً} أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالاً فأقام الظهر، فصلاها كما يصليها في وقتها، ثم أقام العصر فصلاها كما يصليها في وقتها، ثم أقام المغرب فصلاها كما يصليها في وقتها» رواه أحمد والنَّسائي وابن خُزَيمة. وقد مرَّ في الفصل الأول. أما ألفاظ الإقامة فقد اختلف الأئمة فيها، فمالك يأخذ بحديث أنس «أُمِرَ بلال أن يشفع الأذان وأن يُوتِر الإقامة» رواه مسلم والبخاري. قائلاً إن كلمات الإقامة تُؤدَّى وِتراً ومنها قد قامت الصلاة، فتكون كلمات الإقامة عنده عشراً: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. وهذه عشر كلمات. أما الأحناف ومعهم الإمام الثوري فيقولون إن ألفاظ الإقامة هي ألفاظ الأذان نفسها مع زيادة كلمة - قد قامت الصلاة - مرتين، فتكون كلمات الإقامة عندهم سبع عشرة كلمة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. وهذه سبع عشرة كلمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وقد استدلوا على رأيهم هذا بما روى أبو داود عن ابن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال «أُحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأُحيل الصيام ثلاثة أحوال - وساق نصرٌ الحديث بطوله، واقتصَّ ابن المثنى منه قصة صلاتهم نحو بيت المقدس قط - قال: الحال الثالث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة فصلَّى ـ يعني نحو بيت المقدس ـ ثلاثة عشر شهراً، فأنزل الله تعالى هذه الآية {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّك قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوْهَكُمْ شَطْرَهُ} فوجَّهه الله تعالى إلى الكعبة، وتم حديثه، وسمَّى نصر صاحب الرؤيا قال: فجاء عبد الله بن زيد رجل من الأنصار، وقال فيه: فاستقبل القبلة قال: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة - مرتين – حيَّ على الفلاح - مرتين – الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 ثم أمهل هُنيَّة، ثم قام فقال مثلها، إلا أنه قال: زاد بعدما قال: حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقِّنْها بلالاً، فأذَّن بها بلال ... » . وبما روى ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال «حدَّثنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عبد الله بن زيد الأنصاري جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، رأيتُ في المنام كأن رجلاً قام وعليه بردان أخضران على جِذمة حائط، فأذن مَثْنى وأقام مَثْنى، وقعد قَعْدة، قال: فسمع ذلك بلال فقام فأذن مَثْنى مَثْنى، وأقام مثنى وقعد قعدة» . قوله جذمة حائط: أي بقية من حائط متهدِّم. وبما روى ابن ماجة عن أبي محذورة قال «علَّمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة، الأذان: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. والإقامة سبع عشرة كلمة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله لا الله» . وبما روى الترمذي عن أبي محذورة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 فأقول: أما رأي المالكية فإن استنادهم إلى القول «وأن يوتر الإقامة» للقول بأن كلماتِ الإقامة عشرٌ، يُردُّ عليه من وجهين: أ- إن الاكتفاء بهذا النص وإعمالَه دون نظرٍ في سائر النصوص التي ذكرت كلمات الإقامة يجعل الحكم الصادر بموجبه عُرْضة للخطأ، بل يجعله خطأ، ذلك أن المالكية الذين يعتمدون على هذا النص يأخذون بتثنية التكبير: الله أكبر، الله أكبر، وهذا معارِضٌ للنَّص، فلماذا يُعمِلون النص في كلمة (قد قامت الصلاة) ولا يُعمِلونه في كلمة (الله أكبر) ؟. ب- نعم قد رُوي هذا الحديث بالنص الوارد، ولكن البخاري ومسلماً اللذين رويا هذا النص قد رويا الحديث نفسه بزيادة «إلا الإقامة» فعند البخاري عن أنس رضي الله عنه «أُمر بلال أن يشفع الأذان وأن يُوتر الإقامة إلا الإقامة» . وفي رواية أخرى له عن أنس «أُمر بلال أن يشفع الأذان وأن يُوتِر الإقامة، قال إسماعيل: فذكرتُ لأيوب فقال: إلا الإقامة» ووقع عند مسلم «زاد يحيى في حديثه عن أبن عُليَّة: فحدثت به أيوب فقال: إلا الإقامة» . وهكذا تكون كلمات الإقامة بإعمال هذه النصوص إحدى عشرة كلمة. وأما رأي الأحناف فالرد عليه من وجوه: أ- أما حديث أبي داود فإن كلمات الإقامة الواردة فيه عددها خمس عشرة كلمة، في حين أن حديث ابن ماجة جاءت كلمات الإقامة فيه سبع عشرة كلمة، فبأي العددين يأخذون؟ ثم إن حديث أبي داود هذا يقول فيه كمال الدين المعروف بابن الهمام الحنفي ما يلي (إن ابن أبي ليلى لم يدرك معاذاً وهو مع ذلك حجة عندنا) وهذا من عجيب القول؟!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 ب- إن صيغة الإقامة عند أبي محذورة وردت مَثْنى وليست وتراً، وهذا مُعارَض بالروايات الكثيرة الصحيحة القائلة إن الإقامة وتر، فعن أنس قال «أُمر بلال أن يشفع الأذان وأن يُوتِر الإقامة إلا الإقامة» رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر قال «إنما كان الأذان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين والإقامة مرة، غير أنه كان يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، فإذا سمعنا ذلك توضأنا ثم خرجنا» رواه ابن خُزيمة وأحمد والنَّسائي وأبو داود وابن حِبَّان. ج- حديث ابن أبي شيبة الذي يذكر أن بلالاً أقام مَثْنى مُعَارَضٌ بالأحاديث الكثيرة الكثيرة التي تذكر أن بلالاً كان يقيم وتراً، وأن الفعل هذا من بلال قد استمر طيلة عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذا فإنه ليس من المستطاع الأخذ بهذه الرواية وترك الروايات العديدة الصحيحة القائلة بغير ذلك. ويحضرني هنا قول ابن الأثير (قال الخطَّابي ... ولم يَزل وُلْدُ أبي محذورة ـ وهم الذين يلُون الأذان بمكة ـ يُفْرِدون الإقامة ويحكونه عن جدهم) . فإن صح هذا القول فهو الفيصل في محل الخلاف. إن الصيغة الصحيحة الراجحة للإقامة هي إحدى عشرة كلمة، فيُشرع اعتمادها والعمل بها، وهذه هي: الله أكبر، الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. فعن أنس رضي الله عنه قال «أًمر بلال أن يشفع الأذان وأن يُوتِر الإقامة إلا الإقامة» رواه البخاري ومسلم. وبمقتضى هذا الأمر فإن كلمات الإقامة تكون إحدى عشرة، وجاء في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه الوارد في بحث [فرض الأذان وألفاظه] ما يلي «.. تقول إذا أقيمت الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله ... » وكلماتها إحدى عشرة. وممن ذهب إلى هذه الصيغة الشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحق وأبو ثور وداود. الفصلُ الرابع أحوالُ المصلي الطهارةُ للصلاة إنه لمن المعلوم من الدين بالضرورة أن الصلاة يُشترط لها الطهارة من الحدثين الأكبر والأصغر لا أعلم فقيهاً يقول غير هذا، وقد جرى على هذا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون وسائر المسلمين، ولكن ذلك لا يمنع من استعراض عدد من النصوص الدالَّة على ذلك: أ- قال تعالى: {يَا أيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوْا إذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوْهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ وامْسَحُوا برُؤُوْسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ وإنْ كَنْتُم جُنُباً فاطَّهَّرٌوا ... } الآية 6 من سورة المائدة. ب- قال تعالى {يَا أيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوْا لا تَقْرَبُوْا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكَارَى حتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُوْلُوْنَ وَلا جُنُباً إلا عَابِرِي سَبِيْلٍ حتَّى تَغْتَسِلُوْا ... } الآية 43 من سورة النساء. ج- عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مفتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة. الآية الأولى أمرت بالوضوء عند إقامة الصلاة، والاغتسال من الجنابة للجُنُب عند إقامة الصلاة أيضاً، والآية الثانية أمرت بالاغتسال من الجنابة للجُنُب قبل الصلاة، والحديث الشريف وصف الوضوء بأنه مفتاح الصلاة، بمعنى أنه لا يدخل إلى الصلاة إلا بالوضوء، ففي هذه النصوص الثلاثة جاء الأمر بالتَّطهُّر قبل أداء الصلاة، فوجب على المسلم أن يكون طاهراً من الحدثين الأكبر والأصغر إن هو أراد الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 ورب قائل يقول إن وجوب الطهارة للصلاة مسلَّم به ولكن ذلك لا يعني أن الطهارة شرطٌ لصحة الصلاة، كالأمر بالتَّوجُّه نحو القِبلة، فإنه وإن كان من واجبات الصلاة إلا أنه لا يوجد دليلٌ يدل على أنه شرط لصحة الصلاة فهذا كذاك. فنقول لهؤلاء: نعم إن مجرد الوجوب لا يعني أنه شرط، فالواجب إن لم يُقَمْ به فإن صاحبه يأثم وتبقى الصلاة صحيحة، في حين أن شرط صحة الصلاة إن لم يُقَمْ به فإن الصلاة تكون باطلة غير مقبولة، ونقول إن الطهارة شرط صحة وليست واجبة فحسب، وذلك لأن الشرع اعتبر الصلاة بدون الطهارة غير مقبولة، وهذا يعني أن الطهارة شرطُ صحةٍ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يقبل الله صلاةَ مَن أحدث حتى يتوضأ» رواه البخاري وأحمد. ورواه مسلم بلفظ «لا تُقبل صلاةُ أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» . فهذا نصٌّ يفيد أن الوضوء شرط لصحة الصلاة وقبولها، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «لا تُقبل صلاةٌ بغير طهور، ولا صدقةٌ مِن غُلُول» رواه مسلم والبخاري والترمذي والدارمي وأحمد. وهذا نص يفيد أن الطُهُّور - عموم الطُهُّور - شرطٌ لصحة الصلاة وقبولها، يدخل فيه الوضوء ورفع الحدث الأكبر، أي الغسل من الجنابة. فالتطهُّر بالوضوء والتطهُّر بالغسل من الجنابة كلاهما شرط لصحة الصلاة، وكما قلت في أول البحث، فإن هذا الأمر معلوم من الدين بالضرورة. سَترُ العَورة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 سَتر العورة شرط لصحة الصلاة وقبولها، فالله عزَّ وجلَّ لا يقبل من مسلم صلاة يصليها وهو كاشف عورته، يستوي في ذلك الذكور والإناث، سواء كانت الصلاة أمام الناس أو في خلوة، فينبغي للمصلي أن يستر عورته في الصلاة، قال تعالى {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوْا زِيْنَتكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... } الآية 31 من سورة الأعراف. وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنه سبب نزول هذه الآية فقال «كانت المرأة إذا طافت بالبيت تُخرج صدرَها وما هناك فأنزل الله تعالى خُذوا زينتَكم عند كل مسجد» رواه البيهقي. فالزينة المطلوبة في هذه الآية هي اللباس وستر العورة، وروى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا صلَّى أحدُكم فَلْيَتَّزِرْ ولْيَرتدِ» رواه ابن حِبَّان وأحمد والبيهقي والطحاوي. وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يقبل الله صلاة حائضٍ إلا بخمار» رواه ابن ماجة وأحمد وأبو داود وابن حِبَّان. وروى محمد بن سيرين «أن عائشة رضي الله عنها نزلت على صفية أُم طلحة الطلحات، فرأت بنات لها يصلين بغير خِمْرةٍ قد حِضْن، قال فقالت عائشة: لا تُصَلِّيَنَّ جاريةٌ منهن إلا في خمار، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليَّ وكانت في حجري جارية، فألقى عليَّ حَقْوه فقال: شُقِّيه بين هذه وبين الفتاة التي في حجر أُم سلمة، فإني لا أراها إلا قد حاضت أو لا أراهما إلا قد حاضتا» رواه أحمد. قوله يُصلين بغير خِمرة: أي يُصلين بغير أغطية الرؤوس. والحَقْو: هو موضع الإزار وهو هنا الإزار نفسه. وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله من امرأةٍ صلاةً حتى تُواري زينتها، ولا من جارية بلغت المحيض حتى تختمر» رواه الطبراني. وعن أُم سلمة رضي الله عنها «أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتصلي المرأة في درع وخِمار ليس عليها إزار؟ قال: إذا كان الدرع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 سابغاً يُغطي ظهور قدميها» رواه أبو داود والحاكم. بيَّنت هذه النصوص أن على المرأة عند الصلاة أن تستر جميع بدنها من رأسها حتى قدميها بدلالة (الخمار) في حديث ابن ماجة وحديث أحمد، و (حتى تختمر) في حديث الطبراني، وبدلالة (ظهور قدميها) في حديث أبي داود والحاكم. ولا يُستثنى مِن ستر بدنها سوى الوجه والكفين فحسب لقوله تعالى {وَلا يُبْدِيْنَ زِيْنَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الآية 31 من سورة النور، فقوله تعالى {إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هو استثناء فسَّره ابن عباس وعائشة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم بالوجه والكفين. ويشترط لستر العورة أن تكون الثياب سميكة تخفي لون البشرة تحتها فلا تُجزئ الثياب الرقيقة الشفافة، فعن أُسامة بن زيد رضي الله عنه قال « ... قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لك لم تلبس القُبْطِية؟ قلت: كسوتها امرأتي، فقال: مُرْها فلْتجعل تحتها غلالةً، فإني أخاف أن تصف حجم عظامها» رواه أحمد. والقُبطية كساء رقيق يُنسب إلى أقباط مصر. أما عورة الرجال فما بين السرة إلى الركبتين، وليست السُّرة ولا الركبتان من العورة، ولكن الأحوط ستر السرة، وذلك لأنها لصغرها لا يكاد المرء يستطيع وهو ينظر اليها أن يَصرف نظره عما تحتها فيقع في الحرام، فعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول «ما فوق الركبتين من العورة، وما أسفل من السرة من العورة» رواه الدارقطني. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «وإذا زوَّج أحدُكم عبدَه أمتَه أو أجيرَه فلا تنظر الأمة إلى شئ من عورته، فإن ما تحت السُّرة إلى ركبته من العورة» رواه البيهقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 أما الفخذان فهما من العورة لما روى محمد بن جحش قال «مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه على مَعْمَر وفخذاه مكشوفتان، فقال: يا مَعْمَر غطِّ فخذيك فإن الفخذين عورة» رواه أحمد والحاكم. وعن جَرْهَد «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصره وقد انكشف فخذُه في المسجد وعليه بُردة فقال: إن الفخد من العورة» رواه الحاكم وصححه. ورواه الترمذي وحسَّنه. وروى أحمد الحديث بألفاظ قريبة. وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الفخذ عورة» رواه الترمذي والبيهقي. وذكره البخاري تعليقاً - أي بدون سند -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 أما ما استدل به بعضهم على أن الفخذ ليس عورة، وأن العورة عندهم هي القُبُل والدُّبُر فحسب - وهو ما رواه أحمد من طريق عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان جالساً كاشفاً عن فخذه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه، فلما قاموا قلت: يا رسول الله استأذن أبو بكر وعمر فأذنت لهما وأنت على حالك، فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك، فقال: يا عائشة ألا أستحي من رجل واللهِ إن الملائكة تستحي منه؟» - فالجواب عليه أن هذا فِعلٌ منه عليه الصلاة والسلام، والأحاديث السابقة قولٌ وأمرٌ منه، والقول والأمر أقوى في الاستدلال من الفعل، ثم إن هذا الحديث رواه مسلم بلفظ «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر ... » . ففيه تردُّدٌ بين الفخذين والساقين، والساقان ليستا من العورة، فصار الحديث محتملاً، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال، وقل مثل ذلك بخصوص ما رواه أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر - إلى أن قال «وانحسر الإزار عن فَخِذَيْ نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فإني لأرى بياض فخذَيْ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ... » رواه أحمد. ورواه البخاري بلفظ «حُسِر الإزار» . فإن هذا الحديث حادثة فعلٍ، وتلك أقوال وأوامر، فتلك أقوى في الاستدلال. ومن ناحية ثانية فإنَّه إذا تعارضت أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أفعاله حُملت أفعاله على أنها من خصوصياته، وبقيت أقواله محكمةً واجبة الاتِّباع كما هو الحال هنا. والنتيجة هي إنَّه يجب على المصلي أن يستر ما بين سرته إلى ركبتيه عند الصلاة إن كان ذكراً، وأما الأنثى فتستر جميع بدنها ما عدا الوجه والكفَّين. الثوبُ في الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 إن المسلم ذكراً كان أو أُنثى مأمور وجوباً بستر عورته في الصلاة، ويندب له فوق ذلك إن كان ذكراً أن يلبس ما يزيد على ستر العورة، بأن يكون شئ من ثوبه ملقىً على الكتفين أو على أحدهما، فعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يصلي أحدُكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شئ» رواه مسلم. ووقع في روايةٍ لأحمد «ليس على منكبيه منه شئ» . ووقع في روايةٍ أُخرى لأحمد «ليس على عاتقه منه شئ» . بالإفراد. وروى أحمد من طريق كيسان «أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من المطابخ حتى أتى البئر، وهو مُتَّزر بإزار ليس عليه رداء، فرأى عند البئر عبيداً يُصلُّون، فحل الإزار وتوشح به وصلى ركعتين ... » . والتوشُّح هو أن يُدْخِل شيئاً من الثوب تحت الإبط الأيمن ويلقيه على الكتف الأيسر. ويكره أن يغطي المسلم فمه بثوبه، أي يكره التلثُّم في الصلاة لما رُوي عن أبي هريرة أنه قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغطي الرجل فاه في الصلاة» رواه ابن ماجة. ولما رُوي عنه أيضاً «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه» رواه ابن حِبَّان وأبو داود وابن خُزيمة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. والسَّدل هو بمعنى اشتمال الصَّمَّاء. ويكره أن يصلي المسلم وهو يشتمل الصَّمَّاء، واشتمال الصَّمَّاء هو أن يجلل بدنه بثوب بحيث لا يرفع منه جانباً، ولا يُبقى منه ما يُخْرِج يديه منه، كأن يلقي على رأسه أو كتفيه كساءً واسعاً يلُفُّه من كل جانب وتبقى اليدان في الداخل، وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبستين: الصَّمَّاء، وأن يحتبي الرجل بثوبه ليس على فرجه منه شئ» رواه أحمد والبخاري ومسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 وإذا صلى المسلم كُره له أن يكفَّ ثوبه فلا يتركه على حاله يسقط حيثما سقط، دون أن يرفعه أو يلملمه أو يجمعه بين رِجليه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أُمرنا ألاَّ نكُفَّ شعراً ولا ثوباً ولا نتوضأ مِن مَوْطَأ» رواه مالك. قوله موطأ: أي ما يوطأ من الأذى في الطريق. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أُمرت أن لا أكفَّ شعراً ولا ثوباً» رواه ابن ماجة. ونجد في هذين الحديثين زيادة عما قلنا بخصوص الثوب وهي كراهة كفِّ الشعر، وهذا الحكم متعلق بصاحب الشعر الطويل المسترسل، وهو قليل بين الرجال في عصرنا الحديث، فمن كان شعره طويلاً تركه على حاله من التَّهدُّل والسقوط على الأرض في أثناء السجود دون أن يعقصه أو يُردِّده. وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أنواعٍ من اللباس، فعلى المصلي أن يجتنب هذه الأنواع في صلاته من باب أولى، فلا يصلي في ثوب الحرير، ولا يصلي في الثوب المغصوب، ولا يصلي في الثوب الذي دفع ثمنه من مالٍ حرام، ولا يصلي في الثياب الخاصة بالنساء فيكون متشبهاً بهن، إلى غير ذلك من أنواع اللباس. الصلاةُ بالأحذية كما تجوز الصلاة دون حذاء تجوز بالخُفَّين وتجوز بالنعلين، فعن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي حافياً ومنتعلاً» رواه ابن ماجة وأحمد. وعن سعيد الأزْدي قال «سألت أنس بن مالك: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه؟ قال: نعم» رواه البخاري ومسلم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال « ... لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في الخفين والنعلين» رواه أحمد من حديث طويل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 ويُندب للمسلم أن يصلي مرة أو عدداً من المرات بالنعلين استجابةً لطلب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فعن شدَّاد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خالفوا اليهود فإنهم لا يصلُّون في نعالهم ولا خفافهم» رواه أبو داود والحاكم والبيهقي. فكون الطلب جاء مقروناً بمخالفة اليهود يجعل الطلب للندب، ويتحقق الندب بفعل ذلك مرة واحدة، ويبقى حكم الصلاة بالنعلين والخفين الجواز. وتجوز الصلاة بالنعال وبالأحذية بجميع أصنافها ومسمَّياتها، إلا أن تكون نجسة فتُطهَّر بأن تُدلك بالأرض حتى تزول عين النجاسة، فعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه صلى فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال لهم: لم خلعتم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً، فإذا جاء أحدكم المسجد فلْيقلب نعليه ولْينظر فيهما، فإن رأى خَبَثَاً فلْيمسحه بالأرض، ثم لِيُصلِّ فيهما» رواه أحمد وأبو داود وابن حِبَّان والحاكم والبيهقي. ولا يجب عليه استعمال الماء في تطهير النعال. الصلاةُ على الدَّابَّة وكل مركوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 يجوز للمصلي أن يصلي النافلة على الدابة كالبعير والحمار والفرس، وأن يصلي على كل مركوب كالسيارة والطيارة والسفينة والقطار، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على حمار وهو موجه إلى خيبر» رواه مسلم. وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على راحلته حيث توجَّهت به» رواه مسلم. والراحلة: هي الناقة. وقد جاء ذلك في رواية أخرى عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي سُبْحته حيثما توجهت به ناقته» رواه مسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال «سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في السفينة، فقال: كيف أُصلي في السفينة؟ فقال: صل فيها قائماً إلا أن تخاف الغَرَقَ» رواه البزَّار. ويُندب للمسلم أن يستقبل القبلة عند بدء الصلاة وتكبيرة الإحرام، ثم لا يضيره أين تتجه به راحلته أو مركوبُه بعد ذلك، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوُّعاً استقبل القبلة فكبَّر للصلاة، ثم خلَّى عن راحلته فصلى حيثما توجَّهت به» رواه أحمد. أما الصلاة المفروضة أو المكتوبة فالأصل فيها أن تُصلَّى على الأرض وليس على الدابة، فعن سالم بن عبد الله عن أبيه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبِّح على الراحلة قِبَل أيِّ وجه توجَّه، ويُوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة» رواه مسلم. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته حيث توجَّهت، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القِبلة» رواه البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 أما إن عجز المسلم عن الصلاة على الأرض لمطرٍ نازلٍ ووحلٍ حاصلٍ جازت الصلاة المكتوبة على الدابة وفي السيارة، ويجب في هذه الحالة استقبالُ القِبلة طيلة وقت الصلاة، فقد روى يَعْلَى بن مُرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته، والسماء من فوقهم والبِلَّةُ مِن أسفلَ منهم، فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن فأذن وأقام، ثم تقدَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته فصلى بهم يُومئ إيماءً، يجعل السجود أخفض من الركوع، أو يجعل سجوده أخفض من ركوعه» رواه أحمد والنَّسائي. أما في حالة الخوف من عدوٍ وشبهه، فلا بأس بأداء صلاة الفريضة على الدابة وعلى كل مركوب، ولْيُصلِّ المسلم كيفما اتفق له، مستقبِلاً القِبلة وغير مستقبِلٍ لها، فقد رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه كان إذا سُئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: فإن كان خوفٌ هو أشدَّ من ذلك صلوا قياماً على أقدامهم وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -» رواه البخاري. حكمُ النجاسة في الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 يجب على المصلي اجتنابُ النجاسة العالقة بالثوب والنعل والبدن، والمكان الذي يصلي فيه، ويحرم عليه أن يصلي والنجاسةُ عالقةٌ بأيٍّ من هذه، إلا أن يصلي هكذا وهو لا يعلم حتى الفراغ من صلاته فلا بأس، ولا إثم عليه، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت «سَأَلَت امرأةٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله أرأيتَ إحدانا إذا أصاب ثوبَها الدمُ من الحيضة كيف تصنع؟ قال: إذا أصاب إحداكن الدم من الحيض فلْتقرصه ثم لتنضحه بالماء ثم لتُصلِّ» رواه أبو داود. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال «بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى القوم ألقَوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال: إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً أو أذى، وقال: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلْينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فلْيمسحه ولْيُصلِّ فيهما» رواه أبو داود وأحمد وابن حِبَّان والحاكم والبيهقي. والحديث ظاهر فيه أنه عليه الصلاة والسلام صلى جانباً من صلاته ونعلاه نجستان، ثم إنه خلعهما وأكمل صلاته ولم يُعِدْها ولم يقطعها. وإذا علم المصلي بوجود النجاسة في أثناء الصلاة نُظر، فإن كان يستطيع طرحها وإزالتها بعملٍ قليل كأن كانت النجاسة في نعليه أو جوربيه أو غطاء رأسه أو سترته فطرحها جاز له الاستمرار في الصلاة، أما إن كانت النجاسة في ثيابه التي لا يستطيع طرحها في أثناء الصلاة فقد وجب عليه قطع الصلاة وإزالة النجاسة، ثم يعود إلى الصلاة من جديد، هذا بالنسبة للنجاسة العالقة بالثوب والنعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 أما النجاسة في البدن، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «أكثرُ عذاب القبر في البول» رواه أحمد. فالمسلم مأمور بالتَّنزُّه من البول واجتنابه في الصلاة، وهذا معلوم من الدين بالضرورة. وأما نجاسة المكان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه وهَريقوا على بوله سَجْلاً من ماء أو ذَنوباً من ماء، فإنما بُعثتم ميسِّرين ولم تُبعثوا مُعسِّرين» رواه البخاري. والدلالة واضحة. وإنما اقتصرنا في الأسطر الثلاثة الأولى من هذا البحث على بيان وجوب اجتناب النجاسة العالقة في الثوب والنعل والبدن والمكان، وحرمة الصلاة بوجودها في هذه المواطن الأربعة، ولم نزد على ذلك بأن اشترطنا ذلك لصحة الصلاة، خلافاً لمن قال بأن طهارة الثوب والنعل والبدن والمكان شرط لصحة الصلاة، إذ لم يَرد أي دليل يدل على الشرطية فيبقى الأمر على الوجوب فحسب، وتبقى الصلاة بالنجاسة صحيحة مع الإثم. الفصلُ الخامس القِبْلةُ والسُّتْرة استقبال القِبلة في الصلاة إن مما هو معلوم من الدين بالضرورة أن يستقبل المسلمون القِبلة في صلواتهم، والقبلة للمسلمين كانت المسجد الأقصى في بيت المقدس قُرابة السنة والنصف أولاً، ثم صارت قِبلتهم الكعبة في مكة المكرمة وستستمرُّ إلى آخر الدهر، فعن البراء قال «صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ثم صُرِفنا نحو الكعبة» رواه مسلم. ورواه أحمد والنَّسائي والترمذي وابن ماجة باختلاف في الألفاظ. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثم صُرفت القِبلة» رواه أحمد والبيهقي والبزَّار والطبراني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي إلى بيت المقدس يتوق إلى بلده مكة، وتهفو نفسه الكريمة إلى التحُّول إليها في الصلاة، فنزل قوله تعالى محققاً رغبته {قَدْ نَرَى تقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلةً تَرْضَاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسْجِدِ الحَرَامِ وحيْثُمَا كَنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوْهَكُمْ شَطْرَهُ وإنَّ الذِينَ أُوْتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُوْنَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ومَا اللهُ بغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُون} الآية 144 من سورة البقرة. وعن البراء بن عازب قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يُوجَّه إلى الكعبة، فأنزل الله: قد نرى تَقَلُّبَ وجهِك في السماء، فتوجَّه نحو الكعبة ... » رواه البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 واستقبال القبلة واجب لا شك فيه لا يجوز تركه وإهماله، ولكن لا يوجد في النصوص أي دليل على الشرطية لاستقبال القِبْلة، بمعنى أن استقبال القبلة ليس شرطاً لصحة الصلاة وقبولها، وإنما هو واجب فقط، فمن صلى إلى غير القِبْلة عمداً دون عذر أثم ولكن صلاته مقبولة. ذلك أن كل ما ورد بخصوص الاستقبال لا يتعدى الأمر والطلب الجازم، ومجرد الأمر الجازم لا يفيد الشرطية، فما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «استقبل القِبْلة وكبِّر» رواه البخاري. هو مجرد أمر، وقوله تعالى {فوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المسْجِدِ الحَرَامِ وحيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوْهَكُمْ شَطْرَهُ} هو مجرد أمر، وما رواه ابن عمر رضي الله عنهما «بينما الناس في الصبح بقُباء، جاءهم رجل فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وأُمر أن يَستقبل القِبْلة، ألاَ فاستقبلوها، وكان وجهُ الناس إلى الشام فاستداروا بوجوههم إلى الكعبة ... » رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك والنَّسائي. هو أيضاً مجرد أمر، ولا يصلح أن يكون شرطاً. واستقبال القبلة واجب إلا في الحالات التالية: أ- حالة العجز وعدم القدرة على الاستقبال، مثل أن يمنعه مرض من التحرك فيُصلِّي على حاله، ومثل أن يُجرح في معركةٍ فتثبته جراحُه في وضع لا يكون فيه متجهاً نحو الكعبة، ومثل أن يقيِّده آخرون لأي سبب من الأسباب إلى شجرة أو عمود في غير اتجاه القِبلة، ففي هذه الحالات يصلي دون استقبالٍ للقِبلة، فالله سبحانه يقول {لا يُكَلِّفُ الله نَفْسَاً إلا وُسْعَها ... } الآية 286 من سورة البقرة. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: « ... فإذا أمرتكم بشئ فأْتوا منه ما استطعتم ... » رواه مسلم من طريق أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 ب - حالة شدة الخوف من عدو، فقد روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا سُئل عن صلاة الخوف قال « ... فإن كان خوفٌ هو أشدَّ من ذلك صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم أو رُكباناً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، قال مالك قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -» رواه البخاري. ج- صلاة التطوع على الدابة وعلى كلِّ مركوب، فعن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على راحلته حيث توجَّهت به» رواه مسلم وأحمد. وقد جاء ذِكر التطوُّع صريحاً في رواية أخرى من طريق أبي سعيد الخدري وابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على راحلته في التطوُّع حيثما توجَّهت به يومئ إيماءً، ويجعل السجود أخفض من الركوع» رواه أحمد ومسلم. وكذلك من طريق أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على ناقته تطوُّعاً في السفر لغير القِبلة» رواه أحمد. وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على ظهر راحلته النوافل في كلِّ جهة» رواه أحمد والبخاري ومسلم. وعن جابر قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته حيث توجَّهت، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القِبلة» رواه البخاري. ورواه الدارمي والبيهقي وابن حِبَّان بلفظ «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على راحلته نحو المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القِبلة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 ففي هذه الحالات الثلاث يجوز ترك استقبال القبلة والتوجُّه في الصلاة إلى أية جهة من الجهات، وأما في غير ذلك فيتوجب على المسلم أن يتحرى استقبال القِبلة ويتوجَّه في صلاته إليها، ولا يضيره بعد التحري أن يخطئ في تحديد الاتجاه الصحيح فيصلي إلى غير القِبلة، كأن يكون مسافراً ولا يعرف الجهات، أو يكون اليوم غائماً يصعب على المرء فيه تحديد الاتجاه، فيصلِّي حيث يغلب على ظنه أنه الاتجاه نحو الكعبة، ولا إعادة عليه إن تبين له خطؤه بعد أداء صلاته سواء كان ذلك قبل خروج الوقت أو بعد خروجه، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال «صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم غيم في سفرٍ إلى غير القِبْلة، فلما قضى الصلاة وسلَّم تجلَّت الشمس فقلنا: يا رسول الله صلينا إلى غير القِبلة، فقال: قد رُفعت صلاتُكم بحقِّها إلى الله عزَّ وجلَّ» رواه الطبراني. وأصرح من ذلك ما رُوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال «صلينا ليلة في غيم، وخفيت علينا القِبلة وعلَّمنا عَلَماً، فلما انصرفنا نظرنا فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فذكرنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد أحسنتم ولم يأمرنا أن نعيد» رواه البيهقي. التَّوجُّهُ إلى جهة الكعبة وليس إلى عينها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 لا يجب على المسلم أن يتَّجه إلى عين الكعبة أو مكانها بالذات إلا على المسلم الموجود في المسجد الحرام، أو في بقعة من مكة المكرمة يرى منها بناء الكعبة، ففي هذه الحالة يتوجب عليه أن يتجه إلى عين الكعبة، ولا يجْزئ التوجُّه إلى الجهة الموجودة فيها، لأن الكعبة هي القِبلة وليست جهتها ولا ناحيتها، وأما مَن كان في مكة ولا يرى الكعبة ولكنه يرى المسجد الحرام أو جانباً منه، فإنه يتوجَّه نحو المسجد الحرام ويكفيه ذلك، وأما مَن كان خارج مكة قريباً منها فإنه يتحرى استقبال مكة، وهكذا كلما بعدت المسافة قلَّ التَّشدُّد في تحرِّي العين ليُصبح تحرِّياً للجهة والناحية فحسب، فمثلاً يجب على البعيد عن مكة بمِثل بُعْد أهل المدينة عنها الاتجاه نحو جهة موسَّعة تمتد من أقصى يمينه إلى أقصى يساره، فأهل المدينة قِبلتُهم ممتدَّة ما بين المشرق والمغرب، المشرق عن اليسار والمغرب عن اليمين، وهذه قِبلةُ جميع البلدان الواقعة خلف المدينة إلى الشمال منها، وتشمل بلاد الشام والعراق وتركيا وأوروبا الشرقية، وإلى هذه القِبلة أشار الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ما بين المشرق والمغرب قِبلة» رواه البخاري. قال ابن عمر رضي الله عنه «إذا جعلتَ المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قِبلة إذا استقبلت القِبلة» رواه الترمذي. وبالعكس من ذلك أهلُ اليمن والقَرْن الإفريقي فإن قِبلتهم تقع ما بين المشرق والمغرب، ولكن المشرق يكون عن يمينهم والمغرب عن يسارهم. أما أهل المشرق كنجد وجنوبي إيران وبلاد الهند فإن قِبلتهم تقع ما بين الشمال والجنوب، الشمال عن يمينهم والجنوب عن يسارهم، وبالعكس من ذلك بلاد وسط إفريقيا وما حاذاها فإن قِبلتهم تقع ما بين الشمال والجنوب، الشمال عن يسارهم والجنوب عن يمينهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 أما مَن كانوا في الزوايا كمصر وعُمان وبلاد تُركستان وأواسط السودان فإن عليهم أن ينحرفوا في الاتجاه بقدر انحراف الزوايا. فالأمر متَّسع لا ينبغي أن يشق على الناس بوجوب تحرِّي عين الكعبة، أو حتى عين مكة المكرمة، بل تكفي معرفة الوجهة الموسَّعة، وهذا لا يعني أن لا يُتَحرى عن عين القِبلة لتحديد قِبلة المساجد، خاصة وأنه قد صُنِعت بوصلات تحدد الاتجاه بدقَّة، فمَن ملك هذه البوصلات استطاع أن يتجه نحو مكة بدقة، وفي هذه الحالة لا يجوز له أن يخالف الاتجاه الدقيق بحجة أن ما بين المشرق والمغرب قِبلة، إذ أن مَن مَلَك القدرة على التحديد الدقيق لا يجوز له أن ينحرف يمنة أو يسرة، تماماً كمَن يقطن مكة فإنه لا يجوز له شرعاً أن ينحرف عن الكعبة أو عن المسجد الحرام يمنة أو يسرة، وبمعنى آخر فإنَّ مَن ملك بوصلةً تحدِّد القِبلة بدقةٍ فإن الحكم في حقِّه يصبح وجوبَ الاتجاه نحو مكة بالتحديد، ولا يعود الأمر بالنسبة إليه متَّسعاً. السُّترةُ للمصلي ونعني بالسُّترة ما يضعه المصلي أمامه من عصا أو خشبة أو إناء أو غير ذلك بقصد تحديد مكان صلاته، فلا يشاركه فيه أحد حتى يتمكن من أداء الصلاة باطمئنان دون أن يمر منه إنسان أو حيوان يقطع عليه صلاته أو يشوش الصلاة عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 واتخاذ السترة في الصلاة مندوب، فعن سبرة بن معبد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا صلى أحدكم فلْيستترْ لصلاته ولو بسهم» رواه أحمد والحاكم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحَرْبة فتُوضع بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر، فمِنْ ثمَّ اتخذها الأمراء» رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إلى راحلته» رواه مسلم وابن حِبَّان وابن خُزَيمة والدارمي. ورواه أبو داود بلفظ «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إلى بعيره» . وهو شرحٌ للرواية الأولى. ويتحصل من هذه الأحاديث الثلاثة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتخذ السُّترة وكان يأمر باتخاذها، مما يجعل اتخاذ السُّترة مندوباً وليس مباحاً. أما أنه مندوب وليس واجباً فلِما روى ابن عباس «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في فضاء ليس بين يديه شئ» رواه أحمد. أما أين يضع المصلي سُترته؟ فإن الأَوْلى أن يضعها أمامه إلى اليمين أو إلى اليسار، ولا يضعها قُبالته، فعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال «ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى إلى عمود ولا عود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمُد له صمْداً» رواه أحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 ويسن له أن يدنو من سُترته فلا يُقصيها عنه أكثر من حاجته إلى السجود، لأن العبرة باتخاذ السُّترة هي التمكن من الصلاة في الموضع المحدد، فلا حاجة به لجعل الموضع واسعاً بحيث يتعدى مقدار الحاجة، فعن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا صلى أحدكم إلى سُترة فلْيَدْنُ منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته» رواه النَّسائي وابن حِبَّان. ورواه الحاكم وابن خُزَيمة بلفظ «إذا صلى أحدكم فلْيُصلِّ إلى سُترة وليدنُ منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته» . والشيطان هنا كلُّ من يمرُّ بين يدي المصلي من إنسان أو حيوان في موضع صلاته، وسيأتي مزيد بيان بعد قليل. والاعتدال في المسافة أن لا يزيد بُعدُ السُّترة عن موضع قدميه عن ثلاثة أذرع أو مترين اثنين، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال « ... ثم صلى - أي النبي - صلى الله عليه وسلم - - وجعل بينه وبين الجدار نحواً من ثلاثة أذرع» رواه النَّسائي. ورواه أحمد بلفظ «ثم صلَّى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع» . ولو أنه جعل المسافة إلى النصف من ذلك لأصاب السنَّة أيضاً، فعن سهل بن سعد الساعدي قال «كان بين مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الجِدار ممرُّ الشاة» رواه مسلم والبخاري وابن حِبَّان. فقد جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجدار سُترة له، وابتعد عنه مسافة ما تحتاجها الشاة للمرور، وهذه المسافة لا تتعدى المتر الواحد. سُترةُ الإِمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 إذا صلى جماعةٌ صلاة جماعة واتخذ الإمام سُترة له كانت سُترةً لجميع المؤتمين به لا يلزمهم سواها، فإن حافظ الإمام على موضع صلاته فلم يسمح لإنسان ولا لحيوان أن يمر بينه وبين سُترته فقد كفى الجماعة الفعل، وليس عليهم أن يفعلوا شيئاً بعدئذٍ، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال «هبطنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثَنِيَّةِ أَذاخِر، فحضرت الصلاة - يعني فصلى إلى جدار - فاتخذه قِبلة ونحن خلفه، فجاءت بهيمة تمرُّ بين يديه، فما زال يُدارِئُها حتى لصق بطنه بالجدار ومرَّت مِن ورائه، أو كما قال مسدِّد» رواه أبو داود. وعن ابن عباس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي، فمرت شاة بين يديه، فساعاها إلى القِبلة حتى ألزق بطنه بالقِبلة» رواه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان والحاكم بسند صحيح. وثنيَّة أذاخِر: موضع بين مكة والمدينة. وقوله يُدارئُها: أي يدافعها ويحول بينها وبين المرور. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «جئت أنا والفضل ونحن على أتَانٍ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس بعرفة، فمررنا على بعض الصف، فنزلنا عنها وتركناها ترتع ودخلنا في الصف، فلم يقُل لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً» رواه أحمد والبخاري. والأتان: هي أُنثى الحمير. دلَّ الحديث الأول والحديث الثاني على أن دفع الإمام للمارِّ بين يديه واجب عليه عند اتخاذ السُّترة، ودل الحديث الثالث على أنه لا يضير المأمومين مرورُ الإنسان أو الحيوان بين أيديهم، وأنَّ دفع المارَّةِ من أمامهم ليس واجباً عليهم، ففي هذا الحديث «فمررنا على بعض الصف» ما يدل على ما ذهبنا إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وغنيٌّ عن البيان أن المرور من خلف السُّترة لا شئ فيه للمارِّ ولا للمصلي، ولا يُتَّخَذُ حيالَه أيُّ تصرف، وإلا لانتفت الحاجة إلى اتخاذ السُّترة، فعن أبي جُحيفة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم بالبطحاء، وبين يديه عَنَزةٌ الظهرَ ركعتين والعصرَ ركعتين يمرُّ بين يديه المرأة والحمار» رواه البخاري. والعَنَزة: هي عصا في طرفها حديدة تُنْصَب كسُترةٍ. وقد أشكل على عدد من الفقهاء حديث أبي جُحيفة هذا، وظنوا أن مرور المرأة والحمار إنما كان بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين سُترته، أي هم ظنوا أن المرور قد حصل من أمام السترة وليس من ورائها، مما جعلهم يستدلون بهذا الحديث على أن مرور المرأة والحمار من أمام المصلي لا يقطع الصلاة، والصحيح هو أن مرور المرأة والحمار في هذا الحديث حصل من وراء السترة وليس من أمامها، وأن قول الحديث «يمر بين يديه المرأة والحمار» لا يعني ما فهموه منه، لدلالة رواية أخرى من طريق أبي جُحيفة نفسه عند ابنِ حبان والنَّسائي «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في حُلَّةٍ حمراءَ فرُكزت عَنَزَةٌ، فصلى إليها يمرُّ من ورائها الكلب والمرأة والحمار» . ولرواية من طريقه أيضاً عند مسلم وأبي داود «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضأ فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يديه عَنَزَةٌ، وكان يمرُّ من ورائها المرأة والحمار» . فقد صرحت هاتان الروايتان بأن المرور كان يحصل من وراء السُّترة وليس من أمامها. دفعُ المارّ عند اتخاذ السُّترة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 إن لم يكن للمصلي سُترة فلا يجب عليه دفع المارِّ بين يديه، وكذلك لا يجب عليه دفع المار إنْ هو اتَّخذ سُترة فمرَّ من ورائها، لما رُوي عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا وَضع أحدُكم بين يديه مثل مُؤخَّرةِ الرَّحْل فليصلِّ، ولا يبالِ مَن مرَّ وراء ذلك» رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن حِبَّان. قوله مؤخَّرة الرحل: أي العود الذي يكون في آخر الرَّحْل أي السرج يستند إليه الراكب. أما إنْ هو اتخذ السُّترة ومرَّ أحدٌ دونها فإنَّ الواجب عليه دفعُه ولو أدى إلى قتاله، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا كان أحدكم يصلي فلا يَدَعُ أحداً يمرُّ بين يديه ولْيَدْرأه ما استطاع، فإن أبى فلْيقاتله فإنما هو شيطان» رواه مسلم. ورواه البخاري بلفظ «إذا صلى أحدكم إلى شئ يستره من الناس، فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه فلْيدفَعْه، فإن أبى فلْيقاتلْه فإنما هو شيطان» فقد قيَّد الحديثُ الثاني دفعَ المار باتخاذ السُّترة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وفي المقابل فإن مرور المار من أمام السُّترة حرام على المارِّ سواء كان ذلك في صلاة الفريضة أو صلاة النافلة، في صلاة الجماعة أو صلاة المنفرد، فعن أبي جُهَيم رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لو يعلم المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أنْ يقف أربعين خيرٌ له مِن أنْ يمرَّ بين يديه، قال أبو النضر: لا أدري قال أربعين يوماً أو شهراً أو سنة» رواه البخاري ومسلم. وفي هذا دلالة قوية على حُرمة المرور، ودلالة على مطلق الصلاة دون تقييد، وعن يزيد بن نمران قال «لقيت رجلاً مُقْعَداً بتبوك فسألته فقال: مررتُ بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أتانٍ أو حمارٍ فقال: قطع علينا صلاتنا قطع الله أثره، فأُقعِد» رواه أحمد. ورواه أبو داود من طريق سعيد بن غزوان عن أبيه باختلاف في اللفظ. فلولا أن مرور الرجل هذا - وهو على حماره - بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو يصلي هو فعلٌ محرَّم لما دعا عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الدعاء الشديد الذي سبَّب له الشلل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 أما في المسجد الحرام فإن المرور بين أيدي المصلين جائز، فالمسلم فيه يستطيع أن يصلي إلى الكعبة والطائفون يمرون بين يديه ذكوراً وإناثاً كباراً وصغاراً دون إثم من الطائفين ودون إثم من المصلين بترك دفعهم، وإن الله سبحانه وتعالى لأرحم بعباده من أن يضيِّق على المسلمين في أثناء عباداتهم في بيته الحرام لاختلاطهم فيه وشدة الزحام، ولولا ذلك لتعذَّر على الناس الصلاة في صحن المسجد الحرام حيث الطائفون لا ينقطعون عن الطَّواف ليلاً ونهاراً، فعن كثير بن كثير عن أبيه عن جده قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت سبعاً، ثم صلى ركعتين بحذائه في حاشية المقام، وليس بينه وبين الطُّوَّاف أحد» رواه النَّسائي وابن حِبَّان والطحاوي. ورواه ابن ماجة وقال (هذا بمكة خاصة) . ورواه البخاري في كتابه التاريخ بلفظ «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في حاشيته (يعني حاشية الطواف) والناس يمرون بين يديه» . ورواه عبد الرزاق بلفظ «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في المسجد الحرام والناس يطوفون بالبيت بينه وبين القِبلة بين يديه ليس بينه وبينهم سُترة» . والدلالة واضحة. ما يقطعُ الصلاةَ بمروره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 يقطع الصلاة مرور المرأة الحائض - أي مَن بلغت المحيض - والكلب الأسود، والحمار، بين يدي المصلي إن لم يكن قد اتخذ سُترة له، أو اتخذ سُترة وكان المرور بينه وبين سُترته. وإنما قلنا المرأة الحائض تمييزاً لها عن الصغيرة دون البلوغ، لأن الصغيرة لا تقطع الصلاة بحال، ولا نعني بالحائض مَن كانت في حالة الحيض في أثناء المرور كما توهَّم بعض الفقهاء. وقلنا إن الكلب الأسود يقطع الصلاة تمييزاً له عن الكلاب ذوات الألوان الأخرى، فالكلب الأبيض والكلب الأحمر والكلب الأصفر لا تقطع الصلاة. وأما الحمار فيقطع الصلاة عموماً، ذكراً كان أو أنثى، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخِرة الرَّحْل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخِرةِ الرَّحْل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود، قلت: يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان» رواه مسلم. ورواه أحمد وأبو داود والبيهقي وابن حِبَّان باختلاف في الألفاظ. قوله آخِرَةِ الرحل - وفي بعض الروايات مؤخرة الرحل - يعني العود الذي يكون في آخر السرج الذي يوضع على ظهر الجمل من أجل الركوب يستند إليه الراكب، وقد مرَّ قبل قليل. وقوله إن الكلب الأسود شيطان لا يعني أنه من الجن، وإنما يعني أنه يتصف بالشر كما يتصف الشيطان بالشر، وقد ورد في الحديث ذكرُ الشيطان وصفاً لمرتكب الشرور، دون أن يعنيَ ذلك أنه من الشياطين على الحقيقة، فعن أبي سعيد الخدري قال «بينا نحن نسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعَرْج إذ عَرَضَ شاعرٌ ينْشد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا الشيطان، أو أمسكوا الشيطان، لأَن يمْتَلِئَ جوفُ رجلٍ قيحاً خيرٌ لهُ من أن يمْتَلِئَ شِعراً» رواه مسلم وأحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 قوله - بالعرج - هي قريةٌ على نحوِ ثمانيةٍ وسبعينِ ميلاً من المدينة. فذاكَ النص الذي رواه مسلم وغيره من طريق أبي ذر يفيد أن مرور هؤلاء الثلاثة أمام المصلي الذي لا يتخذ سُترة يقطع الصلاة عليه. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «يقطع الصلاةَ المرأةُ الحائض والكلبُ» رواه أبو داود وأحمد وابن حِبَّان. ورواه ابن ماجة بلفظ «يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض» . فهذا الحديث خصَّ الحائض من الإناث بالقطع فيخرج منه غير الحائض، أي الصغيرة. وعن موسى بن طلحة عن أبيه قال «كنا نصلي والدواب تمرُّ بين أيدينا، فذكرنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مثلُ مؤخرة الرَّحل تكون بين يدي أحدكم، ثم لا يضره ما مرَّ بين يديه، وقال ابن نمير فلا يضرُّه مَن مرَّ بين يديه» رواه مسلم وأحمد وابن ماجة وابن خُزيمة وابن حِبَّان. ومفهوم هذا الحديث أن مَن مرَّ مِن أمام السُّترة من هؤلاء الثلاثة قطع الصلاة، وأما إن مروا من خلف السُّترة فإنهم لا يقطعونها. وقد ذهب عدد من الفقهاء والأئمة إلى أن هؤلاء الثلاثة لا يقطعون الصلاة مستدلين بجملة من الأحاديث، نذكر منها ما يلي: أ - عن صخر بن عبد الله بن حرملة أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول عن أنس «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس، فمرَّ بين أيديهم حمار، فقال عيّاش بن أبي ربيعة: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، فلما سلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مَن المُسبِّح آنفاً سبحان الله؟ قال: أنا يا رسول الله، إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة، قال: لا يقطع الصلاة شئ» رواه الدارقطني. ب - عن إبراهيم بن يزيد حدثنا سالم بن عبد الله عن أبيه - عبد الله بن عمر - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر قالوا: لا يقطع صلاة المسلم شئ وادرأ ما استطعت» رواه الدارقطني، ورواه مالك موقوفاً على عبد الله بن عمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 ج - عن عفير بن معدان عن سليم بن عامر عن أبي أُمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يقطع الصلاة شئ» رواه الدارقطني والطبراني في المعجم الكبير. د - عن مُجالد - بن سعيد الهمذاني - عن أبي الوداك عن أبي سعيد قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يقطع الصلاة شئ وادرؤا ما استطعتم فإنما هو شيطان» رواه أبو داود والدارقطني وابن أبي شيبة. هـ - عن عباس بن عبيد الله بن عباس عن الفضل بن عباس قال «أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في بادية لنا ومعه عباس، فصلى في صحراء ليس بين يديه سُترة، وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالى ذلك» رواه أبو داود والنسائي، ورواه الطحاوي بمعناه. و عن إسحق بن عبد الله بن أبي فروة عن يزيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا تَقطع صلاةَ المرء امرأةٌ ولا كلبٌ ولا حمارٌ، وادرأ من بين يديك ما استطعت» رواه الدارقطني. فنقول لهؤلاء إن جميع الأحاديث التي تنص على أن الصلاة لا يقطعها شئ لم تثبت ولم تخرج عن دائرة الضعف والضعف الشديد، وهذه الأحاديث الستة أبرزها، وهي لا تقوى مطلقاً على مناهضة أحاديثنا الصحيحة والحسنة، فتترك ولا يلتفت إليها، لأن الحديث الأول فيه صخر بن عبد الله، قال ابن عدي: يحدِّث عن الثقات بالأباطيل، عامة ما يرويه منكراً من موضوعاته. وقال ابن حِبان: لا يحلُّ الرواية عنه. وقد ضعَّف ابن حجر هذا الحديث. والحديث الثاني فيه إبراهيم بن يزيد، قال أحمد والنسائي: متروك. وقال يحيى بن معين: ليس بشئ. والحديث الثالث فيه عُفير بن معدان، قال أحمد: ضعيف منكر الحديث. وقال يحيى بن معين: ليس بثقة. ومثله قال أبو حاتم الرازي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 والحديث الرابع فيه مُجالد بن سعيد ضعَّفه الدارقطني راوي الحديث نفسه، كما ضعفه يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وابن أبي حاتم وابن سعد. وقال يحيى بن معين: لا يحتج به. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وكان أحمد بن حنبل لا يراه شيئاً. والحديث الخامس فيه انقطاع بين عباس بن عبيد الله وبين عمه الفضل بن العباس، لأن عباس بن عبيد الله لم يدرك عمه، فهو حديث منقطع. والحديث السادس رواه ابن أبي فروة، وهو متروك قاله أبو الطيب محمد آبادي. هذا إضافة إلى أن أبا هريرة راوي هذا الحديث قد روى عنه مسلم وأحمد وابن ماجة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل» أي عكس ما جاء في هذا الحديث. من هذا الاستعراض يتبين بوضوح تام أن جميع هذه الأحاديث ضعيفة أو واهية، وهي ما استند إليه القائلون إن الصلاة لا يقطعها شئ، فوجب طرحها وعدم الاحتجاج بها لا سيما وأنها جاءت متناقضة مع أحاديثنا الصحيحة والحسنة، وبذلك يثبت الرأي القائل إن المرأة الحائض، أي من بلغت، والكلب الأسود والحمار تقطع الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 أما عن حقيقة قطع هؤلاء الثلاثة للصلاة، فقد اختلف الفقهاء في تحديد معنى القطع، فمنهم من فسَّر القطع بإبطال الصلاة ووجوب إعادتها عند مرور هؤلاء، ومنهم من فسَّر القطع بإلحاق النقص في الصلاة دون الإبطال وهم أصحاب الرأي الراجح. فاللغة العربية كما تفيد المعنى الأول فأنها تفيد المعنى الثاني أيضاً، فالله سبحانه يقول في سورة يوسف { ... فلمَّا رأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ وقطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ... } الآية 31. فهنا لفظة (قطَّعن) لا تفيد البتر وإنما تفيد الجرح فحسب، فالقطع كما يفيد البتر {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فإنه يفيد إلحاق النقص أو الجَرْح {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} فلا بد من قرينة تحدِّد أياً من هذين المعنيين لقطع الصلاة بمرور هؤلاء الثلاثة. وقد وجدت حديثاً رواه يزيد بن نمران مرَّ في بحث [دفع المار عند اتخاذ السترة] يشكِّل القرينة على أن القطع هنا يعني النقص فحسب ولا يعني الإبطال، وهو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - «قطع علينا صلاتنا قطع الله أثره» . ففي هذا الحديث لم يُتْبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا القول الأمرَ منه لأصحابه بإعادة الصلاة المقطوعة، وإنما سكت الحديث عن الأمر مما يدل على أن القطع لا يتعدى النقص، وإلا لصدر الأمر النبوي بالإعادة، فلما لم يصدر الأمر بالإعادة دل على أن المعنى المراد من القطع هو النقص فحسب، فهذا الحديث يصلح قرينة تصرف القطع عن معنى البتر إلى معنى النقص، ولا يصرفنا عن هذا الفهم ما رواه ابن حبان من طريق ابن خزيمة عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «تعاد الصلاة من مَمَرِّ الحمار والمرأة والكلب الأسود، قلت: ما بال الأسود من الأصفر من الأحمر؟ فقال: فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان» . فقد جاء في الحديث لفظة (تعاد الصلاة) مما يعني الإبطال والبتر، وينفي بالتالي معنى النقص فحسب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 فنقول ما يلي: إن هذا الحديث مداره على هشام - بن حسان - الذي رواه عن حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر. وبالرجوع إلى صحيح ابن خزيمة نجد لهذا الحديث عدة طرق عن حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر وجميع هذه الطرق باستثناء طريق هشام بن حسان تذكر لفظة (يقطع الصلاة) وهي اللفظة نفسها التي وردت في رواية مسلم المارة قبل قليل، ومن الرواة الذين رووا هذا الحديث بلفظة (يقطع الصلاة) عن حميد بن هلال أحمد بن منيع وسهل بن أسلم وسالم بن الزناد، فهولاء الثلاثة وآخرون غيرهم قد رووا عن حميد بن هلال لفظة (يقطع الصلاة) ولم يَروِ لفظة (تعاد الصلاة) إلا هشام بن حسان عن حميد بن هلال، ولا شك في أننا مضطرون لأخذ رواية الكثيرين المعتضدة برواية مسلم القائلة بالقطع، ورد روايةٍ غريبةٍ انفرد بها هشام بن حسان تقول بالإعادة، لأن الروايات كلها إنما هي رواية واحدة تذكر واقعة واحدة ولا بد ولا مندوحة عن ترجيح إحدى الروايات على غيرها. وبالترجيح نعتمد رواية مسلم والكثيرين من الرواة التي فيها لفظة (يقطع الصلاة) ونرد رواية غريبة من طريق هشام وحده بلفظة (تعاد الصلاة) وبذلك يثبت فهمنا من أن القطع الوارد في الأحاديث يعني إلحاق النقص فحسب. وهذا المعنى هو ما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم من القطع الوارد في الأحاديث، فقد رُوي أن عمر رضي الله عنه قال «لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلَّى إلا إلى شئ يستره من الناس» رواه أبو نعيم. ورُوي أن عبد الله بن مسعود قال «إن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته» رواه ابن أبي شيبة. الصلاةُ إلى نائم أو بهيمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 يجوز أن يكون في قِبلة المصلي نائمٌ ذكراً كان أو أُنثى، أو دابة، بل يجوز له أنْ يَتَّخذَ هؤلاء سُترةً له، وهذا القول لا يتنافى مع القول بحُرمة مرور المرأة وقطعها للصلاة، وحُرمة مرور الذكر أيضاً، ذلك أن الحرام مرور الرجل ومرور المرأة، أما نومهما أمام المصلي واعتراضهما القِبلة فلا شئ فيه لأنه أمر آخر، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه كان يعرِّض راحلته فيصلي إليها ... » رواه البخاري. وعن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت «لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم فيصلي من الليل، وإني لمعترضةٌ بينه وبين القِبلة على فراش أهله» رواه البخاري. وعنها رضي الله عنها قالت «والله لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وإني على السرير بينه وبين القِبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس، فأُوذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنسلَّ من عند رجليه» رواه مسلم. ففي هاتين الروايتين الصحيحتين كانت عائشة معترضة وهي مضطجعة، فصلى إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مما يدل على جواز ذلك، ومغايرةِ ذلك للمرور الذي ورد النهي عنه، وأنه يقطع الصلاة. فمرور المرأة بين يدي المصلي يقطع عليه صلاته، أما صلاته إليها وهي نائمة أو مستلقية فجائز. وغنيٌّ عن البيان أن الصلاة إلى المرأة النائمة إنما تحصل عندما تكون المرأة من الأرحام المحرمين دون النساء الأجنبيات لما لذلك من الفتنة وانشغال ذهن المصلي، وكلاهما ورد النهي عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 بقيت مسألةُ قيامِ المصلي بالصلاة على سجادة صغيرة قدر ما يحتاجه المصلي لصلاته، ويسمونها سجادة الصلاة. فهذه السجادة جرى العرف أن يقف المصلي على طرفها ويسجد على طرفها الآخر، ففي هذه الحالة أرى أن مَن يصلي على هذه السجادة لا يحتاج إلى اتخاذ سُترة له، ذلك أن طرف السجادة الذي يسجد عليه هو نهاية موضع سجوده، ولا يضيره مرور أي إنسان أو حيوان خلف سجادته، فالسجادة هذه تأخذ حكم الموضع الذي له سُترة، ويصبح المحرَّم على الناس أن يمروا من فوق السجادة، لأنهم يكونون بذلك قد مروا بين المصلي وبين سترته، أما إن هم مرُّوا بعد طرف السجادة فلا شئ في ذلك على المار والمصلي، فلا يأثم المار، ولا يجب على المصلي دفعه. الفصلُ السادس صفةُ الصلاة حكمُ تكبيرة الإحرام تكبيرة الإحرام هي تكبيرة الصلاة الأولى وهي افتتاحية الصلاة، وقد سميت بهذا الاسم لأن المسلم إن نطق بها حرِّم عليه ما كان حلالاً عليه قبلها من أعمال وأقوال، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أحمد. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ الحمدُ لله رب العالمين» رواه أحمد. وللتكبير صيغة واحدة لا غير هي [الله أكبر] لا يجوز غيرها مطلقاً مهما كان مقدار التغيير، فلا يجوز أن يقول المصلي مثلاً [الله الأكبر] أو [الله كبير] أو [الله هو الأكبر] فضلاً عن أن يستبدل بها غيرها من تحميد أو تسبيح أو تهليل، بل لا بد من الاقتصار على [الله أكبر] ، وقد نُقلت هذه الصيغة بالتواتر، فلا مجال للاجتهاد فيها وإجراء تعديل عليها أو تغييرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 وتكبيرة الإحرام فرض وركن لا بد من الإتيان بها، ولا تُقبل صلاةٌ بدونها، فمن قالها دخل في الصلاة، ومن لم يقلها لم يدخل في الصلاة مهما قال أو فعل، فهي افتتاحية الصلاة، فقد روى علي بن يحيى بن خلاَّد عن عمه ... قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنه لا تتم صلاة لأحدٍ من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء، ثم يكبِّر ويحمد الله عزَّ وجلَّ ويثني عليه، ويقرأ ما تيسر من القرآن، ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصلُه، ثم يقول سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائماً، ثم يقول الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئنَّ مفاصلُه، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئنَّ مفاصلُه، ثم يرفع رأسه فيكبِّر، فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته» رواه أبو داود. قوله يضع الوضوء: أي يضعه مواضعه، يريد بذلك إسباغ الوضوء. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا قال الإمام: الله أكبر، فقولوا: الله أكبر، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد» رواه البيهقي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال « ... إذا قُمتَ إلى الصلاة فأَسْبغ الوضوء، ثم استقبل القِبلة فكبِّر» رواه مسلم. فقد دلَّت هذه النصوص الثلاثة على أن الصيغة هي [الله أكبر] وعلى أن التكبير لا تتم الصلاة بدونه، فلا صلاة لمن لم يكبر، ولا صلاة لمن لم يقل [الله أكبر] . رفعُ اليدين في الصلاة يُشرع للمسلم أن يرفع يديه الاثنتين عند افتتاح الصلاة بالتكبيرة الأولى - تكبيرةِ الإحرام - كما يُشرع له رفعهما عند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأوسط، أي عند القيام من الركعتين، ولا يُشرع في غير هذه المواطن الأربعة، فلا يُشرع بين السجدتين، ولا عند القيام من الركعة الأولى، أو القيام من الركعة الثالثة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 ورفع اليدين سُنَّة مشتركة بين الرجال والنساء، لأنه لم يرد دليل على التفرقة بينهما. روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه «كان إذا دخل في الصلاة كبَّر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه، ورفع ذلك ابن عمر إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم -» . فمن أراد اتِّباع السُّنة فالسُّنة رفعُ اليدين في هذه المواطن الأربعة، ورفع اليدين في الموطن الأول آكد، ولكنه يبقى سُنة غير واجب. أما ما رُوي عن علقمة أنه قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه «ألا أصلِّي لكم صلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فصلى فلم يرفع يديه إلا مرَّة» رواه أحمد. ورواه الطَّحاوي بلفظ «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود» . فهو حديث ضعيف ضعَّفه أحمد والبخاري وأبو داود. وأما ما رُوي عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كبَّر لافتتاح الصلاة رفع يديه حتى يكون إبهاماه قريباً من شحمتي أذنيه، ثم لا يعود» رواه الطَّحاوي وأبو داود. فقد رواه أحمد والدارقطني بدون زيادة «ثم لا يعود» . وصوَّب الدارقطني ذلك وقال (إن هذه الزيادة مُدْرَجَةٌ مِن قول يزيد بن أبي زياد، وكان قد اختلط، وقد اتفق الحفاظ على أن الزيادة مُدْرَجَةٌ من قول يزيد) . فالحديثان لا يصلحان للاستدلال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وفي أيامنا الراهنة تقوم فئة من الناس برفع اليدين قُبيل القيام من الركعتين، أي برفع اليدين وهم ما يزالون جالسين، فهذا مخالف للسُّنة في الرفع، إذ لا رفع في أثناء الجلوس مطلقاً، فقول الحديث «وإذا قام من الركعتين رفع يديه» . واضح الدلالة على الرفع عند القيام، والقيام غير الجلوس، ويشهد لما نقول ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبَّر ورفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع، ويصنعه إذا رفع رأسه من الركوع، ولا يرفع يديه في شئ من صلاته وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبَّر» رواه أحمد. وما رواه ابن عمر «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا كبَّر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضاً وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود» . فقوله «ولا يرفع يديه في شئ من صلاته وهو قاعد» واضح الدلالة على ما نقول، وكذلك قوله «وكان لا يفعل ذلك - يعني رفع اليدين - في السجود» واضح الدلالة كذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 واليدان تُرفعان مدَّاً مع تفريق الأصابع، ويحاذي بهما المنكبين أو شحمتي الأُذنين، وتُرفعان مع تكبيرة الإحرام، ومع التكبيرات الثلاث الأخرى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «ثلاث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل بهنَّ قد تركهنَّ الناس، كان يرفع يديه مدَّاً إذا دخل في الصلاة، ويكبر كلما ركع ورفع، والسكوت قبل القراءة يدعو ويسأل الله من فضله» رواه أحمد. وقد مرَّ حديث علي وفيه «ورفع يديه حذو منكبيه» . وروى عبد الله بن وائل عن أبيه «أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى تكاد إبهاماه تحاذي شحمة أُذنيه» رواه النَّسائي. وروى أبو هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينشر أصابعه في الصلاة نَشْراً» رواه الحاكم وابن حِبَّان. وحديث عليٍّ المار دليلٌ على الرفع في المواطن الأربعة. إقامةُ الصفوف أو تسويتُها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 إن إقامة الصفوف أو تسويتها فرض في صلاة الجماعة، فلا تحلُّ صلاة الجماعة والصفوف معوجَّة أو مقطوعة من هنا وهناك، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «سَوُّوا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة» رواه البخاري. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «سَوُّوا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة» رواه مسلم وابن حِبَّان وابن ماجة والبيهقي. فقوله (إن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة، وإن تسوية الصف من تمام الصلاة) دليلٌ على الوجوب، لأن إقامة الصلاة وتمام الصلاة واجبان، والمسؤولية في التسوية مشتركة بين الإمام والمأمومين، فإذا أقيمت الصفوف واستوت تقدم الإمام الصف الأول ووقف قُبالة وسطه، ثم كبر للصلاة، ولا يكبر حتى تُقام الصلاة وتتم التسوية، فعن أبي مسعود رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ... » رواه مسلم. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوِّم الصفوف كما تُقوَّم القِداح، فأبصر رجلاً خارجاً صدرُه من الصَّف، فلقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لتُقيمُنَّ صفوفكم أو ليخالفُن اللهُ بين وجوهكم» رواه النَّسائي ومسلم وابن ماجة وأحمد. وعلى الإمام أن يطمئن إلى استواء الصفوف ثم بعد ذلك يكبِّر للصلاة، ولا يكبِّر حتى تستوي الصفوف فعلاً، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوِّي صفوفنا إذا قمنا للصلاة، فإذا استوينا كبَّر» رواه أبو داود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 وإنَّ من فضل هذه الأمة أن جعل الله صلاتها مماثلة لاصطفاف الملائكة أمام ربهم، أي صفوفاً بعد صفوفٍ متراصة مستقيمة، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيلٍ شُمْس؟ أُسكُنوا في الصلاة، قال: ثم خرج علينا فرآنا حَلَقاً فقال: ما لي أراكم عِزِين؟ قال: ثم خرج علينا فقال: ألا تصفُّون كما تصفُّ الملائكة عند ربها؟ فقلنا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يُتمُّون الصفوف الأُول ويتراصُّون في الصف» رواه مسلم. وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «أقيموا الصفوف فإنما تصفُّون بصفوف الملائكة، وحاذوا بين المناكب، وسُدُّوا الخلل، ولِينوا في أيدي إخوانكم، ولا تَذَروا فُرُجاتٍ للشيطان، ومن وصل صفاً وصله الله تبارك وتعالى، ومن قطع صفاً قطعه الله» رواه أحمد. قوله «ولا تذروا فُرُجات للشيطان» فسَّره ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «رُصُّوا صفوفَكم وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفس محمد بيده إني لأرى الشياطين تدخل من خلال الصفوف كأنها الحَذَف» رواه أحمد وأبو داود وابن حِبَّان والبيهقي. والحذف - بفتحتين - غنم صغيرة الأحجام سوداء جرداء ليس لها أذناب توجد في بلاد اليمن. أما ما يقوله الإمام عند إشرافه على تسوية الصفوف، فقد ورد في ذلك عدة صيغ، وهذه الصيغ ليست مقصودة لذاتها بقدر ما يُقصد منها تحقيق التسوية بالفعل، فيمكن أن يُؤتى بها، ويمكن أن يؤتى بقسم منها، ويمكن أن يُؤتى بغيرها، فالأمر موسَّع على الإمام، ويكفيه أن يقول مثلاً: استووا وتراصُّوا ولا تختلفوا، ويمكن أن يقول: استووا واعتدلوا، ويمكن أن يقول: استووا وحاذوا بين المناكب وسُدُّوا الخلل، فالقصد التسوية وليس صيغة الكلام الذي يقال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 وعند الاصطفاف ينبغي على المسلمين المبادرة إلى تكوين الصف الأوَّل، فإذا أتموه كوَّنوا خلفه صفَّاً ثانياً، ثم صفَّاً ثالثاً إلى أن تكتمل صفوفهم. وليحرص مَن أراد مزيد فضلٍ وثوابٍ على التقدم إلى الصف الأول، فالصف الأول أفضل الصفوف، يليه الصف الثاني في الفضل، وعلى العكس من ذلك الصف الأخير، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ... » رواه مسلم. وروى مسلم أيضاً اللفظ «لو تعلمون - أو يعلمون - ما في الصف المقدَّم لكانت قُرعة» . وروى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «أتموا الصف الأول ثم الذي يليه، فإن كان نقصٌ فلْيكن في الصف المؤخَّر» رواه أحمد. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأولى» رواه أحمد. وفي رواية أخرى لأحمد من طريق النعمان بن بشير رضي الله عنه قوله عليه الصلاة والسلام «إن الله عزَّ وجلَّ وملائكته يصلُّون على الصف الأول أو الصفوف الأولى» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 فالصف الأول له الفضل الأكبر، يؤكد ذلك ما رواه العِرباض بن سارية رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستغفر للصف المقدَّم ثلاثاً وللثاني مرَّة» رواه أحمد وابن ماجة والنَّسائي وابن حِبَّان والدارمي. وما رُوي عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله وملائكته يصلُّون على الصف الأول، قالوا: يا رسول الله وعلى الثاني، قال: إن الله وملائكته يصلُّون على الصف الأول، قالوا: يا رسول الله وعلى الثاني، قال: وعلى الثاني ... » رواه أحمد. فالصف الأول يذهب بالفضل الأكبر يليه الثاني، ولم أجد للصفوف الأخرى فضلاً منصوصاً عليه سوى ما جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في كتابه المعجم الأوسط من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال «استغفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصف الأول ثلاث مرات، وللصف الثاني مرتين، وللثالث مرة» فذكر الصف الثالث وجعل له فضل استغفار الرسول - صلى الله عليه وسلم - له مرة واحدة، إلا أن هذا الحديث ضعيف جداً، ففي سنده المقدام بن داود وأيوب ابن عقبة ضعيفان، ويحيى بن أبي كثير متهم بالكذب، فلا يصلح هذا الحديث للاحتجاج مطلقاً. وأعود وأُكرر ثانية ليحرصْ مَن أراد مزيد فضل وثواب على التقدم إلى الصف الأول، وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحرص على أن يُشغل أصحابُه الصفَّ الأول، فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال «رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه تأخُّراً فقال: تقدموا فأْتَمُّوا بي ولْيأْتمَّ بكم مَن بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخِّرهم الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة» رواه أحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وقد تضمن هذا الحديث معنى جليلاً بل عدة معانٍ جليلة أبرزها أن الصفوف كلها تأتمُّ بالإمام فيكون للإمام الفضل الأكبر على الجميع، وأن الصفوف التي تلي الصف الأول تأْتمُّ بالصف الأول، فيكون للصف الأول فضلُ إمامتِه لمن يليه من الصفوف، ولهذا كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشكِّلون الصف الأول، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد اختارهم أئمةً للمسلمين يُقتدى بهم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لِيَلِنِي منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثلاثاً ... » رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن حِبَّان. اصطفافُ النّساء خلف الرّجال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 لقد كان المسلمون يصلُّون زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المساجد رجالاً ونساء، الرجال في المقدمة والنساء خلفهم مباشرة، ولم يكن بين الفريقين حاجز يحول دون رؤية أحد الفريقين للفريق الآخر كما هو حاصل في مساجدنا في هذه الأيام، فكان الرجال الذين في الصف الأخير يستطيعون في أثناء سجودهم رؤية النساء اللواتي يكنَّ في صفِّ النساء الأول، وكذلك النساء كنَّ يرين الرجال وهم ساجدون، وربما رأين منهم عوراتهم، وربما أدى هذا وذاك إلى إشغال هؤلاء وأُولئك، بل ربما أدى ذلك إلى ارتكاب الحرام، ولذلك ذمَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصف الأخير للرجال وذمَّ الصف الأول للنساء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «خير صفوف الرجال أولها وشرُّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرُها وشرُّها أولها» رواه مسلم وابن ماجة والدارمي وابن حِبَّان. وجاء حديث ثان يُبيِّن العلة من ذلك هو ما رُوي عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال «لقد رأيت الرجال عاقدي أُزُرِهم في أعناقهم مثل الصبيان من ضيق الأُزُر خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال قائل: يا معشر النساء لا ترفعن رؤوسكن حتى يرفع الرجال» رواه مسلم والبخاري وأبو داود وأحمد وابن خُزَيمة. ورواه ابن حِبَّأن بلفظ «كنَّ النساء يُؤمرن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة أن لا يرفعن رؤوسهن حتى يأخذ الرجال مقاعدهم من الأرض من ضيق الثياب» . وروى أحمد حديثاً أصرح في بيان العلة من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال « ... إن خير صفوف الرجال المقدَّم وشرَّها المؤخَّر، وخيرَ صفوف النساء المؤخَّر وشرَّها المقدَّم، يا معشر النساء إذا سجد الرجال فاغْضُضْن أبصاركن لا ترين عورات الرجال من ضيق الأُزُر» . فالعلة هي نظر الرجال للنساء ونظر النساء للرجال، فكان الشرُّ في تأخر الرجال إلى الصف الأخير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وتقدُّم النسوة إلى الصف الأول. وقد نزل في ذلك قرآن، قال ابن عباس رضي الله عنه «كانت امرأةٌ تصلي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسناءُ من أحسن الناس، قال فكان بعض القوم يتقدم في الصف الأول لئلا يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخَّر، فإذا ركع نظر من تحت إبطه، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين» رواه النَّسائي وابن خُزَيمة. والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فإن وجدت العلة وجد الحكم، وإن انتفت العلة انتفى الحكم، وبتطبيق هذه القاعدة الأصولية على واقع المساجد في أيامنا الراهنة نجد أن الرجال لم يعودوا يرون النساء في أثناء الصلاة، وأن النساء لم يعدن يرين الرجال في الصلاة، وحتى لو لحظن الرجال من خلال الثقوب والستائر الفاصلة فإنهن لم يعدن يرين عورات الرجال بعد أن اكتَسَوْا بثياب سابغة تحول دون كشف العورات، عكس ما كان عليه حال المسلمين في زمن نزول الآية الكريمة، وعلى هذا فإنه ليس على النسوة بأس في مساجدنا الحالية إن هنَّ تقدَّمنَ إلى الصف الأول، ولا يكنَّ بتقدمهن قد اقترفْن شراً وأتين محذوراً، ويصبح الحال بالنسبة لهن أن الصف الأول والصف الثاني والصف المؤخَّر لها الحكم نفسه وهو الإباحة دون كراهة، فلْتُصلِّ المرأة في الصف الذي تختاره دون حرج. وأما بخصوص الرجال فإن فضل الصف الأول وفضل الصف الثاني يبقيان على حالهما، وذلك لعلة أخرى أشرنا من قبل إليها، فلْيبق حرص الرجال على الصف الأول ثم الذي يليه قائماً، وعندما تعود العلة يعود الحكم، فإن قامت الصلاة في مسجد لا حاجز فيه، أو قامت صلاةٌ في فلاة من الأرض كما يحدث في مصلى العيد، أو قامت صلاة في السفر في العراء، عادت العلة فعاد بعودتها الحكم السابق، وهو أن الشر في تقدُّم النساء إلى الصف الأول، وفي تأخر الرجال إلى الصف المؤخَّر. وضعُ اليدين في الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 يُندب للمصلي أن يضع يده اليمنى على كفِّ يده اليسرى شادَّاً بهما على صدره، وإن هو نشر أصابع يده اليمنى على رسغ اليسرى وشئ من الساعد فحسن، فهذه الكيفية هي ما جاءت في أصح النصوص، فعن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال «حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أو حين نهض إلى المسجد، فدخل المحراب ثم رفع يديه بالتكبير، ثم وضع يمينه على يسراه على صدره» رواه البيهقي. وعنه قال «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره» رواه ابن خُزَيمة. وعن قبيصة بن هُلْب عن أبيه قال «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن يمينه وعن يساره، ورأيته قال يضع هذه على صدره، وصفَّ يحيى اليمنى على اليسرى فوق المِفْصل» رواه أحمد. وعن طاووس قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم يشدُّ بهما على صدره وهو في الصلاة» رواه أبو داود. وعن وائل بن حُجْر قال «قلت لأنظرنَّ إلى صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلي، فنظرت إليه فقام فكبَّر، ورفع يديه حتى حاذتا بأذنيه، ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرُّسغ والساعد ... » رواه النَّسائي وابن خُزَيمة. أما الروايات التي تذكر وضع اليدين على السرة أو تحتها فأقل من هذه الروايات عدداً وأضعف منها سنداً، وأما إرسال اليدين على الجانبين ففهمٌ ضعيف لحديث جابر بن سمرة عند مسلم بلفظ «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنا إذا سلَّمنا قلنا بأيدينا السلام عليكم السلام عليكم، فنظر إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شُمْسٍ؟ إذا سلَّم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يومئ بيده» . فالنهي هنا عن رفع اليدين عند التسليم فقط، ثم إن أصحاب هذا الرأي يرون أن وضع اليدين على الصدر يتنافى مع الخشوع، وأن الخشوع يقتضي إسبال اليدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 ويكره وضع اليدين على الخاصرتين، وهو المسمى بالتَّخصُّر أو الاختصار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «نُهِي أن يصلي الرجل مختصِراً» رواه البخاري ومسلم. ورواه ابن حِبَّان ومسلم أيضاً والنَّسائي بلفظ «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الرجل مختصراً» . وروى أحمد عن يزيد بن هرون «أنبأنا هشام عن محمد عن أبي هريرة قال: نُهي عن الاختصار في الصلاة، قال: قلنا لهشام: ما الاختصار؟ قال: يضع يده على خصره وهو يصلي، قال يزيد: قلنا لهشام: ذكره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال برأسه أي نعم» . النظرُ في الصلاة يُنْدَب للمصلي أن ينظر وهو واقف إلى موضع سجوده، وأن ينظر وهو جالس إلى ركبتيه وما بينهما، وإنْ هو ركَّز نظره على سبَّابته فوق ركبته اليمنى فقد أحسن. هذا هو الوضع الأمثل للنظر في الصلاة، وهو مندوب وليس بواجب، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يا أنس اجعل بصرك حيث تسجد» رواه البيهقي. وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في التَّشهُّد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بالسَّبَّابة، ولم يجاوز بصرُه إشارتَه» رواه أحمد ومسلم والنَّسائي والبيهقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 أما الالتفات في الصلاة فقد جاءت النصوص تنهى عنه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت «سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة فقال: هو اختلاسٌ يختلسه الشيطان من صلاة العبد» رواه البخاري. وجاءت نصوص تخفِّف النهي عنه في صلاة التطوع ليبقى النهي شديداً في صلاة الفريضة، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً «يا أيها الناس إياكم والالتفات، فإنه لا صلاة للمُلْتفِت، فإنْ غُلبتم في التطوُّع فلا تُغلَبُنَّ في الفرائض» رواه أحمد والبخاري في التاريخ الكبير وسكت عنه. والالتفات المنهي عنه هو أن يلوي المصلي عنقه يمنةً ويسرةً بحيث يصبح نظره إلى غير جهة الكعبة، كأن ينظر إلى الغرب أو ينظر إلى الشرق، فهذا هو الالتفات الذي يشمله النهي الشديد. أما الالتفات يمنةً ويسرةً فيما بين المشرق والمغرب، أي الالتفات إلى هنا وهناك في اتجاه الكعبة فلا بأس، ولا يدخل تحت النهي، فعن ابن عباس رضي الله عنه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلتفت في صلاته يميناً وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهره» رواه الحاكم وابن خُزَيمة. فلَيُّ العنق خلف الظهر يحوِّل النظر عن جهة الكعبة، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يزال الله مقبلاً على العبد ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه» رواه الحاكم. ورواه أحمد بلفظ «لا يزال الله عزَّ وجلَّ مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه» . معنى إذا صرف وجهه: إذا نظر إلى غير الاتجاه المطلوب وهو الاتجاه نحو القِبلة. فالالتفات الذي يخرج عن التوجه نحو الكعبة هو المنهيُّ عنه، وهو حرام بلا شك لأنه يحوِّل الصلاة إلى غير استقبال القبلة، أما إن بقي الالتفات في دائرة التَّوجُّه نحو الكعبة فلا بأس به ولا يشمله النهي، وغنيٌّ عن البيان أن النظر بالعينين فحسب يمنةً ويسرةً مع بقاء العنق ثابتاً لا شئ فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 إلا أنَّ هناك التفاتاً من نوع آخر يحصل بتحريك الوجه، كما يحصل بتحريك العينين فحسب، ويكون في الحالتين حراماً، هو رفع البصر إلى السماء في الصلاة، فهذا الرفع للبصر قد ورد النهي الشديد عنه، وأنَّ على المصلي أن يُطأطئ رأسه وبصره، ويُحبَّذ أن يصوِّب بصره نحو موضع سجوده وهو واقف، وأن ينظر إلى سبَّابته أو ركبتيه وما بينهما وهو جالس، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت: الذين هم في صلاتهم خاشعون، فطأطأ رأسه» رواه الحاكم. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لَيَنتهيَنَّ أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم» رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لينتهيَنَّ أقوامٌ عن رفعهم أبصارَهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتُخطَفَنَّ أبصارُهم» رواه مسلم. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما بال أقوامٍ يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟ فاشتدَّ قوله في ذلك حتى قال: ليُنْتَهَيَنَّ عن ذلك أو لَتُخْطَفَنَّ أبصارهم» رواه البخاري وأحمد والنَّسائي وابن حِبَّان. فقد جاء النهي بصيغة شديدة، فقوله [لينتهينَّ] تضمَّن لام الأمر ونون التوكيد، وقوله [أو لا ترجع إليهم] ، وقوله [أو لتُخْطَفَنَّ أبصارهم] قرينةٌ إضافية على التحريم والنهي الجازم. فمن التفت إلى غير جهة القِبلة يميناً وشمالاً، أو التفت إلى السماء صُعُداً فقد صلى إلى غير جهة القِبلة وترك بذلك واجب الاستقبال، فوقع في الإثم، إلا أنه مع ذلك لا تجب عليه إعادة الصلاة وتظل صلاته مقبولة مع حصول النقص فيها، بدلالة قوله عليه الصلاة والسلام «اختلاسٌ يختلسه الشيطان من صلاة العبد» المار في صدر هذا البحث. الجهرُ في الصلاة الجهرية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 الجهر في الصلاة يكون في صلاة المغرب وصلاة العشاء وصلاة الصبح، كما يكون في صلاة التطوُّع في الليل، ويكون في صلاة الجمعة وصلاة العيدين وصلاة الاستسقاء وصلاة الكسوف، وما سوى هذه الصلوات فالإسرار فيها هو المشروع. ويكون الجهر في قراءة الفاتحة وما تيسر من القرآن بعدها في الركعتين الأوليين فقط، ويكون أيضاً في تكبيرة الإحرام وسائر التكبيرات، كما يكون في قوله: سمع الله لمن حمده، عقب الرفع من الركوع، ويكون في التسليم عن اليمين وعن الشمال، وهذا كله معلوم ومعروف. أما قدر الجهر في الصلاة الجهرية فقد ورد فيه الحديثان الآتيان: أ- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال «كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قدر ما يسمعه مَن في الحجرة وهو في البيت» رواه أبو داود. والبيت هنا: يعني مكان النوم أو غرفة النوم. والحجرة هنا: تعني صحن الدار أو ساحتها. ب- عن أبي قتادة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ليلة فإذا هو بأبي بكر رضي الله عنه يصلي يخفض من صوته، قال: ومرَّ بعمر بن الخطاب وهو يصلي رافعاً صوته، قال: فلما اجتمعا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر مررتُ بك وأنت تصلي تخفض صوتك، قال: قد أسمعتُ مَن ناجيتُ يا رسول الله، قال: وقال لعمر: مررتُ بك وأنت تصلي رافعاً صوتك، قال: فقال: يا رسول الله أُوقظ الوسنان وأطرد الشيطان، زاد الحسن في حديثه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئاً، وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئاً» رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 يبين هذان الحديثان أن الجهر المشروع هو ما كان متوسطاً بين الشدة في الرفع وبين الضعف في الصوت والخفوت فيه، فلا يوصف بالارتفاع ولا بالانخفاض والخفوت، فقوله في الحديث «يخفض من صوته» و «رافعاً صوته» ثم علاج الأمرين بقوله «ارفع من صوتك شيئاً» وبقوله «اخفض من صوتك شيئاً» واضح الدلالة على مشروعية الاعتدال ورفض الرفع والانخفاض، ويأتي الحديث الأول ليحدِّد قدر الجهر بشكل دقيق، وهو الصوت الذي إذا انبعث من داخل غرفة النوم سمعه من يقف في ساحة الدار. فهذا هو الجهر المشروع في الصلاة. أما ما رواه أبو داود عن أبي هريرة قال «كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل: يرفع طوراً ويخفض طوراً» . وما رواه أحمد عن يحيى بن معمر عن عائشة رضي الله عنها قال «قلت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع صوته بالقراءة؟ قالت: ربما رفع وربما خفض» . فيخطئ مَن يستدل بهما على قدر الجهر في الصلاة، ذلك أن هذين الحديثين قد وردا في موضوع جواز الجهر في الصلاة، ولم يردا في موضوع قدر الجهر، فقوله في الحديث الأول «يرفع طوراً ويخفض طوراً» وقوله في الحديث الثاني «ربما رفع وربما خفض» جاء لبيان حكم الجهر في الصلاة، وأنه الجواز، بدلالة فعله عليه الصلاة والسلام في صلاته، إذ كان يجهر مرة ولا يجهر مرة أخرى بل يُسِرُّ، ولو كان الجهر واجباً لما تركه عليه الصلاة والسلام في صلاته الجهرية مراتٍ، وحكم الجهر في الصلاة موضوع مغاير لقدر الجهر في الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 وما يدعم هذا الفهم ويؤكده ما رواه عبد الله بن أبي قيس قال «سألت عائشة ... كيف كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل أيجهر أم يُسرُّ؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل، وربما جهر وربما أسرَّ» رواه أحمد والنَّسائي والترمذي وصححه. فقولها «ربما جهر وربما أسرَّ» واضح الدلالة على ما نقول، ووقع عند أبي داود ما يلي: عن غضيف بن الحارث قال «قلت لعائشة ... أرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالقرآن أم يخفت به؟ قالت: ربما جهر به وربما خفت ... » . فقولها رضي الله عنها «ربما جهر به وربما خفت» واضح الدلالة هو الآخر على ما نقول، فقد أخرجت رضي الله عنها الخفوت من الجهر وجعلته في باب الإسرار، وإذن فإن قول الحديثين السابقين «يخفض طوراً» و «ربما خفض» يعني ترك الجهر والعمل بالإسرار، وهذا إنما هو لبيان حكم الجهر وليس لبيان قدر الجهر. دعاءُ الاستفتاح هو ما يقوله المصلي من ذِكْرٍ ودعاء مفتتحاً به صلاته عقب تكبيرة الإحرام وقبل الفاتحة، وهو سنَّة مستحبة، وقد وردت له عدة صيغ أصحها سنداً مع سهولة حفظها ما يلي [اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من خطاياي كما يُنقَّى الثوبُ الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبَرَد] فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبَّر في الصلاة سكت هُنيَّةً قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من خطاياي كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبَرَد» رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 وإن هو استفتح صلاته بما يلي فهو حسن [سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك ولا إله غيرُك] فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك ولا إله غيرك» رواه الطبراني في كتاب الدعاء. وروى عَبْدة رضي الله عنه «أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرُك ... » رواه مسلم. وإن هو استفتح بهذه الكلمات [الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً] فحسنٌ كذلك، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال «بينما نحن نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بُكرة وأصيلاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن القائل كلمة كذا وكذا؟ قال رجل مِن القوم: أنا يا رسول الله، قال: عجبتُ لها فُتِحت لها أبواب السماء، قال ابن عمر: فما تركتهنَّ منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك» رواه مسلم. وإن هو استفتح بهذه الكلمات فحسن [اللهم ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم] فعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان - تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالِمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مستقيم» رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وإن كان المصلي منفرداً يملك وقته، أو كان إمام جماعة لا يخشى من التطويل في صلاته، فيمكنه الاستفتاح بالدعاء الطويل الوارد في الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال «وجَّهتُ وجهيَ للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أُمِرتُ وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئَها لا يصرف عني سيئَها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك، والشَّرُّ ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركتَ وتعاليتَ، أستغفرك وأتوبُ إليك ... » رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 ودعاء الاستفتاح مندوب للإمام وللمأموم وللمنفرد، في صلاة الفريضة كما في صلاة النافلة. أما الإمام والمنفرد فيدعوان به عقب تكبيرة الإحرام وقبل الفاتحة، وأما المأموم فيدعو به كذلك في هذه الفترة، إلا أنه يتخير سكتة الإمام في الصلاة الجهرية قبل شروعه في قراءة الفاتحة، ولا يدعو به والإمام يقرأ، إذ ربما لم يسكت الإمام وشرع في الفاتحة عقب التكبير مباشرة، أو وصل المأموم والإمام قد شرع في قراءة الفاتحة أو السورة التي بعدها، فحينئذ لا يجوز للمأموم أن يدعو بدعاء الاستفتاح، لأن الإمام حين يقرأ يجب على المأموم الاستماع والإنصات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنما جُعل الإمام ليُؤتمَّ به، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قرأ فأنصتوا» رواه أحمد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى صلاة جهر فيها بالقراءة، ثم أقبل على الناس بعدما سلَّم فقال: هل قرأ منكم أحدٌ معي آنفاً؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: إني أقول ما لي أُنازَعُ القرآن، فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يجهر به من القراءة، حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه أحمد. وقال عزَّ وجلَّ {وإذا قُرِئ القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} الآية 204 من سورة الأعراف. وقد ذكر جِلَّةٌ من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الآية نزلت في المصلين عند قراءة إمامهم، منهم عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبو هريرة وعبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنهم أجمعين. التّعوُّذُ في الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 يُندب التعوُّذُ بالله عزَّ وجلَّ في الصلاة من الشيطان الرجيم عقبَ دعاء الاستفتاح وقبل قراءة الفاتحة، قال تعالى {فَإذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ باللهِ مِن الشَّيْطانِ الرَّجِيْمِ} الآية 98 من سورة النحل. ويتحقق الندب بأية صيغة من صيغ التعوُّذ كصيغة [أعوذ بالله من الشيطان الرجيم] وهي أشهر الصيغ، وكصيغة [أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم] وكصيغة [اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من هَمْزِهِ ونفخِه ونَفْثِهِ] . ويكفي المصلي أن يتعوَّذ في الركعة الأولى فقط، لأن النصوص أمرت به في الركعة الأولى، ولم يأت ما يدل على تكراره في الركعات الأخرى، ثم إن الصلاة بمثابة جلسةِ قراءةِ قرآنٍ واحدة، فكما أن قارئ القرآن يكفيه تعوَّذ واحد في الجلسة الواحدة فكذلك يكفي المصلِّي تعوُّذ واحد في الصلاة الواحدة، فعن ابن جُبير بن مُطعم عن أبيه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل في الصلاة قال ... اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من هَمْزِه ونَفْخِه ونَفْثِه» رواه ابن ماجة. ومعنى همزه: الصَّرَع من مسِّ الشيطان. والنفخ: هو الكِبْر. والنَّفث: النفخ مع شئ من الريق وهو دون التَّفل، والسَّحَرةُ يستعملونه في سحرهم. وعن أبي سعيد قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل فكبَّر قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك ولا إله غيرك، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزِه ونَفثهِ ونَفخهِ ثم يستفتح صلاته» رواه الدارمي. البسملةُ في الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 لست أريد هنا إثباتَ أو نفيَ أن [بسم الله الرحمن الرحيم] آيةٌ من سورة الفاتحة، أو آيةٌ من كل سُوَر القرآن المائة والثلاث عشرة سوى سورة براءة، فهذه المسألة داخلة في موضوع العقيدة، وأنا في هذا الكتاب أَقصر البحث على الأحكام الشرعية والمسائل العملية المتعلقة بالصلاة وأحكامها، كما أنني لست أريد هنا أن أُثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ السورة من القرآن في غير الصلاة افتتح قراءته بالبسملة، فهذه المسألة عامة، وإنما أريد حصر البحث بقراءة الفاتحة وسور القرآن في الصلاة فقط، فعنوان البحث هو [البسملة في الصلاة] فالبحث محصور به لا يتعداه إلى غيره. ولقد سار جمهرة الفقهاء في بحث هذه المسألة بأن وضعوا هذه المسائل الثلاث على صعيد واحد في بحثهم، فخاضوا في المسألة الأولى، فلما استنبط فريقٌ منهم أن البسملة آية من سورة الفاتحة قالوا بوجوب الجهر بها في الصلاة الجهرية، ولما استنبط فريق آخر أن البسملة ليست آية من سورة الفاتحة قالوا بوجوب الإسرار بها، بل إنَّ مِن هؤلاء مَن غالى برأيه فقال بكراهة قراءة البسملة في الصلاة سراً وجهراً، ذلك أن هؤلاء وأولئك عندما نظروا في النصوص وجدوا نصوصاً تقول بالجهر بها، ونصوصاً تقول بالإسرار بها، فأخذ الفريق الأول النصوص القائلة بالجهر، ولكنهم لم يستطيعوا تأويل النصوص القائلة بالإسرار إلا بتعسُّف، بل إن منهم من ردَّها، وأخذ الفريق الآخر النصوص القائلة بالإسرار لأنها أقوى إسناداً، فرجَّحوها على النصوص القائلة بالجهر، ولا زالت هذه المسألة عالقة بين هؤلاء وأولئك دون حسم، والسبب في ذلك هو خلطهم المسائل الثلاث، رغم أن منها ما يتعلق بالاعتقاد، ومنها ما يتعلق بالأحكام، وشتان بين هذين الصعيدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وأنا هنا أريد بحث مسألة البسملة في الصلاة في صعيدها نائياً بها عما سواه من الصُّعُد، فأقول: إن النظر في النصوص المتعلقة بهذه المسألة يوصلنا إلى الرأي القائل بالإسرار بقراءة البسملة في الصلاة، ذلك أن هذا الرأي هو الراجح، وهو ما تدل عليه النصوص الصحيحة، وما يتعيَّن على المسلمين المصيرُ إليه والعملُ به، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» رواه مسلم. وعنه رضي الله عنه قال «صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بـ الحمدُ لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخره» رواه مسلم. وروى رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بـ الحمدُ لله رب العالمين» رواه البخاري. وعنه رضي الله عنه قال «صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلف أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وكانوا لا يجهرون بـ بسم الله الرحمن الرحيم» رواه أحمد وابن حِبَّان على شرط مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 فهذه أربع روايات صحيحة وردت في الإسرار بالبسملة في الصلاة من طريق أنس بن مالك رضي الله عنه. وروت عائشة رضي الله عنها «أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستفتح القراءة بـ الحمدُ لله رب العالمين» رواه أحمد. ورواه مسلم وابن حِبَّان بلفظ «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ الحمدُ لله رب العالمين ... » . وعن ابن عبد الله بن مغفَّل قال «سمعني أبي وأنا في الصلاة أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال لي: أَيْ بني مُحْدَثٌ، إياك والحَدَثَ، قال: ولم أر أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أبغضَ إليه الحَدَث في الإسلام، يعني منه، وقال: وقد صليتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر وعمر وعثمان فلم اسمع أحداً منهم يقولها فلا تقُلْها، إذا أنت صليت فقل الحمدُ لله ربِّ العالمين» رواه الترمذي. وقال (حديث عبد الله بن مغفَّل حديث حسن، والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، ومن بعدهم من التابعين) . ورواه أحمد. وقد رماه الفريق الآخر بالضعف لأن في إسناده ابن عبد الله بن مُغفَّل، قالوا إنه مجهول، والجواب على هذه الشبهة أن ابن عبد الله اسمه يزيد ذكره الطبراني وأحمد، فانتفت الجهالة عن الراوي هذا. وروى البزَّار عن ابن عباسٍ «أنه سُئل عن الجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: كنا نقول هي قراءة الأَعراب» . فهذه جملة من الأحاديث الصحيحة والحسنة تقول بالإسرار، فيتعين الأخذ بها، ولا يصح تجاهلها أو إهمالها، أو ردها وإبطالها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 وقد حاول ابن عبد البر رمْيَ حديث مسلم بالاضطراب ومن ثَمَّ بالضعف والرَّدِّ، فتعقَّبه الحافظ ابن حجر في فتح الباري مفنِّداً هذه التهمة قائلاً بعد ذلك (فاندفع بهذا تعليلُ من أعلَّه بالاضطراب كابن عبد البَر) ذلك أن الفريق الآخر القائل بالجهر لم يستطع التعامل مع هذه الأحاديث الصحيحة والحسنة بما يجب من الاعتبار فضلاً عن انهم استدلوا على قولهم بالجهر بأحاديث منها الضعيفة، ومنها ما يحتاج إلى تأويل، ولم يُورِدوا أيَّ حديث صحيح واضح الدلالة على ما يقولون، فقد استدلوا بما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته بـ بسم الله الرحمن الرحيم» رواه الترمذي. وبما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أُنزلت عليَّ آنفاً سورةٌ، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر حتى ختمها ... » رواه أبو داود. وبما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول «الحمد لله رب العالمين سبعُ آيات إحداهن بسم الله الرحمن الرحيم، وهي سبع المثاني والقرآن العظيم، وهي أم القرآن وفاتحة الكتاب» رواه الطبراني. وبما روته أم سلمة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم فعدَّها آية، والحمد لله رب العالمين آيتين، وإياك نستعين وجمع خمس أصابعه» رواه ابن خُزَيمة. وبما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم» رواه أبو داود. وبما رواه علي رضي الله عنه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم في السورتين معاً» رواه الدارقطني. وبما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجهر في الصلاة بـ بسم الله الرحمن الرحيم» رواه الدارقطني. وبما رواه ابن عمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 رضي الله عنهما «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة بدأ بـ بسم الله الرحمن الرحيم» رواه الطبراني. وقد جمع الدارقطني الأحاديث القائلة بالجهر بالبسملة في الصلاة أو التي استدل بها من قال بذلك فزادت على العشرين حديثاً، واستدلوا أخيراً بما رواه نعيم المُجْمِر رضي الله عنه قال «صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن، حتى إذا بلغ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال آمين، فقال الناس آمين، ويقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس في الاثنتين قال: الله أكبر، وإذا سلَّم، قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهُكم صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه النَّسائي والحاكم والبيهقي. واستدلوا بأحاديث أخرى غيرها لا تخرج عن هذه الأحاديث من حيث الإسناد أو المتون ضربنا عنها صفحاً خشيةَ الإطالة، ولأنها لا تضيف إلى هذا البحث فائدة. فنقول لهؤلاء: أما حديث ابن عباس عند الترمذي فقال الترمذي عنه (إسناده ليس بذاك) ورواه الدارقطني من عدة طرق كلها ضعيفة، فمثلاً في إسناد أحدها أبو الصَّلت الهَرَوي قال فيه العُقَيلي والدارقطني (رافضيٌّ خبيث) وفي إسناد آخر أبو خالد مجهول، وفي إسناد آخر عمر بن حفص ضعيف، قال ابن الجوزي عنه (أجمعوا على ترك حديثه) وأما حديث أنس عند أبي داود فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قرأ البسملة في غير الصلاة، فيصلح هذا الحديث للاستدلال به على المسألة الثانية من المسائل الثلاث التي أشرنا إليها، ولا يصلح للاستدلال به على البسملة في الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 وأما حديث أبي هريرة عند الطبراني فإنه في مسألة العقيدة وليس في مسألتنا، ثم هو معارَض بحديث أصح إسناداً منه، فقد روى أبو هريرة نفسه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، ثلاثاً غير تمام، فقيل لأبي هريرة: إنَّا نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: قُسِمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم، قال الله تعالى أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين، قال مجَّدني عبدي، وقال مرة فوَّض إليَّ عبدي، فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين، قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب علهم ولا الضالين، قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» رواه مسلم. فهذا الحديث استدل به القائلون بأن البسملة ليست من سورة الفاتحة، إذ لو كانت البسملة آية من الفاتحة حسب فهمهم لذكرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في معرض قِسمة آيات الفاتحة قسمين، فهذا الحديث الذي يرويه أبو هريرة يعارض الحديث الذي رواه الطبراني من طريق أبي هريرة نفسه، وهو أقوى منه إسناداً وأصح بلا شك، إضافةً كما قلتُ من قبلُ إلى أن كِلا الحديثين ليسا في موضوعنا [الجهر بالبسملة في الصلاة] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 وأما حديث أم سلمة عند ابن خُزَيمة فإنه يدل على أن البسملة آية من الفاتحة، فإذا قرأ المصلي الفاتحة قرأ البسملة دون أن يتطرق الحديث هذا إلى مسألة الجهر أو الإسرار عند القراءة فلا دلالة فيه على مسألتنا، وأما حديث ابن عباس عند أبي داود فيصلح للاستدلال به على المسألة الأولى دون مسألتنا، وأما حديث عليٍّ عند الدارقطني فقد رواه الدارقطني من عدة طرق بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة. فمثلاً في سند إحداها عيسى بن عبد الله قال عنه الدارقطني (متروك الحديث) وقال ابن حِبَّان (يروي عن آبائه أشياءَ موضوعة) وفي سند طريق ثانية أحمد المقري قال عنه الدارقطني (ليس بثقة) ، وفي سند طريق ثالثة لعلي وعمَّار معاً عمرو بن شمر وجابر الجُعفي ضعيفان، قال الحاكم (عمرو بن شمر كثير الموضوعات عن جابر وغيره ... ) وقال أبو حنيفة: ما رأيت أكذب من جابر الجُعفي. وأما حديث ابن عمر عند الطبراني ففيه عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر العمري قال الهيثمي عنه (ضعيف جداً) وأما أحاديث الدارقطني التي زادت على العشرين فليس منها حديث واحد صحيح، وما حديثُ عليٍّ بطرقه المختلفة إلا نموذجٌ لها فلا تقوى مجتمعة على معارضة أحاديث الإسرار الصحيحة والحسنة، فجميع هذه الأحاديث التي تناولتها بالتعليق إما ضعيفة وضعيفة جداً، وهي الأكثرية، وإِما أنها جاءت في غير مسألتنا [الجهر بالبسملة في الصلاة] فهي قد جاءت في المسألة الأولى أو في المسألة الثانية، فلا تصلح مطلقاً لمعارضة أحاديث الإسرار بالبسملة في الصلاة. وهكذا لم يبق من أحاديثهم ما يصلح للاستدلال به على مسألتنا إضافةً إلى صلاحه للاحتجاج سوى حديث نعيم المُجْمِر عند النَّسائي والحاكم والبيهقي، فهذا الحديث قال عنه ابن حجر (هو أصح حديث ورد في ذلك يعني في الجهر بالبسملة) وهو يتناول مسألتنا بشكل واضح، فلْنقف معاً عند هذا الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 أولاً: لقد روى جماعة غير نعيم عن أبي هريرة رواية بدون ذكر البسملة، مما يجعلنا نشك في هذه الرواية. وثانياً: إن الحديث يذكر فعلاً لصحابي هو أبو هريرة، وفعل الصحابي ليس دليلاً، وإنما هو حكم شرعي يجوز تقليده، فلا يصمد أمام النصوص، أي الأدلة التي جاءت أفعالاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - يجب أخذها والعمل بها. وثالثاً: أما قول أبي هريرة في آخر الحديث «إني لأشبهكم صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -» مما يجعل بعضهم يعطيه صفة الرفع إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فغير مسلَّم به عندنا، إذ هناك فارق بين قول أبي هريرة (إني أشبهُكم صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وبين أن يقول مثلاً (إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صلى كما صليت) فالعبارة الأولى محتملة الدلالة وليست قطعية، لأن التشابه بين صلاتين غير المماثلة بينهما، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال كما هي القاعدة الأصولية. ورابعاً: إن هذا الحديث يذكر أن أبا هريرة قد قرأ البسملة وقرأ الفاتحة، وعطف قراءة الفاتحة على قراءة البسملة بـ ثمَّ، مما يدل على المغايرة بين البسملة والفاتحة، إذ لو كانت البسملة من الفاتحة لما عطف إحداهما على الأخرى، فالحديث حجَّة على القائلين بالجهر أكثر مما هو حجة لهم. وخامساً: إن هذا الحديث يذكر أن أبا هريرة قد قرأ البسملة دون أن يبين لنا إن كانت القراءة جهراً أو مخافتة، ونحن لا نبحث عن أدلة على قراءة البسملة هنا، وإنما نبحث عن أدلة الجهر بها، فالقراءةُ لها شئ، والجهرُ بقراءتها شئ آخر، وهذا الحديث لم يتطرق إلى مسألة الجهر، فلا يصلح دليلاً على الجهر بالبسملة بحال من الأحوال. وهكذا يتضح تماماً أن هذا الحديث لا يقوى على الصمود أمام الأحاديث الصحيحة والحسنة القائلة بالإسرار بالبسملة في الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 إن قولي بالإسرار بالبسملة في الصلاة لا يعني أنني من أصحاب القول بأن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من سور القرآن، ذلك أنني كما قلت سابقاً قد فَصَلتُ بين المسألة والأخرى من المسائل الثلاث، فالقول بالجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية لا يجب أن يُحمل على أن ذلك يعني اعتبار البسملة من الفاتحة، والقول بالإسرار لا يعني أن البسملة ليست من الفاتحة، فالجهر والإسرار أمران مختلفان عن القول بأن البسملة آية من الفاتحة أو أنها ليست آية منها، ولا يصلح إثبات الجهر أو إثبات الإسرار على إلحاق البسملة بالفاتحة أو إخراجها منها. وقد انقسم أصحاب القراءات قسمين: قسم يقول بإثبات البسملة كآية من الفاتحة ومن السور الأخرى باستثناء سورة براءة منهم: ابن كثير وقالون وعاصم والكسائي، وقسم يقول بحذفها عند قراءة القرآن حين وصْلِ السور منهم: أبو عمرو وحمزة ووَرْش وابن عامر. وانقسم الأئمة الأربعة أيضاً قسمين: القسم الأكثر يقول بالإسرار بالبسملة وهم: أبو حنيفة ومالك وأحمد، والقسم الأقل يقول بالجهر وهو الشافعي وحده. وانفرد أهل الظاهر وهم داود وجماعته بالقول إن البسملة آية تشكل بمفردها سورة مستقلة من القرآن ليست تابعة لأية سورة أخرى، وهو ظاهر الخطأ. وانقسم الفقهاء حيال قراءة البسملة ثلاثة أقسام: قسم يقول بوجوب قراءتها لأنها من الفاتحة، وقسم يقول باستحباب قراءتها، وقسم ثالث يقول بكراهة قراءتها وأن ذلك بدعة، وهو ظاهر الخطأ. وأنا أقول بوجوب قراءتها، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته كانوا يقرأونها في صلاتهم، ولم يُعرف أنهم تركوا قراءتها مطلقاً، وإنْ هم كانوا يقرأونها في السِّر، فالقراءة بها سراً لا يعني عدم الوجوب، بل لا بد من قراءة البسملة عند قراءة الفاتحة، وتكون القراءة سراً لا جهراً ندباً واستحباباً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 أما لماذا هذا الإسرار بها في الصلاة دون غير الصلاة كما صرَّحت بذلك الأحاديث النبوية الشريفة؟ فالجواب على ذلك فيما رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم هزأ منه المشركون وقالوا: محمد يذكر إله اليمامة، وكان مسيلمة يتسمَّى الرحمن الرحيم، فلما نزلت هذه الآية أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يُجهَر بها» . قال الهيثمي (رجاله موثَّقون) وهو يقصد آية {فَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولا تُخَافِتْ بِهَا} فقد جاء ذِكر هذه الآية صريحاً فيما رواه ابن ابي شيبة عن سعيد بن جبير قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع صوته بـ بسم الله الرحمن الرحيم، وكان مسيلمة قد تسمى بالرحمن، فكان المشركون إذا سمعوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: قد ذُكر مسيلمةُ إلهُ اليمامة، ثم عارضوه بالمُكاء والتَّصْدية والصَّفير، فأنزل الله تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تُخافت بها» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 بقيت مسألةٌ في الإسرار هي: هل الإسرار يعني إخفاءً للصوت إخفاءً تاماً، أم أن الإسرار يعني خفض الصوت بحيث يتميز عن الجهر؟ إن جمهرة الفقهاء أخذوا بالمعنى الأول، وأن الإسرار يعني كتمان الصوت وإخفاءه إخفاء تاماً، مستدلين بما رواه أنس «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» رواه مسلم. فذكر «فلم أسمع أحداً منهم يقرأ» . وأن هذا هو مقابل الجهر استدلالاً بما رُوي عن أنس رضي الله عنه قال «صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلف أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وكانوا لا يجهرون بـ بسم الله الرحمن الرحيم» رواه أحمد. فذكر «وكانوا لا يجهرون» فأخذوا من النَّصَّين أن إعلان الصوت يعني الجهر وأن كتمانه يعني الإسرار، فعندما مرَّت عليهم أحاديث تقول بقراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البسملة في الصلاة مثل حديث أُم سلمة الذي رواه ابن خُزَيمة مثلاً «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم فعدَّها آية ... » . وقد مرَّ قبل قليل، اتخذوها أدلة على الجهر بالبسملة في الصلاة قائلين إن المصلِّين ما كانوا ليسمعوا قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لولا أنه جهر بها. واستناداً إلى هذه الأحاديث قال الشافعي ومعه عدد من الفقهاء منهم إسماعيل بن حماد وأبو خالد الوالبي الكوفي بالجهر بالبسملة في الصلاة. فنقول لهؤلاء وأولئك إن الإسرار هو ضد الجهر، فالجهر هو رفع الصوت، والجهر في الصلاة الجهرية يعني رفع الصوت بحيث يصل إلى المأمومين، فيسمع صوتَ الإمام في القراءة المصلُّون في جميع الصفوف أو في معظمها، لأن المطلوب من الإمام إسماعُ المصلين، فيجهر بالصلاة ليُسمعهم قراءته، والخطيب إذا خطب الناس رفع صوته بحيث يجعلهم يسمعون خطبته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 هذا هو الجهر، يقابله الخفض والإسرار، فعندما يصلي الإمام صلاة سرية كأن يصلي صلاة الظهر فإنه لا يرفع صوته بالقراءة ليُسمع المصلين وإنما يقرأ لنفسه، ولا يعني أنه يقرأ لنفسه أنه يُحظر عليه أن يُسمِع صوتَه المصطفِّين خلفه مباشرة، فلو سمع المصطفُّون خلف الإمام نبرات قراءة الإمام وتبينوا منها أنه يقرأ، بل وسمعوا قراءته الخفيضة فإن ذلك لا يتناقض مع الإسرار، ولا يعتبر هذا الفعل جهراً بالقراءة، والدليل على ما نقول ما رواه أبو قتادة رضي الله عنه، قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورة ويُسمعنا الآية أحياناً» رواه البخاري. فهنا صلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الظهر وهي صلاة سرية، وصلى العصر وهي أيضاً صلاة سرية، ومع ذلك قال الحديث «يقرأ في الركعتين» وذكر أنه قرأ فاتحة الكتاب وسورة سورة، وما كان للراوي أن يعلم بقراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لولا أنه يسمعها، وأوضح من ذلك في الدلالة قوله «ويُسمعنا الآية أحياناً» فكيف يَسمع المصلون قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صلاتي الظهر والعصر السريتين؟ إنهم يسمعون القراءة سماعاً متقطعاً، فمرة يَسمعون وأخرى لا يسمعون بدلالة قوله «ويُسمعنا الآية أحياناً» وما كان ذلك ليكون لو كانت القراءة في نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يفهمون الإسرار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 ولا يكون ذلك أيضاً لو كانت قراءته عليه الصلاة والسلام جهرية، فالإسرار عندهم يعني عدم السماع، والجهر عندنا وعندهم يعني السماع التام، وهنا حصل سماع غير تام، أي حصل الإسرار بالمعنى الذي نذهب إليه. وعن البراء رضي الله عنه قال «كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر فنسمع منه الآية بعد الآيات من سورة لقمان والذاريات» رواه النسائي. أليس هذا النص دليلاً ظاهراً صريحاً على معنى الإسرار؟ إن الصلاة في الظهر وفي العصر صلاة سرية أي أن القراءة فيها تكون بالإسرار ومع ذلك جاء في الحديث الأول «ويُسمعنا الآية أحياناً» وجاء في الحديث الثاني «فنسمع منه الآية بعد الآيات» مما يدل دلالة بادية القوة والوضوح على أن الإسرار يعني خفض الصوت وليس كتمانه بالكليَّة، وأن الاستدلال بهذه النصوص على الجهر في الصلاة السرية استدلال خاطئ، وإلا لما قلنا إن الصلاة في الظهر وفي العصر صلاة سرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 وأيضاً فقد رُوي عن أبي عبد الله الصُّنابحِيِّ أنه قال «قدمت المدينة في خلافة أبي بكر الصِّدِّيق، فصليت وراءه المغرب، فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة وسورة من قصار المُفَصَّل، ثم قام في الثالثة، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد أن تمسَّ ثيابه، فسمعته قرأ بأم القرآن وبهذه الآية {ربَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} » رواه مالك. استمع إليه يقول «ثم قام في الثالثة ... فسمعته قرأ بأُمِّ القرآن وبهذه الآية ... » والركعة الثالثة في صلاة المغرب تكون القراءة فيها بالإسرار قطعاً، ولا يُتصور أن يصليها أبو بكر رضي الله عنه جهراً، ومع هذا الإسرار فإن الصُّنابحِي قد سمعه يقرأ عندما دنا منه، مما يؤكد بما لا يدع مجالاً لخطأ أن الإسرار يعني خفض الصوت وليس كتمانه في هذه الأحاديث. ثم إن قوله هنا «فسمعته قرأ» يدل على أن (القراءة) لا تعني بالضرورة (الجهر) كما فسروها عند الاستدلال بحديث أم سلمة وغيره، ولهذا فإن أي حديث يذكر قراءة البسملة في الصلاة لا يصلح مطلقاً للاستدلال به على الجهر بها، فمن أسرَّ بها قرأ ومن جهر بها قرأ، فالقراءة تكون جهراً وتكون إسراراً، فيسقط استدلالهم بالأحاديث الناطقة بقراءة البسملة على دعواهم بالجهر بها، قال تعالى {وإذْ أَسَرَّ النبيُ إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيْثَاً ... } الآية 3 من سورة التحريم. فهذه الآية دلَّت على ما نذهب إليه من معنى الإسرار وهو خفض الصوت وليس كتمانه بالكلية، إذ عندما سمع مَن سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ البسملة بالإسرار ونقل أنه سمع البسملة، أو نقل أنه سمع قراءة البسملة ظن بعضهم أن ذلك دالٌّ على الجهر بها فقالوا بالجهر بالبسملة في الصلاة، ولو أدركوا معنى الإسرار حقيقة لما قالوا ما قالوا، ولما اضطروا إلى معارضة الأحاديث الصحيحة والحسنة القائلة بالإسرار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وأخيراً أعود لحديث نعيم المُجْمِر ثانية، فقد وجدتُ في صحيح ابن حِبَّان رواية لهذا الحديث كالتالي «صليت وراء أبي هريرة فقال بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم الكتاب، حتى إذا بلغ غير المغضوب عليهم ... » . فقد جاء في الحديث قوله «فقال بسم الله الرحمن الرحيم» وعقَّب عليه بقوله «ثم قرأ بأم الكتاب» فالبسملة قالها والفاتحة قرأها، فهذا التفريق بين تلاوة البسملة وتلاوة الفاتحة يدل على اختلاف الصوت بينهما، وما دام أن الفاتحة يُجهَر بها - وهنا عبَّر عن الجهر بالقراءة - فإن البسملة لم يُجهر بها، لأنه لم يقل إنه قرأ بها واكتفى بالقول إنه قالها، وذلك يعني المغايرة بينهما، فلم يبق إلا الإسرار بها، وهذه نقطة سادسة في الرد على حديث نعيم مما يجعله غير صالح للاستدلال على الجهر بالبسملة في الصلاة. قراءةُ الفاتحة في الصلاة تجب قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة لا فرق بين ثنائية وثلاثية ورباعية، ولا بين مكتوبة ونافلة، ولا بين إمام ومأموم ومنفرد في سِرية أو جهرية. فالفاتحة - وتُسمى أيضاً أُمَّ القرآن - تجب قراءتها في كل صلاة في كل ركعة، ومن لم يقرأها في صلاته فصلاته باطلة تجب عليه إعادتها، فقد وردت نصوص صريحة قطعية الدلالة على ذلك: فروى عُبادة ابن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» رواه البخاري ومسلم وأحمد. وأصرح منه في الدلالة ما رواه الدارقطني من طريق عبادة بن الصامت بسند صحيح بلفظ «لا تُجزئ صلاةٌ لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب» . وروى ابن حِبَّان من طريق أبي هريرة الحديث بلفظ «لا تجزئ صلاةٌ لا يُقرَأُ فيها بفاتحة الكتاب، قلت: وإن كنت خلف الإمام؟ قال فأخذ بيدي وقال: اقرأ في نفسك» . فأي ادعاء بغير ذلك فهو معارِضٌ للنصوص قطعية الدلالة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 وقد استدل عدد من الفقهاء بنصوص أخرى على أن الفاتحة لا تجب قراءتها، فلنقف عند هذه النصوص: روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «من صلَّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثاً غير تمام، فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراء الإمام فقال: اقرأ بها في نفسك ... » رواه مسلم. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال «صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر أو العصر فقال: أيكم قرأ خلفي بـ سبّح اسم ربك الأعلى؟ فقال رجل: أنا ولم أُرد بها إلا الخير قال: قد علمتُ أن بعضكم خالَجَنيها» رواه مسلم. وروى أحمد من طريق أبي هريرة رضي الله عنه حديثاً جاء فيه « ... إني أقول مالي أُنازَع القرآن؟ فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يجهر به من القراءة، حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» . وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «دخل المسجد فدخل رجلٌ فصلَّى، ثم جاء فسلَّم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فردَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلام، قال: ارجع فصلِّ فإنك لم تُصلِّ، فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلَّم عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وعليك السلام، ثم قال: ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق ما أُحْسِنُ غيرَ هذا، علِّمني، قال: إذا قمتَ إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجُد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 فقالوا عن الحديث الأول إن كلمة خداج تعني ناقصة غير تامة، بمعنى أن الصلاة ناقصة، وكونها ناقصة لا يعني أنها باطلة، لأن الباطل لا يوصف بالنقص، وقالوا عن الحديثين الثاني والثالث إن كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن قراءة المأمومين خلفه - والقراءة تشمل الفاتحة وما تيسَّر من القرآن - فإنه يكون قد نهى عن قراءة الفاتحة، والنهي عن قراءة الفاتحة ما كان ليكون لولا أنها غير واجبة، وإذن فإن قراءة الفاتحة في الصلاة غير واجبة. وقالوا عن الحديث الرابع - وهو المشهور عند الفقهاء بأنه حديثُ المسئ صلاته - إنه يدل بشكل واضح على أن الفاتحة لا تجب، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال له «ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن» . فأية آية من القرآن تجزئ في الصلاة. وجوابنا على شبهاتهم كالتالي: أولاً: أ - نحن لا نُسلِّم بأن الباطل لا يوصف بالنقص، فالعَقد مثلاً إن كانت شروطه ناقصة نقصاً معيناً يصبح باطلاً كأنه لم ينعقد، والحج إن نقص الوقوف بعرفة صار باطلاً، والصوم إن نقص النية بطل، فالصلاة إن نقصت الفاتحة بطلت، فيقال لفاعلها نقصت صلاتك كما يقال للحاج نقص حجك وهكذا، وربما لا يكون النقص مؤدياً إلى البطلان، فالنقص كما قد يفيد البطلان فإنه قد يفيد الصحة غير الكاملة، فلا يجوز اعتبار النقص ذا معنى واحد فحسب بل إن له معنيين اثنين، ولا يصار إلى الترجيح إلا بقرينة، فأين القرينة هنا على أن النقص لا يفيد البطلان؟. ب - لو سلَّمنا بما يدَّعون فإنا نسألهم: كيف يُتمُّون النقص وبماذا يُتمُّونه؟ فإن قالوا نتمُّه بالفاتحة كما هو نص الحديث قلنا إن هذا يُسند رأينا، وإن قالوا نتمُّه بآيات أخرى من القرآن قلنا لا يوجد على ذلك دليل في النص هذا. ج - ألا ترون إلى تتمة الحديث كيف سأل السامعون أبا هريرة، وبماذا أجابهم؟ ألم يأمرهم بقراءة الفاتحة في نفوسهم؟ ألا يدل ذلك على ضرورة الفاتحة نفسها، وأنه لا يغني عنها سواها؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 ثانياً: إنا أيضاً لا نسلم بدعواهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نهاهم عن قراءة الفاتحة خلفه، وإنما الصحيح أن النهي كان عن اقتران قراءتهم بقراءته عليه الصلاة والسلام، فالنهي إنما هو عن أن يقرأوا الفاتحة في أثناء قراءته هو للفاتحة، ولا يفيد النهي أكثر من ذلك، فقوله عليه الصلاة والسلام «قد علمتُ أن بعضكم خالجنيها» وقوله «مالي أُنازَع القرآن» واضح الدلالة على ما نقول، فلو لم ينازَع عليه الصلاة والسلام القرآن لما كان النهي ولما كان الانتهاء، فلما تبين هذا علمنا أن النهي لم يشمل القراءة في غير ذلك الوقت، وإنما بقيت القراءة على حالها من الوجوب، ويشهد لهذا المعنى ما جاء فيما رواه عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغداة، فثقُلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: إني لأراكم تقرأون وراء إمامكم، قلنا: نعم والله يا رسول الله إنا لنفعل هذا، قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» رواه أحمد. ورواه الترمذي وقال (حديث عُبادة حديث حسن والعمل على هذا في القراءة خلف الإمام عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين) ورواه أبو داود بلفظ «.. فلا تقرأوا بشئ من القرآن إذا جهرتُ إلا بأم القرآن» ورواه النَّسائي بلفظ « ... لا يقرأنَّ أحدٌ منكم إذا جهرتُ بالقراءة إلا بأُمِّ القرآن» . فقد دل هذا على أن النهي إنما هو عن المخالجة والمقارنة، وبقي الوجوب على حاله من حيث قراءة الفاتحة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكتف بطلبها بل طلبها مقرونة بحكمها وهو الوجوب الذي يكون معه التَّمام، ويكون بفقده البطلان. وبإدراك هذا المعنى يدرك معنى الحديث الذي رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنما جُعل الإمام ليُؤتمَّ به فإذا كبَّر فكبِّروا وإذا قرأ فأنصتوا ... » رواه أحمد وابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 ماجة والنَّسائي وصححه مسلم. فالنهي محصور في حالة قراءة الإمام لا غير، وهو هو المعنى نفسه الذي أراده الله سبحانه بقوله تعالى {وإذَا قُرِئ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُوْنَ} الآية 204 من سورة الأعراف. فقد فسرها جمهرة المفسرين من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالامتناع عن القراءة خلف الإمام في أثناء قراءته في الصلاة الجهرية، فالمخالجة والمنازعة هما علة النهي، وهي التي جاءت فيما رواه عبد الله رضي الله عنه قال «كانوا يقرأون خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: خلطتم عليَّ القرآن» رواه أحمد. فالعلة للنهي إذن هي خلط القرآن على الإمام، وحيث أنَّ هذه العلة تنتفي في الصلاة السرية فإنَّ المأمومين يجب عليهم أن يقرأوا الفاتحة. وحيث أن هذه العلة تنتفي أيضاً عندما يسكت الإمام في الصلاة الجهرية فإنَّ المأمومين يقرأونها آنذاك خلفه، فالحكم مداره على العلة كما هو معلوم، فلا يصلح الحديث الثاني ولا الحديث الثالث للاستدلال على جواز ترك الفاتحة في الصلاة مطلقاً. ثالثاً: أما بخصوص الشبهة الثالثة وهي الاستدلال بما جاء في حديث المسئ صلاته من قول الرسول عليه الصلاة والسلام «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» فالرد عليها من وجوه: أ- قوله (ما تيسَّر من القرآن) عام يشمل الفاتحة كما يشمل غيرها، والعام يبقى عاماً إلا إن ورد دليل التخصيص، وقد ورد دليل التخصيص لهذا العام بالأمر بقراءة الفاتحة في أحاديث صحيحة عديدة، فيتعين الأخذ بها والمصير إليها، وحمل العام على الخاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 ب - إن هذا الحديث نفسه قد روي من طريق رفاعة بن رافع الزرقي عند أحمد بلفظ « ... أَعِدْ صلاتَك فإنَّك لم تُصلِّ، فقال: يا رسول الله علمني كيف أصنع؟ قال: إذا استقبلت القبلة فكبِّر، ثم اقرأ بأُمِّ القرآن ثم اقرأ بما شئت ... » ورواه رفاعة ابن رافع رضي الله عنه بلفظ « ... ثم اقرأ بأُمِّ القرآن، وبما شاء الله أن تقرأ ... » رواه أبو داود والشافعي في مسنده. فأضاف هذان النصان الأمرَ بقراءة الفاتحة زيادةً على ما جاء في رواية مسلم السابقة، والمعلوم أن الزيادة الواردة في حديثٍ على حديثٍ ثان تُؤخذ ويُعمل بها، وهنا ذُكرت الفاتحة زيادة على نص مسلم، فتُقبل ويُعمل بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 ج - إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد رخَّص لمن لا يحسن قراءة القرآن أن يستعيض عنه بذكر الله سبحانه من تهليل وتحميد وتسبيح ... إلخ - وسيأتي هذا البحث بتمامه عقب هذا البحث مباشرة - فقراءة آيات من القرآن في هذه الحالة الخاصة لا شك أَوْلى من التهليل والتسبيح ... إلخ، فلو أسلم شخص حديثاً واستطاع أن يحفظ الفاتحة قبل أن يحين موعد الصلاة المكتوبة فإن قراءتها تصبح واجبة عليه في الصلاة، أما إن لم يستطع حفظها وكان يحفظ آيات من القرآن غيرها قرأ بها عوضاً عن الفاتحة، فإن لم يكن يُحسن قراءة شئ من القرآن سبَّح الله وهلَّل وكبَّر وهكذا، فالعدول عن الفاتحة إلى ما تيسر من القرآن أو إلى الأذكار هي رخصةٌ لمن لا يحفظها، ولا يجوز تعميمها على جميع الحالات والأحوال. وعندما نظرنا في جميع روايات حديث المسئ صلاته وجدنا روايةً للترمذي وأخرى لابن خُزَيمة تفيدان أن الحالة التي كان عليها المسئ صلاته هي من هذا القبيل، فهذا الشخص كما بدا لم يكن يحسن الصلاة، فجاءت روايات تطلب منه قراءة ما تيسر من القرآن كرواية مسلم، وجاءت روايات تطلب منه ذكر الله سبحانه إن لم يكن يحسن شيئاً من القرآن، فقد جاء في حديث الترمذي من طريق رفاعة بن رافع « ... فإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وكبِّرْه وهلِّله ثم اركع ... » . وإذن فإن هذا الحديث - أي حديث المسئ صلاته - إنما جاء يعالج موضوعاً خاصاً فيُقْصر عليه ولا يعمُّ غيره، فيُستدل به على حالة من لا يحسن قراءة الفاتحة، أو من لا يحسن قراءة شئ من القرآن، فلا حُجَّة فيه لمن أراد الاستدلال به على عدم وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة. لهذه النقاط الثلاث يتبين أن الاستدلال بحديث المسئ صلاته على عدم وجوب قراءة الفاتحة هو استدلال في غير محله وظاهر الخطأ، فينبغي العدول عنه والقول بوجوب قراءة الفاتحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 نعود لما بدأنا به بحثنا فنقول: إن قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة من ركعات الصلاة دون استثناء، وإن تخصيص قراءتها بالركعتين الأوليين من الصلاة الثلاثية أو الرباعية هو تخصيص دون دليل صحيح، بل الدليل هو على عكس ما يذهبون إليه، فقد روى أبو قتادة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان يقرأ في الظهر في الأُولَيين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأُخْرَيين بأم الكتاب، ويُسْمِعُنا الآية، ويطوِّل في الركعة الأولى ما لا يطوِّل في الركعة الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح» رواه البخاري. وقلنا إن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام وعلى المأموم وعلى المنفرد في الصلاة السرية وفي الصلاة الجهرية، ونضيف هنا أن الإمام والمأموم والمنفرد يقرأون الفاتحة في الصلاة السرية دون إشكال، وذلك واضح، وأما في الصلاة الجهرية فالإمام والمنفرد يقرآن الفاتحة فيها دون إشكال أيضاً، فتبقى قراءة المأموم في الصلاة الجهرية، فهذه القراءة مِن قِبَل المأموم سبق فيها نهي «وإذا قرأ فأنصتوا» ، «إني أراكم تقرأون وراء إمامكم» ، «خلطتم عليَّ القرآن» ، «ما لي أُنازعُ القرآن» ، وقد مرَّ كلُّ هذا، وهذا كله عام، وجاء استثناءٌ بحديث عُبادة «فلا تفعلوا إلا بأم القرآن» ، «فلا تقرأوا بشئ من القرآن إذا جهرتُ إلا بأُمِّ القرآن» ، «لا يقرأنَّ أحدٌ منكم إذا جهرتُ بالقراءة إلا بأُمِّ القرآن» . وقد مرَّ الحديث برواياته هو الآخر. وإذن فإن المأموم لا يقرأ في الصلاة الجهرية سوى الفاتحة فحسب ويترك ما سواها من آيات القرآن والسور، لأن الفاتحة وحدها مستثناة من النهي ويبقى النهي شاملاً ما سواها من القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 أما الأحاديثُ التي يستدلون بها على أنَّ قراءة الإمام قراءةٌ للمأموم، بمعنى أنه ليس على المأموم أن يقرأ الفاتحة، من مثل ما رُوي عن عبد الله بن شدَّاد عن جابر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مَن كان له إمامٌ فقراءةُ الإمام له قراءة» رواه الدارقطني. وما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «تكفيك قراءةُ الإمام خافَتَ أو جهرَ» رواه الدارقطني. فإنَّ هذه الأحاديث كلها ضعيفةٌ، ضعَّفها الدارقطني نفسُه، كما ضعَّفها ابن حجر العسقلانيُّ، وقال الحافظ الرَّازي - وقد سُئل عن حديث «مَن كان له إمامٌ فقراءةُ الإمام له قراءةٌ» : لم يصحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شئ، إنما اعتمد مشايخنا فيه على الروايات عن علي وابن مسعود وغيرهما من الصحابة، فلا يُلتفتُ لهذه الأحاديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 أما متى يقرأ المأموم الفاتحة فإنه يقرأُها في سَكْتة الإمام عقب فراغه من قراءة الفاتحة وقبل قراءة السورة بعدها فيحقق واجب القراءة والاستماع لقراءة الإمام، ولهذا فإن على الإمام أن يسكت فترة تكفي لقراءة الفاتحة ما بين فراغه من قراءة الفاتحة وقراءة السورة بعدها، فعن سَمُرة بن جُنْدُب رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى بهم سكت سكتتين إذا افتتح الصلاة، وإذا قال ولا الضالين سكت أيضاً هُنَيَّةً» رواه أحمد. ورواه أبو داود بلفظ «حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكتتين: سكتة إذا كبَّر، وسكتة إذا فرغ من قراءة غير المغضوب عليهم ولا الضالين» . فإن لم يسكت الإمام، أو كان سكوته أقصر مما تحتاج إليه قراءة الفاتحة فلا يدع المأموم قراءة الفاتحة، وإنما يقرأها والإمام يقرأ السورة ولا حرج عليه في ذلك، فلْيحرص المسلم على قراءة الفاتحة، ولْيحذر من تركها في أية ركعة من ركعات صلاته، لأنَّ من تركها عمداً أو سهواً في أية ركعة بطلت صلاته ووجب عليه أن يعيد، ولا يجبرها سجود السَّهو. صلاةُ مَن لا يُحسن قراءة الفاتحة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 قلنا إنَّ قراءة الفاتحة لا تجزئ صلاةٌ بدونها، وإنَّ على المصلي أن يقرأها في كل ركعة من ركعات صلاته، ولكن قد يدخل في الإسلام شخص لا يعرف الفاتحة ولا يحفظها وعاجلته الصلاة المكتوبة قبل أن يتعلمها فيمكنه في هذه الحالة الاستعاضة عنها بما يحفظه من القرآن، فإن كان لا يحفظ من القرآن شيئاً استعاض عنه بالقول [سبحان الله والحمدُ لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله] فإن استعصى عليه حفظُه كله أمكنه حفظ جزء من هذا الذكر وتكون صلاته صحيحة، فقد روى رفاعة بن رافع - في حديث المسئ صلاته - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال « ... إذا قمتَ إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهَّد، فأَقم ثم كبِّر، فإن كان معك قرآن فاقرأ به وإلا فاحمد الله وكبِّره وهلِّلْه ثم اركع ... » . رواه ابن خُزَيمة. ورواه الترمذي باختلاف يسير في اللفظ. ففي هذا الحديث أمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ أولاً قرآناً، وإلا حمِد الله وكبَّره وهلَّلَه، وعن عبد الله بن أبي أوفى قال «جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله علِّمني شيئاً يُجزئني من القرآن فإني لا أقرأ، فقال قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله..» رواه ابن خُزَيمة والدارقطني والنَّسائي. ورواه أحمد ولفظه «يا رسول الله إني لا أستطيع أخذ شئ من القرآن فعلِّمني ما يُجْزِئُني ... » . ففي هذا الحديث زيادة في الذكر على ما جاء في الحديث السابق، فيقرأ المصلي ما يستطيع حفظه منه، وليعجل في حفظ الفاتحة حتى يستطيع الصلاة بها. التأمينُ في الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 يُندب للإمام وللمأموم وللمنفرد التأمينُ عقب الفراغ من قراءة الفاتحة سواء كانت الصلاة سرية أو جهرية، وإلا فوَّت عليه خيراً كثيراً، فقد ورد في فضل التأمين ما رواه أبو زهير قال «أُخبركم عن ذلك، خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فأتينا على رجل قد ألحَّ في المسألة، فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمع منه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَوْجَبَ إنْ خَتَمَ، فقال رجل من القوم: بأي شئ يَختِم؟ قال: بآمين، فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب ... » رواه أبو داود. قوله إن ختم بآمين فقد أوجب: أي إن قال آمين عقب فراغه من دعائه فقد نال الاستجابة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 وهذا وإن كان في غير الصلاة، فإنه يصلح كذلك في الصلاة لأنه متعلق بالدعاء، والدعاء كما يكون في غير الصلاة يكون في الصلاة أيضاً، فيُندب للمسلم عقب فراغه من الدعاء في الصلاة كما في خارجها أن يقول آمين، وآمين كلمة تعني اللهم استجب. وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ما حسدتكم اليهود على شئ ما حسدتكم على السلام والتأمين» رواه ابن ماجة. والتأمين يتبع القراءة في الجهر والسِّرِّ، ففي الجهر يُؤمِّن جهراً، وفي السِّرِّ يُؤمِّن سراً، لا فرق بين الإمام والمنفرد والمأموم، فإذا جهر الإمام بالقراءة جهر بالتأمين، فجهر المأموم بالتأمين، وإذا أسرَّ الإمام القراءة أسرَّ التأمين فأسرَّ المأموم التأمين. وحال المنفرد كحال الإمام في ذلك، فعن وائل بن حُجر رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ ولا الضَّالِّين قال آمين، ويرفع بها صوته» رواه الدارمي وأبو داود. ورواه أحمد بلفظ «فقال آمين يمدُّ بها صوته» . ووقع عند النَّسائي من طريق وائل بلفظ «صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما كبَّر رفع يديه أسفل مِن أذنيه، فلما قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال آمين، فسمعته وأنا خلفه ... » . ووقع عند أبي داود من طريق وائل بن حُجْر رضي الله عنه «إنه صلى خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجهر بآمين، وسلَّم عن يمينه وعن شماله، حتى رأيت بياض خده» . فهذه نصوص دالَّة على مشروعية التأمين في الصلاة، وأن الإمام يجهر به ليسمعه مَن خلفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 كما أن المشروع في التأمين في صلاة الجماعة الجهرية المقارنة بين تأمين الإمام وتأمين المأمومين، فإذا قال الإمام ولا الضالين قال هو آمين، وقال المأمومون في الوقت نفسه أمين، دون أن ينتظروه حتى يفرغ منها، وإلا فاتت الجميع فضيلة المقارنة. وحتى لا تفوتهم المقارنة يمدَّ الإمام التأمين ولا يحذفه حذفاً فيتمكن المأمومون من التأمين مع تأمين إمامهم، فقد مرَّ قبل قليل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يمدُّ بها صوته كما جاء في حديث أحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 أما فضيلة المقارنة فقد وردت فيها عدة أحاديث نُورد قسماً منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أمَّن القارئ فأمِّنوا فإن الملائكة تُؤمِّن، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه» رواه النَّسائي وابن ماجة. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين، فإن الملائكة تقول آمين، وإن الإمام يقول آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه» رواه النَّسائي. ورواه أحمد بلفظ «فإن الملائكة يقولون» ورواه الشافعي في مسنده بدون «فإن الملائكة تقول آمين، وإن الإمام يقول آمين» ووقع عند مسلم من طريق أبي هريرة بلفظ «لا تبادروا الإمام، إذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قال ولا الضالين فقولوا آمين ... » وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا، فإنَّه مَن وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه» رواه البخاري ومالك وأبو داود. قوله إذا أمَّن القارئ، وإذا أمَّن الإمام، في الحديثين السابقين: يعني عندما يُؤمِّن، أو حين يُؤمِّن. وليس معناه إذا أتمَّ التأمين، أو بعد أن يُؤمِّن كما فسره آخرون. وذلك حتى يتوافق تأمين المأمومين مع تأمين إمامهم، ويقوى الاحتمال بالتوافق مع تأمين الملائكة، يدل على ذلك ما جاء في الحديث السابق «إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين» فلم يطلب من المأمومين هنا انتظار تأمين الإمام فضلاً عن إتمامه، وهذا معناه أن يبادر الإمام كما يبادر المأمومون إلى التأمين عقب الفراغ من الفاتحة في الصلاة الجهرية. قراءةُ ما زاد على الفاتحة من القرآن في الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 يُندب للمسلم أن يقرأ ما تيسر له من القرآن الكريم عقب قراءة الفاتحة في الصلاة المفروضة وفي صلاة النافلة، إماماً كان أو منفرداً، في الصلاة السرية وفي الصلاة الجهرية، وأما المأموم فيُندب له ذلك في الصلاة السرية فحسب، فقد مرَّ الحديث المروي من طريق أبي قتادة رضي الله عنه في بحث [قراءة الفاتحة في الصلاة] ونصه هو «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر في الأُولَيين بأُم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأُخريين بأم الكتاب، ويُسمعنا الآية، ويطوِّل في الركعة الأولى ما لا يطوِّل في الركعة الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح» رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد. وقد أَثبت هذا الحديث قراءة سورة من سور القرآن الكريم في كل ركعة من الركعتين الأوليين إضافة لقراءة الفاتحة في كلٍّ منهما، وذلك في صلاة الظهر، وفي صلاة العصر، وفي صلاة الصبح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 وليس لقراءة ما تيسر من القرآن مقدار معلوم، فالسنة تحصل بقراءة أي قدر من القرآن الكريم، فهي تحصل بقراءة آية واحدة، وبقراءة آيتين، وبقراءة ثلاث آيات، كما تحصل بقراءة سورة قصيرة مثل سورة [قل يا آيها الكافرون] فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خَلِفاتٍ عِظامٍ سِمان؟ قلنا: نعم، قال: فثلاثُ آيات يقرأ بهن أحدُكم في صلاته خير له من ثلاث خَلِفَاتٍ عظامٍ سمانٍ» رواه مسلم. والخَلِفات: هي الحوامل من الإبل. فهنا ذُكرت ثلاث آيات. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة بـ قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، ويقرأ في العشاء الآخرة ليلة الجمعةِ الجمعةَ والمنافقين» رواه ابن حِبَّان. فهنا ذُكرت سورة الكافرون وسورة قل هو الله أحد، وهما من أقصر سور القرآن. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً، فقرأ بآية حتى أصبح يركع ويسجد بها {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فإنَّهُمْ عِبَادُكَ وإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّكَ أَنْتَ العَزِيْزُ الحَكِيْمُ} » رواه أحمد. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «أكثر ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في ركعتي الفجر {قُوْلُوْا آمَنَّا بِاللهِ ومَا أُنْزِلَ إليْنَا ومَا أُنْزِلَ إلى إبْرَاهِيْمَ ... } إلى آخر الآية، وفي الأخرى {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ} إلى قوله {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُوَن} » رواه ابن خُزَيمة. فقد دل هذان الحديثان على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ آيةً واحدة فحسب في الركعة الواحدة. فالأمر إذن موسَّع، يبدأ بقراءة آية واحدة وينتهي بمقدار ما يطيق المسلم قراءته من القرآن، فقد يقرأ المسلم الآيات الكثيرة، وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 يقرأ سورة قصيرة واحدة، وقد يقرأ السورتين، وقد يقرأ السور الكثيرة الطويلة منها والقصيرة، يختار ما يشاء بحسب قدرته وسعة وقته لا سيما في قيام الليل. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «إني لأَعرفُ النظائر التي كان يقرأ بهنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتين في ركعة عشرين سورة في عشر ركعات» رواه مسلم. ويعني بالنظائر السور المتشابهة في ما تحتويه من مواعظ أو أوامر أو عقائد وهكذا، وعن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها «هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين السور في ركعة؟ قالت: المُفَصَّل» رواه أحمد. والمُفصَّل: هو السُّبع الأخير من القرآن الكريم يبدأ بسورة الحجرات على الرأي الأصحِّ. وعن حُذيفة رضي الله عنه قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فافتتح البقرة فقلت: يركعُ عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسِّلاً، إذا مرَّ بآيةٍ فيها تسبيحٌ سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ، ثم ركع فجعل يقول سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه» رواه مسلم. فهذه ثلاثة أدلة، الأول يدل على قراءة سورتين اثنتين في الركعة الواحدة، والثاني يدل على عدد غير محدَّدٍ من السور القصيرة في الركعة الواحدة، والثالث يدل على قراءة أطول ثلاث سور في الركعة الواحدة، فالأمر موسَّع كما قلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 وتُستحب القراءة في الركعتين الأوليين من كل صلاة من الصلوات المفروضة والنافلة، فقد مرَّ حديث أبي قتادة رضي الله عنه وجاء فيه «يقرأ في الظهر في الأُوليين بأُمِّ الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأُم الكتاب» إلى أن قال «وهكذا في العصر وهكذا في الصبح» . وإذن فإنها سُنَّة المصطفى عليه الصلاة والسلام، يشهد لها ما رُوي عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال «قال عمر لسعد: لقد شكَوْك في كل شئ حتى الصلاة، قال: أما أنا فأمدُّ في الأُوليين وأحذف في الأُخريين، ولا آلو ما اقتديتُ به من صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: صدقتَ ذلك الظنُّ بك أو ظني بك» رواه البخاري. ورواه مسلم وأحمد بلفظ فيه اختلاف يسير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 فقول سعد بن أبي وقاص لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما «أمُدُّ في الأُوليين وأَحْذف في الأُخريين» يؤكد هذه السنة النبوية، وهي القراءة في الركعتين الأوليين فحسب. ولكن تجوز القراءة في الركعتين الأخريين، والدليل على ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأُوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأُخريين قدر خمس عشرة آية، أو قال نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأُوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأُخريين قدر نصف ذلك» رواه مسلم. فهذا نص واضح الدلالة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قرأ في الركعتين الأُخريين في صلاتي الظهر والعصر ما تيسر له من القرآن، قرأ في العصر على النصف مما قرأ في الظهر، وهذا عندي منه عليه الصلاة والسلام إنما هو لأجل بيان الجواز، شأنه في ذلك شأن اقتصاره في إحدى صلواته على قراءة الفاتحة لبيان الجواز، فقد روى ابن عباس رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء فصلَّى ركعتين لم يقرأ فيهما إلا بأم الكتاب» رواه أحمد. وقد فهم الصحابة حكم الجواز هذا، يدل عليه ما رُوي عن أبي عبد الله الصُّنابحِي أنه قال «قدمْتُ المدينة في خلافة أبي بكر الصِّدِّيق، فصليت وراءه المغرب، فقرأ في الركعتين الأُوليين بأم القرآن وسورة، وسورة من قصار المُفَصَّل، ثم قام في الثالثة، فدنوت منه حتى إنَّ ثيابي لتكادُ أن تمسَّ ثيابه، فسمعته قرأ بأم القرآن وبهذه الآية {ربَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وهَبْ لنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} » رواه مالك. وروى نافع «أن عبد الله بن عمر كان إذا صلَّى وحده يقرأ في الأربعة جميعاً في كل ركعة بأم القرآن وسورة من القرآن ... » رواه مالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 ويجوز تكرار قراءة السورة الواحدة أو الآية الواحدة في ركعات الصلاة، فقد مرَّ قبل قليل حديث أبي ذر وجاء فيه «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً، فقرأ بآية حتى أصبح يركع ويسجد بها ... » . وروى رجل من جُهَينة «أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصبح إذا زلزلت الأرض، في الركعتين كلتيهما، فلا أدري أَنَسي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أم قرأ ذلك عمداً» رواه أبو داود. قوله رجلٌ من جهينة لا يضعف الحديث لأن جهالة الصحابي لا تضرُّ، وقول الصحابي أَنَسي أم قرأ ذلك عمداً لا يغير من الحقيقة شيئاً بأنه عليه الصلاة والسلام فعل ذلك. والسُّنُّة إطالة الركعة الأولى بالإكثار من القراءة فيها، ثم تكون الركعة الثانية دونها في الطول، وتكون الركعتان الثالثة والرابعة دون الثانية، فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين الأُوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين، يطوِّل في الأولى ويقصِّر في الثانية ويُسمع الآية أحياناً، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين، وكان يطوِّل في الركعة الأولى من صلاة الصبح ويقصِّر في الثانية» رواه البخاري ومسلم. وقد روى أبو داود تعقيب أبي قتادة على روايته هذه بقوله «فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 ولست أريد هنا الخوض في أبحاث العقيدة فأُناقش الرأيين المتعارضين بخصوص سور القرآن الكريم في المصحف، هل ترتيبها توقيفي أم اجتهادي من الصحابة، لأن مجال هذا البحث في غير هذا الموضع، وإنما أكتفى بالقول إن المسلم غير مقيَّد بترتيب سور القرآن في المصحف لدى تلاوته لها في صلاته، فلا تلزمه قراءة السور حسب ترتيبها في المصحف، بل تصح له قراءة سورة الإخلاص مثلا في الركعة الأولى ثم قراءة سورة الكوثر في الثانية، وسورة العصر في الأولى، وسورة الانشراح في الثانية، ويستطيع أن يقرأ في ركعة واحدة سورة تبارك ثم سورة يس ثم سورة الكهف مثلا، والدليل على ذلك حديث حذيفة عند مسلم، وقد مرَّ وجاء فيه «فافتتح البقرة ... ثم افتتح النِّساء ... ثم افتتح آل عمران» على خلاف ترتيب هذه السور في المصحف. أما الذي لا يجوز فعله فهو قراءة القرآن منكَّساً، بمعنى أن تقرأ آية ثم تقرأ الآية التي قبلها لا التي بعدها، ثم تقرأ الآية التي قبلها وهكذا، فهذه القراءة حرام لا تجوز في الصلاة ولا في غير الصلاة، لأن ترتيب الآيات في سور القرآن توقيفي قطعاً باتفاق المسلمين لا تجوز معارضته ولا مخالفته. قراءة القرآن في الصلوات الخمس إن ما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة مما كان يقرأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلوات الخمس يدل على أنه ليست هناك سُنَّةٌ ثابتة في اختيار الآيات القرآنية لكل صلاة، لذا فإن المسلم بالخيار بين قراءة هذه السورة أو تلك في هذه الصلاة أو تلك، فليست أية سورة من سور القرآن الكريم بأفضل من أختها لصلاةٍ دون صلاة، يدل على ذلك أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الصلاة الواحدة كالمغرب مثلاً بقِصار المُفَصَّل تارة، وبالسور الطويلة تارة أخرى، مما ينفي اختصاص أية صلاة مكتوبة بسورٍ معينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وباستعراض الأحاديث الصحيحة والحسنة نجد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قرأ في الصلوات الخمس مما نُقل إلينا كالتالي: صلاة الصبح: قرأ فيها المعوَّذتين والزلزلة والتكوير والإنسان والواقعة والطور وق والفتح والسجدة والروم والمؤمنون ويس والصَّافَّات. صلاة الظهر: قرأ فيها الليل والغاشية والأعلى والطارق والبروج والذاريات ولقمان. صلاة العصر: قرأ فيها الليل والطارق والبروج. صلاة المغرب: قرأ فيها قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون وقصار المُفصَّل كالضحى وما حولها والمرسلات والطور ومحمد والدخان والأعراف والأنعام. صلاة العشاء: قرأ فيها العلق والتين والضحى والليل والشمس والسور من وسط المُفَصَّل والأعلى والطارق والبروج والانشقاق. هذا ما ذكرَته الأحاديثُ الصحيحة والحسنة من قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلواته الخمس، وباستعراض هذه القراءات نجد أن صلاة الصبح تراوحت بين المعوذتين وسورة المؤمنون، وأن صلاة الظهر تراوحت بين الليل ولقمان، وأن صلاة العصر تراوحت بين الليل والبروج، وفي ذلك تقارب، وأن صلاة المغرب تراوحت بين قل هو الله أحد والأنعام، وأن صلاة العشاء تراوحت بين العلق والانشقاق وفي ذلك تقارب أيضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 إلا أنه لا بد من ملاحظة أن صلاة الصبح على العموم هي أطول صلواته عليه الصلاة والسلام، وقد قُدرت قراءتُه فيها ما بين الستين إلى المائة آية في الركعة الواحدة، تليها في الطول صلاة الظهر، وقد قُدرت قراءتُه فيها بثلاثين آية في الركعة الواحدة، وتعادلت صلاة العصر مع صلاة العشاء بمقدار خمس عشرة آية في الركعة الواحدة، وأن المغرب هي أخفُّ وأقصرُ صلواته عليه الصلاة والسلام، وهذا كما قلت هو على العموم ولم يكن مُطَّرِداً، فعن أبي قتادة قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيل في أول الركعتين من الفجر والظهر، وقال: كنا نرى أنه يفعل ذلك ليتدارك الناس» رواه ابن حِبَّان وابن خُزيمة وعبد الرزاق. وعن أبي بَرْزَة رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة آية» رواه مسلم. وروى أبو سعيد الخدري «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأُوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأُخريين قدر خمس عشرة آية أو قال نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأُوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأُخريين قدر نصف ذلك» رواه مسلم. وعن سليمان بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «ما رأيت رجلاً أشبه صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فلان، لإمامٍ كان بالمدينة، قال سليمان بن يسار: فصليت خلفه فكان يطيل الأوليين من الظهر ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المُفَصَّل، ويقرأ في الأُوليين من العشاء من وسط المُفَصَّل، ويقرأ في الغداة بطوال المُفَصَّل» رواه أحمد والنَّسائي وابن خُزَيمة. والإمام الذي كان بالمدينة هو عمر بن عبد العزيز كما صرحت بذلك إحدى الروايات. وقال الترمذي (رُوي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أَنْ اقرأْ في الصبح بطوال المُفَصَّل) وقال (وعلى هذا العمل عند أهل العلم) وقال (رُوي عن عمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 أنه كتب إلى أبي موسى أَنْ اقرأْ في الظهر بأوساط المُفَصَّل) وقال (رأى بعض أهل العلم أن قراءة صلاة العصر كنحو القراءة في صلاة المغرب، يقرأ بقصار المُفَصَّل) . وقال الترمذي أيضاً (رُوي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أن اقرأْ في المغرب بقصار المُفَصَّل) وقال الترمذي (رُوي عن عثمان بن عفان أنه كان يقرأ في العشاء بسورٍ مِن أوساط المُفَصَّل نحو سورة المنافقين وأشباهها) وقال أيضاً (رُوي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين أنهم قرأوا بأكثر من هذا وأقل، كأنَّ الأمر عندهم واسع في هذا) وهذا القول من الترمذي يؤيد الرأي الذي قلته قبل قليل وهو أن هذا النهج في القراءة إنما هو على العموم ولم يكن مُطَّرِداً. وإلى مَن أحبَّ أن يقف على النصوص المتعلقة بقراءات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوجيهاته أنقل له جملةً من هذه النصوص على سبيل المثال وليس على سبيل الاستقصاء. 1- بخصوص ركعتي السنة لصلاة الصبح: روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعتي الفجر قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد» رواه النَّسائي. وروى ابن عباس رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما الآية التي في البقرة قولوا آمنا بالله وما أُنزل إلينا إلى آخر الآية، وفي الأخرى آمنا بالله واْشهد بأنَّا مسلمون» رواه النَّسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 أما بخصوص ركعتي الفريضة لصلاة الصبح فقد روى سِماك بن حرب عن رجل من أهل المدينة «أنه صلى خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسمعه يقرأ في صلاة الفجر ق والقرآن المجيد ويس والقرآن الحكيم» رواه أحمد إلا أن الحديث ضعيف لضعف سِماك. وعن سالم بن عبد الله عن أبيه قال «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَيؤُمُّنا في الفجر بالصَّافَّات» رواه ابن حِبَّان وأحمد والنَّسائي. وفي صلاة الصبح يوم الجمعة على الخصوص ورد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأُ في الركعة الأولى سورة ألم تنزيل السجدة، ويقرأ في الركعة الثانية سورة الإنسان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة ألم تنزيل وهل أتى» رواه النَّسائي والبخاري ومسلم. ولأحمد من طريق ابن عباس رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة ألم تنزيل وهل أتى، وفي الجمعة سورة الجمعة وإذا جاءك المنافقون» . 2- بخصوص صلاة الظهر وصلاة العصر: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك» رواه مسلم وأحمد. وروى جابر بن سمرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر بـ سبح اسم ربك الأعلى، وفي الصبح بأطولَ من ذلك» رواه مسلم. وروى جابر بن سمرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء والطارق والسماء ذات البروج» رواه الدارمي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 3- بخصوص صلاة المغرب: روى ابن عباس رضي الله عنه «أنَّ أُمَّ الفضل سمعته وهو يقرأ (والمرسلاتِ عُرْفاً) فقالت: يا بُني والله لقد ذكَّرْتني بقراءتك هذه السورةَ، إنها لآخِرُ ما سمعتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب» رواه البخاري. وأم الفضل هي والدة ابن عباس واسمها لُبابة بنت حارث الهلالية. وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بالطور» رواه البخاري. 4- بخصوص صلاة العشاء وتسمى أحياناً صلاة العَتَمَة: روى البراء رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر، فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بالتين والزيتون» رواه البخاري. وروى بريدة الأسلمي رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة العشاء بالشمس وضحاها وأشباهها من السُّور» رواه أحمد. وعن أبي رافع رضي الله عنه قال «صليت مع أبي هريرة العَتَمةَ فقرأ إذا السماء انشقَّت فسجد، فقلت له، قال: سجدت خلف أبي القاسم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه» رواه البخاري. وعن جابر رضي الله عنه قال «صلى معاذ بن جبل الأنصاري لأصحابه العشاء فطوَّل عليهم، فانصرف رجل منا فصلى، فأُخبر معاذ عنه فقال: إنه منافق، فلما بلغ ذلك الرجل دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ما قال معاذ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتريد أن تكون فتَّاناً يا معاذ؟ إذا أمَمْتَ الناسَ فاقرأ بـ الشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، واقرأ بـ اسم ربك، والليل إذا يغشى» رواه مسلم. التكبيرُ في الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 جميع التكبيرات في الصلاة سنة مستحبّة ما عدا تكبيرة الإحرام فإنها فرض، وهي التكبيرة التي تُبتدأ بها الصلاة، وقد مرَّ بحثها في أول الفصل. وهذه التكبيرات جميعها مشروعة للإمام وللمأموم وللمنفرد، وليس صحيحاً أنها مشروعة للإمام فقط، ذلك أن النصوص كلها ذكرت التكبير في الصلاة عاماً دون تخصيص ومطلقاً دون تقييد، فلا يُلتفت للرأي القائل بتخصيصها بالإمام دون المأموم أو المنفرد. ويسن الجهر بالتكبير للإمام في السرية والجهرية على السواء، وأما المأموم فيُسِرُّ في السِّرِّية وفي الجهرية على السواء أما المنفرد فيجهر في الجهرية ويُسِرُّ في السِّرِّية. ويُشرع للمصلي أن يكبِّر عند كل حركة انتقالٍ في الصلاة باستثناء حركتين اثنتين هما عند الرفع من الركوع فإنه يقول [سمع الله لمن حمده] وعند الالتفات يمنة ويسرة في نهاية الصلاة فإنه يقول [السلام عليكم ورحمة الله] فالتكبير مشروع عند كل رفعٍ وخفضٍ وقيامٍ وقعودٍ في النافلة وفي الفريضة، للإمام وللمأموم وللمنفرد، للرجال وللنساء وللأطفال. والمسلم يكبِّر اثنتين وعشرين تكبيرة في الصلاة الرباعية، وإحدى عشرة تكبيرة في الصلاة الثنائية، وسبع عشرة تكبيرة في الصلاة الثلاثية، وقد وردت أحاديث كثيرة في التكبير نختار منها ما يلي: 1- عن عكرمة قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما «صليتَ الظهر بالبطحاء خلف شيخٍ أحمقَ، فكبَّر ثنتين وعشرين تكبيرة يكبِّر إذا سجد وإذا رفع رأسه، قال فقال ابن عباس: تلك صلاة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -» رواه أحمد. ورواه البخاري باختلافٍ يسير في اللفظ. 2- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «أنا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في كلِّ خفضٍ ورفع وقيام وقعود، ويسلِّم عن يمينه وعن يساره حتى يُرى بياضُ خدَّيه، ورأيت أبا بكر وعمر يفعلان ذلك» رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبِّر حين يقوم، ثم يكبِّر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صُلْبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد - قال عبد الله ولك الحمد - ثم يكبِّر حين يهوي، ثم يكبِّر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبِّر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبِّر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس» رواه البخاري ومسلم وأحمد. 4- عن أبي بكر بن عبد الرحمن وأبي سلمة «أن أبا هريرة كان يكبِّر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها، يكبِّر حين يقوم ثم يكبِّر حين يركع، ثم يقول سمع الله لمن حمده، ثم يقول ربنا ولك الحمد قبل أن يسجد، ثم يقول الله أكبر حين يهوي ساجداً، ثم يكبِّر حين يرفع رأسه، ثم يكبِّر حين يسجد، ثم يكبِّر حين يرفع رأسه، ثم يكبِّر حين يقوم من الجلوس في اثنتين، فيفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة، ثم يقول حين ينصرف: والذي نفسي بيده إني لأقربُكم شَبَهَاً بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنْ كانت هذه لَصلاتُه حتى فارق الدنيا» رواه أبو داود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 في الحديث الأول «صليت الظهر بالبطحاء خلف شيخ أحمق فكبَّر ثنتين وعشرين تكبيرة» ، «فقال ابن عباس تلك صلاة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -» ، فالصلاة الرباعية فيها اثنتان وعشرون تكبيرة. وفي الحديث «يكبِّر في كل خفضٍ ورفعٍ وقيامٍ وقعودٍ ويسلِّم عن يمينه وعن يساره» فاستثنى حركة التسليم من التكبير. وفي الحديث الثالث «يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صُلْبه من الركعة» . فاستثنى حركة الاعتدال من الركوع من التكبير. وفي الحديث الرابع «يكبِّر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها» . وهذا دليل على أن التكبير يُشرع في جميع الصلوات المفروضة والنافلة. وفي الحديث الرابع «إنْ كانت هذه لَصلاتُه حتى فارق الدنيا» . دليل على ثبوت حكم التكبيرات كلها، وأنه لم يُنسخ منها شئ. وفي الحديث الرابع «ثم يقول: الله أكبر، حين يهوي ساجداً» . دليل على أن التكبير الوارد في الحديث هو بصيغة [الله أكبر] لا غير. قال الترمذي (والعمل عليه عند أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، ومَن بعدهم من التابعين، وعليه عامة الفقهاء والعلماء) وهو يقصد التكبير في الصلاة. إلا أن هذا التكبير سُنَّة وليس واجباً ولا فرضاً، فقد رُوي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد ترك جانباً من التكبير مرة، مما يدل على عدم وجوب التكبير، فقد روى عبد الله بن عبد الرحمن ابن أَبْزَى يحدِّث عن أبيه «أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان لا يُتِمُّ التكبير، يعني إذا خفض وإذا رفع» رواه أحمد. وروى مثله أبو داود وعقب عليه بقوله (معناه إذا رفع رأسه من الركوع وأراد أن يسجد لم يكبِّر، وإذا قام من السجود لم يكبِّر) وروى أحمد من طريق عمران بن حصين رضي الله عنه ـ وقد سُئل مَنْ أولُ من ترك التكبير ـ فقال «عثمان بن عفان رضي الله عنه حين كبر وضعف صوته تركه» . فلولا أنه غير واجب لما تركه عثمان رضي الله عنه وسكت عنه الصحابة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 بقيت مسألة هي قيام شخص من المأمومين القريبين من الإمام برفع صوته عالياً في التكبير حتى يُسمع المأمومين البعيدين عن الإمام الذين لا يسمعون تكبيرات الإمام، فهذه العملية جائزة، والدليل عليها ما رُوي عن جابر رضي الله عنه أنه قال «اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعوداً، فلما سلم قال: أن كدتم آنفاً لَتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلَّى قائماً فصلوا قياماً وإن صلَّى قاعداً فصلوا قعوداً» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. وروى مسلم من طريق جابر رواية أخرى بلفظ «صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر خلفه، فإذا كبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبَّر أبو بكر ليُسمعنا، ثم ذكر نحو حديث ليث» فالإمام إن كان مريضاً أو كان ضعيف الصوت جاز لشخص قوي الصوت أن يردِّد خلفه تكبيراته ليُسمع المصلين ولا شئ في ذلك، إلا أنّ هذا موقوف على حالة عدم وجود مكبرات صوت في المسجد، وإلا فإن صوت الإمام إذا نُقل بمكبرات الصوت فإنه يصل إلى جموع المصلين دون حاجة لمن يردد تكبيراته خلفه، ففي هذه الحالة أرى أن ترديد التكبيرات من قبل شخصٍ ثان يصبح مكروهاً، لأنه ربما شوَّش على المصلين دونما حاجة إليه. الركوعُ وهيئته والذّكر فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 الركوع هو مدُّ الظهر والرأس في موازاة الأرض بالصفة المعلومة، ويكون الرأس في مستوى الظهر دون ارتفاعٍ عنه أو انخفاض، وإذا ركع المصلي باعد يديه عن جنبيه وفرَّج بين أصابعه وقبض براحتيه على ركبتيه، هذا هو الركوع، وهذه هي هيئته المثلى، فعن سالم قال «أتينا أبا مسعود فقلنا له: حدِّثنا عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام بين أيدينا وكبَّر، فلما ركع وضع راحتيه على ركبتيه، وجعل أصابعه أسفل من ذلك، وجافى بمرفقيه حتى استوى كل شئ منه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، فقام حتى استوى كلُّ شئ منه» رواه النَّسائي وابن خُزَيمة. وعن أبي حُميد الساعدي رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع اعتدل فلم ينصب رأسه ولم يُقْنِعْه، ووضع يديه على ركبتيه» رواه النَّسائي. قوله اعتدل يعني: كان وسطاً بين الارتفاع والانخفاض. وقوله فلم ينصب رأسه ولم يقنعه يعني: لم يرفعْه عن مستوى ظهره ولم يخفضه عنه وإنما جعله في مستواه. وعن أبي بَرزَة الأسلمي رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع لو صُبَّ على ظهره ماءٌ لاستقرَّ» رواه الطبراني. وعن علي رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع لو وُضع قدحٌ من ماء على ظهره لم يُهراق» رواه أحمد. وعن أبي حُميد الساعدي رضي الله عنه قال «أنا أحفظُكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته إذا كبَّر جعل يديه حذوَ منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره ... » رواه ابن حِبَّان. قوله هصر ظهره: أي ثناه في استواءٍ مِن غير تقويس. وعنه رضي الله عنه قال «أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فكبَّر ورفع يديه، ثم رفع يديه حين كبَّر للركوع، ثم ركع فوضع يديه على ركبتيه كالقابض عليها، فوَتَرَ يديه فنحَّى بهما عن جنبيه، ولم يصوِّب رأسه ولم يُقْنِعْه ... » رواه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 ابن حِبَّان. وعن وائل رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركع فرَّج أصابعه» رواه ابن خُزَيمة. والركوع فرض وركن لا تصح الصلاة بدونه، فمن صلى ولم يركع بأنْ ثنى ظهره وقبض بكفَّيه على ركبتيه فلا صلاة له، فعن زيد بن وهب قال «رأى حذيفة رجلاً لا يُتمُّ الركوع والسجود قال: ما صليتَ، ولو مُتَّ مُتَّ على غير الفطرة التي فطر الله محمداً - صلى الله عليه وسلم -» رواه البخاري. ورواه أحمد باختلاف في الألفاظ. وقد قال الله عزَّ وجلَّ يخاطب الناس بالصلاة {يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدُوا واعْبُدُوا ربَّكُمْ وافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْن} الآية 77 من سورة الحج. ولا يختار سبحانه الركوعَ والسجودَ من دون سائر أفعال الصلاة ليدل عليها بهما إلا لكونهما ركنين من أركانها لا تكون صلاة بدونهما. ولا يكفي ثنيُ الظهر واستواؤه، بل لا بد من الطمأنينة في ذلك أيضاً، وإنَّ أقلَّ ما تتحقق الطُّمأنينةُ به أن تسكن حركته وهو راكع، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه حديث المسئ صلاته، وجاء فيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال للمُسئ صلاته « ... ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ... » رواه البخاري وأحمد. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «سأل رجلٌ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شئ من أمر الصلاة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خلِّلْ أصابعَ يديك ورجليك يعني إسباغ الوضوء، وكان فيما قال له: إذا ركعتَ فضع كفيك على ركبتيك حتى تطمئن - وفي رواية حتى تطمئنَّا - وإذا سجدت فأَمْكِنْ جبهَتَك من الأرض حتى تجد حجم الأرض» رواه أحمد والترمذي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 وأُلفتُ النظر إلى أن التطبيق في الركوع كان معمولاً به فترة، ثم نُسخ، والتطبيق هو إلصاقُ راحتي اليدين ببعضهما حالَ الركوع وجعلُهما بين الفخذين، فعن علقمة عن عبد الله - ابن مسعود - قال «علَّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، فكبَّر ورفع يديه، ثم ركع وطبَّق بين يديه وجعلهما بين ركبتيه، فبلغ سعداً فقال: صدق أخي قد كنا نفعل ذلك ثم أُمِرْنا بهذا، وأخذ بركبتيه» رواه أحمد والنَّسائي وابن أبي شيبة. وعن مصعب بن سعد قال «صليت إلى جنب أبي فطَبَّقْتُ بين كفَّيَّ ثم وضعتهما بين فخذيَّ، فنهاني أبي وقال: كنا نفعله فنُهينا عنه، وأُمرنا أن نضع أيدينا على الرُّكَب» رواه البخاري. ورواه مسلم والنَّسائي والدارمي باختلاف في الألفاظ. ومصعب بن سعد هو ابن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. والسُّنَّةُ في الركوع تعظيم الرَّب عزَّ وجلَّ، لما روى ابن عباس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - « ... ألا وإني نُهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظِّموا فيه الرَّبَّ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فَقَمِنٌ أن يُستجاب لكم» رواه مسلم. ورواه ابن خُزَيمة وأبو داود وأحمد وابن حِبَّان قريباً منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 وقد وردت في الأحاديث عدة صيغ للذِّكْر في الركوع أشهرها وأَولاها [سبحان ربي العظيم] ثلاثاً، فيُسنُّ الأخذ بها وتقديمها على غيرها من الأذكار، وهذا لا يمنع من قراءة غيرها معها، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال «لما نزلت فسبِّح باسم ربك العظيم، قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال: اجعلوها في سجودكم» رواه أحمد وابن ماجة وابن حِبَّان. وروى أبو بَكْرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسبِّح في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثاً، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى» رواه البزَّار. وعن حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه «أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا ركع: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات، وإذا سجد قال: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات» رواه ابن ماجة وابن حِبَّان وأحمد والنَّسائي والطيالسي. وقد وردت صيغة [سبحان ربي العظيم وبحمده] في روايات ضعيفة، فينبغي أن تُترك ويوقف عند الصيغة الثابتة [سبحان ربي العظيم] وتقال ثلاثاً هكذا [سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم] . وإنما قلت بتقديم هذه الصيغة على غيرها من الأذكار التي سأذكرها بعد قليل لأنها الصيغة الوحيدة التي أمرنا بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، في حين أن الأذكار الأخرى قد وردت من أفعاله فحسب، وهذه الصيغ هي: أ-[سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ ربُّ الملائكةِ والروحِ] . ب-[سبحان ذي الجَبَروتِ والمَلَكوتِ والكبرياءِ والعَظَمة] . ج-[اللهم لك ركعتُ وبك آمنتُ ولك أسلمتُ، أنت ربي خشع سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصَبي وما استقلَّت به قَدَمِي لله رب العالمين] . وهذه هي أدلتها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 أ- عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه: سُبُّوح قُدُّوس ربُّ الملائكة والروح» رواه النَّسائي. ورواه أحمد وابن حِبَّان ومسلم وأبو داود بلفظ «يقول في ركوعه وسجوده» . قوله سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ - تُقرآن بضمِّ أولهما وهو الأشهر، وبفتح أولهما وهو الأقل شهرة -: هما صفتان من صفات الله سبحانه. ب- عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال «قُمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة، فلما ركع مكث قدر سورة البقرة يقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة» رواه النَّسائي. ورواه أبو داود بلفظ «قمتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمرُّ بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمرُّ بآية عذاب إلا وقف فتعوَّذ، قال ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر قيامه ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة سورة» . ج - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركع قال: اللهم لك ركعتُ وبك آمنتُ ولك أسلمتُ، أنت ربي، خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقَلَّتْ به قدمي لله رب العالمين» رواه أحمد وابن حِبَّان وابن خُزَيمة. هذه هي الأذكار التي تقال في الركوع، وكما قلت أولاها وأَفضلُها [سبحان ربي العظيم] ثلاثاً، ثم لا مانع من قول أية صيغة أخرى من هذه الصيغ الثلاث عقبها، إذ لا محذور من الجمع بين ذِكرين أو أكثر من هذه الأذكار في الركوع الواحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 وقد روى مسلم من طريق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي» . ورواه البخاري بلفظ «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي» فهذه الصيغة من التسبيح والاستغفار لم أُدْرجها ضمنَ الأذكار التي تُقال في الركوع لأن هذه الصيغة جاءت مقيدة في حالة خاصة ولم تأت مطلقة، فلا أرى أن تُقال في الركوع والسجود، فقد روى مسروق عن عائشة رضي الله عنها «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول قبل أن يموت: سبحانك وبحمدك أستغفرُك وأتوبُ إليك، قالت قلت: يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك أَحدثْتَها تقولها؟ قال: جُعلت لي علامةٌ في أُمتي إذا رأيتها قلتها، إذا جاء نصر الله والفتح، إلى آخر السورة» رواه مسلم. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ما قال هذه الصيغة إلا عندما نزل عليه {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ والفَتْحُ. ورَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُوْنَ في دِيْنِ اللهِ أَفْوَاجَاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابَاً} فامتثل للأمر الإلهي عند ذاك، ولم يكن يقولها قبل ذلك، ولذلك فنحن لا نقولها إلا في حالة حصول فتحٍ كبير كفتح بيت المقدس واستخلاصها من اليهود، أو فتح روما واحتلال إيطاليا مركزِ البابوية، كما بشَّرنا بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو فتح موسكو، أو استعادة الأندلس، وأمثال هذه الفتوحات الكبرى، وإلا فيُقتصر على الصيغ الأربع السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 نعود إلى التسبيحات المأثورة فنقول: أما عدد هذه التسبيحات في الركوع الواحد فهو أن لا يقل عن ثلاث مرات، فهذا هو أدنى التَّمام، فإن قيلت مرة أو مرتين أجزأت مع نقص الفضل لعدم التأسِّي، إذ لم يُعرف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قالها مرة أو مرتين، ولا حدَّ لأكثره خاصةً بالنسبة للمنفرد. والإمام يسبح بمقدار ما لا يُثقل على المأمومين، وإذا كان لا بد من تحديدٍ فإني أرى أن يسبِّح الإمام سبعَ تسبيحات، فيتمكن المأمومون من قول تسبيحاتهم الثلاث دون عجلة، لا سيما وأن منهم البطئ والمسبوق والمريض، فالرفق بهؤلاء مندوب. هذا هو ما أراه القدر المختار للإمام، وإن زاد على هذا القدر فلا يزيد على العشر تسبيحات، فعن سعيد بن جبير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «ما رأيت أحداً أشبه صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الغلام - يعني عمر بن عبد العزيز - قال فحَزَرنا في الركوع عشر تسبيحات، وفي السجود عشر تسبيحات» رواه أحمد. ورواه أبو داود قريباً منه. وقد نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قراءة القرآن في الركوع، فيُكره لنا ذلك، فعن علي رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس القَسِّيِّ، وعن تختُّمِ الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع» رواه مالك. وعنه رضي الله عنه قال «نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد» رواه مسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «ألا إني نُهيت أن أقرأ راكعاً أو ساجداً، فأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم» رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن حِبَّان. قال الترمذي (وهو قول أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَن بعدهم، كرهوا القراءة في الركوع والسجود) . الرفعُ من الركوع والذّكر فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 الرفع من الركوع فرض لا يحل تركه، وهو إقامة الرجل صُلْبه، أي ظهره من الركوع، والإقامة هذه تعني تمام انتصاب الظهر بعد الركوع، ويسمى أيضاً الاعتدال، وهو ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة بدونه، فعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تُجزئ صلاةٌ لا يقيم الرجل فيها صُلْبَه في الركوع والسجود» رواه ابن ماجة وأبو داود والترمذي وابن حِبَّان وابن خُزيمة. ولأحمد وابن ماجة وابن خُزيمة من طريق علي بن شيبان رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال « ... يا معشر المسلمين إنه لا صلاة لمن لا يُقيم صُلبه في الركوع والسجود» . ولأحمد من طريق طلق بن علي الحنفي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينظر الله عزَّ وجلَّ إلى صلاة عبد لا يقيم فيها صُلْبه بين ركوعها وسجودها» . وهذا أوضح في الدلالة، وفي رواية لأبي داود من طريق علي بن يحيى بن خلاَّد عن عمه أن رجلاً دخل المسجد - فذكر حديث المسئ صلاته - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنه لا تتم صلاةٌ لأحدٍ من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء ... ثم يقول سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائماً، ثم يقول الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً، ثم يقول الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصلُه، ثم يرفع رأسه فيكبِّر، فإذا فعل ذلك فقد تَّمت صلاته» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 والاطمئنان في حالة الرفع فرضٌ لا يحل تركه، وأقله أنْ تسكن الحركة في هذه الحالة فلا تتواصل في الركوع والرفع والسجود، بل لا بد من السكون في الركوع، ومن السكون في الانتصاب منه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال « ... ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اجلس حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» رواه أبو داود. وفي روايةٍ لأحمد من طريق رفاعة بن رافع الزرقي « ... فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك، وامدُدْ ظهرَك، ومكِّن لركوعك، فإذا رفعت رأسك فأَقم صُلْبَك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها» . والحالة المثلى أن يطول الاعتدال ليبلغ قريباً من الركوع، فعن البراء رضي الله عنه قال «كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجوده، وإذا رفع رأسه من الركوع وبين السجدتين قريباً من السواء» رواه البخاري ومسلم وأحمد. وعن ثابت قال «كان أنس بن مالك رضي الله عنه ينعت لنا صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يصلي، فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول قد نسي» رواه البخاري. ورواه ابن حِبَّان وأحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 أما الذِّكْر في حالة الرفع فيُسنُّ للإمام وللمنفرد أن يقولا عند الرفع من الركوع [سمع الله لمن حمده] ولا يُسنُّ ذلك للمأموم، ويسن للثلاثة أن يقولوا عقب ذلك [اللهم ربَّنا ولك الحمد] أو [اللهم ربَّنا لك الحمد] أو [ربنا ولك الحمد] أو [ربنا لك الحمد] أية صيغة من هذه الصيغ يقولونها تجزئهم، فهي قد وردت كلها في أحاديث صحيحة وحسنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: سمع الله لمن حمده، قال: اللهم ربنا ولك الحمد ... » رواه البخاري. فهنا قال [اللهم ربنا ولك الحمد] وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإنه مَن وافق قولُه قولَ الملائكة غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» رواه البخاري. فهنا قال [اللهم ربنا لك الحمد] . وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كان إذا كبَّر استفتح ثم قال ... وإذا رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ... » رواه أحمد. فهنا قال [ربنا ولك الحمد] وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد» رواه ابن حِبَّان. فهنا قال [ربنا لك الحمد] . هذه هي الأدلة الأربعة على الصيغ الأربع. وحيث أن الصيغة الأولى [اللهم ربنا ولك الحمد] تشمل ما نقصت عنه الصيغ الثلاث الأخرى فهي تعتبر أفضلها، فالعبادة ثوابٌ، والثواب على كل لفظ وكل حرف، وهنا عبادةٌ بحروف أكثر فهي الأَولى والأفضل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 ثم إن الحديث الأول أثبت أن الإمام يقول [سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا ولك الحمد] وهذا حجة على من يَقْصُر قول الإمام على [سمع الله لمن حمده] فحسب، فهذا الحديث جاء بلفظ عام، فهو يصلح دليلاً للإمام ودليلاً للمنفرد، يعززه ما رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن «أن أبا هريرة كان يكبِّر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها في رمضان وغيره، فيكبِّر حين يقوم، ثم يكبِّر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، ثم يقول: ربنا ولك الحمد، قبل أن يسجد ... ثم يقول حين ينصرف: والذي نفسي بيده إني لأقربكم شَبَهاً بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنْ كانت هذه لصلاتُه حتى فارق الدنيا» رواه البخاري. فقوله «في كل صلاة من المكتوبة وغيرها» يفيد أنها تشمل الإمام والمنفرد لأن غير المكتوبة تُؤدَّى انفرادياً. وقوله «إنْ كانت هذه لصلاتُه حتى فارق الدنيا» يفيد أن هذه الأفعال التي أداها أبو هريرة هي الأفعال نفسها التي أدَّاها الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وإذن فالإمام والمنفرد كلاهما يقول [سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا ولك الحمد] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 فيبقى المأموم، فهذا يقول [اللهم ربنا ولك الحمد] فقط، ولا يقول [سمع الله لمن حمده] والدليل على ذلك ما جاء في الحديث الثاني «إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد» فالمطلوب من المأمومين أن يقولوا [اللهم ربنا ولك الحمد] فحسب، ولا يزيدون عليها جملة [سمع الله لمن حمده] ، ويدل على ذلك أيضاً ما رواه رفاعة بن رافع الزرقي رضي الله عنه قال «كنا يوماً نصلي وراء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: مَن المتكلم؟ قال: أنا، قال: رأيت بضعة وثلاثين مَلَكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أوَّلَ» رواه البخاري. فهنا لم يقل الرجل [سمع الله لمن حمده] ومع ذلك حصل هذا التسابق بين الملائكة على كتابة ما قال. قال الترمذي (والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم: أن يقول الإمام - سمع الله لمن حمده - ويقول مَن خلف الإمام - ربنا ولك الحمد) . أما متى يقول المصلي - إماماً كان أو منفرداً – [سمع الله لمن حمده] و [اللهم ربنا ولك الحمد] ؟ فقد أجاب أبو هُريرة رضي الله عنه على هذا السؤال بما رواه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صُلْبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: ربَّنا ولك الحمد» رواه ابن خُزَيمة. فالمصلي يقول [سمع الله لمن حمده] وهو يرفع رأسه من ركوعه، أي في أثناء حركته، وعندما يعتدل واقفاً وتسكن حركته يقول [اللهم ربنا ولك الحمد] أو أية صيغة من الصيغ الواردة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 نعود ثانية إلى الصيغ الواردة فنقول: لقد ذكرنا قبل قليل أربع صيغ تقال عقب [سمع الله لمن حمده] وفضَّلنا عليها الصيغة [اللهم ربنا ولك الحمد] . ونقول الآن إن هؤلاء الكلمات الأربع هي الحد الأدنى لما يقوله المصلي عقب [سمع الله لمن حمده] لكنْ هناك صيغٌ إضافية تقال أيضاً منها الصيغة المارَّة في حديث البخاري من طريق رفاعة ابن رافع وهي [ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه] وقد قرأتم ما لها من فضل. وهناك صيغة أطول قليلاً هي [اللهم ربنا لك الحمد ملءَ السموات وملءَ الأرضِ وملءَ ما بينهما، وملء ما شئت من شئ بعدُ] فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال.. وإذا رفع قال: اللهم ربنا لك الحمد، ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شئتَ من شئ بعدُ..» رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 وهناك صيغة ثالثة أطول من سابقتها هي [ربنا لك الحمد ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما شئتَ من شئ بعدُ، أهلَ الثَّناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبدُ وكلُّنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعطيَ لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ] وقد وردت هذه الصيغة عند الدارمي ومسلم وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزَيمة، ولكن باختلافات يسيرة في الألفاظ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمدُ ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما شئتَ مِن شئ بعدُ، أهلَ الثَّناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبد وكلُّنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيتَ ولا معطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ» رواه الدارمي. وفي رواية لابن حِبَّان بزيادة الواو «ربنا ولك الحمد» وفي رواية لأحمد بزيادة اللهم «اللهم ربنا لك الحمد» وفي رواية لابن خُزَيمة بزيادة اللهم والواو «اللهم ربنا ولك الحمد» وفي رواية لمسلم بزيادة وملءَ ما بينهما «مِلْءَ السموات ومِلْءَ الأرض ومِلْءَ ما بينهما» والزيادة من الرواة الثقات مقبولة، فتُزاد هذه الزيادات إلى النص الوارد عند الدارمي فتصبح هكذا [اللهم ربنا ولك الحمدُ ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شئت من شئ بعدُ، أهلَ الثناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبد وكلُّنا لك عبدٌ، اللهم لا مانع لما أعطيتَ ولا مُعطي لما منعتَ ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وهذه الصيغة الثالثة تشمل الصيغة الثانية الواردة في حديث مسلم المارِّ. فتبقى عندنا صيغتان: الصيغة الطويلة هذه، والصيغة الأولى [ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه] فمن أحب الاقتصار على الصيغة الأولى فله ذلك، ومن أحب الأخذ بالصيغة الطويلة فله ذلك، ومن أحب أن يجمع بينهما فله ذلك. فيقول إذا رفع من الركوع [سمع الله لمن حمده] ويقول إذا اعتدل قائماً [اللهم ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شئت من شئ بعد، أهلَ الثناء والمجدِ أحقُّ ما قال العبدُ وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد] فينال الخير كله. ومعنى ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ: أن صاحب الحظ والغنى لا ينفعه حظه وغناه من أمرك يا رب وقضائك فيه. السجودُ وهيئته والذّكر فيه ذكرنا في الفصل الأول أن الصلاة أحب الأعمال إلى الله سبحانه، وذكرنا أن الصلاة لغةً معناها الدعاء، فالصلاة إذن قد استمدَّت فضلها من الدعاء، أو أن الدعاء هو أبرز ما فيها، ولا غرو في ذلك فإن الدعاء هو العبادة، فإذا أدركنا أن السجود هو موطن الدعاء بشكل رئيسي أدركنا فضل السجود في الصلاة، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء» رواه مسلم والنَّسائي وأبو داود وابن حِبَّان. وروى ابن عباس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - « ... ألا وإني نُهيتُ أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظِّموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمنٌ أن يُستجاب لكم» رواه مسلم. ورواه أحمد وابن خُزيمة وأبو داود وابن حِبَّان باختلاف في الألفاظ. فالمسلم في سجوده قريب من ربه، مستجابٌ دعاؤه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 وقد عبَّر الله عزَّ وجلَّ عن طاعة المخلوقات له وعبادتها إياه بالسجود فقال {وللهِ يَسْجُدُ مَا في السَّموَاتِ ومَا في الأَرْضِ مِنْ داَبَّةٍ والملائِكَةُ وهُمْ لا يَسْتَكْبِرُوْنَ} الآية 49 من سورة النحل. وقال سبحانه {أَلمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَنْ في السَّمَواتِ ومَنْ في الأَرْضِ والشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُوْمُ والجِبَالُ والشَّجَرُ والدَّوَابُّ وكَثِيْرٌ مِنَ النَّاس وكَثِيْرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذَابُ ومَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} الآية 18 من سورة الحج. ومن فضل السجود أن الله سبحانه قد كرَّم مواضع السجود في جسم المسلم بأن حماها من عذاب النار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال « ... إذا أراد الله رحمةَ مَن أراد من أهل النار أمرَ الله الملائكة أن يُخرِجوا مَن كان يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرَّم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النارُ إلا أثر السجود ... » رواه البخاري. وهو حديث طويل، ووقع عند النَّسائي من طريق عطاء بن يزيد « ... إن النار تأكل كل شئ من ابن آدم إلا موضع السجود» . ومن فضل السجود أن الله عزَّ وجلَّ قد اختار أعضاء السجود من أجساد المسلمين لتكون السيما التي تميزهم عمن سواهم من الخلائق يوم القيامة، وجعل البياض والنور يشع من جباههم، وإلى هذا أشار الله سبحانه بقوله {مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ والذِيْنَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعَاً سُجَّداً يَبْتَغُوْنَ فَضْلاً مِنَ اللهِ ورِضْوَاناً سِيْمَاهُمْ في وُجُوْهِهِمْ مِنَ أَثَرِ السُّجُوْدِ ... } الآية 29 من سورة الفتح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 ومن فضل السجود ما جاء في هذا الحديث الذي رواه مسلم من طريق معدان بن أبي طلحة اليَعْمُري قال «لقيت ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أخبرني بعمل أعمله يُدخلني الله به الجنة، أو قال: قلت بأحب الأعمال إلى الله، فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة فقال: سألتُ عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحطَّ عنك بها خطيئة، قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثل ما قال ثوبان» ودلالته واضحة. أما هيئة السجود فتكون بأن يجعل المسلم قدميه وركبتيه وكفَّيه وجبهته على الأرض بالصفة المعلومة، فيكون قد سجد على سبعة أعضاء لا يجوز السجود إلا عليها مجتمعة، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال «أَمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد على سبعة أعضاء، ولا يكفُّ شعراً ولا ثوباً: الجبهة واليدين والركبتين والرِّجلين» رواه البخاري ومسلم. ووقع في روايةٍ أخرى لمسلم من طريق العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إذا سجد العبد سجد معه سبعة أطراف: وجهُه وكفَّاه وركبتاه وقدماه» . ووقع عند الترمذي وأبي داود وابن حِبَّان وابن خُزَيمة وابن ماجة من طريق العباس رضي الله عنه بلفظ «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب ... » . ووقع عند أحمد من طريق العباس رضي الله عنه بلفظ «إذا سجد الرجل سجد معه سبعة آراب ... » . قوله الآراب: أي الأعضاء. فهذه الأعضاء السبعة هي أعضاء السجود، لا بد منها في عملية السجود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 ويُندب وضعُ القدمين في حالة انتصابٍ مستقبلاً بأطراف الأصابع القِبلة، ويباعد قليلاً بين الركبتين، ويبسط كفَّيه على الأرض ضامَّاً أصابعه، ويسجد على الأنف إضافةً إلى الجبهة، ويضعهما بين كفَّيه إلى الأمام قليلاً، ويُفرِّج بين فخذيه غير حامل بطنه على شئ منهما، ويُنحِّي يديه عن جنبيه، ويرفع مرفقيه وساعديه عن الأرض، ويرفع مقعدته، ويقال له في هذه الحالة مُخَوِّياً - يعني أنَّ ما بين يديه ورجليه يكون خاوياً - ويدع ثيابه تسقط على موضع سجوده، كما يدع شعره إنْ كان مسترسلاً يسقط على موضع سجوده لا يكفُّهما في السجود. وقد مرَّ حديث البخاري ومسلم من طريق ابن عباس رضي الله عنه وفيه « ... ولا يكفُّ شعراً ولا ثوباً ... » . فهذه هي مندوبات السجود. ويحاذر الرجل أن يبسط ساعديه على الأرض لأن هذا منهيٌّ عنه شرعاً، ولا يحمل بطنه على فخذيه تأسِّياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يتمدَّد في سجوده، ولا يسجد على جبهته فحسب دون أنفه، ولا يخالف ما سبق من المندوبات، فإن هو لم يفعل فلا إثم عليه، وسجوده مجْزئ ومقبول. وفي كل ما سلف وردت الأحاديث الصحيحة والحسنة: أ- عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا سجدتَ فضَعْ كفيك، وارفع مرفقيك» رواه مسلم وأحمد. ورواه ابن حِبَّان بلفظ «إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك وانتصب» . ب- عن عبد الله بن مالك بن بُحَيْنَةَ رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلَّى فرَّج بين يديه حتى يبدوَ بياضُ إبطيه» رواه مسلم والبخاري. ورواه ابن حِبَّان بلفظ «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد فرَّج بين يديه حتى يبدوَ بياضُ إبطيه» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 ج - عن علقمة بن وائل عن أبيه رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركع فرَّج أصابعه وإذا سجد ضمَّ أصابعه» رواه ابن حِبَّان والطبراني. ورواه ابن خُزَيمة والحاكم بلفظ «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد ضمَّ أصابعه» ولم يذكرا الركوع. د - عن أبي حميد رضي الله عنه - ووصف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - قال «وإذا سجد فرَّج بين فخذيه غير حاملٍ بطنَه على شئ من فخذيه» رواه أبو داود. هـ - عن أبي حُمَيد رضي الله عنه قال «أنا كنت أحفظَكُم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته إذا كبَّر جعل يديه حِذاء منكبيه، وإذا ركع أَمكَنَ يديه من ركبتيه ثم هَصَرَ ظهرَه، فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه، فإذا سجد وضع يديه غير مفْترِشٍ ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القِبلة، فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدَّم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته» رواه البخاري. و عن شعبة قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال «إن مولاك إذا سجد وضع جبهته وذراعيه وصدرَه بالأرض، فقال له ابن عباس: ما يحملك على ما تصنع؟ قال: التواضع، قال: هكذا رِبضةُ الكلب، رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد رُؤي بياضُ إبطيه» رواه أحمد. ز - عن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد على أنفه مع جبهته» رواه أحمد. ح - عن وائل بن حُجْر رضي الله عنه «أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد بين كفَّيه - وفي رواية - ويداه قريبتان من أُذنيه» رواه أحمد ومسلم. ط - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رُؤي على جبهته وعلى أرنبته أثرُ طينٍ من صلاةٍ صلاها بالناس» رواه أبو داود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 ي - عن البراء رضي الله عنه أنه وصف السجود قال «فبسط كفيه ورفع عَجِيزَتَه وخوَّى وقال: هكذا سجد النبي - صلى الله عليه وسلم -» رواه أحمد. قوله العجيزة: أي المقعدة. ك - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى جَخَّى» رواه ابن خُزَيمة. قوله جخَّى: أي لم يتمدد في ركوعه ولا في سجوده. ل - عن ابن عباس رضي الله عنه قال «تدبَّرْتُ صلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيته مُخوِّياً، فرأيت بياض إبطيه» رواه أحمد. قوله مُخَوِّياً: أي مُجَافِياً بطنه عن الأرض، ومجافياً عضُديه عن جنبيه. م - عن عمرو بن الحارث رضي الله عنه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد يُجنِّحُ في سجوده حتى يُرى وضحُ إبطيه» رواه مسلم وأحمد. ن - عن ميمونة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد جافى يديه، فلو أن بَهْمةً أرادت أن تمرَّ بين يديه لمرَّت» رواه أبو داود. ورواه ابن خُزَيمة باختلاف يسير في الألفاظ. وفي روايةٍ لمسلم من طريق ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد خَوَّى بيديه يعني جَنَّح حتى يُرى وَضَحُ إبطيه مِن ورائه، وإذا قعد اطمأنَّ على فخذه اليسرى» . قوله وضحُ إبطيه: أي بياضُ إبطيه. وقوله خوَّى وجنَّح: أي جافى وباعد. س - عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تبسط ذراعيك إذا صليت كبسط السَّبُع، وادَّعِمْ على راحتيك وجافِ عن ضَبْعَيك، فانك إذا فعلتَ ذلك سجد كلُّ عضو منك» رواه ابن حِبَّان. قوله الضَّبعان: أي ما تحت الإبطين. ع - روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا سجد أحدكم فلْيعتدل، ولا يفترش ذراعيه افتراش السبُع» رواه ابن خُزَيمة. ورواه الترمذي وابن ماجة بلفظ «افتراش الكلب» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 ف - عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدُكم ذراعيه انبساط الكلب» رواه البخاري ومسلم. ورواه أبو داود وابن حِبَّان بلفظ «اعتدلوا في السجود، ولا يفترش أحدكم ذراعيه افتراشَ الكلب» . هذه هي هيئة السجود الواجبة ومندوباتها، ومنها أن يجافي المسلم يديه عن جنبيه، ويرفع مرفقيه وساعديه عن الأرض، إلا أنه إن سجد سجوداً طويلاً فثقُل عليه الوضع وأصابه الإعياء والمشقة رُخِّص له في وضع مرفقيه على ركبتيه لما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال «شكا أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه مشقَّةَ السجود عليهم إذا تفرَّجوا، قال: استعينوا بالرُّكَب» رواه أحمد. ورواه ابن حِبَّان والترمذي وأبو داود باختلاف في الألفاظ. قوله إذا تَفَرَّجوا: أي إذا تعبوا. والاستعانة بالركب تكون بأن يضع المصلِّي مرفقيه على ركبتيه إذا طال السجود وتعب منه. والطمأنينة في السجود فرض لا بد منه وأقلها أن تسكنَ حركةُ الساجد وهو في حالة السجود لما روى أبو هريرة رضي الله عنه - وذكر حديث المسئ صلاته وجاء فيه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال للمسئ صلاته « ... ثم اسجد حتى تطمئنَّ ساجداً ... » رواه البخاري وأحمد. ولما روى رفاعة في الحديث الطويل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل الذي صلى وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعادة الصلاة «ثم إذا أنت سجدت فأَثْبِتْ وجهك ويديك حتى يطمئن كلُّ عظم منك إلى موضعه» رواه ابن خُزَيمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 أما القدر المتوسط للاطمئنان في السجود فهو ما يكفي لقول الذِّكر المأثور، وسنذكره بعد قليل، وهو يقارب قدر الاطمئنان في الركوع، أو قدر الاطمئنان في القيام عقب الركوع، أو قدر الاطمئنان في الجلسة بين السجدتين، لما رُوي أن البراء رضي الله عنه قال «كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجوده وإذا رفع رأسه من الركوع وبين السجدتين قريباً من السواء» رواه البخاري. ورواه مسلم وأحمد قريباً من هذا. وقد مرَّ في بحث [الرفع من الركوع والذِّكر فيه] ولما روى ثابت عن أنس رضي الله عنه أنه قال «إني لا آلو أن أصلِّيَ بكم كما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا، قال ثابت: كان أنس يصنع شيئاً لم أركم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل قد نسي، وبين السجدتين حتى يقول القائل قد نسي» رواه البخاري. ورواه مسلم قريباً منه. والسجود فرض وركن لا تصح الصلاة بدونه، فمن صلى ولم يسجد السجود المعروف فلا صلاة له، فقد خاطب الله سبحانه الناس بالصلاة، فقال عزَّ وجلَّ {يا أَيُّها الذِيْنَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدُوا واعْبُدُوا ربَّكُمْ وافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ} الآية 77 من سورة الحج. وقد مرَّت في بحث [الركوع وهيئته والذِّكر فيه] وقلنا هناك (ولا يختار سبحانه الركوع والسجود من سائر أفعال الصلاة ليدل عليها بهما إلا لكونهما ركنين من أركانها لا تكون صلاةٌ بدونهما) وعن زيد بن وهب قال «رأى حذيفةُ رجلاً لا يُتم الركوع والسجود قال: ما صلَّيتَ، ولو مُتَّ مُتَّ على غير الفطرة التي فطر الله محمداً - صلى الله عليه وسلم -» رواه البخاري. ورواه أحمد باختلاف في الألفاظ. وقد مرَّ في بحث [الركوع وهيئته والذِّكر فيه] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 ويندب وضع الركبتين على الأرض قبل اليدين عند الخرور للسجود، ورفع اليدين قبل الركبتين عند النهوض، لما رُوي أن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد يضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» رواه الترمذي. ورواه ابن حِبَّان وابن ماجة قريباً منه. وروى أبو داود عن وائل رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - - فذكر حديث الصلاة - قال: فلما سجد وقعتا رُكبتاه إلى الأرض قبل أن تقع كفَّاه» . هكذا وردت الرواية بلفظـ «وقعتا رُكبتاه» بفاعلين لفعلٍ واحد وهي لغة غير مشهورة. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إذا سجد أحدكم فلْيبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك كبروك الفحل» رواه ابن أبي شيبة والطحاوي. فهذا الحديث فيه الأمر بالبدء بالركبتين قبل اليدين، وفيه الأمرُ بمخالفة الفحل في بروكه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 وأما ما رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك الجمل، ولْيضع يديه ثم ركبتيه» . بتقديم وضع اليدين على الركبتين، فالجواب عليه أن هذا الحديث بهذا اللفظ يخالف أولُه آخرَه، فأولُه يأمرُ بمُخَالَفةِ الجمل في بُروكه، في حين أن آخره يأمر بوضع اليدين قبل الركبتين وهذا تناقض، ذلك أن الجمل عندما يبرك يبدأ بيديه أولاً، ثم يبرك على رجليه بعد ذلك، وهذا معلوم وظاهر، فكيف نُؤمر في هذا الحديث بالبدء باليدين ثم نؤمر بمخالفة الجمل؟ ثم إن حديث أبي هريرة عند ابن أبي شيبة والطحاوي يأمر أيضاً بمخالَفةِ الفحل في بروكه، ولكنه يأمر بالبدء بالركبتين، فهذان الحديثان اتفقا على الأمر بمخالَفةِ الجمل في بروكه، واختلفا على الترتيب لليدين والركبتين. والواقع المُدرَك المحسوس لبروك الجمل يدل على صحة ما جاء به حديث ابن أبي شيبة والطحاوي، وعلى خطأ ما جاء في حديث أحمد وأبي داود والنَّسائي، هذه واحدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وأما الثانية فهي أن النَّسائي وأبا داود رويا من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يعمدُ أحدُكم في صلاته فيبرك كما يبرك الجمل» . فلم يأت على ذكر اليدين والركبتين، فأتساءل: هل هذا الحديث هو غير الحديث السابق أم هما حديث واحد؟ ولماذا لم تُذكر اليدان والركبتان في هذه الرواية؟ إن الثابت من هذه الأحاديث الثلاثة هو الأمر بمخالَفةِ الجمل في بروكه، وأما ترتيب اليدين والركبتين فاختلفت الأحاديث بشأنه، فيُعمل بالثابت، وهو الأمر بمخالَفةِ الجمل في بروكه، وحيث أن الجمل يبرك بادئاً بيديه فإن المسلم مأمور بالبدء بالركبتين لتتم المخالَفةُ، وهذا موافق لحديث وائل ابن حجر المار، فيُعمل به ويُترك ما يخالفه. قال ابن قيّم الجوزيّة في كتابه ـ زاد المعاد -: إن حديث أبي هريرة مما انقلب على بعض الرواةِ متْنُهُ، وأصله: ولْيَضَعْ رُكْبَتيْهِ قبل يديْهِ. وهو قول وجيهٌ وصائب. ونأتي إلى الذكر والدعاء في السجود فنقول إنه قد وردت له عدة صيغ أشهرها وأَوْلاها [سبحان ربي الأعلى] ثلاثاً، فيُسن الأخذُ بها وتقديمها على الصيغ الأخرى، ولا مانع من قول هذه الصيغ الأخرى عقب قول [سبحان ربي الأعلى] ثلاثاً، إذ الجمع بين صيغتين أو أكثر هنا جائز، وقد ذكرنا في بحث [الركوع وهيئته والذِّكر فيه] ثلاثة أحاديث في قول [سبحان ربي الأعلى] في السجود فلا نعيد. وهذه الصيغة ورد الأمر بها ولم يَرِد الأمرُ بقول غيرها، وغيرُها إنما وردت من أفعاله عليه الصلاة والسلام فقط، وأوامره - صلى الله عليه وسلم - مقدَّمةٌ على أفعاله. ونذكر الآن جملة من الصيغ الواردة: أ-[سبُّوحٌ قُدُّوسٌ ربُّ الملائكة والروح] . ب-[سبحان ذي الجَبَروتِ والمَلَكُوتِ والكِبرياءِ والعَظَمة] . ج-[اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 د-[اللهم اغفرلي ذنبي كُلَّهُ دِقَّهُ وجِلَّهُ وأوَّلَهُ وآخِرَهُ وعلانيَّتَهُ وسِرَّه] . هـ-[اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، واجعلْ لي نوراً، وأعْظِمْ لي نوراً] . و [اللهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، سجد وجهي للذي خلقه فصوَّره فأحسن صُوَرَه، فشقَّ سمعَه وبصَره، فتبارك الله أحسن الخالقين] . وهناك أدعية أخرى وردت كان الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - يدعو بها في سجوده، فمن شاء الوقوف عليها فلْيطلُبْها في كتب الحديث. أما الأدلة على هذه الصيغ الست، فإن الصيغتين الاُوليين (أ، ب) قد ورد دليلُ كلٍّ منهما في بحث [الركوع وهيئته والذِّكر فيه] فلا نعيدهما خشية الإطالة، فليرجع إليهما هناك. ونذكر الآن أدلة الصيغ الأخرى حسب الترتيب المذكور: 1- عن عائشة رضي الله عنها قالت «فقدتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة في الفراش، فجعلت أطلبه بيدي، فوقعت يدي على باطن قدميه وهما منتصبتان، فسمعته يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصى ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» رواه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان والنَّسائي. 2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده «اللهم اغفر لي ذنبي كلَّه دِقَّه وجِلَّه وأولَه وآخِرَه وعلانيته وسِرَّه» رواه أبو داود وابن حِبَّان وابن خُزَيمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 3- عن ابن عباس رضي الله عنه قال «بتُّ في بيت خالتي ميمونة فبَقَيْتُ كيف يصلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وذكر جملة من أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - ثم خرج إلى الصلاة فصلَّى، فجعل يقول في صلاته أو في سجوده: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شِمالي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، واجعل لي نوراً، أو قال: واجعلني نوراً» رواه مسلم. وفي رواية له من طريق ابن عباس رضي الله عنه جاء «وقال أَعْظِمْ لي نوراً» ولم يذكر: «واجعلني نوراً» ففيها زيادة هي [أَعظِمْ لي نوراً] والزيادة مقبولة. وجاء في رواية أخرى لمسلم من طريق ابن عباس رضي الله عنه «اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي لساني نوراً ... » ففيها زيادة [وفي لساني نوراً] فتُقبل. وأُلفت النظر إلى أن الترتيب في هذا الدعاء ليس بلازم، فروايات مسلم لم تلتزم ترتيباً واحداً، ثم إن النَّسائي جاءت روايته هكذا «ثم قام يصلي وكان يقول في سجوده: اللهم اجعل في قلبي نوراً، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من تحتي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، واجعل أمامي نوراً، واجعل خلفي نوراً، وأَعْظِم لي نوراً، ثم نام حتى نفخ، فأتاه بلال فأيقظه للصلاة» . قوله بَقَيْتُ: أي رمقتُ ونظرتُ. 4- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « ... إذا سجد قال: اللهم لك سجدت وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه فصوَّره فأحسن صُوَره، فشق سمعَه وبصرَه، فتبارك الله أحسنُ الخالقين ... » رواه أحمد. والترتيب في هذا الدعاء أيضاً ليس بلازم، فقد رواه النَّسائي بغير الترتيب في رواية أحمد، وهو هكذا «اللهم لك سجدت ولك أسلمت وبك آمنت، سجد وجهي للذي خلقه وصَوَّره فاحسن صورَتَه، وشق سمعه وبصره، تبارك الله احسن الخالقين» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 هذه جملة من التسبيحات والأدعية المأثورة.أما قدر تردادها في السجود الواحد فإن أدنى التمام أن تُقال ثلاث مرات، فإن قيلت مرةً واحدة أو مرتين أجزأت مع نقص الفضل، ولا حدَّ لأكثره خاصة بالنسبة للمنفرد، وأما الإمام فيسبح بمقدار ما لا يُثقل ويشق على المأمومين، فإن سبَّح سبع تسبيحات فحسن، وذلك حتى يتمكن المأمومون من التسبيح ثلاثاً على مهل دون استعجال، لا سيما وأن منهم البطئ في النطق ومنهم المريض، فالرفق مطلوب، ولا يزيد على العشر تسبيحات فيشق على الضعفاء منهم، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا ما قام أحدُكم للناس فليخفِّف الصلاة، فإن فيهم الكبير وفيهم الضعيف، وإذا قام وحده فَلْيُطِل صلاته ما شاء» رواه مسلم. وقد مرَّ حديث أنس بن مالك عند أحمد في بحث [الركوع وهيئته والذِّكر فيه] وفيه « ... فحَزَرْنا في الركوع عشر تسبيحات، وفي السجود عشر تسبيحات» . ولا يُقرأ القرآن في السجود كما لا يُقرأُ في الركوع، لورود النهي عن ذلك، وقد سبقت أحاديث في هذا: اثنان رواهما مالك ومسلم من طريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والثالث رواه أحمد من طريق ابن عباس رضي الله عنه فلا نعيد، وليرجع إليهما في بحث [الركوع وهيئته والذِّكْر فيه] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 ونأتي إلى مسألة كشف الجبهة واليدين في السجود فنقول: إن الأصل في السجود أن يسجد المسلم وهو كاشفٌ يديه وجبهته، فهذا ما كان عليه حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحال صحابته رضوان الله عليهم، فإذا خالف أحدهم الأصل نبَّهه - صلى الله عليه وسلم - فعاد إليه، من ذلك ما رُوي عن عياض بن عبد الله أنه قال «رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يسجد على كور العمامة، فأومأ بيده ارفعْ عمامتك» رواه ابن أبي شيبة. وروى صالح بن خيوان السبائي «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسجد إلى جنبه وقد اعتمَّ على جبهته، فحَسَرَ عن جبهته» رواه أبو داود. إلا أنه إن جاء حرٌّ شديد أو برد شديد بحيث كان السجود على الأرض يشق على الناس، فقد أجاز الشرع الحنيف عندئذٍ تغطية الجبهة واليدين، أو إلقاء شئ من الثياب على موضع السجود دفعاً للمشقة وتوسعةً على الناس، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتِّقاءَ الحرِّ» رواه البخاري والنَّسائي. ورواه أبو داود وأحمد بلفظ «كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شدة الحرِّ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يُمَكِّن وجهَه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه» . ورواه ابن ماجة وفيه « ... فإذا لم يقدر أحدنا ... » وإذن فإن وجود حائل بين الجبهة واليدين وبين الأرض مرهون بعدم الاستطاعة، أو بعدم القدرة أو بشدَّة الحرِّ، وكذلك هو مرهون بشدة البرد، كمن يصلي في ليلة زمهرير في العراء، أو كمن يسجد على الثلج، لما روى ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في ثوب واحد متوشِّحاً به يتقي بفُضُوله حرَّ الأرض وبردها» رواه أحمد. قوله يتَّقي بفضوله: أي يحمي نفسه من الحر والبرد بما فضل وزاد من ثوبه الذي يلبسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وهذا حجة على من منع السجود على الثوب الملبوس، وأجاز السجود على الثوب غير الملبوس يلقيه تحته ليكون كالبساط، نعم فهذا حجة عليه، وكذلك ما روى عبد الله ابن عبد الرحمن عن أبيه عن جده - ثابت بن الصامت - رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في بني عبد الأشهل وعليه كساءٌ متلفِّفٌ به، يضع يديه عليه يقيه بَرْدَ الحصى» رواه ابن ماجة. ورواه أحمد بلفظ «جاءنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى بنا في مسجد بني عبد الأشهل، فرأيته واضعاً يديه في ثوبه إذا سجد» . والمحصِّلة هي أن السجود على طرف العمامة الملبوسة أو طرف الكوفية أو الطاقية، أو السجود بالقفازات في اليدين جائز كله إن كان لعذر الحرِّ والبرد، فإن لم يكن حرٌ ولا بردٌ كُرهت تغطيةُ الجبهة واليدين، ولكن الصلاة تكون مقبولة وصحيحة. الجلسةُ بين السجدتين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 يجب على المسلم في هذه القعدة أن يقيم فيها صُلْبه، وأن يطمئن فيها بأن تسكن حركته، ويُسنُّ له تطويلها لتكون نحواً من قدر السجود، ولا يحل له أن تتواصل حركته بين السجدتين، فعن البراء رضي الله عنه قال «كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجوده، وإذا رفع رأسه من الرُّكوع، وبين السجدتين قريباً من السواء» رواه البخاري. وقد مرَّ في بحث [الرفع من الركوع والذِّكر فيه] وفي بحث [السجود وهيئته والذِّكر فيه] . وعن طلق بن علي الحنفي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا ينظر الله عزَّ وجلَّ إلى صلاةِ عبدٍ لا يُقيم فيها صُلْبه بين ركوعها وسجودها» رواه أحمد. وقد مرَّ هو وحديثان مثله في بحث [الرفع من الركوع والذِّكر فيه] وعن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال «إني لا آلو أن أُصلي بكم كما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا، قال ثابت: كان أنس يصنع شيئاً لم أركم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل قد نسي، وبين السجدتين حتى يقول القائل قد نسي» رواه البخاري. ورواه مسلم قريباً منه. وقد مرَّ في بحث [السجود وهيئته والذِّكر فيه] وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ الحمدُ لله رب العالمين ... وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالساً ... » رواه مسلم. وعن أنس رضي الله عنه قال «.. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: سمع الله لمن حمده، قام حتى نقول قد أوهم، ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم» رواه مسلم. وروى أبو هريرة رضي الله عنه حديث المسئ صلاته، إلى أن قال « ... ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» رواه البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 ويُسنُّ في هذه الجلسة الإقعاء،أي الجلوس على العقبين، معتمداً على رؤوس أصابع القدمين والركبتان على الأرض، أي ينصب القدمين ويجلس عليهما، لما رُوي عن طاووس أنه قال «قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين في السجود فقال: هي السنَّة، قال قلنا: إنا لنراه جفاءً بالرجل، فقال ابن عباس: هي سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -» رواه أبو داود، ورواه الترمذي وابن خزيمة ومسلم باختلاف يسير. أما الإقعاء الذي ورد النهي عنه في عدد من الأحاديث فإنه غير هذا الإقعاء المسنون، وهو أن يُلصق إلْيَيَه بالأرض، وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض يفعل كما يفعل الكلب. هذه أولاً. والثانية هي أنَّ جميع الأحاديث التي ورد فيها النهي عن الإقعاء رويت بأسانيد ضعيفة لا تصلح للاحتجاج. وقد رُويت أحاديث في الدعاء في هذه الجلسة نذكر منها: أ- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بين السجدتين في صلاة الليل: رب اغفر لي وارحمني واجْبُرني وارزقني وارفعني» رواه ابن ماجة. ورواه أحمد بلفظ «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بين السجدتين في صلاة الليل: رب اغفر لي وارحمني وارفعني وارزقني واهدني» . ورواه أبو داود بلفظ «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني» . ب- عن حذيفة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين رب اغفر لي، رب اغفر لي» رواه ابن ماجة والنَّسائي والحاكم وصححه وأقرَّه الذهبي. ورواه ابن خُزَيمة وفيه طول، ومما جاء فيه « ... ثم سجد نحواً مما رفع، ثم رفع فقال: رب اغفر لي، نحواً مما سجد، ثم سجد نحواً مما رفع، ثم قام في الثانية» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 الحديث الأخير فيه «رب اغفر لي» وهذا الدعاء داخل في الحديث الأول برواياته الثلاث، وهذه الروايات الثلاث الأولى تضمنت بالجمع بينها [اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني واجبُرني وارفعني] فيُدعى بهذا الدعاء أخذاً بالخير كله. وإن هو أحب الاختصار والاقتصار على دعاء واحد فلْيقل [رب اغفر لي، رب اغفر لي] يكرِّرها. جلسةُ الاستراحة هي الجلسة الخفيفة التي تَعْقُب الفراغ من السجدة الثانية وقبل النهوض إلى الركعة الثانية وإلى الركعة الرابعة، أي إذا فرغ المصلي من الركعة الأولى وأراد أن يقوم للركعة الثانية جلس جلسة قصيرة ثم قام، وإذا فرغ من الركعة الثالثة وأراد أن يقوم للركعة الرابعة جلس جلسة قصيرة ثم قام، وتسمى جلسة الاستراحة . وهذه الجلسة مندوبة مستحبة. فعن أبي قِلابة قال «جاءنا مالك بن الحُويرث فصلى بنا في مسجدنا هذا، فقال: إني لأُصلي بكم وما أريد الصلاة، ولكن أريد أن أُريكم كيف رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، قال أيوب فقلت لأبي قِلابة: وكيف كانت صلاته؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا، يعني عمرو بن سَلِمة، قال أيوب: وكان ذلك الشيخ يُتمُّ التكبير، وإذا رفع رأسه عن السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام» رواه البخاري. وقيَّدها أبو داود في رواية له بقوله « ... كان إذا رفع رأسه من السجدة الآخرة في الركعة الأولى قعد ثم قام» . وكذلك قيَّدها أحمد في رواية له بقوله « ... قال فقعد في الركعة الأولى حين رفع رأسه من السجدة الأخيرة ثم قام» . وقيَّدها أحمد في رواية أخرى بالركعتين الأولى والثالثة بقوله «قال أبو قِلابة: فصلى صلاة كصلاة شيخنا هذا يعني عمرو بن سَلِمة الجَرْمي، وكان يؤمُّ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أيوب: فرأيت عمرو بن سَلِمة يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع من السجدتين استوى قاعداً، ثم قام من الركعة الأولى والثالثة» . ولخَّص مالك بن الحويرث رضي الله عنه هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 الموضوع بقوله «إنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فإذا كان في وِترٍ من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً» رواه البخاري والترمذي وأبو داود وابن خُزَيمة. قوله في وترٍ من صلاته: يعني الركعات الفردية غير الزوجية، وهما الركعتان الأولى والثالثة. وكون هذه الجلسة خفيفة قصيرة لا يعني عدم الاطمئنان فيها وعدم السكون، فقد روى ابن خُزيمة عن أبي حُمَيد الساعدي قال « ... كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائماً، فذكر بعض الحديث وقال ... ثم هوى ساجداً وقال: الله أكبر، ثم ثنى رجله وقعد فاعتدل حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ثم نهض» . أما أنها سُنة وليست فرضاً فذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يطلبها من المُسئ صلاته عندما علَّمه ما عليه أن يفعل في صلاته، ولو كانت فرضاً لعلَّمه إياها، ثم إن قول أيوب في رواية أحمد «فرأيت عمرو بن سَلِمة يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه» ثم ذكر هذه الجلسة في الركعتين الأولى والثالثة ليدل على أن هذه الجلسة ليست فرضاً، وإلا لما تركها المسلمون في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أما كيفية الجلوس، ففي رواية ابن خُزَيمة الإجابة عليها «ثنى رجله وقعد فاعتدل، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه» . والمقصود بالرِّجل المثنيَّة الرِّجل اليسرى، فالجلسة تكون بأن يثني رجله اليسرى - أي يفرشها - وينصب الرِّجل اليمنى، ثم يقعد على اليسرى، وهي تماثل الجلسة للتَّشهد الأوسط كما سيأتي بعد قليل. إلا أنه لو أقعى في هذه الجلسة على قدميه المنصوبتين فإني أرجو أن لا يكون في ذلك بأس، وربما كانت هذه الكيفية أسهل في النهوض، فالأمر موسَّع، والله عزَّ وجلَّ أعلم. التشهُّدُ وهيئةُ الجلوس له للتشهد في الصلاة عدة صيغ مأثورة أذكر لكم جملة منها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 أ-[التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله] . ب-[التحياتُ الطيباتُ الصلواتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله] . ج-[التحياتُ المباركاتُ الصلواتُ الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله] . وقد رتَّبتُ هذه الصيغ حسب الأولوية، فالأَولى أن يأخذ المسلم الصيغة الأولى، وإلا فالصيغة الثانية، وإلا فالصيغة الثالثة، وهذه هي أدلتها حسب ترتيبها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 أ- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «كنا إذا صلينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل علينا بوجهه فقال: إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة فلْيقل: التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه إذا قال ذلك أصاب كلَّ عبدٍ صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير بعدُ من الكلام ما شاء» رواه البخاري ومسلم. ورواه أحمد والنَّسائي وأبو داود. قوله السلام على فلان - وفي رواية: السلام على فلان وفلان -: يعني من الملائكة. بدلالة ما جاء في رواية ابن ماجة « ... السلام على جبرائيل وميكائيل، وعلى فلان وفلان، يعنون الملائكة ... » . وقوله ليتخير بعدُ من الكلام: الكلام هنا يعني الدعاء. بدلالة رواية النَّسائي وأحمد وأبي داود وابن خُزَيمة وهي « ... ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه ... » . ب- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال « ... إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا، فبين لنا سُنَّتنا وعلَّمنا صلاتنا فقال ... وإذا كان عند القعدة فليكن مِن أول قول أحدكم: التحياتُ الطيباتُ الصلواتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» رواه مسلم. ورواه النَّسائي وأبو داود وابن ماجة وأحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 ج- عن ابن عباس رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التَّشهُّد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: التحياتُ المباركاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله» رواه مسلم وأبو داود. ورواه الطحاوي بلفظ «وأن محمداً رسول الله» . ورواه أحمد وابن حِبَّان بلفظ « ... التحياتُ المباركاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلامٌ علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله» بتنكير [سلام] الثانية. ورواه الترمذي وابن خُزَيمة وأحمد في رواية أخرى له بلفظ « ... التحياتُ المبارَكاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلامٌ علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله» بتنكير [سلام] في الموضعين. ورواه ابن ماجة بلفظ « ... التحياتُ المبارَكاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» . فذكر [عبده ورسوله] بدل [رسول الله] . فهذه الصيغة قد اضطربت فيها الروايات كثيراً، فأسقطها الاضطراب عن مستوى سابقتيها فكانت الثالثة في الترتيب. أما الأولى والثانية فلم تضطرب فيها الروايات، ولكون الأولى اتفق عليها الشيخان فقد جعلتها الأُوْلى، وجعلتها الأَوْلى. قال الترمذي (حديث ابن مسعود قد رُوي عنه من غير وجه، وهو أصح حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التَّشهُّد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَن بعدهم من التابعين) . ثم إن روايات ابن مسعود نُقل عنه أنه تلقَّاها عن رسول الله - صلى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 عليه وسلم - تلقيناً، فقد روى البخاري عنه قوله «علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وكفي بين كفيه - التشهد ... » . وروى الطحاوي عنه قوله «أخذتُ التشهُّدَ مِن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقَّنِيها كلمةً كلمةً ... » . فهذه زيادةٌ في قوة الصيغة الأولى. وقد وردت صيغ أخرى للتَّشهُّد غير هذه الصيغ الثلاث لا بأس بإطلاعكم عليها: أ-[بسم الله وبالله، التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله] وقد وردت هذه الصيغة في رواية للنَّسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، كما وردت في رواية لابن ماجة ولكن بزيادة [لله] عقب [والطيبات] ولا يَبْعُد عندي أن جابراً كان يفتتح التَّشهُّد بقوله [بسم الله وبالله] تبرُّكاً، ولم يكن يعتبر ذلك القول من صيغة التَّشهُّد نفسها. وقد ورد في الحديث ذِكْر «أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار» عقب التَّشهُّد مباشرة، فلم أعتبرها جزءاً من صيغة التَّشهُّد، وإنما هي دعاء كان جابر يقوله عقب الفراغ من التشهُّد، يشهد لهذا الفهم ما جاء في حديث رواه ابن ماجة من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، وسيأتي بتمامه في بحث [الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة] وجاء فيه « ... قال أتَشَهَّد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار ... » . فجعل هذا القول دعاءً غير داخل في التشهد، فإذا كان ذلك كذلك فإن هذه الصيغة الواردة عن جابر رضي الله عنه هي صيغة ابن مسعود الأولى نفسُها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 ب-[التحياتُ لله الصلواتُ الطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله] وقد جاءت هذه الصيغة في رواية لأبي داود من طريق ابن عمر رضي الله عنه كما رواها الطحاوي ولكن بدون [وحده لا شريك له] في رواية، وبها في رواية ثانية. ج-[التحياتُ الطيباتُ الصلواتُ الزاكياتُ لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام عليكم] وهذه الصيغة رواها مالك عن عائشة موقوفةً عليها، وقد جاء فيها التشهد مقدَّماً على السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -. د-[التحياتُ لله الزاكياتُ لله الطيباتُ الصلواتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله] وهذه الصيغة رواها مالك والطحاوي موقوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وليست في رواية الطحاوي لفظةُ [الطيبات] وهناك صيغ غير هذه للتشهد لم أر ضرورة لإيرادها، فمن أحب الاطلاع عليها فلْيطلبها في مظانِّها. وباستعراض جميع الروايات الواردة هنا نجد أنها جاءت بلفظ «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» أو «سلامٌ عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» أي أنها كلَّها جاءت بصيغة الخطاب، غير أن عدداًً من الفقهاء يقولون بأن صيغة الخطاب كان معمولاً بها والرسول - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ، وأن هذه الصيغة تحولت إلى صيغة الغَيْبة - السلام على النبي ورحمة الله وبركاته - بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، مستدلين على هذا الرأي بالأحاديث التالية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 1- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «علَّمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التَّشهُّد، كفِّي بين كفَّيه، كما يعلِّمني السورة من القرآن: التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله، وهو بين ظهرانينا، فلما قُبض قلنا: السلام على النبي» رواه ابن أبي شيبة والبخاري والبيهقي. 2- عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يتشهد فيقول «بسم الله، التحياتُ لله، الصلواتُ لله، الزاكياتُ لله، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته ... » رواه مالك. 3- عن القاسم بن محمد قال «كانت عائشة تعلمنا التشهد وتشير بيدها تقول: التحياتُ الطيباتُ الصلواتُ الزاكياتُ لله، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته ... » رواه البيهقي. 4- عن عطاء قال «سمعت ابن عباس وابن الزبير يقولان في التشهد في الصلاة: التحياتُ المباركاتُ لله، الصلواتُ الطيباتُ لله، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته ... » رواه عبد الرزاق. 5- عن عطاء «أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسلِّمون والنبي - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» رواه عبد الرزاق. فنجيب هؤلاء بأن تعدُّدَ صيغ التشهد يدل على أنه لا صيغة بذاتها واجبة دون غيرها، وأن هذا التعدد يدل على جواز الأخذ بأية صيغةٍ مأثورةٍ واردةٍ، فالأخذ بأية صيغة من هذه الصيغ جائز شرعاً، ومُسقطٌ للفرض والوجوب، فالأمرُ في ألفاظ التشهد موسَّع. فكما أنه يتسع لهذه الصيغة ولتلك، فهو يتسع كذلك لصيغة الخطاب ولصيغة الغيبة، وهذا الاتساع لا ينفي القول بأولوية صيغة على غيرها، وبأولوية صيغة الخطاب على صيغة الغَيْبة مع جواز الكل طبعاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 فرواية ابن مسعود نُقلت من طرقٍ عديدةٍ زاد رُواتها على العشرين ومع ذلك جاءت كلها بالألفاظ نفسها دون أي اختلاف، فهذا مرجحٌ معتبرٌ لها على ما سواها من الروايات والألفاظ. فالقول بالتخيير لا ينفي القول بتفضيل إحداها على ما سواها. ومما يدعم القول أيضاً بتفضيل صيغة الخطاب على صيغة الغَيْبة ما يلي: 1- أن جميع رواة الأحاديث عبر العصور قد استمروا في رواية صيغة الخطاب دون أن يقيدوها بحياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كانت حياته عليه الصلاة والسلام قيداًً لها لذكروه. 2- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد ذكر صيغة الخطاب على المنبر أمام الصحابة، وأن ذلك حصل منه بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم ينكر عليه أحدٌ منهم، فقد جاء في الموطأ «عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلِّم الناس التشهد، يقول قولوا: التحياتُ لله، الزاكياتُ لله، الطيباتُ الصلواتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» . 3 - لم يُرو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد علَّم المسلمين صيغتين: صيغةً يقولونها وهو حيٌّ، وصيغةً يقولونها بعد موته، وإنما علمهم صيغة واحدة هي صيغة الخطاب، ولم يأمرهم بتركها والأخذ بصيغة الغيبة إذا مات. لهذه الأسباب فإنَّا نذهب إلى تفضيل صيغة الخطاب على صيغة الغَيْبة، ونرى أن صيغة الغَيْبة ليست إلا اجتهاداًً من عدد من الصحابة يصح أخذه وتقليده كما يصح تركه، وأنا أقول بأولوية تركه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 ويجلس للتشهد في آخر الركعة الثانية، وفي آخر الركعة الرابعة في الصلاة الرباعية، أو في آخر الركعة الثالثة في الصلاة الثلاثية، وقد جاء ذكر هاتين الجلستين فيما رواه أحمد من طريق ابن مسعود رضي الله عنه « ... كان يقول إذا جلس في وسط الصلاة وفي آخرها على وَرِكِه اليسرى التحياتُ لله ... » . والتشهد في وسط الصلاة هو التشهد الأول، والذي في آخرها هو التشهد الأخير، وهذان التشهدان واجبان مفروضان، لا يجوز تركهما أو ترك أحدهما، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال «كنا نقول في الصلاة قبل أن يُفرض التشهدُ: السلام على الله، السلام على جبريل وميكائيل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقولوا هكذا، فإن الله عزَّ وجلَّ هو السلام، ولكن قولوا: التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ ... » رواه النَّسائي وصححه الدارقطني والبيهقي. فقد جاء فيه «قبل أن يُفرَض التشهد» وهذا واضح الدلالة، وهو يشمل التَّشهُّد الأول والتَّشهُّد الأخير، يشهد له ما جاء في روايةٍ عند النَّسائي «فقولوا في كل جلسة» . وروى عبد الله بنُ بُحَيْنةَ الأسدي حليفُ بني عبد المطلب «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتمَّ صلاته سجد سجدتين يكبِّر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلِّم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس» رواه مسلم والبخاري. فقوله «قام في صلاة الظهر وعليه جلوس» يعني الجلوس للتشهد الأول، ويشير إلى أن هذا الجلوس واجب عليه. وأيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد عبد الله، فعلَّمه التَّشهُّد في الصلاة فقال قل: التحياتُ لله ... وأن محمداً عبده ورسوله، قال فإذا قضيت هذا أو قال فإذا فعلت هذا فقد قضيتَ صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد» رواه أحمد. ورواه أبو داود والدارمي قريباً منه. غير أن الحُفْاظَ قد اتفقوا على أن الجملة الأخيرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 مُدْرَجةٌ من قول عبد الله بن مسعود نفسه، أعني قولَهُ «فإذا قضيتَ هذا، أو قالَ: فإذا فعلتَ هذا فقدْ قضيتَ صلاتكَ ... » وليست من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون هذا القول إذن قول صحابي، وأقوال الصحابة أحكام شرعية يصح أخذها وتقليدها. وأيضاً رُوي عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّمُنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول تعلَّموها، فإنه لا صلاة إلا بتشهد» رواه البزَّار. ووثَّق الهيثمي رجال سنده. وروى البيهقي عن عبد الله رضي الله عنه قال «التَّشهُّد تمام الصلاة» . وروى عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال «لا تجوز صلاةٌ إلا بتشهُّدٍ» ورواه البيهقي. فانضم قول عمر إلى قول ابن مسعود بوجوب التشهد في الصلاة. فهذه المرويات الأربعة يُؤخذ منها حكم وجوب التشهد في الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 والتَّشهُّد الأول يجلس له المصلي ناصباً رِجله اليمنى مُوَجِّهاً صدرها نحو القِبلة مفترشاً رجله اليسرى جالساً عليها، ويجلس للتشهد الأخير على وَرِكِه اليسرى بأن يُقَدِّم رِجله اليسرى فيضعها بين فخذه وساقه، ويجلس على مقعدته، وفي الجلوسين يضع راحته اليمنى على فخذه اليمنى، وراحته اليسرى على فخذه اليسرى قابضاً على ركبتيه بأصابعه، ويضمُّ أصابع يده اليمنى الخنصر والبنصر والوسطى، ويضع إبهامه على الوسطى، ويمدُّ سبَّابته مداً خفيفاً ضعيفاً - أي يجعلها منحنيةً قليلاً - ويبقيها هكذا في أثناء الدعاء، فهذه هي الهيئة المثلى لجلوس التشهد، فعن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال «قدمتُ المدينة، قلت: لأنظرنَّ إلى صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما جلس - يعني - للتشهد، افترش رجله اليسرى، ووضع يده اليسرى - يعني على فخذه اليسرى - ونصب رجله اليمنى» رواه التِّرمذي. ورواه النَّسائي ولفظه « ... وإذا جلس في الركعتين أَجنحَ اليسرى ونصب اليمنى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ونصب أُصبعه للدعاء، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ... » . ورواه أحمد ولفظه « ... ثم قعد فافترش رجله اليسرى، فوضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى، وجعل حدَّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض بين أصابعه، فحلَّق حلقةً ثم رفع أُصبعه، فرأيته يحرِّكُها يدعو بها» . وجاء في رواية أُخرى لأحمد « ... حلَّق بالوسطى والإبهام، وأشار بالسَّبَّابة» . قوله فرأيته يحركها يدعو بها: أي يحرِّكُها مِن موضعها بين أصابعه لتصبح منصوبة. فهو إذا نصبها ثبَّتها في هيئتها طيلة الدعاء دون أن يُرجِعَها إلى موضعها، أو يُديم تحريكها كما يفعل كثير من الناس. فهذه الحركة المتواصلة للسَّبابة ليست مطلوبة، وليست هي التطبيق الصحيح لما جاء في حديث أحمد، بدلالة ما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه «أنه ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشير بأصبعه إذا دعا ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 يُحرِّكها، قال ابن جُريْج: وزاد عمرو بن دينار قال: أخبرني عامر عن أبيه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو كذلك» رواه أبو داود والنَّسائي. وروى عبد الرزاق الشطر الأول. وعن أبي حُمَيد السَّاعدي رضي الله عنه قال «أنا كنت أحفظكُم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته إذا كبَّر جعل يديه حِذاء منكبيه ... فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدَّم رِجله اليسرى ونصب الأُخرى، وقعد على مقعدته» رواه البخاري. وجاء في رواية لابن خُزَيمة « ... كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها الصلاة أخَّر رجله اليسرى، وقعد على شِقِّهِ متورِّكاً، ثم سلم» . وعن عبد الله بن الزبير قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه، وفَرَشَ قدمه اليمنى، ووضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأُصبعه» رواه مسلم وأبو داود. وجاء في روايةٍ أخرى لمسلم «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد يدعو، وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى وأشار بأُصبعه السَّبَّابة، ووضع إبهامه على أُصبعه الوسطى، ويُلْقِمُ كفَّه اليسرى ركبتَه» . وعن نمير الخُزاعي رضي الله عنه «أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة واضعاً اليمنى على فخذه اليمنى، رافعاً أُصبعه السَّبابة، قد حناها شيئاً وهو يدعو» رواه ابن حِبَّان وابن خُزَيمة والنَّسائي وأبو داود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 فالمسلم يتورَّك في جلسة التشهد الأخير، والتَّورُّكُ هو أن يُلصق إلييه بالأرض، ويمد رجليه في اتجاه واحد جهة اليمين. وهذه الجلسة تشق على كثير من الناس، فمن وجد مشقَّةً فيها فلا بأس بأن يَعْدِل عنها إلى هيئة الجلوس للتَّشهُّد الأول، وتكون بنصب اليمنى وبسط اليسرى والجلوس على بطن اليسرى. فإن وجد مشقة في هذه الجلسة أيضاً فلا بأس من الجلوس متربِّعاً، فإن الدين يُسر، فعن عبد الله بن عبد الله بن عمر أنه أخبره «أنه كان يرى عبد الله بن عمر يتربَّعُ في الصلاة إذا جلس، قال ففعلته وأنا يومئذٍ حديث السن، فنهاني عبد الله وقال: إنما سُنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني رجلك اليسرى، فقلت له: فإنك تفعل ذلك، فقال: إن رجليَّ لا تحملاني» رواه مالك والبخاري. وجاء في رواية أخرى لمالك من طريق المغيرة بن حكيم «إنما أفعل هذا من أجل أني أشتكي» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 ويُكره في جلوس التشهد أن يعتمد الرجل على يده أو على يديه، بأن يضعهما على الأرض مستعيناً بهما، كما يكره الجلوس على مقعدته وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض، يُقعي كما يُقعي الكلب والقرد وسائر لسباع، وهو الإقعاء المنهي عنه، وهو المسمى عُقْبَة الشيطان، أو عَقِب الشيطان، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعتمد الرجل على يديه في الصلاة» رواه ابن خُزَيمة. ورواه أحمد ولفظه «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس الرجل في الصلاة وهو يعتمد على يديه» . ووقع في رواية عند أبي داود «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمدٌ على يده» . وروى أحمد من طريق ابن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً ساقطاً يده في الصلاة فقال: لا تجلس هكذا، إنما هذه جلسة الذين يعذَّبون» . قوله ساقطاً يده: أي واضعاً يده بجانبه معتمداً عليها. وروى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنه «أنه رأى رجلاً يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة - وقال هرون بن زيد ساقطاً على شِقِّه الأيسر - فقال له: لا تجلس هكذا، فإن هكذا يجلس الذين يعذَّبون» . وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ الحمدُ لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يُشْخص رأسه ولم يصوِّبه، ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالساً، وكان يقول في كلِّ ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عُقْبَةِ الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم» رواه مسلم. ورواه أحمد وأبو داود. ووقع في رواية أُخرى لمسلم «وكان ينهى عن عَقِب الشيطان» . وكذلك جاء في رواية أبي داود وفي رواية أحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «أوصاني خليلي بثلاث ونهاني عن ثلاث: أوصاني بالوتر قبل النوم، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، قال: ونهاني عن الالتفات، وإقعاءٍ كإقعاء القِرد، ونَقْرٍ كنقر الديك» رواه أحمد. ووقع في رواية أُخرى له « ... ونهاني عن نَقْرةٍ كنَقْرةِ الديك، وإِقعاءٍ كاقعاءِ الكلب، والتفاتٍ كالتفات الثعلب» . والسنة في التشهد - الأول والأخير - أن يكون بالإسرار وعدم الجهر، سواء في الصلاة السرية أو الصلاة الجهرية، للإمام وللمأموم وللمنفرد، فقد روى ابن خُزَيمة أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «مِن السُّنة أن تُخْفِيَ التَّشهُّدَ» . ورواه أبو داود بلفظ «من السُّنة أن يَخْفَى التَّشهُّدُ» . والمعنى واحد. ويسن في التشهد أن لا يجاوز البصر الفخذين والسَّبَّابة، فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في التشهد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بالسَّبَّابة ولم يجاوز بصرُهُ إشارتَه» رواه أحمد. ورواه النَّسائي بلفظ فيه اختلاف، وجاء فيه «وأشار بالسَّبَّابة لا يجاوز بصرُهُ إشارتَه» . ورواه ابن خُزَيمة. الصلاةُ على رسول الله في الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 يندب للمسلم أن يصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته، فعن أبي مسعود عقبة بن عامر رضي الله عنه قال «أقبل رجل حتى جلس بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده فقال: يا رسول الله، أمَّا السلام فقد عرفناه فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا صلَّى الله عليك؟ قال فصَمَتَ حتى أحببنا أن الرجل لم يسأله، ثم قال: إذا أنتم صليتم عليَّ فقولوا: اللهم صلِّ على محمد النبي الأُمي وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأُمي وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» رواه ابن خُزَيمة. ورواه أحمد والحاكم قريباً منه. قوله أما السلام فقد عرفناه: يعني ما جاء في التشهد من القول (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) . أما قوله (كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا) فإنه يدل على مشروعية الصلاة هذه في الصلاة، دون تقييدها بموضع من مواضع الصلاة، إذ ليس في النصوص نص واحد صحيح أو حسنٌ يدل على تحديد مكانٍ أو موضعٍ في الصلاة للصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 أما ما رواه البيهقي والحاكم من طريق ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إذا تشهَّد أحدكم في الصلاة فليقل: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمداً وآل محمد، كما صليت وباركت وترحَّمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» . فهو وإن حوى تحديداً لموضعِ الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن ذلك إنما هو عقب التشهد، إلا أن هذا الحديث في إسناده مجهول - رجلٌ من بني الحارث - فهو إذن حديث ضعيف لا يُعتدُّ به. وأما ما رواه الحاكم من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «يتشهد الرجل ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو لنفسه» . فإنه وإن حوى أيضاً تحديداً لمكان الصلاة الإبراهيمية في الصلاة إلا أنه قول صحابي، وقول الصحابي ليس دليلاً على الأحكام الشرعية، وإنما هو حكم شرعي اجتهادي يجوز تقليده. وإذن فإنه ليس بين أيدينا نصٌّ واحد معتبرٌ يحدد موضع الصلاة الإبراهيمية في الصلاة. أما ما درج عليه المسلمون من قول هذه الصلاة عقب التشهد الأخير، وأنَّ كلمتهم قد اتفقت على ذلك، فإنه أمرٌ نُقل إلينا عملياً جيلاً عن جيلٍ، فكان ذلك متواتراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وليست للصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صيغة معينة يجب الالتزام بها، ذلك أنه رُويت عدة صيغ لهذه الصلاة من عدة طرق صحيحة وحسنة، كل صيغة منها تُجزئ وتكفي، فقد وردت عدة صيغ منسوبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرقٍ عدَّةٍ عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل وردت عدة صيغ من طريق الصحابي الواحد من هؤلاء، فقد رويت من طريق كعب بن عُجرة رضي الله عنه أكثر من ثلاث صيغ، ومثل ذلك من طريق أبي حُمَيد الساعدي رضي الله عنه، وأكثر من ذلك من طريق أبي مسعود الأنصاري عقبة بن عامر رضي الله عنه، وكل هذه الطرق صحيحة وحسنة صالحة للاستدلال. فالمسلم بالخيار بين أيٍّ من هذه الصيغ. والدليل على ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «مَن سَرَّه أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صلِّ على محمد النبي وأزواجِه أُمهاتِ المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» رواه أبو داود. فقوله «من سرَّه أن يكتال بالمكيال الأوفى» هو دليل على وجود تفاوت بين الصيغ، ولولا ذلك، أو لولا أن الصلاة هذه تُؤدَّى بعدة صيغ لما كان هذا القول. وجميع هذه الصيغِ مرويةٌ ومنسوبةٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مما يجعلنا نطمئن إلى مشروعية تعدد الصيغ، وهذا لا يمنع من الأخذ بأقوى هذه الصيغ من حيث الإسناد. وإن أقوى هذه الصيغ من حيث الإسناد هي بلا شك ما اتفق على روايتها الشيخان البخاري ومسلم، وقد اتفق الشيخان على صيغتين من هذه الصيغ العديدة هما: أ-[اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 ب-[اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد] . فالأَولى اختيار واحدة من هاتين الصيغتين. أما الصيغة الأولى فقد رُويت عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه أنه قال «سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهلَ البيت، فإن الله قد علَّمنا كيف نسلِّم عليكم؟ قال قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» رواه البخاري ومسلم. ورواه أحمد بذكر «آل إبراهيم» في الموضعين فحسب، ولم يذكر فيهما إبراهيم. وأما الصيغة الثانية فقد رُويت عن أبي حُمَيد الساعدي رضي الله عنه أنه قال «إنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» رواه البخاري ومسلم ومالك والنَّسائي وأبو داود. وهذه جملة من الصيغ المأثورة الأخرى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 1- [اللهم صلِّ على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد] وقد وردت في حديث رواه ابن خُزَيمة من طريق أبي مسعود عقبة ابن عامر رضي الله عنه قال «أقبل رجلٌ حتى جلس بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده فقال: يا رسول الله، أمَّا السلامُ فقد عرفناه فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا صلى الله عليك؟ قال فصَمَتَ حتى أحببنا أنَّ الرجل لم يسأله، ثم قال: إذا أنتم صليتم عليَّ فقولوا: اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأُمي وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» . وقد مرَّ قبل قليل. ورواه الحاكم وأحمد قريباً منه. 2- [اللهم صلِّ على محمد عبدِك ورسولِك، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم] وقد وردت في حديث رواه أحمد من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «قلنا يا رسول الله، هذا السلام عليك قد علمناه فكيف الصلاة عليك؟ فقال قولوا: اللهم صلِّ على محمد عبدِك ورسولِك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم» . 3- [اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد] وقد وردت في حديث رواه أحمد من طريق طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال «قلت: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال قل: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد» . وإليكم أشملَ وأطولَ صيغةٍ من صيغ الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 4- [اللهم صلِّ على محمد وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه وذريته كما باركتَ على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد] وقد وردت هذه الصيغة فيما رواه أحمد من طريق رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول «اللهم صلِّ على محمد وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» . وجهالة الصحابي لا تضرُّ لأنهم جميعاً عدول، قال الهيثمي (رجال أحمد رجال الصحيح) . هذه ستُّ صيغ أقواها إسناداً الصيغتان الأُوليان، وأشملها الصيغة الأخيرة، فمن اختار صيغةً من هذه الصيغ وأخذ بها كفته وأجزأته، فالأمر في ذلك موسَّع. قد درج على ألسِنة المسلمين اليوم قولهم (في العالمين) قبل (إنك حميد مجيد) أي بزيادة (في العالمين) ، وقد وردت هذه اللفظة فيما رواه أحمد والنَّسائي وأبو داود، وفيما رواه مسلم من طريق أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، ولفظه « ... اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد ... » . وهي صيغة سابعة تُضمُّ إلى سابقاتها. كما وردت هذه اللفظة في حديث رواه الدارمي من طريق أبي مسعود، وفي حديث رواه ابن ماجة من طريق أبي حميد الساعدي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 أما ما درج عليه كثيرون من قول (اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ... وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ... ) بزيادة (سيدنا) ، فإن هذا لا أصلَ له مُعْتَبراً، إذ هو لم يُنقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أية رواية صحيحة أو حسنة، لهذا فإني أنصح بتركها والاقتصار على المأثور لأنه أفضل، فإن أبوا إلا الاستمرار على قولها فلا بأس، لأن الأمر موسَّع كما أسلفت. وقد أضاف هذه الزيادة عدد من الفقهاء بدعوى أن ذلك من حُسن التأدُّب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد جانبهم الصواب فيما قالوا، ذلك أن التأدب معه يكون بطاعته فيما شرعه لنا والاقتصار عليه. قلت في بدء البحث إن الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مندوبة، ولم أَقُلْ بوجوبها كما قال عدد من الفقهاء، ذلك أن ورود الأمر بها فحسب لا يكفي لإيجابها، لأن الأمر بالشئ لا يفيد الوجوب إلا بقرينة كما قال بذلك عدد من الأصوليين، وهو الصحيح، فالأمر يفيد مجرد الطلب، والقرينة هي التي تجعله يفيد الوجوب أو الندب أو الإباحة، وهنا لا توجد قرينة تصرف هذا الأمر إلى الوجوب، وإنما القرينة الموجودة تصرفه إلى الندب، وإليكم البيان: أ- حديث الدارمي من طريق علقمة أن عبد الله رضي الله عنه أخذ بيده «وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد عبد الله، فعلَّمه التشهد في الصلاة: التحياتُ لله ... الصالحين، قال زهير: أراه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أيضاً - شك في هاتين الكلمتين - إذا فعلت هذا أو قضيتَ فقد قضيتَ صلاتك إن شئتَ أن تقوم فقم، وإن شئتَ أن تقعد فاقعد» . وقد مرَّ في بحث [التَّشهُّد وهيئة الجلوس له] فلو كانت الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفروضة واجبة لما جاز هذا القول «إذا فعلت هذا أو قضيت فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم» عقب التشهد. والحديث واضح الدلالة تماماً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 ب- حديث ابن ماجة من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل «ما تقول في الصلاة؟ قال: أتشهَّد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، أمَا والله ما أُحْسِنُ دندنتَك ولا دندنة معاذ، فقال: حولها ندندن» . فهذا رجل يسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يقول في الصلاة فيجيبه «أتشهد ثم أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار» وليس في جوابه إشارة إلى الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، فلم ينكر عليه - صلى الله عليه وسلم - قراءته، والسكوت منه - صلى الله عليه وسلم - في معرض الحاجة بيان وتشريع، فلو كانت الصلاة عليه واجبة لوجب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُبيِّنَها لهذا الرجل، فلما لم يفعل فقد دل ذلك على عدم وجوب هذه الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 ج - حديث أبي داود من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخِر فليتعوَّذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرِّ المسيح الدجال» . فلو كانت الصلاة المخصوصة مفروضةً لقال عليه الصلاة والسلام مثلاً (إذا فرغ أحدكم من الصلاة عليَّ فلْيتعوذ بالله من أربع) ، فلما لم يذكرها، ولما جعل الدعاء عقب التشهد، فقد دل على أن هذه الصلاة ليست من المفروضات على المسلمين. ومثل هذا الحديث في الدلالة ما رواه ابن ماجة من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلِّمنا التشهد كما يعلِّمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله، التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ له، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار» . - وقد أشرت إلى هذا الحديث في بحث [التشهد وهيئة الجلوس له]- فقد جعل الدعاء يعقُبُ التشهد مباشرة دون فاصل من الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. د - الحديث المار وفيه الطلب من المسلمين أن يُصلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة - وهو الحديث الذي رواه ابن خُزَيمة والحاكم وأحمد - إن كَوْنَ هذا الطلب قد جاء بفعلٍ فيه قُربة إلى الله سبحانه، وإن كَوْنَ هذه القُربة قد ثبت بالقرائن أنها ليست مفروضة، فلم يبق إلا أن تكون مندوبةً ومستحبَّةً. أما ما رُوي عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه أنه قال «لو صليت صلاة لا أُصلي فيها على محمد وعلى آل محمد ما رأيت أنها تتم» فقد رواه البيهقي وقال (تفرَّد به جابر الجُعفي وهو ضعيف) . وكذَّبه أبو حنيفة وغيره، فالحديث لا يصلح للاستدلال، إضافة إلى أنه قولُ صحابي، وقول الصحابي ليس دليلاً شرعياً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 وأما ما رواه عبد المهيمن بن عباس بن سهل الساعدي قال «سمعت أبي يحدِّث عن جدِّي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر الله عليه، ولا صلاة لمن لم يصلِّ على نبي الله في صلاته» رواه الحاكم والبيهقي. دالاً على وجوب الصلاة على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، فإن هذا الحديث ضعيف لا يُحتج برواياته كما قال البيهقي، وإن عبد المهيمن واهٍ كما قال الذهبي، فيُطْرح ولا يُلتفت إليه. وعليه فإن الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة مندوبة وليست واجبة. الدعاءُ والتَعوُّذ في آخر الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 إذا فرغ المصلي من التشهد في جلسته الأخيرة قبل أن يسلِّم نُدب إليه أن يصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما نُدب إليه أن يدعو بما يشاء، وأن يتعوذ بالله عزَّ وجلَّ، فهذه الجلسة فيها متَّسعٌ للدعاء وللذكر، فلْيتخير لها من الأدعية والتَّعوُّذاتِ ما يعجبه، وأفضلها ما أُثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» رواه البخاري ومسلم. ورواه أحمد وأبو داود. ورواه ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فلْيتعوَّذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدَّجال» . ووقع في رواية أحمد وأبي داود ومسلم وروايةٍ للنَّسائي والدارمي لفظ « ... ومن شرِّ المسيح الدجال» . وهذا وذاك جائزان مأثوران بأيهما دعوتَ واستعذتَ أصبتَ. وعن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمَغْرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المَغْرم، فقال: إن الرجل إذا غرم حدَّث فكذب ووعد فأخلف» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي بزيادة التعوذ من المأثم والمغرم، إلا أنه سقط التعوُّذ من عذاب النار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وقد جمع ابن حِبَّان الجميع في رواية له من طريق عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمَغْرم، قالت: فقال قائل: يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ من المَغْرم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الرجل إذا غرم حدَّث فكذب ووعد فأخلف» . فهذه أكمل صيغ التعوُّذ فتُؤخذ وتُقدَّم على سابقاتها. أما الأدعية المأثورة عقب التشهد وقبل التسليم فكثيرة أذكر منها دعاءً قصيراً وآخر طويلاً: أ-[اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 ب-[اللهم بعلمك الغيب وقدرتِك على الخَلْق أَحيني ما علمتَ الحياة خيراً لي، وتوفَّني إذا علمت الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتَك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمةَ الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قُرَّةَ عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوقَ إلى لقائك، في غير ضرَّاءَ مُضِرَّةٍ ولا فتنةٍ مُضِلَّة، اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان واجعلنا هُداةً مهديين] . فعن أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - «علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال قل: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» رواه البخاري والنَّسائي وأحمد والترمذي. وعن السائب قال «صلى بنا عمار بن ياسر صلاةً فأوجز فيها، فقال له بعض القوم: لقد خفَّفتَ أو أوجزتَ الصلاة، فقال: أمَّا على ذلك فقد دعوتُ فيها بدعوات سمعتهنَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قام تبعه رجل من القوم هو أُبيٌّ غير أنه كنى عن نفسه، فسأله عن الدعاء، ثم جاء فأخبر به القوم: اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أَحْيِني ... واجعلنا هُداةً مهديين» رواه النَّسائي. ورواه أحمد ولكن سقطت منه عدة ألفاظ. أما من أحب الاطلاع على أدعية أخرى فدونه كتب الحديث فهي طافحة بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 ويمكن للمسلم أن يدعو من غير الأدعية المأثورة بما يحتاج إليه من أمور، كأن يدعو لنفسه بالشفاء من مرضٍ أصابه، أو بالنجاة من كُربة ألمَّت به، أو أن يعينه ربُّه على حمل الدعوة، أو على القيام بما فيه نفعٌ وخيرٌ له وللمسلمين، أو أن يدعو ربه لإعادة الخلافة الراشدة، أو أن يدعو ربه ليرزقه الشهادة في سبيله، أو أي دعاء يحقق فيه خيراً لنفسه ولأهله ولجيرانه ولأصحابه ولعموم المسلمين، وكلما عمَّم الدعاء كان أفضل. التسليمُ في الصلاة إذا فرغ المصلي من التشهد وجوباً، ومن الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتَّعوُّذ والدعاء ندباً واستحباباً خرج من صلاته بالتسليم عن يمينه وجوباً، وعن يساره ندباً واستحباباً، فعن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مفتاحُ الصلاة الطُّهور، وتحريمُها التكبير، وتحليلُها التسليم» رواه أحمد والترمذي وأبو داود. وقد مرَّ في بحث [حكم تكبيرة الإحرام] . قوله تحريمها التكبير: أي أن كل فعل أو قول عدا أفعال الصلاة وما يقال فيها يصبح محرَّماً بمجرد التكبير. وقوله تحليلها التسليم: أي أن كل ما حرم فعله أو قوله في أثناء الصلاة يعود حلالاً بمجرد التسليم. هذا المعنى نفسه يُشكل قرينة على وجوب التسليم، ولم أقف على حديث واحد ولا أثرٍ واحد يذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أحد صحابته قد خرج من صلاته دون أن يختمها بالتسليم، فالتسليم فرضٌ واجب، ولا تُختم الصلاة إلا به، ولا يحل تركه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 والتسليم تسليمتان اثنتان: إحداهما عن اليمين، والأخرى عن اليسار. ويقول فيهما [السلام عليكم ورحمة الله] فعن سعد رضي الله عنه قال «كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلِّم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده» رواه مسلم وابن أبي شيبة وأحمد. وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلِّم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، حتى يُرى أو نرى بياض خدَّيه» رواه أحمد. وروى الترمذي وابن حِبَّان وأبو داود وابن ماجة وابن أبي شيبة هذا الحديث بتفاوت في الألفاظ. ورواه النَّسائي بلفظ «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في كل خفضٍ ورفعٍ وقيامٍ وقعودٍ، ويسلم عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله، حتى يُرى بياض خده، ورأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يفعلان ذلك» . وروى ابن أبي شيبة من طريق البراء رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلِّم عن يمينه وعن شِماله (ويقول) السلام عليكم ورحمة الله حتى يُرى بياضُ خدِّه» . وروى النَّسائي «سُئل عبد الله بن عمر عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: الله أكبر كلما وضَع، الله أكبر كلما رَفَع، ثم يقول: السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله عن يساره» . فهذه نصوص تدل بوضوح على مشروعية التسليم عن اليمين وعن الشمال، كما تدل على أن التسليم يكون بصيغة: السلام عليكم ورحمة الله، يميناً وشمالاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 أما الوجوب فهو للتسليم عن اليمين، ويكون التسليم عن اليسار مندوباً مستحباً فحسب، والدليل على ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت « ... ثم يجلس فيتشهد ويدعو، ثم يسلم تسليمة واحدة: السلام عليكم، يرفع بها صوته حتى يوقظنا ... » رواه أحمد. وما رُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يفتتحون القراءة بـ الحمدُ لله رب العالمين ويسلمون تسليمة» رواه البزَّار وقال الهيثمي (رجاله رجال الصحيح) . وما رواه أنس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلَّم تسليمة» رواه ابن أبي شيبة. فكونه - صلى الله عليه وسلم - قد خرج من الصلاة متحلِّلاً بتسليمة واحدة دون التسليمة الثانية عن اليسار يدل دلالة واضحة على عدم وجوب التسليمة الثانية عن اليسار، إذ لو كان تحليل الصلاة لا يتم إلا بتسليمتين اثنتين لما اكتفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخروج من الصلاة بتسليمة واحدة فحسب. ونضيف إلى ما سبق القول إنه ما دامت التسليمة الثانية غير واجبة، وما دام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته لا يكادون يتركونها فلم يبق لنا إلا أن نقول باستحبابها، وقصر الوجوب على التسليمة الأولى عن اليمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 وقد وردت عدة صيغ للتسليم أكثرها روايةً وأصحُّها إسناداً هي [السلام عليكم ورحمة الله] فأرى الأخذ بها والعمل بها وترك ما سواها وذلك لما سبق من أدلة، ووردت صيغة [السلام عليكم ورحمة الله وبركاته] مرة في التسليمة الأولى، ومرة أخرى في التسليمة الثانية، فعن وائل رضي الله عنه قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يسلِّم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله» رواه أبو داود. فهذا في التسليمة الأولى. وروى عبد الله رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلِّم عن يمينه وعن يساره حتى يُرى بياض خدِّه: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» رواه ابن حِبَّان. فهذا في التسليمة الثانية، إلا أنَّ إسناد هذين الحديثين دون إسناد الأحاديث السابقة من حيث الصحة والقوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 كما وردت صيغة [السلام عليكم] فقط دون [ورحمة الله] ودون [وبركاته] فقد مرَّ قبل قليل حديث عائشة رضي الله عنها عند أحمد وجاء فيه «ثم يسلم تسليمة واحدة: السلام عليكم» . وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كنا نقول خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلَّمنا: السلام عليكم، يشير أحدُنا بيده عن يمينه وعن شماله ... » رواه أحمد. ورواه النَّسائي وأبو داود بألفاظ متقاربة. ولكن هذه الروايات قابلتها روايةٌ لمسلم جاء فيها «كنا إذا صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين ... » . وستأتي بتمامها بعد قليل إن شاء الله. فقد ذكر مسلم هنا الصيغة الأولى [السلام عليكم ورحمة الله] مما يضعف صيغة [السلام عليكم] الواردة في هذه الروايات. ولا يبعد عندي أن الذي روى صيغة السلام عليكم في هذه الروايات كان اهتمامه مُنْصبَّاً على موضوع الإشارة بالأيدي عند التسليم، وليس مُنْصبَّاً على موضوع صيغة التسليم، فاكتفى بذكر: السلام عليكم، هكذا بإيجاز. لهذا أعود وأقول إن الأفضل والأَولى أن يكون التسليم عن اليمين وعن الشمال بصيغة [السلام عليكم ورحمة الله] ويبقى الأمر موسَّعاً على المسلمين، بأية صيغة سلَّموا أجزأتهم. ويسن عند التسليم المبالغةُ في الالتفات يمنةً ويسرةً بحيث تظهر صفحة خده لمن يجلس خلفه، ويكون ذلك بأن يبلغ نظرُه أقصى اليمين وأقصى اليسار دون أن يتجاوز ذلك إلى النظر إلى الخلف، كما يفعل فئام من الناس، فهذا لا لزوم له ولا أصل له، فقد مرَّ قبل قليل القول «حتى أرى بياض خده» ، «حتى يُرى أو نرى بياض خديه» ، «حتى يُرى بياض خده» . وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلِّم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره مثل ذلك حتى تبدو لهم صفحتُه» رواه الطبراني. قوله صفحته: أي جانب وجهه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 والسنة في التسليم السرعة فيه وتخفيفه دون مدٍّ أو إطالةٍ خلافاً لما يفعله كثير من الأئمة والمصلين، لما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال «حذف السلام سُنَّةٌ» رواه الترمذي هكذا موقوفاً على أبي هريرة. ورواه أحمد وأبو داود مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الموقوف أصح، ذلك أن أبا داود بعد أن روى الحديث قال (سمعت أبا عمير عيسى بن يونس الفاخوري الرملي قال: لما رجع الفريابي من مكة ترك رفع هذا الحديث وقال: نهاه أحمد بن حنبل عن رفعه) . والفريابي هو أحد رواة حديث أبي داود وأحمد، فالحديث موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه. ولكن قول الصحابي أَنَّ فِعْلَ كذا سُنَّةٌ يأخذ حكم الرفع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 ولا تُشرع حركة الأيدي عند التسليم، لا بالتلويح بها مع كل تسليمة، ولا بالإشارة بها، ولا بالرمي بها، فعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال «كنا إذا صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: علام تُومِئُون بأيديكم كأنها أذنابٌ خيلٍ شُمْسٍ؟ إنما يكفي أحدَكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلِّم على أخيه مِن على يمينه وشماله» رواه مسلم. ورواه النَّسائي بلفظ «ما بال هؤلاء الذين يرمون بأيديهم كأنها أذناب الخيل الشُمْس؟ أما يكفي أن يضع يده على فخذه، ثم يسلِّم على أخيه عن يمينه وعن شماله؟» . وفي رواية أخرى لمسلم وأبي داود بلفظ «عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيلٍ شُمْسٍ؟ اسكُنوا في الصلاة ... » . ورواه أحمد بلفظ جاء فيه «ما بال أقوامٍ يرمون بأيديهم كأنها أذنابُ الخيل الشُمْسِ، أَلاَ يسكن أحدُكم ويشير بيده على فخذه ثم يسلم على صاحبه عن يمينه وعن شماله؟» . قوله الشُمْس: أي الخيل التي لا تستقرُّ ولا تهدأ، بل تُحرِّك أذنابها وأرجلها باستمرار. فالإشارة باليدين والإيماء باليدين والرمي باليدين كل ذلك منهيٌّ عنه عند التسليم، وقد سبق في بحث [رفع اليدين في الصلاة] ما وقع عند أحمد من طريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه بلفظ جاء فيه «ولا يرفع يديه في شئ من صلاته وهو قاعد» . وإذن فإن الإشارة والإيماء والرمي والرفع للأيدي كل ذلك غير مشروع ومنهيٌّ عنه في التسليم وفي غيره ما دام المصلي قاعداً. ويكفي لجمع كل المنهيات قوله عليه الصلاة والسلام «اسكُنُوا في الصلاة» ، «ألا يسكُن أحدكم؟» . فالسكون هو المطلوب والمشروع وخلافُ ذلك محظور منهي عنه. ولا يستثنى من ذلك سوى تحريك السَّبَّابة في أثناء جلسة التشهد والدعاء في حالة وضع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 اليدين على الفخذين، وقد مرَّ تفصيل ذلك في بحث [التشهد وهيئة الجلوس له] . والتسليم كما هو واجب على الإمام وعلى المنفرد فهو واجب على المأمومين، لا يكفيهم تسليم الإمام ولا يغني تسليمه عن تسليمهم، فعن عِتْبان رضي الله عنه قال «صلينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلَّمنا حين سلَّم» رواه البخاري. ورواه النسائي ولفظه « ... فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصففنا خلفه، ثم سلَّم وسلَّمنا حين سلَّم» . سجودُ السَّهو حكمُهُ وأسبابُه سجود السهو فرض واجب عند ترك فرض واجب في الصلاة، مكتوبةً كانت أو تطوعاً، ومندوب عند ترك مندوب. أما إن تُرك ركنٌ فالصلاة تبطل، ولا تُجْبَر بسجود السهو وتجب إعادتها. هذا هو الرأي الراجح في هذه المسألة، وذلك أن سجود السهو يُجبَر به نقصٌ في أمر، أو تُعالَج به زيادةٌ في أمرٍ بنسيان في هذا أو ذاك، فإن كان النقص في فرض، أو كانت الزيادة في فرض عمداً فإن سجود السهو لا محل له هنا في الحالتين، ويلحق صاحبه الإثم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 فسجود السهو لا ينفع ولا يُشرع إلا عند النقص أو الزيادة بالنسيان فقط، ولهذا سُمي سجود السهو، والسهو والنسيان باب واحد، فالزيادة في فرض، أو النقص في فرض هما ما شُرع لهما سجود السهو عند حصولهما بسبب النسيان، وهذا ما قرره الشرع واعتبر سجود السهو مزيلاً للإثم صارفاً للحرام. فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلَّى ثلاثاً أم أربعاً، فلْيطرح الشك ولْيبنِ على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلِّم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربعٍ كانتا ترغيماً للشيطان» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والحاكم وابن حِبَّان. وعن عبد الله بن بُحَيْنة الأسدي حليف بني عبد المطلب «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبِّر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلِّم، وسجدها الناس معه مكان ما نسي من الجلوس» رواه مسلم والبخاري والنَّسائي وابن حِبَّان. في الحديث الأول يعيد سجود السهو في حالة الصلاة الرباعية خمساً يعيد هذه الصلاة شفعاً، وهذا الفعل من سجود السهو وهو إعادة الصلاة إلى أصلها أمرٌ لازم لا بد منه، إذ لولاه لبقيت الصلاة الرباعية خمساً وتراً، وبسجود السهو انتفى الخلل وتمَّ تصويبُ الصلاة، وكل ذلك واجب لا شك فيه. والحديث الثاني يقول «سجد سجدتين ... مكان ما نسي من الجلوس» والجلوس هنا هو الجلوس الأوسط، وهذا الجلوس واجب في الصلاة الثلاثية والرباعية كما بيَّناه في فصل [صفة الصلاة] بحث [التشهد وهيئة الجلوس له] وهنا اعتبر الحديث سجود السهو حالاً محل الجلوس الأوسط الواجب، بمعنى أنه أسقط الإثم الناتج عن ترك الواجب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 ومن هذين الحديثين نفهم وجوب سجود السهو عند ترك فرض واجب، كما يمكننا أن نفهم أن سجود السهو عند ترك مندوب مندوب، لأن الذي يحل محل الفرض فرض، والذي يحل محل المندوب مندوب. ولا يقال إن ترك فرضٍ بالنسيان ليس حراماً ولا يترتب عليه إثم، فكيف رتَّبتم هذه الحقيقة على هذا القول؟ فالجواب أن الذي ترك فرضاً بالنسيان لم يأثم ولم يرتكب حراماً ما كان ناسياً، ولكنه بعد أن يتذكر ولم يعد ناسياً فإنه آنذاك يأثم إن هو لم يتدارك ما نسيه. فالناسي فرضاً في الصلاة لا يأثم ما دام ساهياً ولا يجب عليه سجود السهو إلا إن هو تذكر فحسب. فمن ترك فرضاً بالنسيان فإنه لا يأثم، ثم إن هو تذكَّر لحقه الإثم آنذاك إن هو لم يأت به ولم يسجد له سجود السهو. وهذا أمر بالغ الوضوح لا يحتاج إلى أكثر من هذا. وسجود السهو يُشرع عند حصول زيادة في عدد الركعات أو نقص فيها أو شكٍّ في عدد ما أتى منها، وعند ترك فرضٍ واجبٍ في الصلاة كما بدأنا أول هذا البحث به كترك التشهد الأوسط مثلاً، ويكون في هذه الحالات واجباً لا بد من الإتيان به. ويستحب سجود السهو عند ترك مندوب كما أسلفنا عند بدء البحث هذا كترك الذكر في الركوع والسجود، وترك القنوت في الوتر، وترك التكبيرات سوى تكبيرة الإحرام، وترك الصلاة الإبراهيمية وسائر مندوبات الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 وقد مرَّ قبل قليل حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند مسلم وغيره وفيه «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدْرِ كَمْ صلى، ثلاثاً أم أربعاً ... ثم يسجد سجدتين قبل أن يُسَلِّم ... » . فهذا دليل السجود لحصول الشك في عدد ركعات الصلاة، كما مرَّ قبل قليل حديث عبد الله بن بُحَيْنة رضي الله عنه عند مسلم وفيه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتمَّ صلاته سجد سجدتين ... » . فهذا دليل سجود السهو عند ترك واجب في الصلاة كالجلوس للتشهُّد الأوسط، وعن عبد الله رضي الله عنه قال «صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر خمساً، فقالوا: أَزِيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمساً، فثنى رجليه وسجد سجدتين» رواه البخاري ومسلم. ورواه أحمد وزاد في رواية «وسلَّم» . وفي رواية ثالثة لأحمد «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر أو العصر خمساً، ثم سجد سجدتي السهو، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هاتان السجدتان لمن ظن منكم أنه زاد أو نقص» . وعن عمران بن حصين رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلَّم في ثلاث ركعات من العصر ثم قام فدخل (وفي رواية عند مسلم فدخل الحجرة) فقام إليه رجل يقال له الخِرْباق، وكان في يده طول فقال: يا رسول الله، فخرج إليه فذكر له صنيعه، فجاء فقال: أَصدق هذا؟ قالوا: نعم، فصلى الركعة التي ترك ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين ثم سلم» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. فهذه أدلة على مشروعية سجود السهو عند الزيادة وعند النقصان. كيفيةُ سجود السَّهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 سجود السَّهو سجدتان اثنتان متتاليتان عاديتان، فيهما ذِكرٌ كحالهما في الصلاة وبينهما جلوس، ولهما تكبير عند الخفض وعند الرفع كالحال في الصلاة، يعقبهما جلوس يسير، ثم تسليم عن اليمين وعن الشمال دون تشهُّدٍ، ويُؤتى بهما قبل التسليم من الصلاة فهذا هو الأصل، ويجوز أن يُؤتى بهما بعد التسليم. وفي كل ذلك وردت النصوص، نأخذ منها ما يلي: 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إنَّ أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلَبَس عليه حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدُكم فلْيسجد سجدتين وهو جالس» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي والترمذي. 2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العَشِيِّ إما الظهر وإما العصر، فسلَّم في ركعتين، ثم أتى جذعاً في قِبْلة المسجد فاستند إليها مُغْضَباً، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يتكلما، وخرج سُرْعانُ الناس: قُصِرت الصلاةُ، فقام ذو اليدين فقال: يا رسول الله أقُصرت الصلاة أم نسيتَ؟ فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - يميناً وشمالاً فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق، لم تصلِّ إلا ركعتين، فصلى ركعتين وسلم، ثم كبَّر ثم سجد، ثم كبَّر فرفع، ثم كبَّر وسجد، ثم كبَّر ورفع، قال: وأُخبرت عن عمران بن حصين أنه قال: وسلَّم» رواه مسلم والبخاري وأحمد والنَّسائي والترمذي. ورواه أبو داود بلفظ « ... فصلى الركعتين الباقيتين، ثم سلَّم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع وكبَّر ثم كبَّر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع وكبَّر ... » . 3- عن عبد الله بن بُحَيْنة رضي الله عنه قال «صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمَه كبَّر فسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم، ثم سلَّم» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأبو داود والنَّسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 4- عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدْرِ كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فلْيطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلِّم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربعٍ كانتا ترغيماً للشيطان» رواه مسلم وأحمد والبيهقي وابن حِبَّان. وقد مرَّ قبل قليل. الحديث الرابع جاء الأمر فيه بالسجود قبل التسليم، والحديث الثالث جاء فيه الفعل منه - صلى الله عليه وسلم - كذلك، وهذان الحديثان يدلاَّن على أن سجود السهو إنما يكون قبل التسليم، هذه واحدة. أما الثانية فهي أن سجود السهو هو في حقيقته جزءٌ من الصلاة وتتمَّةٌ لها، وليس هو صلاة منفردة مستقلة بذاتها، فهو من ضمن الصلاة وليس خارجاً عنها، وما دام أنه من الصلاة وجزء منها فإنَّ الأصل إذن أن يقع قبل التسليم، مثله مثل سائر أجزاء الصلاة، ولهذا قلنا إن الأصل في سجود السهو هو أن يكون قبل التسليم. والذي دعانا إلى هذا القول والوقوف عنده هو أن الرأي الآخر القائل بأن سجود السهو يكون بعد التسليم لديه أدلته القوية الصحيحة، وهو رأي وجيه معتبَر بلا شك، ولولاه لذهبنا إلى القول إنه الرأي الصواب وحده دون سواه، ولهذا اكتفينا بالقول إن الأصل في سجود السهو أن يكون قبل التسليم، ويجوز أن يكون بعده. أما أدلة من ذهبوا إلى القول بأن سجود السهو إنما يكون بعد التسليم فهي: أ- عن عبد الله رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد سجدتي السهو بعد السلام أو الكلام» رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 ب- عن عبد الله رضي الله عنه قال «صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - قال إبراهيم لا أدري زاد أو نقص - فلما سلَّم قيل له: يا رسول الله أَحَدَث في الصلاة شئ؟ قال وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القِبلة، وسجد سجدتين ثم سلَّم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: إنه لو حدث في الصلاة شئ لنبَّأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلُكم أنسى كما تنْسَون، فإذا نسيت فذكِّروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فلْيتحرى الصواب فلْيُتِمَّ عليه، ثم ليسلِّم ثم يسجد سجدتين» رواه البخاري وأحمد وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. ورواه مسلم بلفظ « ... وإذا شك أحدكم في صلاته فلْيتحرَّ الصواب، فلْيُتِمَّ عليه ثم ليسجد سجدتين» ، بحذف [ثم ليسلم] الواردة في رواية البخاري. ج - الحديث رقم 2 أعلاه، وفيه «فصلى ركعتين، وسلَّم ثم كبَّر ... » . فأدلة هؤلاء موازية ومعادلة للأدلة على الرأي الذي رجَّحْتُه، ولولا أن سجود السهو جزء من الصلاة ومتمِّمٌ لها في حقيقته لقلت بالتخيير بين الرأي هذا والرأي ذاك، ولهذا قلت إن الأصل هو أن يكون السجود قبل التسليم، ويجوز أن يكون بعده، بمعنى أن الأفضل الإتيان بالسجود قبل التسليم. وقد ذهب الفقهاء مذاهب شتى في هذا الموضوع، فمِن قائلٍ إن سجود السهو يجب أن يكون قبل التسليم فقط، إلى قائل إنه يجب أن يكون بعد التسليم فقط، إلى قائل إنه يكون قبل التسليم عند حصول نقص في الصلاة، ويكون بعد التسليم عند حصول زيادة، إلى قائل إنَّ كل حديث من الأحاديث يستعمل فيما جاء فيه، إلى غير ذلك من الآراء والأقوال، والقليل القليل من هؤلاء من قال بالتخيير بين السجود قبل التسليم وبين السجود بعده، مع أن المتمعن في النصوص يجد نفسه يأخذ بهذا الرأي الأخير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 ذلك أن الأحاديث كلها صحيحة وليس فيها نسخ، ودلالاتها واضحة لا تحتمل التأويل، ولولا ما قلته من جُزْئية سجود السهو للصلاة مما جعلني أقول بأفضلية السجود قبل التسليم لأخذت بهذا الرأي، وعلى أية حال فالرأيان متقاربان. ونأتي الآن إلى مسألة التشهد في سجود السهو. قال ناس بوجوب التشهُّد عقب سجدتي السهو، مستدلين بأحاديث أظهرها وأقواها سنداً ما رواه عمران بن حصين رضي الله عن «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم فسها، فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلَّم» رواه أبو داود والترمذي والحاكم وابن حِبَّان. وما سوى هذا الحديث فأحاديث ضعيفة لا يُعتدُّ بها. وهذا الحديث وإن صححه ناس فقد ضعفه ناس آخرون منهم البيهقي وابن عبد البَرِّ وابن حجر، فلا أراه يصلح للاستدلال. وتبقى النصوص القائلة بسجود السهو خالية من ذكر التشهد. ثم إن سجود السهو في حقيقته هو جزء من الصلاة، والصلاة أية صلاة تختم بتشهُّدٍ واحد، فلا تحتاج هذه الصلاة إلى تشهدٍ ثانٍ، إلا أن تأتي النصوص الصحيحة بذلك، ولم ترد نصوص صحيحة بذلك. وأخيراً أقول ما يلي: إذا نسي المصلي أن يجلس للتشهد، فأمكنه أن يأتي به قبل أن يقوم ويعتدل واقفاً فليفعل، أما إن قام واعتدل واقفاً فلا يصح له أن يعود للجلوس، بل يكمل صلاته ويسجد في نهايتها سجود السهو، وذلك لما رُوي عن عبد الرحمن بن شِماسة أنه قال «صلى بنا عقبة بن عامر، فقام وعليه جلوس، فقال الناس وراءه: سبحان الله فلم يجلس، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين وهو جالس فقال: أني سمعتكم تقولون: سبحان الله، كيما أجلس، وليس ذلك سنة، إنما السنة الذي صنعته» رواه ابن حِبَّان والحاكم والبيهقي. العملُ عند حصول الشك في عدد الركعات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 عند حصول الشك في أثناء الصلاة في عدد الركعات المُؤدَّاة منها، يجب على الشَّاكِّ أن يتحرى الصواب واليقين، فإن وصل إليهما بنى عليهما وأتمَّ صلاته ثم سجد سجدتي السهو، وإن هو لم يتوصل إلى الصواب واليقين وبقي الشك قائماً هل صلَّى ثنتين أم ثلاثاً، أو هل صلى ثلاثاً أم أربعاً أخذ بالأقل منهما، أي أخذ بالثنتين وطرح الثالثة، أو أخذ بالثلاث وطرح الرابعة، ثم بنى على ذلك وأتم صلاته، ثم سجد أيضاً سجدتي السهو، فقد مرَّ الحديث عند البخاري وغيره من طريق عبد الله رضي الله عنه وجاء فيه « ... وإذا شك أحدكم في صلاته فلْيتحرى الصواب فلْيُتِمَّ عليه ... » . كما مرَّ الحديث عند مسلم وغيره من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وجاء فيه «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يَدْرِ كم صلى ثلاثاً أم أربعاً فلْيطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين ... » . وهذا الشك وخفاء الصواب إنما هو من فعل الشيطان ووسوسته كما جاء في الحديث المارِّ قبل قليل عن أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم وغيره وجاء فيه «إن أحدكم إذا قام يصلي، جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى ... » . فحتى يتخلص المسلم من هذا الشيطان أذكر لكم ما رُوي عن عثمان بن أبي العاص أنه قال «يا رسول الله حال الشيطان بيني وبين صلاتي وبين قراءتي، قال: ذاك شيطان يقال له خَنْزَب، فإذا أنت حسسته فتعوَّذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثاً، قال، ففعلتُ ذاك فأَذهبَ الله عزَّ وجلَّ عني» رواه أحمد. الفصل السابع القنوتُ والخشوع في الصلاة تمهيدٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 بحثنا في الفصل السابق تحت عنوان [صفة الصلاة] مُكوِّنات الصلاة من أقوال وأفعال، فذكرنا الأقوال والأفعال التي تشكل بمجموعها الصلاة، ونريد أن نبحث في هذا الفصل تحت عنوان [القنوت و الخشوع في الصلاة] معاني هاتين اللفظتين وما تدلان عليه، ونبين أن القنوت في هذا الفصل يعني الامتناع عن الأقوال غير المشروعة، وأن الخشوع يعني الامتناع عن الأفعال غير المشروعة في الصلاة، ونبدأ بالكلام على القنوت وما يدل عليه، ثم نتكلم على الخشوع وما يدل عليه. 1ــ القُنُوتُ في الصلاة أصل القنوت في اللغة الدوام على الشئ، ومن هذا المعنى تفرعت معانٍ عدة. وأما في الشرع فهو دوام الطاعة لله عزَّ وجلَّ، ومنه قوله عزَّ وجلَّ {ومَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صَالِحَاً نُؤْتِهَا أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقَاً كَرِيْمَاً} الآية 31 من سورة الأحزاب. وقوله تعالى {إنَّ إبراهِيْمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتَاً للهِ حَنِيْفَاً ولَمْ يَكُ مِن المُشْرِكِيْنَ} الآية 120 من سورة النحل. وقوله سبحانه {وقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدَاً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} الآية 116 من سورة البقرة. وكثير غيرها، وكلها تعني دوام الطاعة لله عزَّ وجلَّ وما تستلزمه الطاعة من تذلل وخضوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 إلا أن هذه اللفظة قد استُعملت لمعانٍ أخرى في الشرع، فربما أُطلقت وأُريد بها الدعاء، ومنه ما رُوي عن البراء بن عازب رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت في صلاة الصبح والمغرب» رواه الترمذي. وما رُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً بعد الركوع يدعو على أحياءٍ من العرب ثم تركه» رواه ابن حِبَّان. وما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال «قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دُبُر كلِّ صلاة ... » رواه ابن خُزَيمة. ومِن ذلك يقال دعاء القنوت. وربما أُطلقت وأُريد بها طول القيام، ومنه ما ورد عن جابر رضي الله عنه أنه قال «سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت» رواه أحمد والترمذي وابن حِبَّان وابن ماجة. قوله طول القنوت: أي طول القيام. وتطلق لفظة القنوت ويُراد بها السكوت والامتناع عن الكلام، ومنه ما ورد عن زيد ابن أرقم رضي الله عنه أنه قال «كنا نتكلم في الصلاة، يُكلِّم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: وقوموا لله قانتين، فأُمِرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام» رواه مسلم وأبو داود والترمذي. فكلمة قانتين في هذه الآية تعني ساكتين مُمْسِكين عن كلام الناس. هذا هو المعنى المقصود من القنوت في هذه الآية الكريمة أخذاً من سبب النزول، وهذا المعنى هو مدار البحث هنا. ولكننا ونحن نأخذ هذا المعنى لا ننسى المعنى العام للقنوت وهو دوام الطاعة لله عزَّ وجلَّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 فالقنوت مدار البحث إذن هو الامتناع عن الكلام مع الناس وعدم مخاطبة الآدميين، والاقتصار في الصلاة على مخاطبة الله سبحانه دون سواه، لتبقى الصلاة كلُّها لله، ولتبقى الطاعة كلها له، ولتبقى العبادة كلها خالصة لله رب العالمين. فأيُّ كلام مع غير الله هو قطعٌ لطاعة الله، وهو وقفٌ للقنوت، وبالتالي هو إنقاص للصلاة، فعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إن الرجل لينصرف وما كُتِب له إلا عُشْرُ صلاته تُسُعُها ثُمُنُها سُبُعُها سُدُسُها خُمُسُها رُبُعُها ثُلُثُها نِصْفُها» رواه أبو داود. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «إن الرجل ليصلي الصلاة ولعله لا يكون له منها إلا عُشْرُها أو تُسُعُها أو ثُمُنُها أو سُبُعها أو سُدُسُها حتى أتى على العدد» . فإذا صلى المسلم فأدى واجبات الصلاة كلَّها ولم يرتكب حراماً حصَّل صلاة تامة، وإن انتقص من واجباتها شيئاً أو ارتكب حراماً حصَّل صلاة ناقصة بقدر ما انتقص من واجباتها أو فعل فيها من حرام، حتى يصلي فلا يحصِّل إلا عُشْر صلاةٍ أو ربعَ صلاة أو نصفَ صلاة، فمن تكلم مع غيره وهو في الصلاة فقد قطع بكلامه طاعته لله فانتقص بذلك من صلاته بقدر ما تكلم، وما ينبغي له أن يفعل ذلك، لأنه مأمور بدوام الطاعة مشغولٌ بها عما سواها من الأقوال، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «كنا نسلِّم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلَّمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا: يا رسول الله كنا نسلِّم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال: إن في الصلاة لشُغلاً» رواه مسلم وأبو داود وابن أبي شيبة وأحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 نعم إنَّ مَن صلى كان في شغل بمخاطبة ربه عزَّ وجلَّ عن مخاطبة غيره. ويزيد الأمرَ وضوحاً ما جاء من طريق عبد الله رضي الله عنه قال «كنا نسلِّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ كنا بمكة قبل أن نأتي أرض الحبشة، فلما قَدِمنا من أرض الحبشة أتيناه فسلمنا عليه فلم يردَّ، فأخذني ما قَرُب وما بَعُدَ حتى قضَوا الصلاة فسألته فقال: إن الله عزَّ وجلَّ يُحْدِث في أمره ما يشاء، وإنه قد أحدث من أمره أن لا نتكلم في الصلاة» رواه أحمد. ورواه أبو داود وابن حِبَّان والنَّسائي وابن أبي شيبة باختلاف في الألفاظ. ورواه أبو يعلى وعبد بن حميد وفيه « ... وإذا كنتم في الصلاة فاقْنُتُوا ولا تَكَلَّموا» . قوله فاقنتوا ولا تكلَّموا صريحُ الدلالة على أن القنوت يعني السكوت والامتناع عن الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 فالقانت هو الذي لا يتكلم في صلاته إلا الكلام المشروع من قراءةٍ وذكرٍ لله عزَّ وجلَّ، فعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال «بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجلٌ من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثُكْلَ أُمِّتاه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكنِّي سكتُّ، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبأبي وأُمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كَهَرَني ولا ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه مسلم وأحمد والدارمي والنَّسائي. ورواه أبو داود وجاء فيه «إن هذه الصلاة لا يحلُّ فيها شئ من كلام الناس هذا، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» . قوله في الحديث «فلما رأيتهم يصمتونني لكني صمتُّ» يبدو فيه حذفٌ ومن ثَمَّ لَبسٌ، وقد جاء في رواية ابن حِبَّان لفظ يزيل اللبس «فلما رأيتهم يصمتوني لكي أسكت سكتُّ» ووقع عند الطحاوي لفظ «فلما رأيتهم يسكتونني سكتُّ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 فالصلاة عبادة، والعبادة كلها لله سبحانه، فأقوالها قراءةٌ وذِكرٌ ودعاءٌ وتسبيحٌ وتحميدٌ، وكله لله عزَّ وجلَّ، وما سواه مما لم يُشْرع في الصلاة، ومما هو موجَّه لغير الله فغير صالحٍ في الصلاة بدلالة الرواية الأولى، وحرام لا يحلُّ بدلالة الرواية الثانية، وكلاهما يدلان على وجوب القنوت. ومن هنا فإن تشميت العاطس والتسليم على الناس والحديث مع الناس في مختلف الشؤون حرام لا يجوز في أثناء الصلاة. ويكفي أن نتذكر الحديث الذي مرَّ في بحث [حكم تكبيرة الإحرام] وهو ما رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمُها التكبير، وتحليلُها التسليم» رواه أحمد والترمذي. فإن فيه (وتحريمها التكبير) ومعناه أن الدخول في الصلاة بالتكبير يجعل كل كلام غير كلام الصلاة محرَّماً، وهذا الحكم عام يشمل المكتوبة كما يشمل النافلة، ويشمل الإمام كما يشمل المنفرد، كما يشمل المأموم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 والكلام في الصلاة صنفان: صنف مشروع متعين كقراءة الفاتحة والتكبير والتسبيح والتشهد، وصنف مشروع غير متعيِّن كالأدعية في الركوع والسجود والجلوس، وكذِكر الله تعالى مما ندب إليه واستُحب. أما الصنف الأول فهو من الأقوال التي تتشكل الصلاة منها، وأما الصنف الثاني فهو من الأقوال والكلام المأذون به في الصلاة، وهو دون الأقوال التي تتشكل الصلاة منها، بمعنى أنه لو قالها أو لم يقلها أو أكثر منها أو قلَّل، فالصلاة باقية على حالها وشكلها. وقد مرَّ في الفصل السابق الدعاء والتعوُّذ والذِّكر المأذون به في الصلاة بل والمستحب أيضاً فلا نعيد. ونضيف هنا إلى ما سبق أن من المأذون به من الكلام والدعاء هو ما يصاحب قراءة القرآن، فالمصلي إذا قرأ القرآن في الصلاة وقف عند آيات الله يدعو ويتعوَّذ بما يتناسب مع ما يقرأ، فعن حذيفة رضي الله عنه قال «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، ما مرَّ بآيةِ رحمة إلا وقف عندها فسأل، ولا مرَّ بآية عذاب إلا وقف عندها فتعوَّذ» رواه ابن خُزَيمة. وعن حُذيفة رضي الله عنه قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسِّلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ ثم ركع ... » رواه مسلم. وقد مرَّ في بحث [قراءة ما زاد على الفاتحة من القرآن في الصلاة] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 فهذه الأدعية والتعُّوُّذات تندرج تحت ذكر الله سبحانه، فقد جاء في رواية لأبي داود من طريق معاوية بن الحَكَم السلمي قوله - صلى الله عليه وسلم - «إنما الصلاة لقراءة القرآن وذكرِ الله عزَّ وجلَّ، فإذا كنتَ فيها فليكن ذلك شأنك» . فقوله (إنما) يفيد الحصر، فيحصر الكلام بقراءة القرآن وذكر الله عزَّ وجلَّ، ولا يزاد عليهما مما يخاطب به الناس. وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مُنع من كلام الناس في الصلاة فنحن ممنوعون منه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى بني المُصْطَلق، فأتيته وهو يصلي على بعيره فكلمته، فقال لي بيده هكذا - وأومأ زهير بيده، ثم كلمته فقال لي هكذا - فأومأ زهير أيضاً بيده نحو الأرض، وأنا أسمعه يقرأ يومئ برأسه، فلما فرغ قال: ما فعلتَ في الذي أرسلتك له؟ فإنه لم يمنعني أن أُكلمك إلا أني كنت أُصلي ... » رواه مسلم وأحمد وأبو داود. فهذا دليل قطعي الدلالة على أن الكلام مع الناس ممنوع في أثناء الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 أما الكلام مع النفس فلا بأس به شرطَ أن يكون مِن ذكر الله سبحانه، فلو عطس المصلي في صلاته فلا بأس بأن يقول (الحمد لله، أو الحمد لله على كل حال) ، ولو سمع صوت الرعد وهو يصلي فلا بأس بأن يقول (اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تُهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك) ، ولو سمع صوت الريح الشديدة وهو في الصلاة فلا بأس بأن يقول (اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً) وهكذا مما يدخل تحت الدعاء وذكر الله سبحانه، فعن رفاعة رضي الله عنه قال «صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعطستُ فقلتُ: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يحبُّ ربنا ويرضى، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف فقال: مَن المتكلم في الصلاة؟ فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثانية: مَن المتكلم في الصلاة؟ فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة: مَن المتكلم في الصلاة؟ فقال رفاعة بن رافع بن عفراء: أنا يا رسول الله، قال: كيف قلت؟ قال قلت: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يحبُّ ربنا ويرضى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعةٌ وثلاثون مَلَكاً أيهم يصعد بها» رواه الترمذي. ورواه النَّسائي باختلاف يسير. وهناك حالتان اثنتان يجوز فيهما الكلام الموجَّه للآخرين وردت بهما أحاديث شريفة تستثنيهما من وجوب القنوت والسكوت فيُقتَصر عليهما ولا يجوز تعدِّيهما أو القياس عليهما، ومع ذلك وجب أن يكون الكلام مما يصلح للصلاة من القرآن والذِّكر لا غير، وهاتان الحالتان هما: حالة الفتح على الإمام، وحالة احتياج المصلي لتنبيه غيره إلى خطأ أو نائبةٍ من النوائب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 أما الإمام فإنَّه إن صلى بالناس صلاة جهرية فأخطأ في قراءة القرآن، أو لم يُسعفه حفظُه فوقف عن القراءة، فإن للمصلين أن يُسْعِفُوه بقراءة الآية أو الآيات التي أخطأ بقراءتها أو نسيها فلم يذكرها، ولا يزيدون على القراءة شيئاً. وأما إن أخطأ الإمام في فعلٍ من أفعال الصلاة كأَن جلس في آخر الركعة الأولى، أو أراد النهوض من الركعة الثانية دون جلوس فإن المصلين يسبحون بالقول (سبحان الله) إن كانوا رجالاً، ويصفقن بأكُفِّهِنَّ فحسب إن كنَّ نساء. وكذلك يسبحون إن نابتهم نائبة في أثناء صلاتهم. والدليل على جواز الكلام مع الغير في الحالة الأولى ما رواه المُسَوَّر بن يزيد المالكي قال «شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصلاة، فترك شيئاً لم يقرأه، فقال له رجل: يا رسول الله تركتَ آيةَ كذا وكذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هلا أذْكَرْتَنيها؟» رواه أبو داود وابن حِبَّان. وفي رواية أخرى لابن حِبَّان من طريق المُسَوَّر بن يزيد «قال فهلا أذكَرْتَنيها؟ قال: ظننت أنها قد نُسخت، قال: فإنها لم تُنسَخ» . وما رواه عبد الله ابن عمر رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاةً فالتبس عليه، فلما فرغ قال لأُبيٍّ: أشهدت معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك أن تفتحها عليَّ؟» رواه ابن حِبَّان. ورواه أبو داود إلا أنه لم يورد (أن تفتحها عليَّ) وما رواه الحاكم بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه أنه قال «كنا نفتح على الأئمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 والدليل على جواز الكلام مع الغير في الحالة الثانية هو ما رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «مَن نابه شئ في صلاته فليقل: سبحان الله، إنما التصفيق للنساء والتسبيح للرجال» رواه أحمد والطحاوي. وروى ابن حِبَّان من طريق سهل بن سعد رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليُصلح بينهم وحانت الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه فقال: أتصلي للناس فأُقم؟ قال: نعم، فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس في الصلاة فتخلَّص حتى وقف في الصف فصفَّق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناسُ التصفيقَ التفت أبو بكر فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أثبُتْ مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله تعالى على ما أمره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى، فلما انصرف قال: يا أبا بكر ما منعك أن تلبث إذ أمرتُك؟ فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قُحافة أن يصلي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ مَن نابه شئ في صلاته فليسبِّح، فإنه إن سبِّح التُفِتَ إليه، وإنما التصفيق للنساء» . وفي رواية أخرى لابن حِبَّان من طريق سهل بن سعد « ... ثم قال للناس: إذا نابكم في صلاتكم شئ فلْيسبح الرجال ولْتصفِّق النساء» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء» رواه مسلم وأحمد وابن ماجة وابن حِبَّان والطَّحاوي. وفي رواية أخرى لمسلم والنَّسائي بزيادة «في الصلاة» في آخرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 وأُكرِّر القول إن الكلام مع الغير في هاتين الحالتين إنما يكون بكلامٍ من جنس كلام الصلاة المشروع أو المأذون فيه، أي من الكلام المخاطَب به ربُّ العالمين، وليس من الكلام المخاطَب به البشر، فلا يزيد الرجل إن احتاج لمخاطبة الغير على أن يسبِّح، والتسبيح من جنس كلام الصلاة، ولا يزيد الرجل إن احتاج للفتح على الإمام على أن يقرأ الآيات التي سها عنها إمامُه أو أخطأ في تلاوتها دون أيةِ إضافةٍ أخرى من كلام الناس في الحالتين، وما سوى ذلك فالقنوت واجب الالتزام، وهو يعني السكوت والامتناع عن كلام الناس. والمسكوت عنه هو الكلام، والكلام يعني الألفاظ ذوات الحروف، فما لا حروف فيه فليس بكلام، ومِن ثَمَّ فليس بمحظور، ولا يتنافى مع القنوت، فالبكاء وإن كان بصوت مسموع فإنه ليس كلاماً ومِن ثّمَّ فليس بمحظور، فهذا مُطرِّف بن عبد الله قد روى عن أبيه أنه قال «انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، ولِصدره أَزيزٌ كأزيز المِرْجل من البكاء» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي. وإن علياً رضي الله عنه قال «ما كان فينا فارسٌ يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتُنا وما فينا قائمٌ إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح» رواه ابن حِبَّان وأحمد. والأدلة على جواز البكاء في الصلاة كثيرة ومعروفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 والنفخُ وإن كان بصوت مسموع فإنه غير محظور، لأنه ليس كلاماً حتى ولو خرج بحروف، قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في كسوف الشمس «وجعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد في الركعة الثانية وجعل يقول: ربِّ لِمَ تعذبهم وأنا فيهم؟ ربِّ لِمَ تعذبنا ونحن نستغفرك؟ فرفع رأسه وقد تجلَّت الشمس ... » رواه أحمد. ورواه أبو داود وجاء فيه « ... ثم نفخ في آخر سجوده فقال: أف أف، ثم قال: رب ألم تَعِدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟ ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟ ففرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلاته وقد أَمْحَصَت الشمسُ» . قوله أَمْحَصت: أي ظهرت وانجلت. فهذان دليلان على جواز النفخ في الصلاة، دليلٌ على مطلق النفح، وآخر على النفخ بحرفين اثنين، فماذا يقول أصحاب القول بحرمة إخراج أي صوت بحرفين، الذين يعدُّون ذلك كلاماً؟. نعم نحن نقول بحرمة الكلام بحرفين، بل ونقول بحرمة الكلام بحرف واحد مثل فعل الأمر: قِ أو فِ أو عِ، من وقى ووفى ووعى، ما دام الحرف قد خرج على أنه كلام، أما إن خرج صوتٌ من غير جنس الكلام فما دليلهم على تحريمه؟ فهذا صوت قد خرج بحرفين [أف أف] وخرج مكرَّراً، أي خرج بأربعة حروف، أخرجه رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -، فهل يبقى لهم عذر بعد ذلك؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 والنحنحة وإن كانت بصوت مسموع، وإن خرجت بحرف أو بحرفين أو حتى بثلاثة (إِ حِ مْ) ، فهي ليست كلاماً، ومن ثَمَّ فإنها ليست محظورة، وهذا كافٍ وحده، ومع ذلك فإن عندنا ما يدل على جوازها من النصوص، فعن علي رضي الله عنه قال «كان لي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعةٌ آتيه فيها، فإذا أتيتُه أستأذنت إن وجدته يصلي فتنحنح دخلتُ، وإن وجدته فارغاً أَذِن لي» رواه النَّسائي. ومثل النفخِ والنحنحةِ والبكاءِ: الأنينُ والتَّوجُّعُ والحشرجةُ، لأن الدليل قد قام على تحريم الكلام، والكلام هو المعهود والمعروف، وما سواه فغير داخل في هذا الدليل. والكلام مع الناس في الصلاة، هل هو من مبطلاتها وما يترتب على ذلك من وجوب الإعادة، أم هو حرام فحسب يأثم صاحبه وينقص من صلاته ولا يترتب عليه إعادة الصلاة؟ قال ابن المنذر (أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامداً وهو لا يريد إصلاح صلاته أن صلاته فاسدة، واختلفوا في كلام الساهي والجاهل) . وقال الترمذي (العملُ عليه عند أكثر أهل العلم قالوا: إذا تكلم الرجل عامداً في الصلاة أو ناسياً أعاد الصلاة) . وقال قوم: إذا تكلم الرجل عامداً في الصلاة أعادها، وإذا تكلم ناسياً أو جاهلاً صحَّت صلاته. وعزاه النووي إلى الجمهور. وقد استدل من قال ببطلان صلاة المتكلم بقوله عليه الصلاة والسلام «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس» وهو طرفٌ من حديث رواه مسلم وغيره من طريق معاوية بن الحكم وقد مرَّ قبل قليل. فقالوا إنَّ كون الكلام لا يصلح في الصلاة معناه أنه يُفسد الصلاة، فإذا أفسدها أبطلها ووجبت إعادتها. وأخذ قوم من هؤلاء بقاعدة أنَّ ما يحرم في الصلاة يبطلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 فنقول لهؤلاء: إننا نسلِّم بأن الكلام في الصلاة لا يصلح فيها وأنه حرام لا يجوز، ولكننا ونحن نقول بهذا إنما نقف عند دلالات النصوص ولا نتعداها إلى افتراضات أو استنتاجات لا تحتملها هذه النصوص، فمن أين لهم أن كل محرَّم في الصلاة يبطلها؟ ومن أين لهم أنَّ ما لا يَصلح في الصلاة يبطلها؟. أما أخذُهم بقاعدة أن ما يحرم في الصلاة، أو أن ترك واجبٍ في الصلاة يبطلها فهو أيضاً خطأ، والصحيح هو أنه لا يبطل الصلاة إلا ترك شرط من شروطها، أو ترك ركن من أركانها، وما سوى ذلك لا يبطل الصلاة ولا يفسدها. ولا أُريد الدخول في أبحاث علم الأصول أكثر من ذلك لأن مكانه ليس هنا، وإنما أردُّ عليهم بما رواه معاوية بن الحكم وقد مرَّ قبل قليل «إذ عطس رجلٌ من القوم فقلت: يرحمك الله ... قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس» . فهذا معاوية قد تكلم، فأعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الكلام في الصلاة لا يصلح، وجاء في رواية أبي داود «إن هذه الصلاة لا يحلُّ فيها شئ من كلام الناس هذا» . أي أعلمه بحرمة ما قام به ولم يزد على ذلك، فلم يطالبه بالإعادة، فدل ذلك على أن صلاته لم تبطل بفعل الحرام. ولا يصح تأويل هذا النص بالقول إنه وإن لم يذكر الطلب من معاوية بالإعادة فإن ذلك لا يمنع من أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد طلب منه الإعادة، فنقول لهؤلاء: حتى يثبت قولكم هذا نقول له. فهذا دليل واضح على أن الكلام حرام، وعلى أن الحرام في الصلاة لا يبطلها ولا يفسدها، وهو ردٌّ كافٍ على أحد الاستدلالين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 أما استدلالهم الأول وهو أن القول «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس» يدل على فساد صلاة المتكلم، فمنقوض هو الآخر بحديث معاوية بن الحكم نفسه، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع كلام معاوية في الصلاة، وأفهمه أنه فعل حراماً، وأنه فعل ما لا يصلح في الصلاة، واكتفى بهذا البيان ولم يزد عليه أمراً بوجوب الإعادة. فالقول إذن بوجوب الإعادة هو تقوُّلٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو لا يجوز. وأما قولهم إن الكلام جهلاً لا يبطل الصلاة، وإن معاوية هذا تكلم جاهلاً والجاهل معذور، فالرد عليهم هو أن ما يُبطِل الصلاة من ترك شرط أو ترك ركن لا يجعل فاعلَه جهلاً ناجياً من بطلان صلاته ووجوب إعادتها، ذلك أنَّ من صلى دون وضوء جهلاً أو نسياناً، أو من صلى قبل دخول الوقت جهلاً أو نسياناً، أو من صلى فترك الركوع جهلاً أو نسياناً فصلاته باطلة، وتجب عليه إعادتها، ولا ينفعه جهله ولا سهوه هنا، وبناء على هذا فإنا نقول إنَّ معاوية بن الحكم لو فعل ما يبطل الصلاة، سواء كان ذلك جهلاً أو نسياناً، فإن صلاته تصبح باطلة، وعندئذٍ يأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة، فلما وجدنا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بإعادتها، فقد دل ذلك على أن الكلام ليس من مبطلات الصلاة. وأيضاً قد روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم في الصلاة ناسياً، فبنى على ما صلى» رواه الطبراني. فقوله «فبنى على ما صلى» بعد أن تكلم ناسياً، يدل بما لا لبس فيه على أن الكلام نسياناً لا يُبطل الصلاة، وأن هذا الحديث يعضد الفهم الذي ذهبنا إليه من أن معاوية بن الحكم لم يُؤمر بالإعادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 وأيضاً عندنا حديث ذي اليدين وهو من الأحاديث الصحيحة المشهورة، وهذا الحديث رواه مسلم وأبو داود وابن حِبَّان وابن ماجة من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة من طريق عمران بن الحصين، ورواه ابن ماجة من طريق ابن عمر، ورواه مسلم والترمذي من طريق أبي هريرة بلفظ غير ما سبق، ونكتفي بإيراد الرواية الأخيرة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر، فسلَّم في ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقُصِرت الصلاةُ يا رسول الله أم نسيتَ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل ذلك لم يكن، فقال: قد كان بعضُ ذلك يا رسول الله، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس فقال: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، فأتمَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بقي من الصلاة، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم» رواه مسلم والترمذي. فهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تكلم بعد التسليم من ركعتين لصلاة العصر، وتكلم المسلمون، ثم قام بعدئذٍ بإِتمام ما بقي من صلاته واصلاً الركعتين الأُوليين بركعتين أُخريين، ولم نره يستأنف صلاته معلناً بطلانها. ولمن شاء أن يقول إنه تكلم ناسياً، ولمن شاء أن يقول إنه تكلم جاهلاً نقول: إنه لو كان الكلام من مبطلات الصلاة لعلَّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصحابته بدرس عمليٍّ فأعاد الصلاة بهم، فلما رأيناه لم يفعل ذلك، وإنما بنى على ما صلى وأتم صلاته، فقد دل ذلك دلالة بالغة الوضوح على أن الكلام ليس من مبطلات الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 وأيضاً عندنا حديث المسئ صلاته وهو أيضاً من الأحاديث الصحيحة المشهورة، وقد رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود وغيرهم من طريق أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد، فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فردَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه السلام فقال: ارجع فصلِّ فإنك لم تُصَلِّ، ثلاثاً، فقال: والذي بعثك بالحق ما أُحسنُ غيره فعلِّمني، قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» . فانظر كيف أرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل ثلاث مرات قائلاً له إنه لم يُصلِّ، بمعنى أن صلاته كانت باطلة، فلماذا أرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الرجل ثلاث مرات ولم يُرجع معاوية بن الحكم مرة واحدة؟ إنه ما كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسكت عن معاوية بن الحكم فلا يأمره بالإعادة لو كان قد صلى صلاة باطلة، فلما رأيناه قد سكت عنه فقد دل ذلك على صحة صلاة معاوية، وكونه عليه الصلاة والسلام قد أعلم معاوية بأنه ارتكب حراماً في صلاته فقط، فإن ذلك يدل دلالة مؤكدة على أن فعل الحرام في الصلاة لا يبطلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 ما يراه هذا الفريق من أن الكلام الذي يحصل جهلاً لا يبطل الصلاة، وأن الكلام المتعمَّد هو المُبطل فحسب، فالرد عليهم بأن الذي يبطل الصلاة يبطلها في حالتي العمد والجهل بدلالة حديث المسئ صلاته، فإنه صلى ثلاث مرات جهلاً بمبطلات الصلاة فلم ينفعه جهله وبطلت صلاته، مما يدل دلالة مؤكدة على أن مبطلات الصلاة تبقى مبطلات في حالتي العلم والجهل على السواء. ولهذا فلو كان الكلام من المبطلات لكان أبطل صلاة معاوية بن الحكم، لأن الجهل لا يغني شيئاً بخصوص المبطلات كما أثبتنا، فلما عَلِمنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أبطل صلاة المسئ صلاته رغم أنه صلى جاهلاً، وعلمنا أنه عليه الصلاة والسلام لم يبطل صلاة معاوية بن الحكم الذي تكلم جاهلاً، أدركنا أن ما فعله المسئ صلاته مغايرٌ ومختلفٌ عما فعله معاوية بن الحكم بلا شك، وهذا الاختلاف لا يدلُّ إلا على أنَّ المُسئ صلاتَه قد فعل ما يبطل الصلاة، وأنَّ معاوية ابن الحكم لم يفعل إلا حراماً دون أن يصل ذلك إلى درجة المبطلات، وهذا يعني أن الكلام ليس من مبطلات الصلاة، وأن فعل الحرام في الصلاة لا يبطلها. وبذلك يتضح أن الاستدلالات التي استدل بها هذا الفريق غير صحيحة، وأن الرأي الذي يقولون به من أن الكلام يبطل الصلاة، هو رأي غير صحيح. فلم يبق لنا إلا أن نقول إن الكلام هو من المُحرَّمات فحسب في الصلاة، وأن فعل الحرام في الصلاة ينقصها فحسب ولا يبطلها. 2ــ الخشوعُ في الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 الخشوع معناه السكون في ذلَّةٍ وخضوع، قال عزَّ وجلَّ {وتَرَاهُمْ يُعْرَضُوْنَ عَلَيْهَا خَاشِعِيْنَ مِن الذُّلِّ يَنْظُرُوْنَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ... } الآية 45 من سورة الشورى. وقال سبحانه {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وقَدْ كَانُوْا يُدْعَوْنَ إلى السُّجُوْدِ وهُمْ سَالِمُوْنَ} الآية 43 من سورة القلم. وروى النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «.. إن الله عزَّ وجلَّ إذا بدا لشئ من خلقه خشع له..» رواه النَّسائي. إن الصلاة أقوال وأفعال وإنها كلها لله رب العالمين، فينبغي أن لا يُقال فيها إلا ما هو مشروع وموجَّهٌ إليه سبحانه. كما أنه ينبغي أن لا يُفعل فيها إلا ما هو مشروع من أفعال الصلاة إلا ما جاءت النصوص باستثنائه فيباح، وما سوى ذلك فهو حرام، ويدخل تحت قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمُها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أحمد والترمذي. وقد مرَّ في بحث [حكم تكبيرة الإحرام] وبحث [القنوت في الصلاة] فالتكبير للصلاة يجعل كل قولٍ وكلَّ فعلٍ غير مشروع في الصلاة حراماً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وقد حث الشرع على الخشوع في الصلاة ورغَّب فيه وبيَّن فضله في العديد من النصوص نذكر منها قوله عزَّ وجلَّ {قَدْ أَفْلَحَ المؤْمِنُوْنَ. الذِيْنَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خَاشِعُوْنَ} الآيتان 1، 2 من سورة المؤمنون. وقوله تعالى {واسْتَعِيْنُوْا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وإنَّهَا لَكَبِيْرَةٌ إلا عَلَى الخَاشِعِيْنَ. الذِيْنَ يَظُنُّوْنَ أَنَّهُمْ مُلاقُوْ رَبِّهِمْ وأَنَّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُوْن} الآيتان 45، 46 من سورة البقرة. وعن عثمان رضي الله عنه « ... فدعا بوَضُوءٍ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من امرئ مسلمٍ تحضُره صلاةٌ مكتوبةٌ فيُحسن وضوءَها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارةً لِما قبلها من الذنوب ما لم يُؤت كبيرة، وذلك الدهرَ كلَّه» رواه مسلم. وعن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أشهدُ سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «خمس صلوات افترضهن اللهُ على عباده، مَنْ أحسن وضوءَهن وصلاَّهن لوقتهن، فأتمَّ ركوعهن وسجودهن وخشوعهن كان له عند الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له عند الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذَّبه» رواه أحمد وأبو داود. وقد اختلف الفقهاء في حكم الخشوع في الصلاة، فاختار أكثرهم الندب والاستحباب، واختار الآخرون الوجوب وهو الصحيح. وحتى نتبين وجه الصواب في هذه المسألة لننظر في النصوص المتعلقة بذلك: أ - عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت: الذين هم في صلاتهم خاشعون، فطأطأ رأسه» رواه الحاكم. وقد مرَّ في بحث [النظر في الصلاة] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 ب - قوله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ المؤْمِنُوْنَ. الذِيْنَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خَاشِعُوْنَ. والذِيْنَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُوْنَ. والذِيْنَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُوْنَ. والذِيْنَ هُمْ لِفُرُوْجِهِمْ حَافِظُوْنَ. إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُوْمِيْنَ. فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُم العَادُوْنَ. وَالذِيْنَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وعَهْدِِهِمْ رَاعُوْنَ. والذِيْنَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُوْنَ. أُولَئِكَ هُم الوَارِثُوْنَ. الذِين يَرِثُوْنَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ} الآيات من 1-11 من سورة المؤمنون. ج - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كنا إذا صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: علامَ تُومِئُون بأيديكم كأنها أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ؟ ... » رواه مسلم. وقد مرَّ بتمامه في بحث [القنوت في الصلاة] ولمسلم حديثٌ ثانٍ عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال «خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ؟ اسكُنوا في الصلاة ... » . وقد مرَّ في بحث [القنوت في الصلاة] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 الدليل الأول يدل على وجوب الخشوع، فقد مرَّ معنا في بحث [النظر في الصلاة] حُرمةُ النظر إلى السماء بما يغني عن إعادته هنا، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى السماء في صلاته فنزل قوله تعالى {الذِيْنَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خَاشِعُوْنَ} الآية 2 من سورة المؤمنون. ففهم عليه الصلاة والسلام من هذه الآية أن الخشوع يقتضي عدم رفع النظر فطأطأ رأسه، وهذا كله يدل على أن الخشوع يتعارض مع رفع البصر، وأن رفع البصر يتعارض مع الخشوع، وما دام أن رفع البصر حرام، فالخشوع بخفض البصر إذن واجب. والدليل الثاني يدل هو الآخر على وجوب الخشوع، فالله سبحانه وتعالى وصف المؤمنين إن هم فعلوا كذا وكذا وكذا، وفعلوا الخشوع وصفهم بالفلاح، وبشَّرهم بوراثة الفردوس، وهذا يعني أن من أراد الفوز بالفلاح ودخول أعلى درجات الجنة فلْيخشع في صلاته، ولْيُعْرِض عن اللغو ولْيُزَكِّ، ولْيَحْفظ فرجه، ولْيُراعِ الأمانة والعهد، ولْيُحافظ على الصلاة، فإن ترك فعلاً من هذه الأفعال لم يستحق الفلاح ودخول الفردوس، بمعنى أن من لا يخشع لا يضمن الفلاح ودخول الفردوس، فهل يستطيع بعد ذلك أن يدَّعيَ مُدَّعٍ أن الخشوع غير واجب؟ إن الفلاح ودخول الفردوس هما الفوز الأكبر، وإن الفوز الأكبر بحاجة إلى الثمن الأكبر والثمن الأكبر لا يكون من صنف المندوبات، وإنما هو من الواجبات، ولهذا نجد أن جميع المذكورات في هؤلاء الآيات المباركات هي من الواجبات، فالخشوع واجب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 وأما الدليل الثالث فإنه يعضد الرأي القائل بوجوب الخشوع ويتَّسق معه، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نهى المسلمين عن تحريك الأيدي عند التسليم والخروج من الصلاة نهياً قاسياً، فقد سألهم سؤالاً استنكارياً، وشبَّه أيديهم بأذناب الخيل، ثم نهاهم باللفظ الصريح [اسكُنُوا] ويبعد أن يقول كل ذلك لمجرد رؤية أمرٍ مكروهٍ فحسب، فلم يبق إلا أنه نهى عن فعلٍ محرَّم مضادٍّ للخشوع. وبذلك يثبت للخشوع حكم الوجوب، فالخشوع واجب في الصلاة. العمل القليل في الصلاة إن الشرع الشريف وإن هو أوجب الخشوع إلا أنه توسَّع في الإذن بالقيام بأعمال مختلفة في الصلاة على أن تكون خفيفة، دون أن يعتبرها قادحة في الخشوع ولا منافية له، ونذكر جملة من هذه الأعمال: 1) المشي لحاجةٍ تَعْرِضُ للمصلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 يجوز للمصلي إن عَرض له عارضٌ فاحتاج إلى أن يتقدم قليلاً إلى الأمام أو إلى أن يتأخر قليلاً، أو إلى أن يخطو قليلاً يمنة أو يسرة أن يفعل ذلك بأناة وهدوء وسكينة ويمضي في صلاته، ويبقى في كل أوضاعه مستقبلاً القِبلة، فعن أبي حازم قال «سألوا سهل بن سعد: مِن أي شئ المنبر؟ فقال: ما بقي من الناس أعلم مني، هو من أَثلِ الغابة، عَمِلَه فلان مولى فلانة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عُمل ووُضع، فاستقبل القِبلة، كبَّر وقام الناس خلفه، فقرأ وركع وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القَهقَرى فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم ركع ثم رفع رأسه، ثم رجع القَهقَرى حتى سجد بالأرض، فهذا شأنه» رواه البخاري. فقد اعتلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر وصلى عليه، إلا أنه كان إذا أراد السجود رجع إلى الوراء، فنزل إلى الأرض فسجد عليها، ثم تقدم فاعتلى المنبر، يفعل ذلك في كل ركعة. وقد فعل ذلك من أجل تعليم الناس الصلاة، يدل عليه ما رواه البخاري ومسلم من طريق سهل ابن سعد الأنصاري رضي الله عنه، فقد جاء فيه « ... فسجد في أصل المنبر ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنما صنعتُ هذا لتأتمُّوا ولتعَلَّموا صلاتي» . وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في البيت والباب عليه مغلق، فجئت فمشى حتى فتح لي ثم رجع إلى مقامه، ووصفَتْ أنَّ الباب في القِبلة» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي. ورواه النَّسائي وفيه أنه كان يصلي تطوعاً. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «استفتحتُ الباب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمٌ يصلي، فمشى في القِبلة إما عن يمينه وإما عن يساره حتى فتح لي، ثم رجع إلى مُصلاه» رواه أحمد. ورواه الترمذي والطيالسي والبيهقي باختلافٍ في الألفاظ، ورواه النسائي بلفظ «استفتحتُ الباب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 - يصلي تطوعاً، والباب على القِبلة، فمشى عن يمينه أو عن يساره ففتح الباب، ثم رجع إلى مُصلاه» . ورواه الدارقطني بلفظ «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فإذا استفتح إنسان الباب فتح له ما كان في قِبلته، أو عن يمينه أو عن يساره، ولا يستدبر القِبلة» . 2) الإِشارةُ باليدين وتحريكهما: يجوز للمصلي أن يرد التحية إشارةً بيده أو بإصبعه أو برأسه، وأن يتناول بيديه ما يحتاج إلى تناوله، وأن يحرك بهما ما يحتاج إلى تحريك، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قُباء يصلي فيه، قال: فجاءته الأنصار فسلَّموا عليه وهو يصلي، قال فقلت لبلال: كيف رأيتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال يقول هكذا، وبسط كفَّه، وبسط جعفر بن عون كفه، وجعل بطنه أسفلَ وظهره إلى فوق» رواه أبو داود والبيهقي. وعن ابن عمر قال «دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجد بني عمرو بن عوف - يعني مسجد قُباء - فدخل رجال من الأنصار يسلمون عليه، قال ابن عمر: فسألتُ صُهيباً وكان معه: كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل إذا كان يُسلَّمُ عليه وهو يصلي؟ فقال: كان يشير بيده» رواه ابن حِبَّان وابن خُزَيمة وابن ماجة والدارمي والنَّسائي. وعن نافع «أن ابن عمر مرَّ على رجل وهو يصلي فسلَّم عليه، فرد الرجل كلاماً، فرجع إليه عبد الله بن عمر فقال له: إذا سُلِّم على أحدكم وهو يصلي فلا يتكلم، ولْيُشِر بيده» رواه مالك. وعن أبي هريرة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «لما قدمتُ من الحبشة أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسلَّمتُ عليه فأومأ برأسه» رواه البيهقي. وعن صهيب رضي الله عنه قال «مررتُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسلَّمتُ عليه فردَّ إشارةً، قال ولا أعلمه إلا قال: إشارةً بإصبعه» رواه أبو داود وأحمد وابن حِبَّان. وعن عبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 الله بن عباس رضي الله عنه قال «انخسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام قياماً طويلاً - وذكر الحديث إلى أن قال - ثم انصرف وقد تجلَّت الشمسُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله، قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك ثم رأيناك كَعْكَعْتَ، قال - صلى الله عليه وسلم -: إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقوداً، ولو أصبتُهُ لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ... » رواه البخاري. قوله كعكعتَ: أي رجعتَ إلى الوراء. وعن جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه قال «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر، فجعل يَهوي بيده، فسأله القوم حين انصرف فقال: إن الشيطان هو كان يُلْقِي عليَّ شررَ النار ليفتنني عن صلاتي فتناولته، فلو أخذتُه ما أنفلت مني حتى يُناط إلى سارية من سواري المسجد، ينظر إليه وِلْدانُ أهل المدينة» رواه أحمد. قوله يُناط إلى سارية: أي يُربَط بعمود. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «نمتُ عند ميمونة والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندها تلك الليلة، فتوضأ ثم قام يصلي، فقمتُ على يساره فأخذني فجعلني عن يمينه، فصلى ثلاث عشرة ركعة، ثم قام حتى نفخ وكان إذا نام نفخ، ثم أتاه المؤذن فخرج فصلى ولم يتوضأ» رواه البخاري. وميمونة هي زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخالة ابن عباس. وقد جاء التصريح بذلك فيما رواه ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنه قال «بِتُّ عند خالتي ميمونة، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، فقمت عن يساره، فأخذ بيدي فأقامني عن يمينه» . وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالساً وصلى وراءه قومٌ قياماً، فأشار إليهم أنْ اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 جُعل الإمام ليُؤْتمَّ به، فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً» رواه البخاري. ورواه البيهقي قريباً منه. وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت «أتيت عائشةَ زوجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خَسَفَت الشمسُ، فإذا الناس قيام يصلون، وإذا هي قائمة تصلي فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها إلى السماء وقالت: سبحان الله، فقلت: آية؟ فأشارت أن نعم..» رواه البخاري. وإنَّ فعلَ صحابية كعائشة رضي الله عنها وهي المشهود لها بالفقه لمما يُستأنَسُ به. 3) قتلُ الحية والعقرب: يجوز لمن كان في صلاة فعَرَضت له حية أو عقرب أو وحش كاسر مؤذٍ أن يقتله ويمضي في صلاته، فعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في البيت، فجاء علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه فدخل، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، قام إلى جانبه يصلي، قال: فجاءت عقرب حتى انتهت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم تركته وأقبلت إلى عليٍّ، فلما رأى ذلك علي ضربها بنعله، فلم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله إياها بأساً» رواه البيهقي والطبراني. وروى أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الأَسْودَيْن في الصلاة العقرب والحية» رواه أحمد والترمذي وابن خُزَيمة وابن ماجة. ورواه أبو داود والبيهقي بلفظ «اقتلوا الأَسْودَين ... » . 4) حمل الطفل : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 يجوز للمصلي أن يحمل طفلاً أو طفلة على ظهره أو كتفيه، أو يحمله بين يديه وهو في الصلاة، فقد روى أبو قتادة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حاملٌ أُمامةَ بنتَ زينب بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأبي العاص بن ربيعة، فإذا قام حملها، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها» رواه البخاري. وعن شدَّاد الليثي رضي الله عنه قال «خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إحدى صلاتَي العشي الظهر أو العصر وهو حاملُ حسنٍ أو حسينٍ، فتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعه، ثم كبَّر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهري صلاته سجدةً أطالها، قال: إني رفعت رأسي، فإذا الصبي على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد، فرجعت في سجودي، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهري الصلاة سجدةً أطلتَها، حتى ظننَّا أنه قد حدث أمرٌ، أو أنه يُوحَى إليك، قال: كلُّ ذلك لم يكن، ولكنَّ ابني ارتحلني فكرهت أن أُعجله حتى يقضي حاجته» رواه أحمد. ورواه النَّسائي والحاكم. 5) الالتفات : مرَّ معنا في فصل [صفة الصلاة] بحث [النظر في الصلاة] حديث الحاكم وابن خُزَيمة بلفظ «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلتفت في صلاته يميناً وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهره» . ورواه أيضاً أحمد وابن حِبَّان. 6) دفعُ المارّ بين يدي المصلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 ومن ذلك دفع المارِّ بين يدي المصلي إنساناً كان أو حيواناً فقد مرَّ معنا في فصل [القِبلة والسُّترة] حديث مسلم بلفظ «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان أحدكم يصلي، فلا يدع أحداً يمر بين يديه، ولْيدرأه ما استطاع، فإن أبى فلْيقاتله فإنما هو شيطان» . وحديث البخاري بلفظ «إذا صلى أحدكم إلى شئ يستره من الناس، فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه فلْيدفعه فإن أبى فلْيقاتله فإنما هو شيطان» . فهذا بحق الإنسان، ومرَّ معنا في بحث [سُترة الإمام] فصل [القِبلة والسُّترة] حديث أبي داود بلفظ «هبطنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثَنِيَّةِ أَذاخِر، فحضرت الصلاة - يعني فصلى إلى جدار - فاتخذه قِبلة ونحن خلفه، فجاءت بهيمة تمرُّ بين يديه، فما زال يُدَارِئُها حتى لصق بطنه بالجدار ومرت من ورائه، أو كما قال مسدد» . 7) تسوية موضع السجود: من ذلك تسوية موضع السجود وتهيئته للسجود، فقد روى معيقيب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تمسح وأنت تصلي، فإن كنت لا بدَّ فاعلاً فواحدة، تسويةَ الحصا» رواه أبو داود. ورواه أحمد والترمذي وابن خُزَيمة وابن حِبَّان ومسلم بلفظ «إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل يسوِّي التراب حيث يسجد قال: إن كنت فاعلاً فواحدة» . وفي رواية أخرى لمسلم «ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسح في المسجد، يعني الحصى، قال: إن كنت لا بدَّ فاعلاً فواحدة» . فالمسح مرَّةً واحدة جائز لا شئ فيه. 8) التبسُّم: ومن ذلك التبسُّم، دون أن يصل إلى حدِّ القهقهة أو القرقرة، فعن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «التبسُّمُ لا يقطع الصلاة ولكنْ القَرقَرة» رواه البيهقي وابن أبي شيبة. ورواه الطبراني بلفظ «لا يقطع الصلاة الكَشَرُ، ولكنْ تقطعها القهقهة» والقرقرة: هي الضحك العالي. والكشر هو إبداء الأسنان بالتبسم. 9) البُصاق والتَّنَخُّم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 ومن ذلك البصاق والتنخُّم على أن يكون ذلك عن اليسار أو تحت القدم اليسرى فحسب، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى نُخامةً في قِبلة المسجد فحكَّها بحصاة، ثم نهى أن يبزق الرجل عن يمينه أو أمامه، ولكن يبزق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى» رواه مسلم وابن حِبَّان وابن خُزَيمة والبخاري. 10) إصلاح الثوب : ومن ذلك إصلاحُ الثوب بحركات قليلة، فعن وائل بن حُجْرٍ رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل في الصلاة رفع يديه، ثم كبَّر ثم التحف، ثم أدخل يديه في ثوبه، ثم أخذ شماله بيمينه، ثم ذكر الحديث» رواه ابن خُزَيمة. ورواه مسلم ولفظه « ... فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب ... » . 11) حملُ المصحف: ومن ذلك حمل المصحف والقراءة فيه، فقد روى ابن أبي مُلَيكة عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنها كان يؤُمُّها غلامُها ذكوان في المصحف في رمضان» رواه البيهقي وابن أبي شيبة. وذكره البخاري تعليقاً. وروى ابن التيمي عن أبيه «أن عائشة كانت تقرأ في المصحف وهي تصلي» رواه عبد الرزاق. وفي هذا الحديث والذي قبله وإِنْ كان فعلَ صحابي، وفعلُ الصحابي ليس دليلاً، إلا أنه مما يصح تقليده واتِّباعُه والعملُ به كحكمٍ شرعي، ناهيك عن أن عائشة مشهود لها بالفقه، إضافة إلى أنها كانت تفعل هذا في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويبعد جداً أن لا يطَّلع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقرَّها عليه. 12) الفصل بين المتخاصمين : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 ومن ذلك الفصل بين المتخاصمين، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال «لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس، فجاءت جاريتان من بني عبد المطلب اقتتلتا، فأخذهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزع إحداهما من الأخرى ... » رواه ابن خُزَيمة وأبو داود وابن حِبَّان. وفي رواية أخرى لابن خُزَيمة من طريق ابن عباس أيضاً « ... وجاءت جاريتان من بني عبد المطلب، فأخذتا بركبتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففرع - أو فرَّق - بينهما ولم ينصرف» . ورواه النَّسائي. قوله ولم ينصرف: أي لم يقطع صلاته وإنما أتمها. هذه الأعمال الاثنتا عشرة وأمثالها لا تتنافى مع الخشوع ولا تُفسد الصلاة. وينبغي أن يعلم الجميع أن الخشوع لا يعني الجمود، وإنما يعني الاستكانة والتحرك فيما يلزم بقدر ما يلزم، دون عبثٍ أو إكثارٍ يغلب على الصلاة، وبحيث يبقى المصلي في خضوعٍ لأمر ربِّه، فمن التزم بذلك فلْيفعل بعد ذلك أي فعل يحتاجُ إليه، ولْيتحرك أية حركة لازمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 وهذه الاستكانة - وإن شئت قلت السكينة - مطلوبةٌ من المسلم في الصلاة، وفي أثناء المشي إلى المسجد للصلاة، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا ثُوِّب للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعَوْن، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فأتمُّوا، فإنَّ أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة» رواه مسلم. ورواه البخاري وأبو داود وابن ماجة بلفظ «إذا أُقيمت الصلاة ... » دون قوله «فإنَّ أحدَكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة» . ولكن الزيادة في الحديث إن كانت مروية من طريق صحيحة فإنها تُقبل. وجاء في رواية أخرى لمسلم من طريق أبي هريرة رضي الله عنه «إذا ثُوِّب بالصلاة فلا يَسْعَ إليها أحدُكم، ولكن ليمشِ وعليه السكينة والوقار، صلِّ ما أدركتَ واقضِ ما سبقك» . فالمشي لا يتنافى مع السكينة مع أنه حركة كثيرة متواصلة، بينما السَّعي - وهو الاستعجال في المشي، ومثله الركض وما يصاحبه من حركات إضافية - يتنافى مع السكينة، فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال «بينما نحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ سمع جلبة رجال، فلمَّا صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلُّوا وما فاتكم فأتمُّوا» رواه البخاري ومسلم. فعندما استعجل الناس أحدثوا جَلَبة، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وأمرهم بالسكينة، رغم أنهم لم يكونوا قد دخلوا في الصلاة بعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 فالمشي إلى الصلاة يكون بخشوع وسكينة، وعدم ركض واستعجال، وما يتبع ذلك من جلبة وحركات إضافية، وكأنه في صلاة، فقد روى كعب بن عُجْرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا توضأ أحدُكم فأحسن وضوءَه، ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكنَّ بين أصابعه، فإنه في صلاة» رواه الترمذي. ورواه ابن حِبَّان وفيه «فلا يشبكنَّ يده» . ورواه أبو داود وفيه «فلا يشبكنَّ يديه» . فإذا كان المشي لا يتناقض مع السكينة فإن الحركات القليلة في الصلاة لا تتناقض مع السكينة هي الأُخرى، وإنما يتناقض معها العبث واللهو والحركات الصاخبة والأعمال غير اللازمة. فالخشوع واجب في الصلاة، ومع وجوبه والالتزام به فإن المصلي يستطيع الإتيان بأعمال قليلة بتأنٍّ وهدوء، وبقدر الحاجة فحسب ولا إثم في ذلك. وهذا كلُّه متعلق بالخشوع في الجوارح. أما الخشوع في القلب فإن انشغال الذهن في الصلاة بأمر من الأمور، وطروءَ أفكارٍ على ذهنه لا يتنافى مع خشوع القلب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله عزَّ وجلَّ تجاوز لأمتي عما حدَّثت به أنفُسَها، ما لم تعمل أو تتكلم به» رواه مسلم. ورواه ابن خُزَيمة بلفظ « ... ما لا ينطق به ولا يعمل به» . وعن عقبة رضي الله عنه قال «صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة العصر فسلم، ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حُجَر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم عجبوا من سُرعته فقال: ذكرتُ شيئاً من تِبْرٍ عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسْمتِه» رواه البخاري وأحمد والنَّسائي. قوله من تِبْر: أي من ذهب لم يُصهر بعد. والأمر من الوضوح والبيان بحيث لا يحتاج إلى مزيد أدلة. الأفعالُ والحالات المنهيُّ عنها في الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 هناك أفعال وردت في النصوص، نهى عنها الشرع في الصلاة، منها ما كان النهي عنها نهياً غير جازم، وهي الأفعال المكروهة في الصلاة، ومنها ما كان النهي عنها نهياً جازماً، وهي الأفعال المحرَّمة في الصلاة، كما أنَّ هناك حالاتٍ وردت في النصوص، نهى الشرع فيها عن أداء الصلاة نهياً غير جازم، وهي الحالات التي تُكره فيها الصلاةُ. فأذكر الأفعال المكروهة أولاً، ثم أذكر الحالات التي تُكره فيها الصلاةُ، ثم أذكر الأفعال المحرَّمة، بشئ من التفصيل. أ. الأفعال المكروهة في الصلاة مرَّ معنا في أبحاثنا الماضية عدد من الأفعال المكروهة، ونحن نشير إليها هنا دون إعادة بحث، ثم نتحدث عن الأفعال المكروهة المتبقية قاصدين جمع جميع الأفعال المكروهة في موضع واحدٍ تيسيراً لدراستها والإحاطة بها. أما الأفعال المكروهة التي سبق بحثها فهي: 1- التَّخصُّر: أي وضع اليدين على الخاصرتين. انظر بحث [وضع اليدين في الصلاة] فصل [صفة الصلاة] . 