الكتاب: المحصول المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ) دراسة وتحقيق: الدكتور طه جابر فياض العلواني الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الثالثة، 1418 هـ - 1997 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- المحصول للرازي الرازي، فخر الدين الكتاب: المحصول المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ) دراسة وتحقيق: الدكتور طه جابر فياض العلواني الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الثالثة، 1418 هـ - 1997 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[المحصول]ـ المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ) دراسة وتحقيق: الدكتور طه جابر فياض العلواني الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الثالثة، 1418 هـ - 1997 م [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   طبع محققا على ست نسخ لأول مرة منذ أن فرغ مؤلفه من كتابته سنة 575 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 عنوان الكتاب من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الصفحة الاولى من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الصفحة الثانية من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الصفحة الاخيرة من الجزء الاول من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 عنوان الكتاب من نسخة أحمد الثالث - استنابول والمرموز لها ب (آ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الورقة الاولى من نسخة أحمد الثالث - استنابول المرموز لها ب (آ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الورقة الاولى من نسخة أحمد الثالث - استنابول المرموز لها ب (آ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الورقة الاخيرة من الجزء الاول من نسخة أحمد الثالث - استنابول المرموز لها ب (آ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 عنوان الكتاب من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الصفحة الاولى من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الصفحة الاولى من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الصفحة الاخيرة من الجزء الاول من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ي) الجزء الاول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 نموذج من النسخة اليمنية المرموز لها ب " ص " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 نموذج من النسخة اليمنية المرموز لها ب " ص) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 آخر النسخة اليمنية المرموز لها ب " ص " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 عنوان الكتاب من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ن) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الصفحة الاولى من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ن) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الصفحة الثانية من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها ب (ن) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الورقة الاولى من نسخة الاحمدية - حلب المرموز لها ب (ح) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الصفحة الثانية من نسخة الاحمدية - حلب المرموز لها ب (ح) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الورقة الاخيرة من نسخة الاحمدية - حلب المرموز لها ب (ح) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المحقق الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. أحمده حمدا ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به..وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه، وأستغفره لما قدمت وأخرت استغفار من أقر بعبوديته، وعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو سبحانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله أنقذنا الله - تعالى - به من الهلكة، وأنجانا من الضلال، وجعلنا في خير أمة أخرجت للناس. فصلى الله - تعالى - عليه في الاولين والاخرين أفضل وأكثر وأزكى ما صلى على أحد من خلقه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعه، ودعا بدعوته إلى يوم لقاه. أما بعد: فإن من أهم العلوم الموصلة إلى معرفة أحكام الله - تعالى - في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - علم " أصول الفقه "، فهو " العلم الذي ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، فأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول - الذي لا يتلقاه الشرع بالقبول - ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له القعل بالتسديد والتأييد ". كما يقول اللامام الغزالي. وإن من أهم ماكتب في هذا العلم - بعد رسالة الامام الشافعي - رحمه الله - كتاب " البرهان " لامام الحرمين الجويني " والمستصفى " لحجة الاسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الغزالي - من أهل السنة - و " العهد " للقاضي عبد الجبار الهمداني " والمعتمد " لأبي الحسين البصري - من المعتزلة فإن هذه الكتب الاربعة قد ضمت جملة المباحث الاصولية، فتناولت جميع مسائل هذا العلم - الخطير الشأن - بعد تكامله حتى أصبحت هذه الكتب الاربعة - مراجع هذا العلم ومنابع قواعده. ولما اتصفت به هذه الكتب الاربعة من صفات - قد تحد من مجال الاستفادة منها، وتقلل من عدد المنتفعين بها من طلاب علوم الشريعة - ظهرت الحاجة إلى كتاب جامع لمزاياها، محيط بمباحثها مجرد عما أخذ عليها. فتصدي لهذه المهمة الامام فخر الدين الرازي فألف كتابه " المحصول في علم أصول الفقه " ليكون الجامع لما في هذه الامهات الاربعة من مسائل الاصول، المجرد عن جميع المآخذ التي أخذت عليها، وأضاف إلى ذلك من علمه الغزير ودقته في التعبير وحسن الاسلوب، وسلاسة العبارة ما جعل " المحصول " مطم آمال طلاب " أصول الفقه " ومعقد رجائهم، فأقبلوا عليه، واستغنوا به عما سبقه. فمن هو الامام فخر الدين الرازي وما هو كتابه " المحصول "؟ ! هذا ما سنوضحه في السطور التالية: 1 - عصر الامام الرازي: لقد عاش الامام " فخر الدين الرازي " النصف الثاني من القرن السادس الهجري كله مع ست أو سبع سنين من النصف الاول منه - هي سنوات طفولته - كما عاش السنين الست الاولى من القرن السابع. وقد كانت هذه الحقبة من الزمن من أحرج الفتران في حياة الامة الاسلامية: فالحملات الصليبية التي بدأت سنة " 494 هـ) كانت متتالية منذ ذلك التاريخ إلى أن توقف بعدما يقرب من مائتي عام منه. وكانت بلاد الاسلام خلالها هدفا لمختلف ضروب التوحش والهمجية التي جاء بها الغزاة. وفي الوقت ذاته كان على التخوم الشرقية لديار الاسلام أعداء أكثر توحشا وهمجية يعدون أيام الضعف والتدهور التي يعيشها المسلمون يوما يوما لينقضوا عليهم في أنسب فرصة تساعدهم على استئصال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 شأفة المسلمين وتدمير كيانهم. وأما في داخل ديار الاسلام: فقد كانت الخلافة العباسية قد بلغت دور الشيخوخة، ووصل ضعفها إلى مداه، ولم يعد للخليفة من سلطان إلا في بعض المظاهر التي تضعف وتقوى تبعا لضعف شخصية الخليفة وقوتها. أما السلطان الحقيقي، والتصرف الفعلي بمقاليد الامور: فقد استبد به قادة عسكريون، أو رؤساء قبائل كانوا ينصبون أنفسهم ملوكا وسلاطين وشاهات على ما تت أيديهم. بدأ ذلك بالسلاجقة ثم الخوارز مشاهية والغورية، وكان هؤلاء الملوك متناحرين على السلطان، هدفهم تحقيق مأربهم السياسية، وبسط سلطانهم على ما تحت يد الاخرين من أبناء ملتهم، غافلين أو متغافلين عما يدور حولهم، وما يدبر لهم جميعا، وكل منهم يظن أنه الاصلح للبلاد والعباد من سواه. وإذا كانت الاحوال السياسية للمسلمين في هذا الدرك الهابط، فإن الاحوال الاجتماعية والاقتصادية لم تكن تقل عنها سواء. ولا نريد الدخول في تفصيل ما حدث في ذلك العصر لانه يبعدنا عن موضوعنا، ولانه وصف بإسهاب في مختلف الكتب التاريخية القديمة، والحديثة، ولكن الامر يختلف تمام الاختلاف من الناحية الفكرية والثقافية فلقد كانت العناية في العلوم، والثقافات، والفكر كبيرة. يقول ابن خلدون - وهو يتحدث عن العلوم العقلية وأصنافها والامم التي اعتنت بها أو أهملتها -: " ويبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة وخصوصا في عراق العجم وما بعده فيما وراء النهر، وأنهم على (ثبج من العلوم العقلية لتوفر عمرانهم، واستحكام الحضارة فيهم ". كما عقد فصلا خاصا لبيان - أن حملة العلم في الاسلام أكثرهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 العجم - وبعد أن قرر هذا قال: " وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته ". ويقول ول ديورانت في كتابه " قصة الحضارة " - بعد أن تحدث عن الكثيرين من الحكام المسلمين وخصائصهم، وقارنهم بأمثالهم من حكام الافرنج: " وجرى هؤلاء الحكام المسلمون جميعهم، بل وصغار الملوك أنفسهم على سنة الخلفاء العباسيين: في مناصرة الاداب والفنون ... ثم ذكر حواضر الاسلام كبغداد ودمشق، والري، وهراة وسواها، وبين ازهار العلوم فيها، وقرر أنها كانت أكثر مدن العالم ثقافة وجمالا، وقصارى القول: إن هذا العصر كان عصر اضمحلال متلالئا ساطعا ". وأما " الري " المحيط الصغير للفخر - الذي ولد فيه وترعرع: - فالناظر في تاريخا يجدها مسرحا لمختلف الاراء والافكار والمذاهب حتى ليخيل إليه أن هذه المدينة معرض واسع، يشتمل على نماذج من كل ما كان في البيئة الاسلامية الكبرى من الاراء والمذاهب إضافة إلى العلوم المختلفة وكلها تتعايش في هذه البيئة الصغيرة بشكل يدعو إلى العجب. ولا شئ يوضح هذه الحقيقة مثل موقف الامام ابن فارس اللغوي: أبى الحسين الرازي الفقيه الشافعي الذي تحول إلى مذهب الامام مالك - رضي الله عنهما - وقوله في سبب تحوله هذا: " دخلتني الحمية لهذا الامام المقبول على جميع الالسنة، أن يخلو مثل هذا البلد عن مذهبه، فعمرت مشهد الانتساب إليه، حتى يكمل لهذا البلد فخره وفإن الري أجمع البلاد للمقالات والاختلافات في المذاهب على تضادها وكثرتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ولعله قد اتضح الان أن الحركة الفكرية والثقافية في عصر الفخر كانت قوية ونشطة، وأن الحياة العلمية كانت على جانب كبير من الازدهار لعوامل كثيرة من أهمها: تنافس الامراء والحكام في تشجيع العلماء وبناء المدارس، واقتناء المدارس، واقتناء التآليف. 2 - اسمه ونسبه: هو: محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي، الملقب بفخر الدين والمكنى بأبي عبد الله الرازي المولد الطبرستاني، القرشي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 التيمي البكري. 3 - مولده: ولد الامام الرازي في شهر رمضان من سنة أربع وأربعين وخمسمائة - على أصح القولين في تاريخ مولده، فقد بلغ - رحمه الله - في سنة هـ إحدى وستمائة سبعة وخمسين عاما، حيث قال - في تفسيره لسورة يوسف، وهو يتحدث عن التوكل على الله تعالى: " فهذه التجربة قد استمرت لي من أول عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه إلى السابع والخمسين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقد نص - رحمه الله - على أنه قد فرغ من تفسير السورة سنة إحدى وستمائة هـ. 4 - نشأته: نشأ الرازي في بيت علم، فقد كان والده الامام ضياء الدين عمر أحد كبار علماء الشافعية، وكان خطيب الري وعالمها، وله مؤلفات في الفقه والكلام من أهمها " غاية المرام في علم الكلام " ذكره ابن السبكي وقال: " إنه من أنفس كتب أهل السنة وأشدها تحقيقا ". وقال عن مؤلفه الامام ضياء الدين - والد الامام الفخر: "..كان فصيح اللسان، قوي الجنان، فقيها أصوليا، خطيبا محدثا أديبا، له نثر في غاية الحسن تكاد تحكي ألفاظه مقامات الحريري من حسنه وحلاوته ورشاقة سجعه ". وقد نشأ الفخر في حجر والده الامام ضياء الدين عمر فكان له الوالد والاستاذ - الذي كفاه عن طلب العلم على يد سواه - حتى انتقل إلى جوار به سنة تسع وخمسين وخمسائة هـ وكان الفخر يقر لوالده بالفضل في الكثير من علومه، ويطلق عليه في كتبه " الشيخ الوالد، والاستاذ الوالد، والامام السعيد ". وينص على تتلمذه عليه خاصة في علم الاصول - ويذكر - بكل اعتزاز - السلسلة العلمية التي تلقى والده علومه بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ولذلك شغف الفخر بالعلم، وأكب على التحصيل، وحرص على أن لا يضيع من حياته أي وقت في غير التعلم والتعليم، فكان يتمنى لو استطاع أن يستغني عن كثير من الحاجات الطبيعية ليجعل وقته - المصروف فيها - في طلب العلم، فيقول: " والله إنني لا تأسف في الفوات عن الاشتغال في طلب العلم في وقت الاكل، فإن الوقت والزمان عزيز ". ولقد أمده الله - تعالى - بالاضافة إلى بيته وبيئته ورغبته - بذاكرة عجيبة، وذهن وقاد، وذكاء خارق، واستعداد للتعلم قل أن تيسر مثله - في عصره - لسواه، ولذلك استطاع في فترة وجيز) ة استيعاب الكثير من كتب المتقدمين: " كالشامل " في علم الكلام لامام الحرمين و " المستطفى " للغزالي و " المعتمد " لأبي الحسين البصري. ولذلك 4 ال: " ما أذن لي في تدريس علم الكلام حتى حفظت اثنتي عشر ألف ورقة ". 5 - نظرته للعلوم المختلفة: كان الامام الرازي يرى: أن تعلم العلوم - جميعها - فرض من الفرائض الشرعية ولذلك أحب العلوم وأقبل عليها بدون تفريق إلا ما يكون من فرق بين الفاضل والمفضول، فالعلوم - في نظره - لا تخرج عن كونها واجبا، أو مما لا يتم الواجب إلا به، أو مما لابد منه لتحقيق مصلحة من المصالح الدنيوية، أو مما لابد من تعلمه لمعرفة أضراره وأخطاره، والدعوة إلى اجتنابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ولم يكن في شغفه بالعلم مجرد هاو يتصفح الكتب، أو يأخذ من العلم ما يناسب رغبته وهواه، أو يكتفي بتعرف عنوين المسائل ورؤوس المواضيع، ولكنه كان مثالا للباحث المدقق، والعالم المحقق يغوص وراء دقائق المسائل، ومعضلات الامور، يستجلي الغامض ويستكشف المجهول، يساعده على ذلك جلد عجيب على التتبع، وصبر لا يجارى فيه على البحث. ولذلك اتسعت معارفه، وتنوعت علومه - فكان أصلويا من كبار الاصوليين، وفقيها من الفقهاء، ومتكلما من فحول المتكلمين، ومفسرا من أئمة المفسرين، وفيلسوفا ولغويا ونحويا وشاعرا وخطيبا ومربيا. ولذلك لقبه أصحابه الشافعية والاشاعرة " بالامام " في سائر كتبهم الاصولية والفقهية والكلامية، فإذا أطلق لقب " الامام " في هذه الكتب فالمراد به الامام فخر الدين الرازي. وكان يدعى في " هراة " ب " شيخ الاسلام ". وقد جمع الله - تعالى - له خمسة أشياء ما جمعها الله لغيره في عصره: سعة العبارة في القدرة على الكلام، وصحة الذهن، والاطلاع الذي لا مزيد عليه، والحافظة المستوعبة التي تعينه على ما يريد من تقرير الادلة والبراهين. ولقد ترك الامام الرازي في كل علم من العلوم - المعروفة في زمانه - مؤلفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وآثارا تشهد له بذلك، تؤيد أن نيله لتلك المكانة العلمية كان عن جدارة واستحقاق. ولا نريد أن نتاول - بالتفصيل - جميع جوانب حياته العلمية في هذه العجالة فلذلك دراسة أخرى، ولكن ما نريده - هو الاشارة إلى فضل الرجل وطول باعه في علم الاصول والفقه خاصة ليكون ذلك تمهيدا مناسبا بين يدي آثاره الاصولية وفي مقدمتها " المحصول ". فالرازي أصولي - على طريقة المتكلمين ن، وفقيه شافي، وأصحابه يعرفون له قدره، ويضعونه في مقدمة أهل التحقيق من الاصوليين، ويخصونه بلقب " الامام ". كما مر. ولقد استوعب - وهو لا يزال في مقتبل العمر - أهم الكتب الاصولية لسابقيه، فدرس " البرهان " لامام الحرمين " و " العهد " للقاضي عبد الجبار، وحفظ المستصفى للغزالي و " المعتمد " لأبي الحسين البصري. ولكنه حين أخذ يكتب في الاصول لم يسر وراء من سبقوه سير مقلد يجمع ما قالوا، ثم يلخصه ويقرره، كما قد يتصور البعض، ولكنه نظر فيما جاء في تلك الكتب نظرة الفاحص المدقق، والناقد البصثر وملاحظاته على سابقيته تدل على ذلك. ولعل هذه أهم مزاياه - التي امتاز بها على صنوه الامديي صاحب " إحكام الاحكام " - الذي لخص فيه الكتب الاصولية الاربعة. فإنه - رحمه الله كثيرا ما يستدرك على إمام الحرمين والغزالي وأبي الحسن والقاضي عبد الجبار وغيرهم ويتعقب أقوالهم ويختار منها، وأحيانا يستدرك عليهم جميعا ليختار هو ما يراه الانسب أو الاقوى وسنلاحظ ذلك في كثير من المسائل في " المحصول " وأحيانا يتعجب من الاصوليين - عامة - ويستغرب بعض مواقفهم، فيقول " والعجب من الأصوليين: أنهم أقاموا الدلالة على خبر الواحد أنه حجة في الشرع ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة وكان هذا أولى لأن اثبات اللغة كالأصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 للتمسك بخبر الواحد..". 6 - مصنفاته وآثاره: الحديث عن مصنفات أبي عبد الله - رحمه الله - يطول، فقد حظيت مؤلفاته باهتمام بالغ لم تحظ به كتب أحد من معاصريه، فلقد أقبل الناس عليها واشتغلوا بها ورفضوا كتب الاقدمين ولقد بلغ من إقبال الناس عليها أن الكتاب الواحد كان يباع أحيانا بخمسمائة أو بألف دينار ذهبي. وبقدر ما كان - رحمه الله - مشغوفا بالعلم والتعليم كان مشغوفا بالتأليف حتى كتب في كل علم تعلمه كتابا أو أكثر،. وكلها مراجع في العلوم التي كتبت فيها. ولقد أذت كتبه في جميع مراجع ترجمته مكانا بارزا حتى لم يكد يخلو كتاب من الكتب التي ترجمت له من ذكر مجموعة منها وكان المؤرخون بين مقل ومكثر، فمنهم من ذهب إلى أنها مائتا نصف أو تزيد، ومنهم من اكتفى بذكر مجموعة منها مع الاشارة إلى كثرتها. وفي القسم الدراسي - الذي كتبه عن حياة الفخر وآثاره - تناولت كل ما نسب إليه من الكتب والرسائل في سائر العلوم، ثم بينت صحيح النسبة إليه، وما نسب إليه خطأ، مع بيان الموجود منها وأماكن وجوده، وذكر المفقود، وذكر كل ما أمكنني معرفته عن تلك المصنفات. ولا أريد أن أعيد ما ذكرته - هناك - فالمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 هنا هو التعريف بكتبه الاصولية وبخاصة " المحصول في علم أصول الفقه " الذي نقدمه. 7 - مصنفات الفخر الأصولية عدا المحصول: أ - إبطال القياس: ذكره القفطي وقال عنه: كتاب إبطال القسا لم يتم، ص، وابن أبي أصيبعة (22 / 29) ، والصفدي (4 / 255) . وفي كتابه " المعالم في أصول الفقه " ما يشعر بإكماله حيث قال - بعد عرض حجج نفاة القياس - والرد عليهم: " ولنا كتاب مفرد في مسألة القياس، فمن أراد الاستقصاء في القياس رجع إليه ". كما أن في هذه الاحالة ما يشعر بأن عنوانه الذي نقله المؤرخون قد يكون غير العنوان الذي وضعه هو له. ولقد أوهم عنوان هذا الكتاب كاتبا من المحدثين بأن الفخر من نفاة حجية القياس - فقال: " الرازي ممن ينفون القياس، ولا يقولون به مصدرا من مصادر التشريع فإن له رسالة في إبطال القياس "، قلت: والانكى من هذا أنه أضاف قوله: " كما يطهر في مواضع من تفسيره إنكاره للقياس ". ولو أن هذا الباحث الفاضل اطلع على ما كتبه الفخر في المحصول عن القياس - لرأى أن الامام عرض لمذاهب العلماء في القياس وأوضح حجج كل فريق، ثم عقب عليها بما نصه: " والذي نذهب إليه وهو قول الجمهور من علماء الصحابة والتابعين: أن القياس حجة في الشرع ". وإذا كان الرجوع إلى " المحصول " فيه شئ من المشقة عليه، لانه كان مخطوطا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فماذا عليه لو رجع إلى التفسر رجوع الدارسين قبل أن يرمي إماما من أئمة القائلين بحجية القياس بالقول بنفي هذه الحجية؟ ! ! إن الكاتب المذكور ادعى لتأييد برأيه: أن إنكار الفخر للقياس يظهر في مواضع من ت فسيره، وضرب مثالا على ذلك ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) . حيث ذكر حجج نفاة القياس، ثم أورد اعتراضا على ججتهم وذكر ما يمكن أن يجيبوا به عن ذلك الاعتراض، ثم أنهى المعركة من عغير أن يجيب عن جوابهم، ويديم الاخذ والرد إلى أن يرضى عنه الباحث الكريم. ولذلك عقب هذا ابلباحث - بعد أن نقل ما في التفسير - بقوله: وربما قيل: إنه يحكي هنا حجة نفاة القياس، وهذا لا يدل على أنه يرى رأيهم - والجواب والكلام للباحث الفاضل -: أن هذه ليست عادة الرازي في مناقشة الاراء فهو يبتني دائما بما يؤيد رأيه، وإذ لم يناقش هذه الحجة: علمنا أنها توافق رأيه، ولو كان له رأى مخالف لقوى الاعتراض الاخير، ووهن الرد عليه..وهكذا أكمل الباحث الكريم نطقه بالحكم على الفخر بأنه من نفاة حجية القياس. وقد فات الباحث وهوا لذي أكثر من الحديث عن تفسير الرازي ومنهجه في التفسير، والعلوم التي تطرق إليها في التفسير وغير ذلك مما حاول أن يوحي به أنه درس التفسير وصاحبه، أقول: لقد فاته أن الرازي قد بحث موضوع القياس في التفسير بشكل مسهب وبين حجج القائلين به وقواها، وذكر حجج نفاته وأوهنها في مواضع عديدة في مقدماتها: ما قاله في تفسير قوله تعالى: (يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنزعتم في شئ فردوه إلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر، ذلك خير وأحسن تأويلا) . - ونصه: المسألة الثانية: اعلم أن هذه الاية آية شريفة مشتملة على أكثر علم " أصول الفقه "، وذلك لان الفقهاء زعموا أن أصول الشريعة أربع: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. وهذه الاية مشتملة على تقرير هذه الاصول الاربعة بهذا الترتيب. أما الكتاب والسنة - فقد وقعت الاشارة إليهما بقوله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وبعد أن بين دلالة الآية على الاحتجاج بالكتاب والسنة والاجماع. قال: المسألة الرابعة: أعلم أن قوله: (فإن تنزعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) يدل - عندنا - على أن القياس حجة، ثم أفاض في بيان دلالة الآية على المراد، وذكر ما لنفاة القياس من إيرادات وأجاب عنها، ثم بين مرتبة القياس، وأنه رابع أدلة الفقه معللا لذلك، وبعد أن فرغ من بحث ذلك كله تحدث في المسألة الثانية عشرة عن مسائل من فروع القول بالقياس - فقال: ذكرنا أن قوله: (فإن تنزعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) يدل على صحة الفعل بالقياس -: كما أن هذه الاية دلت على هذا الأصل فكذلك دلت على مسائل كثيرة من فروع القول بالقياس ونحن نذكر بعضها "، وذكر ست مسائل من أهم المسائل المتعلقة بالقياس، وختم بحثه الطويل هذا بقوله: " فهذه المسائل الاصولية استنبطناها من هذه الآية في أقل من ساعتين، ولعل الانسان، إذا استعمل الفكر على الاستقصاء أمكنه استنباط أكثر مسائل أصول الفقه من هذه الاية ". أفلم يلحظ الباحث الكريم التشابه الكبير بين قول الله - تعالى -: (فإن تنزعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وقوله جل شأنه: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) ، وأن الفخر ما دام قد بحث الموضوع بشكل كامل في الآية الأولى فإنه يكفيه أن يذكر شيئا يسيرا في تفسير الاية الاخرى لمجرد التذكير بأن دلالة هذا النص على موضوع معين كدلالة ذلك! ! ولم يقتصر على هذا لا في التفسير ولا في كتبه الاصولية، بل ظل يتعقب أقوال نفاة حجية القياس ويد حضها في سائر المواضع ذات العلاقة به، شأنه في ذلك شأنه في بحث سائر الامور تخالف عقيدته الاشعرية أو مذهبه الشافعي. وكيف فات هذا الكتاب - وهو فيما يبدو من كلامه يعرف القائلين بحجية القياس، والنافين له - أن أهم ما تمسك به جمهور أهل السنة في الاستدلال لقولهم بحجية القياس من القرآن الكريم قوله تعالى: (فاعتبروا يأولى الابصر) ، وهذه الاية من سورة الحشر، أي من السور التى ادعى أنه أثبت كونها من تفسير الفخر. والامام الفخر حينما وصل إلى تفسير هذه الاية قال: " اعلم أنا قد تمسكنا بهذه الآية في كتاب " المحصول من أصول الفقه " على أن القياس حجة فلا نذكره ها هنا ". وفي مواضع متعددة من التفسير كان يفعل كما فعل في تفسيره لاية الشورى فيذكر أن نفاة حجية القياس استندوا إليها فيما ذهبوا إليه، ويبين وجه استدلالهم لا لانه يرى رأيهم، بل لمحاولة استقراء كل ما يمكن أن يؤخذ من الاية من قبل علماء أية فرقة أو مذهب. وكذلك يفعل في سائر المواضيع سواء أكانت أصولية، أو كلامية أو فقهية أو سواها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 هذا: ولعل فيما أوردنا ما يكفي لاقناع هذا الباحث ونحوه بخطأ ما ذهب إليه، ولعلنا نتعظ ونتروى فلا نتجنى على العلم وأهله نتيجة قله الاطلاع، أو قصورهم الفهم، أو بدافع من الرغبة في شهرة زائفة زائلة. بقي شئ في هذه المسألة أود التنبيه عليه - وهو: أن الفخر - رحمه الله - كان يرى أن المعاصرين له من علماء بلاده يتمسكون بالقياس على غير الطريقة المذكورة في كتب المتقدمين، وكان يرى إن كثيرا من هؤلاء العلماء لا يعرفون أن حجية القياس محل نزاع، وكل ما يعرفونه ويؤكدونه أن القياس حجة. وحين يطلب منهم الاستدلال على حجيته فإنهم يحتجون بأمور ضعيفة. ولما كان هؤلاء بمكانة قد لا تسمح لهم بالتتلمذ عليه - فإنه كان يرى في المناظرة أسلوبا لتعليمهم من غير أن يشعرهم بذلك، يدرك ذلك من يقرأ مناظراته، ومن المسائل الستة عشر التي اشتملت عليها مناظراته كان نصيب القياس منها اثنتين هما السابعة والثامنة. فلعله حين رأى هذه الحالة ألف كتابا خاصا يبحث موضوع القياس أسهب فيه في بيان أدلة القائلين بعدم حجيته، ثم رد عليهم، ليستفيد من هذا الكتاب معاصروه فاشتهر - " إبطال القياس " وإلا فإنه قد ثبت بما لا يدع مجالا لادنى شك أن الامام واحد من أئمة القائلين بحجية القياس. ب - إحكام الاحكام: ذكره القفطي في أخبار الحكماء، وابن أبي أصيبعة في عيون الانباء (2 / 30) والصفدي في الوافي (4 / 255) ، والبغدادي في هدية العارفين (2 / 107) ، ولم نجد - فيما اطلعنا عليه من مؤلفاته - إشارة إليه، كما لم تشر إليه كتب الاصول التي اطلعنا عليها، فلعله من كتبه المفقودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ج - الجدل: ذكر القفطي كتاب " مباحث الجدل " ص، وذكره كذلك بن أبي أصيبعة (2 / 30) ، وفي فهرس كوبريلي في استامبول (519 / 3) كتاب " الجدل والكاشف عن أصول الدلائل وفصول العلل ". وفيها أيضا نسخة أخرى بعنوان - " الجدل " - وفي معهد مخطوطات الجامعة العربية فيلمان لهاتين النسختين. د - رد الجدل: ذكره جميل العظم في ص، منفردا بذكره. هـ - الطريقة في الجدل: هكذا ذكرها القفطي ص، وفي وفيات الاعيان: وله طريقة في الخلاف (1 / 676) وكذلك اليافعي (4 / 8) ، ومثله في طبقات ابن السبكي (5 / 35) ، وكذلك في مفتاح السعادة (2 / 118) ، وفي كشف الظنون: " الطريقة في الخلاف والجدل " لفخر الدين محمد بن عمر الرازي (2 / 113) . والطريقة العلائية في الخلاف: ذكرها ابن أبي أصيبعة، وقال: " الطريقة العلائية في الخلاف أربع مجلدات " (2 / 29) ، ولم يذكر سابقتها، وذكرها القفطي وقال: " كتاب " الطريقة العلائية في الخلاف " أربع مجلدات " وذكر سابقتها ص، وذكرها الصفدي ولم يذكر سابقتها (4؟ 255) ، وأغفلها ابن السبكي، وذكر السابقة، وذكرها البغدادي (2 / 108) وجميل العظيم ص. ومع أننا لا نستكثر عن الفخر أن يؤلف في هذا العلم أكثر من كتابين أو ثلاثة كشأنه في بقية العلوم إلا أن في النفس شكا في صحة نسبة السابقة إليه، وإن كان القفطي قد ذكرها وذكر هذه أيضا - فإني أميل - والله أعلم - إلى أن المقصود أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 له أسلوبا متميزا في الخلاف، وذلك بعد أن قرأت عبارة ابن خلكان وابن السبكي، واليافعي، وطاش كبري زاده، وهي كما قال ابن خلكان: " وله مؤخذات على النحاة وله طريقة في الخلاف ". فكما أن قوله: وله مؤخذات على النحاة، لم يعن به أن له كتابا بهذا العنوان، فكذلك قوله: وله طريقة في الخلاف. ولعل العنوان الكامل للطريقة العلائية هو: " الطريقة العلائية في الخلاف والجدل "، وتكون كتابا واحدا هو هذا واختلفت المصادر بنقل عنوانه. ز - عشرة آلاف نكتة في الجدل: انفرد بذكره فهرس جوتا. ح - المحصل في أصول الفقه: انفرد بذكره البغدادي في هدية العارفين (2 / 108) ولعله وهم منه، أو أن الامام المصنف كان في نيته أن يكتب كتابه (محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين) بقسمين: قسم في علم الكلام، وهو المطبوع بالقاهرة سنة، وقسم في أصول الفقه - كما فعل بكتابه (المعالم أو المعالمين) فلم يتمكن من ذلك، أو لم يعثر على غير القسم الكلامي منه. ط - المعالم في أصول الفقه: ذكر القفطي كتاب " المعالم في الاصلين " ص، وقال ان خلكان: " وفي أصول الفقه، المحصول والمعالم " (1 / 676) ، كما ذكره الذهبي في تاريخ المرآة (4 / 7) ، وابن العماد في الشذرات (5 / 21) ، والصفدي في الوافي (4 / 55) ، وابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية - وابن أبي أصيبعة ذكر أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الصاحب نجم الدين أبا زكريا يحيى بن شمس الدين محمد بن عبدان اللبودي اختصر كتاب " المعلمين في الاصولين ". انظر (2 / 189) ، وهو يعني المعالم في أصول الدين، والمعالم في أصول الفقه، وإن كان حين ذكر مصنفات الفخر ذكر " المعالم " بالافراد مطلقا لم يحدد ما إذا كانت في أصول الدين أو أصول الفقه. انظر: (2 / 29) . كما ذكره طاش كبري في المفتاح (2 / 599) ، وحاجي خليفة في الكشف قال: " وشرحه علي بن الحسين الارموي المتوفى سنة (757 هـ "، ومن الذين شرحوا المعالم أيضا شرف الدين بن إبراهيم بن إسحاق المناوي المتوفى سنة هـ، وشرف الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي الفهري المعروف بابن التلمساني والمتوفى سنة هـ. انظر (2 / 1726 - 1727) . ولشر ابن التلمساني نسخة في أحمد الثالث 1353، ولها صورة في معهد المخطوطات. وللمعالم نسخ خطية في الازهر وفيها نقص / أصول، وفي ظاهرية دمشق (39، 55، 58، 62) ، وفي استامبول جار الله (1262 / 2) وأحمد الثالث، ولاله لي وفي القرويين، وبانكپور (10 / 57) . ي - المنتخب أو منتخب المحصول: ذكره منسوبا إلى الفخر الصفدي في الوافي (4 / 255) ، وابن العماد في الشذرات (5 / 21) ، وابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية " الطبقة الخامسة عشرة " والخوانساري في روضاته، وحاجي خليفة في كشف الظنون (2 / 1616) والبغدادي في هدية العارفين (2 / 108) ، والعظم في عقود الجوهر. وله نسخة خطية في فات، ولها فيلم في معهد المخطوطات طبعنا عنه نسخة. ونسخة ثانية في ظاهرية دمشق - ف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وأوله بعد الديباجة -: هذا مختصر في أصول الفقه انتخبته من كتاب " المحصول " وسميته ب " حاصل المحصول " ورتبته على مقدمة وفصول..إلخ. وعلى الورقة الاولى كتب عنوانه بلفظ " كتاب " منتخب المحصول في الاصول، وعلى طرفها كتب " حاصل محصول ". ويبدو أن في نسبة الكتاب إلى الفخر شكا قديما. وقد نقل ابن السبكي عن ابن الرفعة أنه قال - في " المطلب " في الجراح فيما إذا كان الشاج أكبر - وفي المنتخب المعزى لابن الخطيب: أنها للمشتري وقد نوقش فيه انتهى (قلت) : وقد أجاد في قوله: المعزو لابن الخطيب - لأن كثيرا من الناس ذكروا أنه لبعض تلامذة الامام لا للامام. اه كلام ابن السبكي. ولعل هذا الشك قد تسرب إلى نحو ابن السبكي مما قاله القرافي في النفائس. فإنه قد نقل عنه تلميذ الامام - شمس الدين الخسر وشاهي: أنه أكمله ضياء الدين حسين، فلما كمل وجد عبارته تخالف الكراسين الاولين، فغيرهما بعبارته وهذا هو " المنتخب " وعقب عليه بقوله: فالمنتخب لضياء الدين حسين، لا للامام فخر الدين. ويوجد في بعض النسخ: قال محمد بن عمر، اشارة للامام فخر الدين - وهو وهم، وليس للامام فخر الدين في اختصاره شئ اه. فإذا صح ما قاله القرافي - لزم أن يقال: إن الامام وقد ثبت أنه قد بدأ في المنتخب لم يتمه، وإنما عمل القدر الذي أشار إليه الخسرو شاهي. وإلا فإن الاحالات على المنتخب - منسوبا إلى الفخر أكثر من الكثرة في الكتب الاصولية المختلفة. وأما اشتهاره باسم " المنتخب " مع أن ما نقلناه من مقدمته ظاهر في أنه سماه ب " حاصل المحصول " - فلعل ذلك لورود كلمة انتخبته " في مقدمته. وعلى هذا فيمكن القول بأن المنتخب كتابان: كتاب استقل بتأليفه ضياء الدين حسين، وكتاب آخر ابتدأ الفخر به ولكنه لم يكمله، وأكمله ضياء الدين حسين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وتكون النسخ التى ورد فيها قوله: فهذا مختصر انتخبته من كتابي المحصول هي من منتخب الامام الذي لم يكمل، لا كما ذكر القرافي: بأنه وهم. وأما النسخ التي لم ترد فيها مثل هذه العبارة فهي مما استقل بتأليفه، وانتخابه ضياء الدين حسين. هذا وممن شرح " المنتخب " القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي المتوفى سنة، أو (685 هـ) .. ويقوم - الان - بتحقيق " المنتخب " أخونا الاستاذ عبد المعز حريز لتقديمه إلى كلية الشريعة بجامعة الامام لنيل درجة الدكتوراه. ك - النهاية البهائية في المباحث القياسية: ذكره الصفدي في الوافي (4 / 255) . ولعله هو المعني بقول الفخر في المعالم - ص -: " ولنا كتاب مفرد في مسألة القياس، فمن أراد الاستقصاء في القياس رجع إليه. وقد أكثر شارح " المحصول " الاصفهاني من ذكرها والاشارة إليها. انظر: - على سبيل المثال - (3 / 202 أ، 203 أ، 209 أ، 211 ب، 251 أو 265 أ، 315 أ) ، وغيرها. وبهذا ينتهى القسم الاول من البحث في كتب الفخر الاصولية، وبه نكون قد أتينا على كل ما ذكرته المصادر - التى تيسر لنا الاطلاع عليها قديمة كانت أو حديثة - من كتب الفخر ورسائله الاصولية - ولم يبق منها إلا - الكتاب - موضوع تحقيقنا وهو " المحصول في علم أصول الفقه ". 8 - الكلام عن المحصول: ل - المحصول في علم أصول الفقه: المحصول هو: أهم كتب الامام فخر الدين الاصولية، ولعل كل ما كتبه قبله - في هذا العلم - قد أدرج فيه، وما كتبه بعده منتخب منه وعائد إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وليس هذا فقط، بل هو أهم كتاب - في أصول الفقه - ظهر منذ أن فرغ الامام من تأليفه سنة هـ إلى يومنا هذا، ذلك لان فيه حصيلة أهم كتب الاصول - التى كتبت قبل الفخر - بأفصح أساليب التعبير، وأجود طرائق الترتيب والتهذيب، مضافا إليها من آرائه، وفوائد فكره، وحسن إيراداته الكثير. تسميته: عنوان كتابنا هذا في أربع نسخ من النسخ - التى حققناه عليها - هو: " المحصول في أصول الفقه ". وفي النسختين الاخريين كان عنوانه: " المحصول في علم الاصول ". وفي معظم المراجع التى ورد ذكره فيها، ذكر بالعنوان الاول، كما استعمل البعض العنوان الثاني: اعتمادا على اشتهار الكتاب بأنه في " أصول الفقه " أما الاحالات عليه فقد كان الغالب فيها الاقتصار على كلمة " المحصول " وحدها. وأول ما لفت نظري دلى وجوب تحقيق اسم الكتاب - هو الاشكال الذي أورده القرافي في النفائس على تسميته - حيث قال: " ... تسمية الكتاب بالمحصول مشكل، لان الفعل ان كان " حصل " فهو قاصر ليس له مفعول، فلا يقال " محصول " وإن كان حصل بالتشديد: فاسم المفعول منه محصل. نحو كسرته فهو مكسر ... فمحصول لا يتأتى منه، وليس للعرب ها هنا إلا حصل، وحصل. فعلى هذا لفظ " محصول ممتنع ". ثم شرع بالجواب عن هذا الاشكال، ولم يقنعه ما ذكره من جواب فأورد عليه اشكالات، وأجاب عنها وأطال. وإيرادات القرافي تؤكد أن عنوان الكتاب - في النسخ التي اطلع عليها - هو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 " المحصول " فقط. وأما عبارة " في أصول الفقه " أو غيرها فهي ليست من صلب العنوان، وإنما هي عبارة أضيفت لايضا العنوان. قد يكون الذي أضافها هو الامام المصنف نفسه، وقد يكون سواه. وقد رأينا من الواجب قبل أن نناقش ما أورده القرافي - من حيث صحة التسمية - لغة: أن نحاول العثور على العنوان الصحيح الذي وضعه الامام المصنف للكتاب. وهذا ما لا يتحقق إلا بأحد أمرين: الأول: العثور لعى نسخة بخطه يذكر فيها عنوان الكتاب الكامل. والثاني: تتبع إحالات الامام عليه في كتبه الاخرى. ولما لم نوفق للحصول على نسخة بخط الامام فإنه لم يبق أمامنا إلا تتبع إحالات الامام عليه في كتبه الاخرى. وقد أحال الامام عليه في تفسيره الكبير في ثلاثة مواضع سماه في الاول منها " المحصول في أصول الفقه ". وسماه في الثاني: " المحصول في علم الاصول ". وفي الموضع الثالث سماه " المحصول من أصول الفقه ". كما أحال عليه في كتابه - الاربعيه - مرتين سماه في الاولى " المحصول في علم الاصول ". وسماه في الثانية " المحصول في الاصول ". وحين ذكره في مقدمة المنتخب اقتصر على كلمة " المحصول " فقط. كما أشار إليه في نهاية العقول والمعالم في أصول الفقه باسم " المحصول في أصول ". والذي أميل إليه من كل هذه النقول: أن اسم الكتاب - الذي قد يكون وضعه الفخر له: هو " المحصول في أصول الفقه " ذلك لأن من المستبعد أن يطلق عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 اسم المحصول فقط من غير أن يضيف إلى العنوان ما يشير إلى العلم الذي ألف الكتاب فيه، فإنه لو أطلق الاسم هنا - لكان الاولى به أن يطلقه في عنوان " المحصل " المسهب. وكذلك في عناوين كتبه الاخرى. وبهذا يتضح أنه لابد أن يكون قد أطلق عليه أحد العناوين التي تقدمت، وأقربها - من حيث اللغة - والمعنى - قوله: " المحصول في علم أصول الفقه " فكأنه أراد أن هذا الكتاب هو محصول أصول الفقه، وحاصله: أي: خلاصته المستخرجة منه. وفي المصباح عن ابن فارس: أصل التحصيلل، استخراج الذهب من حجر المعدن، وحاصل الشئ ومحصوله واحد. وعلى هذا فلا وجه لما أورده القرافي. كما أن الامام المصنف قد ذكر أن المصادر تجئ على المفعول: نحو المعقود والميسور - بمعنى العقد واليسر - يقال: ليس له معقود رأي، أي عقد رأي. وعلى هذا فإن اسم الكتاب لا إشكال عليه حتى لو سلمنا أنه اسمه " المحصول " فقط. من غير ذكر عبارة " في أصول الفقه " باعتباره مصدرا. المؤرخون الذين ذكروه: لاهمية " المحصول " لم يكد يغفل ذكره أحد ممن ترجموا للرازي، وذكروا مؤلفاته. فمن الذين ذكروه: القفطي في أخبار الحكماء، وابن أبي اصيبعة في عيون الانباء (2 / 29) ، وابن خلكان في الوفيات (1 / 676) ، والذهبي في تاريخ الاسلام (27 / 643) ، وابن السبكي في الطبقات (5 / 35) ، واليافعي في المرآة (4 / 7) ، وابن كثير في البداية (13 / 55) ، والصفدي في الوافي (4 / 255) ، وابن العماد في الشذرات (5 / 21) ، وابن حجر في اللسان (4 / 427) ، وابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قاضي شهبة - في طبقات النحاة - 1 / 48) ، وقال عنه: " وهو من أجل الكتب " كما ذكره في طبقات الشافعية الطبقة الخامسة عشرة، والعيني في عقد الجمان (17 / 2 / 322) ، وأبو شامة في الذيل، وابن خلدون في المقدمة (3 / 1165) ، والانصاري في إرشاد القاصد ص، والقلقشندي في الصبح (1 / 472) ، وطاش كبرى زاده في المفتاح (2 / 118) ، وأبو عذبة في الروضة ص، والخوانساري في الروضات، وحاجي خليفة في الكشف، وذكر شروحه ومختصراته، وأشار إلى مصادره - انظر (2 / 1615 - 1616) ، والبغدادي في هدية العارفين (2 / 108) ، وبروكلمان في تاريخ الادب العربي (1 / 667) وجميل العظم في عقود الجوهر ص. المصادر التي استمد منها الفخر المحصول: اتفق الكاتبون في تاريخ علم " أصول الفقه " على أن أهم ما كتب في علم أصول الفقه بعد ما كتبه الامام الشافعي - رضي الله عنه - هذه الكتب الاربعة: أ - " البرهان " لامام الحرمين. ب - " المستصفى " للامام الغزالي. ج - " العهد " للقاضي عبد الجبار. وشرحه العمدة لابي الحسين. د - " المعتمد " لابي الحسن البصري - الذي هو مختصر شرحه للعهد. فهذه الكتب الاربعة احتوت مسائل ومباحث هذا العلم - على طريقة المتكلمين - وبذلك أصبحت قواعد هذا العلم وأركانه. وقد كان الامام الرازي - رحمه الله - يحفظ - عن ظهر قلب - من هذه الكتب الاربعة كتابين هما: " المستصفى " لحجة الاسلام الغزالي و " المعتمد " لأبي الحسين البصري. إضافة إلى اطلاعه على كتب الاصول الاخرى. لذلك فقد اتجه - رحمه الله - لوضع كتاب شامل في علم الاصول يهذب فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 مسائله، ويمهد قواعده، ويتناول ما تناولته الكتب الاربعة من مباحثه: فكان " المحصول من أصول الفقه " في هذا الكتاب، مع مزاياه يندر توافرها في غير كتب الفخر: من جودة الترتيب، وفصاحة العبارة، وعمق التدقيق، والاستقصاء في البحث. شروحه: ما إن ظهر " المحصول " حتى أقبل طلاب الاصول عليه، واستغنوا عن كتب المتقدمين، ورأوا فيه كل ما يبتغيه طلاب الاصول منه. فأقبل عليه الاصوليون ما بين دارس، وشارح، ومعلق، ومختصر..وممن شرحه: - شمس الدين محمد بن محمود بن محمد الاصبهاني المتوفى سنة هـ. وهو شرح حافل، رجع مؤلفه إلى معظم الكتب الاصولية التي استطاع الرجوع إليها، وفي مقدمتها: أصول المحصول الاربعة، ومختصراته وسماه ب " الكاشف عن المحصول ". ومن أهم مزايا هذا الشرح: دقة العبارات التي نقلها من كتب الاصوليين لشرح ما ورد في المحصول بألفاظها لا بمعانيها، ولذلك يجد القارئ فيه الكثير من عبارات كتب أصولية مفقودة، وكتب أخرى من العسير الرجوع إليها. ولكن هذا الشرح ناقص، توفي مؤلفه قبل أن يتمه، والنسخ التي استطعنا الحصول على صورة عنها تنتهي بنهاية كتاب الاجماع. وهي في ثلاثة مجلدات كبار، تشتمل على ما يقرب من صفحة. وله نسخة خطية في دار الكتب المصرية تحت رقم أصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 - وشهاب الدين، أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة هـ وقد ذكر القرافي في مقدمة شرحه الذي سماه " نفائس الاصول في شرح المحصول " أنه جمع لكتابة شرحه هذا نحو ثلاثين تصنيفا في الاصول للمتقدمين والمتأخرين: من أهل السنة والمعتزلة، وأرباب المذاهب الاربعة. كما ألزم نفسه ببيان مشكله، وتقييد مهمله، وتحرير ما اختل من فهرسة مسائله، والاسئلة الواردة على متنه. والحق: أن في هذا الشرح كثيرا من الفوائد الاصولية العاملة، ولكنه كثيرا ما يفوته مراد الامام وقصده فيكثر من إيراد ما لا يرد عليه، ويحمل كلامه على غير محمله، وسنتعرض لبعض ذلك في تعليقاتنا على المحصول. وهو شرح كبير يقع في ثلاثة مجلدات كبار تبلغ ما يقارب صفحة. وله نسخة خطية في دار الكتب المصرية تحت رقم، وعنها أخذنا الصورة التي استعنا بها في التحقيق. - ذكر القرافي للنقشواني شرا على المحصول، لكنني لم أستطع الاهتداء إليه. المعلقون عليه: ذكر حاجي خليفة أن لاحمد بن عثمان بن صبيح الجوزجاني المتوفى سنة هـ تعليقة عليه. وكذلك عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدايني المعتزلي المتوفى سنة هـ. كما نسب القرافي لابن يونس الموصلي تعليقة عليه. مختصراته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ومن أهم مختصراته: أ - المنتخب وقد تقدم الكلام عنه. ب - الحاصل من المحصول: وهو لتاج الدين أبي عبد الله محمد بن الحسين الارموي المتوفى سنة هـ وقد أتم تاج الدين مختصره هذا في شهر ذي الحجة سنة هـ، وهو يقع في صفحة من القطع المعتاد. وله نسخة خطية في دار الكتب المصريقة رقم أصول دار الكتب كتبت سنة هـ، وعنها أخذنا صورة للاستفادة منها في التحقيق. وقد قام زميل لنا بتحقيقه من عهد قريب ونال على ذلك درجة الدكتوراه من الازهر. والحاصل هو مأخذ " منهاج الوصول " المشهور للقاضي البيضاوي. ج - الحاصل من المحصول: لضياء الدين حسين، الذي ذكر القرافي أنه أكمل منتخب الامام. د - التحصيل وهو لسراج الدين، أبي الثناء، محمود بن أبي بكر الارموي المتوفى سنة هـ وعليه شرح موجز باسم (حل عقد التحصى) لبدر الدين التستري المتوفى سنة، والتحصيل مع شرحه هذا يقعان في حوالي صفحة من القطع المعتاد. وقد قام أحد الباحثين بتحقيقه رسالة لنيل درجة الدكتوراه من الازهر وقد نوقش منذ عهد قريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وله نسخة خطية في دار الكتب برقم أصول الفقه م. وعنها أخذنا صورة للاستفادة منها في التحقيق. وله نسخة خطية ممتازة في مكتبة الحرم المدني الشريف بخط عربي قديم تاريخ نسخها سنة هـ. هـ تنقيح الفصول في اختصار المحصول: وهو للشارع القرافي، كما شرح مختصره هذا، وهذا المختصر مع شرحه مطبوع في القاهرة بالمطبعة الخيرية سنة هـ. وتنقى المحصول: وهو لامين الدين مظفر بن محمد التبريزي المتوفى سنة هـ. ولهذا المختصر نسخة خطية في أحمد الثالث (1236، 168) ، ولها صورة في معهد المخطوطات في الجامعة العربية. وقد تم تحقيقه في الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة. هذه أهم مختصراته المعروفة. وقد ذكرنا حاجي خليفة أن له مختصرات أخرى - منها: مختصر تاج الدين، عبد الرحيم بن محمد الموصلي - المتوفى سنة هـ ومختصر محي الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي - المتوفى سنة هـ، ومختصر الباجي، علاء الدين، علي بن محمد خطاب المغربي ثم المصري الشافعي المتوفى سنة هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 كما ذكر: أن شمس الدين محمد بن يوسف المتوفى سنة هـ. كتب أجوبة من المسائل عليه. قلت لعله يريد أجوبة عما قد يكون أورد على بعض مسائله. ونسب الخوانساري إلى مجد الدين بن دقيق العيد القشيري المالكي مختصرا جيدا للمحصول. نسخ المحصول الموجودة في مختلف الخزانات: للمحصول نسخ خطية كثيرة منها: - نسخة كاملة في دار الكتب المصرية رقمها م. - ونسخة أخرى برقم وعنها أخذت نسخة المكتبة الازهرية. - والجزء الثاني فقط من نسخة أقرى برقم. - وقطعة من الجزء الاول فيها نقص من الاخر برقم. وفي سوهاج الجزء الثاني فقط. برقم أصول. - ونسخة كاملة في حلب - الاحمدية - برقم. - ونسخة كاملة أخرى في استنامبول - أحمد الثالث - برقم. - وراغب. - وعاطف. - وفي باريس. - وفاس - القرويين -. - ودمشق - الظاهرية - عام، وف (82 - 83) . - وبيشاور ب. - وبنكپور (19، 1560) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 - وبودليانا (1 / 267) . - المتحف البريطاني - الملحق -. - والمكتب الهندي (292، 1445) . - وفي طهران - خزانة فخر الدين النصيري - عن مجلة معهد المخطوطات 3 ج 1 مايو 1957. وقد بحثت عن هذه الخزانة في طهران فلم أعثر عليها. فلعلها أدمجت في خزانة أخرى بعد هذا التاريخ ونسي اسمها. - وفي صنعاء - الجامع الكبير - نسخة كاملة، في دار الكتب المصرية (ما يكرو فيلم) أخذ عنها برقم. - وداماد زادة. - ومشهد (6، 26، 87) . - باتنا (1، 74، 755) . هذه هي جملة النسخ التى تحتفظ بها هذه الخزانات العالمية للكتب. وأشارت إليها فهارسها. منها الكاملة، ومنها الناقصة، ومنها ما كتب بخط ناسخ واحد، ومنها الملفق، من نسختين، ومنها ما فصل الجزء الاول من الكتاب فيه عن الجزء الثاني، ومنها ما أدمج فيه المجلدان من غير فاصل. النسخ التى اخترناها للتحقيق: حينما شرعت في اختيار النسخ التى كان علي أن اعتمد عليها لتحقيق الكتاب، وضعت في اعتباري الامور التالية: - أن أقدم النسخ الكاملة على النسخ الناقصة. - وأقدم من النسخ الكاملة - الواضحة على غيرها، وأعني بالوضوح وضوح الخط والقرب إلى المعنى. - وأقدم من النسخ الكاملة الواضحة - القديمة على الحديثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وبناء على هذا فقد اخترت النسخ التالية: أولا - نسخة دار الكتب المصرية رقم أصول. ثانيا - نسخة دار الكتب المصرية رقم أصول. ثالثا - نسخة أحمد الثالث في استامبول رقم أصول. رابعا - نسخة حلب - الاحمدية - رقم أصول. خامسا - نسخة صنعاء - الجامع الكبير - (ما يكر وفلم) دار الكتب أصول دار الكتب. سادسا - قطعة من الجزء الاول تنتهي في مباحث (الاستثناء) رقم أصول. وقد قمت بتصوير هذه النسخ الست، وصورت معها شرحي المحصول (الكاشف) للاصفهاني، (والنفائس) للقرافي، ومختصرات المحصول (المنتخب) ، و (الحاصل) و (التحصيل) مع شرحه (حل عقد التحصيل) ، ونسخة سوهاج - الجزء الثاني أصول. أما نسخة دار الكتب المصرية رقم أصول فهي نسخة كاملة بمجلدين كبيرين فرغ من نسخها في 11 شعبان سنة سبعين وستمائة هـ. ناسخها: محمد بن حمزة بن محاسن، لم أستطع الترجمة له، كتبت بخط نسخ حسن. يقع الجزء الاول منها ب صفحة، ومسطرتها، ومعدل كلمات السطر كلمة. وعلى أعلى الصفحة الاولى بعض التملكات. كتب على الصفحة الاولى منها: الجزء الاول من كتاب " المحصول في أصول الفقه "، تصنيف فخر الدين محمد بن عمر الرازي - قدس سره روحه - وتحته عبارة تنص على أن هذه النسخة أوقفت على طلبة العلم. ويظهر أن هذه النسخة كانت قبل أن تنقل إلى دار الكتب في خزانة " السلطان حسين " حيث كتب في الطرف الايمن من الصفحة الاولى -: " أصول الفقه " " السلطان حسين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وهذه النسخة مقابلة بنسخة أخرى رمز لها الناسخ ب (خ) ، وعليها تصحيحات بخط الناسخ نفسه، وقد رمزت لهذه النسخة بحرف (ل) . وأما النسخة الثانية من نسخ دار الكتب أصول فهي - أيضا - نسخة كاملة، ولكننا لم نستطع معرفة اسم ناسخها ولا تاريخ النسخ. وقد أدمج الناسخ الجزئين ولم يفصل بينهما. وكتب الجزء الاول منهما في صفحة بخط دقيق. مسطرتها سطرا، ومعدل كلمات السطر يتراوح بين وكلمة. وقد كتبت بخط دقيق وحسن، وعليها بعض التصحيحات. وعلى الورقة الاولى منها: " المحصول في أصول الفقه " للشيخ فخر الدين ابن الخطيب الرازي - رحمه الله - آمين. وعليها تملكات غير واضحة لاصابة الورقة بالماء. وعليها تملكات غير واضحة لاصابة الورقة بالماء. وقد رمزت إليها بحرف (ي) . وأما نسخة أحمد الثالث في - استامبول - فهي نسخة كاملة في مجلدين مقاس (5، 17 - 5، 25) . ناسخها: محمد بن عثمان بن سلامة. وتاريخ نسخها: سبع عشرة وستمائة. ومكان نسخها: المدرسة النظامية ببغداد. مسطرتها سطرا. ومعدل كلمات السطر (14 - 17) وعدد صفحات الجزء الاول منها: صفحة. كتب على الصفة الاولى منها: الجزء الاول من كتاب " المحصول في علم الاصول "، تأليف الشيخ الامام العالم الاوحد فخر الدين، ركن الاسلام، أبي الفضل محمد بن عمر الخطيب الرازي، قدس الله روحه، ونور ضريحه، آمين بالعظيم المنان. محمد بن عثمان. وفي هذه النسخة سقط كثير، منه ما تلافاه الناسخ بعد المقابلة، وأثبته على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 هوامش الصفحات، ومنه ما بقي ساقطا. وقد رمزت إليها بحرف (أ) . وأما نسخة حلب - الاحمدية) رقم فهي أحسن النسخ التي اطلع عليها خطا، ولكن بها نقصا فقد طمست منها صفة الغلاف وسقطت الصفحتان الاخيرتان من الجزء الاول، وصفحتان من وسط الجزء. وفي صفحاتها الاولى تآكل ابتدأ من الصفحة الاولى إلى الصفحة الرابعة والستين. وقد أدى هذا التآكل إلى سقوط كلمات من أواخر الاسطر الخامس والسادس والسابع من كل صفحة من الصفحات المذكورة تقريبا. ولم أستطع معرفة اسم ناسخها، ولا مكان النسخ. مقاسها: (23 / 13) سم. مسطرتها سطرا. ومعدل كلمات السطر كلمة. وتقع في صفحة. وقد ضبطت معظم كلماتها بالشكل. وعلى هوامشها معارضة بنسخة أخرى، وتصحيحات. وقد وجدتها أقرب النسخ إلى الصواب. بعد النسخة اليمنية. وقد رمزت إليها بحرف (ح) . وأما النسخة الخامسة فهي نسخة الجامع الكبير في صنعاء. يقول ناسخها: إنه استنسخها عن نسخة نسخت من نسخة كتبت على زمان المصنف بمدينة " نيسابور " ب " خراسان " سنة هـ. وفرغ من نسخ نسخته التي بين أيدينا - سنة هـ. ومسطرتها: ما بين (42 - 45) سطرا في الصفحة الواحدة. ومعدل كلمات السطر: ما بين (18 - 24) كلمة. وقد كتبت بخط يمني معتاد. ومع كل ما يعانيه قارئها من صعوبات في القراءة، فإنها أقرب النسخ التى اطلعت عليها إلى الصواب - من حيث المعنى ولانها كتبت بخط في غاية الدقة فإن الجزء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الاول قد وقع في صفحة. وقد كتب على الصفحة الاولى منها: كتاب " المحصول في أصول الفقه "، تصنيف الشيخ الصدر، الامام، الاجل، الافضل، الاكمل، الاشرف، فخر الدين، ناصر الاسلام، ملك العلماء، سلطان المحققين، استاذ الورى، علم الهدى، أبي عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الرازي. قدس الله روحه ونور ضريحه. وعليها تملكات كثيرة عليها شطب، والذى استطعت قراءته منها: " ملك العبد الفقير إلى الله سنبل بنى سرور الصنعاني ". وكتب تحت عنوان الكتاب بعض الابيات الشعرية، وأضيفت عند التجليد ورقة بعد ورقة العنوان غريبة عن الكتاب فيها بعض الابيات الشعرية نسبها الناسخ للامام أبي حنيفة - رحمه الله - وأتبعها ببعض أبيات المتنبي، وكلام نقله عن الامام الهادي يحيى بن الحسن، قال: إنه قاله لاهل صنعاء. ويبدو أن الناسخ ذا عناية بالطلاسم والعزائم فقد ألحق خمس صفحات بآخر الكتاب كتب فيها جملة من الطلاسم والعزائم لاغراض مختلفة، كما كتب بعض وصايا ورسائل نسبها لبعض أئمة الزيدية. ورمزت لهذه النسخة بحرف (ص) . وأما النسخة السادسة فهي قطعة من الجزء الاول تنتهي بالمسألة السابعة في الاستثناء المذكور عقيب الجمل - وهي محفوظة بدار الكتب المصرية برقم أصول. وقد أهديت إلى دار الكتب من قبل السيد حسين الحسيني وكانت قبل ذلك ملك والده: أحمد الحسيني بن السيد أحمد بن السيد يوسف الحسيني. وخطها، حديث، أظنها كتبت بعد الالف. مسطرتها: سطرا، ومعدل كلمات السطر. وتقع في صفحة. وقد رمزت إليها بحرف (ن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 هذا وصف مجمل للنسخ الست التى اعتمدت عليها في تحقيق الكتاب. 9 - أهمية التحقيق: والتحقيق علم من أهم العلوم له قواعده، وأصوله، وأهدافه، وغاياته، وهذه القواعد والاصول هي أقرب ما تكون إلى علمي الحديث " دراية ورواية "، تساهل السلف فيه لانتشار العدالة، وعلو شأن الامانة في النقل، وقدرتهم الفائقة على ضبط المنقول مشافهة أو نسخا، وقلة التحريف والتصحيف عندهم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم - أول من سن قاعدة " المقابلة " بما كان يقابل القرآن على ناقله إليه جبريل - عليه السلام - ولقد ظن القوم - وبعض الظن إثم - أن التحقيق علم من العلوم التى استأثر الغربيون بفضيلة تأسيسها، وأنه بدأ يظهر مع بدء النهضة الاوربية في القرن التاسع عشر الميلادي. وأن على أيديهم قواعده وأصوله، وذلك جهل في تراث هذه الامة لا يليق بباحث. وأنه إذا كان لهؤلاء الغربيين، والمستشرقين منهم فضل في هذا العلم، فإنما هو كفضلهم في سائر ما أخذوه عنا من تراث السلف، وأضاعه الخلف، فتلقفه هؤلاء، وبنوا على أصوله وأبروزه، فإن موقفهم في الكثير مما أخذوه عن سلفنا كموقف شركائهم في الاستيلاء على خامات بلادنا، وتصنيعها وإعادتها إلى أسواقنا باعتبارها صناعتهم، وايجادهم. ولقد برزت الحاجة إلى التحقيق بروزا ظاهرا بعد أن نشطت حركة التأليف، واتسعت الحركة العلمية اتساعا كبيرا، في القرن الرابع الهجري، وما بعده من قرون. واشتدت الحاجة إليه أكثر بعد أن أصبحت المصنفات تعتمد في انتشارها على نساخ، حرفتهم نسخ الكتب لحساب طالبيها، وهؤلاء النساخ أصناف: منهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 أوتي من العلم حظا ساعده على اتقان حرفته، ومنهم من لا يختلف عن منضد الحروف في المطبعة الحديثة في كونه لا يعرف غير صورة الحرف، وشكل الكلمة. وأخذت الكتب تنتشر على أيدي هؤلاء، وهم ينسخون من الكتب ما كتب في علوم لهم إلمام بها، أو في علوم يجهلونها. وكثيرا ما تغلب الرغبة في الربح على صاحبها فتحمله على السرعة في السنخ، وقلة التثبت، وعلى التصرف في العبارة في بعض الاحيان فربما أضاف ناسخ تعليقة إلى المتن لعدم تثبته، وربما استدل عبارة أخرى من عنده لظنه أنها أخصر. وإن كانت سيطرة الاسلام على حياة الناس وسيادة شريعته ويقظة ضمائر المسلمين العامرة بالايمان قد حالت دون كثرة هذه الامور، وجعلتها في كتبنا أقل بكثير مما هي في كتب غيرنا من الامم وفي مقدماتها كتب تلك الامم السابقة. والحاجة إلى التحقيق تتضح أكثر -: حين ندرك أنه بغير التحقيق يصعب علينا إثبات نسب الكتاب لصاحبه، كما يصعب علينا التأكد من أن هذا الكتاب هو على حقيقته حين كتبه مؤلفه، وقبل التأكد من كل هذا فإن عملية النقل عن الكتاب، والاحتجاج بما فيه تكون من أصعب الامور. ولهذا فإن من الممكن القول بأن أهمية تحقيق كتاب ما تحقيقا علميا أمينا لا تقل أهمية عن قيمة الكتاب ذاته. 10 - حاجة المحصول إلى التحقيق: " المحصول " من كتب الفخر التي حفل بها هو كثيرا قبل أن يحفل به سواه فقد حاول أن يضم بين صفحاته كل ما استفاده من علم الاصول. وفرغ من تأليفه بعد اكتمال نضجه العلمي على أيدي أساتذته وذلك سنة هـ. وله من العمر آنذاك عاما. وأقبل عليه طلاب العلم، واستغنوا به عن أصوله ومنابعه، وكثرت نسخه، ومع ذلك فإن شارحه شمس الدين الاصفهاني المتوفى سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 هـ يقول معقبا على زيادة ناسخ: " ليس من هذا الكتاب نسخة صحيحة أصلا ". وحين يكن التصحيف والتحريم، والزيادة، أو النقص من الامور البينة فإن الخطب يهون، ولكن حين يخفى الكثير منه على إمام كالقرافي: أحمد بن إدريس - رحمه الله - وهو الذي درس المحصول وشرحه بشر ضخم، واختصره وشرح المختصر أيضا، واطلع على نسخ بخط تلامذة الامام والتقى ببعضهم - فإننا نتبين - آنذاك - مدى حاجة هذا الكتاب إلى التحقيق. ولعل من المفيد أن نذكر بعض الامثلة من هذه التحريفات التى خفيت على القرافي ونحوه - فمنها: أن الامام - رحمه الله - ذكر في المسألة " تكليف ما لا يطاق " قول المعترض - وهو: " إن العلم إما أن يكون سببا للوجوب أو لا يكون " - فأجاب بقوله: " نختار أنه ليس سببا للوجب، ولكن نقول: إنه يكشف عن الوجوب ". وقصد الامام المصنف واضح بأنه في مقام الجواب عن الاعتراض، قال: نختار، أي: واحدا من هذين القسمين المتقابلين. فوردت هذه الكلمة في بعض النسخ ومنها نسخ القرافي بلفظ " المختار " فظن القرافي أن اختيار الامام - في علم الله - أنه كاشف عن الوجوب، وليس سببا له، وهنا أورد ما شاء من المناقشات على محض وهم، نجم عن تصحيف ناسخ. وفي موضع آخر وردت كلمة " المتنافين "، ويبدو أن بعض الناسخين استبدلها بكلمة " الضدين "، وبدلا من توجيه الاتهام إلى الناسخ بأنه سها أو بدل، أو حرف اتهم القرافي الامام المصنف بأنه أخطأ في إطلاق اسم الضدين على متنافيين. ومن الطريف أن هذه الكلمة وردت في نسختا الست بلفظ " المتنافيين " لا بلفظ " الضدين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وأحيانا يتلطف القرافي بالامام فيتعسف للكلمة المصحفة تأويلا بعيدا. كما فعل في قوله عن لفظ الجلالة " الله ": بأنها " سريانية "، فقد صحفت في بعض النسخ إلى " سوربينية "، وفي بعض آخر إلى " سورية " فاختار أولا: أن الاقرب كونها " سورية " ثم نقض اختياره هذا حين نفي وجود من قال بأنها " سورية " في غير المصول. وبعد ذلك تأول كلمة " سوربينية " بقوله: لعل أصلها " سوربان "، وهذه هي النسبة إليها، ومعلوم أنها لا سور ولا بان، وأنه مجرد تأويل متكلف لتصحيف ناسخ. وفي مسألة " عصمة الانبياء " - قال الامام المصنف - بعد أن ذكر المذاهب في المسألة -: " وقد سبقت هذه المسألة في علم الكلام " ويبدو أن بعض النساخ زاد من عنده عبارة " من هذا الكتاب ". فقال القرافى - رحمه الله - تعقيبا عليها: هذا سهو من المصنف، ثم حاول أن يعتذر للامام عن هذا السهو المتوهم فقال: لعله كان في تقديره أن يكتب الكتاب على قسمين: قسم في أصول الدين، والثاني في أصول الفقه ولم يتمكن من كتابة غير الثاني. ولقد وقعت في نسخة الاصفهاني زيادة في تعريف " الامر " - المنقول عن القاضي - رحمه الله - حيث ورد هذا الحد في نسخته بصيغة: " هو القول المقتضي - بنفسه - طاعة المأمور بفعل المأمور به "، وكلمة " بنفسه " زيادة لم ترد في نسخنا الست، كما لم ترد في المستصفى - حيث ارتضى الامام الغزالي هذا التعريف، ونقله عن القاضي بلفظه. ووردها في نسخة الاصفهاني جعله يعتبر هذا الحد حدا للامر النفساني، وأنه لا يمكن أن يكون حدا للامر اللساني إلا إذا أسقطنا هذه الزيادة، وهي ساقطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 بنفسها، ولعل الناسخ الذي أضافها كان من المتكليمين، أو كان يحفظ حدا للامر " النفساني وظن أنه " الامر " المراد تحديده، وليس الامر " اللساني " فأضافها. وفى حديث الامام المصنف عن الامور التي يعرف بها كون فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم - للوجوب، ورد قوله: " ورابعها: أن يكون جزاء لشرط موجب: كفعل ما وجب بالنذر ". فصحف قوله: " بالنذر " في بعض النسخ إلى: " نذره "، فأصبحت العبارة: " كفعل ما وجب نذره ". وقد عقب القرافي على هذا التصحيف بقوله: " كشفت نسخا كثيرة، فوجدت هذه العبارة فيها، ولم أجد غيرها، وهي مشكلة من جهة أن النذر لا يجب، بل يجب فيه، فكان المتجه أن يقول: " ما وجب بالنذر ". وقد وجدنا - والحمد لله - العبارة الصحيحة التى تمنى القرافي أن يعبر الامام المصنف بها في نسختين من نسخنا الست. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 11 - وصيته حين مرض الفخر - رحمه الله - وأحسن بدنو الاجل أملى وهو في شدة مرضه على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر بن علي الاصفهاني وصيته وذلك في يوم الاحد الحادي والعشرين من شهر محرم سنة هـ وامتد مرضه بعدها إلى أن توفي. وقد رأينا أن نذكر هذه الوصية كما ذكرها ابن أبي أصيبعة، لما فيها من العبرة والموعظة..ولاهتمام الكثيرين - من العلماء والمؤرخين - بروايتها وتحليلها وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الراجي رحمة ربه، الواثق بكرم مولاه، محمد بن عمر بن الحسين الرازي، وهو في آخر عهدة بالدنيا، وأول عهده بالاخرة، وهو الوقف الذي يلين فيه كل قاس، ويتوجه إلى مولاه كل آبق: إني أحمد الله - تعالى - بالمحامد التي ذكرها أعظم ملائكته في أشرف أوقات معارجهم، ونطق بها أعظم أنبيائه في أكمل أوقات مشاهداتهم، بل أقول كل ذلك من نتائج الحدوث والامكان فأحمده بالمحامد التى تستحقها ألوهيته، ويستوجبها كمال ربوبيته، عرفتها أو لم أعرفها، لأنه لا مناسبة للتراب، مع جلال رب الارباب. وأصلي على الملائكة المقربين، والانبياء المرسلين، وجميع عباد الله الصالحين. ثم أقول - بعد ذلك -: اعلموا إخواني في الدين، وإخواني في طلب اليقين أن الناس يقولون: الانسان إذا مات انقطع تعلقه عن الخق، وهذا العام مخصوص من وجهين: الأول: أنه إن بقي منه عمل صالح صار ذلك سببا للدعاء، والدعاء له أثر عند الله. والثاني: ما يتعلق بمصال الاطفال، والاولاد، والعورات، وأداء المظالم والجنايات. أما الاول: فاعلموا أني كنت رجلا محبا للعلم، فكنت أكتب في كل شئ شيئا لا أقف على كمية وكيفية، سواء كان حقا أو باطلا أو غثا أو سمينا، إلا أن الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 نظرته في الكتب المعتبرة لي: أن هذا العالم المحسوس تحت تدبير مدبر تنزه عن مماثلة المتحيزات والاعراض، وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة. ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة، التي وجدتها في القرآن العظيم، لانه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله - تعالى - ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات وما ذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية. فلهذا أقول كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته وبراءته عن الشركاء في القدم والازلية، والتدبير والفعالية فذاك هو الذي أقول به، وألقى الله تعالى به. وأما ما انتهى الامر فيه إلى الدقة والغموض فكل ما ورد في القرآن والاخبار الصحيحة المتفقعليها بين الائمة المتبعين للمعنى الواحد فهو كما هو والذي لم يكن كذلك، أقول: يا إله العالمين إني أرى الخلق مطبقين على أنك أكرم الاكرمين، وأرحم الارحمين، فكل ما مر به قلمي، أو خطر ببالي، فأستشهد علمك وأقول: إن علمت مني أني أردت به تحقيق باطل، أو إبطال حق فافعل بى ما أنا أهله، وإن علمت مني أني ما سعيت إلا في تقرير ما اعتقدت أنه هو الق، وتصورت أنه الصدق، فلتكن رحمتك مع قصدي لا مع حاصلي، فذاك جهد المقل، وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف الواقع في الزلة فأغثني، وارحمني، واستر زلتي، وامح حوبتي، يا من لا يزيد ملكه عرفان العارفين ولا ينتقص بخطأ المجرمين. وأقول: ديني متابعة محمد سيد المرسلين، وكتابي هو القرآن العظيم وتعويلي في طلب الدين عليهما. اللهم يا سامع الاصوات، ويا مجيب الدعوات، ويا مقيل العثرات، ويا راحم العبرات ويا قيام المحدثات والممكنات، أنا كنت حسن الظن بك، عظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الرجاء في رحمتك، وأنت قلت " أنا عند ظن عبدي بى " وأنت قلت: (أمن يجب المضطر إذا دعاه ") وأنت قلت: (وإذا سألك عبادي عنى فإنى قريب) ، فهب: أني ما جئت بشئ فأنت الغني الكريم، وأنا المحتاج اللئيم. وأعلم: أنه ليس لى أحد سواك، ولا أجد محسنا سواك، وأنا معترف بالزلة والقصور، والعيب والفتور فلا تخيب رجائي، ولا ترد دعائي واجعلني آمنا من عذابك قبل الموت، وعند الموت، وبعد الموت. وسهل علي سكرات الموت وخفف عني نزول الموت، ولا تضيق علي بسبب الالام والاسقام فأنت أرحم الراحمين. وأما الكتب العلمية التي صنفتها، أو استكثرت في إيراد السؤالات على المتقدمين فيها، فمن نظر في شئ منها، فإن طابت له تلك السؤالت فليذكرني في صالح دعائه على سبيل التفضل والانعام، وإلا فليحذف القول بالسئ فإني ما أردت إلا تكثير البحث، وتشحيذ الخاطر، والاعتماد في الكل على الله تعالى. وأما المهم الثاني وهو: إصلاح أمر الاطفال والعورات، فألاعتماد فيه على الله - تعالى - ثم على نائب الله " محمد " - اللهم اجعله قرين محمد الاكبر في الدين والعلو، إلا أن السلطان الاعظم لا يمكنه أن يشتغل بإصلاح مهمات الاطفال فرأيت الاولى: أن أفوض وصاية أولادي إلى فلان، وأمرته بتقوى الله - تعالى - (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 قال ابن أبي أصيبعة: وسرد الوصية إلى آخرها. ثم قال: (وأوصيه، ثم أوصيه ثم أوصيه: بأن يبالغ في تربية ولدي " أبي بكر " فإن آثار الذكاء والفطنة ظاهرة عليه، ولعل الله - تعالى - يوصله إلى خير. وأمرته وأمرت كل تلامذتي، وكل من لي عليه حق أني إذا مت يبالغون في إخفاء موتي، ولا يخبون أحدا به، ويكفنوني، ويدفنوني على شرط الشرع، ويحملونني إلى الجبل المصاقب لقرية " مزداخان " ويدفنوني هناك، وإذا وضعوني في اللحد قرأوا علي ما قدروا من إلهيات القرآن، ثم ينثرون التراب علي وبعد التمام يقولون: يا كريم جاءك الفقير المحتاج فأحسن إليه. وهذا منتهى وصيتي في هذا الباب والله - تعالى - الفعال لما يشاء، وهو على ما يشاء قدير، وبالاحسان جدير) . 12 - وفاته: بعد أن لاقى - رحمه الله - في حياته الحافلة ما لاقى من أذى الخصوم - حط عصا الترحال في " هراة "، وسكن الدار التي كان قد أهداها له السلطان " خوارزم شاه " ولم يتركه خصومه يخلد إلى الراحة، بل استمروا يعملون للنيل منه حتى بلغ من فجور بعضهم في الخصومة: أنهم كانوا يرفعون إليه الرقع في مجالس درسه ووعظه وفيها: " أن ابنه يفسق ويزني، وأن امرأته كذلك ". وكان - رحمه الله - يقابل ذلك بصبر العلماء، وحلم الحكماء، وجلد الاتقياء، ويجيب عن تلك الرقع بنحو قوله: " إن هذه الرقعة تتضمن أن ابني يفسق ويزني..وذلك مظنة الشباب فإنه شعبة من الجنون، ونرجو من الله - تعالى - اصلاحه والتوبة، وأما امرأتي فهذا شأن النساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 إلا من عصمها الله، وأنا شيخ ما في للنساء مستمتع، هذا كله ممكن وقوعه، ولكني - والله - ما قلت: إن الباري جسم، ولا أن له شبيها ولا ابني يقول ذلك ولا زوجتي تعتقده ولا غلامي، فأي الفريقين أهدى سبيلا "؟ !. وكان يكثر من ترديد قوله: والمرء مادام حيا يستهان به ويعظم الرزء فيه حين يفتقد وقد اشتد عداء خصومه الكرامية له حتى ذكر بعض المؤرخين أنهم سموه أو دسوا له من سمه. وقد اتفقت مصادر ترجمة على أن وفاته كانت سنة ست وستمائة هـ وإن اختلفت في تحديد الشهر واليوم الذي توفي فيه اختلافا كبيرا، فرحمه الله رحمة واسعة. 13 - منهجي في التحقيق: لقد سرت في تحقيق الكتاب على النحو التالى: - بعد أن تكونت لدي الفكرة على أجود النسخ الموجودة التى تيسر لي الحصول عليها: قمت بطبع صور عنها، كما صورت شرحيه " الكاشف عن المحصول " للاصفهاني، و " نفائس الاصول " للقرافي، وكذلك صورت مختصراته - المخطوطة - " المنتخب " و " الحاصل " و " التحصيل " بشرحه " حل عقد التحصيل " للتستري. قمت بكتابة نسخة من الكتاب عن نسخة (ل) وعرضتها عليها، وعلى النسخ الخمس الاخرى، وأثبت الفروق، ولم أترك من هذه الفروق إلا بعض ما يرجعع إلى قواعد الاملاء وطريقته. فقد وجدت في بعض النسخ كلمات " لان " بشراء " و " استثناء " " يرى "، " سواء " مرسومة هكذا: " لئن "، " بشرى، " استثنى "، " يرا ". فكتبت هذه الكلمات، ونظائرها وفق القواعد الاملائية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 المعروفة اليوم، ولم أنبه على هذه الفروق لعدم ضرورة التنبيه عليها. وكذلك وجدت بعض النسخ تذكر بعد ورود اسم إمام أو صحابي: " رضي الله عنه "، أو " رحمه الله "، وبعض النسخ الاخرى تغفل هذه الزيادة، فجريت على إثبات هذه الصيغ وعدم التنبيه - أيضا - على النسخة التى لم تذكرها، وأما عبارات " الصلاة على رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - فقد كنت أكملها، من غير تنبيه - أيضا - على النسخ التى ذكرت ما يقابلها. ثم عدت أقرأ نص الكتاب بتأمل وتدبر، فإذا عرضت لي كلمة أو عبارة اختلفت النسخ فيها: دققت النظر فيها، وراجعت الشرحين " الكاشف " و " النفائس " وكذلك المختصرات " المنتخب " و " الحاصل " و " التحصيل " و " المنهاج " وكثيرا ما رجعت إلى " المعتمد " و " المستصفى "، فتخيرت ما هو الاصوب أو الانسب أو الاحسن، فوضعته في صلب الكتاب، ووضعت ما يقابله من النسخ الاخرى في الحاشية ولم ألتزم بلفظ نسخة بعينها. صححت ألفاظا وردت في النص مخالفة لقواعد النحو والرسم. أحلت المسائل الاصولية الواردة في الكتاب على أهم المصادر الاصولية التي تناولت هذه المسائل، وعنيت عناية خاصة بربط الكتاب بعضه ببعض، وربطه " بالمعتمد والمستصفى " باعتبارهما أهم مصادره، وكذلك بذلت جهدي في ربط مختصراته به. ذكرت آراء الفقهاء في مسائل الخلاف والفروع التي أشار الامام المصنف إليها، وبنيت مواضع بحثها في كتب الفقه المختلفة. وردت في الكتاب بعض النصوص المنقولة عن الائمة فدللت على الصفحات التي ذكرت تلك النصوص فيها من كتبهم. خرجت شواهد الكتاب: من آيات، وأحاديث وأبيات شعرية وأمثال. ترجمت لجميع الاعلام الذين ذكروا في الكتاب ترجمة مختصرة، مع الاحالة على بعض المصادر التي تناولت الترجمة، كما عرفت بالفرق التي ذكرت فيه، والاماكن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 عرفت بالكتب التي وردت أسماؤها في الكتاب وذكرت أماكن وجودها بذلت جهدي في إيضاح بعض ما غمض من عباراته مستفيدا مما قاله شارحاه الاصفهاني والقرافي، أو مما قاله الامام المصنف في كتبه الاخرى: كالتفسير وغيره، أو ما ورد في كتب الاصول الاخرى. كتبت بعض التلخيصات في أعقاب بعض المسائل الهامة زيادة في إيضاح تلك المسائل، وتحريرا لما ورد فيها وربطا لها بالكتب الاصولية الاخرى. شرحت بعض الالفاظ الغامضة في الكتاب شرحا لغويا. وضعت هذه العلامة (*) - للدلالة على نهاية كل ورقة أو لوحة من أوراق النسخ الست. د. طه جابر العلواني المحصول في علم أصول الفقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حق حمده وصلى الله على محمد وآله وعلى جميع الأنبياء والمرسلين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الكلام في المقدمات وفيه فصول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الفصل الأول في تفسير أصول الفقه (اعلم أن) المركب لا يمكن أن يعلم إلا بعد العلم بمفرداته لا من كل وجه بل من الوجه الذي لأجله يصح أن يقع التركيب فيه فيجب علينا تعريف الأصل والفقه ثم تعريف أصول الفقه أما الأصل فهو المحتاج إليه وأما الفقه فهو في أصل اللغة عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه وفي اصطلاح العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية العملية والمستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة فإن قلت الفقه من باب الظنون فكيف جعلته علما قلت المجتهد إذا غلب على ظنه مشاركة صورة لصورة في مناط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الحكم قطع بوجوب العمل بما أدى إليه ظنه فالحكم معلوم قطعا والظن واقع في طريقه وقولنا العلم بالأحكام احتراز عن العلم بالذوات والصفات الحقيقية وقولنا الشرعية احتراز عن العلم بالأحكام العقلية كالتماثل والاختلاف والعلم بقبح الظلم وحسن الصدق عند من يقول بكونهما عقليين وقولنا العملية احتراز عن العلم بكون الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة فان كل ذلك أحكام شرعية مع أن العلم بها ليس من الفقه لأن العلم بها ليس علما بكيفية عمل وقولنا المستدل على أعيانها احتراز عما للمقلد من العلوم الكثيرة المتعلقة بالأحكام الشرعية العملية لأنه إذا علم أن المفتي أفتى بهذا الحكم وعلم أن ما أفتى به المفتي هو حكم الله تعالى في حقه فهذان العلمان يستلزمان العلم بأن حكم الله تعالى في حقه ذلك مع أن تلك العلوم لا تسمى فقها لما لم يكن مستدلا على أعيانها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وقولنا بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة احتراز عن العلم بوجوب الصلاة والصوم فان ذلك لا يسمى فقها لأن العلم الضروري حاصل بكونهما من دين محمد صلى الله عليه وسلم وأما أصول الفقه فاعلم أن إضافة اسم المعنى تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه في المعنى الذي عينت له لفظة المضاف يقال هذا مكتوب زيد والمفهوم ما ذكرناه وعند هذا نقول أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها وكيفية حال المستدل بها (ف) فقولنا مجموع احتراز عن الباب الواحد من أصول الفقه فإنه وان كان من أصول الفقه لكنه ليس أصول الفقه لأن بعض الشئ لا يكون نفس ذلك الشئ وقولنا طرق الفقه يتناول الأدلة والأمارات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وقولنا على طريق الإجمال أردنا به بيان كون تلك الأدلة أدلة ألا ترى أنا إنما نتكلم في أصول الفقه في بيان أن الإجماع دليل فأما أنه وجد الإجماع في هذه المسألة فذلك لا يذكر في أصول الفقه وقولنا وكيفية الاستدلال بها أردنا به الشرائط التي معها يصح الاستدلال بتلك الطرق وقولنا وكيفية حال المستدل بها أردنا به أن الطالب لحكم الله تعالى إن كان عاميا وجب أن يستفتي وان كان عالما وجب أن يجتهد فلا جرم وجب في أصول الفقه أن يبحث عن حال الفتوى والاجتهاد وأن كل مجتهد هل هو مصيب أم لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الفصل الثاني فيما يحتاج إليه أصول الفقه من المقدمات لما كان أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه والطريق هو الذي يكون النظر الصحيح فيه مفضيا إما إلى العلم بالمدلول أو إلى الظن به والمدلول هنا هو الحكم الشرعي وجب علينا تعريف مفهومات هذه الألفاظ أعني العلم والظن والنظر والحكم الشرعي ثم ما كان منها بين الثبوت كان غنيا عن البرهان وما لم يكن كذلك وجب أن يحال بيانه على العلم الكلي الناظر في الوجود ولواحقه لأن مبادئ العلوم الجزئية لو برهن عليها فيها لزم الدور وهو محال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الفصل الثالث في تحديد العلم والظن هذا المقصود إنما يتحقق ببحثين الأول أن حكم الذهن بأمر على أمر إما أن يكون جازما أو لا يكون فإن كان جازما فإما أن يكون مطابقا للمحكوم عليه أو لا يكون فإن كان مطابقا فإما أن يكون لموجب أو لا يكون فإن كان لموجب فالموجب إما أن يكون حسيا أو عقليا أو مركبا منهما فإن كان حسيا فهو العلم الحاصل من الحواس الخمسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ويقرب منه العلم بالأمور الوجدانية كاللذة والألم وإن كان عقليا فأما أن يكون الموجب مجرد تصور طرفي القضية أو لا بد من شئ آخر من القضايا فالأول هو البديهيات والثاني النظريات وأما إن كان الموجب مركبا من الحس والعقل فإما أن يكون من السمع والعقل وهو المتواترات أو من سائر الحواس والعقل وهو التجريبيات والحدسيات وأما الذي لا يكون لموجب فهو اعتقاد المقلد وأما الجازم غير المطابق فهو الجهل وأما الذي لا يكون جازما فالتردد بين الطرفين إن كان على السوية فهو الشك وإلا فالراجح ظن والمرجوح وهم الثاني أنه ليس يجب أن يكون كل تصور مكتسبا وإلا لزم الدور أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 التسلسل إما في موضوعا ت متناهية أو غير متناهية وهو يمنع حصول التصور أصلا بل لا بد من تصور غير مكتسب وأحق الأمور بذلك ما يجده العاقل من نفسه ويدرك التفرقة بينه وبين غيره بالضرورة ومنها القسم المسمى بالعلم لأن كل أحد يدرك بالضرورة ألمه ولذته ويدرك بالضرورة كونه عالما بهذه الأمور ولولا أن العلم بحقيقة العلم ضروري وإلا لامتنع أن يكون علمه بكونه عالما بهذه الأمور ضروريا لما أن التصديق موقوف على التصور وكذا القول في الظن ثم العبارة المحررة أن الظن تغليب لأحد مجوزين ظاهري التجويز وها هنا دقيقة وهي أن التغليب إما أن يكون في المعتقد أو في الاعتقاد أما الذي يكون في المعتقد فهو أن يكون الشئ ممكن الوجود والعدم إلا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 أحد الطرفين به أولى كالغيم الرطب فإن نزول المطر منه وعدم نزوله ممكنان لكن النزول أولى وأما الذي يكون في الاعتقاد فهو أن يحصل اعتقاد الوقوع واعتقاد اللا وقوع كل واحد مع تجويز النقيض لكن اعتقاد الوقوع يكون أظهر عنده من اعتقاد اللاوقوع فظهر أن اعتقاد رجحان الوقوع مغاير لرجحان اعتقاد اللاوقوع فهذا الثاني هو الظن فان كان مطابقا للمظنون كان ظنا صادقا وإلا كان ظنا كاذبا وأما الأول وهو اعتقاد رجحان الوقوع فإن كان مطابقا للمعتقد كان علما أو تقليدا على التفصيل المتقدم وإلا كان جهلا والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الفصل الرابع في النظر والدليل والأمارة أما النظر فهو ترتيب تصديقات في الذهن ليتوصل بها إلى تصديقات أخر والمراد من التصديق اسناد الذهن أمرا إلى أمر بالنفي أو بالاثبات اسنادا جازما أو ظاهرا ثم تلك التصديقات التي هي الوسائل إن كانت مطابقة لمتعلقاتها لو فهو النظر الصحيح وإلا فهو النظر الفاسد ثم تلك التصديقات المطابقة إما أن تكون بأسرها علوما فيكون اللازم عنها أيضا علما وإما أن تكون بأسرها ظنونا فيكون اللازم عنها أيضا ظنا وإما أن يكون بعضها ظنونا وبعضها علوما فيكون اللازم عنها أيضا ظنا لأن حصول النتيجة موقوف على حصول جميع المقدمات فإذا كان بعضها ظنا كانت النتيجة موقوفة على الظن والموقوف على الظن ظن فالنتيجة ظنية لا محالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وأما الدليل فهو الذي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم وأما الأمارة فهي التي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيها إلى الظن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الفصل الخامس في الحكم الشرعي قال أصحابنا إنه الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالإقتضاء أو التخيير أما الإقتضاء فإنه يتناول اقتضاء الوجود واقتضاء العدم إما مع الجزم أو مع جواز الترك فيتناول الواجب والمحظور والمندوب والمكروه وأما التخيير فهو الإباحة فإن قيل هذا التعريف فاسد من أربعة أوجه أحدهما أن حكم الله تعالى على هذا التقدير خطابه وخطاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الله تعالى كلامه وكلامه عندكم قديم فيلزم أن يكون حكم الله تعالى بالحل والحرمة قديما وهذا باطل من ثلاثة أوجه الأول أن حل الوطء في المنكوحة وحرمته في الأجنبية صفة فعل العبد ولهذا يقال هذا الوطء حلال أو حرام وفعل العبد محدث وصفة المحدث لا تكون قديمة الثاني انه يقال هذه المرأة حلت لزيد بعدما لم تكن كذلك وهذا مشعر بحدوث هذه الأحكام الثالث أنا نقول المقتضى لحل الوطء هو النكاح أو ملك اليمين وما كان معللا بأمر حادث يستحيل أن يكون قديما فثبت أن الحكم يمتنع أن يكون قديما والخطاب قديم فالحكم لا يكون عين الخطاب وثانيهما أن بعض الأحكام خارج عن هذا الحد وهو كون الشئ سببا وشرطا ومانعا وصحيحا وفاسدا وثالثهما أن الحكم الشرعي قد يوجد في غير المكلف وذلك كجعل إتلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الصبي سببا لوجوب الضمان وجعل الدلوك سببا لوجوب الصلاة ورابعها أنك أدخلت كلمة أو في الحد وهو غير جائز لأنها للترديد والحد للإيضاح وبينهما مباينة والجواب قوله الحل والحرمة من صفات الأفعال قلنا لا نسلم فإن عندنا لا معنى لكون الفعل حلالا إلا مجرد كونه مقولا فيه رفعت الحرج عن فاعله ولا معنى لكونه حراما إلا كونه مقولا فيه لو فعلته لعاقبتك فحكم الله تعالى هو قوله والفعل متعلق القول وليس لمتعلق القول من القول صفة وإلا لحصل للمعدوم صفة ثبوتية بكونه مذكورا ومخبرا عنه ومسمى بالاسم المخصوص قوله إنا نقول هذه المرأة حلت لزيد بعدما لم تكن كذلك قلنا حكم الله تعالى هو قوله في الأزل أذنت للرجل الفلاني حين وجوده في كذا فحكمه قديم ومتعلق حكمه محدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 قوله الحكم يعلل بالأسباب قلنا المراد من السبب عندنا المعرف لا الموجب قوله هذا التحديد يخرج عنه كون الشئ سببا وشرطا ومانعا وصحيحا وفاسدا قلنا المراد من كون الدلوك سببا أنا متى شاهدنا الدلوك علمنا أن الله تعالى أمرنا بالصلاة فلا معنى لهذه السببية إلا الإيجاب وإذا قلنا هذا العقد صحيح لم نعن به إلا أن الشرع إذن له في الانتفاع به ولا معنى لذلك إلا الإباحة قوله هذا التحديد يخرج عنه إتلاف الصبي ودلوك الشمس قلنا معنى قولنا إتلاف الصبي سبب لوجوب الضمان أن الولي مكلف بإخراج الضمان من ماله والرجل مكلف ب أداء الصلاة عند الدلوك قوله كلمة أو للترديد قلنا مرادنا أن كل ما وقع على أحد هذه الوجوه كان حكما وإلا فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الفصل السادس في تقسيم الأحكام الشرعية التقسيم الأول وهو من وجوه خطاب الله تعالى إذا تعلق بشئ فإما أن يكون طلبا جازما أو لا يكون كذلك فإن كان جازما فإما أن يكون طلب الفعل وهو الإيجاب أو طلب الترك وهو التحريم وإن كان غير جازم فالطرفان إما أن يكونا على السوية وهو الإباحة وإما أن يترجح جانب الوجود وهو الندب أو جانب العدم وهو الكراهة فأقسام الأحكام الشرعية هي هذه الخمسة وقد ظهر بهذا التقسيم ماهية كل واحد منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فلنذكر الآن حدودها وأقسامها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 أما الواجب فالذي اختاره القاضي أبو بكر أنه ما يذم تاركه شرعا على بعض الوجوه وقولنا يذم تاركه خير من قولنا يعاقب تاركه لأن الله تعالى قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 يعفو عن العقاب ولا يقدح ذلك في وجوب الفعل ومن قولنا يتوعد بالعقاب على تركه لأن الخلف في خبر الله تعالى محال فكان ينبغي أن لا يوجد العفو ومن قولنا ما يخاف العقاب على تركه لأن الذي يشك في وجوبه وحرمته قد يخاف من العقاب على تركه مع أنه غير واجب وقولنا شرعا إشارة إلى ما نذهب إليه من أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع وقولنا على بعض الوجوه ذكرناه ليدخل في الحد الواجب المخير لأنه يلام على تركه إذا تركه وترك معه بدله أيضا والواجب الموسع لأنه يلام على تركه إذا تركه في كل الوقت والواجب على الكفاية لأنه يلام على تركه إذا تركه الكل فإن قيل هذا الحد يدخل فيه السنة فإن الفقهاء قالوا لو أن أهل محلة اتفقوا على ترك سنة الفجر بالإصرار فإنهم يحاربون بالسلاح قلت سيأتي جوابه إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وأما الاسم فاعلم أنه لا فرق عندنا بين الواجب والفرض والحنفية خصصوا اسم الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع والواجب بما عرف وجوبه بدليل مظنون قال أبو زيد رحمه الله الفرض عبارة عن التقدير قال الله تعالى فنصف ما فرضتم أي قدرتم وأما الوجوب فهو عبارة عن السقوط قال الله تعالى فإذا وجبت جنوبها أي سقطت إذا ثبت هذا فنحن خصصنا اسم الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع لأنه هو الذي يعلم من حاله أن الله تعالى قدره علينا وهذا الفرق ضعيف لأن الفرض هو المقدر لا انه الذي ثبت كونه مقدرا علما أو ظنا كما أن الواجب هو الساقط لا انه الذي ثبت كونه ساقطا علما أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ظنا وإذا كان كذلك كان تخصيص كل واحد من هذين اللفظين بأحد القسمين تحكما محضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وأما المحظور فهو الذي يذم فاعله شرعا وأسماؤه كثيرة أحدها أنه معصية واطلاق ذلك في العرف يفيد أنه فعل ما نهى الله تعالى عنه وقالت المعتزلة إنه الفعل الذي كرهه الله تعالى والكلام فيه مبني على مسألة خلق الأعمال وارادة الكائنات وثانيهما أنه محرم وهو قريب من المحظور وثالثهما أنه ذنب وهو المنهي عنه الذي تتوقع عليه العقوبة والمؤاخذة ولذلك لا توصف أفعال البهائم والأطفال بذلك وربما يوصف فعل المراهق به لما يلحقه من التأديب على فعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ورابعها أنه مزجور عنه ومتوعد عليه ويفيد في العرف أن الله تعالى هو المتوعد عليه والزاجر عنه وخامسها أنه قبيح وسيأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى وأما المباح فهو الذي أعلم فاعله أو دل على أنه لا ضرر في فعله وتركه ولا نفع في الآخرة وأما الأسماء فالمباح يقال له إنه حلال طلق وقد يوصف الفعل بأن الإقدام عليه مباح وإن كان تركه محظورا كوصفنا دم المرتد بأنه مباح ومعناه أنه لا ضرر على من أراقه وإن كان الإمام ملوما بترك إراقته وأما المندوب فهو الذي يكون فعله راجحا على تركه في نظر الشرع ويكون تركه جائزا وإنما ذم الفقهاء من عدل عن جميع النوافل لاستدلالهم بذلك على استهانته بالطاعة وزهده فيها فإن النفوس تستنقص من هذا دأبه وعادته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وقولنا في نظر الشرع احتراز عن الأكل قبل ورود الشرع فإن فعله خير من تركه لما فيه من اللذة لكن ذلك الرجحان لما لم يكن مستفادا من الشرع فلا جرم انه لا يسمى مندوبا وأما الأسماء فأحدها أنها مرغب فيه لما أنه قد بعث المكلف على فعله بالثواب وثانيها أنه مستحب ومعناه في العرف أن الله تعالى قد أحبه وثالثها أنه نفل ومعناه أنه طاعة غير واجبة وأن للإنسان أن يفعله من غير حتم ورابعها أنه تطوع ومعناه أن المكلف انقاد لله تعالى فيه مع أنه قربة من غير حتم وخامسها أنه سنة ويفيد في العرف أنه طاعة غير واجبة ولفظ السنة مختص في العرف بالمندوب بدليل أنه يقال هذا الفعل واجب أو سنة ومنهم من قال لفظ السنة لا يختص بالمندوب بل يتناول كل ما علم وجوبه أو ندبيته بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بإدامته فعله لأن السنة مأخوذة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الإدامة ولذلك يقال الختان من السنة ولا يراد به أنه غير واجب وسادسها أنه إحسان وذلك إذا كان نفعا موصلا إلى الغير مع القصد إلى نفعه وأما المكروه فيقال بالاشتراك على أمور ثلاثة أحدها ما نهي عنه نهي تنزيه وهو الذي أشعر فاعله بأن تركه خير من فعله وإن لم يكن على فعله عقاب وثانيها المحظور وكثيرا ما يقول الشافعي رحمه الله أكره كذا وهو يريد به التحريم وثالثها ترك الأولى كترك صلاة الضحى ويسمى ذلك مكروها لا لنهي ورد عن الترك بل لكثرة الفضل في فعلها والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 التقسيم الثاني الفعل إما أن يكون حسنا أو قبيحا وتحقيق القول فيه أن الإنسان إما أن يصدر عنه فعله وليس هو على حالة التكليف وإما أن يصدر عنه الفعل وهو على حالة التكليف والأول كفعل النائم والساهي والمجنون والطفل فهذه الأفعال لا يتوجه نحو فاعليها ذم ولا مدح وإن كان قد يتعلق بها وجوب ضمان وأرش في مالهم ويجب اخراجه على وليهم والثاني ضربان لأن القادر عليه المتمكن من العلم بحاله إن كان له فعله فهو الحسن وإن لم يكن فهو القبيح ثم قال أبو الحسين البصري رحمه الله القبيح هو الذي ليس للمتمكن منه ومن العلم بقبحه أن يفعله ومعنى قولنا ليس له أن يفعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 معقول لا يحتاج إلى تفسير ويتبع ذلك أن يستحق الذم بفعله ويحد أيضا بأنه الذي على صفة لها تأثير في استحقاق الذم وأما الحسن فهو ما للقادر عليه المتمكن من العلم بحاله إن يفعله وأيضا ما لم يكن على صفة تؤثر في استحقاق الذم وأقول هذه الحدود غير وافية بالكشف عن المقصود أما الأول فنقول ما الذي أردت بقولك ليس له أن يفعله فإنه يقال للعاجز عن الفعل ليس له أن يفعله ويقال للقادر على الفعل إذا كان ممنوعا عنه حسا ليس له أن يفعله ويقال للقادر إذا كان شديد النفرة عن الفعل ليس له أن يفعله وقد يقال للقادر إذا زجره الشرع عن الفعل إنه ليس له أن يفعله والتفسيران الأولان غير مرادين لا محالة والثالث غير مراد أيضا لأن الفعل قد يكون حسنا مع قيام النفرة الطبيعية عنه وبالعكس والرابع أيضا غير مراد لأنه يصير القبيح مفسرا بالمنع الشرعي فإن قلت المراد منه القدر المشترك بين هذه الصور الأربع من مسمى المنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 قلت لا نسلم أن هذه الصور الأربع تشترك في مفهوم واحد وذلك لأن المفهوم الأول معناه أنه لا قدرة له على الفعل وهذا إشارة إلى العدم والمفهوم الرابع معناه أنه يعاقب عليه وهذا إشارة إلى الوجود ونحن لا نجد بينهما قدرا مشتركا وأما قوله ويتبع ذلك أن يستحق الذم بفعله قلنا لما فسرت القبيح بأنه الذي يستحق الذم بفعله وجب تفسير الاستحقاق والذم فأما الاستحقاق فقد يقال الأثر يستحق المؤثر على معنى أنه يفتقر إليه لذاته ويقال المالك يستحق الانتفاع بملكه على معنى أنه يحسن منه ذلك الانتفاع والأول ظاهر الفساد والثاني يقتضي تفسير الاستحقاق بالحسن مع أنه فسر الحسن بالاستحقاق حيث قال الحسن هو الذي لا يستحق فاعله الذم فيلزم الدور وإن أراد بالاستحقاق معنى ثالثا فلا بد من بيانه وأما الذم فقد قالوا إنه قول أو فعل أو ترك قول أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ترك فعل ينبئ عن اتضاع حال الغير فنقول إن عنيت بالإتضاع يكون ما ينفر عنه طبع الإنسان ولا يلائمه فهذا معقول لكن يلزم عليه أن لا يتحقق الحسن والقبح في حق الله تعالى لما أن النفرة الطبيعية عليه ممتنعة وإن عنيت به أمرا آخر فلا بد من بيانه وأعلم أن هذه الاشكالات غير واردة على قولنا لأنا نعني بالقبيح المنهي عنه شرعا وبالحسن ما لا يكون منهيا عنه شرعا وتندرج فيه أفعال الله تعالى وأفعال المكلفين من الواجبات والمندوبات والمباحات وأفعال الساهي والنائم والبهائم وهو أولى من قول من قال الحسن ما كان مأذونا فيه شرعا لأنه يلزم عليه أن لا تكون أفعال الله تعالى حسنة ولو قلت الحسن هو الذي يصح من فاعله أن يعلم أنه غير ممنع عنه شرعا خرج عنه فعل النائم والساهي والبهيمة ويدخل فيه فعل الله تعالى لأن وجوب ذلك العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 لا ينافي صحته وبالله التوفيق التقسيم الثالث قالوا خطاب الله تعالى كما قد يرد بالاقتضاء أو التخيير فقد يرد أيضا بجعل الشئ سببا وشرطا ومانعا فلله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 في الزاني حكمان أحدهما وجوب الحد عليه والثاني جعل الزنا سببا لوجوب الحد لأن الزنا لا يوجب الحد بعينه وبذاته بل بجعل الشارع إياه سببا ولقائل أن يقول إن كان المراد من جعل الزنا سببا لوجوب الحد هو أنه قال متى رأيت انسانا يزني فاعلم أني أوجبت عليه الحد فهو حق ولكن يرجع حاصله إلى كون الزنا معرفا بحصول الحكم وإن كان المراد أن الشرع جعل الزنى مؤثرا في هذا الحكم فهذا باطل لثلاثة أوجه الأول أن حكم الله تعالى كلامه وكلامه قديم والقديم لا يعلل بالمحدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الثاني أن الشرع لما جعل الزنا مؤثرا في وجوب هذا الحد فبعد هذا الجعل إما أن تبقى حقيقة الزنا كما كانت قبل هذا الجعل أو لا تبقى فإن بقيت كما كانت وحقيقته قبل هذا الجعل ما كانت مؤثرة فبعد هذا الجعل وجب أن لا تصير مؤثرة وإن لم تبق تلك الحقيقة كان هذا إعداما لتلك الحقيقة والشئ بعد عدمه يستحيل أن يكون موجبا الثالث الشرع إذا جعل الزنا علة فإن لم يصدر عنه عند ذلك الجعل أمر ألبتة استحال أن يقال إنه جعله علة للحد لأن ذلك كذب والكذب على الشرع محال وإن صدر عنه أمر فذلك الأمر إما أن يكون هو الحكم أو ما يوجب الحكم أولا الحكم ولا ما يوجبه فإن كان الأول كان المؤثر في ذلك الحكم هو الشرع مع لا ذلك السبب وإن كان الثاني كان المؤثر في ذلك الحكم وصفا حقيقيا وهذا هو قول المعتزلة في الحسن والقبح وسنبطله إن شاء الله تعالى وإن كان الثالث فهو محال لأن الشارع لما أثر في شئ غير الحكم وغير مستلزم للحكم لم يكن لذلك الشئ تعلق بالحكم أصلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 التقسيم الرابع الحكم قد يكون حكما بالصحة وقد يكون حكما بالبطلان والصحة قد تطلق في العبادات تارة وفي العقود أخرى أما في العبادات فالمتكلمون يريدون بصحتها كونها موافقة للشريعة سواء وجب القضاء أو لم يجب والفقهاء يريدون بها ما أسقط القضاء فصلاة من ظن أنه متطهر صحيحة في عرف المتكلمين لأنها موافقة للأمر المتوجه عليه والقضاء وجب بأمر متجدد وفاسدة عنه الفقهاء لأنها لا تسقط القضاء وأما في العقود فالمراد من كون البيع صحيحا ترتب أثره عليه وأما الفاسد فهو مرادف للباطل عند أصحابنا والحنفية جعلوه قسما متوسطا بين الصحيح والباطل وزعموا أنه الذي يكون منعقدا بأصله ولا يكون مشروعا بسبب وصفه كعقد الربا فإنه مشروع من حيث إنه بيع وممنوع من حيث إنه يشتمل على الزيادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 والكلام في هذه المسألة مذكور في الخلافيات ولو ثبت هذا القسم لم نناقشهم سعيد في تخصيص اسم الفاسد به ويقرب من هذا الباب البحث عن قولنا في العبادات إنها مجزية أم لا وأعلم أن الفعل إنما يوصف بكونه مجزيا إذا كان بحيث يمكن وقوعه بحيث يترتب عليه حكمه ويمكن وقوعه بحيث لا يترتب عليه حكمه كالصلاة والصوم والحج أما الذي لا يقع إلا على وجه واحد كمعرفة الله تعالى ورد الوديعة فلا يقال فيه إنه مجزئ أو غير مجزئ إذا عرفت هذه فنقول معنى كون الفعل مجزيا أن الإتيان به كاف في سقوط التعبد به وإنما يكون كذلك لو أتى المكلف به مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة فيه من حيث وقع التعبد به ومنهم من فسر الإجزاء ب سقوط القضاء وهو باطل لأنه لو أتى بالفعل عند اختلال بعض شرائطه ثم مات لم يكن الفعل مجزيا مع سقوط القضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ولأن القضاء إنما يجب بأمر متجدد على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ولأنا نعلل وجوب القضاء بأن الفعل الأول لم يكن مجزيا فوجب قضاؤه والعلة مغايرة للمعلول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 التقسيم الخامس العبادة توصف بالقضاء والأداء والإعادة فالواجب إذا أدي في وقته سمي أداء وإذا أدي بعد خروج وقته المضيق أو الموسع سمي قضاء وإن فعل مرة على نوع من الخلل ثم فعل ثانيا في وقته المضروب له سمي إعادة فالإعادة اسم لمثل ما فعل على ضرب من الخلل والقضاء اسم لفعل مثل ما فات وقته المحدود ثم ها هنا بحثان الأول لو غلب على ظنه في الواجب الموسع أنه لو لم يشتغل به لمات فها هنا لو أخر عصى فلو أخر وعاش ثم اشتغل به قال القاضي أبو بكر هذا قضاء لأنه تعين وقته بسبب غلبة الظن وما أوقعه فيه وقال الغزالي رحمه الله هذا أداء لأنه لما انكشف خلاف ما ظن زال حكمه فصار كما لو علم أنه يعيش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الثاني الفعل لا يسمى قضاء إلا إذا وجد سبب وجوب الأداء مع أنه لم يوجد الأداء ثم القضاء على قسمين أحدهما ما وجب الأداء فتركه وأتى بمثله خارج الوقت فكان قضاء وهو كمن ترك الصلاة عمدا في وقتها ثم أداها خارج الوقت وثانيهما ما لا يجب الأداء وهو أيضا قسمان أحدهما أن يكون المكلف بحيث لا يصح منه الأداء والثاني أن يصح منه ذلك أما الذي لا يصح منه الأداء فإما أن يمتنع ذلك عقلا كالنائم والمغمى عليه فإنه يمتنع عقلا صدور فعل الصلاة منه وإما أن يمتنع ذلك منه شرعا كالحائض فإنه لا يصح منها فعل الصوم لكن لما وجد في حقها سبب الوجوب وإن لم يوجد الوجوب سمي الإتيان بذلك الفعل خارج الوقت قضاء وأما الذي يصح ذلك الفعل منه إن لم يجب عليه الفعل فالمقتضى لسقوط الوجوب قد يكون من جهته كالمسافر فإن السفر منه وقد أسقط وجوب الصوم وقد يكون من الله تعالى كالمريض فإن المرض من الله وقد أسقط وجوب الصوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ففي جميع هذه المواضع اسم القضاء إنما جاء لأنه وجد سبب الوجوب منفكا عن الوجوب لا لأنه وجد وجوب الفعل كما يقوله بعض من لا يعرف من الفقهاء لأن المنع من الترك جزء ماهية الوجوب فيستحيل تحقق الوجوب مع جواز الترك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 التقسيم السادس الفعل الذي يجوز للمكلف الإتيان به إما أن يكون عزيمة أو رخصة وذلك لأن ما جاز فعله إما أن يجوز مع قيام المقتضى للمنع أو لا يكون كذلك فالأول الرخصة والثاني العزيمة فما أباحه الله تعالى في الأصل من الأكل والشرب لا يسمى رخصة ويسمى تناول الميتة رخصة وسقوط رمضان عن المسافر رخصة ثم الذي يجوز فعله مع قيام المقتضى للمنع قد يكون واجبا كأكل الميتة والافطار عند خوف الهلاك من الجوع وقد لا يكون واجبا كالافطار والقصر في السفر وقول كلمة الكفر عند الإكراه ولما تكلمنا في الحكم الشرعي وأقسامه فلنبين أنه ثابت بالعقل أو بالشرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الفصل السابع في أن حسن الأشياء وقبحها لا يثبت إلا بالشرع الحسن والقبح قد يعنى بهما كون الشئ ملائما للطبع أو منافرا وبهذا التفسير لا نزاع في كونهما عقليين وقد يراد بهما كون الشئ صفة كمال أو صفة نقص كقولنا العلم حسن والجهل قبيح ولا نزاع أيضا في كونهما عقليين بهذا التفسير وإنما النزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلا وعقابه آجلا فعندنا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ذلك لا يثبت إلا بالشرع وعند المعتزلة ليس ذلك إلا لكون الفعل واقعا على وجه مخصوص لأجله يستحق فاعله الذم قالوا وذلك الوجه قد يستقل العقل بإدراكه وقد لا يستقل أما الذي يستقل فقد يعلمه العقل ضرورة كالعلم بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار وقد يعلمه نظرا كالعلم بحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع والذي لا يستقل العقل بمعرفته فكحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح صوم الذي بعده فإن العقل لا طريق له إلى العلم بذلك لكن الشرع لما ورده به علمنا أنه لولا اختصاص كل واحد منهما بما لأجله حسن وقبح وإلا لامتنع ورود الشرع به لنا أن دخول هذه القبائح في الوجود إما أن يكون على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق وعلى التقديرين فالقول بالقبح العقلي باطل بيان الأول أن فاعل القبيح إما أن يكون متمكنا من الترك أولا يكون فإن لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 يتمكن من الترك فقد ثبت الاضطرار وإن تمكن من الترك فإما أن يتوقف رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح أو لا يتوقف فإن توقف فذلك المرجح إما أن يكون من العبد أو من غيره أو لا منه ولا من غيره أما القسم الأول وهو أن يكون من العبد فهو محال لأن الكلام فيه كما في الأول فيلزم التسلسل وأما القسم الثاني وهو أن يكون من غير العبد فنقول عند حصوله ذلك المرجح إما أن يجب وقوع الأثر أو لا يجب فإن وجب فقد ثبت الاضطرار لأن قبل وجود هذا المرجح كان الفعل ممتنع الوقوع وعند وجوده صار واجب الوقوع وليس وقوع هذا المرجح بالعبد ألبتة فلم يكن للعبد تمكن في شئ من الأحوال من الفعل والترك ولا معنى للاضطرار إلا ذلك وإن لم يجب فعند حصول هذا المرجح لا يمتنع وجود الفعل تارة وعدمه أخرى فترجح جانب الوجود على جانب العدم أما أن يتوقف على انضمام مرجح إليه أو لا يتوقف فإن توقف لم يكن الحاصل قبل ذلك مرجحا تاما وكنا قد فرضناه مرجحا تاما هذا خلف وأيضا فالكلام في هذه الضميمة كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محال وأما إن لم يتوقف على انضمام قيد الية بكر فمع ذلك المرجح تارة يوجد الأثر وتارة لا يوجد ولم يكن رجحان جانب الوجود على جانب العدم موقوفا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 قصد من جهته ولا على ترجيح ألبتة وإلا لعاد إلى القسم الأول وقد أبطلناه فحينئذ يكون دخول الفعل في الوجود اتفاقيا لا اختياريا فقد ثبت الاتفاق وأما القسم الثالث وهو أن يكون حصول ذلك المرجح لا من العبد ولا من غيره فحينئذ يكون واقعا لا لمؤثر فيكون حصوله اتفاقيا لا اختياريا وأما لو قلنا إن المتمكن من الفعل متمكن من الترك لكن لا يتوقف رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح فعلى هذا التقدير يكون رجحان الفاعلية على التاركية اتفاقيا أيضا لأن تلك القادرية لما كانت نسبتها إلى الأمرين على السوية ثم حصلت الفاعلية في أحد الوقتين دون التاركية من غير مرجح ألبتة كان رجحان الفاعلية منه على التاركية اتفاقيا فإن قلت لم لا يجوز أن يقال القادر يرجح الفاعلية على التاركية من غير مرجح قلت هل لقولك يرجح مفهوم زائد على كونه قادرا أو ليس له مفهوم زائد عليه فإن كان ذلك مفهوما زائدا على كونه قادرا كان ذلك قولا بأن رجحان الفاعلية على التاركية لا يمكن إلا عند انضمام قيد آخر إلى القادرية فيصير هذا هو القسم الأول الذي تكلمنا فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وإن لم يكن ذلك مفهوما زائدا لم يبق لقولكم القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح إلا أن صفة القادرية مستمرة في الأزمان كلها ثم إنه يوجد الأثر في بعض تلك الأزمنة دون بعض من غير أن يكون ذلك القادر قد رجحه أو قصد ايقاعه ولا معنى للاتفاق إلا ذلك فثبت بهذا البرهان القاطع أن دخول هذه القبائح في الوجود إما أن يكون على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق وإذا ثبت ذلك امتنع القول القبع العقلي بالإتفاق أما على قولنا فظاهر وأما عند الخصم فلأنه لا يجوز ورود التكليف بذلك فضلا عن أن يقال إن حسنه معلوم بضرورة العقل فثبت بما ذكرنا أن القول ب القبح العقلي باطل أما الخصم فقد ادعى العلم الضروري بقبح الظلم والكذب والجهل وبحسن الانصاف والصدق والعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ثم قالوا هذا العلم غير مستفاد من الشرع لأن البراهمة مع انكارهم الشرائع عالمون بهذه الأشياء ثم زعموا بعد ذلك أن المقتضي لقبح الظلم مثلا هو كونه ظلما لأنا عند العلم بكونه ظلما نعلم قبحه وإن لم نعلم شيئا آخر وعند الغفلة عن كونه ظلما لا نعلم قبحه وإن علمنا سائر الأشياء فثبت أن المقتضي لقبحه ليس إلا هذا الوجه ومنهم من حاول الاستدلال بأمور أحدها أن الفعل الذي حكم فيه بالوجوب مثلا لم يختص بما لأجله استحق ثبوت ذلك الحكم وإلا كان تخصيصه بالوجوب دون سائر الأحكام ودون سائر الأفعال ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر لا لمرجح وثانيها أنه لو لم يكن الحسن والقبح إلا بالشرع لحسن من الله تعالى كل شئ ولو حسن منه كل شئ لحسن منه إظهار المعجزة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 يد الكاذب ولو حسن منه ذلك لما أمكننا أن نميز بين النبي والمتنبئ قد وذلك يفضي إلى بطلان الشرائع وثالثها لو حسن من الله تعالى كل شئ لما قبح منه الكذب وعلى هذا فلا يبقى اعتماد على وعده ووعيده فإن قلت الكلام الأزلي يستحيل أن يكون كذبا قلت هب أن الأمر كذلك لكن لم لا يجوز أن تكون هذه الكلمات التي نسمعها مخالفة لما عليه الشئ في نفسه وحينئذ يعود الإشكال ورابعها أن العاقل إذا قيل له إن صدقت أعطيناك دينارا وإن كذبت أعطيناك أيضا دينارا واستوى عنده الصدق والكذب في جميع الأمور إلا في كونه صدقا وكذبا فإنا نعلم بالضرورة أن العاقل يختار الصدق ولولا أن الصدق لكونه صدقا حسن وإلا لما كان كذلك وخامسها أن الحسن والقبح لو لم يكونا معلومين قبل الشرع لاستحال أن يعلما عند ورود الشرع بهما لأنهما إذا لم يكونا معلومين قبل ذلك فعند ورود الشرع بهما يكون واردا بما لا يعقله السامع ولا يتصوره وذلك محال فوجب أن يكونا معلومين قبل ورود الشرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 والجواب عن دعوى الضرورة أنها مسلمة ولكن لا في محل النزاع فإن كل ما كان ملائما للطبع حكموا بحسنه وما كان منافرا للطبع حكموا بقبحه فهذا القدر مسلم فإن ادعيتم أمرا زائدا عليه فلا بد من افادة تصوره ثم اقامة الدلالة على التصديق به فإن كل ذلك غير مساعد عليه فضلا عن ادعاء العلم الضروري فيه فإن قلت الظلم ملائم لطبع الظالم ومع ذلك فإنه يجد في صريح العقل قبحه ولأن من خاطب الجماد بالأمر والنهي فإنه لا ينفر طبعه عنه مع أن قبحه معلوم بالضرورة ولأن من أنشأنا قصيدة غراء في شتم الملائكة والأنبياء وكتبها بخط حسن وقرأها بصوت طيب حزين فإنه يميل الطبع إليه وينفر العقل عنه فعلمنا أن نفرة العقل مغايرة لنفرة الطبع قلت الجواب عن الأول أن الظالم لا يميل طبعه إلى الظلم لأنه لو حكم بحسنه لما قدر على دفع الظلم عن نفسه فالنفرة وفي عن الظلم متمكنة في طبع الظالم والمظلوم إلا أنه إنما رغب فيه لعارض يختص به وهو أخذ المال منه والحكم بحسن الإحسان إنما كان لأن الحكم بحسنه قد يفضي إلى وقوعه وهو ملائم لطبع كل أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 والحكم بقبح الكذب إنما كان لكونه على خلاف مصلحة العالم وبحسن الصدق لكونه على وفق مصلحة العالم وبحسن انقاذ الغريق لأنه يتضمن حسن الذكر وإن لم يوجد ذلك فلأن من شاهد شخصا من أبناء جنسه في الألم تألم قلبه فإنقاذه منه يستلزم دفع ذلك الألم عن القلب وذلك مما يميل إليه الطبع وأما مخاطبة الجماد فلا نسلم أن استقباحها يجري مجرى استقباح الظلم والقدر الذي فيه من الاستقباح إنما كان لاتفاق أهل العلم على أن الإنسان لا يجب أن يشتغل إلا بما يفيده فائدة إما عاجلة وإما آجلة وأما القصيدة المشتملة على الشتم فإنما تستقبح لإفضائها إلى مقابلة أرباب الفضائل بالشتم والاستخفاف وهو على مضادة مصلحة العالم فظهر أن المرجع في هذه الأشياء إلى ملائمة الطبع ومنافرته ونحن قد ساعدنا على أن الحسن والقبح بهذا المعنى معلوم بالعقل والنزاع في غيره سلمنا تحقق الحسن والقبح لكن لا نسلم أن المقتضي لقبح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الظلم هو كونه ظلما ولم لا يجوز أن يكون المقتضى لقبحه أمرا آخر قوله العلم بالقبح دائر مع العلم بكونه ظلما وجودا وعدما قلنا لم قلت إن الدوران العقلي دليل العلية عليه وما الدليل عليه ثم إنه منقوض بالمضافين كل فإن العلم بكل واحد من المضافين دائر مع العلم بالآخر وجودا وعدما مع أنه يمتنع كون أحدهما علة للآخر وتمام تقرير هذا السؤال سيأتي إن شاء الله في كتاب القياس سلمنا أن الدليل الذي ذكرتموه يقتضي أن يكون قبح الظلم لكونه ظلما لكن معنا ما يدل على فساده وهو أن المفهوم من الظلم اضرار غير مستحق وكونه غير مستحق قيد عدمي والقيد العدمي لا يصلح أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 يكون علة للحكم الثابت ولا أن يكون جزءا للعلة إذ لو جاز استناد الأمر الثبوتي إلى الأمر العدمي لجاز استناد خلق العالم إلى مؤثر عدمي وحينئذ ينسد علينا باب معرفة كون الله تعالى موجدا لأن العدم نفي محض فيستحيل أن يكون مؤثرا فإن قلت لم لا يجوز أن يكون العدم شرطا لتأثير العلة في المعلول قلت لأنه إذا فقد هذا العدم لم تكن العلة مؤثرة في المعلول وعند وجوده تصير مؤثرة فيه فكون العلة بحيث تستلزم المعلول وتستعقبه أمر حدث مع حدوث هذا العدم وليس له سبب آخر سواه فوجب تعليله به فيعود الأمر إلى تعليل الأمر الثبوتي بالأمر العدمي وهو محال وأما الجواب عما احتجوا به أولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فهو أن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر إن افتقر إلى المرجح توقف رجحان فاعلية العبد على تاركيته على مرجح غير صادر من جهته وإلا وقع التسلسل ويكون رجحان الفاعلية على التاركية عند حصول ذلك المرجح واجبا وإلا لزم الرجحان لا لمرجح وإذا كان كذلك لزم الجبر ويلزم من لزوم الجبر القطع ببطلان القبح العقلي وإن لم يفتقر الرجحان إلى المرجح أصلا فقد اندفعت هذه الشبهة بالكلية والجواب عما احتجوا به ثانيا أن الاستدلال بالمعجزة على الصدق مبني على مقامين أحدهما أن الله تعالى إنما خلق ذلك المعجز لأجل التصديق والثاني أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق والقول بالحسن والقبح إنما ينفع في المقام الثاني لا في المقام الأول فلم قلتم إن الله تعالى ما خلق هذا الفعل إلا لغرض التصديق وتحقيقه أن لو توقف الرجحان على المرجح لزم الجبر وإذا لزم الجبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 لزم بطلان القبح العقلي ولو لم يتوقف على المرجح لجاز أن يقال أن الله تعالى خلق ذلك المعجز لا لغرض أصلا ثم إن كان ذلك لغرض فلم قلتم إنه لا غرض سوى التصديق فإن قلت القول بالقبح العقلي يمنع من خلق المعجز على يد الكاذب مطلقا لأن خلقه عند الدعوى يوهم أن المقصود منه التصديق فلو كان المدعي كاذبا لكان ذلك ايهاما لتصديق الكاذب وإنه قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح قلت لم قلت إن الفعل الذي يوهم القبيح ولم يكن موجبا له قبيح وذلك لأن المكلف لما علم أن خلق المعجز عند الدعوى يحتمل أن يكون للتصديق ويحتمل أن يكون لغيره فلو حمله على التصديق قطعا لكان التقصير من المكلف حيث قطع لا في موضع القطع وهذا كإنزال المتشابهات في القرآن فإنه يوهم القبيح ولكنه لما احتمل سائر الوجوه لم يقبح شئ منها من الله تعالى فثبت أن الإلزام الذي أوردوه علينا في إحدى المقدمتين وارد عليهم في المقدمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الأخرى وكل ما يجعلونه جوابا عنه في تقرير احدى المقدمتين فهو جوابنا في تقرير المقدمة الأخرى والجواب عما ذكروه ثالثا أنه وارد عليهم أيضا لأن الكذب قد يكون حسنا وذلك في صورتين إحداهما أن الكافر إذا قصد قتل النبي فاختفى النبي في دار انسان فجاء الكافر وسأل صاحب الدار عن ذلك النبي وعلم صاحب الدار أنه لو أخبره عن مكان النبي أو سكت أو اشتغل بالتعريض لقتله قطعا فها هنا الصدق قبيح والكذب حسن ثانيهما أن من توعد غيره ظلما وقال إني سأقتلك غدا فلا شك أنه متى لم يفعل ذلك صار هذا الخير كذبا فلو كان الكذب قبيحا لكان ترك هذه الأشياء مستلزما للقبيح ومستلزم القبيح قبيح فيجب أن يكون ترك هذه الأشياء قبيحا فيكون فعلها حسنا لا محالة وذلك باطل بالاتفاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فإن قلت الجواب عن الصورة الأولى من وجهين الأول أنا لا نسلم أنه يحسن الكذب هناك ويقبح الصدق فإن الواجب أن يأتي فيه بالمعاريض وإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب سلمنا أنه يحسن ذلك ولكن كونه كذبا يقتضي القبح والحكم قد يتخلف عن المقتضى لمانع إلا أن الأصل حصول الحكم عند حصول العلة وهذا هو الجواب أيضا عن الصورة الثانية قلت الجواب عن الأول أن الخبر إنما يصير من باب المعاريض باضمار أمر وراء ما دل الظاهر عليه إما بزيادة أو نقصان أو تقييد مطلق أو تخصيص عام مع أنه لا ينبه السامع على أنه نوى ذلك لأنه لو نبهه عليه لما حصل المقصود وإذا جوزتم حسن ذلك لأجل مصلحة تقتضي ذلك لم يمكنكم اجراء خطاب الله تعالى على ظاهره، إلا إذا عرفتم أنه لم يوجد هناك مصلحة (أخرى) تقتضي صرفها عن ظواهرها، وذلك لا سبيل إليه إلا بأن يقال لا يعرف هذا المعارض لكن عدم العلم بالشئ لا يدل على عدم الشئ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وعن الثاني أن تخلف الأثر العقلي عن المؤثر العقلي محال وإلا كان عدم المانع جزءا من العلة وهو محال ثم إن سلمناه لكن الإلزام عائد عليكم لأنكم لما جوزتم في الجملة تخلف الحكم عن المؤثر لمانع جاز في كل خبر كاذب أن لا يكون قبيحا لأجل أنه وجد مانع يمنع من قبحه وحينئذ لا يحصل القطع بكونه قبيحا بل غاية ما في الباب أن يحصل الظن بقبحه فقط والجواب عما ذكروه رابعا أنه إنما ترجح الصدق على الكذب في تلك الصورة لما أن أهل العلم قد اتفقوا على قبح الكذب وحسين الصدق لما أن نظام العالم لا يحصل إلا بذلك والإنسان لما نشأ على هذا الاعتقاد واستمر عليه لا جزم ترجح الصدق عنده على الكذب فإن قلت أنا أفرض نفسي خالية عن الإلف والعادة والمذهب والاعتقاد ثم أعرض على نفسي عند هذا الفرض هذه القضية فأجدها جازمة بترجيح الصدق على الكذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 قلت هب أنك فرضت نفسك خالية عن هذه العوارض لكن فرض الخلو عن العوارض لا يوجب حصول الخلو عن العوارض بل لو أني خلقت خاليا عن العوارض ففي ذلك الوقت لا أدري هل كنت أحكم بهذا الحكم أم لا والجواب عما ذكروه خامسا أن عندنا الموقوف على الشرع ليس هو تصور الحسن والقبح فإني قبل الشرع أتصور ماهية ترتب العقاب والذم على الفعل وعدم هذا الترتب فتصور الحسن والقبح لا يتوقف على الشرع وإنما الموقوف على الشرع هو التصديق به فأين أحدهما من الآخر والله أعلم وقد جرت عادة أصحابنا أن يتكلموا بعد هذه المسألة في مسألتين أخريين أحدهما أن شكر المنعم لا يجب عقلا والثانية أنه لا حكم قبل ورود الشرع واعلم أنا متى بينا فساد القول بالحسن والقبح العقليين فقد صح مذهبنا في هاتين المسألتين لا محالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 لكن الأصحاب سلموا القول بالحسن والقبح العقليين ثم بينوا أنه بعد تسليم هذين الأصلين لا يصح قول المعتزلة في هاتين المسألتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الفصل الثامن في أن شكر المنعم غير واجب عقلا وقالت المعتزلة بوجوبه عقلا لنا النص والمعقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 أما النص فقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقوله تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وأما المعقول فهو أنه لو وجب لوجب إما لفائدة أو لا لفائدة والقسمان باطلان فالقول بالوجوب باطل إنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون لفائدة لأن تلك الفائدة إما أن تكون عائدة إلى المشكور أو إلى غيره والأول باطل لأن الله تعالى منزه عن جلب المنافع ودفع المضار والثاني باطل لأن الفائدة العائدة إلى الغير إما جلب المنفعة أو دفع المضرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 لا جائز أن يكون ذلك لجلب المنفعة لثلاثة أوجه الأول أن جلب النفع غير واجب في العقل فما يفضي إليه أولى أن لا يجب الثاني أنه يمكن خلو الشكر عن جلب النفع لأن الشكر لما كان واجبا فإذن الواجب لا يقتضي شيئا آخر الثالث أن الله تعالى قادر على إيصال كل المنافع بدون عمل الشكر فيكون توسيط هذا الشكر غير واجب عقلا ولا جائز أن يكون لدفع المضرة لأنه إما أن يكو لدفع مضرة عاجلة وهو باطل لأن الاشتغال بالشكر مضرة عاجلة فكيف يكون دفعا للمضرة العاجلة وإما أن يكون لدفع مضرة آجلة وهو باطل أيضا لأن القطع بحصول المضرة عند عدم الشكر إنما يمكن إذا كان المشكور يسره الشكر ويسوءه الكفران فأما من كان منزها عنهما فاستوى الشكر والكفران بالنسبة إليه فلا يمكن القطع بحصول العقاب على ترك الشكر بل احتمال العقاب على الشكر قائم من وجوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 أحدها أن الشاكر ملك المشكور فإقدامه على تصرف الشكر بغير إذنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه من غير ضرورة وهذا لا يجوز وثانيها أن العبد إذا حاول مجازاة المولى على إنعامه عليه استحق التأديب والاشتغال بالشكر اشتغال المجازاة فوجب أن لا يجوز وثالثها أن من أعطاه الملك العظيم كسرة من الخبز أو قطرة من الماء فاشتغل المنعم عليه في المحافل العظيمة يذكر تلك النعمة وشكرها استحق التأديب وكل نعم الدنيا بالقياس إلى خزانة الله تعالى أقل من تلك الكسرة بالقياس إلى خزانة ذلك الملك فلعل الشاكر يستحق العقاب بسبب شكره ورابعها لعله لا يهتدي إلى الشكر اللائق فيأتي بغير اللائق فيستحق العقاب وإنما قلنا إنه لا يمكن أن يجب لا لفائدة لوجهين الأول أن ذلك عبث وأنه قبيح والثاني أن المعقول من الوجوب ترتب الذم والعقاب على الترك فإذا فقد ذلك امتنع تحقق الوجوب فإن قيل لم لا يجوز أن يقال وجب الشكر لمجرد كونه شكرا وذلك لأن وجوب كل شئ لو كان لأجل شئ آخر لزم التسلسل فثبت أنه لا بد وأن ينتهي إلى ما يكون واجبا لذاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وعندنا الشكر واجب لنفس كونه شكرا كنا أن دفع الضرر عن النفس واجب لنفس كونه دفعا للضرر ولذلك فإن العقلاء يعلمون وجوبه عندما يعلمون كونه شكرا للنعمة وإن لم يعلموا جهة أخرى من جهات الوجوب نزلنا عن هذا المقام فلم لا يجوز أن يقال وجب الشكر عليه لدفع ضرر الخوف وذلك لأنه لا يجوز أن يكون خالقه طلب منه الشكر على ما أنعم به عليه فلو لم يقدم على الشكر كان مستوجبا للذم والعقاب أقصى ما في الباب أن يقال كما يجوز هذا يجوز أيضا أن يكون قد منعه من الشكر لتلك الوجوه الأربعة المذكورة في الاستدلال لكن الظن الأول أغلب لأن المشتغل بالخدمة والمواظب على الشكر احسن حالا من المعرض عن الخدمة والمتغافل عن الشكر وأما تمثيل نعم الله بكسرة الخبز فليس بجيد لأن خلقه العبد واحياءه واقداره وما منحه من كمال العقل وتمكينه من أنواع النعم أعظم من جميع خزائن ملوك الدنيا ثم ما أكرمهم به بعد تمام هذه النعمة من بعثة الرسل اليهم وانزال كتبه عليهم وقد صرح داود وسليمان عليهما السلام بالشكر في قوله تعالى وقالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وليس يجب إذا كان تعالى قادرا على أضعاف ما منحه عبيده من النعم أن يستحقر ما منحه إياهم كما أن الملك إذا أعطى قناطير ذهب فإنه لا يستحقر ذلك لأجل أن خزائنه بقيت مشتملة على أضعاف مضاعفة على ما أعطى سلمنا أن وجوبه ليس لفائدة زائدة فلم لا يجوز ذلك قوله أنه عبث والعبث قبيح قلنا إنكم تنكرون القبح العقلي فكيف تمسكتم به في هذا الموضع سلمنا أن ما ذكرتموه يوجب أن لا يجب الشكر عقلا لكنه يوجب أيضا أن لا يجب شرعا فإنه يقال إنه تعالى لو أوجبه لأوجبه إما لفائدة أو لا لفائدة إلى آخر التقسيم ولما كان ذلك باطلا بالاتفاق فكذا ما ذكرتموه سلمنا صحة دليلكم ولكنه معارض بوجوه الأول أن وجوب شكر المنعم مقرر في بدائه العقول وما كان كذلك لم يكن الاستدلال على نقيضه قادحا فيه الثاني هو أن من وصل إلى طريقين وكان أحدهما آمنا والآخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 مخوفا فإن العقل يقضي بسلوك الطريق الآمن دون المخوف وها هنا الاشتغال بالشكر طريق آمن والاعراض عنه مخوف فكان الاشتغال بالشكر أولى الثالث أنه لو لم يجب الشكر في العقل لم يجب طلب معرفة الله تعالى أيضا لأنه لا فرق في العقل بين البابين ولو لم يجب طلب معرفة الله تعالى في العقول لزم افحام الرسل والأنبياء لأنهم إذا أظهروا المعجزة قال المدعوون لهم لا يجب علينا النظر في معجزتكم إلا بالشرع ولا يستقر الشرع إلا بنظرنا في معجزتكم فإذا لم ننظر في معجزتكم ف لا نعرف وجوب ذلك علينا وذلك يقتضي إفحام الرسل والجواب قولهم لم لا يجوز أن يجب لنفس كونه شكرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 قلنا قولنا لو وجب الشكر لوجب إما لفائدة أولا لفائدة تقسيم دائر بين النفي والاثبات فلا يحتمل الثالث ألبتة وأيضاف قولكم إنه وجب لكونه شكرا معناه أن كونه شكرا يقتضي ترتب الذم والعقاب على تركه وهذا داخل فيما ذكرناه فلا يكون هذا قسما زائدا على ما ذكرناه قوله إنه إنما يجب عليه دفعا لضرر الخوف قلنا قد بينا أن الخوف حاصل في فعل الشكر كما أنه حاصل في تركه فإذا احتمل الخوف على الأمرين كان البقاء على الترك بحكم استصحاب الحال أولى فإن لم تثبت أولوية الترك فلا أقل من أن لا يثبت القطع بوجوب الفعل قوله الاشتغال بالخدمة أولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 قلنا هذا مسلم في حق من يفرح بالخدمة ويتأذى بالإعراض أما في حق من لا يجوز الفرح والغم عليه فمحال وأيضا فمثل هذا الترجيح لا يفيد إلا الظن قوله لا يجوز تشبيه نعم الله تعالى بكسرة الخبز قلنا التشبيه واقع في النسبة لا في المقدار ونحن لا نشك أن جميع نعم الدنيا بالإضافة إلى خزائن الله تعالى أقل من الكسرة بالإضافة إلى ملوك الدنيا قوله الحكم بكون العبث قبيحا لا يصح إلا مع القول بالقبح العقلي وأنت لا تقول به قلنا قد ذكرنا أصحابنا إنما تكلموا في هذه المسألة بعد تسليم القبح العقلي ليثبتوا أن كلام المعتزلة ساقط في هذا الفرع مع تسليم ذلك الأصل وإذا كان المقصود ذلك لم يكن ما قالوه قادحا في كلامنا قوله هذا يقتضي أن لا يحسن ايجاب الشكر من الله تعالى قلنا غرضنا من الدليل الذي ذكرناه بيان أنه لو صح التحسين والتقبيح العقلي لما أمكن القول بايجاب الشكر لا عقلا ولا شرعا وقد ثبت لنا ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 بقي أن يقال فأنتم كيف أوجبتموه شرعا قلنا لأن من مذهبنا أن أحكام الله تعالى وأفعاله لا تعلل بالأغراض فله بحكم المالكية أن يوجب ما شاء على من شاء من غير فائدة ومنفعة أصلا وهذا مما لا يتمكن الخصم من القول به فسقط السؤال أما قوله وجوب الشكر معلوم بالضرورة قلنا في حق من يسره الشكر ويسوءه الكفران أما في حق من لا يكون كذلك فلا نسلم فإن قلت بل وجوبه على الاطلاق معلوم بالضرورة وأنت مكابر في ذلك الإنكار قلت أحلف بالله تعالى وبالايمان التي لا مخارج منها أني راجعت عقلي وذهني وطرحت الهوى والتعصب فلم أجد عقلي قاطعا بذلك في حق من لا يصح عليه النفع والضرر بل ولا ظانا فإن كذبتمونا في ذلك كان ذلك لجاجا ولم تسلموا من المقابلة بمثله أيضا وأما قوله ترجيح الطريق الآمن على المخوف من لوازم العقل قلنا نعم لكنا بينا أن كلا الطرفين مخوف فوجب التوقف قوله إنه يفضي إلى إفحام الأنبياء قلنا العلم بوجوب الفكر والنظر ليس ضروريا بل نظريا فللمدعو أن يقول إنما يجب علي النظر في معجزتك لو نظرت فعرفت وجوب النظر لكني لا أنظر في أنه هل يجب النظر علي وإذا لم أنظر فيه لا أعرف وجوب النظر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 معجزتك فيلزم الإفحام فإن قلت بل أعرف بضرورة العقل وجوب النظر على قلت هذا مكابرة لأن العلم بوجوب النظر علي يتوقف على العلم بأن النظر في هذه الأمور الإلهية يفيد العلم وذلك ليس بضروري بل نظري خفي فإن كثيرا من الفلاسفة قالوا إن فكرة العقل تفيد اليقين في الهندسيات والحسابيات فأما في الأمور الإلهية فلا تفيد إلا الظن ثم بتقدير أن يثبت كونه مفيدا للعلم فإنما يجب الإتيان به لو عرف أن غيره لا يقوم مقامه في إفادة العلم وذلك ما لا سبيل إليه إلا بالنظر الدقيق وإذا كان العلم بوجوب النظر موقوفا على ذينك المقامين النظريين فالموقوف على النظري أولي أن يكون نظريا وإذا كان كذلك كان العلم بوجوب النظر نظريا لا ضروريا وحينئذ يتحقق الإلزام فكل ما يجعله الخصم جوابا عن ذلك فهو جوابنا عما ذكروه وبالله التوفيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الفصل التاسع في حكم الأشياء قبل الشرع انتفاع المكلف بما ينتفع به إما أن يكون اضطراريا كالتنفس في الهواء وغيره وذلك لا بد من القطع بأنه غير ممنوع عنه إلا إذا جوزنا تكليف ما لا يطاق وإما أن لا يكون اضطراريا كأكل الفواكه وغيرها فعند المعتزلة البصرية وطائفة من فقهاء الشافعية والحنفية أنها على الإباحة وعند المعتزلة البغدادية وطائفة من الإمامية وأبي علي بن أبي هريرة من فقهاء الشافعية أنها على الحظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وعند أبي الحسن الأشعري وأبي بكر الصيرفي وطائفة من الفقهاء أنها على الوقف وهذا الوقف تارة يفسر بأنه لا حكم وهذا لا يكون وقفا بل قطعا بعدم الحكم وتارة بأنا لا ندري هل هناك حكم أم لا وإن كان هناك حكم فلا ندري أنه إباحة أو حظر لنا أن قبل الشرع ما ورد خطاب الشرع فوجب أن لا يثبت شئ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الأحكام لما ثبت أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع أما القائلون بالاباحة فقد تمسكوا بأمور ثلاثة الأول ما اعتمد عليه أبو الحسين البصري وهو أن تناول الفاكهة مثلا منفعة خالية عن أمارات المفسدة ولا مضرة فيه على المالك فوجب القطع بحسنه أما أنه منفعة فلا شك فيه وأما أنه خال عن أمارات المفسدة فلأن الكلام فيما إذا كان كذلك وأما أنه لا ضرر فيه على المالك فظاهر وأما أنه متى كان كذلك حسن الانتفاع به فلأنه يحسن منا الاستظلال بحائط غيرنا والنظر في مرآته والتقاط ما تناثر من حب غلته من غير إذنه إذا خلا عن أمارات المفسدة وإنما حسن ذلك لكونه منفعة خالية عن أمارات المفسدة غير مضرة بالمالك لأن العلم بالحسن دائر مع العلم بهذه الأوصاف وجودا وعدما وذلك دليل العلية وهذه المعاني قائمة في مسألتنا فوجد الجزم بالحسن فإن قلت هب أنكم لم تعلموا فيه مفسدة ولكن احتمال مفسدة لا تعلمونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 قائم فلم لا يكون ذلك كافيا في القبح قلت هذا مدفوع من وجهين الأول أن العبرة في قبح التصرف بالمفسدة المستندة إلى الأمارة فأما المفسدة الخالية عن الأمارة فلا عبرة بها ألا تراهم يلومون من قام من تحت حائط لا ميل فيه لجواز سقوطه ولا يلومونه إذا كان الجدار مائلا ويلومون منه من امتنع عن أكل طعام شهي لتجويز كونه مسموما من غير أمارة ولا يلومونه على الامتناع عند قيام أمارة فعلمنا أن مجرد الاحتمال لا يمنع الثاني لو قبح الإقدام لتجويز كونه مفسدة لقبح الاحجام عنه لتجويز كونه مصلحة وفيه وجوب الانفكاك عن كل واحد منهما وهو تكليف ما لا يطاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الوجه الثاني في أصل المسألة أن الله تعالى خلق الطعوم في الأجسام مع إمكان أن لا يخلقها فيها وذلك يقتضي أن يكون له تعالى فيها غرض يخصها وإلا كان عبثا ويستحيل أن يعود الغرض إلى الله تعالى لامتناع ذلك عليه فلا بد وأن يكون الغرض عائدا إلى غيره فإما أن يكون الغرض هو الإضرار أو الإنفاع أو لا هذا ولا ذلك والأول باطل أما أولا فباتفاق العقلاء وأما ثانيا فلأنه لا يحصل الضرر إلا بإدراكها فإذا كان الضرر مقصودا والإدراك من لوازم الضرر كان مأذونا فيه لأن لازم المطلوب مطلوب ولا يجوز أن يكون الغرض أمرا وراء الإضرار والإنفاع لأنه باطل بالاتفاق فثبت أن الغرض هو الإنفاع وذلك الإنفاع لا يعقل إلا على أحد ثلاثة أوجه إما بأن يدركها وإما بأن يجتنبها لكون تناولها مفسدة يستحق الثواب باجتنابها وإما بأن يستدل بها وفي كل ذلك إباحة إدراكها لأنه إنما يستحق الثواب بتجنبها إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 دعت النفس إلى إدراكها وفيه تقدم إدراكها وإنما يستدل بها إذا عرفت والمعرفة بها موقوفة على إدراكها لأن الله تعالى لم يخلق فينا المعرفة بها من دون الإدراك فصح أنه لا فائدة بها إلا إباحة الانتفاع بها الوجه الثالث أنه يحسن من العقلاء التنفس في الهواء وأن يدخلوا منه أكثر مما تحتاج إليه الحياة ومن رام أن لا يزيد على قدر ما يحتاج إليه عده العقلاء من المجانين والعلة في حسنه أنه انتفاع لا نعلم فيه مفسدة وهي قائمة في مسألتنا وهذه الدلالة هي عين الدلالة الأولى واستنشاق الهواء مثال ذلك أما القائلون بالحظر فقد احتجوا بأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فوجب أن لا يجوز قياسا على الشاهد واحتج الفريقان على فساد قولنا إنه لا حكم بوجهين الأول إن قولكم لا حكم هذا حكم بعدم الحكم والجمع بين إثبات الحكم وعدمه تناقض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 والثاني أن هذه التصرفات إما أن تكون ممنوعا عنها فتكون على الحظر أو لا تكون فتكون على الإباحة ولا واسطة بين النفي والإثبات والجواب عن الأول أن الحكم العقلي في الأصل ممنوع سلمناه لكن لا نسلم كونه معللا بالوصف المذكور والاعتماد في اثبات العلية على الدوران العقلي قد أبطلناه وعن الثاني بالقدح فيما ذكروه من التقسيم ثم بالنقض بالمطعومات الموذية المهلكة وعن حجة أصحاب الحظر بأن الإذن معلوم بدليل العقل كالاستظلال بحائط الغير فلم قلتم إن هذا القياس لا يدل عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وعن التناقض بأن نقول أي تناقض في الإخبار عن عدم الإباحة والحظر وعن الأخير أن مرادنا بالوقف أنا لا نعلم أن الحكم هو الحظر أو الإباحة وإن فسرناه بالعلم بعدم الحكم قلنا هذا القدر ليس إباحة بدليل أنه حاصل في فعل البهيمة مع أنه لا يسمى مباحا بل المباح هو الذي أعلم فاعله أو دل على أنه لا حرج عليه في الفعل والترك وإذا بينا أنه لم يوجد هذا الإعلام لا عقلا ولا شرعا لم يكن مباحا والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الفصل العاشر في ضبط أبواب أصول الفقه قد عرفت أن أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه وكيفية الاستدلال بها وكيفية حال المستدل بها أما الطرق فإما أن تكون عقلية أو سمعية أما العقلية فلا مجال لها عندنا في الأحكام لما بينا أنها لا تثبت إلا بالشرع وأما عند المعتزلة فلها مجال لأن حكم العقل في المنافع الإباحة وفي المضار الحظر وأما السمعية فإما أن تكون منصوصة أو مستنبطة أما المنصوص فهو إما قول أو فعل يصدر عمن لا يجوز الخطأ عليه والذي لا يجوز الخطأ عليه هو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومجموع الأمة والصادر عن الرسول وعن الأمة إما قول أو فعل والفعل لا يدل إلا مع القول فتكون الدلالة القولية مقدمة على الدلالة الفعلية والدلالة القولية إما أن يكون النظر في ذاتها وهي الأوامر والنواهي وإما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 عوارضها إما بحسب متعلقاتها وهي العموم والخصوص أو بحسب كيفية دلالتها وهي المجمل والمبين والنظر في الذات مقدم علي النظر في العوارض فلا جرم باب الأمر والنهي مقدم على باب العموم والخصوص ثم النظر في العموم والخصوص نظر في متعلق الأمر والنهي والنظر في المجمل والمبين نظر في كيفية تعلق الأمر والنهي بتلك المتعلقات ومتعلق الشئ متقدم على النسبة العارضة بين الشئ وبين متعلقه فلا جرم قدمنا باب العموم والخصوص على باب المجمل والمبين وبعد الفراغ منه لا بد من باب الأفعال ثم هذه الدلائل قد ترد تارة لإثبات الحكم وأخرى لرفعه فلا بد من باب النسخ وإنما قدمناه على باب الإجماع والقياس لأن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به وكذا القياس ثم ذكرنا بعده باب الإجماع ثم هذه الأقوال والأفعال قد يحتاج إلى التمسك بها من لم يشاهد الرسول صلى الله عليه وأله وسلم ولا أهل الإجماع فلا تصل إليه هذه الأدلة إلا بالنقل فلا بد من البحث عن النقل الذي يفيد العلم والنقل الذي يفيد الظن وهو باب الأخبار فهذه جملة أبواب أصول الفقه بحسب الدلائل المنصوصة ولما كان التمسك بالمنصوصات إنما يمكن بواسطة اللغات فلا بد من تقديم باب اللغات على الكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وأما الدليل المستنبط فهو القياس فهذه أبواب طرق الفقه وأما باب كيفية الاستدلال بها فهو باب التراجيح وأما باب كيفية حال المستدل بها فالذي ينزل حكم الله تعالى به إن كان عالما فلا بد له من الاجتهاد وهو باب شرائط الاجتهاد وأحكام المجتهدين وإن كان عاميا فلا بد له من الاستفتاء وهو باب المفتي والمستفتي ثم نختم الأبواب بذكر أمور اختلف المجتهدون في كونها طرقا إلى الأحكام الشرعية فهذه أبواب أصول الفقه أولها اللغات وثانيها الأمر والنهي وثالثها العموم والخصوص ورابعها المجمل والمبين وخامسها الأفعال وسادسها الناسخ والمنسوخ وسابعها الإجماع وثامنها الأخبار وتاسعها القياس وعاشرها التراجيح وحادي عشرها الاجتهاد وثاني عشرها الاستفتاء وثالث عشرها الأمور التي اختلف المجتهدون في أنها هل هي طرق للأحكام الشرعية أم لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 حكم تعلم أصول الفقه ولنختم هذا الفصل بذكر بحثين الأول أن تحصيل هذا العلم فرض والدليل عليه أن معرفة حكم الله تعالى في الوقائع النازلة بالمكلفين واجبة ولا طريق إلى تحصيلها إلا بهذا العلم وما لا يتأدى الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب وإنما قلنا أن معرفة حكم الله تعالى واجبة للإجماع على أن المكلف غير مخير بين النفي والاثبات في الوقائع النازلة بل لله تعالى في كل واقعة أو في أكثر الوقائع أحكام معينة على المكلف وإنما قلنا إنه لا طريق إلى معرفة حكم الله تعالى إلا بهذا العلم لأن المكلف إما أن يكون عاميا أو لا يكون فإن كان عاميا ففرضه السؤال لقوله فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون لكن لا بد من انتهاء السائلين إلى عالم وإلا لزم الدور أو التسلسل وعلى جميع التقادير فحكم الله تعالى لا يصير معلوما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وان كان عالما فالعالم لا يمكنه أن يعرف حكم الله تعالى إلا بطريق لانعقاد الإجماع على أن الحكم بمجرد التشهي غير جائز ولا معنى لأصول الفقه إلا تلك الطرق فثبت أنه لا سبيل إلى معرفة حكم الله تعالى إلا بأصول الفقه وأما بيان أن ما لا يتأدى الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف كان واجبا فسيأتي تقريره في باب الأمر إن شاء الله تعالى البحث الثاني أنه من فروض الكفايات لأنا سنقيم الدلالة إن شاء الله تعالى في باب المفتي والمستفتي على أنه لا يجب على الناس بأسرهم طلب الأحكام بالدلائل المفصلة بل يجوز الاستفتاء وذلك يدل على أن تحصيل هذا العلم ليس من فروض الأعيان بل من فروض الكفايات والله تعالى أعلم بالصواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الكلام في اللغات وفيه تسعة أبواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الباب الأول في الأحكام الكلية للغات اعلم أن البحث إما أن يقع عن ماهية الكلام أو عن كيفية دلالته ولما كانت دلالته وضعية فالبحث إما أن يقع عن الواضع أو عن الموضوع أو عن الموضوع له أو عن الطريق الذي به يعرف الوضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 النظر الأول في البحث عن ماهية الكلام اعلم أن لفظة الكلام عند المحققين منا تقال بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس وعلى الأصوات المتقطعة المسموعة والمعنى الأول مما لا حاجة في أصول الفقه إلى البحث عنه إنما الذي نتكلم فيه القسم الثاني فقال أبو الحسين الكلام هو المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة المتواضع عليها وربما زيد فيه فقيل إذا صدر عن قادر واحد أما قولنا المنتظم فاعلم أنه حقيقة في الأجسام لأن النظام هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 التأليف وذلك لا يتحقق إلا في الأجسام ولكن الأصوات المتوالية على السمع شبهت بها فأطلق لفظ المولف والمنتظم عليه مجازا وقولنا من الحروف احترزنا به عن الحرف الواحد فإن أهل اللغة قالوا أقل الكلام حرفان إما ظاهرا وإما في الأصل كقولنا ق ش ع فإنه كان في الأصل قي وشي وعي ولهذا يرجع في التثنية إليه فيقال قيا عيا إلا أنه أسقط الياء للتخفيف وقولنا المسموعة احتراز عن حروف الكتابة وقولنا المتميزة احتراز عن أصوات كثير من الطيور وقولنا المتواضع عليها احتراز عن المهملات وقولنا إذا صدر عن قادر واحد احتراز عما إذا صدر كل واحد من حروف الكلمة عن قادر آخر نحو أن يتكلم أحدهم بالنون من نصر والثاني بالصاد والثالث بالراء فإن ذلك لا يسمى كلاما واعلم أن هذا الحد يقتضي أمرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 أحدهما كون الكلمة المفردة كلاما وهو قول الأصوليين والنحاة أجمعوا على فساد ذلك وقالوا إن لفظ الكلام مخصوص بالجملة المفيدة ونقلوا أيضا فيه نصا عن سيبويه وقول أهل اللغة في المباحث اللغوية راجح على قول غيرهم الثاني أن قوله أقل الكلام حرفان إما ظاهرا أو في الأصل يشكل بلام التمليك وباء الالصاق وفاء التعقيب فإنها أنواع الحرف الذي هو قسيم الاسم وكل حرف كلمة وكل كلمة كلام مع أنها غير مركبة فإن قلت الحركة في الحقيقة حرف فإذا ضمت الحركة إلى الحرف كان المجموع مركبا قلت هذا على بعده لو قبلناه بقي الإشكال بالياء من غلامي ونون التنوين ولام التعريف فإنها حروف مفردة خالية عن الحركات وهي مفيدة فالأولى أن نساعد أهل النحو ونقول كل منطوق به دل بالاصطلاح على معنى فهو كلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فهذا يتناول الحرف الخالي عن الحركة والحرف المتحرك والمركب من الحروف وأما الكلام فهو الجملة المفيدة وهي إما الجملة الاسمية كقولنا زيد قائم أو الفعلية كقولنا قام زيد وإما مركب من جملتين وهي الشرطية كقولك إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود قال ابن جني الكلام يخرج عن كونه كلاما تارة بالنقصان وتارة بالزيادة أما بالنقصان فإذا قلت قام زيد ثم أسقطت اسم زيد واقتصرت على مجرد قولك قام لم يبق كلاما وأما بالزيادة فإنك إذا أدخلت على تلك الجملة صيغة الشرط حتى صارت هكذا إن قام زيد فإنه لأجل هذه الزيادة خرج عن كونه كلاما لأنه لا يكون مفيدا ما لم يضم اليه غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 النظر الثاني في البحث عن الواضع كون اللفظ مفيدا للمعنى إما أن يكون لذاته أو بالوضع سواء كان الوضع من الله تعالى أو من الناس أو بعضه من الله تعالى وبعضه من الناس فهذه احتمالات أربعة الأول مذهب عباد بن سليمان الصيمري والثاني وهو القول بالتوقيف مذهب الأشعري وابن فورك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 والثالث وهو القول بالاصطلاح مذهب أبي هاشم وأتباعه والرابع هو القول بأن بعضه توقيفي وبعضه اصطلاحي وفيه قولان منهم من قال ابتداء اللغات يقع بالاصطلاح والباقي لا يمتنع أن يحصل بالتوقيف ومنهم من عكس الأمر وقال القدر الضروري الذي يقع به الاصطلاحي توقيفي والباقي اصطلاحي وهو قول الأستاذ أبي اسحاق وأما جمهور المحققين فقد اعترفوا بجواز هذه الأقسام وتوقفوا عن الجزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 والذي يدل على فساد قول عباد بن سليمان أن دلالة الألفاظ لو كانت ذاتية لما اختلفت باختلاف النواحي والأمم ولاهتدى: كل انسان إلى كل لغة وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم واحتج عباد بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسميات مناسبة بوجه ما لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر من غير مرجح وهو محال وإن حصلت بينهما مناسبة فذلك هو المطلوب والجواب إن كان الواضع هو الله تعالى كان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين كتخصيص وجود العالم بوقت مقدر دون ما قبله أو ما بعده وان كان الناس فيحتمل أن يكون السبب خطور ذلك اللفظ في ذلك الوقت بالبال دون غيره كما قلنا في تخصيص كل شخص بعلم خاص من غير أن يكون بينهما مناسبة وأما الذي يدل على إمكان الأقسام الثلاثة فهو أن الله تعالى قادر على أن يخلق فيهم علما ضروريا بالألفاظ والمعاني وبأن واضعا وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني وعلى هذا التقدير تكون اللغات توقيفية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وأيضا فيصح من الواحد منهم أن يضع لفظا لمعنى ثم إنه يعرف الغير ذلك الوضع بالايماء والاشارة ويساعده الآخر عليه ولهذا قيل لو جمع جمع من الأطفال في دار بحيث لا يسمعون شيئا من اللغات فاذا بلغوا الكبر لا بد وأن يحدثوا فيما بينهم لغة يخاطب بها بعضهم بعضا وبهذا الطريق يتعلم الطفل اللغة من أبويه ويعرف الأخرس غيره ما في ضميره فثبت إمكان كونها اصطلاحية واذا ثبت جواز القسمين ثبت جواز القسم الثالث وهو أن يكون البعض توقيفيا والبعض اصطلاحيا ولما كنا لا نجزم بأحد هذه الثلاثة فذلك يكفي فيه الطعن في طرق القاطعين احتج القائلون بالتوقيف بالمنقول والمعقول أما المنقول فمن ثلاثة أوجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 أحدهما قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها دل هذا على أن الأسماء توقيفية واذا ثبت ذلك في الأسماء ثبت أيضا في الأفعال والحروف من ثلاثة أوجه الأول أنه لا قائل بالفرق والثاني أن التكلم بالأسماء وحدها متعذر فلا بد مع تعليم الأسماء من تعليم الأفعال والحروف والثالث أن الاسم إنما سمي اسما لكونه علامة على مسماه والأفعال والحروف كذلك فهي اسماء أيضا وأما تخصيص لفظ الاسم ببعض الأقسام فهذا عرف أهل اللغة والنحو وثانيها أن الله تعالى ذم أقواما على تسميتهم بعض الأشياء من غير توقيف بقوله تعالى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 بها من سلطان فلو لم يكن ما جعل دالا على غيرها من الاسماء توقيفا لما صح هذا الذم وثالثها قوله تعالى ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ولا يجوز أن يكون المراد منه اختلاف تأليفات الألسنة وتركيباتها لأن ذلك في غير الألسن أبلغ وأجمل فلا يكون تخصيص الألسن بالذكر مرادا فبقي أن يكون المراد اختلاف اللغات وأما المعقول فمن وجهين أحدهما أن الاصطلاح إنما يكون بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره وذلك لا يعرف إلا بطريق كالألفاظ والكتابة وكيفما كان فإن ذلك الطريق لا يفيد لذاته فهو إما بالاصطلاح فيكون الكلام فيه كما في الأول ويلزم التسلسل أو بالتوقيف وهو المطلوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وثانيها أنها لو كانت بالمواضعة لارتفع الأمان عن الشرع لأنها لعلها على خلاف ما اعتقدناها أحمد لأن اللغات قد تبدلت فان قلت لو وقع ذلك لاشتهر قلت هذا مبني على أن الواقعة العظيمة يجب اشتهارها وذلك ينتقض بسائر معجزات الرسول وبأمر الاقامة أنها فرادى أو مثناة أما القائلون بالاصطلاح فقد تمسكوا بالنص والمعقول أما النص فقوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه فهذا يقتضي تقدم اللغة على بعثة الرسول فلو كانت اللغة توقيفية والتوقيف لا يحصل إلا بالبعثة لزم الدور وهو محال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وأما المعقول فهو أنها لو كانت توقيفية لكان إما أن يقال إنه تعالى يخلق العلم الضروري بأنه تعالى وضعها لتلك المعاني أو لا يكون كذلك والأول لا يخلو إما ان يقال إنه تعالى يخلق ذلك العلم في العاقل أو في غير عاقل وباطل أن يخلقه تعالى في عاقل لأن العلم بأنه تعالى وضع تلك اللفظة لذلك المعنى يتضمن العلم به تعالى فلو كان ذلك العلم ضروريا لكان العلم به تعالى ضروريا لأن العلم بصفة الشئ متى كان ضروريا كان العلم بذاته أولي أن يكون ضروريا ولو كان العلم به تعالى ضروريا لبطل التكليف لكن ذلك باطل لما ثبت أن كل عاقل فإنه يجب أن يكون مكلفا وباطل أن يخلقه في العاقل لأنه من البعيد أن يصير الانسان غير العاقل عالما بهذه اللغات العجيبة والتركيبات النادرة اللطيفة وأما الثاني وهو أن لا يخلق الله تعالى العلم الضروري بوضع تلك الألفاظ لتلك المعاني فحينئذ لا يعلم سامعها كونها موضوعة لتلك المعاني إلى بطريق آخر والكلام فيه كالكلام في الأول فيلزم إما التسلسل وإما الانتهاء إلى الاصطلاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 هذا ملخص ما عول عليه ابن متويه في التذكرة واحتج الأستاذ أبو اسحاق على قوله بأن الاصطلاح لا يصح إلا بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره فإن عرفه بأمر آخر اصطلاحي لزم التسلسل فثبت أنه لا بد في أول الأمر من التوقيف ثم بعد ذلك لا يمتنع أن تحدث لغات كثيرة بسبب الاصطلاح بل ذلك معلوم بالضرورة ألا ترى أن الناس يحدثون في كل زمان ألفاظا ما كانوا يستعملونها قبل ذلك فهذا مجموع أدلة الجازمين والجواب عن التمسك بقوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها أن نقول لم لا يجوز أن يكون المراد من التعليم أنه تعالى ألهمه الاحتياج إلى هذه الألفاظ وأعطاه من العلوم ما لأجلها قدر على هذا الوضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وليس لأحد أن يقول التعليم ايجاد العلم بل التعليم فعل صالح لأن يترتب عليه حصول العلم ولذلك يقال علمته فلم يتعلم ولو كان التعليم ايجاد العلم لما صح ذلك سلمنا أن التعليم ايجاد العلم ولكن العلم الذي يكتسبه العبد مخلوق لله تعالى فالعلم الذي يحصل بعد الاصطلاح بكون من خلق الله تعالى فقوله تعالى وعلم ولا ينافي كونه بالاصطلاح سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون المراد من الأسماء العلامات والصفات مثل أن يقال إنه تعالى علم آدم عليه السلام أن الخيل تصلح للكر والفر والجمال للحمل والثيران للزرع وذلك لأن الاسم مشتق من السمة أو من السمو وعلى التقديرين فكل ما يعرف عن ماهية شئ ويكشف عن حقيقته كان اسما له وأما تخصيص لفظ الاسم بهذه الألفاظ فهذا عرف حادث سلمنا أن المراد من الأسماء الألفاظ فلم لا يجوز ان يقال إنها كانت موضوعة بالاصطلاح من خلق خلقه الله تعالى قبل آدم عليه السلام فعلمه الله ما تواضع عليه غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وعن الثاني أنهم إنما استحقوا الذم لاطلاقهم لفظ الإله على الصنم مع اعتقاد تحقق مسمى الإلهية فيها وعن الثالث أن اللسان اسم للجارحة المخصوصة وهي غير مرادة بالاجماع فلا بد من المجاز فليسوا بصرفه إلى اللغات أولى منا بصرفه إلى القدرة على اللغات أو إلى مخارج اللغات وعن الرابع أنه باطل بتعلم الولد اللغة من والديه فإن ذلك ليس مسبوقا بالتوقيف سلمنا أنه بعد لا بد قبل الاصطلاح من لغة أخرى ليصطلحوا بها على تلك اللغة الثانية فلم لا يجوز أن تكون هذه اللغات التي نتكلم بها الآن توقيفية لاحتمال أن يقال كان قبل هذه اللغات لغة أخرى وأنها كانت توقيفية ثم إن الناس بتلك اللغة اصطلحوا على وضع هذه اللغات فإن قلت إذا كان لا بد من الاعتراف بلغة توقيفية فلنعترف يقول بكون هذه اللغات توقيفية ولنسقط الذي من البين تلك الواسطة المجهولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 قلت كلامنا في الجزم وما ذكرته ليس من الجزم في شئ وعن الخامس أنه لو وقع التغيير في هذه اللغة لاشتهر ونقضه بمعجزات الرسول وأن الإقامة فرادى أو مثناة فسيجئ الجواب عنه في باب الأخبار إن شاء الله تعالى أما الذي احتج به القائلون بالاصطلاح فالجواب عما تمسكوا به أولا أن الحجة إنما تتم لو لم يحصل التوقيف إلا ببعثة الرسل وذلك ممنوع وعن الثاني أنه تعالى خلق فيهم علما ضروريا بأن واضعا وضع هذه الألفاظ بازاء تلك المعاني وإن كان لا يخلق فيهم العلم بأن ذلك الواضع هو الله تعالى سلمنا أنه تعالى يخلق فيهم العلم بأن ذلك الواضع هو الله تعالى فلم قلت إنه باطل قوله لأنه ينافي التكليف قلنا إنه ينافي التكليف بمعرفة الله تعالى ولا ينافي التكليف بسائر الأشياء سلمنا أنه لا يخلقه في العاقل فلم لا يخلقه في غير العاقل ولم لا يجوز في المجنون أن يعلم بالعلم الضروري بعض الأحكام الدقيقة فهذا هو الجواب عن وجوه القاطعين ومتى ظهر ضعفها وجب التوقف والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 النظر الثالث في البحث عن الموضوع اعلم أن الانسان الواحد لما خلق بحيث لا يمكنه أن يستقل وحده باصلاح جميع ما يحتاج إليه فلا بد من جمع عظيم ليعين بعضهم بعضا حتى يتم لكل واحد منهم ما يحتاج إليه ف احتاج كل واحد منهم إلى أن يعرف صاحبه ما في نفسه من الحاجات وذلك التعريف لا بد فيه من طريق وكان يمكنهم أن يضعوا غير الكلام معرفا لما في الضمير كالحركات المخصوصة بالأعضاء المخصوصة معرفات لأصناف الماهيات إلا أنهم وجدوا جعل الأصوات المتقطعة طريقا إلى ذلك أولى من غيرها لوجوه أحدها أن ادخال الصوت في الوجود أسهل من غيره لأن الصوت إنما يتولد في كيفية مخصوصة في اخراج النفس وذلك أمر ضروري فصرف ذلك الأمر الضروري إلى وجه ينتفع به انتفاعا كليا أولى من تكلف طريق آخر قد يشق على الانسان الإتيان به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وثانيها أن الصوت كما يدخل في الوجود ينقضي فيكون موجودا حال الحاجة ومعدوما حال الاستغناء عنه وأما سائر الأمور فإنها قد تبقى وربما يقف عليها من لايراد وقوفه عليها أما الاشارة فإنها قاصرة عن افادة الغرض فإن الشئ ربما كان بحيث لا يمكن الاشارة إليه حسا كذات الله تعالى وصفاته وأما المعدومات فتعذر الاشارة إليها ظاهر وأما الأشياء ذوات الجهات فكذلك أيضا لأن الاشارة إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 توجهت إلى محل فيه لون وطعم وحركة لم يكن انصرافها إلى بعضها أولى من البعض وثالثها أن المعاني التي يحتاج إلى التعبير عنها كثيرة جدا فلو وضعنا لكل واحد منها خاصة لكثرت العلامات بحيث يعسر ضبطها أو وقوع الاشتراك في أكثر المدلولات وذلك مما يخل بالتفهيم فلهذه الأسباب وغيرها اتفقوا على اتخاذ الأصوات المتقطعة معرفات للمعاني لا غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 النظر الرابع في البحث عن الموضوع له وفيه أبحاث أربعة الأول الأقرب أنه لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ يدل عليه بل ولا يجوز لأن المعاني التي يمكن أن يعقل كل واحد منها غير متناهية فلو وجب أن يكون لكل معنى لفظ يدل عليه لكان ذلك إما على الانفراد أو على الاشتراك والأول باطل لأنه يفضي إلى وجود ألفاظ غير متناهية والثاني باطل أيضا لأن تلك الألفاظ المشتركة إما أن يوجد فيها ما وضع لمعان غير متناهية أو لا يكون كذلك والأول باطل لأن الوضع لا يكون إلا بعد التعقل وتعقل أمور غير متناهية على التفصيل محال في حقنا وإذا كان كذلك امتنع منا وقوع التخاطب بمثل ذلك اللفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 والثاني يقتضي أن تكون مدلولات الألفاظ متناهية لأن الألفاظ إذا كانت متناهية ومدلول كل واحد منها متناه فضم المتناهي إلى المتناهي مرات متناهية لا يفيد إلا التناهي فكان الكل متناهيا فمجموع ما لا نهاية له غير مدلول عليه بالألفاظ إذا ثبت هذا الأصل فنقول المعاني على قسمين منها ما تكثر الحاجة إلى التعبير عنه ومنها ما لا يكون كذلك فالأول لا يجوز خلو اللغة عن وضع اللفظ بازائه لأن الحاجة لما كانت شديدة كانت الدواعي إلى التعبير عنها متوفرة والصوارف عنها زائلة ومع توفر الدواعي إلى التعبير عنها وارتفاع الصوارف يجب الفعل وأما الأمور التي لا تشتد الحاجة إلى التعبير عنها فإنه يجوز خلو اللغة عن الألفاظ الدالة عليها البحث الثاني في أنها ليس الغرض من وضع اللغات أن تفاد بالألفاظ المفردة معانيها والدليل عليه أن إفادة الألفاظ المفردة لمسمياتها موقوفة على العلم بكونها موضوعة لتلك المسميات المتوقف على العلم بتلك المسميات فلو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 استفيد العلم بتلك المسميات من تلك الألفاظ المفردة لزم الدور بل الغرض من وضع الألفاظ المفردة لمسمياتها تمكين الانسان من تفهم ما يتركب من تلك المسميات بواسطة تركيب تلك الألفاظ المفردة فان قلت ما ذكرته في المفردات قائم بعينه في المركبات لأن المركب لا يفيد مدلوله إلا عند العلم بكون ذلك اللفظ المركب موضوعا لذلك المدلول وذلك يستدعي سبق العلم بذلك المدلول فلو استفيد العلم بذلك المدلول من ذلك اللفظ المركب لزم الدور قلت لا نسلم أن الألفاظ المركبة لا تفيد مدلولها إلا عند العلم بكون تلك الألفاظ المركبة موضوعة لذلك المدلول بيانه أنا متى علمنا كون كل واحد من تلك الألفاظ المفردة موضوعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 لتلك المعاني المفردة وعلمنا أيضا كون حركات تلك الألفاظ دالة على النسب المخصوصة لتلك المعاني فاذا توالت الألفاظ المفردة بحركاتها المخصوصة على السمع ارتسمت تلك المعاني المفردة مع نسبة بعضها إلى بعض في الذهن ومتى حصلت المفردات مع نسبها المخصوصة في الذهن حصل العلم بالمعاني المركبة لا محالة فظهر أن استفادة العلم بالمعاني المركبة لا تتوقف على العلم بكون تلك الألفاظ المركبة موضوعة لها والله أعلم البحث الثالث في أن الألفاظ ما وضعت للدلالة على الموجودات الخارجية بل وضعت للدلالة على المعاني الذهنية والدليل عليه أما في الألفاظ المفردة فلأنا إذا رأينا جسما من بعيد وظنناه صخرة سميناه بهذا الاسم فإذا دنونا منه وعرفنا أنه حيوان لكنا ظنناه طيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 سميناه به فإذا ازداد القرب وعرفنا أنه انسان سميناه به فاختلاف الأسامي عند اختلاف الصور الذهنية يدل على أن اللفظ لا دلالة له إلا عليها وأما في المركبات فلأنك إذا قلت قام زيد فهذا الكلام لا يفيد قيام زيد وإنما يفيد أنك حكمت بقيام زيد وأخبرت عنه ثم إن عرفنا أن ذلك الحكم مبرء لأن عن الخطأ فحينئذ نستدل به على الوجود الخارجي فأما أن يكون اللفظ دالا على ما في الخارج فلا والله أعلم البحث الرابع في أن اللفظ المشهور المتداول بين الخاصة والعامة لا يجوز أن يكون موضوعا لمعنى خفي لا يعرفه إلا الخواص مثاله ما يقوله مثبتو الأحوال من المتكلمين أن الحركة معنى يوجب للذات كونه متحركا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فنقول المعلوم عند الجمهور ليس إلا نفس كونه متحركا فأما أن متحركيته وقد حالة معللة بمعنى وأنها غير واقعة بالقادر فذلك لو صح القول به لما عرفه إلا الأذكياء من الناس بالدلائل الدقيقة ولفظة الحركة لفظة متداولة فيما بين الجمهور من أهل اللغة وإذا كان كذلك امتنع أن يكون موضوعا لذلك المعنى بل لا مسمى للحركة في وضع اللغة إلا نفس كون الجسم منتقلا لا غير والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 النظر الخامس فيما به يعرف كون اللفظ موضوعا لمعناه لما كان المرجع في معرفة شرعنا إلى القرآن والأخبار وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم كان العلم بشرعنا موقوفا على العلم بهذه الأمور وما لا يتم الواجب المطلق به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب ثم الطريق إلى معرفة لغة العرب ونحوهم وتصريفهم إما العقل وإما النقل أو ما يتركب منهما أما العقل فلا مجال له في هذه الأشياء لما بينا أنها امور وضعية والأمور الوضعية لا يستقل العقل بإدراكها وأما النقل فهو إما تواتر أو آحاد والأول يفيد العلم والثاني يفيد الظن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 واما ما يتركب من العقل والنقل فهو كما عرفنا بالنقل أنهم جوزوا الاستثناء عن صيغ الجمع وعرفنا بالنقل أيضا أنهم وضعوا الاستثناء لإخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ فحينئذ نعلم بالعقل بواسطة هاتين المقدمتين النقليتين أن صيغة الجمع تفيد الاستغراق واعلم أن على كل واحد من هذه الطرق الثلاثة اشكالات أما التواتر فإن الاشكال عليه من وجوه أحدها أنا نجد الناس مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة المسلمين اختلافا لا يمكن القطع فيه بما هو الحق كلفظة الله تعالى فإن بعضهم زعم أنها ليست عربية بل سريانية والذين جعلوها عربية اختلفوا في أنها من الأسماء المشتقة أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الموضوعة والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافا شديدا وكذا القائلون بكونه موضوعا اختلفوا أيضا اختلافا كبيرا ومن تأمل أدلتهم في تعيين مدلول هذه اللفظة علم أنها متعارضة وأن شيئا منها لا يفيد الظن الغالب فضلا عن اليقين وكذلك اختلفوا في الايمان والكفر والصلاة والزكاة حتى إن كثيرا من المحققين في علم الاشتقاق زعموا أن اشتقاق الصلاة من الصلوين وهما عظما الورك ومن المعلوم أن هذا الاشتقاق غريب وكذلك اختلفوا في صيغ الأوامر والنواهي وصيغ العموم مع شدة اشتهارها وشدة الحاجة اليها اختلافا شديدا وإذا كان الحال في هذه الألفاظ التي هي أشهر الألفاظ والحاجة إلى استعمالها ماسة جدا كذلك فما ظنك بسائر الألفاظ وإذا كان كذلك ظهر أن دعوى التواتر في اللغة والنحو متعذر ة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 فإن قلت هب إنه لا يمكن دعوى التواتر في معاني هذه الألفاظ على سبيل التفصيل ولكنا نعلم معانيها في الجملة فنعلم أنهم يطلقون لفظ الله على افله علي سبحانه وتعالى وان كنا لا نعلم أن مسمى هذا اللفظ أهو الذات أم المعبودية أم القادرية وكذا القول في سائر الألفاظ قلت حاصل ما ذكرته أنا نعلم إطلاق لفظ الله على الإله سبحانه وتعالى من غير أن نعلم أن مسمى هذا الاسم ذاته أو كونه معبودا أو كونه قادرا على الاختراع أو كونه ملجأ الخلق أو كونه بحيث تتحير العقول في ادراكه إلى غير ذلك من المعاني المذكورة لهذا اللفظ وذلك يفيد نفي القطع بمسماه واذا كان الأمر كذلك في هذه اللفظة مع غاية شهرتها ونهاية الحاجة إلى معرفتها كان الاحتمال فيما عداها أظهر وثانيها أن من شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة فهب أنا علمنا حصول شرائط التواتر في حفاظ اللغة والنحو والتصريف في زماننا هذا فكيف نعلم حصولها في سائر الأزمان فان قلت الطريق إليه أمران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 أحدهما أن الذين شاهدناهم أخبرونا أن الذين أخبروهم بهذه اللغات كانوا موصوفين بالصفات المعتبرة في التواتر وأن الذين أخبروا من أخبرهم كانوا كذلك إلى أن يتصل النقل بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم وثانيهما أن هذه الألفاظ لو لم تكن موضوعة لهذه المعاني ثم وضعها واضع لهذه المعاني لاشتهر ذلك ولعرف فإن ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله قلت أما الأول فغير صحيح لأن كل واحد منا حين سمع لغة مخصوصة من انسان فإنه لم يسمع منه أنه سمع من أهل التواتر وأن الذين اسمعوا كل واحد من مسمعيه حتى سمعوها أيضا من أهل التواتر إلى أن يتصل ذلك بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم بل تحرير هذه الدعوى على هذا الوجه مما لا يفهمه كثير من الأدباء فكيف يدعى أنهم علموه بالضرورة بل الغاية القصوى في راوي اللغة أن يسنده إلى كتاب مصحح أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 إلى استاذ متقن ومعلوم أن ذلك لا يفيد اليقين وأما الثاني فضعيف أيضا أما أولا فلأن ذلك الاشتهار إنما يجب في الأمور العظيمة ووضع اللفظة المعينة بإزاء المعنى المعين ليس من الأمور العظيمة التي يجب اشهارها وأما ثانيا فلأن ذلك ينتقض ب ما أنا نرى أكثر العرب في زماننا هذا يتكلمون بألفاظ مختلة واعرابات فاسدة مع أنا لا نعلم واضع تلك الألفاظ المختلة ولا زمان وضعها وينتقض أيضا بالألفاظ العرفية فإنها نقلت عن موضوعاتها الأصلية مع أنا لا نعلم المغير ولا زمان التغيير فكذا ها هنا سلمنا أنه يجب أن يشتهر ذلك لكن لا نسلم أنه لم يشتهر فإنه قد اشتهر بل بلغ مبلغ التواتر أن هذه اللغات إنما أخذت عن جمع مخصوصين كالخليل وأبي عمرو بن العلاء والاصمعي وأبي عمرو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الشيباني وأضرابهم ولا شك أن هؤلاء ما كانوا معصومين ولا كانوا بالغين حد التواتر وإذا كان كذلك لم يحصل القطع واليقين بقولهم أقصى ما في الباب أن يقال نعلم قطعا استحالة كون هذه اللغات بأسرها منقولة على سبيل الكذب إلا أنا نسلم ذلك ونقطع بأن فيها ما هو صدق قطعا لكن كل لفظة عيناها فإنه لا يمكننا القطع بأنها من قبيل ما نقل صدقا أو كذبا وحينئذ لا يبقى القطع في لفظ معين أصلا هذا هو الاشكال على من ادعى التواتر في نقل اللغات أما الآحاد فالاشكال عليها من وجوه أحدها أن رواية الآحاد لا تفيد إلا الظن ومعرفة القرآن والأخبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 مبنية على معرفة اللغة والنحو والتصريف والمبني على المظنون مظنون فوجب أن لا يحصل القطع بشئ من مدلولات القرآن والاخبار وذلك خلاف الاجماع وثانيها أن رواية الآحاد لا تفيد الظن إلا إذا سلمت عن القدح وهؤلاء الرواة مجرحون فإن بيانه أن أجل الكتب المصنفة في النحو واللغة كتاب سيبويه وكتاب العين أما كتاب سيبويه فقدح الكوفيين فيه وفي صاحبه أظهر من الشمس وأيضا فالمبرد عمر كان من أجل البصريين وهو قد أورد كتابا في القدح فيه وأما كتاب العين فقد أطبق الجمهور من أهل اللغة على القدح فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وأيضا فإن ابن جني أورد بابا في كتاب الخصائص في قدح أكابر الأدباء بعضهم في بعض وتكذيب بعضهم بعضا وطول في ذلك وأفرد بابا آخر في أن لغة أهل الوبر أصح من لغة أهل المدر وغرضه من ذلك القدح في الكوفيين وأفرد بابا آخر في كلمات الغريب لا يعلم أحد اتى بها إلا ابن أحمر الباهلي وروي عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان النبي ألفاظا لم يسمعاها ولم يسبقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 إليها وعلى نحو هذا قال المازني ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم وأيضا فالأصمعي كان منسوبا إلى الخلاعة ومشهورا أنه كان يزيد في اللغة ما لم يكن منها والعجب من الأصوليين أنهم أقاموا الدلالة على أن خبر الواحد حجة في الشرع ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة وكان هذا أولى لأن اثبات اللغة كالأصل للتمسك بخبر الواحد وبتقدير أن يقيموا الدلالة على ذلك فكان من الواجب عليهم أن يبحثوا عن أحوال رواة اللغاة وإن والنحو وأن يتفحصوا عن اسباب جرحهم وتعديلهم كما فعلوا ذلك في رواة الأخبار لكنهم تركوا ذلك بالكلية مع شدة الحاجة إليه فإن اللغة والنحو يجريان مجرى الأصل للاستدلال بالنصوص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وثالثهما أن رواية الراوي إنما تقبل إذا سلمت عن المعارض وهاهنا روايات دالة على أن هذه اللغة تتطرق إليها الزيادة والنقصان أما الزيادة فلما نقلنا عن رؤبة وأبيه من الزيادات وكذلك عن الأصمعي والمازني وأما النقصان فلما روى ابن جني باسناده عن ابن سيرين عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه فجاء الاسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم وغفلت عن الشعر وروايته فلما كثر الاسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا فيه إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب وقد هلك من العرب من هلك فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم أكثره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وروى ابن جني أيضا باسناده عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو ابن العلاء أنه قال ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافرا لجاءكم كما علم وشعر كثير قال ابن جني فهذا ما نراه وقد روي في معناه كثير وذلك يدل على تنقل الأحوال بهذه اللغة واعتراض الأحداث عليها وكثرة تغيرها وأيضا فالصحابة مع شدة عنايتهم بأمر الدين واجتهادهم في ضبط أحواله عجزوا عن ضبط الأمور التي شاهدوها في كل يوم خمس مرات وهو كون الإقامة فرادى أو مثناة والجهر بالقراءة ورفع اليدين فاذا كان الأمر في هذه الأشياء الظاهرة كذلك فما ظنك باللغات وكيفية الاعرابات مع قلة وقعها في القلوب ومع ما أنه لم يشتغل بتحصيلها وتدوينها محصل إلا بعد انقراض عصر الصحابة والتابعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 واما ما يتركب من العقل والنقل فالاعتراض عليه أن الاستدلال بالمقدمتين النقليتين على النتيجة لا يصح إلا إذا ثبت أن المناقضة غير جائزة على الواضع وهذا إنما يثبت اذا ثبت أن الواضع هو الله تعالى وقد بينا أن ذلك غير معلوم فان قلت الناس قد أجمعوا على صحة هذا الطريق لأنهم لا يثبتون شيئا من مباحث علم النحو والتصريف إلا بهذا الطريق والاجماع حجة قلت اثبات الاجماع من فروع هذه القاعدة لأن اثبات الاجماع سمعي فلا بد فيه من اثبات الدلائل السمعية والدليل السمعي لا يصح إلا بعد ثبوت اللغة والنحو والتصريف فالإجماع فرع هذا الأصل فلو أثبتنا هذا الأصل بالاجماع لزم الدور وهو محال فهذا تمام الإشكال والجواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 أن اللغة والنحو على قسمين أحدهما المتداول المشهور والعلم الضروري حاصل بأنها في الأزمنة الماضية كانت موضوعة لهذه المعاني فإننا نجد أنفسنا جازمة بأن لفظ السماء والأرض كانتا مستعملتين في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذين المسميين ونجد الشكوك التي ذكروها جارية مجرى شبه السوفسطائية القادحة في المحسوسات التي لا تستحق الجواب وثانيهما الألفاظ الغريبة والطريق إلى معرفتها الآحاد إذا عرفت هذا فنقول أكثر ألفاظ القرآن ونحوه وتصريفه من القسم الأول فلا جرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 قامت الحجة به وأما القسم الثاني فقليل جدا وما كان كذلك فإنا لا نتمسك به في المسائل القطعية ونتمسك به في الظنيات ونثبت وجوب العمل بالظن بالاجماع ونثبت الاجماع بآية واردة بلغات معلومة لا مظنونة وبهذا الطريق يزول الإشكال والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الباب الثاني في تقسيم الألفاظ وهو من وجهين التقسيم الأول اللفظ إما أن تعتبر دلالته بالنسبة إلى تمام مسماه أو بالنسبة إلى ما يكون داخلا في المسمى من حيث هو كذلك أو بالنسبة إلى ما يكون خارجا عن المسمى من حيث هو كذلك فالأول هو المطابقة والثاني التضمن والثالث الالتزام تنبيهات الأول الدلالة الوضعية هي دلالة المطابقة وأما الباقيتان فعقليتان لأن اللفظ إذا وضع للمسمى انتقل الذهن من المسمى إلى لازمه ولازمه إن كان داخلا في المسمى فهو التضمن وان كان خارجا فهو الالتزام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الثاني إنما قلنا في التضمن إنه دلالة اللفظ على جزء المسمى من حيث هو كذلك احترازا عن دلالة اللفظ على جزء المسمى بالمطابقة على سبيل الاشتراك وكذلك القول في الالتزام الثالث دلالة الالتزام لا يعتبر فيها اللزوم الخارجي لأن الجوهر والعرض متلازمان ولا يستعمل اللفظ الدال على أحدهما في الآخر والضدان متنافيان وقد يستعمل اللفظ الدال على أحدهما في الآخر كقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها بل المعتبر اللزوم الذهني ظاهرا ثم هذا اللزوم شرط لا موجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ولنرجع إلى التقسيم فنقول اللفظ الدال بالمطابقة إما أن لا يدل شئ من أجزائه على شئ حين هو جزؤه وهو المفرد كالأبكم وإما أن يدل كل واحد من أجزائه على شئ حين هو جزؤه وهو المركب وأما أن يدل أحد جزئيه دون الآخر وهو غير واقع لأنه يكون ضما لمهمل هو إلى مستعمل وهو غير مفيد أما المفرد فيمكن تقسيمه على ثلاثة أوجه الأول أن المفرد إما أن يمنع نفس تصور معناه من الشركة وهو الجزئي أو لا يمنع وهو الكلي ثم الماهية الكلية إما أن تكون تمام الماهية أو جزئها أن خارجا عنها والأول هو المقول في جواب ما هو والثاني هو الذاتي والثالث هو العرضي أما الماهية فإما أن تكون ماهية واحد أو ماهية أشياء والأول هو الماهية بحسب الخصوصية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 اما الثاني فتلك الأشياء لا بدو أن يخالف كل واحد منها صاحبه في التعين فإما أن يحصل مع ذلك مخالفة بعضها بعضا في شئ من الذاتيات أو لا يحصل فإن كان الأول فتمام القدر المشترك بينها من الأمور الداخلة فيها هو تمام الماهية المشتركة لأن ما هو أعم منه لا يكون تمام المشترك وما هو أخص منه لا يكون مشتركا وما يساويه فإن ساواه في الماهية فهو هو لا غيره وإن ساواه في اللزوم دون المفهوم لم يكن هو تمام القدر المشترك وان كان الثاني كان تمام القدر المشترك بينهما هو تمام ماهية كل منهما بعينه إذ لو كان لكل واحد منهما ذاتي آخر وراء القدر المشترك كانت المخالفة بينهما لا بالتعين فقط بل وبالذاتيات وسلم وقد فرض أنه لا مخالفة في الذاتيات هذا خلف وأما الذاتي فهو إما أن يكون تمام الجزء المشترك وهو الجنس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 أو تمام الجزء الذي يميزه عما يشاركه في الجنس وهو الفصل أو المجموع الحاصل منهما وهو النوع وإما أن لا يكون كذلك فيكون ذلك جزء الجزء وهو إما جنس الجنس أو جنس الفصل أو فصل الجنس أو فصل الفصل ثم إن الأجناس تترتب متصاعدة وتنتهي في الارتقاء إلى جنس لا جنس فوقه وهو جنس الأجناس والأنواع تترتب متنازلة إلى نوع لا نوع تحته وهو نوع الأنواع وأما الوصف الخارج عن الماهية فتقسيمه على وجهين الأول أن ذلك الخارجي إما أن يكون لازما للماهية أو للوجود أو لا يلزم واحد منهما ثم لازم كل واحد من القسمين قد يكون بوسط وقد يكون بغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وسط والذي يكون بوسط ينتهي إلى غير ذي وسط وإلا لزم الدور أو التسلسل وغير اللازم قد يكون سريع الزوال وقد يكون بطيئه الثاني أن الوصف الخارجي إما أن يعتبر من حيث إنه مختص بنوع واحد لا يوجد في غيره وهو الخاصة أو من حيث إنه موجود فيه وفي غيره وهو العرض العام وهذا التقسيم وإن كان بالحقيقة في المعاني لكنه عظيم النفع في الألفاظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 التقسيم الثاني للفظ المفرد وهو أنه إما أن يكون معناه مستقلا بالمعلومية إن أو لا يكون والثاني هو الحرف والأول إما أن يكون اللفظ الدال عليه دالا على الزمان المعين لمعناه وهو الفعل أولا يدل وهو الاسم ثم الاسم تقسيمه من وجهين الأول أن الاسم ان كان اسما للجزئي فإن كان مضمرا فهو المضمرات وإن كان مظهرا فهو العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وان كان اسما للكلي فهو إما ان يكون اسما لنفس الماهية كلفظ السواد وهو المسمى باسم الجنس في اصطلاح النحاة أو لموصوفية إلا أمر ما بصفة وهو الاسم المشتق كلفظ الضارب فإن مفهومه أنه شئ ما مجهول بحسب دلالة هذا اللفظ لكن علم منه أنه موصوف بصفة الضرب الثاني أن الاسم هو الذي يدل على معنى ولا يدل على زمانه المعين وهو على أقسام ثلاثة فإن المسمى قد يكون نفس الزمان كلفظ الزمان واليوم والغد وقد يكون أحد أجزائه الزمان كالاصطباح فيه والاغتباق ولهذا يتطرق اليه التصريف وقد لا يكون زمانا ولا مركبا من الزمان كالسواد وأمثاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 التقسيم الثالث للفظ المفرد وهو إما أن يكون اللفظ والمعنى واحدا أو يتكثران صلى أو يتكثر اللفظ ويتحد المعنى أو بالعكس أما القسم الأول فالمسمى إن كان نفس تصوره مانعا من الشركة ومظهرا فهو العلم وإن لم يمنع فحصول ذلك المسمى في تلك المواضع إن كان بالسوية فهو المتواطئ أولا بالسوية فهو المشكك كالوجود الذي ثبوت مسماه للواجب أولى من ثبوته للممكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 أما إذا تكثرت الألفاظ والمعاني فهي المتباينة سواء تباينت المسميات بذواتها أو كان بعضها صفة للبعض كالسيف والصارم أو صفة للصفة كالناطق والفصيح وأما إذا تكثرت الألفاظ واتحد المعنى فهو الألفاظ المترادفة سواء كانت من لغة واحدة أم من لغات كثيرة وأما إذا اتحد اللفظ وتكثر المعنى فهذا اللفظ إما أن يكون قد وضع أولا لمعنى ثم نقل عنه إلى معنى آخر أو وضع لهما معا أما الأول فإما أن يكون ذلك النقل لا لمناسبة بين المنقول إليه والمنقول عنه وهو المرتجل أو لمناسبة وحينئذ إما أن تكون دلالة اللفظ بعد النقل على المنقول إليه أقوى م دلالته على المنقول عنه أو لا تكون فان كان الأول سمي اللفظ بالنسبة إلى المنقول إليه لفظا منقولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ثم الناقل إن كان هو الشارع سمي لفظا شرعيا أو أهل العرف فيسمى لفظا عرفيا والعرف إما أن يكون عاما كلفظ الدابة أو خاصا كالاصطلاحات وقال التي لكل طائفة من أهل العلم وأما إن لم تكن دلالته على المنقول إليه أقوى من دلالته على المنقول عنه سمي ذلك اللفظ بالنسبة إلى الوضع الأول حقيقة وبالنسبة إلى الثاني مجازا ثم جهات النقل كثيرة من جملتها المشابهة وهي المسمى بالمستعار خاصة وأما إذا كان اللفظ موضوعا للمعنيين جميعا فإما أن تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 إرادة ذلك اللفظ لهما على السوية أو لا تكون على السوية فإن كانت على السوية سميت اللفظة بالنسبة اليهما معا مشتركا وبالنسبة إلى كل واحد منهما مجملا لأن كون اللفظ موضوعا لهذا وحده ولذاك وحده معلوم فكان مشتركا من هذا الوجه وأما إن كان المراد منه هذا أو ذاك غير معلوم فلا جرم كان مجملا من هذا الوجه وأما إن كانت دلالة اللفظ على أحد مفهوميه أقوى سمي اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهرا وبالنسبة إلى المرجوح مؤولا تنبيه الأقسام الثلاثة الأول مشتركة في عدم الاشتراك فهي نصوص وأما الرابع فينقسم إلى ما إفادته لأحد مفهوميه أرجح من افادته للثاني وهو الظاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وإلى ما لا يكون كذلك وهو الذي يكون على السوية وهو المجمل أو مرجوحا وهو المؤول ف النص والظاهر يشتركان في الرجحان إلا أن النص راجح مانع من النقيض فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم فهو جنس لنوعين النص والظاهر والذي لا يقتضي الرجحان فهو المتشابه وهو جنس لنوعين المجمل والمؤول أما المركب فنقول الحاجة إلى اللفظ المركب كما تقدم للإفهام فالقول المفهم إما أن يفيد طلب شئ إفادة أولية أو لا يفيده فإن كان الأول فإما أن يفيد طلب ذكر ماهية الشئ وهو الاستفهام أو طلب التحصيل وهو إن كان على وجه الاستعلاء فهو الأمر وان كان على وجه الخضوع فهو السؤال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وان كان على وجه التساوي فهو الالتماس وكذلك القول في طلب الامتناع وأما القول المفهم الذي لا يفيد طلب شئ إفادة اولية فإما أن يحتمل التصديق والتكذيب وهو الخبر أو لا يكون كذلك وهو مثل التمني والترجي والقسم والنداء ويسمى هذا القسم بالتنبيه تمييزا له عن غيره وأنواع جنس التنبيه معلومة بالاستقراء لا بالحصر هذا كله تقسيم المطابقة أما تقسيم دلالة الالتزام فنقول المعنى المستفاد من دلالة الالتزام إما أن يكون مستفادا من معاني الألفاظ المفردة أو من حال تركيبها والأول قسمان لأن المعنى المدلول عليه بالالتزام إما أن يكون شرطا للمعنى المدلول عليه بالمطابقة أو تابعا له فإن كان الأول فهو المسمى بدلالة الاقتضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ثم تلك الشرطية قد تكون عقلية كقوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان فإن العقل دل على أن هذا المعنى لا يصح إلا إذا أضمرنا فيه الحم الشرعي وقد تكون شرعية كقوله والله لأعتقن هذا العبد فإنه يلزمه تحصيل الملك لأنه لا يمكنه الوفاء بقوله شرعا إلا بعد ذلك وأما إن كان تابعا لتركيبها أنه فإما أن يكون من مكملات ذلك المعنى أو لا يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فالأول كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب عند من لا يثبته بالقياس وأما الثاني فإما أن يكون المدلول عليه بالالتزام ثبوتيا أو عدميا أما الأول فكقوله تعالى فالآن باشروهن ومد ذلك إلى غاية تبين الخيط الأبيض فيلزم فيمن أصبح جنبا أن لا يفسد صومه وإلا وجب أن يحرم الوطء في آخر جزء من الليل بقدر ما يقع الغسل فيه وأما الثاني فهو أن تخصيص الشئ بالذكر هل يدل على نفيه عما عداه والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 التقسيم الثاني للألفاظ اللفظ الدال على معنى إما أن يكون مدلوله لفظا أو لا يكون والثاني بمعزل عن اعتبارنا والذي مدلوله لفظ فإما أن يكون لفظا مفردا أو مركبا وكلاهما إما أن يكون دالا على معنى أو ليس بدال على معنى فهذه اربعة أحدها اللفظ الدال على لفظ مفرد دال على معنى مفرد وهو لفظ الكلمة وأنواعها وأصنافها فإن لفظ الكلمة بتناول لفظ الاسم وهو لفظ مفرد ويتناول لفظ الرجل وهو لفظ مفرد دال على معنى مفرد وكذا القول في جميع أسماء الألفاظ كالقول والكلام والأمر والنهي والعام والخاص وأمثالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وثانيها اللفظ الدال على لفظ مركب موضوع لمعنى مركب وهو كلفظ الخبر فإنه يتناول قولك زيد قائم وهو لفظ مركب دال على معنى مركب وثالثها اللفظ الدال على لفظ مفرد لم يوضع لمعنى وهو الحرف المعجم فإنه يتناول كل واحد من آحاد الحروف وتلك الحروف لا تفيد شيئا فإن قلت أليس أنهم قالوا لفظ الألف اسم لتلك المدة قلت ليس المراد من قولي الحرف لا يفيد شيئا إلا نفس تلك المدة وكذا القول في سائر الحروف ورابعها اللفظ الدال على لفظ مركب لم يوضع لمعنى والأشبه أنه غير موجود لأن التركيب إنما يصار إليه لغرض الإفادة فحيث لا إفادة فلا تركيب واعلم أن في البحث عن ماهية الاسم والفعل والحرف دقائق غامضة ذكرناها في كتاب المحرر في دقائق النحو والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الباب الثالث في الأسماء المشتقة والنظر في ماهية الاسم المشتق وفي أحكامه أما الماهية فقال الميداني رحمه الله الاشتقاق أن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب فترد أحدهما إلى الآخر واركانه أربعة أحدها اسم موضوع لمعنى وثانيها شئ آخر له نسبة إلى ذلك المعنى وثالثها مشاركة بين هذين الاسمين في الحروف الأصلية ورابعها تغيير يلحق الاسم في حرف فقط أو حركة فقط أو فيهما معا وكل واحد من الأقسام الثلاثة فإما ان يكون بالزيادة أو بالنقصان أو بهما معا فهذه تسعة أقسام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 أحدها زيادة الحركة وثانيها زيادة الحرف وثالثها زيادتهما معا ورابعها نقصان الحركة وخامسها نقصان الحرف وسادسها نقصانهما معا وسابعها زيادة الحرف مع نقصان الحركة وثامنها زيادة الحركة مع نقصان الحرف وتاسعها أن تزاد فيه حركة وحرف وتنقص منه أيضا حركة وحرف فهذه الأقسام الممكنة وعلى اللغوي طلب امثلة ما وجد منها أما الأحكام فنذكرها في مسائل المسألة الأولى أن صدق المشتق لا ينفك عن صدق المشتق منه خلافا لأبي علي وأبي هاشم فإن العالم والقادر والحي اسماء مشتقة من العلم والقدرة والحياة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ثم إنهما يطلقان هذه الأسماء على الله تعالى وينكران حصول العلم والقدرة والحياة لله تعالى لأن المسمى بهذه الأسامي هي المعاني التي توجب العالمية والقادرية والحيية وهذه المعاني غير ثابتة لله تعالى فلا يكون لله تعالى علم وقدرة وحياة مع أنه عالم قادر حي وأما أبو الحسين فإنه لا يتقرر معه هذا الخلاف لأن المسمى عنده بالقدرة نفس القادرية وبالعلم العالمية وهذه الأحكام حاصلة لله تعالى فيكون لله تعالى علم وقدرة لنا أن المشتق مركب والمشتق منه مفرد والمركب بدون المفرد غير معقول المسألة الثانية اختلفوا في أن بقاء وجه الاشتقاق هل هو شرط لصدق اسم المشتق والأقرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 أنه ليس بشرط خلافا لأبي علي بن سيناء من الفلاسفة وأبي هاشم من المعتزلة لنا أن بعد انقضاء الضرب يصدق عليه أنه ليس بضارب واذا صدق ذلك وجب أن لا يصدق عليه أنه ضارب بيان الأول أنه يصدق عليه أنه ليس بضارب في هذه الحال وقولنا ليس بضارب جزء من قولنا ليس بضارب في هذه الحال ومتى صدق الكل صدق كل واحد من أجزائه فإذن صدق عليه أنه ليس بضارب وبيان الثاني أنه لما صدق عليه ذلك وجب أن لا يصدق عليه أنه ضارب لأن قولنا ضارب يناقضه في العرف ليس بضارب بدليل أن من قال فلان ضارب فمن أراد تكذيبه وإبطال قوله قال إنه ليس بضارب ولولا أنه نقيض الأول وإلا لما استعملوه لنقض الأول ولما ثبت كونهما موضوعين لمفهومين متناقضين وقد صدق أحدهما فوجب أن لا يصدق الآخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فإن قيل لا نسلم أنه يصدق عليه بعد انقضاء الضرب أنه ليس بضارب قوله لأنه يصدق عليه أنه ليس بضارب في هذه الحال ومتى صدق عليه ذلك صدق عليه أنه ليس بضارب قلنا حكم الشئ وحده يجوز أن يكون مخالفا لحكمه مع غيره فلا يلزم من صدق قولنا ليس بضارب في الحال صدق قولنا ليس بضارب سلمنا أنه يصدق عليه أنه ليس بضارب فلم لا يصدق عليه أنه ضارب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 بيانه أن قولنا فلان ضارب فلان ليس بضارب ما لم نعتبر فيه اتحاد الوقت لم يتناقضا ولا يجوز ايراد أحدهما لتكذيب الآخر سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على قولكم لكنه معارض بوجوه الأول أن الضارب من حصل له الضرب وهذا المفهوم أعم من قولنا حصل له الضرب في الحال أو في الماضي لأنه يمكن تقسيمه اليهما ومورد القسمة مشترك بين القسمين ولا يلزم من نفي الخاص نفي المشترك فإذن لا يلزم من نفي الضاربية في الحال نفي الضاربية مطلقا الثاني أن أهل اللغة اتفقوا على أن اسم الفاعل إذا كان في تقدير الماضي لا يعمل عمل الفعل ولولا أن اسم الفاعل يصح اطلاقه لفعل وجد في الماضي وإلا لكان هذا الكلام لغوا الثالث أنه لو كان حصول المشتق منه شرطا في كون الاسم المشتق حقيقة لما كان اسم المتكلم والمخبر واليوم والأمس وما يجري مجراها حقيقة في شئ أصلا واللازم باطل فالملزوم مثله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 بيان الملازمة أن الكلام اسم لمجموع الحروف المتوالية لا لكل واحد منها ومجموع تلك الحروف لا وجود له أصلا بل الموجود منه أبدا ليس إلا الحرف الواحد فلو كان شرط كون الاسم المشتق حقيقة حصول المشتق منه لوجب أن لا يصير هذا الاسم المشتق حقيقة ألبتة فإن قلت لم لا يجوز أن يقال الكلام اسم لكل واحد من تلك الحروف سلمنا أنه ليس كذلك فلم لا يجوز أن يقال حصول المشتق مه شرط في كون المشتق حقيقة إذا كان ممكن الحصول فأما إذا لم يكن كذلك فلا أو نقول شرط كون المشتق حقيقة حصول المشتق منه إما لمجموعه أو لأجزائه وهاهنا إن امتنع أن يكون للمجموع وجود لكنه لا يمتنع ذلك للآحاد أو نقول لم لا يجوز أن يقال هذه الألفاظ ليست حقائق في شئ من المسميات أصلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 قلت الجواب عن الأول أن ذلك باطل باجماع أهل اللغة وأيضا فالالزام عائد في لفظ الخبر فإنه لا شك في أن كل واحد من حروف الخبر ليس خبرا وكذلك كل واحد من أجزاء الشهر والسنة ليس بشهر ولا سنة وعن الثاني أن أحدا من الأمة لم يقل بهذا الفرق فيكون باطلا وعن الثالث أن هذه الألفاظ مستعملة وكل مستعمل فإنه إما أن يكون حقيقة أو مجازا وكل مجاز فله حقيقة فإذن هذه الألفاظ حقائق في بعض الأشياء وقد علم بالضرورة أنها ليست حقائق فيما عدا هذه المعاني فهي حقائق فيها الرابع الايمان مفسر إما بالتصديق أو العمل أو الاقرار أو مجموعها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 والشخص حين ما لا يكون مباشرا لشئ من هذه الأشياء الثلاثة يسمى مؤمنا حقيقة فلولا أن حصول ما منه الاشتقاق ليس شرطا لصدق المشتق وإلا لما كان كذلك والجواب قوله يجوز أن يختلف حال الشئ بسبب الانفراد والتركيب قلنا مدلول الألفاظ المركبة ليس إلا المركب الحاصل من المفردات التي هي مدلولات الألفاظ المفردة قوله وحدة الزمان معتبرة في تحقق التناقض قلنا هذا لا نزاع فيه لكنا ندعي أن قولنا ضارب يفيد الزمان المعين وهو الحاضر بدليل ما ذكرنا أن إحدى اللفظتين مستعملة في رفع الأخرى أما أولا فلأنا نعلم بالضرورة من أهل اللغة أنهم متى حاولوا تكذيب المتلفظ باحدى اللفظتين لا يذكرون إلا اللفظة الأخرى ويكتفون بذكر كل واحدة منهما عند محاولة تكذيب الأخرى ولولا اقتضاء كل واحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 منهما للزمان المعين وإلا لما حصل التكاذب وأما الثانية فلأن كلمة ليس موضوعة للسلب فإذا قلنا ليس بضارب فلا بد وأن يفيد سلب ما فهم من قولنا ضارب وإلا لم تكن لفظة ليس مستعملة للسلب وإذا ثبت أن كل واحدة من هاتين اللفظتين موضوعة لرفع مقتضى الأخرى وجب تناولهما لذلك الزمان المعين وإلا لم يحصل التكاذب ثم لا نزاع في أن ذلك الزمان ليس هو الماضي ولا المستقبل فتعين أن يكون الحاضر قوله في المعارضة الأولى ثبوت الضرب له أعم من ثبوته له في الحاضر أو الماضي بدليل صحة التقسيم إليهما قلنا كما يمكن تقسيمه إلى الماضي والحاضر يمكن تقسيمه إلى المستقبل فإنه يمكن أن يقال ثبوت الضرب له أعم من ثبوته له في الحال أو في المستقبل فإن كان ما ذكرته يقتضي كون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الضارب حقيقة لمن حصل له الضرب في الماضي فليكن حقيقة لمن سيوجد الضرب منه في المستقبل وإن لم يوجد ألبتة لا في الحاضر ولا في الماضي فإنه باطل بالاتفاق قوله ثانيا إن أهل اللغة قالوا اسم الفاعل إذا أفاد الفعل الماضي لا يعمل عمل الفعل قلنا وقد قالوا أيضا إذا أفاد الفعل المستقبل عمل عمل الفعل فيلزم أن يكون الاسم المشتق حقيقة فيما سيوجد فيه المشتق منه ولا شك في فساده قوله ثالثا يلزم أن لا يكون اسم المخبر حقيقة أصلا قلنا المعتبر عندنا حصوله بتمامه إن أمكن أو حصول آخر جزء من أجزائه ودعوى الاجماع على فساد هذا التفصيل ممنوعة قوله رابعا الشخص يسمى مؤمنا وإن لم يكن مشتغلا في الحال بمسمى الايمان قلنا لا نسلم أن ذلك الاطلاق حقيقة والدليل عليه إنه لا يجوز أن يقال في أكابر الصحابة إنهم كفرة لأجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 كفر كان موجودا قبل إيمانهم ولا لليقظان إنه نائم لأجل نوم كان موجودا قبل ذلك والله أعلم المسألة الثالثة اختلفوا في أن المعنى القائم بالشئ هل يجب أن يشتق له منه اسم والحق والتفصيل فإن المعاني التي لا أسماء لها مثل أنواع الروائح والآلام فلا شك أن ذلك غير حاصل فيها وأما التي لها اسماء ففيها بحثان أحدهما أنه هل يجب أن يشتق لمحالها منها أسماء الظاهر من مذهب المتكلمين منا أن ذلك واجب فإن المعتزلة لما قالت إن الله تعالى يخلق كلامه في جسم قال أصحابنا لهم لو كان كذلك لوجب أن يشتق لذلك المحل اسم المتكلم من ذلك الكلام وعند المعتزلة أن ذلك غير واجب وثانيهما أنه إذا لم يشتق لمحله منه اسم فهل يجوز أن يشتق لغير ذلك المحل منه اسم فعند أصحابنا لا وعند المعتزلة نعم لأن الله تعالى يسمى متكلما بذلك الكلام واستدلت المعتزلة لقولهم في الموضعين بأن القتل والضرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 والجرح قائم بالمقتول والمضروب والمجروح ثم إن المقتول لا يسمى قاتلا فإذن محل المشتق منه لم يحصل له اسم الفاعل وحصل ذلك الاسم لغير محله وأجيبوا عنه بأن الجرح ليس عبارة عن الأمر الحاصل في المجروح بل عن تأثير قدرة القادر فيه وذلك التأثير حكم حاصل للفاعل وكذا القول في القتل وأجابت المعتزلة عنه بأنه لا معنى لتأثير القدرة في المقدور إلا وقوع المقدور إذ لو كان التأثير أمرا زائدا لكان إما أن يكون قديما وهو محال لأن تأثير الشئ في الشئ نسبة بينهما فلا يعقل ثبوته عند عدم واحد منهما أو محدثا فيفتقر إلى تأثير آخر فيلزم التسلسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 والذي يحسم مادة الإشكال أن الله تعالى خالق العالم واسم الخالق مشتق من الخلق والخلق نفس المخلوق والمخلوق غير قائم بذات الله تعالى والدليل على أن الخلق عين المخلوق أنه لو كان غيره لكان إن كان قديما لزم قدم العالم وإن كان محدثا لزم التسلسل ومما يدل على أنه ليس من شرط المشتق منه قيامه بمن له الاشتقاق أن المفهوم من الاسم المشتق ليس إلا أنه ذو ذلك المشتق منه ولفظ ذو لا يقتضي الحلول ولأنه لفظة اللابن والتامر والمكي والمدني والحداد مشتقة من أمور يمتنع قيامها بمن له الاشتقاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 المسألة الرابعة مفهوم الأسود شئ ما له السواد فأما حقيقة ذلك الشئ فخارج عن المفهوم فإن علم علم بطريق الالتزام والذي يدل عليه أنك تقول الأسود جسم فلو كان مفهوم الأسود أنه جسم ذو سواد لتنزل ذلك منزلة ما يقال الجسم ذو السواد يجب أن يكون جسما والله أعلم بالصواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الباب الرابع في أحكام الترادف