2- اشتمال الصَّمَّاء: أي أن يجلِّل المصلي بدنَه بثوب بحيث لا يرفع منه جانباً، ولا يُبقي منه ما يُخرج يديه منه. انظر بحث [الثوب في الصلاة] فصل [أحوال المُصلي] . 3- التَّلثُّم: أي تغطية الفم بثوبٍ وشبهِه. انظر بحث [الثوب في الصلاة] فصل [أحوال المصلي] . 4- الاعتماد على اليدين: أُنظر بحث [التشهُّد وهيئة الجلوس له] فصل [صفة الصلاة] . 5 - كفُّ الثوب: أي لملمته وجمع أطرافه باليدين للحيلولة دون سقوطه على الأرض عند السجود. انظر بحث [الثوب في الصلاة] فصل [أحوال المصلي] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 6- كفُّ الشَّعَر الطويل: أي جعله ضفائر وعقصه وربطه، للحيلولة دون سقوطه على الأرض عند السجود. انظر بحث [الثوب في الصلاة] فصل [أحوال المصلي] . وأُضيف إلى ما سبق إيراده من أدلة ما رواه أبو سعيد المقبري «أنه رأى أبا رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بحسن بن علي، وحسن يصلي قد غرز ضَفْريه في قفاه، فحلَّهُما أبو رافع، فالتفت حسن إليه مُغْضَباً، فقال أبو رافع: أَقْبِل على صلاتك ولا تغضب، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ذاك كِفْلُ الشيطان، يقول مقعد الشيطان - يعني مغرز ضَفْريه» رواه ابن خُزَيمة وأبو داود والترمذي وابن حِبَّان. قوله ضَفريه: أي عقيصتيه، والضَّفْر والعقيصة هما الشَّعر المنسوج أو المجدول. وما رواه كُرَيب مولى ابن عباس «أن عبد الله بن عباس رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسُه معقوصٌ مِن ورائه، فقام وراءه فجعل يحله، وأقرَّ له الآخَر، فلمَّا انصرف أقبل إلى ابن عباس فقال: ما لك ولرأسي؟ قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف» رواه أبو داود ومسلم وأحمد والنَّسائي وابن حِبَّان. ونعرض الآن للأفعال المكروهة المتبقية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 7- التشبيك بين الأصابع: يُكره للمصلي أن يشبِّكَ بين أصابعه في الصلاة من حين خروجه من بيته إلى أن يفرغ من صلاته، فيُكره له أن يشبِّك بين أصابعه وهو ذاهب إلى المسجد، وكذلك وهو ماكثٌ فيه، سواء كان يصلي أو ينتظر الصلاة، وطبعاً وهو يصلي كذلك، ففي هذه الأحوال الثلاث يكره التشبيك بين الأصابع، فعن أبي أُمامة الخياط «أن كعب بن عُجْرَة أدركه وهو يريد المسجد قال: فوجدني وأنا مشبِّك يديَّ إحداهما بالأخرى، قال: ففتق يديَّ ونهاني عن ذلك وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم فأحْسَنَ وضوءَه، ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبِّكنَّ يده فإنه في صلاة» رواه ابن حِبَّان. وروى أحمد وابن خُزَيمة الجزء الأخير منه، إلا أنهما ذكرا اسم أبي ثمامة. وعن أبي هريرة أنه قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - «إذا توضأ أحدكم في بيته، ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع فلا يقل هكذا، وشبَّك بين أصابعه» رواه الحاكم وابن خُزَيمة. وقد مرَّ في بحث [أدب المسجد] فصل [المساجد وأماكن الصلاة] فهذان دليلان على كراهية التشبيك في أثناء الذهاب إلى المسجد. وعن كعب بن عُجْرَة رضي الله عنه قال «دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شبَّكت بين أصابعي فقال لي: يا كعب إذا كنت في المسجد فلا تُشبِّك بين أصابعك، فأنت في صلاةٍ ما انتظرتَ الصلاة» رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا كان أحدكم في المسجد فلا يُشَبِّكنَّ، فإن التَّشبيك من الشيطان، وإنَّ أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه» رواه أحمد. وقد مرَّ هذا الحديث والذي قبله في بحث [أدب المسجد] فصل [المساجد وأماكن الصلاة] . فهذان دليلان على كراهية التشبيك في أثناء المُكث في المسجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 وروى ابن ماجة من طريق كعب بن عُجْرة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً قد شبَّك أصابعه في الصلاة، ففرَّج بين أصابعه» . فهذا دليلٌ على كراهية التشبيك في أثناء الصلاة، إضافةً إلى ما ورد في النصوص السابقة التي تقول إن مَن «أتى المسجد كان في صلاة» ، «إنَّ أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد» ، «إذا كنت في المسجد فلا تشبِّك بين أصابعك، فأنت في صلاة ما انتظرت الصلاة» . 8- مسح موضع السجود أكثرَ من مرة: وذلك أن المسلم إذا صلى في مكان فيه تراب خشنٌ أو حصى أو ما يشبه ذلك وأراد السجود، أُبيح له أن يمسح بيده موضع جبهته مرة واحدة فحسب، وكُره له أن يزيد عن واحدة، فعن مُعيقيب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تمسح وأنت تصلي، فإن كنت فاعلاً فواحدة، تسويةَ الحصا» رواه أبو داود. ورواه أحمد والترمذي وابن خُزَيمة وابن حِبَّان. ورواه مسلم بلفظ «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل يُسوِّي التراب حيث يسجد قال: إن كنت فاعلاً فواحدة» . ولمسلم رواية أخرى بلفظ «ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسح في المسجد - يعني الحصى - قال: إن كنت فاعلاً فواحدة» . وقد مرَّت هذه الروايات كلها في بحث [العمل القليل] المار قبل قليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 9- النظر إلى ما يُلهي المصلي عن صلاته: وذلك أن المسلم مأمور بحضور الذهن والانشغال بصلاته عما سواها لقوله عليه الصلاة والسلام « ... إن في الصلاة لشُغلاً» . هذا طرف من حديث رواه مسلم وأبو داود وابن أبي شيبة وأحمد مرَّ بتمامه في بحث [القنوت في الصلاة] . ولما روى عُقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «ما مِن أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يُقْبِل بقلبه ووجهه عليهما إلا وجبت له الجنة» رواه أبو داود. فإذا نظر المصلي إلى شئ أو أمرٍ من الأمور فأشغله نظره عن صلاته، صار النظر مكروهاً، فعن عائشة رضي الله عنها قالت «قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في خميصة ذات أعلام، فنظر إلى علمها، فلما قضى صلاته قال: اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جَهم بن حذيفة، وأْتوني بأَنْبِجانِيَّةٍ، فإنها ألهتني آنفاً في صلاتي» رواه مسلم. وقد مرَّ في بحث [المواضع التي تُكره فيها الصلاة] فصل [المساجد وأماكن الصلاة] وفي أيامنا المعاصرة يُكره للمصلي النظر إلى شاشة التلفاز، كما يكره له الاستماع إلى صوت الإذاعات، لأن النظر إلى التلفاز والاستماع إلى الإذاعات يشغلان الذهن إشغالاً كبيراً. ب. الحالات التي تُكره فيها الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 1- الصلاة بحضرة الطعام مكروهة: إذا أراد المسلم الصلاةَ أيةَ صلاةٍ، ووُضع له طعامُه بدأ بتناول الطعام وأَخذ حاجته منه بأناة، ثم قام لصلاته بعدئذٍ وليس العكس، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا وُضع العَشاء وأُقيمت الصلاةُ فابدأوا بالعَشاء» رواه البخاري ومسلم وابن خُزَيمة. ورواه أحمد من طريق عائشة رضي الله عنها. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا وُضع عَشاءُ أحدكم وأُقيمت الصلاة فابدأوا بالعَشاء، ولا يَعْجَل حتى يفرغ منه» رواه البخاري ومسلم. ورواه ابن خُزَيمة بلفظ «إذا كان أحدكم على طعام فلا يَعْجَلَنَّ حتى يقضي حاجته منه، وإنْ أُقيمت الصلاة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 2- الصلاة عند مدافعة الأخبثين مكروهة: والأخبثان هنا هما البول والغائط. ويقال لمن يدافع البول حاقناً، ولمن يدافع الغائط أو البراز حاقباً. فالمسلم يندب له أن يقضي حاجته في المرحاض أولاً، ثم يعمد إلى صلاته، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافِعُهُ الأخبثان» رواه مسلم وأحمد وابن خُزَيمة. وعن عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إذا حضرت الصلاة وحضر الغائط فابدأوا بالغائط» رواه ابن خُزَيمة وابن ماجة. ورواه أحمد بلفظ «إذا أراد أحدكم أن يذهب إلى الخلاء وأُقيمت الصلاة فلْيذهب إلى الخلاء» . وروى ثوبان رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لا يقوم أحد من المسلمين وهو حاقن حتى يتخفف» رواه ابن ماجة. وروى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يقوم أحدكم إلى الصلاة وبه أذى» . قوله في حديث عائشة «لا صلاة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان» لا يعني نفي الصلاة أو نفي صحتها بل يعني لا تُصلوا، لأنَّ (لا) هنا ناهية وليست نافية، بدلالة الأحاديث الأخرى الواردة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 3- الصلاة عند إجهاد البدن من أعمال شاقَّة وعند الفتور والنعاس مكروهة: يُندب للمسلم أن يصلي وبه نشاط وحيوية، وذلك حتى يستطيع الإتيان بالصلاة على وجه أكمل وأفضل، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلْيرقدْ حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسبُّ نفسه» رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك والترمذي. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا حبلٌ ممدودٌ بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبلٌ لزينب، فإذا فترت تعلَّقت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا، حلُّوه، ليُصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فلْيقعد» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. ج. الأفعال المُحرَّمة في الصلاة مرَّ معنا في أبحاثنا السابقة عدد من الأفعال المحرَّمة في الصلاة، فنحن نُشير إليها هنا دونما حاجة لإعادة بحثها، ثم نبحث الأفعال المحرَّمة المتبقية قاصدين جمع جميع الأفعال المحرَّمة في مكان واحد، وهذه هي الأفعال المحرَّمة التي سبق بحثها: 1- الالتفاتُ في الصلاة: ونعني به لَيَّ العنق والنظر إلى الخلف بحيث يتجاوز نظر المصلي جهةَ القِبلة، انظر بحث [النظر في الصلاة] فصل [صفة الصلاة] . 2- رفع البصر إلى السماء: أُنظر بحث [النظر في الصلاة] [صفة الصلاة] وانظر بحث [الخشوع في الصلاة] فصل [القنوت والخشوع في الصلاة] . 3- العملُ الكثير والعَبَثُ في الصلاة: ونعني بالعمل الكثير ما لا يمكن تصنيفه تحت العمل القليل، وهو الذي يغلب على الصلاة فيسلبها هيئتَها، ويمحو الخشوع منها. ونعني بالعبث الحركات والأعمال التي لا حاجة للمصلي بها، وإنما يقوم بها تسليةً واستهتاراً بسكينة الصلاة ووقارها، وانظر بحث [العمل القليل] بند [الفصل بين المتخاصمين] المار قبل قليل. ونبحث الآن الأفعال المحرَّمة المتبقية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 4- القهقهة أو القرقرة: وهي الضحك بصوت مسموع، هذا الفعل محرَّم في الصلاة ويتنافى مع الخشوع، مثله مثل العمل الكثير والعبث، فهذه الأفعال الثلاثة حرام. وقد رُوي عن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «التبسُّمُ لا يقطع الصلاة ولكن القرقرة» رواه البيهقي وابن أبي شيبة. ورواه الطبراني بلفظ «لا يقطع الصلاة الكَشَرُ ولكن تقطعها القهقهة» . قوله الكَشَر: أي إبداء الأسنان بالتبسُّم. وهذا الحديث رواه عبد الرزاق موقوفاً على جابر، ورجَّح البيهقي وقفه على جابر أيضاً، إلا أن الطبراني قال عند روايته للحديث (لم يروه مرفوعاً عن سفيان إلا ثابت) وإذن فقد أثبت لهذا الحديث رواية مرفوعة فيقبل. وقد مرَّ الحديث في بحث [العمل القليل] بند [التبسم] المار قبل قليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 5- البُصاق والتنخُّم تجاه القِبلة أو عن اليمين: فمن بصق أمامه في الصلاة تجاه قِبلته، أو تنخَّم فلفظ نُخامته تجاه قِبلته، أو فعل ذلك عن يمينه فقد ارتكب خطيئة وفعلَ فِعلاً محرَّماً، ولكن إن بصق أو تنخَّم جهة اليسار أو تحت القدم اليسرى ففعله مباح لا شئ فيه، فقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى بُصاقاً في جدار القِبلة فحكَّه، ثم أقبل على الناس فقال: إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قِبَل وجهه، فإنَّ الله قِبَل وجهه إذا صلى» رواه البخاري ومسلم ومالك. ورواه الدارمي ولفظه «بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، إذ رأى نُخامة في قِبلة المسجد، فتغيَّظ على أهل المسجد، وقال: إن الله قِبَلَ أحدِكم إذا كان في صلاته، فلا يبزقنَّ، أو قال لا يتنخَّمَنَّ، ثم أمر بها فحك مكانها، أو أمر بها فلُطخت بزعفران» . وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن المؤمن إذا كان في الصلاة فإنما يناجي ربه، فلا يبزقَّن بين يديه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه» رواه البخاري ومسلم. ورواه أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان أحدكم في الصلاة، فإنه مُناجٍ ربَّه، فلا يتفلنَّ أحدٌ منكم عن يمينه، قال ابن جعفر: فلا يتفل أمامه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدميه» . وروى أبو سهلة السائب بن خلاَّد رضي الله عنه «أن رجلاً أمَّ قوماً فبسق في القِبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغ: لا يصلِّ لكم، فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم فمنعوه، وأخبروه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: نعم، وحسبت أنه قال: آذيتَ الله عزَّ وجلَّ» رواه أحمد. ورواه أبو داود وفيه «إنك آذيت الله ورسوله» . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب العراجين، ولا يزال في يده منها، فدخل المسجد فرأى نُخامةً في قِبلة المسجد فحكها، ثم أقبل على الناس مُغْضَباً فقال: أيُسَرُّ أحدُكم أن يُبصَق في وجهه؟ إن أحدكم إذا استقبل القِبلة فإنما يستقبل ربه جلَّ وعزّ، والملك عن يمينه، فلا يتفل عن يمينه ولا في قِبلته، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فإن عجل به أمرٌ فليقل هكذا، ووصف لنا ابن عجلان ذلك: أن يتفل في ثوبه، ثم يرد بعضه على بعض» رواه أبو داود وابن حِبَّان. قوله العراجين: أي أعواد النخيل. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يُبعَثُ صاحبُ النخامة في القِبلة يوم القيامة وهي في وجهه» رواه ابن خُزَيمة. وروى أيضاً من طريق حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من تفل تجاه القِبلة جاء يوم القيامة وتفلُه بين عينيه» . الحديث الأول فيه «لا يبصق قِبَل وجهه، فإن الله قِبَل وجهه» والحديث الثاني فيه «إن المؤمن إذا كان في الصلاة فإنما يناجي ربه، فلا يبزقنَّ بين يديه، ولا عن يمينه» والحديث الثالث فيه «فإنه مُناجٍ ربَّه فلا يتفلنَّ أحدٌ منكم عن يمينه ... فلا يتفل أمامه ولا عن يمينه» والحديث الرابع فيه «فبسق في القِبلة ... قال آذيتَ الله عزَّ وجلَّ ... إنك آذيت الله ورسوله» والحديث الخامس فيه «أقبل على الناس مُغْضَباً فقال: أيُسَرُّ أحدكم أن يُبْصَقَ في وجهه؟ إن أحدكم إذا استقبل القِبلة فإنما يستقبل ربه جلَّ وعزَّ، والملك عن يمينه» والحديث السادس فيه «يُبعَثُ صاحبُ النخامة في القِبلة يوم القيامة وهي في وجهه» والحديث السابع فيه «من تفل تجاه القِبلة جاء يوم القيامة وتفلُه بين عينيه» فهل هناك محرَّم في الصلاة ورد فيه تغليظٌ في النهي وجزمٌ فيه أكثر مما ورد في البصاق والنخامة تجاه القِبلة وعن اليمين؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 وهذا كله لمن لا يحمل منديلاً أو أوراقاً صحيَّةً، أما من يحمل منديلاً أو أوراقاً صحية، فإنَّه يبصق أو يتنخم فيها وهو في صلاته، دونما حاجةٍ إلى لَيِّ عنقه عن اليمين أو الأمام. هذه هي الأفعال المحرَّمة في الصلاة التي وردت في الأحاديث النبوية الشريفة قصرنا بحثنا عليها، ولم نتطرق إلى أفعالٍ رآها الفقهاء مكروهةً أو محرَّمةً دون أن يُورِدوا عليها نصوصاً شرعيَّة معتبرةً مثل: تحريم الأكل والشرب، وكراهة الصلاة في المحراب، وكراهة تغميض العينين، إلخ ... الفصل الثامن ما يُفعل ويُقال عقب الصلاة أولاًـ ما يُفعَل عَقِبَ الصلاةُ أ. الجلوسُ فترةً عَقِبَ الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 يُندب للمصلي إذا خرج من صلاته بالتسليم أن يلبث فترة في مُصلاه لما في هذا اللبث من ثواب، ولا ينقطع ثوابه إلا أن يقوم من مقامه أو ينتقض وضوؤه، وذلك لما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إذا صلى أحدكم، ثم جلس مجلسه الذي صلى فيه لم تَزَل الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، ما لم يُحْدِث» رواه ابن خُزَيمة والبخاري. وفي رواية أخرى لابن خُزَيمة «ما لم يُحْدِث أو يقوم» . ولما روى أبو عبد الرحمن واسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة السلمي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إن العبد إذا جلس في مصلاه بعد الصلاة صلَّت عليه الملائكة، وصلاتهم عليه: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، وإن جلس ينتظر الصلاة صلت عليه الملائكة، وصلاتهم عليه: اللهم اغفر له اللهم ارحمه» رواه أحمد. وكفى باستجلاب دعوات ملائكة الله سبحانه بالمغفرة والرحمة فضلاً وخيراً، فلْيُكْثِر المسلم من هذه الدعوات بالإكثار من المكث. ويزداد المكث استحباباً إن كان عقب صلاة الفجر. والمدة المثلى للمكث أن يلبث المصلي في مصلاه إلى أن تطلع الشمس وترتفع قليلاً، فقد سُئل جابر بن سمرة «كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع إذا صلى الصبح؟ قال: كان يقعد في مصلاه إذا صلى الصبح حتى تطلع الشمس» رواه ابن خُزَيمة. ورواه مسلم ولفظه «كان لا يقوم من مُصلاَّهُ الذي صلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام» . وفي رواية أخرى لمسلم من طريق جابر بن سمرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حَسَناً» . قوله حَسَناً: أي طلوعاً حَسَناً، أي تطلع وترتفع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 فلْيُطِل المسلم المكث ما استطاع، إلا أنْ تدعوه حاجةٌ للانصراف، أو كان إماماً للجماعة فينصرف دون طول مكث لا سيما إنْ كان إمامُ الجماعةِ خليفةً المسلمين أو والياً جرت العادة أن لا ينصرف الناس قبل انصرافه، فيعجِّل في الانصراف حتى لا يشق على الناس. وقد كان المسلمون في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينصرفون قبل أن يروه ينصرف احتراماً وتوقيراً، ومثله الخلفاء الراشدون، لهذا كان عليه الصلاة والسلام ربما عجَّل الانصراف لأجل ذلك، وكذلك كان يفعل خلفاؤه، فقد روت أم سلمة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سلَّم يمكث في مكانه يسيراً» رواه البخاري وأحمد. وعن أنس رضي الله عنه قال «صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان ساعةَ يُسلِّم يقوم، ثم صليت وراء أبي بكر فكان إذا سلم وثب، فكأنما يقوم عن رضفة» رواه عبد الرزاق. قوله يقوم عن رضفة: أي يقوم مسرعاً كأَنَّه كان جالساً على شئ محمَّى بالنار. ويمكن للإمام في هذه الحالة أن ينصرف من مكانه من أجل أن ينصرف الناس، ثم يعود إلى الجلوس ثانية. ويُندبُ للمُصلي أن لا يغادر مُصلاهُ قبل أن يمكث فترة تكفيه ليقول فيها (استغفر الله) ثلاثاً، و (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام) لما روى ثوبان رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام ... » رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة. ورواه احمد وابن خُزَيمة والنَّسائي بلفظ «يا ذا الجلال والإكرام» . بزيادة [يا] . وكذا رواه الترمذي، إلا أنه أسقط [اللهم] من أوله. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقعد بعد التسليم إلا قدر ما يقول: اللهم أنت السلام ... » رواه ابن حِبَّان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 وكما يُشرع للإمام أن يمكث في مكانه عقب الصلاة استجلاباً لأدعية الملائكة بالرحمة والمغفرة ويمكث معه المصلون، يُشرع له ولهم المكوث لسببٍ ثانٍ هو تمكين النساء من مغادرة المصلى قبل انصراف الرجال حفظاً لهن وصوْناً، فعن أم سلمة رضي الله عنها «أن النساء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلَّم من الصلاة المكتوبة قُمْنَ، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وثبت من صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام الرجال» رواه أحمد والنَّسائي وابن خُزيمة وابن حِبَّان والشافعي. ووقع عند البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه، ومكث يسيراً قبل أن يقوم - قال ابن شهاب - فأُرى والله أعلم أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن مَن انصرف من القوم» . ووقع عند أحمد وأبي داود من طريق أم سلمة رضي الله عنها «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلَّم مكث قليلاً، وكانوا يرون أن ذلك كيما ينفذ النساء قبل الرجال» . وهذا وذاك مما يتعلق بثواب المكث. أما ثواب الذكر عقب الصلاة فإن الإمام المتعجل لا يُحْرَم بقيامه الفوري منه، إذ يمكنه تحصيل ذلك في مكان ثانٍ يتحول إليه، أو وهو عائد من صلاته إلى بيته أو إلى مكان حاجته، فإنَّ ذِكْرَ الله يُندب في كل حال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 وإذا جلس الأمام عقب الصلاة - طال جلوسُه أو قَصُر - استُحِبَّ له أن يستقبل بوجهه الناسَ وأهلَ ميمنته خاصةً، فينحرف بوجهه نحوهم، فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى أقبل علينا بوجهه» رواه البخاري. وعن البراء رضي الله عنه قال «كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه يُقْبِل علينا بوجهه، قال فسمعته يقول: رب قِني عذابك يوم تبعث أو تجمع عبادك» رواه مسلم. ورواه أبو داود بدون ذكر الدعاء في آخره. وعن يزيد بن الأسود رضي الله عنه قال «صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا انصرف انحرف» رواه أبو داود. ورواه النَّسائي بلفظ «أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح، فلما صلى انحرف» . قوله انصرف: أي خرج من الصلاة. وقوله انحرف: أي غيَّر اتجاهه الذي كان عليه في أثناء الصلاة ليصبح في مواجهة الناس. ب. الانصرافُ عن اليمين والشمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 من قضى صلاته وجلس الفترة التي أراد للذكر والدعاء، ثم نهض للانصراف فإنه بالخيار بين أن ينفتل يمنةً وبين أن ينفتل يسرةً، ولذلك فإن المسلم ينفتل إلى جهة حاجته لا يتقيد بجهة دون جهة، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب قائماً وقاعداً، ويصلي حافياً ومنتعلاً وينصرف عن يمينه وعن شماله» رواه النَّسائي والطبراني. وروى هُلْب رضي الله عنه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤُمُّنا، فينصرف على جانبيه جميعاً، على يمينه وعلى شماله» رواه الترمذي. ورواه أبو داود وابن حِبَّان بلفظ «وكان ينصرف عن شقَّيه» . قال الترمذي (يُروى عن علي بن أبي طالب أنه قال: إن كانت حاجته عن يمينه أخذ عن يمينه، وإن كانت حاجته عن يساره أخذ عن يساره) . وروى أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «لا يجعل أحدكم نصيباً للشيطان من صلاته أن لا ينصرف إلا عن يمينه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثرَ ما ينصرف عن شماله، قال عمارة: أتيت المدينة بعدُ، فرأيت منازل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يساره» . ورواه مسلم بلفظ «لا يجعلنَّ أحدُكم للشيطان من نفسه جزءاً، لا يرى إلا أنَّ حقَّاً عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، أكثر ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن شماله» . وأنا لا أظن أن عبارة «أكثر ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن شماله» قُصد منها الإحصاء وتغليبُ الانصراف عن الشمال على الانصراف عن اليمين، بقدر ما قُصد منها بيان أن الانصراف لم يكن تُلتَزَمُ فيه جهة اليمين، على ما يقول بذلك عدد من الناس، استدلالاً بقول أنس رضي الله عنه « ... أكثر ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن يمينه» رواه مسلم وابن حِبَّان والنَّسائي. فقد جاءت رواية البخاري - وهو القمة بين المحدِّثين في الالتزام بألفاظ الحديث - هكذا «لا يجعلَنَّ أحدُكم للشيطان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 شيئاً من صلاته، يرى أن حقاً عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -كثيراً ينصرف عن يساره» . فقد جاء القول هكذا «كثيراً ينصرف عن يساره» وهذا اللفظ أدقُّ من اللفظ الوارد في رواية مسلم وابن حِبَّان والنَّسائي «أكثر ما رأيت ... ينصرف عن شماله» ويمكن التوفيق بين رواية «أكثر ما رأيت ينصرف عن شماله» وبين رواية «أكثر ما رأيت ينصرف عن يمينه» - وإن كان التوفيق بين هاتين الروايتين ليس مهماً - بالقول إن راوي الرواية الأولى ذكر ما شاهده، وإن ذلك كان يحصل في صلواته عليه الصلاة والسلام في مسجده بالمدينة حيث كانت حُجُرات زوجاته واقعة إلى يسار المسجد، فكان ينصرف إلى جهة الشمال، فنقل ابن مسعود مشاهداته لذلك الانصراف، وجاءت الرواية في صحيح ابن حِبَّان واضحة جداً «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامَّة ما ينصرف عن يساره إلى الحُجُرات» . وأما راوي الرواية الثانية فذكر ما شاهده، وأنه رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُكثر من الانصراف عن اليمين، ولا يبعد عندي أن ذلك كان يحصل منه عندما لم يكن يصلي في مسجده بالمدينة، أو لم يكن يريد الانصراف إلى حجراته عقب صلواته، فكان ينصرف عن اليمين، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب التيامن في سائر أموره. وعلى أية حال فإن هذا الأمر موسَّع. ج. الفصلُ بين الصلاة المكتوبة وصلاة التَّطوُّع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 يُندب للمصلي إذا فرغ من صلاته المكتوبة وأراد الإتيان بسُنَن الصلاة في الظهر والمغرب والعشاء، أو التَّنفُّل بما شاء من نوافل أن لا يصلي هذه الصلوات المندوبة في مصلاه الذي أدى فيه الصلاة المكتوبة، بل يتقدَّم قليلاً أو يتأخَّر قليلاً، أو يبتعد يمنة أو يبتعد يَسرة، لما رُوي عن عبد الرحمن بن سابط أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا صلى أحدكم المكتوبة، فأراد أن يتطوع بشئ فلْيتقدَّم قليلاً أو يتأخر قليلاً، أو عن يمينه أو عن يساره» رواه عبد الرزاق. وإذا أراد أن يؤدِّي هذه الصلوات في مصلاه الذي صلى فيه صلاته المكتوبة فلْيخرج من مصلاه، ثم بعد خروجه منه يعود إليه، أو يتكلم مع غيره قبل أن يستأنف الصلاة، يفصل بذلك بين الصلاة المكتوبة وصلاة التطوع، فعن السائب بن يزيد قال «صليت مع معاوية الجمعة في المقصورة، فلما سلَّم قمت في مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إليَّ فقال: لا تَعُدْ لِما فعلتَ، إذا صليت الجمعة فلا تَصِلْها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج، فإنَّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك، لا تُوصَل صلاةٌ بصلاةٍ حتى تخرج أو تتكلم» رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن خُزَيمة. ثانياً ــ ما يُقالُ عَقِبَ الصلاة من أذكار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 للذِّكْر عدة معانٍ، فقد يطلق على القرآن الكريم كما في قوله عزَّ وجلَّ {ذَلِكَ نَتْلُوْهُ عَلَيْكَ مِن الآيَاتِ والذِّكْرِ الحَكِيْمِ} الآية 58 من سورة آل عمران. وكما في قوله سبحانه وتعالى {إنا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُوْنَ} الآية 9 من سورة الحِجْر. وقد يُطلق على كتب الأنبياء السابقين كقوله تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا في الزَّبُوْرِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُوْنَ} الآية 105 من سورة الأنبياء. والذكر هنا يعني التوراة. وكقوله عزَّ وجلَّ {ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلا رِجَالاً نُوْحِيْ إلَيْهِمْ فَاسْأَلُوْا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُوْنَ} الآية 43 من سورة النحل. وقد يطلق على معنى الشرف والرفعة كما في قوله سبحانه {وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وسَوْفَ تُسْأَلُوْنَ} الآية 44 من سورة الزخرف. وقد يطلق ويراد منه الصلاة كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوْا إذَا نُوْدِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللهِ وذَرُوْا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ} الآية 9 من سورة الجمعة. وقد يطلق ويُراد منه الدين كما في قوله عزَّ وجلَّ {ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيْشَةً ضَنْكَاً ... } الآية 124 من سورة طه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 أما أصلُ الذِّكر فمعناه الاستحضار، فذِكرُ الشئ استحضارُه، ويكون الاستحضار في الذهن، ويكون بالجريان على اللسان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يقول الله عزَّ وجلَّ: أنا عند ظنِّ عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ هم خيرٌ منهم ... » رواه مسلم وأحمد. وهذا المعنى للذكر هو الشائع وهو الأكثر، وقد ورد في كتاب الله كثيراً، قال عزَّ وجلَّ { ... إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىْ عَن الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ ولَذِكْرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ} الآية 45 من سورة العنكبوت. وقال سبحانه { ... وإذَا قَامُوْا إلى الصَّلاةِ قَامُوْا كُسَالَى يُرَاؤُوْنَ النَّاسَ ولا يَذْكُرُوْنَ الله إلا قَلِيْلاً} الآية 142 من سورة النساء. وقال تعالى {فإذَا قَضَيْتُم الصَّلاةَ فَاذْكُرُوْا اللهَ قِيَامَاً وقُعُوْدَاً وعَلَىْ جُنُوْبِكُمْ ... } الآية 103 من سورة النساء. وكثيرٌ غيرها، وهذا المعنى الأخير للذِّكر - الاستحضار - والمعنى الأول له - القرآن الكريم - هما المقصودان من هذا البحث، وهما اللذان يُراد الإتيان بهما عقب الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 لقد حث كتاب الله على ذكر الله، وعلى الإكثار منه في الكثير من آياته، قال تعالى {فَإذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوْا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرَاً ... } الآية 200 من سورة البقرة. وقال تعالى { ... وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيْرَاً وَسَبِّحْ بِالعَشِيِّ والإبْكَارِ} الآية 41 من سورة آل عمران. وقال سبحانه {إلا الذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوْا اللهَ كَثِيْرَاً ... } الآية 227 من سورة الشعراء. وقال سبحانه {كَيْ نَسَبِّحَكَ كَثِيْرَاً. وَنَذْكُرَكَ كَثِيْرَاً} الآيتان 33 و 34 من سورة طه. وقال عزَّ وجلَّ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةُ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوْ اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيْرَاً} الآية 21 من سورة الأحزاب. وقال عزَّ وجلَّ {.. والذَّاكِرِيْنَ اللهَ كَثِيْرَاً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وأَجْرَاً عَظِيْمَاً} الآية 35 من سورة الأحزاب. وقال جلَّ جلاله {يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوْا اذْكُرُوْا اللهَ ذِكْرَاً كَثِيْرَاً} الآية 41 من سورة الأحزاب. وقال جلَّ جلاله {فَإذَا قُضِيَت الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوْا في الأَرْضِ وَابْتَغُوْا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوْا اللهَ كَثِيْرَاً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ} الآية 10 من سورة الجمعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 كما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حث على ذكر الله، ونوَّه بفضل الإكثار منه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طريق مكة، فمرَّ على جبل يُقال له جُمْدان، فقال: سيروا، هذا جُمْدان، سبق المُفَرِّدون، قالوا: وما المُفَرِّدون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات» رواه مسلم. ورواه الترمذي وفيه «قال: المستهترون في ذكر الله، يضعُ الذِّكرُ عنهم أثقالَهم، فيأتون يوم القيامة خفافاً» . ورواه أحمد وفيه «قال: الذين يهتَرون في ذِكر الله» . قوله يهترون: أي يُولَعون أو يُكثِرون جداً. وللذِّكر منزلة عالية ودرجة رفيعة، وقد مرَّ قوله سبحانه وتعالى { ... إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىْ عَن الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ... } الآية 45 من سورة العنكبوت. وقد فُسِّر بأن ذِكر الله أكبر في منع الفحشاء والمنكر من الصلاة. وعن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ألا أُنبئُكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والورِق، وخيرٌ لكم من أن تلْقَوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذِكرُ الله» رواه الترمذي وأحمد وابن ماجة والحاكم وصححه، ورواه مالك موقوفاً. والذِّكر يكون بالاستغفار، ويكون بالاستعاذة، ويكون بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، ويكون بتلاوة آيات من القرآن، ويكون بالدعاء. ونُفْرِدُ لكلٍّ بحثاً منفصلاً. أـ الاستغفار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 يُسَنُّ الاستغفار عقب الصلاة، ويُسَنُّ أن يكون ثلاث مرات، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه أن يدعو ثلاثاً، ويستغفر ثلاثاً» رواه أحمد وأبو داود. ويصح الاستغفار بأية صيغة من الصِّيغ، كأن يقول (أستغفرُ الله) يكررها ثلاثاً، أو يقول (أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيُّومَ وأتوبُ إليه) يكررها ثلاثاً، أو يقول (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتَني وأنا عبدُك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفرْ لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) يكررها ثلاثاً. وهذه الصيغة الأخيرة هي خير صيغ الاستغفار وسيِّدتها. فعن ثَوْبان رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام ... » رواه مسلم. ورواه أحمد وابن خُزَيمة والنَّسائي بلفظ «يا ذا الجلال والإكرام» بزيادة [يا] . وقد مرَّ في بحث [الجلوس فترةً عقب الصلاة] في هذا الفصل. وروى زيد مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «من قال: استغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيُّومَ وأتوب إليه، غُفِر له وإن كان فرَّ من الزحف» رواه أبو داود والترمذي ورواه الحاكم بسند صحيح من طريق ابن مسعود وزاد «ثلاثاً» . وعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقْتَني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوءُ بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» رواه البخاري وأحمد وابن ماجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 ويُندب أن يقول عقب الاستغفار (اللهم أنت السلامُ ومنك السلامُ تباركتَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ) لحديث ثوبان، ولما روت عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سلَّم من الصلاة قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» رواه أحمد ومسلم. ب ــ الاستعاذة ُ يُندب للمسلم أن يستعيذ بالله سبحانه من مجموعة من الشرور عقب الصلوات، وإنَّهُ وإنْ كان التعوُّذ بالله مندوباً في كل حين، إلا أنه عقب الصلوات آكدُ في الندب وأدعى إلى الاستجابة، فعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال «قيل: يا رسول الله أيُّ الدعاء أسمعُ؟ قال: جوفَ الليل الآخِر ودُبُرَ الصلوات المكتوبات» رواه الترمذي. وقد جاء من صيغ التعوُّذ عقب الصلوات الصيغتان التاليتان: 1- [اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر] . 2- [اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أُردَّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر] . فعن أبي بَكرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دُبُر كل صلاة: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر ... » رواه أحمد وابن خُزَيمة والترمذي والنَّسائي. وعن مصعب بن سعد وعمرو بن ميمون الأزدي قالا «كان سعدٌ يعلِّم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المكتبُ الغلمانَ يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوَّذ بهن دُبُرَ الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أُردَّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر» رواه ابن خُزَيمة وأحمد والبخاري والترمذي. قوله كما يعلم المكتبُ الغلمان: أي كما يعلم المعلم الغلمان، كما جاء التصريح بذلك في رواية أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 وقد رُويت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في الاستعاذة بالله من كثير من الشرور مما لم تُقيَّد بأَدبار الصلاة، أذكر منها: الكسل وسوء القضاء ودَرْك الشقاء، وشماتة الأعداء وجَهْد البلاء، والعجز والهرم والمأثم والمغرم، وشر ما خلق الله، وضَلْع الدَّين وغَلَبة الرجال، وشر الغنى والفقر والقلة والذِّلَّة، وزوال النعمة وتحويل العافية، وفُجاءة النِّقمة وجميع سخط الله، والشِّقاق والنفاق وسوء الأخلاق، والجوع والخيانة، وعلماً لا ينفع وقلباً لا يخشع ونفساً لا تشبع ودعاءً لا يُسمع، وشر السمع وشر البصر وشر اللسان وشر القلب وشر المنيِّ، والهدم والتردِّي والغرق والحرق، وتخبُّطَ الشيطان والموت في سبيل الله مدبراً، والموت لديغاً، والبرص والجنون والجُذام وسئ الأسقام، ومنكراتِ الأخلاق والأهواء والأعمال. ولم أُورد الأحاديث النبوية الشريفة التي ذكرت هذه الاستعاذات لأنني اكتفيت بذكر الاستعاذات الواردة في النصوص مقيدةً بأدبار الصلاة فحسب. وأُذكِّر بأنني ذكرت جملة من التعوذات في بحث [الدعاء والتعوُّذ في آخِر الصلاة] فصل [صفة الصلاة] وردت في الصلاة وليس في دُبُرها، ولله الحكمة في اختصاص بعضها بالصلاة وبعضها بأدبار الصلاة، وجاء بعضها مطلقاً. والعبادة توقيفية يؤتَى بها كما وردت. ولا يعني قولي هذا أنه لا يجوز التعوُّذ من سوى ما ورد التعوذ منه في أدبار الصلاة مما جاء مطلقاً، وإنما عنيت أن التعوذ مما ورد التعوذ منه في أَدبار الصلاة يُقدَّم ويفضَّل في أَدبار الصلاة على ما سواه. ج ــ التسبيحُ والتحميدُ والتكبيرُ والتهليلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 إن مما لا شك فيه أن كلام الله هو خير الكلام، وأن التقرب إلى الله سبحانه بالأذكار مما ليس في كتاب الله لا يعدل التقرب إليه سبحانه بكلامه. ويأتي التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل بعد كلام الله في المنزلة والفضل، فعن سَمُرَة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهي من القرآن لا يضرُّك بأيِّهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» رواه احمد ومسلم والنَّسائي وابن ماجة. وقد خلت رواية مسلم من «وهي من القرآن» . وهذه العبارة تعني أنها ثابتة في القرآن. ومما يدل على فضل هؤلاء الكلمات الأربع أيضاً ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لأنْ أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس» رواه الترمذي. وقد مرَّ في بحث [صلاة مَن لا يُحْسِن قراءة الفاتحة] فصل [صفة الصلاة] أن هؤلاء الكلمات الأربع وقول لا حول ولا قوة إلا بالله تُجْزِئ عن القرآن، بل تُجْزِئ عن قراءة الفاتحة في الصلاة لمن لا يحفظ من القرآن شيئاً، وهذه فضيلة عظيمة لهؤلاء الكلمات الخمس. وأيضاً فقد روى أبو سعيد رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتحميد والتسبيح ولا حول ولا قوة إلا بالله» رواه أحمد وأبو يعلى. فقد ضم الحوقلة إلى التكبير والتحميد والتسبيح وأسقط التهليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 ومما جاء في فضل التهليل والتحميد ما رُوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله» رواه الترمذي. ومما جاء في فضل التهليل خاصة ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «خير الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وخير ما قلتُ والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير» رواه الترمذي. ورواه مالك من طريق طلحة بن عبيد الله بن كريز، وليس فيه [له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير] . وقد حثَّت الأحاديث النبوية الشريفة على قول هؤلاء الكلمات عقب الصلوات، وتباينت في مقدار ما يقال منها، فقد ورد قولها عشراً، وورد قولها ثلاثاً وثلاثين، وورد قولها خمساً وعشرين، وورد أقل من ذلك وأكثر، والمسلم يختار ما يشاء من ذلك مما يتسع وقته له ومما يقوى عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 1- ما ورد من الأحاديث عشراً: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «خَلَّتان لا يُحصيهما رجلٌ مسلم إلا دخل الجنة، وهما يسير ومن يعمل بهما قليل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصلوات الخمس يسبِّح أحدكم في دُبُر كلِّ صلاة عشراً، ويحمد عشراً، ويكبِّر عشراً، فهي خمسون ومائة في اللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، وأنا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَعقِدُهُنَّ بيده ... » رواه النَّسائي وابن ماجة وابن حِبَّان والترمذي وأبو داود. وذكر الحديث الخَلَّة الثانية وهي التسبيح والتكبير والتحميد مائة مرة عند النوم. ومعنى قوله «فهي خمسون ومائة في اللسان وألف وخمسمائة في الميزان» : أنَّ كل واحدة من هؤلاء الكلمات الثلاث تقال عشر مرات عقب كل صلاة من الصلوات الخمس، فيكون المجموع خمسين كلمة، وحيث أنها ثلاث كلمات فيصبح مجموعها كلِّها مائة وخمسين كلمة، وفي يوم القيامة يضاعفها الله سبحانه الواحدة بعشرٍ، فتصبح ألفاً وخمسمائة. وعن عليٍّ رضي الله عنه وقد جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وفاطمة يطلبان خادماً من السَّبي يخفف عنهما بعض العمل، فأبى عليهما ذلك فذكر قصة، قال: ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما «أَلاَ أُخبركما بخيرٍ مما سألتماني؟ قالا: بلى، فقال: كلماتٌ علمنيهنَّ جبريل عليه السلام فقال: تُسبِّحان في دُبُر كل صلاة عشراً وتحمدان عشراً وتكبِّران عشراً ... » رواه أحمد والبخاري ومسلم. وذكر الحديث التسبيح ثلاثاً وثلاثين، والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتكبير أربعاً وثلاثين عند النوم، وقد اقتصرنا في إيراد هذا الحديث والذي قبله على ما يتعلق بموضوع بحثنا، وهو الذِّكر عقب الصلاة فحسب. فهذان حديثان في قول التسبيح والتحميد والتكبير عشراً عشراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 أما التهليل عشراً وهو الجملة الرابعة، فجاء فيه ما يلي: عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «مَن قال في دُبُر صلاة الفجر وهو ثانٍ رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير، عشر مرات، كُتب له عشر حسنات، ومُحي عنه عشر سيئات، ورُفع له عشر درجات، وكان يومَه ذلك كلَّه في حرزٍ من كل مكروه، وحُرس من الشيطان، لم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله» رواه الترمذي. وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من قال إذا صلى الصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، عشرَ مرات كنَّ كعدل أربع رقاب، وكتب له بهنَّ عشرُ حسنات، ومُحي عنه بهنَّ عشرُ سيئات، ورُفع له بهنَّ عشرُ درجات، وكنَّ له حرَساً من الشيطان حتى يمسي، وإذا قالها بعد المغرب فمثل ذلك» رواه أحمد وابن حِبَّان. وعن أم سلمة رضي الله عنها «أن فاطمة رضي الله عنها جاءت إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - تشتكي إليه الخدمة فقالت: يا رسول الله والله لقد مَجِلَتْ يدي من الرَّحى، أطحن مرة وأعجن مرة، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنْ يرزقْكِ الله شيئاً يأتك، وسأدلُّكِ على خير من ذلك ... وإذا صليتِ صلاةَ الصبح فقولي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شئ قدير، عشر مرات بعد صلاة الصبح، وعشر مرات بعد صلاة المغرب، فإن كل واحدة منهن كعِتْقِ رقبة من ولَد إسماعيل، ولا يحل لذنب كُسب ذلك اليوم أن يدركه إلا أن يكون الشرك لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو حرسُكِ ما بين أن تقوليه غدوةً إلى أن تقوليه عشيَّة من كل شيطان ومن كل سوء» رواه أحمد. ورواه الطبراني مختصراً. قوله مَجِلت يدي من الرحى: أي يبست يدي وصارت خشنة من كثرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 طحن الحبوب بالطاحونة. فهذه الأحاديث نصٌّ في قول التهليل عشر مرات. وينبغي ملاحظةُ أن التهليل عشر مرات إنما ورد تقييده بصلاتي الفجر والمغرب فحسب، فيُندب ذكرُه عشراً عقب هاتين الصلاتين، ثم إن صيغة التهليل وردت متفاوتة في الأحاديث الثلاثة، فالمسلم بالخيار بين أيٍّ من هذه الصيغ. 2- ما ورد من الأحاديث ثلاثاً وثلاثين: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «جاء الفقراء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ذهب أهل الدُّثُور من الأموال بالدَّرجات العلا والنعيم المقيم، يُصلُّون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ولهم فضْلٌ من أموالٍ يحجُّون بها ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدَّقون، قال: ألا أُحدثكم بما إنْ أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحدٌ بعدكم، وكنتم خيرَ مَنْ أنتم بين ظَهْرَانِيْهِم إلا من عمل مثله؟ تسبِّحُون وتحمدون وتكبِّرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، فاختلفنا بيننا فقال بعضنا: نسبح ثلاثاً وثلاثين، ونحمد ثلاثاً وثلاثين، ونكبر أربعاً وثلاثين، فرجعت إليه فقال تقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر، حتى يكون منهن كلهن ثلاثاً وثلاثين» رواه البخاري ومسلم وابن خُزَيمة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «قال أبو ذر: يا رسول الله ذهب أصحاب الدُّثور بالأجر، يُصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فُضول أموال يتصدَّقون بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا ذر أَلاَ أُعلمك كلمات تدرك بهن مَن سبقك ولا يلحقك من خلفك إلا من أخذ بمثل عملك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: تكبِّر الله دُبُر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمده ثلاثاً وثلاثين، وتسبِّحُه ثلاثاً وثلاثين، وتختمها بـ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير» رواه ابن حِبَّان. ورواه أبو داود وقال في آخره «غُفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر» قوله أصحاب الدُّثور: أي أصحاب الأموال الكثيرة. وعن أبي هريرة رضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من سبَّح الله في دُبُر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، غُفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» رواه مسلم وأحمد وابن خُزَيمة وابن حِبَّان ومالك. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «جاء الفقراء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله إن الأغنياء يُصلُّون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ولهم أموال يتصدقون وينفقون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا صليتم فقولوا: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، ولا إله إلا الله عشراً، فإنكم تدركون بذلك من سبقكم وتسبقون مَنْ بَعدكم» رواه النَّسائي. وأُلفت النظر إلى أن هذه الأحاديث وإن هي اتفقت في عدد التسبيح والتحميد والتكبير إلا أنها تباينت في عدد التهليل، فالحديث الأول اغفل التهليل كلياً، والحديث الثاني ذكر التهليل مطلقاً دون تحديد، والحديث الثالث ذكر التهليل مرة واحدة، والحديث الرابع ذكر التهليل عشراً، وأنا أميل إلى الأخذ بالحديث الثالث الذي رواه مسلم وفيه التهليل مرة واحدة، فهذا الحديث لا يتعارض مع الحديث الأول، لأن الزيادة تُقبل إنْ رواها ثقة. وكذلك هو لا يتعارض مع الحديث الثاني، بل يعضده ويفسِّره. وأما الحديث الرابع فيُحمل على صلاتي الفجر والمغرب ويُقصر عليهما، والله سبحانه أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 3- ما ورد من الأحاديث خمساً وعشرين: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال «أُمِرنا أن نسبِّحَ في دُبُر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، ونحمد ثلاثاً وثلاثين، ونكبِّر أربعاً وثلاثين، فأُتيَ رجلٌ في منامه فقيل له: إنه أَمَرَكم محمدٌ أن تسبِّحوا في دُبُر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمدوا ثلاثاً وثلاثين، وتكبِّروا أربعاً وثلاثين؟ قال نعم، قال: اجعلوها خمساً وعشرين، واجعلوا فيه التهليل، فلما أصبح أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فافعلوه» رواه ابن حِبَّان وابن خُزَيمة وأحمد والنَّسائي. ورواه النَّسائي كذلك من طريق ابن عمر رضي الله عنه، وجاء فيه «.. سبِّحوا خمساً وعشرين، واحمدوا خمساً وعشرين، وكبِّروا خمساً وعشرين، وهلِّلُوا خمساً وعشرين، فتلك مائة ... » . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 وهناك أحاديث أخرى ذكرت التكبير أربعاً وثلاثين، وأبقت على التسبيح والتحميد ثلاثاً وثلاثين ثلاثاً وثلاثين، منها ما رواه كعب بن عُجْرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «مُعَقِّبات لا يخيب قائلُهن أو فاعلُهن دُبُر كل صلاة مكتوبة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة» رواه مسلم وابن حِبَّان والنَّسائي. ومنها ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند أحمد والبزَّار والطبراني بمثل ما رواه مسلم من حيث العدد. ويلاحظ من ذلك أن الرقم وصل إلى المائة بزيادة تكبيرة واحدة على التكبيرات الثلاث والثلاثين، في حين أن الرقم وصل إلى المائة بزيادة تهليلة واحدة في حديث مسلم المار في بند (2) «فتلك تسعةٌ وتسعون، وقال تمام المائة لا إله إلا الله ... » كما أنه وصل إلى المائة في حديث النَّسائي المار في بند (3) «سبِّحوا خمساً وعشرين و ... و ... و ... فتلك مائة» . فهذه الأحاديث نَوَّهت بالعدد مائة، فَمَنْ ملك الوقت الكافي والرغبة في مزيد الثواب فلْيوصل هذه الجمل إلى المائة، وليختر الصيغة التي يراها من هذه الصيغ الثلاث، وإذا أتمَّ المائة جملة بتهليلة واحدة فليقل بعدها مباشرة [اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطيَ لِما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ] وذلك لما روى المغيرة بن شعبة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دُبُر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ» رواه البخاري ومسلم والنَّسائي وأحمد وأبو داود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 وهناك صيغة رابعة للتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل وللحوقلة كذلك تضاف للصيغ الثلاث السابقة، أندب المصلين إلى الأخذ بها لما لها من فضل، وهي هكذا [سبحان الله عددَ ما خلق في السماء، وسبحان الله عددَ ما خلق في الأرض، وسبحان الله عددَ ما خلق بين ذلك، وسبحان الله عددَ ما هو خالق. والله أكبر عددَ ما خلق في السماء، والله أكبر عددَ ما خلق في الأرض، والله أكبر عددَ ما خلق بين ذلك، والله أكبر عددَ ما هو خالق. والحمد لله عددَ ما خلق في السماء، والحمد لله عددَ ما خلق في الأرض والحمد لله عددَ ما خلق بين ذلك، والحمد لله عددَ ما هو خالق. ولا إله إلا الله عددَ ما خلق في السماء، ولا إله إلا الله عددَ ما خلق في الأرض، ولا إله إلا الله عددَ ما خلق بين ذلك، ولا إله إلا الله عددَ ما هو خالق. ولا حول ولا قوة إلا بالله عددَ ما خلق في السماء، ولا حول ولا قوة إلا بالله عددَ ما خلق في الأرض، ولا حول ولا قوة إلا بالله عددَ ما خلق بين ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله عددَ ما هو خالق] فعن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها رضي الله عنهما «أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبِّح به فقال: أُخبركِ بما هو أيسر عليكِ من هذا أو أفضل، فقال: سبحان الله عددَ ما خلق في السماء، وسبحان الله عددَ ما خلق في الأرض، وسبحان الله عددَ ما خلق بين ذلك، وسبحان الله عددَ ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك» رواه أبو داود والنَّسائي وابن ماجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 أما كيف يحصي المسلم تسبيحاته وأذكاره فيأتي منها بالمقدار الذي يريد؟ فالجواب عليه هو أنه يجوز التسبيح بالمسبحة وبما هو من جنسها كالنوى والحصى والخرز، لكن المستحب في التسبيح والأَذكار العدُّ بالأصابع والأنامل لأنهن مسؤولات يوم القيامة، ويشهدن لصاحبهن بالذِّكر، فعن يسيرة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهن أن يراعين بالتكبير والتقديس والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل، فإنهن مسؤولات مستنطَقَات» رواه أبو داود وأحمد والترمذي. ورواه ابن أبي شيبة عن بُسرة - وليس يسيرة كما في سنن أبي داود - قالت: قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «عليكن بالتسبيح والتهليل والتكبير، واعقدن بالأنامل فإنهن يأتين يوم القيامة مسؤولات مستنطقات، ولا تغفلْن فتنسَين الرحمة» . وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقده بيده، يعني التسبيح» رواه ابن أبي شيبة. ورواه أبو داود ولكنه قال «بيمينه» بدل [بيده] ورواه النَّسائي بدون [بيده] وبدون [بيمينه] هكذا «يعقد التسبيح» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 أما من أراد نوال الثواب العظيم في الوقت القصير والجهد القليل ولا يحتاج إلى مسابح ونوى وحصى فليقرأ هذا الحديث وليعمل بما فيه: عن ابن عباس رضي الله عنه عن جُوَيرية رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها بُكرةً حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: ما زلتِ على الحال التي فارقتُكِ ا؟ قالت: نعم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد قلتُ بعدك أربعَ كلمات ثلاث مرات، لو وُزنت بما قُلتِ منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عددَ خلقِه ورِضا نفسِه وزِنَةَ عرشِه ومدادَ كلماتِه» رواه مسلم وابن خُزَيمة وأحمد وأبو داود. وفي رواية أخرى لمسلم «أنه قال: سبحان الله عددَ خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنةَ عرشه، سبحان الله مدادَ كلماته» . وفي رواية النَّسائي والترمذي «سبحان الله عددَ خلقه، سبحان الله عددَ خلقه، سبحان الله عددَ خلقه. سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله رضا نفسه. سبحان الله زِنةَ عرشه، سبحان الله زِنةَ عرشه، سبحان الله زِنةَ عرشه. سبحان الله مدادَ كلماته، سبحان الله مدادَ كلماته، سبحان الله مدادَ كلماته» والصيغة الأولى أسهل وأفضل لأن فيها [وبحمده] في حين أن الروايتين الأُخريين قد خلتا منها، والزيادة في الأذكار أفضل. فهؤلاء أربع كلمات قصار يقولهن المصلي فيحصل على ثواب الساعات الطوال من الأذكار غيرها، ذلك أن جُوَيرية رضي الله عنها قد واظبت على الذكر منذ صلاة الصبح إلى وقت الضحى كما جاء في رواية مسلم، أو إلى أن تعالى النهار كما جاء في رواية ابن خُزَيمة، وهذه المدة تقدَّر بساعتين إلى ثلاث ساعات من ساعاتنا الحالية، فالمسلم يقول هؤلاء الكلمات الأربع في نصف دقيقة فيحصل على ثواب الذكر من غيرهنَّ في ساعتين إلى ثلاث ساعات، فهي فرصة متاحة لحصاد الثواب العظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 وهناك فرصة أعظم لتحصيل ثوابٍ أكثر ذكرها لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ به وهو يحرِّك شفتيه فقال: ماذا تقول يا أبا أُمامة؟ قال: أذكر ربي، قال أفلا أُخبرك بأكثر - أو أفضل - من ذِكرك الليل مع النهار والنهار مع الليل؟ أن تقول: سبحان الله عددَ ما خلق، وسبحان الله ملءَ ما خلق، وسبحان الله عددَ ما في الأرض والسماء، وسبحان الله ملءَ ما في الأرض والسماء، وسبحان الله عددَ ما أحصى كتابُه، وسبحان الله عددَ كلِّ شئ، وسبحان الله ملءَ كلِّ شئ، وتقول الحمد مثل ذلك» رواه ابن خُزَيمة. فهؤلاء الكلمات القليلات يفْضُلْن الذكرَ الليلَ مع النهار والنهارَ مع الليل، أي يفْضُلْن أربعاً وعشرين ساعة من الأذكار، فهن لا شك أعظم ثواباً من الذكر الوارد في حديث جويرية رضي الله عنها. د ـــ تلاوةُ آيات من القرآن قراءة القرآن من أعظم القُرُبات عند الله سبحانه، ولست هنا بصدد بحث هذا الموضوع لأنه خارج عن بحثنا، وهو [ما يقال فحسب عقب الصلاة] ، وإذا كان لا بد من كلمة في هذا الموضوع فهي أن المندوب قراءةُ القرآن كلِّه في شهرٍ، فهي أعدل القرآءات، وإن كان المسلم يريد المزيد وعنده قدرة ونشاط وفراغ فلا يزيد عن ثلاثة أيام بحال، أي لا يقرأ القرآن كله في أقل من ثلاثة أيام. ونأتي لموضوعنا فنقول إن المندوب للمسلم إذا صلى وجلس يذكر الله سبحانه أن يتلو ما يلي: 1- آية الكرسي وهي الآية 255 من سورة البقرة. 2- سورة الفلق. 3- سورة الناس. 4- {سبحان ربِّك ربِّ العزةِ عما يصفون. وسلامٌ على المرسلين. والحمد لله رب العالمين] } الآيات 180، 181، 182 من سورة الصافات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 هذا ما وردت به النصوص، ومن أراد الزيادة فالباب مفتوح، وأخصُّ بالذكر سورة الإخلاص، فقد أدخلها بعضهم في المعوِّذات فقالوا بتلاوتها مع المعوِّذتين مستدلين بحديث ضعيف رواه الطبراني يذكرها بالاسم. وأما ما ذكرته أعلاه فقد وردت به الأحاديث التالية: عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من قرأ آية الكرسي دُبُر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت» رواه الطبراني والنَّسائي وابن حِبَّان. وعن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من قرأ آية الكرسي في دُبُر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى» رواه الطبراني. وعن عُقبة بن عامر رضي الله عنه قال «أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ المعوِّذات دُبُر كل صلاة» رواه النَّسائي وأحمد وأبو داود والطبراني وابن خُزَيمة. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «إقرأوا المعوِّذات في دُبُر كلِّ صلاة» وفي رواية للنَّسائي والترمذي «المعوِّذتين» بالتثنية. قوله المعوِّذات - بصيغة الجمع - استدل به بعضهم على الإتيان بسورة الإخلاص وسورة الفلق وسورة الناس، لأن هؤلاء السور ثلاثٌ، ووقف بعضهم على لفظة المعوِّذتين - بالتثنية - فقالوا بتلاوة سورة الفلق وسورة الناس فحسب وهو الصحيح، وذلك أن من أسلوب اللغة العربية أن يُؤتى بصيغة الجمع للمفرد وللمثنى أحياناً، فمثلاً قال امرؤ القيس في معلَّقته يصف الحصان (يُزلُّ الغلامَ الخِفَّ عن صَهَوَاتِه) والحصان ليست له إلا صهوةٌ واحدة، وقال تعالى {فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّيْ في المِحْرَابِ ... } الآية 39 من سورة آل عمران. والمنادي هو جبريل وحده. وقال جلَّ جلاله {الذِيْنَ قَالَ لَهُم النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوْا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ... } الآية 173 من سورة آل عمران. والقائل هو رجل واحد من خزاعة. وعلى هذه القاعدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 خرج الحديث، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أطلق لفظة المعوِّذات - بالجمع - على المعوِّذتين - الفلق والناس - فهما المقصودتان فقط. وعلى هذا فإن سورة الإخلاص لا تندرج تحت هذه اللفظة، فهي بالتالي ليست مطلوبة هنا. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة يقول في آخر صلاته عند انصرافه {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُوْنَ. وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِيْنَ. وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمَيْنَ} » رواه ابن أبي شيبة والترمذي. هـ ــ الدُّعاءُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 إن فضل الدعاء في الإسلام معلوم من الدين بالضرورة، وإلى من فاته الوقوف على النصوص فيه أعرض عليه ما يلي: قال تعالى {قُلْ ما يَعْبَأُ بكم ربي لولا دعاؤُكم فقد كذَّبْتُم فسوفَ يكونُ لِزاماً} الآية 77 من سورة الفرقان. ودلالة الآية واضحة في فضل الدعاء، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من لم يدْعُ اللهَ سبحانه يغضبْ عليه» رواه ابن ماجة وأحمد وابن أبي شيبة والحاكم. ورواه الترمذي بلفظ «إنه مَن لم يسأل الله يغضبْ عليه» . وعن أبي هريرة رضي الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «ليس شئ أكرم على الله سبحانه من الدعاء» رواه ابن ماجة وأحمد والترمذي والحاكم وابن حِبَّان. وكفى بذلك فضلاً. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: وقال ربكم ادعوني استجبْ لكم» رواه ابن ماجة وأحمد والترمذي. وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يزيد في العمر إلا البِرُّ، ولا يردُّ القضاء إلا الدعاء، وإن الرجل لَيُحْرَمُ الرزقَ بخطيئةٍ يعملها» رواه ابن ماجة وأحمد والترمذي. ولو لم يكن عندنا إلا هذا النص الأخير «ولا يردُّ القضاء إلا الدعاء» لكفى الدعاء فضلاً عظيماً، فلندعُ الله سبحانه، ولندعوه بإخلاص، ولنكثر من الدعاء، ولنرجُ من الله الاستجابة. وقد وردت بضعة أحاديث فيها الأدعية التي تقال عقب الصلاة أذكر منها ما يلي: 1- [اللهم أعنِّي على ذِكْرِك وشكرِك وحُسْنِ عبادتِك] . 2- [اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أسرفتُ وما أنت أعلمُ به مني، أنت المقدِّم وأنت المُؤخِّر لا إله إلا أنت] . 3- [ربِّ قني عذابك يوم تبعث عبادك] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 ووردت أدعية أخرى في أحاديث ليست أسانيدُها قوية، ولهذا اكتفيت بالأدعية الثلاثة المذكورة، وهذه هي أدلتها على الترتيب: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده يوماً ثم قال: يا معاذ إني لأُحِبُّك، فقال له معاذ: بأبي أنت وأُمي يا رسول الله وأنا أُحبك، قال: أُوصيك يا معاذ لا تدعَنَّ في دُبُر كل صلاة أن تقول: اللهم أعنِّي على ذكرِك وشُكرِك وحُسْنِ عبادتِك» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن خُزَيمة وابن حِبَّان. وعن علي رضي الله عنه - في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - قال «فإذا سلَّم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أسرفتُ وما أنت أعلمُ به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر لا إله إلا أنت» رواه أحمد وابن خُزَيمة وابن حِبَّان والترمذي. ورواه مسلم إلا أنه ذكر هذا الدعاء بين التَّشهُّد والتسليم وليس بعده. وعن البراء رضي الله عنه قال «كنا إذا صلينا خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه يُقبل علينا بوجهه، قال فسمعتُه يقول: ربِّ قِنِي عذابك يوم تبعث أو تجمع عبادك» رواه مسلم. وقد مرَّ في بحث [الجلوس فترة عقب الصلاة] في هذا الفصل. وقد ورد الدعاء التالي يُدعى به عقب صلاتي الصبح والمغرب خاصة [اللهم أَجِرْني من النار] سبع مرات، فقد روى الحارث بن مسلم التميمي أن أباه حدَّثه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا صليت الصبح فقل قبل أن تُكلِّمَ أحداً: اللهم أجِرْني من النار، سبع مرات، فإنك إن مت من يومك ذلك كتب الله عزَّ وجلَّ لك جِواراً من النار، وإذا صليت المغرب فقل مثل ذلك، فإنك إن مت من ليلتك كتب الله عزَّ وجلَّ لك جِواراً من النار» رواه الطبراني وأحمد وأبو داود والنَّسائي وابن حِبَّان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 هذا ما وردت به النصوص من أدعية تقال عقب الصلاة، ولا يعني ذلك أن لا يدعو المسلم بأي دعاء آخر يختاره عقب الصلوات، فإن الدعاء مشروع ومندوب في كل وقت وبأية صيغة، ولكن هذه الأدعية الواردة عقب الصلوات لها ميزةٌ خاصة الله سبحانه أعلم بها، فالأَوْلى والأفضل الإتيان بها وتقديمها على غيرها، ثم هو بالخيار بعد ذلك بين أن يدعو بما يحقق حاجاته في دينه ودنياه وآخرته من كلمات يختارها بنفسه، وبين أن يختار من أدعية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما وردت به النصوص مطلقة. وإني أُقدِّم العون في هذا المضمار فأذكر جملةً من الأدعية الجامعة المأثورة، لاسيما وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك، كما جاء ذلك في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والحاكم من طريق عائشة رضي الله عنها. 1- [يا مقلِّبَ القلوب ثبِّت قلبي على دينك] . 2- [اللهم إني أسألك فِعلَ الخيرات وتركَ المنكرات وحُبَّ المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردتَ فتنةً في قوم فتوفَّني غير مفتون، وأسألك حبَّك وحبَّ من يحبك وحبَّ عملٍ يقرِّبني إلى حبك] . 3- [اللهم إني أسألك الهدى والتُّقى والعفافَ والغنى] . 4- [اللهم إني أسألك العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرة] . 5- [اللهم ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار] . وللدعاء جملةٌ من الآداب لا بد للمسلم من أن يحيط بها وأن يراعيها، لعل الله سبحانه أن يتقبل منه ويستجيب له، ومن هذه الآداب ما يلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 1- أن يدعو بما يريد تحقيقه وهو متفطِّنٌ له ذاكرٌ له غير غائب عن ذهنه وغير لاهٍ عنه، وإلا فإن دعاءه لا يستجاب له، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إن القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله عزَّ وجلَّ أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبدٍ دعاه عن ظهر قلب» رواه أحمد. 2- أن لا يَعْجَلَ تحقيقَ الدعاء، ولْيستمرَّ في الدعاء ولا ييأس، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «يُستجاب لأَحدكم ما لم يعجل، يقول دعوتُ فلم يُستَجَبْ لي» رواه البخاري وابن ماجة وأحمد وأبو داود ومسلم. 3- أن لا يدعو بدعاء محرَّمٍ وفيه إثم، أو بدعاء فيه قطيعة رحِم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحِمٍ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يُعجِّل له دعوتَه، وإما أن يدَّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذن نُكْثر، قال: الله أكثر» رواه أحمد والبزَّار والحاكم وأبو يعلى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 4- أن يستفتح الدعاء بحمد الله تعالى والصلاة على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يدعو بما شاء، فعن فُضالة بن عبيد صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو في صلاته لم يمجِّد الله تعالى ولم يصلِّ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عجَّل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فلْيبدأ بتحميد ربِّه جلَّ وعزَّ والثناء عليه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يدعو بعدُ بما شاء» رواه أبو داود والطبراني والترمذي وأحمد. وإذا استفتح الدعاء بـ[سبحان ربيَ العليِّ الأعلى الوهاب] فحسن، لما رُوي أن سلمة بن الأكوع قال «ما سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتح دعاءً إلا استفتحه بـ سبحان ربيَ العليِّ الأعلى الوهاب» رواه الحاكم وصحَّحه، ووافقه الذهبي. 5- أن يرفع يديه إذا دعاجاعلاً باطن كفيه تجاه وجهه، وأن لا يجاوز بهما وجهه، وإذا فرغ من الدعاء مسح بهما وجهه، لما روى سلمان رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إن ربكم حييٌّ كريمٌ، يستحيي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردَّهما صفراً، أو قال خائبتين» رواه ابن ماجة وأبو داود وابن حِبَّان والطبراني. ولما رُوي عن عمير مولى أبي اللحم «أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستسقي عند أحجار الزيت قريباً من الزوراء، قائماً يدعو يستسقي، رافعاً كفيه لا يجاوز بهما رأسه، مقبلاً بباطن كفِّه إلى وجهه» رواه ابن حِبَّان وأحمد وأبو داود. ولما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطَّهما حتى يمسح بهما وجهه، قال محمد بن المثنى في حديثه: لم يردَّهما حتى يمسح بهما وجهه» رواه الترمذي، ورواه الطبراني في كتاب الدعاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 6- أن يكرر الدعاء ثلاثاً، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه أن يدعو ثلاثاً ويستغفر ثلاثاً» رواه أحمد وأبو داود. 7- يقول عقب الدعاء آمين، فقد مرَّ الحديث الذي رواه أبو داود من طريق أبي زهير في بحث [التأمين في الصلاة] فصل [صفة الصلاة] وفيه «فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَوجبَ إنْ خَتَم، فقال رجل من القوم: بأيِّ شئ يختم؟ قال: بآمين، فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب ... » . وأنا هنا أدعو الله سبحانه أن يتقبَّل مني ما كتبت في كتابي هذا، وأن يجعله في ميزان حسناتي، وأن يلقى من القراء الرضا والقبول، إنه سميع الدعاء آمين. الفصل التاسع صلوات مفروضة عدا الصلوات الخمس 1. صلاة العيدين حكمها ووقتها إختلفت آراء الفقهاء وتشعَّبت حول حكم صلاة العيدين، فمنهم من أوجبها على الأعيان، ومنهم من اعتبرها سُنَّة مؤكَّدة، ومنهم من اعتبرها فرض كفاية، وهو الصحيح، وذلك لعدة أمور أذكر منها ما يلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 1- إن صلاة العيدين هي من شعائر الإسلام وأَعلامه، ويَبعدُ أن تُبْنى شعائر الإسلام وأعلامه على مندوبات يمكن فعلها كما يمكن تركها، ولا يستقيم الحال إلا باعتبار هذه الشعيرة وهذا الشعار من فروض الدين، وهذه الشعيرة - صلاة العيدين - قد رتَّب الإسلام عليها مناسك لا يُقام بها حتى يُقام بهذه الشعيرة، ففي الحج مناسكُ كثيرةٌ منها ذبح الأضاحي يوم العيد، وهذا المنسك وهو الذبح يتوقف القيام به على القيام بشعيرة صلاة العيد، ولا يُتصور أن تكون صلاة العيد مندوبة، أي فيها قابلية العمل والترك، فتتعطَّل بتركها مناسك الحج، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال «خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأضحى بعد الصلاة، فقال: من صلى صلاتنا ونسك نُسُكنا فقد أصاب النُسُك، ومن نَسَك قبل الصلاة فإنه قبل الصلاة، ولا نُسُك له ... » رواه البخاري. وفي رواية أخرى له من الطريق نفسها «إن أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سُنَّتَنا، ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدَّمه لأهله ليس من النُّسُك في شئ ... » . وقال تعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} الآية 2 من سورة الكوثر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 2- إن الشرع فرض فروضاً وجعل أداءها واجباً لا بد منه، وجعل الفروض أعلى من المندوبات، فإنْ أمر الشرع بفرضٍ من هذه الفروض، ثم رأيناه يَقْبل بأداء فعلٍ آخر بدله دل ذلك على أن الفعل الآخر هذا فرضٌ هو الآخر، وإلا لما أغنى عن الفرض الأول، لأن المندوب دون الفرض منزلةً، ولا يَحِلُّ المندوب محلَّ الفرض ولا يسدُّ مسدَّه، فلا يسد مسدَّ الفرض إلا فرضٌ مثله، وهذه القاعدة يسهل فهمها وقبولها. وقد فرض الشرع صلاة الظهر، ثم رأيناه يأمر بأداء صلاة الجمعة في يوم الجمعة بدل صلاة الظهر، ففهمنا من ذلك أن صلاة الجمعة فرض، وإلا لما سدَّت مسدَّ صلاة الظهر المفروضة، ثم رأينا الشرع يأمر بأداء صلاة العيدين في يوم الجمعة لتُبطِلَ صلاةُ العيدين فرض صلاة الجمعة في يوم الجمعة، بمعنى أن من صلَّى صلاة العيدين في يوم جمعة فقد سقط عنه فرض الجمعة، ألا يُفهم من هذا أن صلاة العيدين لولا أنها مفروضة لما حلَّت محل صلاة الجمعة، ولما أسقطت فرض صلاة الجمعة؟ وهل تُسقط صلاةٌ مندوبةٌ فرضَ صلاةٍ مفروضةٍ؟ عن وهب بن كيسان قال «شهدت ابن الزبير بمكة وهو أمير، فوافق يومُ فطر أو أضحى يومَ الجمعة، فأخَّر الخروج حتى ارتفع النهار، فخرج وصعد المنبر فخطب وأطال، ثم صلى ركعتين ولم يصلِّ الجمعة، فعاب عليه ناسٌ من بني أمية بن عبد شمس، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: أصاب ابن الزبير السُّنة، وبلغ ابن الزبير فقال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتمع عيدان صنع مثل هذا» رواه ابن خُزيمة والنَّسائي. ورواه أبو داود دون قوله في آخر الحديث (وبلغ ابن الزبير ... ) . وعن إياس بن أبي رملة الشامي قال «سمعت رجلاً سأل زيد بن أرقم: هل شهدتَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيدين في يوم؟ قال: نعم، قال: فكيف كان يصنع؟ قال: صلى العيد ثم رخَّص في الجمعة، ثم قال: من شاء أن يصلي فليصلِّ» رواه ابن ماجة وأبو داود وأحمد. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 صلى الله عليه وسلم - أنه قال «اجتمع عيدان في يومكم هذا، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مُجَمِّعون إن شاء الله» رواه ابن ماجة. ورواه ابن ماجة أيضاً وأبو داود والحاكم من طريق أبي هريرة. ودلالة هذه النصوص واضحة. 3- إن الشرع لم يُوجب على النساء الخروج من بيوتهن لأداء الصلوات المكتوبات، وحثهن على أداء هذه الصلوات في بيوتهن، وهذا ينطبق على الصلوات الخمس كما ينطبق على صلاة الجمعة، فأداء النساء في بيوتهن للصلوات المفروضة أفضل من أدائهن لهذه الصلوات في المساجد، وهذا حكمٌ عام لم يُكسر إلا مع صلاة العيدين فحسب، فقد وجدنا الشرع يأمر ويحثُّ ويُلحُّ أيضاً على خروج النساء من بيوتهن لأداء صلاة العيدين، وبلغ من شدة الحث أن الشرع لم يستثن أية امرأة، فقد أمر بخروج الشابات والصغيرات والكبيرات وحتى الحُيَّض منهن، وحتى من لا تملك جلباباً تخرج فيه أن تستعير جلباباً من امرأة أخرى، فعلى ماذا يدل كلُّ هذا؟ هل يُطلب من النساء تركُ أداءِ الصلوات المفروضات وصلاة الجمعة في المساجد وأداؤُها في بيوتهن، ثم عندما رأيناه يَطلب خروج النساء لأداء صلاة العيدين نقول إن صلاة العيدين مندوبة مستحبة فحسب؟ إن هذا بعيد عن الصواب، ولا يُتصور أن يأمر الشرع النساء بأن يؤدِّين الفروض في البيوت، ثم يأمرهنَّ بالخروج لأداء المندوب. إنَّ ذلك كله ليدلُّ على أن صلاة العيدين فرض واجب، فعن أم عطية رضي الله عنها قالت «كنا نُؤمر أن نَخرج يوم العيد، حتى نُخرِج البكر من خِدرها، حتى نُخرج الحُيَّضَ فيكنَّ خلف الناس، فيُكبِّرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطُهْرته» رواه البخاري ومسلم. وفي رواية ثانية للبخاري عن أم عطية قالت «أُمِرنا أن نُخرج العواتق وذوات الخدور» . وروى البخاري عن حفصة رضي الله عنها نحوه، وزاد «قالت العواتق وذوات الخدور ويعتزل الحُيَّض المصلى» . وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم عن أم عطية قالت «أُمِرنا أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 نخرج، فنُخرج الحُيَّض والعواتق وذوات الخدور - قال ابن عون أو العواتق ذوات الخدور - فأما الحُيَّض فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزلن مصلاهم» . وعن أم عطية رضي الله عنها قالت «أَمَرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نُخرجهنَّ في الفطر والأضحى العواتقَ والحُيَّضَ وذوات الخدور، فأما الحُيَّض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: لِتُلْبسها أُختُها من جلبابها» رواه مسلم وأحمد والبخاري وأبو داود والترمذي. قوله العواتق: أي الشَّابات الصغيرات اللواتي بلغن المحيض. وقوله ذوات الخدور: أي المُخَدَّرات المستورات اللاتي لا يظهرن ولا يغادرن بيوتهن عادة إلا لحاجة وضرورة. أما أنَّ صلاة العيدين فرضُ كفاية وليست فرض عين، فلأنَّ هذه الصلاة لا يُنادَى لها بأذان ولا إقامة، فربما تمت هذه الصلاة وكثيرٌ من الناس مشغولون عنها لم يُذَكِّرهم بها مؤذن ولا مقيم، ولو كانت مفروضة على الجميع لشُرع لها الأذان والإقامة لجلب الناس لها، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة» رواه مسلم وأبو داود وأحمد والترمذي وابن خُزيمة. وعن عطاء قال أخبرني جابر بن عبد الله الأنصاري «أن لا أذان للصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام ولا بعد ما يخرج، ولا إقامة ولا نداء ولا شئ، لا نداء يومئذٍ ولا إقامة» رواه مسلم. وفي رواية ثانية لمسلم وأحمد وأبي داود والنَّسائي من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه جاء «قال: شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ... » . ولو كانت مفروضة على الأعيان لنُودي بها حتى لا يتخلف عنها أحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 أما وقت صلاة العيدين فهو كوقت صلاة الضحى، يبدأ حين ترتفع الشمس وتبيضُّ، ويستمر حتى زوال الشمس، أي حتى تتوسط الشمس قُبَّة السماء عند الظهيرة. فعن يزيد بن حمير الرحبي قال «خرج عبد الله بن بُسر صاحبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الناس في يوم عيد فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام فقال: إنَّا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح» رواه أبو داود وابن ماجة. قوله وذلك حين التسبيح: أي عند انتهاء وقت كراهة الصلاة، وبدء جواز الصلاة كالضحى ومطلق النوافل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 ونقول بعبارة أخرى إن وقت صلاة العيدين يبدأ عند ارتفاع الشمس وتحوُّل لونها إلى البياض في أول النهار، ويستمر الجواز حتى منتصف النهار، فإنْ لم تُؤدَّ صلاة العيدين في هذا الوقت لسبب طارئ، أُدِّيت في الوقت نفسه من الغد، ولا يصح أداؤها بعد منتصف النهار بحال، لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومةٍ له من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن ركباً جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا، وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم» رواه أبو داود وأحمد. ورواه النَّسائي ولفظه «إن قوماً رأوا الهلال، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمرهم أن يفطروا بعدما ارتفع النهار، وأن يخرجوا إلى العيد من الغد» . ورواه ابن ماجة وابن أبي شيبة بلفظ «أُغمي علينا هلالُ شوال فأصبحنا صياماً، فجاء ركب من آخر النهار، فشهدوا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفطروا، وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد» . فلو كانت صلاة العيدين جائزة بعد منتصف النهار لصلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما غُمَّ عليهم الهلال، وعلموا من الركب في اليوم التالي بدء الإفطار في وقت قدوم الركب «بعدما ارتفع النهار» ، «جاء ركبٌ من آخر النهار» ، فالتبليغ كان بين منتصف النهار وآخره ولم تغرب الشمس بعد، ومع ذلك أجَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة عيد الفطر إلى صباح اليوم التالي. صفة صلاة العيدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 صلاة العيدين ركعتان يكبِّر في الركعة الأولى سبع تكبيرات متتاليات منها تكبيرة الإحرام، ثم يقرأ الفاتحة، ثم سورة ق والقرآن المجيد أو سورة سبح اسم ربك الأعلى، وإن قرأ غيرهما فجائز، ثم يكبر تكبيرة الركوع، ثم يكبِّر فيعتدل، ثم يكبر للسجود، ثم يجلس جلسة قصيرة، ثم يكبِّر للسجود، ثم يكبِّر للقيام، ثم يكبِّر خمس تكبيرات متتاليات، ثم يقرأ الفاتحة، ثم سورة اقتربت الساعة أو سورة الغاشية، وإن قرأ غيرهما فجائز، ثم يفعل ما فعل في الركعة الأولى. وهاتان الركعتان تُؤدَّيان جماعةً يَجهر فيهما الإمامُ بالقراءة. وإنما قلنا سبع تكبيرات متتاليات، وخمس تكبيرات متتاليات، لنبين تتالي التكبيرات لا يفصل بين الواحدة والأخرى فاصلٌ، ولا سكوتٌ يتخلله ذكر، كما يقول بذلك عدد من الفقهاء. وإنما قلنا سبع تكبيرات متتاليات منها تكبيرة الإحرام، لنبين أن تكبيرة الإحرام داخلة في هذه التكبيرات السبع، وليست خارجة عنها كما يقول بذلك عدد من الفقهاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 وهذه التكبيرات سُنة مستحبَّةٌ من تركها لا إثم عليه ولا تبطل صلاته، فعن عمر رضي الله عنه قال «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، وقد خاب من افترى» رواه ابن خُزَيمة وابن ماجة والبيهقي. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبَّر في عيدٍ ثِنْتي عشرةَ تكبيرةً، سبعاً في الأولى وخمساً في الآخرة، ولم يُصلِّ قبلها ولا بعدها» رواه أحمد والدارقطني والبيهقي. ورواه أبو داود وفيه التكبيرُ في الفطر، سبعٌ في الأولى وخمسٌ في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل أبا واقد الليثي «ما كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ ق والقرآن المجيد، واقتربت الساعة وانشق القمر» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي ومالك. وعن سَمُرَة ابن جُنْدُب رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيدين بـ سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية» رواه أحمد والطبراني. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيدين - وقال مرة في العيد - بـ سبِّح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية، فإن وافق ذلك يوم الجمعة قرأ بهما» رواه ابن خُزَيمة والنَّسائي وابن ماجة وابن حِبَّان. وبعد أن ينتهي الإمام من الصلاة يقف أمام المصلين، ويُستحب أن يحمل بيده عصاً أو قوساً، ثم يخطب خطبتين كخطبتي الجمعة يعظ فيهما الناس، حاثاً إياهم على التصدُّق في عيد الفطر، ومبيناً لهم حكم الأضحية وحاثاً عليها في عيد الأضحى، ولا بأس بالإكثار من التكبيرات في أثناء الخطبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 وخطبة العيدين سُنَّة، لهذا لا يجب على المصلين الجلوسُ لها والاستماع إليها، بل يُندب ذلك فحسب، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في الأضحى والفطر، ثم يخطب بعد الصلاة» رواه البخاري. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم الفطر، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة» رواه البخاري. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. وعن ابن مسعود قال «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب الخطبتين وهو قائم، وكان يفصل بينهما بجلوس» رواه ابن خُزَيمة. وعن البراء رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نُووِل يوم العيد قوساً فخطب عليه» رواه أبو داود. وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال «من السُنة أن يكبِّر الإمام على المنبر على العيدين تسعاً قبل الخطبة وسبعاً بعدها» رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال «كنا جلوساً في المُصلَّى يوم أضحى، فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسلَّم على الناس ثم قال: إن أول نُسُكِ يومكم هذا، الصلاةُ، قال فتقدم فصلى ركعتين ثم سلم، ثم استقبل الناس بوجهه، وأُعطي قوساً أو عصا فاتَّكأ عليه، فحمد الله وأثنى عليه، وأمرهم ونهاهم وقال: مَن كان منكم عجَّل ذبحاً فإنما هي جَزْرَةٌ أطعمه أهله، إنما الذبح بعد الصلاة ... » رواه أحمد والطبراني. قوله جَزْرَة: أي شاةٌ مذبوحة. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى عند دار كثير بن الصلت ركعتين، ثم خطب لم يذكر أذاناً ولا إقامة» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكِّئاً على بلال، فأمر بتقوى الله وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكَّرهن فقال: تصدقن فإن أكثركنَّ حَصَبُ جهنم، فقامت امرأة من سِطةِ النساء سفعاءُ الخدين فقالت: لِمَ يا رسول الله؟ قال: لأنكنُّ تُكْثِرن الشَّكاةَ وتَكْفُرن العشير، قال: فجعلن يتصدَّقن من حُليِّهن، يُلقين في ثوب بلال من أقراطهنَّ وخواتمهن» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. قوله: من سِطة النساء: أي من أوساط النساء حسباً ونسباً. وقوله سفعاءُ الخدين: أي بخدَّيها اسوداد وتغيُّر في اللون. وقوله تُكْثِرن الشَّكاة: أي تُكْثِرن الشكوى والتذمر. وقوله تَكْفُرن العشير: أي تجحدن إحسان الزوج. وقوله أقراطهنَّ: أقراطٌ جمع قُرط وهو ما يُعَلَّق بالآذان للتزيُّن. وعن عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال «حضرتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عيد، صلى وقال: قد قضينا الصلاة فمن شاء جلس للخطبة، ومن شاء أن يذهب ذهب» رواه ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 خُزَيمة والبيهقي وأبو داود والنَّسائي. وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من خطبة الرجال ذهب إلى مُصلَّى النساء، فوعظهن وذكَّرهن وأمرهن بالصدقة، أي أنه كان يخطب في الرجال ثم يذهب يخطب في النساء، كما جاء ذلك واضحاً في حديث مسلم وأحمد وأبي داود والنَّسائي من طريق جابر بن عبد الله المار قبل قليل «ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكَّرهن فقال: تصدَّقْن» . وكما جاء ذلك واضحاً أيضاً في حديث رواه البخاري من طريق ابن عباس رضي الله عنه قال «خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فطر أو أضحى فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء فوعظهن وذكَّرهن وأمرهن بالصدقة» . وكذلك كان الخلفاء يفعلون. ولما كان الحالُ في السابق لا يمكِّن الإمامَ من أن يُوصل صوته للنساء الجالسات في المؤخرة، أي خلف جموع الرجال الضخمة التي حضرت إلى المصلى من كل صوب، لشدة الحث على صلاة العيدين، كان الإمام ينزل إليهن ويقترب من جمعهن ويخطب فيهن، ولو كان صوته يصل إلى مسامع النساء لما احتاج إلى النزول إليهن. وقد جاء هذا المعنى فيما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال «أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَصلَّى قبل الخطبة، قال ثم خطب، فرأى أنه لم يُسمع النساء، فأتاهن فذكَّرهن ووعظهن وأمرهن بالصدقة، وبلال قائل بثوبه، فجعلت المرأة تلقي الخاتم والخُرص والشئ» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والبيهقي. قوله الخُرص: أي الحلقة من الذهب أو الفضة، أو هو القُرط بحبة واحدة. لهذا أقول إنه مع وجود مكبِّرات الصوت الآن، فإن الإمام يكفيه أن يوجِّه بعض كلامه إلى النساء دونما حاجة إلى النزول إليهن، أي يخصص الإمام جزءاً من خطبته لهنَّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 إن الأصل في صلاة العيدين أن تُؤدَّى في المُصلَّى، أي في خارج المدينة وليس في مساجدها، فعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو فطرٍ إلى المُصلَّى، فصلى بهم ثم انصرف» رواه ابن خُزَيمة. وعن بكر بن مُبَشِّر الأنصاري رضي الله عنه قال «كنت أغدو مع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المُصلَّى يوم الفطر ويوم الأضحى، فنسلك بطن بطحان حتى نأتي المُصلَّى، فنصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم نرجع من بطن بطحان إلى بيوتنا» رواه أبو داود والحاكم والبغوي. وقد مرت في بحثنا هذا أحاديث تذكر خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المُصلَّى، فيمكن مراجعتها. أما إن حال دون الصلاة في المصلى حائل ومانع كمطر أو قيظ يضرُّ بالمصلِّين فلا بأس من أدائها في المساجد، فعن أبي يحيى عبيد الله التيمي عن أبي هريرة «أنهم أصابهم مطر في يوم عيد، فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - العيد في المسجد» رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. ويُسنُّ أن يتخذ الإمام في صلاة العيدين سُترة يصلي إليها، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرص على اتخاذ سُترة لصلاة العيدين، فعن ابن عمر رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان تُركَزُ الحربةُ قُدَّامه يوم الفطر والنَّحر ثم يصلي» رواه البخاري. ورواه ابن خُزَيمة وزاد «وكان يخطب بعد الصلاة» . وفي رواية ثانية عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو إلى المُصلَّى والعَنَزَةُ بين يديه تُحمَل وتُنْصَب بالمُصلَّى بين يديه فيصلي إليها» رواه البخاري. وقد مرَّ مزيد بحث في موضوع اتخاذ السُّترة في بحث [السُّترة للمُصلِّي] فصل [القِبلة والسُّترة] . التكبير في العيدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 التكبير سُنَّة مستحبَّة مشروعة في أيام التشريق لقوله سبحانه وتعالى {وَاذْكُرُوْا اللهَ في أَيَّامٍ مَعْدُوْدَاتٍ ... } الآية 203 من سورة البقرة، والأيام المعدودات هي أيام التشريق، ذكر ذلك ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه عنه الطبري في تفسيره من عدة طرق. ويدخل عيد الأضحى في هذه الأيام لمماثلته لها من حيث تشريق اللحم والأكل والشرب، وعلى ذلك فالتكبير مشروع من صبيحة يوم عيد الأضحى إلى آخر أيام التشريق. ويصح أن يُبدأ به صبيحةَ يوم عرفة لما روى محمد بن أبى بكر الثَّقفي قال «سألت أنساً ونحن غاديان من مِنى إلى عرفات عن التلبية، كيف كنتم تصنعون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: كان يُلبِّي المُلبِّي لا يُنكَر عليه، ويكبِّر المكبِّر فلا يُنكَرُ عليه» رواه البخاري. وروى ابن أبي شيبة والبيهقي والحاكم عن علي رضي الله عنه «أنه كان يكبِّر بعد صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، ويكبِّر بعد العصر» . وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس «أنه كان يكبِّر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، لا يكبِّر في المغرب، يقول: الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً، الله أكبر وأجلُّ، الله أكبر ولله الحمد» هذا في عيد الأضحى. أما في عيد الفطر فيبدأ التكبير من بعد غروب شمس آخر أيام رمضان، ويستمر حتى صلاة العيد من ضحى يوم العيد، لقوله سبحانه وتعالى { ... يُرِيْدُ اللهُ بِكُم اليُسْرَ وَلا يُرِيْدُ بِكُمْ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوْا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوْا اللهََ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ} الآية 185 من سورة البقرة. أما صيغة التكبير في العيدين، فإنه لم ترد أية صيغة برواية صحيحة ولا حسنة من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل ما ورد فيها رواياتٌ عن الصحابة أصحُّها إسناداً وأَوْلاها بالأخذ الصيغة التالية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 [الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد] ، وقد رواها ابن أبي شيبة وابن المنذر عن علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. وهناك صيغة ثانية رواها ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله عنه هي [الله أكبر كبيراً الله أكبر كبيراً، الله أكبر وأجلُّ، الله أكبر ولله الحمد] ، وقد وردت قبل قليل.وعلى كلٍّ فالأمر في هذا موسَّع. والتكبير غير مختصٍّ بالصلوات المكتوبات وغير المكتوبات، وإنما هو تكبير مطلق في كل وقت وعلى أية حال، للرجال وللنساء على السواء، لأنه لم يرد أي تقييد معتبر للتكبير في العيدين. سُنَنُ العيدين الأخرى 1- الأكل في العيد: يُسن الأكل في عيد الفطر قبل الخروج إلى المصلى، وفي عيد الأضحى بعد الصلاة، فيأكل من أُضحيته إن كانت له أُضحية، ويُسنُّ أكلُ التمْرِ في عيد الفطر، وأن يتناول منه حبَّاتٍ وتراً، فعن أنس رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، وفي رواية عنه أضاف: ويأكلهن وِتْراً» رواه البخاري وأحمد وابن حِبَّان والحاكم وابن خُزَيمة. وعن بُرَيدة الأسلمي رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر لا يخرج حتى يَطْعَم، ويوم النحر لا يَطْعَمُ حتى يرجع» رواه أحمد والترمذي وابن ماجة. ورواه ابن خُزَيمة بلفظ «إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يخرج يوم الفطر حتى يَطْعَم، ولا يَطْعَم يوم النحر حتى يذبح» . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر يوم الفطر قبل أن يخرج، وكان لا يصلي قبل الصلاة، فإذا قضى صلاته صلَّى ركعتين» رواه أحمد والحاكم. ورواه ابن خُزَيمة وابن ماجة وجاء فيه «فإذا رجع صلى في بيته ركعتين» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 وباختصار أقول: إن السُّنة في يوم الفطر أن يأكل المسلم شيئاً من الطعام ثم يخرج إلى المُصلَّى، وإنَّ السُّنة في يوم الأضحى أن يخرج المسلم إلى المصلى أولاً فيصلي، ثم يعود إلى بيته فيأكل من أُضحيته إن كانت له أُضحية، أو يأكل من طعام بيته. 2- مخالفة الطريق في العيد: يُسن للإمام وللمأمومين أن يذهبوا إلى المُصلَّى من طريق، ويعودوا منه إلى بيوتهم من طريق أخرى، فعن جابر رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريق» رواه البخاري. وعن ابن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج إلى العيدين من طريق ويرجع من طريق أخرى» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم والبيهقي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج إلى العيدين رجع في غير الطريق الذي خرج فيه» رواه أحمد والترمذي وابن حِبَّان وابن خُزَيمة والبيهقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 3- الغناء في العيد: يسن الغناء والضرب بالدُّفوف والنفخ بالمزامير والرقص بالسلاح في العيد، ويُسن إظهار الفرح والسرور فيه، ولا بأس بأن يصحب الإمامَ وهو خارج إلى المُصلَّى ناسٌ من المُغنين يغنون ويرقصون حول الإمام أو وراءه. فعن عائشة رضي الله عنها قالت «دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث، قالت وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزاميرُ الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر إنَّ لكل قوم عيداً وهذا عيدنا» رواه البخاري ومسلم وأحمد. وعنها رضي الله عنها قالت «جاء حبشٌ يَزْفِنُون في يوم عيد في المسجد، فدعاني النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوضعت يدي على منكبه فجعلت أنظر إلى لَعِبهم حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي. قوله جاء حبش يزفِنون: أي جاء الأحباش وهم جماعة من أصل حبشي يرقصون بالحِراب. وعن قيس بن سعد بن عبادة قال «.. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُقَلَّسُ له يومَ الفطر» رواه أحمد وابن ماجة. ولابن ماجة من طريق عامر قال «شهد عياض الأشعري عيداً بالأنبار فقال: لا أراكم تُقَلِّسُون كما كان يُقَلَّس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» . قوله يُقَلَّس، وتقلِّسون: أي يُضْرَب بالدُّف ويُغنَّى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 4- وقوف الإمام للناس عَقِبَ صلاة العيدين: يُستحب للإمام إذا صلى صلاة العيدين أن يتمهَّل في الانصراف حتى ينصرف الناس، فينظر إليهم ويتفقد أحوالهم ويسلِّم عليهم، فعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً في السوق يوم العيد ينظر والناس يمرُّون» رواه أحمد. ورواه الطبراني ولفظه «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من العيدين أتى وسط المُصلَّى، فقام فنظر إلى الناس كيف ينصرفون وكيف سِمَتُهم، ثم يقف ساعة ثم ينصرف» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 5- عدم الصلاة قبل صلاة العيدين وبعدها في المُصلَّى: ليست لصلاة العيدين سُنة قبلية ولا بعدية، وحتى التَّنفُّلُ في المصلى، فإنه غير مُستحَب. أما إن كانت الصلاة في المسجد، فإنَّ الاستحباب يبقى قائماً لأداء تحية المسجد، فالمسجد له تحية عند دخوله، أما العراء والصحراء والمُصلَّى فلا تحية لها. فالمسلم إذا أتى إلى المُصلَّى جلس ولم يُصلِّ، ثم إذا صلى العيدين واستمع إلى الخطبة انصرف دون أن يصلي في المُصلَّى أية ركعة. هذه هي السُّنة في العيدين، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المُصلَّى، فأول شئ يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه أو يأمر بشئ أمر به ثم ينصرف» رواه البخاري. ورواه مسلم وأحمد بنحوه. وعن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم الفطر ركعتين، لم يصلِّ قبلها ولا بعدها، ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة فجعلن يُلقين، تُلْقي المرأة خُرْصَها وسِخابَها» رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن خُزَيمة وأبو داود. قوله خُرصها وسِخابها: الخُرص هو الحلقة الصغيرة من الحلي، والسِّخاب هي القلادة. وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه خرج يوم عيد فلم يصلِّ قبلها ولا بعدها، فذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله» رواه أحمد والترمذي والحاكم. 2. صلاة الجنازة حكم صلاة الجنازة صلاة الجنازة فرضٌ على الكفاية، وذلك أنها حق من حقوق الأموات على الأحياء، فيجب على الأحياء أداء هذا الحق للأموات كسائر الحقوق في الإسلام. وقد صلَّى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه الصلاة، وداوم هو عليها إلا في حالات ثلاث: أ- ألغالِّ أي الخائن لأموال المسلمين. ب- المدين الذي لم يترك مالاً للسَّداد، ولم يتطوَّع أحدٌ لسداد دَيْنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 ج - قاتل نفسه أي المنتحر. هؤلاء الثلاثة امتنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عليهم بنفسه، ولكنه أذن للمسلمين بها. أما عن الأول فقد روى زيد بن خالد الجُهَني رضي الله عنه «أن رجلاً من المسلمين توفي بخيبر، وأنه ذُكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: صلوا على صاحبكم، فتغيَّرت وجوه القوم لذلك، فلما رأى الذي بهم قال: إن صاحبكم غلَّ في سبيل الله، ففتَّشنا متاعه فوجدنا فيه خَرَزاً من خرز اليهود ما يساوي درهمين» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. وأما عن الثاني فقد رُوي عن أبي قتادة رضي الله عنه قال «أُتي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بجنازة ليصلي عليها فقال: أعليه دين؟ قالوا: نعم دينارين، قال: ترك لهما وفاء؟ قالوا: لا، قال: فصلُّوا على صاحبكم، قال أبو قتادة: هما إليَّ يا رسول الله، قال فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه ابن حِبَّان والنَّسائي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان الرجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مات وعليه دين سأل هل له وفاءٌ، فإذا قيل نعم صلى عليه، وإذا قيل لا، قال: صلُّوا على صاحبكم، فلما فتح الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك ديْناً فعليَّ، ومن ترك مالاً فللوارث» رواه ابن حِبَّان والنَّسائي. وأما عن الثالث فقد رُوي أن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «مات رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله مات فلان، قال: لم يمت، ثم أتاه الثانية ثم الثالثة فأخبره، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف مات؟ قال: نحر نفسه بِمِشْقَصٍ، قال فلم يصل عليه» . وفي رواية قال «إذن لا أُصلِّي عليه» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 هذه هي الحالات الثلاث التي امتنع فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على الأموات وأَذِنَ لغيره من المسلمين بالصلاة عليهم. وسيأتي بعد قليل حكم الصلاة على شهيد المعركة مع الكفار ، وأن ذلك غير واجب وغير مندوب، ولكن هذه الحالة ليست حالة رابعة تضاف إلى الحالات الثلاث السابقة، وإنما هي متميِّزة بأنها الحالة التي يستغني فيها الشهيد عن الصلاة عليه بما نال من أجر ومنزلة عند ربه، وأنه لم يبق له حق على الأحياء بالصلاة عليه لأجل ذلك، فلا يصلي عليه الأحياء لا وجوباً ولا ندباً. إن المسلمين مأمورون بالصلاة على الميت ما دام مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لما روى أنس بن مالك رصي الله عنه قال «كان شابٌّ يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده فقال: أفتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال فجعل ينظر إلى أبيه فقال: قل كما يقول لك محمد، قال ثم مات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلوا على صاحبكم» رواه ابن أبي شيبة. وهذه الصلاة هي فرضٌ على الكفاية، وهو قول الجمهور، فلو صلَّى على الميت شخصٌ واحدٌ لكفى، ولَسَقط الإثم عن الآخرين. حكمُ الصلاة على شهيد المعركة مع الكفار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 وإنما قلت [على شهيد المعركة مع الكفار] لأُخْرِج من هذا الحكم من يُقتل في حرب البغاة لأنها حرب بين مسلمين والقتيل فيها غير شهيد، وكذلك يخرج من هذا الحكم من يُقتل في غير الجهاد ولو كان القتل بفعل كافر، كأن يَقتل كافرٌ مسلماً في نزاع وشجار بينهما، ويخرج من هذا الحكم أيضاً من خرجوا للجهاد في سبيل الله فماتوا بالطاعون أو بالغرق أو بداء البطن أو بغير ذلك من الحوادث والأمراض، وإن كانوا عند الله شهداء. فيبقى مَن يقتل في المعركة من قبل الكفار فحسب، فهذا هو الشهيد الذي يجري البحث عن حكم الصلاة عليه، ويلحق به طبعاً من يُجرح في المعركة مع الكفار ثم يموت متأثراً بجراحه، ولو تأخَّر موته أياماً أو أسابيع أو شهوراً، لأن واقعه أنه قُتل في المعركة مع الكفار ولكنْ تأخر خروج روحه فترة طالت أو قصرت. هذا الشهيد لا يُغسَّل ولا يُصلى عليه، بل يُدفن بثيابه وما لُطخت به من الدماء دون صلاة. فالصلاة على الشهيد غير واجبة ولا حتى مندوبة، وهي جائزة فقط، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى أُحُد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أُشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللحد وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يُغَسَّلوا ولم يُصلَّ عليهم» . وفي رواية أخرى «ولم يُصلِّ عليهم ولم يُغَسِّلهم» رواه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة. ورواه أحمد بلفظ «إنه قال في قتلى أحد لا تُغسِّلوهم، فإن كل جرح أو كلَّ دم يفوح مسكاً يوم القيامة، ولم يُصلِّ عليهم» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 أما الأحاديث المرويَّة عن تغسيل شهداء أُحُد والصلاة عليهم، فكلها لا تخلو من مقال، وفيها علة وضعف، فلا تصمد أمام هذا الحديث الصحيح. فيبقى حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه وهو «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوماً فصلى على أهل أُحُد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فَرَطٌ لكم، وأنا شهيد عليكم ... » رواه البخاري ومسلم. قوله إني فَرَطٌ لكم: مأخوذ من الفرط وهو من يسبق الناس إلى مورد الماء ليُهيِّئ لهم الحياض ويملأها بالماء، وهو هنا بمعنى أني متقدمكم إلى الحوض أو الكوثر في الجنة وستَرِدُون عليَّ. فهذا الحديث صحيح، وفيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صلى على شهداء أحد، إلا أن هذه الصلاة منه عليه الصلاة والسلام ليست للغاية نفسها من صلوات الجنائز، وإنما هي توديع منه لهؤلاء الشهداء قبل أن يموت، فهي أشبه بتحية المودِّع للموتى، فعن عقبة بن عامر الجُهَني قال «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أُحد بعد ثماني سنين كالمودِّع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فَرَط وأنا عليكم شهيد ... » رواه البخاري ومسلم. فهذه الرواية توضح أن صلاته على شهداء أحُد كانت وقفة وداع لهؤلاء الشهداء. فالشهيد لا يُغسَّل ولا يُصلَّى عليه. الصلاة على الأموات المسلمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 إن شهيد المعركة مع الكفار هو الحالة الوحيدة المستثناة من وجوب الصلاة على الأموات المسلمين، فكل مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله يجب على المسلمين أن يُصلُّوا عليه، لا فرق بين التقي والشقي، ولا بين الكبير والصغير، ولا بين العدل والفاسق، وحتى القاتل والمنتحر ومرتكب الكبيرة يجب على الأحياء أن يصلوا عليهم، والسِّقط - وهو الطفل الذي وُلد ميتاً أو مات عقب ولادته مباشرة - تجب الصلاة عليه هو الآخر ما دام إنساناً ذا روح، أي ولد عن أربعة أشهر فما فوق، لأن نفخ روحه يحصل عقب الأشهر الأربعة وهو في بطن أمه، وعند نفخ الروح يصبح إنساناً، فإن مات بعدئذٍ وجبت الصلاة عليه، فعن بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق الصدوق قال «إن أحدكم يُجمع خَلْقُه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مُضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله مَلَكاً فيُؤمر بأربع كلمات، ويُقال له اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح» رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة. وعن المغيرة بن شُعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «السِّقط يُصلَّى عليه ويُدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» رواه أحمد والنَّسائي وابن ماجة وابن حِبَّان والترمذي. أما ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «لقد تُوفِّي إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمانية عشر شهراً فلم يُصَلِّ عليه» رواه أحمد والبزَّار وأبو يعلى. فإن هذا الحديث منكر، قاله أحمد، وقال ابن عبد البر: لا يصح. فلا يُستشهد به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 وتُشرع الصلاةُ على مَن قُتل في حدٍّ من حدود الله سبحانه، كمن قَتَل نفساً فقُتل، أو زنى وهو مُحصَن فرُجم، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه «أن امرأة من جهينة اعترفت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزنا، وقالت أنا حبلى، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وليها فقال: أَحسنْ إليها، فإذا وضعَتْ فأخبرني، ففعل، فأمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فشُكَّت عليها ثيابُها، ثم أمر برجمها فرُجمت، ثم صلى عليها ... » رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسائي. قوله فشُكَّت: أي فشُدَّت، كي لا تتكشف عند رجمها بالحجارة. وعن جابر رضي الله عنه «أن رجلاً من أسلم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعترف بالزنا، فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى شهد على نفسه أربع مرات، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبك جنون؟ قال: لا، قال: أُحْصِنْتَ؟ قال: نعم، فأمر به فرُجِم بالمُصلَّى، فلما أذلقته الحجارة فرَّ، فأُدرك فرُجم حتى مات، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - خيراً وصلى عليه» رواه البخاري. قوله أذلقته الحجارة: أي بلغت الحجارة منه الجهد والشدة. وروى ابن أبي شيبة عن النعمان «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على ولد الزنا، وعلى أمه ماتت في نفاسها» . فصلاة الجنازة مشروعة على جميع أموات المسلمين مهما كانت معاصيهم وأحوالهم، باستثناء شهيد المعركة مع الكفار كما سبق بيانه. الصلاة على الغائب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 تُشرع الصلاة على الميت الغائب إطلاقاً، سواء مات من زمن قريب أو من زمن بعيد، وسواء مات في أرض الإسلام ودولة الإسلام أو مات في دار الكفر وبلاد الكفار، وسواء صلى عليه من قبلُ ناسٌ أو لم يصلِّ عليه أحد، وسواء دُفن في قبره أو لم يدفن بعد. فالصلاة مشروعة على الغائب مطلقاً دون تقييدٍ بزمان أو مكان أو حالة. فقد روى حذيفة بن أسيد رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ذات يوم فقال: صلوا على أخٍ لكم مات بغير أرضكم، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: صَحْمةُ النجاشي، فقاموا فصلوا عليه» رواه أحمد وابن ماجة وأبو داود الطيالسي. وعن الشعبي قال «أخبرني من مرَّ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبر منبوذٍ، فأمَّهم وصفوا خلفه، فقلت: يا أبا عمرو ومَن حدَّثك؟ قال: ابن عباس» رواه أحمد ومسلم. ورواه البخاري ولفظه «عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أَتى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قبراً فقالوا: هذا دُفن أو دُفنت البارحة، قال ابن عباس رضي الله عنه: فصففنا خلفه، ثم صلى عليها» . ورواه أبو داود بلفظ «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقبرٍ رطبٍ، فصفُّوا عليه وكبَّر أربعاً» . وعن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبرٍ بعد شهر» رواه البيهقي والدارقطني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن أسود، رجلاً أو امرأة، كان يَقُمُّ المسجد فمات، ولم يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بموته، فذكره ذات يوم فقال: ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله، قال: أفلا آذنتموني؟ فقالوا: إنه كان كذا وكذا، قصَّته، قال فحقُّروا شأنه، قال: فدلُّوني على قبره، فأتى قبره فصلى عليه» رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجة وابن حِبَّان. فضلُ الصلاة على الجنازة واتباعها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 من تبع جنازة من بدء سيرها وخروجها من بيت أهلها حتى يُصلَّي عليها نال أجراً يَعِْدل وزن الجبل العظيم، فليحرص المسلم على المشي في الجنائز والصلاة عليها، وإن هو استمرَّ في المشي في الجنازة حتى تُوارى التراب نال أجراً يعدل وزن جبلين عظيمين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من شهد الجنازة حتى يصلِّي عليها فله قيراط، ومن شهد حتى تُدفن كان له قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. وفي رواية أخرى لمسلم بلفظ «عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من صلى على جنازة ولم يَتْبَعْها فله قيراط، فإن تبعها فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: أصغرُهما مثل أُحُد» . وكما يحصل الثواب بالمشي في الجنازة، فإنه يحصل بالركوب في سيارة أو بركوب دابَّة، فالماشي كالراكب في اتِّباع الجنازة. الصلاة على الميت في المسجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من بعده يصلُّون على الميت في المُصلَّى، أي في المكان الذي كانوا يصلُّون فيه صلاة العيدين، وقَلَّما كانوا يصلون على الميت في المسجد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشيَّ في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المُصلَّى فصفَّ بهم، وكبَّر عليه أربع تكبيرات» رواه البخاري ومالك. وروى عباد بن عبد الله بن الزبير «أن عائشة أمرت أن يُمَرَّ بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرع ما نسي الناس، ما صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد» رواه مسلم وأبو داود وأحمد والترمذي وابن ماجة. وفي رواية أخرى عند مسلم والبيهقي من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير يحدِّث عن عائشة رضي الله عنها «أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص أرسل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمروا بجنازته في المسجد فيُصَلِّين عليه ففعلوا، فوُقِف به على حُجَرِهن يصلين عليه، أُخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد، فبلغهن أن الناس عابوا ذلك، وقالوا ما كانت الجنائز يُدخل بها المسجد، فبلغ ذلك عائشة فقالت: ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به، عابوا علينا أن يُمَرَّ بجنازة في المسجد، وما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 وأما ما روى صالح مولى التوأمة عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من صلى على جنازة في المسجد فليس له شئ» رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي. ورواه ابن أبي شيبة ولفظه «فلا صلاة له» . ورواه أبو داود ولفظه «فلا شئ له» . فإنَّ هذا الحديث مداره على صالح مولى التوأمة، اختلط في آخر عمره، وضعفه أحمد، وقال عنه ابن القطان ومالك والنَّسائي إنه ليس ثقةً، فيطرح حديثه. وعليه فإنا نقول إن الأَولى أن يُصلى على الجنائز في المُصلَّى، وتجوز الصلاة في المساجد دون إثم ودون حرج. موقفُ الإمام من الرجل ومن المرأة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 يُشرع أن يقف الإمام في صلاة الجنازة حيال رأس الرجل وأعالي صدره، وحيال وسط المرأة وعند عَجِيزتِها، هذا إن كانت الجنازة واحدة، أما إن تعددت الجنائز فكما يلي: إذا كانوا أمواتاً عدة صُفُّوا بحيث يكون الواحد أمام الآخر، ثم وقف الإمام حذاءَ رأس الأدنى إليه منهم، وصلى عليهم جميعاً صلاة واحدة، فإن كانوا رجلاً وامرأة وطفلاً معاً جُعل الرجل مما يلي الإمام، ثم جُعل الطفل أمام الرجل ثم جُعلت المرأة أمام الطفل مما يلي القِبلة، ثم صلى الإمام عليهم جميعاً صلاة واحدة، فعن سَمُرَة بن جُنْدُب رضي الله عنه قال «صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها» رواه البخاري وأحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي. ورواه مسلم بلفظ «صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصلى على أم كعب ماتت وهي نُفَسَاء، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها وسطها» . وعن أبي غالب - الحفاظ - عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أنه أُتي بجنازةِ رجلٍ، فقام عند رأس السرير، ثم أُتي بجنازة امرأة فقام أسفل من ذلك حذاء السرير، فلما صلى قال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة أهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من الرجل والمرأة نحواً مما رأيتك فعلت؟ قال: نعم، قال فأقبل علينا العلاء بن زياد فقال: احفظوا» رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والطحاوي. ورواه أبو داود ولفظه «فقام عند عَجِيزتِها» . ورواه البيهقي ولفظه «فقام أسفلَ من ذلك حذاء السرير يعني وسط المرأة» . قوله عَجِيزتِها: أي مُؤَخَّرتِها، وتعني وسط المرأة. وعن عطاء بن أبى رباح عن عمار - مولى الحارث ابن نوفل - قال «حضرت جنازة صبي وامرأة، فقُدِّم الصبي مما يلي القوم، ووُضعت المرأة وراءه، فصلى عليهما، وفي القوم أبو سعيد الخدري وابن عباس وأبو قتادة وأبو هريرة، فسألتهم عن ذلك فقالوا: السُّنَّة» رواه النَّسائي وأبو داود والبيهقي. قوله وُضعت المرأة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 وراءه: أي وُضع نعش المرأة وراء نعش الصبي. وإذا كان الصبي مسجَّى على جنبه الأيمن، فإن المرأة تكون آنذاك أمامه مما يلي القِبلة، يشهد لذلك ما رواه النَّسائي عن نافع «أن ابن عمر صلى على تسع جنائز جميعاً، فجعل الرجال يلون الإمام والنساء يلين القِبلة، فصفَّهن صفاً واحداً، ووُضعت جنازة أم كلثوم بنت علي امرأة عمر بن الخطاب وابن لها يقال له زيد، وُضعا جميعاً، والإمام يومئذ سعيد بن العاص، وفي الناس ابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة، فوُضع الغلام مما يلي الإمام، فقال رجل: فأنكرتُ ذلك فنظرت إلى ابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي قتادة فقلت: ما هذا؟ قالوا: هي السُّنَّة» . استحبابُ كثرةِ المصلين وكثرةِ الصفوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 يُندب أن يصلي على الجنازة جمعٌ غفير لا يقلون عن أربعين، فإن بلغوا المائة فهو زيادة فضل وخير، كما يندب أن يصطفَّ المصلُّون في ثلاثة صفوف على الأقل، وإن كان المصلون من أهل الصلاح والتقوى كان ذلك أرجى لقبول تشفُّعِهم في الميت، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يُشركون بالله شيئاً إلا شفَّعهم الله فيه» رواه مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حِبَّان. وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ما من ميت تصلي عليه أمةٌ من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شُفِّعوا فيه» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي والترمذي وابن حِبَّان. وعن مالك بن هبيرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما من مؤمن يموت فيصلي عليه أمةٌ من المسلمين بلغوا أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غُفر له» رواه أحمد والترمذي. ورواه ابن ماجة والحاكم والبيهقي. ورواه أبو داود بلفظ «ما مِن مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب، قال: فكان مالك إذا استقلَّ أهلَ الجنازة جزَّأهم ثلاثة صفوف، للحديث» . صفةُ صلاة الجنازة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 يقف الإمام والناسُ صفوفٌ خلفه، فيكبِّر رافعاً يديه، ثم يقرأ الفاتحة، ولا بأس بقراءة سورة بعدها، ثم يكبِّر ثانية رافعاً يديه، فيصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأَولى أن يقول الصلاة الإبراهيمية، ثم يكبِّر ثالثة رافعاً يديه، فيدعو للميت بإخلاص طالباً له المغفرة والرحمة، وإن هو دعا بأحد الأدعية المأثورة كان أفضل، ثم يكبِّر التكبيرة الرابعة ثم يسلم عن يمينه، وإن هو سلَّم أيضاً عن شماله كان أفضل، ويُسِرُّ في الصلاة ولا يجهر. هذه هي الصفة الفضلى للصلاة على الجنازة. ويجوز جمع الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الفاتحة والسورة، كما يجوز أيضاً جمع الدعاء إليها لتكون كلها عقب التكبيرة الأولى، ثم يكبر ثلاثاً دون قراءة أو ذكر أو دعاء. فالمشروع الواجب هو قراءة الفاتحة عقب التكبيرة الأولى، ثم ثلاث تكبيرات أخرى، وباقي الترتيب مُوسَّع يختار منه المصلي ما يشاء. والصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - تصحُّ بأية صيغة، ولكن الصلاة الإبراهيمية المشروعة في جلوس التشهد في الصلاة أفضل وأولى. ويجوز أن تكون صلاة الجنازة جهرية، ولكن الإسرار بها أفضل، ويجوز أن يكون التكبير خمساً وستاً وسبعاً. وهذه هي الأدلة على صفة صلاة الجنازة: أ- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش، فهلُمَّ فصلُّوا عليه، قال: فصففنا، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه ونحن صفوف» رواه البخاري ومسلم. ب- عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة، فكبَّر عليها أربعاً وسلَّم تسليمة» رواه البيهقي والدارقطني. ج- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «خِلالٌ كان يفعلهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تركهنَّ الناس، إحداهنَّ تسليم الإمام في الجنازة مثل تسليمه في الصلاة» رواه الطبراني والبيهقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 د- عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال «صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب قال: ليعلموا أنها سُنَّة» رواه البخاري وأبو داود والشافعي والترمذي وابن حِبَّان. ورواه النَّسائي ولفظه «فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهر حتى أسمَعَنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته، فقال سُنَّةٌ وحق» . وفي روايةٍ عند الحاكم بلفظ « ... ثم انصرف فقال: يا أيها الناس، إني لم أقرأ علناً إلا لتعلموا أنها السُّنة» . قوله سُنَّة والسُّنة هنا: أي طريقة الإسلام، وليس بمعنى النافلة أو التطوُّع. هـ- عن أبي أُمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن السُّنة في الصلاة على الجنازة أن يكبِّر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سراً في نفسه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات، لا يقرأ في شئ منهن، ثم يُسلِّم سراً في نفسه» رواه البيهقي والشافعي وعبد الرزاق وأبو داود الطيالسي. وأخرج نحوه الحاكم من وجه آخر. و عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه «أنه كان يرفع يديه على كل تكبيرة من تكبير الجنازة، وإذا قام بين الركعتين يعني في المكتوبة» رواه البيهقي والشافعي. ورُوي الرفع عن أنس وعن ابن عباس أيضاً. ز- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «نعى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه النجاشي، ثم تقدَّم فصفوا خلفه، فكبَّر أربعاً» رواه البخاري ومسلم وأبو داود. ح - عن جابر رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على أَصْحمة النجاشي فكبَّر أربعاً» رواه البخاري ومسلم. ط - عن عبد الأعلى قال «صليت خلف زيد بن أرقم رضي الله عنه على جنازة، فكبَّر خمساً، فقام إليه أبو عيسى عبد الرحمن بن أبى ليلى، فأخذ بيده فقال: نسيت، قال: لا ولكن صليت خلف أبى القاسم خليلي فكبَّر خمساً، فلا أتركها» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 ي - عن أبي وائل قال «كانوا يكبِّرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعاً وخمساً وستاً، أو قال أربعاً، فجمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبر كلُّ رجلٍ بما رأى، فجمعهم عمر رضي الله عنه على أربع تكبيرات كأطول الصلاة» رواه البيهقي. ك - عن شرحبيل بن سعد قال «حضرت عبد الله بن عباس صلى بنا على جنازة بالأبواء، وكبَّر ثمَّ قرأ بأم القرآن رافعاً صوته بها، ثم صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: اللهم عبدُك وابنُ عبدك وابنُ أمتك يشهد أن لا إله إلا الله وحدك لا شريك لك ويشهد أن محمداً عبدك ورسولك أصبح فقيراً إلى رحمتك وأصبحتَ غنياً عن عذابه، تَخلَّى من الدنيا وأهلها، إن كان زاكياً فزكِّه، وإن كان مخطئاً فاغفر له، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تُضِلَّنا بعده، ثم كبر ثلاث تكبيرات ثم انصرف، فقال: يا أيها الناس إني لم أقرأ علناً إلا لتعلموا أنها السُّنة» رواه الحاكم. وشرحبيل ضعفه ناس ووثَّقه ابن حِبَّان وابن خُزَيمة وابن معين، فيصلح للاستدلال. الدعاء للميت يصح الدعاء بأية صيغة فيها طلب الرحمة والمغفرة للميت، والتشفُّع له بإخلاص، إلا أن الدعاء بالمأثور أفضل، وهذه ثلاث صيغٍ للدعاء على الميت مروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أ- اللهم اغفر له وارحمه، وعافِهِ واْعفُ عنه، وأَكْرِمْ نُزُلَه ووسِّع مُدْخَله، واغسله بالماء والثلج والبَرَد، ونقِّه من الخطايا كما نقَّيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدلْه داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأَعِذْه من عذاب القبر ومن عذاب النار. ب- اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأُنثانا، اللهم من أحييتَه منا فأَحْيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفَّه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تُضِلَّنا بعده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 ج- اللهم عبدُك وابنُ عبدِك، كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنت أعلم به مني، إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فاغفر له، ولا تحرمنا أجره ولا تَفتنَّا بعده. دليل الدعاء الأول ما رواه عوف بن مالك رضي الله عنه قال «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة، فحفظتُ من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعفُ عنه، وأَكرم نُزُله ووسِّع مُدْخَلَه، واغسله بالماء والثلج والبَرَد، ونقِّه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأَبْدِله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأَعِذْه من عذاب القبر ومن عذاب النار» رواه مسلم والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. ودليل الدعاء الثاني ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة فقال: اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأُنثانا، اللهم من أحييتَه منا فأَحْيِه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفَّه على الإيمان، اللهم لا تَحْرمنا أجره ولا تُضلَّنا بعده» رواه ابن ماجة. ورواه أحمد والترمذي إلى «فتوفَّه على الإيمان» ورواه أبو داود وابن حِبَّان بألفاظ مختلفة. ودليل الدعاء الثالث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه كان إذا صلى على جنازة يقول: اللهم عبدُك وابنُ عبدِك كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدُك ورسولُك، وأنت أعلم به مني، إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مُسيئاً فاغفر له، ولا تحرمنا أجره ولا تَفتِنَّا بعده» رواه ابن حِبَّان. ورواه مالك موقوفاً على أبي هريرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 وإني أرى أن الدعائين الأول والثالث يُدعى بأحدهما إن كان الميت بالغاً، ذكراً كان أو امرأة، أما إن كان الميت سِقْطاً أو طفلاً دون البلوغ فيُدعى بالدعاء الثاني. ويمكن أن يُدعى بالدعاء التالي أيضاً [اللهم اجعله لنا سَلَفَاً وفَرَطاً وأجْراً] . فعن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه «أنه كان يصلي على المنفوس الذي لم يعمل خطيئة قط، ويقول: اللهم اجعله لنا سَلَفَاً وفَرَطاً وذُخراً» وفي لفظٍ ثانٍ «وأجراً» بدل (وذخراً) رواه البيهقي. والأصل في الدعاء للميت أن يكون بإخلاص علَّ اللهَ سبحانه وتعالى أن يتقبل الدعاء ويُشفِّع صاحبه في الميت، وبدون الإخلاص في الدعاء لا يكون شئ من ذلك، وقد رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» رواه أبو داود وابن ماجة وابن حِبَّان. وهذه الأدعية جاءت كلها بصيغة المذكَّر، وهي تصلح للذكور والإناث دون تغيير، فيُدعى بها كما وردت سواء كان الميت ذكراً أو أنثى، ويكون الدعاء على إرادة الشخص المُتوفَّى، وهو يشمل الجنسين. لا بدَّ لصلاة الجنازة من طهارة كاملة هناك عدد من الفقهاء يجيزون صلاة الجنازة بدون وضوء معتبرين أنها ليست صلاة، وإنما هي دعاء، أو صيغة وهيئة من صيغ الدعاء وهيئاته، والدعاء لا يلزمه الوضوء ولا الطهارة. فنقول لهؤلاء: لقد ابتعدتم كثيراً عن الحق والصواب، لأن صلاة الجنازة هي فعلاً صلاةٌ كسائر الصلوات، تبتدئ بتكبيرة الإحرام وتنتهي بالتسليم، ويُقْرأ فيها بفاتحة الكتاب، وتُؤدَّى كما تُؤدَّى الصلوات جماعةً وغير جماعة، فإن كانت جماعة فلها إمام ومأمومون يصطفُّون خلفه يقتدون به في صلاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 وقد وردت الأحاديث الكثيرة الناطقة بوصفها صلاة، ويكفي الحديث المروي على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - «صلوا على صاحبكم» . وحديث النجاشي «فصلُّوا عليه فصففنا، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه ونحن صفوف» . ولا حاجة بنا لمزيد بيان، فالقضية هي من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى وِقفةٍ أكثر من هذه. 3. صلاةُ الجُمُعَة صلاة الجمعة فرض عين على كل مسلمٍ ذكرٍ، وكل من يتخلف عنها ثلاث مرات بدون عذر أو تهاوناً بها يطبع الله سبحانه على قلبه، ويكون عنده من الغافلين ومن المنافقين. وهي ركعتان اثنتان عاديتان تُودَّيان جماعة، يسبقهما قيام الإمام بإلقاء خطبتين بينهما جلسة قصيرة، وتُوديَّان جهراً. ومن صلى ركعتي الجمعة كانتا له كفارة لما بينهما وبين الجمعة السابقة من معاصٍ وآثامٍ سوى الكبائر، وهذه هي أدلة ما سقناه من أحكام: 1- قال تعالى {يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوْا إذَا نُوْدِيَ للصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تعْلَمُوْنَ. فَإذَا قُضِيَت الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوْا في الأَرْضِ وَابْتَغُوْا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوْا اللهَ كَثِيْرَاً لَعَلَّكُمْ تَفْلِحُوْنَ} الآيتان 9 و 10 من سورة الجمعة. 2- عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما، أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد منبره «لَينتَهِيَنَّ أقوامٌ عن وَدَعِهم الجمعات أو ليختمنَّ الله على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين» رواه مسلم والدارمي. ورواه أحمد والنَّسائي وابن حِبَّان من طريق ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما. 3- عن عبد الله - بن مسعود - رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد هممتُ أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أُحَرِّقَ على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم» رواه أحمد ومسلم والحاكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 4- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من ترك الجمعة ثلاث مِرارٍ من غير عذر طبع الله على قلبه» رواه أحمد والنَّسائي وابن خُزَيمة وابن ماجة والحاكم. وروى ابن حِبَّان وأحمد وأبو داود والنّسائي والترمذي من طريق أبي الجعد الضمري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله على قلبه» . فجاء في هذه الرواية قوله «تهاوناً» . وروى ابن حِبَّان عن أبي الجعد الضمري أيضاً أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من ترك الجمعة ثلاثاً من غير عذر فهو منافق» . 5- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال «صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمامٌ غير قصرٍ على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -» رواه أحمد والنَّسائي وابن ماجة وابن حِبَّان. وفي سنده انقطاع بين عمر والراوي عنه ابن أبي ليلى، إلا أن البيهقي وصله بأن ذكر بينهما كعب بن عجرة فصار الحديث صالحاً للاستدلال. غير أن البيهقي لم يذكر [على لسان محمد ... ] وإنما روى الحديث موقوفاً على عمر. 6- عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طُهْر، ويدَّهن من دُهنه أو يمسُّ من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرِّق بين اثنين، ثم يصلي ما كُتِب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» رواه البخاري. ورواه مسلم وأحمد باختلافٍ في اللفظ. ولمسلم وأحمد وابن حِبَّان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غُفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسَّ الحصى فقد لغا» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 7- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «الجمعة إلى الجمعة كفارةُ ما بينهما ما لم تُغْشَ الكبائر» رواه ابن ماجة. 8- عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «رَواحُ الجمعة واجب على كل محتلم» رواه النَّسائي. 9- عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكِّر الناس» رواه مسلم. فهذه النصوص بمجموعها تدلُّ على الأحكام الواردة، ووجه الاستدلال بها ظاهر، وسيأتي مزيدٌ من الأدلة والتوضيحات على بعض هذه الأحكام في الأبحاث اللاحقة بإذن الله سبحانه. على من تجب الجمعة تجب صلاة الجمعة على أهل الأمصار، أي على سكان المدن والقرى والتجمعات السكنية، ولا تجب على الخارجين عنها البعيدين عن سماع الأذان، ويمكن تقدير مسافة البعد عن المِصر بثلاثة أميال، أي بحوالي خمسة كيلومترات تقريباً، فمن ابتعد عن حدود المدينة أو القرية هذه المسافة فإنه لا جُمعة عليه، لأنه لا يسمع الأذان في العادة، والمقصود بالأذان هنا الأذان دون مكبِّرات الصوت أو المُذاع من الإذاعات، وإنما الأذان بالصوت البشري العادي، فقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الجمعة على من سمع النداء» رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد لا بأس به. وروى عمرو بن شعيب «أن عبد الله بن عمرو بن العاص يكون بالوهط فلا يشهد الجمعة مع الناس بالطائف، وإنما بينه وبين الطائف أربعة أميال أو ثلاثة» رواه عبد الرزاق. وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال «لا جُمُعة ولا تشريق إلا في مصرٍ جامعٍ» رواه ابن المنذر وابن أبي شيبة. وقال ابن قدامة ( ... كانت قبائل العرب حول المدينة فلم يقيموا جمعة، ولا أمرهم بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان ذلك لم يَخْفَ ... ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 وتجب الجمعة على كل مسلم: إلا المريض والصبي والمرأة والعبد والمسافر، والمعذور لعذرٍ كالمطر والوحل والبرد الشديد والخوف على النفس أو المال أو الأهل، وكذلك المحبوس. ومن صلى صلاة العيد في يوم جمعة أجزأته عن صلاة الجمعة، ويجوز له أن يصلِّي الصلاتين. وهذا الحكم الأخير ينسحب على المأموم، أما الإمام فأنه يُسنُّ له أن يصلي الجمعة إِضافة لصلاة العيد، وذلك ليشهدها معه من تخلفوا عن صلاة العيد ومن أرادوا أداءها ممن صلوا صلاة العيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 ويجوز للمقيم في المصر أن يسافر في يوم الجمعة قبل حلول وقت صلاة الجمعة، أما في وقت الصلاة فلا يحل له السفر، لأن صلاة الجمعة تكون قد وجبت عليه فلا يحل له تركها، فعن طارق بن شهاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الجمعة حقٌ واجبٌ على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض» رواه أبو داود مرسلاً ووصله الحاكم. فقد رواه عنده طارق بن شهاب عن أبي موسى رضي الله عنه، فالحديث صحيح. وروى عبد الرزاق في مصنفه عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ليس على المسافر جمعة» . وهو مرسَل صحابي، ومراسيل الصحابة صالحة للاحتجاج، لأن جميع الصحابة عدول. ومثله الحديث المرسَل الذي رواه ابن أبي شيبة وأبو داود عن ابن أبي ذئب قال «رأيت ابن شهاب - الزُّهري - يريد أن يسافر يوم الجمعة ضَحْوَةً، فقلت له: تسافر يوم الجمعة؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سافر يوم الجمعة» . وروى الشافعي في مسنده «أن عمر بن الخطاب أبصر رجلاً على هيئة السفر، فسمعه يقول: لولا أن اليوم يوم جمعة لخرجتُ، فقال عمر: أُخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر» . وهذا الأثر وإن كان قولاً لعمر إلا أنه يبعد أن يقوله عمر من عند نفسه، وعلى أية حال فإن قول الصحابي حكم شرعي يصح أخذه والعمل به. وعن أبي مليح بن أسامة عن أبيه قال «أصاب الناس في يوم جمعة، يعني مطراً، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة اليوم أو الجمعة اليوم في الرِّحال» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والبيهقي. قوله في الرِّحال: أي في البيوت والمساكن. وقد جاءت روايات تذكر البيوت نصاً، فعن عبد الله بن الحارث ابن عم محمد بن سيرين قال «قال ابن عباس لمؤذِّنه في يوم مطير: إذا قلتَ أشهد أن محمداً رسول الله فلا تقل حيَّ على الصلاة، قل صلوا في بيوتكم، فكأنَّ الناس استنكروا، قال: فعله من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أُحرجكم فتمشون في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 الطين والدَّحْض» رواه البخاري ومسلم وأبو داود. قوله الدَّحْض: أي الزلق. فهذا القول والفعل من ابن عباس يدلان على أن المطر والطين من أعذار ترك الجمعة، ويدل قوله «وإني كرهت أن أُحْرِجكم» على العلة لترك الجمعة عند المطر والطين، وهي المشقة وحصول الحرج. ومن الأعذار أيضاً الريح الشديدة والبرد الشديد لما رواه نافع عن ابن عمر قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي مناديه في الليلة المطيرة أو الليلة الباردة ذات الريح: صلوا في رحالكم» رواه ابن ماجة ومالك. ولا يقال إن هذا الحديث جاء نصاً في الليل فهو قيد، وهو أيضاً في صلاة الجماعة وليس في صلاة الجمعة، لا يقال ذلك، لأن الاستدلال هنا هو في اعتبار البرد والريح والمطر أعذاراً، وما دامت هذه الثلاثة أعذاراً، فإنها تنسحب على صلاة الجمعة لأن العذر عذر، ولا تفريق في النصوص بين عذر الجماعة وعذر الجمعة، ومما يشهد لهذا الفهم ما رواه ابن عباس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر» رواه ابن ماجة. فهنا جاء النداء عاماً، وجاء العذر عاماً، فقصر الأعذار على ترك الجماعة دون الجمعة غير صحيح. والخوف عذر، والخوف يكون على النفس من عدو أو حيوان كاسر أو سيل جارف أو ... ، ويكون على المال، ويكون على الأهل، فأي خوف وُجد من هذه الأصناف اندرج تحت عذر الخوف المبيح لترك الجمعة، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من سمع المنادي فلم يمنعه من اتِّباعه عذر، قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض، لم تُقبل منه الصلاة التي صلى» رواه أبو داود. والحبس عذر، لأنه يحول دون تمكُّن المحبوس من أن يشهد الجمعة، والأمر ظاهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 أما أنَّ مَن صلى صلاة العيد في يوم جمعة فإن صلاة الجمعة لا تجب عليه، وتجزئ صلاة العيد عنها، فتجدون بحث هذه المسألة في البند 2 من بحث [صلاة العيدين ـ حكمُها ووقتُها] . وقت صلاة الجمعة وقتُ صلاة الجمعة وقتُ صلاة الظهر، أي عندما تزول الشمس عن منتصف السماء جهة الغرب، فقد روى إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال «كنا نُجَمِّعُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفئ» رواه مسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» رواه البخاري وأحمد والترمذي. وكما كان يفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخصوص صلاة الظهر من تأخيرها أيام الحر الشديد وتقديمها أيام البرد فكذلك كان يفعل بخصوص صلاة الجمعة، فقد كان يُعَجِّل الصلاة عند البرد ويؤخرها عند اشتداد الحرِّ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتد البرد بكَّر بالصلاة، وإذا اشتد الحرُّ أبْرَدَ بالصلاة، يعني الجمعة» رواه البخاري وابن خُزَيمة. النداء لصلاة الجمعة كان الأذان لصلاة الجمعة واحداً زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، وكان هذا الأذان يُرفع عند اعتلاء الإمام المنبر، ولم يكن يُرفع أذان آخر غيره، إلى أن جاء عثمان رضي الله عنه وكثر الناس، فزاد أذاناً آخر قبل هذا الأذان لإعلام الناس بقرب موعد صلاة الجمعة، وهذا الأذان إضافةً إلى الأذان الأول لا يزال معمولاً به حتى اليوم. فالأذان زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمن صاحبيه أبي بكر وعمر هو الأذان الثاني المعمول به حالياً، والأذان الذي زاده عثمان هو الأذان الأول في أيامنا هذه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل المسجد لصلاة الجمعة ثم يعتلي المنبر، فيقف المؤذن فوراً ويرفع الأذان في المسجد، وكان ذلك عند بدء وقت الصلاة، فوقت صلاة الجمعة يكون عند رفع الأذان والإمام جالسٌ على المنبر، وليس عند رفع الأذان الأول، ولهذا نجد في بعض مناطق المسلمين اليوم من يرفع الأذان الأول قبل زوال الشمس بساعة زمنية فلكية ولم يكن وقت الجمعة قد دخل، ولا يُعتبر الوقت قد دخل إلا عند رفع الأذان الثاني، ولهذا فإنا نقول إن وجوب السعي لصلاة الجمعة يكون عند رفع الأذان الثاني وليس عند الأذان الأول، وهذا الأذان الثاني هو المقصود من قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوْا إذَا نُوْدِيَ للصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُوْا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تعْلَمُوْنَ} الآية 9 من سورة الجمعة. فعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال «إن التأذين الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر أهل المسجد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام» رواه البخاري. قوله التأذين الثاني هنا: هو الأذان الأول. وجاء ذكره في بعض الروايات بأنه الأذان الثالث، والمقصود به الثالث بعد الأذان الأول ونداء الإقامة، فعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال «إن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان رضي الله عنه حين كثر أهل المدينة، ولم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - غير واحد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام، يعني على المنبر» رواه البخاري. ورواه أحمد ولفظه «كان الأذان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما أذانين، حتى كان زمن عثمان فكثر الناس، فأمر بالأذان الأول بالزَّوْراء» . والخلط في وصف أذان عثمان آت من جهة الاعتبار، فإن اعتُبرت الإقامة أذاناً قيل زاد عثمان الأذان الثالث، وإن لم تعتبر الإقامة أذاناً قيل زاد عثمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 الأذان الثاني، وإن اعتُبر الترتيب في رفع النداء قيل زاد عثمان الأذان الأول. وقد زاد عثمان رضي الله عنه هذا الأذان لإعلام الناس مسبقاً حتى يتهيأوا للصلاة قبل حلول ميقاتها، وكان يرفعه في سوقٍ بالمدينة يقال لها الزَّوراء لتسمعه جموع الناس، أما الأذان الثاني في الترتيب الزمني فيُرفع في المسجد أو على باب المسجد، هكذا كان، فعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال «كان يُؤذَّنُ بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس على المنبر يوم الجمعة، على باب المسجد، وأبي بكر وعمر» رواه أبو داود. والأمر المهم في هذا الموضوع هو أن الأذان الأول - وهو أذان عثمان - إنما كان يُرفع لتهيئة الناس للصلاة، ويكون قبل دخول وقت الوجوب، وأن الأذان الثاني المرفوع عند جلوس الإمام على المنبر هو الأذان المعتبر لوجوب السعي للصلاة وللإيذان بدخول الوقت. ولكن جمهرة المسلمين في عصرنا الراهن قد غيروا ميقات الأذان الأول، فجعلوه عند دخول وقت الوجوب وليس قبله كما كان الحال زمن عثمان، ولا مانع من ذلك ما دامت الصلاة لا تقام إلا بعد رفع الأذان الثاني كالمعتاد. أما ما أحدثه الناس في أيامنا هذه من الذكر والدعاء قبل الأذان الأول فليس له أصل والأَوْلى تركه. العدد الذي تجب فيه الجمعة الجمعة كالجماعة تصح من اثنين فصاعداً، وكلما كان العدد أكبر كانت الجمعة أفضل، ولكن الاثنين ومن هم أكثر من اثنين حتى تجب عليهم الجمعة لا بُدَّ من أن يكونوا في المدينة أو في القرية أو في التجمُّع السكاني، وليس في البوادي والحقول والعراء، وذلك لأن أهل البوادي والصحراء والمزارع لا تجب عليهم الجمعة ولو كثروا، ولا تجب الجمعة إلا على أهل الأمصار كما ذكرنا من قبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 أما ما اختلف فيه الفقهاء من الأعداد اللازمة لوجوب صلاة الجمعة فكلها اجتهادات فقهية غير مستنبطة من نصوص صالحة للاستدلال على ما ذهبوا إليه، فلم يثبت في عدد الجمعة حديث، إذ لم يثبت في شئ من الأحاديث تعيين عدد مخصوص، أعني اشتراط عددٍ مخصوصٍ لصحّة انعقاد الجمعة، وما ورد في الأحاديث من ذِكر الأعداد فإنه لا يخلو من أن يكون قد وقع اتفاقاً - أي واقعةَ عين - ولم يقع شرطاً، أو يكون قد ورد في روايات ضعيفة لا تصلح للاستدلال، فمثلاً: 1- عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه «كان أسعد أوّل من جمّعَ بنا في المدينة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هزْمٍ من حَرَّةِ بني بياضة في نقيعٍ يقال له الخَضِمات، قلت: وكم أنتم يومئذٍ؟ قال: أربعون رجلاً» رواه البيهقي والدارقطني. قوله - في هَزْم - الهزم هو ما استوى من الأرض. وقوله - حرّة بني بياضة - الحرّة هي الأرض المغطاة بالحجارة السوداء، وحرّة بني بياضة تقع على بعد ميل واحد من المدينة. والنقيع: البئر الكثيرة الماء. 2- عن جابر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائماً يوم الجمعة، فجاءت عيرٌ من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبْقَ إلا اثنا عشرَ رجلاً» رواه مسلم والترمذي وأحمد. فهذان النصَان ورد في أولها عدد الأربعين، وورد في ثانيهما عدد الاثني عشر، وقد ورد هذان العددان في النصين اتفاقاً ولم يردْ أيّ منهما كشرطٍ لوجوب الجمعة، وما يقع اتفاقاً لا يصلح مطلقاً ليكون شرطاً، فلا يؤخذ من هذين النصين أن صلاة الجمعة يشترط لها توفر الأربعين أو توفُّر الاثني عشر كما تقول الشافعية والمالكية والحنابلة. ومثلاً: 1- عن جابر قال «مضت السُّنَّة في كل ثلاثة إماماً وفي كل أربعين فما فوق جمعة وفطر وأضحى، وذلك أنهم جماعة» رواه أحمد والنسائي والدارقطني وابن حِبّان والبيهقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 2- عن أُمِّ عبد الله الدَّوْسِيَّة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الجمعة واجبةٌ على كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة» رواه البيهقي. 3- عن أبي أُمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «على الخمسين جمعة ليس فيما دون ذلك» رواه الدارقطني. فهذه ثلاثة نصوص وردت فيها الأعداد كشرط لصحة الجمعة ولكنها فوق كونها متناقضة هي نصوص ضعيفة الإسناد لا تصلح مطلقاً للاحتجاج فالنص الأول ضعّفه جمهرة الحفّاظ، وقال البيهقي (لا يُحْتَجُّ بمثله) والنص الثاني ضعّفه البيهقي نفسه والنص الثالث ضعّفه الدارقطني نفسه لأن في سنده جعفر بن الزبير قال الدارقطني: متروك. فهي أحاديث ضعيفة لا يحتج بها، ومن ثمّ لا تصلح للاستدلال. أما ما رُوي عن عمر بن عبد العزيز من أنه اشترط الأربعين في رواية واشترط الخمسين في رواية أخرى فلا يصلح للاستدلال، لأن أقوال التابعين ومَن بعدهم ليست أدلة على الأحكام الشرعية. وباختصار أقول إن كل ما قيل من اشتراط العدد لا يدل عليه دليل معتبر. إدراك ركعة من الجمعة لا بد منه لإدراك الجمعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 من أدرك ركعة من ركعتي الجمعة فقد أدرك صلاة الجمعة، وعليه أن يُتِمَّ صلاته بالإتيان بركعة ثانية فقط، أما من أدرك أقل من ركعة كأن أدرك الإمام وهو ساجد في الركعة الثانية، أو وهو جالس جلوس التشهد فإنه لا يكون قد أدرك صلاة الجمعة، ولذلك وجب عليه أن يصلي أربعاً هي صلاة الظهر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة» رواه الترمذي وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من أدرك من الجمعة ركعة فلْيصلِّ إليها أُخرى» رواه الحاكم. ولابن خُزَيمة بلفظ «من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة» . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال «من أدرك من الجمعة ركعة فلْيُضِف إليها أُخرى، ومن فاتته الركعتان فلْيصلِّ أربعاً» رواه الطبراني. قال الترمذي (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، قالوا: من أدرك ركعة من الجمعة صلَّى إليها أُخرى، ومن أدركهم جلوساً صلى أربعاً) . التبكير في الحضور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 يُسنُّ التبكير في الذهاب للمسجد لصلاة الجمعة، وأنَّ مَن أتى إليه في الساعة الأولى فكأنما تصدَّق بجمل، ومَن أتى إليه في الساعة الثانية فكأنما تصدق ببقرة، ومَن أتى إليه في الساعة الثالثة فكأنما تصدق بكبش، ومَن أتى إليه في الساعة الرابعة فكأنما تصدَّق بدجاجة، ومَن أتى إليه في الساعة الخامسة فكأنما تصدق ببيضة. وحيث أن الذي يأتي بعد حلول وقت الصلاة عند اعتلاء الإمام المنبر لا يكون مبكِّراً بحال، فإن الواجب القول إن التبكير يكون قبل حلول الوقت، أي قبل الزوال. فالحديث يندب المسلمين للتبكير إلى صلاة الجمعة قبل الزوال، وجعل الوقت مقسَّماً إلى خمسة أقسام أو ساعات، وجاء في بعض الروايات ذِكر ست ساعات، وهذه الساعات ليست هي الساعات التي نستعملها في أيامنا الراهنة، إذ لا يُتصوَّر أن تكون هذه الساعات هي الساعات الفلكية التي نعرفها اليوم، وإلا لوجب القول إن المبكِّر الأول يحضر في وقت شروق الشمس تقريباً، ولم يُرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من صحابته أنهم كانوا يحضرون لصلاة الجمعة عند شروق الشمس، فلم يبق إلا اعتبار هذه الساعات مجرَّد تقسيمات زمنية يُقدِّرُها عُرف الناس بالتبكير، ويقدرها قدوم الناس فعلاً لصلاة الجمعة، فنقول إن الفوج الأول من القادمين كأنما تصدَّقوا بجمل، والفوج الذين يلونهم كأنما تصدقوا ببقرة، وهكذا، ويبدأ العدُّ عند قدوم أول فوج من المصلين، وهذا القدوم يتقدم مرة ويتأخر مرة، فالعبرة بوقوع القدوم وليس بالتعيين الزمني المسبَق. وإني أرى أن لا يُعتدَّ بالقدوم إن كان حصل قبل ارتفاع الشمس عند الضحى، لأن ما قبل ذلك ليس وقت صلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من اغتسل يوم الجمعة غُسْل الجنابة ثم راح فكأنما قرَّب بَدَنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك وأبو داود. قوله بَدَنةً: أي بعيراً ذكراً كان أو أُنثى. وقوله كبشاً أقرنَ: أي ذا قرنين. فالحديث ذكر ساعات التبكير قبل خروج الإمام أي قبل حصول وجوب السعي، لأن في هذه اللحظة تطوي الملائكة صحفها وتشرع في الاستماع للذكر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول، ومَثَل المُهَجِّر كمثل الذي يُهدي بَدَنة، ثم كالذي يُهدي بقرة، ثم كبشاً، ثم دجاجة، ثم بيضة، فإذا خرج الإمام طَوَوْا صحفهم ويستمعون الذكر» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي والدارمي. ورواه ابن ماجة ولفظه «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على قدر منازلهم الأول فالأول، فإذا خرج الإمام طَوَوْا الصحف واستمعوا الخطبة، فالمُهجِّر إلى الصلاة كالمُهدي بَدَنة، ثم الذي يليه كمُهدي بقرة، ثم الذي يليه كمُهدي كبش - حتى ذكر الدجاجة والبيضة، زاد سهل في حديثه - فمن جاء بعد ذلك فإنما يجئ بحقٍّ إلى الصلاة» . قوله المُهجِّر: أي الآتي في الهاجرة وهي وقت اشتداد الحر. وقوله خرج الإمام: أي صعد الإمام المنبر للخطبة. فهذا الحديث يدل فوق ما يدل عليه على أمرين اثنين: أن التبكير يكون قبل خروج الإمام، لأن الملائكة لا تكتب عند خروج الإمام، أي أن التبكير ينتهي وقته إذا خرج الإمام، والأمر الثاني هو أن التبكير يبدأ عند اشتداد الحرِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 بدلالة قوله «ومَثَلُ المُهَجِّر» ، «فالمُهَجِّر إلى الصلاة» . والمُهجِّر هو القادم عند اشتداد الحر، وهذا ينفي أن يكون التبكير مبدأُه من شروق الشمس، وينفي بنفيه أن تكون الساعات الواردة في الحديث ساعاتٍ فلكية. سُنن الجمعة لصلاة الجمعة جملةٌ من السنن والمندوبات يُندب الإتيان بها وهي: 1- أن يغتسل الرجل قبل خروجه إلى الصلاة، فيذهب إلى الصلاة نظيفاً طيب الرائحة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا جاء أحدكم الجمعة فلْيغتسل» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي. وعن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت «كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أنكم تطهَّرتم ليومكم هذا» رواه البخاري ومسلم. قوله ينتابون، وفي رواية يتناوبون: أي يأتون فوجاً إثر فوج. والعوالي: هي منطقة خارج المدينة فيها المزارع. وعن ابن عباس رضي الله عنهما - وسأله رجل عن الغُسل يوم الجمعة أواجبٌ هو؟ - قال «لا، ومن شاء اغتسل، وسأُحدثكم عن بدء الغسل، كان الناس محتاجين وكانوا يلبسون الصوف، وكانوا يسقون النخل على ظهورهم، وكان مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ضيقاً متقارب السقف، فراح الناس في الصوف فعرقوا، وكان منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قصيراً، إنما هو ثلاث درجات، فعرق الناس في الصوف فثأرت أرواحُهم أرواحُ الصوف، فتأذى بعضهم ببعض حتى بلغت أرواحهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر، فقال: يا أيها الناس إذا جئتم الجمعة فاغتسلوا، ولْيمسَّ أحدكم من أَطيب طيبٍ إن كان عنده» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 2- أن يلبس ثياباً حسنة نظيفة، وأن يتطيَّب بما تيسر من الطيب، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «من اغتسل يوم الجمعة ومسَّ من طيب امرأته إن كان لها، ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخطَّ رقاب الناس، ولم يَلْغُ عند الموعظة كانت كفارة لما بينهما، ومن لغى وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً» رواه أبو داود. وعن ابن سلام رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «ما على أحدكم إن وجَد، أو ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته» رواه أبو داود. ورواه مالك عن يحيى بن سعيد مرسلاً، ورواه ابن ماجة ولفظه «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوب مهنته» . 3- أن يذهب إلى الصلاة ماشياً بسكينة وهدوء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إذا أُقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعَوْن، وائتوها تمشون عليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأَتِمُّوا» رواه البخاري. أمَّا إن كان المسجد بعيداً عنه فلْيركب ولْيدرك مرتبةً من مراتب التبكير فإن ذلك أفضل. 4- أن يصلي ركعتين تحيةَ المسجد قبل أن يجلس، فإن دخل والإمام على المنبر فلْيجعلهما خفيفتين، فعن جابر رضي الله عنه قال «دخل رجل يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال: أصليت؟ قال: لا، قال: فصلِّ ركعتين» رواه البخاري ومسلم والدارمي. وعنه «أن سُليكاً جاء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلس، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي ركعتين، ثم أقبل على الناس فقال: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصلِّ ركعتين يتجوَّز فيهما» رواه أحمد ومسلم وأبو داود. قوله يتجَوَّز فيهما: أي يسرع فيهما. ويمكن مراجعة بحث [تحية المسجد] فصل [صلاة التطوع] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 5- أن يجلس في أقرب مكان إلى الإمام بدون أن يتخطى رقاب الناس إلا أن يرى فُرجة لا يصل إليها إلا بتخطِّي الرقاب فلا بأس من ذلك، فعن سَمُرة بن جُنْدُب رضي الله عنه أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال «احضُروا الذكر وادنُوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يُؤخَّر في الجنة وإنْ دخلها» رواه الحاكم. وعن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه «أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - زاد في رواية يتخطى رقاب الناس - وهو يخطب يوم الجمعة، فقال: اجلس فقد آذيت وآنيت» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن خُزَيمة والطَّحاوي. ويمكن مراجعة بحث [تحية المسجد] فصل [صلاة التطوع] . وإن لم يجد المسلم مكاناً يجلس فيه في المسجد فلا يقيم غيره ويجلس مكانه، وإنما يقول: افسحوا أو تفسَّحوا، فعن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يقيم أحدُكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالفه إلى مقعده، ولكن ليقل: افسحوا» رواه أحمد والبخاري ومسلم. 6- ومن نعس في المسجد يوم الجمعة فلْيتحول من مكانه، وليجلس في مكان آخر، فإنَّ ذلك أدعى لدفع النعاس وغلبة النوم، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة فلْيتحول من مجلسه ذلك إلى غيره» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حِبَّان. 7- يُسنُّ للمُصلِّي أن يجلس قُبالة الإمام متوجِّهاً إليه لسماع خطبته ورؤيته، أما مَن كانوا بعيدين عنه لا يستطيعون رؤيته فإنهم يتوجهون نحو القِبلة، فعن عدي بن ثابت عن أبيه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم» رواه ابن ماجة، وهو مرسَل صحابي، ومراسيل الصحابة صالحة للاحتجاج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 8- يُندَب التَّنفُّل بالصلاة قبل الجمعة، وليس للتنفُّلِ قبل الجمعة مقدار معين، فلْيُصلِّ ما شاء من ركعات، وهذه الركعات ليست سُنةً للجمعة، لأن الجمعة لا سنةَ لها قبليةً، إلا أن يدخل المسجد والإمام على المنبر فيقتصر على ركعتي تحية المسجد فحسب، فعن نافع «أن ابن عمر كان يغدو إلى المسجد يوم الجمعة، فيصلي ركعات يطيل فيهن القيام، فإذا انصرف الإمام رجع إلى بيته فصلى ركعتين وقال: هكذا كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قُدِّر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام» رواه مسلم. خطبة الجمعة خطبةُ الجمعة فرضٌ إلقاؤها وفرضٌ سماعها والاستماع إليها، فهي داخلة في المعنى المقصود من ذكر الله الوارد في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوْا إذَا نُوْدِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللهِ وذَرُوْا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تعْلَمُوْنَ} الآية 9 من سورة الجمعة. وهي قسمان يفصل بينهما جلوس قصير، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال «إن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يخطب يوم الجمعة خطبتين يفصل بينهما بجلسة» رواه البزار وأحمد وأبو يعلى، ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائماً، ثم يقعد ثم يقوم كما تفعلون الآن» رواه البخاري ومسلم. وروى أحمد والطبراني عن ابن عباس مثله. وروى مسلم والنَّسائي أيضاً عن جابر عن سمرة مثله. ويُسنُّ أن تتضمن الخطبة ما يلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 أ- ذِكْر الشهادتين، لما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كل خطبة ليس فيها تشهُّدٌ فهي كاليد الجَذْماء» رواه ابن حِبَّان وأحمد. قوله الجذماء: أي القصيرة. ب- شيئاً من القرآن الكريم، لما رُوي عن جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه قال «كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويُذكِّر الناس» رواه مسلم. وعن أُم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت « ... وما أخذتُ ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقرأُها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي وأبو داود. ج- الوقوف حين الخطبة، ولا بأس بالاتِّكاء على قوس أو عصا، لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائماً يوم الجمعة ... » رواه مسلم. وعنه رضي الله عنه قال «ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب في الجمعة إلا قائماً، فمَن حدَّثك أنه جلس فكذِّبه فإنه لم يفعل، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ثم يقعد ثم يقوم فيخطب، كان يخطب خطبتين يقعد بينهما في الجمعة» رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي سعيد رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب قائماً على رجليه» رواه أحمد. د- إلقاؤُها بصوت قوي غاضب، لما رُوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرَّت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه منذِرُ جيشٍ، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، ويقول: بُعثتُ أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين أصابعه» رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 هـ - أن تكون الخطبة قصيرة موجزة، وذلك من فقه الإمام الخطيب، لما رُوي عن عمار ابن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إنَّ طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئِنَّةٌ من فقهِه، فأطيلوا الصلاة وأَقصروا الخطبة، فإنَّ من البيان لسِحْراً» رواه أحمد ومسلم. قوله مَئِنَّة: أي علامةٌ ودلالة. ولما رُوي عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كنت أُصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً» رواه مسلم والنَّسائي والترمذي وابن ماجة والدارمي. و بدء الخطبة بحمد الله والثناء عليه، فعن جابر رضي الله عنه قال «خطَبَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهل له، ثم قال: أمَّا بعدُ، فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وإنَّ أفضلَ الهَدْي هديُ محمدٍ، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها وكلَّ بدعة ضلالة، ثم يرفع صوته وتحمَرُّ وجنتاه، ويشتد غضبه إذا ذكر الساعة كأنه مُنْذِرُ جيشٍ، قال: ثم يقول: أتتكم الساعة» رواه أحمد وابن ماجة. ز - إذا دعا الخطيب رفع سبَّابَته فقط، ولم يرفع يده كلها كما يفعل الخطباء في زماننا هذا، لما رُوي عن حصين بن عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه قال «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب إذا دعا يقول هكذا، ورفع السَّبَّابَة وحدها» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسائي. ولما رُوي عن عمارة بن رُوَيْبة رضي الله عنه قال «خطب بِشْر بن مروان وهو رافع يديه يدعو، فقال عمارة: قبَّح الله هاتين اليدين، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، وما يقول إلا هكذا، يشير بإصبعه» رواه ابن خُزَيمة ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 وهذا مثالٌ لافتتاحية خطبة [إنَّ الحمد لله نستعينه ونستغفره ونستهديه ونستنصره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه، من يطع الله ورسوله فقد رَشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون، يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتَّقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يُصلح لكم أعمالكم ويَغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً، أما بعد ... ] . وتجدون أجزاء هذه الافتتاحية مبثوثة فيما رواه الشافعي في مسنده من طريق ابن عباس، وفيما رواه أبو داود من طريق ابن مسعود، وفيما رواه غيرهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 وإذا خطب الإمام سكت الناس وحرم عليهم الكلام، إلا أن يكلِّم أحدُهم الإمام فلا بأس. والكلام في أثناء الخطبة لغوٌ، واللغو يحرم صاحبه ثوابَ صلاةِ الجمعة، فإنَّ من تكلم لغا ومن لغا فلا جمعة له، وتُحتَسَبُ له صلاة ظهر. وإذا سلم أحدهم على جاره ردَّ الآخر السلام في نفسه دون إخراج صوتٍ، وأثِمَ مَن سلَّم. وهذا الإنصات مشروع لمن حضر الخطبة: الداني القريب والنائي البعيد. فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال « ... ومن لغى وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً» رواه أبو داود. وقد مرَّ بتمامه في البند 2 من بحث [سنن الجمعة] . وعن علي رضي الله عنه قال « ... ومَن قال يوم الجمعة لصاحبه (صه) فقد لغا ومن لغا فليس له في جمعته تلك شئ، ثم يقول في آخر ذلك: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك» رواه أبو داود. وعن أنس رضي الله عنه قال «بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل فقال: يا رسول الله هلك الكُراع وهلك الشاءُ، فادع الله أن يسقينا، فمد يديه ودعا» رواه البخاري. قوله الكُراع: أي الخيل. وقوله فمد يديه ودعا: مدّ اليدين هنا إنما حصل في دعاء الاستسقاء، وهو هنا حالة عرَضية، وهو لا يتعارض مع قولنا إن خطيب الجمعة يرفع سبَّابته ولا يرفع يده كلها، ففي دعاء الاستسقاء يُشرع مد اليدين حتى يظهر بياض الإبطين، فعن أنس بن مالك قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه في شئ من دعائه إلا في الاستسقاء، وأنه يرفع حتى يُرى بياض إبطيه» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. وسيأتي في بحث الاستسقاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 أما الإمام فيجوز له إنْ عَرَضت له حاجة وهو يخطب أن يقطع الخطبة، وله أن ينزل عن المنبر لقضائها، ثم بعد قضاء الحاجة يعود لإتمام خطبته، فعن أبي رفاعة رضي الله عنه قال «انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه، قال: فأقبل إليَّ، فأُتيَ بكرسي فقعد عليه، فجعل يعلمني مما علَّمه الله تعالى، قال: ثم أَتى خطبته فأتمَّ آخرها» رواه أحمد ومسلم والبيهقي. وعن بُريدة الأسلمي رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر، فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: صدق الله ورسوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرتُ إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والبيهقي. القراءة في صلاة الجمعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 قلنا في بحث [قراءة القرآن في الصلوات الخمس] فصل [صفة الصلاة] ما يلي (إنه ليس هناك سُنة ثابتة في اختيار الآيات القرآنية لكل صلاة، لذا فإن المسلم بالخيار بين قراءة هذه السورة أو تلك في هذه الصلاة أو تلك، فليست أية سورة من سور القرآن الكريم بأفضل من أختها لصلاة دون صلاة) . ونضيف هنا: إنْ ورد نصٌ يفيد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قرأ في صلاة كذا بسورة كذا فإنَّ ذلك لا يعني أن قراءة هذه السورة في هذه الصلاة صارت هي المندوبة دون سواها من السُّور، فالعبرة هي بقراءة سورة أو بضع آيات من القرآن، أو حتى بقراءة آية واحدة، وأما قراءة ما قرأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليست هي المندوبة وحدها، وإنما يتحقق المندوب بقراءة أي شئ من كتاب الله عزَّ وجلَّ. ونذكر هنا جملة من الأحاديث التي وردت في قراءته عليه الصلاة والسلام في صلاة الجمعة للعلم بها وللاطلاع فحسب، وندع مَن يودُّ أن يقرأ كما قرأ عليه الصلاة والسلام يأخذ من هذه الأحاديث مبتغاه: 1- عن ابن أبي رافع قال « ... فصلى لنا أبو هريرة الجمعة، فقرأ بعد سورة الجمعة في الركعة الآخرة إذا جاءك المنافقون، قال: فأدركت أبا هريرة حين انصرف فقلت له: إنك قرأت بسورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما بالكوفة، فقال أبو هريرة: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما يوم الجمعة» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي. وفي رواية ثانية عند مسلم من طريق ابن أبي رافع أيضاً بلفظ «فقرأ بسورة الجمعة في السجدة الأولى، وفي الآخرة إذا جاءك المنافقون» . 2- عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 3- عن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان حين من الدهر، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة، والمنافقين» رواه مسلم وأحمد وأبو داود. 4- عن سَمُرة بن جُنْدُب رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الجمعة بـ سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية» رواه أحمد وأبو داود والشافعي والنَّسائي والبيهقي. السُّنّة الراتبة لصلاة الجمعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 أخذاً بالقاعدة التي اعتمدناها في فصل [صلاة التطوع] فإنَّا نقول إن لصلاة الجمعة سنة مؤكدة راتبة بعدية هي ركعتان اثنتان فحسب، وإن لها ركعتين أُخريين بعديتين ملحقتين بالسنة المؤكدة الراتبة، فيُسنُّ الإتيان بركعتين اثنتين عقب صلاة الجمعة، وإن أتى بأربع ركعات كان ذلك أفضل. والأفضل أن تُؤدَّى السُّنَّة البعدية في البيت، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي ركعتين» رواه البخاري. ورواه مسلم ولفظه «كان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته» . وعنه رضي الله عنه «أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعاً - وفي رواية - فإن عجل بك شئ فصلِّ ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت» رواه مسلم وأحمد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا صلى أحدكم الجمعة فلْيُصلِّ بعدها أربعاً» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي. فضل يوم الجمعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 يوم الجمعة أفضل الأيام على الإطلاق، فهو أفضل من يوم الفطر ومن يوم الأضحى ومن يوم عرفة، فالأحاديث التي جعلت يوم عرفة أفضل الأيام هي أدنى مرتبة من أحاديث تفضيل الجمعة على سائر الأيام. ففي يوم الجمعة خلق الله آدم عليه السلام، وفيه أدخله الله الجنة، وفيه أخرجه منها، وفيه توفَّاه الله سبحانه، وفي يوم الجمعة ساعة يُستجاب فيها الدعاء، وفيه تقوم القيامة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «خيرُ يومٍ طلعت عليه الشمس يومُ الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» رواه مسلم وأحمد والترمذي. وعن أبي لبابة البدري بن عبد المنذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «سيد الأيام يوم الجمعة وأعظمها عند الله تعالى، وأعظم عند الله عزَّ وجلَّ من يوم الفطر ويوم الأضحى، وفيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفَّى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبدُ فيها شيئاً إلا آتاه الله تبارك وتعالى إياه ما لم يسأل حراماً، وفيه تقوم الساعة، ما من ملَكٍ مقرَّب ولا سماءٍ ولا أرضٍ ولا رياحٍ ولا جبالٍ ولا بحرٍ إلا هن يُشفقن من يوم الجمعة» رواه أحمد. ورواه ابن ماجة والبزَّار والطبراني باختلاف في اللفظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 أما الساعة التي يستجاب فيها الدعاء في يوم الجمعة فهي واقعةٌ ما بين صلاة العصر وغروب الشمس على الرأي الأصحِّ، فلْيجتهد المسلمون في الدعاء في هذه الساعة، وليثقوا باستجابة الله سبحانه لدعائهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوم الجمعة فقال: فيه ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم وهو قائم يصلي، يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه، وأشار بيده يُقلِّلها» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي ومالك. قوله يقللها: أي أنها ساعة قصيرة. وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله عزَّ وجلَّ فيها إلا أعطاه إياه وهي بعد العصر» رواه أحمد والبزَّار. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «يوم الجمعة ثِنتا عشرة، يريد ساعة، لا يوجد مسلم يسأل الله عزَّ وجلَّ شيئاً إلا آتاه الله عزَّ وجلَّ، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر» رواه أبو داود والنَّسائي والحاكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 وقد أشكلت على الناس العبارة التي تقول «لا يوافقها عبدٌ مسلم وهو قائم يصلي» ، وذلك لأن آخر ساعة من النهار وبعد صلاة العصر لا صلاة فيها، فكيف يقال «وهو قائم يصلي» ؟ والجواب على هذا الإشكال هو أن من جلس بعد الصلاة، أو جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة، فعن أبي سلمة «قلت لعبد الله بن سلام: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في صلاة وليست بساعة صلاة، قال: أَوَ لم تعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: منتظر الصلاة في صلاة؟ قلت: بلى هي والله هي» رواه أحمد وابن خُزَيمة والحاكم. وعن أبي النضر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سلام قال «قلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس: إنا نجد في كتاب الله في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو في الصلاة فيسأل الله عزَّ وجلَّ شيئاً إلا أعطاه ما سأله، فأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: بعض ساعة، قال فقلت: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو النضر قال أبو سلمة: سألته: أية ساعة هي؟ قال: آخر ساعات النهار، فقلت: إنها ليست بساعة صلاة، فقال: بلى إنَّ العبد المسلم في صلاة إذا صلى ثم قعد في مصلاه لا يحبسه إلا انتظار الصلاة» رواه أحمد وابن ماجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 فالساعة التي يُستجاب فيها الدعاء واقعة في آخر نهار يوم الجمعة، لأن هذه الساعة هي ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة. أما الحديث الذي رُوي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بلفظ «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تُقضى الصلاة» رواه مسلم وأبو داود والبيهقي. فقد أعلَّه الدارقطني بالانقطاع بين مخرمة راوي الحديث وبين أبيه، ووافقه الحافظ ابن حجر قائلاً (وجود التصريح من مخرمة بأنه لم يسمع من أبيه كافٍ في دعوى الانقطاع) . وقال أحمد نقلاً عن حمَّاد بن خالد: مخرمة بن بكير رواه عن أبيه بكير بن عبد الله بن الأشجِّ وهو لم يسمع من أبيه. وأضاف: إن حمَّاد بن خالد سمعه من مخرمة نفسه. ثم إن الحافظ العراقي قد رمى هذا الحديث بالاضطراب، فالحديث وإن ورد في صحيح مسلم إلا أنه لا يُحتجُّ به. وفي يوم الجمعة يُندب الإكثار من الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن الصلاة عليه تعرض عليه في هذا اليوم فيُسَرُّ بها، فعن أوس بن أبي أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلق آدم وفيه قُبض، وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ، فقالوا: يا رسول الله وكيف تُعرض عليك صلاتُنا وقد أَرِمْتَ؟ ـ يعني وقد بَلِيتَ ـ قال: إن الله عزَّ وجلَّ حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء صلوات الله عليهم» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وابن حِبَّان. الفصل العاشر صلاة أهل الأعذار [الخائف والمسافر والمريض] 1) صلاة الخوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 إذا خاف المسلمون عدوَّهم شُرع لهم أداء صلاتهم مقصورةً بأشكال وكيفيات عدة أوصلها بعض الأئمة إلى سبعة أشكال، وأوصلها بعضهم الآخر إلى سبعة عشر شكلاً، والدليل على مشروعية هذه الصلاة قولُه تعالى {وَإذَا ضَرَبْتُمْ في الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوْا مِن الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الذِيْنَ كَفَرُوْا إنَّ الكَافِرِيْنَ كَانُوْا لَكُمْ عَدُوَّاً مُبِيْنَاً} الآية 101 من سورة النساء. أما قصر صلاة الخوف فعامٌّ يشمل إنقاص عدد ركعات الصلاة، فتُصلَّى الرباعية ركعتين، كما تُصلى ركعةً واحدة، وكذلك الصلاة الثنائية صلاة الصبح، كما يشمل إنقاص حدودها وركوعها وسجودها وهيئاتها، فتُصلَّى إيماءً بلا ركوع ولا سجود ولا وقوف ولا توجُّهٍ نحو القِبلة، أي تُصلَّى كيفما اتفق، والحالة الأخيرة تكون عند اشتداد الخوف وعند الالتحام في القتال، وكل هذه الإنقاصات تدخل تحت قوله تعالى {أَنْ تَقْصُرُوْا مِن الصَّلاةِ} . فالقصر الوارد في الآية الكريمة يعني مطلق الإنقاص وليس هو القصر الوارد في السفر الخاص بإنقاص الركعات الأربع إلى ركعتين فحسب، والدليل على هذا الفهم آت من جهة القرآن ومن جهة الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 أما القرآن الكريم فيقول بعد الآية المذكورة أعلاه {وَإذَا كُنْتَ فِيْهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُم الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوْا أَسْلِحَتَهُمْ فَإذَا سَجَدُوْا فَلْيَكُوْنُوْا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىْ لم يُصَلُّوْا فَلْيُصَلُّوْا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوْا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الذِيْنَ كَفَرُوْا لَوْ تَغْفُلُوْنَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيْلُوْنَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذَىً مِن مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَىْ أَنْ تَضَعُوْا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوْا حِذْرَكُمْ إنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِيْنَ عَذَاباً مُهِيْنَاً. فَإذَا قَضَيْتُم الصَّلاةَ فاَذْكُرُوْا اللهَ قِيَامَاً وَقُعُوْدَاً وَعَلَىْ جُنُوْبِكُمْ فَإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيْمُوْا الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَىْ المُؤْمِنِيْنَ كِتَابَاً مَوْقُوْتَاً} الآيتان 102، 103 من سورة النساء. فقد قال سبحانه وتعالى {فَأَقَمْتَ لَهُم الصَّلاةَ} ، وذكر بعده شكلاً من أشكال قصر الصلاة، أي أنه سبحانه وصف صلاة الخائف المقصورة بأنها إقامةٌ للصلاة، بمعنى أن من صلى صلاة الخوف المقصورة إلى ركعتين اعتُبِرَ مقيماً للصلاة، ثم قال في الآية التي تليها {فَإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيْمُوْا الصَّلاةَ} مع بقاء حالة القصر، ما يعني أن الصلاة بغير الاطمئنان لا تُعتبر إقامة لها. وبمعنى آخر فإن أداء الصلاة عند الاطمئنان يوصف بأنه إقامةٌ لها، ومفهومه أن أداء الصلاة في غير حالة الاطمئنان لا يعتبر إقامةً لها، فإذا علمنا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما أُمر أن يصلي صلاة الخوف المقصورة بالمؤمنين خوطِبَ بقوله تعالى {فَأَقَمْتَ لَهُم الصَّلاةَ} أدركنا أن صلاة الخوف المقصورة إلى ركعتين هي إقامةٌ للصلاة، فلم يبق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 من دلالة قوله تعالى {فَإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيْمُوْا الصَّلاةَ} إلا أنَّ أداءَ الصلاة عند عدم الاطمئنان لا يطلق عليه لفظ إقامة الصلاة، فلم يبق إلا أن يكون أداؤها عند عدم الاطمئنان بإنقاص لا توصف الصلاة معه بأنها مُقامة، وهي إشارة إلى أداء هذه الصلاة بإنقاصٍ آخر غير إنقاصِ عدد الركعات إلى ثنتين، وهو الإيماء أو الاقتصار على ركعة واحدة فحسب. وأما الحديث فقد ورد منه ما يلي: أ- عن ابن عباس رضي الله عنه «أنَّ الله عزَّ وجلَّ فرض الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - على المقيم أربعاً، وعلى المسافر ركعتين، وعلى الخائف ركعة» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي والبيهقي. ب - عن ابن عباس رضي الله عنه قال «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بذي قَرَد - أرضٍ من أرض بني سُليم - فصفَّ الناس خلفه صفَّين، صف موازي العدو وصف خلفه، فصلى بالصف الذي يليه ركعة، ثم نكص هؤلاء إلى مصافِّ هؤلاء وهؤلاء إلى مصافِّ هؤلاء، فصلى بهم ركعة أخرى - زاد في رواية - فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ولكل طائفة ركعة» رواه أحمد والنَّسائي والبيهقي والحاكم وابن حِبَّان. وروى أحمد والنَّسائي والبيهقي والطحاوي عن جابر مثله. وروى أحمد وأبو داود والنَّسائي والبيهقي والحاكم عن حذيفة مثله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 ج- عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل بين ضَجْنانَ وعُسْفانَ، فقال المشركون: إن لهم صلاةً هي أحبُّ إليهم من آبائهم وأبنائهم وهي العصر، فأَجْمِعوا أمرَكم فميلوا عليهم ميلةً واحدة، وإن جبريل عليه السلام أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يقسم أصحابه شطرين، فيصلي ببعضهم، وتقوم الطائفة الأخرى وراءهم ولْيأخذوا حِذْرَهم وأسلحتهم، ثم تأتي الأخرى فيصلون معه، ويأخذ هؤلاء حِذْرَهم وأسلحتهم، لتكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتان» رواه أحمد والنَّسائي والترمذي. وضَجْنان وعُسْفان هما موضعان بين مكة والمدينة. فهذه الأحاديث تدل على أن الصلاة عند الخوف تُخَفَّض أي تنقص إلى ركعة واحدة فقط، وأيضاً: أ- روى البخاري ومالك وابن ماجة حديثاً طويلاً عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وجاء في آخره قول ابن عمر «فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلى ركعتين، فإذا كان خوفٌ هو أشد من ذلك صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم أو ركباناً، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها» . ورواه مسلم وجاء فيه «فإذا كان خوفٌ أكثر من ذلك فصلِّ راكباً أو قائماً تُومئ إيماءً» . ب- عن عبد الله بن أنيس قال «بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خالد بن سفيان الهذلي وكان نحو عُرَنة وعرفات، فقال: اذهب فاقتلْه، قال: فرأيته وحضرتْ صلاةُ العصر فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما إنْ أُؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي وأنا أُصلي أومئ إيماءً نحوَه، فلما دنوت منه قال لي: مَن أنت؟ قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذاك، قال: إني لفي ذاك، فمشيت معه ساعة حتى إذا أمكنني علوتُه بسيفي حتى برد» رواه أبو داود. ورواه أحمد والبيهقي مطوَّلاً، وجاء في رواية أحمد «فصليت وأنا أمشي نحوه أُومئ برأسي الركوع والسجود» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 ج- عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال لسعيد بن العاص وهو يشرح له كيفية صلاة الخوف «وتأمر أصحابك إنْ هاجهم هَيْجٌ من العدو فقد حلَّ لهم القتال والكلام» رواه أحمد وهذا طرف منه. ورواه أبو داود والنَّسائي والبيهقي والحاكم. فهذه النصوص الثلاثة وإن وردت على ألسنة صحابة فإنه يبعد أن تكون من عند أنفسهم، وكلها تفيد أن صلاة الخوف تكون إيماءً، أو يتخللها القتال والكلام، ما يعني أن الصلاة هنا غير مقامة على هيئتها المعروفة. فالقصر الوارد في قوله سبحانه {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوْا مِن الصَّلاةِ} عام في القصر إلى ركعتين، وفي القصر إلى ركعة، وفي القصر إلى الإيماء. قلت في بدء البحث إنَّ لصلاة الخوف أشكالاً وكيفيات عدة، وأقول هنا إنَّ أبرز هذه الأشكال ما يلي: 1. الصلاة ركعة واحدة: يُصلي الإمام بطائفةٍ ركعةً واحدة، ثم يَثْبُتُ قائماً ويتركهم خلفه يسلِّمون وينصرفون، فتأتي الطائفة الثانية فيصطُّفون خلفه، فيصلي بهم ركعته الثانية وركعتَهم الوحيدة ويسلم ويسلمون، ولا تُؤدِّي أيٌّ من هاتين الطائفتين ركعةً أخرى، بل تصلي كل طائفة ركعة واحدة فحسب، بينما يصلي الإمام ركعتين اثنتين، والأدلة على هذا الشكل الأحاديث الثلاثة المارة قبل قليل: عن ابن عباس حديثان وعن أبي هريرة حديث واحد. 2. الصلاة ركعتان اثنتان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 أ- يصلي الإمام بطائفة ركعةً واحدة ويَثْبُتُ قائماً، وينتظر حتى يُتِمُّوا لأنفسهم ركعتهم الثانية وينصرفوا، وتأتي الطائفة الثانية فيصطفُّون خلفه فيصلي بهم ركعته الثانية، ويصلون هم معه ركعتهم الأولى، ثم يثبت الإمام جالساً، وينتظرهم حتى يُتمُّوا لأنفسهم الركعة الثانية، ثم يسلم ويسلمون، والدليل على هذا الشكل ما رواه صالح بن خوَّات عمن شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرِّقاع صلى صلاة الخوف «أن طائفة صفَّت معه وطائفة وُجَاهَ العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا، فصفُّوا وُجَاهَ العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً وأتمُّوا لأنفسهم، ثم سلم بهم» رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك وأبو داود. ب - أو يصلي الإمام بطائفة ركعتين اثنتين يُتِمُّونهما معه وينصرفون ويثبت، ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم الإمام ركعتين اثنتين يتمونهما معه ويسلم ويسلمون، والدليل على هذا الشكل ما رُوي عن جابر رضي الله عنه قال «أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بذات الرِّقاع قال ... قال فنودي بالصلاة، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات وللقوم ركعتان» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والطحاوي والبيهقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 ج - يصلي الإمام بطائفة ركعتين ويسلم ويسلمون ثم ينصرفون، وتأتي الطائفة الأخرى فتصطفُّ خلفه ثم ينوون معاً ويصلون معاً ركعتين ثم يسلم ويسلمون، وهذه أسهل الأشكال كلها، والدليل عليها ما رُوي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال «صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف فصلى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلَّم فتأخروا، وجاء آخرون فكانوا في مكانهم فصلى بهم ركعتين ثم سلَّم، فصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات وللقوم ركعتان ركعتان» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن حِبَّان والدارقطني. وتكون صلاة الإمام الثانية نافلة. وأنت أخي المسلم بالخيار بين هذه الأشكال وبين غيرها من الأشكال الأخرى الثابتة والمروية كلها بأسانيد صحيحة، وإن كان لي أن أختار لكم فإني أختار الأسهل منها وهو الشكل الثالث الأخير. أما بخصوص صلاة المغرب فإن الإمام يفعل كما يفعل في الصلاة الثنائية مما جاء في البند 2 سوى أنه يكون بالخيار بين أن يصلي بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الأخرى ركعتين، أو يعكس فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالطائفة الأخرى ركعة، فكلا الأمرين جائز. أما إن دهم العدو المسلمين في ديارهم وأخافهم في بيوتهم فأرادوا أن يصلوا في الحضر صلاة الخوف أربع ركعات تامات، فإن الإمام يفعل مثل فعله في البند 2 سوى أنه يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ويثبت قائماً ريثما يُتِمُّون وحدهم صلاتهم الرباعية، أي ريثما يأتون بركعتين إضافيتين ثم ينصرفون، ثم تأتي الطائفة الأخرى ويصطفون خلف الإمام فيصلي بهم ركعتيه المتبقيتين، فيُتِم لنفسه أربع ركعات، ويصلون هم معه ركعتيهم الأوليين، ويثبت الإمام جالساً ريثما يُتمُّون هم ركعتيهم المتبقيتين، وبذلك يتمون لأنفسهم أربع ركعات، ثم يسلم ويسلمون. الصلاة إيماءً وعلى المركوب وفي غير جهة القِبلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 إذا اشتد الخوف واستبدَّ بالناس الذعرُ من الأعداء، ولم يعد يسهل عليهم إقامة صلاة الخوف بأية كيفية من الكيفيات المشروعة ذات القيام والقعود والركوع والسجود، جاز لهم إتيانُ الصلاة إيماءً بحيث يكون السجود أخفض من الركوع، وجازت لهم الصلاة وهم ماشون، وهم راكبون، كما جازت لهم دون أن يستقبلوا القِبلة، فيؤدون الصلاة إيماءً وكيفما اتفق، يصليها هكذا الهاربُ من عدوه، راكباً السيارة أو الطائرة أو الدابة أو السفينة، كما يصليها إيماءً الملتصقُ بحجر أو صخرة أو جدار في حالة اختباء من العدو. فهذه الحالات وأمثالها لا يحتاج فيها المصلي إلى أكثر من القراءة والذكر والإيماء فحسب، ولْيُصلِّ إلى أي اتجاه، ولا عليه عند ذلك، وصلاته صحيحة مقبولة. وقد مرت النصوص الثلاثة الدالَّةُ على ذلك المرويةُ عن حذيفة وعبد الله بن أنيس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين. 2) صلاة المسافر الأصل في صلاة المسافر القصر، أي ركعتان للظهر وللعصر وللعشاء، وتبقى صلاتا الصبح والمغرب على حالهما دون تغيير، فعن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت «كان أول ما افتُرِض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاةُ ركعتان ركعتان إلا المغرب فإنها كانت ثلاثاً، ثم أتمَّ الله الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً في الحضر، وأقرَّ الصلاة على فرضها الأول في السفر» رواه أحمد وابن حِبَّان وابن خُزَيمة والبيهقي. وعن عمر رضي الله عنه قال «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان، تمامٌ غير قصر على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، وقد خاب من افترى» رواه ابن خُزَيمة وأحمد والنَّسائي وابن ماجة والبيهقي. وقد مرَّ في بحث [صفة صلاة العيدين] فصل [صلوات مفروضة عدا الصلوات الخمس] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 والصلاةُ قصراً ينال صاحبها ثواب الصلاة الرباعية، لذا فلا داعي لأدائها في السفر أربع ركعات، لا سيما وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضوان الله عليهم - وهم أحرص الناس على الثواب - كانوا يقصرون دوماً في السفر، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال « ... إني صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ... » رواه مسلم والبخاري وأحمد. والقصر في السفر رخصة لا فرق بين السفر الآمن والسفر المَخُوف، فعن يعلى بن أمية قال «قلت لعمر بن الخطاب: ليس عليكم جُناح أن تَقْصُروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، فقد أمِن الناس، فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» رواه مسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن ماجة. وعن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمِنَى آمَنَ ما كان الناس وأكثره ركعتين» رواه مسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن ماجة. وفي رواية أخرى لمسلم من طريق حارثة رضي الله عنه بلفظ «صليتُ خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمِنى والناس أكثر ما كانوا، فصلى ركعتين في حجة الوداع» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 وما دامت الصلاة المقصورة رخصة فإن ترك الصلاة المقصورة والإتيان بالصلاة الرباعية جائز لا حُرمةَ فيه، فقوله تعالى {فلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوْا مِن الصَّلاةِ} جزء من الآية 101 من سورة النساء. وقوله عليه الصلاة والسلام «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» ، يدل كلاهما على أن القصر رخصة وليس عزيمة. وأيضاً قد رُويت أحاديثُ كثيرة تذكر أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صلوا صلاة رباعية في بعض أسفارهم أذكر منها ما يلي: أ- عن عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة رضي الله عنها «أنها اعتمرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة، حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأُمي قصرتُ وأتممتُ وأفطرتُ وصمتُ قال: أحسنتِ يا عائشة، وما عاب عليَّ» رواه النَّسائي والبيهقي. ب - عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها «أنها كانت تصلي في السفر أربعاً، فقلت لها: لو صليتِ ركعتين فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشقُّ عليَّ» رواه البيهقي بسند صحيح، ورواه عبد الرزاق بلفظ «أنها كانت تُتِمُّ في السفر» . ج - عن ابن عمر رضي الله عنه قال «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمِنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدراً من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعدُ أربعاً، فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين» رواه مسلم، ورواه البخاري بلفظ قريب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 د - عن حفص عن أنس بن مالك أَنه قال «انطُلِقَ بنا إلى الشام إلى عبد الملك ونحن أربعون رجلاً من الأنصار لِيَفْرِضَ لنا، فلما رجع وكنا بفجِّ الناقة صلى بنا العصر ثم سلم ودخل فسطاطه، وقام الناس يضيفون إلى ركعتيه ركعتين أخريين قال، فقال: قبَّح الله الوجوه، فوالله ما أصابت السُّنَّة ولا قُبلت الرخصة ... » رواه أحمد. وروى أحمد من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير أن معاوية صلى في مكة ركعتين فترة ثم صلى أربعاً. فعائشة وعثمان وأربعون من الأنصار ومعاوية كلهم صلوا في السفر أربعاً، وطبعاً صلى عثمان وكذلك معاوية أربعاً يأتمُّ بهما ناسٌ من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلو كانت الصلاة الرباعية غير جائزة للمسافر لمَا حصل ما حصل من هؤلاء الصحابة، ولمَا أثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فعل عائشة هذا، فالصحيح أن القصر في السفر رخصة وليس عزيمة كما يقول بذلك عدد من الفقهاء. مسافة القصر لقد اختلف الأئمة والفقهاء اختلافاً كبيراً في تقدير المسافة التي لا بدَّ من أن يقطعها المسافر حتى يجوز له أن يقصر الصلاة، حتى إنَّ محمد بن المنذر قد أوصل هذه الآراء إلى العشرين، ونحن نكتفي باستعراض أبرز الآراء هذه، لا سيما وأن معظمها لا دليل معتبراً عليها، ثم نناقشها مع أدلتها وشُبُهاتها بشئ من التفصيل، حتى نقف على الصواب في هذه المسألة بإذن الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 أ - رأي الأحناف: جاء في كتاب المبسوط لشمس الدين السرخسي، وهو عُمدة كتب الأحناف، ما يلي [ ... والخارج إلى حانوتٍ أو إلى ضيعةٍ لا يسمى مسافراً، فلا بد من إثبات التقدير لتحقيق اسم المسافر، وربما قدَّرنا بثلاثة أيامٍ لحديثين، أحدهما قوله - صلى الله عليه وسلم - «لا تسافر المرأةُ فوق ثلاثةِ أيامٍ ولياليها إلا ومعها زوجها، أو ذو رحمٍ محرمٍ منها» معناه ثلاثةَ أيام، وكلمة فوق صلةٌ في قوله تعالى فاضربوا فوق الأعناق، وهي لا تمنع من الخروج لغيره بدون محرمٍ. وقال - صلى الله عليه وسلم - «يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيامٍ ولياليها» فهو تنصيص على أن مدة السفر لا تنقص عما يمكن استيفاء هذه الرخصة فيها، والمعنى فيه أن التخفيف بسبب الرخصة لما فيه من الحرج والمشقة، ومعنى الحرج والمشقة أن يحتاج إلى أن يحمل رَحلَهُ من غير أهله ويحطه في غير أهله، وذلك لا يتحقق فيما دون الثلاثة ... ] إلى أن قال [ولا معنى للتقدير بالفراسخ، فإن ذلك يختلف باختلاف الطرق في السهول والجبال والبر والبحر، وإنما التقدير بالأيام والمراحل، وذلك معلوم عند الناس فيرجع إليهم عند الاشتباه، فإذا قصد مسيرة ثلاثة أيام قصر الصلاة] وقد شاركهم الرأي هذا سعيد بن جُبَير وسفيان الثوري، ونُسب إلى عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وحذيفة رضي الله عنهم. فالمسافر في رأي الأحناف لا يجوز له أن يقصر الصلاة في أقل من مسيرة ثلاثة أيام، ولا عبرة عندهم بتقدير المسافة بالأميال والفراسخ، وإنما التقدير بالأيام والمراحل. ب - رأي المالكية: جاء في كتاب المدونة الكبرى للإمام مالك ما يلي: [قال ابن القاسم: كان مالك يقول قبل اليوم: يقصر الصلاة في مسيرة يوم وليلة، ثم ترك ذلك، وقال مالك: لا يقصر الصلاة إلا في مسيرة ثمانية وأربعين ميلاً كما قال ابن عباس في أربعة بُرُدٍ] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 فالمسافر في رأي المالكية لا يجوز له أن يقصر الصلاة في أقل من مسيرة ثمانية وأربعين ميلاً، وهي تعادل ستة عشرَ فرسخاً، أو 88.7 كيلو متراً. ج - رأي الشافعية: جاء في كتاب الأم للشافعي ما يلي: [ ... فللمرء عندي أن يقصر فيما كان مسيرة ليلتين قاصدتين، وذلك ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي، ولا يقصر فيما دونها، وأما أنا فأحبُّ أن لا أقصر في أقل من ثلاث احتياطاً على نفسي، وأن ترك القصر مباح لي. فإن قال قائل: فهل في أن يقصر في يومين حجة بخبرٍ متقدم؟ قيل: نعم عن ابن عباس وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أخبرنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس أنه سئل: أتقصر إلى عرفة؟ فقال: لا، ولكن إلى عُسْفان وإلى جدة وإلى الطائف، قال: وأقرب هذا من مكة ستةٌ وأربعون ميلاً بالأميال الهاشمية، وهي مسيرة ليلتين قاصدتين دبيبَ الأقدام وسيرَ الثقل، أخبرنا مالك عن نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة، أخبرنا مالك عن نافع عن سالم أن ابن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيرة ذلك، قال مالك: وبين ذات النصب والمدينة أربعة بُرُدٍ، أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في مسيرة ذلك، قال مالك: وذلك نحوٌ من أربعة بُرُدٍ] . فالمسافر في رأي الشافعي يصح له أن يقصر في مسيرة ليلتين قاصدتين، وهي تعادل ستة وأربعين ميلاً بالهاشمي، أي مسافة 85 كيلومتراً. ويحتاط الشافعي لنفسه فيقصر في مسيرة ثلاث ليالٍ، وهذه تعادل 127.5 كيلو متراً. د- رأي الحنابلة: جاء في كتاب المغني لابن قدامة الحنبلي ما يلي: [وإذا كانت مسافة سفره ستة عشرَ فرسخاً أو ثمانية وأربعين ميلاً بالهاشمي فله أن يقصر. قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله - أي لأحمد بن حنبل - في كم تقصر الصلاة؟ قال: في أربعة بُرُدٍ، قيل له: مسيرة يومٍ تامٍّ؟ قال: لا، أربعةُ بُرُدٍ ستة عشرَ فرسخاً ومسيرة يومين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 فمذهب أبي عبد الله أن القصر لا يجوز في أقل من ستةَ عشرَ فرسخاً، والفرسخ ثلاثة أميال، فيكون ثمانية وأربعين ميلاً، قال القاضي: والميل اثنا عشر ألف قدمٍ، وذلك مسيرة يومين قاصدين، وقد قدره ابن عباس فقال: من عُسْفان إلى مكة، ومن الطائف إلى مكة، ومن جدة إلى مكة ... ، فعلى هذا تكون مسافة القصر يومين قاصدين، وهذا قول ابن عباس وابن عمر، وإليه ذهب مالك والليث والشافعي وإسحق] وأضاف ابن قُدامة إلى ما سبق ما يلي [وروي عن ابن عمر أنه يقصر في مسيرة عشرة فراسخ، قال ابن المنذر: ثبت أن ابن عمر كان يقصر إلى أرضٍ له وهي ثلاثون ميلاً، وروي نحو ذلك عن ابن عباس، فإنه قال: يقصر في اليوم ولا يقصر فيما دونه، وإليه ذهب الأوزاعي، وقال عامة العلماء: يقولون مسيرة يومٍ تامٍّ، وبه نأخذ ... ] فالمسافر في رأي أحمد بن حنبل يحتاج لأن يقطع مسافةَ ثمانيةٍ وأربعين ميلاً حتى يجوز له القصر، وهي تعادل 88.7 كيلو متراً، وهو رأي مالك. إلا أن ابن قُدامة لم يلتزم برأي إمامه وإنما أخذ بقول عامة العلماء بتقدير المسافة بمسيرة يومٍ تامِّ، وهي تعادل أربعةً وعشرين ميلاً، أي 44.35 كيلو متراً فقط، دون أن يذكر من هم هؤلاء العلماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 هـ - رأي ابن حزم، وهو من علماء أهل الظاهر: جاء في كتابه المسمى المحلى ما يلي [والسفر هو البروز عن محلة الإقامة، وكذلك الضرب في الأرض، هذا الذي لا يقوم أحدٌ من أهل اللغة - التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن - سواه، فلا يجوز أن يخرج عن هذا الحكم إلا ما صحَّ النصُّ بإخراجه، ثم وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خرج إلى البقيع لدفن الموتى، وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصروا ولم يفطروا، ولا أفطر ولا قصر، فخرج هذا عن أن يسمى سفراً، وعن أن يكون له حكم السفر، فلم يَجُزْ لنا أن نُوقِع اسم السفر إلا على من سماه من هو حجة في اللغة سفراً، فلم نجد ذلك في أقلَّ من ميلٍ، فقد روينا عن ابن عمر أنه قال «لو خرجت ميلاً لقصرتُ الصلاةَ» ] . وأضاف ابن حزم ما يلي [وأما نحن فإن ما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر فلا يقصر فيه ولا يفطر، فإذا بلغ الميل فحينئذ صار في سفره تُقصَر فيه الصلاة ويُفطَر فيه، فمن حينئذ يقصُرُ ويُفطِرُ] . فالمسافر في رأي ابن حزم يقصر الصلاة في مسيرة ميل واحد خارج بيوت المدينة أو القرية وتعادل 1848 متراً، أي كيلو متراً واحداً وثمانية أعشار الكيلومتر. وللعلم فقط أذكر لكم آراء أخرى في هذه المسألة قال بها عدد من الفقهاء دونما حاجة منا لمناقشتها، أنقلها لكم من كتاب المحلى لابن حزم وهذه هي [أما من قال بتحديد ما يقصر فيه بالسفر من أُفق إلى أُفق، وحيث يحمَل الزاد والمزاد، وفي ستة وتسعين ميلاً، وفي اثنين وثمانين، وفي اثنين وسبعين ميلاً، وفي ثلاثة وستين ميلاً، أو في واحد وستين ميلاً، أو ثمانية وأربعين ميلاً، أو خمسة وأربعين ميلاً، أو أربعين ميلاً، أو ستة وثلاثين ميلاً] . ونحن قبل أن نبدأ بالمناقشة التفصيلية نذكر جملة من البنود الأصولية المعتبرة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 أ - إن الحكم حتى يكون شرعياً لا بد من أن يؤخذ من الشرع، أي من أدلته المعتبرة، وهي الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس فقط، وما سوى هذه الأدلة الأربعة لا تصلح عندنا للاحتجاج، ولا يكون الحكم المستنبط منها حكماً شرعياً في حقنا نحن. ب - إن قول الصحابي حتى يكون دليلاً شرعياً لا بد من أن يُجمِعَ الصحابةُ عليه، أما إن قال صحابي أو عشرة من الصحابة أو حتى مائة منهم قولاً، وجاء صحابة آخرون بقولٍ أو أقوالٍ مخالِفة، فإن ذلك يعني أنَّ أياً من هذه الأقوال لا تعتبر دليلاً شرعياً، وكل ما يقال فيها أنها أحكام شرعية اجتهادية بحق من قال بها، ومن قلَّدها أو اتَّبعها فقط. ج - إن الحقائق الشرعية مقدَّمة على الحقائق اللغوية، ولا يُعمل بالحقائق اللغوية إلا في حالة عدم وجود حقائق شرعية، ولا يجوز العكس مطلقاً تحت أي ظرف من الظروف. د - إذا جاء قولٌ أو فعلٌ لصحابي، ثم جاء قولٌ أو فعلٌ مغايرٌ لصحابي آخر فإن ذلك يعني أنه قولٌ أو فعلٌ اجتهاديٌّ، وليس قولاً أو فعلاً مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا نُقل عن صحابي واحدٍ قولان أو فعلان مختلفان كان ذلك مَدْعاةً لرفض كلا القولين أو الفعلين وعدم جواز العمل بأيًّ منهما، إلا أن يكون أحدهما قد نُقل بسند ضعيف فيُطرح، ويؤخذُ الآخر إن كان قد نُقل بسند صحيح أو حسنٍ. هـ - إذا ورد في مسألةٍ نصٌّ من كتاب الله أو من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وورد في المسألة نفسها قول صحابي أُخِذ فقط بالنص من كتاب الله أو من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك قول الصحابي، إلا أن يكون هذا القول شرحاً أو تفسيراً للنص، فلا بأس بأخذه عندئذٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 و - إذا ورد نصٌّ في مسألة عولجت المسألةُ بهذا النص وقُصِرَ النصُّ عليها، ولم يَجُزْ علاج أية مسألة أخرى به، إلا أن تكون بين المسألتين علةٌ مشتركةٌ ظاهرةٌ في النص صراحةً أو دلالةً، وإلا فلا قياس مطلقاً لا سيما في العبادات. بالاتفاق على هذه البنود الأصولية، وبالنظر في آراء الأئمة الأربعة وغيرهم التي استعرضناها آنفاً على ضوء هذه البنود نستطيع بسهولة ويُسرٍ أن نردَّ جميع هذه الآراء، ونُظهر خطأها كلها، ونُثبت أن الصواب قد جانب الجميع فيها، وأنها كلها قد جاءت مخالِفةً للنصوص الشرعية الواردة في هذه المسألة. أما كيف؟ فإليكم البيان: 1 - مناقشة رأي الأحناف: استدلَّ الأحناف على تقدير مسافة القصر بقوله عليه الصلاة والسلام «لا تُسافر المرأةُ فوق ثلاثة أيامٍ ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رحِمٍ محرمٍ منها» وبقوله - صلى الله عليه وسلم - «يمسح المقيم يوماً وليلةًً والمسافرُ ثلاثة أيامٍ ولياليها» . فنقول لهؤلاء ما يلي: إن هذين الحديثين لا يدلان على دعواهم بحالٍ من الأحوال، وذلك أن الحديث الأول قد جاء في موضوعٍ خاصٍّ بسفر المرأة فيُقصَرُ عليه ولا يتعداه إلى غيره، والمعلوم فقهياً أن النص إذا جاء مخاطباً النساء قُصِرَ عليهن ولم يدخل فيه الرجال بحال، فلا يشمل هذا الحديث سفر الرجل، فضلاً عن أنه في غير موضوع قصر الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 وأما الحديث الثاني فقد جاء في موضوع المسح في الوضوء فيُقصَرُ عليه، ولا يُنقلُ إلى موضوع قصر الصلاة في السفر. وإذن فإن هذين الحديثين لا يصح أن يؤتى بهما على موضوعنا، فسفر المرأة غير قصر الصلاة، والمسح في الوضوء غير قصر الصلاة، فهذه ثلاثة مواضيع منفصلة متباعدة لا تجمع بينها علةٌ ظاهرةٌ لا صراحةً ولا دلالةً حتى يصح القياس. ولا يقال إن السفر هو علةٌ مشتركة بين هذه المواضيع، لا يقال ذلك لأن السفر هنا ليس علةٍ وإنما هو سبب، والسبب لا يقاس عليه. وعليه، وحيث أن هذين النصين قد جاءا في موضوعين منفصلين تماماً عن موضوع قصر الصلاة، وحيث أنهما لا يشتركان مع قصر الصلاة بأية علة، فإن القياس هنا لا يصح. ثم إن هؤلاء قد نظروا في لفظ هذين الحديثين فوجدوا فيهما لفظة السفر، ووجدوا هذه اللفظة قد جاءت بصدد السير ثلاثة أيام ولياليها، فقالوا: ما دام السير ثلاثة أيام ولياليها وُصف بأنه سفر، فإنا نقول إن المسافر هو من سار هذه المدة الزمنية أو أكثر منها، وليس أقل منها، وبذلك يصح له دون غيره قصر الصلاة. فنقول لهم ما يلي: إننا لا نخالفهم في أن السير ثلاثة أيام ولياليها يعتبر سفراً، ولكننا نقول إن الثلاثة أيام ولياليها لم تأت في الحديثين شرطاً ولا تقييداً للسير حتى يعتبر سفراً، وإنما جاءت تقييداً زمنياً لسفر المرأة وللمسح في الوضوء فحسب، ولا أدل على خطأ دعواهم من الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومٍ وليلة ليس معها حرمة» رواه البخاري ومسلم. قوله: حرمة: أي رجل محرم بنسب أو قرابة. فهذا نص صحيح صريح على أن مسيرة يوم وليلة يطلق عليها اسم السفر، وهي ثلث المسيرة التي جعلوها شرطاً وتقييداً للسير حتى يصح إطلاق اسم السفر عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 بل إن هناك أحاديث صالحةً أطلقت اسم السفر على ما دون هذا وذاك بكثير، فعن اللجلاج قال «كنا نسافر مع عمر بن الخطاب، فنسير ثلاثة أميال فيتجوَّز في الصلاة ويقصر» رواه ابن أبي شيبة. وعن محارب بن دثار قال: سمعت ابن عمر يقول «إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر» رواه ابن أبي شيبة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تسافر امرأةٌ بريداً إلا مع ذي محرم» رواه البيهقي وأبو داود. والبريد أربعة فراسخ، وتقدر بـ 22 كيلو متراً. وهذه المسافة تقطع في نصف يوم تقريباً. فماذا يقول إخواننا الأحناف؟ إن مما لا شك فيه أن الحديثين اللذين استنبطوا منهما القصر لا يفيدانهم، وأن هذين الحديثين لا علاقة لهما من قريب أو بعيدٍ بموضوع مسافة القصر. 2 - مناقشة رأي المالكية: رأي المالكية مأخوذٌ من قول منسوب لابن عباس رضي الله عنه فهو إذن اتباع لابن عباس لا اجتهادٌ منهم في النصوص، فمن أحب أن يقلد، أو يتَّبِع ابن عباس كما فعل مالك فليفعل، ولكننا هنا لسنا بصدد تقليد أو اتباع أحد، وإنما نريد أن نستنبط الحكم الشرعي من النصوص الشرعية، وسنذكر عدداً من النصوص الشرعية لاحقاً تعارض قول ابن عباس هذا، ومن ثَم قول المالكية، مما يُظهرُ خطأ هذا الرأي. ثم إن أقوال الصحابة - وهي ليست أدلة شرعية - تعتبر غير صالحة للاحتجاج إن هي تعارضت واختلفت، ونحن في مسألتنا هذه نجد أقوال صحابةٍ وأفعالاً لصحابةٍ تخالف قول ابن عباس رضي الله عنه، مما يضطرنا إلى عدم أخذ هذا الرأي، فعن محمد ابن زيد بن خليدة عن ابن عمر قال «يقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال» رواه ابن أبي شيبة. ومر قبل قليل حديث اللجلاج «كنا نسافر مع عمر بن الخطاب، فنسير ثلاثة أميال فيتجوَّز في الصلاة ويقصر» رواه ابن أبي شيبة. فالمسألة ليست مسألة انتقاءِ أقوالٍ من أقوالٍ دون سندٍ شرعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 3 - مناقشة رأي الشافعية: رأي الشافعية اتِّباع هو الآخر لابن عباس وابن عمر فيما نُسبَ إليهما، وليس اجتهاداً في النصوص الشرعية، انظروا في مسند الشافعي يقول ما يلي [أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح قال «قلت لابن عباس: أقصُرُ إلى عرفة؟ قال:لا، ولكن إلى جدة وعُسفان والطائف، وإن قدمتَ على أهلٍ أو ماشيةٍ فأَتم» . (قال) وهذا قول ابن عمر، وبه نأخذ] . فهو قول واضح تماماً أنه اتِّباع لابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما. وأكرر القول إننا هنا لسنا بصدد تقليد أو اتباع أحد، وإنما نريد أن نستنبط الحكم الشرعي من النصوص الشرعية، وهي متوافرة في مسألتنا هذه، وستأتي بإذن الله. 4 - مناقشة رأي الحنابلة: القول فيه هو القول نفسه في رأي الشافعية، فالحنابلة قد اتَّبعوا بعض الصحابة، ولم يستدلوا على تقدير المسافة بالنصوص الشرعية، والغريب أنَّ ابن قُدامة، وهو فقيه الحنابلة المقدَّم، لم يأخذ برأي إمامِه أحمد، ولم يقلد أو يتَّبع صحابةً، ولم يستند إلى نص شرعي، وإنما اتَّبع، كما يقول، عامةَ العلماء، فأخذ بمسيرة يومٍ تامٍّ، وليتهُ ذكر لنا أسماء عامة العلماء هؤلاء، أو عددهم على الأقل، فأخطأ خطأين اثنين: أولهما أنه لم يستدل على رأيه بالنصوص الشرعية، والثاني أنه قلَّد أو قل اتَّبع عامة العلماء كما قال، مع أن علماء المذاهب الأربعة هم عامة العلماء، وهم لا يقولون بهذا القول. 5 - مناقشة رأي ابن حزم: إن ابن حزم بحث المسألة بحثاً لُغوياً، وبنى رأيه على دلالة اللغة، فذكر أن السفر لغةً هو البروز عن محلة الإقامة، وكذلك الضرب في الأرض فأطلق السفر وجعل مطلق السفر يبيح القصر، ولكنه وقد قضى بما قضى به أحبَّ أن يستشهد بقول صحابي على صحة رأيه المبني على دلالة اللغة، فروى قولاً لابن عمر «لو خرجتُ ميلاً لقصرتُ الصلاة» ورواه أيضاً ابن أبي شيبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 ولقد أخطأ ابن حزم خطأين اثنين: أولهما أنه بنى رأيه على دلالة اللغة، في حين أن هناك نصوصاً شرعيةً حددت مسافة القصر لم يأتِ على ذكرها. والثاني أنه استشهد، ولنقل استأنس بقول ابن عمر ولم يستدلَّ به، وحتى لو استدل به فإنه يبقى مخطئاً، فهو لم يأخذ بقول ابن عمر، وإنما أخذ بدلالة اللغة، ثم أورد قول ابن عمر لأنه رآه يؤيد ما توصَّل إليه، هذا إضافة إلى أن ابن عمر قد رويت عنه أفعال ٌ وأقوالٌ تعارض هذا القول المنسوبة إليه مما يجعلنا لا نطمئن إلى هذا الاستشهاد، ولا نقبل الاحتجاج به. فعن محمد بن زيد بن خُلَيدة عن ابن عمر قال «يَقْصُرُ الصلاةَ في مسيرة ثلاثة أميال» رواه ابن أبي شيبة. وعن نافع عن سالم «أن ابن عمر خرج إلى أرضٍ له بذات النصب فقصر وهي ستةَ عشرَ فرسخاً» رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والشافعي.وعن محارب بن دثار قال: سمعت ابن عمر يقول «إني لأُسافر الساعةَ من النهار فأقصر» رواه ابن أبي شيبة. وهذا عبد الرزاق قد ذكر في مصنَّفه عن ابن عمر عدة روايات مختلفة في تقدير مسافة القصر، فروى عنه أن مسافة القصر هي من المدينة إلى خيبر، وهي تعادل ستةً وتسعينَ ميلاً، وأن المسافة هي من المدينة إلى السُّويداء، وهي تعادل اثنين وسبعين ميلاً، وأنها من المدينة إلى ريم، وهي تعادل ثلاثين ميلاً، فكيف يُجيز ابن حزم وغيره ممن ينهج نهجه أن يستدل أو يستشهد على تقدير المسافة بقولٍ لابن عمر أو بفعلٍ له، وقد تعددت أقواله وأفعاله المروية عنه واختلفت؟ إن ابن حزم قد أخطأ بالاستشهاد بقول ابن عمر، وإن الشافعي قد أخطأ في الاستدلال بفعل ابن عمر الدال على أن القصر في أربعة بُرُدٍ، وإن الحنابلةَ قد أخطئوا بتقليد أو اتباع ابن عمر، فكل من استدل أو استشهد أو قلد أو اتبع ابن عمر رضي الله عنه في هذه المسألة فقد جانبه الصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 إن أقوال الصحابة إن تعارضت لم تقم بها حجة، وإن أقوال الصحابي الواحد إن تعارضت اعتُبرت لا قيمة لها، ولم يصح الاستدلال ولا الاستشهاد بها، وقد جاءت أقوال الصحابة في مسألتنا هذه متعارضةً ومختلفةً كثيراً، مما يدعونا إلى طرحها كلها، وعدم الاحتجاج بها مطلقاً، لا سيما وأن في هذه المسألة عدداً من النصوص الشرعية الصحيحة الكافية لاستنباط حكم هذه المسألة منها. قال ابن قُدامة صاحب المُغني [قال المصنف: ولا أرى لما صار إليه الأئمة حجة، لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة ولا حجة فيها مع الاختلاف، وقد روي عن ابن عباس وابن عمر خلاف ما احتج به أصحابنا ثم لو لم يوجد ذلك لم يكن في قولهم حجة مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله، وإذا لم تثبت أقوالهم امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكروه لوجهين (أحدهما) أنه مخالف لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي رويناها، ... (والثاني) أن التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، لا سيما وليس له أصل يرد إليه، ولا نظير يقاس عليه ... ] . ولقد أصاب ابن قدامة في قوله هذا وأجاد. أما النصوص التي جاءت تعالج هذه المسألة فهي: أ - عن جُبير بن نُفير قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعةَ عشر أو ثمانية عشر ميلاً، فصلى ركعتين، فقلت له، فقال «رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى بذي الحُليفة ركعتين، فقلت له، فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل» رواه مسلم وأحمد والنسائي والبيهقي وابن أبي شيبة. وذو الحليفة: موضع يبعد عن المدينة ستةَ أميالٍ أو سبعة أميالٍ تقريباً. ب - عن أنس رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالمدينة أربعاً، وصلى العصر بذي الحُليفة ركعتين» رواه مسلم والبخاري وأبو داود والنسائي والترمذي. ورواه أحمد وزاد في آخره «آمناً لا يخاف في حجة الوداع» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 ج - عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة، فقال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ - شُعبةُ الشاكُّ - صلى ركعتين» رواه مسلم وأبو داود وأحمد والبيهقي وابن أبي شيبة. د - عن أبي هارون عن أبي سعيد «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر فرسخاً قصر الصلاة» رواه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور. الحديث الرابع فيه أبو هارون ضعَّفه القطان وأحمد وابن معين وأبو زُرعة وأبو حاتم الرازي والنسائي، ولم أجد مَن وثقه أو قبله، فيترك الحديث. فتبقى عندنا ثلاثة أحاديث صحيحة. الحديثان الأول والثاني يذكران أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلى بذي الحليفة - وهي تبعد عن المدينة ستةَ أميال أو سبعة أميال - ركعتين، وجاء في الحديث الثاني أنها كانت صلاة العصر. وذكر حديث أحمد أن ذلك كان في حجة الوداع، وفي ذلك دلالة على تأخر هذه الحادثة مما ينفي عنها حصول النسخ. فهذان نصان صحيحان يدلان على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قصر الصلاة الرباعية عندما سافر ما بين ستة أميال وسبعة، فلماذا لم يأخذ الأئمة الأربعة بهذين النصين؟ وإنما راح ثلاثة منهم ينظرون في أقوال الصحابة، ويستنبطون منها الأحكام رغم تعارضها واختلافها، أو في أدلة ليست في المسألة كما فعل الأحناف؟! إن هذين الحديثين يبطلان أقوال الأئمة الأربعة بشكل واضح، فلا مسيرة ثلاثة أيام ولا مسيرة يومين، ولا مسيرة يوم وليلة، ولا مسيرة ميل واحد تصلح لتقدير مسافة القصر، فوجبت العودة عن هذه الأقوال، والتقيد بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 وقد جاء الحديث الثالث فيصلاً في هذه المسألة، فهو لم يذكر حادثة عين واحدة، وإنما نص على ديمومة هذا الفعل بدلالة قول الحديث (إذا خرج) وهو تشريع صريح بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شرع للمسلمين القصر إن هم سافروا ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ. والشك هذا من الراوي شعبة، فمن سافر من المسلمين ثلاثة أميال، أو سافر منهم ثلاثة فراسخ جاز له القصر. وحيث أن الفرسخ ثلاثة أميال، فيكون معنى الحديث أن من سافر ثلاثة أميال أو سافر تسعة أميال، قصر الصلاة. فتصبح عندنا ثلاثة أقوال محتملة في هذه المسألة: ثلاثة أميال، وسبعة أميال، وتسعة أميال، ونحن نأخُذُ بالأكثر منها احتياطاً وهو تسعة أميال وتبلغ حوالي سبعة عشر كيلو متراً. فهذه هي المسافة التي قدرتها الأحاديث النبوية الصحيحة، فوجب الأخذُ بها والالتزامُ بها، وردُّ جميع أقوال الصحابة المتعارضة والمخالفة لهذا التقدير الشرعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 وليتهم، غفر الله لهم وعفا عنهم، أخذوا بالبنود الستة التي ذكرناها، وهي بنود صحيحة لا غبار عليها، ليخرجوا بمثل ما خرجنا به من تقديرٍ لمسافة القصر، ولكنهم لم يفعلوا، وبدلاً من أن يأخذوا النص الشرعي، ثم إن وجدوا أقوال صحابة أولوها بما يتفقوا معه أو ردوها، رأيناهم يأخذون أقوال الصحابة كتشريع، ويقومون بتأويل النص الشرعي تأويلاً بعيداً، أي هم قاموا بعكس ما كان يجب عليهم أن يفعلوا، فهذا النص الشرعي، أعني الحديث الثالث، قد أولوه بأن المقصود منه بدء القصر عند السفر الطويل بمعنى أن من نوى السفر ثلاثة مراحل، أو مرحلتين، أو أربعة بُرُد مثلاً، جاز له القصر إن هو قطع ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ، فنقلوا هذا النص من موضوعه، وهو تقدير مسافة القصر إلى آخر هو: متى يبدأ القصر؟ وشتان بين الموضوعين، ولقد أخطئوا عندما لم يتقيدوا بهذا النص في تقدير المسافة، وزاد الخطأ منهم عندما أولوه بقولهم إنه نصٌّ في بدء القصر فحسب. ولبيان هذا الخطأ نقول ما يلي: 1 - إن الإجماع عند الإئمة الأربعة هو أن من أراد أن يسافر فله أن يقصر بمجرد الخروج عن آخر بيت من بيوت المدينة أو القرية، وهذا يعني أن من غادر آخر بيت وابتعد عنه مائة متر فقط، أو حتى أقل من ذلك فإن له أن يقصر عندهم فلماذا يضعون حديث أنس في هذا المقام، وهو ينص على مسيرة ثلاثة أميال على الأقل، قبل بدء القصر عندهم؟ أليس في هذا تناقض؟ إنهم إما أن يبقوا على إجماعهم، وإما أن يأخذوا بهذا النص ويدَعوا الإجماع، لأن النص والإجماع، متعارضان هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 2 - إن تأويلهم منقوض ومغلوط، وذلك أن هذا النص لم يجئ في موضوع بدء القصر، وإنما جاء في موضوع تقدير مسافة القصر، وأدَعُ ابن حجر العسقلاني، وهو شافعي المذهب، وصاحب كتاب فتح الباري بشرح البخاري يرد عليهم دعواهم، فقد جاء في هذا الكتاب ما يلي [وحكى النووي أن أهل الظاهر ذهبوا إلى أن أقل مسافة القصر ثلاثة أميال، وكأنهم احتجوا في ذلك بما رواه مسلم وأبو داود من حديث أنس قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال - أو فراسخ - قصر الصلاة» وهو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه، وقد حمله من خالفه على أن المراد به المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غاية السفر، ولا يخفى بُعْدُ هذا الحمل، مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد راويه عن أنس قال «سألت أنساً عن قصر الصلاة، وكنت أخرج إلى الكوفة - يعني من البصرة - فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع، فقال أنس» فذكر الحديث، فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضع الذي يبتدأ القصر منه، ثم إن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها ... ] وهكذا يظهر بوضوح أن من أراد سفراً يبلغ سبعة عشر كيلومتراً أو أكثر فإن له أن يقصر الصلاة الرباعية. هذا هو الحكم الشرعي الصحيح في هذه المسألة. أما بدء قصر الصلاة، فإنه يحصل بمجرد الخروج عن آخر بيت من بيوت المدينة أو القرية، أي بمجرد مغادرة المدينة أو القرية التي يسكنها، ويستمر في القصر إلى أن يصل إلى أول بيت من بيوت المدينة أو القرية لدى عودته من سفره. قال البخاري «وخرج علي رضي الله عنه فقصر وهو يرى البيوت، فلما رجع قيل له: هذه الكوفة، قال: لا، حتى ندخلها» . ولا يوجد نص في هذه النقطة، فنستأنس بهذا الأثر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 ويصح القصر في أي سفر، سواء كان سفر طاعة، أو سفراً مباحاً، أو سفراً محرَّماً، فما يُطلق عليه وصف السفر، وحُدد بسبعة عشر كيلومتراً فأكثر احتياطاً فإنه يبيح القصر، فالعبرة بالسفر وليس بنوعه أو غايته أو المقصود منه. المسافر يستمر في القصر ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى أن المسافر يصبح مقيماً إذا نوى إقامة أربعة أيام مستدلين بنهيه - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين عن إقامةٍ فوق ثلاثٍ في مكة. وذهب أبو حنيفة إلى أن المسافر يتم صلاته إذا عزم على إقامة خمسة عشر يوماً، واحتج بقول ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: إذا أقمتَ ببلدٍ وأنت مسافرٌ وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوماً فأكمل الصلاة. وقال الأوزاعي اثني عشر يوماً. وقال ربيعة يوماً واحداً وليلة. والذي أراه هو أن هؤلاء جميعاً قد جانبهم الصواب، لأن منهم من استدل بحديث لا يعالج مسألتنا هذه، ومنهم من استدل بأقوال صحابة ولم يستدل بالنصوص الشرعية، وهي متوافرة في مسألتنا هذه، مع ملاحظة أنه قد روي عن الصحابة آراء متعددة مختلفة في هذه المسألة: والصحيح الذي ينبغي القول به والمصير إليه هو أن المسافر يستمر في قصر الصلاة ما دام ينطبق عليه وصف المسافر طال السفر أو قَصُر، وكل تحديد زمني لسفر القصر هو اجتهاد مرجوح، ومتى نوى المسافر الاستيطان في مكان فقد فَقَدَ وصف المسافر وصار مقيماً يجب عليه الإتمام. فالمسافر يظل مسافراً حتى يعود لوطنه ومدينته ومكان سكناه، أو يتحول ويتَّخذ لنفسه وطناً جديداً ومكانَ إقامةٍ جديداً يقيم فيه إقامة دائمة، ويظل يقصر ما دام مسافراً ولو استمر سفره سنة أو أكثر، ولا يفقد المسافر وصف المسافر إن هو نوى الإقامة المؤقتة أياماً وأسابيع في دار السفر، وحتى لو تزوج المسافر في دار سفره من امرأة مقيمة هناك، فإنه يظلُّ مسافراً يقصر صلاته إلا إن نوى الإقامة الدائمة عندها فيُتمُّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 ولقد أخطأ من قالوا إن المسافر إذا تزوج في دار سفره من امرأةٍ مقيمةٍ فيها وجب عليه أنْ يُتِمَّ صلاته ولم يَجُزْ له قصرها، لأن هؤلاء قد استدلوا بحديث ضعيف جداً على دعواهم لا يصلح مطلقاً للاستدلال، وهو: عن عبد الرحمن بن أبي ذباب «أن عثمان ابن عفان رضي الله عنه صلى بمنى أربع ركعات، فأنكره الناس عليه، فقال يا أيها الناس إني تأهَّلت بمكة منذ قدمتُ، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من تأهَّلَ في بلد فلْيصلِّ صلاة المقيم» رواه أحمد والبيهقي وأبو يعلى.فهذا الحديث منقطع، قاله البيهقي وابن حجر، إضافة إلى أن راويه عكرمة بن إبراهيم، قال الذهبي: مُجْمَعٌ على ضعفه. فالحديث لا يصلح للاستدلال. والمسافر يقصر ما دام في سفره، ماشياً كان أو راكب دابة أو مركبة: كطائرة أو سفينة أو سيارة، ناله التعب والإعياء أو لم ينله شئ من ذلك، فالعبرة بالسفر - كما سبق وقلنا - دون أية إضافة أخرى، فعن أنس رضي الله عنه قال «خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بمكة شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 أما ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال «سافر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقام تسع عشرة يصلي ركعتين ركعتين ... » رواه أحمد والبخاري وابن ماجة. وما رُوي عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنه قال «أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة» رواه أحمد وأبو داود وابن حِبَّان والبيهقي. وأحاديث أخرى مثلها فإن هذه الأحاديث لا تفيد تحديداً زمنياً للقصر في السفر، وإنما تدل على أن هذه الأوقات المذكورة إنما وقعت كحوادث عين، وليست لها دلالة أخرى، فلا تفيد تقييد القصر بهذه الأوقات. وقد فهم ذلك عِدَّةٌ من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكونوا يتقيدون بزمن محدَّد للقصر في السفر، فالبيهقي روى عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال «أريح علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة، قال ابن عمر: وكنا نصلي ركعتين» . وأحمد روى عن ثمامة بن شراحيل قال «خرجت إلى ابن عمر فقلت: ما صلاة المسافر؟ فقال: ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب ثلاثاً ... إلى أن قال ثمامة قال - أي ابن عمر - يا أيها الرجل كنتُ بأذربيجان، لا أدري قال أربعة أشهر أو شهرين، فرأيتهم يصلونها ركعتين ركعتين..» . يقصد بقوله رأيتهم يصلونها: صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وجاء في مصنف ابن أبي شيبة «أنَّ أبا جمرة، نصر بن عمران، قال لابن عباس إنا نطيل القيام بالغزو بخراسان، فكيف ترى؟ فقال: صلِّ ركعتين وإن أقمتَ عشر سنين» . 3) صلاة المريض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 المرض بلاء من الله سبحانه لعباده يثيب عليه الصابرين وينتقم به من المعاندين، وإنَّ من فضل الله سبحانه على عباده الصابرين أنه يحتسب لهم جميع ما حرمهم المرض من القيام به مما كانوا يعملون في حال الصحة، ومِن ذلك الصلاة على هيئاتها، فمن حرمه المرض من القيام والركوع والسجود والقعود في الصلاة، فصار يصلي مضطجعاً مثلاً أو يصلي إيماءً، فإن له من الثواب ما كان سيحصل عليه لو هو صلى صلاته بهيئاتها المعروفة في حال الصحة، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ما أحدٌ من الناس يُصاب ببلاء في جسده إلا أمر الله عزَّ وجلَّ الملائكة الذين يحفظونه فقال: اكتبوا لعبدي كل يوم وليلة ما كان يعمل من خير ما كان في وَثاقي» رواه أحمد والحاكم. والوَثاق هنا: هو المرض. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا مرض العبد أو سافر كُتب له من الأجر مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً» رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وعلى هذا فإن من لا يستطيع أن يصلي قائماً، أو كان ينال من الصلاة قائماً مشقةً صلى قاعداً، فإن تعذَّر عليه السجود على الأرض أو شقَّ عليه جعله أخفض من الركوع دونما حاجة لأن يضع وسادة أو خشبة ليسجد عليها، بل يكفيه في هذه الحالة الإيماءُ وخفضُ السجود، فإن لم يستطيع الجلوس صلى مضطجعاً على جنبه الأيمن ووجهه تِلقاءَ القِبلة، فعن جابر رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد مريضاً، فرآه يصلي على وسادة فرمى بها، فأخذ عوداً يصلي عليه، فرمى به وقال: إن أطقتَ الأرض وإلا فأَومئ إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك» رواه البزَّار والبيهقي. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من استطاع منكم أن يسجد فلْيسجد ومن لم يستطع فلا يرفع إلى جبهته شيئاً يسجد عليه، ولكن ركوعه وسجوده يومئ إيماءً» رواه الطبراني. وعن عمران بن حصين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 رضي الله عنه قال «كانت بي بواسير، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فقال: صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جَنْبٍ» رواه البخاري وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن ماجة. وإنما قلنا يصلي على جنبه الأيمن خاصةً، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يحبُّ التيمُّنَ في كل أُموره، فالصلاة على الجنب الأيمن أفضل، وإلا فإن الصلاة على الجنب الأيسر جائزة، وليس في النصوص ما يقيِّد الصلاة بالجنب الأيمن. أما إن كان إمامُ الجماعة مريضاً واضطر للصلاة جالساً فإن جميع المصلين خلفه يصلون مثله جلوساً ولو كانوا غير مرضى، فهذه حالة خاصة شُرعت فيها صلاة المريض للأصحَّاء، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب فرساً فصُرع عنه، فجُحِش شِقُّه الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد فصلينا وراءه قعوداً، فلما انصرف قال: إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به، فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً ... وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون» رواه البخاري ومالك والنَّسائي وأحمد والبيهقي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته وهو شاكٍ فصلى جالساً، وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جُعل الإمام ليُؤتمَّ به، فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة. وللمزيد يمكنكم مراجعة بحث [الإمام يصلي جالساً] في الفصل الأخير [الإمامة في الصلاة] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 نعود لأصل البحث فنقول: لو دخل المريض في صلاته وهو مستطيع قادر فوقف، ثم عجز في أثناء صلاته عن الوقوف ثانية في الركعة التالية، فإن له أن يبني على ما مضى ويجلس في الركعات التالية، وبالعكس لو هو دخل الصلاة وهو غير مستطيعٍ فجلس في أولها، ثم وجد في نفسه هِمَّةً وقوةً وقف في الركعات التالية، وهكذا يفعل ما يستطيع أن يفعله من حركات وأوضاع، وما لا يستطيعه فلا عليه أن لا يأتيه. وينبغي أن يُعلم أن العذر المبيح لما سبق هو المرض، أو وجود المشقة، أو الخوف من حصول ضرر، أو الخوف من حصول زيادة مرض. وأُلفت النظر إلى أنَّ المرض إن كان خفيفاً كالرشح، أو كان سُعالُ، أو كان صُداعٌ خفيفٌ، أو كان رمدٌ في العين وأمثال ذلك فإن المسلم مأمور بالإتيان بالصلاة على هيئاتها الكاملة لقدرته واستطاعته ذلك. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال « ... وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة وأحمد. وإنَّ المريض بأمثال هذه الأمراض يستطيع الصلاة بهيئاتها الكاملة بلا شك، فلا تصلح هذه الأمراض لأن تكون أعذاراً. الجمعُ بين الصلاتين لا يكون الجمع إلا بين الظهر والعصر، وإلا بين المغرب والعشاء فحسب، فلا يصح الجمع بين الصبح والظهر، ولا بين العصر والمغرب، ولا بين العشاء والصبح، وهذا معلوم من الدين بالضرورة. فعن ابن عباس رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الظهر والعصر إذا كان على ظهر سيرٍ، ويجمع بين المغرب والعشاء» رواه البخاري ومسلم وأحمد. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في السفر» رواه أحمد. والأحاديث في ذلك كثيرة لا حاجة لإيرادها كلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 والجمع بين الصلاتين حالة استثنائية، لأن الأصل في الصلوات أن لكل واحدة منها وقتاً معلوماً لا يصح تجاوزه، وهذه الحالة الاستثنائية شُرعت عند وجود عذر من الأعذار، فإن لم يكن هناك عذر فإن الجمع لا يجوز قطعاً، وقد ذكرنا في فصل [الصلاة حكمها ومواقيتها] مواقيت هذه الصلوات وأنها واجبة الالتزام. ولقد أخطأ من أباحوا الجمع دون وجود عذر، متذرعين بحديث ابن عباس رضي الله عنه «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً» رواه البخاري ومسلم. ورواه أبو داود بلفظ «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ثمانياً وسبعاً الظهر والعصر، والمغرب والعشاء» . وفي رواية أخرى بلفظ «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر، قال أبو الزبير: فسألت سعيداً: لِمَ فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يُحرج أحداً من أمته» رواه مسلم وأبو داود. وفي رواية أخرى عند مسلم بلفظ «جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، فقيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد أن لا يُحرج أمته» . وفي رواية أخرى من طريق ابن عباس أيضاً بلفظ «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا سفر» رواه مسلم. فاستدل ناسٌ بهذا الحديث بطرقه المتعددة على جواز الجمع مطلقاً، ولم يقيدوه بأي عذر من الأعذار. والصحيح أن هذا الحديث بطرقه المتعددة لا يدل على ما ذهبوا إليه، وإلا وجب القول بعدم وجوب الالتزام بمواقيت الصلاة، أو وجب القول بأن الالتزام بمواقيت الصلاة مندوب فحسب، وهذا مخالف للحق ومجانب للصواب، والله سبحانه يقول { ... إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِيْنَ كِتَابَاً مَوْقُوْتَاً} الآية 103 من سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 والصحيح هو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد جمع في المدينة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء جمعاً صُورِيَّاً، بمعنى أنه أخَّر صلاة الظهر إلى آخِر وقتها فصلاها، وعجَّل صلاة العصر إلى أول وقتها فصلاها، فظهرت الصلاتان وكأنهما جُمِعتا معاً، ومثل ذلك فعل بصلاتي المغرب والعشاء، والجمع الصُّورِي جائز إطلاقاً دون أعذار طبعاً. ولما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي الصلوات في أوائل أوقاتها، ثم رأَوه يصلي على خلاف عادته سبعاً وثمانياً، وصَفُوا فعله بأنه جمع، وهو جمع فعلاً، ولكنهم ظنوا أنه أخرج صلاة الظهر من وقتها وأدخلها في وقت صلاة العصر، وفعل مثل ذلك بخصوص صلاة المغرب، لأن الجمع هو إخراج إحدى الصلاتين من وقتها وإدخالها في وقت الأخرى، ولم يلتفتوا إلى الجمع الصُورِي، وهو إبقاء كل صلاة في وقتها ولكن بتقريب إحداهما من الأخرى، بأن تُؤدَّى أُولاهما في آخِر وقتها والأخرى في أول وقتها، فيحصل الجمع وهو هنا الجمع الصُّوري، أي أنه يأخذ صورة الجمع. هذا ما ينبغي الذهاب إليه وإلا بطلت المواقيت، أو صارت مندوبة فحسب، وهذا كما قلنا مخالف للحق ومجانب للصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 وزيادةً في الاطمئنان فإنَّا نورد حديثين اثنين يدلان على هذا، أحدهما ما رُوي عن ابن عباس أنه قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، أخَّر الظهر وعجَّل العصر وأخَّر المغرب وعجَّل العشاء» رواه النَّسائي. والثاني ما رواه جابر بن زيد عن ابن عباس أيضاً قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، قلت: يا أبا الشعثاء أظن أخَّر الظهر وعجَّل العصر وأخَّر المغرب وعجَّل العشاء، قال وأنا أظن ذاك» رواه مسلم وأحمد. فهذا ابن عباس راوي الحديث السابق بطرقه المتعددة يقول «أخَّر الظهر وعجَّل العصر وأخَّر المغرب وعجَّل العشاء» وابن عباس لا يناقض نفسه، وإعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما، فبإعمال الدليلين نخرج بالفهم الذي قلنا به، وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد جمع الصلاتين هنا جمعاً صُورياً، أي أنه صلى الصلاتين على صورة الجمع، فوجب الذهاب إلى هذا الفهم وترك ما سواه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 قلنا في أول هذا البحث إن الجمع بين الصلاتين هو حالة استثنائية وقلنا إن هذه الحالة شُرعت عند وجود عذر من الأعذار، والأعذار المبيحة للجمع هي السفر والمطر والخوف والمرض والهرم وأمثالها مما يشكل عدم الجمع مع وجودها حرجاً ومشقة، والشرع قد رفع الحرج عن المسلمين، فإذا وُجد عذر من هذه الأعذار جاز الجمع بين الصلاتين، أي جاز أن تُجمع صلاة الظهر مع العصر وصلاة المغرب مع العشاء جمع تقديم أو جمع تأخير، فتُصَلَّى الصلاتان في وقت إحداهما، سواء كان الوقت وقت أُولاهما أو كان وقت أُخراهما، فكلا الأمرين جائز، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الظهر والعصر في سفره إلى تبوك» رواه مالك. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل به السير يجمع بين المغرب والعشاء» رواه مالك ومسلم والبخاري. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاتين في السفر» رواه البزَّار وأبو يعلى والطبراني. وروى البزَّار مثله من طريق أبي سعيد رضي الله عنه، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال «جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، قال فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال فقال: أراد أن لا يُحرج أمته» رواه مسلم وأحمد. وقد مرَّ حديث ابن عباس رضي الله عنه بطرقه المتعددة وفيه «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر» . «جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر» . يريد ابن عباس من ذلك أن يبين أن الخوف والمطر والسفر أعذار للجمع، وقد نفى وجودها آنذاك عند جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فلولا أن هذه أعذار لما ذكرها في هذا الحديث، ثم إن هذه الأعذار تدخل تحت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 الحرج والمشقة، والحديث يقول «أراد أن لا يُحرج أحداً من أمته» . ويدخل الهرم في هذا الباب أيضاً، كما يدخل فيه كل ما يسبِّب حرجاً للمصلي إنْ هو صلى بدون جمع: كالريح الباردة الشديدة والوحل والزَّلَق في طريق المسجد وأمثالها، وكذلك رُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الأولى والعصر، وبين المغرب والعشاء، فقيل له في ذلك فقال: صنعتُ هذا لكي لا تُحرَج أمتي» رواه الطبراني. فالقاعدة في الجمع هي أنه جائز إن وجد عند المصلي عذر يسبب حرجاً له إن هو لم يجمع بين الصلاتين، وهذه قاعدة واسعة بلا شك. وكما تنعقد الصلاة في المسجد فإنها تنعقد في البيت وفي المزرعة وفي المصنع وغيرها، وكما تنعقد الصلاة في جماعة فإنها تنعقد من المنفرد، وهنا نقول ما يلي: إن الجمع بين الصلاتين يجوز حيث تنعقد الصلاة، فيُجمع في المسجد كما يُجمع في البيت وفي المزرعة وفي المصنع وغيرها، ويُجمع من قِبَل الجماعة كما يجمع من قِبَل المنفرد سواء بسواء دون ملاحظة أي فارق بينها ما دام العذر موجوداً، وهذا العذر إن وُجِدَ جاز الجمع بسببه دون اشتراط وجود المشقة لدى المصلّي، ففي وجود العذر يستوي وجود المشقة وعدم وجودها، كالسفر مثلاً فإنه يبيح الجمع سواء نالت المسافرَ مشقةٌ في سفره أو لم تنله، والمطر مثلاً فإنه يبيح الجمع للمصلّين جماعةً ومنفردين سواء نالتهم مشقةٌ منه أو لم تنلهم، لأن العذر العام أو الحاجة العامة إذا وُجِدَتْ أثبتت الحكم في حقِّ الجميع سواء من نالته مشقّةٌ منه ومن لم تنله، والدليل على عدم وجوب وجود المشقّة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع في المطر في مسجده ولم يكن بين بيته وبين المسجد شئ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 ثم إنه يُسن للحاجِّ أن يجمع بين الظهر والعصر جمعَ تقديم في عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة، وبين المغرب والعشاء جمعَ تأخير في المزدلفة، يستوي في ذلك الحاجُّ من أهل مكة والحاجُّ المسافر إليها. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قد جمع بين الظهر والعصر في عرفة، وبين المغرب والعشاء في المزدلفة وهو إمامٌ لجميع الحجاج من أهل مكة ومن غيرها، فلم يستثن أهل مكة من الجمع، ما يدل على جواز الجمع للجميع، للمسافرين ولغير المسافرين في موسم الحج في عرفة وفي المزدلفة، فعن جعفر بن محمد قال «دخلنا على جابر بن عبد الله ... فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ... إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذَّن في الناس في العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجٌّ ... فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضُربت له بنَمِرَة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرُحِلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس ... ثم أذَّن ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصلِّ بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الموقف ... » من حديث طويل رواه مسلم. ورواه أحمد والنَّسائي. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهى إلى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واقامتين ولم يصلِّ بينهما شيئاً» رواه النَّسائي. وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال «دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة، حتى إذا كان بالشِّعْب نزل فبال، ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء فقلت له: الصلاة، فقال: الصلاة أمامك، فركب، فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أُقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أُقيمت الصلاة فصلاها ولم يصلِّ بينهما شيئاً» رواه أحمد والبخاري ومسلم. قوله في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 الحديث الأول قد ضُرِبت له بنَمِرة: أي قد ضربت له الخيمة في مكان بجنب عرفات يسمى نَمِرة. وقوله في الحديث الأول بالقصواء: يعني بها ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله في الحديث الثالث فقلت له الصلاة فقال الصلاة أمامك: يعني أن أسامة بن زيد ذكَّر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحلول موعد صلاة المغرب، فأعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة قادمة، ولم يصلها في وقتها لأنه أراد تأخيرها ليصليها في وقت صلاة العشاء جمعاً. كيفية الجمع بين الصلاتين لا يحتاج جمع الصلاتين إلى نية مسبقة، فيصحُّ للمسلم وقد صلى الظهر دون نيَّةِ جمعِها مع العصر أن يقوم ويصلي العصر، جامعاً إياها مع الظهر، سواء كان ذلك على الفور أو على التراخي، وسواء فعل بينهما أفعالاً أو لم يفعل شيئاً، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال «دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة، فنزل الشعب فبال ثم توضأ ولم يُسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة، فقال: الصلاة أمامك، فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ، ثم أُقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كلُّ إنسان بعيره في منزله، ثم أُقيمت الصلاة فصلى ولم يصلِّ بينهما» رواه البخاري ومالك والنسائي. يدل هذا الحديث على أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم أجمعين قد صلوا المغرب، ثم انطلقوا إلى رحالهم يتدبرون شؤونهم، فأناخوا جِمالهم في منازلهم، وإذا بهم يسمعون الإقامة لصلاة العشاء فانطلقوا يصلونها جماعةً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا الحديث يدل على عدم وجود نية الجمع عند الصحابة رضوان الله عليهم، وإلا لما انطلقوا إلى جِمالهم وبيوتهم، ثم إن هذا الحديث يدلُّ أيضاً على جواز الجمع بين الصلاتين على التراخي، كما يدل على جواز القيام بأفعالٍ عدة بين الصلاتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 ويُشرع للجمع بين الصلاتين أذانٌ واحدٌ وإقامتان اثنتان، وإن أذَّن مرتين فلا بأس، ولا أرى ما يراه بعضهم من الإقامة مرة واحدة للصلاتين. أما دليل الأول فما جاء في الحديث المار قبل قليل في البحث السابق «ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر» . وما جاء في الحديث المار قبل قليل أيضاً في البحث السابق «فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين» . وأما الدليل على الأذانين فما رُوي عن عبد الرحمن بن زيد قال «حجَّ عبد الله رضي الله عنه، فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعَتَمَة أو قريباً من ذلك، فأمر رجلاً فأذن وأقام، ثم صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه فتعشى، ثم أمر أُرى رجلاً فأذن وأقام، قال عمرو: لا أعلم الشك إلا من زهير، ثم صلى العشاء ركعتين، فلما طلع الفجر قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم، قال عبد الله: هما صلاتان تُحَوَّلان عن وقتهما: صلاة المغرب بعدما يأتي الناس المزدلفة، والفجر حين يبزغ الفجر، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله» رواه البخاري وأحمد والنَّسائي وابن خُزَيمة. والفعل وإن كان من صحابي هو عبد الله بن مسعود إلا أن الصحابة الذين معه قد وافقوه على ما فعل، وهذا إجماع منهم على جواز الأذانين، هذا إضافةً إلى أنَّ عبد الله بن مسعود قال إنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 أما دليلهم على جواز الإقامة الواحدة للصلاتين فما رواه ابن عمر رضي الله عنه «أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجَمْعٍ بإقامةٍ واحدة» رواه النَّسائي والبخاري وأبو داود ومسلم. ورواه أحمد ولفظه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين المغرب والعشاء بجَمْعٍ، صلى المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بإقامةٍ واحدة» . قوله بجَمْعٍ: أي بالمزدلفة، وجَمْع اسم من أسمائها. فهذا الحديث وإن كان صحيحاً، إلا أنه يعارض أحاديث أخرى صحيحة أكثر منه تدل على الإقامتين في المزدلفة، وحيث أن الحادثة واحدة، فلا بد من ترجيح إحداهما، وأنا أُرجح الأحاديث التي تقول بالإقامتين، ثم إن ابن عمر نفسه قد رُوي عنه قوله «جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء بجَمْعٍ كل واحدة منهما بإقامة ولم يُسبِّح بينهما، ولا على إثر كل واحدة منهما» رواه البخاري والنَّسائي. فهذه الرواية تخالف الرواية الأولى وتدل على مشروعية الإقامتين. وإذا أتم المصلي الصلاتين في وقت الأولى منهما ثم زال العذر، كأن صلى لمطرٍ ثم انقشعت السحب وصحا الجو، فصلاته صحيحة، وجمعُه صحيح ولا إعادة عليه، إذ ما دامت صلاته قد تمَّت والعذر موجود فالصلاة صحيحة مقبولة، ولا يضيرها أن يزول العذر بعد ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 والسُّنَّة في الجمع لعذر السفر أن المسافر إن حان عليه وقت الظهر قبل أن يستأنف المسير أن يجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم، وقل مثل ذلك بالنسبة للمغرب والعشاء، أما إن هو استأنف المسير فحان وقت صلاة الظهر فالسُّنة أن يستمر في المسير إلى أن يحين وقت العصر فينزل، ويصلي الصلاتين جمع تأخير، وقل مثل ذلك بالنسبة للمغرب والعشاء، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كان في سفر، فزاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر جميعاً، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس جمع بينهما في أول وقت العصر، وكان يفعل ذلك في المغرب والعشاء» رواه الطبراني. ورواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حِبَّان والبيهقي من طريق معاذ بن جبل. وعن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا عجل عليه السفر يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخِّر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق» رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 والمسافر يَقْصُر الصلاة ويجمع بين الصلاتين ما دام ينطبق عليه وصف المسافر، سواء نزل في مكان وأقام فيه فترة، أو كان على ظهر دابته أو في سيارته أو في قطاره، وسواء كانت إقامته في طريق سفره طويلة أو قصيرة، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سافر إلى تبوك وأقام فيها عشرين يوماً يقصر الصلاة، ذكر ذلك أبو داود من قول جابر. وسافر عليه الصلاة والسلام إلى مكة، وأقام فيها تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة، ذكر ذلك البخاري والترمذي من قول ابن عباس. وطبعاً كان إذا قصر جمع، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه «أنهم خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام تبوك، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال: فأخَّر الصلاة يوماً ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً ... » رواه مالك والبيهقي وأبو داود والنَّسائي وابن خُزَيمة. ووجه الاستدلال بهذا الحديث أنه كان عليه الصلاة والسلام مقيماً نازلاً في تبوك، ولم يكن على ظهر دابته، بل كان في خبائه يدخل فيه ويخرج منه ومع ذلك جمع بين الصلاتين. الفصل الحادي عشر صلاة التطوُّع أو صلاة النّفْل فضل صلاة التطوع وأصنافها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 مرَّ معنا في بحث [فضل الصلاة] فصل [الصلاة حكمها ومواقيتها] أن الصلاة هي أول ما يُحاسَب به الناس يوم القيامة، وأعني بها صلاة الفريضة، فهذه الصلاة المفروضة إن صلحت وكملت فقد رجا صاحبها الفلاح، وإن هي فسدت بتركٍ أو إخلالٍ بأركانها وشروط صحتها فقد خسر صاحبها وخاب، أما إن نقصت هذه الصلاة فلم يكن صاحبها قد أداها كلها، أو أداها على تقصير منه في واجباتها فإن الله سبحانه يُتِمُّ له نقصَ صلاته من صلاة تطوُّعِه. فصلاة التطوع تَجْبُر النقص الحاصل في صلاة الفريضة يوم القيامة، وهذا فضل لا شك فيه لصلاة التطوع، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «إن أول ما يُحاسب به العبد المسلم يوم القيامة الصلاة المكتوبة، فإن أتمَّها وإلا قيل انظروا هل له من تطوع، فإن كان له تطوع أُكملت الفريضة من تطوعه، ثم يُفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك» رواه ابن ماجة وأبو داود والترمذي وأحمد والنَّسائي. وروى تميم الداري هذا الحديث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن أول ما يُحاسب به العبدُ الصلاةُ، فإن وجد صلاته كاملة كتبت له كاملة، وإن كان فيها نقصان قال الله تعالى للملائكة: انظروا هل لعبدي من تطوع فأكملوا له ما نقص من فريضته، ثم الزكاة، ثم الأعمال» رواه الدارمي وأبو داود وابن ماجة. وإنَّ من فضل صلاة التطوع ما جاء فيما روته أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول «ما من عبدٍ مسلم يصلي لله عزَّ وجلَّ كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بُني له بيتٌ في الجنة، أو بنى الله عزَّ وجلَّ له بيتاً في الجنة» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسائي. وكما تُسمى هذه الصلاة صلاة التطوع فإنها تسمى أيضاً صلاة السُّنة، وصلاة النافلة، وهذه الأسماء الثلاثة هي لمسمَّىً واحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 وصلاة التطوع منها ما له وقت معين مخصوص كصلاة السنن الراتبة وصلاة الضحى وصلاة الوتر، ومنها ما ليس له وقت معين مخصوص كصلاة التسابيح وصلاة الاستخارة، كما أن هذه الصلاة منها ما له سببٌ كتحية المسجد وسجود التلاوة وصلاة الكسوف، ومنها ما ليس له سببٌ كقيام الليل وصلاة التسابيح. ونتناول جميع أصناف صلاة التطوع بشئ من التفصيل: أ. السُّنَنُ الراتبة المؤكدة ونعني بها الركعات التي واظب عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع صلواته المفروضة قبلها وبعدها، فلم يتركها مطلقاً في حالة الحضر. وهذه الركعات هي: ركعتان قبل صلاة الصبح، وركعتان قبل صلاة الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد صلاة المغرب، وركعتان بعد صلاة العشاء، فهي عشر ركعات في اليوم والليلة، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال «كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي لا يدع ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الصبح» رواه أحمد. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال «حفظتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات كان يصليها بالليل والنهار: ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء الآخرة، قال: وحدَّثتني حفصة أنه كان يصلي قبل الفجر ركعتين» رواه الترمذي. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة، فأما المغرب والعشاء ففي بيته» رواه البخاري وابن حِبَّان. ورواه مسلم ولفظه « ... فأما المغرب والعشاء والجمعة فصليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته» . ورواه أحمد ولفظه «.. فأما الجمعة والمغرب في بيته، قال: وأخبرتني أختي حفصة أنه كان يصلي سجدتين خفيفتين إذا طلع الفجر، قال: وكانت ساعة لا أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها» . وعن عبد الله بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت «كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ثنتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر ثنتين» رواه الترمذي. فهذه عشر رَكَعات، وهي السنن الراتبة المؤكدة التي لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي أقل منها. وقد سُمِّيت راتبة ومؤكَّدة لاختصاصها دون غيرها بالثبوت والدوام دون تفريط. أما سُنَّة الصبح فالسُّنة فيها أن تُؤدَّى خفيفة دون إكثارٍ من القراءة، بل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكاد يقتصر في القراءة فيها على فاتحة الكتاب، فعن حفصة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اعتكف المؤذن للصبح وبدا الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة» رواه البخاري. ورواه مسلم ولفظه «كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح وبدا الصبح ... » . ورواه أحمد أيضاً. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين خفيفتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح» رواه البخاري ومسلم. وعنها رضي الله عنه قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني لأقول: هل قرأ بأم الكتاب؟» رواه البخاري وابن خُزَيمة. ورواه مسلم وابن حِبَّان مرة «بأم القرآن» ومرة أخرى «بفاتحة الكتاب» . ورواه أحمد «بفاتحة الكتاب» . ورواه أبو داود ومالك «بأم القرآن» . والمعنى واحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع الفجر يحرص على هاتين الركعتين، ويقتصر عليهما فلا يصلي غيرهما، فعن عائشة رضي الله عنها قالت «لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شئ من النوافل أشدَّ منه تعاهداً على ركعتي الفجر» رواه البخاري وأبو داود. ورواه مسلم وابن خُزَيمة وابن حِبَّان بلفظ «على ركعتين قبل الصبح» . وعن حفصة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين» رواه مسلم والنَّسائي. ولشدة حرصه عليه الصلاة والسلام على هاتين الركعتين فقد كان يبادر إلى أدائهما فور فراغ المؤذن من الأذان دون تأخير، فعن ابن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الركعتين قبل صلاة الفجر كأن الأذان في أُذنيه» رواه أحمد وابن ماجة وابن خُزَيمة. وكان عليه الصلاة والسلام يحث كثيراً على هاتين الركعتين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تَدَعُوا ركعتي الفجر وإن طردتكم الخيل» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والطحاوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 وكان عليه الصلاة والسلام إذا صلى هاتين الركعتين اضطجع على جنبه الأيمن، وكان يأمر المسلمين بذلك، فكان الاضطجاع على الجنب الأيمن عقب أدائهما سنة مستحبة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع ركعتي الفجر اضطجع على شِقِّه الأيمن» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فلْيضطجع على جنبه الأيمن» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وابن خُزَيمة. ومما يدل على أن أمره عليه الصلاة والسلام هو للندب وليس للوجوب ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر فإنْ كنت نائمة اضطجع، وإن كنت مستيقظة حدثني» رواه أبو داود والبخاري وابن خُزَيمة. فالمسنون بخصوص هاتين الركعتين - ركعتي الفجر - هو تخفيفهما والتعجيل بأدائهما عقب الأذان مباشرة، والحرص عليهما وعدم التفريط فيهما بأي حال، والاقتصار عليهما فلا يزاد عليهما، والاضطجاع بعدهما على الجنب الأيمن في البيوت، لأن الأصل في هذه السنة وغيرها من السنن أن تُؤدَّى في البيوت، فكذلك الاضطجاع. أما فضل هاتين الركعتين فقد ورد فيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها» رواه مسلم والترمذي والنَّسائي وابن حِبَّان والحاكم. كما ورد فيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في شأن الركعتين عند طلوع الفجر «لَهُما أحبُّ إليَّ من الدنيا جميعاً» رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن خُزَيمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 وأما سُنَّة الظهر الراتبة فهي ركعتان تُؤدَّيان قبل الظهر وأُخريان بعده - وقد سلف القول في هذا - ونضيف إلى ما سبق ما رواه الترمذي من طريق ابن عمر رضي الله عنه أنه قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها» . وأما العصر فليست لها سنة راتبة مؤكدة لا قبلها ولا بعدها لما مرَّ من أحاديث في أول البحث، ونضيف إلى ما سبق ما رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على إثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلا الفجر والعصر» رواه ابن خُزَيمة والبيهقي وأبو داود. وما رواه عمر رضي الله عنه أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس» رواه أبو داود وأحمد. ورواه البخاري ومسلم من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وما رُوي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «صلاتان لا يُصلَّى بعدهما: الصبح حتى تطلع الشمس، والعصر حتى تغرب الشمس» رواه أحمد وابن حِبَّان. فهذه الأحاديث أدلة على عدم وجود سُنَّة بعدية للعصر. أما ما ورد من أحاديث يُشتَبه في أنها تدل على وجود سُنَّة بعدية لصلاة العصر مثل: أ- عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه «أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي ركعتين بعد العصر» رواه أحمد والطبراني. ب- عن عائشة رضي الله عنها قالت «صلاتان لم يتركهما النبي - صلى الله عليه وسلم - سراً ولا علانية: ركعتين بعد العصر، وركعتين قبل الفجر» رواه أحمد والبخاري ومسلم والطحاوي. ج- عن شُريحٍ قال «سألت عائشة عن الصلاة بعد العصر، فقالت: صلِّ، إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومَك أهلَ اليمن عن الصلاة إذا طلعت الشمس» رواه أحمد والطحاوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 فإن هذه الأحاديث تُحمل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صلى الركعتين بعد العصر قضاءً لراتبتي الظهر البعديتين عندما شُغِل عنهما مرة فلم يصلهما، فصلاهما عقب صلاة العصر ثم استمر يصليهما عقب صلاة العصر، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى صلاة داوم عليها، وهذا من خصوصياته لا يُقتدى به فيه. وقد رأى عدد من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك، فظنوا أنه من المباحات أو المسنونات اقتداء به، فنقلوا ما شاهدوه وأفتَوا بمشروعيته، ونبسط الحديث في هذا الموضوع كما يلي: أ- إن عائشة رضي الله عنها كانت ترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين عقب العصر، ولما لم تكن تعلم سببهما فقد ظنتهما سُنَّةً لعموم المسلمين، فكانت تفتي بذلك. أما سبب الركعتين هاتين فقد عَلِمَتْه أم سلمة رضي الله عنها، وهو ما سبق وقلناه من أنه عليه الصلاة والسلام كان قد شُغل عن ركعتي الظهر البعديتين فقضاهما عقب صلاة العصر ثم داوم على أدائهما، وهذا ينفي عنهما أنهما سُنَّة لعموم المسلمين. ب - لقد نُقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرق صحيحة أنه كان ينهى عن الصلاة بعد العصر، فلما ثبت لنا ذلك ثم رأيناه عليه الصلاة والسلام يُصلي بعد العصر أدركنا أن ذلك من خصوصياته، وأن هذا المعنى منقول عنه أيضاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 ج- إن الأحاديث التي تبدو متعارضة في هذا الموضوع ليس فيها ناسخ ومنسوخ كما يدَّعي عدد من الفقهاء، إذ ليس صحيحاً الادِّعاءُ بأن الأحاديث الدالة على الصلاة قد نسخت الأحاديث الناهية عنها أو حتى خصَّصتها، فالنسخ لا يكون بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قطعاً، وقد نُقل عن الصحابة امتثالهم للنهي، مما ينفي دعوى النسخ. لهذه الأمور الثلاثة فإن الرأي الراجح هو أنه لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس كما صرحت بذلك الأحاديث، وأن الفترة بين صلاة العصر وبين غروب الشمس هي واحدة من الفترات المنهي عن الصلاة فيها، وأن هذا الحكم مُحْكَم غير منسوخ. ونستدلُّ على ما نقول بجملة من الأحاديث: 1 - عن ربيعة بن درَّاج «أن علي بن أبي طالب سبَّح بعد العصر ركعتين في طريق مكة، فرآه عمر فتغيَّظ عليه ثم قال: أَمَا والله لقد علمتَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنهما» رواه أحمد والطحاوي. فهذا الحديث يدل صراحة على ثبات حكم النهي عن الصلاة بعد العصر وعدم نسخه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 2- عن كُرَيب «أن ابن عباس والمِسْوَر بن مَخْرَمة وعبد الرحمن بن أزهر رضي الله عنهم أرسلوه إلى عائشة رضي الله عنها، فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعاً، وسَلْها عن الركعتين بعد صلاة العصر وقل لها: إنَّا أُخبرنا أنكِ تُصلِّينهما، وقد بلَغَنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنهما، وقال ابن عباس: وكنت أضرب الناس مع عمر بن الخطاب عنهما، فقال كُريب: فدخلت على عائشة رضي الله عنها فبلَّغتها ما أرسلوني فقالت: سَلْ أمَّ سلمة، فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها، فردُّوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنهما، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، ثم دخل وعندي نسوةٌ من بني حَرَام من الأنصار، فأرسلتُ إليه الجارية فقلت: قومي بجنبه فقولي له: تقول لك أم سلمة: يا رسول الله سمعتك تنهى عن هاتين وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، ففعلت الجارية فأشار بيده فاستأخرت عنه، فلما انصرف قال: يا بنت أبي أُمية سألتِ عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناسٌ من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان» رواه البخاري ومسلم والدارمي وأبو داود. 3 - عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت «لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بعد العصر قط إلا مرة واحدة، جاءه ناسٌ بعد الظهر فشغلوه في شئ فلم يصلِّ بعد الظهر شيئاً حتى صلى العصر، قالت: فلما صلى العصر دخل بيتي فصلى ركعتين» رواه أحمد والنَّسائي والبيهقي. 4- عن عبد الله بن أبي قيس قال «سألت عائشة عن الركعتين بعد العصر فقالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين بعد الظهر، فشُغل عنهما حتى صلى العصر، فلما فرغ ركعهما في بيتي فما تركهما حتى مات، قال عبد الله بن أبي قيس: فسألت أبا هريرة عنه، قال: قد كنا نفعله ثم تركناه» رواه أحمد والنَّسائي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 5- عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال «أجمع أبي على العمرة، فلما حضر خروجُه قال: أيْ بُني لو دخلنا على الأمير فودَّعناه، قلتُ: ما شئتَ، قال: فدخلنا على مروان وعنده نفرٌ فيهم عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فذكروا الركعتين التي يصليهما ابن الزبير بعد العصر، فقال له مروان: ممن أخذتَهما يا ابن الزبير؟ قال أخبرني بهما أبو هريرة عن عائشة، فأرسل مروان إلى عائشة: ما ركعتان يذكرهما ابن الزبير أن أبا هريرة أخبره عنكِ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصليهما بعد العصر؟ فأرسلت إليه: أخبرتني أم سلمة، فأرسل إلى أم سلمة: ما ركعتان زعمت عائشة أنكِ أخبرتِها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصليهما بعد العصر؟ فقالت: يغفر الله لعائشة، لقد وضعَتْ أمري على غير موضعه، صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر وقد أُتي بمالٍ، فقعد يقسمه حتى أتاه المؤذِّن بالعصر فصلى العصر ثم انصرف إليَّ وكان يومي، فركع ركعتين خفيفتين فقلنا: ما هاتان الركعتان يا رسول الله، أمرتَ بهما؟ قال: لا، ولكنهما ركعتان كنت أركعهما بعد الظهر، فشغلني قَسْمُ هذا المال حتى جاءني المؤذن بالعصر فكرهت أن أدعهما، فقال ابن الزبير: الله أكبر أليس قد صلاهما مرة واحدة؟ والله لا أدعهما أبداً، وقالت أم سلمة: ما رأيته صلاهما قبلها ولا بعدها» رواه أحمد. وغفر الله لابن الزبير فقد اجتهد فأخطأ بالاستمرار بأداء هاتين الركعتين بعد أن بان له أنهما صُلِّيتا قضاءً. 6 - عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد العصر وينهى عنها، ويواصل وينهى عن الوصال» رواه أبو داود. والوصال: هو مواصلة الصيام يوماً وليلة دون إفطار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 7- عن أبي سلمة «أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما بعد العصر فقالت: كان يصليهما قبل العصر، ثم إنَّه شُغل عنهما أو نسيهما، فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها» رواه مسلم والنَّسائي. قوله أثبتهما: أي داوم عليهما. 8- عن عمرو بن عَبْسةَ السُّمَلي قال « ... فقلت: يا نبي الله أخبرني عما علَّمك الله وأجهلُ، أخبرني عن الصلاة، قال: صلِّ صلاة الصبح ثم أَقْصِرْ عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صلِّ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقلَّ الظل بالرمح، ثم أَقْصِر عن الصلاة فإنَّ حينئذ تُسْجَرُ جهنم، فإذا أقبل الفئ فصلِّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أَقْصِر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ... » رواه مسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. قوله حتى يستقلَّ الظل بالرمح: أي حتى يكون الظل مقابل الرمح دون أن يميل عنه إلى المغرب أو إلى المشرق، ويكون ذلك عند منتصف النهار. 9 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «سمعت غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم عمر بن الخطاب، وكان أحبَّهم إلىَّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس» رواه مسلم والبخاري وابن خُزَيمة. 10 - عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس» رواه مسلم. 11- عن معاوية بن أبي سفيان قال «إنكم لَتُصلُّون صلاة، لقد صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما رأيناه يصليهما، ولقد نهى عنهما، يعني الركعتين بعد العصر» رواه البخاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 إن القول بالسُّنَّة البعدية لصلاة العصر لم يقل به سوى عائشة وابن الزبير فيما رُوي عنهما من آثار، وقد رأيتم كيف حصل ذلك منهما، ولم يفعلها سوى عليٍّ رضي الله عنه، وقد رأيتم كيف أن عمر رضي الله عنه قد أنكرها عليه، وذكَّره بالنهي عنها. وأما سُنة المغرب فهي ركعتان راتبتان مؤكدتان تُؤدَّيان عقب صلاة الفريضة كما أسلفنا، ونضيف إلى ما سبق ما رواه أحمد والترمذي من طريق ابن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين بعد المغرب في بيته» وما رواه ابن ماجة من طريق عائشة رضي الله عنها قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي المغرب، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين» . وأما سُنة العشاء فهي ركعتان راتبتان مؤكدتان تُؤدَّيان عقب صلاة الفريضة كما أسلفنا، ونضيف إلى ما سبق ما رواه أحمد والبخاري ومسلم من طريق ابن عمر رضي الله عنهما «أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد العشاء في بيته» . وما رواه أحمد ومسلم والبيهقي من طريق عائشة رضي الله عنها قالت « ... وكان يصلي بهم العشاء، ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين ... » طَرَفٌ من حديث طويل. ب. السُّنن الملحقة بالسنن الراتبة المؤكَّدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 وهي السنن التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم بها أحياناً ويتركها أحياناً أخرى، وهذه السنن هي: ركعتان أُخريان قبل الظهر، فيصلي أربعاً قبل الظهر، وركعتان أُخريان بعد الظهر، فيصلي أربعاً بعد الظهر، وركعتان قبل العصر أو أربع ركعات، وركعتان أُخريان أو أربعٌ بعد العشاء، فيصلي أربعاً أو ستَّاً بعد العشاء. وهؤلاء أربع عشرة ركعة في اليوم والليلة. وفي كلٍّ وردت نصوص، فعن قابوس عن أبيه قال «أرسل أبي امرأةً إلى عائشة يسألها أي الصلاة كانت أحبَّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يواظب عليها؟ قالت: كان يصلي قبل الظهر أربعاً يطيل فيهن القيام ويحسن فيهن الركوع والسجود، فأما ما لم يكن يدع صحيحاً ولا مريضاً ولا غائباً ولا شاهداً فركعتين قبل الفجر» رواه أحمد والبخاري والنَّسائي وأبو داود والبيهقي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدعُ أربعاً قبل الظهر، وركعتين قبل الفجر على حال» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والبخاري ومسلم. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها ركعتين» رواه الترمذي وابن ماجة. وهو جزء من حديث طويل، وعن عبد الله بن شقيق قال «سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التطوُّع فقالت: كان يصلي قبل الظهر أربعاً في بيتي، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين، ثم يصلي بهم العشاء، ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر، وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين، ثم يخرج فيصلي بالناس صلاة الفجر» رواه ابن خُزَيمة وأحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 وقد بلغ من شدة حرصه عليه الصلاة والسلام على هاتين الركعتين الأُخريين قبل صلاة الظهر أنه قلَّما تركهما، حتى إنَّ ابن أبي شيبة روى عن إبراهيم - النخعي - قال «كانوا يَعُدُّون من السُّنَّة أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر، قال إبراهيم: وكانوا يستحبون ركعتين قبل العصر إلا أنهم لم يكونوا يَعُدُّونها من السُّنَّة» . فقد ألحق الركعتين هاتين بالسنن الراتبة المؤكدة، لأن هذا هو ما كان يعنيه بقوله (يعُدُّون من السُّنَّة) . وكما قلنا إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان شديد الحرص من السنن الراتبة المؤكدة على ركعتي الفجر، فإنا نقول كذلك إنه عليه الصلاة والسلام كان شديد الحرص من السنن الملحقة على ركعتي الظهر هاتين، ولولا أنه ثبت بالنصوص التي أوردناها سابقاً أنه عليه الصلاة والسلام حصل منه أنْ صلى قبل الظهر ركعتين اثنتين فقط لأدخلنا هاتين الركعتين في السنن الراتبة المؤكدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 وقد ذكرت النصوص أن لهاتين الركعتين فضلاً عظيماً لا ينازعهما فيه أية سُنة أخرى من السنن الملحقة، فعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من صلى في يومٍ وليلةٍ ثِنتي عشرةَ ركعةً بُنِي له بيتٌ في الجنة: أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر صلاة الغداة» رواه الترمذي. وروى ابن حِبَّان وابن خُزيمة والحاكم عنها رضي الله عنها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من صلى ثِنتي عشرةَ ركعةً في اليوم بنى الله له بيتاً في الجنة: أربع ركعات قبل الظهر وركعتين بعد الظهر، وركعتين قبل العصر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين قبل الصبح» . ورواه النَّسائي وقيَّده بقوله «سوى المكتوبة» . وجاء هذا القيد صريحاً فيما رواه مسلم وأحمد وأبو داود وابن خُزَيمة وابن حِبَّان بلفظ «ما من عبدٍ مسلم يصلي لله كل يوم ثِنتي عشرةَ ركعةً تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة، أو إلا بُنِي له بيتٌ في الجنة» . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من ثابر على ثِنتي عشرةَ ركعةً من السُّنة بُني له بيت في الجنة: أربعٍ قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر» رواه ابن ماجة والنَّسائي وابن أبي شيبة. فإذا علمنا أن السنن الراتبة عشرٌ، وأن بناء بيت في الجنة يكون بالمثابرة على اثنتي عشرة ركعة من السنن، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أكمل السنن الراتبة العشر بركعتي الظهر هاتين دون سواهما من السُّنن الملحقة، أدركنا ما لهاتين الركعتين من فضل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وأما الركعتان الأُخريان بعد الظهر فقد ورد فيهما قول أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن حبيبها أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - أخبرها قال: ما من عبدٍ مؤمنٍ يصلي أربع ركعات بعد الظهر فتمسَّ وجهَه النارُ أبداً إن شاء الله عزَّ وجلَّ» رواه النَّسائي. وورد فيهما وفي الركعتين الأُخريين قبل الظهر قول أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من صلى أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها حرَّم الله لحمه على النار» رواه أحمد وابن ماجة والنَّسائي وابن أبي شيبة. وجاء في رواية عند أبي داود والترمذي وابن خُزَيمة من طريق أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظ «من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربعٍ بعدها حُرِّم على النار» . وحتى يُفهم النَّصَّان جيداً أقول: إن السُّنة الراتبة للظهر هي ركعتان اثنتان قبلها، وركعتان أُخريان بعدها، فعندما تقول الأحاديث: أربعاً قبل الظهر، فإن معنى ذلك أن ركعتين أُخريين قد جُمِعتا مع الراتبتين فصار العدد أربعاً، وقل مثل ذلك بخصوص السُنَّة البعدية للظهر، فعندما تذكر الأحاديث فضل الركعات الأربع فإن معنى ذلك أن الفضل يشمل الركعتين الأُخريين، بل إن الفضل ما كان ليكون لولاهما. أما هؤلاء الركعات الأربع القبلية منها والبعدية، فإنها تُصلى مَثنى مَثنى، أي ركعتين ركعتين، فقد روى ابن عمر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «صلاة الليل والنهار مَثنى مَثنى» رواه ابن خُزَيمة وأبو داود والدارمي وابن حِبَّان. وأشار إليه البخاري في صحيحه. وسيأتي بعد قليل حديث يفيد أن الركعات الأربع التي تُصلَّى قبل العصر يفصل بينهن تسليم، فهؤلاء كأولئك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 وأما سُنَّة العصر الملحقة بالرواتب المؤكدة فهي ركعتان أو أربع، فمن شاء صلى ركعتين، ومن شاء صلى أربعاً، وتُؤدَّى هذه السُّنة قبل صلاة العصر وليس بعدها، فعن عبد الله بن شقيق قال «سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: كان يصلي أربعاً قبل الظهر وثنتين بعدها، وثنتين قبل العصر، وثنتين بعد المغرب، وثنتين بعد العشاء، ثم يصلي من الليل تسعاً ... » رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والبيهقي. وعن علي رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل العصر ركعتين» رواه أبوداود. وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن خُزَيمة وابن حِبَّان. وعن علي رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل العصر أربعاً، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم ... » رواه أحمد. وهو من حديث طويل. ورواه النَّسائي وابن ماجة. ورواه الترمذي ولفظه «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقرَّبين، ومَن تبعهم من المسلمين والمؤمنين» . وقد أشكل هذا الحديث الذي يذكر التسليم على العديد من الفقهاء، فقال ناسٌ منهم إن التسليم المذكور في الحديث يعني التسليم الوارد في التَّشهُّد ولا يعني تسليم التَّحلُّل من الصلاة. وقال الآخرون بل هو التسليم الذي يتحلل به المصلي من صلاته. وهو الصحيح، يشهد له قوله عليه الصلاة والسلام «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» . وقد مرَّ قبل قليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 أما الحديث الذي رواه أبو أيوب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «أربعٌ قبل الظهر ليس فيهن تسليم تُفتَح لهن أبواب السماء» رواه أبو داود وأحمد - وهو يدل على أنَّ الأربع ركعات لا يفصل بينهن تسليم - فإن هذا الحديث في سنده عبيدة، قال أبو داود (عبيدة ضعيف) . فيردُّ ولا يصلح للاستدلال. وكما سبق وقلت فقد وردت للعصر سُنَّة قبلية ملحقة بالسنن الراتبة المؤكدة، هي ركعتان أو أربع ركعات، وأنت بالخيار بين الاثنتين والأربع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 وأما سُنَّة المغرب فهي ركعتان قبل الصلاة المفروضة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كان المؤذِّن إذا أذَّن قام ناسٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري، حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم كذلك، يصلُّون الركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإقامة شئ» رواه البخاري ومسلم والنَّسائي وابن حِبَّان. ورواه أحمد ولفظه «.. ولم يكن بين الأذان - صلى الله عليه وسلم -والإقامة إلا قريب» أي فترة قصيرة. وعن مختار بن فلفل قال «سألت أنس بن مالك عن التطوُّعِ بعد العصر فقال: كان عمر يضرب الأيدي على صلاةٍ بعد العصر، وكنا نصلي على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، فقلت له: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاهما؟ قال: كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا» رواه مسلم وأبو داود. وعن عبد الله المُزَني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «صلوا قبل صلاة المغرب، قال في الثالثة: لمن شاء، كراهية أن يتخذها الناس سُنَّة» رواه البخاري وأبو داود. ورواه أحمد ولفظه «صلوا قبل المغرب ركعتين ثم قال: صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال عند الثالثة: لمن شاء، كراهية أن يتخذها الناس سُنَّة» . وهذه السُّنَّة لم يُعرف أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاها يوماً، لذا فإنها تصنَّف في أدنى الدرجات بالنسبة للسنن الملحقة بالرواتب المؤكدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 وأما سُنَّة العشاء الملحقة بالرواتب فهي ركعتان اثنتان، أو رَكَعاتٌ أربعٌ تضاف إلى ركعتي العشاء البعديتين الراتبتين المُؤَكَّدتين، فعن شُريح بن هاني قال «سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: لم تكن صلاةٌ أخرى أن يؤخِّرها إذا كان على حديث من صلاة العشاء الآخرة، وما صلاها قط فدخل عليَّ إلا صلى بعدها أربعاً أو ستاً ... » رواه أحمد والنَّسائي وأبو داود. قوله أربعاً أو ستاً: أي يشمل الراتبتين والسُّنة الملحقة. هذه هي السُّنن الملحقة بالسنن الراتبة المؤكدة، أعلاها وأولاها بالالتزام ركعتان قبل الظهر، فيصلي المسلم أربع ركعات قبلية للظهر، وأدناها ركعتان قبل المغرب، ومجموعها أربع عشرة ركعة في اليوم والليلة. قضاءُ السنن الراتبة والسنن الملحقة بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 يُشرع قضاء السنن الراتبة والسنن الملحقة بها إن هي فاتت بنوم أو نسيان أو انشغال فلم تُصلَّ في أوقاتها، وقد وردت عدة نصوص في هذا الباب، وباستعراض هذه النصوص نجد جملة من الأحاديث الشريفة تنص على وقائع عدة من قضاء السنن هذه، وهذه الوقائع ليست للحصر وإنما هي لمجرد التنصيص على أفرادٍ منها فحسب، فينسحب الحكم المستنبط منها على جميع هذه السنن، ولا يُوقف الحكم هذا على الأفراد المنصوص عليها فحسب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من لم يصلِّ ركعتي الفجر فلْيُصَلِّهما بعدما تطلع الشمس» رواه الترمذي وابن حِبَّان. وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام عن ركعتي الفجر فصلاها بعدما طلعت الشمس» رواه ابن حِبَّان. وعن ابن أبي مريم رضي الله عنه قال «كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأسرينا ليلة، فلما كان في وجه الصبح نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنام ونام الناس، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت علينا، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤذن فأذن، ثم صلى الركعتين قبل الفجر، ثم أمره فأقام، فصلى بالناس» رواه النَّسائي. وفي رواية للنَّسائي من طريق نافع بن جبير عن أبيه بلفظ «.. فضُرب على آذانهم حتى أيقظهم حرُّ الشمس فقاموا، فقال: توضأوا، ثم أذن بلال فصلى ركعتين، وصلوا ركعتي الفجر ثم صلوا الفجر» . فهذه نصوص في قضاء سُنَّة الفجر الراتبة. وعن عائشة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر صلاهن بعدها» رواه الترمذي. وعنها رضي الله عنها أنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فاتته الأربع قبل الظهر صلاها بعد الركعتين بعد الظهر» رواه ابن ماجة وابن أبي شيبة. فهذان نصَّان في قضاء سنة الظهر القبلية الراتبة منها والملحقة، لأن الراتبة ركعتان والملحقة ركعتان، فهما أربع ركعات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 وقد مرَّ معنا في بحث [السنن الراتبة المؤكدة] في هذا الفصل حديث كُرَيب عند البخاري ومسلم والدارمي وأبي داود وجاء فيه «وإنه أتاني ناسٌ من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان» . كما مرَّ في البحث نفسه حديث عبد الله بن أبي قيس عند أحمد والنَّسائي وجاء فيه «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين بعد الظهر فشُغِل عنهما حتى صلى العصر، فلما فرغ ركعهما في بيتي» . كما مرٌَّ في البحث نفسه حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عند أحمد وجاء فيه «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر وقد أُتِيَ بمالٍ، فقعد يقسمه حتى أتاه المؤذن بالعصر، فصلى العصر ثم انصرف إلىَّ وكان يَومي، فركع ركعتين خفيفتين، فقلنا: ما هاتان الركعتان يا رسول الله، أمرت بهما؟ قال: لا، ولكنهما ركعتان كنتُ أركعهما بعد الظهر، فشغلني قَسْمُ هذا المال حتى جاءني المؤذن بالعصر فكرهتُ أن أدعهما» . فهذه نصوص ثلاثة في قضاء سُنَّة الظهر الراتبة البعدية. وقد مرَّ في بحث [السنن الراتبة المؤكدة] في هذا الفصل حديث أبي سلمة - بن عبد الرحمن - عند مسلم والنَّسائي وجاء فيه «كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شُغِل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر» . فهذا نصٌ في قضاء سُنَّة العصر القبلية. وكما سبق وقلنا فإن النصوص قد ذكرت وقائع من قضاء السنن الراتبة والملحقة، وهي ليست للحصر، وإنما تدل على مشروعية قضاء السنن الراتبة كلها، والسنن الملحقة بها كلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 أما متى تُقضى هذه السنن، فإن جميع الأوقات تصلح لقضاء السنن، لا فرق بين أوقات الكراهة وغيرها، فقد مرَّ قبل قليل حديث كُرَيب، وحديث عبد الله بن أبي قيس، وحديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وكلها تدل على قضاء سنة الظهر البعدية بعد صلاة العصر، وكذلك حديث أبي سلمة، فإنه يدل على قضاء السنة قبل العصر بعد صلاة العصر، والصلاة بعد العصر منهيٌّ عنها للأحاديث التي أوردناها في بحث [السنن الراتبة المؤكدة] في هذا الفصل عند الحديث على سُنَّة العصر الراتبة. وروى قيس - بن عمرو - رضي الله عنه «أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبح، ثم قام يصلي ركعتين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما هاتان الركعتان؟ فقال: يا رسول الله ركعتا الفجر لم أكن صليتهما فَهُما هاتان، قال، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -» رواه ابن خُزَيمة والحاكم والبيهقي. ورواه ابن حِبَّان بلفظ «.. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليه فلم ينكر ذلك عليه» . فهذا الحديث يدل على جواز قضاء سُنَّة الفجر في وقت الكراهة، وهو الوقت الذي يعقب صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وترتفع. فالصلاة عقب صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وترتفع منهيٌّ عنها للأحاديث الواردة في بحث [السنن الراتبة المؤكدة] في هذا الفصل عند الحديث على سُنَّة العصر الراتبة، ولكن الكراهية في أداء الصلاة في أوقات النهي إنما هي خاصة بصلاة التطوع المطلقة غير المقيدة بوقت أو بسبب أو بغرض خاصٍّ، أما قضاء السنن الراتبة والملحقة بها، وأداء الصلوات ذوات الأسباب والأغراض الخاصَّة، كتحية المسجد وصلاة الكسوف وصلاة الجنازة، وكصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة وصلاة الاستسقاء، فكلُّ ذلك جائز في أوقات النهي هذه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «مَن نسي ركعتي الفجر فَلْيُصلِّهما إذا طلعت الشمس» رواه ابن خُزَيمة وابن ماجة. ورواه الترمذي بلفظ «مَن لم يُصَلِّ ركعتي الفجر فلْيُصلِّهما بعدما تطلع الشمس» . فإنه لا يتعارض مع حديث قيس عند ابن خُزَيمة المارِّ آنفاً، فقوله ليصلهما إذا طلعت الشمس لا يعني عدم جواز صلاتهما قبل طلوع الشمس، فالأمر بالشئ ليس نهياً عن غيره، هذا أولاً. وثانياً إن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقضاء صلاة سُنَّة الفجر بعد طلوع الشمس يدل على الاستحباب، وأما سكوته عليه الصلاة والسلام على قضاء صلاة سُنَّة الفجر قبل طلوع الشمس فيدل على الإباحة والجواز، فالمسلم يندب له أن يختار لقضاء سُنَّة الفجر الوقت الذي يعقب طلوع الشمس بل وارتفاعها، فإنْ هو تعجَّل فلم ينتظر طلوع الشمس وارتفاعها، وصلاها قبل ذلك أجزأت عنه وجازت له، فلا تعارض بين الحديثين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وأما الشبهة التي أثارها حديث أم سلمة عند الطحاوي وأحمد والبيهقي وابن حِبَّان الذي سنورده الآن، وهي عدم مشروعة قضاء السنن والنوافل في أوقات النهي، فهي شبهة ضعيفة لا تصمد أمام الأحاديث الكثيرة القاضية بجواز قضاء السنن والنوافل في أوقات النهي، فالحديث يقول: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر ثم دخل بيتي فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله صليتَ صلاة لم تكن تصليها، قال: قدم عليَّ مال فشغلني عن ركعتين كنت أُصليهما بعد الظهر فصليتهما الآن، قلت: يا رسول الله أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا» رواه الطحاوي وأحمد والبيهقي. ورواه ابن حِبَّان ولفظه « ... شغلني عن ركعتين كنت أركعهما قبل العصر ... » . فأولاً: هذه الرواية ضعَّفها البيهقي فلا تصمد أمام الأحاديث الصحيحة والحسنة القائلة بمشروعية قضاء السنن، ولا تقوى على معارضتها. وثانياً: على فرض قبول هذه الرواية من حيث السند فإن قوله «أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا» يُفسَّر بنفي الأمر بالقضاء، فكأن أم سلمة رضي الله عنها سألت الرسول - صلى الله عليه وسلم -: هل تأمرنا بالقضاء؟ فقال: لا. ولا يفيد هذا النص نفي مشروعية القضاء. يشهد لهذا الفهم ما أخرجه الطحاوي نفسه «أن معاوية أرسل إلى أم سلمة يسألها عن الركعتين اللتين ركعهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر، فقالت: نعم، صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندي ركعتين بعد العصر، فقلتُ: أمرتَ بهما؟ قال: لا، ولكني كنت أُصليهما بعد الظهر فشُغلتُ عنهما فصليتهما الآن» . والأحاديث يفسر بعضها بعضاً، وهذا الحديث يفسر الحديث الذي قبله لا سيما وأنهما في موضوع واحد ومن قِبَلِ راو واحدٍ هو أم سلمة رضي الله عنها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 والفرق بين الأمر بالقضاء وبين السكوت عن القضاء أن الأمر بالقضاء يجعله من السُّنَّة، في حين أن السكوت عن فعل القضاء يجعله في دائرة التخيير. وهذا المعنى يتضمنه الحديث الذي رواه البخاري وأبو داود من طريق عبد الله المُزَني رضي الله عنه، وجاء فيه «صلوا قبل صلاة المغرب قال في الثالثة: لمن شاء، كراهية أن يتخذها الناس سُنَّة» . وقد مر في بحث [السنن الملحقة بالسنن الراتبة المؤكدة] في هذا الفصل. فلو بقي أمره عليه الصلاة والسلام «صلوا قبل صلاة المغرب» دون قوله «لمن شاء» لاعتُبرت الركعتان قبل صلاة المغرب من السُّنة، ولثابر المسلمون عليهما، فلما قال «لمن شاء» فقد انتفت عن الركعتين السُّنِّيَّةُ ودخلتا في دائرة التخيير، فكذلك قضاء هاتين الركعتين بعد صلاة العصر، فهو في دائرة التخيير وليس في دائرة السُّنة، فمن شاء صلاهما ومن شاء تركهما، ويُستثنى من قضاء السنن سُنَّةُ الفجر فقط، فهي داخلة في دائرة السُّنِّيَّة وليس في دائرة التخيير. فركعتا الفجر من السُّنَّة قضاؤهما، لأن أمره عليه الصلاة والسلام قد تعلق به بقوله «من نسي ركعتي الفجر فَلْيُصلِّهما إذا طلعت الشمس» . فقد صدر في قضاء ركعتي الفجر أمرٌ نبوي فصار من السُّنَّة، وهذا لم يحصل في قضاء أية سُنة أخرى من السنن الراتبة والملحقة بها، فلْيحرص المسلمون على ركعتي الفجر، ولْيصلوهما في وقتهما قبل صلاة الفجر، أو بعد صلاة الفجر إن هما فاتتا. صلاة الرواتب في السفر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 إن القاعدة التي وضعناها للتفريق بين السنن الراتبة والسنن الملحقة بها هي أن السنن الراتبة هي تلك التي لم يُصلِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقل منها ولم يتركها بحال مطلقاً، فهذان شرطان يتوجب وجودهما في السنن الراتبة، فإن نقص أحدهما أو زالا معاً لم تعُد سُنناً راتبة، وعندها يمكن اعتبارها سنناً ملحقة بالسنن الراتبة، وهذه القاعدة تصلح في الحضر كما تصلح في السفر. وباستعراض النصوص المتعلقة بصلاة التطوع في السفر نجد أن هذين الشرطين لم يتوفرا معاً في أية سُنَّة من سنن الصلوات المكتوبات، فقد جاءت النصوص بترك جميع السنن الراتبة في السفر أحياناً إن لم نقل غالباً، فهذا الترك للسنن الراتبة في السفر ولو مرة واحدة يخرجها عن كونها سُنناً راتبة في السفر، إذ لو كانت سُنَناً راتبة فيه لأُتيَ بها فيه بشكل دائم. وعلى هذا فإنا نقول إن الشرع الحنيف لم يسنَّ أية سُنة راتبة في السفر مطلقاً، وإنما شرع للمسلمين أن يصلوا صلاة تطوُّعٍ مطلق غير مقيد، لا يصح أن يقال عنها إنها من السنن الراتبة، فعن عيسى بن حفص بن عاصم عن أبيه قال «خرجنا مع ابن عمر فصلينا الفريضة، فرأى بعض ولده يتطوع فقال ابن عمر: صليتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان في السفر فلم يصلوا قبلها ولا بعدها، قال ابن عمر: ولو تطوَّعتُ لأتممت» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي. وفي رواية عند أحمد بلفظ «صحبتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قبض، فكان لا يزيد على ركعتين، وأبا بكر رضي الله عنه حتى قبض، فكان لا يزيد عليها» . فهذا نص قطعي الدلالة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان لم يصلوا في السفر السنن الراتبة ولا الملحقة بها، وهذا يعني أنه لا توجد سنن راتبة في السفر، لأنه كما قلنا لا تُترك السُّنن الراتبة لأن شرطها الدوام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 ولقد عجبتُ ممن يقول بالسنن الراتبة في السفر استدلالاً بالأحاديث التالية: أ - عن ابن عمر رضي الله عنه قال «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحضر والسفر، فصلى الظهر في الحضر أربعاً وبعدها ركعتين، وصلى العصر أربعاً وليس بعدها شئ، وصلى المغرب ثلاثاً وبعدها ركعتين، وصلى العشاء أربعاً، وصلى في السفر الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين وليس بعدها شئ، والمغرب ثلاثاً وبعدها ركعتين، والعشاء ركعتين وبعدها ركعتين» رواه أحمد والترمذي. ب - عن ابن عباس رضي الله عنه قال «فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الحضر والسفر، فكما تصلِّي في الحضر قبلها وبعدها فصلِّ في السفر قبلها وبعدها» رواه أحمد والبيهقي. ج - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال «سافرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر سفراً، فلم أره ترك الركعتين قبل الظهر» رواه أحمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 فأقول لهؤلاء: أمَّا الحديث الأول فهو مرويٌّ عن ابن عمر، ولقد روى ابن عمر الحديث السابق الصحيح الذي يقول فيه «.. فلم يُصلُّوا قبلها ولا بعدها..» فهما متعارضان، ومع التعارض فإن الحديث الصحيح السابق يُرَجَّح على الحديث هذا، فيُعمل بالأول ويُترك الثاني. هذا أولاً. وثانياً فإن هذا الحديث عندما تحدث عن صلاة الحضر وأتى على ذكر السنن الراتبة ذكر للظهر ركعتين بعديتين فقط ولم يذكر للظهر سُنَّة قبلية، وهذا مخالف لجميع الأحاديث في هذا الموضوع، فدل ذلك على ضعف الحديث متناً وشذوذه، فيطرح ويعمل بالحديث الصحيح السابق. وثالثاً رُبَّ قائلٍ يقول إن هذا الحديث لا يتعارض مع الحديث السابق وإن الجمع بينهما ممكن، وذلك أن الحديث الأول يفيد غالب الأحوال، وأن الحديث الثاني يفيد أحوالاً أخرى لبيان الجواز كما يقولون، بمعنى أن غالب أحواله عليه الصلاة والسلام عدم صلاة هذه الركعات في السفر، وأنه فعلها أحياناً لبيان الجواز، فأقول إن هذا القول لا يصحُّ، إذ لا يصح أن توصف هذه الركعات بأنها سنن راتبة مع الاعتراف بأنه عليه الصلاة والسلام قد فعلها أحياناً وتركها أحياناً أُخرى. فكيف تبقى سنناً راتبة عندئذ؟ أما الحديث الثاني فهو حديث ضعيف لا يصلح للاستدلال، فقد ضعَّفه ابن القطَّان، كما ضعَّفه أحمد راوي هذا الحديث فهو إذن لا يسعفهم. وأما الحديث الثالث فإنه لا يدل على وجود سنة راتبة مؤكدة قبلية لصلاة الظهر في السفر، فقد روى الترمذي وأبو داود هذا الحديث بلفظ «صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر سفراً، فما رأيته ترك الركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر» . فهاتان الركعتان ليستا هما السُّنة الراتبة للظهر كما يتوهمون، وإنما هما ركعتان تُصليان عندما تزيغ الشمس قبل موعد صلاة الظهر، فهما من النوافل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 وهكذا يظهر أن هذه الأحاديث الثلاثة لا يُستدلُّ بها على وجود السنن الراتبة المؤكَّدة في السفر. وبناء على ما سبق فإنا نقول إنه لا سنن راتبة في حالة السفر، وإنما نوافل وسنن غير راتبة، أظهرها ركعتان قبل صلاة الصبح، فقد كثرت الأحاديث التي تذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصليهما في السفر، ولولا أنه عليه الصلاة والسلام قد روي عنه في الحديث الصحيح السابق أنه ترك السنن الراتبة كلها، ومنها هاتان الركعتان، لأثبتناهما في السفر كما هما في الحضر، ولكنَّ تركَه عليه الصلاة والسلام للسنن الراتبة كلها ومنها ركعتا الفجر في السفر يحول دون اعتبار هاتين الركعتين سنة راتبة مؤكدة، فلا مناص من تعميم الحكم بنفي جميع السنن الراتبة في السفر، واعتبار أن كل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نوافل أداها في السفر على الراحلة أو على الأرض إنما هي نوافل مطلقة وتطوُّعٌ غير مقيد. ج. تحيَّة المسجد يُندب للمسلم إذا ذهب إلى المسجد أن يصلي لله تعالى ركعتين عند دخول المسجد وقبل أن يجلس، ولا يزيد عن ذلك إلا أن يصلي غير تحية المسجد، فتحيَّة المسجد ركعتان اثنتان فحسب، فقد روى أبو قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا دخل أحدكم المسجد فلْيركع ركعتين قبل أن يجلس» رواه البخاري ومسلم وأحمد. وفي رواية عند البخاري من طريق أبي قتادة أيضاً بلفظ «إذا دخل أحدُكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» . ورواه ابن حِبَّان بلفظ «إذا دخل أحدُكم المسجد فلا يجلس فيه حتى يركع ركعتين» . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كان لي على النبي - صلى الله عليه وسلم - دَيْن فقضاني وزادني، ودخلت عليه المسجد فقال لي: صلِّ ركعتين» رواه مسلم وابن حِبَّان، ورواه البخاري بتقديمٍ وتأخير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 وتُسنُّ تحية المسجد في كل وقت يدخل فيه المسلم المسجد، لا فرق بين أوقات الكراهة وغيرها، ولا بين النهار والليل، فمتى دخل المسجد صلى ركعتين، وحتى في يوم الجمعة وفي أثناء خطبة الجمعة فإن حكم الندب باق ومستمر، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب فقال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فلْيصلِّ ركعتين» رواه مسلم. ورواه البخاري بلفظ «إذا جاء أحدكم والإمام يخطب أو قد خرج فلْيصلِّ ركعتين» . وفي هذه الحالة - أعني في أثناء خطبة الجمعة - فإنه يشرع تخفيف هاتين الركعتين والتجوُّز فيهما وعدم إطالتهما، لما رُوي عن جابر رضي الله عنه أنه قال «دخل رجلٌ المسجد والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فقال له: صلِّ ركعتين خفيفتين قبل أن تجلس» رواه ابن حِبَّان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 نعم إن الأصل هو أن تُصلَّى الركعتان قبل الجلوس، وهذا لا يعني أن مَن دخل المسجد فجلس لسبب أو لآخر لا يُشرعُ له أداء هاتين الركعتين بعد ذلك، فالركعتان هاتان الأصلُ في أدائهما أن يكون قبل الجلوس، ولكنَّ أداءَهما يظلُّ مشروعاً أيضاً عَقِبَ الجلوس، فقد رُوي عن جابر رضي الله عنه أنه قال «جاء سُلَيْكٌ الغَطَفَاني يوم الجمعة ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدٌ على المنبر، فقعد سُليك قبل أن يصلي فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أركعتَ ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فاركعهما» رواه مسلم والطحاوي. وفي رواية عند مسلم وأبي داود بلفظ «عن جابر بن عبد الله قال: جاء سُلَيك الغطَفاني يوم الجمعة ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فجلس فقال له: يا سُليك قم فاركع ركعتين وتجوَّز فيهما، ثم قال: إذا جاء أحدكم يومَ الجمعة والإمامُ يخطب فليركع ركعتين ولْيتجوَّز فيهما» . وعنه رضي الله عنه قال «دخل رجل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فقال: أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصلِّ الركعتين» رواه مسلم والبخاري وأبو داود. قوله قم فصلِّ الركعتين يدل على أن الرجل كان قد جلس قبل أن يؤدي تحية المسجد، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصليهما، أي بعدما كان قد جلس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 قلنا من قبل إن تحية المسجد سُنَّة مندوبة وليست فرضاً خلافاً لما توهمه بعضُهم من النصوص التي تحث كثيراً وتشدد على أدائها، فالطحاوي وأبو داود قد أخرجا حديثاً من طريق عبد الله بن بُسر رضي الله عنه قال «جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجلس فقد آذيتَ وآنيتَ» . قوله آنيتَ: أي تأخرتَ في المجئ. وقد قيد أبو داود قدوم الرجل بأنه كان في أثناء خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله «فجاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: اجلس فقد آذيت» . بدون قوله (آنيت) ، فلو كانت تحية المسجد واجبة لأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأدائها ولم يأمره بالجلوس. وقلنا من قبل إن تحية المسجد تُسَنُّ في كل وقت يدخل فيه المسلم المسجد، لا فرق بين أوقات الكراهة وغيرها، ولا بين الليل والنهار، ونقول هنا باستثناء حالة جاءت بها النصوص هي حالةُ ما إذا دخل المسلم المسجد، فوجد الصلاة المكتوبة قائمة، فعندها لا تُشرع تحية المسجد، ويدخل المسلم في الصلاة المكتوبة فوراً، وذلك لما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاةَ إلا المكتوبة» رواه ابن حِبَّان ومسلم وابن خُزَيمة، ورواه أصحاب السنن. أما بخصوص صلاة العيدين، وما جاء من عدم التَّنفُّل قبلها، فإن ذلك خاص بما إذا صُلِّيت صلاةُ العيدين في المصلى، أي خارج البيوت والمدن، لأن المُصَلَّى ليس مسجداً، فلا تحيةَ له، أما إن صُلِّيت صلاةُ العيدين في المسجد فلْيصلِّ المسلم تحية المسجد، لأن حكمها عام يشمل العيدين وغيرهما. د. الوتر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 الوتر هو الصنف الرابع من أصناف صلاة التطوع، بمعنى أن الوتر مندوب مستحب فحسب، وليس فرضاً ولا واجباً، فقد روى ابن محيريز «أن رجلاً من بني كِنانة يدعى المُخْدِجِيَّ سمع رجلاً بالشام يُدعى أبا محمد يقول إن الوتر واجب، قال المُخْدِجِيُّ: فَرُحت إلى عُبادة بن الصامت فأخبرتُه، فقال عُبادة: كذب أبو محمد، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: خمسُ صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيِّع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة» رواه أبو داود وأحمد والنَّسائي وابن ماجة ومالك. وقد مرَّ طرف منه في بحث [حكم الصلاة المكتوبة] فصل [الصلاة: حكمها ومواقيتها] . وعن عليٍّ رضي الله عنه قال «الوتر ليس بحَتْمٍ كهيئة الصلاة المكتوبة، ولكنْ سُنة سنَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه الترمذي وأحمد والنَّسائي والحاكم. وعن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال «الوتر أمرٌ حسنٌ عمل به النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من بعده وليس بواجب» رواه الحاكم والبيهقي. ودلالة هذه الأحاديث واضحة، وأيضاً عن ابن عمر رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به، يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته» رواه البخاري. ورواه مسلم والنسائي وأبو داود وابن خُزيمة بلفظ «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبِّح على الراحلة قِبَل أي وجه توجَّه، ويوتِر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة» . فلولا أن الوتر مندوب وليس فرضاً لما أوتر عليه الصلاة والسلام على راحلته، وعن ابن عباس رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن قال: إنك تقْدَم على قومٍ أهلِ كتاب، فليكن أولَ ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ... » رواه البخاري ومسلم. ورواه ابن حِبَّان وقال عقب ذلك (.. كان بعث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل إلى اليمن قبل خروجه من الدنيا بأيام يسيرة، وأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، ولو كان الوتر فرضاً أو شيئاً زاده الله جلَّ وعلا للناس على صلواتهم كما زعم من جهل صناعة الحديث ولم يميِّز بين صحيحها وسقيمها، لأمر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل أن يخبرهم أن الله جلَّ وعلا فرض عليهم ستَ صلوات لا خمساً، ففيما وصفنا أبين البيان بأن الوتر ليس بفرض، وبالله التوفيق) . ولكن هناك أحاديث تُوهم بوجوب صلاة الوتر، نذكرها أولاً ثم نناقشها: أ - عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي إفريقية «أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قدم الشام وأهل الشام لا يُوترون، فقال لمعاوية: ما لي أرى أهل الشام لا يوترون؟ فقال معاوية: وواجبٌ ذلك عليهم؟ قال: نعم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: زادني ربي عزَّ وجلَّ صلاة وهي الوتر، ووقتها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» رواه أحمد. ب - عن نافع «سأل رجلٌ ابن عمر عن الوتر أواجب هو؟ فقال: أوتَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون» . ومن طريق ثانية «قال رجل لابن عمر: أرأيت الوتر أسنَّة هو؟ قال: ما سُنَّة؟ أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوتر المسلمون، قال: لا أسنَّةٌ هو؟ قال: مَهْ أتعقل؟ أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوتر المسلمون» رواهما أحمد وابن عبد البَر. ج - عن بُرَيدة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا، قالها ثلاثاً» رواه أحمد وأبو داود والحاكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 د - عن أبي أيوب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «الوتر حق، فمن أحبَّ أن يوتر بخمس فليوتر، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليوتر، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليوتر، ومن شقَّ عليه ذلك فليُومئ إيماء» رواه ابن حِبَّان والبيهقي، ورواه أبو داود باختلاف في اللفظ. هـ- عن ابن عباس قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «ثلاثٌ هنَّ عليَّ فرائض وهنَّ لكم تطوُّعٌ: الوتر والنحر وصلاة الضحى» رواه أحمد والبيهقي والحاكم والدارقطني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 الحديث الأول في سنده عبيد الله بن زحر ضعيف، ضعفه الهيثمي وابن معين وابن المديني والدارقطني، وقال ابن حِبَّان: يروي الموضوعات عن الأثبات. وقال الهيثمي (ومعاوية لم يتأمَّر في زمن معاذ) . فالحديث لا يصلح للاحتجاج. والحديث الثاني لا يفيد وجوب الوتر، فامتناع ابن عمر عن إجابة السائل واكتفاؤه بتكرار فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين لا يدل على الوجوب، ويبدو لي أن ابن عمر خشي إن هو قال إن الوتر سنة أن يؤدي ذلك إلى تفريط الناس به، فاكتفى بترديد فِعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين علَّ السامع يقتدي بفعلهم، وهذا على فرض أن الحديث صالح للاحتجاج، وإلا فإن العراقي قد ذكر الحديث هذا ضمن الأحاديث الضعيفة، وقل مثل ذلك بخصوص الحديث الثالث، فهو أيضاً ضعيف عند العراقي، وعلى فرض صلاحه للاحتجاج فإن لفظَهُ «الوتر حق» وارد في الحديث الرابع. فأقول: إن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - «الوتر حق» لا يفيد الوجوب الشرعي بالضرورة، فكما أن الواجب حق، فإن المندوب أو السنّة أيضاً حق، فكلمة حق هنا تعني أنه ثابت مشروع، وهذا اللفظ لا يعدو كونه يفيد الحث على صلاة الوتر، ولا يفيد أكثر من ذلك. أما الحديث الخامس ففي سنده أبو جناب الكلبي - يحيى بن أبي حية - ضعيف، ضعَّفه يحيى القطان والعِجلي والجوزجاني وأبو حاتم والنَّسائي والدارقطني والذَّهبي، فلا يصلح للاحتجاج. وهكذا يتبين أنه لا يوجد دليل أو نصٌّ واضح الدلالة على وجوب صلاة الوتر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 وقد حكى الخطابي الإجماع على عدم وجوب الوتر، ويبدو أنه نسي أو كان يجهل رأي أبي حنيفة القائل بوجوب الوتر. قال الشوكاني (وقد ذهب الجمهور إلى أن الوتر غير واجب بل سُنَّة، وخالفهم أبو حنيفة فقال إنه واجب) . وقال ابن المنذر ( ... وهو قول عوام أهل العلم غير النعمان، فإنه خالفهم وزعم أن الوتر فرض) . قول ابن المنذر عوام أهل العلم غير النعمان: يعني عموم أو عامة أهل العلم باستثناء أبي حنيفة. وقد حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيراً على صلاة الوتر، مما يجعل هذه الصلاة تتمتع بفضل عظيم، ويكاد الوتر يعدل في الفضل ركعتي الفجر، أي سُنَّة الصبح، فالحديث الثالث - حديث بُريدة الأسلمي المار قبل قليل - يدل على ما للوتر من فضل. وأيضاً، عن عليٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يا أهل القرآن أوتروا فإن الله عزَّ وجلَّ وِترٌ يحب الوتر» رواه أحمد وأبو داود. ورواه ابن خُزَيمة وابن ماجة، كلاهما بلفظ «قال علي بن أبي طالب: إن الوتر ليس بحتم ولا كصلاتكم المكتوبة، ولكنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوتر، ثم قال: يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر» . وعن خارجة ابن حُذافة العَدَوي رضي الله عنه قال «خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن الله قد أمدَّكم بصلاة لهي خيرٌ لكم من حُمر النَّعَم، جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر» رواه ابن ماجة والبيهقي والحاكم. قوله حُمر النَّعَم: أي الطائفة من الإبل. أما وقت الوتر فهو وقت موسَّع، يمتدُّ من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، فقد مرَّ قبل لحظات حديث ابن ماجة والبيهقي وفيه « ... جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر» . وروى أبو بصرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إن الله زادكم صلاة وهي الوتر، فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر ... » رواه أحمد والطبراني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 وتأخير الوتر إلى آخر الليل أفضل لمن قوي على ذلك، فعن مسروق قال «سألتُ عائشة عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: مِن كلِّ الليل قد أوتر، مِن أوله وأوسطه، وانتهى وتره حين مات في السَّحَر» رواه ابن ماجة وأحمد ومسلم. ورواه البخاري ولفظه «كلَّ الليل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانتهى وتره إلى السَّحَر» . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر أول الليل، ثم أوتر في وسطه ثم أثبت الوتر في هذه الساعة، قال: وذلك عند طلوع الفجر» رواه أحمد. وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من خاف أن لا يقوم من آخِر الليل فليوتر أوَّله، ومن طمع أن يقوم آخِرَه فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخِر الليل مشهودة، وذلك أفضل» رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة. وعن جابر من طريق ثانية عند مسلم «أيكم خاف أن لا يقوم من آخِر الليل فليوتر ثم ليرقد، ومن وثق بقيامٍ من الليل فلْيوتر من آخره، فإن قراءة آخِر الليل محضورة، وذلك أفضل» . وعن أبي قتادة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: متى توتر؟ قال: أوتر من أول الليل، وقال لعمر: متى توتر؟ قال: آخِرَ الليل، فقال لأبي بكر: أخذ هذا بالحزم، وقال لعمر: أخذ هذا بالقوة» رواه أبو داود والبيهقي والحاكم. وفي رواية وجدها عبد الله بن أحمد بن حنبل بخط أبيه من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر متى توتر؟ قال: أول الليل بعد العَتَمة، قال: فأنت يا عمر؟ قال: آخِر الليل، قال: أما أنت يا أبا بكر فأخذت بالثِّقة، وأما أنت يا عمر فأخذت بالقوة» . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الوتر ركعة من آخر الليل» رواه مسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 - عن الوتر فقال: أوتروا قبل الصبح» رواه أحمد ومسلم والترمذي والنَّسائي وابن ماجة. أما عدد ركعات الوتر فأقلها ركعة واحدة، وأكثرها - مما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - تسعُ ركعات. فالوتر ركعة واحدة، أو ثلاث ركعات، أو خمس ركعات، أو سبع ركعات، أو تسع ركعات. فقد مرَّ قبل قليل حديث مسلم من طريق عبد الله بن عمر رضي الله عنه وفيه «الوتر ركعة من آخر الليل» . وعن أبي مِجْلز قال «سألت ابن عباس رضي الله عنه عن الوتر فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ركعة من آخِر الليل، وسألت ابن عمر رضي الله عنه فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ركعة من آخر الليل» رواه أحمد ومسلم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسلِّم من كل ثِنتين ويوتر بواحدة» رواه ابن ماجة. قوله يسلم من كل ثِنتين: أي أن صلاة الليل ركعتان ركعتان. وعنها رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بواحدة» رواه ابن حِبَّان وابن أبي شيبة. وروى ابن عمر رضي الله عنه «أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاةُ الليل مَثْنى مَثْنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتِر له ما قد صلى» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي. فهذه أدلة على أن الوتر ركعة واحدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثماني ركعات، ويوتِر بثلاث ويصلي ركعتين - وفي رواية: ويصلي ركعتي الفجر - فلما كبر صار إلى تسع، ستٍّ وثلاثٍ» رواه أحمد والنَّسائي وأبو داود. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً ... » رواه مسلم. وعن علي رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث» رواه أحمد. ورواه الترمذي ولفظه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتِر بثلاث، يقرأ فيهن بتسع سور من المُفَصَّل، يقرأ في كل ركعة بثلاث سور، آخرُهن قل هو الله أحد» . وعن ابن عباس رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوتر بثلاث، بـ سبِّح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد» رواه أحمد والنَّسائي وابن ماجة والترمذي. فهذه أدلة على أن الوتر يكون ثلاث ركعات. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شئ منهن إلا في آخرهن، فإذا أذن المؤذن قام فصلى ركعتين خفيفتين» رواه الترمذي وأحمد وأبو داود والنَّسائي. ورواه مسلم ولفظه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شئ إلا في آخرها» . وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بسبعٍ وبخمسٍ، لا يفصل بينهن بسلام ولا بكلام» رواه أحمد والنَّسائي وابن ماجة. فهذه أدلة على أن الوتر يكون خمس ركعات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 وعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بتسع، حتى إذا بدَّن وكثر لحمه أوتر بسبع، وصلى ركعتين وهو جالس، فقرأ بـ إذا زلزلت وقل يا أيها الكافرون» رواه أحمد والطبراني. وعن سعد بن هشام بن عامر قال « ... قلت يا أم المؤمنين - يقصد عائشة - أنبئيني عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كنا نُعدُّ له سواكَه وطَهورَه، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسَّوك ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلِّم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يُسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسنَّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ اللحم أوتر بسبعٍ، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، فتلك تسعٌ يا بُني ... » رواه مسلم وأحمد. ورواه النَّسائي ولفظه «.. فلما كبر وضعُف أوتر بسبع ركعات لا يقعد إلا في السادسة، ثم ينهض ولا يسلم فيصلي السابعة ثم يُسلِّم تسليمة ... » فهذه أدلة على أن الوتر يكون سبع ركعات ويكون تسع ركعات. ثم إن هذه الأدلة الدالة على أن الوتر يكون ركعة، ويكون ثلاثاً، ويكون خمساً، ويكون سبعاً، ويكون تسعاً، تدلُّ أيضاً على أن الوتر مندوب وليس فرضاً، إذ لو كان فرضاً لكان ثابت العدد، فلما جاءت الأدلة بالتخيير في العدد دل ذلك على أنه ليس فرضاً. ثم إن أبا أيوب رضي الله عنه قد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الوتر حق، فمن شاء فليوتر بخمسٍ، ومن شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة» رواه ابن حِبَّان والنًّسائي والدارقطني، ورواه الحاكم وصححه. وهذا تخيير واضح في العدد دالٌّ على عدم الوجوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 أما كيفية صلاة الوتر على اختلاف ركعاته من حيث العدد فهي كما يلي: إنْ كان الوتر ركعة واحدة فالكيفية ظاهرة. وإن كان الوتر ثلاث ركعات صلاها متصلة بتكبيرة إحرام واحدة وقعودٍ واحدٍ في آخرها، يتشهد فيه ويسلِّم، ولا يقعد غيره، فلا يقعد بعد الركعتين. وإن كان الوتر خمس ركعات فكذلك، أي صلاها متصلة بتكبيرة إحرامٍ واحدةٍ وقعودٍ واحدٍ في آخرها يتشهد فيه ويسلم، ولا يقعد غيره، فلا يقعد بعد الركعتين ولا بعد الأربع، أي لا يقعد إلا في آخر الركعة الخامسة فحسب. وإن كان الوتر سبع ركعات صلاَّها متصلة بتكبيرة إحرامٍ واحدة وتشهُّدٍ أول يقعد له في آخر الركعة السادسة، ثم ينهض ليأتي بالسابعة، ثم يقعد في آخرها فيتشهد التشهد الثاني ويسلِّم. وإن كان الوتر تسع ركعات صلاَّها متصلة بتكبيرة إحرامٍ واحدة وتشهُّدٍ أول يقعد له في آخر الثامنة، ثم ينهض ليأتي بالتاسعة، ثم يقعد في آخرها فيتشهد التشهد الثاني ويسلم. فعن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى العشاء دخل المنزل ثم صلى ركعتين، ثم صلى بعدهما ركعتين أطول منهما، ثم أوتر بثلاث لا يفصل فيهن ... » رواه أحمد ومسلم. قوله لا يفصل فيهن: يعني أن تُصلى الركعات الثلاث متصلة دون تشهد وتسليم من الركعتين الأوليين. يشهد لهذا ما روته عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يسلِّم في ركعتي الوتر» رواه النَّسائي والبيهقي والحاكم. وما رواه أبيُّ بنُ كعب رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الوتر بـ سبح اسم ربك الأعلى، وفي الركعة الثانية بـ قل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بـ قل هو الله أحد، ولا يسلِّم إلا في آخرهن، ويقول يعني بعد التسليم: سبحان الملك القدوس ثلاثاً» رواه النَّسائي وابن حِبَّان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 أما إن سلَّم من الركعتين الأوليين ثم صلى ركعة واحدة، فإن الركعتين الأوليين لا تُحتسبان من الوتر، وإنما تُحتسبان من صلاة الليل التي تسبق الوتر، ويكون قد صلى ركعة واحدة من الوتر فحسب، إذ ما دام أن الوتر صلاة، فإن هذه الصلاة لا تُقطع بتسليم، ولا تُؤدَّى إلا بتكبيرة إحرامٍ واحدة وتسليمةٍ واحدة، وإلا لما كانت صلاة واحدة، فعن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدها سبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون، ويقرأ في الوتر بـ قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ بربِّ الناس» رواه ابن حِبَّان والحاكم. لاحظ قول عائشة «الركعتين اللتين يوتر بعدها» فهو يدل صراحة على أن الركعتين ليستا من الوتر، وعلى هذا جاء قولها «ويقرأ في الوتر بـ قل هو الله أحد» . فالركعتان إنْ فُصلتا عن الثالثة لم تعودا تُحتسبان من صلاة الوتر، وعلى هذا الفهم تُحمل الأحاديث المروية التي تذكر «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفصل بين الشفع والوتر» رواه ابن حِبَّان وأحمد والطبراني من طريق ابن عمر رضي الله عنه. فالشفع هو من صلاة الليل، والوتر يأتي بعدها مفصولاً عنها. وأيضاً فإن المُصلِّي لا يقعد بعد الركعتين ولا يتشهد التشهد الأول، أي لا يفعل في صلاة الوتر الثلاثية ما يفعل في صلاة المغرب المفروضة، وإنما يجعل صلاة الوتر مختلفة عن صلاة المغرب، وهو ما أمر به الشرع الحنيف، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لا توتروا بثلاث، أوتروا بخمس أو بسبع، ولا تَشَبَّهوا بصلاة المغرب» رواه ابن حِبَّان والدارقطني. ورواه البيهقي والحاكم وفيه تقديم وتأخير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 وقد جمع ابن حجر بين الأحاديث المُصَرِّحة بثلاث وهذا الحديث الناهي عن الثلاث بأَنْ حَمَل أحاديث النهي على الإيتار بثلاث بتشهُّدين، لمشابهة ذلك لصلاة المغرب، وأحاديث الجواز على الإيتار بثلاث متَّصلةٍ بتشهُّدٍ واحدٍ في آخرها، وقد أحسن بهذا الجمع، فحتى لا يتشابه الوتر والمغرب فإنه لا يجلس في الوتر عقب الركعتين، وإنما يجلس فقط ويتشهد في آخر الثلاث. هذا بخصوص كيفية صلاة الوتر ثلاث ركعات. وأما بخصوص كيفية صلاة الوتر خمس ركعات، فقد رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شئ إلا في آخرها» رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنَّسائي وأحمد. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر منها بخمسٍ لا يجلس في شئ من الخمس إلا في آخرهن، يجلس ثم يُسلِّم» . وقد مرَّ حديث مسلم قبل قليل. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلامٍ ولا بكلامٍ» رواه أحمد والنسائي وابن ماجة. وقد مرَّ قبل قليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وأما بخصوص كيفية صلاة الوتر سبع ركعات، فقد رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «لما أسنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ اللحم، صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن ... » رواه النَّسائي. ورواه ابن حِبَّان بلفظ «كنا نُعِدُّ له سواكه وطَهوره، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ ثم يصلي سبع ركعات، ولا يجلس فيهن إلا عند السادسة، فيجلس ويذكر الله ويدعو» . ووقع عند النَّسائي لفظ «فلما كبِر وضعُف أوتر بسبع ركعات لا يقعد إلا في السادسة، ثم ينهض ولا يُسلِّم، فيصلي السابعة ثم يسلِّم تسليمة ... » . وقد مرَّ قبل قليل، وقد مرَّ أعلاه قبل بضعة أسطر حديث أم سلمة رضي الله عنها عند أحمد والنَّسائي وابن ماجة وفيه «يوتر بسبعٍ وبخمسٍ لا يفصل بينهن بسلام ولا بكلام» . وأما بخصوص كيفية صلاة الوتر تسع ركعات، فقد روت عائشة رضي الله عنها « ... ويُصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلِّم تسليماً يُسْمعُنا ... » من حديث مرَّ قبل قليل رواه مسلم وأحمد والنَّسائي. وعنها رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوتر بتسع ركعات لم يقعد إلا في الثامنة، فيحمد الله ويذكره ويدعو، ثم ينهض ولا يسلِّم، ثم يصلي التاسعة ويذكر الله ويدعو، ثم يسلم تسليمة يُسمعناه ... » رواه ابن حِبَّان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 وأما القراءة في ركعات الوتر، ففي الركعة الأولى سبِّح اسمَ ربك الأعلى، وفي الركعة الثانية قل يا أيها الكافرون، وفي الركعة الثالثة قل هو الله أحد، وما زاد على ذلك فلْيقرأ ما يشاء من السور، هذا لمن أراد أن يتقيد بقراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد مرَّ قبل قليل حديث أبيِّ بن كعب رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الوتر بـ سبح اسم ربك الأعلى، وفي الركعة الثانية بـ قل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بـ قل هو الله أحد، ولا يسلِّم إلا في آخرهن، ويقول، يعني بعد التسليم: سبحان المَلِك القُدُّوس، ثلاثاً» رواه النَّسائي وابن حِبَّان. وعن عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بـ سبِّح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد، وإذا أراد أن ينصرف من الوتر قال: سُبْحان الملِكِ القُدُّوس، ثلاث مرات، ثم يرفع صوته في الثالثة» رواه أحمد والنَّسائي. ولهما عنه من طريق ثانية «..وكان إذا سلَّم قال: سبحان المَلِك القُدُّوس، يطوِّلها، ثلاثاً» . فهذه الأحاديث تبين أن القراءة في ركعة الوتر الأولى تكون بـ سبح اسم ربك الأعلى، وفي الركعة الثانية بـ قل يا أيها الكافرون، وفي الركعة الثالثة بـ قل هو الله أحد، وإن زاد فيها المعوذتين فلا بأس، لما رُوي عن عبد العزيز بن جُرَيْج أنه قال «سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: بأي شئ كان يوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: كان يقرأ في الركعة الأولى بـ سبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بـ قل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بـ قل هو الله أحد والمعوذتين» رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارقطني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 كما تُبين هذه الأحاديث أن من الهَدْي النبوي أن يقول من يفرغ من صلاة الوتر (سبحان المَلِكِ القُدُّوس، سبحان المَلِكِ القُدُّوس، سبحان المَلِكِ القُدُّوس) يرفع صوته في الثالثة ويمدها مدَّاً. مرٌَّ معنا في هذا البحث أن وقت الوتر موسَّع، فهو يمتد من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وأن الأفضل للوتر أن يكون آخر صلاة الليل عند السَّحَر، ونضيف هنا أن الوتر يُصلَّى مرَّة واحدة في الليلة الواحدة، ولا يُشرع أن يُصلَّى وتران أو أكثر في ليلة واحدة. وللمسلم أن يصلي في الليل شفعاً شفعاً، أي مَثْنى مَثْنى، حتى إذا فرغ من صلاة الليل ختمها بالوتر، وله أن يوتر مبكراً، ثم إن هو أراد التنفُّل بعد ذلك فإن له أن يصلي من النوافل- أعني صلاة الليل - ما يشاء شفعاً شفعاً، أي مَثْنى مَثْنى، ولا يصلي الوتر مرة ثانية عقب ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 أما ما يقوله بعضهم من الإتيان في الحالة الثانية بركعة يشفع بها وتره، ثم يتنفل شفعاً شفعاً، ثم يختم صلاته بالوتر فرأي مرجوح، لأنه في هذه الحالة يكون قد صلى وترين في ليلة واحدة، إضافةً إلى أن إضافةَ ركعةٍ جديدةٍ إلى ركعة سابقة بينهما تسليم وفاصل زمني كبير ليس له دليل من شرع الله يُعتد به، فلا ينبغي القول به. فعن طلق بن علي رضي الله عنه قال: سمعت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «لا وتران في ليلة» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن حِبَّان. وأما ما رواه نافع عن ابن عمر رضي الله عنه «أنه كان إذا سُئِل عن الوتر قال: أما أنا فلو أوترت قبل أن أنام، ثم أردت أن أصلي بالليل شفعتُ بواحدة ما مضى من وتري، ثم صليت مثنى مثنى، فإذا قضيت صلاتي أوترت بواحدة، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يجعل آخر صلاة الليل الوتر» رواه أحمد. فهو اجتهاد من ابن عمر في أمره عليه الصلاة والسلام أن يجعل آخر صلاة الليل الوتر، وفعل الصحابي أو اجتهاده ليس دليلاً شرعياً وإن كان حكماً شرعياً يجوز تقليده واتِّباعه. وقد خطَّأ ابن عباس ابن عمر رضي الله عنهما في اجتهاده هذا، فقد روى عبد الرزاق عن سالم «عن ابن عمر أنه كان إذا نام على وتر، ثم قام يصلي من الليل صلى ركعة إلى وتره فيشفع له، ثم أوتر بعدُ في آخر صلاته، قال الزهري: فبلغ ذلك ابن عباس فلم يعجبه فقال: إنَّ ابن عمر ليوتر في الليلة ثلاث مرات» . يقصد وتره قبل أن ينام، ثم وتره الثاني الذي يشفع به وتره الأول، ثم وتره الثالث الأخير عقب الفراغ من صلاة الليل، ولا شك في أنه رضي الله عنه قد أخطأ في اجتهاده هذا. وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قد خطَّأت هي الأخرى هذا الرأي، فقد روى عبد الرزاق «عن أبي عطية عن عائشة قال: ذُكر لها الرجل يوتر ثم يستيقظ فيشفع بركعة، قالت: ذلك يلعب بوتره» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 أما أمره عليه الصلاة والسلام أن يجعل آخر صلاة الليل الوتر، فإنه يعني أن من يصلي صلاة الليل لا يقدِّم الوتر على صلاته ولا يجعله بين صلاته، وإنما يجعله في آخرها، فمن فعل ذلك ونام فقد امتثل للأمر النبوي الكريم، ثم إن هو استيقظ من ليلته تلك وبدا له أن يصلي تطوُّعاً فلْيُصلِّ ما شاء دون محظور ولا ينقض ما صلاه من قبل، ولا يكون بفعله هذا قد خالف الأمر النبوي، لأنه سبق له أن امتثل للأمر، وامتثاله للأمر لا يعني حرمانه من التنفل فيما لو استيقظ من ليلته وأراد الصلاة. وكما أضفنا قبل قليل من أن الوتر يُصلَّى مرة واحدة في الليلة الواحدة، فإننا نضيف هنا أن الوتر هو من النوافل التي داوم على فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحث المسلمين على القيام بها، فيأخذ الوتر حكم السنن التي داوم عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث مشروعية قضائها إنْ هي فاتت وخرج وقتها، فمن نام دون أن يصلي الوتر ثم استيقظ وقد طلع الفجر فإن له أن يصلي الوتر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر» رواه الحاكم والبيهقي. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من نام عن وتره أو نسيه فلْيصلِّه إذا أصبح أو ذكره» رواه البيهقي والدارقطني والحاكم. ورواه أبو داود إلا أنه لم يذكر - إذا أصبح -. ورواه الترمذي بلفظ «من نام عن وِتره فلْيُصلِّ إذا أصبح» . وعن الأغرِّ المُزَني «أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله إني أصبحت ولم أُوتر، قال: فأوتر» رواه الطبراني. القنوت في الوتر وفي الصلاة المكتوبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 ونبدأ بالقنوت في الوتر فنقول: يُسنُّ القنوت في صلاة الوتر في الركعة الأخيرة منه، ويُفعل طيلة العام، ويتأكد في النصف الأخير من رمضان، ويُؤتى به عقب الركوع، ولكن إن قنت قبل الركوع جاز له ذلك، فالأمر موسَّع، ولكن القنوت عقب الركوع أحبُّ إليَّ، قال البيهقي (رُواةُ القنوت بعد الركوع أكثر وأحفظ وعليه درج الخلفاء الراشدون) . وقال أحمد: لم يَروِ عن أنسٍ القنوتَ قبل الركوع سوى عاصم الأحول فحسب. ويُندب أن يُدعى بالدعاء التالي في الوتر [اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتَولَّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقِني شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يَذِلُّ من واليت، ولا يَعِزُّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت] . أو بالدعاء التالي [اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطِك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك] . ولا يعني هذا وذاك أنه لا يصح الدعاء إلا بهما، فَلْيدعُ المسلمُ ربه في حاجته بهذا الدعاء أو بذاك أو بسواهما، أو يجمع بين الدعاء المأثور والدعاء في حاجته. فعن علي رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثَناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك» رواه أحمد والحاكم وأبو داود والترمذي والنَّسائي. فالحديث يقول «كان يقول في آخر وتره» أي في الركعة الأخيرة منه. وما جاء في هذا الحديث من دعاء هو الدعاء الثاني الذي ذكرته قبل قليل. وعن الحسن بن علي رضي الله عنه قال «علَّمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلماتٍ أقولهن في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولَّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقِني شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت» رواه أحمد والترمذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 والنَّسائي وابن خُزَيمة وأبو داود. ورواه البيهقي والطبراني بزيادة «ولا يعزُّ من عاديت» عقب «إنه لا يَذِلُّ من واليت» . وهي زيادة صحيحة فتُقبل وتضاف إلى الدعاء. وروى أبو داود «أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أُبيِّ بن كعب، فكان يصلي لهم عشرين ليلة، ولا يقنت بهم إلا في النصف الباقي» . يعني النصف الأخير من رمضان، لأن الحديث يتحدث عن صلاة التراويح، وهي لا تكون إلا في رمضان، بدلالة حديث ثان رواه أبو داود بلفظ «أنَّ أُبيَّ بن كعب أمَّهم - يعني في رمضان - وكان يقنت في النصف الآخر من رمضان» . وستأتي الأدلة على جواز القنوت قبل الركوع وبعده تالياً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 أما القنوت في الصلوات الخمس المكتوبة فإنه مشروع في النوازل والكوارث فحسب، فإن وقعت النوازل والكوارث فالقنوت مشروع في جميع الصلوات الخمس، ولا يُشرَع اتخاذُ صلاةٍ بعينها للقنوت، بمعنى ألا تختص بالقنوت صلاةٌ دون صلاة. أما إن عدمت النوازل والكوارث فلا قنوت في الصلوات الخمس، ولا قنوت آنئذٍ إلا في الوتر فحسب، فعن أبي مالك الأشجعي قال «قلت لأبي: يا أبتِ إنك قد صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ههنا بالكوفة قريباً من خمس سنين أكانوا يقنتون؟ قال: أَيْ بُنيَّ مُحْدَث» رواه أحمد والنَّسائي وابن ماجة والترمذي وابن أبي شيبة. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت، وصليت خلف علي فلم يقنت، ثم قال: يا بُني إنها بدعة» . ولا أعني بالنوازل والكوارث ما كان منها عاماً فقط كالحروب والزلازل والبراكين والطوفان، وإنما أعني أيضاً ما يصيب المرء من نكباتٍ ومصائب، فقد يُسجَن الشخص، أو يطلبه سلطان متسلِّط، أو يضل السبيل في سفره، أو يمرض مرضاً شديداً، ففي هذه النوازل الفردية أيضاً يقنت المصلِّي في أية صلاة مكتوبة، والدليل على القنوت في النوازل ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال «قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دُبُر كل صلاة، إذا قال سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة، يدعو على حيٍّ من بني سُلَيم على رِعْلٍ وذَكْوانَ وعُصَيَّة، ويُؤَمِّن مَنْ خلفَه، قال: أرسل إليهم يدعوهم إلى الإسلام فقتلوهم» . قال عكرمة: هذا مفتاح القنوت. رواه ابن خُزَيمة وأحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 ويستمر المسلم يقنت ما دامت النازلة واقعة، فإذا انتهت النازلة توقف عن القنوت، أو قنت فيها ما شاء ثم توقف، ولا يُديم القنوت بعد انقضائها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً بعد الركوع، يدعو على رِعْلٍ وذَكْوَانَ وقال: عُصَيَّةُ عصت الله ورسوله» رواه أحمد والنَّسائي والبخاري. ورواه مسلم مقيَّداً بصلاة الصبح. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً يدعو بعد الركوع على حيٍّ من أحياء العرب ثم تركه» رواه أحمد ومسلم وابن حِبَّان والنَّسائي وأبو داود. وعن عاصم الأحول عن أنس قال «سألته عن القنوت أَقَبْلَ الركوع أو بعد الركوع؟ فقال: قبل الركوع، قال قلت: فإنهم يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قنت بعد الركوع؟ فقال: كذبوا، إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً يدعو على ناس قَتَلوا أناساً من أصحابه يقال لهم القُرَّاء» رواه أحمد ومسلم. ورواه البخاري ولفظه «عن عاصم قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت فقال: قد كان القنوت، قلت: قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله، قلت: فإن فلاناً أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع، فقال: كذب، إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع شهراً، أراه كان بعث قوماً يقال لهم القُرَّاء زُهاء سبعين رجلاً إلى قوم من المشركين دون أولئك، وكان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد، فقنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً يدعو عليهم» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة العَتَمَة شهراً يقول في قنوته: اللهم أَنْجِ الوليد بن الوليد، اللهم نَجِّ سَلَمة بن هشام، اللهم نجِّ عيَّاش بن أبي ربيعة، اللهم نجِّ المستضعفين من المؤمنين، اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسِنِي يوسف، قال أبو هريرة: وأصبح رسول الله - صلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 الله عليه وسلم - ذات يوم فلم يدع لهم، فذكرت ذلك له فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما تراهم قد قدموا؟» رواه ابن حِبَّان وأبو داود وابن خُزَيمة. ورواه مسلم بلفظ «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت بعد الركعة في صلاةٍ شهراً، إذا قال سمع الله لمن حَمِده يقول في قنوته.. - مثل رواية ابن حِبَّان.. قال أبو هريرة رضي الله عنه: ثم رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الدعاء بعد، قلت: أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ترك الدعاء لهم، قال فقيل: وما تراهم قد قدموا» . فقد دلت هذه الأحاديث على أن القنوت يُشرع في النوازل بقدرها وينتهي بانتهائها ولا يستمر، وقد قال ابن حِبَّان عقب رواية الحديث الأخير (في هذا الخبر بيان واضح أن القنوت إنما يُقنت في الصلوات عند حدوث حادثة مثل ظهور أعداء الله على المسلمين، أو ظلم ظالم ظُلم المرء به أو تعدَّى عليه، أو أقوام أحب أن يدعو لهم، أو أسرى من المسلمين في أيدي المشركين وأحب الدعاء لهم بالخلاص من أيديهم، أو ما يشبه هذه الأحوال. فإذا كان بعض ما وصفنا موجوداً قنت المرء في صلاة واحدة أو الصلوات كلها أو بعضها دون بعض، بعد رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من صلاته، يدعو على من شاء باسمه ويدعو لمن أحب باسمه، فإذا عدم مثل هذه الأحوال لم يقنت حينئذ في شئ من صلاته، إذ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يقنت على المشركين ويدعو للمسلمين بالنجاة، فلما أصبح يوماً من الأيام ترك القنوت، فذكر ذلك أبو هريرة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما تراهم قد قدموا، ففي هذا أبين البيان على صحة ما أصَّلْناه) . ولقد أصاب ابن حِبَّان فيما ذهب إليه فيما أرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 إلا أن هناك من يقولون إن القنوت إنما يكون في صلاة الفجر فحسب، وهؤلاء قسمان: قسم يقول: يُقْنَت في صلاة الفجر طيلة العام، والقسم الآخر يقول: يُقْنَت عند النوازل في صلاة الفجر فحسب، وقد استدلوا بجملة من الأحاديث أذكر منها ما يلي: أ - عن أنس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت شهراً يدعو عليهم، ثم تركه، وأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا» رواه الدارقطني والبيهقي والحاكم. وروى أحمد الشطر الثاني منه. ب - عن ابن سيرين قال «سُئل أنس بن مالك: هل قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم بعد الركوع، ثم سُئل بعد ذلك مرة أخرى: هل قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح؟ قال: بعد الركوع يسيراً» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي والطحاوي. ورواه البخاري بلفظ «عن محمد بن سيرين قال: سُئل أنس: أقنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصبح؟ قال: نعم، فقيل له: أَوَقنت قبل الركوع؟ قال: بعد الركوع يسيراً» . ج - عن أنس بن مالك قال «سُئِل عن القنوت في صلاة الصبح، فقال: كنا نقنت قبل الركوع وبعده» رواه ابن ماجة. د - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية يقال لهم القُرَّاءُ فأصيبوا، فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وَجَدَ على شئ ما وَجَدَ عليهم، فقنت شهراً في صلاة الفجر، ويقول: إن عُصَيَّةَ عَصَوا الله ورسوله» رواه البخاري ومسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 هـ - عن خُفاف بن إيماءٍ بن رَحْضَةَ الغِفاري قال «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح ونحن معه، فلما رفع رأسه من الركعة الأخيرة قال: لعن الله لِحْيان ورِعْلاً وذَكْوان، وعُصَيَّة عَصَوْا الله ورسوله، أسلم سالمها الله، وغِفار غفر الله لها، ثم وقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجداً، فلما انصرف قرأ على الناس: يا أيها الناس إني أنا لستُ قلتُه ولكن الله عزَّ وجلَّ قاله» رواه أحمد وابن حِبَّان ومسلم. فنقول لهؤلاء: أما الحديثان الخامس والرابع فيدلان على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قنت في صلاة الصبح وأن القنوت إنما كان لأجل حادثة القراء الذين قُتلوا، وهذان الحديثان لا يفيدان حصر القنوت في صلاة الفجر، وإنما يذكران واقعة عينٍ حصلت رآها الراوي فنقلها، فنقْلُ وقوع القنوتِ في صلاة الفجر لا ينفي وقوعه في غير صلاة الفجر كما هو ظاهر، بل إن عندنا أحاديث تذكر وقوع القنوت في صلاة الصبح وفي غير صلاة الصبح عند حادثة القراء هؤلاء، ما ينفي حصر وقوع القنوت في صلاة الفجر فحسب، فقد مرَّ حديث ابن عباس رضي الله عنه عند ابن خُزَيمة وأحمد وأبي داود والبيهقي والحاكم قبل قليل وفيه «قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة، يدعو على حيٍّ من بني سُلَيم على رِعْلٍ وذَكْوان وعُصَيَّة ... » . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وثبت أيضاً أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان عند النوازل يقنت في الصبح وفي غير الصبح، مما ينفي اختصاص الصبح بالقنوت، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء الآخرة قنت وقال: اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج سَلَمة بن هشام، اللهم أنج عيَّاش بن أبي ربيعة، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدُدْ وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسِنِي يوسف عليه السلام» رواه أحمد ومسلم وابن خُزَيمة وأبو داود وابن حِبَّان. وقد مرَّ الحديث قبل قليل بلفظ ابن حِبَّان. فهذا حديث في القنوت في صلاة العشاء، وأيضاً روى أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «والله لأُقَرِّبنَّ لكم صلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح، قال أبو عامر في حديثه العشاء الآخرة وصلاة الصبح بعدما يقول سمع الله لمن حمده، ويدعو للمؤمنين ويلعن الكفار، قال أبو عامر: ويلعن الكافرين» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي. فهذا حديث في القنوت في صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح. وروى البراء بن عازب رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت في الصبح والمغرب» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي. فهذا حديث في القنوت في صلاة الصبح وصلاة المغرب، ومثله ما رُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال «كان القنوت في المغرب والفجر» رواه البخاري. فهل بقيت حجة لهؤلاء لحصر القنوت بصلاة الصبح عند النوازل؟. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 أما الحديثان الثالث والثاني فيدلان على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قنت في صلاة الصبح، وأن ذلك كان جواب سؤال، فالسائل سأل عن القنوت في صلاة الصبح فأجيب بالإيجاب، ولم يسأل السائل عن القنوت في غير الصبح لنرى هل يكون إثباتٌ أو نفيٌ، فلا دلالة في هذين الحديثين على حصر القنوت في صلاة الصبح، فلم يبق لهؤلاء من دليل يصلح لحصر القنوت في صلاة الصبح سوى الحديث الأول فقط وهو قوله «وأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا» . ونرد عليهم بما يلي: أ - إن هذا الحديث يعارض الحديث السابق المار قبل قليل، وفيه «صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقنت ... » رواه ابن حِبَّان والنَّسائي وابن ماجة والترمذي وابن أبي شيبة من طريق أبي مالك الاشجعي. ورواه أحمد بلفظ «قلت لأبي: يا أبتِ إنك قد صلي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ههنا بالكوفة قريباً من خمس سنين أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني مُحْدثٌ» . فكيف نوفق بين هذين الحديثين المتعارضين؟ إنه لا بد من ردِّ أحدهما أو أن نلجأ إلى التأويل. ب - إنه قد ثبت عندنا أن القنوت إنما كان مقيداً في الصلوات المفروضة بحلول النوازل، فقد مرَّت الأحاديث الدالة على ذلك فلا نعيد، فهذه الأحاديث أيضاً تتعارض مع هذا الحديث، فإما أن نرد هذا الحديث، وإما أن نلجأ إلى التأويل، ومما يدل أيضاً على ما نقول ما رواه أنس رضي الله عنه «أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم» رواه ابن خُزَيمة. وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد، وكان إذا قال سمع الله لمن حمده قال ربنا ولك الحمد، اللهم أنج..» رواه ابن خُزَيمة. ومثله روى ابن حِبَّان، فماذا يقول هؤلاء؟. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 ج - هذا الحديث مطعون فيه، إذ رواه أبو جعفر الرازي التميمي، وهذا الراوي قال فيه أحمد: ليس بقوي في الحديث. وقال علي بن المديني: إنه يَخْلِط. وقال أبو زُرْعة: إنه شيخ يَهِمُ كثيراً. وقال ابن معين: إنه يُكتب حديثه ولكنه يخطئ. وقال ابن حِبَّان (كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير، لا يعجبني الاحتجاج بحديثه إلا فيما وافق الثقات) . فالحديث ضعيف لا يُحتج به ولا يصمد أمام الأحاديث الكثيرة الصحيحة والحسنة المعارضة له. د - عندنا أحاديث صحيحة تُلقي الضوء على أن القنوت في صلاة الصبح إنما كان مؤقتاً بمدة شهر واحد فحسب، وأنه حصل عند وقوع نازلة القراء، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه «قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً بعد الركوع في صلاة الصبح يدعو على رِعْلٍ وذَكْوانَ ويقول: عُصَيَّةُ عصت الله ورسوله» رواه مسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قنت شهراً بعد الركوع في صلاة الفجر يدعو على بني عُصَيَّة» رواه مسلم. فكيف يروي أبو جعفر الرازي عن أنس رضي الله عنه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما زال يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا؟. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 هـ - إن هذا الحديث لا شك في أنه مُعارِضٌ لأحاديث صحيحة كثيرة، ومع التعارض يُترك هذا الحديث ويُعمَل بالأحاديث الصحيحة الكثيرة، وهذا القول لا بد منه إن نحن أخذنا بظاهر الحديث دون تأويل، ولكن يمكن أن نلجأ إلى التأويل رحمةً بمن صح عندهم هذا الحديث، وحاروا في التوفيق بينه وبين الأحاديث الكثيرة الصحيحة، فنقول: إن هذا الحديث يُحْمَل على أنه يعني بالقنوت طول القيام ولا يعني الدعاء المعروف، بمعنى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقف في صلاة الفجر أطولَ من وقوفه في غير هذه الصلاة، فهذا هو المعنى المقصود لهذا الحديث، وليس أنه عليه الصلاة والسلام كان يقنت بمعنى أنه كان يدعو، وأن وقوفه الطويل كان من أجل الإطالة في ذكر الله سبحانه، فهذا التأويل يَلجأُ إليه من أعمل الدليلين ولم يطرح أحدهما، يشهد له ما رواه محمد بن سيرين قال «حدَّثني مَن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغداة، فلما رفع رأسه من الركعة الثانية قام هُنَيَّة» رواه أبو داود والدارقطني. ورواه النَّسائي بلفظ «حدثني بعض من صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح فلما قال: سمع الله لمن حمده، من الركعة الثانية قام هُنَيْهَةً» . وعلى كلا الوجهين أخذاً بظاهر الحديث أو أخذاً بالتأويل فإنه لا يُشرع القنوت الدائم في صلاة الصبح، ولا في أية صلاة مفروضة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 ونقول أخيراً إن دعاء القنوت سواء ما كان منه في صلاة الفجر أو في غيرها من الصلوات المفروضة عند نزول الكوارث، أو ما كان منه في صلاة الوتر بشكل دائم، يكون بصوت مسموع يُجهَر به حتى يسمعه المُؤتمُّون خلفه فيُؤمِّنون معه، فقد مرَّ قبل قليل حديث ابن عباس الذي رواه ابن خُزَيمة وأحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وجاء فيه «قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة، يدعو على حيٍّ من بني سُلَيمٍ على رِعْلٍ وذَكْوانَ وعُصيَّة، ويُؤَمِّنُ مَن خلفه ... » . لاحظ قوله «في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح» وقوله «ويُؤَمِّن مَن خلفه» ما يدل على مشروعية الجهر بالقنوت في الصلوات كلها الجهرية منها والسرية. وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد: أللهم أنج الوليد بن الوليد وسَلَمة بن هشام وعيَّاش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مُضَر، واجعلها سنين كسِنِي يوسف، قال يَجهَر بذلك ويقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: اللهم العن فلاناً وفلاناً، حيَّين من العرب، حتى أنزل الله عزَّ وجلَّ {لَيْسَ لَكَ مِن الأَمْرِ شَئ أَوْ يَتُوْبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يَعَذِّبَهُمْ فَإنَّهُمْ ظَالِمُوْنَ..} » رواه أحمد. فقد جاء فيه «يجهر بذلك» . هـ. صلاة التراويح سُميت صلاة التراويح بهذا الاسم لأن المصلين يستريحون فيها بعد كل أربع ركعات، فينالون ترويحةً والجمع تراويح. وهذه الصلاة هي من قيام الليل، ولكنها خاصة بشهر رمضان، فهي تعني قيام الليل في رمضان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 أما حكم هذه الصلاة فهو الندب والاستحباب، ومَن صلاَّها إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُرغِّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، فيقول: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه» رواه مسلم وأحمد ومالك وأبو داود والنَّسائي. قوله «مِن غير أن يأمرهم فيه بعزيمة» واضح الدلالة على الندب وعدم الوجوب. وأيضاً فقد روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبح قال: قد رأيتُ الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلاَّ أني خشيت أن تُفْرض عليكم، وذلك في رمضان» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود ومالك. فقوله «إلاَّ أني خشيت أن تُفْرض عليكم» يدل قطعاً على عدم الوجوب، فلم يبق إلا الندب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 وهذه الصلاة يجوز أن تُصلَّى جماعة ويجوز طبعاً أن تُصلَّى فرادى وهو الأصل في صلاة التطوع عامة، وإذا صُلِّيت جماعةً في البيوت كانت الفُضلى، تليها في الفضل الصلاة جماعة في المسجد، ثم الصلاة فُرادى في البيوت، وآخرها في الفضل الصلاة فُرادى في المسجد، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال «احتجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُجَيرةً بخَصَفَةٍ أو حصيرٍ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيها، قال: فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته، قال ثم جاءوا ليلة فحضروا، وأبطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم، قال فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحَصَبُوا الباب، فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُغْضَباً، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما زال بكم صنيعكم حتى ظننتُ أنه سيُكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة» رواه مسلم والبخاري. ورواه النسائي ولفظه «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرة في المسجد من حصير، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ليالي حتى اجتمع إليه الناس، ثم فقدوا صوته ليلةً فظنوا أنه نائم، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال: ما زال بكم الذي رأيت من صُنعِكم حتى خشيت أن يُكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة» . قوله: احتجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُجَيرة بخَصَفَةٍ أو حصيرٍ: أي اتخذ له حجرة صغيرة من حصير، فالخَصَفة والحصير بمعنى واحد. يدل هذا الحديث على أن صلاة التراويح إن هي أُدِّيت في البيوت كانت أفضل من أدائها في المسجد. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال «صُمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمضان، فلم يَقُم بنا شيئاً من الشهر حتى بقي سبعٌ، فقام بنا حتى ذهب ثُلث الليل، فلما كانت السادسة لم يَقُم بنا، فلما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلت: يا رسول الله لو نفلتَنا قيامَ هذه الليلة، قال فقال: إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسِب له قيامُ ليلة، قال فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قال قلت: ما الفلاح؟ قال السحور، ثم لم يقم بنا بقية الشهر» رواه أبو داود وأحمد والنَّسائي والترمذي وابن خُزَيمة. قوله حتى بقي سبع: يعني ليلة الثالث والعشرين. وقوله فلما كانت السادسة لم يقم بنا: يعني ليلة الرابع والعشرين لم يقم فيها. وقوله فلما كانت الخامسة قام بنا: معناه ليلة الخامس والعشرين قام بها. وقوله فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا: معناه أنه قام بكل هؤلاء ليلة السابع والعشرين من رمضان. ويبدو أنها أفضل لياليه. يفسر هذا الحديثَ ما رواه نعيم بن زياد أنه سمع النعمان بن بشير رضي الله عنه يقول على منبر حمص «قمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة ثلاث وعشرين في شهر رمضان إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قام بنا ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح، قال: وكنا ندعو السَّحور الفلاح ... » رواه أحمد والنَّسائي وابن خُزَيمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 يدل هذا الحديث على أفضلية صلاة التراويح جماعة في المسجد، إذ في ليالي رمضان الفردية من الشطر الأخير منه، أي في الليالي التي تُلتَمَس فيها ليلة القدر، صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين جماعة، وصلاها في المسجد. فهنا نصان يُظن أنهما متعارضان: الأول يدلُّ على أفضلية صلاة التراويح في البيوت، والثاني يدلُّ على أفضليةِ أدائها جماعةً في المسجد، فنقول مستعينين بالله المُعين: إن قوله - صلى الله عليه وسلم - في النص الأول «فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة» يُؤخذ منه أن من أراد التطوع - والأصلُ في التطوع أداؤُه فردياً - فإن عليه أن يصلي في البيت، لأن الصلاة في البيت أفضل من الصلاة في المسجد، هذه هي القاعدة وهي الأصل في هذا الأمر. فمن أراد أن يصلي صلاة التراويح فإنَّ أداءه لها في البيت أفضل له من أدائه لها في المسجد، وهذا أمر غير مختلف عليه بين الفقهاء، وما دام هذا هو الأصل، فإننا نبني عليه القول إن الصلاة جماعةً في البيت هي الأفضل بلا شك، لأن الصلاة جماعةً الأصل فيها أنها أفضل من الصلاة الفردية، وهذا أمر غير مختَلَف عليه، فيكون من صلى التراويح جماعة في البيت قد جمع بين الأصلين وبين الأفضَلَين، أما من صلى فردياً في البيت فإنه يَعمل بأصل واحد فحسب، ومن صلى جماعةً في المسجد فإنه يعمل بأصل واحد فحسب أيضاً، وهنا لا بد من ترجيح أحد الأصلين على الآخر، وقد وجدنا حديث أبي ذر القائل «فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا» . فجَمْعُهُ أهلَه ونساءَه في صلاة التراويح جماعةً في المسجد ليلة السابع والعشرين - وهي على الأغلب ليلة القدر - وعدم تركه إياهم يصلون التراويح في البيت النبوي الكريم فردياً، يدل على أفضلية الصلاة جماعة في المسجد على الصلاة الفردية في البيوت، إذ لو كان العكس لما جمع أهله ونساءه في تلك الصلاة، فدل ذلك على أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 الأخذ بالأصل الثاني - وأعني به الصلاة جماعةً في المسجد - أفضل من الأخذ بالأصل الأول وهو الصلاة الفردية في البيوت، فصارت الصلاة جماعةً في المسجد تأتي في المرتبة الثانية بعد الصلاة جماعة في البيوت. فتبقى الصلاة الفردية في البيوت والصلاة الفردية في المسجد، وهنا لا تردد في تفضيل الأولى على الثانية، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حسم هذه المسألة، حين لم يُصلِّ بالمسلمين في المسجد، وصار لا مفر لهم من الصلاة فردياً، قائلاً لهم «إن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» أي أشار عليهم بالعودة إلى بيوتهم وأداء صلاة التراويح فيها، لا أن يصلوها فردياً في المسجد. وهنا قد يقال: ولماذا نفترض أنهم كانوا سيصلونها فردياً في المسجد ولن يصلوها جماعة فيه؟ فنقول: إنهم ما كان لهم أن يصلوا جماعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاضر لا يصلي معهم، ولا يأمرهم بصلاتها جماعةً بإمامةِ إمامٍ يعيِّنه من بينهم، وهذا ما حصل فعلاً، فقد عادوا إلى بيوتهم، وصلوها في بيوتهم في الليالي التي لم يخرج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة بهم، ولم يُنْقَل أي نص بأنهم عقدوها جماعة في المسجد حينذاك. وقد يقال ما دامت الصلاة جماعة في المسجد أفضل من الصلاة في البيوت فردياً فلماذا أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذهاب لأدائها في بيوتهم فردياً؟ أي لماذا فضَّل المفضول على الأفضل؟ فالجواب على ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام «خشيت أن يُكتب عليكم ولو كُتب عليكم ما قمتم به» فخشيته - صلى الله عليه وسلم - من فرض صلاة التراويح على المسلمين إن هو داوم عليها جماعة في المسجد هو الذي منعه من أدائها جماعة في المسجد بشكل دائم، ولولا ذلك لربما كان منه الأمر مختلفاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 أما عدد ركعات صلاة التراويح، فإن الشرع لم يحدِّد عدداً معيناً يُلتَزَم به، ولكنَّ أفضل ما تُصلى به من الركعات ثمانٍ تعقبها ثلاث ركعات من الوتر، لأن هذا العدد هو ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من فعله، فعن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها «كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان؟ فقالت: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تَسَلْ عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تَسَلْ عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً ... » رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود. قول عائشة ثم يصلي ثلاثاً: يعني صلاة الوتر. وعنها رضي الله عنها قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة منها الوتر وركعتا الفجر» رواه البخاري. وعنها رضي الله عنها قالت «كان - أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمانَ رَكَعات ثم يوتر ... » رواه مسلم. فصلاته عليه الصلاة والسلام بالليل كانت ثماني ركعات عدا الوتر، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء أُبيُّ بن كعب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال «يا رسول الله إنه كان مني الليلةَ شئ - يعني في رمضان - قال: وما ذاك يا أُبيُّ، قال: نسوةٌ في داري قُلن: إنَّا لا نقرأ القرآن فنصلي بصلاتك قال: فصليت بهن ثماني ركعات ثم أوترت، قال فكان شبه الرضا، ولم يقل شيئاً» رواه ابن حِبَّان. ورواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط، وحسَّن الهيثمي إسناده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 ولكن تجوز زيادة صلاة التراويح إلى أن تبلغ عشرين ركعة يعقبها الوتر ركعة واحدة، أو ثلاث ركعات، رُوي ذلك عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلو كانت الركعات الثماني مُلْزِمةً لما تجاوزها صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما حصل منهم تجاوزُها دل ذلك على عدم وجوب الالتزام بالركعات الثماني، لا سيما وأنهم لم يتجاوزوها فردياً أو في بيوتهم، وإنما حصل ذلك منهم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكر ذلك أحدٌ منهم فكان إجماعَ صحابة، وإجماعُ الصحابة دليل شرعي، فعن السائب بن يزيد قال «كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة، قال وكانوا يقرأون بالمئين، وكانوا يتوكأون على عِصِيِّهم في عهد عثمان رضي الله عنه من شدة القيام» رواه البيهقي. قوله يقرأون بالمئين: أي يقرأون السور الطويلة التي آياتها بالمئات. الحديث ذكر صلاة التراويح فحسب وأنها عشرون ركعة، وعن عبد الرحمن بن عبدٍ القارِّيُّ قال «خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاعٌ متفرِّقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبيِّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نِعْمت البدعةُ هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يعني آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله» رواه البخاري ومالك. قول عمر نِعْمَت البدعةُ هذه: تفسَّر بمقتضى اللغة، ومعناها العمل البديع الجيد، ولا تفسَّر بالمعنى المستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام «كل مُحْدَثَةٍ بدعة وكلُّ بدعة ضلالة» رواه أبو داود من طريق العرباض. وذلك لأن فعل عمر هذا لم يكن أمراً مُحْدَثاً، ولم يكن من ثمَّ بدعةً محرَّمة، لأنَّا روينا قبل قليل أنه عليه الصلاة والسلام قد صلى عدداً من ليالي رمضان في المسجد صلاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 التراويح جماعةً «فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا» رواه أبو داود وغيره من طريق أبي ذرٍّ رضي الله عنه. فعمر رضي الله عنه لم يُحْدِث أمراً جديداً بجمع الناس على أُبيِّ بن كعب، وبالتالي فليس فعله بدعةً تندرج تحت قوله عليه الصلاة والسلام «كل مُحْدَثةٍ بدعة وكل بدعة ضلالة» . فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يكتفي بثماني ركعات، وصحابته رضوان الله عليهم زادوها في عهد عمر رضي الله عنه إلى عشرين ركعة، وكان يؤُمُّهم أبيُّ بن كعب الذي روينا عنه آنفاً أنه صلاَّها في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثماني ركعات إماماً للنسوة اللاتي كن في بيته، فدل كل ذلك على الجواز. ولا يعجبني قول من يقول بزيادتها إلى أن يبلغ بها الأربعين ركعة، فنحن أمامَنا فعلُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعل صحابته، وليس بعد هذين الفعلين من فضلٍ يُلتَمَس أو خيرٍ يُطلَب. أما القراءة في صلاة التراويح فلم يرد فيها اختصاصٌ بسورٍ معينة، فلْيقرأ المسلم ما شاء من كتاب الله سبحانه، ولْيطوِّل ما وسعه التطويل، خاصةً إن هو صلاَّها منفرداً. أما ما يفعله ناسٌ في زماننا هذا من قراءة آية قصيرة واحدة في الركعة الواحدة، وربما كانت لا تفيد معنى قائماً بنفسها مِن مثل {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} أو {وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِيْنَ} أو {مُدْهَامَّتَان} فهو دالٌّ على جهلٍ وعزوف منهم عن ثواب الله سبحانه، وعلى إساءة في أداء هذه الصلاة التي يقال فيها إنها قيام الليل في رمضان، وما يعنيه قيام الليل هذا من الإطالة والاستغراق. و. قيام الليل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 ويقال أيضاً صلاة الليل، كما يقال التهجد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ. قُم الليْلَ إلا قَلِيْلاً} الآيتان 1، 2 من سورة المزمل، وقال سبحانه {ومِن الليْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىْ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامَاً مَحْمُوْدَاً} الآية 79 من سورة الإسراء. وقد مرَّ في بحث [الوتر] حديث ابن عمر رضي الله عنه «أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاةُ الليل مَثْنى مَثْنى..» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي. ونحن لسنا في حاجة لإطلاق التهجُّدِ على صلاة الليل إن كانت بعد نومٍ كما يرى ذلك عدد من الفقهاء، مستدلين على ذلك بأن التهجد والهُجود لغةً يعني النوم، من هجد يهجد إذا نام، ولهذا قالوا: التهجد لا يكون إلا بعد نومٍ من الليل، فإذا صلى بعد العشاء قبل أن ينام فإن صلاته لا تكون تهجداً. نعم نحن لسنا في حاجة لهذا التقييد، أولاً لأن حُكم التهجد هو حُكم صلاة الليل نفسه دون فارق بينهما، وثانياً لأن كلمة هجد يهجد كما أنها تعني نام ينام، فإنها تعني أيضاً سهر يسهر، فهي من الأضداد، وبذلك يصح إطلاق التهجد على الصلاة قبل النوم كما يصح إطلاقه عليها بعد النوم. أما فضل قيام الليل فهو عظيم لا يفوقه سوى فضل الصلوات المكتوبة فحسب، فقيام الليل أفضل صلوات التطوع بما فيها السنن الرواتب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرَّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» رواه الترمذي. وفي رواية من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال «سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: الصلاة في جوف الليل، قيل: أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: شهر الله الذي تدعونه المحرَّم» رواه أحمد ومسلم والنَّسائي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 وقد وردت عدة نصوص تحث على قيام الليل أذكر منها ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «رحم الله رجلاً قام من الليل فصلَّى وأيقظ امرأته فصلَّت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلَّت وأيقظت زوجها فصلَّى، فإن أبى نضحت في وجهه بالماء» رواه أحمد وابن حِبَّان وأبو داود والترمذي والنَّسائي. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ثلاثة يضحك الله إليهم: الرجل إذا قام من الليل يصلي، والقوم إذا صَفُّوا للصلاة، والقوم إذا صفُّوا للقتال» رواه أحمد وأبو يعلى. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل» رواه البخاري ومسلم. وروى أبو أُمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قُربة لكم إلى ربكم، ومُكَفِّرةٌ للسيئات، ومَنْهاةٌ عن الإثم» رواه الترمذي وابن خُزَيمة والطبراني والحاكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وقد كان قيام الليل مفروضاً وواجباً طيلة عام كامل منذ أن نزل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلْ. قُم الليْلَ إلا قَلِيْلاً} الآيتان 1، 2 من سورة المزَّمِّل. ثم إنَّ حُكم الوجوب قد نُسخ ليصبح قيام الليل مندوباً مستحباً فحسب بقوله سبحانه {إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُوْمُ أَدْنَىْ مِنْ ثُلُثَي الليْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِن الذِيْنَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ الليْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ ألَّنْ تُحْصُوْهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوْا مَا تَيَسَّرَ مِن القُرْآنِ ... } الآية 20 من سورة المزمل. قوله علم ألَّنْ تُحْصُوه: أي علم أن لن تطيقوه ولن تستطيعوه. فعن سعد بن هشام بن عامر «أنه جاء إلى عائشة رضي الله عنها يسألها ... أنبئيني عن قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: ألستَ تقرأ يا أيها المزمل؟ قلت: بلى قالت: فإن الله عزَّ وجلَّ افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة ... » من حديث طويل رواه مسلم والنَّسائي. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال في المزَّمِّل « {قُم الليْلَ إلا قَلِيْلاً نِصْفَهُ} نسختها الآية التي فيها {عَلِمَ ألَّنْ تُحْصُوْهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوْا مَا تَيَسَّرَ مِن القُرْآنِ} ... » رواه أبو داود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 أما وقت قيام الليل فهو موسَّع تماماً كوقت الوتر وكوقت صلاة التراويح، يمتد من بعد صلاة العشاء إلى أذان الفجر، أي طلوع الفجر، وأفضلُه آخِرَ الليل لما رُوي أن عمرو بن عبسة قال «قلت: يا رسول الله أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخِر، فصلِّ ما شئت» رواه أبو داود والحاكم والترمذي. فمن أحبَّ أن ينال الفضيلة التامة لقيام الليل فلْيصلِّه في آخر الليل، وكلما اقترب بصلاته من آخر الليل تحقَّق من نوال الفضيلة التامة، فعن مسروق قال «سألت عائشة عن عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كان يحب الدائم، قال قلت: أي حين كان يصلي؟ فقالت: كان إذا سمع الصارخ قام فصلى» رواه مسلم والنَّسائي وأبو داود والبخاري وأحمد. قوله الصارخ: أي الديك وهو يصرخ في آخِر الليل قبيل طلوع الفجر. وهذا كله إن كان المرء يريد أن يصلي قليلاً من قيام الليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 أما إن أراد أن يصلي مقدار ثلث الليل، فلْيجعل صلاته في الثلث الأخير، وإن هو أراد أن يصلي مقدار نصف الليل، فليبدأ بمنتصف الليل وينتهي في آخره، وإن هو أراد الزيادة فلْيبدأ عقب ثلث الليل الأوَّل، ولا يُفَضَّل أن يُزاد على ذلك، بل لا بد للمرء من أخذ قسط من النوم فلا يصلي الليل كله، وفي كلٍّ وردت أحاديث أذكر منها ما يلي: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من خاف أن لا يقوم من آخِر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخِره فليوتر آخِر الليل، فإن صلاة آخِر الليل مشهودة وذلك أفضل» رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة. وفي رواية أخرى لمسلم من طريق جابر «أيُّكم خاف أن لا يقوم من آخر الليل فلْيوتر ثم ليرقد، ومن وثق بقيامٍ من الليل فلْيوتر من آخِره، فإن قراءة آخِر الليل محضورة وذلك أفضل» . وقد مرَّت الروايتان في بحث [الوِتر] . وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «ينزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: مَن يدعوني فأستجيب له، مَن يسألني فأعطيه، مَن يستغفرني فأغفر له» رواه البخاري ومسلم وابن ماجة وأبو داود. وفي روايةٍ لمسلم من طريق أبي هريرة بلفظ «إذا قُضي شطرُ الليل أو ثلثاه ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا ... » . فتردد بين شطر الليل وثلث الليل الأخير، ومثله ما جاء في رواية ثالثة عند مسلم من طريق أبي هريرة بلفظ «ينزل الله في السماء الدنيا لشطر الليل أو لثلث الليل الآخِر» . فهذه الروايات الثلاث صرَّحت بذكر الثلث الآخِر من الليل، وترددت روايتان منها بين شطر الليل والثلث الآخِر من الليل، وجاءت رواية رابعة رواها مسلم من الطريق نفسها بلفظ «ينزل الله إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول» . وبمثلها جاءت روايات عند أحمد وأبي داود والنَّسائي والترمذي وابن ماجة من طريق أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما. فهذه الروايات تذكر ثلث الليل الأول وليس الآخِر، فهي معارِضة للروايات الأولى وخاصة الروايةَ الصحيحة القوية التي رواها البخاري ومسلم وابن ماجة وأبو داود. وقد رجَّح جمهرة علماء الحديث رواية البخاري ومسلم وابن ماجة وأبي داود على رواية مسلم الرابعة، فالعمل برواية البخاري ومسلم وابن ماجة وأبي داود أولى، ويشهد لهذه الرواية الصحيحة القوية ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: أَحَبُّ الصلاة إلى الله صلاةُ داود عليه السلام، وأَحَبُّ الصيام إلى الله صيامُ داود، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سُدُسه، ويصوم يوماً ويفطر يوماً» رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة وأحمد. فلو افترضنا أن الليل هنا اثنتا عشرة ساعة عصرية، فإن الثلث الآخِر يكون آخر أربع ساعات من الليل، ويكون الشطر ست ساعات، فلما نام داود عليه السلام نصف الليل الأول وقام ثلثه فإنه يكون قد صلى ساعتين من الساعات الأولى للثلث الآخِر من الليل ونام ساعتين منه أي نام سدس الليل، أي أنه صلى في ثلث الليل الآخر، فنال الفضيلة التامة. وهذا الحديث يشهد أيضاً للروايتين اللتين ترددتا بين شطر الليل وثلثه الأخير، فالفضيلة التامة يمكن أن تُنال بالبدء في الصلاة عند منتصف الليل، فداود عليه السلام كان ينام نصف الليل، أي ينام الساعات الست الأولى من الليل، ويقوم عند منتصف الليل، فيصلي ثُلُثاً من الليل بادئاً بمنتصف الليل، وبذلك يصلي ساعتين قبل ثلث الليل الآخر، ثم يصلي ساعتين أخريين من ثلث الليل الآخِر، وبذلك فإنه يصلي أربع ساعات، وهي تعادل ثلث الليل كما يقول الحديث «ويقوم ثلثه» . فهذا الثلث يجمع بين ساعتين قبل ثلث الليل الأخير وساعتين من ثلث الليل الأخير، فهو يجمع بين العمل بنصف الليل والعمل بثلث الليل الآخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 ولكني أعود فأُذكِّر بأنّ وقت صلاة الليل موسَّع، يبدأ عقب صلاة العشاء، وإنما أحببت فقط أن أنوِّه بوقت الفضيلة التامة، وأنها تتردد بين نصف الليل الثاني وثلث الليل الآخِر. أما قوله سبحانه في سورة المُزَّمِّل {قُم الليْلَ إلا قَلِيْلاً. نِصْفَهُ أَو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيْلاً. أو زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّل القُرْآنَ تَرْتِيْلاً} الآيات 2، 3، 4 من السورة. وقوله سبحانه في السورة نفسها {إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُوْمُ أَدْنَىْ مِنْ ثُلُثَي الليْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِن الذِيْنَ مَعَكَ ... } الآية 20 من السورة. فإن هذا القول وذاك ليس في موضوع وقت الفضيلة التامة، وإنما هو متعلق بقدر قيام الليل، فلا يتعارض هذا مع الأحاديث النبوية التي حدَّدت وقت الفضيلة التامة بنصف الليل الثاني، وبثلث الليل الآخِر، وإنما معنى ما جاء في كتاب الله سبحانه أن قيام الليل لمن شاء التطويل هو بقدر نصف الليل، وعندها يبدأ بالصلاة عند منتصف الليل، وهذا يشمل الثلث الآخر من الليل. ويكون بقدر ثلث الليل، وهذا ظاهر. ويكون بقدر ثلثي الليل، وعندها يبدأ بالصلاة عقب انصرام ثلث الليل الأول، ويستمر إلى آخر الليل، فيشمل هو الآخر ثلث الليل الآخِر. ومثله {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} فهو أيضاً يبدأ قبل منتصف الليل ويستمر حتى آخره فيدخل فيه ثلث الليل الآخِر. وهكذا فإن ثلث الليل الآخر يدخل في جميع أحواله - صلى الله عليه وسلم -، في الصلاة التي ذكرت في المزَّمِّل في الموضعين منها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 وهذا كله متعلق بحق من يقوم الليل وحده في بيته، أما إن كان قيام الليل جماعةً في مسجد، ويكون بصلاة التراويح، فلْيكن ذلك في أول الليل عقب صلاة العشاء، لأن هذا هو ما كان عليه حال صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد مرَّ في بحث [صلاة التراويح] ما رواه البخاري ومالك «فقال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل مِن التي يقومون، يعني آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله» . أمَّا كم ركعات قيام الليل؟ فما قلته في صلاة التراويح أُعيد قوله هنا وهو أن الشرع لم يحدد لها عدداً معيناً يُلْتَزَم به، ولكنَّ أفضل ما تُصلى به من الركعات ثمان تعقبها ثلاث ركعات من الوتر، لأن هذا العدد هو ما رُوي عنه من فعله - صلى الله عليه وسلم -، فصلاة التراويح هي قيام الليل، وإنما خُصّت بهذا الاسم في شهر رمضان دون غيره من أشهر السنة. وقد مرَّ في بحث [صلاة التراويح] حديث أبي سَلَمة بن عبد الرحمن «أنه سأل عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان؟ فقالت: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسل عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسل عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً ... » رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود وابن خُزَيمة. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمسٍ، لا يجلس في شئ إلا في آخرها» رواه مسلم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر وركعتا الفجر» رواه البخاري. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة ركعة، يعني بالليل» رواه البخاري وابن حِبَّان. وعن عائشة أُم المؤمنين رضي الله عنها وقد سألها أبو سلمة عن صلاة رسول الله - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 صلى الله عليه وسلم - فقالت «كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمانَ ركعات ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح» رواه مسلم. وعن عامر الشعبي قال «سألت عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل فقالا: ثلاث عشرة ركعة منها ثمانٍ، ويوتر بثلاث، وركعتين بعد الفجر» رواه ابن ماجة. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل ثماني ركعات، ثم يصلي الوتر، فربما صلى الوتر ثلاثاً وهو الأشهر والأغلب، وربما صلاه خمساً، وربما صلاه أكثر من ذلك أو أقل. والذي يهمُّنا هنا هو صلاة الليل، ففي الحديث الأول جاء أنه صلى أربعاً وأربعاً، أي صلى ثماني ركعات عدا الثلاث التي هي صلاة الوتر هنا، وجاء في الحديث الثاني أنه صلى ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس، أي أنه صلى هنا ثماني ركعات أيضاً، وجاء في الحديث الثالث أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر، أي أنه كان يصلي ثماني ركعات، ثم ثلاثاً الوتر، ثم ركعتين سنة الفجر، وجاء في الحديث الرابع أنه صلى ثلاث عشرة ركعة، هكذا مجملةً دون تفصيل، وهي روايةٌ عن ابن عباس، وجاء في الحديث السادس المروي عن ابن عباس وابن عمر تفصيل هذا المجمل «ثلاث عشرة ركعة منها ثمانٍ، ويوتر بثلاث، وركعتين بعد الفجر» . فهو أيضاً يدل على أنه صلى ثماني ركعات، وجاء في الحديث الخامس أنه كان يصلي ثماني ركعات ثم يوتر. وهكذا فإن جميع هذه الأحاديث تدل صراحة أو دلالة على أن صلاة الليل ثماني ركعات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 ولكن جاءت أحاديث أخرى أقلُّ عدداً تذكر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى أكثر من ذلك تارة، وأقل من ذلك تارة أخرى، فمثلاً روى عبد الله بن قيس بن مَخْرمة عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال «لأرْمُقَنَّ صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة» رواه مسلم ومالك وابن ماجة. فهذا الحديث ذكر عشر ركعات لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدا الوتر، والركعتين الخفيفتين في بدء صلاته، وروى البخاري مثل ذلك عن ابن عباس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 وفي المقابل روى مسروق «أنه دخل على عائشة فسألها عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل؟ فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل، ثم إنه صلى إحدى عشرة ركعة ترك ركعتين، ثم قُبض - صلى الله عليه وسلم - حين قُبض وهو يصلي من الليل تسع ركعات، آخر صلاته من الليل والوتر ثم ربما جاء إلى فراشي هذا، فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة» رواه ابن حِبَّان. فهنا تذكر عائشة رضي الله عنها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد ترك ركعتين، أي أنه أنقص من عدد ركعات صلاة الليل ثِنتين، فلما عُلِم أنها أسهبت رضي الله عنها في نقل الركعات الثماني حين كانت تذكر مجمل صلاته ثلاث عشرة ركعة، عُلِم أنها إنما قصدت من قولها هذا «أنَّه صلى إحدى عشرة ركعة، ترك ركعتين» ، أنه صار يصلي في آخر عهده ست ركعات من صلاة الليل عدا الثلاث من الوتر، فيكون المجموع تسع ركعات كما جاء في الحديث. أما قولها إنه صلى إحدى عشرة ركعة فيُحمل على أنها أضافت ركعتي الفجر، أو الركعتين الخفيفتين، ولم تحتسبهما من صلاة الليل، فصار العدد كله إحدى عشرة ركعة. وربما كانت الزيادة منه - صلى الله عليه وسلم - مرة، والنقص منه مرة أخرى في عدد ركعات صلاة الليل لأجل بيان الجواز وعدم وجوب الاقتصار على ثماني ركعات. فصلاة الليل كصلاة التراويح ثماني ركعات مع جواز الزيادة عليها والنقص منها. والسُّنة في قيام الليل أن تُفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين كما جاء ذلك في الحديث المار أعلاه، حديثِ زيد بن خالد الجهني «فصلى ركعتين خفيفتين» . وكذلك روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» رواه مسلم وأحمد. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأبو داود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 ومن السُّنَّة كذلك أن يقوم المرء بتنظيف أسنانه بالسواك أو بالفرشاة قبل الدخول في الصلاة، فقد روى حذيفة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للتهجُّد من الليل يَشُوص فاه بالسِّواك» رواه البخاري ومسلم والنَّسائي وابن حِبَّان. ومن السُّنة أيضاً أن يدعو المسلم بما تيسر له من أدعية مأثورة قبل القيام بالصلاة. وقد اخترت لكم هذا الدعاء والذكر الذي رواه ابن عباس رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجَّد قال: اللهم لك الحمد، أنت قَيِّم السموات والأرض ومَن فيهن، ولك الحمد، لك مُلْكُ السموات والأرض ومَن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومَن فيهن، ولك الحمد أنت مَلِكُ السموات والأرض، ولك الحمد أنت الحقُّ ووعدُك الحقُّ ولقاؤُك حقٌّ وقولُك حقٌّ، والجنة حق والنار حق، والنبيون حق، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمتُ وبك آمنت، وعليك توكلت وإليك أنبت، وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت - أو - لا إله غيرك» رواه البخاري. ورواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي باختلاف في الألفاظ. ولمن شاء دعاءً أخفَّ وأسهل في الحفظ، فلْيقل ما رواه عُبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا استُجيب له، فإن توضأ قُبلت صلاته» رواه البخاري وابن حِبَّان. ورواه ابن ماجة بزيادة [العليِّ العظيم] لتصبح «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 ويجوز في صلاة الليل الجهر كما يجوز الإسرار، ويجوز رفع الصوت كما يجوز الخفض، هذا إن كان المسلم يصلي منفرداً دون أن يصلي إلى جواره أحد، فإن صلى في مسجد أو مكان فيه آخرون يصلون، فلْيخفض صوته كي لا يشوِّش على مَن عنده من المصلين فعن عبد الله بن أبي قيس قال «سألت عائشة ... كيف كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل أيجهر أم يُسِرُّ؟ قالت: كلَّ ذلك قد كان يفعل، وربما جهر وربما أسرَّ» رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل يرفع طوراً ويخفض طوراً» رواه أبو داود. ورواه ابن ماجة قريباً من ذلك، وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال «اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: ألا إنَّ كلَّكم مناجٍ ربه فلا يُؤذيَنَّ بعضُكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعضٍ في القراءة، أو قال، في الصلاة» رواه أبو داود وابن خُزَيمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 وكما تُقضى السنن الرواتب فإن من واظب على قيام الليل فأخذته نَوْمة، أو مَرِضَ من ليلته، أو شُغل عنه قضاه في نهاره المقبل، وقضاه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، فقد روى سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثِنتي عشرة ركعة» رواه مسلم والنَّسائي. وفي رواية أخرى عند مسلم من طريق سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثِنْتَي عشرة ركعة ... » . وعن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من نام عن حزبه أو عن شئ منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل» رواه مسلم والنَّسائي وابن ماجة وأبو داود وابن خُزَيمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 وكما في كل عبادة فإن المسلم يقوم بما في وسعه وبما يطيق وبما لا يشق عليه، لأن الله سبحانه لا يَملُّ حتى يَملَّ عبدُه، فكذلك في صلاة قيام الليل، فعن عائشة رضي الله عنها قالت «دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي امرأة فقال: مَن هذه؟ فقلت: امرأةٌ لا تنامُ تصلي، قال: عليكم من العمل ما تطيقون، فوالله لا يملُّ الله حتى تملُّوا ... » رواه مسلم. ورواه أحمد وابن حِبَّان بلفظ «إن الحولاء بنت تويت مرت على عائشة وعندها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت فقلت: يا رسول الله هذه الحولاء زعموا أنها لا تنام الليل، فقال: لا تنام الليل! خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا» . فلْيجهد المسلم في الإطالة ما وسعه ذلك، حتى إذا حصلت لديه مشقَّةٌ بالغة، وصار لا يطيق الاستمرار توقف عن الصلاة ونام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآنُ على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي. ز. صلاة الضُّحى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 وهذه الصلاة تسمَّى صلاة الأوَّابين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أوَّاب قال: وهي صلاة الأوَّابين» رواه ابن خُزَيمة والحاكم. قوله الأوَّاب: أي كثير الرجوع بالتوبة إلى الله عزَّ وجلَّ. ولصلاة الضحى فضل عظيم وثواب كبير، فمن فضلها أن من صلى ثِنتي عشرة ركعة من هذه الصلاة بنى الله له قصراً في الجنة، وهو الفضل الذي يحصل عليه مَن صلى ثنتي عشرة ركعة من السنن الراتبة في اليوم، وقد مرَّ في بحث [السنن الملحقة بالسنن الراتبة المؤكدة] . فكأن الركعة من صلاة الضحى تعدل الركعة من السنن الراتبة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «مَن صلى الضحى ثِنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً من ذهب في الجنة» رواه ابن ماجة والترمذي. ومن فضل هذه الصلاة أن ركعتين منها تُجزئان وتعدلان ثلاثمائة وستين صدقة، فأكْرِم به من فضل. فعن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «في الإنسان ثلاثُمائةٍ وستون مِفْصلاً، فعليه أن يتصدق عن كل مِفْصل صدقة، قال: ومن يطيق ذلك يا نبي الله؟ قال: النُّخامة في المسجد تدفنها، أو الشئ تُنَحِّيه عن الطريق، فإن لم تقدر فركعتا الضحى تُجْزِئك» رواه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان. وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «يُصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمرٌ بمعروفٍ صدقة، ونهيٌ عن منكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي وابن خُزَيمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 ومن فضل هذه الصلاة أن الله سبحانه وتعالى يتكفَّل لصاحبها بأن يكفيه يومه الذي يصليها فيه، وجاءت الكفاية عامة لتشمل الحفظ من الشيطان، وتوفير الرزق الحلال وردَّ الشر والمكروه، وما إلى ذلك، فقد روى نُعيم بن هَمَّار الغَطَفَاني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن ربه تبارك وتعالى أنه قال «يا ابن آدم صلِّ لي أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره» رواه ابن حِبَّان والنَّسائي وأبو داود وأحمد. وإلى من كثرت خطاياه وتعاظمت ذنوبه ورغب في التوبة ومغفرة هذه الذنوب مهما بلغت، فلْيستمع إلى هذا الحديث ولْيعمل بمقتضاه: عن معاذ بن أنس الجُهَني رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يُسبِّح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيراً، غُفِر له خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر» رواه أبو داود والبيهقي. فإذا علمنا أن صلاة الصبح تسبق طلوع الشمس بحوالي ساعة إلى ساعة ونصف من ساعاتنا، وأن صلاة الضحى تكون عند ارتفاع الشمس من جهة المشرق كارتفاعها من جهة المغرب عند صلاة العصر، ويقدر ذلك بساعتين ونصف إلى ثلاث ساعات، علمنا أن الوقت الذي يحتاج إليه الراغب في التوبة ومغفرة الله سبحانه لذنوبه يُقَدَّر بحوالي أربع ساعات من ساعاتنا يُمضيها في مصلاه الذي صلى فيه صلاة الصبح، يذكر الله سبحانه فيها ويدعوه، ويقرأ القرآن، ثم يقوم في آخرها بأداء ركعتين اثنتين، فهذا بابٌ للتائبين عظيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 أما وقت صلاة الضحى فيبدأ حين ترتفع الشمس وتبيضُّ، ولزيادة الدقة نقول: إن وقتها يبدأ عند ارتفاع الشمس من جهة المشرق كارتفاعها من جهة المغرب عند صلاة العصر، فهي تقابل العصر، العصر في آخِر النهار والضحى في أوَّلِه، ويستمر وقتها إلى منتصف النهار، فعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل قُباء وهم يصلون الضحى فقال: صلاة الأوَّابين إذا رمضت الفِصال من الضحى» رواه أحمد وابن خُزَيمة وابن أبي شيبة والطبراني. ورأى زيد بن أرقم رضي الله عنه قوماً يصلون من الضحى فقال «أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة الأوَّابين حين ترمض الفِصال» رواه مسلم وابن حِبَّان والبيهقي. قوله إذا رمضت الفِصال في الحديث الأول، وقوله حين ترمض الفصال في الحديث الثاني: يعني إذا احترقت أَخفاف صغار الإبل، أي إذا اشتد الحر فسخن الرمل فلم تستطع الجمال الصغيرة المشي فوقه. وقد قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهالي قُباء عندما رآهم يصلون الضحى في أول النهار، فبيَّن لهم أن وقت صلاة الضحى يبدأ عند ارتفاع الشمس وسخونة الأرض وليس في أول النهار، وهذا المعنى قد رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه، فقد روى أبو رملة عن عليٍّ رضي الله عنه «أنه رآهم يصلون الضحى عند طلوع الشمس فقال: هلاَّ تركوها حتى إذا كانت الشمس قدر رمح أو رمحين صلُّوها، فتلك صلاة الأوَّابين» رواه ابن أبي شيبة. وعنه رضي الله عنه قال «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الضحى حين كانت الشمس مِن المشرق من مكانها من المغرب من صلاة العصر» رواه أحمد والنَّسائي والترمذي وابن ماجة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 أما عدد ركعات صلاة الضحى فأقله ثِنتان، ولا حدَّ لأكثره، وكان الغالب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة ما بين أربع ركعات إلى ثمانٍ، وهي تُصلى ثِنتين ثِنتين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت، صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر» رواه البخاري ومسلم وأحمد. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «وصلاة الضحى ركعتين» . وفي لفظ للبيهقي ومسلم «وركعتي الضحى» . ورواه ابن خُزَيمة بلفظ « ... وأن لا أدع ركعتي الضحى فإنها صلاة الأوَّابين» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «أوصاني خليلي بركعتي الضحى» رواه ابن أبي شيبة. وقد مرَّ قبل قليل حديثُ معاذ بن أنس الجُهَني وفيه «يسبح ركعتي الضحى» . وحديثُ أبي ذرٍّ وفيه «ركعتان يركعهما من الضحى» . وحديثُ بريدة وفيه «فركعتا الضحى تُجزئك» . فهذه نصوص على أن صلاة الضحى تكون ركعتين اثنتين. وعن معاذة «أنها سألت عائشة: كم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الضحى؟ قالت: أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله» رواه مسلم وأحمد وابن ماجة والنَّسائي والترمذي. ومرَّ قبل قليل حديث نُعيم بن هَمَّار وفيه «يا ابن آدم صلِّ لي أربع ركعات في أول النهار ... » . فهذان نصَّان يدلان على أن صلاة الضحى تكون أربع ركعات. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرض عليه بعيراً لي، فرأيته صلى الضحى ست ركعات» رواه الطبراني. فهذا نصٌّ يدلُّ على أن صلاة الضحى تكون ست ركعات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 وعن حذيفة رضي الله عنه قال «خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حَرَّةِ بني معاوية، فصلى الضحى ثمان ركعات طوَّل فيهنَّ» رواه ابن أبي شيبة. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيتي، فصلى الضحى ثمانَ ركعات» رواه ابن حِبَّان. وعن أم هانئ رضي الله عنها قالت «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بيتها يوم فتح مكة، فاغتسل وصلى ثماني ركعات، فلم أر صلاة قطُّ أخفَّ منها، غير أنه يتم الركوع والسجود» رواه البخاري ومسلم وابن خُزَيمة وأحمد والدارمي. ورواه ابن حِبَّان وابن أبي شيبة بلفظ «فصلى الضحى ثمان ركعات» . وفي رواية لمسلم ومالك بلفظ «قالت أم هانئ: وذلك ضحى» . فهذه نصوص تدلُّ على أن صلاة الضحى تكون ثماني ركعات. وقد مرَّ في هذا البحث حديث أنس بن مالك وفيه «مَن صلى الضحى ثِنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً من ذهب في الجنة» . وهذا نصٌّ على أن الضحى تكون ثِنتي عشرة ركعة. والمُحصِّلة هي أن صلاة الضحى أقلُّها ثِنتان، ولا حدَّ لأكثرها، فلْيصلِّ المرء ما شاء منها، ولْيَجْنِ ما أكرمه الله به من ثواب وجزاء. وهذه الصلاة تُؤدَّى انفرادياً وتؤدَّى جماعةً، فقد روى عِتبان بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيته سُبحة الضحى، فقاموا وراءه فصلوا بصلاته» رواه أحمد والبخاري ومسلم وابن خُزَيمة. إلا أن هناك عدداً من الأحاديث تذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصلِّ صلاة الضحى قط، وأحاديث أخرى تذكر أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يصلي صلاة الضحى إلا إن هو رجع من سفر ومغيبة، أذكر منها: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت «ما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي سُبحة الضحى قط ... » رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى للبخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت « ... وما سبَّح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُبحة الضحى قط، وإني لأُسَبِّحها» . 2 - عن مورِّق أنه قال «قلت لابن عمر رضي الله عنهما: أتصلي الضحى؟ قال: لا، قلت فعمر؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا، قلت: فالنبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا إخاله» رواه البخاري. 3 - عن عبد الله بن شقيق أنه قال «قلت لعائشة: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجئ من مغيبة» رواه البخاري ومسلم. فأقول: أـ إن حديث عائشة الثالث يخالف حديثها الأول، فالثالث يُثبتُ صلاة الضحى مقيَّدةً بعودته - صلى الله عليه وسلم - من السفر، في حين أن الحديث الأول بروايتيه ينفي نفياً باتاً هذه الصلاة بشكل عام ومطلق. ب ـ إن عائشة التي رُوي عنها الحديث الأول بروايتيه قد رُوي عنها حديث يعارض هذا الحديث ويناقضه، فعن يزيد الرِّشك «حدثتني معاذة أنها سألت عائشة: كم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الضحى؟ قالت: أربع ركعات ويزيد ما شاء» رواه مسلم. وروى مسلم رواية أخرى مماثلة من طريق أبي سعيد قال: حدثنا قتادة أن مُعاذة العدوية حدثتهم عن عائشة قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله» . وإذن فإن الروايات المنقولة عن عائشة رضي الله عنها جاءت متعارضة ومتناقضة. ج ـ أما حديث ابن عمر الثاني الذي يؤخذ منه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصلي الضحى، مِن لفظة «لا إخاله» فالرد عليه من وجوه: 1 - إن هذه اللفظة «لا إخاله» تنبئ عن الشك والظن وعدم التثبت، وبذلك يصبح الخبر محتملاً، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 2 - إن البخاري ذكر الحديث تحت عنوان [باب صلاة الضحى في السفر] ، وهذا يعني أن البخاري قد فهم من الحديث، أو قل قد علم أنَّ ابن عمر حين نفى صلاة الضحى إنما نفاها في حالة السفر وليس بشكل مطلق، ولا بدَّ من أنَّ البخاري قد استند في وضع الحديث في باب السفر إلى أَمرٍ ثبت عنده، وهو المشهود له بالدقة البالغة في رواية الأحاديث. 3 - إن ابن عمر نفسه قد رُوي عنه ما يعارض هذا الحديث إن هو اعتُبر نافياً لمطلق الصلاة في السفر والحضر، فعن نافع «أن ابن عمر رضي الله عنهما كان لا يصلي من الضحى إلا في يومين، يوم يقدَم مكة فإنه كان يقدَمها ضحى، ... ويوم يأتي مسجد قُباء ... » رواه البخاري. وإذن فإن الروايات المنقولة عن ابن عمر جاءت متعارضة هي الأخرى. وبذلك يترجح لدينا الرأي القائل بمشروعية صلاة الضحى للروايات العديدة الصحيحة التي تثبتها. إذ الصحيح الثابت أن صلاة الضحى مشروعة ومندوبة، ولكنها ليست من السنن الراتبة التي حافظ عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها» رواه أحمد والترمذي. ح. صلاة الكسوف وهي الصلاة المسنونة المشروعة عند حصول كسوفٍ للشمس أو للقمر. والكسوف يطلق على ذهاب الضوء، وعلى الاسوداد. وكما يطلق الكسوف على اسوداد الشمس فإنه يطلق كذلك على اسوداد القمر، وإن شئنا التمييز بينهما قلنا كسوف الشمس وخسوف القمر، وكلاهما جائز لغة وشرعاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 أما وقت صلاة الكسوف فيبدأ عند بدء كسوف الشمس ويستمر إلى أن ينجلي الكسوف ويذهب، ويعود ضوء الشمس كاملاً، كما أنه يبدأ عند بدء خسوف القمر، ويستمر إلى أن ينجلي الخسوف ويذهب، ويعود نور القمر كاملاً. وصلاة الكسوف كصلاة الخسوف تماماً تُؤدَّى عند ذهاب ضوء الشمس أو ذهاب نور القمر كلياً أو جزئياً دون اعتبارٍ لأوقات النهي، فلو حصل كسوف الشمس عقب صلاة العصر فإن صلاة الكسوف تُؤدَّى عندئذ دون كراهة على الرأي الصحيح، لأن هذا الوقت هو وقتها. والأصل في صلاة الكسوف أن تستغرق كامل وقتها، فيبدأ المسلم بالصلاة مع بدء الكسوف وينتهي منها مع انتهائه، فعن المغيرة بن شعبة قال «كَسَفَت الشمسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم فصلُّوا وادعوا الله» رواه البخاري وأحمد والبيهقي وابن خُزَيمة والبزَّار. ورواه مسلم وجاء فيه « ... فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينكشف» . وعن أبي بَكْرة قال «خَسَفَت الشمسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج يجرُّ رداءه حتى انتهى إلى المسجد وثاب الناس إليه، فصلى بهم ركعتين، فانجلت الشمس فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا يخسفان لموت أحد، وإذا كان ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم، وذلك أن ابناً للنبي - صلى الله عليه وسلم - مات يقال له إبراهيم، فقال الناس في ذلك» رواه البخاري وابن حِبَّان وأحمد والنَّسائي. قوله في الحديث الأول: فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينكشف، وقوله في الحديث الثاني: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا يخسفان لموت أحد، وإذا كان ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم: يدلان على جملة أحكام منها: أ - إن صلاة الكسوف هي صلاة الخسوف نفسها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 ب - إن البدء في الصلاة يكون عند بدء الكسوف أو الخسوف. ج - إن الصلاة تستغرق كامل وقتها، بمعنى أن يبدأ في الصلاة عند بدء الكسوف ويستمر بها إلى انكشافه وذهابه مهما طال زمنه، سواء استمر ساعة أو أكثر أو أقل. وأُلفت النظر هنا إلى أن صلاة الكسوف لا ينبغي أن تُشغل عن الصلاة المكتوبة، فإما أن تُصلَّى المكتوبة أولاً - ويكون ذلك إن كان وقتها قد ضاق - ثم تُصلَّى صلاة الكسوف، وإما أن تُصلَّى صلاة الكسوف أولاً ويُفرغ منها قبل انتهاء وقت المكتوبة لتبقى للمكتوبة فترة كافية. ويُسن أداء هذه الصلاة جماعةً في المساجد، ولا يُؤذَّن لها ولا يُقام، وإنما يُكتفى بدعوة المصلين بالقول [الصلاةُ جامعة] فعن أبي بَكرة قال «كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانكسفت الشمس، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجر رداءه حتى دخل المسجد، فصلى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، فإذا رأيتموها فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» رواه البخاري وغيره. فهذا دليل على مشروعية صلاة الكسوف جماعةً في المساجد. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال «لما كَسَفَت الشمسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نودي: إن الصلاة جامعة، فركع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين في سجدة، ثم قام فركع ركعتين في سجدة ثم جلس، ثم جُلِّي عن الشمس، قال، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما سجدت سجوداً قطُّ كان أطول منها» رواه البخاري ومسلم وابن خُزَيمة والنَّسائي. وعن عائشة رضي الله عنها «أن الشمس خَسَفَت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعث منادياً: الصلاةُ جامعةٌ، فاجتمعوا وتقدَّم فكبَّر، وصلَّى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات» رواه مسلم. فهذان دليلان على أن النداء لصلاة الكسوف إنما يكون بالقول [الصلاةُ جامعة] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 ومن المندوب في حالة حصول الكسوف أو الخسوف عدا الصلاة الإكثارُ من الدعاء والتصدُّق، خاصة إن فرغ المصلُّون من صلاتهم والكسوفُ أو الخسوفُ لا زالت منهما بقية، فيمكن إشغال بقية الوقت بذكر الله ودعائه. وبمعنى آخر أقول إذا حصل الكسوف صلى المسلمون صلاة طويلة محاولين أن يقضوا كامل وقت الكسوف بالصلاة، فإن هم أتموا صلاتهم قبل انقضاء الكسوف أمضَوا ما تبقى من وقت الكسوف بالدعاء والذكر. أما إن انتهى الكسوف وهم في الصلاة أتمُّوها خفيفة، فقد مرَّ حديث المغيرة بن شعبة عند البخاري وغيره قبل قليل وفيه «فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله» . ومثله حديث أبي بَكْرة عند البخاري وغيره المار قبل قليل وفيه «وإذا كان ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» . وعن أبي موسى رضي الله عنه قال «خَسَفت الشمس فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فَزِعاً يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلَّى بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط يفعله، وقال: هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوِّف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره» رواه البخاري وابن حِبَّان. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «خَسَفَت الشمسُ في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - فذكرت الحديث إلى أن قالت - فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبِّروا، وصلُّوا وتصدقوا ... » رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك والنَّسائي. وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت «خَسَفَت الشمسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - فذكرت الحديث إلى أن قالت - ثم رَقِيَ المنبر فقال: أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يَخْسَفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وإلى الصدقة وإلى ذِكر الله ... » رواه أحمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 أما صفة صلاة الكسوف فهي ركعتان اثنتان، كل ركعة منها بركوعين اثنين، وما سوى ذلك فرأي مرجوح، وتُؤدَّى كالتالي: يُحْرِم الإمام بالتكبير، ويقرأ الفاتحة جهراً وسورة طويلة، ثم يركع ركوعاً طويلاً قريباً من القيام، ثم يقوم قائلاً: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة، ولكن دون قراءة القيام الأول، ثم يركع ركوعاً طويلاً دون الركوع الأول، ثم يرفع قائلاً: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يسجد سجوداً طويلاً، ثم يجلس جلسة طويلة، ثم يسجد سجوداً طويلاً دون السجود الأول، ثم يقوم، ويفعل في الركعة الثانية ما فعله في الركعة الأولى، ولكن بإطالةٍ أقلَّ مما في الركعة الأولى، وينصرف من الصلاة بالتسليم، محاولاً أن لا يفرغ من الصلاة حتى ينجلي الكسوف. هذه هي الكيفية الصحيحة الواردة في الأحاديث الصحيحة، ونستدل على كل تفاصيلها بالأدلة التالية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 أ - عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن يهودية جاءت تسألها فقالت لها: أعاذكِ الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيعذَّب الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائذاً بالله من ذلك، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة مركباً، فخَسَفَت الشمسُ فرجع ضحى، فمرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين ظهراني الحُجَر، ثم قام يصلي وقام الناس وراءه، فقام قياماً طويلاً ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد، ثم قام فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد، وانصرف فقال ما شاء الله أن يقول، ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر» رواه البخاري ومسلم ومالك والنَّسائي وأحمد. ب - عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى يوم خَسَفَت الشمسُ، فقام فكبر فقرأ قراءة طويلة، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده، وقام كما هو، ثم قرأ قراءة طويلة وهي أدنى من القراءة الأولى، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهي أدنى من الركعة الأولى، ثم سجد سجوداً طويلاً، ثم فعل في الركعة الآخرة مثل ذلك، ثم سلَّم وقد انجلت الشمس، فخطب الناس فقال في كسوف الشمس والقمر: إنهما آيتان من آيات الله لا يَخْسَفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة» رواه البخاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 ج - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال «كَسَفَت الشمسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام وقمنا معه، فأطال القيام حتى ظننا أنه ليس براكع، ثم ركع فلم يكد يرفع رأسه، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع رأسه، ثم جلس فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع رأسه، ثم فعل في الركعة الثانية كما فعل في الأولى، وجعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد في الركعة الثانية، وجعل يقول: ربِّ لِمَ تعذبهم وأنا فيهم، ربِّ لِمَ تعذبنا ونحن نستغفر؟ فرفع رأسه وقد تجلَّت الشمس وقضى صلاته فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزَّ وجلَّ، فإذا كَسَفَ أحدُهما فافزعوا إلى المساجد ... » رواه أحمد والنَّسائي وابن خُزَيمة. د - عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «خَسَفَت الشمسُ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - المصلَّى، فكَّبر وكبَّر الناس، ثم قرأ فجهر بالقراءة وأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده، ثم قام فقرأ فأطال القراءة، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه ثم سجد، ثم قام ففعل في الثانية مثل ذلك ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزَّ وجلَّ لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة» رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي. هـ - عن جابر قال «انكسفت الشمس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... - وجاء فيه - ... فكبًّر ثم قرأ فأطال القراءة، ثم ركع نحواً مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، فقرأ قراءة دون القراءة الأولى، ثم ركع نحواً مما قام ... » رواه مسلم وأحمد وأبو داود والبيهقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 و عن عائشة رضي الله عنها «جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف بقراءته، فإذا فرغ من قراءته كبَّر فركع، وإذا رفع من الركعة قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات» رواه البخاري وابن حِبَّان ومسلم. وإذا فرغ من الصلاة استُحِبَّ للإمام أن يخطب المُصلِّين بما يناسب المقام، والدليل على أن لصلاة الكسوف خطبةً الحديثُ (ب) الذي روته عائشة رضي الله عنها عند البخاري، فقد جاء فيه «فخطب الناس فقال ... » . والحديث (ج) الذي رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عند أحمد وغيره، فقد جاء فيه «وقضى صلاته فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ... » . وكذلك الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها قالت «خَسَفَت الشمسُ في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد، ما من أحدٍ أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك والنَّسائي. وكذلك الحديث المروي عن أسماء رضي الله عنها قالت «فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تجلَّت الشمس، فخطب فحمد الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد» رواه البخاري. وغير هذه الأحاديث كثير، وكلها تذكر أنه عليه الصلاة والسلام بعد أن يفرغ من صلاته يقف فيخطب الناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 وأُلفت النظر إلى أن الفقهاء والأئمة قد اختلفوا في صفة صلاة الكسوف اختلافاً كبيراً، فمنهم من قال إن صلاة الكسوف ركعتان اثنتان عاديتان كركعتي الفجر مستدلين بأحاديث مروية، ومنهم من قال إنها ركعتان في كل ركعة ركوعان اثنان، وهو ما أخذنا به وأثبتناه بالأحاديث الكثيرة الصحيحة السابقة، ومنهم من قال إنها ركعتان في كل ركعة ثلاثة ركوعات، مستدلين بأحاديث مروية، ومنهم من قال إنها ركعتان في كل ركعة أربعة ركوعات، مستدلين بأحاديث مروية، ومنهم من قال إنها ركعتان في كل ركعة خمسة ركوعات، مستدلين بأحاديث مروية، ومنهم من قال إنها ركعتان ثم ركعتان ثم ركعتان، وكلها عادية مثل صلاة الفجر إلى أن ينتهي الكسوف، مستدلين هم كذلك بأحاديث مروية، ولم أجد ضرورة لذكر كل هذه الأحاديث. وحسبي أن أقول ما يلي: نعم إن جابر بن عبد الله قد رُوي عنه حديث الثلاثة ركوعات عند أحمد ومسلم، وكذلك رُوي عن عائشة رضي الله عنها عند أحمد ومسلم، وروي عن عليَّ ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قد صلاَّها أربعة ركوعات في الركعة الواحدة عند أحمد والبيهقي، وأن ابن عباس رضي الله عنه قد رُوي عنه الركوعات الأربعة في الركعة الواحدة عند أحمد ومسلم، وأن أُبيَّ بن كعب رضي الله عنه قد رُوي عنه حديث الركوعات الخمسة عند أحمد وأبي داود والحاكم، وأن محمود بن لبيد والنعمان بن بشير وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم قد رُويت عنهم أحاديث بأن صلاة الكسوف ركعتان اثنتان عاديتان، وأن النعمان ابن بشير رضي الله عنه قد رُوي عنه حديثٌ بالصلاة ركعتين ركعتين عند أحمد وأبي داود والنَّسائي وابن ماجة والحاكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 ولا يُنكَر أن عدداً من هذه الأحاديث صحيحة الإسناد تصلح للاحتجاج، وكان يمكن الأخذ بجميع هذه الأحاديث والقول بجواز صلاة الكسوف على صفات وكيفيات عدة لو كان قد رُوي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل كل ذلك في أوقات مختلفة وكسوفات عدة. أمَّا وأنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صلى صلاةَ كسوفٍ واحدة، وأنه عليه الصلاة والسلام قد صلَّى هذه الصلاة في السنة العاشرة للهجرة، وأنه صلاَّها يوم مات ولده إبراهيم، وأنه عليه الصلاة والسلام قد مات بعد موت إبراهيم بحوالي أربعة أشهر ونصف، ولا يُحتَمل في هذه المدة اليسيرة حصول كسوفين، وأنه قد رُوي أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يجهلون كيفية هذه الصلاة قبل أن يصليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آنذاك، مما يدل على أنه لم يُصلِّها معهم قبل ذلك، وأن أبا شُريحٍ الخُزاعي قال «كَسَفَت الشمسُ في عهد عثمان ابن عفان رضي الله عنه وبالمدينة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: فخرج عثمان فصلَّى بالناس تلك الصلاة ركعتين وسجدتين في كل ركعة، قال: ثم انصرف عثمان فدخل داره ... » رواه أحمد والبيهقي والطبراني والبزَّار. وقال الهيثمي (رواته مُوثَّقون) ما يدل دلالة واضحة على أن صلاة الكسوف إنما تكون بركعتين وسجدتين في كل ركعة من ركعتيها، وأن هذا هو الثابت عند صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلا لما صلاَّها عثمان بالصحابة دون إنكار، فلما عُلِم كلُّ ذلك علمنا أن القصة متحدة، وأنه لم تكن صلواتُ كسوفٍ عدةٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل صلاة كسوف واحدة يوم مات إبراهيم قبل وفاته عليه الصلاة والسلام بأقلَّ من خمسة أشهر. وإذن فإن احتمال وجود عدة كيفيات لهذه الصلاة غير وارد، فلم يبق إلا الترجيح بين هذه الروايات المتعارضة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 وعند الترجيح تُرجَّح الروايات التي تذكر لصلاة الكسوف ركوعين في كل ركعة، لأنها أكثر مما سواها وأقوى منها إسناداً، فقد اتفق عليها البخاري ومسلم إماما الحديث، وما اتفق عليه هذان الإمامان الجليلان يعتبر في القمة من حيث القوة والصحة. ولهذا نقول إن كل الكيفيات عدا كيفية الركوعين في كل ركعة هي مرجوحة. ولا بأس بأن أُضيف أنه عليه الصلاة والسلام لم يُرْوَ عنه حديث واحد صحيح أو حسن بأنه قد صلَّى هذه الصلاة عند خسوف القمر في أية ليلة من الليالي، وأن مشروعية صلاة الكسوف عند خسوف القمر لم تأت من فعله عليه الصلاة والسلام وإنما من قوله الذي تعدد نقلُه وهو أن تُصلَّى هذه الصلاة إن كَسَفَت الشمسُ أو خَسَف القمرُ مما سبق إيراده، وهذا أيضاً يدعم قولنا باتحاد القصة وعدم التعدد، ويدعم بالتالي وجوب الترجيح بين الروايات المتعارضة، لأنه لا يمكن الجمع بينها لكونها كلها قد ذكرت حادثة واحدة، مما يمنع من قبول جميع هذه الروايات إلا رواية واحدة فحسب هي التي أشرنا إليها. ط. صلاة الاستسقاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 الاستسقاء في اللغة هو طلبُ الشخصِ سقيَ الماءِ لنفسه أو طلبُه لغيره. وفي الشرع هو طلبُ الشخصِ سقيَ الماءِ من الله سبحانه عند انحباس المطر وحصول القحط على وجهٍ مخصوصٍ من العبادة. وقد ورد ذكر الاستسقاء في كتاب الله عزَّ وجلَّ، قال تعالى {وإذْ اسْتَسْقَىْ مُوْسَىْ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنَاً ... } الآية 60 من سورة البقرة. وقال سبحانه {.. وَأَوْحَيْنَا إلى مُوْسَىْ إذ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَن اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنَاً ... } الآية 160 من سورة الأعراف. ونزول الماء رحمة وانحباسه كثيراً عذاب يعذِّب الله به عباداً خرجوا على الطريقة، أو عصَوْا ولم يتقوا الله سبحانه، قال تعالى {وَأَنْ لَو اسْتَقَامُوْا عَلَى الطَّرِيْقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} الآية 16 من سورة الجن. وقال عزَّ وجلَّ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَىْ آمَنُوْا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِن السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ... } الآية 96 من سورة الأعراف. وقد جاء في الحديث النبوي الشريف أنه ما من قوم يمنعون الزكاة إلا مُنِعوا القَطْرَ من السماء، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال «أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا معشر المهاجرين، خمسُ إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ... ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطَروا ... » رواه ابن ماجة. وقد اتفقت كلمة العلماء والفقهاء على أن صلاة الاستسقاء سنة مستحبة، لا أعلم فقيهاً قال بوجوبها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 والأصل في مشروعيتها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صلاَّها، وصلاَّها معه صحابته رضوان الله عليهم، فعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المُصلَّى، فاستسقى فاستقبل القِبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين» رواه البخاري ومسلم وابن ماجة والنَّسائي وابن خُزَيمة. وعن عبَّاد بن تميم عن عمه قال «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خرج يستسقي، قال: فحوَّل إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو، ثم حوَّل رداءه، ثم صلَّى لنا ركعتين جهر فيهما بالقراءة» رواه البخاري ومسلم وأحمد. وقد شُرعت الجماعةُ في صلاة الاستسقاء، وأن تُصلَّى بدون أذان ولا إقامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً يستسقي، وصلَّى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله، وحوَّل وجهه نحو القِبلة رافعاً يده، ثم قلب رداءه، فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن» رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي والأثرم وابن خُزَيمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 أما وقت هذه الصلاة، فأي وقت عدا أوقات النهى هو وقتها، ولكن الأفضل تأديتُها في أول النهار كما تُؤدَّى صلاةُ العيدين، فعن عائشة رضي الله عنها قالت «شكا الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبَّر - صلى الله عليه وسلم -، وحمد الله عزَّ وجلَّ ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبَّان زمانه عنكم، وقد أمركم الله عزَّ وجلَّ أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. ملك يوم الدين. لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أَنْزِل علينا الغيث واجعل ما أنزلتَ لنا قوةً وبلاغاً إلى حين، ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حوَّل إلى الناس ظهره، وقلب - أو حوَّل - رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين ... » رواه أبو داود وابن حِبَّان والحاكم. قوله حين بدا حاجب الشمس: أي حين طلعت الشمس. وهذا هو وقت صلاة العيدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 أما صفة صلاة الاستسقاء فهي ركعتان اثنتان مماثلتان لركعتي الجمعة من حيث التكبير والجهر، فقد مرَّ حديث عبد الله بن زيد عند البخاري وغيره وفيه « ... وصلى ركعتين» . وكذلك مرَّ حديث عبَّاد بن تميم عن عمه آنفاً عند البخاري وغيره وفيه «ثم صلى لنا ركعتين جهر فيهما بالقراءة» . وعن أبي إسحق «خرج عبد الله بن يزيد الأنصاري وخرج معه البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهم فاستسقى، فقام بهم على رجليه على غير منبر فاستغفر، ثم صلَّى ركعتين يجهر بالقراءة، ولم يؤذن ولم يُقِم، قال أبو إسحق: وروى عبد الله بن يزيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -» رواه البخاري. وللعلم فإن عبد الله بن يزيد هو غير عبد الله بن زيد المار ذكره قبل قليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 وهناك جماعة من الفقهاء يرون أن صلاة الاستسقاء تماثل تماماً صلاة العيدين، وأن فيها سبع تكبيرات في الركعة الأولى وخمساً في الثانية، مستدلين بما رواه ابن عباس رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج مُتَخَشعاً مُتَضَرِّعاً مُتواضِعاً مُتَبذِّلاً مُتَرسِّلاً، فصلى بالناس ركعتين كما يصلي في العيد، لم يخطب كخطبتكم هذه» رواه أحمد والحاكم والدارقطني وأبو داود والترمذي. قوله متبذِّلاً: أي يلبس لباس العمل. وقوله مترسِّلاً: أي متمهِّلاً غير مستعجل. فقالوا إن قول ابن عباس «كما يصلي في العيد» يفيد أن لصلاة الاستسقاء تكبيرات كتكبيرات العيد، واستدلوا بما رواه طلحة قال «أرسلني مروان إلى ابن عباس أسأله عن سُنة الاستسقاء فقال: سُنَّة الاستسقاء سُنَّة الصلاة في العيدين، إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلب رداءه، فجعل يمينه على يساره ويساره على يمينه، وصلى ركعتين، وكبَّر في الأولى سبع تكبيرات وقرأ سبح اسم ربك الأعلى، وقرأ في الثانية هل أتاك حديث الغاشية، وكبَّر فيها خمس تكبيرات» رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي. فنقول لهؤلاء: أما حديث الدارقطني ففيه محمد ابن عبد العزيز قال فيه البخاري: منكر الحديث. وقال النَّسائي: متروك الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. فالحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج فيطرح. وأما حديث أحمد فغير واضح الدلالة على ما ذهبوا إليه، فلا يصلح لتقييد الأحاديث الكثيرة الصحيحة التي أطلقت القول بالركعتين، ويحمل هذا القول من ابن عباس على أنه أراد أن يقول إن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد ركعتان اثنتان، يشهد لهذا الفهم ما جاء في روايةٍ لعبد الرزاق « ... فدعا وصلَّى كما يصلي في العيد ركعتين» . فصلاة الاستسقاء ركعتان اثنتان عاديتان يُجهر فيهما بالقراءة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 يقف الإمام أمام المصلين مستقبل القِبلة مُولِّياً ظهره إلى الناس، ويُحوِّل ثوبه بحيث يجعل الظاهر باطناً والباطن ظاهراً، والأيمن من الثوب على يساره، والأيسر منه على يمينه، ويحوِّل المصلون ثيابهم، ثم يدعو بما يشاء، ويُكثر من الاستغفار بشكل خاص، وله أن يقتصر عليه، ثم يصلي بالناس ركعتين جهراً دون تكبيرات سوى تكبيرة الإحرام، حتى إذا سلَّم وقضى صلاته صعد المنبر وخطب الناس خطبة مناسبة ثم نزل، وإذا دعا رفع يديه كثيراً، وأشار بظهر كفيه إلى السماء، وجعل البطون مما يلي الأرض. ومن السُّنَّة أن تُؤدَّى هذه الصلاة في المُصلَّى، أي خارج بيوت البلد، وأن يُؤتَى لها بمنبر يقف عليه الإمام في أثناء الخطبة، وأن يخرج المصلُّون إلى المُصلَّى بخشوع وهدوء وتضرُّعٍ غير متجمِّلين باللباس، وفي كل ذلك وردت أحاديث نذكر منها ما يلي: 1- عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسقى وعليه خميصةٌ له سوداءُ، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فثقُلت عليه، فقلبها عليه الأيمنَ على الأيسر والأيسرَ على الأيمن» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي. قوله خميصة: أي كساءٌ أسودُ ثخين. 2- عن عبَّاد بن تميم عن عمِّه عبد الله بن زيد قال «خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي وحوَّل رداءه» رواه البخاري. وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم من الطريق نفسها بلفظ «فقلب رداءه» . 3- عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال «قد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استسقى لنا أطال الدعاء وأكثرَ المسألة، قال: ثم تحوَّل إلى القِبلة وحوَّل رداءه، فقلبه ظهراً لبطن، وتحوَّل الناس معه» رواه أحمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 4- وقد مرَّ قبل قليل حديث ابن عباس رضي الله عنه عند أحمد وغيره وفيه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج مُتخشِّعاً مُتضرِّعاً متواضعاً مُتَبَذِّلاً مُتَرَسِّلاً ... » . وجاء في رواية النَّسائي «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبذِّلاً متواضعاً متضرِّعاً، فجلس على المنبر ... » . 5- ومرَّ حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود وغيره « ... فأمر بمنبرٍ فوُضع له في المُصلَّى ... » . 6- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه في شئ من دعائه إلا في الاستسقاء، وأنه يرفع حتى يُرى بياضُ إبطيه» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. 7- وعنه رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسقى، فأشار بظهر كفيه إلى السماء» رواه أحمد ومسلم والبيهقي. 8- وعنه رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستسقي هكذا، يعني ومدَّ يديه، وجعل بطونهما مما يلي الأرض، حتى رأيت بياض إبطيه» رواه أبو داود. 9- عن عبَّاد بن تميم عن عمه رضي الله عنه قال «خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي، فتوجه إلى القِبلة يدعو، وحوَّل رداءه، ثم صلَّى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» رواه البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي. 10- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً يستسقي، وصلَّى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله، وحوَّل وجهه نحو القِبلة رافعاً يده، ثم قلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن» رواه أحمد وغيره. وقد مرَّ قبل قليل. 11- عن عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه قال «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المُصلَّى واستسقى، وحوَّل رداءه حين استقبل، قال إسحق في حديثه: وبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم استقبل القِبلة فدعا» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي والبيهقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 12- عن الشعبي قال «خرج عمر بن الخطاب يستسقي بالناس، فما زاد على الاستغفار حتى رجع، فقالوا: يا أمير المؤمنين ما رأيناك استسقيت، قال: لقد طلبتُ المطر بمجاديح السماء التي تستنزل بها المطر {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوْا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارَاً. يُرْسِل السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارَاً. وَيُمْدِدِْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِيْنَ} {اسْتَغْفِرُوْا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوْبُوْا إليهِ يُرْسِل السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارَاً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} » رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور. قوله مجاديح السماء: أي الأنواء الدالة على المطر، شبه الاستغفار بها. والاستسقاء الذي معناه طلب سقي الماء من الله سبحانه، كما يكون بالصلاة المخصوصة، فإنه يكون بالدعاء فقط دون صلاةٍ خاصة به، فقد يُقتصَر في الاستسقاء على مجرد الدعاء والاستغفار فحسب، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه «فما زاد على الاستغفار حتى رجع» . بمعنى أن عمر اقتصر في الاستسقاء على الاستغفار ولم يصلِّ، بدلالة رواية أخرى عند عبد الرزاق بلفظ «أن عمر بن الخطاب خرج بالناس إلى المُصلَّى، ودعا واستغفر ثم نزل، فانقلب ولم يُصلِّ» . وستأتي بعد قليل أحاديث تذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو يستسقي دون صلاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 وقد يستسقي الإمام بالدعاء فحسب في أثناء خطبة الجمعة دون صلاة استسقاء، فعن أنس رضي الله عنه قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، فقام الناس فصاحوا فقالوا: يا رسول الله قحط المطر واحمرَّت الشجر وهلكت البهائم، فادع الله أن يسقينا، فقال: اللهم اسقنا، مرتين، وايمُ اللهِ ما نرى في السماء قَزَعَةً من سحاب، فنشأت سحابةٌ فأمطرت، ونزل عن المنبر فصلى، فلما انصرف لم تزل تمطر إلى الجمعة التي تليها، فلما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، صاحوا إليه: تهدمت البيوت وانقطعت السبل فأدع الله يحبسها عنا، فتبسَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، فكَشَطَت المدينةُ، فجعلت تمطر حولها ولا تمطر بالمدينة قطرة، فنظرتُ إلى المدينة، وإنها لفي مثل الإكليل» رواه البخاري ومسلم وابن خُزَيمة وابن حِبَّان والنَّسائي. وفي رواية أخرى عند البخاري من طريق أنس رضي الله عنه « ... فادع الله أن يُغيثنا، قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه فقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا ... » . وستأتي. وفي رواية ثالثة عند البخاري بلفظ «اللهم أغِثْنا ... » . ويجوز طبعاً أن يكون الدعاء عقب الصلوات المفروضات، لأن ذلك أرجى للاستجابة. ومن الأدعية المأثورة في الاستسقاء ما يلي: أ- اللهم اسقِ عبادَك وبهائمَك وانشرْ رحمتَك وأَحْيِ بلدَك الميت. ب- اللهم اسقنا غيثاً مُغيثاً مَريئاً طَبَقَاً مُريعاً غَدَقاً عاجلاً غير رائث. ج- اللهم اسقنا غيثاً مُغيثاً مَريئاً مُريعاً نافعاً غير ضارٍّ عاجلاً غير آجل. 1- فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استسقى قال: اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأَحْيِ بلدك الميت» رواه أبو داود. ورواه مالك وعبد الرزاق دون أن يذكرا في السند عن أبيه عن جده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 2- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال «جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله لقد جئتك من عند قوم ما يتزود لهم راع، ولا يَخْطِرُ لهم فحلٌ، فصعد المنبر فحمد الله ثم قال: اللهم اسقنا غيثاً مُغيثاً مَريئاً طَبَقاً مُريعاً غَدَقاً عاجلاً غير رائث، ثم نزل، فما يأتيه أحدٌ من وجه من الوجوه إلا قالوا: قد أُحْيِينا» . قوله مَريئاً: أي طيباً. وقوله طَبَقاً: أي مُغطِّياً الأرض كثيراً. وقوله مريعاً - بضم أوله وفتحه - أي يجلب الخصب والنَّماء. وقوله غَدَقاً: أي غزيراً كبير القطرات. وقوله رائث: أي آجل. وقوله ما يتزود لهم راعٍ: أي لا يخرج لهم راعٍ لرعي المواشي لعدم وجود مراع ذات أعشاب من انحباس المطر. وقوله لا يَخْطِر لهم فحل: أي لا يحرِّك لهم ذَكَرُ الجِمال ذنبَه يمنة ويسرة لشدة ضعفه من الجوع. 3- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «أتت النبيَّ بواكي فقال: اللهم اسقنا غيثاً مُغيثاً مَريئاً مُريعاً نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، قال: فأطبقت عليهم السماء» رواه أبو داود وابن خُزَيمة. قوله بواكي: أي نساء يبكين من شدة الجدب. فإذا أنعم الله سبحانه على المسلمين بالغيث ونزل المطر، استُحِبَّ لهم أن يقولوا [اللهم صَيِّباً نافعاً] فعن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل المطر قال: اللهم صيِّباً نافعاً» رواه البخاري وأحمد والنَّسائي. قوله صيِّباً: أي مطراً أو غيثاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 فإذا اشتد نزول المطر حتى يتأذى منه الناس استُحِبَّ أن يقولوا [اللهم حوالينا ولا علينا] أو يقولوه ويزيدوا عليه [اللهم على الآكام والجبال والآجام والظِّراب والأودية ومنابت الشجر] . وليست هذه الألفاظ بلازمةٍ في الدعاء، فللمسلم أن يقول مثلاً [اللهم على التلال والجبال والمزارع والأودية والمراعي ... ] إلخ. فقد مرَّ حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري ومسلم وغيرهما وجاء فيه « ... صاحوا إليه: تهدَّمت البيوت وانقطعت السبل فادع الله يحبسها عنا، فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، فكَشَطَت المدينةُ فجعلت تمطر حولها ولا تمطر بالمدينة قطرة ... » . وعن أنس رضي الله عنه «أن رجلاً دخل يوم الجمعة من بابٍ كان وُجاه المنبر، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً فقال: يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه فقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قَزَعَة ولا شيئاً، وما بيننا وبين سَلْعٍ من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: والله ما رأينا الشمس ستاً، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فاستقبله قائماً فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يُمْسِكَها، قال فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال والآجام والظِّراب والأودية ومنابت الشجر، قال فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس» رواه البخاري. قوله وجاه المنبر - بضم أوله وكسره - أي قُبالة المنبر. وقوله في المرة الأولى [وانقطعت السبل] وفي رواية [تقطَّعت السبل] يعني أن الإبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 ضعفت من شدة الجوع فلم تعد تَعْمُر السبل فصارت السبل مهجورة. وقوله في المرة الثانية [وانقطعت السبل] يعني أن الأمطار داهمتها والسيول غمرتها فتعطل السير عليها. وقوله ولا قَزَعة: أي ولا قطعة من السحاب. وسَلْع: هو جبل غربي المدينة المنورة أي جهة قدوم السحب. والآكام: هي التلال أو الجبال الصغيرة. والآجام: هي الغابات. والظِّراب: هي الروابي الصغيرة. ويجوز للمسلمين أن يقدِّموا مَن يتوسمون فيه الفضل والصلاح يستسقون به، وقد قدَّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه العباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى أنس رضي الله عنه «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانوا إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسَّل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال فَيُسْقَوْن» رواه البخاري وابن حِبَّان وابن خُزَيمة. وإتماماً للفائدة أُقدِّم هذين الحديثين الشريفين: 1- عن أنس رضي الله عنه قال «أصابنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطر، قال، فحسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبه حتى أصابه من المطر فقلنا: يا رسول الله لِمَ صنعتَ هذا؟ قال: لأنه حديث عهدٍ بربِّه تعالى» رواه مسلم وأحمد وأبو داود. 2- عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم الريح والغيم عُرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سُرَّ به وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته فقال: إني خشيت أن يكون عذاباً سُلِّط على أمتي، ويقول إذا رأى المطر: رحمة» رواه مسلم. قوله عُرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر: يعني أن الخوف من العذاب كان يَظهَر على وجهه فلا يهدأ بل يظل يتحرك. ي. صلاة التسابيح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 حكم هذه الصلاة سُنَّة مستحبة، فهي من صلاة التطوُّع لم يختلف في هذا اثنان من العلماء. وهذه الصلاة لا وقت لها، بل تُؤدَّى في أي وقت من الليل أو النهار عدا أوقات النهي، وهي تُؤدَّى في كل يوم مرة، وإلا ففي كل أسبوع مرة، وإلا ففي كل شهر مرة، وإلا ففي كل سنة مرة، وإلا ففي العمر كله مرة، ويكفي هذه الصلاة فضلاً أنها تغفر جميع الذنوب على اختلاف أنواعها. وصلاة التسابيح أو صلاة التسبيح يمكن تأديتها منفرداً، أو في جماعة، في البيت أو في المسجد أو في أي مكان، لأنه لم يرد في ذلك أي تقييد، فيبقى الأمر على إطلاقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 أما كيفية هذه الصلاة فهي كالتالي: تُصلِّي هذه الصلاة أربع ركعات تقرأ في الركعة الأولى الفاتحة وسورة أو بعض سورة، ثم تقول وأنت واقف [سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر] خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقول وأنت راكع الذِّكرَ نفسَه ولكن عشر مرات، ثم تعتدل قائماً فتقوله عشر مرات، ثم تسجد فتقوله وأنت ساجد عشر مرات، ثم تعتدل في الجلوس فتقوله عشر مرات، ثم تسجد ثانية فتقوله وأنت ساجد عشر مرات، ثم تعتدل ثانية في الجلوس فتقوله عشر مرات، ثم تنهض للركعة الثانية فتفعل فيها ما فعلت في الركعة الأولى، ثم تفعل في الركعة الثالثة وفي الركعة الرابعة ما فعلته في الركعة الأولى وفي الثانية، ثم تسلِّم. وبذلك تكون قد قلت هذا الذكر ثلاثمائة مرة، خمساً وسبعين مرة في كل ركعة، فعن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للعباس بن عبد المطلب «يا عباس يا عمَّاه ألا أُعطيك، ألا أمنحك، ألا أَحْبوك، ألا أفعل بك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غَفَر الله لك ذنبك أوله وآخره قديمَه وحديثَه، خطأه وعمده صغيره وكبيره، سرَّه وعلانيته، عشر خصال؟ أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم قلت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، خمس عشرة مرة ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشراً، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً، ثم تهوي ساجداً فتقولها وأنت ساجد عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، ثم تسجد فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك فتقولها عشراً، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصلِّيها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة» رواه أبو داود والحاكم وابن خُزَيمة وابن ماجة والبيهقي. قوله أحبوك: أي أُعطيك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 وأُوثِرك. وقوله عشر خصال: هي التسبيحات التي تتكرر عشراً عشراً ما عدا حالة القيام، فذكر الأعمَّ الأغلب. وخرَّج هذا الحديث ابن ماجة والترمذي من طريق أبي رافع أيضاً وفي سنده موسى بن عبيدة مختلف عليه، منهم من وثَّقه ومنهم من ضعَّفه، وجاء فيه «فصلِّ أربع ركعات تقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، فإذا انقضت القراءة فقل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، خمس عشرة مرة قبل أن تركع، ثم اركع فقلها عشراً ثم ارفع رأسك فقلها عشراً، ثم اسجد فقلها عشراً، ثم ارفع رأسك فقلها عشراً، ثم اسجد فقلها عشراً، ثم ارفع رأسك فقلها عشراً قبل أن تقوم، فتلك خمس وسبعون في كل ركعة، وهي ثلاثُمائة في أربع ركعات، فلو كانت ذنوبك مثل رملِ عالجٍ غفرها الله لك ... » . وعالج: هو اسم موضع. ك. صلاة الاستخارة الاستخارة مصدر استخار بمعنى طلب الخِيرة، وهو هنا طلب الخِيرة في الأمر واستعلام ما عند الله سبحانه فيه. والاستخارة دعاء، ولكنه دعاء شُرع أن يُؤدَّى بصلاة مشروعة كالاستسقاء. وكما قلنا في بحث صلاة الاستسقاء (كما يكون بالصلاة المخصوصة، فإنه يكون بمجرد الدعاء دون صلاة خاصة به) ، فإنا نقول هنا إنه يجوز أن يستخير المسلم ربَّه مقتصراً في ذلك على الدعاء فحسب، ولا يصلِّي له صلاة خاصة، فيقول مثلاً: ربِّ خِرْ لي في مسألة كذا وكذا، أو اللهم إني أستخيرك في الموضوع الفلاني، ويكتفي بذلك، ولكنه إن أداه بصلاة خاصة به فهو أفضل وأرجى للاستجابة. وصلاة الاستخارة مسنونة مندوبة، وهي ركعتان اثنتان، ويجوز أن تكون أكثر من ذلك، فلا بأس بأن يصلي المستخير ركعتين ثم ركعتين مثلاً قبل أن يدعو دعاء الاستخارة. ولا يُبنى دعاءُ الاستخارة على صلاة مفروضة ولا نافلة غير مقصودة منها الاستخارة، بل لا بد لها من صلاة خاصة بها حتى تكون صلاةَ استخارةٍ فعلاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 أما صفة الاستخارة فكما يلي: تصلِّي لله سبحانه ركعتين بنية الاستخارة، وبعد التسليم تدعو بما يلي [اللهم إني أستخيرُك بعلمِك وأستقدرُك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علاَّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر - وتذكره هنا - خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - ولك أن تقول بدل وعاقبة أمري: وعاجل أمري وآجله - فاقْدُرْه لي ويسِّره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويمكنك أن تذكره هنا مرة ثانية - شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - ولك أن تقول بدل وعاقبة أمري: وعاجل أمري وآجلِه - فاصرفه عني واصرفني عنه، واْقْدُرْ لي الخيرَ حيث كان ثم أرضني به] . فلو أراد مثلا أن يستخير ربه في اختيار فتاة اسمها فاطمة زوجةً له، فإنه يقول هكذا [اللهم إن كنت تعلم أن زواجي من فاطمة خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو يقول: اللهم إن كنت تعلم أن زواجي من فاطمة خير لي في ديني ومعاشي وعاجل أمري وآجله - فاْقْدُرْهُ لي ويسِّرْه لي ثم باركْ لي فيه، وإن كنت تعلم أن زواجي من فاطمة شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو يقول: وإن كنت تعلم أن زواجي من فاطمة شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاجلِ أمري وآجلِه - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقْدُر لي الخيرَ حيث كان، ثم أرْضِني به] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 وبعد أن يصلي الركعتين ويدعو بهذا الدعاء يترك ميله السابق للأمر الذي استخار الله سبحانه فيه، وينتظر ما يُوقعه الله سبحانه في قلبه من ميل له أو ميل عنه، فإن هو لم يُحسَّ بهذا الميل من أول صلاة كرر الصلاة مرة ومرتين وثلاثاً و ... حتى يحصل الميل، فيتصرف حسبه سلباً أو إيجاباً، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: إذا همَّ أحدُكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علاَّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجلِ أمري وآجلِه - فاقْدُرْهُ لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجلِه - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقْدُرْ ليَ الخيرَ حيث كان ثم أَرضني به. قال، ويسمِّي حاجته» رواه البخاري وأحمد والترمذي. ورواه ابن ماجة وفيه «..اللهم إن كنت تعلم هذا الأمر - فيسمِّيه ما كان من شئ - خيراً لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري - أو خيراً لي في عاجل أمري وآجلِه - فاقدُره لي ويسِّره لي وبارك لي فيه، وإن كنت تعلم - يقول مثل ما قال في المرة الأولى - وإن كان شراً لي فاصرفه عني واصرفني عنه واقدُر لي الخير حيثما كان ثم رضِّني به» . وروى الحديث أبو يَعْلَى من طريق أبي سعيد رضي الله عنه وزاد في آخره «لا حول ولا قوة إلا بالله» . فمن أحب زيادتها فلا بأس. قوله أستقدرك: أي أطلب منك أن تجعل لي قدرةً عليه. وروى أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «أُكْتُم الخِطبة، ثم توضأ فأحسن وضوءك، ثم صلِّ ما كتب الله لك، ثم احمد ربك ومجِّده ثم قل: اللهم إنك تقدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 ولا أقدِر، وتعلم ولا أعلم وأنت علاَّم الغيوب، فإن رأيت لي فلانة، تسميها باسمها، خيراً لي في ديني ودنياي وآخرتي فاقْدُرْها لي، وإن كان غيرها خيراً لي منها في ديني ودنياي وآخرتي فاقض لي بها أو قال فاقْدُرْها لي» رواه الحاكم وأحمد. قوله ثم صلِّ ما كتب الله لك: يفيد جواز الزيادة على الركعتين. ويلاحظ في الحديثين أن ألفاظهما اختلفت، فهذا الاختلاف يدل على أن القصد من الدعاء هو المعنى وليس ذات اللفظ، وإن كان لفظ البخاري أفضل وأولى بالأخذ. ولم يرد في النصوص ما يفيد تحديد سور القرآن وآياته عند قراءة ما تيسَّر منها في صلاة الاستخارة، فليقرأ المسلم ما شاء من سور القرآن وآياته. وقد حث الشرع الحنيف على الاستخارة، وجعلها مشروعة في كل الأمور صغيرِها وكبيرِها، ففي رواية البخاري «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلِّمنا الاستخارةَ في الأمور كلها» . فلا يستنكف المسلم عن استخارة الله سبحانه في أي أمر خفيَ عليه فيه وجهُ الحق والصواب كبيراً كان أو صغيراً، جليلاً كان أو حقيراً، وله في كل ذلك ثواب. أما الأمور التي يظهر فيها الحق والصواب فلا تشرع فيها الاستخارة، فإقدامه على الجهاد، أو على الإنفاق على أهله، أو على أداء العمرة، أو على زرع الأرض، أو على نهيه فلاناً عن شرب الخمر، كل هذه الأمور وأمثالها لا استخارة فيها لظهور الحق فيها والصواب. وبالاستخارة تُنال السعادة وبتركها يُنال الشقاء، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من سعادة ابن آدم استخارته الله، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله، ومن شِقْوة ابن آدم تركه استخارة الله، ومن شِقْوة ابن آدم سخطه بما قضاه الله عزَّ وجلَّ» رواه أحمد والحاكم والبزَّار والترمذي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 وأخيراً أقول إن كثيراً من الناس يعمدون بعد الاستخارة إلى النوم وينتظرون أن يريهم الله سبحانه مناماً فيه الجواب على استخاراتهم، لذا فهم يؤخِّرون صلاة الاستخارة إلى ما بعد صلاة العشاء، وقبل أن يناموا يُصلُّون صلاة الاستخارة، ثم ينامون منتطرين من الله سبحانه أن يُريهم في منامهم ما استخاروه فيه، فهذه الكيفية ـ وتسمى التبييت ـ لا أصل لها في الشرع، فالأفضل ترك التبييت في الاستخارة، والوقوف عند ما دلت عليه النصوص. ل. سجدة التلاوة في القرآن الكريم عدد من المواضع إذا مرَّ بها القارئ استُحبَّ له أن يسجد لله سبحانه سجدة واحدة هي سجدة التلاوة، أو سجود التلاوة. فقد حث الشرع على السجود عند المرور بهذه المواضع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله أُمِر بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرت بالسجود فعصيت فلي النار» رواه أحمد ومسلم وابن ماجة وابن حِبَّان والبيهقي. قوله السجدة: يعني الآية التي فيها سجدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 أما أن حكم هذه السجدة الندب وليس الوجوب فلأنه عليه الصلاة والسلام سجد مرات، وترك السجود مرات أخرى مما يجعل الأمر بالسجود محمولاً على الندب وليس على الوجوب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ النجم فسجد وسجد الناس معه إلا رجلين أرادا الشهرة» رواه أحمد والطبراني وابن أبي شيبة. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم بمكة فسجد فيها، وسجد من معه غيرَ شيخٍ أخذ كفَّاً من حصى أو تراب، فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته بعد ذلك قُتل كافراً» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي وأبو داود. وقد قيل إن الشيخ المذكور في هذا الحديث هو أمية بن خلف. وعن عطاء بن يسار أنه «سأل زيد بن ثابت رضي الله عنه، فزعم أنه قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - والنجم فلم يسجد فيها» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي وأبو داود. وكذلك كان صحابته رضوان الله عليهم يفعلون، فقد كانوا يسجدون مرة، ولا يسجدون مرة أخرى، فعن ربيعة بن عبد الله «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس إنَّا نمرُّ بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر رضي الله عنه» . وفي رواية أخرى عن ابن عمر قوله - «إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء» رواه البخاري والبيهقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 أما المواضع التي يُستحب عندها السجود، فهناك مواضع متفق عليها، وهناك مواضع مختلف عليها. أما المواضع المتفق عليها فهي في السور التالية: الأعراف، الرعد، النحل، الإسراء، مريم، الحج، الفرقان، النمل، ألم تنزيل، وحم السجدة، وعددها عشر. وأما المواضع المختلف عليها فهي في السور التالية: السجدة الثانية في سورة الحج فقد أثبتها أحمد والشافعي، سورة ص فقد أثبتها أبو حنيفة وأحمد ومالك، سور المُفَصَّل الثلاث: النجم والانشقاق والعلق، فقد أثبتها أبو حنيفة والشافعي وأحمد، ونعني بالمُفَصَّل ما يبدأ بسورة الحُجُرات وينتهي بسورة الناس، ومجموع هذه السجدات خمسٌ، فيكون مجموع السجدات المتفق عليها والمختلف عليها خمس عشرة سجدة لم يثبتها كلها إلا الإمام أحمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 والذي أراه وأذهب إليه هو أن جميع السجدات الخمس عشرة يُسن فيها السجود ويُستحب، باستثناء سجدة (ص) ، فإني أرى أن السجود فيها على الإباحة والتخيير، فمن شاء سجد بها ومن شاء تركها. قال ابن عباس رضي الله عنه «ص ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها» رواه البخاري وأحمد وأبو داود والدارمي والترمذي. فقوله رضي الله عنه «ص ليست من عزائم السجود» واضح الدلالة. وعن أبي سعيد الخُدري قال «قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر ص، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يومٌ آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تَشَزَّن الناسُ للسجود، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تشزَّنتم للسجود، فنزل فسجد وسجدوا» رواه أبو داود والدارمي وابن حِبَّان والحاكم والدارقطني. قوله تَشَزَّنَ الناسُ: أي تهيأوا.فقد وصفها - صلى الله عليه وسلم - بأنها توبة نبي - يعني نبي الله داود عليه السلام - ولولا أنه رأى تهيؤ الناس للسجود لما سجد، ووقع في روايةٍ للنَّسائي من طريق ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في ص وقال: سجدها داود توبة ونسجدها شكراً» . فمن شاء سجد في (ص) ، ومن شاء تركها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 أما سجدة الحج الثانية فهي ثابتة فلا ينبغي إسقاطها، إذ وردت فيها آثار كثيرة عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه «أنه سجد في الحج سجدتين ثم قال: إن هذه السورة فُضِّلت على سائر السور بسجدتين» . وروى مالك مثل هذا الأثر. وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه قال «في سورة الحج سجدتان» . وروى عبد الرزاق من طريق عبد الله بن دينار قال «رأيت ابن عمر يسجد في الحج سجدتين» . كما رُويت آثارٌ أخرى عن عدد من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يسجدون في سورة الحج سجدتين. وهذه النصوص وإنْ كانت آثاراً إلا أنها تدلُّ على المطلوب، لأن مثل هذه الأُمور لا يفعلها صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند أنفسهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 وأما سَجَدات المُفَصَّل الثلاث - النجم والانشقاق والعلق - فقد استدل ناس على عدم السجود فيها بأحاديث، منها ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في شئ من المُفَصَّل منذ تحوَّل إلى المدينة» رواه أبو داود. وما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال «قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم فلم يسجد» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. فنقول لهؤلاء أما الحديث الأول ففي إسناده أبو قُدامة واسمه الحارث بن عبيد، قال عنه أحمد: مضطرب الحديث. وقال عنه أبو حاتم: لا يُحتجُّ به. وهذا الحديث ضعفه يحيى بن معين والنووي، فهو غير صالح للاحتجاج. أما الحديث الثاني فإن عدم سجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند قراءة موضع سجدة لا يعني أن الموضع ليس موضع سجدة، إذ يحتمل أن يكون امتناعه عن السجود لبيان عدم الوجوب فحسب، فإذا علمنا أن هناك عدداً من الأحاديث تذكر سجوده - صلى الله عليه وسلم - عند هذا الموضع، أدركنا فعلاً أن امتناعه عن السجود إنما كان لبيان عدم الوجوب. فقد مرَّ قبل قليل حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عند البخاري وغيره وفيه «قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم بمكة، فسجد فيها وسجد من معه ... » . ومرَّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ النجم فسجد، وسجد الناس معه ... » رواه أحمد وغيره. فامتناعه - صلى الله عليه وسلم - عن السجود مرة عند قراءة النجم يُحمل على أنه أراد بيان عدم الوجوب، ولا يدل على أن هذه السورة ليس فيها سجود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 وأما سجدتا الانشقاق والعلق فقد وردت فيهما أحاديث تثبتهما، منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في - إذا السماء انشقَّت، واقرأ باسم ربك -» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائي. وعن أبي رافع قال «صليت مع أبي هريرة العَتَمَة فقرأ - إذا السماء انشقَّت - فسجد، فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. وقد مرَّ في بحث [قراءة القرآن في الصلوات الخمس] فصل [صفة الصلاة] . فالمستحب السجود عند هذه المواضع الأربع عشرة، ولا بأس بالسجود عند سجدة ص. وكما أن السجود للقارئ مستحبٌّ، فكذلك السجود لمن حضر التلاوة من سامع ومستمع مُستحبٌ أيضاً، ولكنَّ سجود السامع والمستمع رهنٌ بسجود القارئ، فإن لم يسجد القارئ لم يسجد مَن عنده، فالقارئ إمامُ من حضر التلاوة، وبدون الإمام هذا لا سجود للحاضرين، فقد مرت الأحاديث «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ النجم فسجد، وسجد الناس معه ... » . «قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم بمكة فسجد فيها، وسجد من معه ... » . «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس ... » . «قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر ص فلما بلغ السجدة نزل فسجد، وسجد الناس معه ... » . «سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في - إذا السماء انشقَّت، واقرأ باسم ربك -» . «سجدتُ بها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -» . فهذا في السجود خلف القارئ إن هو سجد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 أما الدليل على أن الحاضرين لا يسجدون إن لم يسجد القارئ فما روى زيد بن أسلم «أن غلاماً قرأ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - السجدة، فانتظر الغلامُ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد، فلما لم يسجد قال: يا رسول الله أليس في هذه السورة سجدة؟ قال: بلى ولكنك كنت إمامَنا فيها، فلو سجدتَ لسجدنا» رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق. ورواه البيهقي والشافعي من طريق عطاء بن يسار. وهذا الحديث وإن كان مرسلاً، فإنه يصلح للاستدلال، لأن سقوط اسم الصحابي لا يضعف الحديث، فالصحابة كلهم عدول. ويستحب سجود التلاوة في الصلاة كاستحبابه خارجها، ويُستحب في صلاة الفريضة والنافلة على السواء، فقد مرَّ حديث أبي رافع قبل قليل عند البخاري وغيره وفيه «صليت مع أبي هريرة العَتَمَةَ فقرأ - إذا السماء انشقَّت - فسجد ... » . والعَتَمَة هي صلاة العشاء. أما صفة سجدة التلاوة فكالتالي: يكبر ويسجد ويقول [سبحان ربي الأعلى] ثلاثاً، ويضيف إن شاء ما يلي [سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره وشقَّ سمعَه وبصرَه بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين] ويضيف إن شاء [اللهم احْطُطْ عني بها وِزْراً، واكتب لي بها أجراً، واجعلها لي عندك ذُخْراً، وتقبَّلْها مني كما تقبَّلْتَها من عبدك داود] . ويمكنه أن يكرر هذين الدعاءين ثلاثاً، ثم يرفع ويسلِّم عن يمينه وعن يساره ولا يتشهد. أما عن التكبير فقد روى نافع عن ابن عمر قال «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا القرآن، فإذا مرَّ بالسجدة كبَّر وسجد وسجدنا» رواه أبو داود والبيهقي وعبد الرزاق. وعن عبد الله ابن مسلم قال «كان أُبيٌّ إذا قرأ السجدة قال الله أكبر ثم سجد» رواه ابن أبي شيبة. ولم يُرو عن صحابي أنه ترك التكبير أو أمر بتركه عند سجود التلاوة. أما عن تسبيحة [سبحان ربي الأعلى] فقد مرت ثلاثة أحاديث في ذلك، أعني ذكر [سبحان ربي الأعلى] في السجود هي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 أ - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال « ... فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال: اجعلوها في سجودكم» رواه أحمد وابن ماجة وابن حِبَّان. ب - عن أبي بَكْرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح في ركوعه سبحان ربي العظيم، ثلاثاً، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى» رواه البزَّار. ج - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه « ... وإذا سجد قال سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات» رواه ابن ماجة. وتجدونها كاملة في بحث [الركوع وهيئته والذِّكر فيه] فصل [صفة الصلاة] . وحيث أن سجدة التلاوة هي سجود، فإنَّ السُّنَّة أن يقال فيها [سبحان ربي الأعلى] ثلاثاً. أما عن الذكر الثاني [سجد وجهي ... ] إلخ، فقد ورد فيه عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجود القرآن: سجد وجهي للذي خلقه وشقَّ سمعه وبصره بحوله وقوته» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي. ورواه الترمذي والحاكم وزادا «فتبارك الله أحسن الخالقين» . كما رواه البيهقي وابن أبي شيبة وزادا «وصوَّره» بعد قوله «خَلَقَه» . ورواه ابن السكن وقال في آخره «ثلاثاً» . وأما عن الذكر الثالث، فقد ورد فيه عن ابن عباس رضي الله عنه قال «كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه رجل فقال: إني رأيت البارحة فيما يرى النائم كأني أُصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدة فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها تقول: اللهم احْطُطْ عني بها وِزْراً، واكتب لي بها أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً، قال ابن عباس: فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ السجدة فسجد، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة» رواه ابن ماجة. ورواه الترمذي وابن حِبَّان وزادا «وتقبلها مني كما تقبَّلتَها من عبدك داود» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 أما عن التسليم، فقد ذكر ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن عدد من التابعين أنهم كانوا إذا فرغوا من سجدة التلاوة سلَّموا، ولم أقف على حديثٍ مرويٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من صحابته عن شئ من هذا، لا نفياً ولا إثباتاً، ولكن حيث أن سجدة التلاوة هي صلاة، ولها تكبيرة الإحرام، فإن الأصل أن يكون لها تحليلٌ من الإحرام بالتسليم، وقد مرَّ حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أحمد والترمذي. أُنظروا بحث [حكم تكبيرة الإحرام] فصل [صفة الصلاة] . ومما يدل كذلك على أن سجدة التلاوة صلاة وأنها بالتالي تأخذ حكم الصلاة في التسليم ما مرَّ قبل قليل عن زيد بن أسلم « ... ولكنك كنت إمامنا فيها، فلو سجدت لسجدنا» رواه ابن أبي شيبة وغيره. فقارئ القرآن إذا سجد ائتمَّ به الحاضرون، واتخذوه إماماً فسجدوا معه، ولا يكون ذلك لولا أن سجدة التلاوة صلاة. ويترتَّب على هذا أن هذه السجدة يلزمها الوضوء والطهارة الكاملة في البدن والثوب والموضع كسائر الصلوات، كما يلزمها استقبال القِبلة لأنها صلاة، إلا أن يكون راكباً فلا بأس بعدم الاستقبال، كسائر صلوات التطوُّع إن هي أُدِّيت على الدابة، أو في السيارة أو في السفينة، أو في الطائرة أو في غير ذلك. أما في أوقات النهي فإن سجدة التلاوة جائزة لأنها صلاة لها سبب، ويكون وقت هذه السجدة عند القراءة حيثما حصلت، مثلها مثل تحية المسجد وصلاة الكسوف مثلاً. م. سجدة الشكر وصلاة الشكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 يُستحب للمسلم عند حصول نعمة أو زوال مضرَّة أن يسجد لله سبحانه سجدة، وهذه السجدة - وتسمى سجدة الشكر - مماثلة لسجدة التلاوة من حيث التكبير والسجود والذكر فيها، والرفع والتكبير والتسليم، كما أنه يجب لهذه السجدة ما يجب لسجدة التلاوة وأية صلاة أخرى من وضوء وستر عورة وطهارة ثوب وطهارة موضع واستقبال القِبلة ووجود نية وهكذا، فعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتبعته حتى دخل نخلاً، فسجد فأطال السجود حتى خفت أو خشيت أن يكون الله قد توفاه أو قبضه، قال فجئت أنظر، فرفع رأسه فقال: ما لك يا عبد الرحمن؟ قال: فذكرت ذلك له فقال: إن جبريل عليه السلام قال لي: ألا أبشرك؟ إن الله عزَّ وجلَّ يقول لك: من صلى عليك صليتُ عليه، ومن سلَّم عليك سلَّمتُ عليه» رواه أحمد والحاكم والبيهقي. ومن طريق ثانية لأحمد والبيهقي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بلفظ « ... فقال: إن جبريل عليه السلام أتاني فبشَّرني فقال: إن الله عزَّ وجلَّ يقول: من صلى عليك صليتُ عليه، ومن سلَّم عليك سلمتُ عليه، فسجدت لله عزَّ وجلَّ شكراً» . وعن البراء رضي الله عنه قال «بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث علي بن أبي طالب وأمره أن يُقفل خالداً ومَن كان معه، إلا رجل ممن كان مع خالد أحب أن يعقب مع علي رضي الله عنه فلْيعقب معه، قال البراء: فكنت ممن عقب معه، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا فصلى بنا علي رضي الله عنه، وصفَّنا صفاً واحداً، ثم تقدم بين أيدينا فقرأ عليهم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمت همدان جميعاً، فكتب علي رضي الله عنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامهم، فما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب خر ساجداً، ثم رفع رأسه فقال: السلام على همدان، السلام على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 همدان» رواه البيهقي. وعن أبي بَكرةَ رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه أمرٌ يَسُرُّه أو يُسَرُّ به خرَّ ساجداً شكراً لله تبارك وتعالى» رواه ابن ماجة والحاكم والدارقطني وأبو داود والترمذي. وعنه رضي الله عنه «أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه بشير يبشرِّه بظفرِ جندٍ له على عدوهم، ورأسه في حِجْر عائشة رضي الله عنها، فقام فخر ساجداً ... » رواه أحمد. فهذه أدلة على مشروعية سجدة الشكر. وعن عبد الله بن أبي أوفى «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى يوم بُشِّر برأس أبي جهل ركعتين» رواه ابن ماجة. ورواه البزَّار ولفظه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين حين بُشِّر بالفتح، وحين بُشِّر برأس أبي جهل» . فهذا دليل على مشروعية صلاة الشكر، وأنها ركعتان اثنتان، فمن شاء سجد سجدة واحدة، ومن شاء صلى ركعتين، وكل ذلك خير. ن. الصلاة بعد الفراغ من الطواف عند المقام يُسن لمن دخل البيت الحرام وطاف حول الكعبة سبعة أشواط أن يصلي ركعتين خلف مَقام إبراهيم عليه السلام جاعلاً المَقام بينه وبين الكعبة، وتسمى هاتان الركعتان ركعتي الطواف، قال الله عزَّ وجلَّ {وَإذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً للنَّاسِ وَأَمْنَاً وَاتَّخِذُوْا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيْمَ مُصَلَّىْ وَعَهِدْنَا إلى إبْرَاهِيْمَ وَإسْمَاعِيْلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتيَ للطَّائِفِيْنَ والعَاكِفِيْنَ وَالرُّكَّعِ السُّجُوْدِ} الآية 125 من سورة البقرة. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله لو اتخذت المقام مُصلَّى، فأنزل الله: وَاتَّخِذُوْا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيْمَ مُصَلَّىْ» رواه الطبري في تفسيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 والسنة أن يصلي ركعتين، ويقرأ في الأولى منهما قل هو الله أحد، وفي الثانية قل يا أيها الكافرون، إنْ هو أراد الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قراءته، فعن جعفر عن أبيه قال «أتينا جابر بن عبد الله فسألناه عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث بطوله وقال: إذا فرغ - يريد من الطواف - عمد إلى مَقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وتلا - وَاتَّخِذُوْا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيْمَ مُصَلَّىْ - قال: أي يقرأ فيهما بالتوحيد وقل يا أيها الكافرون» رواه ابن خُزيمة. ورواه مسلم من طريق جابر مطولاً في صفة حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاء فيه « ... حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: واتَّخِذوا من مَقام إبراهيم مُصلَّى، فجعل المَقام بينه وبين البيت، فكان أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يقرأ في الركعتين: قل هو الله أحد، وقل يا أيها الكافرون ... » رواه أحمد. ورواه أبو داود وابن ماجة والترمذي قريباً منه. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال « ... وسمعته - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - يقول: من طاف أُسبوعاً يُحصيه، وصلى ركعتين كان له كعدل رقبة ... » رواه أحمد. قوله أُسبوعاً يُحصيه: أي سبعة أشواط يَعُدُّها. وهذه السُّنَّة - أعني صلاة ركعتين خلف المَقام ومثلها الطواف حول الكعبة من قِبَلِ مَن يدخلُ المسجد الحرام - يؤدَّيان في كل وقت من ليل أو نهار دون كراهة، وهذه ميزة ميَّز الله سبحانه بها بيته الحرام دون سواه من بقاع الأرض، فليس في البيت الحرام وقت نهي كراهة ونهي تحريم لأية صلاة كانت، فريضة أو تطوعاً، فقد روى جبير بن مطعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلَّى أيةَ ساعةٍ شاء من ليلٍ أو نهار» رواه الترمذي وأحمد وأبو داود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 والنَّسائي وابن ماجة. ومَقام إبراهيم هو المكان الذي كان يقف فيه إبراهيم عليه السلام على حَجَرٍ حين كان يبني الكعبة مع ولده إسماعيل عليه السلام. س. الصلاةُ عَقِبَ الأذان تُندب الصلاةُ عقب الأذان وقبل الإقامة للصلوات المفروضة، فعن عبد الله بن مغفَّل رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، ثم قال في الثالثة: لمن يشاء» رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد. ويقصد بالأذانين الأذان والإقامة. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كان المؤذن إذا أذن قام ناسٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري، حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم كذلك، يُصلُّون الركعتين قبل المغرب، لم يكن بين الأذان والإقامة شئ» رواه البخاري ومسلم والنَّسائي وابن حِبَّان وأحمد. وقد مرَّ في بحث [السنن الملحقة بالسنن الراتبة المؤكدة] . ع. الصلاةُ عَقِبَ الوضوء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 يُسن للمسلم إذا هو توضأ أن يصلي ركعتين، لما روى حُمْران مولى عثمان رضي الله عنه «أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاث مِرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مِرار إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يُحَدِّث فيهما نفسه غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه» رواه البخاري ومسلم وأبو داود. ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال عند صلاة الفجر: يا بلال حدِّثني بأرجى عمل عملتَه في الإسلام، فإني سمعت دُفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة؟ قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أنِّي لم أتطهر طُهوراً في ساعةِ ليلٍ أو نهار إلا صليت بذلك الطُّهور ما كُتب لي أن أُصلي» رواه البخاري ومسلم وأحمد. ولما رُوي عن عقبة بن عامر أنه قال «كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي فروَّحتُها بعَشيٍّ، فأدركتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً يحدِّث الناس، فأدركت من قوله: ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلٌ عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة ... » رواه مسلم وأبو داود وابن خُزَيمة والنَّسائي. الأوقاتُ المنهيُّ عن الصلاة فيها إنما وضعتُ هذا البحث في فصل [صلاة التطوع] لأن أكثره يتعلق بصلاة التطوع وليس بصلاة الفريضة، وهذه الأوقات خمسة منها ثلاثة متعلقة بحركة الشمس فحسب، هي: أ - عند بدء بزوغ الشمس حتى ترتفع فوق الأفق الشرقي وتبيَضَّ. ب - عند استواء الشمس في قُبَّة السماء بحيث يسقط ظلُّ كلِّ شئٍ خلفه، لا يميل إلى جهة المشرق ولا إلى جهة المغرب. ج - عند اصفرار الشمس وتَدَلِّيها جهة المغرب حتى تختفي تماماً وراء الأفق الغربي. ومنها وقتان اثنان يتدخل فِعلُ المصلِّي في تحديدهما، هما: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 أ - ما بعدَ أن يصلي المسلم فريضة الصبح حتى بزوغ الشمس. ب - ما بعد أن يصلي المسلم فريضة العصر حتى اصفرار الشمس وتَدَلِّيها جهة المغرب. وقد وردت هذه الأوقات الخمسة متفرقة في الأحاديث التالية: 1 - عن عقبة بن عامر الجُهَني رضي الله عنه قال «ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تَضَيَّفُ الشمس للغروب حتى تغرب» رواه مسلم وأبو داود وأحمد والترمذي والنَّسائي. قوله حين يقوم قائم الظهيرة: أي حال استواء الشمس وحين لا يبقى للشئ الواقف ظلٌ في المشرق ولا في المغرب. وقوله تَضيَّف: أي تميل. 2 - عن أبي عبد الله الصُّنابِحِي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الشمس تطلع بين قَرْني شيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا كانت في وسط السماء قارَنَها، فإذا دَلكَت أو قال زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها، فلا تُصلُّوا هذه الثلاث ساعات» رواه أحمد ومالك والنَّسائي وابن ماجة. قوله دلكت أو قال زالت: أي مالت عن كبد السماء ووسطه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 3 - عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها» رواه البخاري ومالك وابن خُزَيمة ومسلم. وفي رواية ثانية لمسلم «إذا بدا حاجب الشمس فأَخِّروا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فأخِّروا الصلاة حتى تغيب» . وروى أحمد والنَّسائي ومسلم من طريق ابن عمر رضي الله عنه أيضاً بلفظ «لا تتحَرَّوْا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان، فإذا طلع حاجب الشمس فلا تُصلُّوا حتى يبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فلا تُصلُّوا حتى تغيب» . قوله إذا بدا حاجب الشمس: أي إذا ظهر طرف الشمس العلوي. وقوله إذا غاب حاجب الشمس: أي إذا اختفى طرفُ الشمس السفلي وراء الأُفق. 4 - عن سَمُرَة بن جُنْدُب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تُصلُّوا حين تطلع الشمس ولا حين تسقط، فإنها تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان» رواه أحمد. قوله تطلع ... وتغرب بين قرني شيطان: يعني أن الشيطان يستشرفها ليُغوي بها الناس آنذاك. الحديثان الأول والثاني ذكرا الأوقات الثلاثة المتعلقة بحركة الشمس فحسب، والحديثان الثالث والرابع ذكراً وقتين اثنين فقط من هذه الأوقات الثلاثة نفسها. وإليكم جملةً من الأحاديث التي ذكرت الوقتين اللذين يتدخل فِعْل المصلي في تحديدهما، أو قولوا في تحديد طرفٍ واحدٍ لكل منهما: 1 - عن عمر رضي الله عنه أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا صلاةَ بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاةَ بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس» رواه أبو داود وأحمد. 2 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «صلاتان لا يُصلَّى بعدهما، الصبح حتى تطلع الشمس، والعصر حتى تغرب الشمس» رواه أحمد وابن حِبَّان وأبو يعلى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 3 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس» رواه البخاري ومسلم. وقد مرَّ الحديثان الأولان بتمامهما، والحديث الثالث بالإشارة إليه في بحث [السنن الراتبة المؤكدة] من هذا الفصل [صلاة التطوع] . 4 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاتين: بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس» رواه البخاري. ذكرت هذه الأحاديث الأربعة الوقتين اللذين يتدخل فِعْلُ المصلي في تحديد طرف كل واحد منهما، وهو الطرف الأول من كل منهما، ونعني بذلك أن وقت النهي الأول يبدأ عقب فراغ المصلي من صلاته هو للصبح، فإنْ هو تقدَّم في صلاة الصبح أو تأخر فإن الوقت يعقب صلاته في الحالتين، فيكون وقت النهي طويلاً في الحالة الأولى، ويكون قصيراً في الحالة الثانية، وهذا الطول وهذا القصر لوقت النهي إنما كان بفعل المُصلِّي نفسه، وقل مثل ذلك بخصوص وقت النهي الثاني، فإنه يبدأ عقب فراغ المصلي من صلاته هو للعصر، فإن هو تقدم في صلاة العصر أو تأخر فإن الوقت يعقب صلاته في الحالتين، فيطول ويقصر تبعاً لذلك، فالمصلي يحدِّد الطرف الأول من طرفي الوقتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 وإليكم هذا الحديث الذي ذكر هذين الوقتين إضافةً إلى أوقات النهي المتعلقة بحركة الشمس فحسب، أي أن هذا الحديث قد جمع أوقات النهي كلها: عن عمرو بن عبسة السُّلَمِي رضي الله عنه قال « ... فقلت: يا نبي الله أخبرني عما علَّمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة، قال: صلِّ صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صلِّ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإنَّ حينئذ تُسْجَرُ جهنم، فإذا أقبل الفئ فصلِّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار ... » رواه مسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. وقد مرَّ في بحث [السنن الراتبة المؤكدة] من هذا الفصل [صلاة التطوع] . وروى أحمد وابن ماجة هذا الحديث من طريق صفوان بن المعطّل باختلاف في الألفاظ. ولتوضيح الموضوع أكثر أقول إن هذه الأوقات الخمسة تحصل في اليوم والليلة كالتالي: 1 - من بعد أن يصلي المسلم صلاة الصبح حتى يظهر طرف الشمس العلوي عند البزوغ، وهذا مما يتدخل المصلي في تحديد أحد طرفيه، وهو الطرف الأول. 2 - من بعد أن يبدأ بزوغ الشمس حتى ترتفع وتبيضَّ، وهذا من الأوقات الثلاثة المتعلقة بحركة الشمس فحسب. 3 - عندما تبلغ الشمس منتصف السماء، وهو وقت قصير، وهذا من الأوقات الثلاثة المتعلقة بحركة الشمس فحسب. 4 - بعدما يصلي المسلم صلاة العصر يبدأ الوقت الثاني الذي يتدخل المصلي في تحديد طرفه الأول. 5 - عند اصفرار الشمس يبدأ الوقت الثالث من الأوقات التي تتعلق بحركة الشمس فحسب، وينتهي بغياب طرف الشمس العلوي وراء الأفق الغربي. وإن نحن أحببنا دمج الوقتين في الأوقات الثلاثة قلنا ما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 1 - الوقت الأول يبدأ من بعد أن يصلي المصلي صلاة الصبح، ويمتد إلى ارتفاع الشمس وابيضاضها. 2 - الوقت الثاني يبدأ من توسط الشمس في منتصف السماء، وينتهي بميل الشمس نحو المغرب ولو قليلاً. 3 - الوقت الثالث يبدأ من بعد أن يصلي المصلي صلاة العصر، ويمتد إلى أن يغيب قرص الشمس كله خلف الأفق الغربي، وهذا الترتيب أسهل وأوضح، ولكننا نُبقي على الترتيب الأول لاختلاف الأحكام المتعلقة به. والذي أراه وأرجِّحه أن الصلاة في أوقات النهي الثلاثة المتعلقة بحركة الشمس فحسب حرام وليست مكروهة فحسب، وأن الصلاة في الوقتين الآخرين مكروهة وليست حراماً. أي أن الصلاة في الأوقات 2، 3، 5 من الترتيب الأول حرام، وأن الصلاة في الوقتين الباقيين 1، 4 مكروهة، فالصلاة من بعد الفراغ من صلاة الصبح حتى بدء بزوغ الشمس مكروهة، وكذلك الصلاة من بعد الفراغ من صلاة العصر حتى اصفرار الشمس فهي أيضاً مكروهة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 أما الأوقات الثلاثة الأخرى فالصلاة فيها حرام، أعني عند بدء البزوغ حتى ترتفع الشمس وتبيضَّ، وعند استواء الشمس في وسط السماء، وعند اصفرار الشمس وتدلِّيها للغروب حتى تغرب، فالصلاة في هذه الأوقات حرام لا تجوز. أما لماذا هذا وذاك، فلأنَّ النصوص التي ذكرت الوقتين اقتصرت على مجرد النهي دون أية قرينة تصرف النهي إلى التحريم «لا صلاة بعد صلاة الصبح ... ولا صلاة بعد صلاة العصر» . «صلاتان لا يُصلَّى بعدهما، الصبح حتى تطلع الشمس، والعصر حتى تغرب الشمس» . «لا صلاة بعد الصبح ... ولا صلاة بعد العصر» . «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاتين بعد الفجر ... وبعد العصر ... » . فالنهي عن الصلاة في هذين الوقتين لا توجد معه قرينة تصرفه إلى الوجوب، فيظل نهياً دون قرينة وجوب، فلا تبقى إلا الكراهة، وأيضاً هناك نص في الصلاة بعد صلاة العصر، فعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يُصلَّى بعد العصر إلا أن تكون الشمس بيضاء مرتفعة» رواه ابن خُزَيمة والنَّسائي. ورواه البيهقي ولفظه «لا تصلُّوا بعد العصر إلا أن تصلُّوا والشمس نقية» . وفي رواية ثانية لابن خُزَيمة وأبي داود وأحمد بلفظ «لا تصلُّوا بعد العصر إلا أن تصلُّوا والشمس مرتفعة» . فهي قرينة صالحة لصرف النهي عن الوجوب، ومما يشهد لهذا الفهم ما رواه ربيعة بن دراج «أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سبح بعد العصر ركعتين في طريق مكة، فرآه عمر فتغيَّظ عليه، ثم قال: أَمَا والله لقد علمتَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنهما» رواه أحمد والطحاوي. فقد دل هذا الحديث على اجتهاد علي رضي الله عنه بعدم حرمة الصلاة بعد العصر، لا سيما وأنه فَعَل ذلك عالماً بالنهي، ولو فهم علي من النهي التحريم لما فعل ما فعل. هذا بالنسبة للصلاة عقب صلاة العصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 وأما بالنسبة للصلاة عقب صلاة الصبح فإن مما يشهد لفهمنا ما رواه محمد بن حي بن يعلى بن أمية عن أبيه رضي الله عنه قال «رأيت يعلى يصلي قبل أن تطلع الشمس، فقال له رجل أو قيل له: أنت رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصلي قبل أن تطلع الشمس، قال يعلى: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، قال له يعلى: فأن تطلع الشمس وأنت في أمر الله خيرٌ من أن تطلع وأنت لاهٍ» رواه أحمد. ويبعد أن يكون يعلى هنا صلَّى صلاة الصبح، وإنما صلى هنا تطوعاً وإلا لما قال ما قال، فقد اجتهد رضي الله عنه كما اجتهد علي رضي الله عنه في أن النهي عن الصلاة في وقتي النهي هو نهي غير جازم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 هذا بالنسبة لكراهة الصلاة عقب صلاة الصبح، وعقب صلاة العصر، في حين أننا نجد الأمر مختلفاً عند النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة التي لها تعلُّق بحركة الشمس فحسب. فبالرجوع إلى ما أوردناه من نصوص بهذا الخصوص نجد ما يلي «ثلاثُ ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر موتانا ... » . «إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا كانت في وسط السماء قارنها، فإذا دَلَكَت أو قال زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها ... » . «لا تتحرَّوْا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان ... » . «لا تصلُّوا حين تطلع الشمس ولا حين تسقط، فإنها تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان» . « ... ثم أَقْصِر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ... حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أَقْصِر عن الصلاة، فإن حينئذٍ تُسْجَر جهنم، ... ثم أَقْصِر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ... » . ألا تلاحظون معي كيف أخذ النهي عن الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة منحىً آخر؟ فقد جاء النهي مقترناً بقرائن وأمارات دالَّةٍ على الجزم، ففي الحديث الأول قال «أو أن نقبر موتانا» ، رغم أن قبر الميت فرض، والإسراع في قبره فرض كذلك، ولولا وجود مانع جازم لوجب قبر الموتى في ذلك الوقت وبسرعة، فلما طلب تأخير الدفن دل ذلك على أن النهي للوجوب. وفي الحديث الثاني نلاحظ ذِكْرَ اقتران قرني الشيطان بهذه الأوقات الثلاثة، وفي الحديث الثالث - وقد ذَكَر وقتين من هذه الأوقات الثلاثة - ذَكَر أيضاً اقترانهما بقرني الشيطان، وكذلك فعل الحديث الرابع. أما في الحديث الخامس فقد ذُكِر اقتران قرني الشيطان بوقتين، وذُكِر في الوقت الثالث سجرُ جهنَّم والعياذ بالله، فهذه قرائن وأمارات واضحة على أن النهي نهي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 جازم في هذه الأوقات الثلاثة. وأضيف إلى ما سبق ما رُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائي. ولأحمد ومالك من طريق أنس رضي الله عنه أيضاً بلفظ «تلك صلاة المنافقين، ثلاث مرات، يجلس أحدهم حتى إذا اصفرَّت الشمس وكانت بين قرني شيطان قام نقر أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً» . ولأحمد رواية ثالثة من طريق أنس بلفظ «ألا أخبركم بصلاة المنافق؟ يَدَعُ الصلاة حتى إذا كانت بين قرني شيطان، أو على قرني الشيطان قام فنقرها نقرات الديك، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً» . قوله نقرها نقرات الديك: أي أسرع في الصلاة بسبب تأخره. ففي هذه الروايات جاءت قرينة جديدة مضافة إلى ما سبق هي في الرواية الأولى «تلك صلاة المنافق» وفي الرواية الثانية «تلك صلاة المنافقين، ثلاث مرات» . وقد ذكرها مالك في روايته هكذا «تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين» . وفي الرواية الثالثة «ألا أخبركم بصلاة المنافق؟» . فأي وصف أبلغ في الذم من هذا الوصف؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 نخلص مما سبق إلى أن النهي عن الصلاة عقب الفراغ من صلاة الصبح حتى تبدأ الشمس بالشروق، وعن الصلاة بعد الفراغ من صلاة العصر حتى تصفرَّ الشمس هو نهي غير جازم، وتكون الصلاة في هذين الوقتين مكروهة فقط، وإلى أن النهي عن الصلاة عند شروق الشمس حتى ترتفع وتبيض، وعند استوائها حتى تميل عن قبة السماء، وعند تدلِّيها للغروب حتى تغيب هو نهي جازم، وتكون الصلاة في هذه الأوقات حراماً لا تجوز، ففي أوقات النهي الجازم، أي في أوقات تحريم الصلاة لا يجوز للمسلم أن يصلي أية نافلة، لا ذات سبب ولا ما ليس لها سبب، فتحية المسجد وسجدة التلاوة كصلاة الاستخارة وصلاة الاستسقاء لا يجوز أداؤها في هذه الأوقات الثلاثة، لأن أداءها مندوب والصلاة في هذه الأوقات الثلاثة حرام، لهذا لا يصح الإتيان هنا بالمندوب بارتكاب الحرام، أما في وقتي النهي غير الجازم، أي في وقتي كراهة الصلاة فإن هذه النوافل إن كانت ذوات أسباب، كتحية المسجد وصلاة الكسوف وسجدة التلاوة، فإنها تُؤدَّى ولا كراهة، لأن أوقاتها قد حلَّت بهذين الوقتين، وهي مندوبة، والوقتان وقتا كراهة، وإني لأرجو أن يتغلب المندوب على المكروه ويثاب فاعله إن شاء الله. ومثلُ النوافلِ ذواتِ الأسبابِ قضاءُ الفوائت من الصلوات المفروضة، وحتى السنن الراتبة، ففي هذين الوقتين يجوز ذلك ولا كراهة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 أما الصلوات المفروضة، فإنه مما لا شك فيه أن تأخير صلاة الصبح حتى يبدأ قرص الشمس بالظهور حرام، وكذلك تأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس وتضيُّفِها للغروب عمداً فيه تقصير يحاسب عليه العبد، وإلى غيابها حرام قطعاً، ولكنْ إن بدأ المصلي بصلاة الصبح وطلعت الشمس وهو لا زال في صلاته فلا إثم، وكذلك إن هو بدأ بصلاة العصر ثم اصفرَّت الشمس وغابت وهو لا زال يصلي فلا إثم، وتقُبلُ صلاته في الحالتين إن كان قد صلى ركعة من كل صلاة من الصلاتين قبل الطلوع وقبل الغروب، ويمكن مراجعة هذه المسألة في بحثي [وقت صلاة العصر] و [وقت صلاة الفجر] فصل [الصلاة: حكمها ومواقيتها] . أحكامٌ عامة لصلاة التطوُّع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 1- في صلاة الفريضة لا يجوز الجلوس ولا الاضطجاع إلا من ضرورة كمرض أو عجز، وأما في صلاة التطوع فيجوز الجلوس ويجوز الاضطجاع، سواء كانت هناك ضرورة أو لم تكن، إلا أن المتطوِّع جالساً له نصف أجر القائم، والمتطوع مضطجعاً أو نائماً له نصف أجر الجالس أو ربع أجر القائم، ولهذا فإن الأصل في صلاة التطوع أن تُؤدَّى كصلاة الفريضة بالقيام لمن قدر عليه، لأن المصلي إنما يبتغي الثواب فلا يحرم نفسه نصف الأجر أو ثلاثة أرباعه بصلاته جالساً أو نائماً. وإنَّ لنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القُدوةَ الحسنة، فهو عليه الصلاة والسلام كان يحرص دائماً على صلاة التطوع قائماً، ولم يصلِّها جالساً إلا عندما كبر وضعف جسمه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت «لما بدَّن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وثقُل كان أكثر صلاته جالساً» رواه مسلم. وعن حفصة رضي الله عنها قالت «ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في سُبْحته قاعداً حتى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلي في سُبْحته قاعداً، وكان يقرأ بالسورة فيرتِّلها حتى تكون أطولَ من أطولَ منها» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي والترمذي ومالك. قوله سُبْحته: أي تطوُّعه. قوله حتى تكون أطول من أطول منها: أي أنه كان يقرأ ويرتِّل ويمدُّ في قراءته حتى تغدو السورة المقروءة أطول من سورة أطول منها بقراءة غيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 وقد بلغ من حرصه عليه الصلاة والسلام على التطوع قائماً وهو في حالة ضعف أنه كان مع صلاته جالساً يصلي مرات أخرى قائماً يتحامل على نفسه، فعن عبد الله بن شقيق قال «سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تطوُّعه، فقالت: ... وكان يصلي ليلاً طويلاً قائماً وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد..» رواه مسلم وأبو داود وأحمد والترمذي وابن ماجة. وهذه الحالة المذكورة هنا في الحديث غير مُطَّرِدة، أعني بها أنه إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد، فقد حصل منه عليه الصلاة والسلام غير ذلك مرات، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها «أنها لم تر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الليل قاعداً قط حتى أسنَّ، فكان يقرأ قاعداً، حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحواً من ثلاثين آية أو أربعين آية ثم ركع» رواه مالك والبخاري ومسلم. ورواه البخاري ومسلم ومالك بلفظٍ ثانٍ عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي جالساً فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته نحوٌ من ثلاثين آية أو أربعين آية قام فقرأها وهو قائم، ثم ركع ثم سجد، يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك» . فالمسلم بالخيار بين أن يصلي الركعة كلها جالساً، وبين أن يصليها جالساً وقائماً، كلا الفعلين نُقلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 أما جواز صلاة التطوع جالساً ونائماً، ونقصان أجرهما عن الصلاة قائماً، فلما رُوي عن عمران بن الحُصين رضي الله عنه أنه قال «سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل قاعداً، فقال: إن صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد» رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجة. وعن عائشة رضي الله عنها عند النَّسائي بنحوه. ويُحمل هذا الحديث على صلاة النافلة والتطوع، كما يُحمل هذا الحديث على المسلم القويِّ المعافى، وذلك لأن المريض إن عجز عن القيام سواء في صلاة الفريضة أو التطوع فصلى جالساً أو نائماً، فإن له الأجر كاملاً وتجدون بحث هذه المسألة مع الدليل في بحث [صلاة المريض] . وإذا صلى المسلم جالساً صلى متربعاً لا مفترشاً ولا متورِّكاً- والافتراش هو أن يجلس على رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى. أما التورُّك فهو أن يقدم رجله اليسرى فيضعها بين فخذه وساقه ويجلس على إليته -، لما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي متربعاً» رواه الدارقطني والنَّسائي وابن حِبَّان والحاكم. وقال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو هكذا، ووضع يديه على ركبتيه وهو متربعٌ جالس» رواه البيهقي. إلا أنه إن صلى مفترشاً أو متورِّكاً جاز، ولكن المستحب الجلوس متربعاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 2 - إذا كان المسلم في المسجد فأقيمت الصلاة المفروضة، كُره له أن يشرع في صلاة التطوع، ولكن إن كان قد بدأ بصلاة التطوع قبل أن تقام الصلاة المفروضة، ثم أقيمت المفروضة فلْيتمَّها خفيفة، ثم يدخل مع المصلين في صلاة الفريضة دون تأخير، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» رواه أحمد ومسلم والدارمي وأبو داود والترمذي. وعن مالك بن بُحَينة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاث به الناس، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصبح أربعاً، الصبح أربعاً؟» رواه البخاري وأحمد ومسلم والنَّسائي. قوله لاث به الناس: أي أحاطوا به. وإنما قلنا بالكراهة ولم نقل بالتحريم فلأنَّ صلاةَ الجماعة ليست فرضاً على الصحيح وإنما هي مندوبة مستحبة، فالدخول في صلاة الجماعة مندوب، وترك المندوب ليس حراماً، وثانياً قد رُوي عن عبد الله بن سَرْجس أنه قال «أقيمت الصلاة صلاة الصبح، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي ركعتي الفجر فقال له: بأي صلاتك احتسبت، بصلاتك وحدك أو صلاتك التي صليت معنا؟» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. فقد احتسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك الرجل صلاتين، إحداهما التي صلاها وحده، وهي سُنَّة صلاة الصبح عند إقامة صلاة الفريضة، فلو كانت صلاته هذه غير مقبولة وغير جائزة لما احتسبها ولأمره بإعادتها، فلما لم يفعل دل ذلك على أن الصلاة قد قُبلت. وألفت النظر إلى أن القول في الحديث الأول «فلا صلاة إلا المكتوبة» لا هنا هي الناهية وليست هي النافية، فيكون معنى هذا القول: لا تُصلوا إلا المكتوبة، وليس معناه: لا تنعقد صلاة إلا المكتوبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 3 - الصلاة المكتوبة الأصل فيها أن تُؤدَّى في المساجد جماعة، ولكن صلاة التطوع الأصل فيها أن تُؤدَّى في البيوت وليس في المساجد، لأن أداءها في البيوت أفضل وأعظم ثواباً، وهذا كله خاص بالرجال. أما النساء فإن صلاتهن في البيوت أفضل، المكتوبة والتطوع سواء، لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خيرٌ لهن» رواه أحمد وأبو داود وابن خُزَيمة والبيهقي والطبراني. فصلاة النساء في بيوتهن أفضل من صلاتهن في المسجد حتى لو كان المسجدُ مسجدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما رُوي عن أم حُمَيْدٍ امرأة أبي حُمَيْدٍ الساعدي رضي الله عنها «أنها جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، قال: قد علمتُ أنكِ تحبين الصلاة معي، وصلاتُك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتُك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتُك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتُك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي» رواه أحمد والطبراني وابن خُزَيمة وابن حِبَّان. والحجرة هنا هي الساحة الواقعة أمام البيت. والبيت هو مكان المبيت، أي غرفة النوم. ومحصِّلة هذا القول الوارد في الحديث أن صلاة المرأة في مخدعها - أي في مكان نومها - أفضل من الصلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رغم أن الصلاة فيه تعدل ألف صلاة فيما سواه إلا في المسجد الحرام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 نعود إلى أول البحث فنقول: إن صلاة التطوع للرجال الأصل فيها أن تُؤدَّى في البيوت وليس في المساجد، وإن الصلاة في البيوت أفضل وأجزل ثواباً، وكي لا تكون البيوت مقفرة من الصلاة كالقبور، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فإن الله جاعلٌ في بيته من صلاته خيراً» رواه مسلم وأحمد. وروى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال « ... عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» رواه مسلم وأبو داود. ورواه البخاري ولفظه «.. فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاةُ المرء في بيته إلا المكتوبة» . وعن زيد بن خالد الجُهَني رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «صلُّوا في بيوتكم ولا تتَّخذوها قبوراً» رواه أحمد والطبراني والبزَّار. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً» رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد. فصلاةُ النافلة تؤدَّى في البيوت، فذلك أفضل من أدائها في المساجد ولو في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما رُوي عن عبد الله بن سعد رضي الله عنه أنه قال «سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيُّما أفضل، الصلاةُ في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ قال: ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد، فَلأَن أُصلي في بيتي أحب اليَّ من أن أُصلِّي في المسجد، إلا أن تكون صلاة مكتوبة» رواه ابن ماجة وأحمد وأبو داود والترمذي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 4 - وكما يجوز أن تصلَّى النافلةُ انفرادياً فإنه يجوز أن تصلَّى جماعةً، لا فرق بين نافلة وأخرى، فعن عِتْبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه قال «كنت أُصلِّي لقومي ببني سالم، وكان يحول بيني وبينهم وادٍ إذا جاءت الأمطار، فيشق عليَّ اجتيازه قِبَلَ مسجدهم، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت له: إني أنكرت بصري، وإن الوادي الذي بيني وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار، فيشقُّ عليَّ اجتيازه، فوددت أنك تأتي فتصلي من بيتي مكاناً أتخذه مُصلَّى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سأفعل، فغدا عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رضي الله عنه بعدما اشتد النهار، فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذنت له، فلم يجلس حتى قال: أين تحب أن أصلي من بيتك؟ فأشرت له إلى المكان الذي أحبُّ أن أُصلي فيه، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبَّر وصففنا وراءه، فصلى ركعتين ثم سلم، وسلَّمنا حين سلَّم» رواه البخاري والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أمِّ حَرَام، فأقامني عن يمينه وأم حَرَامٍ خلفنا» رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وأم حرام هي خالة أنس. وعن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام من الليل يصلي، فقمت فتوضأت فقمت عن يساره، فجذبني فجرَّني فأقامني عن يمينه، فصلى ثلاث عشرة ركعة، قيامُه فيهن سواء» رواه أحمد والبخاري ومسلم. الفصل الثاني عشر صلاة الجماعة حكم صلاة الجماعة وفضلها صلاة الجماعة سنة مستحبة، وتتأكد أكثر إن كانت في المسجد، وهي ليست فرض عين ولا فرض كفاية كما يقول بذلك جماعات من الفقهاء، مستدلين على رأيهم بالأحاديث التالية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ليس صلاةٌ أثقلَ على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتَوْهما ولو حَبْواً، لقد هممتُ أن آمر المؤذن فيقيم، ثم آمر رجلاً يؤم الناس، ثم آخذَ شُعَلاً من نار فأُحَرِّقَ على من لا يخرج إلى الصلاة بعد» رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن أبي شيبة. 2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ أعمى فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُرخِّص له فيصلي في بيته، فرخَّص له، فلما ولى دعاه فقال: هل تسمع النداء؟ فقال: نعم، قال: فأجب» رواه مسلم والنَّسائي. 3 - عن ابن أم مكتوم «أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني رجلٌ ضريرُ البصر شاسعُ الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل لي رخصة أن أُصلي في بيتي؟ قال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم قال: لا أجد لك رخصة» رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد. 4 - عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من سمع النداء فلم يُجب فلا صلاة له إلا مِن عذر» رواه ابن حِبَّان والحاكم والبيهقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 فنقول لهؤلاء إن هذه الأحاديث تُحمَل على التشديد على حضور صلاة الجماعة، وأنها وردت مورد الزَّجر، وأنَّ حقيقتُه غيرُ مرادة، وقد جاء التشديد بصيغٍ مختلفة. ثم إنَّ الحديث الأول جاء في المنافقين ولم يأت عامَّاً في المسلمين، فقوله في أول الحديث «ليس صلاةٌ أثقلَ على المنافقين» واضح الدلالة على ما نقول. ويزيد الأمرَ وضوحاً ما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «لقد رأيتُنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد عُلم نفاقه أو مريض، إن كان المريض لَيمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة ... » رواه مسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وأحمد من حديث طويل. وما رواه أبو عمير ابن أنس قال «حدثني عمومتي من الأنصار قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يشهدهما منافق، يعني العشاء والفجر» رواه ابن أبي شيبة. فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهدد المنافقين الذين لم يكونوا يشهدون الصلاة معه بقوله ذاك. وأما الحديث الثاني فهو كالحديث الثالث، موضوعهما واحد، فما ينطبق على أحدهما ينطبق على الآخر. هذا الحديث يذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّص للأعمى أولاً بعدم حضور صلاة الجماعة، ثم عدل عن ذلك وأوقف الترخيص له، فلو كانت صلاة الجماعة واجبة لما رخَّص عليه الصلاة والسلام للأعمى بصلاة المنفرد وتَرْكِ صلاة الجماعة. أما لماذا عدل بعد ذلك عن الترخيص له، فإنه يُحمل على أنه آثر صاحبَه الأعمى هذا بفضيلة حضور صلاة الجماعة فشدد عليه في حضورها، وذلك لأن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتسابقون إلى الثواب والمندوبات، فلو رُخِّص لهذا الأعمى بترك صلاة الجماعة فلربما فُهم من ذلك أن صلاة الجماعة كصلاة المنفرد ولا ميزة لها، لهذا أمر عليه الصلاة والسلام هذا الصحابي بالتمسك بحضور صلاة الجماعة وشدَّد عليه في ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وأما الحديث الرابع فيُحمَل على أنَّ المراد منه لا صلاة كاملة، وليس نفي الصلاة بالكلية. والمعلوم في علم أصول الفقه أن إعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما، وأن القول بعدم تعارض الأدلة أولى من القول بتعارضها. ذلك أن عندنا جملة من الأحاديث تدل على ما ذهبنا إليه من عدم وجوب صلاة الجماعة، فإذا فهمنا الأحاديث الثلاثة هذه على أنها دالة على فرضية صلاة الجماعة، فإننا سنضطر للقول بتعارض الأدلة والقول بإهمال قسم منها، وهذا ما لا يصح اللجوء إليه إلا عند عدم إمكانية الجمع والتوفيق بينها، والإمكانية هنا ممكنة ومتوفرة بما سبق ذكرُه، وهذه الأحاديث هي: 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً» رواه أحمد والبخاري ومسلم. 2 - عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً الصبح فقال: أشاهدٌ فلانٌ؟ قالوا: لا، قال: أشاهدٌ فلان؟ قالوا: لا، قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على الركب، وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه، وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى» رواه أبو داود وأحمد والنَّسائي. 3 - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام» رواه البخاري ومسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 4 - عن يزيد بن الأسود رضي الله عنه قال «حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع، قال: فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح أو الفجر، قال: ثم انحرف جالساً أو استقبل الناس بوجهه، فإذا هو برجلين من وراء الناس لم يصليا مع الناس فقال: ائتوني بهذين الرجلين، قال: فأُتيَ بهما ترعد فرائصُهما، فقال: ما منعكما أن تصليا مع الناس؟ قالا: يا رسول الله إنَّا قد كنا صلينا في الرحال، قال: فلا تفعلا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فليصلها معه، فإنها له نافلة» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي والدارمي. الحديث الأول جعل صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد بخمس وعشرين مرة، فلو كانت صلاة المنفرد غير مقبولة ولا جائزة لما قيل ما قيل، وهذا واضح الدلالة على صحة صلاة المنفرد. والحديث الثاني يقول «إن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده» ولا يقال هذا القول لو كانت صلاة المنفرد غير جائزة، وهذا أيضاً واضح الدلالة على صحة صلاة المنفرد. والحديث الثالث يقول «الذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثم ينام» فاعتبر صلاة الجماعة أعظم أجراً من صلاة المنفرد، وهذا يعني اشتراكهما في الأجر، وإلا لما كانت هذه المفاضلة. أما الحديث الرابع فقوله «إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فلْيصلها معه فإنها له نافلة» . فقوله «إذا صلى أحدكم في رحله» وقوله «فلْيصلِّها معه فإنها له نافلة» يدلان على أنَّ صلاة المنفرد قد قُبِلت، فإن صلاها بعدئذٍ في المسجد مع الإمام جماعة فإن صلاة الجماعة تكون نافلة، وهذا من أوضح الدلالات على صحة صلاة المنفرد، إذ لو كانت صلاة الجماعة واجبة عليه وصلاةُ المنفرد غيرَ مقبولةٍ لاعتُبِرت صلاة المسجد هي الصلاة المفروضة المؤداة وليس الصلاة في الرحل، وهذا ظاهرٌ جداً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 لكل ما سبق أقول: إنَّ القول بعدم التعارض بين الأدلة هنا أولى من القول بوجود التعارض، وعلى هذا تُحْمَلُ الأحاديث الأربعة الأولى على أنها تعني مطلق الحث، ولا تفيد وجوباً ولا فرضاً. أما فضل صلاة الجماعة فإن أحاديث كثيرة قد جعلتها تَفْضُل صلاة المنفرد بخمس وعشرين درجةً أو جزءاً أو صلاةً، على اختلاف في الروايات، أذكر منها ما يلي: 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: تَفْضُل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءاً، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر، ثم يقول أبو هريرة: فاقرأوا إن شئتم: إنَّ قرآن الفجرِ كان مشهوداً» رواه البخاري ومسلم وابن ماجة والنَّسائي وأحمد. 2- وعنه رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمساً وعشرين درجة..» رواه البخاري ومسلم وابن ماجة. 3- عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «فضلت صلاة الجماعة على صلاة الفذِّ خمساً وعشرين» رواه أحمد والنَّسائي. قوله صلاة الفذِّ: أي صلاة المنفرد. 4- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما من رجل يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يأتي مسجداً من المساجد، فيخطو خطوة إلا رُفع بها درجة أو حُطَّ بها عنه خطيئة، وكتبت له بها حسنة، حتى إن كنا لنقاربُ بين الخُطا، وإنَّ فضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. 5- وعنه رضي الله عنه قال: إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال «صلاة الجمع تَفْضُلُ على صلاة الرجل وحده خمساً وعشرين ضعفاً، كلها مثل صلاته» رواه أحمد والبزَّار والطبراني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 وانفرد ابن عمر رضي الله عنه برواية السبع والعشرين، فعنه رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «صلاة الجماعة تَفْضُلُ صلاةَ الفذِّ بسبع وعشرين درجة» رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك والنَّسائي. ولم تُرو عن صحابي غيره هذه الرواية إلا ما نُسب لأبي هريرة عند أحمد في رواية، فإنه ذكر السبع والعشرين، وفي سندها شريك القاضي، وفي حفظه ضعف، إضافةً إلى أنَّ هذه الرواية مخالفة لجميع الروايات الصحيحة المنقولة عن أبي هريرة القائلة بالخمس والعشرين. فالروايات القائلة بالخمس والعشرين أكثر، فهي أولى بالأخذ. قال الترمذي (عامَّةُ مَن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قالوا «خمس وعشرين» إلا ابن عمر فإنه قال بـ «سبع وعشرين» ) . وإنَّ من فضل صلاة الجماعة أن ثوابها يفضل ثواب التَّصدق بشاتين اثنتين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لو أن أحدكم يعلم أنه إذا شهد الصلاة معي كانت له أعظم من شاة سمينة أو شاتين لفعل، فما يصيب من الأجر أفضل» رواه أحمد. وإن فضل الجماعة فضل كبير وثواب عظيم خاصة صلاتي الفجر والعشاء، فمن صلى العشاء جماعةً فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى العشاء والفجر جماعةً فكأنما قام الليل كله، فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله» رواه مسلم والبخاري والترمذي والدارمي وأحمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 وصلاة الجماعة في الفلاة أو العراء أعظم أجراً، فهي تبلغ خمسين درجة أي الضعف، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده خمساً وعشرين درجة، وإن صلاها بأرض فلاةٍ فأتمَّ وضوءها وركوعها وسجودها بلغت صلاته خمسين درجة» رواه ابن أبي شيبة وابن حِبَّان. ورواه الحاكم وأبو داود بلفظ «الصلاة في الجماعة تعدل خمساً وعشرين صلاة، فإذا صلاها في الفلاة فأتمَّ ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 والصلاة في المسجد البعيد أعظم ثواباً من الصلاة في المسجد القريب، وذلك أن الثواب يزداد بزيادة الخطى، فكل خطوة من يمينه ترفعه درجة، وكل خطوة من يساره تحط عنه خطيئة، فقد مر قبل قليل حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عند أحمد ومسلم وأبي داود والنَّسائي وابن ماجة وجاء فيه « ... ثم يأتي مسجداً من المساجد فيخطو خطوة إلا رُفع بها درجة، أو حُطَّ بها عنه خطيئة، وكُتبت له بها حسنة حتى إنْ كنا لنقارب بين الخطا ... » . وعن سعيد بن المسيِّب قال «حضر رجلاً من الأنصار الموتُ فقال: إني مُحدِّثكم حديثاً ما أحدثكموه إلا احتساباً، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله عزَّ وجلَّ له حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حطَّ الله عزَّ وجلَّ عنه سيئة، فلْيُقَرِّب أحدكم أو ليبعد، فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضاً وبقي بعض صلى ما أدرك، وأتم ما بقي كان كذلك، فإن أتى المسجد وقد صلوا فأتمَّ الصلاة كان كذلك» رواه أبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الأبعدُ فالأبعدُ من المسجد أعظمُ أجراً» رواه أبو داود وأحمد وابن ماجة والحاكم. وقد مرَّ حديث أبي موسى قبل قليل عند البخاري ومسلم وفيه «أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى ... » . وهذه الخطوات التي تزيد الحسنات وتمحو السيئات تُحتسب في الذهاب وفي الإياب من المسجد وليس في الذهاب فحسب، فعن عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من راح إلى مسجد الجماعة، فخطوة تمحو سيئة وخطوة تكتب حسنة ذاهباً وراجعاً» رواه أحمد وابن حِبَّان والطبراني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 وصلاة الجماعة مع الرجل الواحد خير من الصلاة وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل الواحد، وكلما كان عدد المصلين أكثر فهو أفضل لهم، فقد مرَّ قبل قليل حديث أبي بن كعب رضي الله عنه عند أبي داود وأحمد والنَّسائي، وجاء فيه « ... وإنَّ صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى» . صلاة النساء يجوز للنساء الخروج من بيوتهن للصلاة في المساجد، وعلى الأزواج وأولياء الأمور عدم منعهن من ذلك، إلا أَنَّ صلاتهن في بيوتهن ودورهن خير لهن من صلاتهن في المساجد، وإذا خرجت النساء للصلاة بعد أخذ الإذن من الأزواج وأولياء الأمور فلا يحل لهن أن يكنَّ متطيباتٍ متعطِّرات، وليخرجن دون طيب ودون بخور، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتُهن خيرٌ لهن» رواه أبو داود وأحمد وابن خُزَيمة والبيهقي والطبراني. وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فأذنوا لهن» رواه مسلم والبخاري وأحمد وابن حِبَّان. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهنَّ تَفِلات» رواه أبو داود وأحمد وابن خُزَيمة والدارمي والبيهقي. قوله تَفِلات: أي غير متطيبات. وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسَّ طيباً» رواه مسلم وابن حِبَّان. ورواه أحمد إلا أنه قال «العشاء» بدل «المسجد» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 فالمرأة عِرضٌ يجب أن يُصان، وكلما كانت المرأة في مكان بعيد عن الأنظار كان ذلك أفضل لها، فالدُّور أخفى من المساجد فهي أفضل لِمُكثهن، والغرف في الدور أخفى من الساحات، فهي أفضل لِمُكثهن والصلاة فيها، وكلما ابتعدت النساء عن أماكن الظهور كان ذلك خيراً لهن، فعن أم حُمَيْدٍ امرأة أبي حُمَيْدٍ الساعدي رضي الله عنها، أنها جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت «يا رسول الله إني أُحِبُّ الصلاة معك، قال: قد علمتُ أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتُك في بيتك خيرٌ من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي، قال، فأَمرتْ فبُنِي لها مسجدٌ في أقصى شئ من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه، حتى لقيت الله عزَّ وجلَّ» رواه أحمد والطبراني وابن خُزَيمة وابن حِبَّان. وقد مر في بحث [أحكام عامة لصلاة التطوع] قوله صلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك: البيت هنا يطلق على غرفة النوم، والحجرة هنا تطلق على الساحة الواقعة أمام الغرفة. الإمام يصلي صلاة خفيفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 يُندب للإمام التخفيف في صلاة الجماعة مراعاةً لأحوال المصلين، لأن فيهم المريض والضعيف، والكبير الهرم والصغير وذا الحاجة، فيصلي بهم صلاة خفيفة لا تشقُّ عليهم، ولا يعني قولي هذا أن ينقُر صلاته نقر الغراب ولا يتمها على وجهها. وإنَّ من التخفيف أن لا يزيد الإمام مثلاً في ركوعه وسجوده على ثلاث تسبيحات، وإذا أحسَّ الإمام بأن في المأمومين من حصل له ما يدعوه إلى الإسراع في صلاته نُدب له أن يتجوَّز فيها ويخففها، كأن يسمع بكاء صبي فيشفق على أمه التي تصلي خلفه فيخفف، فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال «قال رجل: يا رسول الله لا أكاد أدرك الصلاة مما يطوِّل بنا فلان، فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشدَّ غضباً من يومِئذ، فقال: أيها الناس إن منكم منفِّرين، فمن صلى بالناس فليخفِّف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي والترمذي. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «ما صليت وراء إمام قطُّ أخفَّ صلاة ولا أتمَّ من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان ليسمعُ بكاء الصبي فيخفِّف مخافة أن تُفتن أمه» رواه البخاري ومسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوَّز في صلاتي مما أعلم من شدة وَجْدِ أمه من بكائه» رواه البخاري ومسلم. وعنه أيضاً «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مِن أخف الناس صلاة في تمام» رواه مسلم والترمذي وأحمد والبيهقي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف، فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض، فإذا صلى وحده فليصلِّ كيف شاء» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأبو داود والنَّسائي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 إلا أنه يُشرع للإمام أن يطيل الركعة الأولى قليلاً ليدركها المتأخرون، وإذا كان الإمام راكعاً وأحسَّ بداخلٍ إلى المسجد أطال ركوعه قليلاً ليدركه الداخل، على أن لا يشق ذلك على المصلين خلفه، فعن أبي قتادة رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأمِّ الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب ويُسمعنا الآية، ويطوِّل في الركعة الأولى ما لا يطوِّل في الركعة الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح» رواه البخاري ومسلم وأحمد. ورواه أبو داود وزاد «فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى» . وقد مرَّ الحديث في بحث [قراءة ما زاد على الفاتحة من القرآن في الصلاة] فصل [صفة الصلاة] . متابعة المأموم للإمام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 يجب على المأموم أن يتابع إمامه في كل حركات الصلاة، ولا يحل له أن يسبقه في ذلك مطلقاً، فلا يسبقه في ركوعٍ ولا سجودٍ، ولا رفعٍ ولا تسليمٍ، إلا أنه مع إثمه بذلك فإنَّ صلاته مقبولة غير باطلة - ذلك أنَّ فعل المحرَّم في الصلاة لا يعني أنه يبطلها، أُنظر بحث [النظر في الصلاة] فصل [صفة الصلاة] ، وانظر بحث [الخشوع في الصلاة] فصل [القنوت والخشوع في الصلاة]- فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنما جُعل الإمام لِيُؤتمَّ به فلا تختلفوا عليه، وإذا كبَّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربَّنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جلوساً فصلوا جلوساً أجمعين» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. وعن البراء بن عازب قال «كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا قال: سمع الله لمن حمده لم يَحْنِ أحدٌ منا ظهره حتى يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - جبهته على الأرض» رواه البخاري ومسلم وأبو داود. ورواه الترمذي ولفظه «كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع رأسه من الركوع لم يَحْنِ رجل منا ظهره حتى يسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنسجد» . وعن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تبادروني بالركوع ولا بالسجود، فمهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني به إذا رفعت، ومهما أسبقكم به إذا سجدت تدركوني به إذا رفعت، إني قد بدَّنتُ» رواه ابن ماجة وأحمد وابن خُزيمة وابن حِبَّان. - قوله بدنت: قُرئت بتشديد الدال: بدَّنت، ومعناها كبرت، وقرئت بتخفيفها: بَدُنت، ومعناها سمنت، والصواب قراءة بدَّنت بالتشديد بمعنى كبرت. يشهد لهذه القراءة ما رُوي أن عائشة رضي الله عنها قالت «ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في شئ من صلاة الليل جالساً، حتى إذا كبر قرأ جالساً ... » رواه مسلم والبخاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 ووقع عند ابن حِبَّان وابن خُزيمة لفظ «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو جالس بعدما دخل في السن» - وعن أنس بن مالك قال «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، فلما انصرف من الصلاة أقبل إلينا بوجهه فقال: أيها الناس إني إمامُكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، ولا بالقيام ولا بالقعود، ولا بالانصراف ... » رواه ابن خُزيمة ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أما يخشى أو ألا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه والإمام ساجد أن يحوِّل الله رأسه رأس حمار، أو صورته صورة حمار؟» رواه أبو داود والبخاري ومسلم والنَّسائي والترمذي. وهذا التحذير الشديد باحتمال إيقاع عقوبة المسخ دليل أكيد على حُرمة مسابقة المأموم للإمام. وكما أُمر المصلون بأن يتابعوا إمامهم في الصلاة، فقد أُمروا أيضأ بأن يتابعوه في القيام للصلاة عند الإقامة، فلا يسبقوه في الوقوف، بل ينتظرون قدومه إلى المسجد ووقوفه للصلاة، فلا يقفون حتى يقف الإمام، فعن أبي قتادة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أًقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني» رواه مسلم وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزيمة. وفي رواية لأبي داود وابن حِبَّان « ... حتى ترَوْني قد خرجت» . والأوْلى للمأموم عقب التسليم أن لا يسرع في الانصراف، بل ينتظر قليلاً ريثما ينصرف الإمام قبله، أو يُمْكِن للإمام في حالة السهو أن يتدارك ما كان قد نسيه في الصلاة، فيستأنفها ويسجد للسهو فيسجد المأموم معه، فعن أنس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضَّهم على الصلاة، ونهاهم أن ينصرفوا قبل انصرافه من الصلاة» رواه أبو داود. تنعقد الجماعة بإمام ومأموم واحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 تنعقد الجماعة باثنين: إمامٍ ومأمومٍ واحدٍ ولو كان المأموم صبياً، وتنعقد في الفريضة كما تنعقد في النافلة دون فارق بينهما، وإذا كان المأموم واحداً وجب أن يقف إلى يمين الإمام دون أن يتقدم عنه أو يتأخر، ولا يصح الوقوف إلى يسار الإمام، فإن فعل أثم ولكن تظل صلاته مقبولة. ولا يجب على الإمام أن ينوي الإمامة، فلو صلى أحدٌ منفرداً ثم جاء شخص فوقف حذاءه مؤتمَّاً به انعقدت له صلاة جماعة رغم أن الإمام لم ينو الإمامة ابتداءً، لا فرق في ذلك بين الفريضة والنافلة، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال «بتُّ عند خالتي ميمونة، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، فقمت أصلي معه فقمت عن يساره، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. ووقع في رواية ثانية لمسلم من طريق ابن عباس بلفظ «.. فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقمت إلى جنبه الأيسر فأخذ بيدي فجعلني مِن شقِّه الأيمن» . فهنا كانت صلاةُ جماعة من إمام ومأمومٍ صبي، فابن عباس رضي الله عنه كان آنذاك صبياً ابن عشر سنين، فقد قال ابن عباس رضي الله عنه «مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن عشر سنين وأنا مختون، وقد قرأت المُحْكَم من القرآن» رواه أحمد. وعن ابن عباس أيضاً قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقمتُ إلى جنبه عن يساره، فأخذني فأقامني عن يمينه، وقال ابن عباس: وأنا يومئذ ابن عشر سنين» رواه أحمد. ويدل الحديث إضافةً إلى ما سبق على أن الإمام لا يجب عليه أن ينوي لصلاة الجماعة عند الابتداء، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وحده، فالتحق ابن عباس بصلاته، فأقرَّه واستمر يصلي به جماعة. ويدل على ذلك بشكل أوضح ما جاء في رواية ثانية عند أحمد بلفظ «.. فأمهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا عرف أني أريد أن أُصلي بصلاته لفت يمينه فأخذ بأُذُني فأدارني حتى أقامني عن يمينه ... » . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 وأوضح من الحديثين ما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً يصلي وحده فقال: ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيصلي معه؟» ورواه أيضاً الترمذي وابن خُزَيمة وابن حِبَّان والحاكم. كما يدل الحديث الأول على أن المأموم إن كان وحده وقف عن يمين الإمام دون أن يتأخر أو يتقدم، فالحديث يقول «فأقامني عن يمينه» . ويقول لفظ لمسلم «فجعلني من شِقِّه الأيمن» . دون أن يذكر تقديماً أو تأخيراً، يشهد لهذا الفهم ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال «أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر الليل فصليت خلفه، فأخذ بيدي فجرَّني فجعلني حذاءه، فلما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صلاته خنست، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما انصرف قال لي: ما شأني أَجعلك حذائي فتخنُسُ؟ فقلت: يا رسول الله أَوَ ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله الذي أعطاك الله؟ قال فأعجبته، فدعا الله لي أن يزيدني علماً وفهماً ... » رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي. قوله خنست: أي تأخرت قليلاً عن محاذاته. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أوقف ابن عباس حذاءه أي عن يمينه دون تقديم أو تأخير، وذلك لأنها هي السُّنَّة المشروعة، وبالفعل وقف ابن عباس حذاءه، ثم بدا لابن عباس أن يتأخر قليلاً عن محاذاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما حصل منه ذلك سأله - صلى الله عليه وسلم - عن السبب، فأجابه بجواب أعجبه وهو أنه لا ينبغي لأحد أن يصلي حذاءه، بل يتأخر عنه قليلاً لأنه رسول، والرسول يقدَّم على غيره. وهذا الجواب من ابن عباس، وهذا الإعجاب به من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعني أن السُّنة المشروعة هي ما فعل ابن عباس، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أوقفه إلى جواره، وفي العديد من الروايات المروية أن ابن عباس وقف إلى جواره ولم يتأخر، ثم إن جابر بن عبد الله رضي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 الله عنه قال «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في ثوب واحد خالف بين طرفيه، فقمت خلفه فأخذ بأذني فجعلني عن يمينه» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والبيهقي. وإن جبَّار بن صخر رضي الله عنه قال «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام يصلي، قال: فقمت عن يساره، فأخذ بيدي فحولني عن يمينه فصلينا، فلم يلبث يسيراً أن جاء الناس» رواه أحمد. فالسُّنَّة المشروعة هي وقوف المأموم الفرد إلى جوار الإمام عن يمينه حذاءَه، دون تقدم أو تأخُّر. مفارقةُ الإمام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 يجوز للمأموم أن يفارق إمامه في أثناء الصلاة إن كان للمفارقة عذر، وله أن يبني على ما صلاه مع الإمام ويتم الباقي منفرداً، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «كان معاذ بن جبل رضي الله عنه يؤم قومه، فدخل حرامٌ وهو يريد أن يسقي نخله، فدخل المسجد ليصلي مع القوم، فلما رأى معاذاً طوَّل تجوَّز في صلاته ولحق بنخله يسقيه، فلما قضى معاذٌ الصلاة قيل له: إن حراماً دخل المسجد فلما رآك طوَّلت تجوَّز في صلاته ولحق بنخله يسقيه، قال: إنه لمنافق، أيعجل عن الصلاة من أجل سقي نخله؟ قال فجاء حرامٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ عنده فقال: يا نبي الله إني أردت أن أسقي نخلاً لي، فدخلت المسجد لأصلي مع القوم، فلما طوَّل تجوَّزت في صلاتي ولحقت بنخلي أسقيه، فزعم أني منافق، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على معاذ فقال: أفتَّانٌ أنت أفتَّان أنت؟ لا تُطوِّل بهم، اقرأ بـ سبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، ونحوهما» رواه أحمد والبزَّار. وفي رواية من طريق جابر رضي الله عنه بلفظ « ... ثم جاء قومه - يعني معاذاً - فقرأ البقرة، فاعتزل رجلٌ من القوم فصلى، فقيل: نافقتَ يا فلان، قال: ما نافقت، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ... » رواه أحمد. وحرام هو الصحابي حرام ابن ملحان. وعن أبي بُريدة الأسلمي رضي الله عنه قال «إن معاذ بن جبل يقول صلى بأصحابه صلاة العشاء، فقرأ فيها اقتربت الساعة، فقام رجل من قبلِ أن يفرغ فصلى وذهب، فقال له معاذ قولاً شديداً، فأتى الرجلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاعتذر إليه فقال: إني كنت أعمل على الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلِّ بـ الشمس وضحاها، ونحوها من السور» رواه أحمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 في هذه النصوص أمران: أحدهما أن الرجل المأموم واسمه حرام بن ملحان قد قطع صلاته مع الإمام معاذ لعذر التطويل بالقراءة، وكان حرام مستعجلاً يريد سقي نخله، فلما طالت صلاة معاذ قطعها حرام وأتمَّ الصلاة منفرداً. والأمر الثاني أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنَّف معاذاً ولم يعنِّف حراماً. فهذان الأمران يدلان على جواز قطع صلاة الجماعة لعذر. الصلاةُ جماعةً في المسجد مرتين يجوز أن تُعقد في المسجد الواحد صلاتان أو أكثر جماعةً إحداها تعقب الأخرى، ويجوز لمن صلى جماعة في الأولى أن يدخل في صلاة الجماعة الأخرى، وتحتسب له صلاته الأخرى نافلة، تماماً كمن صلى منفرداً أولاً ثم دخل في صلاة الجماعة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً يصلي وحده فقال: أَلا رجلٌ يتصدق على هذا فيصلي معه؟» رواه أبو داود وابن حِبَّان والحاكم وابن خُزَيمة والترمذي. وقد سبق في بحث [تنعقد الجماعة بإمام ومأموم واحد] المارِّ قبل قليل. ورواه أحمد بلفظ «أن رجلاً دخل المسجد وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن يتصدق على هذا فيصلي معه؟ فقام رجل من القوم فصلى معه» . فالناس الذين كانوا في المسجد كانوا قد صلوا جماعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت الصلاة صلاة الظهر كما جاء مصرَّحاً به في روايةٍ لأحمد، فجاء الرجل بعد فراغ المسلمين من صلاة الجماعة، فقام يصلي وحده، فطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحد أصحابه ممن كانوا قد صلوا معه جماعة أن يأتمَّ بهذا الرجل فيصلي معه جماعةً، وهكذا يكون الصحابي قد صلى مرتين جماعةً في مسجدٍ واحدٍ بأمرٍ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدل ذلك على جواز عقد صلاتين جماعةً في مسجد واحد لصلاة واحدة. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع رسول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم يأتي قومه فيصلي بهم تلك الصلاة» رواه أحمد والبخاري ومسلم. فهذا معاذ بن جبل كان يصلي جماعة خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يذهب إلى مسجد قومه فيصلي بهم إماماً الصلاةَ نفسَها، فيكون معاذ قد صلى صلاة الجماعة مرتين. وعلى هذا قلنا ما قلناه في أول البحث من أنه يجوز أن تُعقد في المسجد الواحد صلاتان جماعة، ويجوز لمن صلى جماعة أن يدخل في صلاة جماعة أخرى. وأيضاً روى بُسر بن محجن عن محجن «أنه كان في مجلسٍ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذَّن بالصلاة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم رجع ومحجن في مجلسه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما منعك أن تصلي، ألست برجلِ مسلم؟ قال: بلى ولكني كنت قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جئتَ فصلِّ مع الناس وإنْ كنتَ قد صليت» رواه النَّسائي ومالك وأحمد وابن حِبَّان والحاكم وصححه. أما أن الصلاة الثانية تحتسب نافلة فلِمَا روى يزيد بن الأسود عند أحمد وأبي داود والنَّسائي والترمذي والدارمي. وقد مرَّ الحديث في بحث [حكم صلاة الجماعة وفضلها] وجاء فيه «يا رسول الله إنَّا قد كنا صلينا في الرحال، قال: فلا تفعلا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فلْيُصلِّها معه فإنها له نافلة» . المسبوق يدخل في الصلاة على الحال التي عليها الإمام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 إذا حضر المسبوق وأراد الدخول في الصلاة كبَّر تكبيرة الإحرام، والتحق بالحال التي عليها الإمام، سواء كان الإمام راكعاً أو ساجداً أو جالساً أو قائماً، وإذا أدرك مع الإمام ركوع ركعة فقد أدرك الركعة كلها، وإن فاته الركوع لم يدرك الركعة، وبعد أن يسلِّم الإمام يُتمُّ ما بقي له من صلاته - ولا يجب عليه سجود السهو، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» رواه البخاري ومسلم. ولمسلم من طريق أبي هريرة أيضاً بلفظ «من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة» . قوله مَن أدرك ركعة: أي من أدرك ركوع ركعة. والدليل على أن الركعة تطلق أحياناً على الركوع ما روته عائشة رضي الله عنها في صلاة الكسوف بلفظ « ... وتقدَّم فكبر وصلى أربع ركعات في ركعتين ... » رواه مسلم. وما روته عائشة أيضاً بلفظ «.. ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف أربع ركعات في ركعتين ... » رواه البخاري ومسلم. ولا يُفسَّر هذان الحديثان إلا بالقول إن كلمة أربع ركعات تعني هنا أربعة ركوعات. قوله فقد أدرك الصلاة: أي فقد أدرك الركعة ومِن ثَمَّ أدرك الصلاة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعُدُّوها شيئاً، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة» رواه أبو داود وابن خُزَيمة والحاكم. وعن عبد العزيز بن رُفيع عن شيخٍ للأنصار قال «دخل رجلٌ المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، فسمع خَفْقَ نعليه، فلما انصرف قال: على أي حال وجدتنا؟ قال: سجوداً فسجدت، قال: كذلك فافعلوا، ولا تعتَدُّوا بالسجود إلا أن تدركوا الركعة، وإذا وجدتم الإمام قائماً فقوموا، أو قاعداً فاقعدوا، أو راكعاً فاركعوا، أو ساجداً فاسجدوا، أو جالساً فاجلسوا» رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة. وعن المغيرة بن شعبة أنه قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 «تخلَّفتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فتبرَّز رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع إليَّ ومعي الإداوة، قال: فصببت على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم استنثر، قال يعقوب: ثم تمضمض، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم أراد أن يغسل يديه قبل أن يخرجهما من كُمَّي جُبَّته، فضاق عنه كُمَّاها، فأخرج يده من الجُبَّة فغسل يده اليمنى ثلاث مرات، ويده اليسرى ثلاث مرات، ومسح بخفَّيه ولم ينزعهما، ثم عمد إلى الناس فوجدهم قد قدَّموا عبد الرحمن بن عوف يصلي بهم، فأدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى الركعتين، فصلى مع الناس الركعة الآخرة بصلاة عبد الرحمن، فلما سلَّم عبد الرحمن قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُتِمُّ صلاته، فأفزع المسلمين فأكثروا التسبيح، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل عليهم فقال: قد أحسنتم وأصبتم، يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها» رواه أحمد ومسلم. ورواه أبو داود ولفظه «فأتينا الناس وعبد الرحمن بن عوف يصلي بهم الصبح، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يتأخر، فأومأ إليه أن يمضي، قال: فصليت أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - خلفه ركعة، فلما سلَّم قام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصلى الركعة التي سبق بها ولم يزد عليها شيئاً» . وإنما أوردت حديث المغيرة بن شعبة لأجل قوله في الرواية الأولى «قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُتِمُّ صلاتَه» كدليل على أن المسبوق يُتِمُّ ما بقي له من صلاته. وأما الرواية الثانية فقد جاء فيها «فصلى الركعة التي سُبق بها ولم يزد عليها شيئاً» هذه الرواية دليل على أن المسبوق يُتِمُّ صلاته فقط ولا يسجد للسهو، ولا يأتي إلا ما سُبِق به فحسب، وهذا ردٌّ على من أوجبوا سجود السهو على المسبوق. خروج المُحْدِث من الصلاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 مَن أحدث وهو يصلي في جماعة سواء كان في مسجد أو غيره شُرع له أن يأخذ بأنفه مُوهِماً مَنْ عنده مِن الناس أنه رعف، وينسحب من الصلاة ليتوضأ ثم يعود، فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا أحدث أحدكم في صلاته فلْيأخذ بأنفه ثم لينصرف» رواه أبو داود والحاكم والدارقطني. ورواه ابن ماجة وابن حِبَّان باختلاف في الألفاظ. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا أحدث أحدُكم وهو في الصلاة فلْيضع يده على أنفه ثم لينصرف» رواه الحاكم والدارقطني وابن خُزيمة. الفصل الثالث عشر الأمامة في الصلاة أ. صفة الأئمَّة الأحقُّ بالإمامة الأحق بالإمامة هم حسب الترتيب التالي: 1 - الأقرأ لكتاب الله، بمعنى الأكثر حفظاً له. 2 - الأعلم والأفقه. 3 - الأكبر سناً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا كانوا ثلاثة فلْيؤُمَّهم أحدُهم، وأحقُّهم بالإمامة أقرؤهم» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «يؤم القوم أقرؤهم للقرآن» رواه أحمد. ولأحمد من طريق عمرو بن سلمة بلفظ «ليؤمكم أكثرُكم قرآناً» . ورواه الطبراني والبخاري وأبو داود والنسائي. وعن مالك بن الحويرث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ولصاحب له «إذا حضرت الصلاة فأذِّنا وأقيما، ثم ليؤمكما أكبركما» رواه أحمد وابن حِبَّان والترمذي والنسائي وابن ماجة. وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يؤم القوم أقرؤُهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسُّنة، فإن كانوا في السُّنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأَقدمهم سنَّاً، ولا يَؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تَكرِمته الا بإذنه» رواه مسلم. ورواه أحمد ولفظه «ولا يُؤَمُّ الرجلُ في أهله ولا في سلطانه، ولا يُجْلَس على تكرمته في بيته إلا بإذنه» . وقد أخرجتُ أحقِّيَّة الأقدم هجرةً الواردة في الحديث لعدم وجودها الآن. وقد حوى الحديث الأخير إضافتين اثنتين لما سبق بيانه هما: أن الرجل في بيته يكون هو الإمام وليس الأقرأ ولا الأفقه ولا الأكبر سناً، ولا يُؤَمُّ الرجُلُ في أهله إلا أن يأذن لغيره بالإمامة. والخليفة ومثله الوالي في ولايته والعامل في عمالته يكونون الأئمة في المكان الذي يحكمون فيه، فالخليفة ومثله الوالي في ولايته والعامل في عمالته يُقدَّمون على صاحب البيت، وعلى الأقرأ لكتاب الله، وعلى الأعلم والأفقه والأكبر سناً، فالخليفة والوالي والعامل يَؤُمُّون الناس حيثما كانوا «ولا في سلطانه» . إِمامة الأعمى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 تجوز إمامة الأعمى للعميان وللمبصرين على سواء دون تفضيلٍ للأعمى على المبصر، أو للمبصر على الأعمى، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين، يصلي بهم وهو أعمى» رواه أحمد وأبو داود وابن حِبَّان. ورواه ابن حِبَّان والطبراني وأبو يعلى من طريق عائشة رضي الله عنها. وعن محمود بن الربيع الأنصاري «أن عِتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إنها تكون الظلمة والسَّيْل وأنا رجل ضرير البصر، فصلِّ يا رسول الله في بيتي مكاناً أتخذه مصلي، فجاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أين تحب أن أصلي؟ فأشار إلى مكانٍ من البيت، فصلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه البخاري والنَّسائي ومالك. وفي رواية عند البخاري بلفظ «قال للنبي: يا رسول الله قد أنكرتُ بصري وأنا أصلي لقومي» فهذه الرواية الأخيرة فيها بيان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُخبر بأن عِتبان كان يؤم قومه فلم يعترض عليه. إمامة الصبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 تجوز إمامة الصبي الذي لم يبلغ، في الفريضة وفي النافلة، للرجال وللصبيان وللنساء، ما دام قادراً عليها قارئاً لكتاب الله سبحانه. فعن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال «لما كان يوم الفتح جعل الناس يمرُّون علينا، قد جاءوا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنت أقرأ وأنا غلام، فجاء أبي بإسلام قومِه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يؤمكم أكثركم قرآناً، فنظروا فكنت أكثرهم قرآناً، قال فقالت امرأة: غطوا إسْتَ قارئِكم، قال فاشتروا له بردة، قال: فما فرحت أشدَّ من فرحي بذلك» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي. ورواه البخاري وجاء فيه « ... وليؤُمَّكم أكثرُكم قرآناً، فنظروا فلم يكن أحدٌ أكثر قرآناً مني لِمَا كنت أتلقى من الركبان، فقدَّموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين ... » شرحُ الحديث: راوي الحديث عمرو بن سلمة كان من قبيلةٍ في طريق المسلمين الذاهبين إلى مكة عام فتحها، فكان المسلمون يمرون بهذه القبيلة يقرأون القرآن، فكان هذا الصبي يستمع ويحفظ مما يقرأه المسلمون، فلما أسلم أهله ورجال قبيلته وذهب أبوه يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلام القبيلة، أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤمهم في الصلاة أكثرهم قرآناً، وحيث أنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، وحيث أن الصبي راوي الحديث كان يحفظ شيئاً من القرآن، فقد قدَّموه في الصلاة فكان إمامهم، وكان الرجال والنساء يصلون خلفه، فبان دُبُر الصبي في أثناء الصلاة، فرأته امرأة فطلبت تغطيته، فاشتروا له بردة أي ثوباً طويلاً يستر عورته، فلا تنكشف في أثناء الصلاة. إمامة المرأة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 تجوز إمامة المرأة وتصحُّ للنساء، وإذا أمَّت وقفت في وسط الصف ولم تتقدَّمْهُ، فعن أبي نعيم قال «حدثنا الوليد قال: حدثتني جدتي عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث الأنصاري وكانت قد جمعت القرآن، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمرها أن تؤم أهل دارها، وكان لها مُؤذِّن، وكانت تؤم أهل دارها» رواه أحمد وأبو داود وابن خُزَيمة والحاكم والبيهقي. وعن ريطة الحنفية «أن عائشة أمَّتهُنَّ، وقامت بينهنَّ في صلاة مكتوبة» رواه عبد الرزاق والبيهقي والدارقطني. وعن حُجَيرة بنت حصين قالت «أمَّتنا أم سلمة في صلاة العصر فقامت بيننا» رواه الدارقطني والشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة. ولم يَرِدْ أن امرأة قد أمَّت الرجال، فتُقتصر إمامة المرأة على النساء فحسب. اقتداء المقيم بالمسافر وبالعكس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 يجوز أنْ يأتمَّ المقيم بالمسافر وهو الأصل، كما يجوز أن يأتمَّ المسافر بالمقيم، فإذا أمَّ المسافر وفرغ من الركعتين - أي من صلاته المقصورة - وسلَّم أتمَّ المقيمون خلفه صلاتهم الرباعية منفردين، أما إذا أمَّ المقيم المسافر فإن المسافر خلفه يُتِمُّ صلاته الرباعية ولا يفارق الإمام. فعن سالم بن عبد الله عن أبيه «أن عمر بن الخطاب كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم يقول: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قومٌ سَفْرٌ» رواه مالك وعبد الرزاق والطحاوي. قوله قومٌ سَفْر: أي قوم مسافرون. وعن صفوان بن عبد الله قال «جاء عبد الله بن عمر يعود عبد الله بن صفوان، فصلى لنا ركعتين ثم انصرف، فقمنا فأتممنا» رواه عبد الرزاق ومالك والطحاوي. وعن موسى بن سلمة قال «كنا مع ابن عباس بمكة فقلت: إذا كنا معكم صلينا أربعاً، وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين، قال: سُنَّةُ أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -» رواه أحمد. وفي لفظ آخر عن ابن عباس رضي الله عنه «أنه سُئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعاً إذا ائتمَّ بمقيم؟ فقال: تلك السُّنَّة» رواه أحمد. وهذا الحديث الأخير يأخذ حكم الرفع أي الاتصال بالرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله «تلك السُّنة» وعن نافع «أن عبد الله بن عمر كان يصلي وراء الإمام بمنى أربعاً، فإذا صلى لنفسه صلى ركعتين» رواه مالك. وروى مالك عن نافع «أن ابن عمر أقام بمكة عشر ليالٍ يقصر الصلاة، إلا أن يصليها مع الإمام فيصليها بصلاته» . اقتداء المفترض بالمتنفل وبالعكس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 يجوز لمن يريد صلاة الفريضة ووجد رجلاً يصلي نافلة أن يأتمَّ به وتصح صلاته، فعن جابر بن عبد الله «أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة» رواه مسلم والبخاري وأحمد. ورواه الشافعي والدارقطني وعبد الرزاق والبيهقي بزيادة «هي له تطوُّع ولهم مكتوبةٌ العشاءَ» وهذه رواية الشافعي «عن جابر قال: كان معاذ يصلي مع النبي العشاء، ثم ينطلق إلى قومه فيصليها، هي له تطوَّع وهي لهم مكتوبةٌ العشاءَ» يذكر هذا الحديث أن قوم معاذ كانوا يصلون صلاة العشاء المفروضة خلف معاذ الذي كان يصلي بهم نافلة، لأنه يكون قد صلى العشاء خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاء في فصل [صلاة أهل الأعذار] بحث [صلاة الخوف] البند (2) الحديث التالي «عن أبي بَكْرة أنه قال: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف، فصلى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلم فتأخروا، وجاء آخرون فكانوا في مكانهم، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات، وللقوم ركعتان ركعتان» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن حِبَّان والدارقطني. وجه الاستدلال بهذا الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان قد صلى الصلاة المفروضة ركعتين بقسم من المسلمين، وأتمَّ الصلاة بالتسليم، فلما صلى بالقسم الثاني ركعتين أخريين فإنه إنما صلى بهم هاتين الركعتين نافلة، في حين أنهم هم صلوهما فريضة، بمعنى أن القسم الثاني من المسلمين قد صلوا الفريضة مؤتمِّين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي نافلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 وكما يجوز للمفترض أن يصلي خلف المتنفل فكذلك يجوز العكس، أي يجوز للمتنفل أن يصلي خلف المفترض، بل ويُندب ذلك له إن هو أدرك صلاة الجماعة سواء في المسجد أو في العراء وكان هو قد أدى الفريضة، فيندب له عندئذٍ أن يدخل في صلاة الجماعة، وتكون صلاته معهم نافلة وهم يؤدون صلاة الفريضة، لما رُوي عن محجن الديلي رضي الله عنه قال «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأُقيمت الصلاة فجلست، فلما صلى قال لي: ألست بمسلم؟ قلت: بلى، قال: فما منعك أن تصلي مع الناس؟ قال قلت: قد صليت في أهلي، قال: فصلِّ مع الناس» رواه أحمد ومالك وابن حِبَّان والحاكم والنَّسائي. ولما رُوي عن يزيد بن الأسود رضي الله عنه، وقد مرَّ بتمامه في [حكم صلاة الجماعة وفضلها] وجاء فيه « ... فقال: ما منعكما أن تُصلِّيا مع الناس؟ قالا: يا رسول الله إنا قد كنا صلينا في الرحال قال: فلا تفعلا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فلْيصلِّها معه، فإنها له نافلة» رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي والدارمي. الإمام يصلي جالسا ً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 يجوز للإمام إن كان مريضاً أن يصلي بالناس جالساً، وفي هذه الحالة يصلِّي المؤتمُّون به وهم جالسون أيضاً مقتدين بإمامهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنما جُعِل الإمام ليُؤتمَّ به فلا تختلفوا عليه، وإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جلوساً فصلوا جلوساً أجمعين» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. وقد مرَّ في بحث [متابعة المأموم للإمام] فصل [صلاة الجماعة] . وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به، فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً» رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن جابر رضي الله عنه قال «اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسمع الناس تكبيرَه، فالتفت إلينا فرآنا قياماً فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعوداً، فلما سلَّم قال: إنْ كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم إن صلَّى قائماً فصلوا قياماً، وإن صلَّى قاعداً فصلوا قعوداً» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في نفرٍ من أصحابه فقال: ألستم تعلمون أني رسول الله إليكم؟ قالوا: بلى نشهد أنك رسول الله، قال: ألستم تعلمون أنه من أطاعني فقد أطاع الله ومِن طاعة الله طاعتي؟ قالوا: بلى نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله ومِن طاعة الله طاعتك، قال: فإنَّ مِن طاعة الله أن تطيعوني، ومن طاعتي أن تطيعوا أُمراءَكم، وإن صلوا قعوداً فصلوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 قعوداً» رواه ابن حِبَّان والطبراني وأحمد والطحاوي. فهذا النص مِن أبلغ الدلالات على وجوب صلاة المأمومين جلوساً إن صلى الإمام جالساً. أما ما يُروى من أن أبا حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه ومالك وأصحابه قالوا بصلاة المأمومين قياماً خلف الإمام الجالس، فهو رأيٌ مرجوح وضعيف. أما أبو حنيفة ومالك فقد اعتمدا على حديث رواه الدارقطني والبيهقي وعبد الرزاق من طريق جابر الجُعفي عن الشعبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يَؤُمَّنَّ أحدٌ بعدي جالساً» فنقول لهما إن هذا الحديث قال عنه الدارقطني بعد أن رواه (لم يَروه غير جابر الجُعفي عن الشعبي وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم له الحجة) . ونقل البيهقي هذا القول في كتابه عند روايته لهذا الحديث. وقال الشافعي عن جابر إنه ضعيف جداً. وقال عنه أبو حنيفة إنه كذاب. فقد ذكر ابن حِبَّان عن أبي يحيى الحماني قال: سمعت أبا حنيفة يقول (ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجُعفي ... ) فالحديث هذا ساقط لا يحل الاحتجاج به، وإني لأعجب من الأحناف كيف يأخذون بهذا الحديث رغم تكذيب إمامهم لراويه جابر الجُعفي! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 وأما الشافعي وأصحابه فقد قالوا إن الأحاديث الآمرة بالصلاة جلوساً خلف الإمام الجالس هي منسوخة بالحديث التالي: عن عائشة رضي الله عنها قالت «لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بلال يُؤْذِنه بالصلاة، فقال: مروا أبا بكر يصلي بالناس، فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجلٌ أسيف، وإنه متى ما يقم مقامك لا يُسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أَسيف، وإنه متى يقم مقامك لم يُسمع الناس، فلو أمرتَ عمر، فقال: إنكنَّ لأنتنَّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفسه خِفَّة، فقام يتهادى بين رجلين ورِجْلاه تخُطان في الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حِسَّه ذهب أبو بكر يتأخر، فأومأ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي قائماً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قاعداً، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر رضي الله عنه» رواه البخاري. ورواه مسلم وجاء فيه « ... فأجلساه إلى جنب أبي بكر، وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد» . قوله الأسيف: أي الرقيق الرحيم. والرد على هؤلاء من وجوه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 1- إن حادثة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس، وصلاة أبي بكر مقتدياً به وهو قائم والناس يصلون قياماً بصلاة أبي بكر قد وردت في أحاديث صحيحة، ولكن هناك أحاديث أُخرى صحيحة قد أوردت الحادثة نفسها بشكل مغاير، فذكرت أن المأمومين قد صلوا جلوساً خلف إمامهم رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الجالس، ويكفي حديث جابر المار قبل قليل، فقد جاء فيه «اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يُسمع الناس تكبيرَه، فالتفت إلينا فرآنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعوداً» وحيث أن هذه الحادثة وردت مرة بكيفية معينة، ووردت بكيفية مختلفة مرة أُخرى، فقد أصبحت محتملة، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال. 2 - إن الحديث قد رُوي عن عائشة رضي الله عنها، وهناك حديث مروي عنها هكذا: عن عائشة رضي الله عنها «أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصف خلفه» رواه ابن حِبَّان وابن خُزيمة. ورواه أحمد وابن أبي شيبة والطحاوي بلفظ «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعداً» فعائشة رضي الله عنها قد رُوي عنها قولان متعارضان: أحدهما يقول إن الإمام كان الرسول عليه الصلاة والسلام، وثانيهما يقول إن الإمام كان أبا بكر رضي الله عنه، فصار الأمر محتملاً، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 3 - حديث عائشة الثاني يدعمه ويقويه الحديث التالي: عن أنس بن مالك قال «آخِرُ صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع القوم في ثوب واحد متوشِّحاً به - يريد قاعداً خلف أبي بكر» رواه ابن حِبَّان. ورواه أحمد بلفظ «آخر صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع القوم في ثوب واحد متوشِّحاً به خلف أبي بكر» ورواه الترمذي بلفظ «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه خلف أبي بكر قاعداً في ثوب متوشِحاً به» . وقال (هذا حديث حسن صحيح) وهذا الحديث عن أنس، والذي قبله عن عائشة رضي الله عنها حديثان صحيحان لا مطعن في أي منهما، فهل بعد هذين الحديثين وبعد حديث جابر يبقى للشافعي وأصحابه ما يتمسكون به من القول بنسخ الأحاديث الكثيرة الصحيحة القائلة بصلاة المأمومين جلوساً خلف الإمام الجالس؟ هل يصح نسخ الأحاديث الصحيحة الكثيرة بحديث محتمل؟. 4- روى ابن أبي شيبة من طرق أن كلاً من جابر بن عبد الله وأُسيد بن حضير وقيس بن قهد قد صلى إماماً وهو جالس، وأن المأمومين خلفه صلوا جلوساً، وقال ابن حِبَّان (إن من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة أفتوا به: جابر بن عبد الله وأبو هريرة وأُسيد ابن حُضير وقيس ابن قهد، والإجماع عندنا إجماع الصحابة ... ولم يُرو عن أحد من الصحابة خلاف لهؤلاء الأربعة لا بإسناد متصل ولا منقطع، فكأن الصحابة أجمعوا على أن الإمام إذا صلى قاعداً كان على المأمومين أن يصلوا قعوداً) وقال عبد الرزاق (وما رأيت الناس إلا على أن الإمام إذا صلى قاعداً صلى من خلفه قعوداً، وهي سُنة من غير واحد) وحيث أن الصحابة أجمعوا أو كادوا، وحيث أن ذلك سُنة فهل يصح بعدئذ القول بالنسخ، وهل أحدٌ أعلم بالنسخ من الصحابة؟. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 5 - إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أمر المصلين بالاقتداء بالإمام في قيامه وجلوسه، وعندما رآهم يخالفون إمامهم بالصلاة خلفه قياماً وهو جالس قال «إنْ كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهو قعود» . وقد قرأت تعليقاً لطيفاً لأحمد محمد شاكر على هذه المسألة أنقله لكم (ودعوى النسخ يردها سياق أحاديث الأمر بالقعود وألفاظها، فإن تأكيد الأمر بالقعود بأعلى ألفاظ التأكيد مع الإنكار عليهم بأنهم كادوا يفعلون فعل فارس والروم يبعد معهما النسخ، إلا إن ورد نص صريح يدل على إعفائهم من الأمر السابق وأنَّ علة التشبُّه بفعل الأعاجم زالت، وهيهات أن يوجد هذا النص، بل كل ما زعموه للنسخ هو حديث عائشة - أعني في صلاة النبي في مرض موته مع أبي بكر - ولا يدل على شئ مما أرادوا ... ) . 6 - وأقول أخيراً ما يلي: على افتراض أنه لا توجد نصوص تعارض حديث عائشة الأول الذي يعتمدون عليه في ادِّعاء النسخ، وقطعاً للحجة، فإنه لا حاجة بهم إلى القول بالنسخ، وإنما كان عليهم أن يحملوا ما حصل على أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، بمعنى أنه ما كان لغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون إماماً لإمام، فالأحاديث تذكر أن أبا بكر كان الإمام، وأن الناس خلفه كانوا يأتمون به ويقتدون به، وأن أبا بكر كان يأتمُّ ويقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالأحاديث تقول «وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس يصلون بصلاة أبي بكر» ووقع في روايةٍ عند ابن حِبَّان وغيره «فكان أبو بكر يأتمُّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والناس يأتمون بأبي بكر» فهل يقول الشافعيون إن الصلاة بإمامين في وقت واحد جائز ومشروع؟ ألا يدل ذلك على أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام التي لا يجوز لمسلم أن يقلده فيه؟. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 إن هذه البنود مجتمعة ومتفرقة تُسقط الادعاء بوجود النسخ، ويبقى الحكم عاماً ومحكماً بأن المأمومين يصلون جلوساً خلف الإمام الجالس. صلاة الإمام المخلّ بشروط الصلاة إذا أمَّ الناس جُنُبٌ أو مَن ليس على وضوء وهو لا يعلم حتى خرج من الصلاة، فإن المأمومين لا يعيدون صلاتهم لأنها صحيحة مقبولة، ويعيدها الإمام وحده لأن الطهارة شرط لصحة الصلاة لا تقبل بدونها، وكذلك إذا أخلَّ الإمام بأي شرط وأنهى صلاته دون علم المأمومين فصلاتهم صحيحة، وصلاته وحده باطلة تجب عليه إعادتها، فقد وردت عدة آثار عن كبار صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم صلوا بالناس وهم جنب، أو وهم على غير وضوء، دون علم منهم ومن المصلين، ثم إنهم لما علموا بذلك بعد انقضاء صلاتهم أعادوا هم وحدهم صلاتهم، ولم يأمروا المصلين بإعادة تلك الصلاة، وقد حصل كل ذلك على مرأى ومسمع من الصحابة رضوان الله عليهم دون إنكار منهم، فكان ذلك إجماعاً. فعن الأسود بن يزيد قال «كنت مع عمر بن الخطاب بين مكة والمدينة فصلى بنا، ثم انصرف فرأى في ثوبه احتلاماً، فاغتسل وغسل ما رأى في ثوبه وأعاد صلاته، ولم نُعد صلاتنا» رواه ابن المنذر. وعن الشريد الثقفي «أن عمر صلى بالناس وهو جنب، فأعاد ولم يأمرهم أن يعيدوا» رواه الدارقطني بسند رواته ثقات. وعن محمد بن عمرو ابن الحارث بن المصطَلِق «أن عثمان صلى بالناس صلاة الفجر، فلما تعالى النهار رأى أثر الجنابة على فخذه فقال: كبرتُ والله، كبرتُ والله، أجنبتُ ولا أعلم، فاغتسل وأعاد الصلاة، ولم يأمرهم أن يعيدوا» رواه ابن المنذر والأثرم والبيهقي والدارقطني. وعن نافع «أن ابن عمر صلى بأصحابه، ثم ذكر أنه مسَّ ذكره فتوضأ، ولم يأمرهم أن يعيدوا» رواه الدارقطني. ورواه ابن المنذر وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي باختلاف يسير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 فالإمام إذا أخل بشرط من شروط الصلاة كالطهارة مثلاً وهو لا يعلم فإن صلاة المؤتمين به صحيحة، سواء تمت الصلاة بالإخلال أو حصل تدارك له في أثناء الصلاة، فالعبرة في كل ذلك أن يكون قد حصل ما حصل بدون علم الإمام، أما إذا كان الإمام يعلم بوجود الإخلال، وكان المؤتمون يعلمون بوجوده لدى الإمام، فإن صلاة الجميع تكون باطلة عندئذٍ. والخلاصة أن الإمام إن هو أخلَّ بشروط الصلاة أو انتقص منها شيئاً فإن مردوده راجع عليه وحده، ولا يضير المصلين شئ إلا أن يكونوا يعلمون ويرضون فيشاركوه في أمره، وذلك للأدلة السابقة، ولما روى عامر بن عقبة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «مَن أمَّ الناس فأصاب الوقت واتمَّ الصلاة فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئاً فعليه ولا عليهم» رواه ابن حِبَّان وابن خُزيمة وأحمد وأبو داود والطبراني. الإمام يستخلف في صلاته للإمام أن يستخلف أحداً ممن يقفون خلفه يقدِّمه عليهم ليؤمهم بدله، وله أن لا يستخلف، وإنما ينصرف من صلاته لإزالة العارض الذي يحول دون مواصلة الصلاة، ثم يعود لإمامتهم، كأن يتذكر أنه جنب، أو على غير وضوء، أو على ثيابه نجاسة دون أن يكون ذهابه لإزالة العارض يحتاج إلى زمن طويل يشق على المصلين، فعن أبي بكرة رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استفتح الصلاة فكبَّر، ثم أومأ إليهم أنْ مكانَكم، ثم دخل فخرج ورأسه يقطر فصلى بهم، فلما قضى الصلاة قال: إنما أنا بشر وإني كنت جنباً» رواه أحمد. وروى نحوه أبو داود وابن حِبَّان والبيهقي. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما تذكر أنه جُنُب وهو في الصلاة لم يستخلف أحداً، بل ذهب مسرعاً لإزالة العارض وهو الجنابة، ثم عاد فأمَّ الناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 أما الدليل على جواز الاستخلاف فما رواه أبو رزين قال «أمَّنا عليٌّ فرعف، فأخذ رجلاً فقدَّمه وتأخَّر» رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور. وهذا الفعل وإن كان من صحابي، إلا أنه حصل على مرأى ومسمع من الصحابة فلم ينكروه، فكان ذلك دليلاً على صحة الاستخلاف. الإمام يكرهه المصلون إمامة الإمام الذي يكرهه المصلون حرام لا تحلُّ له، ولكن الصلاة خلفه جائزة وصحيحة، فعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم، العبدُ الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمامُ قومٍ وهم له كارهون» رواه الترمذي. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً، رجلٌ أمَّ قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأَخَوان متصارمان» رواه ابن ماجة. فمن كانت صلاته لا تجاوز الأذن، ولا ترتفع فوق الرأس فإن هذه الصلاة لا شك حرام، وليست مكروهة فحسب كما قال بذلك عدد من الفقهاء، والمقصود بكُرْهِ المصلين للإمام كره الكثرةِ منهم، ولا يضير هذه الإمامة أن يكرهها شخصان أو ثلاثة مثلاً من بين جمهور المصلين، فالعبرة بالكثرة. ب. موقف الإمام والمصلين أين يقف الواحد وأين يقف الإثنان فصاعداً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 يقف الواحد إذا كان رجلاً عن يمين الإمام دون أن يتقدم عليه الإمام بشئ، فإذا جاء رجل ثانٍ اصطف الاثنان خلف الإمام، وكذلك يفعلون إن كانوا أكثر من اثنين، وإذا كان المأمومون رجلاً وطفلاً فحسب اصطفَّا خلف الإمام كذلك، وإذا كانوا رجلاً وطفلاً وامرأة اصطفَّ الرجل والطفل خلف الإمام، ووقفت المرأة خلفهما وحدها، وإذا كانوا رجلاً وامرأة فقط وقف الرجل عن يمين الإمام ووقفت المرأة خلفهما وحدها. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر ... فجاء فتوضأ، ثم قام فصلى في ثوب واحد خالف بين طرفيه، فقمت خلفه فأخذ بأذني فجعلني عن يمينه» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والبيهقي. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال «بعثني العباس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت خالتي ميمونة، فبتُّ معه تلك الليلة، فقام يصلي من الليل، فقمت عن يساره، فتناولني من خلف ظهره فجعلني على يمينه» رواه مسلم. وعنه رضي الله عنهما قال «أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر الليل فصليت خلفه، فأخذ بيدي فجرَّني فجعلني حذاءه، فلما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صلاته خنستُ، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما انصرف قال لي: ما شأني أجعلك حذائي فتخنُسُ؟ فقلت: يا رسول الله أَوَ ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله الذي أعطاك الله؟ قال: فأعجبته فدعا الله لي أن يزيدني علماً وفهماً ... » رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي. وقد مرَّ ذكر هذا الحديث ووجه الاستدلال به في بحث [تنعقد الجماعة بإمام ومأموم واحد] فصل [صلاة الجماعة] . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي المغرب، فجئت فقمت إلى جنبه عن يساره، فنهاني فجعلني عن يمينه، فجاء صاحبٌ لي فصففنا خلفه، فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثوب واحد مخالفاً بين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 طرفيه» رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وفي رواية مسلم «فأخذ بأيدينا جميعاً فدفعنا حتى أقامنا خلفه» . وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه «أن جدَّته مُلَيْكة دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعته، فأكل منه ثم قال: قوموا فلأُصَلِّ لكم، قال أنس: فقمتُ إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لُبِس، فنضحته بماء فقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا، فصلى لنا ركعتين، ثم انصرف - صلى الله عليه وسلم -» رواه أبو داود وأحمد والبخاري ومسلم ومالك. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعائشة خلفنا وأنا إلى جنب النبي - صلى الله عليه وسلم - أُصلي معه» رواه أحمد والنَّسائي. موقف الصبيان والنساء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 يقف الرجال في المقدمة صفاً واحداً أو أكثر، ثم يقف الصبيان خلفهم، ثم تقف النساء خلف الصبيان، وإذا كان صبي واحد فقط وقف في صف الرجال، أما إن كان الصبيان اثنين فأكثر فالأفضل والسُّنَّة هي أن يخرجوا من صف الرجال ويكوِّنوا من أنفسهم صفاً منفصلاً خلف الرجال، والنساء يشكِّلن صفاً خلف الجميع. وإذا لم تكن سوى امرأة واحدة فإنها تقف وحدها خلف الصفوف، فإن دخلت في صف الصبيان فقد خالفت السُّنة، ولكن صلاتها صحيحة، فعن عبد الرحمن بن غَنْم قال: قال أبو مالك الأشعري لقومه «أَلا أُصلي لكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فصف الرجال ثم صف الولدان ثم صف النساء خلف الولدان» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطوعاً، قال: فقامت أم سُلَيْم وأم حرام خلفنا، قال ثابت: لا أعلمه إلا قال: وأقامني عن يمينه، فصلينا على بساط» رواه أحمد وأبو داود. ومرَّ قبل قليل حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في بحث [أين يقف الواحد وأين يقف الاثنان فصاعداً] وفيه [وصففت أنا واليتيم وراءه] . مما يدل على أن الصبي إن كان وحده دخل في صفِّ الرجال. صلاة الرجل وحده خلف الصفوف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 إذا اكتملت الصفوف جاز للرجل المنفرد أن يصلي خلف الصفوف وحده، ولا يلزمه جذب شخص من الصف الذي أمامه ليصلي معه مُكوِّناً معه صفاً، وكل ما رُوي من أحاديث تأمر المصلي وحده أن يجذب إليه أحداً من الصف الذي أمامه هي ضعيفة أو واهية لا تصلح للاحتجاج، فمثلاً روى وابصة ما يلي «رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً صلى خلف الصفوف وحده، فقال: أيها المصلي وحده ألا وصلت إلى الصف، أو جررت إليك رجلاً فقام معك؟ أعد صلاتك» رواه البيهقي والطبراني، وقال البيهقي [تفرد به السري بن إسماعيل وهو ضعيف] وعن ابن عباس «أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أمر الآتي وقد تمَّت الصفوف أن يجتذب إليه رجلاً يقيمه إلى جنبه» رواه الطبراني بإسناد قال الحافظ ابن حجر: واهٍ. وممن قال بمشروعية الجذب الشافعي وعطاء وإبراهيم النخعي، ذكر ذلك ابن المنذر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 وذهب مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهُوَيه والأوزاعي إلى عدم مشروعية الجذب، وهو الصحيح، وذلك لأن جذب شخص من صفٍّ مكتمل يقطع ذلك الصف ويُحدث فيه خللاً وذلك حرامٌ لا يجوز، فعن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من وصل صفاًّ وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله» رواه النَّسائي وابن خُزيمة وأحمد وأبو داود والحاكم. فالمسلمون مأمورون بوصل الصفوف وإكمالها لا بقطعها. ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال « ... وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري من طريق أبي هريرة، ورواه مسلم وأحمد والدارقطني. وحالتنا هذه هي حالة عذر وعدم استطاعة، فلا إثم عندئذ، فالمصلي وحده إن لم يجد فُرجة فهو معذور، ولا إثم عليه، وصلاته وحده خلف الصفوف مشروعة وصحيحة. وقد ذكر ابن المنذر أن الحسن البصري ومالكاً والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي يقولون بعدم بطلان الصلاة منفرداً، بشكل مطلق دون تقييدها بأي عذر، ونحن لا نقول ذلك بشكل مطلق، وإنما نقيده بعذر عدم الاستطاعة لامتلاء الصفوف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 أما إن كان الصف غير مكتمل فقد لزمه الدخول فيه، ولم يَجُز له أن يصلي منفرداً خلف الصفوف، لأن الأصل بطلان الصلاة منفرداً خلف الصفوف، فعن وابصة بن معبد «أن رجلاً صلى خلف الصف وحده، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الصلاة» رواه الترمذي وأحمد وابن ماجة. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده، فأمره فأعاد الصلاة» . ورواه أبو داود إلا أنه ذكر «فأمره أن يعيد الصلاة» . وعن علي بن شيبان «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي خلف الصف، فوقف حتى انصرف الرجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: استقبل صلاتك، فلا صلاة لرجلٍ فردٍ خلف الصف» رواه أحمد وابن ماجة وابن خُزَيمة وابن حِبَّان. فصلاة المنفرد خلف الصف وحده باطلة، وتجب عليه إعادتها لصريح النص في ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 ويكره لمن تأخر عن تكبيرة الإحرام أن يُحْرم ويركع دون الصف ثم يمشي حتى يدخل في الصف، بل ينتظر حتى يدخل في الصف وعندئذٍ يُحْرم، أي يكبر تكبيرة الإحرام، ويُتمُّ ما فاته بعد تسليم الإمام والانصراف من الصلاة، ولكنْ إن فعل المتأخر ذلك فأحرم قبل دخول الصف وركع، ثم مشى حتى يدخل في الصف فصلاته صحيحة وإن كانت خلاف السُّنة، فعن أبي بَكرة رضي الله عنه «أنه جاء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - راكع، فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَن هذا الذي ركع ثم مشى إلى الصف؟ فقال أبو بَكرة: أنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: زادك الله حرصاً ولا تعُد» رواه أحمد والبخاري والنسائي والبيهقي والطحاوي. قوله زادك الله حرصاً ولا تعد: يدل على أن صلاة أبي بَكرة قد قُبلت وصحَّت، ولو كانت باطلة لأمره بالإعادة. إلا أنها خلاف السنة، وهذا هو معنى قوله «ولا تَعُد» . وممن رُوي عنهم جواز صلاة أبي بَكرة زيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن جبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير وابن جُريج ومعمر، ذكر ذلك ابن المنذر في الأوسط. أين يقف الإمام من المأمومين؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 يقف الإمام قُبالة وسط صف المأمومين خلفه، ويكره أن يقف في مكان أعلى من المأمومين إلا أن يفعل ذلك قصد التعليم فلا بأس، ولا بأس بحصول العكس، بأن يكون المأمومون أعلى من إمامهم، ولكن لا بد من أن يظلوا يرون الإمام أو يسمعون صوته. وإذا وُجد حائل بين الإمام والمأموم لا يمنع الرؤية أو سماع الصوت فلا بأس. ويجوز للمُؤتمِّ أن يكون خارج المسجد ما دام يرى الإمام أو يسمع صوته فيصلي بصلاته، فعن همام «أن حذيفة أمَّ بالناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا يُنهَوْن عن ذلك؟ قال: بلى قد ذكرت حين مددتني» رواه أبو داود وابن خُزَيمة والحاكم. ورواه الشافعي وابن حِبَّان بلفظ «صلى بنا حذيفة على دكان مرتفع فسجد عليه، فجبذه أبو مسعود البدري، فتابعه حذيفة، فلما قضى الصلاة قال أبو مسعود: أليس قد نُهِيَ عن هذا؟ فقال له حذيفة: ألم ترني قد تابعتك؟» . فعُلُوُّ الإمام على المأمومين منهيٌّ عنه إلا أن يكون ذلك لأجل تعليم الصلاة فلا بأس، لما روى سهل بن سعد رضي الله عنه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس على المنبر أول يوم وُضع، فكبَّر وهو عليه ثم ركع، ثم نزل القهقرى فسجد وسجد الناس معه، ثم عاد حتى فرغ فلما انصرف قال: يا أيها الناس إنما فعلت هذا لتأتمُّوا بي ولِتَعَلَّمُوا صلاتي» رواه أحمد والبخاري ومسلم والنَّسائي والدارمي. وعن صالح بن إبراهيم قال «رأيت أنس بن مالك صلى الجمعة في بيوت حميد بن عبد الرحمن بن عوف، فصلى بصلاة الإمام في المسجد، وبين بيوت حميد والمسجد الطريق» رواه الشافعي والبيهقي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت «صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرته، والناس يأتمُّون به من وراء الحجرة، يصلون بصلاته» رواه البيهقي. وقد مرَّ في بحث [صلاة التراويح] فصل [صلاة التطوع] حديث زيد ابن ثابت «احتجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُجَيْرة بخَصَفَة أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 حصير، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيها، فتَتَبَّع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته ... » رواه مسلم والبخاري والنَّسائي. تمَّ بفضل الله تعالى ونعمته الفراغُ منه إعداداً ومراجعةً الساعةَ الرابعة من بعد ظهر يوم الأربعاء وقفة عرفة التاسع من ذي الحجة عام 1420 هجرية، والخامس عشر من آذار عام 2000 ميلادية. الفهرس الموضوع … … … … … … … الصفحة الفصل الأول الصلاة: حكمها ومواقيتها … 5 فرض الصلاة … 5 فضل الصلاة … 6 حكم الصلاة المكتوبة … 7 الصلوات المكتوبة ومواقيتها … 11 وقت صلاة الظهر … 12 وقت صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى … 14 وقت صلاة المغرب … 15 وقت صلاة العشاء … 16 وقت صلاة الفجر … 18 إذا أخَّر الإمام الصلوات عن مواقيتها … 19 إدراك ركعة من الصلاة في وقتها … 20 مواقيت الصلاة في الدائرة القطبية … 21 فضل صلاتي الصبح والعصر … 28 قضاء الصلاة الفائتة … 28 النوم قبل صلاة العشاء والسَّمر بعدها … 31 الفصل الثاني المساجد وأماكن الصلاة … 33 فضل المساجد … 33 الذهاب إلى المسجد … 34 أدب المسجد … 35 أفضل المساجد … 40 الصلاة على غير الأرض … 41 الصلاة على الكرسي … 42 المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها … 45 المواضع التي تكره فيها الصلاة … 46 حُرمة اتخاذ القبور مساجد … 48 تحويل معابد الكفار ومقابرهم إلى مساجد … 50 الفصل الثالث الأذان: حكمه وألفاظه … 53 فرض الأذان وألفاظه … 53 فضل الأذان … 59 حكم الأذان … 60 أحوال المؤذِّن … 61 الأذان أول الوقت … 63 ما يُقال عند التأذين وعقب الفراغ منه … 64 مغادرة المسجد عقب الأذان … 66 الأذان في عصرنا الحديث … 66 الإقامة: حكمها وألفاظها … 68 الفصل الرابع أحوال المصلِّي … 77 الطهارة للصلاة … 77 سَتر العورة … 78 الثوب في الصلاة … 81 الصلاة بالأحذية … 83 الصلاة على الدابة وكل مركوب … 84 حكم النجاسة في الصلاة … 85 الفصل الخامس القِبلةُ والسُّتْرة … 87 استقبال القِبلة في الصلاة … 87 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 التَّوجُّه إلى جهة الكعبة وليس إلى عينها … 90 السُّترة للمصلِّي … 91 سُترة الإمام … 93 دفع المارِّ عند اتخاذ السُّترة … 94 ما يقطع الصلاة بمروره … 96 الصلاة إلى نائم أو بهيمة … 101 الفصل السادس صفة الصلاة … 103 حكم تكبيرة الإحرام … 103 رفع اليدين في الصلاة … 104 إقامة الصفوف أو تسويتها … 106 اصطفاف النساء خلف الرجال … 109 وضع اليدين في الصلاة … 111 النظر في الصلاة … 113 الجهر في الصلاة الجهرية … 115 دعاء الاستفتاح … 117 التَّعوُّذ في الصلاة … 120 البسملة في الصلاة … 120 قراءة الفاتحة في الصلاة … 131 صلاة مَن لا يحسن قراءة الفاتحة … 138 التأمين في الصلاة … 139 قراءة ما زاد على الفاتحة من القرآن في الصلاة … 141 قراءة القرآن في الصلوات الخمس … 146 التكبير في الصلاة … 150 الركوع وهيئته والذِّكر فيه … 153 الرفع من الركوع والذِّكر فيه … 159 السجود وهيئته والذِّكر فيه … 164 الجلسة بين السجدتين … 176 جلسة الاستراحة … 178 التشهد وهيئة الجلوس له … 180 الصلاة على رسول الله في الصلاة … 190 الدعاء والتَّعوُّذ في آخر الصلاة … 197 التسليم في الصلاة … 199 سجود السهو: حكمه وأسبابه … 204 كيفية سجود السهو … 207 العمل عند حصول الشك في عدد الركعات … 211 الفصل السابع القنوت والخشوع في الصلاة … 213 تمهيد … 213 1- القنوت في الصلاة … 213 2- الخشوع في الصلاة … 226 العمل القليل في الصلاة … 229 الأفعال والحالات المنهيُّ عنها في الصلاة … 237 أ- الأفعال المكروهة في الصلاة … 238 ب- الحالات التي تُكره فيها الصلاة … 241 ج- الأفعال المحرَّمة في الصلاة … 242 الفصل الثامن ما يُفعل ويقال عقب الصلاة … 247 أولاً - ما يُفعل عقب الصلاة … 247 أ- الجلوس فترة عقب الصلاة … 247 ب- الانصراف عن اليمين والشمال … 250 ج- الفصل بين الصلاة المكتوبة وصلاة التطوع … 251 ثانياً - ما يُقال عقب الصلاة من أذكار … 252 أ- الاستغفار … 254 ب- الاستعاذة … 255 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 ج- التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل … 257 د- تلاوة آيات من القرآن … 265 هـ- الدعاء … 267 الفصل التاسع صلوات مفروضة عدا الصلوات الخمس … 273 1- صلاة العيدين، حكمها ووقتها … 273 صفة صلاة العيدين … 277 التكبير في العيدين … 282 سنن العيدين الأخرى … 283 2- صلاة الجنازة، حكم صلاة الجنازة … 286 حكم الصلاة على شهيد المعركة مع الكفار … 287 الصلاة على الأموات المسلمين … 289 الصلاة على الغائب … 290 فضل الصلاة على الجنازة واتِّباعها … 291 الصلاة على الميت في المسجد … 292 موقف الإمام من الرجل ومن المرأة … 293 استحباب كثرة المصلين وكثرة الصفوف … 294 صفة صلاة الجنازة … 295 الدعاء للميت … 297 لا بدَّ لصلاة الجنازة من طهارة كاملة … 299 3 - صلاة الجمعة … 300 على مَن تجب الجمعة … 302 وقت صلاة الجمعة … 304 النداء لصلاة الجمعة … 305 العدد الذي تجب فيه الجمعة … 307 إدراك ركعة من الجمعة لا بد منه لإدراك الجمعة … 309 التبكير في الحضور … 309 سنن الجمعة … 311 خطبة الجمعة … 314 القراءة في صلاة الجمعة … 318 السنة الراتبة لصلاة الجمعة … 319 فضل يوم الجمعة … 320 الفصل العاشر صلاة أهل الأعذار [الخائف والمسافر والمريض] … 323 1- صلاة الخوف … 323 الصلاة إيماءً وعلى المركوب وفي غير جهة القِبلة … 328 2 - صلاة المسافر … 329 مسافة القصر … 331 المسافر يستمر في القصر … 344 3 - صلاة المريض … 346 الجمع بين الصلاتين … 349 كيفية الجمع بين الصلاتين … 354 الفصل الحادي عشر صلاة التطوع أو صلاة النفل … 357 فضل صلاة التطوع وأصنافها … 357 أ - السنن الراتبة المؤكدة … 358 ب - السنن الملحقة بالسنن الراتبة المؤكدة … 366 قضاء السنن الراتبة والسنن الملحقة بها … 371 صلاة الرواتب في السفر … 375 ج - تحية المسجد … 378 د – الوتر … 380 القنوت في الوتر وفي الصلاة المكتوبة … 392 هـ - صلاة التراويح … 401 و قيام الليل … 407 ز - صلاة الضحى … 417 ح - صلاة الكسوف … 423 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 ط - صلاة الاستسقاء … 431 ي - صلاة التسابيح … 439 ك - صلاة الاستخارة … 441 ل - سجدة التلاوة … 444 م - سجدة الشكر وصلاة الشكر … 451 ن - الصلاة بعد الفراغ من الطواف عند المقام … 450 س - الصلاة عقب الأذان … 453 ع - الصلاة عقب الوضوء … 454 الأوقات المنهي عن الصلاة فيها … 455 أحكام عامة لصلاة التطوع … 463 الفصل الثاني عشر صلاة الجماعة … 469 حكم صلاة الجماعة وفضلها … 469 صلاة النساء … 475 الإمام يصلي صلاة خفيفة … 476 متابعة المأموم للإمام … 478 تنعقد الجماعة بإمام ومأموم واحد … 479 مفارقة الإمام … 481 الصلاة جماعة في المسجد مرتين … 482 المسبوق يدخل في الصلاة على الحال التي عليها الإمام … 484 خروج المحدث من الصلاة … 486 الفصل الثالث عشر الإمامة في الصلاة … 489 أ - صفة الأئمة … 489 الأحق بالإمامة … 489 إمامة الأعمى … 490 إمامة الصبي … 491 إمامة المرأة … 491 اقتداء المقيم بالمسافر وبالعكس … 492 اقتداء المفترض بالمتنفل وبالعكس … 493 الإمام يصلي جالساً … 494 صلاة الإمام المخلِّ بشروط الصلاة … 499 الإمام يستخلف في صلاته … 500 الإمام يكرهه المصلُّون … 501 ب - موقف الإمام والمصلِّين (أين يقف الواحد وأين يقف الاثنان فصاعداً؟) … 501 موقف الصبيان والنساء … 503 صلاة الرجل وحده خلف الصفوف … 503 أين يقف الإمام من المأمومين؟ … 505 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205