والتوكيد الألفاظ المترادفة هي الألفاظ المفردة الدالة على مسمى واحد باعتبار واحد واحترزنا بقولنا المفردة عن الرسم والحد وبقولنا باعتبار واحد عن اللفظتين إذا دلا على شئ واحد باعتبار صفتين كصارم والمهند أو باعتبار الصفة وصفة الصفة كالفصيح والناطق فإنهما من المتباينة واعلم أن الفرق بين المترادف والمؤكد أن المترادفين يفيدان فائدة واحدة من غير تفاوت أصلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وأما المؤكد فانه لا يفيد عين فائدة المؤكد بل يفيد تقويته والفرق بينه وبين التابع كقولنا شيطان ليطان أن التابع وحده لا يفيد بل شرط كونه مفيدا تقدم الأول عليه أما الأحكام ففي مسائل المسألة الأولى في إثباته من الناس من أنكره وزعم أن الذي يظن أنه من المترادفات فهو من المتباينات التي تكون لتباين الصفات أو لتباين الموصوف مع الصفات والكلام معهم إما في الجواز وهو معلوم بالضرورة أو في الوقوع وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 إما في لغتين وهو أيضا معلوم بالضرورة أو في لغة واحدة وهو مثل الأسد والليث والحنطة والقمح والتعسفات وهو التي يذكرها الاشتقاقيون صلى الله عليه وسلم في دفع ذلك مما لا يشهد بصحتها عقل ولا نقل فوجب تركها عليهم المسألة الثانية في الداعي إلى الترادف الأسماء المترادفة إما أن تحصل من واضع أو من واضعين أما الأول فيشبه أن يكون هو السبب الأقلي وفيه سببان الأول التسهيل والإقدار على الفصاحة لأنه قد يمتنع وزن البيت وقافيته مع بعض أسماء الشئ ويصح مع الاسم الآخر وربما حصل رعاية السجع والمقلوب والمجنس إذا وسائر أصناف البديع مع بعض أسماء الشئ دون البعض الثاني التمكين من تأدية المقصود باحدى العبارتين عند نسيان الأخرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وأما الثاني فيشبه أن يكون هو السبب الأكثري وهو اصطلاح إحدى القبيلتين على اسم لشئ غير الذي اصطلحت القبيلة الأخرى عليه ثم اشتهار الوضعين بعد ذلك ومن الناس من قال الأصل عدم الترادف لوجهين الأول أنه يخل بالفهم التام لاحتمال أن يكون المعلوم لكل واحد من المتخاطبين غير الاسم الذي يعلمه الآخر فعند التخاطب لا يعلم كل واحد منهما مراد الآخر فيحتاج كل واحد منهما إلى حفظ تلك الألفاظ حذرا عن هذا المحذور فتزداد المشقة الثاني أنه يتضمن تعريف المعرف وهو خلاف الأصل المسألة الثالثة في أنه هل تجب صحة إقامة كل واحد من المترادفين مقام الآخر أم لا الأظهر في أول النظر ذلك لأن المترادفين لا بد وأن يفيد كل واحد منهما عين فائدة الآخر فالمعنى لما صح أن يضم إلى معنى حينما يكون مدلولا لأحد اللفظين لا بد وأن يبقى بتلك الصفة حال كونه مدلولا للفظ الثاني لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 صحة الصم من عوارض المعاني لا من عوارض الألفاظ والحق أن ذلك غير واجب لأن صحة الضم قد تكون من عوارض الألفاظ لأن المعنى الذي يعبر عنه في العربية بلفظ من يعبر عنه في الفارسية بلفظ آخر فإذا قلت خرجت من الدار استقام الكلام ولو أبدلت صيغة من وحدها بمرادفها من الفارسية لم يجز فهذا الامتناع ما جاء من قبل المعاني بل من قبل الألفاظ وإذا عقل ذلك في لغتين فلم لا يجوز مثله في لغة واحدة المسألة الرابعة إذا كان أحد المترادفين أظهر كان الجلي بالنسبة إلى الخفي شرحا له وربما انعكس الأمر بالنسبة إلى قوم آخرين وزعم كثير من المتكلمين أنه لا معنى للحد إلا ذلك فقالوا الحد تبديل لفظ خفي بلفظ أوضح منه تفهيما للسائل وليس الأمر كما ذكروه على الاطلاق بل الماهية المفردة إذا حاولنا تعريفها بدلالة المطابقة لم يكن إلا على الوجه الذي ذكروه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 المسألة الخامسة في التأكيد وأحكامه وفيه أبحاث الأول التأكيد هو اللفظ الموضوع لتقوية ما يفهم من لفظ آخر الثاني الشئ إما أن يؤكد بنفسه أو بغيره فالأول كقوله عليه الصلاة والسلام والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 والثاني على ثلاثة أقسام فإن لفظة التأكيد إما ان يختص بها المفرد وهو لفظ النفس والعين أو المثنى وهو كلا وكلتا أو الجمع وهو أجمعون أكتعون أبصعون فقال والكل وهو أم الباب وقد يكون داخلا على الجمل مقدما عليها كصيغة إن وما يجري مجراها الثالث في حسن استعماله والخلاف فيه مع الملاحدة الطاعنين في القرآن والنزاع إما أن يقع في جوازه عقلا أو في وقوعه أما الجواز فهو معلوم بالضرورة لأن التأكيد يدل على شدة اهتمام القائل بذلك الكلام وأما الوقوع فاستقراء اللغات بأسرها يدل عليه واعلم أن التأكيد وان كان حسنا إلا أنه متى أمكن حمل الكلام على فائدة زائدة وجب صرفه إليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الرابع في فوائد التأكيد وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكرها في باب العموم عند استدلال الواقفية بحسن التأكيد على الاشتراك والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الباب الخامس في الاشتراك اللفظ المشترك هو اللفظ الموضوع لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعا أولا من حيث هما كذلك فقولنا الموضوع لحقيقتين مختلفتين احترزنا به عن الأسماء المفردة وقولنا وضعا أولا احترزنا به عما يدل على الشئ بالحقيقة وعلى غيره بالمجاز وقولنا من حيث هما كذلك احترزنا به عن اللفظ المتواطئ فإنه يتناول الماهيات المختلفة لكن لا من حيث إنها مختلفة بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد المسألة الأولى في بيان امكانه ووجوده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وجود اللفظ المشترك إما أن يكون واجبا أو ممتنعا أو جائزا وقال بكل واحد من هذه الأقسام قائل أما القائلون بالوجوب فقد احتجوا بأمرين الأول أن الألفاظ متناهية والمعاني غير متناهية والمتناهي إذا وزع على غير المتناهي لزم الاشتراك وإنما قلنا إن الألفاظ متناهية لأنها مركبة من الحروف المتناهية والمركب من المتناهي متناهي وإنما قلنا إن المعاني غير متناهية لأن الأعداد أحد أنواع المعاني وهي غير متناهية وأما أن المتناهي إذا وزع على غير المتناهي حصل الاشتراك فهو معلوم بالضرورة الثاني أن الألفاظ العامة كالوجود والشئ لا بد منها في اللغات ثم قد ثبت أن وجود كل شئ نفس ماهيته فيكون كل شئ مخالفا لوجود الآخر فيكون قول الموجود عليها بالاشتراك والجواب عن الأول بعد تسليم المقدمتين الباطلتين أن نقول الأمور التي يقصدها المسمون بالتسمية متناهية فإنهم لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 يشرعون في أن يسموا كل واحد من الأمور التي لا نهاية لها فإن ذلك مما لا يخطر ببالهم فكيف يقصدون تسميتها بل لا يقصدون إلا إلى تسمية أمور متناهية ويمكن أن يكون لكل واحد منها اسم مفرد وأيضا فكل واحد من هذه الألفاظ المتناهية إن دل على معان متناهية لم يكن جميع الألفاظ المتناهية دالا على معان غير متناهية لأن المتناهي إذا ضوعف مرات متناهية كان الكل متناهيا وإن دل كل واحد منها أو بعضها على معان غير متناهية فالقول به مكابرة وعن الثاني أنا لا نسلم أن الألفاظ العامة ضرورية في اللغات وإن سلمنا ذلك لا نسلم أن الوجود غير مشترك في المعنى وإن سلمنا لكن لم لا يجوز اشتراك الموجودات بأسرها في حكم واحد سوى الوجود وهو المسمى بتلك اللفظ العامة أما القائلون بالامتناع فقد قالوا المخاطبة باللفظ المشترك لا تفيد فهم المقصود على سبيل التمام وما يكون كذلك كان منشأ للمفاسد على ما سيأتي تقريره في مسألة أن الأصل عدم الاشتراك وما يكون منشأ للمفاسد وجب أن لا يكون والجواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 لا نزاع في أنه لا يحصل الفهم التام من سماع اللفظ المشترك لكن هذا القدر لا يوجب نفيه لأن أسماء الأجناس غير دالة على أحوال تلك المسميات لا نفيا ولا اثباتا والأسماء المشتقة لا تدل على تعين الموصوفات ألبتة ولم يلزم من ذلك جزم القول بأنها غير موضوعة فكذا هاهنا واذا بطل هذان القولان فنحن نبين الامكان أولا ثم الوقوع ثانيا أما بيان الامكان فمن وجهين الأول أن المواضعة تابعة لأغراض المتكلم وقد يكون للانسان غرض في تعريف غيره شيئا على التفصيل وقد يكون غرضه تعريف ذلك الشئ على الاجمال بحيث يكون ذكر التفصيل سببا للمفسدة كما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال للكافر الذي سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت ذهابهما إلى الغار من هو فقال رجل يهديني السبيل ولأنه ربما لا يكون المتكلم واثقا بصحة الشئ على التعيين إلا أنه يكون واثقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 بصحة وجود أحدهما لا محالة فحينئذ يطلق اللفظ المشترك لئلا يكذب ولا يكذب ولا يظهر جهله بذلك فإن أي معنى يصح فله أن يقول إنه كان مرادي الثاني أن ما ذكروه من المفاسد لو صح فإنما يقدح في أن يضع الواضع لفظا لمعنيين على سبيل الاشتراك لكنه يجوز أن يوجد المشترك بطريق آخر وهو أن تضع قبيلة اسما لشئ وقبيلة أخرى ذلك الاسم لشئ آخر ثم يشيع الوضعان ويخفى كونه موضوعا للمعنيين من جهة القبيلتين وأما الوقوع فمن الناس من قال إن كل ما يظن مشتركا فهو إما أن يكون متواطئا أو يكون حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر كالعين فإنه وضع أولا للجارحة المخصوصة ثم نقل إلى الدينار لإنه في الغرة والصفاء كتلك الجارحة وإلى الشمس لأنها في الصفاء والضياء كتلك الجارحة وإلى الماء لوجود المعنيين فيه وعندنا أن كل ذلك ممكن والأغلب على الظن وقوع المشترك والدليل عليه أنا إذا سمعنا القرء لم نفهم أحد المعنيين من غير تعيين بل بقي الذهن مترددا ولو كان اللفظ متواطئا أو حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر لما كان كذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 فإن قلت لم لا يجوز أن يقال كان حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر ثم خفي ذلك قلت أحكام اللغات لا تنتهي إلى القطع المانع من الاحتمالات البعيدة وما ذكرتموه لا ينفي كونه حقيقة فيهما الآن وهو المقصود والله أعلم المسألة الثانية في أقسام اللفظ المشترك المفهومان إما أن يكونا متباينين كالطهر والحيض المسميين بالقرء أولا يكونا متباينين بل يكون بينهما تعلق وحينئذ لا يخلو إما أن يكون أحدهما جزءا من الآخر أو لا يكون فالأول مثل ما إذا سمي معنى عام باسم وسمي معنى خاص تحته بذلك الاسم فوقوع الاسم عليهما والحالة هذه يكون بالاشتراك مثل الممكن اذا قيل لغير الممتنع وقيل لغير الضروري فإن غير الممتنع أعم من غير الضروري فإذا قيل الممكن عليهما فهو بالاشتراك وأيضا فقوله على الخاص وحده قول بالاشتراك أيضا بالنظر إلى ما فيه من المفهومين المختلفين وأما إن لم يكن أحدهما جزءا من الآخر فلا بد وأن يكون أحدهما صفة للآخر وهو كما إذا سمي شخص أسود اللون بالأسود فان قول الأسود عليه من حيث إنه لقب ومن حيث إنه مشتق بالاشتراك ثم إذا نسبت ذلك الشخص إلى القار فإن اعتبرت لونه كان الأسود مقولا عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وعلى القار بالتواطؤ وإن اعتبرت اسمه كان الأسود مقولا عليه وعلى القار بالاشتراك دقيقة لا يجوز أن يكون اللفظ مشتركا بين عدم الشئ وثبوته لأن اللفظ لا بد وأن يكون بحال متى أطلق أفاد شيئا وإلا كان عبثا والمشترك بين النفي والاثبات لا يفيد إلا التردد بين النفي والاثبات وهذا معلوم لكل أحد المسألة الثالثة في سبب وقوع الاشتراك السبب الأكثري هو أن تضع كل واحدة من القبيلتين تلك اللفظة لمسمى آخر ثم يشتهر الوضعان فيحصل الاشتراك والأقلي أي هوأن يضعه واضع واحد لمعنيين ليكون المتكلم متمكنا من التكلم بالمجمل وقد سبق في الفصل السالف أن التكلم بالكلام المجمل من مقاصد العقلاء ومصالحهم وأما السبب الذي يعرف به كون اللفظ مشتركا فذلك إما الضرورة وهو ان يسمع تصريح أهل اللغة به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وإما النظر وذلك أنا سنذكر إن شاء الله تعالى الطرق الدالة على كون اللفظة حقيقة في مسماها فاذا وجدت تلك الطرق في اللفظة الواحدة بالنسبة إلى معنيين مختلفين حكمنا بالاشتراك ومن الناس من ذكر فيه طريقين آخرين أحدهما أن حسن الاستفهام يدل على الاشتراك لأن الاستفهام عبارة عن طلب الفهم وطلب الشئ حال حصوله محال والفهم إنما لا يكون حاصلا لو كان اللفظ مترددا بين المعنيين الثاني قالوا استعمال الفظ في معنيين ظاهرا يدل على كونه حقيقة ف يهما وذلك يقتضي الاشتراك واعلم أنا سنبين إن شاء الله تعالى في باب العموم أن هذين الطريقين لا يدلان على الاشتراك المسألة الرابعة في أنه لا يجوز استعمال المشترك المفرد في معانيه على الجمع وذهب الشافعي والقاضي أبو بكر رضي الله عنهما إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 جوازه وهو قول الجبائي والقاضي عبد الجبار بن أحمد وذهب آخرون إلى امتناعه وهو قول أبي هاشم وأبي الحسين البصري والكرخي ثم اختلفوا فمنهم من منع منه لأمر يرجع إلى القصد ومنهم من منع منه لأمر يرجع إلى الوضع وهو المختار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وقبل الخوض في الدليل لا بد من مقدمة وهي أنه ليس يلزم من كون اللفظ موضوعا لمعنيين على البدل أن يكون موضوعا لهما جميعا وذلك لأنا نعلم بالضرورة المغايرة بين المجموع وبين كل واحد من أفراده ولا يلزم أن يكون المجموع مساويا لكل واحد من أفراده في جميع الأحكام فلا يلزم من كون كل واحد من الشيئين مسمى باسم كون مجموعهما مسمى به اذا ثبتت هذه المقدمة فالدليل على ما قلنا أن الواضع إذا وضع لفظا لمفهومين على الانفراد فإما أن يكون قد وضعه مع ذلك لمجموعهما أو ما وضعه لهما فإن قلنا إنه ما وضعه للمجموع فاستعماله لافادة المجموع استعمال اللفظ في غير ما وضع له وإنه غير جائز وإن قلنا إنه وضعه للمجموع فلا يخلو إما أن يستعمل لإفادة المجموع وحده أو لإفادته مع إفادة الأفراد فان كان الأول لم يكن اللفظ إلا لأحد مفهوماته لأن الواضع إن كان وضعه بازاء أمور ثلاثة على البدل وأحدها ذلك المجموع فاستعمال اللفظ فيه وحده لا يكون استعمالا للفظ في كل واحد من مفهوماته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 فان قلت إنه يستعمل في إفادة المجموع والأفراد على الجمع فهو محال لأن افادته للمجموع معناه أن الاكتفاء لا يحصل إلا بهما وافادته للمفرد معناه أنه يحصل الاكتفاء بكل واحد منهما وحده وذلك جمع بين النقيضين وهو محال فثبت أن اللفظ المشترك من حيث إنه مشترك لا يمكن استعماله في إفادة مفهوماته على سبيل الجمع واحتج المجوزون بأمور أحدها أن الصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار ثم إن الله تعالى أراد بهذه اللفظة كلا معنييها في قوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي وثانيها قوله تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب أراد بالسجود ها هنا الخضوع لأنه هو المقصود من الدواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وأراد به أيضا وضع الجبهة على الأرض لأن تخصيص كثير من الناس بالسجود دون ما عداهم ممن حق عليه العذاب مع استوائهم في السجود بمعنى الخشوع يدل على أن الذي خصوا به من السجود هو وضع الجبهة على الأرض فقد صار المعنيان مرادين وثالثها قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء إذا أراد به الحيض والطهر لأن المرأة إذا كانت من أهل الاجتهاد فالله تعالى أراد منها الاعتداد بكل واحد منهما بدلا عن الآخر بشرط أن يؤدي اجتهادها إليه أو إلى الآخر ورابعها قال سيبويه قول القائل لغيره الويل لك دعاء وخبر فجعله مفيدا لكلا الأمرين والجواب عن هذه الوجوه بأسرها أن ما ذكروه لو صح لدل على أن هذه الألفاظ كما هي موضوعة للآحاد فهي موضوعة للجمع وإلا لكان الله تعالى قد استعمل اللفظ في غير مفهومه وهو غير جائز وعلى هذا التقدير يكون استعماله لإفادة الجمع استعمالا له في إفادة أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 موضوعاته لا في إفادة الكل على ما بيناه والله أعلم فرعان الأول بعض من أنكر استعمال المفرد المشترك في جميع مفهوماته جوز ذلك في لفظ الجمع أما في جانب الاثبات فكقوله للمرأة اعتدي بالأقراء والحق أنه لا يجوز لأن قوله اعتدي بالأقرا معناه اعتدي بقرء وقرء وقرء وإذا لم يصح أن يفاد بلفظ القرء كلا المدلولين لم يصح ذلك أيضا في الجمع الذي لا يفيد إلا عين فائدة الافراد وأما في جانب النفي فكذلك ايضا وفيه احتمال لأنا إنما منعناه من إفادة المعنيين في جانب الإثبات لما قلنا أن الواضع ما وضعه لهما جميعا وأما في جانب النفي فلم يقم دليل قاطع على أن الواضع ما استعلمه في إفادة نفيهما جميعا ويمكن أن يجاب عنه بأن النفي لا يفيد إلا رفع مقتضى الاثبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 فإذا لم يفد في جانب الاثبات إلا أمرا واحدا لم يرتفع عند حرف النفي إلا المعنى الواحد فأما إن أريد حمله على أن المراد منه لا تعتدي بما هو مسمى الأقراء فحينئذ يكون كون الحيض والطهر مسمى بالقرء وصفا معقولا مشتركا بينهما فيكون اللفظ على هذا التقدير متواطئا لا مشتركا الثاني أنا لو جوزنا أن يفاد باللفظ المشترك جميع معانيه فإنه لا يجب ذلك ونقل عن الشافعي رضي الله عنه والقاضي أبي بكر أنهما قالا المشترك إذا تجرد عن القرائن المخصصة وجب حمله على جميع معانيه وفيه نظر لأنه إن لم يكن موضوعا للمجموع فلا يجوز استعماله فيه وإن كان موضوعا له فهو أيضا موضوع لكل واحد من الأفراد واللفظ دائر بين كل واحد من الفردين وبين المجموع فيكون الجزم بإفادته للمجموع دون كل واحد من الفردين ترجيحا لأحد الجائزين على الآخر من غير مرجح وهو محال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 فإن قلت حمله على المجموع أحوط فيكون الأخذ به واجبا قلت القول بالاحتياط سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى المسألة الخامسة في أن الأصل عدم الاشتراك ونعنى به أن اللفظ متى دار بين الاشتراك وعدمه كان الأغلب على الظن عدم الاشتراك ويدل عليه وجوه أحدها أن احتمال الاشتراك لو كان مساويا لاحتمال الانفراد لما حصل التفاهم بين أرباب اللسان حالة التخاطب في أغلب الأحوال من غير استكشاف وقد علمنا حصول ذلك فكان الغالب حصول احتمال الانفراد وثانيها لو لم يكن الاشتراك مرجوحا لما بقيت الأدلة السمعية مفيدة ظنا فضلا عن اليقين لاحتمال أن يقال إن تلك الألفاظ مشتركة بين ما ظهر لنا منها وبين غيره وعلى هذا التقدير يحتمل أن يكون المراد غير ما ظهر لنا وحينئذ لا يبقى التمسك بالقرآن والأخبار مفيدا للظن فضلا عن العلم وثالثها أن الاستقراء دل على أن الكلمات في الأكثر مفردة لا مشتركة والكثرة تفيد ظن الرجحان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 فان قلت لا نسلم أن الكلمات في الأكثر مفردة لأن الكلمة إما حرف أو فعل أو اسم أما الحرف فكتب النحو شاهدة بأنه مشترك وأما الفعل فهو إما الماضي أو المستقبل أو الأمر أما الماضي والمستقبل فهما مشتركان لأنهما تارة يستعملان في الخبر وأخرى في الدعاء ولأن صيغة المضارع مشتركة بين الحال والاستقبال وأما صيغة إفعل فالقول بأنها مشتركة بين الوجوب والندب مشهور وأما الأسماء ففيها اشتراك كثير فإذا ضممنا اليها الأفعال والحروف كانت الغلبة للاشتراك قلت الأصل في الألفاظ الأسماء والاشتراك نادر فيها بدليل أنه لو كان الاشتراك أغلب لما حصل فهم غرض المتكلم في الأكثر ولما لم يكن كذلك علمنا أن الغالب عدم الاشتراك ورابعها أن الاشتراك يخل بفهم القائل والسامع وذلك يقتضي أن لا يكون موضوعا بيان أنه يقتضي الخلل في الفهم أما في حق السامع فمن وجهين الأول أن الغرض من الكلام حصول الفهم وهو غير حاصل في المشترك لتردد الذهن بين مفهوماته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الثاني أن سامع اللفظ المشترك ربما يتعذر عليه الاستكشاف إما لأنه يهاب المتكلم أو لأنه يستنكف عن السؤال وإذا لم يستكشف فربما حمله على غير المراد فيقع في الجهل ثم ربما ذكره لغيره فيصير ذلك سببا لجهل جمع كثير ولهذا قال أصحاب المنطق إن السبب الأعظم في وقوع الأغلاط حصول اللفظ المشترك وأما في حق القائل فلأن الانسان إذا تلفظ باللفظ المشترك احتاج في تفسيره إلى أن يذكره باسمه المفرد فيقع تلفظه باللفظ المشترك عبثا ولأنه ربما ظن أن السامع متنبه للقرينة الدالة على تعيين المراد مع أن السامع لم يتنبه له فيحصل الضرر كمن قال لعبده أعط الفقير عينا على ظن أنه يفهم أن مراده الماء ثم إنه يعطيه الذهب فيتضرر السيد به فثبت بهذه الوجوه أن الاشتراك منشأ للمفاسد فهذه المفاسد إن لم تقتض امتناع الوضع فلا أقل من اقتضاء المرجوحية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وخامسها أن الانسان مضطر في بقائه إلى استعمال المفردات ولا حاجة به إلى المشترك فيكون المفرد أغلب في الوجود وفي الظن بيان الحاجة إلى المفردات أن الإنسان لا يستقل بتكميل مهمات معيشته بدون الاستعانة بغيره والاستعانة بالغير لا تتم إلا بإطلاع الغير على حاجته وقد عرفت أن ذلك لا يحصل إلا بالألفاظ وذلك التعريف لا يحصل إلا بالألفاظ المفردة وإنما قلنا إن الحاجة إلى المشترك غير ضرورية لأنهم إن احتاجوا إلى التعريف الاجمالي أمكنهم ذكر تلك المفردات مع لفظ الترديد وحينئذ يحصل المطلوب في اللفظ المشترك وإذا ظهرت المقدمتان ثبت رجحان المفرد على المشترك في الوجود وفي الذهن وهو المطلوب والله أعلم المسألة السادسة فيما يعين مراد اللافظ باللفظ المشترك اللفظ المشترك إما أن توجد معه قرينة مخصصة أو لا توجد فإن لم توجد بقي مجملا لما ثبت من امتناع حمله على الكل وإن وجدت القرينة فتلك القرينة إما أن تدل على حال كل واحد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 مسميات اللفظ الغاءا أو اعتبارا أو على حال البعض الغاءا أو اعتبارا وإما على حال الكل م حيث هو كل الغاءا أو اعتبارا فهو مندرج تحت حال البعض لأن اللفظ إذا كان مفيدا لكل واحد من تلك الأفراد وللكل من حيث هو كل كان الكل أحد الأمور المسماة به فتكون القرينة الدالة عليه الغاءا أو اعتبارا دالة على حال بعض ما اندرج تحت تلك اللفظة ف أما القسم الأول وهو ما يفيد اعتبار كل واحد من تلك المعاني فتلك المعاني إما أن تكون متنافية أو لا تكون فان كانت متنافية بقي اللفظ مترددا بينها كما كان إلى أن يظهر المرجح وإن لم تكن متنافية ف قال بعضهم الأدلة المقتضية لحمل اللفظة على كل معانيها معارضة للدليل المانع من حمل اللفظ المشترك على كل معانيه فتعتبر بينهما الترجيحات وهذا خطأ لأن الدلالة المانعة من حمل اللفظ المشترك على كل معانيه دلالة قاطعة فلا تقبل المعارضة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 سلمنا قبوله للمعارضة لكن لا معارضة ها هنا فان الدليلين اذا اقتضيا حمل اللفظ على كلا مدلوليه أمكن أن يكون اللفظ كما كان موضوعا لكل واحد منهما بالاشتراك فهو أيضا موضوع للجميع أو أن المتكلم قد تكلم به مرتين ومع هذين الاحتمالين زال التعارض وإذا بطل التعارض ثبت أنه متى قامت الدلالة على كون كل واحد منهما مرادا وجب حمله عليهما القسم الثاني وهو الذي يكون مفيدا الغاء كل واحد من تلك المعاني وحينئذ يجب حمل اللفظ على مجازات تلك الحقائق الملغاة ثم لا يخلو إما ان تكون تلك الحقائق الملغاة بحال لو لم تقم الدلالة على إلغائها كان البعض أرجح من البعض أو ليس الأمر كذلك فان كان الأول فمجازاتها إما أن تكون متساوية في القرب أو لا تكون متساوية فان تساوت المجازات في القرب وكانت إحدى الحقيقتين راجحة كان مجاز الحقيقة الراجحة راجحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وان تفاوتت المجازات نظر فان كان مجازا الحقيقة الراجحة راجحا فلا كلام في رجحانه وان كان مجاز الحقيقة المرجوحة راجحا وقع التعارض بين المجازين لأن هذا المجاز وإن كان راجحا إلا أن حقيقته مرجوحة وذلك المجاز وإن كان مرجوحا إلا أن حقيقته راجحة فقد اختص كل واحد منهما بوجه رجحان فيصار إلى الترجيح وأما إن كانت الحقائق متساوية فإما أن يكون أحد المجازين أقرب إلى حقيقته من المجاز الآخر أو لا يكون فإن كان الأول وجب العمل بالأقرب وإن كان الثاني بقيت اللفظة مترددة بين مجازات تلك الحقائق لما ثبت من امتناع حمل اللفظ على مجموع معانيه سواء كانت حقيقية أو مجازية القسم الثالث وهو الذي يدل على الغاء البعض فاللفظة المشتركة إما أن تكون مشتركة بين معنيين فقط أو أكثر فإن كان الأول فقد زال الإجمال لأن اللفظ لما وجب حمله على معنى ولا معنى له إلا هذان وقد تعذر حمله على ذلك فيتعين حمله على هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وإن كان الثاني وهو أن تكون المعاني أكثر من واحد فعند قيام الدليل على إلغاء واحد منها بقي اللفظ مجملا في الباقي وأما القسم الرابع وهو الذي يدل على اعتبار البعض فهذا يزيل الإجمال سواء كانت اللفظة مشتركة بين معنيين أو أكثر المسألة السابعة في أنه يجوز حصول اللفظ المشترك في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وأله وسلم والدليل على جوازه وقوعه وهو في قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وفي قوله تعالى والليل إذا عسعس فانه مشترك بين الاقبال والادبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 واحتج المانع بأن ذلك اللفظ إما أن يكون المراد منه حصول الفهم أو لا يكون والثاني عبث والأول لا يخلو إما أن يكون المراد منه حصول الفهم بدون بيان المقصود أو مع بيانه والأول تكليف ما لا يطاق والثاني لا يخلو إما أن يكون البيان مذكورا معه أو لا يكون فإن كان الأول كان تطويلا من غير فائدة وهو سفه وعبث وإن كان الثاني أمكن أن لا يصل البيان إلى المكلف فحينئذ يبقى الخطاب مجهولا والجواب أن هذا غير وارد على مذهبنا في أن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وأما الجواب على أصول المعتزلة فسيأتي في مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب ان شاء الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الباب السادس في الحقيقة والمجاز وهو مرتب على مقدمة وثلاثة أقسام أما المقدمة ففيها ثلاثة مسائل المسألة الأولى في تفسير لفظتي الحقيقة والمجاز في أصل اللغة أما الحقيقة فهي فعلية من الحق ويجب البحث ها هنا عن أمرين أحدهما أن الحق في اللغة هو الثابت لأنه يذكر في مقابلته الباطل فإذا كان الباطل هو المعدوم وجب أن يكون الحق هو الثابت وثانيهما البحث عن وزن الفعيلة وفيه أيضا بحثان الأول أن الفعيل قد يكون بمعنى المفعول وقد يكون بمعنى الفاعل فعلى التقدير الأول معنى الحقيقة المثبتة وعلى التقدير الثاني الثابتة الثاني أن الياء في الفعلية لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة فلا يقال شاة أكيلة ونطيحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وأما المجاز فهو مفعل من الجواز الذي هو التعدي في قولهم جزت موضع كذا أو من الجواز الذي هو قسيم الوجوب والامتناع وهو في التحقيق راجع إلى الأول لأن الذي لا يكون واجبا ولا ممتنعا كان مترددا بين الوجود والعدم فكأنه ينتقل من الوجود إلى العدم أو من العدم إلى الوجود فاللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي شبيه بالمنتقل عن موضوعه فلا جرم سمي مجازا المسألة الثانية في حد الحقيقة والمجاز أحسن ما قيل في ما ذكره أبو الحسين وهو أن الحقيقة ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به وقد دخل فيه لحقيقة اللغوية والعرفية والشرعية والمجاز ما أفيد به معنى مصطلح عليه غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة التي وقع التخاطب بها لعلاقة بينه وبين الأول وهذا القيد الأخير لم يذكره أبو الحسين ولا يد منه فإنه لولا العلاقة لما كان مجازا بل كان وضعا جديدا وقوله معنى مصطلح عليه إنما يصح على قول من يقول المجاز لا بد فيه من الوضع فأما من لم يقل به فيجب عليه حذفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وأما قوله غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة ففيه سؤال وذلك أنه يقتضي خروج الاستعارة عن حد المجاز بيانه أنا إذا قلنا على وجه الاستعارة رأيت أسدا فالتعظيم الحاصل من هذه الاستعارة ليس لأنا سميناه باسم الأسد ألا ترى أنا لو جعلنا الأسد علما له لم يحصل التعظيم ألبتة بل التعظيم إنما حصل لأنا قدرنا في ذلك الشخص صيرورته في نفسه أسدا لبلوغه في الشجاعة التي هي خاصية الأسد إلى الغاية القصوى فلما قدرنا أنه صار أسدا في نفسه أطلقنا عليه اسم الأسد وعلى هذا التقدير لا يكون اسم الأسد مستعملا في غير موضوعه الأصلي وجوابه أنه يكفي في تحصيل التعظيم أن يقدر أنه حصل له من القوة مثل ما للأسد فيكون استعمال لفظ الأسد فيه استعمالا للفظ في غير موضوعه الأصلي وأعلم أن الناس ذكروا في تعريف الحقيقة والمجاز وجوها فاسدة أحدها ما ذكره أبو عبد الله البصري ألا وهو أن الحقيقة ما انتظم لفظها معناها من غير زيادة ولا نقصان ولا نقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 والمجاز هو الذي لا ينتظم لفظه معناه إما لزيادة أو لنقصان أو لنقل فالذي يكون للزيادة هو الذي ينتظم عند اسقاط الزيادة كقوله تعالى ليس كمثله شئ فإنا لو أسقطنا الكاف استقام المعنى والذي يكون للنقصان هو الذي ينتظم الكلام عند الزيادة كقوله تعالى واسئل القرية ولو قيل واسئل أهل القرية صح الكلام والذي يكون لأجل النقل قوله رأيت أسدا وهو يعني الرجل الشجاع وأعلم ان هذا التعريف خطأ لأن المجاز بالزيادة والنقصان إنما كان مجازا لأنه نقل عن موضوعه الأصلي إلى موضوع آخر في المعنى وفي الاعراب وإذا كان كذلك لم يجز جعلهما قسمين في مقابلة النقل أما في المعنى فلأن قوله تعالى ليس كمثله شئ يفيد نفي مثل مثله وهو باطل لأنه يقتضي نفيه تعالى تعالى الله عن ذلك إلا أنه نقل عن هذا المعنى إلى نفي المثل وكذلك قوله تعالى واسئل القرية موضوع لسؤال القرية وقد نقل إلى أهلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وأما في الاعراب فلأن الزيادة والنقصان متى لم يغير اعراب الباقي لم يكن ذلك مجازا فإنك إذا قلت جاءني زيد وعمرو فهو في الأصل جاءني زيد وجاءني عمرو إلا أنه حذف أحد اللفظين لدلالة الثاني عليه لكن لما لم يكن الحذف سببا لتغيير الإعراب لم يحكم عليه بكونه مجازا وهكذا الكلام في جانب الزيادة وأما إذا أوجبا تغيير الاعراب كانا مجازين وذلك إنما يتحقق عند نقل اللغة اللفظة من اعراب إلى اعراب آخر وثانيها أيضا ما ذكره أبو عبد الله البصري ثانيا فقال الحقيقة ما أفيد بها ما وضعت له والمجاز ما أفيد به غير ما وضع له وهذا أيضا باطل أما قوله في الحقيقة إنها ما أفيد بها ما وضعت له فباطل لأنه يدخل في الحقيقة ما ليس منها لأن لفظة الدابة إذا استعملت في الدودة والنملة فقد أفيد بها ما وضعت له في أصل اللغة مع أنه بالنسبة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 الوضع العرفي مجاز فقد دخل المجاز العرفي فيما جعله حدا لمطلق الحقيقة وهو باطل وقوله في المجاز إنه الذي أفيد به غير ما وضع له فهو باطل بالحقيقة العرفية والشرعية فإن اللفظة أفيد بها والحالة هذه غير ما وضعت له في أصل اللغة فقد دخلت هذه الحقيقة في المجاز وأيضا فقوله ما أفيد به غير ما وضع له إما أن يكون المراد منه أنه أفيد به غير ما وضع له بدون القرينة أو مع القرينة والأول باطل لأن المجاز لا يفيد ألبتة بدون القرينة والثاني ينتقض بما إذا استعمل لفظ السماء في الأرض فان اللفظ قد أفيد به غير ما وضع له مع أنه ليس ب مجاز فيه وأيضا ينتقض بالأعلام المنقولة فإن قلت العلم لا يفيد قلت حق إن العلم لا يفيد في المسمى صفة وليس بحق إنه لا يفيد أصلا بل هو يفيد عين تلك الذات لكنه لا يفيد صفة في الذات وثالثها ما ذكره ابن جني وهو أن الحقيقة ما أقر في الاستعمال ع لى أصل وضعه في اللغة والمجاز ما كان بضد ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وهذا ضعيف لأن ما ذكره في حد الحقيقة تخرج عنه الحقيقة الشرعية والعرفية وهما يدخلان فيما جعله حد المجاز وأيضا فقوله والمجاز ما كان بضد ذلك معناه أن المجاز هو الذي ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة وهو باطل وإلا لكان استعمال لفظ الأرض في السماء مجازا ورابعها ما ذكره عبد القاهر النحوي رحمه الله فقال الحقيقة كل كلمة أريد بها عين ما وقعت له في وضع واضع وقوعا لا يستند فيه إلى غيره كالأسد للبهيمة المخصوصة والمجاز كل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الأول والثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وهذا التعريف أيضا ليس بجيد لأنه يقتضي خروج الحقيقة الشرعية والعرفية عن حد الحقيقة ودخولهما في حد المجاز وهو غير جائز المسألة الثالثة في أن لفظتي الحقيقة والمجاز بالنسبة إلى المفهومين المذكورين حقيقة أو مجاز الحق أن هاتين اللفظتين في هذين المفهومين مجازان بحسب أصل اللغة حقيقتان بحسب العرف بيان الأول أما في الحقيقة فلأنا بينا أنها مأخوذة من الحق وبينا أن الحق حقيقة في الثابت ثم إنه نقل إلى العقد المطابق لأنه أولى بالوجود من العقد غير المطابق ثم نقل إلى القول المطابق لعين هذه العلة ثم نقل إلى استعمال اللفظ في موضوعه الأصلي لأن استعماله فيه تحقيق لذلك الوضع فظهر أنه مجاز واقع في الرتبة الثالثة بحسب اللغة الأصلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وأما المجاز فإطلاقه على المعنى المذكور على سبيل المجاز أيضا لوجهين الأول هو أن حقيقته العبور والتعدي وذلك إنما يحصل في انتقال الجسم من حيز إلى حيز فأما في الألفاظ فلا فثبت أن ذلك إنما يكون على سبيل التشبيه الثاني هو أن المجاز مفعل وبناء المفعل حقيقة إما في المصدر أو في الموضع فأما الفاعل فليس حقيقة فيه فاطلاقه على اللفظ المنتقل لا يكون إلا مجازا هذا إذا قلنا إن المجاز مأخوذ من التعدي وأما إذا قلنا إنه مأخوذ من الجواز كان حقيقة لا مجازا لأن الجواز كما يمكن حصوله في الأجسام يمكن حصوله في الأعراض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 فاللفظ يكون موضوعا لذلك الجواز لأنه موضوع لجواز أن يستعمل في غير معناه الأصلي فيكون حقيقة من هذين الوجهين إلا أنا قد ذكرنا أن الجواز إنما سمي جوازا مجازا عن معنى العبور والتعدي والله أعلم بالصواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 القسم الأول في أحكام الحقيقة وفيه مسائل المسألة الأولى في اثبات الحقيقة اللغوية والدليل عليه أن ها هنا ألفاظا وضعت لمعان ولا شك أنها قد استعملت بعد وضعها فيها ولا معنى للحقيقة إلا ذلك واحتج الجمهور عليه بأن اللفظ إن استعمل في موضوعه الأصلي فهو الحقيقة وان استعمل في غير موضوعه الأصلي كان مجازا لكن المجاز فرع الحقيقة ومتى وجد الفرع وجد الأصل فالحقيقة موجودة لا محالة وهذا ضعيف لأن المجاز لا يستدعي إلا مجرد كونه موضوعا قبل ذلك لمعنى آخر وستعرف أن اللفظ في الوضع الأول لا يكون حقيقة ولا مجازا فالمجاز غير متوقف على الحقيقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 المسألة الثانية في الحقيقة العرفية اللفظة العرفية هي التي انتقلت عن مسماها إلى غيره بعرف الاستعمال ثم ذلك العرف قد يكون عاما وقد يكون خاصا ولا شك في إمكان القسمين إنما النزاع في الوقوع فنقول أما القسم الأول فالحق أن تصرفات أهل العرف منحصرة في أمرين أحدهما أن يشتهر المجاز بحيث يستنكر معه استعمال الحقيقة ثم للمجاز جهات كما سيأتي تفصيلها ان شاء الله تعالى منها حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كاضافتهم ثنا الحرمة إلى الخمر وهي في الحقيقة مضافة إلى الشرب ومنها تسميتهم الشئ باسم شبيهه كتسميتهم حكاية كلام زيد بأنه كلام زيد ومنها تسميتهم الشئ باسم ما له به تعلق كتسميتهم قضاء الحاجة بالغائط الذي هو المكان المطمئن من الأرض وكتسميتهم المزادة بالرواية التي هي اسم الجمل الذي يحملها وثانيهما تخصيص الاسم ببعض مسمياته كالدابة فإنها مشتقة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 الدبيب ثم إنها اختصت ببعض البهائم والملك مأخوذ من الألوكة وهي الرسالة ثم اختص ببعض الرسل والجن مأخوذ من الاجتنان به ثم اختص ببعض من يستتر عن العيون وكذا القارورة والخابية موضوعتان لما يستقر فيه الشئ وتخبأ فيه ثم خصصا بشئ معين فالتصرف الواقع على هذين الوجهين هو الذي ثبت من أهل العرف ف أما على غير هذين الوجهين فلم يثبت عنهم فلا يجوز إثباته والذي يدل على وجود هذا القدر من التصرف أن علامات الحقيقة كما سنذكرها حاصلة في هذه الألفاظ عرفا فوجب كونها حقيقة فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وأما القسم الثاني وهو العرف الخاص فهو ما لكل طائفة من العلماء من الاصطلاحات التي تخصهم كالنقض والكسر والقلب والجمع والفرق للفقهاء والجوهر والعرض والكون للمتكلمين والرفع والنصب والجر للنحاة ولا شك في وقوعه المسألة الثالثة في الحقيقة الشرعية وهي اللفظة التي استفيد من الشرع وضعها للمعنى سواء كان المعنى واللفظ مجهولين عند أهل اللغة أو كانا معلومين لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى أو كان أحدهما مجهولا والآخر معلوما واتفقوا على إمكانه واختلفوا في وقوعه فالقاضي أبو بكر منع منه مطلقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 والمعتزلة أثبتوه مطلقا وزعموا أنها منقسمة إلى أسماء أجريت على الأفعال وهي الصلاة والزكاة والصوم وغيرها وإلى أسماء أجريت على الفاعلين كالمؤمن والفاسق والكافر وهذا الضرب يسمى بالأسماء الدينية تفرقة بينهما وبين ما أجريت على الأفعال وإن كان الكل على السواء في أنه عرف شرعي والمختار إن اطلاق هذه الألفاظ على هذه المعاني على سبيل المجاز من الحقائق اللغوية لنا أن إفادة هذه الألفاظ لهذه المعاني لو لم تكن لغوية لما كان القرآن كله عربيا وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم أما الملازمة فلأن هذه الألفاظ مذكورة في القرآن فلو لم تكن إفادتها لهذه المعاني عربية لزم أن لا يكون القرآن كله عربيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وأما فساد اللازم فلقوله تعالى قرآنا عربيا وقوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه فإن قيل هذا الدليل فاسد الوضع لأنه يقتضي أن تكون هذه الألفاظ مستعملة في عين ما كان العرب يستعملونها فيه وبالاتفاق ليس كذلك فإن الصلاة لا يراد بها في الشرع نفس الدعاء أو المتابعة فقط فإذن ما يقتضيه هذا الدليل لا تقولون به وما تقولون به لا يقتضيه هذا الدليل فكان فاسدا سلمنا أنه ليس فاسد الوضع، لكن الملازمة ممنوعة. بيانه: أن إفادة هذه الألفاظ لهذه المعاني وإن لم تكن عربية لكنها في الجملة ألفاظ عربية فإنهم كانوا يتكلمون بها في الجملة وإن كانوا يعنون بها غير هذه المعاني واذا كان كذلك كانت هذه الألفاظ عربية سلمنا أنها إذا استعملت في غير معانيها العربية لا تكون عربية لكن لم يلزم أن لا يكون القرآن عربيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 بيانه أن هذه الألفاظ قليلة جدا فلا يلزم خروج القرآن بسببها عن كونه عربيا فإن الثور الأسود لا يمتنع إطلاق اسم الأسود عليه لوجود شعرات بيض في جلده والشعر الفارسي يسمى فارسيا وان وجدت فيه كلمات كثيرة عربية سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز خروج كل القرآن عن كونه عربيا وأما الآيات فهي لا تدل على أن القرآن بكليته عربي لأن القرآن يقال بالاشتراك على مجموعه وعلى كل بعض منه لأربعة أوجه أحدها لو حلف أن لا يقرأ القرآن فقرأ آية حنث في يمينه ولولا أن الآية مسماة بالقرآن وإلا لما حنث الثاني أن الدليل يقتضي أن يسمى كل ما يقرأ قرآنا لأنه مأخوذ من القرأة أو القرء وهو الجمع خالفناه فيما عدا هذا الكتاب فنتمسك به في الكتاب بمجموعه وأجزائه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الثالث أنه يصح أن يقال هذا كل القرآن وهذا بعض القرآن ولو لم يكن القرآن إلا اسما للكل لكان الأول تكرار والثاني نقضا الرابع قوله تعالى في سورة يوسف إنا أنزلناه قرآنا عربيا والمراد منه تلك السورة فثبت أن بعض القرآن قرآن وإذا ثبت هذا لم يلزم من كون القرآن عربيا كونه بالكلية كذلك سلمنا أن ما ذكرتم من الدليل يقتضي كون القرآن بالكلية عربيا لكنه معارض بما يدل على أنه ليس بالكلية عربيا فإن الحروف المذكورة في أوائل السور ليست عربية والمشكاة من لغة الحبشة والاستبرق والسجيل فارسيتان هذا معربتان ثم والقسطاس من لغة الروم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على مذهبكم لكنه معارض بأدلة أخرى من حيث الاجمال والتفصيل أما الاجمال فهو أنه قد ثبت بالشرع معان لم تكن ثابتة قبله وما لم يكن معقولا للعرب لا يجوز أن يضعوا له اسما وذا لم يكن لها شئ من الأسامي واحتيج إلى تعريفها فلا بد من وضع الأسامي لها كالولد الحادث والأداة الحادثة أما التفصيل فهو أن يتبين في كل واحد من هذه الألفاظ أنها مستعلمة لا في معانيها الأصلية أما الإيمان فهو في أصل اللغة عبارة عن التصديق وفي الشرع عبارة عن فعل الواجبات ويدل عليه ثمانية أوجه الأول أن فعل الواجبات هو الدين والدين هو الاسلام والاسلام هو الايمان ففعل الواجبات هو الايمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وإنما قلنا إن فعل الواجبات هو الدين لقوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة فقوله وذلك دين القيمة يرجع إلى كل ما تقدم فيجب أن يكون كل ما تقدم دينا وإنما قلنا إن الدين هو الإسلام لقوله تعالى إن الذين عند الله الإسلام وإنما قلنا إن الاسلام هو الايمان لوجهين أحدهما أن الايمان لو كان غير الاسلام لما كان مقبولا ممن ابتغاه لقوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه والثاني أنه تعالى استثنى المسلمين من المؤمنين في قوله تعالى فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ولولا الاتحاد لما صح الاستثناء الثاني قوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم قيل صلاتكم الثالث قوله تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله إلى آخر الآية ثم إن الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 آخر هذه الآية ان يستغفر لهم والفاسق لا يستغفر له الرسول حال كونه فاسقا بل يلعنه ويذمه فدل على أنه غير مؤمن الرابع أن قاطع الطريق يخزى يوم القيامة والمؤمن لا يخزى يوم القيامة فقاطع الطريق ليس بمؤمن أما الأول فلأن الله تعالى يدخله النار يوم القيامة وكل من كان كذلك فقد أخزي أما الأول فلقوله تعالى في صفتهم ولهم في الآخرة عذاب عظيم وأما الثاني فلقوله تعالى حكاية عنهم ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ولم يكذبهم فدل على صدقهم فيه وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزى يوم القيامة لقوله تعالى يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه الخامس لو كان الايمان في عرف الشرع عبارة عن التصديق لما صح وصف المكلف به إلا في الوقت الذي يكون مشتغلا به على ما مر بيانه في باب الاشتقاق لكن ليس كذلك لأن من أتى بأفعال الايمان ولم يحبطها يقال إنه مؤمن بل حال كونه نائما يوصف بأنه مؤمن السادس يلزم أن يوصف بالايمان كل مصدق بأمر من الأمور سواء كان مصدقا بالله تعالى أو بالجبت والطاغوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 السابع من علم بالله تعالى ثم سجد للشمس وجب أن يكون مؤمنا وبالاجماع ليس كذلك الثامن قوله تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أثبت الايمان مع الشرك والتصديق بوحدانية الله لا يجامع الشرك فالايمان غير التصديق أما الصلاة فهي في أصل اللغة أما للمتابعة كما يسمى الطائر الذي يتبع السابق مصليا وإما للدعاء كما في قول الشاعر وصلى على دنها وارتسم أو لعظم الورك كما قال بعضهم الصلاة إنما سميت صلاة لأن العادة في الصلاة أن يقف المسلمون صفوفا فإذا ركعوا كان رأس أحدهم عند صلا الآخر وهو عظم الورك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ثم إنها في الشرع لا تفيد شيئا من هذه المعاني الثلاثة لوجهين الأول أنا إذا أطلقناها لم يخطر ببال السامع شئ من هذه الثلاثة ومن شأن الحقيقة المبادرة إلى الفهم الثاني أن صلاة الامام والمنفردة صلاة ولم يوجد فيها شئ من المتابعة ولا يكون رأسه عند عظم ورك غيره واذا انتقل الانسان من الدعاء إلى غيره لا يقال إنه فارق صلاته ولأن صلاة الأخرس صلاة ولا دعاء فيها فدل على أن هذه اللفظة غير مستعملة في معانيها اللغوية وأما الزكاة فإنها في اللغة للنماء والزيادة وفي الشرع لتنقيص المال على وجه مخصوص وأما الصوم فإنه في اللغة لمطلق الامساك وفي الشرع للامساك المخصوص ولا يتبادر الذهن عند سماعه إلى مطلق الامساك والجواب قوله الدليل فاسد الوضع لأنه يقتضي كون هذه الألفاظ موضوعة في المعاني التي كانت العرب يستعملونها فيها قلنا هذا الدليل يقتضي كون هذه الألفاظ مستعملة في المعاني التي كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 العرب يستعملونها فيها على سبيل الحقيقة فقط أو سواء كانت حقيقة أو مجازا الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن العرب كما كانوا يتكلمون بالحقيقة كانوا يتكلمون بالمجاز ومن المجازات المشهورة تسميتهم الشئ باسم جزئه كما يقال للزنجي إنه أسود والدعاء أحد أجزاء هذا المجموع المسمى بالصلاة بل هو الجزء المقصود لقوله تعالى وأقم الصلاة لذكري ولأن المقصود من الصلاة التضرع والخضوع فلا جرم لم يكن اطلاق لفظ الصلاة عليه خارجا عن اللغة فإن كان مذهب المعتزلة في هذه الأسماء الشرعية ذلك فقد ارتفع النزاع وإلا فهو مردود بالدليل المذكور فإن قلت من شرط المجاز اللغوي تنصيص أهل اللغة على تجويزه وها هنا لم يوجد ذلك لأن هذه المعاني كانت معقولة لهم فكيف يمكن أن يقال إنهم جوزوا نقل لفظ الصلاة من الدعاء الذي هو أحد أجزاء هذا المجموع إليه قلت لا نسلم أن شرط حسن استعمال المجاز تصريح أهل اللغة بجوازه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 سلمنا ذلك إلا أنهم صرحوا بأن اطلاق اسم الجزء على الكل على سبيل المجاز جائز فدخلت هذه الصورة فيه قوله افادة هذه اللفظة لهذا المعنى وإن لم تكن عربية فلم لا يجوز أن يقال هذه اللفظة عربية قلنا لأن كون اللفظة عربية ليس حكما حاصلا لذات اللفظة من حيث هي هي بل حيث هي دالة على المعنى المخصوص فلو لم تكن دلالتها على معناها عربية لم تكن اللفظة عربية قوله اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة لا يخرجه عن كونه عربيا قلنا لا نسلم فإنه لما وجد فيه ما لا يكون عربيا وان كان في غاية القلة لم يكن المجموع عربيا وأما الثور الأسود الذي توجد فيه شعرة واحدة بيضاء والقصيدة الفارسية التي يوجد فيها ألفاظ عربية فلا نسلم جواز اطلاق الأسود والفارسي على مجموعهما على سبيل الحقيقة والدليل عليه جواز الاستثناء ولولا أنه يمجموعه رسول لا يسمى بهذا الاسم حقيقة وإلا لما جاز الاستثناء قوله القرآن اسم لمجموع الكتاب أوله ولبعضه قلنا بل للمجموع بدليل إجماع الأمة على أن الله تعالى ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 أنزل إلا قرآنا واحدا ولو كان لفظ القرآن حقيقة في كل بعض منه لما كان القرآن واحدا وما ذكروه من الوجوه الأربعة معارض بما يقال في كل آية وسورة إنه من القرآن وإنه بعض القرآن قوله وجد في القرآن ألفاظ عربية قلنا لا نسلم أما الحروف المذكورة في أوائل السور فعندنا أنها أسماء السور وأما المشكاة والقسطاس والاستبرق فلا مانع من كونها عربية وإن كانت موجودة في سائر اللغات فإن توافق اللغات غير ممتنع سلمنا أنها ليست بعربية لكن العام إذا خص يبقى حجة فيما وراءه قوله هذه المسميات حدثت فلا بد م حدوث اسمائها قلنا لم لا يكفي فيها المجاز وهو تخصيص هذه الألفاظ المطلقة ببعض مواردها فإن الإيمان والصلاة والصوم كانت موضوعة لمطلق التصديق والدعاء والامساك ثم تخصصت بسبب الشرع بتصديق معين ودعاء معين وامساك معين والتخصيص لا يتم إلا بادخال قيود زائدة على الأصل وحينئذ يكون اطلاق اسم المطلق على المقيد اطلاقا لاسم الجزء على الكل وأما الزكاة فإنها من المجاز الذي ينقل فيه اسم المسبب إلى السبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 والجواب عن المعارضة الأولى أنا لا نسلم أن فعل الواجبات هو الدين أما قوله تعالى وذلك دين القيمة فنقول لا يمكن رجوعه إلى ما تقدم لوجهين أحدهما أن ذلك لفظ الوجدان فلا يجوز صرفه إلى الأمور الكثيرة والثاني أنه من ألفاظ الذكران فلا يجوز صرفه إلى إقامة الصلاة وإذا كان كذلك فلا بد من إضمار شئ آخر وهو أن يقولوا ذلك الذي أمرتم به دين القيمة وإذا كان كذلك فليسوا بأن يضمروا ذلك أولى منا بأن نضمر شيئا آخر وهو أن نقول معناه أن ذلك الاخلاص أو ذلك التدين دين القيمة ويكون قوله تعالى مخلصين له الدين دالا على الاخلاص واذا تعارض الاحتمالات فعليهم الترجيح وهو معنا لأن إضمارهم يؤدي إلى تغيير اللغة واضمارنا ولا يؤدي إلى عدم التغيير والجواب عن الثاني أنا لا نسلم أن المراد في قوله تعالى وما كان الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 ليضيع إيمانكم أي صلاتكم إلى بيت المقدس بل المراد منه موضوعه اللغوي وهو التصديق بوجوب تلك الصلاة وعن الثالث لا نسلم أن كلمة إنما للحصر سلمناه لكنه معارض بآيات منها ما يدل على أن محل الايمان هو القلب وذلك يدل على مغايرة الايمان لعمل الجوارح قال تعالى أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وقلبه مطمئن بالإيمان يشرح صدره للإسلام وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ومنها الآيات الدالة على أن الأعمال الصالحة أمور مضافة إلى الإيمان قال الله تعالى الذين آمنوا وعملوا الصالحات ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن ومنها الآيات الدالة على مجامعة الايمان مع المعاصي قال الله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وهذا هو الجواب عن سائر الآيات التي تمسكوا بها والجواب عن الخامس أن ما ذكروه لازم عليهم لأنه قد يسمى مؤمنا حال كونه غير مباشر لأعمال الجوارح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 والجواب عن السادس أنا نعترف بأن الايمان في عرف الشرع ليس ل مطلق التصديق بل التصديق الخاص وهو تصديق محمد صلى الله عليه وأله وسلم في كل أمر ديني علم بالضرورة مجيئه به وهو الجواب عن السابع والثامن وأما الذي احتجوا به من أن الصلاة والصوم غير مستعملين في موضوعيهما اللغويين فمسلم ولكنهما مستعملان في أمور هي مجازات بالنسبة إلى تلك الموضوعات الأصلية وهم ما أقاموا الدلالة على فساده والله أعلم فروع على القول بالنقل الأول النقل خلاف الأصل ويدل عليه أمور أحدها أن النقل لا يتم إلا بثبوت الوضع اللغوي ثم نسخه ثم ثبوت الوضع الآخر وأما الوضع اللغوي فإنه يتم بوضع واحد وما يتوقف على ثلاثة أشياء مرجوح بالنسبة إلى ما لا يتوقف إلى على شئ واحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وثانيها أن ثبوت الحكم في الحال يفيد ظن البقاء على ما سنقيم الدليل عليه في باب الاستصحاب وذلك يدل على أن البقاء على الوضع الأول أرجح وثالثها أنه لو كان احتمال بقاء اللغة على الوضع الأصلي معارضا لاحتمال التغيير لما فهمنا عند التخاطب شيئا إلا إذا سألنا في كل لفظة هل بقيت على وضعها الأول واذا لم يكن كذلك ثبت ما قلناه الفرع الثاني لا شك في ثبوت الألفاظ المتواطئة في الاسماء الشرعية واختلفوا في وقوع الأسماء المشتركة والحق وقوعها لأن لفظ الصلاة مستعمل في معان شرعية لا يجمعها جامع لأن اسم الصلاة يتناول ما لا قراءة فيه كصلاة الأخرس وما لا سجود فيه ولا ركوع كصلاة الجنازة وما لا قيام فيه كصلاة القاعد والصلاة بالايماء على مذهب الشافعي رضي الله عنه ليس فيها شئ من ذلك وليس بين هذه الأشياء قدر مشترك يجعل مسمى الصلاة فيها حقيقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وأما المترادف فالأظهر أنه لم يوجد لأنه ثبت أنه على خلاف الأصل فيقدر بقدر الحاجة الفرع الثالث كما وجد الاسم الشرعي فهل وجد الفعل الشرعي والحرف الشرعي الأقرب أنه لم يوجد أما أولا فبالإستقراء لم وأما ثانيا فلأن الفعل صيغة دالة على وقوع المصدر بشئ غير معين في زمان معين فإن كان المصدر لغويا استحال كون الفعل شرعيا وإن كان شرعيا وجب كون الفعل أيضا شرعيا تبعا لكون المصدر شرعيا فيكون كون الفعل شرعيا أمرا حصل بالعرض لا بالذات الفرع الرابع في أن صيغ العقود انشاءات حدثنا ام إخبارات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 لا شك أن قوله نذرت وبعت واشتريت صيغ الأخبار في اللغة وقد تستعمل في الشرع أيضا للإخبار وإنما النزاع في أنها حيث تستعمل لاستحداث الأحكام إخبارات أم إنشاءآت ابن والثاني هو الأقرب لوجوه الأول أن قوله أنت طالق لو كان إخبارا لكان إما أن يكون إخبارا عن الماضي أو الحال أو المستقبل والكل باطل فبطل القول بكونها أخبارا أما إنه لا يمكن أن يكون إخبارا عن الماضي والحاضر فلأنه لو كان كذلك لامتنع تعليقه على الشرط لأن التعليق عبارة عن توقيف دخوله في الوجود على دخوله في غيره الوجود وما دخل في الوجود لا يمكن توقيف دخوله في الوجود على دخول غيره في الوجود ولما صح تعليقه على الشرط بطل كونه إخبارا عن الماضي أو الحال وأما أنه لا يمكن أن يكون إخبارا عن المستقبل فلأن قوله أنت طالق في دلالته على الإخبار عن صيرورتها موصوفة بالطلاق في المستقبل ليس أقوى من تصريحه بذلك وهو قوله ستصيرين طالقا في المستقبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 لكنه لو صرح بذلك فإنه لا يقع الطلاق فما هو أضعف منه وهو قوله أنت طالق أولى بأن لا يقتضي وقوع الطلاق الثاني أن هذه الصيغ لو كانت أخبارا لكانت إما أن تكون كذبا أو صدقا فان كانت كذبا فلا عبرة بها وان كانت صدقا فوقوع الطالقية إما أن يكون متوقفا على حصول هذه الصيغ أو لا يكون فإن كان متوقفا عليه فهو محال لأن كون الخبر صدقا يتوقف على وجود المخبر عنه والمخبر عنه ها هنا هو وجود الطالقية فلإخبار قوله عن الطالقية يتوقف كونها صدقا على حصول الطالقية فلو توقف حصول الطالقية على هذا الخبر لزم الدور وهو محال وإن لم يكن متوقفا عليه فهذا الحكم لا بد له من سبب آخر فبتقدير ح صول ذلك السبب تقع الطالقية وإن لم يوجد هذا الخبر وبتقدير عدمه لا توجد وإن وجد هذا الإخبار وذلك باطل بالاجماع فان قيل لم لا يجوز أن يكون تأثير ذلك المؤثر في حصول الطالقية يتوقف على هذه اللفظة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 قلت هذه اللفظة إذا كانت شرطا لتأثير المؤثر في الطالقية وجب تقدمها على الطالقية لكنا بينا أنا متى جعلناه خبرا صادقا لزم تقدم الطالقية عليها فيعود الدور الثالث قوله تعالى فطلقوهن لعدتهن أمر بالتطليق فيجب أن يكون قادرا على التطليق ومقدوره ليس إلا قوله طلقت فدل على أن ذلك مؤثر في الطالقية الرابع لو أضاف الطلاق إلى الرجعية وقع وان كان صادقا بدون الوقوع فثبت أنه انشاء لا إخبار والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 القسم الثاني في المجاز وفيه مسائل المسألة الأولى في أقسام المجاز المجاز إما أن يقع في مفردات الألفاظ فقط أو في مركباتها أو فيهما معا أما الذي يقع في المفردات فكإطلاق له لفظ الأسد على الشجاع والحمار على البليد وأما الذي يقع في التركيب فهو أن يستعمل كل واحد من الألفاظ المفردة في موضوعه الأصلي لكن التركيب لا يكون مطابقا لما في الوجود كقوله أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 فكل واحد من الألفاظ المفردة التي في هذا البيت مستعمل في موضوعه الأصلي لكن اسناد أشاب إلى كر الغداة غير مطابق لما عليه الحقيقة فإن الشيب يحصل بفعل الله تعالى لا بكر الغداة وأما الذي يقع في المفردات والتركيب معا فكقولك لمن تداعبه ذلك أحياني اكتحالي بطلعتك فإنه استعمل الإحياء لا في موضوعه الأصلي ولفظ الاكتحال لا في موضوعه الأصلي ثم نسب الإحياء إلى الاكتحال مع أنه غير منتسب إليه وقد جاء في القرآن والأخبار من الأقسام الثلاثة شئ كثير والأصوليون لم يتنبهوا للفرق بين هذه الأقسام وإنما لخصه الشيخ عبد القاهر النحوي المسألة الثانية في إثبات المجاز المفرد الدليل عليه أنهم يستعملون الأسد في الشجاع والحمار في البليد مع اعترافهم بأن الأسد والحمار غير موضوعين في أول الأمر لهذين المعنيين بل إنهما أطلقا عليهما لما بين مفهوميهما وبين هذين الأمرين من المشابهة ولا معنى للمجاز إلا ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 واحتج المانعون منه بأن اللفظ لو أفاد المعنى على سبيل المجاز فإما أن يفيده مع القرينة أو بدون القرينة والأول باطل لأنه مع القرينة المخصوصة لا يحتمل غير ذلك فيكون هو مع تلك القرينة حقيقة فيه لا مجازا وبدون تلك القرينة غير مفيد له أصلا فلا يكون حقيقة ولا مجازا فظهر أن اللفظ على هذا التقدير لا يكون مجازا لا حال القرينة ولا حال عدم القرينة والثاني أيضا باطل لأن اللفظ لو أفاد معناه المجازي بدون قرينة لكان حقيقة فيه لأنه لا معنى للحقيقة إلا ما يكون مستقلا بالإفادة بدون القرينة والجواب أن هذا نزاع في العبارة ولنا أن نقول اللفظ الذي لا يفيد إلا مع القرينة هو المجاز ولا يقال اللفظ مع القرينة حقيقة فيه لأن دلالة القرينة ليست دلالة وضعية حتى يجعل المجموع لفظا واحدا دالا على المسمى المسألة الثالثة في أقسام هذا المجاز والذي يحضرنا منه اثنا عشر وجها أحدها اطلاق اسم السبب على المسبب والأسباب أربعة القابل والصورة والفاعل والغاية مثال تسمية الشئ باسم قابله قولهم سال الوادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ومثال التسمية باسم الصورة تسميتهم اليد بالقدرة ومثال التسمية باسم بالفاعل حقيقة أو ظنا تسمية المطر بالسماء ومثال التسمية باسم الغاية تسمية العنب بالخمر والعقد بالنكاح وثانيها اطلاق اسم المسبب على السبب كتسمية المرض الشديد والمذلة العظيمة بالموت ويحتمل أن يكون وجه المجاز ها هنا ما بين الأمرين من المشابهة ثم ها هنا بحثان البحث الأول أن العلة الغائية حال كونها ذهنية علة العلل وحال كونها خارجية معلولة العلل فقد حصلت لها علاقتا محمد العلية والمعلولية وكل واحدة منها علة لحسن التجوز إلا أن نقل اسم السبب إلى المسبب أحسن من العكس لأن السبب المعين يقتضي المسبب المعين لذاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وأما المسبب المعين فإنه لا يقتضي لذاته السبب المعين على ما بينا الفرق بينهما في الكتب العقلية وإذا كان كذلك كان اطلاق اسم السبب على المسبب أولى من العكس الثاني هو أن العلة الغائية لما اجتمع فيها الوجهان السببية والمسببية كان استعمال اللفظ المجازي فيها أولى من سائر المواضع لاجتماع الوجهين وثالثها تسمية الشئ باسم ما يشابهه كتسمية الشجاع أسدا والبليد حمارا وهذا القسم على الخصوص هو المسمى بالمستعار ورابعها تسمية الشئ باسم ضده كقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ويمكن جعل ذلك من باب المجاز للمشابهة لأن جزاء السيئة يشبهها في كونها سيئة بالنسبة إلى من يصل إليه ذلك الجزاء وخامسها تسمية الجزء باسم الكل كاطلاق اللفظ العام مع أن المراد منه الخصوص وسادسها تسمية الكل باسم الجزء كما يقال للزنجي إنه أسود والأول أولى لأن الجزء لازم الكل أما الكل فليس بلازم للجزء وسابعها تسمية إمكان الشئ باسم وجوده كنا يقال للخمر التي في الدن إنها مسكرة وثامنها إطلاق اللفظ المشتق بعد زوال المشتق منه كقولنا للانسان بعد فراغه من الضرب إنه ضارب وتاسعها المجاورة كنقل اسم الراوية من الجمل إلى ما يحمل عليه من ظرف الماء وكتسمية إلى الشراب بالكأس ويمكن جعله من المجاز بسبب القابل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وعاشرها المجاز بسبب أن أهل العرف تركوا استعماله فيما كانوا يستعملونه فيه ك الدابة اذا استعملت في الحمار فإن قلت لفظ الدابة إما أن يكون مجازا من حيث إنه صار مستعملا في الفرس وحده أو من حيث منع من استعماله في غيره والأول من باب اطلاق اسم العام على الخاص فلا يكون قسما آخر والثاني باطل لأن المجازية كيفية عارضة للفظة من جهة دلالتها على المعنى لا من جهة عدم دلالتها على الغير قلت لفظ الدابة اذا استعمل في الحمار والكلب كان ذلك مجازا بالنسبة إلى الوضع العرفي لأنه يكون مستعملا في غير موضعه لعلاقة بينه وبين موضوعه ويكون ذلك حقيقة بالنسبة إلى الوضع اللغوي إلا أن هذا المجاز من باب المشابهة فلا يكون في الحقيقة قسما آخر وحادي عشرها المجاز بسبب الزيادة والنقصان وقد ذكرنا مثاليهما كان وبينا كيفية الحال فيهما وثاني عشرها تسمية المتعلق باسم المتعلق كتسمية المعلوم علما والمقدور قدرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 المسألة الرابعة في أن المجاز بالذات لا يدخل دخولا أوليا إلا في أسماء الأجناس أما الحرف فلا يدخل فيه المجاز بالذات لأن مفهومه غير مستقل بنفسه بل لا بد أن ينضم إليه شئ آخر لتحصل الفائدة فإن ضم إلى ما ينبغي ضمه إليه فهو حقيقة فيه وإلا فهو مجاز في المركب لا في المفرد وأما الفعل فهو لفظ دال على ثبوت شئ لموضوع غير معين في زمان معين فيكون الفعل مركبا من المصدر وغيره فما لم يدخل المجاز في المصدر استحال دخوله في الفعل الذي لا يفيد إلا ثبوت ذلك المصدر لشئ وأما الاسم فهو إما علم أو مشتق أو اسم جنس أما العلم فلا يكون مجازا لأن شرط المجاز أن يكون النقل لأجل علاقة بين الأصل والفرع وهي غير موجودة في الأعلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وأما المشتق فما لم يتطرق المجاز إلى المشتق منه فلا يتطرق إلى المشتق الذي لا معنى له إلا أنه أمر ما حصل له المشتق منه فاذن المجاز لا يتطرق في الحقيقة إلا إلى أسماء الأجناس والله أعلم المسألة الخامسة في أن استعمال اللفظ في معناه المجازي يتوقف على السمع الدليل عليه أن لفظ الأسد لا يستعار للرجل الشجاع إلا لأجل المشابهة في الشجاعة لكن الرجل الشجاع كما يشبه الأسد في شجاعته فقد يشبهه في صفات أخر كالبخر وغيره فلو كانت المشابهة كافية في ذلك ل جاز استعارة الأسد للأبخر أبو ولما لم يجز ذلك صح قولنا ولأنهم قد يطلقون النخلة على الرجل الطويل ولا يطلقونها على غير الانسان وذلك يدل على اعتبار الاستعمال في المجاز واحتج المخالف بوجهين الأول اتفقوا على أن وجوه المجازات والاستعارات مما يحتاج في استخراجها إلى تدقيق النظر وما يكون نقليا لا يكون كذلك الثاني أنك إذا قلت رأيت أسدا وعنيت به الشجاع فالغرض من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 التعظيم إنما يحصل بإعارة معنى الأسد له فإنك لو أعطيته الاسم بدون المعنى لم يحصل التعظيم وإذا كانت إعارة اللفظ تابعة لاعارة المعنى وإعارة المعنى حاصلة بمجرد قصد المبالغة وجب أن لا يتوقف استعمال اللفظ المستعار على السمع والجواب عن الأول أن المستخرج بالفكر جهات حسن المجاز وعن الثاني أن هذه الاعارة ليست أمرا حقيقيا بل أمرا تقديريا فلم لا يجوز أن يمنع الواضع منه في بعض المواضع دون البعض المسألة السادسة في أن المجاز مركب عقلي ومثاله في القرآن قوله تعالى وأخرجت الأرض أثقالها وقوله مما تنبت الأرض فالإخراج والإنبات غير مستندين في نفس الأمر إلى الأرض بل إلى الله تعالى وذلك حكم عقلي ثابت في نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الأمر فنقله عن متعلقه إلى غيره نقل لحم عقلي لا للفظ لغوي فلا يكون هذا المجاز إلا عقليا فإن قلت لم لا يجوز أن يقال صيغة أخرج وأنبت وضعت في أصل اللغة بازاء صدور الخروج والنبات من القادر فاذا استعملت في صدورهما من الأرض فقد استعملت الصيغة في غير موضوعها فيكون هذا المجاز لغويا قلت إن أمثلة الأفعال لا تدل بالتضمن على خصوصية المؤثر والدليل عليه وجوه أحدها أنه لو كانت كذلك لكان المفهوم من لفظة أخرج أن القادر صدر عنه هذا الأثر فيكون مجرد قولنا أخرج خبرا تاما فكان يلزم أن يتطرق إليه وحده التصديق ولتكذيب ومعلوم أنه ليس كذلك وثانيها أنه يصح أن يقال أخرجه القادر ولو كان القادر جزءا من مفهوم أخرج لكان التصريح بذكر القادر تكرارا وثالثها هب أنها دالة على صدور الفعل عن القادر فأما عن القادر المعين فلا وإلا لزم حصول الاشتراك اللفظي بحسب كل واحد واحد من القادرين إذا ثبت هذا فنقول إذا أضيف ذلك الفعل إلى غير ذلك القادر الذي هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 صادر عنه لم يكن التغيير واقعا في مفهومات الألفاظ بل في إسناد مفهوماتها إلى غير ما هو مستندها فإن قال قائل ما الفرق بين هذا المجاز وبين الكذب قلنا الفارق هو القرينة وهي قد تكون حالية وقد تكون مقالية أما الحالية فهي ما إذا علم أو ظن أن المتكلم لا يتكلم بالكذب فيعلم أن المراد ليس هو الحقيقة بل المجاز ومنها أن يقترن الكلام بهيئات مخصوصة قائمة بالمتكلم دالة على أن المراد ليس هو الحقيقة بل المجاز ومنها أن يعلم بسبب خصوص الواقعة أنه لم يكن للمتكلم داع إلى ذكر الحقيقة فيعلم أن المراد هو المجاز وأما القرينة المقالية فهي أن يذكر المتكلم عقيب ذلك الكلام ما يدل على أن المراد من الكلام الأول غير ما أشعر به ظاهره المسألة السابعة ف ي جواز دخول المجاز في خطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الأكثرون جوزوا ذلك خلافا لأبي بكر بن داود الأصفهاني لنا قوله تعالى جدارا يريد أن ينقض فأقامه وجاء ربك وقد ثبت بالدليل أنه لا يجوز أن يكون المراد منها ظواهرها فوجب صرفها إلى غير ظواهرها وهو المجاز واحتج المخالف بأمور أحدها لو خاطب الله بالمجاز لجاز وصفه بأنه متجوز ومستعير وثانيها أن المجاز لا ينبئ بنفسه عن معناه فورود القرآن به يقتضي الالتباس وثالثها أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة وهو على الله تعالى محال ورابعها أن كلام الله تعالى كله حق وكل حق فله حقيقة وكل ما كان حقيقة فإنه لا يكون مجازا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 والجواب عن الأول أن أسامي الله تعالى توقيفية وبتقدير كونها اصطلاحية لكن لفظ المتجوز يوهم كونه تعالى فاعلا ما لا ينبغي فعله وهو في حق الله تعالى محال وعن الثاني أنه لا التباس مع القرينة الدالة على المراد وعن الثالث أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز لأغراض سنذكرها إن شاء الله تعالى وعن الرابع أن كلام الله تعالى كله حقيقة بمعنى أنه صدق لا بمعنى كون ألفاظه بأسرها مستعملة في موضوعاتها الأصلية والله أعلم المسألة الثامنة في الداعي إلى التكلم بالمجاز العدول عن الحقيقة إلى المجاز إما لأجل اللفظ أو المعنى أو لهما أما الذي لأجل اللفظ فإما أن يكون لأجل جوهر اللفظ أو لأجل أحوال عارضة للفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 أما الأول فهو أن يكون اللفظ الدال على الشئ بالحقيقة ثقيلا على اللسان أما لأجل مفردات حروفه أو لتنافر تركيبه أو لثقل وزنه واللفظ المجازي يكون عذبا فتترك الحقيقة إلى هذا المجاز وأما الثاني وهو أن يكون لأجل أحوال عارضة للفظ فهو أن تكون اللفظة المجازية صالحة للشعر أو السجع وسائر اصناف البديع واللفظة الحقيقية لا تصلح لذلك وأما الذي يكون لأجل المعنى فقد تترك الحقيقة إلى المجاز لأجل التعظيم والتحقير ولزيادة البيان ولتلطيف أو الكلام أما فكما يقال سلام على المجلس العالي فإنه تركت الحقيقة ها هنا لأجل الاجلال وأما التحقير فكما يعبر عن قضاء الحاجة بالغائط الذي هو اسم للمكان المطمئن من الأرض وأما زيادة البيان فقد تكون لتقوية حال المذكور وقد تكون لتقوية الذكر أما الأول فكقولهم رأيت أسدا فإنه لو قال رأيت انسانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 يشبه الأسد في الشجاعة لم تكن في البلاغة كما اذا قال رأيت أسدا وتحقيق هذا الفرق مذكور في كتابنا في الاعجاز وأما الثاني فهو المجاز الذي يذكر للتأكيد وأما تلطيف الكلام فهو أن النفس إذا وقفت على تمام كلام فلو وقفت على تمام المقصود لم يبق لها شوق إليه أصلا لأن تحصيل الحاصل محال وإن لم تقف على شئ منه أصلا لم يحصل لها شوق إليه فأما إذا عرفته من بعض الوجوه دون البعض فإن القدر المعلوم يشوقها إلى تحصيل العلم بما ليس بمعلوم فيحصل لها بسبب علمها بالقدر الذي علمته لذة وبسبب حرمانها من الباقي ألم فتحصل هناك لذات وآلام متعاقبة واللذة إذا حصلت عقيب الألم كانت أقوى وشعور النفس بها أتم إذا عرفت هذا فنقول إذا عبر عن الشئ باللفظ الدال عليه على سبيل الحقيقة حصل كمال العلم به فلا تحصل اللذة القوية أما إذا عبر عنها بلوازمها الخارجية عرف لا على سبيل الكمال فتحصل الحالة المذكورة التي هي كالدغدغة) النفسانية فلأجل هذا كان التعبير عن المعاني بالعبارات المجازية ألذ من التعبير عنها بالألفاظ الحقيقية والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 المسألة التاسعة في أن المجاز غير غالب على اللغات قال أبو الفتح ابن جني أكثر اللغة مجاز أما في الأفعال فنحو قولك قام زيد وقعد عمرو فإن الفعل يفيد المصدر فقولك قام زيد معناه كان منه القيام أي هذا الجنس من الفعل والجنس يتناول جميع الأفراد ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام لأنه لا يجتمع لانسان واحد في وقت واحد ولا في مائة ألف سنة القيام كله الداخل تحت الوهم أقول هذا ركيك لأنه ظن أن المصدر لفظ دال على جميع أشخاص تلك الماهية وهو باطل بل المصدر لفظ دال على الماهية أعني القدر المشترك بين الواحد والكل والماهية من حيث هي هي لا تستلزم الوحدة ولا الكثرة وإذا كان كذلك كان الفعل المشتق منه لا دلالة على الكثرة ولا على الوحدة وقال أيضا قولك ضربت عمرا مجاز من جهة أخرى لأنك إنما ضربت بعضه لا جميعه ولهذا إذا احتاط الانسان قال ضربت رأسه وهذا أيضا يكون مجازا وذلك عندما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 إذا ضربت جانبا من جوانب رأسه فقط اعترض أبو محمد بن متويه فقال المتألم بالضرب جملة عمرو لا عضو منه أقول هذا الاعتراض ساقط لأن ابن جني إنما ألزم المجاز في لفظ الضرب لا في لفظ التألم والضرب عبارة عن امساس جسم حيوان بعنف والامساس عبد حكم يرجع إلى الاجزاء لا إلى الجملة بالاتفاق فكان المضروب بالحقيقة هو الجزء الممسوس فقط فظهر سقوط هذا الاعتراض وأقول ها هنا وجوه أخر من المجازات السائغة فإني إذا قلت ضربت زيدا فزيد ليس عبارة عن جملة البنية المشاهدة لأنا نعلم أن زيدا هو الذي كان موجودا وقت ولادته ونعلم أن أجزاءه وقت شبابه أكثر مما كانت وقت ولادته ولا شك أن زيدا هو تلك الأجزاء الباقية من أول حدوثه إلى آخر فنائه وتلك الأجزاء قليلة فإذن المسمى بزيد هو تلك الأجزاء فإذا قلت ضربت زيدا فلعل هذا الامساس ما وقع على تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الأجزاء فيكون الكلام أيضا مجازا من هذا الوجه ثم ها هنا دقيقة وهي أن هذه المجازات من باب المجاز العقلي لأنك إذا قلت رأيت زيدا وضربت عمروا فصيغتا عليه رأيت وضربت مستعملتان في موضوعيهما الأصليين فلا يكون مجازا وأما لفظة زيد فهي من الأعلام فلا تكون مجازا فلم يبق إلا أن المجاز واقع في النسبة فيكون مجازا عقليا والله أعلم المسألة العاشرة في أنت المجاز على خلاف الأصل والذي يدل عليه وجوه أحدها أن اللفظ إذا تجرد فإما أن يحمل على حقيقته أو على مجازه أو عليهما أو لا على واحد منهما والثلاثة الأخيرة باطلة فتعين الأول وإنما قلنا إنه لا يجوز حمله على مجازه لأن شرط الحمل على المجاز حصول القرينة فإن الواضع لو أمر بحمل اللفظ عند تجرده على ذلك المعنى لكان حقيقة فيه إذ لا معنى للحقيقة إلا ذلك وأما أنه لا يجوز حمله عليهما معا فظاهر لأن الواضع لو قال احملوه وحده عليهما معا كان اللفظ حقيقة في ذلك المجموع ولو قال احملوه إما على هذا أو على ذاك كان مشتركا بينهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وأما أنه لا يجوز أن لا يحمل على واحد منهما ألبتة فلأنه على هذا التقدير يكون اللفظ حال تجرده من المهملات لا من المستعملات واذا بطلت هذه الأقسام الثلاثة تعين القسم الأول وهو المطلوب وثانيها أن المجاز لا يتحقق إلا عند نقل اللفظ من شئ إلى شئ لعلاقة بينهما وذلك يستدعي أمورا ثلاثة وضعه للأصل ثم نقله إلى الفرع ثم علة للنقل وأما الحقيقة فإنه يكفي فيها أمر واحد وهو وضعه للأصل ومن المعلوم أن الذي يتوقف على شئ واحد أغلب وجودا مما يتوقف على ذلك الشئ مع شيئين آخرين معه وثالثها أن واضع اللفظ للمعنى إنما يضعه له ليكتفي به في الدلالة عليه وليستعمل فيه فكأنه قال اذا سمعتموني أتكلم بهذا الكلام فاعلموا أنني أعني هذا المعنى وإذا تكلم به متكلم بلغتي فليعن به هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فكل من تكلم بلغته يجب أن يعنى به ذلك المعنى ولهذا يسبق إلى أذهان السامعين ذلك المعنى دون ما هو مجاز فيه ولو قال لنا مثل ذلك في المجاز لكان حقيقة ولم يكن مجازا ورابعها إجماع الكل على أن الأصل في الكلام الحقيقة وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ما كنت أعرف معنى الفاطر حتى اختصم إلي شخصان في بئر فقال أحدهما فطرها أبي أي اخترعها وقال الأصمعي ما كنت أعرف الدهاق حتى سمعت جارية بدوية تقول اسقني دهاقا أي ملآنا فها هنا استدلوا بالاستعمال على الحقيقة فلولا أنهم عرفوا أن الأصل في الكلام الحقيقة وإلا لما جاز لهم ذلك وخامسها لو لم يكن الأصل في الكلام الحقيقة لكان الأصل إما أن يكون هو المجاز وهو باطل باجماع الأمة أو لا يكون واحد منهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 أصلا فحينئذ يتردد كل كلام الشارع بين أمرين فيصير الكل مجملا وهو باطل بالاجماع ويلزم أن يصير كل ما يتكلم به في العرف مجملا لتردد تلك الألفاظ بين حقائقها ومجازاتها ولو كان الكل مجملا لما فهمنا المراد في شئ من الألفاظ إلا بعد الاستفسار وطلب تعيين المراد ولما كان ذلك باطلا علمنا أن الأصل في الكلام الحقيقة فرع إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح فأيهما أولى فعند أبي حنيفة رضي الله عنه الحقيقة المرجوحة أولى وعند أبي يوسف رحمه الله المجاز الراجح أولى ومن الناس من قال يحصل التعارض لأن كل واحد منهما راجح على الآخر من وجه ومرجوح من وجه آخر فيحصل التعارض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 القسم الثالث في المباحث المشتركة بين الحقيقة والمجاز وفيه مسائل المسألة الأولى في أن دلالة اللفظ بالنسبة إلى المعنى قد تخلو عن كونها حقيقة ومجازا أما في الأعلام فظاهر وأما في غيرها فالوضع الأول ليس بحقيقة ولا مجاز لأن الحقيقة استعمال اللفظ في موضوعه فالحقيقة لا تكون حقيقة إلا إذا كانت مسبوقة بالوضع الأول والمجاز هو المستعمل في غير موضوعه الأصلي فيكون هو أيضا مسبوقا بالوضع الأول فثبت أن شرط كون اللفظ حقيقة أو مجازا حصول الوضع الأول فالوضع الأول وجب أن لا يكون حقيقة ولا مجازا المسألة الثانية في أن اللفظ الواحد هل يكون حقيقة ومجازا معا أما بالنسبة إلى معنيين فلا شك في جوازه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وأما بالنسبة إلى معنى واحد فإما أن يكون بالنسبة إلى وضعين أو إلى وضع واحد أما الأول فجائز لأن لفظ الدابة بالنسبة إلى الحمار حقيقة بحسب الوضع اللغوي مجاز بحسب الوضع العرفي وأما الثاني فهو محال لامتناع اجتماع النفي والاثبات في جهة واحدة المسألة الثالثة في أن الحقيقة قد تصير مجازا وبالعكس الحقيقة إذا قل استعمالها صارت مجازا عرفيا والمجاز إذا كثر استعماله صار حقيقة عرفية المسألة الرابعة في أن اللفظ متى كان مجازا فلا بد وأن يكون حقيقة في غيره ولا ينعكس أما الأول فلأن المجاز هو المستعمل في غير موضوعه الأصلي وهذا تصريح بأنه وضع في الأصل لمعنى آخر فاللفظ متى استعمل في ذلك الموضوع كان حقيقة فيه وأما الثاني فلأن المجاز هو المستعمل في غير موضوعه الأصلي لمناسبة بينهما وليس يلزم من كون اللفظ موضوعا لمعنى أن يصير موضوعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 لشئ آخر بينه وبين الأول مناسبة المسألة الخامسة فيما به تنفصل الحقيقة عن المجاز الفروق المذكورة منها صحيحة ومنها فاسدة أما الصحيحة فنقول الفرق بين الحقيقة والمجاز إما أن يقع بالتنصيص أو الاستدلال أما التنصيص فمن ثلاثة أوجه أحدها أن يقول الواضع هذا حقيقة وذلك مجاز وثانيها أن يذكر أحدهما وثالثها أن يذكر خواصهما وأما الاستدلال فمن وجوه أربعة أحدها أن يسبق المعنى إلى افهام جماعة أهل اللغة عند سماع اللفظ من دون قرينة فيعلم أنها حقيقة فيه فإن السامع لولا أنه اضطر من قصد الواضعين إلى أنهم وضعوا اللفظ لذلك المعنى لما سبق إلى فهمه ذلك المعنى دون غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وثانيها أن أهل اللغة إذا أرادوا إفهام غيرهم معنى اقتصروا على عبارات مخصوصة واذا عبروا عنه بعبارات أخرى لم يقتصروا عليها بل ذكروا معها قرينة فيعلم أن الأول حقيقة إذ لولا أنه استقر في قلوبهم استحقاق تلك اللفظة لذلك المعنى لما اقتصروا عليها وثالثها إذا علقت الكلمة بما يستحيل تعليقها به علم أنها في أصل اللغة اللغة غير موضوعة له فيعلم أنها مجاز فيه كقوله تعالى واسئل القرية ورابعها أن يضعوا اللفظ لمعنى ثم يتركوا استعماله إلا في بعض مجازاته ثم استعملوه بعد ذلك في غير ذلك الشئ علمنا كونه مجازا عرفيا مثل استعمال لفظ الدابة في الحمار فالخاصيتان أبي الأوليان للحقيقة والأخريان للمجاز وأما الفروق الضعيفة فقد ذكر مها الغزالي وجوها أربعة أحدها أن الحقيقة جارية على الاطراد فقولنا عالم لما صدق على ذي علم واحد صدق على كل ذي علم والمجاز ليس كذلك فإنه لما صح واسئل القرية صح واسأل البساط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وهذا ضعيف لأن الدعوى العامة لا تصح بالمثال الواحد وأيضا إن أراد باطراد الحقيقة استعمالها في جميع موارد نص الواضع فالمجاز أيضا كذلك لأنه يجوز استعماله في جميع موارد نص الواضع فلا يبقى بينهما فيه فرق وان أراد استعمال الاسم في غير موضع نص الواضع لكونه مشاركا للمنصوص عليه في المعنى فهذا هو القياس وعنده لا قياس في اللغات سلمنا جواز القياس في اللغة لكن دعوى اطراد الحقيقة ممنوعة لأن الحقيقة لا تطرد في مواقع كثيرة الأول أن يمنع منه العقل كلفظ الدليل عند من يقول إنه حقيقة في فاعل الدلالة فإنه لما كثر استعماله في نفس الدلالة لا جرم لم يحسن استعماله في حق الله تعالى إلا مقيدا الثاني أن يمنع السمع منه كتسمية الله تعالى بالفاضل والسخي فإنها ممنوعة شرعا مع حصول الحقيقة فيه الثالث ان تمنع منه اللغة كامتناع استعمال الأبلق في غير الفرس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 فان اعتذروا عنه بأن الأبلق موضوع للمتلون بهذين اللونين بشرط كونه فرسا فنقول جوز في كل مجاز لا يطرد أن يكون سبب عدم اطراده ذلك وحينئذ لا يمكن الاستدلال بعدم الاطراد على كونه مجازا وثانيها قال الغزالي رحمه الله امتناع الاشتقاق دليل كون اللفظ مجاز فإن الأمر لما كان حقيقة في القول اشتق منه الآمر والمأمور ولما لم يكن حقيقة في الفعل لم يوجد منه الاشتقاق وهذا ضعيف لما تقدم أن الدعوى العامة لا تصح بالمثال الواحد لأنه ينتقض بقولهم للبليد حمار وللجمع حمر وعكسه أن الرائحة حقيقة في معناها ولم يشتق منها الاسم وثالثها أن تختلف صيغة الجمع على الاسم فيعلم أنه مجاز في أحدهما إذ الأمر الحقيقي يجمع على الأوامر وإذا أريد به الفعل يجمع على أمور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وهو ضعيف لأن اختلاف الجمع لا اشعار له ألبتة بكون اللفظ حقيقة في معناه أو مجازا ورابعها أن المعنى الحقيقي إذا كان متعلقا بالغير فإذا استعمل فيما لا تعلق له بشئ كان مجازا فالقدرة إذا أريد بها الصفة كان متعلقا بالمقدور وإذا أطلق على البيان الحسن لم يكن له متعلق فيعلم كونه مجازا فيه وهذا أيضا ضعيف جدا لاحتمال أن يكون اللفظ حقيقة فيهما ويكون له بحسب إحدى الحقيقتين متعلق دون الأخرى والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 الباب السابع في التعارض الحاصل بين أحوال الألفاظ اعلم أن الخلل الحاصل في فهم مراد المتكلم ينبني على خمس احتمالات في اللفظ أحدها احتمال الاشتراك وثانيها احتمال النقل بالعرف أو الشرع وثالثها احتمال المجاز ورابعها احتمال الإضمار وخامسها احتمال التخصيص فإن قلت تركت احتمال الاقتضاء قلت الاقتضاء اثبات شرط يتوقف عليه وجود المذكور ولا يتوقف عليه صحة اللفظ لغة كقول القائل اصعد السطح فإنه يقتضي نصب السلم لكن نصب السلم لا يتوقف عليه وجوب الصعود ولا يتوقف عليه صحة اللفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وإنما قلنا إن الخلل في الفهم لا بد وأن يكون لأحد هذه الخمس لأنه إذا انتقى احتمال الاشتراك والنقل كان اللفظ موضوعا لمعنى واحد واذا انتفى احتمال المجاز والاضمار كان المراد باللفظ ما وضع له فلا يبقى عند ذلك خلل في الفهم واذا انتفى احتمال التخصيص كان المراد باللفظ جميع ما وضع له. واعلم أن التعارض بين هذه الاحتمالات يقع في عشرة أوجه لأنه يقع التعارض بين الاشتراك وبين الأربعة الباقية ثم بين النقل والثلاثة الباقية ثم بين المجاز والوجهين الباقيين ثم بين الاضمار والتخصيص فكان المجموع عشرة المسألة الأولى إذا وقع التعارض بين الاشتراك والنقل فالنقل أولى لأن عند النقل يكون اللفظ لحقيقة مفردة في جميع الأوقات إلا أنه في بعض الأوقات مفرد بالاضافة إلى معنى وفي بعض الأوقات مفرد بالاضافة إلى معنى آخر والمشترك مشترك في الأوقات كلها فكان الأول أولى فإن قبل لا بل الاشتراك أولى لوجوه أحدها أن الاشتراك لا يقتضي نسخ وضع سابق والنقل يقتضيه فالاشتراك أولى من النسخ على ما سيأتي بيانه فوجب أن يكون أولى مما لا يحصل إلا عند حصول النسخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وثانيها أن الاشتراك ما أنكره أحد من العلماء المحققين والنقل انكره كثير من المحققين فالأول أولى وثالثها أن الاشتراك إما أن يوجد مع القرينة أو لا يوجد مع القرينة فإن حصلت القرينة معه عرف المخاطب المراد على التعيين وإن لم توجد القرينة معه تعذر عليه العمل فيتوقف وعلى التقديرين لا يخطئ في العمل أما في النقل فربما لا يعرف النقل الجديد فيحمله على المفهوم الأول فيقع الغلط في العمل ورابعها أن الاشتراك يمكن حصوله بوضع واحد فإن المتكلم قد يحتاج إلى التكلم بالكلام المجمل فيقول الواضع وضع هذا اللفظ لهذا ولهذا بالاشتراك أما النقل فيتوقف على وضعه أولا ثم على نسخه ثانيا ثم على وضع جديد ولموقوف على أمر واحد أولى من الموقوف على أمور كثيرة وخامسها أن السامع قد يسمع استعمال اللفظ في المعنى الأول وفي المعنى الثاني ولا يعرف أنه نقل من الأول إلى الثاني فيظنه مشتركا فحينئذ يحصل فيه كل مفاسد الاشتراك مع مفاسد أخرى وهي جهله بكون اللفظ منقولا مع جميع المفاسد الحاصلة من النقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وسادسها أن المشترك أكثر وجودا من المنقول فلو كانت المفاسد الحاصلة من المشترك أكثر لكان الواضع قد رجح ما هو أكثر مفسدة على ما هو أقل مفسدة وهو غير جائز والجواب أن الشرع إذا نقل اللفظ عن معناه اللغوي إلى معناه الشرعي فلا بد أن يشتهر ذلك النقل وأن يبلغ إلى حد التواتر وعلى هذا التقدير تزول المفاسد المذكورة والله أعلم المسألة الثانية إذا وقع التعارض بين الاشتراك والمجاز فالمجاز أولى ويدل عليه وجهان الأول أن المجاز أكثر في الكلام من الاشتراك والكثرة أمارة الظن في محل الشك الثاني أن اللفظ الذي له مجاز إن تجرد من القرينة حمل على الحقيقة وان لم يتجرد عنها حمل على المجاز فلا يعرى على تعيين المراد والمشترك لا يفيد عين المراد عند العراء عن القرينة فإن قيل بل الاشتراك أولى لوجوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 أحدها أن السامع للمشترك إن سمع القرينة معه علم المراد عينا فلا يخطئ وإن لم يسمع توقف وحينئذ لا يحصل إلا محذور واحد وهو الجهل بمراد المتكلم أما اللفظ المحمول على المجاز بالقرينة فقد يسمع اللفظ ولا تسمى القرينة وحينئذ يحمل على الحقيقة فيحصل محذوران احدهما الجهل بمراد المتكلم والآخر اعتقاد ما ليس بمراد مرادا وثانيها أن الاشتراك يحصل بوضع واحد على ما تقدم بيانه وأما المجاز فيتوقف على وجود الحقيقة وعلى وجود ما يصلح مجازا وعلى العلاقة التي لأجلها يحسن جعله مجازا وعلى تعذر الحمل على الحقيقة وما يتوقف على شئ واحد أولى مما يتوقف على أشياء وثالثها أن اللفظ المشترك إذا دل دليل على تعذر أحد مفهوميه يعلم منه كون الآخر مرادا والحقيقة إذا دل الدليل على تعذر العمل بها فلا يتعين فيها مجاز يجب حملها عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ورابعها أن اللفظ المشترك يفيد أن المراد هذا أو ذاك ودلالة اللفظ على هذا القدر من المعنى حقيقة لا مجاز والحقيقة راجحة على المجاز فالاشتراك راجح على المجاز وخامسها أن صرف اللفظ إلى المجاز يقتضي نسخ الحقيقة وحمله على الاشتراك لا يقتضي ذلك فكان الاشتراك أولى وسادسها أن المخاطب في صورة الاشتراك يبحث عن القرينة لأن بدون القرينة لا يمكنه العمل فيبعد احتمال الخطأ أما في صورة المجاز فقد لا نبحث عن القرينة لأن بدون القرينة يمكنه العمل فينصرف احتمال الخطأ سابعها أن الفهم في صورة الاشتراك يحصل بأدنى القرائن لأن ذلك كاف في الرجحان أما في صورة المجاز فلا يحصل رجحان المجاز إلا بقرينة قوية جدا لأن أصالة الحقيقة لا تترك إلا لقرينة والجواب أن هذه الوجوه معارضة بما ذكرناه في الباب المتقدم من فوائد المجازات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 المسألة الثالثة إذا وقع التعارض بين الاشتراك والإضمار فالإضمار أولى لأن الاجمال الحاصل بسبب الاضمار مختص ببعض الصور والاجمال الحاصل بسبب الاشتراك عام في كل الصور فكان الاشتراك أخل بالفهم فإن قلت الإضمار يفتقر إلى ثلاث قرائن قرينة تدل على أصل الاضمار وقرينة تدل على موضع الاضمار وقرينة تدل على نفس المضمر والمشترك يفتقر إلى قرينة واحدة فكان الاضمار أكثر إخلالا بالفهم قلت هذا لا ينفعكم لأن الإضمار يحتاج إلى ثلاث قرائن في صورة واحدة والمشترك يحتاج إلى قرائن في صور متعددة فيبقى بعضها معارضا للبعض على أن الإضمار من باب الايجاب والاختصار وهو من محاسن الكلام قال عليه الصلاة والسلام أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا وليس المشترك كذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 المسألة الرابعة إذا وقع التعارض بين الاشتراك والتخصيص فالتخصيص أولى لأن التخصيص خير من المجاز على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى والمجاز خير من الاشتراك على ما تقدم فالتخصيص خير من الاشتراك لا محالة المسألة الخامسة إذا وقع التعارض بين النقل والمجاز فالمجاز أولى لأن النقل يحتاج إلى اتفاق أهل اللسان على تغيير الوضع وذلك متعذر أو متعسر والمجاز يحتاج إلى قرينة تمنع المخاطب عن فهم الحقيقة وذلك متيسر فكان المجاز أظهر فان قلت ما ذكرته معارض بشئ آخر وهو أنه إذا ثبت النقل فهم كل أحد مراد المتكلم بحكم الوضع فلا يبقى خلل في الفهم وفي المجاز إذا خرجت الحقيقة فربما خفي وجه المجاز أو تعدد طريقه فيقع خلل في الفهم قلت ما ذكرتموه يعارضه شيئان آخران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 أحدهما أن الحقيقة تعين على فهم المجاز لأن المجاز لا يصح إلا إذا كان بين الحقيقة والمجاز اتصال وفي صورة النقل اذا خرج المعنى الأول لقرينة لم يتعين اللفظ للمنقول إليه فكان المجاز أقرب إلى الفهم من هذا الوجه الثاني أن في المجاز من الفوائد وليس في النقل ذلك فكان المجاز أولى المسألة السادسة إذا وقع التعارض بين النقل والاضمار فالاضمار (أولى والدليل عليه ما ذكرناه في أن المجاز أولى سواء بسواء المسألة السابعة اذا وقع التعارض بين النقل والتخصيص فالتخصيص أولى لأن التخصيص خير من المجاز على ما سيأتي والمجاز خير من النقل على ما تقدم فالتخصيص خير من النقل المسألة الثامنة اذا وقع التعارض بين المجاز والاضمار فهما سواء لأن كل واحد منهما يحتاج إلى قرينة تمنع المخاطب عن فهم الظاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وكما يتوقع وقوع الخفاء في تعيين المضمر كذلك يتوقع وقوع الخفاء في تعيين المجاز فان قلت الحقيقة تعين على فهم المجاز فكانت أولى قلت والحقيقة تعين على فهم الإضمار لأن حد الاضمار أن يسقط من الكلام شئ يدل عليه الباقي المسألة التاسعة إذا وقع التعارض بين المجاز والتخصيص فالتخصيص أولى لوجهين الأول أن في صورة التخصيص اذا لم يقف على القرينة يجريه على عمومه فيحصل مراد المتكلم وغير مراده وفي صورة المجاز اذا لم يقف على القرينة يجريه على الحقيقة فلا يحصل مراد المتكلم ويحصل غير مراده الثاني أن في صورة التخصيص انعقد اللفظ دليلا على كل الأفراد فاذا خرج البعض بدليل بقي معتبرا في الباقي فلا يحتاج فيه إلى تامل واستدلال واجتهاد وفي صورة المجاز انعقد اللفظ دليلا على الحقيقة فاذا خرجت الحقيقة بقرينة احتيج في صرف اللفظ إلى المجاز إلى نوع تأمل واستدلال فكان التخصيص أبعد عن الاشتباه فكان أولى المسألة العاشرة إذا وقع التعارض بين الإضمار والتخصيص فالتخصيص أولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 والدليل عليه أن التخصيص خير من المجاز والمجاز والاضمار سيان فيلزم أن يكون التخصيص خيرا من الإضمار فروع الأول أنك ستعرف إن شاء الله تعالى أن النسخ تخصيص في الأزمان فحيث رجحنا التخصيص على الاشتراك فإنما أردنا به التخصيص في الأعيان أما لو وقع التعارض بين الاشتراك والنسخ فالاشتراك أولى لأن النسخ يحتاط فيه ما لا يحتاط في تخصيص العام ألا ترى أنه يجوز تخصيص العام بخبر الواحد والقياس ولا يجوز نسخ العام بهما والفقه فيه أن الخطاب بعد النسخ يصير كالباطل وبعد التخصيص لا يصير كالباطل فلا جرم يحتاط في النسخ ما لا يحتاط في التخصيص الثاني أن اللفظ اذا دار بين التواطؤ والاشتراك فالتواطؤ أولى لأن مسمى اللفظ المتواطئ واحد والتعدد واقع في محاله ومسمى المشترك ليس بواحد والافراد أولى من الاشتراك على ما تقدم بيانه الثالث إذا وقع التعارض بين أن يكون مشتركا بين علمين وبين معنيين كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 جعله مشتركا بين علمين أولى لأن الاعلام إنما تنطلق على الأشخاص المخصوصة كزيد وعمرو وأما أسماء المعاني فإنها تتناول المسمى في أي ذات كان فكان اختلال الفهم بجعله مشتركا بين علمين أقل فكان أولى الرابع جعل اللفظ مشتركا بين علم ومعنى أولى من جعله مشتركا بين معنيين لأن الاختلال الحاصل عند الاشتراك بين العلم ولمعنى أقل مما عند الاشتراك بين المعنيين الخامس اللفظ إذا تناول الشئ بجهة الاشتراك وبجهة التواطؤ كان اعتقاد أنه مستعمل بجهة التواطؤ أولى وبيانه ان لفظ الأسود يتناول القار والزنجي بالتواطؤ ويتناول القار والرجل المسمى بالأسود بالاشتراك فاذا وجد شخص أسود ومسمى بالأسود ثم أطلق عليه لفظ الأسود فاعتقاد أنه أطلق عليه هذا الاسم باعتبار كونه ملونا أولى لأن الاطلاق بهذا الاعتبار اطلاق بجهة التواطؤ والاطلاق بجهة التلقيب اطلاق بجهة الاشتراك والتواطؤ أولى من الاشتراك فكان ذلك أولى والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 الباب الثامن في تفسير حروف تشتد الحاجة في الفقه إلى معرفة معانيها وفيها مسائل المسألة الأولى ف ي أن الواو العاطفة لمطلق الجمع قال أبو علي الفارسي أجمع نحاة البصرة والكوفة على أنها للجمع المطلق وذكر سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه أنها للجمع المطلق وقال بعضهم إنها للترتيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 لنا وجوه الأول أن الواو قد تستعمل فيما يمتنع حصول الترتيب فيه كقولهم تقاتل زيد وعمرو ولو قيل تقاتل زيد فعمرو أو تقاتل زيد ثم عمرو لم يصح والأصل في الكلام الحقيقة فوجب أن يكون حقيقة في غير الترتيب فوجب أن لا يكون حقيقة في الترتيب دفعا للاشتراك الثاني لو اقتضت الواو الترتيب لكان قوله رأيت زيدا وعمرا بعده تكريرا ولكان قوله رأيت زيدا وعمروا قبله متناقضا ولما لم يكن كذلك بالاجماع صح قولنا فان قلت يجوز أن يكون الشئ بإطلاقه لا يفيد حكما ثم إذا أضيف إليه شئ آخر تغير عما كان عليه فقوله زيد في الدار يفيد الجزم فإذا أدخلت عليه الهمزة فقيل أزيد في الدار صار للاستخبار وبطل معنى الجزم قلت حاصل هذا السؤال يرجع إلى أن قوله قبله أو بعده كالمعارض لمقتضى الواو إلا أن التعارض خلاف الأصل فالمفضي إليه وجب أن لا يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 الثالث قوله تعالى في سورة البقرة وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة وفي الأعراف وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا والقصة واحدة وقوله تعالى واسجدي واركعي مع أن شرعها تقدم الركوع وقوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وقوله تعالى أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقوله تعالى والسارق والسارقة وقوله الزانية والزاني ففي شئ من هذه المواضع لا تفيد الترتيب الرابع السيد إذا قال لعبده اشتر اللحم والخبز لم يفهم منه الترتيب الخامس روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له حين أراد السعي بين الصفا والمروة بأيهما نبدأ فقال ابدأوا بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 بدأ الله به ولو كانت الواو للترتيب لما اشتبه ذلك على أهل اللسان ولما احتيج في بيان وجوب الابتداء من الصفا إلى الاستدلال بأنه مذكور أولا فوجب أن تقع به البداءة السادس لو كانت الواو للترتيب لوجب أن القائل اذا قال رأيت زيدا وعمرا ثم علم أنه رآهما معا أن يكون كاذبا وبالاجماع ليس كذلك السابع قال أهل اللغة واو العطف في الأسماء المختلفة ك واو الجمع وبالتثنية في الأسماء المتماثلة فإنهم لما لم يتمكنوا من جمع الأسماء المختلفة بواو الجمع استعملوا فيها واو العطف ولما كان قولهم جاءني الزيدان واجتمع الزيدون يفيد الاشتراك في الحكم ولا يفيد الترتيب فيه فكذا القول في واو العطف وواو الجمع يجوز أن يشتركا في إفادة الاشتراك ف إن قلت واو العطف وواو الجمع يجوز أن يشتركا في إفادة الاشتراك ثم واو العطف يختص بفائدة زائدة وهي الترتيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 قلت إنهم نصوا على أن فائدة احداهما عين فائدة الأخرى وذلك ينفي الاحتمال المذكور احتج المخالف بأمور أحدها أن واحدا قام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى فقال عليه الصلاة والسلام بئس الخطيب أنت هلا قلت ومن عصى الله ورسوله فقد غوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 ولو كانت الواو للجمع المطلق لما افترق الحل بين ما علمه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين ما قال الرجل وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع شاعرا يقول كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فقال له عمر رضي الله عنه لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك وهذا يدل على أن التأخير في اللفظ يدل على التأخير في الرتبة وروي أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا لابن عباس رضي الله عنهما لم تأمرنا بالعمرة قبل الحج وقد قال الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله وهم كانوا فصحاء العرب فثبت أنهم فهموا من الواو الترتيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وثانيها إذا قال الزوج لامرأته التي لم يدخل بها أنت طالق وطالق طلقت طلقة واحدة ولم تلحقها الثانية ولولا أن الواو تقتضي الترتيب للحقتها الثانية كما أنها تطلق طلقتين إذا قال لها أنت طالق طلقتين وثالثها اذا قال رأيت زيدا وعمرا فالترتيب يستدعي سببا والترتيب في الوجود صالح له فوجب جعله سببا له إلى أن يذكر الخصم سببا آخر ورابعها أن الترتيب على سبيل التعقيب وضعوا له الفاء والترتيب على سبيل التراخي وضعوا له ثم ومطلق الترتيب وهو القدر المشترك بين هذين النوعين معنى معقول أيضا فلا بد له من لفظ يدل عليه وما ذاك إلا الواو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 فإن قلت الجمع المطلق معنى معقول أيضا فلا بد له من لفظ يدل عليه وما ذاك إلا الواو قلت لما حصل التعارض وجب الترجيح وهو معنا وذلك لأنا لو جعلناه للترتيب المطلق كان معنى الجمع المطلق جزءا من المسمى ولازما له فجاز جعله مجازا فيه بسبب الملازمة وأما لو جعلناه للجمع المطلق لم يكن الترتيب المطلق لازما له فلا يمكن جعله مجازا عنه لعدم الملازمة والجواب عن الأول أن الواو في قوله ومن عصى الله ورسوله لا تقتضي الترتيب لأن معصية الله تعالى ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم لا تنفك احداهما عن الأخرى فهذا بأن يدل على فساد قولكم أولى بل السبب فيه أن قوله ومن عصى الله ورسوله افراد لذكر الله تعالى عن ذكر غيره فكان أدخل في التعظيم وأما أثر عمر رضي الله عنه فهو محمول على أن الأدب أن يكون المقدم في الفضيلة مقدما في الذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وأما أثر ابن عباس رضي الله عنهما فهو معارض بأمر ابن عباس إياهم بتقديم العمرة على الحج وعن الثاني أن السبب في أن الطلقة الثانية لا تلحقها أن الطلاق الثاني ليس تفسيرا للكلام الأول والكلام الأول تام فبانت به أما إذا قالت أنت طالق طلقتين فالقول الأخير في حكم البيان للأول فكان تمام الكلام بآخره وعن الثالث أن الابتداء بالذكر لما كان دليلا على الترتيب لم تكن بنا حاجة إلى جعل الواو للترتيب وعن الرابع أن ما ذكرتموه من الترجيح معارض بوجه آخر وهو إن الحاجة إلى التعبير عن المعنى الأعم أشد من الحاجة إلى التعبير عن المعنى الأخص لأنه حيث يحتاج إلى ذكر الأخص يحتاج إلى ذكر الأعم لا محالة ضمنا وقد يحتاج إلى ذكر الأعم حيث لا يحتاج إلى ذكر الأخص ألبتة فكانت الحاجة إلى ذكر الأعم أشد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 المسألة الثانية الفاء للتعقيب على حسب ما يصح فلو قال دخلت بغداد فالبصرة أفاد التعقيب على ما يمكن لا على ما يمتنع وإنما قلنا إنها للتعقيب لإجماع أهل اللغة عليه ومنهم من استدل عليه بأنها لو لم تكن للتعقيب لما دخلت على الجزاء اذا لم يكن بلفظ الماضي والمضارع لكنها تدخل فيه فهي للتعقيب بيان الملازمة أن جزاء الشرط قد يكون بلفظ الماضي كقوله من دخل داري أكرمته وقد يكون بلفظ المضارع كقوله من دخل داري يكرم وقد يكون لا بهاتين اللفظتين وحينئذ لا بد من ذكر الفاء كقوله من دخل داري فله درهم وقول الشاعر من يفعل الحسنات ... الله يشكرها فقد أنكره المبرد وزعم أن الرواية الصحيحة من يفعل الخير فالرحمن يشكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وإذا وجب دخول الفاء على الجزاء وثبت أن الجزاء لا بد أن يحصل عقيب الشرط علمنا أن الفاء تقتضي التعقيب واحتج المنازع بأمور أحدها أن الفاء جاء في كتاب الله تعالى لا بمعنى التعقيب في قوله تعالى لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب والاسحات لا يقع عقيب الافتراء بل يتراخى إلى الآخرة وقال سبحانه وتعالى وان كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة مع أن ذلك قد لا يحصل عقيب المداينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وثانيها أن الفاء قد تدخل على لفظ التعقيب ولو كانت الفاء للتعقيب لما جاز ذلك وثالثها أن التعقيب يصح الإخبار به وعنه والفاء ليست كذلك فالفاء مغايرة للتعقيب والجواب عن الكل أن ما ذكرتموه استدلال في مقابلة النص فلا يقدح في قولنا بل وجب حمل ما ذكروه أولا على المجاز وثانيا على التوكيد وأما الثالث ففيه بحث دقيق ذكرناه في كتاب المحرر في دقائق النحو المسألة الثالثة لفظة في للظرفية محققا أو مقدرا أما المحقق فكقولهم زيد في الدار وأما المقدر فكقوله تعالى ولأصلبنكم في جذوع النخل لتمكن المصلوب على الجذع تمكن الشئ في المكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 وقولنا فلان في الصلاة وشاك في هذه المسألة من هذا الباب ومن الفقهاء من قال إنها للسببية كقوله عليه الصلاة والسلام في النفس المؤمنة مائة من الإبل وهو ضعيف لأن أحدا من أهل اللغة ما ذكر ذلك مع أن المرجع في هذه المباحث اليهم المسألة الرابعة المشهور أن لفظة من ترد لابتداء الغاية كقولك سرت من الدار إلى السوق وللتبعيض كقولك باب من حديد وللتبيين كقوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان وقد تجئ صلة في الكلام كقولك ما جاءني من رجل والحق عندي أنه للتمييز فقولك سرت من الدار إلى السوق ميزت مبدأ السير عن غيره وقولك باب من حديد ميزت الشئ الذي يكون منه الباب عن غيره وقوله عز وجل فاجتنبوا الرجس من الأوثان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ميزت الرجس الذي يجب اجتنابه عن غيره وكذلك قولك ما جاءني من أحد ميزت الذي نفيت عنه المجئ وأما إلى فهي لانتهاء الغاية وقيل إنها مجملة لأنها في قوله تعالى وأيديكم إلى المرافق تستدخل الغاية وفي قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل تقتضي خروجها وهذا ضعيف لأن هذه اللفظة إنما تكون مجملة لو كانت موضوعة لدخول الغاية وعدم دخولها على سبيل الاشتراك لكنا بينا أن اللفظ لا يجوز أن يكون مشتركا بالنسبة إلى وجود الشئ وعدمه بل الحق أن الغاية إن كانت متميزة عن ذي الغاية بمفصل حسي كما في الليل والنهار وجب خروجها وان لم تكن متميزة عنها بمفصل حسي كما في اليد والمرفق وجب دخولها لأنه ليس بعض المقادير أولى من بعض فليس تقدير القدر الذي يجوز إخراجه من المرفق عن وجوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الغسل بقدر معين أولى من تقديره بما هو أزيد أو أنقص المسألة الخامسة الباء اذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه كقوله تعالى وامسحوا برءوسكم تقتضي التبعيض خلافا للحنفية وأجمعنا على أنها إذا دخلت على فعل لا يتعدى بنفسه كقولك كتبت بالقلم ومررت بزيد فإنها لا تقتضي إلا مجرد الالصاق لنا أنا نعلم بالضرورة الفرق بين أن يقال مسحت يدي بالمنديل وبالحائط وبين أن يقال مسحت المنديل والحائط في أن الأول يفيد التبعيض والثاني يفيد الشمول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 واحتج المخالف بأمرين الأول أن القائل إذا قال مررت بزيد وكتبت بالقلم وطفت بالبيت عقلوا منه الصاق الفعل بالمفعول به فدل على أن مقتضى اللفظ ليس إلا الصاق الفعل بالمفعول به الثاني أن أبا الفتح ابن جني ذكر أن الذي يقال من أن الباء للتبعيض شئ لا يعرفه أهل اللغة والجواب عن الأول أن قولهم مررت بزيد وكتبت بالقلم إنما أفاد ذلك لأنه لا يتعدى بنفسه فلا يجوز أن يقال مررت زيدا وكتبت القلم فلذلك أفاد ما قالوه بخلاف ما ذكرنا وأما الطواف فهو عبارة عن الدوران حول جميع البيت ولهذا لا يسمى من دار ببعضه طائفا بخلاف ما نحن فيه فإن من مسح بعض الرأس يسمى ماسحا وعن الثاني أن الشهادة على النفي غير مقبولة فلنا أن نخطئ ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 الجني بالدليل الظاهر الذي ذكرناه المسألة السادسة لفظة إنما للحصر خلافا لبعضهم لنا ثلاثة أوجه أحدها أن الشيخ ابا علي الفارسي حكى ذلك في كتاب الشيرازيات عن النحاة وصوبهم فيه وقولهم حجة وثانيها التمسك بقول الأعشى ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وبقول الفرزدق أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ولو لم تحمل إنما ها هنا على الحصر لما حصل مقصود الشاعر وثالثها أن كلمة إن تقتضي الاثبات وما تقتضي النفي فعند تركيبها يجب أن يبقى كل واحد منهما على الأصل لأن الأصل عدم التغيير فإما أن نقول كلمة إن تقتضي ثبوت عين المذكور وكلمة ما تقتضي نفي المذكور وهذا هو الحصر وهو المراد واحتج المخالف بقوله تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وأجمعنا على أن من ليس كذلك فهو مؤمن أيضا والجواب أنه محمول على المبالغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 الباب التاسع في كيفية الاستدلال بخطاب الله وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم على الأحكام وفيه مسائل المسألة الأولى في أنه لا يجوز أن يتكلم الله تعالى بشئ ولا يعني به شيئا والخلاف فيه مع الحشوية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 لنا وجهان أحدهما أن التكلم بما لا يفيد شيئا هذيان وهو نقص والنقص على الله تعالى محال وثانيها أن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى وشفاء وبيانا وذلك لا يحصل بما لا يفهم معناه واحتج المخالف بأمور أحدها أنه جاء في القرآن ما لا يفيد كقوله كهيعص وما يشبهه وقوله كأنه رءوس الشياطين وقوله فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة فقوله عشرة كاملة لا يفيد فائدة زائدة وقوله فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وقوله لا تتخذوا إليهن اثنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وثانيها أن الوقف على قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله واجب ومتى كان ذلك كذلك لزم القول بأن الله تعالى قد تكلم بما لا يفهم منه شئ بيان الأول أننا لو لم نقف هناك بل وقفنا على قوله والراسخون في العلم فاذا ابتدأنا بقوله يقولون آمنا كان المراد منه قائلين آمنا به كل من عند ربنا ويصير ذلك عائدا إلى المذكورات السالفة فيصير المعنى كأن الله تعالى قال الراسخون في العلم قالوا آمنا به كل من عند ربنا وذلك غير جائز على الله تعالى فثبت أن الوقف على قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله واجب وإذا ثبت ذلك ظهر أنا لا نعلم تأويل المتشابهات وثالثها أن الله تعالى خاطب الفرس بلغة العرب مع أنهم لا يفهمون شيئا منها وإذا جاز ذلك فليجز مطلقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 والجواب عن الأول أن لأهل التفسير فيها أقوالا مشهورة والحق فيها أنها أسماء السور وأما روس الشياطين فقيل إن العرب كانوا يستقبحون ذلك المتخيل ويضربون به المثل في القبح وأما قوله عشرة كاملة فذلك للتأكيد وهو الجواب أيضا عن سائر الآيات وعن الثاني أن موضع الوقف قوله والراسخون في العلم وما ذكرو من الاشكال فغايته أنه عام خص منه البعض بدليل العقل لامتناع عود ذلك الضمير إلى الله تعالى وعن الثالث أن للفرس طريقا إلى معرفة الخطاب بالرجوع إلى العرب المسألة الثانية في أنه لا يجوز أن يعني بكلامه خلاف ظاهره ولا يدل عليه ألبتة والخلاف فيه مع المرجئة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 لنا أن اللفظ الخالي عن البيان أبدا يكون بالنسبة إلى غير ظاهره مهملا وقد بينا أن التكلم بالمهمل غير جائز على الله تعالى فإن قيل ان عنيت بالمهمل ما لا فائدة فيه ألبتة فلا نسلم أن الأمر كذلك لأنه تعالى اذا تكلم بما ظاهره يقتضي الوعيد مع أنه لا يريد ذلك حصل منه تخويف الفساق والتخويف يمنعهم من الاقدام فقد حصلت هذه الفائدة وإن عنيت به أنه لا يحصل منه فائدة الإفهام فهو مسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 لكن لم قلت إن ما يكون كذلك فإنه غير جائز على الله تعالى فإن هذا أول المسألة والجواب لو فتحنا هذا الباب لما بقي الاعتماد على شئ من خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وأله وسلم لأنه ما من خبر إلا ويحتمل أن يكون المقصود منه أمرا وراء الإفهام ومعلوم أن ذلك ظاهرا الفساد والله أعلم المسألة الثالثة في أن الاستدلال بالخطاب هل يفيد القطع أم لا منهم من أنكره وقال إن الاستدلال بالأدلة اللفظية مبني على مقدمات ظنية والمبني على المقدمات الظنية ظني فالاستدلال بالخطاب لا يفيد إلا الظن وإنما قلنا إنه مبني على مقدمات ظنية لأنه مبني على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف وعدم الاشتراك والمجاز والنقل والاضمار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 والتخصيص والتقديم والتأخير والناسخ والمعارض وكل ذلك أمور ظنية أما بيان أن نقل اللغات ظني فلأن المرجع فيه إلى أئمة اللغة وأجمع العقلاء على أنهم ما كانوا بحيث يقطع بعصمتهم فنقلهم لا يفيد إلا الظن وتمام الكلام في هذا المقام قد تقدم وأما النحو والتصريف فالمرجع في اثباتهما إلى أشعار المتقدمين إلا أن التمسك بتلك الأشعار مبني على مقدمتين ظنيتين احداهما أن هذه الأشعار رواها الآحاد ورواية الآحاد لا تفيد إلا الظن وأيضا إن الذين رووها روايتهم مرسلة لا مسندة والمرسل غير مقبول عند الأكثرين إذا كان خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم فكيف اذا كان خبر عن شخص لا يؤبه له ولا يلتفت إليه وثانيهما هب أنه صح هذا الشعر عن هذا الشاعر لكن لم قلت إن ذلك الشاعر لا يلحن أقصى ما في الباب أنه عربي لكن العربي قد يلحن في العربية كما أن الفارسي قد يلحن كثيرا في الفارسية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 والذي يؤيد هذا الاحتمال أن الأدباء لحنوا أكابر شعراء الجاهلية كامرئ القيس وطرفة ولبيد واذا كانوا معترفين بأنهم قد لحنوا فكيف يجوز التعويل في تصحيح الألفاظ واعرابها في قولهم ذكر القاضي أبو الحسن على بن عبد العزيز الجرجاني في الكتاب الذي صنفه في الوساطة بين المتنبي وخصومه أن امرأ القيس أخطأ في قوله يا راكبا بلغ اخواننا ... من كان من كندة أو وائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 فنصب بلغ وفي قوله فاليوم اشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل فسكن أشرب وقوله لها متنان خظاتا كما أكب على ساعديه النمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 فأسقط النون من خظاتا بغير اضافة وقول لبيد ... تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 فسكن يرتبط ولا عمل للم فيه وقوله طرفة قد رفع الفخ فماذا تحذري فحذف النون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وقول الأسدي كنا نرقعها فقد مزقت ... واتسع الخرق على الراقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ..فسكن نرقع وقول الفرزدق ... وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 فضم مجلف وقول ذي الخرق الطهوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا ... إلى ربنا صوت الحمار اليجدع فأدخل الألف واللام على الفعل وقول رؤية أقفرت الوعثاء والعثاعث ما من بعدهم والبرق البوارث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وإنما هي البرارث لا جمع برث وهي الأماكن السهلة من الأرض وقوله أيضا قد شفها اللوح بما زول أن ضيق ففتح الياء فهذه وأمثالها كثيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وجرى بين الفرزدق وبين عبد الله بن اسحاق الحضرمي في إقوائه على وفي لحنه في قوله فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى مواليا ففتح الياء من موالي في حال الجر وجرى له مع عنبسة الفيل النحوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 حتى قال فيه لقد كان في معدان للفيل شاغل ... لعنبسة الراوي علي القصائدا وكان القدماء يتبعون أشعار الأوائل من لحن وغلط وإحالة وفساد معنى وقال الأصمعي في الكميت إنه جرمقاني من جرامقة الشام لا يحتج بشعره وأنكر من شعر الطرماح ولحن ذا الرمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 ثم ان القاضي على بن عبد العزيز طول في هذا المعنى وفي هذا القدر كفاية ومن أراد الاستقصاء فليطالع ذلك الكتاب وعند هذا نقول المرجع في صحة اللغات والنحو والتصريف إلى هؤلاء الأدباء واعتمادهم على تصحيح الصحيح منها وإفساد الفاسد على أقوال هؤلاء الأكابر من شعراء الجاهلية والمخضرمين واذا كان الأدباء قدحوا فيهم وبينوا لحنهم وخطأهم في اللفظ والمعنى والإعراب ف مع هذا كيف يمكن الرجوع إلى قولهم والاستدلال بشعرهم أقصى ما في الباب أن يقال هذه الأغلاط نادرة والنادر لا عبرة به لكنا نقول النادر لا يقدح في الظن لكن لا شك أنه يقدح في اليقين لقيام الاحتمال في كل واحد من تلك الألفاظ والاعرابات أنه من ذلك اللحن النادر فثبت أن المقصد الأقصى في صحة اللغة والنحو والتصريف الظن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 الظن الثاني عدم الاشتراك فإن بتقدير الاشتراك يجوز أن يكون مراد الله تعالى من هذا الكلام غير هذا المعنى الذي اعتقدناه لكن نفي الاشتراك ظني الظن الثالث عدم المجاز فإن حمل اللفظ على حقيقته إنما يتعين لو لم يكن محمولا على مجازه لكن عدم المجاز مظنون الظن الرابع أنه لا بد من عدم النقل فإن بتقدير أن يقال الشرع أو العرف نقله من معناه اللغوي إلى معنى آخر كان المراد هو المنقول إليه لا ذلك الأصل الظن الخامس أنه لا بد من عدم الإضمار فانه لو كان الحق هو لكان المراد هو ذلك الذي يدل عليه اللفظ بعد الإضمار لا هذا الظاهر الظن السادس عدم التخصيص وتقريره ظاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 الظن السابع عدم الناسخ ولا شك في كونه محتملا في الجملة وبتقدير وقوعه لم يكن الحكم ثابتا الظن الثامن عدم التقديم والتأخير ووجهه ظاهر الظن التاسع نفي المعارض العقلي فإنه لو قام دليل قاطع عقلي على نفي ما أشعر به ظاهر النقل فالقول بهما محال لاستحالة وقوع النفي والاثبات والقول بارتفاعهما الله محال لاستحالة عدم النفي والاثبات والقول بترجيح النقل على العقل محال لأن العقل أصل النقل فلو كذبنا العقل لكنا كذبنا أصل النقل ومتى كذبنا أصل النقل فقد كذبنا النقل فتصحيح النقل بتكذيب العقل يستلزم تكذيب النقل فعلمنا أنه لا بد من ترجيح دليل العقل فإذا رأينا دليلا نقليا فإنما يبقى دليلا عند السلامة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 هذه الوجوه التسعة ولا يمكن العلم بحصول السلامة عنها إلا إذا قيل بحثنا واجتهدنا فلم نجدها لكنا نعلم أن الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود لا يفيد إلا الظن فثبت أن التمسك بالأدلة النقلية مبني على مقدمات ظنية والمبني على الظني ظني وذلك لا شك فيه فالتمسك بالدلائل النقلية لا يفيد إلا الظن فإن قلت المكلف إذا سمع دليلا نقليا فلو حصل فيه شئ من هذه المطاعن لوجب في حكمه الله أن يطلعه على ذلك قلت القول بالوجوب على الله تعالى مبني على قاعدة الحسن والقبح العقليين وقد تقدم القول فيها سلمنا ولكننا نقطع بأنه لا يجب على الله تعالى أن يطلعه على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 ذلك لما أنا نجد كثيرا من العلماء يسمعون آية أو خبرا مع أنهم لا يعرفون ما في نحوها ولغتها وتصريفها من الاحتمالات التسعة التي ذكرناها وانكار ذلك مكابرة ولو كان ذلك واجبا لما كان الأمر كذلك فعلمنا ضعف هذا العذر وفيه وجوه أخر من الفساد ذكرناها في الكتب الكلامية واعلم أن الانصاف أنه لا سبيل إلى استفاد ة اليقين من هذه الدلائل اللفظية إلا إذا اقترنت بها قرائن تفيد اليقين سواء كانت تلك القرائن مشاهدة أو كانت منقولة الينا بالتواتر المسألة الرابعة في كيفية الاستدلال بالخطاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 الخطاب إما أن يدل على الحكم بلفظه أو بمعناه أو لا يكون كذلك ولكنه بحيث لو ضم إليه شئ آخر لصار المجموع دليلا على الحكم القسم الأول ما يدل عليه بلفظه وقد عرفت أنه يجب حمل اللفظ على الحقيقة وعرفت أن الحقيقة ضربان أصلية وهي اللغوية وطارئة قال وهي العرفية والشرعية فإن كان الخطاب مستعملا في اللغة في شئ وفي العرف في شئ آخر ولم يخرج بالعرف عن أن يكون حقيقة في المعنى اللغوي فإنه يكون مشتركا بينهما وإن صار مجازا في المعنى اللغوي وجب حمله على العرفي لأنه هو المتبادر إلى الفهم ويجب مثل هذا في الاسم المنقول إلى معنى شرعي فالحاصل أن الخطاب يجب حمله على المعنى الشرعي ثم العرفي ثم المعنى اللغوي الحقيقي ثم المجاز فإن خاطب الله تعالى طائفتين بخطاب هو حقيقة عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 احداهما في شئ وعند الأخرى في شئ آخر وجب أن تحمله كل واحدة منهما على ما تتعارفه والالزم أن يقال أن الله تعالى خاطبه بغير ما هو ظاهر عنده مع عدم القرينة والله أعلم بالصواب القسم الثاني ما يدل عليه بمعناه وهو الدلالة الالتزامية وقد ذكرنا في الباب الثاني أقسام الدلالة الالتزامية القسم الثالث ما يكون بحيث لو ضم إليه شئ آخر لصار المجموع دليلا على الحكم فنقول ذلك الذي يضم إليه إما أن يكون دليلا شرعيا وهو نص أو إجماع أو قياس أويكون ذلك بشهادة حال المتكلم فهذه وجوه أربعة أحدها أن ينضم إلى النص آخر فيصير مجموعهما دليلا على الحكم وله مثالان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 الأول أن يدل أحد النصين على إحدى المقدمتين والثاني على الثانية فيحصل المطلوب كقولنا تارك المأمور عاص لقوله تعالى أفعصيت أمري والعاصي يستتحق عن العقاب لقوله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها الثاني أن يدل أحد النصين على ثبوت الحكم لشيئين ويدل النص الآخر على أن بعض ذلك لأحدهما فوجب القطع بأن باقي الحكم ثابت للثاني كقوله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا فهذا يدل على أن مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا وقوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين فهذا يدل على أن مدة الرضاع سنتان فيلزم أن تكون مدة الحمل ستة أشهر وثانيها أن يضم إلى النص اجماع كما إذا دل النص على أن الخال لا يرث ودل الاجماع على أن الخالة بمثابته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وثالثها أن يضم إلى النص قياس كما إذا دل النص على حرمة الربا في البر ودل القياس على أن التفاح بمثابته ورابعها أن يضم إلى النص شهادة حال المتكلم كما إذا كان كلام الشرع مترددا بين الحكم العقلي والشرعي فحمله على الشرعي أولى لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث لبيان الشرعيات لا لبيان ما يستقل العقل بإدراكه هذا إذا كان الخطاب مترددا بينهما أما إذا كان ظاهر هـ مع أحدهما لم يصح الترجيح بذلك والله أعلم المسألة الخامسة في الخطاب الذي لا يمكن حمله على ظاهره هذا الخطاب إما أن يكون خاصا أو عاما فان كان خاصا وكان حقيقة في شئ ثم وجدت قرينة تصرفه عنه فإما أن تدل القرينة على أن المراد ليس ظاهره أو تدل على أن المراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 غير ظاهره أو على أن المراد ظاهره وغير ظاهره معا فإن دل على أن المراد ليس ظاهره خرج الظاهر عن أن يكون مرادا فيجب حمله على المجاز ثم إن المجاز إما أن يكون واحدا أو أكثر فإن كان واحدا حمل اللفظ عليه من غير افتقار إلى دلالة أخرى صونا للكلام عن الإلغاء وإن كان أكثر من واحد فإما أن يدل دليل في واحد معين على أنه مراد أو على أنه ليس بمراد أو لا يدل الدليل في واحد معين لا بكونه مرادا ولا بكونه غير مراد فإن دل الدليل على أنه مراد قضي به وإن دل الدليل على أنه غير مراد فإن لم يبق إلا وجه واحد حمل عليه وإن بقي أكثر من واحد كان القول فيه كما إذا لم يوجد الدليل على كونه مرادا ولا على كونه غير مراد وهذا هو القسم الثالث فنقول وجوه المجاز إما أن تكون محصورة أو غير محصورة فإن لم تكن محصورة فقال القاضي عبد الجبار لا بد من دلالة تدل على المراد لأنه لا يجوز أن يريدها أجمع مع تعذر حصرها علينا قال أبو الحسين ولقائل أن يقول إنه أرادها كلها على البدل لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 ذلك ممكن مع فقد الدلالة ومع فقد الحصر فإنه تعالى لو أوجب علينا ذبح بقرة فإنا نكون مخيرين في ذبح أي بقرة شئنا وإن لم يمكنا حصر البقر فأما من لا يجيز أن يراد بالكلمة الواحدة معنيان مختلفان فيجيئ على مذهبه أنه لا بد من دلالة تدل على المراد بعينه لأن اللفظ ما وضع للتخيير وأما إن كانت وجوه المجاز محصورة فإن كان البعض أقوى من الباقي حمل على الأقوى رعاية لزيادة القوة وإن تساوت حمل اللفظ عليها بأسرها على البدل أما على الكل فلأنه ليس حمل الخطاب على البعض أولى من الباقي وأما على البدل فلأن الخطاب ليس بعام حتى يحمل على الجميع هذا على قول من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه فأما من لا يجوزه فإنه يقول لا بد من البيان القسم الأول وهو أن يدل الدليل على أن غير الظاهر مراد فذلك الدليل إما أن يعين ذلك الغير أو لا يعينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 فإن عينه وجب حمله عليه وإن لم يعينه فالقول فيه كما في القسم الأول القسم الثاني وهو أن يدل دليل على أن ظاهر الخطاب مراد وغير ظاهره مراد فإن كان ذلك الغير معينا وجبت الحمل عليه فيكون اللفظ موضوعا لهما من جهة اللغة أو من جهة الشرع أو تكلم بالكلمة مرتين وان لم يتعين ذلك الغير فالكلام فيه كما في القسم الأول أما إن كان الخطاب عاما فإن تجرد عن القرينة حمل على العموم وان لم يتجرد فهذا يقع على وجوه أحدها أن تدل القرينة على أن المراد ظاهره وغير ظاهره معا فإن كان ذلك الغير معنيا حمل اللفظ عليه على التفصيل المذكور وان لم يكن معينا فالكلام فيه كما في الخاص إذا دلت الدلالة على أن المراد غير ظاهره وثانيها أن يدل الدليل على أن المراد ليس ظاهره وأن المراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 غير ظاهره فها هنا لا بد أن يوجد الدليل على التعيين لأنه إذا لم يكن المراد ظاهره جاز أن يكون المراد بعض ما يتناوله وجاز أن يكون المراد شيئا آخر لم يتناوله الخطاب فاذا لم يصح اجتماعهما فلا بد من دليل يعين المراد وثالثها أن يدل الدليل على أن بعضه مراد وهذا لا يقتضي خروج البعض الآخر عن أن يكون مرادا لأنه لا ينافي ذلك فان دل على أن المراد هو البعض خرج البعض الآخر عن كونه مرادا لأن ذلك اخبار بأن ذلك البعض هو كمال المراد ورابعها أن يدل الدليل على أن بعضه ليس بمراد وحينئذ يخرج عن كونه مرادا ويبقى ما عداه تحت ذلك الخطاب والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 المسألة السادسة في أن ثبوت حكم الخطاب اذا تناوله على وجه المجاز لا يدل على أنه مراد بالخطاب مثاله قوله تعالى أو لامستم النساء فإن قيام الدلالة على وجوب التيمم على المجامع وهو الذي تناوله اسم الملامسة على طريق الكناية هل يدل على أنه هو المراد بالآية فذهب الكرخي وأبو عبد الله البصري إلى أنه واجب وعندنا أنه ليس بواجب لنا المقتضى لاجراء الآية على ظاهرها موجود والمعارض الموجود وهو ثبوت حكم الخطاب فيما تناوله على وجه المجاز لا يصلح معارضا له لاحتمال ثبوته بدليل آخر أوجب اجراء الآية على ظاهرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 واحتجوا بأن ثبوت الحكم في صورة المجاز لا بد له من دليل ولا دليل سوى هذا الظاهر وإلا لنقل واذا حمل الظاهر على مجازه وجب أن لا يحمل على الحقيقة لامتناع استعمال اللفظ في مجازه وحقيقته معا كونه مرادا ويبقى ما عداه تحت ذلك الخطاب والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 المسألة السادسة في أن ثبوت حكم الخطاب اذا تناوله على وجه المجاز لا يدل على أنه مراد بالخطاب مثاله قوله تعالى أو لامستم النساء فإن قيام الدلالة على وجوب التيمم على المجامع وهو الذي تناوله اسم الملامسة على طريق الكناية هل يدل على أنه هو المراد بالآية فذهب الكرخي وأبو عبد الله البصري إلى أنه واجب وعندنا أنه ليس بواجب لنا المقتضى لاجراء الآية على ظاهرها موجود والمعارض الموجود وهو ثبوت حكم الخطاب فيما تناوله على وجه المجاز لا يصلح معارضا له لاحتمال ثبوته بدليل آخر أوجب اجراء الآية على ظاهرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 واحتجوا بأن ثبوت الحكم في صورة المجاز لا بد له من دليل ولا دليل سوى هذا الظاهر وإلا لنقل واذا حمل الظاهر على مجازه وجب أن لا يحمل على الحقيقة لامتناع استعمال اللفظ في مجازه وحقيقته معا والجواب لا نسلم أنه لا دليل سوى هذا الظاهر قوله لو وجد لنقل قلنا لعلهم استغنوا بالاجماع عن نقله والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 بسم الله الرحمن الرحيم جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الثالثة 1418 هـ / 1997 م حقوق الطبع محفوظة 1992 م. لا يسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه. ولا يسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 المحصول في علم أصول الفقه للامام الأصولي النظار المفسر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 - 606 هـ / 1149 - 1209 م دراسة وتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني الجزء الثاني مؤسسة الرسالة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 الكلام في الأوامر والنواهي وهو مرتب: على مقدمة، وثلاثة أقسام: أما المقدمة ففيها مسائل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 المسألة الأولى: اتفقوا على أن لفظة الأمر حقيقة في القول المخصوص واختلفوا في كونه حقيقة في غيره فزعم بعض الفقهاء أنه حقيقة في الفعل أيضا والجمهور على أنه مجاز فيه وزعم أبو الحسين البصري أنه مشترك بين القول المخصوص وبين الشئ وبين الصفة وبين الشأن والطريق والمختار أنه حقيقة في القول المخصوص فقط لنا إنا أجمعنا على أنه حقيقة في القول المخصوص فوجب أن لا يكون حقيقة في غيره دفعا للاشتراك ومن الناس من استدل على أنه ليس حقيقة في الفعل بأمور أحدها لو كان لفظ الأمر حقيقة في الفعل لاطرد فكان يسمى الأكل أمرا والشرب أمرا وثانيها ولكان يشتق للفاعل اسم الآمر وليس كذلك لأن من قام أو قعد لا يسمى آمرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 وثالثها أن للأمر لوازم ولم يوجد شئ منها في الفعل فوجب أن لا يكون الأمر حقيقة في الفعل بيان الأول أن الأمر يدخل فيه الوصف بالمطيع والعاصي وضده النهي ويمنع منه الخرس والسكوت لأنهم يستهجنون في الأخرس والساكت أن يقال وقع منه أمر وعدوا الأمر مطلقا من أقسام الكلام كما عدوا الخبر مطلقا منه وكل ذلك ينافي كون الأمر حقيقة إلا في القول ورابعها أنه يصح نفي الأمر عن الفعل فيقال إنه ما أمر به ولكن فعله وهذه الوجوه ضعيفة أما الأول فلأنا لا نسلم أن من شأن الحقيقة الاطراد وقد تقدم بيان هذا المقام سلمناه لكن لا نسلم أنه لا يصح أن يقال للأكل والشرب أمر وعن الثاني ما تقدم في باب المجاز أن الاشتقاق غير واجب في كل الحقائق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 وعن الثالث أن العرب إنما حكموا بتلك الصفات في الأمر بمعنى القول فإن ادعيتم أنهم حكموا به في كل ما يسمى أمرا فهو ممنوع وعن الرابع لا نسلم أنهم جوزوا نفيه مطلقا واحتج القائلون بأنه حقيقة في الفعل بوجهين أحدهما أن أهل اللغة يستعملون لفظة الأمر في الفعل وظاهر الاستعمال الحقيقة بيان الاستعمال القرآن والشعر والعرف أما القرآن فقوله سبحانه وتعالى حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور والمراد منه العجائب التي فعلها الله تعالى وقوله تعالى أتعجبين من أمر الله وأراد به الفعل وقوله وما أمر فرعون برشيد وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر وقوله تجري في البحر بأمره وقوله مسخرات بأمره وأما الشعر فقوله لأمر ما يسود من يسود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وأما العرف فقول العرب في خبر الزباء لأمر ما جدع قصير أنفه ويقولون أمر فلان مستقيم وأمره غير مستقيم وإنما يريدون طرائقه وأفعاله وأحواله ويقولون هذا أمر عظيم كما يقولون خطب عظيم ورأيت من فلان أمرا هالني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وأما أن الأصل في الإطلاق الحقيقة فقد تقدم وثانيهما أنه قد خولف بين جمع الأمر بمعنى القول وبين جمعه بمعنى الفعل فيقال في الأول أوامر وفي الثاني أمور والاشتقاق علامة الحقيقة واحتج أبو الحسين على قوله بأن من قال هذا أمر لم يدر السامع أي هذه الأمور أراد فإذا قال هذا أمر بالفعل أو أمر فلان مستقيم أو تحرك هذا الجسم لأمر أو جاء زيد لأمر عقل السامع من الأول القول ومن الثاني الشأن ومن الثالث أن الجسم تحرك لشئ ومن الرابع أن زيدا جاء لغرض من الأغراض وتوقف الذهن عند السماع يدل على أنه متردد بين الكل والجواب عن الأول أنا لا نسلم استعمال هذا اللفظ في الفعل من حيث إنه فعل أما قوله تعالى حتى إذا جاء أمرنا فلم لا يجوز أن يكون المراد منه القول أو الشأن والفعل يطلق عليه اسم الأمر لعموم كونه شأنا لا لخصوص كونه فعلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وكذا الجواب عن الآية الثانية وأما قوله تعالى وما أمر فرعون برشيد فلم لا يجوز أن يكون المراد هو القول بل الأظهر ذلك لما تقدم من قوله فاتبعوا أمر فرعون أي أطاعوه فيما أمرهم به سلمنا أنه ليس المراد منه القول فلم لا يجوز أن يكون المراد شأنه وطريقه وأما قوله تعالى وما أمرنا إلا واحدة فنقول لا يجوز إجراء اللفظ على ظاهره أما أولا فلأنه يلزم أن يكون فعل الله تعالى واحدا وهو باطل وأما ثانيا فلأنه يقتضي أن يكون كل فعل الله تعالى لا يحدث إلا كلمح بالبصر في السرعة ومعلوم أنه ليس كذلك وإذا وجب صرفه عن الظهر علمنا أن المراد منه تعالى من شأنه أنه إذا أراد شيئا وقع كلمح البصر وأما قوله تجري في البحر بأمره مسخرات بأمره فلا يجوز حمل الأمر هاهنا على الفعل لأن الجري والتسخير إنما حصلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 بقدرته لا بفعله فوجب حمله على الشأن والطريق سلمنا أن لفظ الأمر مستعمل في الفعل فلم قلت إنه حقيقة فيه فإن قلتم لأن الأصل في الكلام الحقيقة قلنا والأصل عدم الاشتراك على ما تقدم وقد تقدم بيان أنه إذا دار اللفظ بين الاشتراك والمجاز فالمجاز أولى والجواب عن الثاني لم لا يجوز أن تكون الأمور جمعا للأمر بمعنى الشأن لا بمعنى الفعل سلمناه لكن لا نسلم أن الجمع من علامات الحقيقة على ما تقدم بيانه فأما ما احتج به أبو الحسين فهو بناء على تردد الذهن عند سماع تلك اللفظة بين تلك المعاني وذلك ممنوع فإن الذي يزعم أنه حقيقة في القول يمنع من ذلك التردد اللهم إلا إذا وجدت قرينة مانعة من حمل اللفظ على القول كما إذا استعمل في موضع لا يليق به القول فحينئذ ذلك قرينة في أن المراد منه غير القول والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 المسألة الثانية ذكروا في حد الأمر بمعنى القول وجهين أحدهما ما قاله القاضي أبو بكر وارتضاه جمهور الأصحاب أنه هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به وهذا خطأ أما أولا فلأن لفظتي المأمور والمأمور به مشتقتان من الأمر فيمتنع تعريفهما إلا بالأمر فلو عرفنا الأمر بهما لزم الدور وأما ثانيا فلأن الطاعة عند أصحابنا موافقة الأمر وعند المعتزلة موافقة الإرادة فالطاعة على قول أصحابنا لا يمكن تعريفها إلا بالأمر فلو عرفنا الأمر بها لزم الدور وثانيهما ما ذكره أكثر المعتزلة وهو أن الأمر هو قول القائل لمن دونه افعل أو ما يقوم مقامه وهذا خطأ من وجوه الأول أنا لو قدرنا إن الواضع ما وضع لفظة افعل لشئ أصلا حتى كانت هذه اللفظة من المهملات ففي تلك الحالة لو تلفظ الإنسان بها مع من دونه لا يقال فيه إنه أمر ولو أنها صدرت عن النائم والساهي أو على سبيل انطلاق اللسان بها اتفاقا أو على سبيل الحكاية لا يقال فيه إنه أمر ولو أنا قدرنا أن الواضح وضع بإزاء معنى الأمر لفظ إفعل وبإزاء معنى الخبر لفظ إفعل لكان المتكلم بلفظ إفعل آمرا والمتكلم بلفظ إفعل مخبرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 فعلمنا أن تحديد ماهية الأمر بالصيغة المخصوصة باطل الثاني أن المطلوب تحديد ماهية الأمر من حيث إنه أمر وهي حقيقة لا تختلف باختلاف اللغات فإن التركي قد يأمر وينهى وما ذكروه لا يتناول إلا الألفاظ العربية فإن قلت قوله أو ما يقوم مقامه احتراز عن هذين الإشكالين اللذين ذكرتهما قلت قوله أو ما يقوم مقامه يعني به كونه قائما مقامه في الدلالة على كونه طالبا للفعل أو يعني به شيئا آخر فإن كان المراد هو الثاني فلا بد من بيانه وإن كان المراد هو الأول صار معنى حد الأمر هو قول القائل لمن دونه افعل أو ما يقوم مقامه في الدلالة على طلب الفعل وإذا ذكرناه على هذا الوجه كان قولنا الأمر هو اللفظ الدال على طلب الفعل كافيا وحينئذ يقع التعرض لخصوص صيغة إفعل ضائعا الثالث أنا سنبين إن شاء الله تعالى أن الرتبة غير معتبرة وإذا ثبت فساد هذين الحدين فنقول الصحيح أن يقال الأمر طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 ومن الناس من لم يعتبر هذا القيد الأخير المسألة الثالثة في ماهية الطلب اعلم أن تصور ماهية الطلب حاصل لكل العقلاء على سبيل الاضطرار فإن من لم يمارس شيئا من الصنائع العلمية ولم يعرف الحدود والرسوم قد يأمر وينهى ويدرك تفرقة بديهية بين طلب الفعل وبين طلب الترك وبينهما وبين المفهوم من الخبر ويعلم أن ما يصلح جوابا لأحدهما لا يصلح جوابا للآخر ولولا أن ماهية الطلب متصورة تصورا بديهيا وإلا لما صح ذلك ثم نقول معنى الطلب ليس نفس الصيغة لأن ماهية الطلب لا تختلف باختلاف النواحي والأمم وكان يحتمل في الصيغة التي وضعوها للخبر أن يضعوها للأمر وبالعكس فماهية الطلب ليست نفس الصيغة ولا شيئا من صفاتها بل هي ماهية قائمة بقلب المتكلم تجري مجرى علمه وقدرته وهذه الصيغ المخصوصة دالة عليها ويتفرع على هذه القاعدة مسائل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 المسألة الأولى أن تلك الماهية عندنا شئ غير الإرادة وقالت المعتزلة هي إرادة المأمور به لنا وجوه أولها أن الله تعالى ما أراد من الكافر الإيمان وقد أمره به فدل على أن حقيقة الأمر غير حقيقة الإرادة وغير مشروطة بها وإنما قلنا إنه تعالى ما أراد منه الإيمان لوجهين أحدهما أنه تعالى لما علم منه أنه لا يؤمن فلو آمن لزم انقلاب علمه جهلا وذلك محال والمفضي إلى المحال محال فصدور الإيمان منه محال والله تعالى عالم بكونه محالا والعالم بكون الشئ محال الوجود لا يكون مريدا له بالاتفاق فثبت أن الله تعالى لا يريد الإيمان من الكافر وتمام الأسئلة والأجوبة على هذا الوجه سيأتي في مسألة تكليف ما لا يطاق إن شاء الله تعالى الثاني هو أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على وجود الداعي والداعي مخلوق لله تعالى دفعا للتسلسل وعند حصول الداعي يجب وقوع الفعل وإلا لزم وقوع الممكن لا عن مرجح أو افتقاره إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 داعية أخرى وإلا لزم التسلسل إذا كانت الداعية مخلوقة لله تعالى وعند وجود الداعي يجب حصول الفعل فالله تعالى خلق في الكافر ما يوجب الكفر فلو أراد في هذه الحالة وجود الإيمان لزم كونه مريدا للضدين وذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين خصومنا فثبت بهذين الوجهين أن الله تعالى ما أراد الإيمان من الكافر وأما أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان فذلك مجمع عليه بين المسلمين وإذا ظهرت المقدمتان ثبت أنه وجد الأمر بدون الإرادة وإذا ثبت ذلك ثبت أن حقيقة الأمر مغايرة لحقيقة الإرادة وغير مشروطة بها فإن قيل ما المراد من قولك أمر الكافر بالإيمان إن أردت به أنه أنزل لفظا يدل على كونه مريدا لعقابه في الآخرة إذا لم يصدر منه الإيمان فهذا مسلم لكن معناه نفس إرادة العقاب لا غير فلا يحصل مطلوبكم من أنه أمر بما لم يرد وإن عنيت شيئا آخر فاذكره سلمنا ذلك لكن لا نسلم أنه ما أراد الإيمان ولا نسلم أن إيمانه محال وسيأتي تقرير هذا المقام في مسألة تكليف ما لا يطاق سلمناه لكن لا نسلم أن المحال غير مراد بيانه هو أن الإرادة من جنس الطلب وإذا جوزت طلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 المحال مع العلم بكونه محالا فلم لا تجوز إرادته مع العلم بكونه محالا والجواب قوله الأمر بالشئ عبارة عن الإخبار عن إرادة عقاب تاركه قلت لو كان كذلك لتطرق التصديق والتكذيب إلى قوله آمنوا لأن الخبر من شأنه قبول ذلك ولأن سقوط العقاب جائز أما عندنا فبالعفو وأما عندهم ففي الصغائر قبل التوبة وفي الكبائر بعدها ولو تحقق الخبر عن وقوع العقاب لما جاز ذلك قوله لم قلت إن إرادة المحال ممتنعة قلنا هذا متفق عليه بيننا وبينكم وأيضا فلأن الإرادة صفة من شأنها ترجيح أحد طرفي الجائز على الآخر وذلك في المحال محال والعلم به ضروري وثانيها أن الرجل قد يقول لغيره إني أريد منك هذا الفعل لكنني لا آمرك به ولو كان الأمر هو الإرادة لكان قوله أريد منك الفعل ولا آمرك به جاريا مجرى أن يقال أريد منك الفعل ولا أريده منك وقوله آمرك بهذا الفعل ولا أمرك به ومعلوم أن ذلك صريح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 التناقض دون الأول وثالثها أن الحكيم قد يأمر عبده بشئ في الشاهد ولا يريد منه أن يأتي بالمأمور به لإظهار تمرده وسوء أدبه فإن قلت ذلك ليس بأمر وإنما تصور بصورته قلت التجربة إنما تحصل بالأمر فدل على أنه أمر ورابعها أنه سيظهر إن شاء الله تعالى في باب النسخ أنه يجوز نسخ ما وجب من الفعل قبل مضي مدة الامتثال فلو كان الأمر والنهي عبارتين عن الإرادة والكراهة لزم أن يكون الله تعالى مريدا كارها للفعل الواحد في الوقت الواحد من الوجه الواحد وذلك باطل بالاتفاق واحتج الخصم بوجهين الأول أن صيغة إفعل موضوعة لطلب الفعل وهذا الطلب إما الإرادة أو غيرها والثاني باطل لأن الطلب الذي يغاير الأرادة لو صح القول به لكان أمرا خفيا لا يطلع عليه إلا الأذكياء لكن العقلاء من أهل اللغة وضعوا هذه اللفظة للطلب الذي يعرفه كل واحد وما ذاك إلا الإرادة فعلمنا أن هذه الصيغة موضوعة للإرادة الثاني أن أرادة المأمور به لو لم تكن معتبرة في الأمر لصح الأمر بالماضي والواجب والممتنع قياسا على الخبر فإن إرادة المخبر عنه لما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 لم تكن معتبرة في الخبر صح تعلق الخبر بكل هذه الأشياء والجواب عن الأول لا نسلم أن الطلب النفساني الذي يغاير الإرادة غير معلوم للعقلاء فإنهم قد يأمرون بالشئ ولا يريدونه كالسيد الذي يأمر عبده بشئ ولا يريده ليمهد عذره عند السلطان وعن الثاني أنه لا بد من الجامع وعلى أن القائل بتكليف ما لا يطاق يجوزه والله أعلم المسألة الثانية أن هذا الطلب معنى يقتضي ترجيح جانب الفعل على جانب الترك أو جانب الترك على جانب الفعل وعلى التقديرين فالترجيح قد يكون مانعا من الطرف الآخر كما في الوجوب والحظر وقد لا يكون كما في الندب والكراهة والتفاوت بين أصل الترجيح وبين الترجيح المانع من النقيض تفاوت بالعموم والخصوص وأيضا فهنا لفظ دال على أصل الترجيح ولفظ دال على الترجيح المانع من النقيض وعلى التقديرين فالمعتبر إما اللفظ الدال عليه كيف كان اللفظ وإما اللفظة العربية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 فها هنا أقسام ستة أحدها أصل الترجيح وثانيها الترجيح المانع من النقيض وثالثها ورابعها مطلق اللفظ الدال على الأول أو الثاني وخامسها وسادسها اللفظة العربية الدالة على الأول أو الثاني ثم أنت بالخيار في إطلاق لفظ الأمر على أيها شئت أو عليها بأسرها أو على طائفة منها بحسب الاشتراك فهذا حظ البحث العقلي وأما البحث اللغوي فهو أن نقول جعل الأمر اسما للصيغة الدالة على الترجيح أولى من جعله اسما لنفس الترجيح ويدل عليه وجوه أحدها أن أهل اللغة قالوا الأمر من الضرب إضرب ومن النصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 أنصر جعلوا نفس الصيغة أمرا وثانيها لو قال إن أمرت فلانا فعبدي حر ثم أشار بما يفهم منه مدلول هذه الصيغة فإنه لا يعتق ولو كان حقيقة الأمر ما ذكرتم لزم العتق ولا يعارض هذا الحكم بما إذا خرس وأشار فإنه يعتق لأنا نمنع هذه المسألة وثالثها أنا لو جعلناه حقيقة في الصيغة كان مجازا في المدلول تسمية للمدلول باسم الدليل ولو جعلناه حقيقة في المدلول كان مجازا في الدليل تسمية للدليل باسم المدلول والأول أولى لأنه يلزم من فهم الدليل فهم المدلول أما لا يلزم من فهم المدلول فهم الدليل بل فهم دليل معين ورابعها أن الإنسان الذي قام بقلبه ذلك المعنى ولم ينطق بشئ لا يقال إنه أمر ألبتة بشئ وإذا قيل أمر فلان بكذا تبادر الذهن إلى اللفظ دون ما في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 القلب وذلك يدل على أن لفظ الأمر اسم للصيغة لا للمدلول احتج المخالف بالآية والأثر والشعر والمعقول أما الآية فقوله تعالى إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون الله تعالى كذبهم في شهادتهم ومعلوم أنهم كانوا صادقين في النطق اللساني فلا بد من إثبات كلام في النفس ليكون الكذب عائدا إليه وأما الأثر فقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه زورت في نفسي كلاما فسبقني إليه أبو بكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وأما الشعر فقول الأخطل إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا وأما المعقول فهو إن هذه الألفاظ مفردات فلو سميت كلاما لكانت إنما سميت بذلك لكونها معرفات للمعنى النفساني فكان يجب تسمية الكتابة والإشارة كلاما وإنه باطل والجواب عن الأول أن الشهادة هي الإخبار عن الشئ مع العلم به فلما لم يكونوا عالمين به فلا جرم كذبهم الله تعالى في ادعائهم كونهم شاهدين وعن الثاني أن قوله زورت في نفسي كلاما أي خمرته كما يقال قدرت في نفسي دارا وبناء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 وعن الثالث أنا لا نسلم كون الشعر عربيا محضا ولو سلمناه فمعناه أن المقصود من الكلام ما حصل في القلب وعن الرابع أنه قياس في اللغة فلا يقبل فرع الآمر اسم لمطلق اللفظ الدال على مطلق الطلب أو اللفظ العربي الدال على مطلق الطلب والحق هو الأول لأن الفارسي إذا طلب من عبده شيئا بلغته فإن العربي يسميه أمرا ولو حلف لا يأمر فأمر بالفارسية يحنث في يمينه وأما أنه اسم لمطلق اللفظ الدال على مطلق الطلب أو لمطلق اللفظ الدال على الطلب المانع من النقيض فالحق هو الثاني وذلك إنما يظهر ببيان أن الأمر للوجوب المسألة الثالثة دلالة الصيغة المخصوصة على ماهية الطلب يكفي في تحققها الوضع من غير حاجة إلى إرادة أخرى وهو قول الكعبي لنا وجهان أحدهما أن هذه الصيغة لفظة وضعت لمعنى فلا تفتقر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 في إفادتها لما هي موضوعة له إلى الإرادة كسائر الألفاظ مثل دلالة السبع والحمار على البهيمة المخصوصة فإنه لا حاجة فيها إلى الإرادة وثانيهما أن الطلب النفساني أمر باطن فلا بد من الاستدلال عليه بأمر ظاهر والإرادة أمر باظن في مفتقرة إلى المعرف كافتقار الطلب إليه فلو توقفت دلالة الصيغة على الطلب على تلك الإرادة لما أمكن الاستدلال بالصيغة على ذلك الطلب ألبتة احتج المخالف بأنا نميز بين ما إذا كانت الصيغة طلبا وبين ما إذا كانت تهديدا ولا مميز إلا الإرادة والجواب أنها حقيقة في الطلب مجاز في التهديد فكما أن الأصل في كل الألفاظ إجراؤها على حقائقها إلا عند قيام دلالة صارفة فكذا ها هنا المسألة الرابعة ذهب أبو علي وأبو هاشم إلى أن إراردة المأمور به تؤثر في صيرورة صيغة إفعل أمرا وهذا خطأ من وجهين الأول أن الآمرية لو كانت صفة للصيغة لكانت إما أن تكون حاصلة لمجموع الحروف وهو محال لأنه لا وجود لذلك المجموع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وإما لأحادها هذه فيلزم أن يكون كل واحد من الحروف التي ائتلفت صيغة الأمر منها أمرا على الاستقلال وهو محال الثاني إن صيغة إفعل دالة بالوضع على معنى وذلك المعنى هو أرادة المأمور فإذا كانت الإرادة نفس المدلول وجب أن لا تفيد الصيغة الدالة عليها صفة قياسا على سائر المسميات والأسماء المسألة الخامسة قال جمهور المعتزلة الآمر يجب أن يكون أعلى رتبة من المأمور حتى يسمى الطلب أمرا وقال أبو الحسين البصري المعتبر هو الاستعلاء لا العلو وقال أصحابنا لا يعتبر العلو ولا الاستعلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 لنا قوله تعالى حكاية عن فوعون أنه قال لقومه فماذا تأمرون مع أنه كان أعلى رتبة منهم وقال عمرو بن العاص لمعاوية أمرتك أمرا حازما فعصيتني وكان من التوفيق قتل ابن هاشم وقال دريد بن الصمة لنظرائه ولمن هم فوقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد حتى ضحى الغد وقال حباب بن المنذر يخاطب يزيد بن المهلب أمير خراسان والعراق أمرتك أمرا حازما فعصيتني فأصبحت مسلوب الإمارة نادما فهذه الوجوه دالة على أن العلو غير معتبر وأما أن الاستعلاء غير معتبر فلأنهم يقولون فلان أمر فلانا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 على وجه الرفق واللين نعم إذا بالغ في التواضع يمتنع إطلاق الاسم عرفا وإن ثبت ذلك لغة واحتج المخالف على أن العلو معتبر بأنه يستقبح في العرف أن يقول القائل أمرت الأمير أو نهيته ولا يستقبحون أن يقال سألته أو طلبت منه ولولا أن الرتبة معتبرة وإلا لما كان كذلك وأما أبو الحسين فقال اعتبار الاستعلاء أولى من اعتبار العلو لأن من قال لغيره إفعل على سبيل التضرع إليه لا يقال إنه أمره وإن كان أعلى رتبة من المقول إليه من قال لغيره إفعل على سبيل الاستعلاء لا على سبيل التذلل يقال إنه أمره وإن كان المقول له أعلى رتبة منه ولهذا يصفون من هذا سبيله بالجهل والحمق من حيث أمر من هو أعلى رتبة منه واعلم أن مدار هذا الكلام على صحة الاستعلاء وأصحابنا يمنعون منه والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 المسألة السادسة لفظ الأمر قد يقام مقام الخبر وبالعكس أما أن الأمر يقام مقام الخبر فكما في قوله عليه الصلاة والسلام إذا لم تستح فاصنع ما شئت معناه صنعت ما شئت وأما أن الخبر يقام مقام الأمر فكما في قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 والسبب في جواز هذا المجاز أن الأمر يدل على وجود الفعل كما أن الخبر يدل عليه أيضا فبينهما مشابهة من هذا الوجه فصح المجاز وأيضا تجوز إقامة النهي مقام الخبر وبالعكس أما الأول فكقوله عليه الصلاة والسلام لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر معناه لا تنكحوها إلى غاية استئمارها وأما الثاني فكقوله ص لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها وكما في قوله تعالى لا يمسه إلا المطهرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 وجه المجاز أن النهي يدل على عدم الفعل كما أن هذا الخبر يدل على عدمه فبينهما مشابهة من هذا الوجه والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 القسم الأول في المباحث اللفظية وفيه مسائل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 المسألة الأولى قال الأصوليون صيغة افعل مستعملة في خمسى عشر وجها الأول الإيجاب كقوله تعالى أقيموا الصلاة الثاني الندب كقوله تعالى فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وأحسنوا ويقرب منه التأديب كقوله عليه الصلاة والسلام كل فما يليك فإن الأدب مندوب إليه وإن كان قد جعله بعضهم قسما مغايرا للمندوب الثالث الإرشاد كقوله تعالى واستشهدوا شهيدين فاكتبوه والفرق بين الندب والإرشاد أن الندب لثواب الآخرة والإرشاد لمنافع الدنيا فإنه لا ينقص الثواب بترك الاستشهاد في المداينات ولا يزيد بفعليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 الرابع الإباحة كقوله تعالى كلوا واشربوا الخامس التهديد كقوله تعالى اعملوا ما شئتم واستفزز من استطعت منهم بصوتك ويقرب منه الإنذار كقوله تعالى قل تمتعوا وإن كانوا قد جعلوه قسما آخر السادس الامتنان فكلوا مما رزقكم الله السابع الإكرام ادخلوها بسلام آمنين الثامن التسخير كقوله كونوا قردة التاسع التعجيز فأتوا بسورة العاشر الإهانة ذق إنك أنت العزيز الكريم الحادي عشر التسوية صبروا أو لا تصبروا الثاني عشر الدعاء رب اغفر لي الثالث عشر التمني كقوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي الرابع عشر الاحتقار كقوله ألقوا ما أنتم ملقون الخامس عشر التكوين كقوله كن فيكون إذا عرفت هذا فنقول اتفقوا على أن صيغة إفعل ليست حقيقة في جميع هذه الوجوه لأن خصوصية التسخير والتعجيز والتسوية غير مستفادة من مجرد هذه الصيغة بل إنما تفهم تلك من القرائن إنما الذي وقع الخلاف فيه أمور خمسة الوجوب والندب والإباحة والتنزيه والتحريم فمن الناس من جعل هذه الصيغة بين هذه الخمسة ومنهم من جعلها مشتركة بين الوجوب والندب والإباحة ومنهم من جعلها حقيقة لأقل المراتب وهو الإباحة والحق أنها ليست حقيقة في هذه الأمور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 لنا أنا ندرك التفرقة في اللغات كلها بين قوله إفعل وبين قوله إن شئت فافعل وإن شئت لا تفعل حتى إذا قدرنا انتفاء القرائن كلها وقدرنا هذه الصيغة منقولة على سبيل الحكاية عن ميت أو غائب لا في فعل معين حتى يتوهم فيه قرينة دالة بل في الفعل مطلقا سبق إلى فهمنا اختلاف معاني هذه الصيغ وعلمنا قطعا أنها ليست أسامي مترادفة على معنى واحد كما ندرك التفرقة بين قولهم قام زيد ويقوم زيد في أن الأول للماضي والثاني للمستقبل وإن كان قد يعبر عن الماضي بالمستقبل وبالعكس لقرائن تدل عليه فكذلك ميزوا الأمر عن النهي فقالوا الأمر أن تقول إفعل والنهي أن تقول لا تفعل فهذا أمر معلوم بالضرورة من اللغات لا يشككنا فيه إطلاقه مع قرينة على الإباحة أو التهديد فإن قيل تدعي الفرق بين إفعل ولا تفعل في حق من يعتقد كون اللفظ موضوعا للكل حقيقة أو في حق من لا يعتقد ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن كل من اعتقد كون هذه اللفظة موضوعة لهذه المعاني فإنه يحصل في ذهنه الاستواء أما من لا يعتقد ذلك فإنه لا يحصل عنده الرجحان سلما الرجحان لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك للعرف الطارئ لا في أصل الوضع كما في الألفاظ العرفية سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك لكنه معارض بما يدل على نقيضه وهو أن الصيغة قد جاءت بمعنى التهديد والإباحة والأصل في الكلام الحقيقة والجواب عن الأول أنه مكابرة فإنا نعلم عند انتفاء كل القرائن بأسرها أنه يكون فهم الطلب من لفظ إفعل راجحا على فهم التهديد والإباحة وعن الثاني أن الأصل عدم التغيير وعن الثالث أنك قد عرفت أن المجاز أولى من الاشتراك ووجه المجاز أن هذه الأمور الخمسة أعني الوجوب والندب والإباحة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 والتنزيه والتحريم أضداد وإطلاق اسم الضد على الضد أحد وجوه المجاز والله أعلم المسألة الثانية الحق عندنا أن لفظة إفعل حقيقة في الترجيح المانع من النقيض وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين وقال أبو هاشم إنه يفيد الندب ومنهم من قال بالوقف وهم فرق ثلاث الفرقة الأولى الذين يقولون أنه حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب وهو ترجيح الفعل على الترك ثم جاء الوجوب يمتاز عن الندب بامتناع الترك والندب يمتاز عن الوجوب بجواز الترك وليس في الصيغة إشعار بهذين القيدين ويليق بمذهب هؤلاء أن يقولوا إنه يجب حمله على الندب لأن اللفظ يفيد رجحان الفعل على الترك وليس فيه ما يدل على المنع من الترك وقد كان جواز الترك معلوما بحكم الاستصحاب وإذا كان كذلك كان جواز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 الترك بحكم الاستصحاب ورجحان الفعل بدلالة اللفظ ولا معنى للندب إلا ذلك الفرقة الثانية الذين قالوا إن صيغة إفعل موضوعة للوجوب والندب على سبيل الاشتراك اللفظي وهو قول المرتضى من الشيعة الفرقة الثالثة الذين قالوا إنها حقيقة إما في الوجوب فقط أو في الندب فقط أو فيهما معا بالاشتراك لكنا لا ندري ما هو الحق من هذه الأقسام الثلاثة فلا جرم توقفنا في الكل وهو قول الغزالي منا لنا وجوه الدليل الأول التمسك بقوله تعالى لإبليس ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك وليس المراد منه الاستفهام بالاتفاق بل الذم فإنه لا عذر له في الإخلال بالسجود بعد ورود الأمر به هذا هو المفهوم من قول السيد لعبده ما منعك من دخول الدار إذ أمرتك إذا لم يكن مستفهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 ولو لم يكن الأمر دالا على الوجوب لما ذمه الله تعالى على الترك ولكان لإبليس أن يقول إنك ما ألزمتني السجود فإن قلت لعل الأمر في تلك اللغة كان يفيد الوجوب فلم قلتم إنه في هذه اللغة للوجوب قلنا الظاهر يقتضي ترتيب الذم على مخالفة الأمر فتخصيصه بأمر خاص خلاف الظاهر الدليل الثاني التمسك بقوله تعالى وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ذمهم على انهم تركوا عل ما قيل لهم افعلوه ولو كان الأمر يفيد الندب لما حسن هذا الكلام كما إذا قيل لهم الأولى أن تفعلوه ويجوز لكم تركه فإنه ليس لنا أن نذمهم على تركه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 فإن قلت إنما ذمهم لا لأنهم تركوا المأمور به بل لأنهم لم يعتقدوا حقيقة الأمر والدليل عليه قوله تعالى ويل يومئذ للمكذبين وأيضا فصيغة إفعل قد تفيد الوجوب عند اقتران بعض القرائن بها فلعله تعالى إنما ذمهم لأنه كان قد وجدت قرينة دالة على الوجوب والجواب عن الأول أن المكذبين في قوله ويل يومئذ للمكذبين إما أن يكونوا هم الذين تركوا الركوع لما قيل لهم اركعوا أو غيرهم فإن كان الأول جاز أن يستحقوا الذم بترك الركوع والويل بسبب التكذيب فإن عندنا الكافر كما يستحق العقاب بترك الإيمان يستحق الذم والعقاب أيضا بترك العبادات وإن كان الثاني لم يكن إثبات الويل لإنسان بسبب التكذيب منافيا ثبوت الذم لإنسان آخر بسبب ترك المأمور به وعن الثاني أنه تعالى إنما ذمهم لمجرد أنهم تركوا الركوع لما قيل لهم اركعوا فدل على أن منشأ الذم هذا القدر لا القرينة الدليل الثالث لو لم يكن الأمر ملزما للفعل لما كان إلزام الأمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 سببا للزوم المأمور به لكنه سبب للزوم المأمور به فوجب أن يكون الأمر ملزما للفعل بيان الشرطية أن بتقدير أن لا يكون الأمر ملزما للفعل كان إلزام الأمر إلزاما لشئ وذلك الشئ لا يوجب فعل المأمور به فوجب أن لا يكون هذا القدر سببا للزوم المأمور به وبيان أن إلزام الأمر سبب للزوم المأمور به قوله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم والقضاء هو الإلزام فقوله تعالى إذا قضى الله ورسوله أمرا معناه إذا ألزم الله ورسوله أمرا فإنه لا خيرة للمؤمنين في المأمور به ويجب ها هنا حمل لفظ الأمر على المأمور به إذ لو أجريناه على ظاهره لصار المعنى أنه لا خيرة للمؤمنين في صفة الله تعالى وذلك كلام غير مفيد وإذا تعذر حمله على نفس الآمر وجب حمله على المأمور به فيصير التقدير أن الله تعالى إذا ألزم المكلف أمرا فإنه لا خيرة له في المأمور به وإذا انتفت الخيرة بقي إما الحظر وإما الوجوب والحظر منتف بالإجماع فتعين الوجوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 فإن قيل القضاء هو الإلزام والأمر قد يرد بمعنى شئ فقوله إذا قضى الله ورسوله أمرا أي إذا ألزم الله ورسوله شيئا ونحن نعترف بأن الله تعالى إذا ألزمنا شيئا فإنه يكون واجبا علينا ولكن لم قلت إنه بمجرد أن يأمرنا بالشئ فقد ألزمنا فإن ذلك عين المتنازع في والجواب قد بينا أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص وليس حقيقة في الشئ دفعا للاشتراك ولا ضرورة ها هنا في صرفه عن ظاهره إذا ثبت هذا فقوله إذا قضى الله ورسوله أمرا معناه إذا ألزم الله أمرا وإلزام الأمر هو توجيهه على المكلف شاء أم أبى وإلزام الأمر غير إلزام المأمور به فإن القاضي إذا قضى بإباحة شئ فقد ثبت إلزام الحكم ولو لم يثبت المحكوم به فكذا هاهنا إلزام الأمر عبارة عن توجيهه على المكلف والقطع بوقوع ذلك الأمر ثم الأمر إن لم يقتض الوجوب لم يكن إلزام الأمر إلزاما للمأمور به وإن كان مقتضبا للوجوب فهو الذي قلناه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 الدليل الرابع تارك ما أمر الله أو رسوله به مخالف لذلك الأمر ومخالف ذلك الأمر مستحق للعقاب فتارك ما أمر الله أو رسوله به مستحق للعقاب ولا معنى لقولنا الأمر للوجوب إلا ذلك وإنما قلنا إن تارك ما أمر الله أو رسوله به مخالف لذلك الأمر لأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه والمخالفة ضد الموافقة فكانت مخالفة ألأمر عبارة عن الإخلال بمقتضاه فثبت أن تارك ما أمر الله أو رسوله به مخالف لذلك الأمر وإنما قلنا إن مخالف ذلك الأمر يستحق العقاب لقوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم أمر مخالف هذا الأمر بالحذر عن العذاب والأمر بالحذر عن العذاب إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب فدل على أن مخالف أمر الله أو أمر رسوله قد وجد في حقه ما يقتضي نزول العذاب به فإن قيل لا نسلم أن تارك المأمور به مخالف للأمر قوله موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 قلنا لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه وما الدليل عليه ثم إنا نفسر موافقة الأمر بتفسيرين آخرين أحدهما أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب وأنت تأتي به على سبيل الوجوب كان هذا مخالفة للأمر وثانيهما أن موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكون ذلك الأمر حقا واجب القبول ومخالفته عبارة عن إنكار كونه حقا وجاب القبول سلمنا أن ما ذكرتم يدل على أن مخالفة الأمر عبارة عن ترك مقتضاه لكن ها هنا ما يدل على أنه ليس كذلك فإنه لو كان ترك المأمور به عبارة عن مخالفة الأمر لكان ترك المندوب مخالفة لأمر الله تعالى وذلك باطل لأن وصل الإنسان بأنه مخالف لأمر لله تعالى اسم ذم فلا يجوز إطلاقه على تارك المندوب سلمنا أن تارك المندوب مخالف للأمر فلم قلت إن مخالف الأمر مستحق للعقاب أما قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره الآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 قلنا لا نسلم أن هذه الآية دالة على أمر من يكون مخالفا للأمر بالحذر بل هي دالة على الأمر بالحذر عن مخالف الأمر فلم لا يجوز أن تكون كذلك سلمنا ذلك ولكنها دالة على أن المخالف عن الأمر يلزمه الحذر فلم قلت إن مخالف الأمر يلزمه الحذر فإن قلت لفظة عن صلة زائدة قلت الأصل في الكلام الاعتبار لا سيما في كلام الله تعالى فلا يكون زائدا سلمنا دلالة الآية على أن مخالف الأمر مأمور بالحذر عن العذاب فلم قلت يجب عليه الحذر عن العذاب أقصى ما في الباب أنه ورد الأمر به لكن لم قلت أن الأمر للوجوب فإن ذلك أول المسألة فإن قلت هب أنه لا يدل على وجوب الحذر لكن لا بد وأن يدل على حسن الحذر وحسن الحذر إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب قلت لا نسلم أن حسن الحذر مشروط بقيام ما يقتضي نزول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 العذاب بل الحذر يحسن عند احتمال نزول العذاب وعندنا مجرد الاحتمال قائم لأن هذه المسألة اجتهادية لا قطعية سلمنا دلالة الآية على قيام ما يقتضي نزول العذاب لكن لا في كل أمر بل في أمر واحد لأن قوله عن أمره لا يفيد إلا أمرا واحدا وعندنا أن أمرا واحدا يفيد الوجوب عمرو فلم قلت إن كل أمر كذلك سلمنا أن كل أمر كذلك لكن الضمير في قوله عن أمره يحتمل عوده إلى الله تعالى وعوده إلى رسوله فالآية لا تدل على أن الأمر للوجوب إلا في حق أحدهما فلم قلت إنه في حق الاخر كذلك والجواب قوله لم قلت إن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه قلنا الدليل عليه أن العبد إذا امتثل أمر السيد حسن أن يقال هذا العبد موافق للسيد ويجري على وفق أمره ولو لم يمتثل أمره يقال إنه ما وافقه بل خالفه وحسن هذا الإطلاق من أهل اللغة معلوم بالضرورة فثبت أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه قوله الموافقة عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر قلنا لما سلمتم أن موافقة الأمر لا تحصل إلا عند الإتيان بمقتضى الأمر فنقول لا شك أن مقتضى الأمر هو الفعل لأن قوله إفعل لا يدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 إلا على اقتضاء الفعل فإذا لم يوجد الفعل لم يوجد مقتضى الأمر وإذا لم يوجد مقتضى الأمر لم توجد الموافقة وإذا لم توجد موافقة الأمر حصلت مخالفته لأنه ليس بين الموافقة والمخالفة واسطة قوله الموافقة عبارة عن اعتقاد كون ذلك الأمر حقا واجب القبول قلنا هذا لا يكون موافقة للأمر بل موافقة للدليل الدال على أن ذلك الأمر حق فإن موافقة الشئ عبارة عما يستلزم تقرير مقتضاه فإذا دل الدليل على حقية الأمر كان الاعتراف بحقيته مستلزما تقرير مقتضى ذلك الدليل أما الأمر فلما اقتضى دخول ذلك الفعل في الوجود كانت موافقته عبارة عما تقرر دخوله في الوجود وإدخاله في الوجود يقرر دخوله في الوجود فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل مقتضاه قوله لو كانت مخالفة الأمر عبارة عن ترك المأمور به لكنا إذا تركنا المندوب فقد خالفنا الأمر قلنا هذا الإلزام إنما يصح لو كان المندوب مأمورا به وإنما يكون المندوب مأمورا به لو ثبت أن الأمر ليس للوجوب وهذا عين المتنازع فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 قوله لم لا يجوز أن يكون قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أمرا بالحذر عن المخالف لا أمرا للمخالف بالحذر قلنا الدليل عليه وجوه أحدها أن النحويين اتفقوا على أن تعلق الفعل بفاعله أقوى من تعلقه بمفعوله فلو جعلناه أمرا للمخالف بالحذر لكنا قد أسندنا الفعل إلى الفاعل ولو جعلناه أمرا بالحذر عن المخالف لكنا قد أسندنا الفعل إلى المفعول فيكون الأول أولى وثانيها لو جعلناه أمرا بالحذر عن المخالف لم يتعين المأمور به فإن قلت المأمور به هو ما تقدم وهو قوله الذين يتسللون منكم لواذا قلت المتسللون منهم لواذا هم الذين خالفوا فلو أمروا بالحذر عن المخالف لكانوا قد أمروا بالحذر عن أنفسهم وهو لا يحوز وثالثها إنا لو جعلناه أمرا بالحذر عن المخالف لصار التقدير فليحذر المتسللون لواذا عن الذين يخالفون أمره وحينئذ يبقى قوله أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ضائعا لأن الحذر ليس فعلا يتعدى إلى مفعولين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 قوله الآية دالة على وجوب الحذر عمن خالف عن الأمر لا عمن خالف الأمر قلنا قال النحاة كلمة عن للبعد والمجاوزة يقال جلس عن يمينه أي متراخيا عن بدنه في المكان الذي بحيال يمينه فلما كانت مخالفة أمر الله تعالى بعدا عن أمر الله تعالى لا جرم ذكره بلفظ عن قوله لم قلت إن قوله تعالى فليحذر يدل على وجوب الحذر عن العذاب قلنا لا ندعي وجوب الحذر عن العقاب ولكنه لا أقل من أن يدل على جواز الحذر وجواز الحذر عن الشئ مشروط بوجود ما يقتضي وقوعه لأنه لو لم يوجد المقتضي لوقوعه لكان الحذر عنه حذرا عما لم يوجد ولم يوجد المقتضى لوقوعه وذلك سفه وعبث فلا يجوز ورود الأمر به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 قوله دلت الآية على أن مخالف أمر الله يستحق العقاب أو على أن مخالف كل أمر يستحق العقاب قلنا دلت على الثاني لوجوه الأول أنه يجوز استثنار قبل كل واحد من أنواع المخالفات نحو أن يقول فليحذر الذين يخالفون عن أمره إلا مخالفة الأمر الفلاني والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه وذلك يفيد العموم الثاني أنه تعالى رتب استحقاق العقاب على مخالفة الأمر وترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية الثالث أنه لما ثبت أن مخالف الأمر في بعض الصور يستحق العقاب فنقول إنما استحق العقاب لأن مخالفة الأمر تقتضي عدم المبالاة بالأمر وذلك يناسبه الزجر وهذا المعنى قائم في كل المخالفات فوجب ترتب العقاب على الكل قوله هب أن أمر الله أو أمر الله، أو رسوله للوجوب - فلم قلتم: إن أمر الآخر كذلك قلنا: لأنه لا قائل بالفرق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 الدليل الخامس تارك المأمور به عاص وكل عاص يستحق العقاب فتارك المأمور به يستحق العقاب ولا معنى للوجوب إلا ذلك بيان الأول قوله تعالى ولا أعصي لك أمرا أفعصيت أمري لا يعصون الله ما أمرهم بيان الثاني قوله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا الدا فيها فإن قيل لا نسلم أن تارك المأمور به عاص وبيانه من وجوه ألأول قوله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون فلو كان العصيان عبارة عن ترك المأمور به لكان معنى قوله لا يعصون الله ما أمرهم أنهم يفعلون ما يؤمرون به فكان قوله ويفعلون ما يؤمرون تكرارا الثاني أجمع المسلمون على أن الأمر قد يكون أمر إيجاب وقد يكون أمر استحباب وتارك المندوب غير عاص وإلا لاستحق النار لما ذكرتموه فعلمنا أن المعصية ليست عبارة عن ترك المأمور به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 سلمنا أن المعصية عبارة عن ترك ترك المأمور به لكن إذا كان الأمر أمر إيجاب أو مطلقا الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن قوله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم حكاية حال فيكفي في تحقيقها تنزيلها على صورة واحدة فلعل ذلك الأمر كان أمر إيجاب فلا جرم كان تركه معصية سلمنا أن تارك المأمور به عاص مطلقا فلم قلت إن العاصي يستحق العقاب والآية المذكورة مختصة بالكفار لقرينة الخلود والجواب قد بينا أن تارك المأمور به عاص قوله لو كان كذلك لكان قوله ويفعلون ما يؤمرون تكرارا قلنا لا نسلم بل معنى الآية والله أعلم لا يعصون الله ما أمرهم به في الماضي ويفعلون ما يؤمرون به في المستقبل قوله الأمر قد يكون أمر استحباب قلنا لا نسلم كون المستحب مأمورا به حقيقة بل مجازا لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 الاستحباب لازم للوجوب وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز فإن قلت ليس الحكم بكون هذه الصيغة للوجوب محافظة على عموم قوله ومن يعص الله ورسوله أولى من القول بأن المستحب مامور به محافظة على صيغ الأوامر الواردة في المندوبات قلت بل ما ذكرناه أولى للاحتياط ولأنا لو حملناه على الوجوب لكان أصل الترجيح داخلا فيه فيكون لازما للمسمى فيجوز جعله مجازا في أصل الترجيح أما لو جعلناه لأصل الترجيح لم يكن الوجوب لازما له فلا يمكن جعله مجازا عن الوجوب فكان الأول أولى قوله هذه الآية حكاية حال قلنا الله تعالى رتب اسم المعصية على مخالفة الأمر فيكون المتقضي لاستحقاق هذا الاسم هذا المعنى فيعم الاسم لعموم ما يقتضي استحقاقه قوله الآية مختصة بالكفار بقرينة الخلود قلنا الخلود هو المكث الطويل لا الدائم والله أعلم واعلم أن هذا الدليل قد يقرر على وجه آخر فيقال إنما قلنا إن تارك المأمور به عاص لأن بناء لفظة العصيان على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 الامتناع ولذلك سميت العصا عصا لأنه يمتنع بها وتسمى الجماعة عصا يقال شققت عصا المسلمين أي جماعتهم لأنها يمتنع بكثرتها وهذا كلام مستعص على الحفظ أي ممتنع وهذا الحطب مستعص على الكسر وقال عليه الصلاة والسلام لولا أنا نعصي الله لما عصانا أي لم يمتنع عن إجابتنا فثبت أن العصيان عبارة عن الامتناع عما يقتضيه الشئ وإذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 كان لفظ إفعل مقتضيا للفعل كان عدم الإتيان به والامتناع منه عصيانا لا محالة وإنما قلنا إن تسمية تارك المأمور به بالعاصي تدل على أن الأمر للوجوب لوجهين أحدهما أن الإنسان إنما يكون عاصيا للأمر وللآمر إذا أقدم على ما يحظره الآمر ويمنع منه ألا ترى أن الله تعالى لو أوجب علينا فعلا فلم نفعله لكنا عصاة ولو ندبنا إليه فقال ألأولى أن تفعلوه ولكم أن لا تفعلوه فلم نفعله لم نكن عصاة ولهذا يوصف تارك الواجب بأنه عاص لله تعالى ولا يوصف تارك النوافل بذلك الثاني أن العاصي للقول مقدم على مخالفته وترك موافقته فليس تخلو مخالفته إما أن تكون بالإقدام على ما يمنع منه الأمر فقط أو قد تثبت بالإقدام على ما لا يتعرض له الأمر بمنع ولا إيحاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وهذا الثاني باطل لأنا لو كنا عصاة للأمر بفعل ما نمنع منه لوجب إذا أمرنا الله بالصلاة غدا فتصدقنا اليوم أن نكون عصاة لذلك الأمر بتصدقنا يحيى اليوم فبان أن مخالفة الأمر إنما تثبت بالإقدام على ما يمنع منه فإذا كان تارك ما أمر به عاصيا للأمر والعاصي للأمر هو المقدم على مخالفة مقتضاه فالمقدم على مخالفة مقتضاه مقدم على ما يحظره الآمر ويمنع منه ثبت أن ترك المأمور به يحظره الآمر ويمنع منه وهذا هو معنى الوجوب الدليل السادس أنه عليه الصلاة والسلام دعا أبا سعيد الخدري فلم يجبه لأنه كان في الصلاة فقال ما منعك أن تستجيب وقد سمعت قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول فذمه على ترك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 الاستجابة عند مجرد ورود الأمر فلولا أن مجرد الأمر للوجوب وإلا لما جاز ذلك فإن قيل هذا خبر واحد فلا يجوز التمسك به في مسألة علمية وأيضا فالنبي ص ما ذمه ولكنه راد أن يبين له أن دعاءه ص مخالف لدعاء غيره والجواب عن الأول أنا بينا أن المباحث اللفظية لا يرجى فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 اليقين وهذه المسألة وإن لم تكن في نفسها عملية لكنها وسيلة إلى العمل فيجوز التمسك فيها بالظن لأنه لا فرق في العقل بين أن يحصل ظن الحكم وبين أن يحصل العلم بوجود ما يقتضي ظن الحكم في جواز التمسك بهما في العمليات وعن الثاني أن بتقدير أن لا يدل الأمر على الوجوب يكون المانع من الأجابة قائما وهو الصلاة فإنها تحرم الكلام وإذا كان المانع الظاهر قائما لم يجز من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يسأل عن المانع بلى إذا كان قوله تعالى استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم يفيد الوجوب فحينئذ يصح السؤال وأيضا فظاهر الكلام يقتضي اللوم وهو في معنى الأخبار عن نفي العذر وذلك لا يكون إلا والأمر للوجوب الدليل السابع هو قوله عليه الصلاة والسلام لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 وكلمة لولا تفيد انتفاء الشئ لوجود غيره فها هنا تفيد انتفاء الأمر لوجود المشقة فهذا الخبر يدل على أنه لم يوجد الأمر بالسواك عند كل صلاة والإجماع قائم على أن ذلك مندوب فلو كان المندوب مأمورا به لكان الأمر قائما عند كل صلاة فلما لم يوجد الأمر علمنا أن المندوب غير مأمور به فإن قلت لم لا يجوز أن يقال هذا الوجه أمارة تدل على أنه أراد لأمرتهم به على وجه يقتضي الوجوب وليس يمتنع أن يقتضي الأمر الوجوب بدلالة أخرى قلت كلمة لولا دخلت على الأمر فوجب أن لا يكون الأمر حاصلا والندب حاصل فوجب أن لا يكون الندب أمرا وإلا لزم التناقض الدليل الثامن خبر بريرة فإنها قالت لرسول الله ص أتأمرني بذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 فقال لا إنما أنا شفيع نفى الأمر مع ثبوت الشفاعة الدالة على الندب ونفي الأمر عند ثبوت الندبية يدل على أن المندوب غير مأمور به وإذا كان كذلك وجب أن لا يتناول الأمر الندب الدليل التاسع إن الصحابة تمسكوا بالأمر على الوجوب ولم يظهر من أحد منهم الإنكار عليه وذلك يدل على أنهم أجمعوا على أن ظاهر الأمر للوجوب وإنما قلنا إنهم تمسكوا بالأمر على الوجوب لأنهم أوجبوا أخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 الجزية من المجوس لما روى عبد الرحمن أنه عليه الصلاة والسلام قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب وأوجبوا غسل الإناء من ولوغ الكلب بقوله عليه الصلاة والسلام فليغسله سبعا وأوجبوا إعادة الصلاة عند ذكرها بقوله عليه الصلاة والسلام فليصلها إذا ذكرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وأما أنه لم يظهر من أحد منهم إنكار عليه وأنه متى كان كذلك فقد حصل الإجماع فتمام تقريرهما مذكور في كتاب القياس فإن قيل كما اعتقدوا الوجوب عند هذه الأوامر فإنهم لم يعتقدوا عند غيرها نحو قوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم وقوله فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء وقوله وإذا حللتم فاصطادوا وإذا ثبت هذا فليس القول بأنهم لم يعتقدوا الوجوب في هذه الأوامر لدليل منفصل بأولى من القول بأنهم إنما اعتقدوا الوجوب في تلك الأوامر لدليل متصل والجواب أن نقول لو لم يكن الأمر للوجوب لامتنع أن يفيد الوجوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 في صورة أصلا ولو لم يفد الوجوب في شئ من الصور أصلا لكان دليلهم على وجوب أخذ الجزية شيئا غير خبر عبد الرحمن ولو كان كذلك لوجب اشتهار ذلك الدليل وحيث لم يشتهر علمنا أنه لو يوجد ولما لم يوجد كان دليلهم على وجوب أخذ الجزية ظاهر الأمر أما لو قلنا بأن الأمر للوجوب لم يلزم من عدم الوجوب في بعض الأوامر أن لا يفيد الوجوب أصلا لاحتمال أن يقال الحكم تخلف ها هنا لمانع فثبت أن الاحتمال الذي ذكرناه أولى الدليل العاشر لفظ إفعل إما أن يكون حقيقة في الوجوب فقط أو في الندب فقط أو فيهما معا أولا في واحد منهما والأقسام الثلاثة الأخيرة الرحمن باطلة فتعين الأول وهو أن يكون للوجوب فقط وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون للندب فقط لأنه لو كان للندب فقد لما كان الواجب مأمورا به فيمتنع أن يكون الأمر للندب فقط بيان الملازمة أن المندوب هو الراجح فعله مع جواز الترك والواجب هو الراجح فعله مع المنع من الترك فالجمع بينهما محال فلو كان الأمر للندب فقط لم يكن الواجب مأمورا به فإن قلت لو كان للوجوب فقط لما كان المندوب مأمورا به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 قلت ألتزم هذا لأن كثيرا من الأصوليين صرحوا بأن المندوب غير مأمور به ولا يمكنك أن تلتزم بأن الواجب غير مأمور به لأن أحدا من الأمة لم يقل به فثبت أن الأمر لا يجوز أن يكون حقيقة في الندب فقط وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون حقيقة في الوجوب والندب معا لأنه لو كان حقيقة فيهما لكان إما أن يكون كونه حقيقة فيهما بحسب معنى مشترك بينهما كما يقال إنه حقيقة في ترجيح جانب الفعل على الترك فقط من غير إشعار بجواز الترك أو بالمنع منه أو يكون حقيقة فيهما لا بحسب معنى مشترك وألأول باطل لأنا لو جعلناه حقيقة في اصل الترجيح لم يمكن جعله مجازا في الوجوب لأن الوجوب غير ملازم لأصل الترجيح أعني القدر المشترك بين الواجب والمندوب ولو جعلناه حقيقة في الوجوب كان الترجيح جزءا من مسماه ولازما له فيمكن جعله مجازا عن أصل الترجيح وإذا كان كذلك كان جعله حقيقة في الوجوب ليكون مجازا في أصل الترجيح أولى من جعله حقيقة في اصل الترجيح مع أنه لا يكون حقيقة في الوجوب ولا مجازا فيه والثاني وهو أن يجعل حقيقة في الوجوب والندب لا بحسب معنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 مشترك بينهما فهذا يقتضي كون اللفظ مشتركا وقد عرفت أن ذلك خلاف الأصل وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يقال إنه لا يتناول الواجب ولا المندوب أصلا لأن ذلك على خلاف الإجماع ولما ثبت فساد هذه الأقسام الثلاثة تعين القول بالوجوب والله أعلم الدليل الحادي عشر أن العبد إذا لم يفعل ما أمره به سيده اقتصر العقلاء من أهل اللغة في تعليل حسن ذمه على أن يقولوا أمره سيده بكذا فلم يفعله فدل كون ذلك علة في حسن ذمه على أن تركه لما أمره به ترك للواجب فإن قيل لا نسلم أنهم إنما ذموه لمجرد الترك بل لأجل أمور أخر أحدها أنهم علموا من سيده أنه كره ترك ذلك الفعل وثانيها أن الشريعة جاءت بوجوب طاعة العبد لسيده وثالثها أن السيد لا يأمر إلا بما فيه نفعه ودفع مضرته والعبد أيضا يلزمه إيصال المنافع إلى السيد ودفع المضار عنه سلمنا أنهم ذموه لمجرد الترك لكن لا نسلم أن فعلهم صواب ويدل عليه أمران أحدهما أنه لو كان المأمور به معصية لما استحق العبد الذم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 بتركه فدل على أن مجرد الترك ليس بعلة للذم وثانيهما أن كثيرا من الأوامر ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ص بمعنى الندب فلو كان ترك المأمور به علة للذم لكان المندوب واجبا وهو محال فثبت بهذين الوجهين أن مجرد ترك المأمور به لا يمكن جعله علة للذم وإذا ثبت ذلك علمنا فساد ما ذكرتموه من أن العقلاء يعللون حسن ذمه بمجرد ترك المأمور به والجواب أن السيد إذا عاتب عبده عند عدم الامتثال فالعقلاء يقولون إنما عاتبه لأنه لم يمتثل الأمر ولولا أن علة حسن العتاب نفس مخالفة الأمر وإلا لما صح هذا الكلام وبهذا يظهر أن كراهية الترك لا مدخل لها في هذا الباب أما قوله الشريعة جاءت بوجوب طاعة العبد لسيده قلنا الشريعة إنما أوجبت على العبد طاعة السيد فيما أوجبه السيد على العبد ألا ترى أن سيده لو قال له الأولى أن تفعل كذا ولك أن لا تفعله لما ألزمته الشريعة فعله والأمر عند المخالف يجري مجرى هذا القول فينبغي أن لا يجب به على العبد شئ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وأما قوله السيد لا يأمر عبده إلا بما فيه جر نفع أو دفع مضرة وذلك واجب قلنا مجرد هذا القدر لا يفيد الوجوب إلا إذا أوجبه السيد ولم يرخص في تركه ألا ترى أنه لو قال له الأولى أن تفعل كذا ويجوز أن لا تفعله جاز له أن لا يفعل وكذلك لو علم أن غيره يقوم مقامه في دفع المضرة قوله يشترط في جواز هذا التعليل أن لا يكون المأمور به معصية قلنا هب أن هذا الشرط معتبر ولكن يجب فيما وراءه إجراء اللفظ على ظاهره قوله لو كان ترك المأمور به علة للذم لما جاز ترك المندوب قلنا هذا إنما يصح لو كان المندوب مأمورا به وهذا أول المسألة والله أعلم الدليل الثاني عشر لفظ إفعل دال على اقتضاء الفعل ووجوده فوجب أن يكون مانعا من نقيضه قياسا على الخبر فإنه لما دل على المعنى كان مانعا من نقيضه والجامع بين الصورتين أن اللفظ لما وضع لإفادة معنى فلا بد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 أن يكون مانعا من النقيض تكميلا لذلك المقصود وتقوية لحصوله فإن قيل لا نزاع في أن ما دل على شئ فإنه يمنع من نقيضه لكن لم لا يجوز أن يقال مدلول قوله إفعل هو أن الأولى إدخاله في الوجود فلا جرم يمنع من عدم هذه الأولوية والجواب أن الفعل مشتق من المصدر فإشعاره وكان لا يكون إلا بالمصدر والمصدر في قولنا ضرب يضرب إضرب هو الضرب لا أولوية الضرب فإشعار روى لفظ الخبر والأمر بالضرب لا بأولوية الضرب وإذا كان إشعار الأمر والخبر ليس بأولوية الضرب بل بنفس الضرب وثبت أن المشعر بالشئ مانع من نقيضه وجب أن يكون لفظ إضرب مانعا من عدم الضرب لا من عدم أولوية الضرب ولأجل هذا كان الخبر مانعا من النقيض والله أعلم الدليل الثالث عشر الأمر يفيد رجحان الوجود على العدم وإذا كان كذلك وجب أن يكون مانعا من الترك وإنما قلنا إنه يفيد الرجحان لأن المأمور به إن لم تكن مصلحته راجحة إما أن يكون خاليا عن المصلحة أو تكون مصلحته مرجوحة أو تكون مساوية للمفسدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 فإن كان خاليا عن المصلحة كان محض المفسدة فلا يجوز ورود الأمر به وإن كانت مصلحته مرجوحة فذلك القدر من المصلحة يصير معارضا بمثله من المفسدة فيقى القدر الزائد من المفسدة خاليا عن المعارض فيكون ورود الأمر به أمرا بالمفسدة الخالصة فيعود إلى القسم الأول وإن كانت مصلحته معادلة لمفسدته ولم كان ذلك عبثا وهو غير لائق بالحكيم وإذا بطلت هذه الأقسام لم يبق إلا أن تكون مصلحة خالية عن المفسدة وإن كان فيه شئ من المفاسد ولكن تكون مصلحته زائدة وعلى التقديرين يثبت رجحان المصلحة وإذا ثبت هذا فنقول وجب أن لا يرد الإذن بالترك لأن الإذن في تفويت المصلحة الراجحة إذن في تفويت المصلحة الخالصة لأنه إن وجدت مفسدة مرجوحة فتصير هي معارضة بما يعادلها من المصلحة فيبقى القدر الزائد من المصلحة مصلحة خالصة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وإن لم توجد مفسدة أصلا كانت المصلحة خالصة فيكون الإذن في تفويته إذنا في تفويت المصلحة الخالصة عن شوائب المفسدة وذلك غير جائز عرفا فوجب أن لا يجوز شرعا لقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح فمقتضى هذه الدلالة أن لا يوجد شئ من المندوبات ألبتة ترك العمل به في حق البعض تخفيفا من الله تعالى على العباد فوجب أن يبقى الباقي على حكم الأصل فإن قيل ما ذكرتموه معارض بوجه آخر وهو أنه كما أن الإذن في تفويت المصلحة الخالصة قبيح عرفا فكذا إلزام المكلف استيفاء المصلحة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 بحيث لو لم يستوفها لاستحق العقاب قبيح أيضا لأنه يصير حاصل الأمر أن يقول الشرع استوف هذه المنافع لنفسك وإلا عاقبتك وهذا قبيح والجواب ما ذكرتموه قائم في كل التكاليف فلو كان ذلك معتبرا لما ثبت شئ من التكاليف الدليل الرابع عشر لا شك أن الأمر يدل على رجحان طرف الوجود على طرف العدم فنقول هذا الرجحان لا ينفك عن قيدين أحدهما المنع من الترك والآخر الإذن في الترك ولا شك أن إفضاء المنع من الترك إلى الوجود أكثر من إفضائه إلى العدم ولا شك أن إفضاء الإذن في الترك إلى العدم أكثر من إفضائه إلى الوجود ولا شك أن الذي يكون أكثر إفضاء إلى الشئ الراجح راجح في الظن على ما يكون أكثر إفضاء إلى المرجوح فإذن شرعية المنع من الترك راجح في الظن على شرعية الإذن في الترك والراجح في الظن واجب العمل به النص والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام أنا أقضي بالظاهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وأما المعقول فمن وجهين الأول أن أحد النقيضين إذا كان راجحا على الآخر في الظن فلم يعمل بالراجح لوجب العمل بالمرجوح فيكون ذلك ترجيحا للمرجوح على الراجح وإنه غير جائز بالضرورة الثاني أنه وجب العمل بالفتوى والشهادة وقيم المتلفات وأروش الجنايات وتعيين القبلة عند حصول الظن وإنما وجب العمل به ترجيحا للراجح على المرجوح وذلك المعنى حاصل ها هنا قوجب بين العمل به الدليل الخامس عشر الوجوب ينبغي أن تكون له صيغة مفردة في اللغة وتلك الصيغة هي إفعل فوجب أن تكون إفعل للوجوب إنما قلنا إن الوجوب له صيغة مفردة في اللغة لأن الوجوب معنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 تشتد الحاجة إلى التعبير عنه والناس قادرون على الوضع والمانع زائل ظاهرا والقادر إذا دعاه الداعي إلى الفعل حال عدم المانع وجب حصول الفعل منه فثبت أن الوجوب له صيغة مفردة في اللغة وإنما قلنا إن تلك الصغية هي صيغة إفعل لأن تلك الصيغة إما أن تكون صيغة إفعل أو غيرها والثاني باطل بالإجماع أما عند الخصم فلأنه ينكر ذلك على الإطلاق وأما عندنا فلأنا لا نقول به في غير صيغة إفعل وإذا بطل هذا القسم ثبت القسم الأول وإلا لكانت اللغة خالية عن لفظة مفردة دالة على الوجوب مع ان الدليل قد دل على وجودها فإن قيل لا نسلم أن الوجوب له صيغة في اللغة قوله الداعي قائم قلنا لا نسلم أن الداعي قائم قوله الوجوب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه قلنا لا نسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 سلمناه لكن لم قلت إنه لا بد من تعريفه باللفظ ولم لا تكفي فيه قرينة الحال سلمنا شدة الحاجة إلى لفظ يدل عليه، لكنه قد وجد - وهو: قوله: أوجبت وألزمت وحتمت فإن ادعيت أنه لا بد من اللفظ المفرد طالبناك أهل بالدلالة عليه سلمنا قيام الدلالة وحصول الداعي فلم قلت إنه لا مانع ثم نقول المانع هو أن اللغات توقيفية لا حديث اصطلاحية وإذا كان كذلك كانوا ممنوعين من وضع الألفاظ للمعاني سلمنا قيام الداعي وزوال المانع فلم قلت بأنه يجب الفعل ثم نقول ما ذكرتموه من الدليل منقوض ومعارض أما النقض فلأن الحاجة إلى وضع لفظ يدل على الحال ولفظ آخر يدل على الاستقبال على التعيين شديدة مع أنه لم يوجد ذلك في اللغة وأيضا فأصناف الروائح مختلفة والحاجة إلى تعريفها شديدة مع أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 لم توضع لها ألفاظ مفردة وكذا أصناف الاعتمادات متميزة مع أنه لم توضع لها ألفاظ مفردة وأما المعارضة فمن وجهين أحدهما أن الوجوب كما أنه معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه فكذا أصل الترجيح أعني القدر المشترك بين الوجوب والندب والندب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه فوجب أن يضعوا له لفظا ولا لفظ له سوى إفعل فوجب كونه موضوعا له ومن قال إنه للندب وحده قال الندبية معنى تشتد الحاجة إلى تعريفها فلا بد من لفظ ولا لفظ سوى هذا فوجب كونه للندب ومن قال بالاشتراك قال قد يحتاج إلى التعبير عن أحد هذين الأمرين على سبيل الإبهام فلا بد من لفظ ولا لفظ له إلا هذا فوجب كونه موضوعا لهما بالاشتراك وثانيهما أن الوجوب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه فلو كانت صيغة إفعل موضوعة له وجب أن يعرف ذلك كل أحد ولو عرفه كل أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 لزال الخلاف فلما لم يزل علمنا أنه غير موضوع له سلمنا أنه لا بد من لفظ وأن ذلك اللفظ هو إفعل فلم لا يجوز أن يكون موضوعا للندب أيضا بالاشتراك ثم نقول الدليل الذي ذكرتموه يقتضي إثبات اللغة بالقياس وهو غير جائز والجواب قوله لا نسلم شدة الحاجة إلى التعبير عن معنى الوجوب قلنا الدليل عليه أن الإنسان الواحد لا يستقل بإصلاح كل ما يحتاج إليه بل لا بد من الجمع العظيم حتى يعين كل واحد منهم صاحبه في مهمة لتنتظم مصلحة الكل وإذا احتاج الإنسان إلى فعل يفعله الغير لا محالة وأن ذلك الغير لا يعلم منه ذلك إلا إذا عرفه فحينئذ يحتاج إلى أن يعرفه أنه لا بد وأن ياتي بذلك الفعل وأنه لا يجوز له الإخلال به فثبت أن هذا المعنى مما تشتد الحاجة إلى تعريفه قوله هب أنه لا بد من تعريفه فلم قلت إن ذلك التعريف لا يحصل إلا باللفظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 قلنا لأنهم إنما اتخذوا العبارات معرفات لما في الضمائر دون غيرها لأجل أن الإتيان بالعبارات أسهل من الإتيان بغيرها وهذا المعنى قائم في مسألتنا فوجب القول به قوله لم لا يكفي فيه قوله أوجبت وألزمت قلنا لأن اللفظ المفرد أخف على اللسان من المركب فيغلب على الظن أن الواضع وضع لفظا مفردا لهذا المعنى قياسا على سائر الألفاظ المفردة قوله لم قلت إنه لا مانع قلنا لأن الموانع بأسرها كانت معدومة والأصل بقاء ذلك العدم فيحصل من هذا ظن أنه لا مانع والدليل الذي ذكرناه ظني فيكون ذلك كافيا في تقريره قوله اللغات توفيقية فلعلهم منعوا عن الوضع قلنا الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان والأصل عدم التوقيف وعدم المنع من الوضع فيحصل ظن بقاء ذلك قوله لم قلت إنه إذا وجد الداعي في حق القادر وانتفى الصارف وقع الفعل قلنا الدليل عليه أن القادر على الفعل إن لم يكن متمكنا من الترك فقد تعين الفعل وإن كان متمكنا من الترك فعند الداعي إما أن يترجح أو لا يترجح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 فإن لم يترجح البتة لم يكن الداعي داعيا وذلك محال وإن ترجح وجب الوقوع وتمام تقرير هذا الكلام في كتبنا العقلية وأما النقوض فهي مندفعة لأنا لا نسلم أن اشتداد الحاجة إلى تعيين الحال والاستقبال والروائح المخصوصة والاعتمادات المخصوصة مساوية لاشتداد الحاجة إلى التعبير عن معنى الإلزام فإن الإنسان قد تمر عليه مدة طويلة ولا يحتاج إلى التعبير عن تلك الاشياء مع أنه في كل لحظه يحتاج إلى التعبير عن معنى الوجوب وأما المعارضة الآولى فجوابها أنا لو جعلنا اللفظ حقيقة في الوجوب كان الترجيح لازما للمسمى فأمكن جعله مجازا عن الترجيح أما لو جعلناه حقيقة في الترجيح لم يكن الوجوب لازما للمسمى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 فلا يمكن جعله مجازا عنه فكان ذلك أولى قوله الحاجة إلى التعبير عن الندبية شديدة قلنا لكن الوجوب أولى لأن الواجب لا يجوز الإخلال به والمندوب يجوز الإخلال به والإخلال ببيان ما يجوز الإخلال به أولى من الإخلال ببيان ما لا يجوز الإخلال به وأما المعارضة الثانية فهي أن اللفظ لو كان للوجوب لاشتهر قلنا هذا إنما يلزم لو سلم عن المعارض أما إذا كان له معارض ولم يظهر الفرق بينه وبين معارضه إلا على وجه مخصوص غامض لم يلزم ذلك قوله هب أن لفظ أفعل موضوع للوجوب فلم لا يجوز أن يكون موضوعا للندب أيضا بالاشتراك قلنا لما تقدم أن الاشتراك على خلاف الأصل قوله هذا إثبات اللغة بالقياس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 قلنا سنبين في كتاب القياس إن شاء الله تعالى أنه جائز الدليل السادس عشر حمله على الوجوب يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر وحمله على الندب يقتضي الشك فيه فوجب حمله على الوجوب وإنما قلنا إن حمله على الوجوب يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر لأن المأمور به إما أن يكون واجبا أو مندوبا فإن كان واجبا فحمله على الوجوب يقتضي القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر وإن كان مندوبا فالقول بوجوبه سعي في تحصيل ذلك المندوب بأبلغ الوجوه وذلك يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر فإذن على كلا التقديرين هو غير مقدم على مخالفة الأمر أما لو حملناه على الندب فبتقدير أن يكون المأمور به مندوبا حصل القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر أما لو كان واجبا ونحن قد جوزنا له الترك كان ذلك الترك مخالفة للأمر فثبت إن حمله على الندب يقتضي الشك في كونه مخالفا للأمر وإذا ثبت هذا فنقول وجب حمله على الوجوب للنص والمعقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وأما المعقول فهو أنه إذا تعارض طريقان أحدهما آمن قطعا والآخر مخوف كان ترجيح الآمن على المخوف من موجبات العقول فإن قيل لا نسلم أن حمله على المندوب يقتضي الشك في الإقدام على المحظور قوله لأنه بتقدير أن يكون المأمور به واجبا كان حمله على الندب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 سعيا في الترك وإنه محظور قلنا لا نسلم أنه يمكن أن يكون المأمور به واجبا فإنا لو علمنا بدلالة لغوية أن الأمر ما وضع للوجوب وعلمنا أن الحكيم لا يجوز أن يجرده عن قرينه إلا والمأمور به غير واجب فإذا حملته على الندب أمنت الضرر سلمنا قيام هذا الاحتمال ولكن حمله على الوجوب فيه أيضا احتمال للضرر لأن بتقدير أن لا يكون الحق هو الوجوب كان اعتقاد كونه واجبا جهلا وتكون نية الوجوب قبيحة وكراهة أضداده قبيحة والجواب إذا علمنا أن لفظ إفعل لا يجوز استعماله إلا في أحد المعنيين إما الوجوب أو الندب فقبل أن يعلم ما يدل على كونه للوجوب فقط أو للندب فقط أولهما معا فإنا إذا حملناه على الوجوب قطعنا بأنا ما خالفنا الأمر وإذا حملناه على الندب لم نقطع بذلك فإذن قبل أن يعلم ما يدل على كونه للوجوب فقط أو للندب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 فقط يقتضي العقل حمله على الوجوب ليحصل القطع بعدم المخالفة ثم بعد ذلك قيام الدليل على أنه للندب إشارة إلى المعارض من ادعاه فعليه الدليل قوله حمله على الوجوب يقتضي احتمال الجهل قلنا ما ذكرتموه إشارة إلى احتمال الخطأ في الاعتقاد وهو قائم في الطرفين وما ذكرناه فهو احتمال الخطأ في العمل وهو حاصل على تقدير الندب دون تقدير الوجوب وإذا اشترك الطرفان في أحد نوعي الخطأ واختص أحدهما بمزيد خطأ كان الجانب الخالي عن هذا الخطأ الزائد أولى بالاعتبار والله أعلم واحتج من أنكر كون الأمر للوجوب بأمور أحدها أن العلم بكون الأمر للوجوب إما أن يكون عقليا أو نقليا فالأول باطل لأن العقل لا مجال له في اللغات وأما النقل فإما أن يكون تواترا أو آحادا والتواتر باطل وإلا لعرف كل واحد بالضرورة أنه للوجوب والآحاد باطل لأن المسألة علمية ورواية الآحاد لا تقيد العلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 وهذه الحجة يحتج بها من يقول لا أدري أن اللفظ موضوع للوجوب فقط أو للندب فقط أولهما معا لأنه لو ادعى الاشتراك أو الندبيه لزمه أو يقال العلم بالاشتراك أو بالندبية إنما يستفاد من العقل أو النقل إلى آخر التقسيم وثانيها أن أهل اللغة قالوا لا فرق بين الأمر والسؤال إلا من حيث الرتبة وذلك يقتضي اشتراكهما في جميع الصفات سوى الرتبة فكما أن السؤال لا يدل على الإيجاب بل يفيد الندبية فكذلك الأمر وثالثها أن لفظ أفعل وارد في كتاب الله وسنة رسوله في الوجوب والندب والاشتراك والمجاز على خلاف الأصل فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك وهو أصل الترجيح والدال على ما به الاشتراك غير الدال على ما به الامتياز لا بالوضع ولا بالاستلزام فلا يكون لهذه الصيغة إشعار البتة بالوجوب بل لا دلالة فيها إلا على ترجيح جانب الفعل وأما جواز الترك فقد كان معلوما بالعقل ولم يوجد ما يزيل ذلك الجواز فإذن وجب الحكم بأن ذلك العقل راجح الوجود على العدم مع كونه جائز الترك ولا معنى للندب إلا ذلك والجواب عن الأول أن نقول لم لا يجوز أن يعرف ذلك بدليل مركب من النقل والعقل مثل قولنا تارك المأمور به عاص والعاصي يستحق العقاب فيستلزم العقل من تركيب هاتين المقدمتين النقليتين أن الأمر للوجوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 سلمناه فلم لا يجوز أن يثبت بالآحاد ولا نسلم أن المسألة قطعية وقد بينا أنه لا يقين في المباحث اللغوية وعن الثاني أن عندنا أن السؤال يدل على الإيجاب وإن كان لا يلزم منه الوجوب فإن السائل قد يقول للمسئول منه لا تخل بمقصودي ولا تتركه ولا تخيب رجائي فهده الألفاظ صريحة في الإيجاب وإن كان لا يلزم من هذا الإيجاب الوجوب وعن الثالث أن المجاز وان كان على خلاف الأصل لكنه قد يوجد إذا دل الدليل عليه وقد ذكرنا أن الدليل دل على كونها للوجوب فوجب المصير إليه والله أعلم المسألة الثالثة الأمر الوارد عقيب الحظر والاستئذان للوجوب خلافا لبعض أصحابنا لنا أن المقتضي للوجوب قائم والمعارض الموجود لا يصلح معارضا فوجب تحقق الوجوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 بيان المقتضي ما تقدم من دلالة الأمر على الوجوب بيان أن المعارض لا يصلح معارضا وجهان الأول أنه كما لا يمتنع الانتقال من الحظر إلى الإباحة فكذلك لا يمتنع الانتقال منه إلى الوجوب والعلم بجوازه ضروري الثاني أنه لو قال الوالد لولده أخرج من الحبس إلى المكتب فهذا لا يفيد الإباحة مع انه امر بعد الحظر الحاصل بسبب الحبس وكذا أمر الحائض والنفساء بالصلاة والصوم ورد بعد الحظر وأنه للوجوب واحتج المخالف بالآية والعرف أما الآية فقوله تعالى فإذا طعمتم فانتشروا وإذا حللتم فاصطادوا فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله وهذا النوع من الأمر في كتاب الله ما جاء إلا للإباحة فوجب كونه حقيقة فيها وأما العرف فهو أن السيد إذا منع عبده من فعل شئ ثم قال له إفعله فهم منه الإباحة والجواب عن الأول أنه يشكل بقوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين فهذا يدل على الوجوب إذ الجهاد فرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 على الكفاية وقوله تعالى لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله وحلق الرأس نسك وليس بمباح محض وعن الثاني أن العرف متعارض لأن من قال لابنه وهو في الحبس اخرج إلى المكتب فهو أمر بعد الحظر وقد يفيد الوجوب والله أعلم تنبيه القائلون بأن الأمر بعد الحظر للإباحة اختلفوا في النهي الوارد عقيب الوجوب فمنهم من طرد القياس فقال إنه للإباحة ومنهم من قال لا تأثير ها هنا للوجوب المقدم بل النهي يفيد التحريم المسألة الرابعة الأمر المطلق لا يفيد التكرار بل يفيد طلب الماهية من غير إشعار بالوحدة والكثرة إلا أن ذلك المطلوب لما حصل بالمرة الواحدة لا جرم يكتفى بها والأكثرون خالفوا فيه وهم ثلاث فرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 إحداها الذين قالوا إنه يقتضي المرة الواحدة لفظا والثانية أنه يقتضي التكرار وثالثها التوقف إما لادعاء كون اللفظ مشتركا بين المرة الواحدة والتكرار أو لأنه لا يدرى أنه حقيقة في المرة الواحدة أو في التكرار لنا وجوه أحدها أن صيغة إفعل موضوعة لطلب إدخال ماهية المصدر في الوجود فوجب أن لا تدل على التكرار ولا على المرة بيان الأول أن المسلمين أجمعوا على أن أوامر الله تعالى منها ما جاء على التكرار كما في قوله تعالى أقيموا الصلاة ومنها ما جاء لا على التكرار كما في الحج وفي حق العباد أيضا قد لا يفيد التكرار فإن السيد إذا أمر عبده بدخول الدار أو بشراء اللحم لم يعقل منه التكرار ولو ذمه السيد على ترك التكرار للامه العقلاء ولو كرر العبد الدخول لحسن من السيد أن يلومه ويقول إني قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 أمرتك بالدخول وقد دخلت فيكفي ذلك وما أمرتك بتكرار الدخول وقد يفيد التكرار فإنه إذا قال احفظ دابتي فحفظها ساعة ثم أطلقها يذم إذا ثبت هذا فنقول الاشتراك والمجاز خلاف الأصل فلا بد من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين الصورتين وما ذاك إلا طلب إدخال ماهية المصدر في الوجود وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يدل على التكرار لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الصورتين المختلفتين لا دلالة فيه على ما به تمتاز إحدى الصورتين عن الأخرى لا بالوضع ولا بالاستلزام فالأمر لا دلالة فيه البتة لا على التكرار ولا على المرة الواحدة بل على طلب الماهية من حيث هي هي إلا إنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة الواحدة فصارت المرة الواحدة من ضرورات الإتيان بالمأمور به فلا جرم دل على المرة الواحدة من هذا الوجه وثانيها أن أهل اللغة قالوا لا فرق بين قولنا يفعل وبين قولنا إفعل إلا في كون الأول خبرا والثاني طلبا ثم أجمعنا على أن قولنا يفعل يتحقق مقتضاه بتمامه في حق من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 يأتي به مرة واحدة فكذا في الأمر وإلا لحصلت بينهما تفرقة في شئ غير الخبرية والطلبية وذلك يقدح في قولهم وثالثها أن القول بالتكرار يقتضي أن تستغرق الأوقات بحيث لا يخلو وقت عن وجوب المأمور به إذ ليس في اللفظ إشعار بوقت معين فليس حمله على البعض أولى من الباقي لكن حمله على كل الأوقات غير جائز أما أولا فبالإجماع وأما ثانيا فلأنه إذا أمر بعبادة ثم أمر بغيرها لزم أن تكون الثانية ناسخة للأولى لأن الأول قد استوعب جميع الأوقات والثاني يقتضي إزالته عن بعضها والنسخ هو إزالة الحكم بعد ثبوته إلى بدل وقد حصل ذلك ها هنا وفي علمنا بأن الأمر ببعض الصلوات ليس نسخا لغيرها وأن الأمر بالحج ليس نسخا للصلاة ما يدل على فساد ما قالوا وأما ثالثا فلأنه يلزم أن يكون الأمر بغسل بعض أعضاء الوضوء نسخا لما تقدمه والأمر بالصلاة يكون نسخال عند للأمر بالوضوء وذلك لا يقوله عاقل ورابعها أنا نعلم حسن قول القائل لغيره إفعل كذا أبدا أو افعله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 مرة واحدة بلا زيادة فلو دل الأمر على التكرار لكان الأول تكرارا والثاني نقضا ولما لم يكن كذلك بطل ما قالوا احتج القائلون بالتكرار بوجوه أحدها أن الصديق رضي الله عنه تمسك على أهل الردة في وجوب تكرار الزكاة بقوله تعالى وآتوا الزكاة ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فدل على انعقاد الإجماع على أن الأمر للتكرار وثانيها أن الأمر طلب الفعل والنهي طلب الترك فإذا كان النهي الذي هو أحد الطلبين يفيد التكرار فكذا الآخر وثالثها أن الأمر لو لم يفد التكرار لما جاز ورود النسخ عليه ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 الاستثناء لأن ورود النسخ على المرة الواحدة يدل على البداء وورود الاستثناء عليها يكون نقضا ورابعها أنه ليس في لفظ الأمر تعيين زمان فلا يكون اقتضاؤه لأيقاع الفعل في زمان أولى من اقتضائه لإيقاعه في زمان آخر فإما أن لا يقتضي إيقاعه في شئ من الأزمنة وهو باطل أو في كل الأزمنة وهو المطلوب وخامسها أن الاحتياط يقتضي تكرار المأمور به لأنه بالتكرار يأمن من الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى وبترك التكرار لا يأمن منه لاحتمال أن يكون ذلك الأمر للتكرار فوجب حمله على التكرار دفعا لضرر الخوف على النفس وأما القائلون بالاشتراك بين المرة الواحدة وبين التكرار فقد احتجوا بوجهين أحدهما أنه يحسن الاستفهام فيه فيقال أردت بأمرك فعل مرة واحدة أم أكثر ولذلك قال سراقة للنبي ص أحجتنا لعامنا هذا أم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 للأبد وحسن الاستفهام دليل الاشتراك وثانيهما ورود الأمر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ص وسلم على الوجهين والأصل في الكلام الحقيقة فكان الاشتراك لازما والجواب عن الأول لعل رسول الله ص بين للصحابة أن قوله أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة يفيد التكرار فلما كان ذلك معلوما للصحابة لا جرم تمسك الصديق بهذه الآية في وجوب التكرار وعن الثاني أن الفرق من وجهين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 الأول أن الانتهاء عن الفعل أبدا ممكن أما الاشتغال به أبدا فغير ممكن فظهر الفرق والثاني أن النهي كالنقيض للأمر لأن قول القائل لغيره كن فاعلا موجود في قوله لا تكن فاعلا وإنما زاد عليه لفظ النفي فجرى مجرى قوله زيد في الدار زيد ليس في الدار وإذا كان النهي مناقضا للأمر وجب أن تكون فائدة النهي مناقضة لفائدة الأمر فإذا كان قولنا إفعل يقتضي إيقاع الفعل في زمان ما أي زمان كان فقولنا لا تفعل وجب أن يقتضي المنع من إيقاعه في زمان ما أي زمان كان بل في الأزمنة كلها لأنه إن لم يفعل اليوم وفعل غدا كان ممتثلا للأمر ولا يجوز أن يكون ممتثلا للأمر والنهي معا مع كونهما نقيضين فصح أن كون الأمر مفيدا للمرة الواحدة يقتضي أن يكون النهي مانعا للفعل في جميع الأزمان ثم نقول كون النهي مفيدا للتكرار يدل على أن الأمر لا يفيد إلا المرة الواحدة لأن فائدة الأر رفع فائدة النهي وفائد النهي المنع من الفعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 في كل الأزمان ففائدة الأمر رفع هذا المنع الكلي ورفع المنع الكلي يحصل بالثبوت ولو في زمان واحد فوجب أن تكون فائدة الأمر اقتضاء الفعل ولو في زمان واحد وإذا كان كذلك لزم من كون الأمر نقيضا للنهي مع كون النهي مفيدا للتكرار أن يكون الأمر غير مفيد للتكرار وعن الثالث أن النسخ لا يجوز وروده عليه فإذا ورد صار ذلك قرينة في أنه كان المراد به التكرار وعندنا لا يمتنع حمل الأمر على التكرار بسبب بعض القرائن وأما الاستثناء فإنه لا يجوز على قول من يقول بالفور أما من لم يقل به فإنه يجوز الاستثناء وفائدته المنع من إيقاع الفعل في بعض الأوقات التي كان المكلف مخيرا بين إيقاع الفعل فيه وفي غيره وعن الرابع أن الآمر عند القائلين بالفور مختص بأقرب الأزمنة إليه وعند منكريه دال على طلب إيقاع المصدر من غير بيان الوحدة والعدد والزمان الحاضر والآتي بل على القدر المشترك بين المقيد والمؤقت ومقابليهما أخبرنا وعن الخامس أن المكلف إذا علم أن اللفظ لا يدل على التكرار أمن من الخوف على أنه معارض بالخوف الحاصل من التكرار فإنه ربما كان ذلك مفسدة كما في شراء اللحم ودخول الدار وأما الاستفهام والاستعمال فسيظهر إن شاء الله تعالى في باب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 العموم أنه لا يدل واحد منهما على الاشتراك وعلى أن الأوامر الواردة بمعنى التكرار بعضها يفيد التكرار في اليوم وبعضها في الأسبوع وبعضها في الشهر وبعضها في السنة وظاهر أن ذلك لا يستفاد الا من دليل منفصل والله أعلم المسألة الخامسة اختلفوا في أن الأمر المعلق بشرط أو صفة هل يقتضي تكرار المأمور به بتكرارهما أم لا مثال الصفة قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ومثال الشرط إن كان أو إذا كان زانيا فارجمه فنقول كل من جعل الأمر المطلق مفيدا للتكرار قال به ها هنا أيضا وأما القائلون بأن الأمر المطلق لا يفيد التكرار فمنهم من قال بأنه ها هنا يفيد التكرار ومنهم من قال لا يفيده والمختار أنه لا يفيده من جهة اللفظ ويفيده من جهة ورود الأمر بالقياس فها هنا مقامان المقام الآول في أنه لا يفيده من جهة اللفظ ويدل عليه وجوه أحدها أن السيد إذا قال لعبده اشتر اللحم إن دخلت السوق لا يعقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 منه التكرار حتى لو اشتراه دفعة واحدة لا يلزمه الشراء ثانيا وثانيها لو قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق لا يتكرر الطلاق بتكرر دخولها في الدار وكذلك لو قال إن رد الله علي مالي أو دابتي أو صحتي فله علي كذا لم يتكرر الجزاء بتكرر الشرط وكذا لو قال الرجل لوكيله طلق زوجتي إن دخلت الدار لم يثبت على التكرار وثالثها أجمعنا على أن الخبر المعلق على الشرط كقوله زيد سيدخل الدار لو دخلها عمرو فدخلها عمرو ودخلها زيد فإنه يعد صادقا وإن لم يتكرر دخول زيد عند دخول عمرو فوجب أن يكون في هذه الصورة كذلك والجامع دفع الضرر الحاصل من التكليف بالتكرار ورابعها أن اللفظ ما دل إلا على تعليق شئ على شئ والمفهوم من تعليق شئ أعم من تعليقه عليه في كل الصور أو في صورة واحدة لأنه يصح تقسيم ذلك المفهوم إلى هذين القسمين ومورد التقسيم مشترك بين القسمين فإذن تعليق الشئ على الشئ لا يدل على تكرار ذلك التعليق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 المقام الثاني في أنه يفيده من جهة ورود الأمر بالقياس والدليل عليه أن الله تعالى لو قال إن كان زانيا فارجمه فهذا يدل على انه تعالى جعل الزنا علة لوجوب الرجم ومتى كان كذلك لزم تكرر الحكم عند تكرر الصفة بيان الأول أن القائل اذا قال إن كان الرجل عالما زاهدا فاقتله وإن كان جاهلا فاسقا فأكرمه فهذا الكلام مستقبح في العرف والعلم بذلك ضروري فالاستقباح لو إما أن يكون لأنه يفيد أن هذا القائل جعل الجهل والفسق موجبين للتعظيم أو لأنه لا يفيد ذلك والثاني باطل لأنه لو لم يفد العلية ولا منافاة أيضا بين الجهل وبين استحقاق التعظيم بسبب آخر من كونه نسبيا شجاعا جوادا فصيحا فحينئذ لم يكن إثبات استحقاق التعظيم مع كونه جاهلا فاسقا على خلاف الحكمة فكان يجب أن لا يثبت وحيث ثبت علمنا فساد هذا القسم وأن ذلك الاستقباح إنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 حصل لأنه يفيد أن ذلك القائل جعل جهله وفسقه علة لاستحقاق الإكرام فثبت أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة فإذا صدر ذلك من الله تعالى أفاد ظن أن الله تعالى جعل ذلك الوصف علة وذلك يوجب تكرر الحكم عند تكرر الوصف باتفاق القائسين فثبت أن قول الله تعالى إن كان زانيا فارجمه يفيد تكرار الرجم عند تكرار الزنى فإن قيل أولا هذا يشكل بقوله إن دخلت الدار فأنت طالق فإنه لا يتكرر الطلاق بتكرر الدخول وإن دخلت السوق فاشتر اللحم فإنه لا يتكرر الأمر بشراء اللحم عند تكرر دخول السوق ثم نقول لا نسلم أنه يفيد ظن العلية أما قوله إن كان الرجل عالما فاقتله فهذا الاستقباح إنما جاز لأن كونه عالما ينافي جواز القتل فإثبات هذا الحكم مع قيام المنافي يوجب الاستقباح سلمنا أنه يفيد العلية في هذه الصورة فلم قلت إن في سائر الصور يجب أن يكون كذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 سلمنا أنه في جميع الصور يفيد العلية فلم قلت إنه يلزم من تكرر العلة تكرر الحكم فإن السرقة وإن كانت موجبة للقطع لكن يتوقف إيجابها لهذا الحكم على شرائط كثيرة الجواب أن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق فهذا يفيد ظن أن هذا الإنسان جعل دخول الدار علة لوقوع الطلاق وإذا جعل الإنسان شيئا علة لحكم لم يلزم من تكرر ما جعله تكرر ذلك الحكم ألا ترى أنه لو قال أعتقت عبدي غانما لسواده وبعلة كونه أسود وكان له عبد آخر أسود فإنه لا يعتق عليه ذلك العبد ومعلوم أن التنبيه على العلية لا يزيد على التصريح بها أما إذا علمنا أو ظننا أن الشارع جعل شيئا علة لحكم فإنه يلزم من تكرر ذلك الشئ تكرر ذلك الحكم بإجماع القائسين فثبت أنه لا يلزم من عدم تكرر الحكم عند تكرر المعلق عليه عند ما يكون التعليق صادرا من العبد أن لا يتكرر عند ما يكون التعليق صادرا من الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 فإن قلت هذا التكرار لا يكون مستفادا من اللفظ بل يكون مستفادا من الامر بالقياس قلت هذا هو الحق وعند هذا يظهر أنه لا مخالفة بين هذا المذهب وبين ظاهر المذهب المنقول عن الأصوليين من أنه لا يفيد التكرار وهو حق ونحن نعني به إنه يفيد ظن العلية فإذا انضم الأمر بالقياس حصل من مجموعهما إفادة التكرار ولا منافاة بين هذا المذهب وبين ما قالوه قوله الاستقباح إنما جاز لأن كونه فاسقا ينافي جواز التعظيم قلنا لا نسلم حصول المنافاة لأن الفاسق قد يستحق الإكرام بجهات أخر والأصل تخريج الحكم على وفق الأصل قوله لم قلت إنه لما حصل ظن العلية في الصورة التي ذكرتموها حصل ظن العلية في سائر الصور قلنا لوجهين أحدهما أنا نقيس عليه سائر الصور والجامع هو أن الحكم إذا كان مذكورا مع علته كان أقرب إلى القبول وذلك مصلحة المكلف فيناسب الشرعية الثاني أنا نعد صورا كثيرة ونبين حصول ذلك الظن فيها ثم نقول لا بد بينها من قدر مشترك وذلك المشترك إما ما ذكرناه من ترتيب الحكم على الوصف أو غيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 والثاني مرجوح لأن الأصل عدد سائر الصفات فتعين الأول فعلمنا أن ترتيب الحكم على الوصف أينما كان فإنه يفيد ظن العلية قوله لم قلت إنه يلزم من تكرر العلة تكرر الحكم قلنا هذا متفق عليه بين القائسين فلا يكون المنع فيه مقبولا والله أعلم المسألة السادسة في أن مطلق الأمر لا يفيد الفور قالت الحنفية إنه يفيد الفور وقال قائلون إنه يفيد التراخي وقالت الواقفية إنه مشترك بين الفور والتراخي والحق أنه موضوع لطلب الفعل وهو القدر المشترك بين طلب الفعل على الفور وبين طلبه على التراخي من غير أن يكون في اللفظ إشعار بخصوص كونه فورا أو تراخيا لنا وجوه أحدها أن الأمر قد يرد عندما يكون المراد منه الفور تارة والتراخي اخرى فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين القسمين دفعا للاشتراك والمجاز والموضوع لإفادة القدر بين القسمين لا يكون له إشعار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 بخصوصية كل واحد من القسمين لأن تلك الخصوصية مغايرة لمسمى اللفظ وغير لازمة له فثبت أن اللفظ لا إشعار له لا بخصوص كونه فورا ولا بخصوص كونه تراخيا وثانيها أنه يحسن من السيد أن يقول إفعل الفعل الفلاني في الحال أو غدا ولو كان كونه فورا داخلا في لفظ إفعل لكان الأول تكرارا والثاني نقضا وأنه غير جائز وثالثها أن أهل اللغة قالوا لا فرق بين قولنا يفعل وبين قولنا إفعل إلا أن الآول خبر والثاني أمر لكن قولنا يفعل لا إشعار له بشئ من الأوقات فإنه يكفي في صدق قولنا يفعل إتيانه به في أي وقت كان من أوقات المستقبل فكذا قوله إفعل وجب أن يكفي في الإتيان بمقتضاه الإتيان به في أي وقت كان من اوقات المستقبل وإلا فحينئذ يحصل بينهما فرق في أمر آخر سوى كونه خبرا أو أمرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 ورابعها أن أهل اللغة قالوا في لفظ إفعل إنه أمر والأمر قدر مشترك بين الأمر بالشئ على الفور وبين الأمر به على التراخي لأن الأمر به على الفور أمر مع قيد كونه على الفور وكذلك الأمر به على التراخي أمر مع قيد كونه على التراخي ومتى حصل المركب فقد حصل المفرد فعلمنا أن مسمى الأمر قدر مشترك بين الأمر مع كونه فورا وبين الأمر مع كونه متراخيا وإذا ثبت أن لفظ إفعل للأمر وثبت أن الأمر قدر مشترك بين هذين القسمين ثبت أن لفظ أفعل لا يدل إلا على قدر مشترك بين هذين القسمين واحتج المخالف بأمور أحدها قوله تعالى لإبليس ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك عابه على أنه لم يأت في الحال بالمأمور به وهذا يدل على أنه أوجب عليه الإتيان بالفعل حين أمره به إذ لو لم يجب ذلك لكان لإبليس أن يقول إنك أمرتني وما أوجبت علي في الحال فكيف أستحق الذم بتركه في الحال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وثانيها قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وقوله فاستبقوا الخيرات وثالثها لو جاز التأخير لجاز إما إلى بدل أولا إلى بدل والقسمان باطلان فالقول بجواز التأخير باطل أما فساد القسم الأول فهو أن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه من كل الوجوه فإذا أتى بهذا البدل وجب أن يسقط عنه التكليف وبالاتفاق ليس كذلك فإن قلت لم لا يجوز أن يقال البدل قائم مقام المبدل منه في ذلك الوقت لا في كل الأوقات فلا جرم لم يلزم من الإتيان بابدل يكون سقوط الأمر بالمبدل قلت إذا كان مقتضى الأمر الإتيان بتلك الماهية مرة واحدة في أي وقت كان وهذا البدل قائم مقامه في هذا المعنى فقد تأدى ما هو المقصود من الأمر بتمامه فوجب سقوط الأمر بالكلية بل ذلك العذر يتمشى بتقدير أن يقتضي الأمر التكرار ولكنه باطل وأما فساد القسم الثاني وهو القول بجواز التأخير لا إلى بدل فذلك يمنع من كونه واجبا لأنه لا يفهم من قولنا إنه ليس بواجب إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 أنه يجوز تركه من غير بدل ورابعها لو جاز التأخير لجاز إما إلى غاية معينة بحيث إذا وصل المكلف إليها لا يجوز له أن يؤخر الفعل عنها أو يجوز له التأخير أبدا والقسمان باطلان فالقول بجواز التأخير باطل إنما قلنا إنه لا يجوز له التأخير إلى غاية لأن تلك الغاية إما أن تكون معلومة للمكلف أو لا تكون فان كانت معلومة له فتلك الغاية ليست إلا أن تصير بحيث يغلب على ظنه أنه لو لم يشتغل بأدائه فاته ذلك الفعل بدليل أن كل من قال بجواز التأخير إلى غاية معلومة قال إن تلك الغاية هي هذا الوقت فالقول بإثبات غاية أخرى خرق للإجماع وإنه غير جائز لكن القول بجواز التأخير إلى هذه الغاية باطل لأن الظن إن لم يكن لأمارة جرى مجرى ظن السوداوي فلا عبرة به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 وإن كان لأمارة فكل من قال بهذا القسم قال إن تلك الأمارة إما المرض الشديد أو علو السن وهذا أيضا باطل لأن كثيرا من الناس يموت فجأة وذلك يقتضي أنه ما كان يجب عليهم ذلك الفعل في علم الله تعالى مع أن ظاهر ذلك الأمر للوجوب وإنما قلنا إن تلك الغاية لا يجوز أن تكون مجهولة لأنه على هذا التقدير يصير مكلفا بأن لا يؤخر الفعل عن وقت معين مع أنه لا يعرف ذلك الوقت وهو تكليف ما لا يطاق وإنما قلنا إنه لا يجوز التأخير أبدا لأن التأخير أبدا تجويز للترك أبدا وإنه ينافي القول بوجوبه وخامسها أن السيد إذا أمر عبده بأن يسقيه الماء فهم منه التعجيل واستحسن العقلاء ذم العبد على التأخير والإسناد إلى مع القرينة خلاف الأصل فالأمر يفيد الفور وسادسها أجمعنا على أنه يجب اعتقاد وجوب الفعل على الفور فنقول الفعل أحد موجبي الأمر فيجب على الفور قياسا على الاعتقاد والجامع تحصيل المصلحة الحاصلة بسبب المسارعة إلى الامتثال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وسابعها أن الأمر يقتضي إيقاع الفعل فأشبه العقود في البياعات فلما وقع العقد عقيب الإيجاب والقبول فالأمر وجب أن يكون مثله وتحريره أنه استدعاء فعل بقول مطلق فيقتضي التعجيل كالإيجاب في البيع وثامنها أن الأمر ضد النهي فلما أفاد النهي وجوب الانتهاء على الفور وجب في الأمر أن يفيد الوجوب على الفور وربما أوردوا هذا على طريق آخر فقالوا ثبت أن الأمر بالشئ نهي عن تركه لكن النهي عن تركه يوجب الانتهاء عن تركه في الحال والانتهاء عن تركه في الحال لا يمكن إلا بالإقدام على الفعل في الحال فثبت أن الأمر يوجب الفعل في الحال وتاسعها أجمعنا على أنه لو فعل عقيبه يقع الموقع ويخرج عن العهدة وطريقة الاحتياط تقتضي وجوب الإتيان به على الفور لتحصيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 الخروج عن العهدة بيقين والجواب عن الأول أنه حكاية حال فلعل ذلك الأمر كان مقرونا بما يدل على الفور وعن الثاني أن قوله وسارعو سعيد إلى مغفرة من ربكم مجاز من حيث ذكر المغفرة وأراد ما يقتضيها وليس في الآية أن المقتضي لطلب المغفرة هو الإتيان بالفعل على سبيل الفور على أن هذه الآية لو دلت على وجوب الفور لم يلزم منه دلالة نفس الأمر على الفور وعن الثالث والرابع أنه يشكل بما إذا صرح وقال أوجبت عليك أن تفعل هذا الفعل في أي وقت شئت فكل ما جعلوه عذرا في هذه الصورة فهو عذرنا عما ذكروه وكذلك يشكل بالكفارات والنذور وكل الواجبات الموسعة وعن الخامس أنه معارض بما إذا أمر السيد غلامه بشئ ولم يعلم الغلام حاجة السيد إليه في الحال فإنه لا يفهم التعجيل فإن حملتم ذلك على القرينة ألزمناكم بكر مثله فإن قلت إن السيد يعلل ذمه لعبده بأنني أمرته بشئ فأخره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 ولولا أن الأمر للفور وإلا لما صح هذا التعليل قلت وقد يعتذر العبد فيقول أمرتني بأن أفعل وما أمرتني بالتعجيل وما علمت بأن في التأخير مضرة وعن السادس أنه يبطل بما لو قال إفعل في أي وقت شئت وبالنذور والكفارات ويبطل أيضا بالخبر فإنه لو قال الشارع يقتل زيد عمرا فها هنا يجب الاعتقاد في الفور ولا يجب حصول الفعل في الفور ولأن الاعتقاد غير مستفاد من الأمر فلا يجب حصول الفعل في الفور لأن من ركب الله العقل فيه فإذا نظر علم أن امتثال أمر الله تعالى واجب وعن السابع أنه يبطل بقوله إفعل في أي وقت شئت ولأن الجامع الذي ذكروه وصف طردي وهو غير معتبر وعن الثامن أن النهي يفيد التكرار فلا جرم يوجب الفور والأمر لا يفيد التكرار فلا يلزم أن يفيد الفور وعن التاسع وهو طريقة الاحتياط انه ينتقض بقوله إفعل في أي وقت شئت واعلم أن هذا النقض يرد على أكثر أدلتهم وهو لازم لا محيص عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 المسألة السابعة في أن الأمر المعلق أو الخبر المعلق على شئ بكلمة إن عدم عند عدم ذلك الشئ والخلاف فيه مع القاضي بكر وأكثر المعتزلة لنا وجهان الأول هو أن النحويين سموا كلمة إن حرف شرط والشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه فيلزم أن يكون المعلق بهذا الحرف منتفيا عند انتفاء المعلق عليه أما أن النحويين سموا هذا الحرف بحرف الشرط فذلك ظاهر في كتبهم وأما أن الشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه فلأنهم يقولون الوضوء شرط صحة الصلاة والحول شرط وجوب الزكاة وعنوا بكونهما شرطين انتفاء الحكم عند انتفائهما والاستعمال دليل الحقيقة ظاهرا فإن قيل لا نزاع في أن النحويين سموا هذا الحرف بحرف الشرط ولكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 لعل ذلك من اصطلاحاتهم الحادثة كتسميتهم الحركات المخصوصة بالرفع والنصب والجر وإن لم تكن تسمية هذه الحركات بهذه الأسماء موجودة في أصل اللغة سلمنا أن هذا الاسم أصلي لكن لا نسلم أن الشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه بل شرط الشئ ما يكون علامة على ثبوته الحكم من قولهم أشراط الساعة أي علاماتها وإذا كان الشرط عبارة عن العلامة لزم من ثبوتها ثبوت الحكم لكن لا يلزم من عدمها عدم الحكم سلمنا أن شرط الشئ ما يقف وفي عليه الحكم لكن مطلقا أو بشرط أن لا يوجد ما يقوم مقامه الأول ممنوع والثاني مسلم وعلى هذا التقدير لا يلزم من عدم هذا الشرط عدم الحكم إلا إذا عرف أنه لم يوجد شئ ما يقوم مقام هذا الشرط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 والجواب لما دلت الكتب النحوية على تسمية هذا الحرف بحرف الشرط وجب اعتقاد أن هذا الاسم كان حاصلا في أصل اللغة وإلا لكان حصول هذا الاسم له النقل وقد بينا النقل خلاف الأصل قوله شرط الشئ ما يدل على ثبوته قلنا لو كان كذلك لامتنعت تسمية الوضوء بأنه شرط صحة الصلاة فإن الوضوء لا يدل على صحة الصلاة وكذا القول في قولنا الحول شرط وجوب الزكاة والإحصان شرط وجوب الرجم وأما أشراط الساعة فهي وإن كانت علامات دالة على وجوب الساعة لكن يمتنع وجود الساعة إلا عند وجودها فهي مسماة بالأشراط لا بحسب الاعتبار الأول بل بحسب الاعتبار الثاني قوله شرط الشئ ما ينتفي الحكم عند انتفائه مطلقا أو إذا لم يوجد ما يقوم مقامه قلنا مطلقا لأنه إذا ثبت كون شئ شرطا وثبت أن لفظ الشرط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 معناه في اللغة ما ينتفي الحكم عند انتفائه وثبت أن ذلك الشئ يجب انتفاء الحكم عند انتفائه فلو أثبتنا شيئا آخر يقوم مقامه لم يكن ذلك الشئ بعينه شرطا بل يكون الشرط إما هو أو ذلك الآخر لا على التعيين وذلك ينافي قيام الدلالة على كونه بعينه شرطا الحجة الثانية ما روي أن يعلى بن أمية سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال ما بالنا نقصر وقد أمنا فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله ص فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 ولو لم يفهم أن المعلق على الشئ بكلمة إن عدم عند عدم ذلك الشئ لم يكن لذلك التعجب معنى فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنما تعجبا من ذلك لأنهما عقلا من الآيات الواردة في وجوب الصلاة وجوب الإتمام وأن حال الخوف مستثناة من ذلك وما عداها ثابت على الآصل في وجوب الإتمام فلذلك تعجبا من ثبوت القصر مع الأمن ثم نقول هذا الحديث حجة عليكم لأنه لو امتنع المشروط عند عدم الشرط لما جاز القصر عند عدم الخوف وقد جاز فعلمنا أنه لا يجب عدم المشروط عند عدم الشرط والجواب عن السؤال الأول أن الآيات الدالة على وجوب الصلاة لا تنطق بالإتمام ولا بأن الأصل في الصلاة الإتمام بل المروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كانت صلاة السفر والحضر ركعتين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر وعن الثاني أن طاهر الشرع يمنع من ذلك ولذلك ظهر التعجب لكن لا يمتنع أن يدل دليل على خلاف الظاهر والله أعلم احتج المخالف بالآية والحكم أما الآية فهو أن المعلق إن على شئ لو كان عدما عند عدم ذلك الشئ لكان قوله عز وجل ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا دليلا على أنه ما حرم الإكراه على البغاء إن لم يردن التحصن وقوله تعالى فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وقوله واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون وقوله أن تقصروا من الصلاة إن خفتم وقوله فإن لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ففي جبمع هذه الآيات الحكم غير منتف عند انتفاء الشرط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وأما الحكم فهو ما إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فهذا لا ينفي الطلاق قبل ذلك الشرط حتى لو نجز أو علق بشرط آخر لم يكن مناقضا للأول ولو لزم عدم المشروط عند عدم الشرط لزم التناقض ها هنا والجواب عن الأول أن الظاهر يقتضي أن لا يحرم الإكراه على البغاء إذا لم يردن التحصن ولكن لا يلزم من عدم الحرمة القول بالجواز لأن زوال الحرمة قد يكون لطريان المحل وقد يكون لامتناع وجوده عقلا وها هنا كذلك لأنهن إذا لم يردن التحصن فقد أردن البغاء وإذا أردن البغاء امتنع إكراههن على البغاء وعن الثانية أنه إذا علق الطلاق على الدخول ثم نجز فإن كان المنجز واحدة أو اثنتين بقي التعليق فالمنجز غير المعلق حتى لو تزوجت بزوج آخر وعادت إليه وتزوجها وقع الطلاق المعلق وإن كان المنجز ثلاثا فعندنا المنجز غير المعلق حتى بقي المعلق موقوفا على دخول الدار فإذا تزوجت بزوج آخر وعادت إليه ودخلت الدار وقع الطلاق المعلق والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 المسألة الثامنة في الأمر المقيد بعدد فلنبحث أن الحكم المعلق بعدد هل يدل على حكم ما زاد عليه وما نقص عنه أم لا أما في جانب الزيادة فمتى كان العدد الناقص علة لعدم أو أمتنع ثبوت ذلك الأمر في العدد الزائد فعله عدم ذلك الأمر حاصلة عند عدم حصول العدد الزائد مثاله لو حظر الله تعالى علينا جلد الزاني مائة كان الزائد على المائة محظورا لأن المائة موجودة في الزائد على المائة ولو قال إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا فجعل القلتين علة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 لاندفاع حكم النجاسة فالزائد عليهما أولى أن يكون كذلك أما إذا كان العدد الناقص موصوفا بحكم لم يجب أن يكون الزائد عليه موصوفا بذلك لأنه لا يلزم من كون عدد واجبا أو مباحا أن يكون الزائد عليه واجبا أو مباحا وأما في جانب النقصان فالحكم إما أن يكون إباحة أو إيجابا أو حظرا فإن كان إباحة لم يخل ما دون ذلك العدد إما أن يكون داخلا تحت ذلك العدد على كل حال أو لا يدخل تحته على كل حال أو يدخل تحته تارة ولا يدخل أخرى مثال الأول أن يبيح الله تعالى لنا جلد الزاني مائة فإنه يدل على إباحة جلد خمسين لأن الخمسين داخلة في المائة ومثال الثاني أن يبيح الله عز وجل لنا أن نحكم بشهادة شاهدين فإنه لا يدل على إباحة الحكم بشهادة الواحد لإن الحكم بشهادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 الشاهد الواحد غير داخل تحت الحكم بشهادة شاهدين ومثال الثالث أن يبيح لنا استعمال القلتين من الماء إذا وقعت فيهما نجاسة فإنه قد أباح لنا استعمال القلة من هاتين القلتين ولا يدل على إباحة استعمال قلة واحدة فلا إذا وقعت فيها نجاسة لأن القلة الواحدة إذا وقعت فيه نجاسة غير داخلة تحت قلتين وقعت فيهما نجاسة أما إذا حظر الله تعالى علينا عددا مخصوصا فإنه يختلف أيضا فربما دل على حظر ما دونه من طريق الأولى لأنه إذا حظر استعمال القلتين إذا وقعت فيهما نجاسة فحظر القلة الواحدة أولى أما لو حظر الله تعالى علينا جلد الزاني مائة لم يدل أن ما دونه محظور وأما إذا أوجب الله تعالى جلد الزاني مائة فإنه يدل على وجوب جلد خمسين لأنه لا يمكن فعل الكل إلا بفعل الجزء ولكنه ينفي قصر الوجوب على الجزء فثبت أن قصر الحكم على العدد لا يدل على نفيه عما زاد أو نقص إلا لدليل منفصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 واحتج المخالف بالسنة والإجماع أما السنة فهي أن الله تعالى لما قال إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم قال عليه الصلاة والسلام والله لأزيدن على السبعين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 فعقل أن الحكم منفي عن الزيادة وأما الإجماع فهو أن الأمة عقلت من تحديد جلد القاذف بالثمانين نفي الزيادة والجواب عن الأول إن تعليق الحكم على السبعين كما لا ينفيه عن الزائد فكذا لا يوجبه فلعله ص جوز حصول المغفرة لو زاد على السبعين فلذلك قال ما قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وعن الثاني أن ذلك النفي إنما عقل بالبقاء على حكم الأصل والله أعلم المسألة التاسعة في الأمر المقيد بالاسم الجمهور منا ومن المعتزلة قالوا إن الأمر والخبر المقيد بالاسم لا يدل على نفي حكم ما عداه كقول القائل زيد في الدار لا يدل على أن عمرا ليس فيها وإذا أمر بشئ لا يدل على أن غيره ليس بواجب وقال أبو بكر الدقاق منا إنه يدل على ذلك لنا وجوه الأول اتفاق الكل على أنه يجوز أن يقال زيد أكل أو شرب مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 العلم بأن غيره فعل ذلك أيضا الثاني أن تخصيص البعض بالذكر لو دل على نفي الحكم عن غير المذكور لبطل القياس لأن التنصيص على حكم الأصل ان وجد معه التنصيص على حكم الفرع كان حكم الفرع ثابتا بالنص لا بالقياس وإن لم يوجد معه كان النص دالا على عدم الحكم في الفرع وحينئذ لا يجوز إثباته بالقياس لأن النص مقدم على القياس الثالث لو دل قولنا زيد أكل على أن غيره لم يأكل لدل عليه إما بلفظه أو بمعناه والأول باطل لأنه ليس في اللفظ ذكر غير زيد فكيف يدل على حكم غير زيد والثاني باطل لإن الإنسان قد يعلم أن زيدا وعمرا يشتركان في فعل ويكون له غرض في الإخبار عن أحدهما دون الآخر فثبت أنه لا يدل عليه لا بلفظه ولا بمعناه وأصبح المخالف بأنه لا بد في التخصيص من فائدة ولا فائدة إلا نفي الحكم عما عداه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 والجواب المقدمة الثانية ممنوعة فلعل غرضه كان متعلقا بالأخبار عنه دون غيره فلهذا خصه بالذكر والله أعلم المسألة العاشرة في الأمر المقيد بالصفة وهو كقوله زكوا عن الغنم السائمة واختلفوا في أنه هل يدل ذلك على أنه لا زكاة في غير السائمة الحق أنه لا يدل وهو قول أبي حنيفة رحمه الله واختيار ابن سريج والقاضي أبي بكر وإمام الحرمين والغزالي وقول جمهور المعتزلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وذهب الشافعي والأشعري رضي الله عنهما ومعظم الفقهاء منا إلى أنه يدل لنا وجوه الأول إن الخطاب المقيد بالصفة لو دل على أن ما عداه يخالفه لدل عليه إما بلفظه أو بمعناه لكنه لم يدل عليه من الوجهين فوجب أن لا يدل عليه أصلا إنما قلنا إنه لا يدل عليه بلفظه لأن اللفظ الدال على ثبوت الحكم في أحد القسمين إن لم يكن مع ذلك موضوعا لنفي الحكم في القسم الثاني لم يكن له عليه دلالة لفظية وإن كان موضوعا له فحينئذ يكون ذلك اللفظ موضوعا لمجموع إثبات الحكم في أحد القسمين ونفيه عن القسم الآخر ولا نزاع في دلالة مثل هذا اللفظ على هذا النفي بيان أنه لا يدل عليه بمعناه أن الدلالة المعنوية هي أن يستلزم المسمى شيئا فينتقل الذهب من المسمى إلى لازمه وها هنا ثبوت الحكم في أحد القسمين لا يستلزم عدمه عن القسم الثاني لأن الصورتين المشتركتين في الحكم كقوله في سائمة الغنم زكاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 في معلوفة الغنم زكاة يجوز تخصيص إحداهما بالبيان دون الثانية إما لأن بيان الصورة الأخرى غير واجب أو إن كان واجبا لكنه يبينه بطريق آخر أما إذا لم يكن واجبا فذلك إما لأنه خطر ببال المتكلم أحد القسمين دون الثاني وهذا إنما يعقل في حق غير الله تعالى أو أن خطر القسمان بالبال لكن السامع يحتاج إلى بيان أحد القسمين دون الثاني كمن يملك السائمة ولا يملك المعلوفة فإنه بعد حولان الحول يحتاج إلى معرفة حكم السائمة دون حكم المعلوفة فلا جرم يحسن من الشارع أن يخص السائمة بالذكر دون المعلوفة وأما إذا وجب حكم القسمين معا فها هنا قد يكون ذكر حكم أحد القسمين دليلا على ثبوت ذلك الحكم في القسم الآخر فإنه تعالى لما منع من قتل الأولاد خشية الإملاق كان ذلك دليلا على المنع من قتلهم عند الغنى بطريق الأولى وقد لا يكون كذلك لكنه تبين حكم القسم الآخر بطريق آخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 إما بنص خاص والفائدة فيه أن إثبات الحكم باللفظ العام أضعف من إثباته بالدليل الخاص لاحتمال تطرق التخصيص إلى العام دون الخاص أو بقياس كما نص على حكم الأجناس الستة في الربا وعرفنا حكم غيرها بالقياس والمقصود أن ينال المكلف رتبة المجتهدين أو بالبقاء على حكم الأصل مثل أن يقول الشارع لا زكاة في الغنم السائمة ثم نحن ننفي الزكاة عن المعلوفة لأجل أن الأصل عدم الزكاة وإنما خص القسم الأول بالذكر لأن الاشتباه فيه أكثر فإن السائمة لما كانت أخف مئونة من المعلوفة كان احتمال وجوب الزكاة في السائمة أظهر من احتمال وجوبها في المعلوفة فثبت أن تعليق الحكم على الصفة لا يدل على نفي ذلك الحكم عن غيرها لا بلفظه ولا بمعناه فوجب أن لا يدل أصلا فإن قيل المعتبر في الدلالة المعنوية القاطعة حصول الاستلزام قطعا وفي الدلالة المعنوية الظنية الظاهرة حصول الاستلزام ظاهرا ودعوى الاستلزام ظاهرا لا يقدح فيها عدم اللزوم في بعض الصور ألا ترى أن الغيم الرطب يدل على المطر منه ظاهرا ثم ذلك الظهور لا يبطل بعدم المطر في بعض الأوقات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 إذا عرفت هذا فنحن لا ندعي إن تعليق الحكم على الصفة يدل على نفي الحكم عما عداه قطعا إنما ادعينا أنه يدل عليه ظاهرا وما ذكرتموه من تخلف هذه الدلالة في بعض الصور إنما يقدح في ذلك الظهور لو بينتم أن الاحتمالات التي ذكرتموها ها هنا مساوية في الظهور للاحتمال الذي ذكرناه وأنتم ما بينتم ذلك فيكون دليلكم خارجا عن محل النزاع والجواب تعليق الحكم على الوصف لا يدل على انتفائه عن غيره البتة أما قطعا فلما سلمتم وأما ظاهرا فلأنه لو دل عليه ظاهرا لكان صرفه إلى سائر الوجوه مخالفة للظاهر والأصل عدم ذلك وهذا القدر كاف في حصول ظن تساوي هذه الاحتمالات الدليل الثاني أن الأمر المقيد بالصفة تارة يرد مع انتفاء الحكم عن غير المذكور وهو متفق عليه وتارة مع ثبوته فيه كقوله تعالى ولا تقلوا أولادكم خشية إملاق ثم لا يجوز قتلهم لغير الإملاق وقال تعالى في قتل الصيد ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ثم إن قتله خطأ يلزمه الجزاء أيضا وإذا ثبت هذا فنقول الاشتراك والمجاز خلاف الأصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بين القسمين وهو ثبوت الحكم في المذكور مع قطع النظر عن ثبوته في غير المذكور ونفيه عنه الدليل الثالث هو أن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه ثبوت الحكم في الصورة الآخرى والإخبار عن ثبوت ذلك الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه الإخبار عنه في الصورة الآخرى فإذن الإخبار عن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يدل على حال الصورة الأخرى ثبوتا وعدما إنما قلنا أن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه الحكم في الصورة الآخرى ثبوتا وعدما لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الصورتين المختلفتين في بعض الأحكام فإنهما لما كانتا مختلفتين فقد اشتركتا في الاختلاف فلا يمتنع أيضا اختلافهما في بعض الأحكام وإذا ثبت الحكم في هذه الصورة لم يلزم من مجرد ثبوته فيها ثبوته في الصورة الأخرى ولا عدمه عنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 فدل على أن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه ثبوت ذلك الحكم في الصورة الأخرى ولا عدمه عنها وإنما قلنا إن الإخبار عن حكم أحدى الصورتين لا يلزمها الإخبار عن حكم الصورة الأخرى لأن إحدى الصورتين مخالفة للأخرى من بعض الوجوه والمختلفان لا يجب اشتراكهما في الحكم والعلم بذلك ضروري فلا يلزم من كون إحداهما متعلق غرض هذا الإنسان بأن يخبر عنها كون الصورة الأخرى كذلك فثبت أن الإخبار عن إحدى الصورتين لا يلزمه الإخبار عن الصورة الأخرى وإذا ثبتت هاتان المقدمتان ثبت إن الإخبار عن ثبوت الحكم في هذه الصورة لا يدل على حالة الصورة الأخرى وجودا ولا عدما وذلك هو المطلوب الدليل الرابع لو دل تخصيص الحكم بالصفة على نفيه عما عداه لدل تخصيصه بالاسم على نفيه عما عداه لكن التخصيص بالاسم لا يدل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 نفيه عما عداه فالتخصيص بالصفة وجب أن لا يدل على نفيه عما عداه بيان الملازمة أن التخصيص بالصفة لو دل على نفي الحكم عما عداه لكان إنما يدل عليه لأن التخصيص لابد فيه من غرض ونفي الحكم عما عداه يصلح أن يكون غرضا والعلم بأنه لا بد من غرض مع العلم بأن هذا المعنى يصلح أن يكون غرضا يفيد ظن أن هذا هو الغرض والعمل بالظن واجب وكل هذا المعنى موجود في التخصيص بالاسم فوجب أن يكون التخصيص بالاسم يفيد نفي الحكم عما عداه لأن الصورتين لما اشتركتا في العلة وجب اشتراكهما في الحكم ولما ثبت أن التخصيص بالاسم لا يفيد نفي الحكم عما عداه وجب في التخصيص بالصفة أن لا يدل على ذلك أيضا والله أعلم احتج المخالف بأمور الأول إن تعليق الحكم بالصفة يفيد في العرف نفيه عما عداه فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك إنما قلنا إنه يفيد ذلك في العرف لأن القائل إذا قال الإنسان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 الطويل لا يطير واليهودي الميت لا يبصر يضحك منه ويقال إذا كان القصير لا يطير والميت الملم لا يبصر فأي فائدة للتقييد بالطويل واليهودي وأذا ثبت أنه في العرف كذلك وجب أن يكون في أصل اللغة كذلك وإلا لزم النقل وهو خلاف الأصل الثاني أن تخصيص الشئ بالذكر لا بد فيه من مخصص وإلا فقد ترجح أحد الجائزين على الآخر لا لمرجح ونفي الحكم عن غيره يصلح أن يكون مقصودا فوجب حمله عليه تكثيرا لفوائد كلام الشرع أو لأنه مناسب والمناسبة مع الاقتران دليل العلية فيغلب على الظن إن علة التخصيص هذا القدر الثالث إنا قد دللنا على أن الحكم المعلق على الصفة يشعر بكون ذلك الحكم معللا بتلك الصفة وتعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة خلاف الأصل على ما سيأتي بيانه إن شاء الله في كتاب القياس فيلزم من انتفاء هذا الوصف انتفاء الحكم والجواب عن الأول أن أهل العرف يضحكون من قول القائل زيد الطويل لا يطير وبالاتفاق إن التخصيص ها هنا لا يفيد نفي الحكم عما عداه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وللمستدل أن يقول لا نسلم أن التخصيص ها هنا لا يفيد نفي الحكم عما عداه لأن قوله زيد الطويل لا يطير تعليق للحكم بالصفة وأنه نفس محل الخلاف بل لو قال زيد لا يطير فهذا تعليق للحكم بالاسم وها هنا لا يقولون إن تعليقه على الاسم عبث بل يقولون إنه بيان للواضحات وفرق بين أن يقولوا إن هذا الكلام بيان للواضحات وبين أن يقولوا لا فائدة في ذكر هذه الصفة البتة وعلى هذا التقدير اندفع النقض وعن الثاني أنا لا نسلم أن التخصيص الصادر من القادر لا بد فيه من مخصص لأن الهارب من السبع إذا عن له طريقان فإنه يختار سلوك أحدهما دون الثاني لا لمرجح وأيضا فقد بينا أنه لا حسن ولا قبح عقلا فتخصيص الصورة المعينة بالحكم المعين تخصيص لأحد طرفي الجائز بذلك الحكم من غير مرجح وأيضا فتخصيص الله تعالى إحداث العالم بوقت معين دون ما قبله أو ما بعده تخصيص من غير مخصص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 وفي هذا المقام أبحاث دقيقة ذكرناها في كتبنا العقلية سلمنا أنه لا بد من فائدة ولكن سائر الوجوه التي عددناها في دليلنا الأول فوائد وأيضا فجملة الدليل منقوضة بالتخصيص بالاسم وعن الثالث لا نسلم أن تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة خلاف الأصل وسيأتي تقريره في كتاب القياس إن شاء الله تعالى فرعان الأول القائلون بأن التخصيص بالصفة يدل على نفي الحكم عما عداه أقروا بأنه لا دلالة له في قوله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا ولا في قوله عليه الصلاة والصلام أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها لأن الباعث على التخصيص هو العادة فإن الخلع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 يجري غالبا إلا عند الشقاق والمرأة لا تنكح نفسها إلا عند إباء الولي فإذن لاحتمال أن يكون سبب التخصيص هو هذه العادة لم يغلب على الظن أن سببه نفي الحكم عما عداه الثاني تعليق الحكم على صفة في جنس كقوله عليه الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 والسلام في سائمة الغنم زكاة يقتضي نفيه عما عداه في ذلك الجنس ولا يقتضي نفيه في سائر الأجناس وقال بعض الفقهاء من أصحابنا إنه يقتضي نفي الزكاة عن المعلوفة في جميع الأجناس لنا إن دليل الخطاب نقيض النطق فلما تناول النطق سائمة الغنم فدليله يقتضي معلوفة الغنم دون غيرها احتجوا بأن السوم يجري مجرى العلة في وجوب الزكاة ويلزم من عدم العلة عدم الحكم لأن الأصل اتحاد العلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 والجواب أن المذكور سوم الغنم لا مطلق السوم فاندفع ما قالوه والله أعلم المسألة الحادية عشرة في أن الآمر هل يدخل تحت الأمر ذكر أبو الحسين البصري فيه تفصيلا لطيفا فقال هذا الباب يتضمن مسائل أولها أنه هل يمكن أن يقول الإنسان لنفسه إفعل مع انه يريد ذلك الفعل ومعلوم أنه لا شبهة في إمكانه وثانيها أن ذلك هل يسمى أمرا والحق أنه لا يسمى به لأن الاستعلاء معتبر في الأمر وذلك لا يتحقق إلا بين شخصين ومن لا يعتبر الاستعلاء فله أن يقول أن الأمر طلب الفعل بالقول من الغير فإذا لم توجد المغايرة لا يثبت اسم الأمر وثالثها أن ذلك هل يحسن أم لا والحق أنه لا يحسن لأن الفائدة من الأمر إعلام الغير كونه طالبا لذلك الفعل ولا فائدة في إعلام الرجل نفسه ما في قلبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 ورابعها إذا خاطب الإنسان غيره بالأمر هل يكون داخلا فيه والحق أنه إما أن ينقل أمر غيره بكلام نفسه أو بكلام ذلك الغير أما الأول فإن كان يتناوله دخل فيه وإلا لم يدخل فيه مثال الأول أن نقول إن فلانا يأمرنا بكذا ومثال الثاني أن نقول إن فلانا يأمركم بكذا وأما الثاني فكقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم فهذا يدخل الكل فيه لأن ذلك خطاب مع جملة المكلفين فيتناولهم بأسرهم إلا من خصه الدليل والله أعلم المسألة الثانية عشرة في الأمر الوارد عقيب الأمر بحرف العطف وبغير حرف العطف القائل إذا قال لغيره إفعل ثم قال له إفعل لم يخل الأمر الثاني إما أن يتناول مخالف ما يتناوله الأمر الأول أو مماثله فإن تناول ما يخالفه اقتضى شيئا آخر لا محالة وهو ضربان أحدهما يصح اجتماعه مع الأول والآخر لا يصح فالذي يصح اجتماعه مع الآول يجب على المأمور فعلهما إما مجتمعين أو مفرقين إلا أن تدل دلالة منفصلة على وجوب الجمع أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وجوب التفريق مثاله قول القائل لغيره صل صم وأما ما لا يصح أن يجتمع مع الأول فتارة لا يصح عقلا كالصلاة الواحدة في مكانين وتارة لا يصح سمعا كالصلاة والصدقة وكلا القسمين لا يصح الأمر بفعلهما إلا مفترقين أما إذا تناول الأمر الثاني مثل ما تناوله الأمر الأول فلا يخلو إما أن يكون ذلك المأمور به يصح التزايد فيه أو لا يصح فإن صح فإما أن يكون الأمر الثاني غير معطوف على الأول أو يكون معطوفا عليه فإن لم يكن معطوفا عليه فعند القاضي عبد الجبار ابن احمد أنه يفيد غير ما يفيده الأول إلا أن تمنع العادة من ذلك أو يرد الأمر الثاني معرفا وهذا هو المختار وقال أبو الحسين البصري الأشبه الوقف مثال ما تمنع منه العادة قول القائل لغيره إسقني ماء اسقني ماء فالعادة تمنع من تكرار سقيه في حالة واحدة في الأكثر ومثال ما يمنع منه التعريف الحاصل بالأمر الثاني قول القائل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 لغيره صل ركعتين فإنه إذا قال له صل الصلاة انصرف إلى تلك الركعتين لأن لام الجنس تنصرف إلى العهد المذكور ومثال ما يعرى عن كلا القسمين قول القائل لغيره صل غدا ركعتين صل غدا ركعتين والدليل على أنه يفيد غير ما يفيد الأول وجهان الأول أن الأمر يقتضي الوجوب والفعل الأول وجب بالأمر الأول فيستحيل وجوبه بالأمر الثاني لأن تحصيل الحاصل محال فلو انصرف الأمر الثاني إلى الفعل الأول لزم حصول ما يقتضي الوجوب من غير حصول الأثر وذلك غير جائز فوجب صرفه إلى فعل آخر الثاني أنا لو صرفنا الأمر الثاني إلى عين ما هو متعلق الأمر الأول لكان الأمر الثاني تأكيدا ولو صرفناه إلى غيره لأفاد فائدة زائدة وإذا وقع التعارض بين أن يفيد الكلام فائدة أصلية وبين أن يفيد تأكيدا فلا شك حمله على ألأول أولى وأما إن كان الأمر الثاني معطوفا على الأول فإن لم يكن معرفا فإنه يفيد غير ما يفيده الأول لأن الشئ لا يعطف على نفسه مثاله أن يقول القائل لغيره صل ركعتين وصل ركعتين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 فأما إن كان الثاني معطوفا على الأول ومعرفا كقول القائل لغيره صل ركعتين وصل الصلاة فعند أبي الحسين أن الأشبه هو الوقف فإنه يمكن أن يقال يجب حمله على تلك الصلاة لأجل لام التعريف ويمكن أن يقال بل يجب حمله على صلاة أخرى لأجل العطف وليس أحدهما بأولى من الآخر فوجب التوقف وعندي أن هذا الأخير أولى لأن لام الجنس قد تكون لتعريف الماهية كما قد تكون لتعريف المعهود السابق وبتقدير أن تكون للمعهود السابق فيمكن أن يكون المعهود السابق هو الصلاة التي تناولها الأمر الأول ويمكن أن تكون صلاة أخرى تقدم ذكرها وإذا كان كذلك بقي العطف سليما عن المعارض أما إذا كان الثاني أمرا بمثل ما تناوله الأمر وكان ذلك مما لا يصح فيه التزايد في المأمور به فلا يخلو إما أن يمتنع ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 عقلا كقتل زيد وصوم يوم أو يمتنع ذلك شرعا كعتق زيد فإنه قد كان يجوز أن يتزايد عتقه ويقف تمام حريته على عدد كالطلاق وإذا لم يصح التزايد في المأمور به لم يخل الأمران إما أن يكونا عامين أو خاصين أو يكون أحدهما عاما والآخر خاصا فإن كانا عامين أو خاصين وجب أن يكون مأمورهما واحدا وأن يكون الأمر التالي تأكيدا للأول سواء ورد مع حرف العطف أو بدونه مثال العامين بحرف عطف قول القائل لغيره أقتل كل إنسان واقتل كل إنسان ومثاله بلا حرف عطف أن يسقط من الأمر الثاني حرف العطف ومثاله الخاصين بحرف عطف وبغير حرف عطف قوله اقتل زيدا واقتل زيدا اقتل زيدا اقتل زيدا وأما إذا كان أحدهما عاما والآخر خاصا سواء تقدم العام أو الخاص فالأمر الثاني إما أن يكون معطوفا على الأول أو غير معطوف عليه فإن كان معطوفا عليه فمثاله قول القائل صم كل يوم وصم يوم الجمعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 فقال بعضهم إن يوم الجمعة لا يكون داخلا تحت الكلام الأول ليصح حكم العطف والأشبه الوقف لأنه ليس ترك ظاهر العموم أولى من ترك ظاهر العطف وحمله على التأكيد وأما إذا كان الأمر الثاني غير معطوف فمثاله قول القائل صم كل يوم صم يوم الجمعة فها هنا عموم أحد الأمرين دليل على أن الآخر ورد تأكيدا لأنه لم يبق من ذلك الجنس شئ لم يدخل تحت العام والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 القسم الثاني في المسائل المعنوية والنظر فيها في أمور أربعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 النظر الأول في الوجوب والبحث إما عن أقسامه أو أحكامه أما أقسامه فاعلم أنه بحسب المأمور به ينقسم إلى معين وإلى مخير وبحسب وقت المأمور به إلى مضيق وموسع وبحسب المأمور إلى واجب على التعيين وواجب على الكفاية المسألة الأولى قالت المعتزلة الأمر بالأشياء على التخيير يقتضي وجوب الكل على التخيير وقالت الفقهاء الواجب واحد لا بعينه واعلم أنه لا خلاف في المعنى بين القولين لأن المعتزلة قالوا المراد من قولنا الكل واجب على البدل هو إنه لا يجوز للمكلف الإخلال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 بجميعها ولا يلزمه الجمع بينها ويكون فعل كل واحد منها موكولا إلى اختياره والفقهاء عنوا بقولهم الواجب واحد لا بعينه هذا المعنى بعينه فلا يتحقق الخلاف أصلا بل ها هنا مذهب يرويه أصحابنا عن المعتزلة ويرويه المعتزلة عن أصحابنا واتفق الفريقان على فساده وهو أن الواجب واحد معين عند الله تعالى غير معين عندنا إلا أن الله تعالى علم أن المكلف لا يختار إلا ذلك الذي هو واجب عليه والدليل على فساد هذا القول أن التخيير معناه أن الشرع جوز له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 ترك كل واحد منها بشرط الإتيان بالآخر وكونه واجبا على التعيين عند الله تعالى معناه أنه تعالى منعه من تركه على التعيين والجمع بين جواز الترك وعدم جوازه متناقض فسح ما ادعيناه أنه يمتنع أن يكون كل واحد منها واجبا على التعيين فان قلت لا نسلم أن التخيير ينافي تعيينه عند الله تعالى بيانه أن الله تعالى وإن خير بين الكفارات لكنه علم أن المكلف لا يختار إلا ذلك الذي هو واجب فلا يحصل الإخلال بالواحب أو نقول لم لا يجوز أن يقال إن لاختيار المكلف تأثيرا في كون ذلك الفعل المختار واجبا أو نقول لا يمتنع أن يكون ما عدا ذلك الفعل المعين مباحا ويسقط به الفرض كما يقولون إن الإتيان بالفعل المحظور قد يسقط به الفرض كالصلاة في الدار المغصوبة قلت الجواب عن الأول أن الله تعالى لما خيرنا بين الأمرين فقد أباح لنا ترك كل واحد منهما بشرط الإتيان بالثاني ووجوبه على التعيين معناه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 أنه تعالى لم يجوز لنا تركه البتة فلو خير الله تعالى بينه وبين غيره مع أنه جعله واجبا على التعيين لكان قد جمع بين جواز الترك وبين المنع منه أما قوله إن لاختيار المكلف تأثيرا قلت لا نزاع في تحقق الوجوب قبل الاختيار فمحل الوجوب إن كان واحدا معينا فهو باطل لأن التخيير ينافي التعيين وإن كان واحدا غير معين فهو محال لأن الواحد الذي يفيد كونه غير معين ممتنع الوجود وما يكون ممتنع الوجود يمتنع أن يقع التكليف بفعله وإن كان الواجب هو الكل بشرط التغيير فذاك هو المطلوب قوله لم لا يجوز أن يسقط الواجب بفعل مال ليس بواجب قلنا لأن الأمة أجمعت على أن الآتي بواحدة من الخصال الثلاث المشروعة في الكفارة لو كفر بغيرها من الثلاث لأجزأته ولكان فاعلا لما وقع التكليف به وذلك يبطل ما ذكروه واحتج المخالف بأن لفعل الواجب أثرا ولتركه أثرا وكلا الأثرين يدلان على أن الواجب واحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 أما طرف الفعل فقالوا هذا الفعل له صفات كونه بحيث يسقط الفرض به وكونه واجبا وكونه بحيث يستحق عليه ثواب الواجب وكونه الواجب وكونه بحيث ينوى بفعله أداء الواجب وكل هذه الصفات تقتضي أن يكون الواجب واحدا معينا فأولها سقوط الفرض فقالوا لو لم يكن الواجب واحد معينا لكان المكلف إذا أتى بكلها دفعة واحدة فإما أن يكون سقوط الفرض معللا بكل واحد منها فيكون قد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وذلك محال لأن ذلك الأثر مع أحد المؤثرين يصير واجب الوجود بذاته وواجب الوجود بذاته يستحيل أن يكون واجب الوجود بغيره فهو مع هذا المؤثر يمتنع أن يكون معللا بالمؤثر الثاني ومع المؤئر الثاني يمتنع أن يكون معللا بالمؤثر الأول فإذا وجد المؤثران معا يلزم أن يستغنى بكل واحد منهما عن كل واحد منهما فيكون محتاجا إليهما معا وغينا عنهما معا وذلك محال وإما أن يكون سقوط الفرض بالمجموع فذلك محال لأنه يلزم أن يكون المجموع واجبا وقد فرضنا الإتيان بالكل غير واجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 وإما أن يكون سقوط الفرض بواحد منها فذلك الواحد إما أن يكون معينا غير معين والأول باطل لأن الأثر المعين يستدعي مؤثرا معينا موجودا وكل موجود فهو في نفسه معين ولا إبهام البتة في الوجود الخارجي إنما الإبهام في الذهن فقط وإذا امتنع وجود واحد غير معين امتنع الإتيان به وإذا امتنع الإتيان به امتنع أن يكون الإتيان به علة لسقوط الفرض ولما بطل هذا ثبت أن علة سقوط الفرض هو الإتيان بواحد منها عند الله تعالى وهو المطلوب وثانيها كونه واجبا فإذا أتى المكلف بكلها فإما أن يكون المحكوم عليه بالوجوب مجموعها أو كل واحد منها وعلى التقديرين يلزم أن يكون الكل واجبا على التعيين لا على التخيير وهو باطل أو واحدا غير معين وهو باطل لأن غير المعين يمتنع وجوده فيمتنع إيجابه أو واحدا معينا في نفسه غير معلوم لنا وهو المطلوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 وثالثها أن يستحق عليه ثواب الواجب فإذا أتى المكلف بكلها فإما أن يستحق ثواب الواجب على كل واحد منها أو على مجموعها وعلى التقديرين يلزم أن يكون الكل واجبا على التعيين وإما أن لا يستحق ثواب الواجب منها إلا على واحد فذلك الواحد إما أن يكون معينا أو غير معين والثاني محال لأن استحقاق ثواب الواجب على فعله حكم ثابت له معين والحكم الثابث المعين يستدعي محلا معينا ولأن فعل شئ غير معين محال فعلمنا أن ذلك الواحد معين في نفسه غير معلوم للمكلف وربما أوردوا هذا الكلام على وجه آخر وهو أنه إذا أتى بالكل فإما أن ينوي الوجوب في فعل كل واحد أو في فعل واحد دون الباقي وتمام التقرير كما تقدم وأما طرف الترك فأثره استحقاق العقاب فالمكلف إذا أخل بها بأسرها فإما أن يستحق العقاب على ترك كل واحد منها فيكون فعل كل واحد منها واجبا على التعيين هذا خلف أو على ترك واحد منها وهو إما أن يكون معينا أو غير معين والثاني محال أما أولا فلأنه إذا لم يتميز واحد منها عن الآخر بصفة الوجوب كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 إسناد استحقاق العقاب إلى واحد منها دون الآخر ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر لمرجح وهو محال وأما ثانيا فلأن استحقاق العقاب على الترك حكم معين فيستدعي محلا معينا لاستحالة قيام المعين بغير المعين وأما ثالثا فلأن استحقاق العقاب على الترك يستدعي إمكان الفعل ولا إمكان لفعل شئ غير معين ولما بطل هذا القسم ثبت أنه معلل بترك واحد معين عند الله تعالى وهو المطلوب وأما الذين زعموا أن الواجب واحد غير معين فقد احتجوا عليه بأن الإنسان إذا عقد على قفيز من صبرة فالمعقود عليه قفيز واحد لا بعينه وإنما يتعين باختيار المشتري أخذ قفيز منها فقد صار الواحد الذي ليس بمتعين في نفسه معينا باختيار المكلف وكذا إذا طلق زوجة من زوجاته لا بعينها أو أعتق عبدا من عبيده لا بعينه وكذا القول في عقد الإمامة لرجلين دفعة واحدة والخاطبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 لامرأة واحدة فإن الجمع فيه حرام والجواب عن الأول أنه يسقط الفرض عندنا بكل واحد منها قوله يلزم أن يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة قلنا هذه الأسباب عندنا معرفات لا موجبات ولا يمتنع أن يجتمع على المدلول الواحد معرفات كثيرة وعن الثاني إن أردت بقولك هي واجبة كلها أنه يلزم فعلها بعد أن صارت مفعولة فذلك محال وغير لازم ولا يبقى بعد هذا إلا أن يقال إنها قبل دخولها في الوجود هل كانت بحيث يجب تحصيلها إما على الجمع أو على البدل وجوابنا أن نقول أما الجمع فلا وأما البدل فنعم بمعنى أنها بعد وجودها يصدق عليها أنها كانت قبل وجودها بحيث يجب تحصيل أي واحد منها اختار المكلف بدلا عن صاحبه وذلك لا يقدح في قولنا وأيضا فهذه الشبهة والتي قبلها لازمة للمخالف إذا قال الواجب هو ما يختاره المكلف لأنه إذا أتى بالكل فقد اختار كلها فوجب أن يسقط الفرض بكل واحد منها وأن يكون كل واحد منها واجبا وحينئذ يلزمه ما أورده علينا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وعن الثالث قال بعضهم إنه يستحق ثواب الواجب على فعل أكثرها ثوابا ويمكن أن يقال إنه يستحق على فعل كل واحد منها ثواب الواجب المخير لا ثواب الواجب المعين ومعناه إنه يستحق على فعلها ثواب فعل أمور كان له ترك كل واحد منها بشرط الإتيان بالآخر لا ثواب فعل أمور كان يجب عليه الإتيان بكل واحد منها على التعيين وعلى هذا التقدير يسقط السؤال وهو الجواب عن قوله كيف ينوي وعن الرابع قال بعضهم يستحق عقاب أدونها عقابا ويمكن أن يقال لم لا يجوز أن يستحق العقاب على ترك مجموع أمور كان المكلف مخيرا بين ترك أي واحد منها كان بشرط فعل الآخر وعن الخامس أنه ليس العقد بأن يتناول قفيزا من الصبرة أولى من أن يتناول القفيز الآخر لفقدان الاختصاص فوجب أن يكون كل قفيز منها قد تناوله العقد لكن على سبيل البدل عل معنى أن كل واحد منها لا اختصاص لذلك العقد به على التعيين وللمشتري أن يختار أي قفيز شاء وإذا اختاره تعين ملكه فيه فتعين الملك في القفيز المعين كسقوط الفرض في الكفارة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 وكذا إذا طلق زوجة من زوجاته لا بعينها أو أعتق عبدا من عبيده لا بعينه أن كل واحدة منهن طالق على البدل وكل واحد منهم يعتق على البدل على معنى أنه لا اختصاص للطلاق أو العتق بواحد معين وأن أي امرأة اختار مفارقتها تعينت الفرقة عليها وحلت له الأخرى وأي عبد اختار عتقه تعينت فيه الحرية وكان له استخدام الباقين والله أعلم فرع الأمر بالأشياء قد يكون على الترتيب وقد يكون على البدل وعلى التقديرين قد يكوة أحمد الجمع محرما ومباحا ومندوبا مثال المحرم في الترتيب أكل الميتة وأكل المباح وفي البدل تزويج المرأة من كفئين ومثال المباح في الترتيب الوضوء والتيمم وفي البدل ستر العورة بثوب بعد ثوب ومثال المندوب في الترتيب الجمع بين خصال كفارة الفطر وفي البدل الجمع بين خصال كفارة الحنث والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 المسألة الثانية الفعل بالنسبة إلى الوقت يكون على أحد وجوه ثلاثة الأول أن يكون الفعل فاضلا عن الوقت والتكليف بذلك لا يجوز إلا إذا جوزنا تكليف ما لا يطاق أو يكون المقصود إيجاب القضاء كما إذا طهرت الحائض أو بلغ الغلام وبقي من وقت الصلاة مقدار ركعة أو أقل والثاني أن لا يكون أزيد ولا أنقص نحو الأمر بإمساك كل اليوم وهذا لا إشكال فيه والثالث أن يكون الوقت فاضلا عن الفعل وهذا هو الواجب الموسع واختلف الناس فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 فمنهم من أنكره وزعم أن الوقت لا يمكن أن يزيد على الفعل ومنهم من سلم جوازه أما الأولون فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أوجه أحدها قول من قال من أصحابنا إن الوجوب مختص بأول الوقت وأنه لو أتى به في آخر الوقت كان قضاء وثانيها قول من قال من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله إن الوجوب مختص بآخر الوقت وأنه لو أتى به في أول الوقت كان جاريا مجرى ما لو أتى بالزكاة قبل وقتها وثالثها ما يحكى عن الكرخي أن الصلاة المأتي بها في أول الوقت موقوفة فإن أدرك المصلي آخر الوقت وليس هو على صفة المكلفين كان ما فعله نفلا وإن أدركه على صفة المكلفين كان ما فعله واجبا وأما المعترفون بالواجب الموسع وهم جمهور أصحابنا وأبو علي وأبو هاشم وأبو الحسين البصري فقد اختلفوا فيه على وجهين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 منهم من قال الوجوب متعلق بكل الوقت إلا أنه إنما يجوز ترك الصلاة في أول الوقت إلى بدل هو العزم عليها وهو قول أكثر المتكلمين وقال قوم لا حاجة إلى هذا البدل وهو قول أبي الحسين البصري وهو المختار لنا والدليل على تعلق الوجوب بكل الوقت أن الوجوب مستفاد من الأمر والأمر تناول الوقت ولم يتعرض البتة لجزء من أجزاء الوقت لأنه لو دل الأمر على تخصيصه ببعض أجزاء ذلك الوقت لكان ذلك غير هذه المسألة التي نحن نتكلم فيها وإذا لم يكن في الأمر دلالة على تخصيص ذلك الفعل بجزء من أجزاء ذلك الوقت وكان كل جزء من أجزاء الوقت قابلا له وجب أن يكون حكم ذلك الأمر هو إيجاب إيقاع ذلك الفعل في أي جزء من أجزاء ذلك الوقت أراده المكلف وذلك هو المطلوب فإن قيل لا نسلم إمكان تحقق الوجوب في أول الوقت والتمسك بلفظ الأمر إنما يكون إذا لم يثبت بالدليل العقلي امتناعه وها هنا قد ثبت ذلك لأن كونه واجبا في ذلك الوقت معناه أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 المكلف ممنوع من أن لا يوقعه فيه والمكلف غير ممنوع من أن لا يوقع الصلاة في أول الوقت وإذا كان كذلك استحال كون الصلاة واجبة في أول الوقت وإذا تعذر حمل الأمر على الوجوب وجب حمله على الندب فإن قلت الفرق بينه وبين المندوب من وجهين الأول أن هذه الصلاة لا يجوز تركها مطلقا والمندوب يجوز تركه مطلقا والثاني أن هذه الصلاة إنما يجوز تركها في أول الوقت إلى بدل وهو العزم على فعلها بعد ذلك وأما المندوب فإنه يجوز تركه مطلقا قلت الجواب عن الأول إني لا أدعي أن الصلاة ليست واجبة مطلقا بل أدعي أنها ليست واجبة في أول الوقت بدليل أنه يجوز تركها في أول الوقت فأما المنع من تركها في آخر الوقت فذلك يدل على وجوبها في آخر الوقت ولا يلزم من كون الشئ واجبا في وقت كونه واجبا في وقت آخر وعن الثاني إن العزم على الصلاة لا يجوز أن يكون بدلا عن الصلاة ويدل عليه أمور أحدها أن العزم على الصلاة إما أن يكون مساويا للصلاة في جميع الأمور المطلوبة أو لا يكون فإن كان الأول وجب أن يكون الإتيان بالعزم سببا لسقوط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 التكليف بالصلاة لأن الأمر ما وقع في ذلك الوقت إلا بالصلاة مرة واحدة وهذا العزم مساو للصلاة مرة واحدة في جميع الجهات المطلوبة فيلزم سقوط الأمر بالصلاة وإن كان الثاني امتنع جعله بدلا عن الصلاة لأن بدل الشئ يجب أن يكون قائما مقامه في الأمور المطلوبة يقول وثانيها أن الموجود ليس إلا الأمر بالصلاة في هذا لاوقت والأمر بالصلاة في هذا الوقت لا دلالة فيه على إيجاب العزم فإذن لا دليل البتة على وجوب العزم وما لا دليل عليه لا يجوز التكليف به وإلا ل صار ذلك تكليف ما لا يطاق وثالثها لو كان العزم بدلا عن الصلاة فإذا أتى المكلف بالعزم في هذا الوقت ثم جاء الوقت الثاني فإما أن يجب فعل العزم مرة أخرى أو لا يجب لاجائز أن يجب لأن بدل العبادة إنما يجب علي حد وجوبها ليكون فعله جاريا مجرى فعلها ومعلوم أن الأمر إنما اقتضى وجوب فعل العبادة في أحد اجزاء هذا الوقت مرة واحدة ولم يقتضي وجوب فعلها مرة أخرى في الوقت الثاني فوجب أن يكون وجوب بدلها على هذا الوجه فثبت أنه لا يجب فعل العزم في الوقت الثاني فإذن الوقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 الثاني لا يجب فيه فعل الصلاة ولا فعل بدلها وهو هذا العزم فثبت أن جواز ترك الصلاة في هذا الوقت لا يتوقف على فعل البدل وعند هذا يجب القطع بأنها ليست واجبة بل مندوبة والجواب قوله الفعل يجوز تركه في أول الوقت فلا يكون واجبا في أول الوقت قلنا للناس ها هنا طريقان الطريق الأول وهو الأصح أن حقيقة الواجب الموسع ترجع عند البحث إلى الواجب المخير فإن الآمر كأنه قال إفعل هذه العبادة إما في أول الوقت أو في وسطه أوفي آخره وإذا لم يبق من الوقت إلا قدر ما لا يفضل عنه فافعله لا محالة ولا تتركه البتة فقولنا يجب عليه أيقاع هذا الفعل إما في هذا الوقت أو في ذاك يجري مجرى قولنا في الواجب المخير إن الواجب علينا إما هذا أو ذاك فكما أنا نصفها بالوجوب على معنى إنه لا يجوز الإخلال بجميعها ولا يجب الإتيان بجميعها والأمر في اختيار أي واحد منها مفوض إلى رأي المكلف فكذا ها هنا لا يجوز للمكلف أن لا يوقع الصلاة في شئ من أجزاء هذا الوقت ولا يجب عليه أن يوقعها في كل أجزاء هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 الوقت وتعيين ذلك الجزء مفوض إلى رأي المكلف هذا إذا كان في الوقت فسحة فأما إذا ضاق الوقت فإنه يتضيق التكليف ويتعين فهذا هو الذي نقول به وعلى هذا التقدير لا حاجة إلى إثبات بدل هو العزم الطريق الثاني وهو اختيار أكثر الأصحاب وأكثر المعتزلة هو أن الفرق بين هذا الواجب وبين المندوب أن هذا الواجب لا يجوز تركه إلا لبدل والمندوب يجوز تركه من غير بدل قوله أولا العزم إما أن يكون قائما مقام الأصل في جميع الجهات المطلوبة أو لا يكون قلنا لم لا يجوزأن يكون قائما مقام الأصل لا في جميع الأوقات بل في هذا الوقت المعين فإذا أتى بالبدل في هذا الوقت المعين سقط عنه الآمر بالأصل في هذا الوقت ولكن لم يسقط عنه الآمر بالأصل في كل الأوقات واعلم أن هذا الجواب ضعيف لأن الأمر لا يفيد التكرار بل لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة فإذا صار البدل قائما مقام الأصل في هذا الوقت فقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 صار قائما مقامه في المرة الواحدة فإذا لم يكن مقتضى الأمر إلا مرة واحدة وقد قام هذا البدل مقام المرة الواحدة فقد تأدى تمام مقصود هذا الأمر بهدا البدل فوجب سقوط التكليف به بالكلية أما قوله ثانيا لا دليل على إثبات العزم قلنا لا نسلم لأن النص لما دل على الواجب الموسع ودل العقل على أنه لا يمكن إثبات الواجب الموسع إلا إذا أثبتنا له بدلا ودل الاجماع على أن ذلك البدل هو العزم لأن القائل قائلان قائل أثبت البدل وقائل ما أثبته وكل من أثبته قال إنه العزم فلو أثبتنا البدل شيئا آخر لكان ذلك خرقا للإجماع وهو باطل فثبت أن الدليل دل على وجوب العزم لكن بهذا التدريح ثم هذا لا يكون مخالفا للنص لأن النص كما لا يثبته لا ينفيه وإثبات مالا يتعرض له النص بالنفي ولا بالإثبات لا يكون مخالفة للظاهر واعلم أن هذا الجواب ضعيف فإنا نسلم أن العقل دل على أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 لا يمكن إثبات الواجب الموسع إلا إذا أثبتنا له بدلا وذلك لأنه لا معنى للواجب الموسع إلا أن يقول السيد لعبده لا يجوز لك إخلاء أجزاء هذا الوقت عن هذا الفعل ولا يجب عليك إيقاعه في جميع هذه الأجزاء ولك أن تختار أيها شئت بدلا عن الآخر ومعلوم أنه لو قال ذلك لما احتيج معه إلى إثبات بدل آخر وأما قوله ثالثا إما أن يجب فعل العزم في الوقت الثاني أو لا يجب قلنا لم لا يجوز أن يجب وذلك لأن العزم بدل عن الفعل في الوقت الأول فيفتقر إلى عزم ثان بدلا عن الفعل في الوقت الثاني واعلم أن هذا الجواب ضعيف لأنا بينا أن الأمر لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة وإذا كان كذلك وجب أن يكون الإتيان بالعزم الواحد كافيا فظهر بما ذكرناه أن القول بالواجب الموسع حق وأنه لا حاجة في إثباته إلى إثبات بدل هو العزم والله أعلم فرع في حكم الواجب الموسع في جميع العمر وذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 كالمنذورات وقضاء العبادات الفائتة وتأخير الحج من سنة إلى سنة فنقول إن جوزنا له التأخير أبدا وحكمنا بأنه لا يعصي إذا مات لم يتحقق معنى الوجوب أصلا وإن قلنا إنه يتضيق التكليف عليه عند الانتهاء إلى زمان معين من غير أن يوجد على تعيين ذلك الزمان دليل فهو تكليف ما لا يطاق فإنه إذا قيل له إن كان في علم الله تعالى أنك تموت قبل الفعل فأنت في الحال عاص بالتأخير وإن كان في علمه أنك لا تموت قبل الفعل فلك التأخير فهو يقول وما يدريني ماذا في علم الله تعالى وما فتواكم في حق الجاهل فلا بد من الجزم بالتحليل أو التحريم فلم يبق إلا أن نقول يجوز له التأخير بشرط أن يغلب على ظنه أنه يبقى بعد ذلك سواء بقي أو لم يبق فأما إذا غلب على ظنه أنه لا يبقى بعد ذلك عصى بالتأخير سواء مات أو لم يمت لأنه مأخوذ بموجب ظنه ولهذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز تأخير الحج لأن البقاء إلى سنة لا يغلب على الظن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 وأما تأخير الصوم والزكاة إلى شهر أو شهرين فجائز لأنه لا يغلب على الظن الموت إلى هذه المدة والشافعي رضي الله عنه يرى البقاء إلى السنة الثانية غالبا على الظن في حق الشاب الصحيح دون الشيخ والمريض والمعزر إذا غلب على ظنه السلامة فهلك ضمن لا لأنه أثم لكن لأنه في اخطأ ظنه والمخطئ ضامن غير آثم والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 المسألة الثالثة في الواجب على سبيل الكفاية الأمر إذا تناول جماعة فإما أن يتناولهم على سبيل الجمع أولا على سبيل الجمع فإن تناولهم على سبيل الجمع فقد يكون فعل بعضهم شرطا في فعل البعض كصلاة الجمعة وقد لا يكون كذلك كما في قوله تعالى وأقيموا الصلاة أما إذا تناول الجميع فذلك من فروض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 الكفايات وذلك إذا كان الغرض من ذلك الشئ حاصلا بفعل البعض كالجهاد الذي الغرض منه حراسة المسلمين وإذلال العدو فمتى حصل ذلك بالبعض لم يلزم الباقين واعلم أن التكليف فيه موقوف على حصول الظن الغالب فإن غلب على ظن جماعة أن غيرها يقوم بذلك سقط عنها وإن غلب على ظنهم أن غيرهم لا يقوم به وجب عليهم وإن غلب على ظن كل طائفة أن غيرهم لا يقوم به وجب على كل طائفة القيام به وإن غلب على ظن كل طائفة أن غيرهم يقوم به سقط الفرض عن كل واحدة من تلك الطوائف وإن كان يلزم منه أن لا يقوم به أحد لأن تحصيل العلم بأن غيري هل فعل هذا الفعل أم لا غير ممكن إنما الممكن تحصيل الظن والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 النظر الثاني في أحكام الوجوب وفيه مسائل المسألة الأولى الأمر بالشئ أمر بما لا يتم الشئ إلا به بشرطين أحدهما أن يكون الأمر مطلقا والآخر أن يكون الشرط مقدورا للمكلف وقالت الواقفية إن كانت مقدمة المأمور به سببا له كان إيجاب المسبب إيجابا للسبب لأن عند حصول السبب يجب المسبب فيمتنع أن يوجب المسبب عند اتفاق وجود السبب أما إذا كانت المقدمة شرطا فحينئذ لا يكون المشروط واجب الحصول عند حصول الشرط فها هنا لا يكون الأمر بالمشروط أمرا بالشرط كالصلاة مع الوضوء لنا أن الأمر اقتضى إيجاب الفعل على كل حال ولا يستقر وجوبه على هذا الوجه إلا ومقدمته واجبة إنما قلنا أن الأمر اقتضى إيجاب الفعل على كل حال لأنه لا فرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 بين قوله أوجبت عليك الفعل في هذا الوقت وبين قوله لا ينبغي أن يخرج هذا الوقت إلا وقد أتيت بذلك الفعل في كون كل واحد من هذين اللفظين دليلا على الإيجاب على كل حال وإنما قلنا إن إيجاب الفعل على كل حال يقتضي إيجاب مقدمته لأنه لو لم يقتض ذلك لكان مكلفا حال عدم المقدمة وذلك تكليف ما لا يطاق فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه أمر بالفعل بشرط حصول المقدمة غاية ما في الباب أن يقال هذا مخالفة للظاهر لأن اللفظ يقتضي إيجاب الفعل على كل حال فتخصيص الإيجاب بزمان حصول الشرط خلاف الظاهر لكنا نقول كما أن تخصيص الإيجاب بزمان حصول الشرط خلاف الظاهر فكذا إيجاب المقدمة مع أن الظاهر لا يقتضي وجوبها خلاف الظاهر وليس تحمل إحدى المخالفتين ب أولى من تحمل الآخرى فعليكم بالترجيح والجواب قوله لم لا يجوز أن يقال إن هذا الأمر أمر بالفعل بشرط حصول المقدمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 قلنا هذا يبطل بأمر الولى غلامه بأن يسقيه الماء إذا كان الماء على مسافة منه لأنه إن كان كلفه سقي الماء بشرط أن يكون قد قطع المسافة وجب إذا قعد في مكانه ولم يقطع المسافة أن لا يتوجه عليه الأمر بالسقي وإن كان مكلفا بالسقي مع عدم قطع المسافة فهذا تكليف ما لا يطاق فكل ما هو جواب الخصم فهو جوابنا ها هنا قوله ليس تحمل إحدى المخالفتين أولى من تحمل الثانية قلنا مخالفة الظاهر هي إثبات ما ينفيه اللفظ أو نفي ما يثبته اللفظ فأما إثبات ما لا يتعرض اللفظ له لا بنفي ولا إثبات فليس مخالفة للظاهر والمقدمة لا يتعرض اللفظ لها لا بنفي ولا إثبات فلم يكن إيجابها لدليل منفصل مخالفة للظاهر وليس كذلك إذا خصصنا وجوب الفعل بحال وجود المقدمة دون حال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 عدمها لأن ذلك يخالف ما يقتضيه اللفظ من وجوب الفعل على كل حال فروع الأول اعلم أن ما لا يتم الواجب إلا معه ضربان أحدهما كالوصلة والطريق المتقدم على العبادة والآخر ليس كذلك والأول ضربان أحدهما ما يجب بحصوله حصول ما هو طريق إليه والآخر لا يجب ذلك فيه أما الأول فكما إذا أمر الله تعالى بإيلام زيد فإنه لا طريق إليه إلا الضرب فهو يستلزم الألم في البدن الصحيح وأما الثاني فضربان أحدهما يحتاج الواجب إليه شرعا والآخر يحتاج إليه عقلا أما الأول فكحاجة الصلاة إلى تقديم الطهارة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وأما الثاني فكالقدرة والآلة وقطع المسافة إلى أقرب الأماكن وهذا على قسمين منه ما يصح من المكلف تحصيله كقطع المسافة وإحضار بعض الآلات ومنه مالا يصح منه كالقدرة وأما الذي لا يكون كالوصلة فضربان أحدهما أن يصير فعله لازما لأن المأمور به اشتبه به وهو كما إذا ترك الإنسان صلاة من الصلوات الخمس لا يعرفها بعينها فيلزمه فعل الخمس لأنه لا يمكن مع الالتباس أن يحصل له يقين الإتيان بالصلاة المنسية إلا بفعل الكل وثانيهما أن لا يتمكن من استيفاء العبادة إلا بفعل شئ آخر لأجل ما بينهما من التقارب نحو ستر جميع الفخذ فإنه لا يمكن إلا مع ستر بعض الركبة وغسل كل الوجه لا يمكن إلا مع غسل جزء من الرأس وأما الترك فهو أن يتعذر عليه ترك الشئ إلا عند ترك غيره وذلك إذا كان الشئ ملتبسا بغيره وهو ضربان أحدهما أن يكون قد تغير في نفسه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 والآخر أن لا يكون قد تغير في نفسه فالأول نحو اختلاط النجاسة بالماء الظاهر وللفقهاء فيه اختلافات غير لائقة بأصول الفقه وأما الذي لا يتغير مع الالتباس فإنه يشتمل على مسائل منها أن يشتبه الإناء النجس بالإناء الطاهر والفقهاء اختلفوا في جواز التحري فيه ومنها أن يوقع الإنسان الطلاق على امرأة من نسائه بعينها ثم يذهب عليه عينها والأقوى تحريم الكل تغليبا للحرمة على الحل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 الفرع الثاني قال قوم إذا اختلطت منكوحة بأجنبية وجب الكف عنهما لكن الحرام هي الأجنبية والمنكوحة حلال وهذا باطل لأن المراد من الحل رفع الحرج والجمع بينه وبين التحريم متناقض فالحق أنهما حرامان لكن الحرمة في إحداهما بعلة كونها أجنبية وفي الأخرى بعلة الاشتباه بالأجنبية أما إذا قال لزوجتيه إحداكما طالق فيحتمل أن يقال بحل وطئهما لأن الطلاق شئ متعين فلا يحصل إلا في محل متعين فقبل التعيين لا يكون الطلاق نازلا في واحدة منهما فيكون الموجود قبل التعيين ليس الطلاق بل أمرا له صلاحية التأثير في الطلاق عند اتصال البيان به وإذا ثبت أن قبل التعيين لم يوجد الطلاق وكان الحل موجودا وجب القول ببقائه فيحل وطؤهما معا ومنهم من قال حرمتا جميعا إلى وقت البيان تغليبا لجانب الحرمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 فإن قلت لما وجب عليه التعيين والله تعالى يعلم ما سيعينه فتكون هي المحرمة والمطلقة بعينها في علم الله تعالى وإنما هو مشتبه علينا قلت الله تعالى يعلم الأشياء على ماهي عليه فلا يعلم غير المتعين متعينا لأن ذلك جهل وهو في حق الله تعالى محال بل يعلمه غير متعين في الحال ويعلم أنه في المستقبل سيتعين الفرع الثالث اختلفوا في الواجب الذي لا يتقدر بقدر معين كمسح الرأس والطمأنينة في الركوع إذا زاد على قدر الزيادة هل توصف الزيادة بالوجوب والحق لا لأن الواجب هو الذي لا يجوز تركه وهذه الزيادة يجوز تركها فلا تكون واجبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 المسألة الثانية في أن الأمر بالشئ نهي عن ضده اعلم أنا لا نريد بهذا أن صيغة الأمر هي صيغة النهي بل المراد أن الأمر بالشئ دال على المنع من نقيضه بطريق الالتزام وقال جمهور المعتزلة وكثير من أصحابنا إنه ليس كذلك لنا إن ما دل على وجوب الشئ دل على وجوب ما هو من ضروراته إذا كان مقدورا للمكلف على ما تقدم بيانه في المسألة الأولى والطلب الجازم من ضروراته المنع من الإخلال به فاللفظ الدال على الطلب الجازم وجب أن يكون دالا على المنع من الإخلال به بطريق الالتزام ويمكن أن يعبر عنه بعبارة أخرى فيقال إما أن يمكن أن يوجد مع الطلب الجازم الإذن بالإخلال أو لا يمكن فإن كان الأول كان جازما بطلب الفعل ويكون قد أذن في الترك وذلك متناقض وإن كان الثاني فحال وجود هذا الطلب كان الإذن في الترك ممتنعا ولا معنى لقولنا الأمر بالشئ نهي عن ضده إلا هذا فإن قيل لا نسلم أن الطلب الجازم من ضروراته المنع من الإخلال وبيانه من وجهين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 الأول أن الأمر بالمحال جائز فلا استبعاد في أن يأمر جزما بالوجود وبالعدم معا الثاني أن الآمر بالشئ قد يكون غافلا عن ضده والنهي عن الشئ مشروط بالشعور به فالآمر بالشئ حال غفلته عن ضد ذلك الشئ يمتنع أن يكون ناهيا عن ذلك الضد فضلا عن أن يقال هذا الأمر نفس ذلك النهي والجواب قوله الأمر بالمحال جائز قلنا هب أنه جائز ولكن لا تتقرر ماهية الإيجاب في الفعل إلا عند تصور المنع من تركه فكان اللفظ الدال على الإيجاب دالا على المنع من الإخلال به ضمنا قوله قد يأمر بالشئ حال غفلته عن ضده قلنا لا نسلم أنه يصح منه إيجاب الشئ عند الغفلة عن الإخلال به وذلك لأن الوجوب ماهية مركبة من قيدين أحدهما المنع من الترك فالمتصور للإيجاب متصور للمنع من الترك فيكون متصورا للترك لا محالة وأما الضد الذي هو المعنى الوجودي المنافي فقد يكون مفغولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 علي عنه ولكنه لا ينافي الشئ لماهيته بل لكونه مستلزما عدم ذلك الشئ فالمنافاة بالذات ليست إلا بين وجود الشئ وعدمه وأما المنافاة بين الضدين فهي بالعرض فلا جرم عندنا الأمر بالشئ نهي عن الإخلال به بالذات ونهي عن أضداده الوجودية بالعرض والتبع سلمنا أن الترك قد يكون مغفولا عنه لكن كما أن الأمر بالصلاة أمر بمقدمتها وإن كانت تلك المقدمة قد تكون مغفولا عنها فلم لا يجوز أن كون الأمر بالشئ نهيا عن ضده وإن كان ذلك الضد مغفولا عنه سلمنا كل ما ذكرتموه لكن لم لا يجوز أن يقال الأمر بالشئ يستلزم النهي عن ضده بشرط أن لا يكون الآخر آمرا بما لا يطاق وبشرط أن لا يكون غافلا عن الضد ولا استبعاد في أن يستلزم شئ شيئا عند حصول شرط خاص وأن لا يستلزمه عند عدم ذلك الشرط المسألة الثالثة في أنه ليس من شرط الوجوب تحقق العقاب على الترك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 هذا هو المختار وهو قول القاضي أبي بكر خلافا للغزالي لنا وجهان الأول أنه لو كان كذلك لكان حيث تحقق العفو لم يتحقق الوجوب وذلك باطل على قولنا بجواز العفو عن أصحاب الكبائر والثاني أن ماهية الوجوب تتحقق عند المنع من الإخلال بالفعل وذلك يكفي في تحققه ترتب الذم على الترك ولا حاجة إلى ترتب العقاب على الترك والعجب أن الغزالي إنما أورد هذه المسألة بعد أن زيف ما قيل في حد الواجب أنه الذي يعاقب على تركه وذكر أن الأولى أن يقال الواجب هو الذي يذم تاركه وهذا منه اعتراف بأن الواجب لا يتوقف تقرر ماهيته على العقاب وأنه يكفي في تحققه استحقاق الذم ثم ذكر عقيبه فلا فصل هذه المسألة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وذكر أن ماهية الوجوب لا تتحقق إلا بترجيح الفعل على الترك والترجيح لا يحصل إلا بالعقاب ولا شك أنه مناقضة ظاهرة المسألة الرابعة الوجوب إذا نسخ بقي الجواز خلافا للغزالي لنا أن المقتضي للجواز قائم والمعارض الموجود لا يصلح مزيلا فوجب بقاء الجواز إنما قلنا أن المقتضى للجواز قائم لأن الجواز جزء من الوجوب والمقتضى للمركب مقتض لمفرداته وإنما قلنا إن الجواز جزء من الوجوب لأن الجواز عبارة عن رفع الحرج عن الفعل والوجوب عبارة عن رفع الحرج عن الفعل مع إثبات الحرج في الترك ومعلوم أن المفهوم الأول من المفهوم الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 وإنما قلنا إن المقتضى للمركب مقتض لمفرداته لأنه ليس المركب إلا عين تلك المفردات فالمقتضى للمركب مقتض لتلك المفردات فإن قلت المقتضى للمركب مقتض لتلك المفردات حال اجتماعها فلم قلت إنه يكون مقتضيا لها حال انفرادها قلت تلك المفردات من حيث هي غير ومن حيث إنها مفردة غير وأنا لاأدعي حتى أنها من حيث هي مفردة داخلة في المركب وكيف يقال ذلك فيه وقيد الانفراد يعاند قيد التركيب وأحد المعاندين لا يكون داخلا في الآخر ولكنني أدعي أنها من حيث هي داخلة في المركب فيكون المقتضى للمركب مقتضيا تلك المفردات من حيث إنها هي لا من حيث إنها مفردة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وإنما قلنا إن المعارض الموجود لا يصلح مزيلا لأن المعارض يقتضي زوال الوجوب والوجوب ماهية مركبة والماهية المركبة يكفي في زوالها زوال أحد قيودها فزوال الوجوب يكفي فيه إزالة الحرج عن الترك ولا حاجة فيه إلى إزالة جواز الفعل فثبت أن المقتضي للجواز قائم والمعارض لا يصلح مزيلا فإن قيل الجواز الذي جعلته جزء ماهية الوجوب هو الجواز بمعنى رفع الحرج عن الفعل فقط أو بمعنى رفع الحرج عن الفعل والترك معا الأول مسلم والثاني ممنوع ولكن ذلك الأول لا يمكن بقاؤه بعد زوال الوجوب لأن مسمى رفع الحرج عن الفعل لا يدخل في الوجود إلا مقيدا إما بقيد إلحاق الحرج بالترك كما في الوجوب أو بقيد رفع الحرج عن الترك كما في المندوب ويستحيل أن يبقى بدون هذين القيدين وأما الثاني فممنوع لأن الجواز بمعنى رفع الحرج عن الفعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 والترك ينافي الوجوب الذي لا تتحقق ماهيته إلا مع الحرج على الترك والمنافي لا يكون جزءا فثبت أن المقتضي للوجوب لا يكون مقتضيا للجواز بهذا المعنى والجواب أن الجواز الذي هو جزء ماهية الوجوب هو الجواز بالمعنى الأول قوله إنه لا يتقرر إلا مع أحد القيدين قلنا نسلم لكن الناسخ للوجوب لما رفع الوجوب رفع منع الحرج عن الترك فقد حصل بهذا الدليل زوال الحرج عن الترك وقد بقي أيضا القدر المشترك بين الوجوب والندب وهو زوال الحرج عن الفعل فيحصل من مجموع هذين القيدين زوال الحرج عن الفعل وعن الترك معا وذلك هو المندوب والمباح فظهر بما ذكرنا أن الآمر إذا لم يبق معمولا به في الوجوب بقي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 معمولا به في الجواز والله أعلم المسألة الخامسة في أن ما يجوز تركه لا يكون فعله واجبا والدليل عليه أن الواجب ما لا يجوز تركه والجمع بينه وبين جواز الترك متناقض واعلم أن الخلاف في هذا الفصل مع طائفتين إحداهما الكعبي وأتباعه فإنه روى في كتب أصحابنا عنهم أنهم قالوا المباح واجب واحتجوا عليه بأن المباح ترك به الحرام وترك الحرام واجب فيلزم أن يكون المباح واجبا وجوابه أن المباح ليس نفس ترك الحرام بل هو شئ به يترك الحرام ولا يلزم من كون الترك واجبا أن يكون الشئ المعين الذي يحصل به الترك واجبا إذا كان ذلك الترك ممكن التحقيق بشئ آخر غير ذلك الأول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وثانيهما ما ذكره كثير من الفقهاء من أن الصوم واجب على المريض والمسافر والحائض وما يأتون به عند زوال العذر يكون قضاء لما وجب وقال آخرون إنه لا يجب على المريض والحائض ويجب على المسافر وعندنا أنه لا يجب على الحائض والمريض البتة وأما المسافر فيجب عليه صوم أحد الشهرين إما الشهر الحاضر أو شهر آخر وأيهما أتى به كان هو الواجب كما قلنا في الكفارات الثلاث ودليلنا ما تقدم من أن الواجب هو الذي منع من تركه وهؤلاء ما منعوا من ترك الصوم فلا يكون واجبا عليهم بل الحائض ممنوعة من الفعل والممنوع من الفعل كيف يمكن أن يكون ممنوعا من الترك واحتج المخالف بأشياء أحدها قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه أوجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 الصوم على كل من شهد الشهر وهؤلاء قد شهدوا الشهر فيجب عليهم الصوم وثانيهما أنه ينوي قضاء رمضان ويسمى قضاء وذلك يدل على أنه يحكي وجوبا سابقا وثالثها أنه لا يزيد عليه ولا ينقص عنه فوجب أن يكون بدلا عنه كغرامات المتلفات والجواب عن الكل أن ما ذكرتموه استدلال بالظواهر والأقيسة على مخالفة ضرورة العقل وذلك لأن المتصور في الوجوب المنع من الترك فعند عدم المنع من الترك لو حاولنا إثبات المنع من الترك لكنا قد تمسكنا بالظواهر والأقيسة في إثبات الجمع بين النقيضين وذلك لا يقوله عاقل بلى إن فسرتم الوجوب بشئ آخر فذلك كلام آخر. فروع الفرع الأول اختلفوا في أن المندوب هل هو مأمور به أم لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 والحق أن المراد من الأمر إن كان هو الترجيح المطلق من غير إشعار بجواز الترك ولا بالمنع من الترك فنعم وإن كان هو الترجيح المانع من النقيض فلا لكنا لما بينا أن الأمر للوجوب كان الحق هو التفسير الثاني الفرع الثاني اختلفوا في أن المندوب هل يصير واجبا بعد الشروع فيه فعند أبي حنيفة رحمة الله عليه أن التطوع يلزم بالشروع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وعند الشافعي رضي الله عنه لا يجب لنا قوله عليه الصلاة والسلام الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر ولأنا نفرض الكلام فيما إذا نوى صوما يجوز له تركه بعد الشروع فنقول يجب أن يقع الصوم على هذه الصفة لقوله عليه الصلاة والسلام ولكل امرئ ما نوى وتمام الكلام في هذه المسألة مذكور في الخلافيات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 الفرع الثالث المباح هل هو من التكليف أم لا والحق أنه إن كان المراد بأنه من التكليف هو أنه ورد التكليف بفعله فمعلوم أنه ليس كذلك وإن كان المراد منه أنه ورد التكليف باعتقاد إباحته فاعتقاد كون ذلك الفعل مباحا مغاير لذلك الفعل في نفسه فالتكليف بذلك الاعتقاد لا يكون تكليفا بذلك المباح والأستاذ أبو إسحق سماه تكليفا بهذا التأويل وهو بعيد مع أنه نزاع في محض اللفظ الفرع الرابع المباح هل هو حسن والحق أنه إن كان المراد من الحسن كل ما رفع الحرج عن فعله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 سواء كان على فعله ثواب أو لم يكن فالمباح حسن وإن أريد به ما يستحق فاعله بفعله التعظيم والمدح والثواب فالمباح ليس بحسن الفرع الخامس المباح هل هو من الشرع قال بعضهم ليس من الشرع لأن معنى المباح أنه لا حرج في فعله وفي تركه وذلك معلوم قبل الشرع فتكون الإباحة تقرير للنفي الأصلي لا تغييرا فلا يكون من الشرع والحق أن الخلاف لفظي وذلك لأن الإباحة تثبت بطرق ثلاثة أحدها أن يقول الشرع إن شئتم فافعلوا وإن شئتم فاتركوا والثاني أن تدل أخبار الشرع على انه لا حرج في الفعل والترك والثالث أن لا يتكلم الشرع فيه البتة ولكن انعقد الإجماع مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 ذلك على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا طلب ترك فالمكلف فيه مخير وهذا الدليل يعم جميع الأفعال التي لا نهاية لها إذا عرفت هذا فنقول إن عنى بكون الإباحة حكما شرعيا أنه حصل حكم غير الذي كان مستمرا قبل الشرع فليس كذلك بل الإباحة تقرير لا تغيير وإن عنى بكونه حكما شرعيا أن كلام الشرع دل على تحققه فظاهر أنه كذلك لأن الإباحة لا تتحقق إلا على أحد الوجوه الثلاثة المذكورة وفي جميعها خطاب الشرع دل عليها فكانت الإباحة من الشرع بهذا التأويل والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 النظر الثالث من القسم الثاني من كتاب الأوامر والنواهي في المأمور به وفيه مسائل المسألة الأولى يجوز ورود الأمر بما لا يقدر عليه المكلف عندنا خلافا للمعتزلة والغزالي منا لنا وجوه الأول أن الله تعالى أمر الكافر بالإيمان والإيمان منه محال لأنه يفضي إلى انقلاب علم الله تعالى جهلا والجهل محال والمفضي إلى المحال محال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 فإن قيل لا نسلم أن الإيمان من الكافر محال ولا نسلم أن حصوله يفضي إلى انقلاب العلم جهلا بيانه أن العلم يتعلق بالشئ المعلوم على ما هو به فإن كان الشئ واقعا تعلق العلم بوقوعه وإن كان غير واقع تعلق العلم بلا وقوعه فإذا فرضت الإيمان واقعا لزم القطع بأن الله تعالى كان في الأزل عالما بوقوعه وإن فرضته غير واقع لزم القطع بأن الله تعالى كان في الأزل عالما بلا وقوعه ففرض الإيمان بدلا من الكفر لا يقتضي تغير العلم بل يقتضي أن يكون الحاصل في الأزل هو العلم بالإيمان بدلا عن العلم بالكفر فلم قلت إن ذلك محال سلمنا أن ما ذكرته يقتضي امتناع صدور الإيمان من الكافر لكنه معارض بوجوده دالة على أن الإيمان في نفسه ممكن الوجود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 الأول أن الإيمان كان في نفسه ممكن الوجود فلو انقلب واجبا بسبب العلم لكان العلم مؤثرا في المعلوم وهو محال لأن العلم يتبع المعلوم ولا يؤثر فيه الثاني لو كان ما علم الله تعالى وجوده واجب الوجود وكل ما علم الله تعالى عدمه يكون واجب العدم لزم أن لا يكون الله تعالى قادرا على ايجاد شئ لأن الشئ لا ينفك من أن يقال إن الله تعالى علم وجوده أو علم عدمه وعلى التقديرين يكون واجبا والواجب لا قدرة عليه البتة فلزم أن لا يقدر الله تعالى على شئ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا الثالث لو كان ما علم الله وجوده واجب الوجود وما علم عدمه يكون واجب العدم لزم أن لا يكون لنا اختيار في فعل شئ أصلا وأن تكون حركاتنا بمنزلة تحريك الرياح للأشجار من حيث إنه لا يكون باختيارنا لكنا نعلم بالضرورة أن ذلك باطل لأنا ندرك تفرقة ضرورية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 بين الحركات الحيوانية الاختيارية والجمادية الاضطرارية الرابع أنه لو كان كذلك لكان العالم واجب الوجود في الوقت الذي علم الله تعالى وقوعه فيه والواجب يسغني عن المؤثر فيلزم استغناء حدوثه عن المؤثر فيلزم ان لا يفتقر حدوث العالم ولا شئ من الأشياء إلى القادر المختار وذلك كفر الخامس إن تعلق العلم به إما أن يكون سببا لوجوبه أو لا يكون فإن كان سببا لوجوبه لزم أن يكون العلم قدرة وإرادة لأنه لا معنى للقدرة والإرادة إلا الأمر الذي باعتباره يترجح الوجود على العدم فإذا كان العلم كذلك صار العلم عين القدرة والإرادة وذلك محال لأنه يقتضي قلب الحقائق وهو غير معقول وإن لم يكن لعلم سببا لوجوب المعلوم فقد سقط ما ذكرتموه من الدلالة لأنه مبني على أن المعلوم صار واجب الوقوع عند تعلق العلم به فإذا بطل ذلك بطل دليلكم سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الإيمان محال من الكافر لكن امتناعه ليس لذاته بل بالنظر إلى علم الله تعالى فلم قلتم أن ما لا يكون محالا لذاته فإنه لا يجوز ورود الأمر به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على إن الأمر بالمحال واقع لكنه يدل على أنه لا تكليف إلا وهو تكليف بما لا يطاق وذلك لأن الشئ إن كان معلوم العدم كان الأمر بالإتيان به أمرا بإيقاع الممتنع وإن كان معلوم الوجود كان واجب الوجود وما كان واجب الوجود لا يكون لقدرة القادر الأجنبي واختياره فيه أثر فيكون التكليف به أيضا تكليفا بما لا يطاق فثبت أن ما ذكرتموه يدل على أن التكاليف بأسرها تكليف ما لا يطاق وأن أحدا من العقلاء لم يقل بذلك فإن بعض الناس أحاله عقلا وبعضهم جوزه ولم يقل أحد بأنه يمتنع ورود التكليف إلا بما لا يطاق فما هو نتيجة هذا الدليل لا تقولون به وما تقولون به لا ينتجه هذا الدليل فيكون ساقطا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على قولكم ولكنه معارض بالنص والمعقول أما النص فقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وما جعل عليكم في الدين من حرج وأي حرج فوق تكليف بما لا يطاق وأما المعقول فمن ثلاثة أوجه الأول أن في المشاهد أن من كلف الأعمى نقط المصاحف والزمن الطيران في الهواء عد سفيها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا الثاني المحال غير متصور وكل ما لا يكون متصورا لا يكون مأمورا به إنما قلنا إنه غير متصور لأن كل متصور متميز وكل متميز ثابت فما لا يكون ثابتا لا يكون متصورا بيان الثاني أن الذي لا يكون متصورا لا يكون في العقل إليه إشارة والمأمور به يكون في العقل إليه إشارة والجمع بينهما متناقض الثالث إذا جوزتم الأمر بالمحال فلم لا تجوزون أمر الجمادات وبعثة الرسل إليها وإنزال الكتب عليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 والجواب قوله إذا فرضنا الإيمان بدلا عن الكفر كان الموجود في الأزل هو العلم بالإيمان بدلا عن العلم بالكفر قلنا نحن وإن لم نعلم أن علم الله تعالى في الأزل تعلق بإيمان زيد أو بكفره لكنا نعلم أن علمه تعلق بأحدهما على التعيين وذلك العلم كان حاصلا في الأزل فنقول لو لم يحصل متعلق ذلك العلم لزم انقلاب ذلك العلم جهلا في الماضي وهو محال من وجهين أحدهما امتناع الجهل على الله تعالى والثاني أن تغير الشئ في الماضي محال قوله العلم غير مؤثر قلنا اللازم من دليلنا حصول الوجوب عند تعلق العلم فأما أن ذلك الوجوب به أو بغيره فذلك غير لازم قوله لزم أن لا يقدر الله تعالى على شئ قلنا قد بينا أن العلم بالوقوع يتبع الوقوع الذي هو تبع الإيقاع بالإرادة والقدرة فامتنع أن يكون الفرع مانعا من الأصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 بل تعلق علمه به على الوجه المخصوص يكشف عن أن قدرته وإرادته تعلقتا به على ذلك الوجه قوله يلزم الجبر قلنا إن عنيت بالجبر أن العبد لا يتمكن من شئ على خلاف علم الله تعالى فلم قلت إنه محال قوله يلزم أن يكون العالم واجب الحدوث حين حدوثه فيستغنى عن القدرة والإرادة قلنا قد بينا أن العلم بالوقوع تبع الوقوع الذي هو تبع القدرة والإرادة فإن والفرع لا يغني عن الأصل قوله إن العلم إما أن يكون سببا للوجوب أو لا يكون قلنا نختار أنه ليس سببا للوجوب ولكن نقول إنه يكشف عن الوجوب وإذا كان كاشفا عن الوجوب ظهر الفرق قوله هذا لا يدل على جواز الأمر بالجمع بين الضدين قلنا بل يدل لأن علم الله تعالى بعدم إيمان زيد ينافي وجود إيمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 زيد فإذا أمره بإدخال الإيمان في الوجود حال حصول العلم بعدم الإينما فقد كلفه بالجمع بين المتنافيين قوله هذا الدليل يقتضي أن تكون التكاليف كلها تكليف ما لا يطاق وذلك لم يقل به أحد قلنا الدلائل القطعية العقلية لا تدفع بأمثال هذه الدوافع أما الآية فهي معارضة بقوله تعالى ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ولأنك قد علمت أن القواطع العقلية لا تعارضها الظواهر النقلية بل تعلم أن تلك الظواهر مأولة ولا حاجة إلى تعيين تأويلها قوله أنه عبث قلنا إن عنيت بكونه عبثا خلوه عن مصلحة العبد فلم قلت إن هذا محال قوله المحال غير متصور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 قلنا لو لم يكن متصورا لامتنع الحكم عليه بالامتناع لما أن التصديق موقوف على التصور ولأنا نميز بين المفهوم من قولنا الواحد نصف الإثنين والمفهوم من قولنا الوجود والعدم يجتمعان ولولا تصور هذين المفهومين لامتنع التمييز قوله لم لا يجوز أمر الجماد قلنا حاصل الأمر بالمحال عندنا هو الإعلام بنزول العقاب وذلك لا يتصور إلا في حق الفاهم الدليل الثاني أن الله تعالى أخبر عن أقوام معينين أنهم لا يؤمنون وذلك في قوله تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وقال تعالى لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إذا ثبت هذا فنقول أولئك الأشخاص لو آمنوا لا نقلب خبر الله تعالى الصدق كذبا والكذب على الله محال إما لأدائه إلى الجهل أو إلى الحاجة على قول المعتزلة أو لنفسه كما هو مذهبنا والمؤدي إلى المحال محال فصدور الإيمان عن أولئك الأشخاص محال وتمام هذا التقرير ما تقدم الدليل الثالث أن الله تعالى كلف أبا لهب بالإيمان ومن الإيمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن فقد صار مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن أبدا وهذا هو التكليف بالجمع بين الضدين الدليل الرابع أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على داعية يخلقها الله تعالى ومتى وجدت تلك الداعية كان الفعل واجب الوقوع وإذا كان كذلك كان الجبر لازما ومتى كان الجبر لازما كانت التكاليف بأسرها تكليف ما لا يطاق وإنما قلنا أن صدور الفعل من العبد يتوقف على داعية يخلقها الله تعالى لأن العبد لا يخلو إما أن يكون متمكنا من الفعل والترك أولا يكون كذلك فإن كان الأول فإما أن يكون ترجح الفاعلية على التاركية موقوفا على مرجح أو لا يكون فإن توقف فذلك المرجح إن كان من فعل العبد عاد التقسيم فيه ولا يتسلسل بل لابد وأن ينتهي إلى داعية ليست من العبد بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 من الله تعالى وهو المقصود وإن لم يتوقف على مرجح فقد ترجحت الفاعلية على التاركية لا لمرجح وهو محال لأن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لو جاز أن يكون لمرجح لجاز في كل العالم أن يكون كذلك وحينئذ لا يمكن الاستدلال بجواز العالم على وجود الصانع وهو محال فإن قلت لم لا يجوز أن يقال القادر وحده يكفي في ترجيح أحد الطرفين على الآخر قلت قول القائل إنما ترجح أحد الطرفين على الآخر لأن القادر رجحه مغالطة لأنا نقول هل لقولك القادر رجحه مفهوم زائد على كونه قادرا وعلى وجود الأثر أو ليس له مفهوم زائد فإن كان له مفهوم زائد فحينئذ يكون صدور أحد مقدوري القادر عنه دون الآخر موقوفا على أمر زائد وذلك هو القسم الأول الذي بينا أنه يفضي إما إلى التسلسل أو إلى مرجح يصدر من الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وإن لم يكن له مفهوم زائد صار معنى قولنا القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح إلى أن القادر يستمر كونه قادرا مدة من غير هذا الأثر ثم أنه وجد هذا الأثر بعد مدة من غير أن يحصل لذلك القادر قصد إليه وميل إلى تكوينه وذلك معلوم الفساد بالضرورة ومنشأ المغالطة في تلك اللفظة هو أن قول القائل القادر يرجح لكونه قادرا يوهم أن هذا المقدور إنما ترجح على المقدور الآخر لأن القادر خصه بالترجيح وقولنا خصه بالترجيح لا يوهم أمرا زائدا على محض القادرية لأنا إذا أثبتنا أمرا زائدا فقد أوقفنا ترجحه على انضمام أمر آخر إلى مجرد القادرية وحينئذ يرجع إلى القسم الأول فثبت إن هذا الكلام مغالطة محضة وإنما قلنا إن عند حصول تلك الداعية التي يخلقها الله تعالى يجب صدور الفعل فلأنه لو لم يجب لكان إما أن يمتنع أو يجوز فإن امتنع كانت الداعية مانعة لا مرجحة وإن جاز فمع تلك الداعية يجوز عدم الأثر تارة ووجوده أخرى فترجح الوجود على العدم أما أن يتوقف على أمر زائد أو لا يتوقف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 فإن توقف لم تكن الداعية الأولى تمام المرجح وكنا قد فرضناها كذلك هذا خلف وأيضا فلأن الكلام في هذه الضميمة كما فيما قبلها ويلزم إما التسلسل أو الانتهاء إلى ترجح الممكن من غير مرجح وهما محالان أو الوجوب وهو المطلوب وإنما قلنا إنه لما توقف فعل العبد على داعية يخلقها الله تعالى وكان ذلك الفعل واجب الوقوع عند تلك الداعية لزم الجبر لأن قبل خلقها كان الفعل ممتنعا من العبد وبعد خلقها يكون واجبا وعلى كلا التقديرين لا تثبت المكنة من الفعل والترك وإنما قلنا إنه لما كان كذلك كانت التكاليف بأسرها تكليف مالا يطاق لأنه لما لم يكن العبد متمكنا من الفعل والترك البتة كان تكليفه تكليفا لمن لم يكن متمكنا من الفعل والترك وذلك هو المقصود الدليل الخامس التكليف إما أن يتوجه على المكلف حال استواء الداعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحد الداعيين على الآخر فإن توجه عليه حال الاستواء كان ذلك تكليفا بمالا يطاق لأن حال حصول الاستواء يمتنع حصول الرجحان لأن الاستواء ينافي الرجحان فالجمع بينهما جمع بين المتنافيين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وإذا متنع الرجحان كان التكليف بالرجحان تكليفا بمالا يطاق وإن توجه عليه حال عدم الائتواء عمر فنقول الراجح يصير واجبا والمرجوح ممتنعا على ما تقدم تقريره في الدليل الرابع والتكليف بالواجب محال لأن ما يجب وقوعه استحال أن يسند وقوعه إلى شئ آخر وإذا استحال أن يسند وقوعه إلى غيره استحال أن يفعله فاعل فإذا أمر بفعله فقد أمر بما لا قدرة له عليه وإما التكليف بالممتنع فلا شبهة في أنه تكليف بمالا يطاق الدليل السادس أفعال العبد مخلوقة لله تعالى وإذا كان كذلك كان التكليف تكليف ما لا يطاق أما أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فلأنه لو كان مخلوقا للعبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 لكان معلوما للعبد وليس معلوما للعبد فهو غير مخلوق له وتقريره في كتبنا الكلامية وأما أنه إذا كان فعل العبد مخلوقا لله تعالى كان التكليف تكليفا بما لا يطاق فلأن العبد قبل أن خلق الله تعالى فيه الفعل استحال منه تحصيل الفعل وإذا خلق الله تعالى فيه الفعل استحال منه الامتناع والدفع ففي كلتا الحالتين لا قدرة له لا على الفعل ولا على الترك فإن قلت هب أنه لا قدرة له على الإيجاد ولكن الله تعالى أجرى عادته بأنه إذا اختار العبد وجود الفعل فالله تعالى يخلقه وإن اختار عدم الفعل فالله تعالى لا يخلقه وعلى هذا الوجه يكون العبد مختارا قلت ذلك الاختيار إن كان منه لا من الله تعالى فالعبد موجد لذلك الاختيار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وإن لم يكن منه بل من الله تعالى كان مضطرا في ذلك الاختيار فيعود الكلام الدليل السابع الأمر قد وجد قبل الفعل والقدرة غير موجودة قبل الفعل فالأمر قد وجد لا عند القدرة وذلك تكليف ما لا يطاق أما أن الأمر قد وجد قبل الفعل فلأن الكافر مكلف بالإيمان وأما أن القدرة غير موجودة قبل الفعل فلأن القدرة صفة متعلقة فلا بد لها من متعلق والمتعلق إما الموجود وإما المعدوم ومحال أن يكون المعدوم متعلق القدرة لأن العدم نفي محض مستمر والنفي المحض يستحيل أن يكون مقدورا والمستمر يمتنع أيضا أن يكون مقدورا فالنفي المستمر اولى أن لا يكون مقدورا وإذا ثبت أن متعلق القدرة لا يمكن أن يكون عدما محضا ثبت أنه لا بد أن يكون موجودا فلما ثبت أن القدرة لا بد لها من معلق وثبت أن المتعلق لا بد وأن يكون موجودا ثبت أن القدرة لا توجد إلا عند وجود الفعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 الدليل الثامن العبد لو قدر على الفعل لقدر عليه إما حال وجوده أو قبل وجوده والأول محال وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محال والثاني محال لأن القدرة في الزمان المتقدم إما أن يكون لها أثر في الفعل أو لا يكون فإن كان لها أثر في الفعل فنقول تأثير القدرة في المقدور حاصل في الزمان الأول ووجود المقدور غير حاصل في الزمان الأول فتأثير القدرة في المقدور مغاير لوجود المقدور والمؤثر إما أن يؤثر في ذلك المغاير حال وجوده أو قبله فإن كان الأول لزم أن يكون موجدا للموجود وهو محال وإن كان الثاني كان الكلام فيه كما تقدم ولزم التسلسل وإن لم يكن لها أثر في الزمان المتقدم وثبت أيضا أنه ليس لها في الزمان المقارن لوجود الفعل أثر استحال أن يكون لها أثر في الفعل البتة وإذا لم يكن لها أثر ألبتة استحال أن تكون للعبد قدرة على الفعل البتة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 واعلم أن هذين الوجهين لا نرتضيهما النبي لأنهما يشكلان بقدرة الباري جل جلاله على الفعل الدليل التاسع أن الله تعالى أمر بمعرفته في قوله فاعلم أنه لا إله إلا الله فنقول إما أن يتوجه الأمر على العارف بالله تعالى أو على غير العارف به والأول محال لأنه يقتضي تحصيل الحاصل والجمع بين المثلين وهما محالان والثاني محال لأن غير العارف بالله تعالى ما دام يكون غير عارف بالله تعالى استحال أن يكون عارفا بأن الله تعالى أمره بشئ لإن العلم بأن الله تعالى أمره بشئ مشروط بالعلم بالله تعالى ومتى استحال أن يعرف أن الله تعالى أمره بشئ كان وإن توجيه الأمر عليه في هذه الحالة توجيها للأمر على من يستحيل أن يعلم ذلك الأمر وذلك عين تكليف مالا يطاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 الدليل العاشر أن الأمر بالنظر والفكر واقع في قوله تعالى قل انظروا وفي قوله تعالى أولم يتفكروا وذلك أمر بمالا يطاق بيانه أن تحصيل التصورات غير مقدور وإذا لم تكن التصورات مقدورة لم تكن القضايا الضرورية مقدورة وإذا لم تكن القضايا الضرورية مقدورة لم تكن القضايا النظرية مقدورة وإذا لم تكن هذه الأشياء مقدورة لم يكن الفكر والنظر مقدورا وإنما قلنا إن التصورات غير مقدورة لأن القادر إذا أراد تحصيلها فإما أن يحصلها حال ما تكون التصورات خاطرة بباله أو حال مالا تكون تلك التصورات خاطرة بباله فإن كانت خاطرة بباله فتلك التصورات حاصلة فتحصيلها يكون تحصيلا للحاصل وهم محال وإن كانت غير خاطرة بباله كان الذهن غافلا عنه ومتى كان الذهن غافلا عنه استحال من القادر أن يحاول تحصيله والعلم بذلك ضروري فإن قلت لم لا يجوز أن يقال إنها متصورة من وجه دون وجه فلا جرم يمكنه أن يحصل كمالها قلت لما كانت متصورة من وجه دون وجه فالوجه المتصور مغاير لما ليس بمتصور فهما أمران الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 أحدهما متصور بتمامه والآخر غير متصور بتمامه وحينئذ يعود الكلام المقدم وإنما قلنا إن التصورات إذا لم تكن مقدورة كانت القضايا البديهية غير مقدورة لأن تلك التصورات إما أن تكون بحيث يلزم من مجرد حضورها في الذهن حكم الذهن بنسبة بعضها إلى بعض بالنفي أو بالإثبات أو لا يلزم فإن لم يلزم لم تكن تلك القضايا علوما يقينية بل تكون اعتقادات تقليدية وإن لزم فنقول حصول تلك التصورات ليس باختياره وعند حصولها فترتب تلك التصديقات عليها ليس باختياره فإذن حصول تلك القضايا البديهية ليس باختياره وذلك هو المطلوب وإنما قلنا إن القضايا البديهية إذا لم تكن باختياره لم تكن القضايا النظرية باختياره وذلك لأن لزوم هذه النظريات عن تلك الضروريات إما أن يكون واجبا أو لا يكون فإن لم يكن واجبا لم يكن ذلك استدلالا يقينيا لأنا إذا استدللنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 بدليل مركب من مقدمات ولم يكن المطلوب واجب اللزوم عن تلك المقدمات كان اعتقاد وجود ذلك المطلوب في هذه الحالة اعتقادا تقليديا لا يقينيا وإذا كان ذلك واجبا فنقول قبل حصول تلك المقدمات البديهية امتنع حصول هذه القضايا الاستدلالية وعند حصول تلك البديهيات يجب حصول هذه الاستدلاليات فإذن هذه الاستدلاليات في جانبي النفي والإثبات لا تكون باختيار المكلف وأذا ثبت هذا ثبت أن التكليف بها تكليف بما ليس في الوسع فهذا مجموع الوجوه المذكورة في هذه المسألة وبالله التوفيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 المسألة الثانية قال أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة الأمر بفروع الشرائع لا يتوقف على حصول الإيمان وقال جمهور أصحاب أبي حنيفة رحمه الله عليه يتوقف عليه وهو قول الشيخ أبي حامد الاسفراييني من فقهائنا ومن الناس من قال تتناولهم النواهي دون الأوامر فإنه يصح انتهاؤهم عن المنهيات ولا يصح إقدامهم على المأمورات واعلم أنه لا أثر لهذا الاختلاف في الأحكام المتعلقة بالدينا لأنه ما دام الكافر كافرا يمتنع منه الإقدام على الصلاة وإذا أسلم لم يجب عليه القضاء وإنما تأثير هذا الاختلاف في أحكام الآخرة فإن الكافر إذا مات على كفره فلا شك أنه يعاقب على كفره وهل يعاقب مع ذلك على تركه الصلاة والزكاة وغيرهما أم لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 ولا معنى لقولنا كما إنهم مأمورون بهذه العبادات إلا أنهم كما يعاقبون على ترك الإيمان يعاقبون أيضا بعقاب زائد على ترك هذه العبادات ومن أنكر ذلك قال إنهم لا يعاقبون إلا على ترك الإينمان وهذه دقيقة لا بد من معرفتها لنا وجوه الأول أن المقتضى لوجوب هذه العبادات قائم والوصف الموجود وهو الكفر لا يصلح مانعا فوجب القول بالوجوب إنما قلنا إن المقتضى موجود لقوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم وقوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ولا شك في أن هذه النصوص عامة في حق الكل وإنما قلنا إن الكفر لا يصلح أن يكون مانعا لأن الكافر متمكن من الإتيان بالإيمان أولا حتى يصير متكمنا من الإتيان بالصلاة والزكاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 بناء عليه وبهذا الطريق قلنا الدهري مكلف بتصديق الرسول والمحدث مأمور بالصلاة فثبت أن المقتضي قائم والمعارض غير مانع فوجب القول بالوجوب الدليل الثاني قوله تعالى ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين وهذا يدل على أنهم يعاقبون على ترك الصلاة فإن قيل هذه حكاية قول الكفار فلا يكون حجة فإن قلت لو كان ذلك باطلا لبينه الله تعالى قلت لا نسلم وجوب ذلك فإنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ما كنا نعمل من سوء يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ثم إنه تعالى ما كذبهم في هذه المواضع فعلمنا أن تكذيبهم غير واجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 سلمنا أنه جحة لكن لم لا يجوز أن يقال العذاب على مجرد التكذيب لقوله تعالى وكنا نكذب بيوم الدين والدليل عليه أن التكذيب سبب مستقل باقتضاء دخول النار وإذا وجد السبب المستقل باقتضاء الحكم لم يجز إحالته على غيره سلمنا أن العذيب واقع على جميع الأمور المذكورة لكن قوله لم نك من المصلين معناه لم نك من المؤمنين لأن اللفظ محتمل والدليل دل عليه أما اللفظ محتمل فلما روي في الحديث نهيت عن قتل المصلين ويقال قال أهل الصلاة والمراد منه المسلمون وأما أن الدليل دل عليه فلأن أهل الكتاب داخلون في هذه الجملة مع أنهم كانوا يصلون ويتصدقون ويؤمنون بالغيب ولو كان المراد من لم يأت بالصلاة والزكاة لكانوا كاذبين فيه فعلمنا أن المراد أنهم ما كانوا من أهل الصلاة والزكاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 سلمنا أن التعذيب على ترك الصلاة لكن قوله لم نك من المصلين يجوز أن يكون إخبارا عن قوم ارتدوا بعد إسلامهم مع أنهم ما صلوا حال إسلامهم لأنه واقعة حال فيكفي في صدقه صورة واحدة سلمنا عمومه في حق الكفار ولكن الوعيد ترتب على فعل الكل فلم قلت إنه حاصل على كل واحد من تلك الأمور والجواب أن الله تعالى لما حكى عن الكفار تعليلهم دخول النار بترك الصلاة وجب أن يكون ذلك صدقا لأنه لو كان كذبا مع أنه تعالى ما بين كذبهم فيها لم يكن في روايتها فائدة وكلام الله تعالى متى أمكن حمله على ما هو أكثر فائدة وجب ذلك وأما المواضع التي كذبوا فيها مع أن الله تعالى ما بين كذبهم فيها فذاك لاستقلال العقل بمعرفة كذبهم فيها فتكون الفائدة من ذكر تلك الأشياء بيان نهاية مكابرتهم وعنادهم في الدنيا والآخرة وأما ها هنا فلما لم يكن العقل مستقلا بمعرفة كذبهم والله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 لم يبين لنا ذلك فلو كانوا كاذبين فيه لم يحصل منه غرض أصلا فتكون الآية عرية عن الفائدة قوله العلة هي التكذيب بيوم الدين قلنا لو كان كذلك لكان سائر القيود عديم الأثر في اقتضاء هذا الحكم وذلك باطل لأن الله تعالى رتب الحكم عليها أولا في قوله تعالى قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين قوله لما وجد السبب المستقل لم يجز إحالة الحكم على غيره قلنا لعل الحصول في الموضع المعين من الجحيم ما كان لمجرد التكذيب بل لمجموع هذه الأمور وإن كان مجرد التكذيب سببا لدخول مطلق الجحيم قوله المراد من قوله لم نك من المصلين أي لم نك من المؤمنين قلنا هذا التأويل لا يتأتي في قوله ولم نك نطعم المسكين قوله أهل الكتاب صلوا وأطعموا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 قلنا الصلاة في عرف الشرع عبارة عن الأفعال المخصوصة التي في شرعنا لا التي في شرع غيرنا قوله جاز أن يكون المراد منه قوما ارتدوا بعد إسلامهم قلنا إن قوله سبحانه وتعالى قالوا لم نك من المصلين هو جواب المجرمين المذكورين في قوله يتساءلون عن المجرمين وذلك عام في حق الكل الدليل الثالث قوله تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله يضاعف له العذاب يوم القيامة وكذلك قوله فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ذمهم على ترك الكل وكذلك قوله تعالى ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة الدليل الرابع الكافر يتناوله النهي فوجب أن يتناوله الأمر وإنما قلنا إنه يتناوله النهي لأنه يحد على الزنى وإنما قلنا إنه إذا تناوله النهي وجب أن يتناوله الأمر لأنه إنما يتناوله النهي ليكون متمكنا من الاحتراز عن المفسدة الحاصلة بسبب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 الإقدام على المنهي عنه فوجب أن يتناوله الأمر ليكون متمكنا من استيفاء المصلحة الحاصلة بسبب الإقدام على المأمور به فإن قيل لا نسلم أنه يتناوله النهي وأما الحد فذاك لأنه التزم إحكامنا وسلم سلمنا لكن لافرق بين الأمر والنهي هو أنه مع كفره يمكنه الانتهاء عن المنهيات ولا يمكنه مع كفره الإتيان بالمأمورات والجواب عن الأول أن من أحكام شرعنا أن لا يحد أحد بالفعل المباح وعن الثاني أن قولكم الكافر المكلف يمكنه الانتهاء عن المنهيات إن عنيتم به أنه يتمكن من تركها من غير اعتبار النية فهو أيضا متمكن من فعل المأمورات من غير اعتبار النية وإن عنيتم به أنه متمكن من الانتهاء عن المنهيات لغرض امتثال قول الشارع فمعلوم أن ذلك حال عدم الإيمان متعذر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 فالحاصل أن المأمور والمنهي استويا في أن الإتيان بهما من حيث الصورة لا يتوقف على الإينما والإتيان بهما لغرض امتثال حكم الشارع يتوقف في كليهما على الإينما فبطل الفرق الذي ذكروه واحتج المخالف بأمرين أحدهما أنه لو وجبت الصلاة على الكافر لوجبت عليه إما حال الكفر أو بعده والأول باطل لأن الإتيان بالصلاة في حال الكفر ممتنع والممتنع لا يكون مأمورا به والثاني باطل لإجماعنا على أن الكافر إذا أسلم فإنه لا يؤمر بقضاء ما فاته من الصلاة في زمان الكفر وثانيهما لو وجبت هذه العبادات على الكافر لوجب عليه قضاؤها كما في حق المسلم والجامع تدارك المصلحة المتعلقة بتلك العبادات ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها غير واجبة عليه والجواب عن الأول أنا بينا أنه لا تظهر فائدة هذا الخلاف في الأحكام الدنيوية إنما تظهر فائدته في الأحكام الأخروية وهي أنه هل يزداد عقاب الكافر بسبب تركه لهذه العبادات وما ذكرتموه من الدلالة لا يتناول هذا المعنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 وعن الثاني أنه ينتقض بالجمعة ثم الفرق أن إيجاب القضاء على من أسلم بعد كفره ينفره عن الإسلام لامتداد ايام الكفر بخلاف المسلم والله أعلم المسألة الثالثة في أن الإتيان بالمأمور به هل يقتضي الإجزاء قبل الخوض في المسألة لا بد من تفسير الإجزاء وقد ذكروا فيه تفسيرين أحدهما وهو الأصح أن المراد من كونه مجزيا هو أن الإتيان به كاف في سقوط الأمر وإنما يكون كافيا إذا كان مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة فيه من حيث وقع الآمر به وثانيهما أن المراد من الإجزاء سقوط القضاء وهذا باطل لأنه لو أتى بالفعل عند اختلال بعض شرائطه ثم مات لم يكن مجزئا مع سقوط الفضاء ولأن القضاء إنما يجب بأمر متجدد على ما سيأتي ولأنا نعلل وجوب القضاء بأن الفعل الأول ما كان مجزئا والعلة مغايرة للمعلول إذا عرفت هذا فنقول فعل المأمور به يقتضي الإجزاء خلافا لأبي هاشم وأتباعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 لنا وجوه الأول أنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة إنما قلنا أنه أتى بما أمر به لأن المسألة مفروضة فيما إذا كان الأمر كذلك وإنما قلنا إنه يلزم أن يخرج عن العهدة لأنه لو بقي الأمر بعد ذلك لبقي إما متناولا لذلك المأتي به أو لغيره والأول باطل لأن الحاصل لا يمكن تحصيله والثاني باطل لأنه يلزم أن يكون الأمر قد كان متناولا لغير ذلك الذي وقع مأتيا به ولو كان كذلك لما كان المأتي به تمام متعلق الأمر وقد فرضناه كذلك هذا خلف الثاني أنه لا يخلو إما أنه يجب عليه فعله ثانيا وثالثا أو ينقضي عن عهدته بما ينطلق عليه الاسم والأول باطل لما بينا أن الأمر لا يفيد التكرار والثاني هو المطلوب لأنه لا معنى للإجزاء إلا كونه كافيا في الخروج عن عهدة الأمر الثالث أنه لو لم يقتض الإجزاء لكان يجوز أن يقول السيد لعبده إفعل وإذا فعلت لا يجزئ عنك ولو قال ذلك لعد متناقضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 احتج المخالف بوجوه أحدها أن النهي لا يدل على الفساد بمجرده فالأمر وجب أن لا يدل على الإجزاء بمجرده وثانيها إن كثيرا من العبادات يجب على الشارع فيها إتمامها والمضي فيها ولا تجزيه عن المأمور به كالحجة الفاسدة والصوم الذي جامع فيه وثالثها أن الأمر بالشئ لا يفيد إلا كونه مأمورا به فأما أن الإتيان يكون سببا لسقوط التكليف فذلك لا يدل عليه مجرد الأمر والجواب عن الأول أنا إن سلمنا أن النهي لا يدل على الفساد لكن الفرق بينه وبين الأمر أن نقول النهي يدل على أنه منعه من فعله وذلك لا ينافي أن نقول إنك لو أتيت به لجعله الله سببا لحكم آخر أما الأمر فلا دلالة فيه إلا على اقتضاء المأمور به مرة واحدة فإذا أتى به فقد أتى بتمام المقتضى فوجب أن لا يبقى الأمر بعد ذلك مقتضيا لشئ آخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 وعن الثاني أن تلك الأفعال مجزئة بالنسبة إلى الأمر الوارد بإتمامها وغير مجزئة بالنسبة إلى الأمر الأول لأن الأمر الأول اقتضى إيقاع المأمور به لا على هذا الوجه الذي وقع بل على وجه آخر وذلك الوجه بعد لم يوجد وعن الثالث أن الإتيان بتمام المأمور به يوجب أن لا يبقى الأمر مقتضيا بعد ذلك وذلك هو المراد بالإجزاء والله أعلم المسألة الرابعة الإخلال بالمأمور به هل يوجب فعل القضاء أم لا هذه المسألة لها صورتان الصورة الأولى الأمر المقيد كما إذا قال إفعل في هذا الوقت فلم يفعل حتى مضى ذلك الوقت فالأمر الأول هل يقتضي إيقاع ذلك الفعل فيما بعد ذلك الوقت الحق لا لوجهين الأول أن قول القائل لغيره إفعل هذا الفعل يوم الجمعة لا يتناول ما عدا يوم الجمعة وما لا يتناولة عنه الأمر وجب أن لا يدل عليه بإثبات ولا بنفي بل لو كان قوله إفعل هذا الفعل يوم الجمعة موضوعا في اللغة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 لطلب الفعل في يوم الجمعة وإلا ففيما بعدها فها هنا إذا تركه يوم الجمعة لزمه الفعل فيما بعده ولكن على هذا التقدير يكون الدال على لزوم الفعل فيما بعد يوم الجمعة ليس مجرد طلب الفعل يوم الجمعة بل كون الصيغة موضوعة لطلب يوم الجمعة وسائر الأيام ولا نزاع في هذه الصورة وإنما النزاع في أن مجرد طلب الفعل يوم الجمعة لا يقتضي إيقاعه بعد ذلك الثاني أن أوامر الشرع تارة لم تستعقب وجوب القضاء كما في صلاة الجمعة وتارى استعقبته إن ووجود الدليل مع عدم المدلول خلاف الأصل فوجب أن يقال إن إيجاب الشئ لا اشعار له بوجوب القضاء وعدم وجوبه فإن قلت إنك لما جعلته غير موجب للقضاء فحيث وجب القضاء لزمك خلاف الظاهر قلت عدم إيجاب القضاء غير وإيجاب عدم القضاء غير ومخالفة الظاهر إنما تلزم من الثاني وأنا لا أقول به أما على التقدير الأول فغايته أنه دل دليل منفصل على أمر لم يتعرض له الظاهر بنفي ولا إثبات وذلك لا يقتضي خلاف الظاهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 الصورة الثانية الأمر المطلق وهو أن يقول افعل ولا يقيده بزمان معين فإذا لم يفعل المكلف ذلك في أول أوقات الإمكان فهل يجب فعله فيما بعده أو يحتاج إلى دليل أما نفاة الفور فإنهم يقولون الأمر يقتضي الفعل مطلقا فلا يخرج عن العهدة إلا بفعله وأما مثبتوه فمنهم من قال إنه يقتضي الفعل بعد ذلك وهو قول أبي بكر الرازي ومنهم من قال لا يقتضيه بل لا بد في ذلك من دليل زائد ومنشأ الخلاف أن قول القائل لغيره إفعل كذا هل معناه إفعل في الزمان الثاني فإن عصيت ففي الثالث فإن عصيت ففي الرابع على هذا أبدا أو معناه إفعل في الثاني من غير بيان حال الزمان الثالث والرابع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 فإن قلنا بالأول اقتضى الأمر الفعل في سائر الأزمان وإن قلنا بالثاني لم يقتضه فصارت هذه المسألة لغوية واحتج من قال أنه لا بد من دليل منفصل بأن قوله إفعل قائم مقام قوله إفعل في الزمان الثاني وقد بينا أنه إذا قيل له ذلك وترك الفعل في الزمان الثاني لم يكن ذلك القول سببا لوجوب الفعل في الزمان الثالث فكذا ها هنا ضرورة أنه لا تفاوت بين اللفظتين واحتج أبو بكر الرازي على قوله بأن لفظ إفعل يقتضي كون المأمور فاعلا على الإطلاق وهذا يوجب بقاء الأمر إلا ما لم يصر المأمور فاعلا وأيضا الأمر اقتضى وجوب المأمور به ووجوبه يقتضي كونه على الفور وإذا أمكن الجمع بين موجبيهما لم يكن لنا إبطال أحدهما وقد أمكن الجمع بينهما بأن نوجب فعل المأمور به في أول أوقات الإمكان لئا ينتقض وجوبه فإن لم يفعله أوجبناه في الثاني لأن مقتضى الأمر وهو كون المأمور فاعلا لم يحصل بعد والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 المسألة الخامسة في أن الأمر بالأمر بالشئ لا فيه يكون أمرا به الحق أن الله تعالى إذا قال لزيد أوجب على عمرو كذا فلو قال لعمرو وكل ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك كان الأمر بالأمر بالشئ أمرا بالشئ في صلى هذه الصورة ولكنه بالحقيقة إنما جاء من قوله كل ما أوجب فلان عليك فهو واجب عليك أما لو لم يقل ذلك لم يجب كما في قوله عليه الصلاة والسلام مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع فإن ذلك لا يقتضي الوجوب على الصبي والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 المسألة السادسة الأمر بالماهية لا يقتضي الأمر بشئ من جزئياتها كقوله بع هذا الثوب لا يكون هذا أمرا ببيعه بالغبن الفاحش ولا بالثمن المساوي لأن هذين النوعين يشتركان في مسمى البيع ويتمير كل واحد منهما عن صاحبه بخصوص كونه واقعا بثمن المثل وبالغبن الفاحش وما به الاشتراك غير ما به الامتياز وغير مستلزم له فالأمر بالبيع الذي هو جهة الاشتراك لا يكون أمرا بما به يمتاز كل واحد من النوعين عن الآخر لا بالذات ولا بالاستلزام وإذا كان كذلك فالأمر بالجنس لا يكون البته أمرا بشئ من أنواعه بل إذا دلت القرينة على الرضا ببعض الأنواع حمل اللفظ عليه ولذلك قلنا الوكيل بالبيع المطلق لا يملك البيع بغبن فاحش وإن كان يملك البيع بثمن المثل لقيام القرينة الدالة على الرضا به بسبب العرف وهذه قاعدة شرعية برهانية ينحل بها كثير من القواعد الفقهية إن شاء الله والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 النظر الرابع في المأمور وفيه مسائل المسألة الأولى قال أصحابنا المعدوم يجوز أن يكون مأمورا لا بمعنى أنه حال عدمه يكون مأمورا فإنه معلوم الفساد بالضرورة بل بمعنى أنه يجوز أن يكون الأمر موجودا في الحال ثم إن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك يصير مأمورا بذلك الأمر وأما سائر الفرق فقد أنكروه لنا أن الواحد منا حال وجوده يصير مأمورا بأمر الرسول ص مع أن ذلك الأمر ما كان موجودا إلا حال عدمنا وكذلك لا يبعد أن يقوم بذات ألاب طلب تعلم العلم من الولد الذي سيوجد وأنه لو قدر بقاء ذلك الطلب حتى وجد الولد صار الولد مطالبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 بذلك الطلب فكذا المعنى القائم بذات الله تعالى الذي هو اقتضاء الطاعة من العباد معنى قديم وأن العباد إذا وجدوا يصيرون مطالبين بذلك الطلب فإن قيل أمر النبي ص غير لازم على أحد بل هو عليه الصلاة والسلام أخبر أن الله تعالى يأمر كل واحد من المكلفين عند وجوده فيصير ذلك إخبارا عن أن الله تعالى سيأمرهم عند وجودهم لا أن الأمر حصل عند عدم المأمور سلمنا أن قول الرسول ص واجب الطاعة ولكن وجد هناك في الحال من سمع ذلك الأمر وبلغه إلينا أما في الأزل فلم يوجد أحد يسمع ذلك الأمر وينقله إلينا فكان ذلك الأمر عبثا ثم ما ذكرتموه معارض بدليل آخر وهو أن الأمر عبارة عن إلزام الفعل وفي إلزام الفعل من غير وجود المأمور عبث فإن من جلس في الدار يأمر وينهي من غير حضور مأمور ومنهي عد سفيها مجنونا وذلك على الله محال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 والجواب قوله أمر النبي ص عبارة عن الإخبار قلنا من أصحابنا من قال ذلك وكذلك أمر الله تعالى عبارة عن أخباره بنزول العقاب على من يترك الفعل الفلاني إلا أن هذا مشكل من وجهين أحدهما أنا بينا فيما تقدم أنه لو كان الأمر عبارة عن هذا الإخبار لتطرق التصديق والتكذيب إلى الأمر ولامتنع العفو عن العقاب على ترك الواجبات لأن الخلف في خبر الله تعالى محال الثاني أنه لو أخبر في الأزل لكان إما أن يخبر نفسه وهو سفه أو غيره وهو محال لأنه ليس هناك غيره ولصعوبة هذا المأخذ ذهب عبد الله بن سعيد بن كلاب التميمي من أصحابنا إلى أن كلام الله تعالى في الأزل لم يكن أمرا ولا نهيا ثم صار فيما لا يزال كذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 ولقائل أن يقول إنا لا نعقل من الكلام إلا الأمر والنهي والخبر فإذا سلمت حدوثها فقد قلت بحدوث الكلام فإن ادعيت قدم شئ آخر فعليك البيان بإفادة تصوره ثم اقامة الدلالة على أن الله تعالى موصوف به ثم اقامة الدلالة على قدمه وله أن يقول أعني بالكلام القدر المشترك بين هذه الأقسام ويمكن الجواب عن أصل الإشكال بأن قاعدة والحكمة مبنية على قاعدة الحسن والقبح وقد تقدم إفسادها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 المسألة الثانية تكليف الغافل غير جائز للنص والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام رفع القلم عن ثلاث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 وأما المعقول فهو أن فعل الشئ مشروط بالعلم به إذ لو لم يكن كذلك لما أمكننا الاستدلال بالأحكام على كون الله تعالى عالما وإذا ثبت هذا فلو حصل الأمر بالفعل حال عدم العلم به لكان ذلك تكليف مالا يطاق واعلم أن الكلام في هذه المسألة يتفرع على نفي تكليف ما لا يطاق فإن قيل لا نسلم أن فعل الشئ مشروط بالعلم به فإن الجاهل قد يفعله على سبيل الاتفاق فإن قلت الاتفاقي لا يكون دائما ولا أكثريا قلت لا نسلم فإن حكم الشئ حكم مثله فلما جاز وجود الفعل مع عدم العلم به مرة واحدة جاز أيضا ثانية وثالثة فيلزم إمكان ذلك في الأكثر ودائما وإذا جاز ذلك فلا استحالة في أن يعلم الله تعالى وقوع هذا الجائز في بعض الأشخاص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وإذا علم الله تعالى ذلك منه لم يكن تكليفه بالفعل حال مالا يكون المكلف عالما به نكليف أنه ما لا يطاق سلمنا ذلك لكنه معارض بأمور أحدها أن الأمر بمعرفة الله تعالى وارد فإما أن يكون ذلك الأمر واردا بعد حصول المعرفة وذلك محال لأنه يلزم الأمر إما بتحصيل الحاصل أو بالجمع بين المثلين وهو محال أو قبل حصول المعرفة لكن المأمور قبل أن يعرف الأمر استحال منه أن يعرف الأمر فإذن قد توجه التكليف عليه حالة مالا يمكنه العلم بذلك وهو المطلوب الثاني أن العلم بوجوب تحصيل معرفة الله تعالى ليس علما ضروريا لازما لعقول العقلاء وطباعهم بل ما لم يتأمل الأنسان ضربا من التأمل لا يحصل له العلم بالوجوب فنقول علمه بوجوب الطلب إما أن يحصل قبل إتيانه بالنظر أو بعد إتيانه به فإن حصل قبل إتيانه بالنظر وهو قبل إتيانه بالنظر لا يمكنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 أن يعلم ذلك الوجوب لأن العلم بالوجوب مشروط بالإتيان بذلك النظر وقبل الإيان بذلك النظر لو وجب عليه ذلك لوجب عليه في وقت لا يمكنه أن يعلم كونه واجبا عليه وذلك هو تكليف الغافل وإن حصل بعد إتيانه النظر فبعد الإتيان بالنظر حصل العلم بالوجوب فلو وجب عليه في هذا الوقت تحصيل العلم بالوجوب لزم إما تحصيل الحاصل أو الجمع بين المثلين الثالث أن الصبي والمجنون والنائم غافلون عن الفعل ثم إن أفعالهم توجب الغرامات والأروش الرابع قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون خاطب السكران والسكران غافل فثبت أنه يجوز خطاب الغافل والجواب نحن لا ندعي أن وقوع الفعل من العبد مشروط بعلمه به بل ندعي أن اختيار المكلف فعلا معينا لغرض الخروج عن عهدة التكليف مشروط بالعلم به وهذا معلوم بالضروة ولا يقدح فيه ما ذكرتموه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وأما المعارضة الأولى فقد تقدم ذكرها في مسألة تكليف مالا يطاق وأما الثانية فمن الناس من زعم أن العلم بوجوب النظر ضروري وهذا ضعيف لأن العلم بكون النظر في الإلهيات مفيدا للعلم وبكونه معينا في ذلك من أغمض المسائل وأدقها لأن جمهور العقلاء وإن ساعدوا على كون النظر مفيدا للعلم في الجملة كما في الحسابيات والهندسيات لكنهم نازعوا في كون النظر مفيدا للعلم في الإلهيات وزعموا أن النظر فيها لا يفيد إلا الظن ومن سلم ذلك فقد قالوا كما أن النظر يفيد العلم فغيره ايضا قد يفيده وهو تصفية الباطن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وإذا كان العلم بوجوب النظر موقوفا على هذين المقامين النظريين والموقوف على النظري أولي أن يكون نظريا فثبت إنه لا يمكن ادعاء الضرورة في ذلك واعلم أن هذه الحجة تؤيد القول بتكليف مالا يطاق وأما وجوب الغرامات فمعناه إما خطاب الولي بأدائها في الحال أو خطاب الصبي بعد صيرورته بالغا بأدائها وأما الآية فلها تأويلان أحدهما أنها خطاب مع من ظهرت منه مبادئ النشاط والطرب وما زال عقله وقوله حتى تعلموا ما تقولون معناه حتى يتكامل فيكم الفهم كما يقال للغضبان إصبر حتى تعلم ما تقول أي حتى يسكن غضبك وهذا لأنه لا يشتغل بالصلاة إلا مثل هذا السكران وقد يعسر عليه إتمام الخشوع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 الثاني أنه ورد الخطاب به في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر وليس المراد المنع من الصلاة بل المنع من إفراط الشرب وقت الصلاة كما يقال لا تقرب التهجد وأنت شبعان أي لا تشبع فيثقل عليك التهجد والله أعلم المسألة الثالثة في أن المامور يجب أن يقصد إيقاع المأمور به على سبيل الطاعة المعتمد فيه قوله ص إنما الأعمال بالنيات قالوا ويستثنى منه سيئان أحدهما الواجب الأول وهو النظر المعرف للوجوب فإنه لا يمكن قصد إيقاعه طاعة مع أن فاعله لا يعرف وجوبه عليه إلا بعد إتيانه به الثاني إرادة الطاعة فإنها لو افتقرت إلى إرادة أخرى لزم التسلسل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 المسألة الرابعة في أن المكره على الفعل هل يجوز أن يؤمر به ويتركه المشهور أن الإكراه إما أن ينتهي إلى حد الإلجاء أو لا ينتهي إليه فإن انتهى إلى حد الإلجاء امتنع التكليف لأن المكره عليه يعتبر واجب الوقوع وضده يصير ممتنع الوقوع والتكليف بالواجب والممتنع غير جائز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وإن لم ينته إلى حد الإلجاء صح التكليف به ولقائل أن يقول الإكراه لا ينافي التكليف لأن الفعل أما أن يتوقف غلى الداعي أو لا يتوقف فإن توقف فقد بينا فيما تقدم أنه لا بد من انتهاء الدواعي إلى داعية تحصل فيه من قبل غيره وان حصول الفعل عند حصول تلك الداعية واجب فحينئذ يكون التكليف تكليفا بما وجب وقوعه أو بما امتنع وقوعه وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز مثله في الإكراه وأما إن لم يتوقف على الداعي كان رجحان الفعل على الترك أو بالعكس اتفاقيا والاتفاقي لا يكون باختيار المكلف وأذا جاز التكليف هناك مع أنه ليس باختيار المكلف فلم لا يجوز مثله في الإكراه فإن قلت ما الذي أردت بكون الفعل اتفاقيا إن عنيت به أنه حصل لا بقدرة القادر فهو ممنوع وذلك لأن المؤثر فيه عندنا هو القادر لكن القادر عندنا يمكنه أن يرجح أحد مقدوريه به على الآخر من غير مرجح وإن عنيت به أمرا آخر فلا بد من بيانه قلت الرجل كان موصوفا بكونه قادرا على هذا الفعل مع أن هذا الفعل ما كان موجودا فلما وجد هذا الفعل فإما أن يكون لأنه حدث أمر آخر وراء كونه قادرا الذي كان حاصلا قبل ذلك أو ليس كذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 فإن حدث كان حدوث الفعل عن القادر متوقفا على أمر آخر سوى كونه قادرا وقد فرضناه ليس متوقفا عليه هذا خلف وإن لم يحدث البتة أمر كان حدوث هذا الفعل في بعض أزمنة كونه قادرا دون ما قبله وما بعده ليس لأمر حصل في جانب القادر حتى يؤمر به أو ينهى عنه بل كان ذلك محض الاتفاق فيكون في هذه الحالة تكليفا له بما ليس في وسعه وإذا ثبت ذلك بطل قولهم المكره غير مكلف وأعلم أن هذه القاعدة قد ذكرناها في هذا الكتاب مرارا وسنذكرها بعد ذلك وما ذاك إلا لأن أكثر القواعد مبني عليها ولا جواب عنها إلا بتسليم أنه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 المسألة الخامسة ذهب أصحابنا إلى أن المأمور إنما يصير مأمورا حال زمان الفعل وقبل ذلك فلا أمر بل هو إعلام له بأنه في الزمان الثاني سيصير مأمورا به وقالت المعتزلة إنه إنما يكون مأمورا بالفعل قبل وقوع الفعل لنا أنه لو امتنع كونه مأمورا حال حدوث الفعل لامتنع كونه مأمورا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 مطلقا لأن في الزمان الأول لو امر بالفعل لكان الفعل إما أن يكون ممكنا في ذلك الزمان أو لا يكون فإن كان ممكنا فقد صار مأمورا بالفعل حال إمكان وقوعه وإن لم يكن ممكنا كان مأمورا بما لا قدرة له عليه وذلك عند الخصم محال فان قلت إنه في الزمان الأول مأمور لا بأن يوقع الفعل في عين ذلك الزمان بل بأن يوقعه في الزمان الثاني منه قلت قولك إنه في الزمان الآول مأمور بأن يوقع الفعل في الزمان الثاني إن عنيت به أن كونه موقعا للفعل لا يحصل إلا في الزمان الثاني ففي الزمان الأول لم يكن موقعا البتة لشئ وليس هناك إلا نفس القدرة فيمتنع أن يكون في ذلك الزمان مأمورا بشئ وإن عنيت به أن كونه موقعا يحصل في والزمان الأول والفعل يوجد في الزمان الثاني فنقول كونه موقعا إما أن يكون نفس القدرة أو أمرا زائدا عليها فإن كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 نفس القدرة لم يكن لكونه موقعا للفعل معنى إلا محض كونه قادرا فيعود القسم الأول وإن كان أمرا زائدا عليها فحينئذ تكون القدرة مؤثرة في وقوع ذلك الزائد في الزمان الأول والأمر إنما توجه عليه في الزمان الأول بإيقاع ذلك الزائد وذلك الزائد واقع في الزمان الأول فالآمر لا يكون أمرا بالشئ إلا حال وقوعه لا قبله احتج الخصم بأن المأمور بالشئ يجب أن يكون قادرا عليه ولا قدرة على الفعل حال وجود الفعل وإلا لكان ذلك تحصيلا للحاصل وهو محال فعلمنا أن القدرة على الفعل متقدمة على الفعل والأمر لا يتناول إلا القادر والرجل لا يصير مأمورا بالفعل إلا قبل وقوعه والجواب القدرة مع الداعي مؤثرة في وجود الفعل ومستلزمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 له ولا امتناع في كون المؤثر مقارنا للأثر كما في سائر المؤثرات الموجبة والله اعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 المسألة السادسة المأمور به إذا كان مشروطا بشرط فالآمر إما أن يكون غير عالم بعدم الشرط أو لا يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 أما الأول فكما إذا قال السيد لعبده صم غدا فإن هذا مشروط ببقاء العبد غدا وهو مجهول للآمر فها هنا الأمر تحقق في الحال يشرط بقاء المأمور قادرا على الفعل وأما الثاني فكما إذا علم الله تعالى إن زيدا سيموت غدا فهل يصح أن يقال أن الله تعالى أمره بالصوم غدا يشرط أن يعيش غدا مع أنه يعلم أنه لا يعيش غدا قطع القاضي أبو بكر والغزالي رحمهما الله تعالى به وأباه جمهور المعتزلة حجة المنكرين أن شرط الأمر بقاء المأمور فالعالم بأن المأمور لا يبقى عالم بفوات شرط الأمر فاستحال مع ذلك حصول الأمر قال المجوزون لا نزاع في أنه لا يجوز أن يقول للميت حال كونه ميتا إفعل لكن لم لا يجوز أن يقال في الحال لمن يعلم أن سيموت غدا إفعل غدا إن عشت بل هو جائز لما فيه من المصالح الكثيرة فإن المكلف قد يوطن النفس على الامتثال ويكون ذلك التوطين نافعا له يوم المعاد ونافعا له في الدنيا لأنه ينحرف به في الحال عن الفساد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 وهذا كما أن السيد قد يستصلح عبده بأوامر ينجزها عليه مع عزمه على نسخ الأمر امتحانا للعبد وقد يقول الرجل لغيره وكلتك بيع العبد غدا مع علمه بأنه سيعزله وهو عن ذلك غدا لما أن غرضه منه استمالة الوكيل أو امتحانه في أمر ذلك العبد ومأخذ النزاع في هذه المسألة أن المجوزين قالوا الأمر تارة يحسن لمصالح تنشأ من نفس الأمر لا من المأمور به وتارة لمصالح تنشأ من المأمور به وأما المانعون فقد اعتقدوا أن الأمر لا يحسن إلا لمصلحة تنشأ من المأمور به وتمام تقريره سيظهر في مسألة أنه يجوز النسخ قبل مضي مدة الامتثال والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 القسم الثالث في النواهي وفيه مسائل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 المسألة الأولى ظاهر النهي التحريم وفيه المذاهب التي ذكرناها في أن الأمر للوجوب لنا قوله تعالى وما نهاكم عنه فانتهوا أمر بالانتهاء عن المنهي عنه والأمر للوجوب فكان الانتهاء عن المنهي واجبا وذلك هو المراد من قولنا النهي للتحريم والله أعلم المسألة الثانية المشهور أن النهي يفيد التكرار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 ومنهم من أباه وهو المختار لنا أن النهي قد يراد منه التكرار وهو متفق عليه وقد يراد منه المرة الواحدة كما يقول الطبيب للمريض الذي شرب الدواء لا تشرب الماء ولا تأكل اللحم أي في هذه الساعة ويقول المنجم لا تفصد ولا تخرج إلى الصحراء أي في هذا اليوم ويقول الوالد لولده لا تلعب صلى الله عليه وسلم أي في هذا اليوم والاشتراك والمجاز خلاف الأصل فوجب جعل النهي حقيقة في القدر المشترك الثاني أنه يصح أن يقال لا تأكل السمك أبدا وأن يقال لا تأكل اللحم في هذه الساعة وأما في الساعة الأخرى فكل والأول ليس بتكرار والثاني ليس بنقض فثبت أن النهي لا يفيد التكرار احتج المخالف بأمور أحدها أن قوله لا تضرب يقتضي امتناع المكلف من إدخال ماهية الضرب في الوجود والامتناع من إدخال هذه الماهية في الوجود إنما يتحقق إذا امتنع من إدخال كل أفرادها في الوجود إذ لو أدخل فردا من أفرادها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 في الوجود وذلك الفرد مشتمل على الماهية فحينئذ يكون قد أدخل تلك الماهية في الوجود وذلك ينافي قولنا إنه امتنع من إدخال تلك الماهية في الوجود وثانيها أن قوله لا تضرب يعد في عرف اللغة مناقضا لقوله إضرب لأن تمام قولنا إضرب حاصل في قولنا لا تضرب مع زيادة حرف النهي لكن قولنا إضرب يفيد طلب الضرب مرة واحدة فلو كان قولنا لا تضرب يفيد الانتهاء أيضا مرة واحدة لما تناقضا لأن النفي والإثبات في وقتين لا يتناقضان فلما كان مفهوم النهي مناقضا لمفهوم الأمر وجب أن يتناول النهي كل الأوقات حتى تتحقق المنافاة وثالثها أن قوله لا تضرب لا يمتنع حمله على التكرار وقد دل الدليل على حمله على التكرار فوجب المصير إليه إنما قلنا إنه لا يمتنع حمله على التكرار لأن كون الإنسان ممتنعا عن فعل المنهي عنه أبدا ممكن ولا عسر فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 وأما أن الدليل دل عليه فلأنه ليس في الصيغة دلالة على وقت دون وقت فوجب الحمل على الكل دفعا للإجمال بخلاف الأر فإنه يمتنع حمله على التكرار لإفضائه إلى المشقة والجواب عن الأول إنه لا نزاع في أن النهي يقتضي امتناع المكلف عن إدخال تلك الماهية في الوجود ولكن الامتناع عن إدخال تلك الماهية في الوجود قدر مشترك بين الامتناع عنه دائما وبين الامتناع عنه لا دائما كما تقدم بيانه واللفظ الدال على القدر المشترك لا دلالة له على ما به يمتاز كل واحد من القسمين عن الثاني فإذن لا دلالة في هذا اللفظ على الدوام البتة وعن الثاني إنك إن أردت بقولك إن الأمر والنهي دلا على مفهومين متناقضين أن هذا يدل على الإثبات وذلك يدل على النفي فهذا مسلم ولكن مجرد النفي والاثبات لا يتنافيان إلا بشرط اتحاد الوقت فإن قولك زيد قائم زيد ليس بقائم لا يتناقضان لأنه متى صدق الإثبات في وقت واحد فقد صدق الإثبات ومتى صدق النفي في وقت آخر فقد صدق النفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 ومعلوم أن الإثبات في وقت لا ينافي النفي في وقت آخر فمطلق الإثبات والنفي وجب أن لا يتناقضا البتة وعن الثالث أن النهي لا دلالة فيه إلا على مسمى الامتناع فحيث تحقق هذا المسمى فقد وقع الخروج عن عهدة التكليف تنبيه إن قلنا إن النهي يفيد التكرار فهو يفيد الفور لا محالة وإلا فلا المسألة الثالثة الشئ الواحد لا يجوز أن يكون مأمورا به منهيا عنه معا والفقهاء قالوا يجوز ذلك إذا كان للشئ وجهان لنا أن المأمور به هو الذي طلب تحصيله من المكلف وأقل مراتبه رفع الحرج عن الفعل والمنهي عنه هو الذي لم يرفع الحرج عن فعله فالجمع بينهما ممتنع إلا على القول بتكليف ما لا يطاق فإن قيل هذا الامتناع إنما يتحقق في الشئ الواحد من الوجه الواحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 إما الشئ ذو الوجهين فلم لا يجوز أن يكون مأمورا به نظرا إلى أحد وجهيه منهيا عنه نظرا إلى الوجه الآخر وهذا كالصلاة في الدار المغصوبة فإن لها جهتين كونها صلاة وكونها غصبا والغصب معقول دون الصلاة وبالعكس فلا جرم صح تعلق الأمر بها من حيث إنها صلاة وتعلق النهي بها من حيث إنها غصب لأن السيد لو قال لعبده خط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار فإذا خاط الثوب ودخل الدار حسن من السيد أن يضربه ويكرمه ويقول أطاع في أحدهما وعصى في الآخر فكذا ما نحن فيه فإن هذه الصلاة وإن كانت فعلا واحدا ولكنها تضمنت تحصيل أمرين أحدهما مطلوب والآخر منهي عنه سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك لكنه معارض بوجه آخر وهو أن الصلاة في الدار المغصوبة صلاة والصلاة مأمور بها فالصلاة في الدار المغصوبة مأمور بها وإنما قلنا أن الصلاة في الدار المغصوبة صلاة لأن الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 في الدار المغصوبة صلاة مكفئة إذا والصلاة المكفئة فقال صلاة مع كيفية فيكون مسمى الصلاة حاصلا وإنما قلنا إن الصلاة مأمور بها لقوله تعالى وأقيموا الصلاة والجواب أن الذي ندعيه في هذا المقام أن الأمر بالشئ الواحد والنهي عنه من جهة واحدة يوجب التكليف بالمحال ثم إن جوزنا التكليف بالمحال جوزنا الأمر بالشئ الواحد والنهي عنه من جهة واحدة وإن لم نجوز ذلك لم نجوز هذا أيضا فلنبين ما ادعيناه فنقول متعلق الأمر إما أن يكون عين متعلق النهي أو غيره فإن كان الأول كان الشئ الواحد مأمورا به منهيا عنه معا وذلك عين التكليف بما لا يطاق والخصم لا يجعل هذا النوع من التكليف من باب تكليف مالا يطاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 وإن كان الثاني فالوجهان إما أن يتلازما وإما أن لا يتلازما فإن تلازما كان كل واحد منهما من ضرورات الآخر والأمر بالشئ أمر بما هو من ضروراته وإلا وقع التكليف بما لا يطاق وإذا كان المنهي من ضرورات المأمور كان مأمورا فيعود إلى ما ذكرنا من أنه يلزم كون الشئ الواحد مأمورا ومنهيا معا وإن لم يتلازما كان الأمر والنهي متعلقين بشيئين لا يلازم أحدهما صاحبه وذلك جائز إلا أنه يكون غير هذه المسألة التي نحن فيها فإن قلت هما شيئان يجوز انفكاك كل واحد منهما عن الآخر في الجملة إلا أنهما في هذه الصورة الخاصة صارا متلازمين قلت ففي هذه الصورة الخاصة المنهي عنه يكون من لوازم المأمور به وما يكون من لوازم المأمور به يكون مأمورا به فيلزم أن يصير المنهي عنه في هذه الصورة مأمورا به وذلك محال فهذا برهان قاطع على فساد قولهم على سبيل الإجمال أما على سبيل التفصيل فهو أن الصلاة ماهية مركبة من أمور أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 تلك الأمور الحركات والسكنات وهما ماهيتان مشتركتان في قدر واحد من المفهوم وهو شغل الحيز لأن الحركة عبارة عن شغل الحيز بعد أن كان شاغلا لحيز آخر والسكون عبارة عن شغل حيز واحد أزمنة كثيرة وهذان المفهومان يشتركان في كون كل واحد منهما شغلا للحيز فإذن شغل الحيز جزء جزء ماهية الصلاة فيكون جزءا لها لا محالة وشغل الحيز في هذه الصلاة منهي عنه فإذن أحد أجزاء ماهية هذه الصلاة منهي عنه فيستحيل أن تكون هذه الصلاة مأمورا بها لأن الأمر بالمركب أمر بجميع أجزائه فيكون ذلك الجزء مأمورا به مع أنه كان منهيا عنه فيلزم في الشئ الواحد أن يكون مأمورا به منهيا عنه وهو محال أما قوله كونه صلاة وغصبا جهتان متباينتان يوجد كل واحد منهما عند عدم الآخر قلنا نعم ولكنا بينا أن شغل الحيز جزء ماهية الصلاة فكما أن مطلق الشغل جزء ماهية مطلق الصلاة فكذلك الشغل المعين يكون جزءا من ماهية الصلاة المعينة فإذا كان هذا الشغل منهيا عنه وهذا الشغل جزء ماهية هذه الصلاة كان جزء هذه الصلاة منهيا عنه وإذا كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 جزؤها منهيا عنه استحال كون هذه الصلاة مأمورا بها بل الصلاة مأمور بها لكن النزاع ليس في الصلاة من حيث إنها صلاة بل في هذه الصلاة وأما المثال الذي ذكروه وهو أن يقول السيد لعبده خط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار فهو بعيد لأن ها هنا الفعل الذي هو متعلق الأمر غير الفعل الذي هو متعلق النهي وليس بينهما ملازمة فلا جرم صح الأمر بأحدهما والنهي عن الآخر إنما النزاع في صحة تعلق الأمر والنهي بالشئ الواحد فأين أحدهما من الآخر وأما المعارضة التي ذكروها فمدار أمرها على إن قوله تعالى أقيموا الصلاة يفيد الأمر بكل صلاة فهذا مع ما فيه من المقدمات الكثيرة لو سلمناه لكن تخصيص العموم بدليل العقل غير مستبعد وما ذكرناه من الدليل عقلي قاطع فوجب تخصيصه به والله أعلم تنبيه الصلاة في الدار المغصوبة وإن لم تكن مأمورا بها إلا أن الفرض يسقط عندها لا بها لأنا بينا بالدليل امتناع ورود الأمر بها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 والسلف أجمعوا على أن الظلمة لا يؤمرون بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة ولا طريق إلى التوفيق بيهما إلا ما ذكرناه وهو مذهب القاضي أبي بكر رحمه الله والله أعلم المسألة الرابعة ذهب أكثر الفقهاء إلى أن النهي لا يفيد الفساد وقال بعض أصحابنا أنه يفيده وقال أبو الحسين البصري أنه يفيد الفساد في العبادات لا في المعاملات وهو المختار والمراد من كون العبادة فاسدة أنه لا يحصل الإجزاء بها أما العبادات فالدليل على أن النهي فيها يدل على الفساد أن نقول إنه بعد الإتيان بالفعل المنهي عنه لم يأت بما أمر به فبقي في العهدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 إنما قلنا إنه لم يأت بما أمر به لأن المأمور به غير المنهي عنه كما تقدم بيانه فلم يكن الإتيان بالمنهي عنه إتيانا بالمامور به وإنما قلنا إنه وجب أن يبقى في العهدة لأنه تارك للمأمور به وتارك المأمور به عاص والعاصي يستحق العقاب على ما مر تقريره في مسألة أن الأمر للوجوب فإن قيل لم لا يجوز أن يكون الإتيان بالفعل المنهي عنه سببا للخروج عن عهدة الأمر فإنه لا تناقض في أن يقول الشارع نهيتك عن الصلاة في الثوب المغصوب ولكن إن فعلته أسقطت عنك الفرض بسببه سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن النهي يقتضي الفساد لكنه معارض بدليلين الأول أن النهي لو دل على الفساد لدل عليه إما بلفظه أو بمعناه ولم يدل عليه في الوجهين فوجب أن لا يدل على الفساد أصلا أما أنه لا يدل عليه بلفظه فلأن اللفظ لا يفيد إلا الزجر عن الفعل والفساد معناه عدم الإجزاء وأحدهما مغاير للآخر وأما أنه لا يدل عليه بمعناه فلأن الدلالة المعنوية إنما تتحقق إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 كان لمسمى الشئ لازم فاللفظ الدال على الشئ دال على لازم المسمى بواسطة دلالته على المسمى وها هنا الفساد غير لازم للمنع لأنه لا استبعاد في أن يقول الشارع لا تصل في الثوب المغصوب ولو صليت صحت صلاتك ولا تذبح الشاة بالسكين المغصوب ولو ذبحتها بها حلت ذبيحتك وإذا لم تحصل الملازمة انتفت الدلالة المعنوية الثاني لو اقتضى النهي الفساد لكان أينما تحقق النهي تحقق الفساد لكن الأمر ليس كذلك بدليل النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة والوضوء بالماء المغصوب مع صحتهما والجواب قوله لم لا يجوز أن يكون الإتيان بالمنهي عنه سببا للخروج عن العهدة قلنا لأنه إذا لم يأت بالمأمور به بقي الطلب كما كان فوجب الإتيان به وإلا لزم العقاب بالدليل المذكور قوله الصلاة في الثوب المغصوب منهي عنها ثم إن الإتيان بها يقتضي الخروج عن العهدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 قلنا الدليل الذي ذكرناه يقتضي أن لا يخرج الإنسان عن عهدة الأمر إلا بفعل المأمور به إلا أنه قد يترك العمل بهذا الدليل في بعض الصور لمعارض والفرق أن مماسة بدن الإنسا للثوب ليست جزءا من ماهية الصلاة ولا مقدمة لشئ من أجزائها وإذا كان كذلك كان آتيا بعين الصلاة المأمور بها من غير خلل في ماهيتها أصلا أقصى ما في الباب أنه أتى مع ذلك بفعل آخر محرم ولكن لا يقدح في الخروج عن العهدة أما المعارضة الآولى فجوابها أن النهي دل على أن المنهي عنه مغاير للمأمور به والنص دل على أن الخروج عن عهدة الأمر لا يحصل إلا بالإتيان بالمأمور به فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين أن الإتيان بالمنهي عنه لا يقتضي الخروج عن العهدة وأما المعارضة الثانية فنقول لا نسلم أن النهي في الصور التي ذكرتموها تعلق بنفس ما تعلق به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 الأمر بل بالمجاور وحيث صح الدليل أن الفعل المأتي به غير الفعل المنهي عنه فلا نسلم أنه لا يفيد الفساد والله أعلم وأما المعاملات فالمراد من قولنا هذا البيع فاسد إنه لا يفيد الملك فنقول لو دل النهي على عدم الملك لدل عليه إما بلفظه أو بمعناه ولا يدل عليه بلفظه لأن لفظ النهي لا يدل إلا على الزجر ولا يدل عليه بمعناه أيضا لأنه لا استبعاد في أن يقول الشارع نهيتك عن هذا البيع ولكن إن أتيت به حصل الملك كالطلاق في زمان الحيض والبيع وقت النداء وإذا ثبت أن النهي لا يدل على الفساد لا بلفظه ولا بمعناه وجب أن لا يدل عليه أصلا فإن قيل هذا يشكل بالنهي في باب العبادات فإنه يدل على الفساد ثم نقول لا نسلم أنه يدل عليه بمعناه وبيانه من وجهين الأول أن فعل المنهي عنه معصية والملك نعمة والمعصية تناسب المنع من النعمة وإلا لاحت المناسبة فمحل الاعتبار جميع المناهي الفاسدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 الثاني أن المنهي عنه لا يجوز أن يكون منشأ المصلحة الخالصة أو الراجحة وإلا لكان النهي منعا عن المصلحة الخالصة أو الراجحة وإنه لا يجوز بقي أحد امور ثلاثة وهو أن يكون منشأ المفسدة الخالصة أو الراجحة أو المساوية وعلى التقديرين الأولين وجب الحكم بالفساد لأنه إذا لم يفد الحكم أصلا كان عبثا والعاقل لا يرغب في العبث ظاهرا فلا يقدم عليه فكان القول بالفساد سعيا في إعدام تلك المفسدة وعلى التقدير الثالث وهو التساوي كان الفعل عبثا والاشتغال بالعبث محذور عند العقلاء والقول بالفساد يفضي إلى دفع هذا المحذور فوجب القول به سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك لكنه معارض بالنص والإجماع والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد والمنهي عنه ليس من الدين فيكون مردودا ولو كان سببا للحكم لما كان مردودا وأما الإجماع فهو أنهم رجعوا في القول بفساد الربا وفساد نكاح المتعة إلى النهي وأما المعقول فمن وجهين الأول أن النهي نقيض الأمر لكن الأمر يدل على الإجزاء فالنهي يدل على الفساد الثاني أن النهي يدل على مفسدة خالصة أو راجحة والقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 بالفساد سعي في إعدام تلك المفسدة فوجب أن يكون مشروعا قياسا على جميع المناهي الفاسدة والجواب قوله يشكل بالنهي في العبادات قلنا المراد من الفساد في باب العبادات أنها غير مجزئة والمراد منه في باب المعاملات إنه لا يفيد سائر الاحكام واذا اختلف المعنى لم يتجه أحدهما نقضا على الآخر قوله الملك نعمة فلا تحصل من المعصية قلنا الكلام عليه وعلى الوجه الثاني مذكور في الخلافيات وأما الحديث فنقول الطلاق في زمان الحيض يوصف بأمرين أحدهما أنه غير مطابق لأمر الله تعالى والثاني أنه سبب للبينونة أما الأول فالقول به إدخال في الدين ما ليس منه فلا جرم كان ردا وأما الثاني فلم قلت إنه ليس من الدين حتى يلزم منه أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 يكون ردا فإن هذا عين المتنازع فيه وأما الإجماع فلا نسلم أن الصحابة رضي الله عنهم رجعوا في فساد الربا والمتعة إلى مجرد النهي بدليل أنهم حكموا في كثير من المنهيات بالصحة وعند ذلك لا بد وأن يكون أحد الحكمين لأجل القرينة وعليكم الترجيح ثم هو معنا لأنا لو قلنا إن النهي يدل على الفساد لكان الحكم بعدم الفساد في بعض الصور تركا للظاهر أما لو قلنا بأنه لا يقتضي الفساد لم يكن إثبات الفساد في بعض الصور لدليل منفصل تركا للظاهر فكان ما قلناه أولى قوله الأمر دل على الإجزاء فوجب أن يدل النهي على الفساد قلنا هذا غير لازم لإمكان اشتراك المتضادات في بعض الصور اللوازم ولو سلمنا ذلك لكان الأمر لما دل على الإجزاء وجب أن لا يدل النهي عليه لا أن يدل على الفساد والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 المسألة الخامسة في أن النهي عن الشئ هل يدل على صحة المنهي عنه الذين قالوا إن النهي عن التصرفات لا يدل على الفساد اختلفوا في أنه هل يدل على الصحة فنقل عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن رحمهما الله أنه يدل على الصحة ولأجل ذلك احتجوا بالنهي عن الربا على انعقاده فاسدا وكذا في نذر صوم يوم العيد وأصحابنا أنكروا ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 لنا قوله ص دعي الصلاة أيام أقرائك وروى أنه ص نهى عن بيع الملاقيح والمضامين فالنهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 في هذه الصورة منفك عن الصحة احتجوا بأن النهي عن غير المقدور عبث والعبث لا يليق بالحكيم فلا يجوزأن يقال للأعمى لا تبصر ولا أن يقال للزمن لا تطر والجواب عنه النقض بالمناهي المذكورة ثم نقول لم لا يجوز حمل النهي على النسخ كما اذا قال للوكيل لا تبع هذا فإنه وان كان نهيا في الصيغة لكنه نسخ في الحقيقة سلمنا أنه نهي لكن متعلقه هو البيع اللغوي وذلك ممكن الوجود فلم قلت إن المسمى الشرعي ممكن الوجود والله أعلم المسألة السادسة المطلوب بالنهي عندنا فعل ضد المنهي عنه وعند أبي هاشم نفس أن لا يفعل المنهي عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 لنا أن النهي تكليف والتكليف إنما يرد بما يقدر عليه المكلف والعدم الأصلي يمتنع أن يكون مقدورا للمكلف لأن القدرة لا بد لها من تأثير والعدم نفي محض فيمتنع إسناده إلى القدرة وبتقدير أن يكون العدم أثرا يمكن إسناده إلى القدرة لكن العدم الأصلي لا يمكن إسناده إلى القدرة لأن الحاصل لا يمكن تحصيله ثانيا وإذا ثبت أن متعلق التكليف ليس هو العدم ثبت أنه أمر وجودي ينافي المنهي عنه وهو الضدد احتج المخالف بأن من دعاه الداعي إلى الزنا فلم يفعله فالعقلاء يمدحونه على أنه لم يزن من غير أن يخطر ببالهم فعل ضد الزنا فعلمنا أن هذا العدم يصلح أن يكون متعلق التكليف والجواب أنهم لا يمدحونه على شئ لا يكون في وسعه والعدم الأصلي يمتنع أن يكون في وسعه على ما تقدم بل إنما يمدحونه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 على امتناعه من ذلك الفعل وذلك الامتناع أمر وجودي لا محالة وهو فعل ضد الزنى فان قلت إنه كما يمكنه فعل الزنا فكذلك يمكنه أن يترك ذلك الفعل على عدمه الأصلي وأن لا يغيره فعدم التغيير أمر مقدور له فيتناوله التكليف قلت المفهوم من قولنا تركه على ذلك العدم الأصلي وما غيره عنه إما أن يكون محض العدم أو لا يكون فإن كان محض العدم لم يكن متعلق قدرته فاستحال أن يتناوله التكليف وإن لم يكن محض العدم كان أمرا وجوديا وهو المطلوب المسألة السابعة النهي عن الأشياء إما أن يكون نهيا عنها على الجمع أو عن الجمع أو نهيا عنها على البدل أو عن البدل أما النهي عنها على الجمع فهو أن يقول الناهي للمخاطب لا تفعل هذا ولا هذا فيكون ذلك موجبا للخلو عنهما أجمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 ثم تلك الأشياء التي أوجب الخلو عنها إن كان الخلو عنها ممكنا فلا شك في جواز النهي وإن لم يكن كان ذلك النهي جائزا عند من يجوز التكليف بمالا يطاق وأما النهي عن الجمع بين أشياء فهو مثل أن تقول لا تجمع بين كذا وكذا ثم تلك الأشياء إن أمكن الجمع بينها فلا كلام في جواز ذلك النهي وإلا لم يجز عند من لا يجوز تكليف مالا يطاق لأنه عبث يجري مجرى نهي الهاوي من شاهق جبل عن الصعود وأما النهي عن الأشياء على البدل فهو أن يقال للإنسان لا تفعل هذا إن فعلت ذلك ولا تفعل ذلك إن فعلت هذا وذلك ب أن يكون كل واحد منهما مفسده عند وجود الآخر وهذا يرجع إلى النهي عن الجمع بينهما وأما النهي عن البدل فيفهم منه شيئان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 أحدهما أن ينهى الإنسان عن أن يفعل شيئا ويجعله بدلا عن غيره وذلك يرجع إلى النهي عن أن يقصد به البدل وذلك غير ممتنع والآخر أن ينهى عن أن يفعل أحدهما دون الآخر لكن يجمع بينهما وهذا النهي جائز إن أمكن الجمع وغير جائز إن تعذر على قول من لا يجوز تكليف مالا يطاق والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 الكلام في العموم والخصوص وهو مرتب على أقسام القسم الأول في العموم وهو مرتب على شطرين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 الشطر الأول في ألفاظ العموم وفيه مسائل المسألة الأولى في العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد كقولنا الرجال فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له ولا يدخل عليه النكرات كقولهم رجل لأنه يصلح لكل واحد من رجال الدنيا ولا يستغرقهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 ولا التثنية و (لا) الجمع لأن لفظ رجلان ورجال يصلحان لكل اثنين وثلاثة ولا يفيدان الاستغراق ولا ألفاظ العدد كقولنا خمسة لأنه صالح لكل خمسة ولا يستغرقه وقولنا بحسب وضع واحد احتراز عن اللفظ المشترك أو الذي له حقيقة ومجاز فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معا وقيل في حده أيضا إنه اللفظة الدالة على شيئين فصاعدا من غير حصر واحترزنا باللفظة عن المعاني العامة وعن الألفاظ المركبة وبقولنا الدالة عن الجمع المنكر فإنه يتناول جميع الأعداد لكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 على وجه الصلاحية لا على وجه الدلالة وبقولنا على شيئين عن النكرة في الإثبات وبقولنا من غير حصر عن أسماء الأعداد والله أعلم المسألة الثانية المفيد للعموم إما أن يفيد لغة أو عرفا أو عقلا أما الذي يفيده لغة فإما أن يفيده على الجمع أو على البدل والذي يفيده على الجمع فإما أن يفيده كونه اسما موضوعا للعموم أو لأنه اقترن به ما أوجب عمومه وأما الموضوع للعموم فعلى ثلاثة أقسام الأول ما يتناول العالمين وغيرهم وهو لفظ أي في الاستفهام والمجازاة تقول أي رجل وأي ثوب وأي جسم في الاستفهام والمجازاة وكذا لفظ كل وجميع الثاني ما يتناول العالمين فقط وهو من في المجازاة والاستفهام الثالث ما يتناول غير العالمين وهو قسمان أحدهما ما يتناول كل ما ليس من العالمين وهو صيغة ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 وقيل إنه يتناول العالمين أيضا كقوله تعالى ولا أنتم عابدون ما أعبد وثانيهما ما يتناول بعض ما ليس من العالمين وهو صيغة متى فإنها مختصة بالزمان وأنى وحيث فإنهما مختصان بالمكان وأما الاسم الذي يفيد العموم لأجل أنه دخل عليه ما جعله كذلك فهو إما في الثبوت أو في العدم أما الثبوت فضربان لام الجنس الداخلة على الجمع كقولك الرجال والإضافة كقولك ضربت عبيدي وأما العدم فكالنكرة به في النفي وأما الاسم الذي يفيد العموم على البدل فأسماء النكرات على اختلاف مراتبها في العموم والخصوص وأما القسم الثاني وهو الذي يفيد العموم عرفا كقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم فإنه يفيد في العرف تحريم جميع وجوه الاستمتاع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وأما القسم الثالث وهو الذي يفيد العموم عقلا فأمور ثلاثة أحدها أن يكون اللفظ مفيدا للحكم ولعلته فيقتضي ثبوت الحكم أينما وجدت العلة والثاني أن يكون المفيد للعموم ما يرجع إلى سؤال السائل كما إذا سئل النبي عليه الصلاة والسلام عمن أفطر فيقول عليه الكفارة فنعلم أنه يعم كل مفطر والثالث دليل الخطاب عند من يقول به كقوله عليه الصلاة والسلام في سائمة الغنم زكاة فإنه يدل على أنه لا زكاة في كل ما ليس بسائمة والله أعلم المسألة الثالثة في الفرق بين المطلق والعام اعلم أن كل شئ فله حقيقة وكل أمر يكون المفهوم منه مغايرا للمفهوم من تلك الحقيقة كان لا محالة أمرا آخر سوى تلك الحقيقة سواء كان ذلك المغاير لازما لتلك الحقيقة أو مفارقا وسواء كان سلبا أو إيجابا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 فالإنسان من حيث إنه إنسان ليس إلا أنه إنسان فأما أنه واحد أو لا واحد أو كثير أو لا كثير فكل ذلك مفهومات منفصلة عن الإنسان من حيث إنه إنسان وإن كنا نقطع بأن مفهوم الإنسان لا ينفك عن كونه واحدا أو لا واحدا إذا عرفت ذلك فنقول اللفظة الدالة على الحقيقة من حيث إنها هي هي من غير أن تكون فيها دلالة على شئ من قيود تلك الحقيقة سلبا كان ذلك القيد أو إيجابا فهو المطلق وأما اللفظ الدال على تلك الحقيقة مع قيد الكثرة فإن كانت الكثرة كثرة معينة بحيث لا يتناول ما يزيد عليها فهو اسم العدد وإن لم تكن الكثرة كثرة معينة فهو العام وبهذا التحقيق ظهر خطأ من قال المطلق هو الدال على واحد لا بعينه فإن كونه واحدا وغير معين قيدان زائدان على الماهية والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 المسألة الرابعة اختلف الناس في صيغة كل وجميع وأي وما ومن في المجازاة والاستفهام فذهبت المعتزلة وجماعة من الفقهاء إلى أنها للعموم فقط وهو المختار وأنكرت الواقفية ذلك ولهم قولان فالأكثرون ذهبوا إلى أنها مشتركة بين العموم والخصوص والأقلون قالوا لا ندري أنها حقيقة في العموم فقط أو الخصوص فقط أو الاشتراك فقط والكلام في هذه المسألة مرتب على فصول خمسة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 الفصل الأول في أن من وما وأين ومتى في الاستفهام للعموم فنقول هذه الصيغ إما أن تكون للعموم فقط أو للخصوص فقط أولهما على سبيل الاشتراك أو لا لواحد منهما والكل باطل إلا الأول أما أنه لا يجوز أن يقال إنها موضوعة للخصوص فقط فلأنه لو كان كذلك لما حس من المجيب أن يجيب بذكر كل العقلاء لأن الجواب يجب أن يكون مطابقا للسؤال لكن لا نزاع في حسن ذلك وأما أنه لا يجوز القول بالاشتراك فلأنه لو كان كذلك لما حسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قيل من عندك فلا بد أن تقول تسألني عن الرجال أو عن النساء فإذا قال عن الرجال فلا بد أن تقول تسألني عن العرب أو عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 العجم فإذا قال عن العرب فلا بد أن تقول تسألني عن ربيعة أو عن مضر وهلم جرا إلى أن تأتي على جميع التقسيمات الممكنة وذلك لأن اللفظ إما أن يقال أنه مشترك بين الاستغراق وبين مرتبة معينة في الخصوص أو بين الاستغراق وبين جميع المراتب الممكنة والأول باطل لأن أحدا لم يقل به والثاني يقتضي أن لا يحسن من المجيب ذكر الجواب إلا بعد الاستفهام عن كل تلك الأقسام لأن الجواب لا بد وأن يكون مطابقا للسؤال فإذا كان السؤال محتملا لأمور كثيرة فلو أجاب قبل أن يعرف ما عنه وقع السؤال لاحتمل أن لا يكون الجواب مطابقا للسؤال وذلك غير جائز فثبت أنه لو صح الاشتراك لوجبت هذه الاستفهامات لكنها غير واجبة أما أولا فلأنه لا عام إلا وتحته عام آخر وإذا كان كذلك كانت التقسيمات الممكنة غير متناهية والسؤال عنها على سبيل التفصيل محال وأما ثانيا فلأنا نعلم بالضرورة من عادة أهل اللسان أنهم يستقبحون مثل هذه الاستفهامات وأما أنه لا يجوز أن تكون هذه الصيغة غير موضوعة للعموم ولا للخصوص فمتفق عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 فبطلت هذه الأقسام الثلاثة ولم يبق إلا القسم الأول وهو الحق فإن قيل لا نسلم أنها غير موضوعة للخصوص قوله لو كان كذلك لما حسن الجواب بذكر الكل قلنا متى إذا وجدت مع اللفظ قرينة تجعله للخصوص أو إذا لم توجد الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن من الجائز أن تكون هذه الصيغة موضوعة للخصوص إلا أنه قد يقترن بها من القرائن ما يصير المجموع للعموم لجواز أن يكون حكم المركب مخالفا لحكم المفرد سلمنا ذلك فلم لا يكون مشتركا قوله لو كان كذلك لوجبت الاستفهامات قلنا لم لا يجوز أن يقال هذه اللفظة لا تنفك عن قرينة دالة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 المراد بعينه فلا جرم لا يحتاج إلى تلك الاستفهامات سلمنا إمكان خلوه عن تلك القرينة لكن متى يقبح الجواب بذكر الكل إذا كان ذكر الكل مفيدا لما هو المطلوب بالسؤال على كل التقديرات أو إذا لم يكن الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن السؤال إما أن يكون قد وقع عن الكل أو عن البعض فإن وقع عن الكل كان ذكر الكل هو الواجب وإن وقع عن البعض فذكر الكل يأتي على ذلك البعض فيكون ذكر الكل مفيدا لحصول المقصود على كل التقديرات وذكر البعض ليس كذلك فكان ذكر الكل أولى سلمنا أن الاشتراك يوجب تلك الاستفهامات لكن لا نسلم أنها لا تحسن ألا ترى أنه إذا قيل من عندك حسن منه أن يقول أعن الرجال تسألني أم عن النساء أعن الأحرار أم عن العبيد غاية ما في الباب أن يقال الاستفهام عن كل الأقسام الممكنة غير جائز لكنا نقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 ليس الاستدلال بقبح بعض تلك الاستفهامات على عدم الاشتراك أولى من الاستدلال بحسن بعضها على الاشتراك وعليكم الترجيح سلمنا أن ما ذكرتم يدل على قولكم لكنه معارض بأن هذه الصيغ لو كانت للعموم فقط لما حسن الجواب إلا بقوله لا أو نعم لأن قوله من عندك تقديره أكل الناس عندك ومعلوم أن ذلك لا يجاب إلا بلا أو بنعم فكذلك ها هنا والجواب قوله الصيغة وإن كانت حقيقة في الخصوص لكن لم لا يجوز أن يقترن بها ما يصير المجموع للعموم قلنا لثلاثة أوجه الأول أن هذا يقتضي أنه لو لم توجد تلك القرينة أن لا يحسن الجواب بذكر الكل ونحن نعلم بالضرورة من عادة أهل اللغة حسن ذلك سواء وجدت قرينة أخرى أم لم توجد الثاني أن هذه القرينة لا بد وأن تكون معلومة للسامع والمجيب معا لأنه يستحيل أن تكون تلك القرينة طريقا إلى العلم بكون هذه الصيغة للعموم مع أنا لا نعرف تلك القرينة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 ثم تلك القرينة إما أن تكون لفظا أو غيره والأول باطل لأنه إذا قيل لنا من عندك حسن منا أن نجيب بذكر كل من عندنا وإن لم نسمع من السائل لفظة أخرى والثاني باطل أيضا لأنا لا نعقل قسما آخر وراء اللفظ يدل على مقصود المتكلم إلا الإشارة وما يجري مجراها من تحريك العين والرأس وغيرهما وكل ذلك مما لا يطلع الأعمى عليه مع أنه يحسن منه أن يجيب بذكر الكل الثالث أن من كتب إلى غيره فقال من عندك حسن منه الجواب بذكر الكل مع أنه لم يوجد في الكتبة شئ من القرائن وبهذه الوجوه خرج الجواب أيضا عن قوله إنما لم يحسن الاستفهام عن جميع الأقسام لأن اللفظ لا ينفك عن القرينة الدالة وأيضا فقد إنعقد الإجماع على أن اللفظ المشترك يجوز خلوه عن جميع القرائن المعينة قوله إنما حسن الجواب بذكر الكل لأن المقصود حاصل على كل التقديرات قلنا يلزم منه لو قال من عندك من الرجال أن يحسن منه ذكر النساء مع الرجال لأن تخصيص الرجال بالسؤال عنهم لا يدل على أنه لا حاجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 به إلى السؤال عن النساء فلما لم يحسن في هذا فكذا فيما ذكرتموه وأيضا فكما أنه يحتمل أن يكون غرضه من السؤال ذكر الكل أمكن أن يكون غرضه السؤال عن البعض مع السكوت عن الباقين قوله قد يحسن الاستفهام عن بعض الأقسام فليس الاستدلال بقبح البعض على نفي الاشتراك أولى من الاستدلال بحسن البعض على ثبوت الاشتراك قلنا قد ذكرنا أنه ليس في الأمة أحد يقول بأن هذه الصيغ مخصوصة ببعض مراتب الخصوص دون البعض فلو كانت حقيقة في الخصوص لكانت حقيقة في كل مراتب الخصوص ولو كان كذلك لوجب الاستفهام عن كل تلك المراتب فلما لم يكن كذلك علمنا فساد القول بالاشتراك فأما حسن بعض الاستفهامات فلا يدل على وقوع الاشتراك لما سنذكر إن شاء الله تعالى أن للاستفهام فوائد أخر سوى الاشتراك قوله لو كانت هذه الصيغة للعموم لما حسن الجواب إلا بلا أو نعم قلنا لا نسلم وذلك لأن السؤال ها هنا ما وقع عن التصديق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 حتى يكون جوابه بلا أو بنعم بل إنما وقع عن التصور فقوله من عندك معناه اذكر لي جميع من عندك من الأشخاص ولا تبق أحدا إلا وتذكره لي ومعلوم أنه يحسن الجواب عن هذا السؤال بلا أو بنعم والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 الفصل الثاني في أن صيغة من وما في المجازاة للعموم ويدل عليه ثلاثة أوجه الأول أن قوله من دخل داري فأكرمه لو كان مشتركا بين الخصصوص والاستغراق لما حسن من المخاطب أن يجري على موجب الأمر إلا عند الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة لكنه حسن فدل على عدم الاشتراك وتقريره ما تقدم في الفصل الأول الوجه الثاني إنه إذا قال من دخل داري فأكرمه حسن منه استثناء كل واحد من العقلاء والعلم بحسن ذلك من عادة أهل اللغة ضروري والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك لأنه لا نزاع في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 أن المستثنى من الجنس لا بد وأن يصح دخوله تحت المستثنى منه فإما أن لا يعتبر مع الصحة الوجوب أو يعتبر والأول باطل وإلا لكان يبقى بين الاستثناء من الجمع المنكر كقوله جاءني فقهاء إلا زيدا وبين الاستثناء من الجمع المعرف كقوله جاءني الفقهاء إلا زيدا فرق لصحة دخول زيد في الخطابين لكن الفرق معلوم بالضرورة من عادة العرب فعلمنا أن الاستثناء من الجمع المعرف يقتضي إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ وهو المطلوب فإن قيل ينتقض دليلكم بأمور ثلاثة أحدها جموع القلة كالأفعل والأفعال والأفعلة والفعلة وجمع السلامة فإنه للقلة بنص سيبوية مع أنه يصح استثناء كل واحد من أفراد ذلك الجنس عنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 وثانيها أنه يصح أن يقال اصحب جمعا من الفقهاء إلا فلانا ومعلوم أن ذلك المستثنى لا يجب أن يكون داخلا تحت ذلك المنكر وثاليها ثم إنه يصح أن يقال صل إلا اليوم الفلاني ولو كان الاستثناء يقتضي إخراج ما لولاه لدخل لكان الأمر مقتضيا للفعل في كل الأزمنة فكان الأمر يفيد الفور والتكرار وأنتم لا تقولون بهما سلمنا سلامته عن النقض لكن لا نسلم أن قوله من دخل داري أكرمه يحسن استثناء وكل واحد من العقلاء منه فإنه لا يحسن منه أن يستثنى الملائكة والجن واللصوص ولا يحسن أن يقول إلا ملك الهند وملك الصين سلمنا حسن ذلك ولكن لم يدل على العموم قوله المستثنى يجب صحة دخوله تحت المستثنى منه فإما أن يكون الوجوب معتبرا مع هذه الصحة أو لا يكون قلنا لا نسلم أن المستثنى يجب صحة دخوله تحت المستثنى منه فإن استثناء الشئ من غير جنسه جائز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 سلمناه لكن لم قلت إنه لا بد من الوجوب قوله لو لم يكن الوجوب معتبرا لما بقي فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر وبين الاستثنا من الجمع المعرف قلنا نسلم أنه لا بد من فرق لكن لا نسلم أنه لا فرق إلا ما ذكرتموه سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على الوجوب لكن معنا ما يدل على أن الصحة كافية وبيانه من وجهين الأول أن الصحة أعم من الوجوب فيكون حمل اللفظ على الصحة حملا له على ما هو أعم فائدة الثاني أن القائل اذا قال لغيره أكرم جمعا من العلماء واقتل فرفة من الكفار حسن أن يستثنى كل واحد من العلماء والكفار فيقول إلا فلانا وفلانا ولو كان الاستثناء يخرج ما لولاه لوجب دخوله فيه لوجب أن يكون اللفظ المنكر للاستغراق سلمنا أن ما ذكرتموه يقتضي أن تكون صيغة من للعموم لكن لا يجب أن يكون الأمر كذلك بيانه أن الاستدلال بالمقدمتين المذكورتين على النتيجة إنما يصح لو ثبت أنه لا تجوز المناقضة على واضع اللغة إذا لو جازت المناقضة عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 جاز ان يقال إنهم حكموا بهاتين المقدمتين اللتين توجبان عليهم أن يحكموا بأن صيغة من للعموم ولكنهم لعلهم لم يحكموا بها لأنهم لم يحترزوا عن المناقضة بلى لو ثبت أن اللغات توفيقية اندفع هذا السؤال سلمنا أن صحة الاستثناء من هذه الصيغ دالة على أنها للعموم لكنها تدل على أنها ليست للعموم من وجه آخر وذلك لأنها لو كانت للعموم لكان الاستثناء نقضا على ما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى والجواب أما النقض بجموع القلة فلا نسلم أنه يحسن استثناء أي عدد شئنا منه مثلا لا يجوز أن يقول أكلت الأرغفة إلا ألف رغيف وتوافقنا على أنه يجوز استثناء أي عدد شئنا من صيغة من في المجازاة مثل أن يقول من دخل داري أكرمته إلا أهل البلدة الفلانية قوله ينتقض بقوله اصحب جمعا من الفقهاء إلا زيدا قلنا هب أن الاستثناء من الجمع المنكر يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله فيه فلم قلت إن في سائر الصور كذلك قوله يلزم أن تكون صيغة الأمر للتكرار قلنا لم لا يجوز أن يكون اقتران الاستثناء بلفظ الأمر قرينة دالة على دلالة الأمر على التكرار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 قوله لا يحسن استثناء الملائكة واللصوص وملك الهند وملك الصين قلنا لأن المقصود من الاستثناء خروج المستثنى من الخطاب وقد علم من دون الاستثناء خروج هذه الأشياء من الخطاب ولهذا لو لم يعلم خروجها منه لحسن الاستثناء ألا ترى أنه لو كان الخطاب صادرا عن الله تعالى لحسن منه تعالى هذا الاستثناء مثل أن يقول إني أطعم من خلقت إلا الملائكة وأنظر بعين الرحمة إلى جميع خلقي إلا الملوك المتكبرين قوله لم قلت إنه يجب صحة دخول المستثنى تحت المستثنى منه قلنا لأن الإجماع منعقد على ذلك في استثناء الشئ من جنسه فلا يتوجه جواز الاستثناء من غير الجنس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 ولأن الاستثناء مشتق من الثني وهو الصرف وإنما يحتاج إلى الصرف لو كان بحيث لولا الصارف لدخل قوله لم قلت إنه لا فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر ومن الجمع المعرف إلا ما ذكرت قلنا لأن الجمع المنكر هو لاذي يدل على جمع يصلح أن يتناول كل واحد من الأشخاص فلو كان الجمع المعرف كذلك لم يبق بين الأمرين فرق وحينئذ لا يبقى بين الاستثناء من الجمعين فرق قوله حمل الاستثناء على الصحة أولى لكونها أعم فائدة قلنا يعارضه أن حمله على الوجوب أولى لأن الصحة جزء من الوجوب فلو حملناه على الوجوب لكنا قد أفدنا به الصحة والوجب معا ولو حملناه على الصحة وحدها لم نفد به الوجوب أصلا والجمع بين الدليلين بقدر الإمكان واجب قوله الاستثناء من الجمع المنكر ليس إلا لدفع الصحة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 قلنا هب أنه كذلك فلم قلت أن الاستثناء من صيغة من وما في المجازاة كذلك قوله لم قلت إن التناقض على الواضعين لا يجوز قلنا لأن الأصل عدم التناقض على العقلاء لا سيما وقد قرر الله تعالى ذلك الوضع قوله لو كانت الصيغة للعموم لكان الاستثناء نقضا قلنا سيجئ الجواب عنه إن شاء الله تعالى فهذا أقصى ما يمكن تمحله رسول في هذه الطريقة الوجه الثالث لما أنزر ولا الله تعالى قوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم قال ابن الزبعري لأخصمن محمدا ثم أتى النبي ص فقال يا محمد أليس قد عبدت الملائكة أليس قد عبد عيسى فتمسك بعموم اللفظ ولم ينكر النبي ص ذلك حتى نزل قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 فإن قلت السؤال كان خطأ لأن ما لا تتناول العقلاء قلت لا نسلم لقوله تعالى والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 الفصل الثالث في أن صيغة الكل والجميع تفيدان الاستغراق ويدل عليه وجوه الأول أن قوله جاءني كل فقيه في البلد يناقضه قوله ما جاءني كل فقيه في البلد ولذلك يستعمل كل واحد منهما في تكذيب الآخر والتناقض لا يتحقق إلا إذا أفاد الكل الاستغراق لأن النفي عن البعض لا يناقض الثبوت في البعض الثاني أن صيغة الكل مقابلة في اللفظ لصيغة البعض ولولا أن صيغة الكل غير محتملة للبعض وإلا لما كانت مقابلة لها الثالث أن الرجل إذا قال ضربت كل من في الدار وعلم أن في الدار عشرة ولم يعرف سوى هذه اللفظة أعني أنه لم يعرف أن في الدار أباه وغيره ممن يغلب على الظن أنه لا يضربه بل جوز أن يضربهم كلهم فإن الأسبق إلى الفهم الاستغراق ولو كانت لفظة الكل مشتركة بين الكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 والبعض لما كان كذلك لأن اللفظ المشترك لما كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية امتنع أن تكون مبادرة الفهم إلى أحدهما أقوى منها إلى الآخر الرابع أن يتمسك بسقوط الاعتراض عن المطيع وتوجهه على العاصي أما الأول فهو أن السيد إذا قال لعبده كل من دخل اليوم داري فأعطه رغيفا فلو أعطى كل داخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه حتى أنه لو أعطى رجلا قصيرا فقال له لم أعطيته مع أني أردت الطوال فللعبد أن يقول ما أمرتني بإعطاء الطوال وإنما أمرتني بإعطاء من دخل وهذا قد دخل وكل عاقل سمع هذا الكلام رأي اعتراض السيد ساقطا وعذر العبد متوجها وأما الثاني فهو أن العبد لو أعطى الكل إلا واحدا فقال له السيد لم لم تعطه فقال لأنه طويل وكان لفظك عاما فقلت لعلك أردت القصار استوجب التأديب بهذا الكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 الخامس إذا قال أعتقت كل عبيدي وإمائي ومات في الحال ولم يعلم منه أمر آخر سوى هذه الألفاظ حكم بعتق كل عبيده وإمائه ولو قال غانم حر وله عبدان اسمهما غانم وجبت المراجعة والاستفهام فعلمنا عدم الاشتراك السادس إنا ندرك تفرقة بين قولنا جاءني فقهاء وبين قولنا جاءني كل الفقهاء ولولا دلالة الثاني على الاستغراق وإلا لما بقي الفرق السابع معلوم أن أهل اللغة إذا أرادوا التعبير عن معنى الاستغراق فزعوا إلى استعمال لفظة الكل والجميع ولا يستعملون الجموع المنكرة ولولا أن لفظة الكل والجميع موضوعة للاستغراق وإلا لكان استعمالهم هاتين اللفظتين عند إرادة الاستغراق كاستعمالهم للجموع المنكرة فإن قلت في جميع هذه المواضع إنما حكمنا بالعموم للقرينة قلت كل ما تفرضونه من القرائن أمكننا فرض عدمه مع بقاء الأحكام المذكورة وأيضا لو قيل كل من قال لك جيم فقل له دال فها هنا لا قرينة تدل على هذه الأحكام مع أن العموم مفهوم منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 وأيضا فلو كتب في كتاب وقال اعملوا بما فيه حكم بالعموم مع عدم القرينة وأيضا الأعمى يفهم العموم من هذه الألفاظ مع أنه لا يعرف القرائن المبصرة وأما المسموعة فهي منفية لأنا فرضنا الكلام فيمن سمع هذه الألفاظ ولم يسمع شيئا آخر الثامن لما سمع عثمان رضي الله عنه قول لبيد وكل نعيم لا محالة زائل قال كذبت فإن نعيم الجنة لا يزول فلولا أن قوله أفاد العموم وإلا لما توجه عليه التكذيب والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 الفصل الرابع في أن النكرة في سياق النفي تعم وذلك لوجهين الأول أن الإنسان إذا قال اليوم أكلت شيئا فمن أراد تكذيبه قال ما أكلت اليوم شيئا فذكرهم هذا النفي عند تكذيب ذلك الإثبات يدل على اتفاقهم على كونه مناقضا له ولو كان قوله ما أكلت اليوم شيئا لا يقتضي العموم لما ناقضه لأن السلب الجزئي لا يناقض الإيجاب الجزئي مثاله من كتاب الله أن اليهود لما قالت ما أنزل الله على بشر من شئ قال تعالى قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى وإنما أورد الله تعالى هذا الكلام نقضا لقولهم الثاني لو لم تكن النكرة في النفي للعموم لما كان قولنا لا إله إلا الله نفيا لجميع الآلهة سوى الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 تنبيه النكرة في الآيات إذا كانت خبرا لا تقتضي العموم كقولك جاءني رجل وإذا كان أمرا فالأكثرون على أنه للعموم كقوله أعتق رقبة والدليل عليه أنه يخرج عن عهدة الأمر بفعل أيها كان ولولا أنها للعموم وإلا لما كان كذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 الفصل الخامس في شبه منكري العموم احتجوا بأمور أولها العلم بكون هذه الصيغ موضوعة للعموم إما أن يكون ضروريا وهو باطل وإلا وجب اشتراك العقلاء فيه أو نظريا وحينئذ لا بد فيه من دليل وذلك الدليل إما أن يكون عقليا وهو محال لأنه لا مجال للعقل في اللغات أو نقليا وهو إما أن يكون متواترا أو آحادا والمتواتر باطل وإلا لعرفه الكل والآحاد باطل لأنه لا يفيد إلا الظن والمسألة علمية وثانيها أن هذه الألفاظ مستعملة في الاستغرا لم تارة وفي الخصوص أخرى وذلك يدل على الاشتراك بيان المقدمة الأولى أن القائل اذا قال من دخل داري أهنته أو أكرمته فإنه قلما يريد به العموم وإذا قال لقيت العلماء وقصدت الشرفاء فقد يريد به العموم تارة والخصوص أخرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 بيان المقدمة الثانية من وجهين الأول أن الظاهر من استعمال اللفظ في شئ كونه حقيقة فيه إلا أن يدلونا بدليل قاطع على أنهم باستعماله فيه متجوزون لأنا لو لم نجعل ذلك طريقا إلى كون اللفظ حقيقة في المسمى لتعذر علينا أن نحكم بكون لفظ ما حقيقة في معنى ما إذ لا طريق إلى كون اللفظ حقيقة سوى ذلك الثاني هو أن هذه الألفاظ لو لم تكن حقيقة في الاستغراق والخصوص لكان مجازا في أحدهما واللفظ لا يستعمل في المجاز إلا مع قرينة وذلك خلاف الأصل وأيضا فتلك القرينة إما أن تعرف ضرورة أو نظرا والأول باطل وإلا لامتنع وقوع الخلاف فيه والثاني أيضا باطل لأنا لما نطرنا ابن في أدلة المثبتين لهذه القرينة لم نجد فيها ما يمكن التعويل عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 وثالثها أن هذه الألفاظ لو كانت موضوعة للاستغراق لما حسن أن يستفهم المتكلم به لأن الاستفهام طلب الفهم وطلب الفهم عند حصول المقتضى للفهم عبث لكن من المعلوم أن من قال ضربت كل من في الدار أنه يحسن أن يقال اضربتهم قوله بالكلية وأن يقال أضربت أباك فيهم ورابعها أنها لو كانت للاستغراق لكان تأكيدها عبثا لأنها تفيد عين الفائدة الحاصلة من المؤكد وخامسها أنها لو كانت للاستغراق لكان الاستثناء نقضا وبيانه من وجهين الأول أن المتكلم قد دل على الاستغراق بأول كلامه ثم بالاستثناء رجع عن الدلالة على الكل إلى البعض فكان نقضا وجاريا مجرى ما يقال ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار الثاني أن لفظة العموم لو كانت موضوعة للاستغراق لجرت لفظة العموم مع الاستثناء مجرى تعديد الأشخاص واستثناء الواحد منهم بعد ذلك في القبح كما اذا قال ضربت زيدا ضربت عمرا وضربت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 خالدا ثم يقول إلا زيدا فلما لم يكن كذلك دل حسن الاستثناء على أن جنس هذه الصيغ ليست للاستغراق وسادسها أن صيغة من وما وأي في المجازاة يصح إدخال لفظ الكل عليها تارة والبعض أخرى تقول كل من دخل داري فأكرمه بعض من دخل داري فأكرمه ولو دلت تلك الصيغة على الاستغراق لكان إدخال الكل عليها تكريرا وسابعها لو كانت لفظة من للاستغراق لامتنع جمعها لأن الجمع يفيد أكثر مما يفيده الواحد ومعلوم أنه ليس بعد الاستغراق كثرة فيفيدها الجمع لكن يصح جمعها لقول الشاعر أتوا ناري فقلت منون أنتم فقالوا الجن قلت عموا ظلاما والجواب عن الأول لا نسلم أنه غير معلوم بالضرورة فإنا بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 استقراء اللغات نعلم بالضرورة أن صيغ كل وجميع ومن وما وأي في الاستفهام والجزاء للعموم سلمناه فلم لا يجوز أن يعرف بالعقل قوله لا مجال للعقل في اللغات قلنا ابتداء أم بواسطة الاستعانة بمقدمات نقلية الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلت إنه لم توجد مقدمات نقلية يستنتج العقل منها ثبوت الحكم في هذه المسألة سلمناه فلم لا يجوز أن يعرف ذلك بالآحاد قوله المسألة قطعية قلنا لا نسلم كيف وقد بينا أن القطع لا يوجد في اللغات إلا نادرا والجواب عن الثاني لا نزاع في أن هذه الألفاظ قد تستعمل في الخصوص ولكنك إن ادعيت أنه لا يوجد الاستعمال إلا إذا كان حقيقة بطل قولك بالمجاز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 وإن سلمت أنه قد يوجد الاستعمال حيث لا حقيقة فحينئذ تعذر الاستدلال بالاستعمال على كونه حقيقة فإن قلت أستدل بالاستعمال مع أن المجاز خلاف الأصل على كونه حقيقة فيه قلت قولك المجاز خلاف الأصل لا يفيد إلا الظن وعندك المسألة قطعية يقينية وأيضا فكما أن المجاز خلاف الأصل فكذلك الاشتراك وقد تقدم في كتاب اللغات أنه إذا وقع التعارض بينهما كان دفع الاشتراك أولى وأما قوله أولا لو لم يجعل هذا طريقا إلى كون اللفظ حقيقة لم يبق لنا إليه طريق أصلا قلنا قد بينا فساد هذا الطريق فإن لم يكن ها هنا طريق آخر إلى الفرق بين الحقيقة والمجاز وجب أن يقال إنه لا طريق إلى ذلك الفرق لأن ما ظهر فساده لا يصير صحيحا لأجل فساد غيره قوله ثانيا ذلك الطريق إما أن يعرف بالضرورة أو بالدليل والضرورة باطلة لوقوع الخلاف والدليل باطل لأنا لم نجد في أدلة الخالفين ما يدل عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 قلنا الضروري لا ينكره الجمع العظيم من العقلاء وقد ينكره النفر اليسير ولا نسلم أن الجمع العظيم من أهل اللغة نازعوا في أن لفظ الكل وأي للعموم سلمنا ذلك لكن لا نسلم أنه لو يوجد ما يدل على كونها مجازا في الخصوص قوله نظرنا في أدلة المخالفين فلم نجد فيها ما يدل على ذلك قلنا عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود واعلم أن الشريف المرتضى عول على هذه الطريقة ومن تأمل كلامه فيها علم أنه في أكثر الأمر يدور على المطالبة بالدلالة على كون هذه الصيغة مجازا في الخصوص مع أنه شرع فيها شروع المستدل على كونها حقيقة في الاستغراق والخصوص والجواب عن الثالث لا نسلم أن حسن الاستفهام لا يكون إلا عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 الاشتراك فما الدليل عليه ثم الدليل على أنه قد يكون لغيره وجهان الأول أنه لو كان حسن الاستفهام لأجل الاشتراك لوجب أن لا يحسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة على ما قررناه في الفصل الأول الثاني أن الاستفهام قد يجاب عنه بذكر ما عنه وقع الاستفهام كما لو قال القائل ضربت القاضي فيقال له أضربت القاضي فيقول نعم ضربت القاضي ولا شك في حسن هذا الاستفهام في العرف فثبت بهذين الوجهين أن الاستفهام قد يحسن لا مع الاشتراك ثم نقول الاستفهام إما أن يقع ممن يجوز عليه السهو أو ممن لا يجوز عليه ذلك والأول قد يحسن لوجوه أربعة أخرى غير الذي ذكروه أحدها أن السامع ربما ظن أن المتكلم غير متحفظ في كلامه أو هو كالساهي فيستفهمه ويستبينه له حتى إن كان ساهيا زال سهوه وأخبره عن تيقظ ولذلك يحسن أن يجاب عن الاستفهام بعين ما وقع عنه الاستفهام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 وثانيها أن يظن السامع لأجل أمارة أن المتكلم قد أخبر بكلامه العام عن جماعة على سبيل المجازفة ويكون السامع شديد العناية بذلك فتدعوه شدة عنايته إلى الاستفهام عن ذلك الشئ لكي يعلم المتكلم اهتمام السامع به فلا يجازف في الكلام ولهذا قد يقول القائل رأيت كل من في الدار فإذا قيل له أرأيت زيدا فيهم فقال نعم زالت التهمة لأن اللفظ الخاص أقل إجمالا وربما لم يتحقق رؤيته فيدعوه ما رآه من اهتمام المستفهم إلى أن يقول لا أتحقق رؤيته وثالثها أن يستفهم طلبا لقوة الظن ورابعها أن توجد هناك قرينة تقتضي تخصيص ذلك العموم مثل أن يقول ضربت كل من في الدار وكان فيها الوزير فغلب على الظن أنه ما ضربه فإذا حصل التعارض استفهمه ليقع الجواب عنه بلفظ خاص لا يحتمل التخصيص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 وأما إن وقع ممن لا يجوز عليه السهو فذاك لأن دلالة الخاص أقوى من دلالة العام فيطلب الخاص بعد العام تحصيلا لتلك القوة والجواب عن الرابع من حيث المعارضة ومن حيث التحقيق أما المعارضة فمن ثلاثة أوجه أحدها تأكيد الخصوص كقولهم جاء زيد نفسه وثانيها تأكيد ألفاظ العدد كقوله تعالى تلك عشرة كاملة وثالثها إن التأكيد تقوية ما كان حاصلا فلو كان الحاصل هو الاشتراك لتأكد ذلك الاشتراك بهذا التأكيد فإن قلت التأكيد يعين اللفظ لأحد مفهوميه قلت هذا لا يكون تأكيدا بل بيانا وأما من حيث التحقيق فهو أن المتكلم إما أن يجوز عليه السهو أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 لا يجوز فإجاز ذلك كان حسن التأكيد لوجوه أحدها أن السامع إذا سمع اللفظ بدون تأكيد جوز مجازفة المتكلم فإذا أكده صار ذلك التجويز أبعد وثانيها أنه ربما حصل هناك ما يقتضي تخصيص العام فإذا اقترن به التأكيد كان احتمال الخصوص أبعد وثالثها تقوية بعض ألفاظ العموم ببعض وأما إن لم يجز السهو على المتكلم لم يكن للتأكيد فائدة إلا تقوية الظن والجواب عن الخامس أنه منقوض بألفاظ العدد فإنها صريحة في ذلك العدد المخصوص ثم يتطرق الاستثناء إليها ثم الفرق بين ما ذكروه من الصورتين وبين مسألتنا ان الاستثناء إذا اتصل بالكلام صار جزءا من الكلام فتصير الجملة شيئا واحدا مفيدا لأنه لا يستقل بنفسه في الإفادة فيجب تعليقه بما يقدم عليه فإذا علقناه به صار جزءا من الكلام فتصير الجملة شيئا واحدا مفيدا وفائدته محمد إرادة ما عدا المستثنى بخلاف قوله ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار لأن ها هنا كل واحد من الكلامين مستقل بنفسه فلا حاجة إلى تعليقه بما تقدم عليه وإذا لم يتعلق به أفاد الأول ضرب جميع من في الدار وأفاد الآخر نفي ذلك فكان نقضا وأما الثاني فنطالبهم بالجامع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 ثم الفارق أن الاستثناء إخراج جزء من كل فإذا قال ضربت زيدا وضربت عمرا إلا زيدا انصرف قوله إلا زيدا إلى زيد لا إلى عمرو لأن زيدا ليس بجزء منهم فكان نقضا بخلاف قوله رأيت الكل إلا زيدا لأن زيدا جزء من الكل فظهر الفرق والجواب عن السادس أن حكم المفرد يجوز أن يخالف حكم المركب فيجوز أن يكون شرط إفادة لفظة من للعموم انفرادها عن لفظ البعض معها بل لم يكن شرط إفادتها للعموم حاصلا فلا جرم لم يلزم النقض والجواب عن السابع أن أهل اللغة اتفقوا على أن ذلك ليس جمعا وإنما هو إشباع الحركة لسبب آخر مذكور في كتب النحو المسألة الخامسة لا خلاف في أن الجمع المعرف بلام الجنس ينصرف إلى المعهود لو كان هناك معهود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 أما إذا لم يكن فهو للاستغراق خلافا للواقفية وأبي هاشم لنا وجوه الأول أن الأنصار لما طلبوا الإمامة احتج عليهم أبو بكر رضي الله عنه بقوله ص الأئمة من قريش والأنصار سلموا تلك الحجة ولو لم يدل الجمع المعرف بلام الجنس على الاستغراق لما صحت تلك الدلالة لأن قوله ص الأئمة من قريش لو كان معناه بعض الأئمة من قريش لوجب أن لا ينافي وجود إمام من قوم آخرين أما كون كل الآئمة من قريش فينافي كون بعض الأئمة من غيرهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأبي بكر رضي الله عنه لما هم بقتال مانعي الزكاة أليس قال النبي ص أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله احتج عليهم بعموم اللفظ ثم لم يقل أبو بكر ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم إن اللفظ لا يفيده بل عدل إلى الاستثناء فقال أليس أنه عليه السلام قال إلا بحقها وإن الزكاة من حقها الثاني إن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق فوجب أن يفيد في أصله الاستغراق أما انه يؤكد فلقوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون وأما أنه بعد التأكيد يقتضي الاستغراق فبالإجماع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 وأما أنه متى كان كذلك وجب أن يكون المؤكد في أصله للاستغراق فلأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد إجماعا والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتا في الأصل فلو لم يكن الاستغراق حاصلا في الأصل وإنما حصل بهذه الألفاظ ابتداءا لم يكن تأثير هذه الألفاظ في تقوية هذ الحكم الأصلي بل في إعطاء حكم جديد فكانت مبينة للمجمل لا مؤكدة وحيث اجمعوا على انها مؤكدة اعلمنا اقتضاء الاستغراق كان حاصلا في الاصل فإن قيل هذا الاستدلال على خلاف النص لأن سيبويه نص على أن جمع السلامة للقلة وما يكون للقلة لا يكون للاستغراق ثم ينتقض بجمع القلة فإنه يجوز تأكيده بهذه المؤكدات وأيضا فعند الكوفيين يجوز تأكيد النكرات كقوله قد صرت البكرة يوما أجمعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 والنكرة لا تفيد الاستغراق والجواب أنه لا بد من التوفيق بين نص سيبويه وبين ما ذكرناه من الدليل فنصرف قول سيبويه إلى جمع السلامة إذا كان منكرا وما ذكرناه من الدليل إلى المعرف ونمنع جواز تأكيد جمع القلة وكذا تأكيد النكرات على قول البصريين الثالث الألف واللام إذا دخلا في الاسم صار معرفة كذا نقل عن أهل اللغة فيجب صرفه إلى ما به تحصل المعرفة وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بالصرف إلى الكل لأنه معلوم للمخاطب فأما الصرف إلى ما دونه فانه لا يفيد المعرفة لأن بعض الجموع ليس أولى من بعض فكان مجهولا فإن قلت إذا أفاد جمعا من هذا الجنس فقد أفاد تعريف ذلك الجنس قلت هذه الفائدة كانت حاصلة بدون الألف واللام لأنه لو قال رأيت رجالا أفاد تعريف ذلك الجنس وتمييزه عن غيره فدل أن للألف واللام فائدة زائدة وما هي إلا الاستغراق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 الرابع أنه يصح استثناء أي واحد كان منه وذلك يفيد العموم على ما تقدم الخامس الجمع المعرف في اقتضاء الكثرة فوق المنكر لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف ولا ينعكس فإنه يجوز أن يقال رجال من الرجال ولا يجوز أن يقال الرجال من رجال ومعلوم بالضرورة أن المنتزع منه أكثر من المنتزع وإذا ثبت هذا فنقول المفهوم من الجمع المعرف إما الكل أو ما دونه والثاني باطل لأنه ما من عدد دون الكل إلا ويصح انتزاعه من الجمع المعرف وقد عرفت أن المنتزع منه أكثر ولم بطل ذلك ثبت أنه للكل والله أعلم احتجوا بأمور أولها لو كانت هذه الصيغة للاستغراق لكانت إذا استعملت في العهد لزم إما الاشتراك وإما المجاز وهما على خلاف الأصل فوجب أن لا يفيد الاستغراق البتة وثانيها ولكان قولنا رأيت كل الناس أو بعض الناس خطأ لأن الأول تكرير والثاني نقض وثالثها يقال جمع الأمير الصاغة مع أنه ما جمع الكل والأصل في الكلام الحقيقة فهذه الألفاظ حقيقة فيما دون الاستغراق فوجب أن لا تكون حقيقة في الاستغراق دفعا للاشتراك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 والجواب عن الأول أن الألف واللام للتعريف فينصرف إلى ما السامع به أعرف فإن كان هناك عهد فالسامع به أعرف فانصرف إليه وإن لم يكن هناك عهد كان السامع أعرف بالكل من البعض لأن الكل واحد والبعض كثير مختلف فانصرف إلى الكل وأيضا لا يبعد أن يقال إذا أريد به العهد كان مجازا إلا أنه لا يحمل عليه إلا بقرينة وهي العهد بين المتخاطبين وهذا أمارة المجاز وعن الثاني أن دخول لفظتي الكل والبعض لا يكون تكريرا ولا نقضا بل يكون تأكيدا أو تخصيصا وعن الثالث أن ذلك تخصيص بالعرف كما في قوله من دخل داري أكرمته فإنه لا يتناول الملائكة واللصوص والله أعلم المسألة السادسة الجمع المضاف كقولنا عبيد زيد للاستغراق والدليل عليه ما تقدم وأما الكناية كقوله فعلوا فإنه يقتضي مكنيا عنه والمكني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 عنه قد يكون للاستغراق وقد لا يكون كذلك فالكناية عنه أيضا تكون كذلك المسألة السابعة إذا أمر جمعا بصيغة الجمع أفاد الاستغراق فيهم والدليل عليه ان السيد إذا أشار إلى جماعة من غلمانه بقوله قوموا فليس يتخلف عن القيام أحد إلا استحق الذم وذلك يدل على أن اللفظ للشمول ولا يجوز أن يضاف ذلك إلى القرينة لأن تلك القرينة أن كانت من لوازم هذه الصيغة فقد حصل مرادنا وإلا فلنفرض هذه الصيغة مجردة عنها ويعود الكلام والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 الشطر الثاني من هذا القسم فيما ألحق بالعموم وليس منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 المسألة الأولى الواحد المعرف بلام الجنس لا يفيد العموم خلافا للجبائي والفقهاء والمبرد لنا وجوه الأول أن الرجل إذا قال لبست الثوب وشربت الماء لا يتبادر إلى الفهم الاستغراق الثاني لا يجوز تأكيده بما يؤكد به الجمع فلا يقال جاءني الرجل كلهم أجمعون الثالث لا ينعت بنعوت الجمع فلا يقال جاءني الرجل القصار وتكلم الفقيه الفضلاء فأما ما يروى من قولهم أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر فمجاز بدليل أنه لا يطرد وأيضا فالدينار الصفر إن كان حقيقة فالدينار الأصفر مجاز كما أن الدينار الصفر لما كان حقيقة كان الدينار الأصفر إما خطأ أو مجازا الرابع البيع جزء من مفهوم هذا البيع وإحلال هذا البيع يتضمن إحلال البيع فلو كان لفظ البيع مقتضيا للعموم لزم من إحلال هذا البيع إحلال كل بيع ومعلوم أن ذلك باطل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 فإن قلت لم لا يجوز أن يقال اللفظ المطلق إنما يفيد العموم بشرط العراء عن لفظ التعيين أو يقال اللفظ المطلق وإن اقتضى العموم إلا أن لفظ التعيين يقتضي خصوصه قلت أما الأول فباطل لأن العدم لا مدخل له في التأثير وأما الثاني فلأنه يقتضي التعارض وهو خلاف الأصل الخامس هو أنا قد بينا أن الماهية غير ووحدتها غير وكثرتها غير والاسم المعرف لا يفيد إلا الماهية وتلك الماهية تتحقق عند وجود فرد من أفرادها لأن هذا الإنسان مشتمل على الإنسان مع قيد كونه هذا فالآتي بهذا الإنسان آت بالإنسان فالإتيان بالفرد الواحد من تلك الماهية يكفي في العمل بذلك النص فظهر أن هذا اللفظ لا دلالة له على العموم البته احتجوا بوجوه أحدها أنه يجوز أن يستثنى منه الآحاد التي تصلح أن تدخل تحته لقوله تعالى إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك يدل على كون هذا اللفط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 وثانيها أن الألف واللام للتعريف وليس ذلك لتعريف الماهية فإن ذلك قد حصل بأصل الاسم ولا لتعريف واحد بعينه فإنه ليس في اللفظ دلالة عليه اللهم إلا عند المعهود السابق وكلامنا فيما إذا لم يوجد ذلك ولا لتعريف بعض مراتب الخصوص فإنه ليس بعض تلك المراتب أولى من بعض فلا بد من الصرف إلى الكل وثالثها أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعملية فقوله تعالى وأحل الله البيع مشعر بأنه إنما صار حلالا لكونه بيعا وذلك يقتضي أن يعم الحكم لعموم العلة ورابعها أنه يؤكد بما يؤكد به العموم كقوله كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل وذلك يدل على أنه للعموم وخامسها أنه ينعت بما ينعت به العموم كقوله تعالى والنخل باسقات وكقوله أو الطفل الذين وكل ذلك يدل على أنه للعموم والجواب عن الأول أن ذلك الاستثناء مجاز بدليل أنه يقبح أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 يقال رأيت الإنسان إلا المؤمنين ولو كان حقيقة لاطرد ويمكن أن يقال إن الخسران لما لزم كل الناس إلا المؤمنين جاز هذا الاستثناء وعن الثاني أن لام الجنس تفيد تعيين الماهية لا تعيين الكلية وقد عرفت أن نفس الماهية لا تقتضي الكلية وعن الثالث أن ذلك اعتبار مغاير للتمسك بنفس اللفظ ونحن لا ننكر ذلك والله أعلم المسألة الثانية الكلام في الجمع المنكر ينفرع على الكلام في أقل الجمع وقد اختلفوا فيه فذهب القاضي والأستاذ أبو اسحاق وجمع من الصحابة والتابعين إلى أن أقل الجمع اثنان وقال أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله ثلاثة وهو المختار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 لنا وجوه الأول أن أهل اللغة فصلوا بين التثنية والجمع كما فصلوا بين الواحد والجمع فكما فرقنا بين الواحد والجمع وجب أن نفرق بين التثنية والجمع الثاني أن صيغة الجمع تنعت بالثلاثة فما فوقها وبالعكس يقال جاءني رجال ثلاثة وثلاثة رجال ولا تنعت بالاثنين فلا يقال رجال اثنان ولا اثنان رجال الثالث أن أهل اللغة فصلوا بين ضمير التثنية وضمير الجمع فقالوا في الاثنين فعلا وفي الثلاثة فعلوا وفي الأمر الاثنين افعلا وفي الجمع افعلوا اجتجوا أبو بالقرآن والخبر والمعقول أما القرآن فبقوله تعالى وكنا لحكمهم شاهدين والمراد داود وسليمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 وبقوله تعالى إذ تسوروا المحراب وكانا اثنين لقوله تعالى خصمان وبقوله إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان وبقوله عز وجل في قصة موسى وهارون إنا معكم مستمعون وبقوله تعالى حكاية عن يعقوب عسى الله أن يأتيني بهم جميعا والمراد يوسف وأخوه وبقوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وبقوله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وأما الخبر فقوله ص الاثنان فما فوقهما جماعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 وأما المعقول فهو أن معنى الاجتماع حاصل في الاثنين والجواب عن الأول أنه تعالى كنى عن المتحاكمين مضافا إلى كنايته عن الحاكم عليهما فإن المصدر قد يضاف إلى المفعول وإذا اعتبرنا المتحاكمين مع الحاكم كانوا ثلاثة وأما قوله تعالى إذ تسوروا المحراب مع قوله خصمان فجوابه أن الخصم في اللغة للواحد والجمع كالضيف يقال هذا خصمي وهؤلاء خصمي وهذا ضيفي وهؤلاء ضيفي قال الله تعالى إن هؤلاء ضيفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 وهو الجواب عن التمسك بقوله تعالى هذان خصمان اختصموا وقوله ففزع منهم وأما قوله تعالى إنا معكم مستمعون فالمراد موسى وهارون وفرعون وأما قوله تعالى عسى الله أن يأتيني بهم جميعا فالمراد به يوسف وأخوه والأخ الثالث الذي قال فلن أبرح الآرض حتى يأذن لي أبي وقوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فكل طائفة جمع وأما قوله تعالى فقد صغت قلوبكما فجوابه أنه قد يطلق اسم القلب على الميل الموجود في القلب فيقال للمنافق إنه ذو لسانين وذو وجهين وذو قلبين ويقال للذي لا يميل إلا إلى الشئ الواحد له قلب واحد ولسان واحد ولما خالفتا أمر الرسول ص ونمتا أو بأمر مارية وقع في قلبيهما دواع مختلفة وأفكار متباينة فصح أن يكون المراد من القلوب هده الدواعي وإذا صح ذلك وجب حمل اللفظ عليها لأن القلب لا يوصف بالصغو) وإنما يوصف الميل به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 وأما الحديث فهو محمول على إدراك فضيلة الجماعة وقيل إنه ص نهى عن السفر إلا في جماعة ثم بين أن الاثنين فما قوقهما عبد جماعة في جواز السفر وأما المعقول فجوابه أن البحث ما وقع عما تفيده لفظة الجمع بل عما يتناوله لفظ الرجال والمسلمين عليه فأين أحدهما من الآخر والله أعلم المسألة الثالثة الجمع المنكر يحمل عندنا على أقل الجمع وهو الثلاثة خلافا للجبائي فإنه قال يحمل على الاستغراق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 لنا أن لفظ رجال يمكن نعته بأي جمع شئنا فيقال رجال ثلاثة وأربعة وخمسة فمفهوم قولك رجال يمكن جعله مورد التقسيم لهذه الأقسام والمورد للتقسيم بالأقسام يكون مغايرا لكل واحد من تلك الأقسام وغير مستلزم لها فاللفظ الدال على ذلك المورد لا يكون له إشعار بتلك الأقسام فلا يكون دالا عليها وأما الثلاثة فهي مما لابد منها فثبت أنها تفيد الثلاثة فقظ احتج الجبائي بأن حمله على الاستغراق حمل له على جميع حقائقه وذلك أولى من حمله على بعض حقائقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 والجواب أن مسمى هذا الجمع الثلاثة من غير بيان عدم الزائد ووجوده ولا شك أنه قدر مشترك بين الثلاثة فقط وبين الآربعة وما فوقها وقد بينا أن اللفظ الدال على ما به الاشتراك بين أنواع لا دلالة فيه البتة على شئ من تلك الأنواع فضلا عن أن يكون حقيقة فيها فبطل قوله إن حمل هذا اللفظ على الاستغراق يقتضي حمله على جميع حقاقه أبي والله أعلم المسألة الرابعة قوله تعالى لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يقتضي نفي الاستواء في جميع الأمور حتى في القصاص لوجهين الأول أن نفي الاستواء أعم من نفي الاستواء من كل الوجوه أو من بعضها والدال على القدر المشترك بين القسمين لا إشعار فيه بهما الثاني أنه إما أن يكفي في إطلاق لفظ المساواة الاستواء من بعض الوجوه أو لا بد فيه من الاستواء من كل الوجوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 والأول باطل وإلا لوجب إطلاق لفظ المتساويين على جميع الأشياء لأن كل شيئين فلا بد وأن يستويا في بعض الأمور من كونهما معلومين ومذكورين وموجودين وفي سلب ما عداهما عنهما ومتى صدق عليه المساوي وجب أن يكذب عليه غير المساوي لأنهما في العرف كالمتناقضين (فإن من قال هذا يساوي ذاك فمن أراد تكذيبه قال إنه لا يساويه والمتناقضان لا يصدقان معا فوجب أن لا يصدق على شيئين البته أنهما متساويان وغير متساويين ولما كان ذلك باطلا علمنا أنه يعتبر في المساواة المساواة من كل الوجوه وحينئذ يكفي في نفي المساواة نفي الاستواء من بعض الوجوه لأن نقيض الكلي هو الجزئي فإذن قولنا لا يستويان لا يفيد نفي الاستواء من جميع الوجوه والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 المسألة الخامسة إذا قال الله تعالى يا أيها النبي فهذا لا يتناول الأمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 وقال قوم ما يثبت في حقه يثبت في حق غيره إلا ما دل الدليل على أنه من خواصه وهؤلاء إن زعموا أن ذلك مستفاد من اللفظ فهو جهالة وإن زعموا أنه مستفاد من دليل آخر وهو قوله تعالى وما آاتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وما يجري مجراه فهو خروج عن هذه المسألة لأن الحكم عنده إنما وجب على الأمة لا بمجرد الخطاب المتناول للنبي فقط بل بالدليل الآخر وإذا ثبت ذلك ثبت أيضا أن الخطاب المتناول بوضعه للأمة لا يتناول الرسول ص المسألة السادسة اللفظ الذي يتناول المذكر والمؤنث إما أن يكون مختصا بهما وهو كلفظ الرجال للذكور والنساء للإناث أو لا يكون وهو على قسمين أحدهما ما لا يتبين فيه تذكير ولا تأنيث كصيغة من وهذا يتناول الرجال والنساء ومنهم من أنكره لنا انعقاد الإجماع على إنه إذا قال من دخل الدار من أرقائي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 فهو حر فهذا لا يتخصص بالعبيد وكذا لو أوصى بهذه الصيغة أو ربط بها توكيلا أو إذنا في قضية من القضايا احتجوا بقول العرب من منان منون منة منتان منات والجواب أن ذلك وإن كان جائزا إلا أنهم اتفقوا على أن الأصح استعمال لفظ من في الذكور والإناث القسم الثاني ما تتبين فيه علامات التذكير والتأنيث كقولنا قام قاما قاموا قامت قامتا قمن واتفقوا على أن خطاب الإناث لا يتناول الذكور واختلفوا في أن خطاب الذكور هل يتناول الإناث والحق لا لنا أن الجمع تضعيف الواحد وقولنا قام لا يتناول المؤنث فقولنا قاموا الذي هو تضعيف قولنا قام وجب أن لا يتناول المؤنث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 احتجوا بأن أهل اللغة قالوا إذا اجتمع التذكير والتأنيث غلب التذكير والجواب ليس المراد ما ذكرتموه بل المراد أنه متى أراد مريد أن يعبر عن الفريقين بعبارة واحدة كان الواجب هو التذكير والله أعلم المسألة السابعة إذا لم يمكن إجراء الكلام على ظاهر إلا بإضمار شئ فيه ثم هناك أمور كثيرة يستقيم الكلام بإضمار أيها كان لم يجز إضمار جميعها وهذا هو المراد من قولنا المقتضي لا عموم له مثاله قوله عليه السلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان فهذا الكلام لا يمكن إجراؤه على ظاهره بل لابد وأن نقول المراد رفع عن أمتي حكم الخطأ ثم ذلك الحكم قد يكون في الدنيا كإيجاب الضمان وقد يكون في الآخرة كرفع التأثيم فنقول إنه لا يجوز إضمارهما لا معا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 لنا أن الدليل ينفي جواز الإضمار خالفناه في الحكم الواحد لأجل الضرورة ولا ضرورة في غيره فيقى على الأصل وللمخالف أن يقول ليس إضمار أحد الحكمين بأولى من الآخر فإما أن لا تضمر حكما أصلا وهو غير جائز أو تضمر الكل وهو المطلوب المسألة الثامنة المشهور من قول فقهائنا أنه لو قال والله لا آكل فإنه يعم جميع المأكولات والعام يقبل التخصيص فلو نوى مأكولا دون مأكول صحت نيته وهو قول أبي يوسف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يقبل التخصيص ونظر أبي حنيفة رحمه الله فيه دقيق وتقريره أن نية التخصيص لو صحت لصحت إما في الملفوظ أو في غيره والقسمان باطلان فبطلت تلك النية وإنما قلنا أنه لا يصح اعتبار نية التخصيص في الملفوظ لأن الملفوظ هو الأكل والأكل ماهية واحدة لأنها قدر مشترك بين أكل هذا الطعام وأكل ذلك الطعام وما به الاشتراك غير ما به الامتياز وغير مستلزم له فالأكل من حيث إنه أكل مغاير لقيد كونه هذا الأكل وذاك وغير مستلزم له والمذكور إنما هو الأكل من حيث هو أكل وهو بهذا الاعتبار ماهية واحدة والماهية من حيث إنها هي لا تقبل العدد فلا تقبل التخصيص بل الماهية إذا اقترنت بها العوارض الخارجية حتى صارت هذا أو ذاك تعددت فهناك صارت محتملة للتخصيص ولكنها قبل تلك العوارض لا تكون متعددة فلا تكون محتملة للتخصيص فالحاصل أن الملفوظ ليس إلا الماهية وهي غير قابلة للتخصيص فأما إذا أخذت الماهية مع قيود زائدة عليها تعددت وحينئذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 تصير محتملة للتخصيص لكن تلك الزوائد غير ملفوظة فالمجموع الحاصل منها ومن الماهية غير ملفوظ فيكون القابل لنية التخصيص شيئا غير ملفوظ وهذا هو القسم الثاني فنقول هذا القسم وأن كان جائزا عقلا إلا أنا نبطله بالدليل الشرعي فنقول إضافة ماهية الأكل إلى الخبز تارة وإلى اللحم أخرى إضافات تعرض لها بحسب اختلاف المفعول به وإضافتها إلى هذا اليوم وذلك وهذا الموضع وذاك إضافات عارضة لها بحسب اختلاف المفعول فيه ثم أجمعنا على أنه لو نوى التخصيص بالمكان والزمان لم يصح فكذا التخصيص بالمفعول به والجامع رعاية الاحتياط في تعظيم اليمين حجة أصحاب الشافعي رضي الله عنه أجمعنا على أنه لو قال إن أكلت أكلا أو غسلت غسلا صحت نية التخصيص فكذا إذا قال إن أكلت لأن الفعل مشتق من المصدر والمصدر موجود فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 والجواب أن المصدر هو الماهية وقد بينا أنها لا تحتمل التخصيص وأما قوله أكلت أكلا فهذا في الحقيقة ليس مصدرا لأنه يفيد أكلا واحدا منكرا والمصدر ماهية الأكل وقيد كونه واحدا منكرا ليس وصفا قائما به بل معناه أن القائل ما عينه والذي يكون متعينا في نفسه لكن القائل ما عينه فلا شك أنه قابل للتعيين فإذا نوى التعيين فقد نوى ما يحتمله اللفظ فهذا ما عندي في هذا الفصل المسألة التاسعة قال الشافعي رضي الله عنه ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 مثاله أن ابن غيلان أسلم على عشر نسوة فقال عليه الصلاة والسلام أمسك أربعا وفارق سائرهن ولم يسأله عن كيفية ورود عقده عليهن في الجمع أو الترتيب فكان إطلاقه القول دالا على أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معا أو على الترتيب وهذا فيه نظر لاحتمال أنه ص عرف خصوص الحال فأجاب بناء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 على معرفته ولم يستفصل والله أعلم المسألة العاشرة العطف على العام لا يقتضي العموم لأن مقتضى العطف مطلق الجمع وذلك جائز بين العام والخاص قال الله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وهذا عام وقوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن خاص المسألة الحادية عشرة كل حكم يدل عليه بصيغة المخاطبة كقوله تعالى يأيها الذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 آمنوا يأيها الناس فهو خطاب مع الموجودين في عصر الرسول ص وذلك لا يتناول من يحدث بعدهم إلا بدليل منفصل يدل على أن حكم من يأتي بعد ذلك كحكم الحاضرين لأن الذين سيوجدون بعد ذلك ما كانوا موجودين في ذلك الوقت ومن لم يكن موجودا في ذلك الوقت لا يكون إنسانا ولا مؤمنا في ذلك الوقت ومن لا يكون كذلك لا يتناوله الخطاب المتناول للإنسان والمؤمن فإن قيل وما الذي يدل على العموم قلنا الحق أنه معلوم بالضرورو أن في دين محمد ص وذكروا فيه طريقين آخرين الأول التمسك بقوله تعالى وما أرسلناك إلا كافة للناس وقوله عليه السلام بعثت إلى الناس كافة وقوله بعثت إلى الأسود والأحمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 وقوله ص حكمي على الواحد حكمي على الجماعة الثاني أنه ص متى أراد اتخصيص على بين كما قال لأبي بردة بن نيار يجزئ عنك ولا يجزئ أحدا بعدك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 وخص عبد الرحمن بن عوف بحل لبس الحرير فحيث لا يتبين التخصيص نعلم العموم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 ولقائل أن يعترض على الأول بأن لفظ الناس والجماعة والأسود والأحمر لا يتناول إلا الموجود ين فيختص بالحاضرين وعلى الثاني بأن ذكر التخصيص إنما يحتاج إليه لو جرى لفظ يوهم العموم لكنا قلنا إن الخطاب مشافهة لا يحتمل أن يدخل فيه الذين سيوجدون بعد ذلك فلا حاجة فيه إلى بيان التخصيص المسألة الثانية عشرة قول الصحابي نهى رسول الله ص عن بيع الغرر لا يفيد العموم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 لأن الحجة في المحكي لا في الحكاية والذي رآه الصحابي حتى روى النهي عنه يحتمل أن يكون خاصا بصورة واحدة وأن يكون عاما ومع الاحتمال لا يجوز القطع بالعموم وأيضا قول الصحاب قضى رسول الله ص بالشاهد واليمين لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 يفيد العموم وكذا القول فيما إذا قال الصحابي سمعت النبي ص يقول قضيت بالشفعة للجار لاحتمال كونه حكاية عن قضاء لجار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 معروف وتكون الألف واللام للتعريف وقوله قضيت حكاية عن فعل معين ماض فأما قوله ص قضيت بالشفعة للجار وقول الراوي أنه ص قضى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 بالشفعة للجار فالاحتمال فيهما قائم ولكن جانب العموم أرجح المسألة الثالثة عشرة قول الراوي كان رسول الله ص يجمع بين الصلاتين في السفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 لا يقتضي العموم لأن لفظ كان لا يفيد إلا تقدم الفعل فأما التكرار فلا ومنهم من قال إنه يفيد التكرار في العرف لأنه لا يقال كان فلان يتهجد بالليل إذا تهجد مرة واحدة في عمره المسألة الرابعة عشرة إذا قال الراوي صلى ص بعد الشفق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 فقال قائل الشفق شفقان الحمرة والبياض وأنا أحمله على وقوعه بعدهما جميعا فهذا خطأ لأن اللفظ المشترك لا يمكن حمله على مفهوميه معا كما تقدم أما المتواطئ فمثاله قول الراوي صلى رسول الله ص في الكعبة فلا يمكن أن يستدل به على جواز أداء الفرض في البيت لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 إنما يعم لفظ الصلاة لا فعلها فذاك الواقع إن كان فرضا لم يكن نفلا وبالعكس فلا يدل على العموم المسألة الخامسة عشرة قال الغزالي رحمه الله المفهوم لا عموم له لأن العموم لفظ تتشابه دلالته بالإضافة إلى مسمياته ودلالة المفهوم ليست لفظية فلا يكون لها عموم والجواب إن كنت لا تسميه عموما لأنك لا تطلق لفظ العام إلا على الألفاظ فالنزاع لفظي وإن كنت تعني أنه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع ما عداه فباطل لأن البحث عن أن المفهوم هل له عموم أم لا فرع على أن المفهوم حجة ومتى ثبت كونه حجة لزم القطع بانتفاء الحكم عما عداه لأنه لو ثبت الحكم في غير المذكور لم يكن لتخصيصه بالذكر فائدة والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 بسم الله الرحمن الرحيم جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الثالثة 1418 هـ / 1997 م حقوق الطبع محفوظة 1992 م. لا يسمع باعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الاشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو الكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه. ولا يسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 المحصول في علم أصول الفقه للامام الأصولي النظار المسفر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 - 606 هـ / 1149 هـ - 1209 م دراسة وتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني الجزء الثالث مؤسسة الرسالة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 القسم الثاني في الخصوص وفيه مسائل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 المسألة الأولى حد التخصيص على مذهبنا إخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه وعند الواقفية إخراج بعض ما صح أن يتناوله الخطاب سواء كان الذي صح واقعا أم لم يكن واقعا وأما قولنا العام المخصوص فمعناه أنه استعمل في بعض ما وضع له وعند الواقفية أن المتكلم أراد به بعض ما يصلح له ذلك اللفظ دون البعض وأما الذي به يصير العام خاصا فهو قصد المتكلم لأنه إذا قصد بإطلاقه تعريف بعضما تناوله اللفظ أو بعض ما يصلح أن يتناوله على اختلاف المذهبين فقد خصه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 وأما المخصص للعموم فيقال على سبيل الحقيقة على شئ واحد وهو إرادة صاحب الكلام لأنها هي المؤثرة في إيقاع ذلك الكلام لإفادة البعض فإنه إذا جاز أن يرد الخطاب خاصا وجاز أن يرد عاما لم يترجح أحدهما على الآخر إلا بالإرادة ويقال بالمجاز على شيئين أحدهما من أقام الدلالة على كون العام مخصوصا في ذاته وثانيهما من اعتقد ذلك أو وصفه به كان ذلك الاعتقاد حقا أو باطلا المسألة الثانية في الفرق بين التخصيص والنسخ النسخ لا معنى له إلا تخصيص الحكم بزمان معين بطريق خاص فيكون الفرق بين التخصيص والنسخ فرق ما بين العام والخاص لكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 الناس اعتبروا في التخصيص أمورا لفظية أخرجوه لأجلها عن جنس النسخ وتلك الأمور خمس أحدها أن التخصيص لا يصح إلا فيما يتناوله اللفظ والنسخ قد يصح فيما علم بالدليل انه مراد وإن لم يتناوله اللفظ وثانيهما أن نسخ شريعة بشريعة أخرى يصح وتخصيص شريعة بشريعة أخرى لا يصح وثالثها أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته والتخصيص ليس كذلك ورابعها أن الناسخ أن يكون متراخيا والمخصص لا يجب أن يكون متراخيا سواء وجبت المقارنة أو لم تجب على اختلاف القولين وخامسها أن التخصيص قد يقع بخبر الواحد والقياس والنسخ لا يقع بهما وأما الفرق بين التخصيص والاستثناء فهو فرق ما بين العام والخاص عندي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 ومنهم من تكلف بينهما فروقا أحدها أن الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظة الواحدة الدالة على شئ واحد فالسبعة مثلا لها اسمان سبعة وعشرة إلا ثلاثة والتخصيص ليس كذلك وثانيها أن التخصيص يثبت بقرائن الأحوال فإنه إذا قال رأيت الناس دلت القرينة على أنه ما رأى كلهم والاستثناء لا يحصل بالقرينة وثالثها أن التخصيص يجوز تأخيره لفظا والاستثناء لا يجوز فيه ذلك وهذه الوجوه متكلفة والحق أن التخصيص جنس تحته أنواع كالنسخ والاستثناء وغيرهما المسألة الثالثة فيما يجوز تخصيصه وما لا يجوز الذي يتناول الواحد لا يجوز تخصيصه لأن التخصيص عبارة عن أخراج البعض عن الكل والواحد لا يعقل ذلك فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 وأما الذي يتناول أكثر من وا حد فعمومه إما من جهة اللفظ ويصح تطرق التخصيص إليه وإما من جهة المعنى وهو أمور ثلاثة أحدمها أن العلة الشرعية هل يجوز تخصيصها وسيأتي الكلام فيه في باب القياس إن شاء الله تعالى وثانيها مفهوم الموافقة كدلالة حرمة التأفيف على حرمة الضرب والتخصيص فيه جائز إذا لم يعد بالنقض على الملفوظ مثل تقييد الأم إذا فجرت وضرب الوالد إذا ارتد ولا يجوز إذا عاد بالنقض عليه وثالثها مفهوم المخالفة فإنه يفيد في المسكوت عنه انتفاء مثل حكم المذكور ويجوز أن تقوم الدلالة على ثبوت مثل حكم المذكور لبعض المسكوت عنه المسألة الرابعة يجوز إطلاق اللفظ العام لإرادة الخاص أمرا كان أو خبرا خلافا لقوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 لنا الدليل على جوازه وقوعه في القرآن كقوله تعالى اقتلوا المشركين الله خالق كل شئ ويقال في العرف جاءني كل الناس والمراد أكثرهم احتجوا بأنه إذا أريد بالخبر العام بعضه أو هم الكذب ولو كان جواز حمله على التخصيص مانعا من كونه كذبا لما وجد في الدنيا كذب وجواز التخصيص في الأمر يوهم البداء والجواب إذا علمنا أن اللفظ في الأصل محتمل للتخصيص فقيام الدلالة على وقوعه لا يوجب الكذب ولا البداء والله أعلم المسألة الخامسة في الغاية التي لا يمكن أن ينتهي تخصيص العموم إلى أقل منها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 اتفقوا في ألفاظ الاستفهام والمجازاة على جواز انتهائها في التخصيص إلى الواحد واختلفوا في الجمع المعرف بالألف واللام فزعم القفال أنه لا يجوز تخصيصه بما هو أقل من الثلاثة ومنهم من جوز انتهائه إلى الواحد ومنع أبو الحسين من ذلك في جميع ألفاظ العموم وأوجب أن يراد بها كثرة وإن لم يعلم قدرها إلا الله أن يستعمل في حق الواحد على سبيل التعظيم والإبانة فإن ذلك الواحد يجري مجرى الكثير وهو الأصح أما أنه لا بد من بقاء الكثرة فلأن الرجل لو قال أكلت كل ما في الدار من الرمان وكان فيها ألف وكان قد أكل رمانة واحدة أو ثلاثة عابه أهل اللغة ولو قال كل من دخل داري أكرمته ثم قال أردت به زيدا وحده عابه أهل اللغة احتج من جوز ذلك بأن استعمال العام في غير الاستغراق استعمال له في غير ما وضع له فليس جواز استعماله في البعض أولى منه في البعض الآخر فوجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 جواز استعماله في جميع الأقسام إلى أن ينتهي إلى الواحد والجواب لا نسلم أنه ليس بعض المراتب أولى من بعض وتقريره ما ذكرناه وأما أنه يجوز استعماله في حق الواحد على سبيل التعظيم فلقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وقوله فقدرنا فنعم القادرون المسألة السادسة اختلفوا في أن العام الذي دخله التخصيص هل هو مجاز أم لا فقال قوم من الفقهاء إنه لا يصير مجازا كيف كان التخصيص وقال أبو علي وأبو هاشم يصير مجازا كيف كان التخصيص ومنهم من فصل وذكر فيه وجوها والمختار قول أبي الحسين رحمه الله وهو أن القرينة المخصصة إن استقلت بنفسها صارت مجازا وإلا فلا تقريره أن القرينة المخصصة المستقلة ضربان عقلية ولفظية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 أما العقلية فكالدلالة قال الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب بالعبادات وأما اللفظية فيجو أن يقول المتكلم بالعام أردت به البعض الفلاني وفي هذين القسمين يكون العموم مجازا والدليل عليه أن اللفظ موضوع في اللغة للاستغراق فإذا استعمل هو بعينه في البعض فقد صار اللفظ مستعملا في جزء مسماه لقرينة مخصصة وذلك هو المجاز فان قلت لم لا يجوز أن يقال لفظ العموم وحده حقيقة في الاستغراق ومع القرينة المخصصة حقيقة في الخصوص قلت فتح هذا الباب يفضي إلى أن لا يوجد في الدنيا مجاز أصلا لأنه لا لفظ إلا ويمكن أن يقال إنه وحده حقيقة في كذا ومع القرينة حقيقة في المعنى الذي جعل مجازا عنه والكلام في ان العام المخصوص بقرينة مستقلة بنفسها هل هو مجاز أم لا فرع على ثبوت أصل المجاز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 وأما إن كانت القرينة لا تستقل بنفسها نحو الاستثناء والشرط والتقييد بالصفة كقول القائل جاءني بنو أسد الطوال فها هنا لا يصير مجازا والدليل عليه أن لفظ العموم حال انضمام الشرط أو الصفة أو الاستثناء إليه لا يفيد البعض لأنه لو أفاده لما بقي شئ يفيده الشرط أو الصفة أو الاستثناء وإذا لم يغد البعض استحال أن يقال إنه مجاز في إفادة البعض بل المجموع الحاصل من لفظ العموم ولفظ الشرط أو الصفة أو الاستثناء دليل على ذلك البعض وإفادة ذلك المجموع لذلك البعض حقيقة تنبيه إذا قال الله تعالى أقتلوا المشركين فقال النبي ص في الحال إلا زيدا فهذا تخصيص بدليل متصل أو منفصل فيه احتمال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 المسألة السابعة يجوز التمسك بالعام المخصوص وهو قول الفقهاء وقال عيسى بن أبان وأبو ثور لا يجوز مطلقا ومنهم من فصل فذكر الكرخي أن المخصوص بدليل متصل يجوز التمسك به والمخصوص بدليل منفصل لا يجوز التمسك به والمختار أنه لو خص تخصيصا مجملا لا يجوز التمسك به وإلا جاز مثال التخصص المجمل كما إذا قال الله تعالى أقتلوا المشركين ثم قال لم أرد بعضهم لنا وجوه الأول أن اللفظ العام كان متناولا للكل فكونه حجة في كل واحد من أقسام ذلك الكل إما أن يكون موقوفا على كونه حجة في القسم الآخر أو على كونه حجة في الكل أو لا يتوقف على واحد من هذين القسمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 والأول باطل لأنه إن كان كونه حجة في كل واحد من تلك الأقسام مشروطا بكونه حجة في القسم الآخر لزم الدور وإن افتقر كونه حجة في هذا القسم إلى كونه حجة في ذلك القسم ولا ينعكس فحينئذ يكون كونه حجة في ذلك القسم يصح أن يبقى بدون كونه حجة في هذا القسم فيكون العام المخصوص حجة في ذلك القسم هذا مع أنا نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على السوية فلم يكن جعل البعض مشروطا بالآخر أولى من العكس والقسم الثاني أيضا باطل لأن كونه حجة في الكل يتوقف على كونه حجة في كل واحد من تلك الأقسام لأن الكل لا يتحقق إلا عند تحقق جميع الأفراد فلو توقف كونه حجة في البعض على كونه حجة في الكل لزم الدور وهو محال ولما بطل القسمان ثبت أن كونه حجة في ذلك البعض لا يتوقف على كونه حجة في البعض الآخر ولا على كونه حجة في الكل فإذن هو حجة في ذلك البعض سواء ثبت كونه في البعض الآخر أو في الكل أو لم يثبت ذلك فثبت ان العام المخصوص حجة الثاني هو أن المقتضى لثبوت الحكم في غير محل التخصيص قائم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 والمعارض الموجود لا يصلح معارضا فوجب ثبوت الحكم في غير محل التخصيص إنما قلنا إن المقتضي قائم وذلك لأن المقتضى هو اللفظ الدال على ثبوت الحكم وصيغة العموم دالة على ثبوت الحكم في كل الصور والدال على ثبوت الحكم فكل الصور دال على ثبوته في محل التخصيص وفي غير محل التخصيص فثبت أن المقتضى لثبوت الحكم في غير صورة التخصيص قائم وأما أن المعارض الموجود لا يصلح أن يكون معارضا فلأن المعارض إنما هو بيان أن الحكم غير ثابت في هذه الصورة المعينة ولا يلزم من عدم الحكم في هذه الصورة المعينة عدمه في الصورة الآخرى فبيان عدم الحكم في هذه الصورة لا يكون منافيا لثبوت الحكم في الصورة الأخرى ثبت أن المقتضي قائم والمانع مفقود فوجب ثبوت الحكم الثالث أن عليا كر الله وجهه تعلق في الجمع بين الأختين في الملك بقوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم مع أنه مخصوص بالبنت والأخت ولم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 ينكر عليه أحد من الصحابة فكان إجماعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 احتجوا بأن العام المخصوص لا يمكن إجراؤه على ظاهره فيجب صرفه عن الظاهر وحينئذ لا يكون حمله على بعض المحامل اولى من بعض فيصير مجملا قلنا لا نسلم أنه ليس البعض بأولى من البعض بل عندنا يجب حمله على الباقي والله أعلم المسألة الثامنة قال ابن سريج لا يجوز التمسك بالعام ما لم يستقص في طلب المخصص فإذا لم يوجد ذلك المخصص فحينئذ يجوز التمسك به في إثبات الحكم وقال الصيرفي يجوز التمسك به ابتداء ما لم تظهر دلالة مخصصة واحتج الصيرفي بأمرين أحدهما لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب أنه هل وجد مخصص أم لا لما جاز التمسك بالحقيقة إلا بعد طلب أنه هل وجد ما يقتضي صرف اللفظ عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 الحقيقة إلى المجاز وهذا باطل فذاك مثله بيان الملازمة أنه لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص لكان ذلك لأجل الاحتراز عن الخطأ المحتمل وهذا المعنى قائم في التمسك بحقيقة اللفظ فيجب اشتراكهما في الحكم بيان أن التمسك بالحقيقة لا يتوقف على طلب ما يوجب العدول إلى المجاز هو أن ذلك غير واجب في العرف بدليل أنهم يحملون الألفاظ على ظواهرها من غير بحث عن أنه هل وجد ما يوجب العدول أم لا وإذا وجب ذلك في العرف وجب أيضا في الشرع لقوله ص ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وثانيهما أن الأصل عدم التخصيص وهذا يوجب ظن عدم المخصص فيكفي في إثبات ظن الحكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 واحتج ابن سريج أن بتقدير قيام المخصص لا يكون العموم حجة في صورة التخصيص فقبل البحث عن وجود المخصص يجوز أن يكون العموم حجة وأن لا يكون والأصل أن لا يكون حجة إبقاء للشئ على حكم الأصل والجواب أن ظن كونه حجة أقوى من ظن كونه غير حجة لأن إجراءه على العموم أولى من حمله على التخصيص ولما ظهر هذا القدر من التفاوت كفى ذلك في ثبوت الظن فرع إذا قلنا يجب نفي المخصص فذاك مما لا سبيل إليه إلا بأن يجتهد في الطلب ثم لا يجد لكن الاستدلال بعدم الوجد ان على عدم الوجود لا يورث إلا الظن الضعيف والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 القسم الثالث فيما يقتضي تخصيص العموم والكلام في هذا القسم يقع في أطراف أربعة أحدها الأدلة المتصلة المخصصة وثانيها الأدلة المنفصلة المخصصة وثالثها بناء العام على الخاص ورابعها ما يظن أنه من مخصصات العموم وليس كذلك القول في الأدلة المتصلة وفيه أربعة أبواب الباب الأول في الاستثناء وفيه مسائل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 المسألة الأولى الاستثناء إخراج بعض الجملة من الجملة بلفظ إلا أو ما أقيم مقامه أو يقال ما لا يدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه بلفظه ولا يستقل بنفسه والدليل على صحة هذا التعريف أن الذي يخرج بعض الجملة عنها إما أن يكون معنويا كدلالة العقل والقياس وهذا خارج عن هذا التعريف وإما أن يكون لفظيا وهو إما أن يكون منفصلا فيكون مستقلا بالدلالة وإلا كان لغوا وهذا أيضا خارج عن هذا الحد أو متصلا وهو إما التقييد بالصفة أو الشرط أو الاستثناء أو الغاية إما التقييد بالصفة فالذي خرج لم يتناوله لفظ التقييد بالصفة لأنك إذا قلت أكرمني بنو تميم الطوال خرج منهم القصار ولفظ الطوال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 لم يتناول القصار بخلاف قلولنا عن أكرمني بنو تميم إلا زيدا من فإن الخارج وهو زيد تناولته صيغة الاستثناء وهذا هو الاحتراز عن التقييد بالشرط وأما التقييد بالغاية فالغاية قد تكون داخلة كما في قوله تعالى إلى المرافق بخلاف الاستثناء فثبت أن التعريف المذكور للاستثناء منطبق عليه المسألة الثانية يجب أن يكون الاستثناء متصلا بالمستثنى منه عادة واحترزنا بقولنا عادة عما إذا طال الكلام فإن ذلك لا يمنع من اتصال الاستثناء وكذلك قطع الكلام بالنفس والسعال لا يمنع من اتصاله به وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جوز الاستثناء المنفصل وهذه الرواية إن صحت فلعل المراد منها ما إذا نوى الاستثناء متصلا بالكلام ثم أظهر نيته بعده فإنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى فيما نواه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 لنا وجهان الأول لو جاز تأخير الاستثناء لما استقر شئ من العقود من الطلاق والعتاق ولم يتحقق الحنث أصلا لجواز أن يرد عليه الاستثناء فيغير حكمه الثاني نعلم بالضرورة أن من قال لوكيله اليوم بع داري من أي شخص كان ثم قال بعد غد إلا من زيد فإن أهل العرف لا يجعلون الاستثناء عائدا إلى ما تقدم احتجوا بأنه يجوز تأخير النسخ والتخصيص فكذا الاستثناء والجواب أنه يبطل بالشرط وخبر المبتدأ ثم نطالبهم بالجامع والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 المسألة الثالثة استثناء الشئ من غير جنسه باطل على سبيل الحقيقة وجائز على سبيل المجاز والدليل الأول أن الاستثناء من غير الجنس الأول لو صح لصم إما من اللفظ أو من المعنى والأول باطل لأن اللفظ الدال على الشئ فقط غير داعلى ما يخالف جنس مسماه واللفظ إذا لم يدل على شئ لا يحتاج إلى صارف يصرفه عنه والثاني أيضا باطل لأنه لو جاز حمل اللفظ على المعنى المشترك بين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 مسما وبين المستثنى ليصح الاستثناء لجاز استثناء كل شئ من كل شئ لأن كل شيئين لا بد وأن يشتركا في بعض الوجوه فإذا حمل المستثنى على ذلك المشترك صح الاستثناء ولما علمنا أن العرب لم يصححوا استثناء كل شئ من كل شئ علمنا بطلان هذا القسم احتجوا بالقرآن والشعر والمعقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 أما القرآن فخمس آيات إحداها قوله عز وجل وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ وثانيها قوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس وهو ما كان منهم بل كان من الجن وثالثها قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ورابعها قوله تعالى مالهم به من علم إلا اتباع الظن والظن ليس من جنس العلم وخامسها قوله تعالى لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما والسلام ليس من جنس اللغو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 وأما الشعر فقوله وبلدة ليس بها أنيس * إلا اليعافير والا العيس في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 وقول النابغة وما بالدار من أحد إلا أواري * والأواري ليس من جنس الأحد وقفت فيها أصيلانا أسائلها * عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا أوارى لأيا من أبينها * والنؤى كالحوض بالمطلومة بن الجلد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 وأما المعقول فهو أن الاستثناء تارة يقع عما يدل اللفظ عليه دلالة المطابقة أو التضمن وتارة عما يدل عليه دلالة الالتزام فإذا قال لفلان علي الف دينار إلا ثوبا فمعناه إلا قيمة ثوب والجواب أما قوله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ فجوابه أن إلا ها هنا بمعنى لكن أو يقال وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا إذا أخطأ فغلب على ظنه أنه ليس من المؤمنين إما بأن يختلط بالكفار فيطن الرجل أنه منهم أو بأن يراه من بعيد فيظنه صيدا أو حجرا وأما قوله تعالى إلا إبليس فقيل إنه كان من الملائكة ولابد من الدلالة على أن كونه من الجن ينفي كونه من الملائكة سلمنا أنه ليس من الملائكة لكن إنما حسن الاستثناء لأنه كان مأمورا بالسجود كما أن الملائكة كانوا مأمورين بذلك فكأنه قال فسجد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 المأمورون بالسجود إلا إبليس وأما قوله تعالى إلا أن تكون تجارة إلا اتباع الظن فقد اتفقت النحاة على أنه ليس باستثناء ثفسره البصريون بقولهم ولكن اتباع الظن والكوفيون بقولهم سوى اتباع الظن والجواب عن الشعر أن الأنيس سواء فسرناه بالمؤنس هذه أو بالمبصر أمكن إدخال اليعافير والعيس فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 وعن الثالث أنه لو صح الاستثناء من المعنى لزم صحة استثناء كل شئ من كل شئ على ما بيناه والله أعلم المسألة الرابعة أجمعوا على فساد الاستثناء المستغرق ثم من الناس من قال شرط المستثنى أن لا يكون أكثر أكثر مما بقي بل يجب أن يكون مساويا أو أقل وقال القاضي بل شرطه أن لا يكون أكثر ولا مساويا سنة بل أقل ويدل على فساد القولين أن الفقهاء أجمعوا على أن من قال لفلان علي عشرة إلا تسعة يلزمه واحد ولولا أن هذا الاستثناء صحيح لغة وشرعا وإلا لمكن كذلك ويدل على فساد اقول الثاني خاصة قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وقال حكاية عن إبليس لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فلو كان المستثنى أقل من المستثنى منه لزم في أتباع إبليس وفي المخلصين أن يكون كل واحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 منهما أقل من الآخر وذلك محال حجة القاضي رحمه الله أن المقتضى لفساد الاستثناء قائم وما لأجله ترك العمل به في الأقل غير موجود في المساوي والأكثر فوجب أن يفسد الاستثناء في المساوي والأكثر بيان مقتضى الفساد أن الاستثناء بعد المستثنى منه إنكار بعد الإقرار وإنه غير مقبول بيان الفارق أن الشئ القليل يكون في معرض النسيان لقلة التفات النفس إليه والكثير يكون متذكرا محفوظا لكثرة التفات القلب إليه فإذا أقر بالعشرة فربما كانت تلك العشرة بنقصان شئ قليل وإن كانت تامة لكنه أدى منها شيئا قليلا ثم إنه نسي ذلك القدر لقلته فلا جرم أقر بالعشرة الكاملة ثم إنه بعد الإقرار تذكر ذلك القدر فوجب أن يكون متمكنا من استدراكه فلأجل هذا شرعنا استثناء الأقل من الأكثر ولم يوجد هذا المعنى في استثناء المثل أو الأكثر لما ذكرنا أن الكثرة مظنة الذكر وإذا ظهر الفارق بقي المقتضي سليما عن المعارض والجواب عندنا أن الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظ الواحد الدال على ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 القدر وعلى هذا الفرض يسقط ما ذكرتم والله أعلم المسألة الخامسة الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات مثال الأول قوله تعالى فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ومثال الثاني قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك وزعم أبو حنيفة رحمه الله إن الاستثناء من النفي لا يكون إثباتا قال لأن بين الحكم بالنفي وبين الحكم بالإثبات واسطة وهي عدم الحكم فمقتضى الاستثناء بقاء المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي ولا بالإثبات لنا لو لم يكن الاستثناء في النفي إثباتا لما كان قولنا لا إله إلا الله موجبا ثبوت الإلهية لله جل جلاله بل كان معناه نفي الإلهية عمرو عن غيره وأما ثبوت الإلهية له فلا ولو كان كذلك لما تم الإسلام ولما كان ذلك باطلا علمنا أنه يفيد الإثبات احتج أبو حنيفة رحمه الله بقوله ص لا نكاح إلا بولي ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 صلاة إلا بطهور ولم يلزم منه تحقق النكاح عند حضور الولي ولا تحقق الصلاة عند حضور الوضوء بل يدل على عدم صحتهما عند عدم هذين الشرطين والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 المسألة السادسة الاستثناآت إذا تعددت فإن كان البعض معطوفا على البعض بحرف العطف كان الكل عائدا إلى المستثنى منه كقولك لفلان عندي عشرة إلا أربعة وإلا خمسة وإن لم يكن كذلك فالاستثناء الثاني إن كان أكثر من الأول أمساويا له عاد إلى الأول كقوله لفلان علي عشرة إلا أربعة إلا خمسة وإن كان أقل من الأول كقولك لفلان علي عشرة إلا خمسة إلا أربعة فالاستثناء الثاني إما أن يكون عائدا إلى الاستثناء الأول فقط أو إلى المستثنى منه فقط أو إليهما معا أولاإلى أحد منهما والأول هو الحق والثاني باطل لأن القريب إن لم يكن أولى من البعيد فلا أقل من المساواة والثالث أيضا باطل لوجهين أحدهما أن المستثنى منه مع الاستثناء ألأول لا بد وأن يكون أحدهما نفيا والآخر إثباتا فالاستثناء الثاني لو عاد إليهما معا والاستثناء من النفي إثبات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 ومن الإثبات نفي فيكون الاستثناء الثاني قد نفى عن أحد الأمرين السابقين عليه ما أثبته للآخر فينجبر النقصان بالزيادة ويبقى ما كان حاصلا قبل الاستثناء الثاني فيصير الاستثناء الثاني لغوا وثانيهما أن الاستثناء الثاني لو رجع إلى الاستثناء الأول والمستثنى منه معا لزم أن يكون نفيا وإثباتا معا وهو محال فإن قلت النفي والإثبات إنما يتنافيان لو رجعا إلى شئ واحد من وجه واحد فأما عند رجوعهما إلى شيئين فلا يتنافيان قلت لنفرض قبل أنه قال علي عشرة إلا اثنين إلا واحدا فالاستثناء الثاني لما رجع إلى المستثنى منه أخرج منه درهما آخر ولما رجع إلى الاستثناء الأول اقتضى ذلك إثبات ذلك الدرهم المستثنى منه فيكون ذلك الاستثناء نفيا وإثباتا من المستثنى منه وهو محال أما الرابع وهو أن لا يرجع الاستثناء الثاني إلى الاستثناء الأول ولا إلى المستثنى منه فهو باطل بالاتفاق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 المسألة السابعة الاستثناء المذكور عقيب جمل كثيرة هل يعود إليها باسرها أم لا مذهب الشافعي رضي الله عنه وأصحابه عوده إلى الكل ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله عليه وأصحابه اختصاصه بالجملة الأخيرة وذهب القاضي منا والمرتضى من الشيعة إلى التوقف إلا أن المرتضى توقف للاشتراك والقاضي لم يقطع بذلك أيضا ومنهم من فصل القول فيه وذكروا وجوها وأدخلها في التحقيق ما قيل إن الجملتين من الكلام إما أن يكونا من نوع واحد أو يكونا من نوعين فإن كان الأول فإما أن تكون إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى أو لا تكون كذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 فإن كان الثاني فإما أن يكونا مختلفي الاسم والحكم أو متفقي الاسم مختلفي الحكم أو مختلفي الاسم متفقي الحكم فالأول كقولك أطعم ربيعة واخلع على مضر إلا الطوال والأظهر ها هنا اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة لأن الظاهر أنه لم ينتقل من الجملة المستقلة بنفسها إلى جملة أخرى مستقلة بنفسها إلا وقد تم غرضه من الجملة الأولى ولو كان الاستثناء راجعا إلى جميع الجمل لم يكن قد تم مقصوده من الجملة الأولى وأما الثاني فكقولنا أطعم ربيعة واخلع على ربيعة إلا الطوال وأما الثالث فكقولنا أطعم ربيعة وأطعم مضر إلا الطوال والحكم هاهنا أيضا كما ذكرنا لأن كل واحدة من الجملتين مستقلة فالظاهر أنه لم ينتقل من إحداهما إلا وقد تم غرضه بالكلية منها وأما إن كانت إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى فإما أن يكون حكم الأولى مضمرا في الثانية كقوله أكرم ربيعة ومضر الطوال أو اسم الأولى مضمرا يحيى في الثانية كقوله أكرم ربيعة واخلع عليهم إلا الطوال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 فالاستثناء في هذين القسمين راجع إلى الجملتين لأن الثانية لا تستقل إلا مع الأولى فوجب رجوع حكم الاستثناء إليهما وأما إن كانت الجملتان نوعين من الكلام فإما أن تكون القضية واحدة أو مختلفة فإن كانت مختلفه فهو كقولنا أكرم ربعة والعلماء هم المتكلمون إلا أهل البلدة الفلانية فالاستثناء فيه يرجع إلى ما يليه لاستقلال كل واحدة من تلك الجملتين بنفسها وأما إن كانت القضية واحدة فهو كقوله تعالى والذين يرمون المحصنات فالقضية واحدة وأنواع الكلام مختلفة فالجملة الأولى أمر والثانية نهي والثالثة خبر فالاستثناء فيها يرجع إلى الجملة الأخيرة لاستقلال كل واحدة في تلك الجمل بنفسها والإنصاف أن هذا التقسيم حق لكنا إذا أردنا المناظرة اخترنا التوقف لا بمعنى دعوى الاشتراك بل بمعنى أنا لا نعلم حكمه في اللغة ماذا وهذا هو اختيار القاضي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 واحتج الشافعي رضي الله عنه بوجوه أولها أن الشرط متى تعقب جملا عاد إلى الكل فكذا الاستثناء والجامع أن كل واحد منهمم لا يستقل بنفسه وأيضا فمعناهما واحد لأن قوله تعالى في آية القذف إلا الذين تابوا جار مجرى قوله وأولئك هم الفاسقون إن لم يتوبوا ويقرب من هذا الدليل قولهم أجمعنا على أن الاستثناء بمشيئة الله تعالى عائد إلى كل الجمل فالاستثناء بغير المشيئة يجب ان يكون كذلك وثانيها أن حرف العطف يصير الجمل المعطوف بعضها على بعض في حكم الجملة الواحدة لأنه لا فرق بين أن تقول رأيت بكر بن خالد وبكر بن عمرو وبين أن تقول رأيت البكرين وإذا كان الاستثناء الواقع عقيب الجملة الواحدة راجعا إليها فكذا ما صار بحكم العطف كالجملة الواحدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وثالثها أنه تعالى لو قال فاجلدوهم ثمانين جلدة إلا الذين تابوا ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا وأولئك هم الفاسقون (إلا الذين تابوا) لكان ركيكا جدا فبتقدير أن يريد الاستثناء عن كل الجمل لا طريق له إلى ذلك إلا بذكر الاستثناء عقيب الجملة الأخيرة ففي هذه الصورة يكون الاستثناء راجعا إلى كل الجمل والأصل في الكلام الحقيقة وإذا ثبت كونه حقيقة في هذه الصورة كان كذلك في سائر الصور دفعا للاشتراك ورابعها لو قال لفلان علي خمسة وخمسة إلا سبعة كان الاستثناء ها هنا عائدا إلى الجملتين والأصل في الكلام الحقيقة وإذا ثبت ذلك في هذه الصورة فكذا في غيرها دفعا للاشتراك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 واحتج أبو حنيفة رحمة الله عليه بوجوه أحدها أن الدليل ينفي اعتبار الاستثناء تركنا العمل به في الجملة الواحدة فيبقى العمل بالباقي في سائر الجمل بيان النافي أن الاستثناء يقتضي إزالة العموم عن ظاهره وهو خلاف الأصل بيان الفارق أن الاستثناء لا استقلال له بالدلالة على الحكم فلا بد من تعليقه بشئ لئلا يصير لغوا وتعليقه بالجملة الواحدة يكفي في خروجه عن اللغوية فحاجة إلى تعليقه بسائر الجمل وإذا ثبت النافي والفارق ثبت إنه لا يجوز عوده إلى الجمل الكثيرة والخصم قال به فصار محجوجا يبقى أن يقال لم خصصتموه بالجملة الأخيرة فتقول هذا تفريع قولنا ولنا فيه وجهان الوجه الأول اتفاق أهل اللغة على أن للقرب تأثيرا في هذا المعنى ثم يدل عليه أمور أربعة الأول اتفاق أهل اللغة البصريين على أنه إذا اجتمع على المعمول الواحد عاملان فإعمال الأقرب أولى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 الثاني أنهم قالوا في ضرب زيد عمروا وضربته إن هذه الهاء بأن ترجع إلى عمرو المضروب أولى من أن ترجع إلى زيد الضارب للقرب الثالث أنهم قالو في قولنا ضربت سلمى سعدى إنه ليس في إعراب اللفظ ولا في معناه ما يجعل أحدهما بالفاعلية اولى من الآخر فاعتبروا المجاورة فقالوا الذي يلي الفعل أولى بالفاعلية الرابع أنهم قالوا في قولهم أعطى زيد عمروا بكرا أنه لما احتمل أن يكون وكل واحد من عمر وبكر مفعولا أول وليس في اللفظ ما يقتضي الترجيح وجب اعتبار القرب الوجه الثاني أن كل من صرف الاستثناء إلى جملة واحدة خصصه بالجملة الأخيرة فصرفه إلى غيرها خرق للإجماع فهذا تمام هذه الحجة وثانيهما أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل لو رجع إلى جميعها لم يخل إما أن يضمر مع كل جملة استثناء يعقبها أولا يضمر ذلك بل الاستثناء المصرح به في آخر الجمل هو الراجع إلى جميعها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 والأول باطل لأن الإضمار على خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لضرورة ولا ضرورة ها هنا والثاني أيضا باطل لأن العامل في نصب ما بعد حرف الاستثناء هو ما قبله من فعل أو تقدير فعل فإذا فرضنا رجوع ذلك الاستثناء إلى كل الجمل كان العامل في نصب المستثنى أكثر من واحد لكن لا يجوز أن يعمل عاملان في إعراب واحد دأما أولا فلأن سيبويه نص عليه وقوله حجة وأما ثانيا فلأنه يجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وهو محال وثالثها أن الاستثناء من الاستثناء مختص بما يليه فكذا في سائر الصور دفعا للاشتراك عن الوضع ورابعها أن الجمل إذا كان كل واحد منها مستقلا بنفسه فالظاهر أنه لم ينتقل عن واحد منها إلى غيره إلا إذا تم غرضه منه لأنه كما أن السكوت يدل على استكمال الغرض المطلوب من الكلام فكذا الشروع في كلام آخر لا تعلق له بالأول يدل على استكمال الغرض من ذلك الأول إذا ثبت هذا فلو حكمنا برجوع الاستثناء ألى كل الجمل المتقدمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 نقض ذلك قولنا إنه لما انتقل عن الكلام الأول تم غرضه واحتج الشريف المرتضى على الاشتراك بوجوه أحدها أن القائل اذا قال اضرب غلماني وأكرم جيراني إلا واحدا جاز أن يستفهم المخاطب هل أراد استثناء الواحد من الجملتين أو من الجملة الواحدة والاستفهام دليل الاشتراك وثانيها أنا وجدنا الاستثناء في القرآن والعربية تارة عائدا إلى كل الجمل وأخرى مختصا بالأخيرة وظاهر الاستعمال دليل الحقيقة فوجب الاشتراك وثالثها أن القائل إذا قال ضربت غلماني وأكرمت جيراني قائما أو في الدار أو يوم الجمعة احتمل فيما ذكره من الحال والظرفين أن يكون المتعلق به جميع الآفعال وأن يكون ما هو أقرب والعلم باحتمال الأمرين من مذهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 أهل اللغة ضروري فإذا صح ذلك في الحال والظرفين صح أيضا في الاستثناء والجامع أن كواحد منهما فضلة تأتي بعد تمام الكلام فهذا مجموع أدلة القاطعين أما أدلة الشافعية فالجواب عن الأول أن نمنع الحكم في الأصل وبتقدير تسليمه فنطالب الرحمن بالجامع قوله إنهما يشتركان في عدم الاستقلال واقتضاء التخصيص قلنا لا يلزم من اشتراك شيئين في بعض الوجوه اشتراكهما في كل الاحكام قوله ثانيا معنى الشرط والاستثناء واحد قلنا إن ادعيتم أنه لا فرق بينهما أصلا كان قياس أحدهما على الآخر قياسا للشئ على نفسه وإن سلمتم الفرق طالبناكم بالجامع وبهذين الجوابين نجيب عن الاستدلال بمشيئة الله تعالى والجواب عن الثاني أنكم إن ادعيتم أنه لا فرق بين الجملة الواحدة وبين الجمل المعطوف بعضها على بعض كان قياس أحدهما على الآخر قياسا للشئ على نفسه وإن سلمتم الفرق طالبناكم بالجامع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 انه الثالث أنه يمكن رعاية الاختصار بذكر الاستثناء الواحد عقيب الجمل مع التنبيه على ما يقتضي عوده إلى الكل وذلك لا يقدح في الفصاحة وعن الرابع أن هناك إنما رجع إلى الجملتين لأنه لا بد من اعتبار كلام العاقل ولما تعذر رجوعه إلى الجملتين وجب رجوعه إليهما وهذه الضرورة غير حاصلة في سائر المواضع وأما أدلة الحنفية فالجواب عن الآول من وجهين أحدهما أنه ينتقض بالاستثناء بمشيئة الله تعالى وبالشرط فإن ذلك غير مستقل بنفسه مع أنهما يعودان إلى كل الجمل عندهم فإن قلت الفرق هو أن الشرط وأن تأخر صورة فهو متقدم معنى وإذا كان متقدما معنى صار كل ما جاء بعده مشروطا به وأما الاستثناء بالمشيئة فإنه يقتضي صيرورة الكلام بأسره موقوفا فلا يختص بالبعض دون البعض قلت لا نسلم أن الشرط يجب أن يكون مقدما على الكل بل يجوز أن يكون مقدما على الجملة الأخيرة وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أن التقدم يقتضي الرجوع إلى الكل بل لعله يكون مختصا بما يليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وأما الاستثناء بالمشيئة فلم لا يجوز أن لا يقتضي كون الكل موقوفا بل يختص ذلك بالجملة الأخيرة والأصوب للحنفية أن يمنعوا هذين الإلزامين حتى يتم دليلهم ثانيهما أنا لا نسلم أن الاستثناء على خلاف الأصل قوله لأنه يوجب صرف العموم عن ظاهره قلنا لا نسلم لأنا بينا في مسألة ان العام المخصوص بالاستثناء لا يكون مجازا وأن لفظ العموم مع لفظ الاستثناء يصير كاللفظ الواحد الدال على ما بقي بعد الاستثناء وعلى هذا التقدير لا يكون الاستثناء على خلاف الأصل وعن الثاني أنا لا نسلم إنه لا يجوز أن يجتمع على المعمول الواحد عاملان ونص سيبويه على إنه لا يجوز معارض بنص الكسائي على أنه يجوز وقوله يجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان فجوابه أن العوامل الإعرابية معرفات لا مؤثرات واجتماع المعرفين على الواحد غير ممتنع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 وعن الثالث أن الاستثناء من الاستثناء لو عاد إليه وإلى المستثنى معا لزم الفسادان المذكوران فيما تقدم وذلك غير حاصل في الاستثناء من الجمل وعن الرابع أن نقول ما تريدون بقولكم إنه لم ينتقل عن إحدى الجملتين إلى غيرها إلابعد فراغه من الأولى إن عنيتم به أنه لم ينتقل منها إلى غيرها إلا بعد فراغه من جميع أحكام الآولى فهذا ممنوع بل هو أول المسألة لأن عندنا من جملة أحكامها ذلك الاستثناء الذي ذكرتموه في آخر الجمل وإن عنيتم شيئا آخر فاذكروه لننظر فيه وأما أدلة الشريف المرتضى فالجواب عن الأول والثاني منها ما تقدم في باب العموم وعن الثالث أنا لا نسلم التوقف في الحال والظرفين بل نخصهما بالجملة الأخيرة على قول أبي حنيفة رحمه الله أو بالكل على قول الشافعي رضي الله عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 سلمنا التوقف لكن لا على سبيل الاشتراك بل على سبيل أنا لا ندري أن الحق ما هو عند أهل اللغه فإن تمسك على الاشتراك بالاستفهام والاستعمال كان ذلك منه عودا إلى الطريقتين الأوليين سلمناه فلم قلتم أنه يجب أن يكون الأمر كذلك في الاستثناء قوله الجامع هو كون كل واحد من هذه الثلاثة فضلة تأتي بعد تمام الكلام قلنا الاشتراك من بعض الوجوه لا يقتضي التساوي من جميع الوجوه والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 الباب الثاني في التخصيص بالشرط وفيه مسائل المسألة الأولى الشرط هو الذي يقف عليه المؤثر في تأثيره لا في ذاته ولا ترد عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 العلة لأنها نفس المؤثر والشئ لا يقف على نفسه ولا جزء العلة ولا شرط ذاتها لأن العلة تقف عليه في ذاتها ثم الشرط قد يكون عقليا وهو معلوم وقد يكون شرعيا فهذا هو الشرط الشرعي وهو كالإحصان فإنه شرط اقتضاء الزنا لوجوب الرجم المسألة الثانية صيغة الشرط إن وإذا وهما بعد الاشتراك في كون كل واحد منهما صيغة الشرط يفترقان في أن إن تدخل على المحتمل لا على المتحقق وإذا تدخل عليهما تقول أنت طالق إذا احمر البسر وإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 دخلت الدار فالأول محقق والثاني محتمل ولا تقول أنت طالق إن احمر البسر إلا إذا لم يتيقن ذلك المسألة الثالثة في ان المشروط متى يحصل وذلك يستدعي مقدمة وهي أن الشرط على أقسام ثلاثة أحدها الذي يستحيل أن يدخل في الوجود إلا دفعة واحدة بتمامه سواء كان ذلك لأنه في نفسه واحد لا تركيب فيه أو إن كان مركبا لكن يستحيل أن يدخل شئ من أجزائه في الوجود إلا مع الاخر ثانيا ما يستحى أن يدخل بجميع اجرائه في الوجود كالكلام والحركة فإن المتكلم بلفظة يكون حينما وجد الحرف الأول منها لا يكون الثاني حاصلا وحين حصل الثاني صار الأول فانيا وثالثها ما يصح أن يدخل في الوجود تارة بمجموعه وتارة بتعاقب أجزائه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 ثم نقول على هذه التقديرات الثلاثة فالشرط إما عدمها وإما وجودها فإن كان الشرط عدمها حصل الحكم في الآقسام الثلاثة في أول زمان عدمها وإن كان الشرط وجودها فنقول أما في القسم الأول فالحكم يحصل مقارنا لأول زمان وجود الشرط وأما في القسم الثاني فإنه يحصل عند حصول آخر جزء من أجزاء الشرط في الوجود لأنه ليس لذلك المجموع وجود في التحقيق بل أهل العرف يحكمون عليه بالوجود وإنما يحكمون عليه بذلك عند دخول آخر جزء من أجزائه في الوجود والحكم كان معلقا على وجوده فوجب أن يحصل الحكم في ذلك الوقت وأما في القسم الثالث فنقول وجوده حقيقة إنما يتحقق عند دخول جميع أجزائه في الوجود دفعة واحدة لكنا في القسم الثاني عدلنا عن هذه الحقيقة للضرورة وهي مفقودة في هذا القسم فوجب اعتبار الحقيقة حتى إنه إن حصل مجمو أجزائها دفعة واحدة ترتب الجزاء عليه وإلا فلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 هذا مقتضى البحث الأصولي اللهم إلا إذا قام دليل شرعي على العدول عنه المسألة الرابعة الشرطان إذا دخلا على جزاء فإن كانا شرطين على الجمع لم يحصل المشروط إلا عند حصولهما معا وهو كقوله إن دخلت الدار وكلمت زيدا فأنت طالق ولو رتب عليهما جزاءين كان كل واحد من الشرطين معتبرا في كل واحد من الجزاءين لا على التوزيع بل على سبيل الجمع وإن كانا على سبيل البدل كان كل واحد منهما وحده كافيا في الحكم كقولك إن دخلت الدار أوكلمت زيدا المسألة الخامسة الشرط الواحد إذا دخل على مشروطين فإما أن يدخل عليهما على سبيل الجمع أو على سبيل البدل فالأول كقولك إن زنيت جلدتك ونفيتك ومقتضاه حصولهما معا والثاني كقولك إن زنيت جلدتك أو نفيتك ومقتضاه أحدهما مع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 أن التعيين فيه إلى القائل والله أعلم المسألة السادسة اختلفوا في أن الشرط الداخل على الجمل هل يرجع حكمه إليها بالكلية فاتفق الإمامان الشافعي وأبو حنيفة رحمة الله عليهما على رجوعه إلى الكل وذهب بعض الأدباء إلى أنه يختص بالجملة التي تليه حتى إنه إن كان متأخرا اختص بالجملة الأخيرة وإن كان متقدما اختص بالجملة الأولى والمختار التوقف كما في مسألة الاستثناء المسألة السابعة اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام ودليله ما مر في الاستثناء واتفقوا على أنه يحسن التقييد بشرط أن يكون الخارج أكثر من الباقي وإن اختلفوا فيه في الاستثناء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 المسألة الثامنة لا نزاع في جواز تقديم الشرط وتأخيره إنما النزاع في الأولى ويشبه أن يكون الأولى هو التقديم خلافا للقراء لنا أن الشرط متقدم في الرتبة على الجزاء لأنه شرط تأثير المؤثر فيه وما يستحق التقديم طبعا يستحق التقديم وضعا والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 روى الباب الثالث في تخصيص العام بالغاية والصفة وفيه فصلان الفصل الأول في تقييد العام بالغاية وفيه أبحاث البحث الأول أن غاية الشئ نهايته وطرفه ومقطعه الثاني ألفاظها وهي حتى وإلى كقوله تعالى ولا تقربوهن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 حتى يطهرن وقوله وأيديكم إلى المرافق الثالث التقييد بالغاية يقتضي أن يكون الحكم فيما وراء الغاية بخلاف الحكم فيما قبلها لأن الحكم لو بقي فيما وراء الغاية لم يكن العام منقطعا فلم تكن الغاية غاية والأولى أن يقال الغاية إما أن تكون منفصلة عن ذي الغاية بمفصل معلوم كما في قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل أو لا تكون كذلك كقوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق فإن المرفق غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس أما القسم الأول فيجب أن يكون حكم ما بعد الغاية بخلاف حكم ما قبله لأن انفصال أحدهما عن الآخر معلوم بالحس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 وأما الثاني فلا يجب أن يكون حكم ما بعده بخلاف ما قبله لأنه لما لم يكن المرفق منفصلا عن اليد بمفصل معلوم معين لم يكن تعيين بعض المفاصل لذلك أولى من بعض فوجب من ها هنا دخول ما بعده فيما قبله الرابع يجوز اجتماع الغايتين كما لو قيل لا تقربوهن حتى يطهرن وحتى يغتسلن فها هنا الغاية في الحقيقة هي الأخيرة وعبر عن الأول به لقربه منها واتصاله بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 الفصل الثاني في تقييد العام بالصفة والصفة إما أن تكون مذكورة عقيب شئ واحد كقولنا رقبة مؤمنه ولا شك في عودها إليه أو عقيب شيئين وها هنا إما أن يكون أحدهما متعلقا بالآخر كقولك أكرم العرب والعجم المؤمنين فها هنا الصفة تكون عائدة إليهما وأما إن لا تكون كذلك كقولك أكرم العلماء وجالس الفقهاء الزهاد فها هنا الصفة عائدة بين إلى الجملة الأخيرة وأن كان للبحث فيه مجال كما في الاستثناء والشرط والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 القول في تخصيص العام بالأدلة المنفصلة فنقول تخصيص العام إما أن يكون بالعقل أو بالحس أو بالدلائل السمعية وهو على وجهين تخصيص المقطوع بالمقطوع وتخصيص المقطوع بالمظنون فلنعقد أهل في كل واحد فصلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 الفصل الأول في تخصيص العموم بالعقل هذا قد يكون بضرورة العقل كقوله تعالى الله خالق كل شئ فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقا لنفسه وبنظر العقل كقوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فإنا نخصص الصبي والمجنون لعدم الفهم في حقهما ومنهم من نازع في تخصيص العموم بدليل العقل والأشبه عندي أنه لا خلاف في المعنى بل في اللفظ أما أنه لا خلاف في المعنى فلأن اللفظ لما دل على ثبوت الحكم في جميع الصور والعقل منع من ثبوته في بعض الصور فإما أن نحكم بصحة مقتضى العقل والنقل فيلزم صدق النقيضين وهو محال أو نرجح النقل على العقل وهو محال لأن العقل أصل النقل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 فالقدح في العقل قدح في أصل النقل والقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح فيهما معا وأما أن نرجح حكم العقل على مقتضى العمو وهذا هو مرادنا من تخصيص العموم بالعقل وأما البحث اللفظي فهو أن العقل هل يسمى مخصصا أم لا فنقول إن أردنا بالمخصص الأمر الذي يؤثر في اختصاص اللفظ العام ببعض مسمياته فالعقل غير مخصص لأن المقتضي لذلك الاختصاص هو الإرادة القائمة بالمتكلم والعقل يكون دليلا على تحقق تلك الإرادة فالعقل يكون دليل المخصص لا نفس المخصص ولكن على هذا التفسير وجب أن لا يكون الكتاب مخصصا للكتاب ولا السنة للسنة لأن المؤثر في ذلك التخصيص هو الإرادة لا تلك الآلفاظ فإن قيل لو جاز التخصيص بالعقل فهل يجوز النسخ به قلنا نعم لأن من سقطت رجلاه سقط عنه فرض غسل الرجلين وذلك إنما عرف بالعقل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 الفصل الثاني في التخصيص بالحس وهو كما في قوله تعالى وأوتيت من كل شئ فإنه لم يكن شئ من السماء والعرش والكرسي في يدها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 الفصل الثالث في تخصيص المقطوع بالمقطوع وفيه مسائل المسألة الأولى في تخصيص الكتاب بالكتاب وهو جائز خلافا لبعض أهل الظاهر لنا إن وقوعه دليل جوازه لأن قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء مع قوله تعالى وأولات الآحمال حديث أجلهن أن يضعن حملهن وكذلك قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن مع قوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب لا يخلو إما ان نجمع بين دلالة العام على عمومه والخاص على خصوصه وذلك محال وإما أن نرجح أحدهما على الآخر وحينئذ زوال الزائل إن كان على سبيل التخصيص فقد حصل الغرض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 وإن كان بالنسخ فقد حصل الغرض أيضالآن كل من جوز نسخ الكتاب بالكتاب جوز تخصيصه به أيضا احتجوا بقوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم فوض البيان إلى الرسول عليه الصلاة والسلا فوجب أن لا يحصل البيان إلا بقوله والجواب أنه معارض بقوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ ولأن تلاوة النبي ص آية التخصيص بيان منه له والله أعلم المسألة الثانية في تخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة وهو جائز أيضا لأن العام والخاص مهما اجتمعا فإما أن يعمل بمقتضاهما أو يترك العمل بهما أو يرجح العام على الخاص وهذه الثلاثة باطلة بالإجماع فلم يبق إلا تقديم الخاص على العام المسألة الثالثة تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة قولا كان أو فعلا جائز للدليل الذي مر وأيضا قد وقع ذلك أما بالقول فلأنهم خصصوا عموم قوله تعالى يوصيكم الله في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 أولادكم بقوله ص القاتل لا يرث وقوله ص لا يتوارث أهل ملتين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 وأما بالفعل عند فلأنهم خصصوا قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة بما تواتر عنه ص من رجم المحصن وأيضا تخصيص السنة المتواترة بالكتاب جائز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 وعن بعض فقهائنا إنه لا يجوز ودليله التقسيم الذي مر المسألة الرابعة في تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالإجماع وهو جائز لأنه واقع فإنهم خصصوا آية الإرث بالإجماع على أن العبد لا يرث وخصصوا آية الجلد بالإجماع على أن العبد كالأمة في تنصيف الحد وأما تخصيص الإجماع بالكتاب والسنة المتواترة ف إنه غير جائز للإجماع ولأن إجماعهم على الحكم العام مع سبق المخصص خطأ والإجماع على الخطأ لا يجوز المسألة الخامسة في أن تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بفعل الرسول ص هل هو جائز أم لا والتحقيق فيه أن اللفظ العام إما أن يكون متناولا للرسول ص أو لا يكون متناولا له فإن كان متناولا له كان ذلك الفعل مخصصا لذلك العموم في حقه وهل يكون مخصصا للعموم في حق غيره فنقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 إن دل دليل على أن حكم غيره كحكمه في الكل مطلقا أو في الكل إلا مخصه الدليل أو في تلك الواقعة كان ذلك تخصيصا في حق غيره ولكن المخصص للعموم لا يكون ذلك الفعل وحده بل الفعل مع ذلك الدليل وإن لم يكن كذلك لم يجز تخصيص ذلك العام في حق غيره وأما إن كان اللفظ العام غير متناول للرسول عليه السلام بل للأمة فقط فإن قام الدليل على أن حكم الأمة مثل حكم النبي ص صار العام مخصوصا بمجموع فعل الرسول عليه السلام مع ذلك الدليل وإلا فلا واحتج من منع هذا التخصيص مطلقا بأن المخصص للعام هو الدليل الذي دل على وجوب متابعته وهو قولتعالى فاتبعوه وذلك اعم من العام الذي يدل على بعض الأشياء فقط فالتخصيص بالفعل يكون تقديما للعام على الخاص وهو غير جائز والجواب أن المخصص ليس مجرد قوله تعالى فاتبعوه بل هو مع ذلك الفعل ومجموعهما أخص من العام الذي ندعي تخصيصه بالفعل المسألة السادسة من فعل ما يخالف مقتضى العموم بحضر الرسول ص فلم ينكره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 عليه فعدم الإنكار من الرسول ص قاطع في تخصيص العام في حق ذلك الفاعل أما في حق غيره فإن ثبت أن حكمه ص في الواحد حكمه في الكل كان ذلك التقرير تخصيصا في حق الكل وإلا فلا والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 الفصل الرابع في تخصيص المقطوع بالمظنون وفيه مسائل المسألة الأولى يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد عندنا وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك رحمهم الله وقال قوم لا يجوز أصلا وقال عيسى بن أبان إن كان قد خص قبل ذلك بدليل مقطوع به جاز وإلا فلا وقال الكرخي إن كان قد خص بدليل منفصل صار مجازا فيجوز ذلك وإن خص بدليل متصل أو لم يخص أصلا لم يجز وأما القاضي أبو بكر رحمه الله إنه اختار التوقف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 لنا أن العموم وخبر الواحد دليلان متعارضان وخبر الواحد أخص من العموم فوجب تقديمه على العموم إنما قلنا إنهما دليلان لأن العموم دليل بالاتفاق وأما خبر الواحد فهو ايضا دليل لأن العمل به يتضمن دفع ضرر مظنون فكان العمل به واجبا فكان دليلا وإذا ثبت ذلك وجب تقديمه على العموم لأن تقديم العموم عليه يفضي إلى إلغائه بالكلية أما تقديمه على العموم فلا يفضي إلى إلغاء العموم بالكلية فكان ذلك أولى كما في سائر المخصصات وأما جمهور الآصحاب فقالوا أجمعت الصحابة على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وبينوه بخمس صور إحداها أنهم خصصوا قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم بما رواه الصديق رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال نحن معاشر الأنبياء لا نورث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 وثانيها خصصوا عموم قوله تعالى فإن كن نساء فوق لأنه اثنتين فلهن ثلثا ما ترك بخبر محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة أنه ص جعل للجدة السدس لأن المتوفاة إذا خلفت زوجا وبنتين وجدة فللزوج الربع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 ثلاثة وللبنين الثلثان ثمانية وللجدة السدس اثنان عالت المسألة إلى ثلاثة عشر وثمانية من ثلاثة عشر أقل من ثلثي التركة وثالثها أنهم خصصوا قوله تعالى وأحل الله البيع بخبر أبي سعيد في المنع من المنع من بيع الدرهم بالدرهمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 ورابعها خصصوا قوله تعالى اقتلوا المشركين بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس سنوا بهم سنة أهل الكتاب وخامسها خصصوا قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم بخبر أبي هريرة في المنع من نكاح المرأة على عمتها وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 ولقائل أن يقول هل أجمعت الصحابة على تخصيص هذه العمومات في هذه الصور أو ما أجمعت فإن قلتم ما أجمعوا فقد سقط دليلكم وإن قلتم أجمعوا فلم لا يجوز أن يقال المخصص لهذه العمومات ذلك الإجماع فان قلت لا بد لذلك الإجماع من مستند هو هذه الأخبار إذ رب إجماع خفي مستنده لاستغنائهم بالإجماع عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 سلمنا أن ذلك المستند هو هذه الأخبار لكن لعل هذه الأخبار كانت متواترة عندهم ثم صارت آحادا عندنا واحتج المانعون بالإجماع والخبر والمعقول أما الإجماع فهو أن عمر رضي الله عن رد خبر فاطمة بنت قيس وقال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أو كذبت وأما الخبر فما روي أنه ص قال إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه والخبر الذي يخصص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 الكتاب على مخالفة الكتاب فوجب رده وأما المعقول فوجهان الأول أن الكتاب مقطوع به وخبر الواحد مظنون والمقطوع أولى من المظنون والثاني ان النسخ تخصيص في الأزمان والتخصيص تخصيص في الأعيان فنقول لو جاز التخصيص بخبر الواحد في الأعيان لكان لأجل أن تخصيص العام أولى من إلغاء الخاص وهذا المعنى قائم في النسخ فكان يلزم جواز النسخ بخبر الواحد ولما لم يجز ذلك علمنا أن ذلك أيضا غير جائز والجواب عن الأول أنا لا ندعي تخصيص العموم بكل ما جاء من أخبار الآحاد حتى يكون ذلك علينا وإنما نجوزه بالخبر الذي لا يكون راويه متهما بالكذب والنسيان وهذا الشرط ما كان حاصلا هنا لأن عمر رضي الله عنه قدح في روايتها بذلك فلم يكن قادحا في غرضنا بل هو بأن يكون حجة لنا أولى وذلك لأن عمر رضي الله عنه بين أن روايتها إنما صارت مردودة لكون الراوي غير مأمون من الكذب والنسيان ولو كان خبر الواحد المقتضي لتخصيص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 الكتاب مردودا كيف ماكان لما كان لذلك التعليل وجه وعن الثاني أن ما ذكرتموه يقتضي أن لا يجوز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة فإن قلتم إن ما يقتضي تخصيص الكتاب لا يكون على خلافه قلنا في مسألتنا ذلك بعينه وعن الثالث أن البراءة الأصلية يقينية ثم إنا نتركها بخبر الواحد فبطل قولكم إن المقطوع لا يترك بالمظنون ثم نقول لا نسلم حصول التفاوت وبيانه من وجهين الأول أن الكتاب مقطوع في متنه مظنون في دلالته والخبر مظنون في دلالته فلم قلتم إنه حصل التفاوت بينهما على هذا التقدير الثاني أن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالخبر المظنون لم يكن وجوب العمل مظنونا لأن تقدير ذلك أن الله تعالى قال مهما حصل في قلبكم ظن صدق الراوي فاقطعوا أن حكمي ذلك فإذا وجدنا ذلك الظن واستدللنا به على الحكم كنا قاطعين بالحكم وإذا كان كذلك فلم قلتم إن التفاوت حاصل على هذا التقدير وعن الرابع أن الأصوليين اعتمدوا في الجواب على حرف واحد وهو أن العقل ليس يأبى ذلك وإنما فصلنا بينهما لإجماع الصحابة على الفصل بينهما فقبلوا خبر الواحد في التخصيص وردوه في النسخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 وهذا الجواب ضعيف لأنا بينا أن الذي عولوا عليه في أنهم قبلوا خبر الواحد في التخصيص ضعيف وإذا ثبت ذلك فنقول ثبت بما ذكرنا أن القياس يقتضي أنه لو قبل خبر الواحد في التخصيص لوجب قبوله في النسخ وثبت بالاتفاق أنهم ما قبلوه في النسخ فوجب أن يقال أنهم ما قبلوه في التخصيص أيضا ضروة العمل بالدليل والجواب الصحيح لا يحصل إلا بذكر الفرق بينهما وهو أن التخصيص أهون من النسخ ولا يلزم من تأثير الشئ في الأضعف تأثيره في الآقوى أخبرنا والله أعلم تنبيه فأما قول عيسى بن أبان والكرخي فمبنيان على حرف واحد وهو أن العام المخصوص عند عيسى مجاز والعام المخصوص بالدليل المنفصل مجاز عند الكرخي وإذا صار مجازا صارت دلالته مظنونة ومتنه مقطوعا وخبر الواحد متنه مظنو ودلالته مقطوعة فيحصل التعادل فأما قبل ذلك فإنه حقيقة في العموم فيكون قاطعا في متنه وفي دلالته فلا يجوز أن يرجح عليه المظنون فهذا هو مأخذهم والكلام عليه هو ما تقدم والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 المسألة الثانية يجوز تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بالقياس وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأبي الحسين البصري والأشعري وأبي هاشم أخيرا ومنهم من منع منه مطلقا وهو قول الجبائي وأبي هاشم أولا ومنهم من فصل ثم ذكروا فيه وجوها أربعة الأول قول عيسى بن أبان أن تطرق التخصيص إلى العموم جاز وإلا فلا والثاني قول الكرخي وهو أنه إن خص بدليل منفصل جاز وإلا فلا والثالث قول كثير من فقهائنا ومنهم ابن سريج يجوز بالقياس الجلي دون الخفي ثم اختلفوا في تفسير الجلي والخفي على ثلاثة أوجه أحدها أن الجلي هو قياس المعنى والخفي هو قياس الشبه وثانيها أن الجلي هو مثل قوله ص لا يقضي القاضي وهو غضبان وتعليل ذلك بما يدهش العقل عن إتمام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 الفكر حتى يتعدى إلى الجائع والحاقن وثالثها قول أبي سعيد الاصطخري وهو أن الجلي هو الذي إذا قضى القاضي بخلافة ينتقض قضاؤه والرابع قول الغزالي رحمه الله وهو أن العام والقياس إن تفاوتا في إفادة الظن رجحنا الأقوى وإن تعادلا توقفنا وأما القاضي أبي بكر وأمام الحرمين فقد ذهبا إلى الوقف قال إمام الحرمين والقول بالوقف يشارك القول بالتخصيص من وجه ويباينه من وجه أما المشاركة فلأن المطلوب من تخصيص العام بالقياس إسقاط الاحتجاج بالعام والوقف يشاركه فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 وأما المباينة فهي أن القائل بالتخصيص يحكم بمقتضى القياس والواقف لا يحكم به تنبيه نسبة قياس الكتاب إلى عموم الكتاب كنسبة قياس الخبر المتواتر إلى عموم الخبر المتواتر وكنسبة قياس خبر الواحد إلى عموم خبر الواحد والخلاف جار في الكل وكذا القول في قياس الخبر المتواتر بالنسبة إلى عموم الكتاب وبالعكس أما قياس خبر الواحد إذا عارضه عموم الكتاب أو السنة المتواترة وجب أن يكون تجويزه أبعد لنا أن العموم والقياس دليلان متعارضان والقياس خاص فوجب تقديمه أما ان العموم دليل فبالاتفاق وأما أن القياس دليل فلأن العمل به دفع ضرر مظنون فكان العمل به واجبا وسيأتي تقرير هذه الدلالة في باب القياس إن شاء الله تعالى وإذا ثبت ذلك فالتقرير ما تقدم في المسألة الأولى واحتج المانعون بأمور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 أحدها أن الحكم المدلول عليه بالعموم معلوم والحكم المدلول عليه بالقياس مظنون والمعلوم راجح على المظنون وثانيها أن القياس فرع النص فلو خصصنا العموم بالقياس لقدمنا الفرع على الأصل وإنه غير جائز وثالثها أن حديث معاذ دل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 على أنه لا يجوز الاجتهاد إلا بعد فقد ذلك الحكم في الكتاب والسنة وذلك يمنع من تخصيص النص بالقياس ورابعها أن الأمة مجمعة على أن من شرط القياس أن لا يرده النص وإذا كان العموم مخالفا له فقد رده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 وخامسها أنه لو جاز التخصيص بالقياس لجاز النسخ به وقد تقدم تقريره والجواب عن الأول ما تقدم وعن الثاني أن القياس المخصص للنص يكون فرعا لنص آخر وحينئذ يزول السؤال فإن قلت لما كان القياس فرعا لنص آخر فك مقدمة لا بد منها في دلالة النص على الحكم كانت معتبرة في الجانبين وأما المقدمات التي لا بد منها في دلالة القياس فهي مختصة بجانب القياس فقط فإذن إثبات الحكم بالقياس يتوقف على مقدما أكثر وبالعموم على مقدمات أقل فكان إثبات الحكم بالعموم أظهر من إثباته بالقياس والأقوى لا يصير مرجوحا بالأضعف قلت قد تكون دلالة بعض العمومات على مدلوله أقوى وأقل مقدمات من دلالة عموم آخر على مدلوله وعند هذا يظهر الحق ما قاله الغزالي رحمه الله وهو أن دلالة العموم المخصوص على مدلوله إذا افتقرت إلى مقدمات كثيرة ودلالة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 العموم الذي هو أصل القياس إذا افتقرت إلى مقدمات قليلة بحيث تكون تلك المقدمات المعتبرة في القياس معادلة لمقدمات قليلة بحيث تكون تلك المقدمات مع المقدمات المعتبرة في القياس معادلة لمقدمات العموم المخصوص أو أقل جاز وحينئذ لا يتوجه ما قالوه وعن الثالث أن حديث معاذ إن اقتضى إنه لا يجوز تخصيص الكتاب والسنة بالقياس فليقتض أن لا يجوز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة ولا شك في فساد ذلك وعن الرابع أن نقول مالذي تريد بقولك شرط القياس أن لا يدفعه النص إن أردتم أن شرطه أن لا يكون رافعا لكل ما اقتضاه النص فحق وإن أردتم أن لا يكون رافعا لشئ مما اقتضاه النص فهو عين المتنازع وعن الخامس ما تقدم في المسألة الأولى المسألة الثالثة إذا قلنا المفهوم حجة فلا شك أن دلالته أضعف من دلالة المنطوق فهل يجوز تخصيص العام به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 مثاله إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم ثم قال الشارع في سائمة الغنم زكافهذا مفهومه يقتضي تخصيص ذلك العام ولقائل أن يقول إنما رجحنا الخاص على العام لأن دلالة الخاص على ما تحته أقوى من دلالة العام على ذلك الخاص والأقوى راجح وأما ها هنا فلا نسلم أن دلالة المفهوم على مدلوله أقوى من دلالة العام على ذلك الخاص بل الظاهر أنه أضعف وإذا كان كذلك كان تخصيص العام بالمفهوم ترجيحا للأضعف على الأقوى وأنه لا يجوز والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 القول في بناء العام على الخاص روي عن رسول الله ص خبران خاص وعام وهما كالمتنافيين فإما أن نعلم تاريخهما أو لا نعلم فإن علمنا التاريخ فإما أن نعلم مقارنتهما أو نعلم تراخي أحدهما عن الآخر فإن علمنا مقارنتهما نحو أن يقول في الخيل زكاة ويقول عقيبه ليس في الذكور من الخيل زكاة فالواجب أن يكون الخاص مخصصا للعام ومنهم من قال بل ذلك القدر من العام يصير معارضا للخاص لنا وجوه الأول أن الخاص أقوى دلالة على ما يتناوله من العام والأقوى راجح فالخاص راجج بيان الأول أن العام يجوز إطلاقه من غير أرادة ذلك الخاص أما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 ذلك الخاص فلا يجوز إطلاقه من غير أرادة ذلك الخاص فثبت أنه أقوى الثاني أن السيد إذا قال لعبده اشتر كل ما في السوق من اللحم ثم قال عقيبه لا تشتر لحم البقر فهم منه إخراج لحم البقر من كلامه الأول الثالث إن إجراء العام على عمومه إلغاء للخاص واعتبار الخاص لا يوجب إلغاء واحد منهما فكان ذلك أولى فإن قلت هلا حملتم قوله في الخيل زكاة على التطوع وقوله لا زكاة في الذكور من الخيل على نفي الوجوب وهذا وإن كان مجازا لكن التخصيص أيضا مجاز فلم كان مجازكم أولى من مجازنا لو قلت إنا نفرض الكلام فيما إذا قال أوجبت الزكاة في الخيل ثم قال لاأوجبها في الذكور من الخيل ولأن قوله في الخيل زكاة يقتضي وجوبها في الإناث والذكور فلو حملناه على التطوع لكنا قد عدلنا باللفظ عن ظاهره في الإناث لدليل لا يتناول الإناث وليس كذلك إذا أخرجنا الذكور في قوله في الخيل زكاة لأنا نكون قد أخرجنا من العام شيئا لدليل يتناوله واقتضى إخراجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 أما إذا علمنا تأخير الخاص عن العام فإن ورد الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام كان ذلك بيانا للتخصيص ويجوز ذلك عند من يجوز تأخير بيان العام ولا يجوز عند المانعين منه وإن ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام كان ذلك نسخا وبيانا لمراد المتكلم فيما بعد دون ما قبل لأن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة أما إن كان العام متأخرا عن الخاص فعند الشافعي وأبي الحسين البصري أن العام يبتى يكوعلى الخاص وهو المختار وعند أبي حنيفة والقاضي عبد الجبار بن احمد أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم وتوقف ابن القاص فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 لنا وجوه الأول الخاص أقوى دلالة على ما يتناوله من العام والأقوى راجح فالخاص راجح الثاني إن إجراء العام على عمومه يوجب إلغاء الخاص واعتبار الخاص لا يوجب إلغاء واحد منهما فكان أولى واحتج أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله بأمور أحدها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 فإذا كان العام متأخرا كان أحدث فوجب الأخذ به وثانيها لفظان تعارضا وعلم التاريخ بينهما فوجب تسليط الأخير على السابق كما لو كان الأخير خاصا واحترزنا بقولنا لفظان عن العام الذي يخصه العقل فإنا هناك سلطنا المتقدم وثالثها أن اللفظ العام في تناوله لآحاد ما دخل تحته يجري مجرى ألفاظ خاصة كل واحد منها يتناول واحدا فقط من تلك الآحاد لأن قوله تعالى اقتلوا المشركين قائم مقام قوله اقتلوا زيدا المشرك اقتلوا عمرا أقتلوا خالدا ولو قال ذلك بعد ما قال لا تقتلوا زيدا كان الثاني ناسخا واحتج ابن القاص على التوقف بأن هذين الخطابين كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 وجه آخر لأنه إذا قال لا تقلوا اليهود ثم قال بعده اقتلوا المشركين فقوله لا تقتلوا اليهود أخص من قوله اقتلوا المشركين من حيث إن اليهودي أخص من المشرك وأعم منه من حيث إنه دخل في المتقدم من الأوقات ما لم يدخل في المتأخر وهو ما بين زمان ورود المتقدم والمتأخر فظهر أن الخاص المتقدم أعم في الأزمان وأخص في الأعيان والعام المتأخر بالعكس فكل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه آخر وإذا ثبت ذلك وجب التوقف والرجوع إلى الترجيح كما في كل خطابين هذا شأنهما والجواب عن الأول أن هذا قول الصحابي فيكون ضعيف الدلالة فنخصه بما إذا كان الأحدث هو الخاص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 وعن الثاني أن الفرق ما ذكرنا من أن الخاص أقوى من العام فوجب تقديمه عليه ولأنا لو لم نسلط الخاص المتأخر على العام المتقدم لزم إلغاء الخاص أما لو لم نسلط العام المتأخر على الخاص المتقدم فلا يلزم ذلك فظهر الفرق وعن الثالث أنه إذا كان اللفظ عاما احتمل التخصيص وليس كذلك إذا كان خاصا ولهذا لو كان قوله لا تقتلوا اليهود مقارنا لقوله اقتلوا المشركين لخصه ولو قارن المفصل لناقضه ولم يخصه لأن الخاص لا يحتمل التخصيص وأما الذي تمسك به ابن القاص فهو ضعيف لأنه فرض الخاص المتقدم نهيا فلا جرم عم الأزمان وفرض العام المتأخر أمرا فلا جرم لم يعم الآزمان فصح له ما ادعاه من كون الخاص أعم من العام من هذا الوجه أما لو فرضنا الخاص المتقدم أمرا والعام المتأخر نهيا فإنه لا يستقيم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 كلامه لأن الخاص المتقدم لا شك أنه خاص في الأعيان وهو أيضا خاص في الأزمان لا الأمر لا يفيد التكرار أما العام المتأخر فإذا فرضناه نهيا كان أعم من المتقدم في الأعيان بالاتفاق وفي الأزمان أيضا لأن الأمر لا يتناول كل الأزمان بل يتناول زمانا واحدا فها هنا المتأخر أعم من المتقدم من كل الوجوه فبطل ما قالوه والله أعلم أما إذا لم يعرف التاريخ بينهما فعند الشافعي رضي الله عنه أن الخاص منهما يخص العام وعند أبي حنيفة رضي الله عنه يتوقف فيهما ويرجع إلى غيرهما أو إلى ما يرجح أحدهما على الآخر وهذا سديد على أصله لأن الخاص دائر بين أن يكون منسوخا وبين أن يكون مخصصا وناسخا مقبولا وناسخا مردودا وعند حصول التردد يجب التوقف واعتمد أصحابنا فيه على وجهين أحدهما أنه ليس للخاص مع العام إلا أن يقارنه أو يتقدمه أو يتأخر عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 وقد ثبت تخصيص العام بالخاص عندنا على التقديرات الثلاثة فعند الجهل بالتاريخ يكون الحكم أيضا كذلك وهذا ضعيف لأن الخاص المتأخر عن العام إن ورد قبل حضور وقت العمل بالعام كان تخصيصا وإن ورد بعده كان نسخا وعلى هذا نقول إن كان العام والخاص مقطوعين أو مظنونين أو العام مظنونا والخاص مقطوعا وجب ترجح الخاص على العام لأن الخاص دائر بين أن يكون ناسخا أو مخصصا وعلى التقدير ين فالخاص مقدم في هذه الصورة أما إذا كان العام مقطوعا به والخاص مظنونا فبتقدير أن يكون الخاص مخصصا وجب العمل به لأن تخصيص الكتاب بخبر الواحد جائز لكن بتقدير أن يكون ناسخا لم يجب العمل به لأن نسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز فالحاصل أن الخاص دائر بين أن يكون مخصصا وبين أن يكون ناسخا مقبولا وبين أن يكون ناسخا مردودا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 وإذا كان كذلك لم يجب تقديم الخاص على العام مطلقا الثاني أن العموم بالقياس مطلقا فلأن يخص بخبر الواحد أولى وهو ضعيف لأن القياس يقتضي أصلا يقاس عليه فذلك الأصل إن كان متقدما على العام لم يجز القياس عليه عندنا وكذا القول إذا لم يعرف تقدمه وتأخره لا يجوز القياس عليه والمعتمد أن فقهاء الأمصار في هذه الأعصار يخصصون أعم الخبرين بأخصهما مع فقد علمهم بالتاريخ فإن قلت إن ابن عمر رضي الله عنهما لم يخص قوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم بقوله ص لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 وعنه أيضا لما سئل عن نكاح النصرانية حرمه محتجا بقوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وجعل هذا العام رافعا لقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب مع خصوصه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 قلت ادعينا إجماع أهل هذه الأعصار ويحتمل أن يكون ابن عمر امتنع من ذلك الدليل تنبيه إن الحنفية لما اعتقدوا أن الواجب في مثل هذا العام والخاص إما التوقف وإما الترجيح ذكر عيسى بن أبان ثلاثة أوجه في الترجيح أحدها اتفاق الآمة على العمل بأحدها وثانيها عمل أكثر الأمة بأحد الخبرين وعيبهم على من لم يعمل به كعملهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 بخبر أبي سعيد وعيبهم علي ابن عباس حين نفى الربا في النقدين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 وثالثها أن تكون الرواية لأحدهما أشهر وزاد أبو عبد الله البصري وجهين آخرين أحدهما أن يتضمن أحد الخبرين حكما شرعيا وثانيهما أن يكون أحد الخبرين بيانا للآخر بالاتفاق كاتفاقهم على أن قوله ص لاقطع إلا في ثمن المجن بيان لآية السرقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 قال أبو الحسين البصري رحمه الله هذه الأمور أمارة لتأخر أحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 الخبرين لأن الخبر لو كان متقدما منسوخا لما اتفقت الأمة على استعماله ولا عابوا من ترك استعماله ولما كان نقله أشهر ولما أجمعوا على كونه بيانا لناسخه وكون الحكم غير شرعي يقتضي كون الخبر الذي تضمنه مصاحبا للعقل وأن الخبر المتضمن للحكم الشرعي متأخر وهذا الوجه ضعيف والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 القول فيما ظن أنه من مخصصات العموم مع أنه ليس كذلك وفيه مسائل المسألة الأولى الخطاب الذي يرد جوابا عن سؤال سائل إما أن لا يكون مستقلا بنفسه أو يكون والأول على قسمين لأن عدم استقلاله إما أن يكون لأمر يرجع إليه كقوله ص وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر أينقص أذا جف قالوا نعم قال فلا إذن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 وإما أن يكون لأمر يرجع إلى العادة كقوله والله لا آكل في جواب من يقول كل عندي لأن هذا الجواب مستقل بنفسه غير أن العرف اقتضى عدم استقلاله حتى صار مفتقرا إلى السبب الذي خرج عليه والقسم الثاني على ثلاثة أنواع لآن الجواب إما أن يكون أخص أو مساويا أو أعم والأعم إما ان يكون أعم مما سئل عنه كقوله ص لما سئل عن بئربضاعة الماء طهور لا ينجسه شئ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 أو يكون أعم في غير ما سئل عنه كقوله ص وقد سئل عن ماء البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 إذا عرفت هذه الأقسام فنقول أما الجواب الذي لا يستقل بنفسه فإنه يفيد مع سببه فيكون السبب موجودا في كلام المجيب تقديرا وإلا لم يفد ولو أن المتكلم أتى بالسبب في كلامه فقال والله لا آكل عندك لكان اليمين مقصورا على الأكل عنده وأما الجواب المستقل المساوي فلا إشكال فيه وأما الأخص فهو جائز بثلاث شرائط أحدها أن يكون فيما خرج عن الجواب تنبيه على ما لم يخرج منه وثانيها أن يكون السائل من أهل الاجتهاد وثالثها أن لا تفوت المصلحة باشتغال السائل بالاجتهاد وبدون هذه الشرائط لا يجوزو أما إذا كان الجواب أعم في غير ما سئل مع عنه فلا شبهة في أنه يجري على عمومه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 أما إذا كان الجواب أعم مما سئل عنه فالحق أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب خلافا للمزني وأبو ثور فإنهما زعما أن خصوص السبب يكون مخصصا لعموم اللفظ قال إمام الحرمين وهو الذي صح عن الشافعي رضي الله عنه لنا وجهان الأول أن المقتضى للعموم قائم وهو اللفظ الموضوع للعموم والمعارض الموجود وهو خصوص السبب لا يصلح معارضا لأنه لا منافاة بين عموم اللفظ وخصوص السبب فإن الشارع لو صرح وقال يجب عليكم أن تحملوا اللفظ العام على عمومه عمومه وأن لا تخصصوه سعيد بخصوص سببه كان ذلك جائزا والعلم بجوازه ضروري الثاني أن الأمة مجمعة على أن آية اللعان والظهار والسرقة وغيرها إنما نزلت في أقوام معينين مع أن الأمة عمموا حكمها ولم يقل أحد أن ذلك التعميم خلاف الأصل واحتج المخالف بأن المراد من ذلك الخطاب إما بيان ما وقع السؤال عنه أو غيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 فإن كان الأول وجب أن لا يزاد عليه وذلك يقتضي أن يتخصص بتخصص السبب وإن كان الثاني وجب أن لا يتأخر ذلك البيان عن تلك الواقعة والجواب أن ما ذكروه يقتضي أن يكون ذلك الحكم مقصورا على ذلك السائل وفي ذلك الزمان والمكان والهيئة وأيضا فلم لا يجوز أن يكون ذلك السؤال الخاص اقتضى ذلك البيان العام لا بد على امتناعه من دليل والله أعلم تنبيه هذا العام وإن كان حجة في موضع السؤال وفي غيره إلا أن دلالته على موضع السؤال أقوى منها على غير ذلك الموضع وهذا يصلح أن يكون من المرجحات والله أعلم المسألة الثانية الحق إنه لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي وهو قول الشافعي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 رضي الله عنه لأنه قال إن كان الراوي حمل الخبر على أحد محمليه صرت إلى قوله وإن ترك الظاهر لم أصر إلى قوله خلافا لعيسى بن أبان ومثاله خبر أبي هريرة في أن الإناء يغسل من ولوغ الكلب سبعا فإنه خص ذلك بمذهب أبي هريرة في أنه يغسل ثلاثا ومنهم من فصل فقال إن وجد خبر يقتضي تخصيصه أو وجد في الأصول ما يقتضي ذلك لم يخص الخبر بمذهبه وإلا خص بمذهبه لنا أن مخالفة الراوي تحتمل أقساما ثلاثة طرفين وواسطة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 أما طرف الإفراط فهو أن يقال الراوي عالم بالضرورة أنه ص أراد بذلك العام الخاص إما لخبر آخر قاط يقتضي ذلك أو لشئ من قرائن الأحوال وهذا الاحتمال يعارضه أنه لو كان كذلك لوجب على الراوي أن يبين ذلك إزالة للتهمة عن نفسه وللشبهة وأما طرف التفريط فهو أن يقال إنه ترك العموم بمجرد الهوى وهو معارض بما أن الظاهر من عدالته خلافه وأما الوسط فهو أنه خالفه بدليل ظنه أقوى منه إما محتكل قد أو قياس وذلك الظن يحتمل أن يكون خطأ ويحتمل أن يكون صوابا وإذا تعارضت الاحتمالات في مخالفة الراوي وجب تساقطها والرجوع إلى العموم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 واحتج المخالف بأن مخالفة الراوي إن كانت لا عن طريق كان ذلك قادحا في عدالته فالقدح في عدالته قدح في متن الخبر وإن كانت عن طريق فذلك الطريق إما محتمل أو قاطع ولو كان الدليل محمتلا لذكره إزالة للتهمة عن نفسه والشبهة عن غيره ولما بطل ذلك تعين القطع والجواب أن إظهاره لذلك الدليل المحتمل إنما يجب عليه مع من ناظره فلعله لم تتفق تلك المناظرة سلمنا أنه ذكره لكن لعله لم ينقل أو نقل لكنه لم يشتهر والله أعلم المسألة الثالثة الحق أنه لا يجوز تخصيص العام بذكر بعضه خلافا لأبي ثور مثاله قوله ص أيما إهاب دبغ فقد طهر قال المراد جلد الشاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 لأنه قال صلى الله عليه وسلم في جلد شاة ميمونة دباغها طهورها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 لنا أن المخصص للعام لا بد وأن يكون بينه وبين العام منافاة ولا منافاة بين كل الشئ وبعضه لأن الكل محتاج إلى البعض والمحتاج إليه لا ينافي المحتاج احتج المخالف بأن تخصيص الشئ بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه فتخصيص الخاص بالذكر يدل على نفي الحكم عن غيره وذلك يقتضي تخصيص العام والجواب أنا لا نقول بدليل الخطاب سلمناه لكن التمسك بظاهر العموم أولى من التمسك بالمفهوم على ما تقدم المسألة الرابعة اختلفوا في التخصيص بالعادات والحق أن نقول العادات إما أن يعلم من حالها أنها كانت حاصلة في زمان الرسول ص وأنه ص ما كان يمنعهم منها أو يعلم أنها ما كانت حاصلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 أو لا يعلم واحد من هذين الأمرين فإن كان الأول صح التخصيص بها لكن المخصص في الحقيقة هو تقرير الرسول ص عليها وإن كان الثاني لم يجز التخصيص بها لأن أفعال الناس لا تكون حجة على الشرع بل لو أجمعوا عليه لصح التخصيص بها لكن المخصص حينئذ هو الإجماع لا العادة وإن كان الثالث كان محمتلا للقسمين الأولين ومع احتمال كونه غير مخصص لا يجوز القطع بذلك والله أعلم المسألة الخامسة كونه مخاطبا هل يقتضي خروجه عن الخطاب العام أما في الخبر فلا لقوله تعالى وهو بكل شئ عليم لأن اللفظ عام ولا مانع من الدخول وأما في الأمر الذي جعل جزاء كقوله من دخل داري فأكرمه فيشبه أن يكون كونه أمرا قرينة مخصصة والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 المسألة السادسة الخطاب المتناول لما يندرج فيه النبي ص والأمة كقوله يا أيها الناس يا أيها الذين آمنوا عام في حقهما ومنهم من خصصه بالأمة قال لأن منصب الرسول ص يقتضي إفراده بالذكر وهو باطل لأن اللفظ عام ولا مانع من دخول الرسول ص فيه وقال الصيرفي كل خطاب لم يصدر بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتبليغه ولكن ورد مطلقا فالرسول ص مخاطب به كغيره وكل ما كان مصدرا بأمر الرسول بتبليغه فذلك لا يتناوله كقوله قل يا أيها الناس المسألة السابعة الخطاب المتناول لما يندرج فيه الحر والعبد والمسلم والكافر لا يخرج عنه العبد والكافر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 أما العبد فلأن اللفظ عام وقيام المانع الذي يوجب التخصيص خلاف الأصل وهذا القدر يوجب دخول العبد فيه بل العبادة التي تترتب على المالكية لا تتحقق في حق العبد لأن العبد ليس له صلاحية المالكية فأما فيما عداه فهو داخل فيه فإن قلت المانع من ذلك هو ما ثبت من وجوب خدمته لسيده في كل وقت يستخدمه فيه وذلك يمنعه من العبادات في هذه الأوقات فإن قلتم إنما يلزمه خدمة سيده لو فرغ من العبادات فنقول لم كان تخصيص الدليل الدال على وجوب خدمة السيد بما دل على وجوب العبادة أولى من تخصيص ما دل على وجوب العبادة بما دل على وجوب خدمة السيد قلت ما دل على وجوب خدمة السيد في حكم العام وما دل على وجوب العبادات في حكم الخاص لأن كل عبادة يتناولها لفظ مخصوص كآية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 الصلاة وآية الصيام والخاص متقدم على العام وأما بيان أن كونه كافرا لا يخرجه عن العموم فقد ثبت في باب أن الكفار مخاطبون بالشرائع والله أعلم السمألة الثامنة قصد المتكلم بخطابه إلى المدح أو إلى الذم لا يوجب تخصيص العام ومنع بعض فقهائنا من عموم قوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة وأبطلوا التعلق به في ثبوت الزكاة في الحلي وقالوا القصد به إلحاق الذم بمن يكنز الذهب والفضة وليس القصد به العموم والجواب أنا فهمنا الذم من الآية لدلالة اللفظ عليه واللفظ دل على العموم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 فوجب إثباته وليست دلالتها على الذم مانعة من دلالتها على العموم المسألة التاسعة عطف الخاص على العام لا يقتضي تخصيص العام مثاله أن اصحابنا لما احتجوا على أن المسلم لا يقتل بالذمي بقوله ص لا يقتل مؤمن بكافر قالت الحنفية إنه ص عطف عليه قوله ولا ذو عهد في عهده فيكون معناه ولا ذو عهد في عهده بكافر ثم إن الكافر الذي لا يقتل ذو العهد به هو الحربي فيجب أن يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه والكلام عليه يقع في مقامين الأول أنا لا نسلم أن قوله ص ولا ذو عهد في عهده معناه ولا ذو عهد في عهده بكافر بيانه أن قوله ص ولاذو عهد في عهده كلام تام وإذا كان كذلك لم يجز إضمار تلك الزيادة إنما قلنا أنكلام تام لأنه قال ولا يقتل ذو عهد لكان من الجائز أن يتوهم منه متوهم أن من وجد منه العهد ثم خرج عن عهده فإنه لا يجوز قتله فلما قال في عهده علمنا أن هذا النهي مختص بكونه في العهد وإذا ثبت أن هذا القدر كلام تام لم يجز إضمار تلك الزيادة لأن الإضمار على خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا لضرورة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 سلمنا أن قوله ص ولا ذو عهد في عهده معناه ولا ذو عهد في عهده بكافر لكن لا نسلم أن هذا الكافر لما كان هو الحربي وجب أن يكون المراد بقوله لا يقتل مؤمن بكافر هو الحربي بيانه أن مقتضى العطف مطلق الاشتراك لا الاشتراك من كل الوجوه وإذا كان كذلك لم يجب ما قالوه والله أعلم المسألة العاشرة اختلفوا في أن العموم إذا تعقبه استثناء أو تقييد بصفة أو حكم وكان ذلك لا يتأتى إلا في بعض ما يتناوله هل يجب أن يكون المراد بذلك العموم ذلك البعض فقط أم لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 مثال الاستثناء قوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ثم قال عز وجل وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون فاستثنى العفو وعلقه بكناية راجعة إلى النساء ومعلوم أن العفو لا يصح إلا من المالكات لأمورهن دون الصغيرة والمجنونة فهل يجب أن يقال الصغيرة والمجنونة غير مرادة بلفظ النساء في أول الكلام مثال التقييد بالصفة قوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ثم قال لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا يعني الرغبة في مراجعتهن ومعلوم أن ذلك لا يتأتى في البائنة ومثال التقييد بحكم آخر قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ثم قال وبعولتهن أحق بردهن في ذلك وهذا أيضا لا يتأتى في البائن إذا عرفت هذا فنقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 ذهب القاضي عبد الجبار إلى أنه لا يجب تخصيص ذلك العموم بتلك الأشياء ومنهم من قطع بالتخصيص ومنهم من توقف وهو المختار والدليل عليه أن ظاهر العموم المتقدم يقتضي الاستغراق وظاهر الكناية يقتضي الرجوع إلى كل ما تقدم لأن الكناية يجب رجوعها إلى المذكور المتقدم والمذكور المتقدم في الآية الأولى وهو المطلقات لا بعضهن ألا ترى أن الإنسان إذا قال من دخل الدار من عبيدي ضربته إلا أن يتوبوا انصرف ذلك إلى جميع العبيد وجرى مجرى أن يقول إلا أن يتوب عبيدي الداخلون في الدار وإذا ثبت ذلك فليست رعاية ظاهر العموم أولى من رعاية ظاهر الكناية فوجب التوقف والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 القسم الرابع من كتاب العموم والخصوص في حمل المطلق على المقيد وفيه مسائل المسألة الأولى المطلق والمقيد إذا وردا فإما أن يكون حكم أحدهما مخالفا لحكم الآخر أو لا يكون والأول مثل أن يقول الشارع آتوا الزكاة وأعتقوا رقبة مؤمنة ولا نزاع في أنه لا يحمل المطلق على المقيد ها هنا لأنه لا تعلق بينهما أصلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 وأما الثاني فلا يخلو إما ان يكون السبب واحدا أو يكون هناك سببان متماثلان أو مختلفان وكل واحد من هذه الثلاثة فإما أن يكون الخطاب الوارد فيه أمرا أو نهيا فهذه أقسام ستة فلنتكلم فيها أما إذا كان السبب واحدا وجب حمل المطلق على المقيد لأن المطلق جزء من المقيد والآتي بالكل آت بالجزء لا محالة فالآتي بالمقيد يكون عاملا بالدليلين والآتي بغير ذلك المقيد لا يكون عاملا بالدليلين بل يكون تاركا لأحدهما والعمل بالدليلين عند إمكان العمل بهما أولى من الإتيان بأحدهما وإهمال الآخر فإن قيل لا نسلم أن المطلق جزء من المقيد بيانه أن الإطلاق والتقييد ضدان والضدان لا يجتمعان سلمنا ذلك لكن المطلق له عند عدم التقييد حكم وهو تمكن المكلف من الإتيان بأي فرد شاء من أفراد تلك الحقيقة والتقييد ينافي هذه المكنة فليس تقييد المطلق أولى من حمل المقيد على الندب وعليكم الترجيح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 والجواب أما أن المطلق جزء من المقيد فلأنا بينا أن المراد من المطلق نفس الحقيقة والمقيد عبارة عن الحقيقة مع قيد زائد ولا شك أن الإطلاق أحد أجزاء الحقيقة المقيدة قوله الإطلاق والتقييد ضدان قلنا إن عنيت بالإطلاق كون اللفظ دالا على الحقيقة من حيث هي هي مع حذف جميع القيود السلبية والإيجابية فلا نسلم أن ذلك ينافي التقييد على ما بيناه وإن عنيت بالإطلاق كون اللفظة دالة على الحقيقة الخالية عن جميع القيود فنحن لا نريد بالإطلاق ذلك بل الأول وفرق بين الحقيقة بشرط لا وبين الحقيقة بلا شرط فإن عدم الشرط غير شرط العدم وأيضا فشرط الخلو عن جميع القيود غير معقول لأن هذا الخلو قيد قوله المطلق له بشرط عدم التقييد حكم وهو التمكن من الإتيان بأي فرد شاء من أفراد تلك الحقيقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 قلنا هذا الحكم غير مدلول عليه لفظا والتقييد مدلول عليه لفظا فهو أولى بالرعاية وأما فجانب النهي فهو أن يقول لا تعتق رقبة ثم يقول لا تعتق رقبة كافرة والأمر فيه قريب مما مر المسألة الثانية اختلفوا في الحكمين المتماثلين إذا أطلق أحدهما وقيد الآخر وسببهما مختلف مثاله تقييد الرقبة في كفارة القتل بالإيمان وإطلاقها في كفارة الظهار وفيه ثلاثة مذاهب اثنان طرفان والثالث هو الوسط أما الطرفان فأحدهما قول من يقول من أصحابنا تقييد أحدهما يقتضي تقييد الآخر لفظا وثانيهما قول كافة الحنفية إنه لا يجوز تقييد هذا المطلق بطريق ما البتة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 وثالثها القول المعتدل وهو مذهب المحققين منا أنه يجوز تقييد المطلق بالقياس على ذلك المقيد ولا ندعي وجوب هذا القياس بل ندعي أنه إن حصل القياس الصحيح ثبت التقييد وإلا فلا واعلم أن صحة هذا القول إنما تثبت إذا أفسدنا القولين الأولين أما الأول فضعيف جدا لأن الشارع لو قال أوجبت في كفارة القتل رقبة مؤمنة وأوجبت في كفارة الظهار رقبة كيف كانت لم يكن أحد الكلامين مناقضا للآخر فعلمنا أن تقييد أحدهما لا يقتضي تقييد الآخر لفظا احتجوا بأن القرآن كالكلمة الواحدة وبأن الشهادة لما قيدت بالعدالة مرة واحدة وأطلقت في سائر الصور حملنا المطلق على المقيد فكذا ها هنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 والجواب عن الأول أن القرآن كالكلمة الواحدة في أنه لا يتناقض لا في كل شئ وإلا وجب أن يتقيد كل عام ومطلق بكل خاص ومقيد وعن الثاني أنا إنما قيدنا بالإجماع وأما القول الثاني فضعيف لأن دليل القياس وهو أن العمل به دفع للضرر المظنون عام في كل الصور شبهة المخالف أن قوله أعتق رقبة يقتضي تمكين المكلف من إعتاق أي رقبة شاء من رقاب الدنيا فلو دل القياس على أنه لا يجزيه إلا المؤمنة لكان القياس دليلا على زوال تلك المكنة الثابتة بالنص فيكون القياس ناسخا وأنه خلاف الأصل والجواب هذا لا يتم على مذهبكم لأنكم اعتبرتم سلامة الرقبة عن كثير من العيوب فإن كان اشتراط الإيمان نسخا فكذا نفي تلك العيوب يكون نسخا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 وأيضا فقوله أعتق رقبة لا يزيد في الدلالة على اللفظ العام وإذا جاز التخصيص العام بالقياس فلأن يجوز هذا التخصيص به أولى تنبيه إذا أطلق الحكم في موضع وقيد مثله في موضعين بقيدين متضادين كيف يكون حكمه مثاله قضاء رمضان الوارد مطلقا في قوله تعالى فعدة من أيام أخر وصوم التمتع الوارد مقيدا بالتفريق في قوله تعالى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم وصوم كفارة الظهار الوارد مقيدا بالتتابع في قوله عز وجل فصيام شهرين متتابعين اختلفوا فيه على حسب ما مر في المسألة السلفة فمن زعم أن المطلق يتقيد بالمقيد لفظا ترك المطلق ها هنا على إطلاقه لأنه ليس تقييده بأحدهما أولى من تقييده بالآخر ومن حمل المطلق على المقيد لقياس حمله ها هنا على ما كان القياس عليه والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 النوع الرابع في المجمل والمبين وفيه مقدمة وثلاثة أقسام أما المقدمة ففي تفسير الألفاظ المستعملة في هذا الباب وهي سبعة الأول البيان وهو في أصل اللغة اسم مصدر مشتق من التبيين يقال بين يبين تبيينا وبيانا كما يقال كلم يكلم تكليما وكلاما واذن يؤذن تأذينا وأذانا فالمبين يفرق بين الشئ وبين ميشاكله فلهذا قيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 البيان عبارة عن الدلالة يقال بين فلان كذا بيانا حسنا إذا ذكر الدلالة عليه ويدخل فيه الدليل العقلي وفي اصطلاح الفقهاء هو الذي دل على المراد بخطاب لا يستقل بنفسه في الدلالة على المراد والثاني المبين وله معنيان أحدهما ما احتاج الى البيان وقد ورد عليه بيانه والثاني الخطاب المبتدأ المستغني عن البيان الثالث المفسر وله معنيان أحدهما ما احتاج الى التفسير وقد ورد عليه تفسيره وثانيهما الكلام المبتدأ المستغني عن التفسير لوضوحه في نفسه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 الرابع النص وهو كلام تظهر إفادته لمعناه ولا يتناول أكثر منه واحترزنا بقولنا كلام عن أمرين أحدهما أن أدلة العقول والأفعال لا تسمى نصوصا وثانيهما أن المجمل مع البيان لا يسمى نصا لأن قولنا نص عبارة عن خطاب واحد دون ما يقرن به ولأن البيان قد يكون غير القول والنص لا يكون الا قولا واحترزنا بقولنا تظهر إفادته لمعناه عن المجمل فان قلت أليس قد يقال نص الله تعالى على وجوب الصلاة وإن كان قوله أقيموا الصلاة مجملا قلت إنه ليس نصا إلا في إفادة الوجوب وهو فيها ليس بمجمل واحترزنا بقولنا ولا يتناول أكثر منه عن قولهم اضرب عبيدي لأن الرجل إذا قال لغيره إضرب عبيدي لم يقل أحد إنه نص على ضرب زيد من عبيده لأنه لا يفيده على التعيين ويقال إنه نص على ضرب جملة عبيده لأنه لا يفيد سواهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 الخامس الظاهر وهو ما لا يفتقر في إفادته لمعناه الى غيره سواء أفاده وحده أو أفاده مع غيره وب هذا القيد الأخير يمتاز عن النص امتياز العام عن الخاص وكنا قد قلنا في باب اللغات إن النص هو اللفظ الذي لا يمكن استعماله في غير معناه الواحد والظاهر هو الذي يحتمل غيره احتمالا مرجوحا ولا منافاة بين التعريفين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 السادس المجمل وهو في عرف الفقهاء ما أفاد شيئا من جملة أشياء هو متعين في نفسه واللفظ لا يعينه ولا يلزم عليه قولك اضرب رجلا لأن هذا اللفظ أفاد ضرب رجل وهو ليس بمتعين في نفسه فأي رجل ضربته جاز وليس كذلك اسم القرء لأنه يفيد إما الطهر وحده وإما الحيض وحده واللفظ لا يعينه وقول الله تعالى أقيموا الصلاة يفيد وجوب فعل متعين في نفسه غير متعين بحسب اللفظ السابع المؤول والتأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 وأما المحكم والمتشابه فقد مر تفسيرهما في باب اللغات والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 القسم الأول في المجمل وفيه مسائل المسألة الأولى في أقسام المجمل الدليل الشرعي إما أن يكون أصلا أو مستنبطا منه والأصل إما أن يكون لفظا أو فعلا أما اللفظ فإما أن يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملا في موضوعه أوحال كونه مستعملا في بعض موضوعه أو حال كونه مستعملا لا في موضوعه ولا في بعض موضوعه أما القسم الأول فذاك هو أن يكون اللفظ محتملا لمعان كثيرة فلم يكن حمله على بعضها أولى من الباقي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 ثم تناول اللفظ لتلك المعاني إما بحسب معنى واحد مشترك بين الكل وهو المتواطئ كقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده أولا بحسب معنى واحد وهو المشترك كلفظ القرء وأما القسم الثاني وهو أن يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملا في بعض موضوعه فهو كالعام المخصوص بصفة مجملة أو استثناء مجمل أو بدليل منفصل مجهول مثال الصفة قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم فإنه تعالى لو اقتصر على ذلك لم يفتقر فيه إلى بيان فلما قيده بقوله محصنين ولم ندر ما الإحصان لم نعرف ما أبيح لنا ومثال الاستثناء قوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 ومثال الدليل المنفصل المجهول كما إذا قال الرسول ص في قوله تعالى اقتلوا المشركين المراد بعضهم لا كلهم وأما القسم الثالث وهو أن يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملا لا في موضوعه ولا في بعض موضوعه فهو ضربان أحدهما الأسماء الشرعية والآخر غيرها مثال الأول كما إذا أمرنا الشرع بالصلاة ونحن وفي لا نعلم انتقال هذا الاسم إلى هذه الأفعال احتجنا فيه إلى بيان والثاني الأسماء التي دلت الأدلة على إنه لا يجوز حملها على حقائقها وليس بعض مجازاتها أولى من بعض بحسب اللفظ فلا بد من البيان أما الفعل فإن مجرد وقوعه لا يدل على وجه وقوعه إلا أنه قد يقترن به ما يدل على الوجه الذي وقع عليه وحينئذ يستغنى عن البيان وقد لا يقترن به ذلك فيكون مجملا مثال الأول إذا رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام مواظبا على الإتيان بالسجودين علمنا أن ذلك من أفعال الصلاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 مثال الثاني أن يقوم من الركعة الثانية ولا يجلس قدر التشهد جوزنا أن يكون قد سها فيه وأن يكون قد تعمد ذلك ليدلنا على جواز ترك هذه الجلسة وأما المستنبط من الأصل فهو القياس ولا يتصور فيه الإجمال والله أعلم المسألة الثانية يجوز ورود المجمل في كلام الله تعالى وكلام رسول الله ص والدليل عليه وقوعه في الآيات المتلوة واحتج المنكر بأن الكلام إما أن يذكر للإفهام أو لا للإفهام والثاني عبث غير جائز على الله تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 والأول إما أن يكون قد قرن بالمجمل ما يبينه أو لم يفعل ذلك والأول تطويل من غير فائدة لأن التنصيص عليه أسهل وأدخل في الفصاحة من ذكره باللفظ المجمل ثم بيان ذلك المجمل بلفظ آخر وأيضا فيجوز أن يصل الإنسان إلى ذلك المجمل قبل وصوله إلى ذلك البيان فيكون سببا للحيرة وإنه غير جائز والثاني باطل لأنه إذا أراد الإفهام مع أن اللفظ لا يدل عليه وليس معه ما يدل عليه كان تكليفا بما لا يطاق وإنه غير جائز والجواب أن هذا الكلام ساقط عنا لأن عندنا يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وعند المعتزلة فلا يبعد أن يكون في ذكره باللفظ المجمل ثم إرداف ذلك المجمل بالبيان مصلحة لا يطلع عليها ومع الاحتمال لا يبقى القطع والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 القول في أمر ظن أنها من المجملات وليست كذلك وفيه مسائل المسألة الأولى ذهب الكرخي إلى أن التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان كقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم يقتضي الإجمال وعندنا أنه يفيد بحسب العرف تحريم الفعل المطلوب من تلك الذات فيفهم من قوله حرمت عليكم أمهاتكم تحريم الاستمتاع ومن قوله حرمت عليكم الميتة تحريم الأكل لأن هذه الأفعال هي الأفعال المطلوبة في هذه الأعيان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 والحاصل أنا نسلم كونه مجازا في اللغة لكنه حقيقة في العرف لنا وجوه الأول أن الذي يسبق إلى الفهم من قول القائل هذا طعام حرام تحريم أكله ومقوله هذه المرأة حرام تحريم وطئها ومبادرة الفهم دليل الحقيقة وثانيها ماروي أنص قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها فدل هذا على أن تحريم الشحوم أفاد تحريم كل أنواع التصرف وإلا لم يتوجه الذم عليهم في البيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 وثالثها أن المفهوم من قولنا فلان يملك الدار قدرته على التصرف فيها بالسكنى والبيع ومن قولنا فلان يملك الجارية قدرته على التصرف فيها بالبيع والوطء والاستخدام وإذا جاز أن تتخلف فائدة الملك على هذا النحو جاز مثله في التحريم والتحليل احتج الكرخي بأن هذه الأعيان غير مقدورة لنا لو كانت معدومة فكيف إذا كانت موجودة فإذن لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره بل المراد تحريم فعل من الأفعال المتعلقة بتلك الأعيان وذلك الفعل غير مذكور وليس إضمار بعضها أولى من بعض فإما أن نضمر الكل وهو محال لأنه إضمار من غير حاجة وهو غير جائز أو نتوقف في الكل وهو المطلوب وايضا فالآية لو دلت على تحريم فعل معين لوجب أن يتعين ذلك الفعل في كل المواضع وليس كذلك لأن المراد بقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم حرمة الاستمتاع وبقوله حرمت عليكم الميتة حرمة الأكل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 والجواب لا نزاع في أنه لا يمكن إضافة التحريم إلى الأعيان لكن قوله ليس إضمار بعض الأحكام أولى من بعض ممنوع فإن العرف يقتضي إضافة ذلك التحريم إلى الفعل المطلوب منه والله أعلم المسألة الثانية ذهب بعض الحنفية إلى إن قوله تعالى وامسحوا برؤوسكم مجمل لأنه يحتمل مسح جميع الرأس ومسح بعضه وإذا ظهر الاحتمال يثبت الإجمال وقال آخرون لو خلينا واللفظ لمسحنا كل جميع الرأس لأن الباء للإلصاق 3 وقال ابن جني لا فرق في اللغة بين أن تقول مسحت بالرأس وبين أن تقول مسحت الرأس لأن الرأس اسم للعضو بتمامه فوجب مسحه بتمامه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 وقال بعض الشافعية إنها للتبعيض فهو يفيد مسح بعض الرأس وقال آخرون لا إجمال فيه لأن لفظ المسح مستعمل في مسح الكل بالاتفاق وفي مسح البعض كما يقال مسحت يدي بالمنديل ومسحت يدي برأس اليتيم وإن كان إنما مسحها ببعض الرأس والأصل عدم الاشتراك فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بين مسح الكل ومسح البعض فقط وذلك هو مماسة جزء من اليد جزءا من الرأس فثبت أن اللفظ ما دل إلا عليه فكان الآتي به عاملا باللفظ وحينئذ لا يتحقق الإجمال ويكفي في العمل به مسح أقل جزء من الرأس وهو قول الشافعي رضي الله عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 المسألة الثالثة اختلفوا في حرف النفي إذا دخل على الفعل كقوله لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ولا عمل لمن لا نية له فقال أبو عبد الله البصري إنه مجمل لأن ذات الصلاة والعمل موجودة فلا يمكن صرف النفي إليها فوجب صرفه إلى حكم آخر وليس البعض أولى من البعض فإماأن يحمل على الكل وهو إضمار من غير ضرورة ولأنه قد يفضي إلى التناقض لأنا لو حملناه على نفي الصحة ونفي الكمال معا وفي نفي الكمال ثبوت الصحة فيلزم التناقض أولا يحمل على شئ من الأحكام بل يتوقف وهذا هو الإجمال ومن الناس من فصل وقال هذا النفي إما أن يكون داخلا على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 مسمى شرعي أو على مسمى حقيقي فإن كان الأول فلا إجمال لأن الصلاة اسم شرعي والشرع أخبر عن انتفاء ذلك المسمى عند انتفاء الوصف المخصوص فإن قلت يقال هذه الصلاة فاسدة فدل على بقاء المسمى مع الفساد وقال ص دعي الصلاة أيام أقرائك قلت التوفيق بين الدليلين أن نصرف ذلك إلى المسمى الشرعي وهذا إلى المسمى اللغوي ومن هذا الباب قوله لا نكاح إلا بولي ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل أما إن كان المسمى حقيقيا فإما أن يكون له حكم واحد أو أكثر من حكم واحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 والأول كقولنا لا شهادة لمجلود في قذف لأنه لا يمكن صرف النفي إلى ذات الشهادة لأنها قد وجدت فلا بد من صرف النفي إلى حكمها وليس لها إلا حكم واحد وهو الجواز لأن الشهادة إذا كانت فيما كانت ندبنا إلى ستره لم يكن لإقامتها مدخل في الفضيلة كقولنا لا إقرار لمن أقر بالزنا مرة واحدة لأن الأولى له أن يستر ذلك على نفسه فإذن لا حكم له إلا الجواز واذا لم يكن له إلا هذا الحكم الواحد انصرف النفي إليه فصح التعلق به أما إذا كان له حكمان الفضيلة والجواز فلم يكن صرفه إلى أحدهما أولى من الآخر فيتعين الإجمال هذا قول الأكثرين ولقائل أن يقول لكن صرفه إلى الجوا أولى من صرفه إلى الفضيلة لوجوه أحدها أن المدلول عليه باللفظ نفي الذات والدال على نفي الذات دال على نفي جميع الصفات لاستحالة بقاء الصفة مع عدم الذات فإذن قوله لا عمل يدل على نفي الذات وعلى نفي الصحة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 ونفي الكمال ترك العمل به في الذات فوجب أن يبقى معملا به في الباقي فإن قلت اللفظ لم يدل على نفي الصحة بالمطابقة وإنما دل عليها بالالتزام ضرورة أنه يلزم من انتفاء الذات انتفاء الصفة ودلالة الالتزام تابعة لدلالة المطابقة التي هي الأصل فها هنا لما لم توجد دلالة المطابقة التي هي الأصل فكيف تبقى دلالة الالتزام التي هي الفرع وأيضا فقد جاء هذا اللفظ لنفي الفضيلة فقط والأصل في الكلام الحقيقة والجواب عن الأول إنه لا نزاع في أن دلالة هذا اللفظ على نفي الصفة تابعة لدلالته على نفي الذات لكن بعد استقرار تلك الدلالة صار اللفظ كالعام بالنسبة إليها بأسرها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 فإذا خص عنها في بعض الأمور وهو الذات وجب أن يبقى معمولا به في الباقي وعن الثاني أنا بينا أن اللفظ عام بالنسبة إلى نفي الذات ونفي الصفات ثم تارة يختص بالنسبة إلى الذات فقط وحينئذ يفيد نفي بقية الأحكام وتارة يختص بالنسبة إلى الذات والصحة فيبقى معمولا به في الباقي وهو نفي الفضيلة وثانيها هو أن المشابهة بين المعدوم وبين ما لا يصح أتم من المشابهة بين المعدوم وبين ما يوجد ويصح ولا يفضل والمشابهة إحدى أسباب المجاز فكان حمل اللفظ على نفي الصحة أولى وثالثها أن الخلل الحاصل في الذات عند عدم الصحة أشد من الخلل الحاصل فيها عند بقاء الصحة وعدم الفضيلة وإطلاق اسم العدم على المختل أولى من إطلاقه على غير المختل سلمنا أنه لا يجوز حمل النفي على هذه الأحكام ولا يجوز حمله على نفي الذات فلم قلت إنه مجمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 بيانه أن قولنا هذا الشئ لفلان معناه يعود نفعه إليه وقولنا لا عمل لمن لا نية له معناه نفعه إليه وهذا يقتضي نفي الصحة لأنه لو صح ذلك العمل لعاد نفعه إليه واللفظ دل على نقيضه والله أعلم المسألة الرابعة قال بعضهم آية السرقة مجملة في اليد وفي القطع أما اليد فلأنه يطلق اسم اليد على هذا العضو من أصل المنكب وعليه من الزند وعليه من الكوع وعليه من أصول الأنامل وأما القطع فلأنه قد يراد به الشق فقط كما يقال برى فلان قلمه فقطع يده وقد يراد به الإبانة والجواب عن الأول أن اسم اليد موضوع لهذا العضو من المنكب ولا يتناول الكف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 وحده لأنه لا يقال قطعت يد فلان بالكلية إذا قطعت من الكف وعن الثاني أن القطع في اللغة الإبانة فأذا أضيف إلى شئ أفاد إبانة ذلك الشئ والشق إذا حصل في الجلد فقد حصلت الإبانة في تلك الأجزاء بلى أطلق اسم اليد عليه على سبيل إطلاق اسم الكل على الجزء فيكون المجاز ها هنا في لفظ اليد لا في لفظ القطع والله أعلم المسألة الخامسة قيل في قوله عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان إنه مجمل لأن نفس الخطأ غير مرفوع فلا بد من صرفه إلى الحكم فيلزم الإجمال على ما تقدم تقريره والأقرب أنه ليس بمجمل لأن المولى إذا قال لعبده رفعت عنك الخطأ كان ذلك في العرف منصرفا إلى نفي المؤاخذة بذلك الفعل فكذا قال الرسول ص لأمته مثل هذا القول وجب أن ينصرف إلى ما يتوقع مؤاخذته لأمته به وهو الأحكام الشرعية فكأنه قال رفعت عنكم الأحكام الشرعية من الخطأ والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 القسم الثاني في المبين وفيه مسائل المسألة الأولى في أقسام المبين الخطاب الذي يكفي نفسه في إفادة معناه إما أن يكون لأمر يرجع إلى وضع اللغة أو لا يكون كذلك والأول كقوله تعالى أن الله بكل شئ عليم أما الثاني فإما أن يكون بيانه على سبيل التعليل أولا على سبيل التعليل اما التعليل فضربان أحدهما أن يكون الحكم بالمسكوت عنه أولى من الحكم بالمنطوق به كما في قوله تعالى فلا تقل لهما أف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 وثانيهما كما في قوله ص إنها من الطوافين عليكم والطوافات وأما الذي لا يكون تعليلا فضربان أحدهما أن الأمر بالشئ أمر بما لا يتم إلا به وثانيهما أن يظهر في العقل تعذر إجراء الخطاب على ظاهره ويكون هناك أمر يكون حمل الخطاب عليه أولى من حمله على غيره كما في قوله تعالى واسأل القرية فهذه أقسام المبين والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 المسألة الثانية في أقسام البيانات أعلم أن بيان المجمل إما أن يقع بالقول أو بالفعل أو بالترك أما بالقول فظاهر وأما بالفعل فإما أن يكون الدال على البيان شيئا يحصل بالمواضعة أو شيئا تتبعه المواضعة أو شيئا يتبع المواضعة فالأول هو الكتاب وعقد الأصابع فأما الكتابة فقد يقع بها البيان من الله تعالى بما كتب في اللوح المحفوظ ومن الرسول ص بما كتب إلى عماله وأما عقد الأصابع فقد بين به الرسول ص إذ قال الشهر هكذا وهكذا وحبس في الثالثة أصبعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 وهذا الباب يستحيل على الله تعالى لاستحالة الجوارح عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 وأما القسم الثاني وهو الذي تتبعه المواضعة فهو الإشارة لأن المواضعة مفتقرة إليها وهي غير مفتقرة إلى المواضعة وإلا لافتقرت إلى إشارة أخرى ولزم التسلسل وهو محال وقد بين الرسول ص بالإشارة وذلك حين أشار إلى الحرير بيده وقال هذا حرام على ذكور أمت حل لإناثها وأما القسم الثالث وهو الذي يكون تابعا للمواضعة فهو كما اذا قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 الرسول ص هذا الفعل بيان لهذه الآية أو يقول صلوا كما رأيتموني أصلي واعلم أنه لا يعلم كون الفعل بيانا للمجمل إلا بأحد أمور ثلاثة أحدها أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده وثانيها أن يعلم بالدليل اللفظي وهو أن يقول هذا الفعل بيان لهذا المجمل أو يقول أقوالا يلزم من مجموعها ذلك وثالثها بالدليل العقلي وهو أن يذكر المجمل وقت الحاجة إلى العمل به ثم يفعل فعلا يصلح أن يكون بيانا له ولا يفعل شيئا آخر فيعلم أن ذلك الفعل بيان للمجمل وإلا فقد أخر البيان عن وقت الحاجة وأنه لا يجوز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 وأما الترك فاعلم أن الفعل يبين الصفة ولا يدل على وجوبها وترك الفعل يبين نفي وجوبه وذلك على أربعة أضرب أحدها أن يقول من الركعة الثانية إلى الثالثة ويمضي على صلاته فيعلم أن هذا التشهد ليس بشرط في صحة الصلاة وإلا لم تصح مع عدم شرط الصحة ويدل على أنه ليس بواجب أنه ص لا يجوز أن يتعمد ترك الواجب وثانيها أن يسكت عن بيان حكم الحادثة فيعلم أنه ليس فيه حكم شرعي وثالثها أن يكون ظاهر الخطاب متناولا له ولأمته على سواء فإذا ترك الفعل دل على أنه كان مخصوصا من الخطاب ولم يلزمه ما لزم أمته ورابعها أن يتركه بعد فعله إياه فيعلم أنه قد نسخ عنه ثم ينظر فإن كان حكم الأمة حكمه نسخ عنهم أيضا وإلا كان حكمهم بخلاف حكمه والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 المسألة الثالثة الحق أن الفعل قد يكون بيانا خلافا لقوم لنا أن الخصم إما أن يقول إنه لا يصح وقوع البيان بالفعل أو يقول إنه يصح عقلا لكن لا يجوفي الحكمة والأول ضربان أحدهما أن يقال إن الفعل لا يؤثر في وقوع اليقين أصلا والآخر أن يقال إنه لا يؤثر في ذلك إلا مع غيره هو أن يقول الرسول ص هذا الفعل بيان لهذا الكلام والأول باطل لأن فعل الرسول ص للصلاة والحج فلا أدل عليهما من صفته لهما فإنه ليس الخبر كالمعاينة ولهذا بين الرسول ص الحج والصلاة وقال خذوا عني مناسككم وقال صلوا كما رأيتموني أصلي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 وبين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء بفعلهم وأما الثاني وهو أن لا يقع البيان بالفعل وحده عند قيام الدليل على أن ذلك الفعل بيان لذلك المجمل فهذا مما لا خلاف فيه إلا أن المبين هو الفعل لأنه هو المتضمن لصفة الفعل وإنما القول لتعليق الفعل الواقع بيانا على المجمل وأما القسم الثاني وهو أنه غير جائز في الحكمة فهو لا يستقيم على أصلنا لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ثم إن سلمنا هذا الأصل لكنه يمتنع أن يعلم الله تعالى من المكلف أن بيان المجمل بهذا الطريق أصلح له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 احتج المخالف بأن الفعل يطول فيلزم تأخير البيان والجواب أن القول قد يكون أطول لأن وصف أفعال الصلاة وتروكها منه على الاستقصاء أطول من الإتيان بركعة واحدة فجوابكم جوابنا والله أعلم المسألة الرابعة في أن القول هل يقدم على الفعل في كونه بيانا القول والفعل إذا وردا فإما أن يكونا متطابقين أو متنافيين فإكانا متطابقين وعلم تقدم أحدهما على الآخر فالأول بيان والثاني تأكيد لأن الأول قد حصل التعريف به فلا حاجة إلى الثاني وإن لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر حكم على الجملة بأن الأول منهما بيان والثاني تأكيد وإن كانا متنافيين كقوله ص من قرن الحج إلى العمرة فليطف لهما طوافا واحدا مع ما روي عنه ص أنه قرن فطاف طوافين وسعى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 سعيين فالقول هو المقدم في كونه بيانا لأنه بيان بنفسه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 والفعل لا يدل حتى يعرف ذلك إما بالضرورة أو بالاستدلال بدليل قولي أو عقلي فإذا لم يعقل ذلك لم يثبت كون الفعل بيانا والله أعلم المسألة الخامسة في: البيان كالمبين هذا الباب يشتمل على شيئين أحدهما هل البيان كالمبين في القوة والآخر هل هو كالمبين في الحكم أما الأول فقال الكرخي المبين إذا كان لفظا معلوما وجب كون بيانه مثله وإلا لم يقبل والحق أنه يجوز أن يكون البيان والمبين معلومين وأن يكونا مظنونين أن يكون المبين معلوما وبيانه مظنونا كما جاز تخصيص القرآن بخبر الواحد والقياس وأما الآخر فهو أنه هل إذا كان المبين واجبا كان بيانه واجبا كذلك قال به قوم فإن أرادوا به أن المبين إذا كان واجبا فبيانه بيان لصفة شئ واجب فصحيح وإن أرادوا به أنه يدل على الوجوب كما يدل المبين فغير صحيح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 لأن البيان إنما يتضمن صفة المبين وليس يتضمن لفظا يفيد الوجوب إلا ترى أن صورة الصلاة ندبا واجبا صورة واحدة وإن أرادوا أنه إذا كان المبين واجبا كان بيانه واجبا على الرسول ص واذا لم يكن الفعل المبين واجبا لم يكن بيانه واجبا على الرسول ص فباطل لأن بيان المجمل واجب سواء تضمن فعلا واجبا أو لم يتضمن وإلا كان تكليفا بمالا يطاق والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 القسم الثالث في وقت البيان وفيه مسائل المسألة الأولى القائلون بأنه لا يجوز تكليف ما لا يطاق اتفقوا على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأن التكليف به مع عدم الطريق إلى العلم به تكليف بمالا يطاق والإشكالات التي ذكرناها في أن تكليف الساهي غير جائز قائمة ها هنا والجواب واحد المسألة الثانية اختلفوا في جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب الخطاب المحتاج إلى البيان ضربان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 أحدهما ما له ظاهر قد استعمل في خلافه والثاني لاظاهر له كالأسماء المتواطئة والمشتركة والأول أقسام أحدها تأخير بيان التخصيص وثانيها تأخير بيان النسخ وثالثها تأخير بيان الأسماء الشرعية ورابعها تأخير بيان اسم النكرة إذ أراد به شيئا معينا إذا عرفت ذلك فنقول مذهبنا أنه يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة في كل هذه الأقسام وأما المعتزلة فأكثر من تقدم أبا الحسين رحمه الله اتفقوا على المنع من تأخير البيان في كل هذه الأقسام إلا في النسخ فإنهم جوزوا تأخير بيانه وأما أبو الحسين فإنه منع من تأخير البيان فيما له ظاهر قد استعمل في خلافه وزعم أن البيان الإجمالي كاف فيه وهو أن يقول عند الخطاب اعلموا أن هذا العموم مخصوص وأن هذا الحكم سينسخ بعد ذلك وأما البيان التفصيلي فإنه يجوز تأخيره وأما الذي لا يكون له ظاهر مثل الألفاظ المتواطئة والمشتركة فقد جوز فيه تأخير البيان إلى وقت الحاجة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 وهذا التفصيل ذكره كثير من فقهاء أصحابنا كأبي بكر القفال وأبي اسحاق المروزي وأبي بكر الدقاق واعلم أن الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين أحدهما أن يستدل في الجملة على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب وثانيهما أن يستدل على جواز ذلك في كل واحدة من الصور المذكورة أما المقام الآول فالدليل عليه قوله تعالى إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه وثم في اللغة للتراخي وهو المطلوب فإن قيل لا نسلم أن كلمة ثم للتراخي فقط بل قد تجئ بمعنى الواو كقوله تعالى ثم آتينا موسى الكتاب ثم كان من الذين آمنوا ثم الله شهيد سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن المراد بالبيان في هذه الآية البيان الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 اختلفنا فيه وهو بيان المجمل والعموم فلم لا يجوز أن يكون المراد به إظهاره بالتنزيل غاية ما في الباب أن يقال هذا مخالفة الظاهر لكن نقول يلزم من حفظ هذا الظاهر مخالفة ظاهر آخر وهو أن الضمير الذي في قوله ثم إن علينا بيانه راجع إلى جميع المذكور وهو القرآن ومعلوم أن جميعه لا يحتاج إلى البيان فليس حفظ أحد الظاهرين بأولى من الآخر وعليكم الترجيح سلمنا أن المراد من البيان ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون المراد به تأخير البيان التفصيلي وذلك عند أبي الحسين جائز سلمنا أن المراد مطلق البيان لكن لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله تعالى إن علينا جمعه وقرآنه هو أن يجمعه في اللوح المحفوظ ثم إنه بعد ذلك ينزله على الرسول ص ويبينه له وذلك متراخ عن الجمع سلمنا أن البيان مذكرتموه غير لكن الآية تدل على وجوب تأخير البيان وذلك ما لم يقل به أحد فما دلت عليه الآية لا تقولون به وما تقولون به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وهو الجواز لم تدل الآية عليه فبطل الاستدلال والجواب أما أن كلمة ثم للتراخي فذلك متواتر عند أهل اللغة والآيات التي تلوتموها المراد هناك التأخير في الحكم قوله لم لا يجوز أن يكون المراد من البيان إظهاره بالتنزيل قلنا لأن قوله فإذا قرأناه فاتبع قرآنه أمر للنبي ص باتباع قرآنه وإنما يكون مأمورا بذلك بعد نزوله عليه فإنه قبل ذلك لا يكون عالما به فكيف يمكنه اتباع قرآنه فثبت أن المراد من قوله فإذا قرأناه هو الإنزال ثم إنه تعالى حكم بتأخير البيان عن ذلك وذلك يقتضي تأخير البيان عن وقت الإنزال وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون المراد من البيان هو الإنزال لاستحالة كون الشئ سابق على نفسه سلمنا أنه يمكن ما ذكروه ولكنه خلاف الظاهر قوله يلزم من مخالفة المحافظة على هذا الظاهر احتياج القرآن جميعه إلى البيان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 قلنا لا نسلم فإن لفظ القرآن يتناول كله وبعضه بدليل أنه لو حلف أن لا يقرأ القرآن ولا يمسه فقرأ آية أو لمس آية فإنه يحنث في يمينه سلمنا أن لفظ القرآن ليس حقيقة في البعض لكن إطلاق اسم الكل على البعض أسهل من إطلاق لفظ البيان على التنزيل لأن الكل مستلزم للجزء والبيان غير مستلزم للتنزيل قوله نحمله على البيان التفصيلي قلنا اللفظ مطلق فتقييده خلاف الظاهر قوله لم لا يجوزأن يكون المراد من الجمع جمعه في اللوح المحفوظ قلنا لما بينا أنه تعالى أخر البيان عن القراءة التي يجب على النبي عليه الصلاة والسلام متابعتها وذلك يستدعي تأخير البيان عن وقت الإنزال قوله هذا يقتضي وجوب تأخير البيان قلنا ونحن نقول به فإن قلت الضمير عائد إلى كل القرآن فيجب تأخير بيان الكل وذلك لم يقل به أحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 قلت قد تقدم بيان أن الضمير غير عائد إلى الكل والله أعلم أما الذي يدل على كل واحدة من الصور التي ذكرناها فنقول الدليل على أنه يجوز تأخير البيان في النكرة أن الله تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة موصوفة غير منكرة ثم أنه لم يبينها لهم حتى سألوا سؤالا بعد سؤال إنما قلنا إنه لم يرد بقرة منكرة لوجهين الأول أن قوله تعالى ادع لنا ربك يبين لنا ما هي وما لونها وقول الله تعالى إنها بقرة لا فارض ولا بكر إنها بقرة صفراء إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ينصرف إلى ما أمروا بذبحه من قبل وهذه الكنايات تدل على أن المأمور به ما كان ذبح بقرة منكرة بذبح بقرة معينة الثاني أن الصفات المذكورة في الجواب عن السؤال الثاني إما ان يقال إنها صفات البقرة التي أمروا بذبحها أو لا أو صفات بقرة وجبت عليهم عند ذلك السؤال وانتسخ ما كان واجبا عليهم قبل ذلك والأول هو المطلوب والثاني يقتضي أن يقع الاكتفاء بالصفات المذكورة آخرا وأن لا يجب حصول الصفات المذكورة قبل ذلك ولما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 أجمع المسلمون على أن تلك الصفات بأسرها كانت معتبرة علمنا فساد هذا القسم فإن قيل لا يجوز التمسك بهذه الآية لأن الوقت الذي أمروا فيه بذبح البقرة كانوا محتاجين إلى ذبحها فلو أخر الله البيان لكان ذلك تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة وأنه لا يجوز فإذن ما تقتضيه الآية لا تقولون به وما تقولون به لا تقتضيه الآية نزلنا عن هذا المقام لكن لا نسم أن المأمور به كان ذبح بقرة موصوفة بل ذبح بقرة كيف كانت فلما سألوا تغيرت المصلحة ووجبت عليهم بقرة أخرى وأما الكنايات فلا نسلم عودها إلى البقرة ولم لا يجوز أن يقال إنها كنايات عن القصة والشأن وهذه طريقة مشهورة عند العرب سلمنا أن هذه الكنايات تقتضي كون البقرة المأمور بها موصوفة لكن ها هنا ما يدل على كونها منكرة وهو من ثلاثة أوجه الأول أن قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة أمر بذبح بقرة مطلقة وذلك يقتضي سقوط التكليف بذبح بقرة أي بقرة كانت وذلك يقتضي أن يكون اعتبار الصفة بعد ذلك تكليفا جديدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 الثاني لو كان المراد ذبح بقرة معينة لما استحقوا التعنيف على طلب البيان بل كانوا يستحقون المدح عليه فلما عنفهم اللتعالى في قوله فذبحوها وما كادوا يفعلون علمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولا وذلك إنما يكون لو كان المأمور به أولا ذبح بقرة منكرة الثالث ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لو ذبحوا أية بقرة أرادوا لأجزأت عنهم لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 سلمنا أن المأمور به ذبح بقر معينة موصوفة لكن لم لا يجوز أن يقال البيان التام قد تقدم لكنهم لم يتبينوا لبلادتهم فاستكشفوا طلبا للزيادة فحكى الله تعالى ذلك سلمنا أن البيان التام لم يتقدم فلم لا يجوز أن يقال إن موسى عليه السلام كان قد أعلمهم بأن البقرة ليست مطلقة بل معينة فطلبوا البيان التفصيلي فالحاصل أن البيان الإجمالي كان مقارنا والبيان التفصيلي كان متأخرا وهو جائز عند أبي الحسين رحمه الله والجواب قوله الآية تقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة قلنا لا نسلم لأن ذلك إنما يلزم لو كان الأمر مقتضيا للفور لكنا لا نقول به قوله الكنايات عائدة إلى القصة والشأن قلنا هذا باطل لوجوه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 أحدها أن هذه الكنايات لو كانت عائدة إلى القصة والشأن لكان الذي يبقى بعد ذلك غير مقيد لأنه لا فائدة في قوله بقرة صفراء بل لا بد من إضمار شئ آخر وذلك خلاف الأصل أما إذا جعلنا الكنايات الذي عائد إلى المأمور به أولا لم يلزم هذا المحذور وثانيها أن الحكم برجوع الكنايات إلى القصة والشأن خلاف الأصل لأن الكناية يجب عودها إلى شئ جرى ذكره والقصة والشأن لم يجر ذكرهما فلا يجوز عود الكناية إليهما لكنا خالفنا هذا الدليل للضرورة في بعض المواضع فيبقى فيما عداه على الأصل وثالثها أن الضمير في قوله تعالى ما لونها وماهي لا شك أنه عائد إلى البقرة المأمور بها فوجب أن يكون الضمير في قوله إنها بقرة صفراء عائدا إلى تلك البقرة وإلا لم يكن الجواب مطابقا للسؤال قوله إن قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة أمر بذبح بقرة مطلقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 قلنا هب أن ظاهره يفيد الإطلاق ونحن نسلمه لكنا نقول المراد كاغير الظاهر مع أنه تعالى ما بينه فما قلتموه لا يضرنا قوله لو كان ذلك لطلب البيان لما استحقوا التعنيف بقوله وما كادوا يفعلون قلنا إن قوله تعالى وما كادوا يفعلون ليس فيه دلالة على أنهم فرطوا في أول القصة أو أنهم كادوا يفرطون بعد استكمال البيان بل اللفظ محتمل لكل واحد منهما فنحمله على الأخير وهو أنهم لما وقفوا على تمام البيان توقفوا عند ذلك وما كادوا يفعلون قوله نقل عن ابن عباس أنه قال شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم قلنا هذا من أخبار الآحاد ومع تقدير الصحة فلا يصلح معارضا لنص الكتاب قوله لم لا يجوز أن يقال كان البيان حاصلا لكنهم لم يتبينوا قلنا لوجهين الآول أنهم كانوا يلتمسون البيان ولكان البيان حاصلا لما التمسوه بل كانوا يطلبون التفهيم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 الثاني أن فقد التبيين عن حضور هذا البيان متعذر ها هنا لأن ذلك البيان ليس إلا وصف تلك البقر والعاقل العارف باللغة إذا سمع تلك الأوصاف استحال أن لا يعرفها قوله كانوا يطلبون البيان التفصيلي قلنا لو كان كذلك لذكره الله تعالى أزالة للتهمة أما الدليل على جواز تأخير بيان المخصص فالنقل أما النقل فهو أن الله تعالى لما أنزل قوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم قال ابن الزبعري قد عبدت الملائكة وعبد المسيح فهؤلاء حصب جهنم فتأخر بيان ذلك حتى أنزل الله تعالى قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى فإن قيل لا نسلم أن قوله تعالى وما تعبدون من دون الله يندرج فيه الملائكة والمسيح وبيانه من وجهين الأول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 أن كلمة ما لما لا يعقل فلا يدخلها المسيح والملائكة الثاني أن قوله تعالى إنكم وما تعبدون خطاب مع العرب وهم ما كانوا يعبدون المسيح والملائكة بل كانوا يعبدون الأوثان سلمنا ذلك لكن تخصيص العام بدليل العقل جائز وها هنادل العقل على خروج الملائكة والمسيح فإنه لا يجوز تعذيب المسيح بجرم الغير وهذا الدليل كان حاضرا في عقولهم ثم نقول المسألة علمية وهذا خبر واحد فلا يجوز إثباتها به سلمنا صحة الرواية لكن الرسول عليه السلام إنما سكت انتظارا لنزول الوحي عليه في تأكيد البيان العقلي واللفظي والجواب لا نسلم أن صيغة ما مختصة بغير العقلاء والدليل عليه وجوه أحدها قوله تعالى وما خلق الذكر والأنثى والسماء وما بناها ولا أنتم عابدون ما أعبد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 وثانيها اتفاق أهل اللغة على ورود ما بمعنى الذي وكلمة الذي متناولة للعقلاء فكلمة ما أيضا كذلك وثالثها أن ابن الزبعري كان من الفصحاء فلولا أن كلمة ما تتناول المسيح والملائكة وإلا لما أورده نقضا على الآية ورابعها أن الرسول ص لم يرد عليه ذلك بل سكت وتوقف إلى نزول الوحي ولو كان ذلك خطأ في اللغة لما سكت الرسول ص عن تخطئته وخامسها أنه يقال ما في ملكي فهو صدقة وما في بطن جاريتي فهو حر وهو يتناول الإنسان وسادسها اأنها لو كانت مختصة بغير من يعلم لما كان لقوله تعالى من دون الله فائدة لأنه إنما يحتاج إلى الاحتراز حيث يصلح الاندراج قوله الخطاب كان مع العرب وهم ما كانوا يعبدون الملائكة والمسيح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 قلنا الرواية المشهورة أنه قد كان من العرب من يعبد الملائكة والمسيح وقد ذكر الواحدي وغيره ذلك في سبب نزول هذه الآية ولأن هذه الآية لو كانت خطابا مع عبدة الأوثان فقط لما جاز توقف النبي ص عن تخطئة السائل قوله كل أحد يعلم أن تعذيب الرجل بجرم الغير لا يجوز قلت نعم لكن ألا يصح دخول الشبهة في أأولئك المعبودين كانوا راضين بذلك أم لا وعند ذلك يصح السؤال قوله هذه الرواية من باب الآحاد قلنا لا نسلم فإن المفسرين اتفقوا على ذكرها في سبب نزول هذه الآية وذلك يدل على الإجماع سلمنا أنه من الآحاد لكنا بينا أن التمسك بالأدلة اللفظية أينما كان لا يفيد إلا الظن ورواية الآحاد صالحة لذلك والله أعلم وأما المعقول فمن وجهين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 أحدهما وهو أن نقول لأبي علي وأبي هاشم لو لم يجز تأخير بيان التخصيص في الأعيان لما جاز تأخير بيان التخصيص في الأزمان لكن جاز هذا فجاز ذلك بيان الملازمة أنه لو لم يجز تأخير بيان المخصص في الأعيان لكان ذلك لأن تأخيره يوهم العموم وهو جهل وهذا المعنى قائم في تأخير المخصص في الآزمان فعدم الجواز هناك يقتضي عدم الجواز ها هنا فإن قيل الفرق من وجهين الأول أن الخطاب المطلق معلوم أن حكمه مرتفع لعلمنا بانقطاع سبب التكليف وليس كذلك المخصوص وثانيهما أن احتمال النسخ في المستقبل لا يمنع المكلف في الحال من العمل أما أن احتمال التخصيص في الحال يمنعه من العمل لأنه لا يدرى أنه هل هو مندرج تحت الخطاب أم لا والجواب عن الأول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 أن الله تعالى لو قال لنا صلوكل يوم جمعة لاقتضى ظاهره الدوام فإذا خرج منه ما بعد الموت للدلالة بقي الباقي على ظاهره فإن جاز أن يكون حكم الخطاب مرتفعا مع الحياة والتمكن ولا يدل البتة على ذلك وإن كان ظاهر الخطاب يتناوله جاز مثله في العموم وعن الثاني أن الفرق الذي ذكرتموه إنما يظهر لو أخر الله تعالى البيان عن وقت الحاجة أما إذا أخره عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة لم يجب على المكلف الاستغال لأن بالفعفلا حاجة في ذلك الوقت إلى تمييز المكلف به غن غيره كما لا حاجة هناك إلى تمييز وقت التكليف عن غيره الدليل الثاني أجمعنا على أنه يجوز أن يأمر الله تعالى المكلفين بالأفعال مع أن كل واحد منهم يجوز أن يموت قبل وقت الفعل فلا يكون مرادا بالخطاب وفي ذلك تشكيك فيمن أريد بالخطاب وهذا هو تخصيص ولم يتقدم بيانه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 واحتج أبو الحسين رحمه الله على المنع من تأخير بيان ماله ظاهر اذا استعمل في غيره بوجهين الأول أن العموم خطاب لنا في الحال بالإجماع والمخاطب إما أن لا يقصد إفهامنا في الحال أو يقصد ذلك والأول باطل لوجوه أحدها إنه إن لم يقصد إفهامنا انتقض كونه مخاطبا لأن المعقول من قولنا إنه مخاطب لنا أنه قد وجه الخطاب نحونا ولا معنى لذلك إلا أنه قصد إفهامنا وثانيها أنه لو لم يقصد إفهامنا في الحال مع أن ظاهره يقتضي كونه خطابا لنا في الحال لكان قد أغرانا بأن نعتقد أنه قد قصد إفهامنا في الحال فيكون قد قصد أن نجهل لأن من خاطب قوما بلغتهم فقد أغراهم بأن يعتقدوا فيه أنه قد عنى ما عنوه وثالثها أنه لو لم يقصد إفهامنا لكان عبثا لأن الفائدة في الخطاب إفهام المخاطب ورابعها أنه لو جاز أن لا يقصد إفهامنا بالخطاب جازت مخاطبة العربي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 بالزنجية وهو لا يحسنها إذا كان غير واجب إفهام المخاطبين بل ذلك أولى بالجواز لأن الزنجية ليس لها ظاهر عند وقد العربي يدعوه إلى اعتقاد معناه ولو جازت مخاطبة العربي بالزنجية وبين له بعد مدة جازت مخاطبة النائم وبين له بعد مدة ان يقصد الإنسان بالتصويت والتصفيق شيئا يبينه بعد مدة فإن قلت خطا ب الزنج لا يفهم منه العربي شيئا فلم يجز أن يخاطبوا به وليس كذلك خطاب العربي بالمجمل لأن العربي يفهم منه شيئا ما لأن قول الله تعالى وأقيموا الصلاة قد فهم منه الأمر بشئ وإن لم يعرف ما هو قلت فإن جاز أن يكون اسم الصلاة واقعا على الدعاء ويريد الله به غيره ولا يبين لنا جاز أن يكون ظاهر قوله تعالى أقيموا للأمر ولا يستعمله في الأمر ولا يبين لنا ذلك وفي ذلك مساواته لخطاب الزنج لأنا لا نفهم منه شيئا أصلا وأما القسم الثاني وهو أنه أراد إفهامنا في الحال فلا يخلو إما أن يريد أن يفهم أن مراده ظاهره أو غير ظاهره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 فإن أراد الآول فقد أراد منا الجهل وإن أراد الثاني فقد أراد منا مالا سبيل إليه ثم قال أبو الحسين وهذه الدلالة تتناول العام المستعمل في الخصوص والمطلق المفيد للتكرار المنسوخ والأسماء والنقولة إلى الشريعة والنكرة إذا أريد بها شئ معين لأن الكل مستعمل في خلاف ظاهره الثاني لو جاز أن يريد بالعموم الخصوص ولا يبين لنا ذلك في الحال ولا يشعرنا بأنه بخلافه لم يكن لنا طريق إلى معرفة وقت الفعل الذي يقف وجوب البيان عليه لأنه لو قيل لنا صلوا غدا جوزنا أن يكون المراد بقوله غدا بعد غد وما بعده أبدا لأن كل ذلك يسمى غدا مجازا ولا يبينه لنافلا يقف وجوب البيان على غاية وفيه تعذر علمنا بالمراد بالخطاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 فإن قلت إذا بين في غد صفة العبادة ثم قال افعلوها الآن علمنا أنه يجب فعلها في ذلك الوقت قلت لا يصح لكم ذلك لأنه يجوز أن يكون عنى بقوله الآن وقتا متراخيا حتى على طريق المجاز ولا يبينه لنا في الحال كما جاز مثله في سائر الألفاظ والجواب عن الآول من حيث المعارضة ومن حيث الجواب اما المعارضة فمن ثلاثة أوجه أحدها أن العموم خطاب لنا في الحال مع إنه لا يجوز اعتقاد استغراقه عند سماعه بل لا بد من أن نفتش الأدلة السمعية والعقلية فننظر هل فيها ما يخصه أم لا فإن لو يوجد فيها ما يخصه + قضى بعمومه وفي زمان التوقف الخطاب بالعموم قائم مقامه مع إنه لا يجوز اعتقاد ظاهره فانتقض قولكم أجاب أبو الحسين رحمه الله عنه بأن من لم يجوز أن يسمع الكلف العام دون الخاص لا يلزمه هذا السؤال ومن جوز ذلك فله أن يجيب عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 السؤال بأن ما يعلمه المكلف من كثرة الأدلة والسنن يجوز معه أن يكون فيها ما يدل على أن المراد بالخطاب غير ظاهره فيصير ذلك كالإشعار بالتخصيص والجواب أما أنه لا يجوز أن يسمع المكلف العام دون الخاص فهذا المذهب باطل عندك وتخريج النقض بالمذهب الباطل باطل وأما قوله علمه بكثرة السنن كالإشعار بالتخصيص قلنا فإذا جوزت أن يكون تجويزه لقيام المخصص في الحال مانعا له من اعتقاد الاستغراق في الحال فلم لا يجوز أن يكون تجويزه لحدوث المخصص في ثاني الحال مانعا له من اعتقاد الاستغراق في الحال فهذا أول المسألة وثانيها أجمعنا على أنه يجوز تأخير بيان المخصص بزمان قصير وأن تعطف جملة من الكلام على جملة أخرى ثم تبين الجملة الأولى عقيب الثانية وأن يبين المخصص بالكلام الطويل وهذه الصور الثلاثة نقض على ما ذكره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 فإن قلت أنا لا نجوز تأخير البيان إلا مقدار ما لا ينقطع عن السامع توقع شرط يرد على الكلام وإنما نجوز البيان بالطويل من القول أو الفعل إذا لم يتم البيان إلا بهما وإذا لم يتم إلا كذلك لم يكن فيه تأخير البيان قلت إن ظاهر لفظ العموم يفيد الاستغراق فحال ما سمع ذلك اللفظ يتوجه عليه التقسيم الذي ذكره أبو الحسين من أنه إما أن يكون غرض المخاطب به الإفهام أو لا يكون غرضه الإفهام والثاني باطل فتعين الأول فإما أن يكون غرضه إفهام ما أشعر به الظاهر فيكون مريدا للجهل أو غيره فيكون طالبا ما لا سبيل إليه فإن قلت تجويز السامع أن يأتي المتكلم بعد ذلك الكلام بشرط أو استثناء يمنعه من حمل هذا اللفظ على ظاهره قلت فلم لا يجوز أن يقال في مسألتنا تجويز السامع أن يأتي المتكلم حال إلزام التكليف بدليل مخصص يمنعه من حمل اللفظ على ظاهره وهذا أول المسألة وثالثها أنا نجوز أن يأمر الله تعالى المكلفين بالأفعال مع أن كل واحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 منهم يجوز أن يموت قبل وقت الفعل فلا يكون مرادا بالخطاب وفي ذلك شككنا فيمن أريد بالخطاب وهذا تخصيص لم يتقدم بيانه البتة ورابعها أن غير أبي الحسين من المعتزلة اتفقوا على جواز تأخير بيان النسخ إجمالا وتفصيلا وحينئذ ينتقض دليلهم به لأن اللفظ إذا أفاد الدوام مع أن الدوام غير مراد فإن أراد ظاهره فقد أراد الجهل وإن أراد غير ظاهره فقد أراد ما لاسبيل إليه وما يذكرونه من الفرق فقد ذكرناه وأجبنا عنه وأما من حيث الجواب فمن وجهين الأول أن نقول ما المراد من قولك المخاطب إما أن يكون غرضه إفهامنا أو لا يكون غرضه ذلك إن عنيت بالإفهام إفادة القطع واليقين فليس غرضه ذلك بل غرضه منه الإفهام بمعنى إفادة الاعتقاد الراجح والظن الغالب الغالب مع تجويز نقيضه فلم قلت إنه على هذا التقدير يكون عابثا ويكون مغريا بالجهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 وبهذا الجواب يظهر الفرق بين ما إذا كان الغرض ذلك وبين خطاب العربي بالزنجية لأن هناك لا يمكن أن يكون الغرض إفادة الاعتقاد الراجح فإنه لا يفهم منه شيئا وإن عنيت به أن غرضه إفادة الاعتقاد الراجح كيف كان أعني القدر المشترك بين الاعتقاد الراجح المانع من النقيض وبين الاعتقاد الراجح المجوز للنقيض فهذا مسلم ولكن هذا القدر لا يمنع من ورود المخصص لأنه لو امتنع لكان ذلك الاعتقاد مانعا من النقيض مع أنا فرضناه غير مانع منه ثم الذي يدل على أن الغرض من الخطاب إفادة أصل الاعتقاد الراجح لاإفادة تعالى الاعتقاد الراجح المانع من النقيض هو أن دلالة الأدلة اللفظية تتوقف على كون النحو واللغة والتصريف منقولا بالتواتر على عدم الاشتراك والمجاز والتخصيص والنسخ والإضمار والنقل والتقديم والتأخير وعدم المعارض العقلي والنقلي وكل هذه المقدمات طني وما يتوقف على الظني أولى أن يكون ظنيا فثبت أن الدلائل اللفظية لا تفيد إلا الاعتقاد الراجح وهذا القدر لا ينافيه احتمال ورود المخصص بعده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 ومما يحقق ذلك أن الغيم الرطب في الشتاء يفيد ظن نزول المطر ثم قد لا يوجد في بعض الأوقات ثم لا يكون هذ العدم قادحا في ذلك الظن وإلا لتوقف تحقق ذلك الظن على انتفاء هذا العدم فحينئذ يكون ذلك الظن قطعا لا ظنا هذا خلف فكذا ها هنا اللفظ العام لا يفيد إلا ظن الاستغراق وهذا القدر لا يمنع من حدوث المخصص والله أعلم الوجه الثاني في الجواب أن اللفظ العام إن وجد مع المخصص دل المجموع الحاصل منه ومن ذلك المخصص على الخاص وإن وجد خاليا عن المخصص دل هو مع عدم المخصص على الاستغراق وذلك متردد بين هاتين الحالتين على السواء فهو بالنسبة إلى هاتين الحالتين كاللفظ المشترك بالنسبة إلى مفهوماته والمتواطئ بالنسبة إلى جزئياته فكما أنه يجوز عند أبي الحسين ورود اللفظ المشترك والمتواطئ خاليا عن البيان لأنه يفيد أن المراد أحد تلك المسميات فكذا ها هنا اللفظ العام قبل العلم بأنه وجد معه المخصص أو عدم نعلم أن المراد إما العموم أو الخصوص ونعلم أن هذا اللفظ إن وجد معه المخصص أفاد الخاص وإن وجد معه عدم المخصص أفاد العام فلا فرق بينه وبين المشترك فكما جاز تأخير البيان هناك جاز ها هنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 فإن قلت هذا عود إلى القول بأن هذه الصيغة مشتركة بين العموم والخصوص ونحن الآن في التفريغ على أنها للعموم فقط قلت لا نسلم أن هذا عود إلى القول بالاشتراك وذلك ل أنا نسلم أنها وحدها موضوعة للاستغراق وبهذا الكلام انفصلنا عن القائلين بالاشتراك لكنا نقول لا نزاع في حسن ورود المخصص ولا نزاع في أنه عند ورود المخصص لا يفيد إلا الخاص فإذا شككنا في وجود المخصص وعدمه لزمنا أن نشك في أنه هل يفيد الاستغراق أم لا لأن الشك في الشرط شك في المشروط فأين هذا القول من مذهب القائلين بالاشتراك والجواب عن الثاني أن اللفظ وإن كان محتملا إ أنه قد يوجد من القرائن ما يفيد القطع بأن المراد من اللفظ ظاهره وعلى هذا التقدير يزول السؤال فإن لم يوجد شئ من هذه القرائن وحضر الوقت الذي دل ظاهر الصيغة على أنه وقت العمل وجب عليه العمل لأن الظن قائم مقام العلم في اقتضاء وجوب العمل في الحال ولكنه لا يقوم مقامه فيما لا يتعلق به العمل فظن كون اللفظ دالا على وجوب العمل في الحال يكفي في القطع بوجوب العمل في الحال ولكن ظن عدم المخصص لا يكفي في القطع بعدم المخصص فظهر الفرق والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 المسألة الثالثة وأما الخطاب الذي لا ظاهر له وهو الاسم المشترك كالقرء بين الطهر والحيض فإن له ظاهرا من وجه دون وجه أما الوجه الذي يكن ظاهرا فيه فهو أنه يفيد أن المتكلم لم يرد شيئا غير الطهر وغير الحيض وأنه أراد إما هذا وإما هذا فمن فإن هذا الوجه لا يحتاج إلى بيان وأما الوجه الذي يكون غير ظاهر فهو أنه لا يفيد أي الأمرين إرادة المتكلم الطهر أو الحيض ولا يجب أن يقترن به بيان في الحال والدليل عليه أن الاسم المشترك يفيد أن المراد إما هذا وإما هذا من غير تعيين وهذا القدر يصلح أن يراد تعريفه لأن الإنسان قد يقول لغيره لي إليك حاجة مهمة أوصيك بها ولا يكون غرضه في الحال إلا الإعلام بهذه الجملة وقد يقول رأيت رجلا في موضع كذا وهو يكره وقوف السامع على عينه أو يكره وقوفه عليه من جهته ولهذا وضع في اللغة ألفاظ مهمة كما وضعت ألفاظ لمعان معينة قال الله تعالى ورسلا لم نقصصهم عليك فيضاعفه له أضعافا كثيرة وأيضا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 فقد يحسن من الملك أن يدعو بعض عماله فيقول له قد وليتك البلد الفلاني فاخرج إليه في غد وأنا أكتب إليك بتفصيل ما تعمله ويحسن من أحدنا أن يقول لغلامه أنا آمرك أن تخرج إلى السوق يوم الجمعة وتبتاع ما أبينه لك يوم الجمعة ويكون القصد بذلك التأهب لقضاء الحاجة والعزم عليها وهذا هو نظير ما اخترناه من تأخير بيان المجمل وإذا كان كذلك ثبت أنه يجوز إطلاق اللفظ المشترك من غير بيان التعيين فإن قلت الغرض من التكليف هو الفعل والعلم والاعتقاد تابعان وهذا الإبهام يخل بالتمكين من الفعل قلت الغرض من التكليف قبل الوقت هو العلم لا الفعل ف أما في وقت الحاجة فالغرض هو الفعل وهناك يجب البيان احتجوا بأنه لو حسنت المخاطبة بالاسم المشترك من غير بيان في الحال لحسنت مخاطبة العربي بالزنجية مع القدرة عل مخاطبته بالعربية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 ولا يبين له في الحال والجامع أن السامع لا يعرف مراد المتكملم عمر بهما على حقيقته فإن قلت الفرق أن العربي لا يفهم من الزنجية شيئا وها هنا يفهم أن المراد أحد معنيي الاسم قلت إما أن تعتبروا في حسن الخطاب حصول العلم بكمال المراد أو تكتفوا بمعرفة المراد من بعض الوجوه والأول يقتضي امتناع تأخير بيان المجمل والثاني يوجب حسن مخاطبة العربي بالزنجية لأن العربي إذ عرف لغة الزنجي المخاطب له علم أنه قد أراد بخطابه شيئا ما إما الأمر وإما النهي وإما غيرهما والجواب أن المعتبر في حسن الخطاب أن يتمكن السامع من أن يعرف به ما أفاده الخطاب وهذا التمكن حاصل في الاسم المشترك لأنه موضوع لأحد هذين المعنيين والراجع فهم ذلك منه بخلاف العربي فإنه لا يتمكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 من أن يعرف ما وضع له خطاب الزنج فوضح الفرق والله أعلم المسألة الرابعة يجوز أن يؤخر الرسول عليه السلام تبليغ ما يوحى إليه إلى وقت الحاجة وقال قوم يجب تقديمه عليه لنا أن في المشاهد قد يكون تقديم الإعلام على حضور وقت العمل قبيحا وقد يكون ترك التقديم قبيحا وقد يكون بحيث يجوز الأمران وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يعلم الله تعالى اختلاف مصلحة المكلفين في تقديم الإعلام وفي تركه فيلزم ان لا يكون التقديم واجبا على الإطلاق احتجوا بقوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك والأمر للفور والجواب لا نسلم أنه للفور سلمناه لكن المراد بذلك هو القرآن لأنه هو الذي يطلق عليه القول بأنه منزل من الله تعالى والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 القسم الرابع في المبين له وفيه مسائل المسألة الأولى الخطاب المحتاج إلى البيان يجب بيانه لمن أراد الله إفهامه دون من لم يرد أن يفهمه أما الأول فلأنه لو لم يبينه له لكان قد كلفه ما لا سبيل له إلى العلم به وأما الثاني فلأنه لا تعلق له بذلك الخطاب فلا يجب بيانه له ثم الذين أراد الله منهم فهم خطابه ضربان أحدهما أراد منهم فعل ما تضمنه الخطاب إن كان ما تضمنه الخطاب فعلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 والآخر لم يرد منهم الفعل والأولون هم العلماء وقد أراد الله تعالى أن يفهموا مراده بآية الصلاة وأن يفعلوها والآخرون هم العلماء في أحكام الحيض فقد أريد منهم فهم الخطاب ولم يرد منهم فعل ما تضمنه الخطاب والذين لم يرد الله تعالى أن يفهموا مراده ولم يوجب ذلك عليهم ضربان أحدهما لم يرد منهم أن يفعلوا ما تضمنه الخطاب والآخر أراد منهم الفعل والأولون هم أمتنا مع الكتب السالفة لأن الله تعال ما أراد أن يفهموا مراده بها ولا أن يفعلوا مقتضاها والآخر هو النساء في أحكام الحيض لأن الله تعالى أراد منهن التزام أحكام الحيض بشرط أن يفتيهن المفتي ولم يوجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 عليهن فهم المراد بالخطاب لأنه لم يوجب عليهن سماع أخبار الحيض فضلا عن بيان مجملها وتخصيص عامها المسألة الثانية يجوز من الله تعالى إن يسمع المكلف العام من غير أن يسمعه ما يخصصه وهو قول النظام وأبي هاشم والفقهاء وقال أبو الهذيل والجبائي لا يجوز ذلك في العام المخصوص بدليل السمع وإن جاز أن يسمعه المخصوص بأدلة العقل وأن لم يعلم السامع أن في العقل ما يدل على تخصيصه لنا ثلاثة أوجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 الأول أن ذلك قد وقع كثيرا لأن كثيرا من الصحابة سمعوا قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم مع أنهم لم يسمعوا قوله ص نحن معاشر الأنبياء لا نورث وسمعوا قوله تعالى اقتلوا المشركين مع أنهم لم يسمعوا قوله ص سنوا بهم سنة أهل الكتاب إلى زمان عمر رضي الله عنه الثاني أجمعنا على جواز خطابه بالعام المخصوص بالعقل من غير أن يخطر بباله ذلك المخصص فوجب أن يجوز خطابه بالعام المخصوص بالسمع من غير أن يسمعه ذلك المخصص والجامع كونه في الصورتين متمكنا من معرفة المراد الثالث أن الواحد منا كثيرا ما يسمع الألفاظ العامة المخصوصة قبل مخصصاتها النبي وإنكاره مكابرة في الضروريات احتجوا بأمور أحدها أن إسماع العام دون إسماع المخصص إغراء بالجهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 وثانيها أن العام لا يدل على مراد المخاطب بإسماعه وحدة كخطاب العربي بالزنجية وثالثها أن دلالة العام مشروطة بعدم المخصص فلو جاز سماع العام دون سماع المخصص لما جاز الاستدلال بشئ من العمومات إلا بعد الطواف في الدنيا وسؤال كل علماء الوقت أنه هل وجد له مخصص وذلك يفضي إلى سقوط العمومات والجواب عن الأول أن الإغراء غير حاصل لما قدمنا من أنه يفيد ظن العموم لا القطع به وبه خرج الجواب عن الثاني وعن الثالث أن كون اللفظ حقيقة في الاستغراق مجازا في غيره يفيد ظن الاستغراق والظن حجة في العمليات والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 الكلام في الأفعال وفيه مسائل المسألة الاولى اختلفت الأمة في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على قولين أحدهما قول من ذهب إلى إنه لا يجوز أن يقع منهم ذنب صغيرا كان أو كبيرا لا عمدا ولا سهوا ولا من جهة التأويل وهو قول الشيعة والآخر قول من ذهب إلى جوازه عليهم ثم اختلفوا فيما يجوز من ذلك وما لا يجوز والاختلاف في هذا الباب يرجع إلى أقسام أربعة أحدها ما يقع في باب الاعتقاد وقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يقع منهم الكفر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 وقالت الفضيلية من الخوارج إنه قد وقعت منهم ذنوب وكل ذنب عندهم كفر وشرك وأجازت الشيعة إظهار الكفر على سبيل التقية فأما الاعتقاد الخطأ الذي لا يبلغ الكفر مثل أن يعتقد مثلا أن الأعراض باقية ولا يكون كذلك فمنهم من أباه لكونه منفرا ومنهم من جوزه وثانيها باب التبليغ واتفقوا على إنه لا يجوز عليهم التغيير وإلا لزال الوثوق بقولهم وقال قوم يجوز ذلك من جهة السهو وثالثها ما يتعلق بالفتوى واتفقوا أيضا على أنه لا يجوز عليهم الخطأ فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 وجوزه قوم على سبيل السهو ورابعها ما يتعلق بأفعالهم واختلفت الأمة فيه على أربعة أقوال أحدها قول من جوز عليهم الكبائر عمدا وهؤلاء منهم من قال بوقوع هذا الجائز وهم الحشوية وقال القاضي أبو بكر هذا وإن جاز عقلا ولكن السمع منع من وقوعه وثانيها أنه لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة ولا صغيرة عمدا لكن يجوز أن يأتوا بها على جهة التأويل وهو قول الجبائي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 وثالثها أنه لا يجوز ذلك لا عمدا ولا من جهة التأويل لكن على سبيل السهو وهم مؤاخذون بما يقع منهم على هذه الجهة وإن كان موضوعا عن أمتهم لأن معرفتهم أقوى فيقدرون على التحفظ عما لا يتأتى لغيرهم ورابعها إنه لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة وأنه قد وقعت منهم صغائر على جهة العمد والخطأ والتأويل إلا ما ينفر كالكذب وإن والتطفيف وهو قول أكثر المعتزلة والذي نقول به أنه لم يقع منهم ذنب على سبيل القصد لا صغيرا ولا كبيرا أما السهو فقد يقع منهم لكن بشرط أن يتذكروه في الحال وينبهوا غيرهم على أن ذلك كان سهوا وقد سيقت هذه المسألة في علم الكلام ومن أراد الاستقصاء فعليه بكتابنا في عصمة الأنبياء والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 المسألة الثانية اختلفوا في أن فعل الرسول ص بمجرده هل يدل على حكم في حقنا أم لا على أربعة أقوال أحدها أنه للوجوب وهو قول ابن سريج وأبي سعيد الاصطخري وأبي علي بن خيران الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 وثانيها أنه للندب ونسب ذلك إلى الشافعي رضي الله عنه وثالثها أنه للإباحة وهو قول مالك رحمه الله ورابعها يتوقف في الكل وهو قول الصيرفي وأكثر المعتزلة وهو المختار لنا أنا إن جوزنا الذنب عليه جوزنا في ذلك الفعل أن يكون ذنبا له ولنا وحينئذ لا يجوز لنا فعله وإن لم نجوز الذنب عليه جوزنا كونه مباحا ومندوبا وواجبا وبتقدير أن يكون واجبا جوزنا أن يكون ذلك من خواصه وأن لا يكون ومع احتمال هذه الأقسام امتنع الجزم بواحد منها واحتج القائلون بالوجوب بالقرآن والإجماع والمعقول أما القرآن فسبع آيات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 إحداها قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره والأمر حقيقة في الفعل على ما تقدم بيانه والتحذير عن مخالفة فعله يقتضي وجوب موافقة فعله وثانيتها قوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وهذا مجراه مجرى الوعيد فيمن ترك التأسي به ولا معنى للتأسي به إلا أن يفعل الإنسان مثل فعله وثالثتها قوله تعالى واتبعوه وظاهر الأمر للوجوب والمتابعة هي الإتيان بمثل فعله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 ورابعتها قوله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني دلت الآية على أن محبة الله مستلزمة للمتابعة لكن المحبة واجبة بالإجماع ولازم الواجب واجب فمتابعته واجبة وخامستها قوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه فإذا فعل فقد آتانا بالفعل فوجب علينا أن نأخذه وسادستها قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول دلت الآية بإطلاقها على وجوب طاعة الرسول والآتي بمثل فعل الغير أجل أن ذلك الغير فعله طائع لذلك الغير فوجب أن يكون ذلك واجبا وسابعتها أن قوله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها بين أنه تعالى إنما زوجه بها ليكون حكم أمته مساويا لحكمه في ذلك وهذا هو المطلوب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 وأما الإجماع فلأن الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين فقالت عائشة رضي الله عنها فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا فرجعوا إلى ذلك وإجماعهم على الرجوع حجة وهو المطلوب وإنما كان لفعل رسول الله ص فقد أجمعوا ها هنا على أن مجرد الفعل للوجوب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 ولأنهم واصلوا الصيام لما واصل وخلعوا نعالهم في الصلاة لما خلع وأمرهم عام الحديبية بالتحلل بالحلق فتوقفوا فشكا إلى أم سلمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 فقالت أخرج إليهم واحلق واذبح ففعل فذبحوا وحلقوا متسارعين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 ولأنه خلع خاتمه فخلعوا ولأن عمر رضي الله عنه كان يقبل الحجر الأسود ويقول إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله ص يقبلك لما قبلتك وأنه عليه الصلاة والسلام قال في جواب مسأل أم سلمة عن قبلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 الصائم ألا أخبرته كما أنني أقبل وأنا صائم وأما المعقول فمن وجهين الأول أن الاحتياط يقتضي حمل الشئ على أعظم مراتبه وأعظم مراتب فعل الرسول ص أن يكون واجبا عليه وعلى أمته فوجب حمله عليه بيان الأول أن الاحتياط يتضمن دفع ضرر الخوف عن النفس بالكلية ودفع الضرر عن النفس واجب بيان الثاني أن أعظم مراتب الفعل أن يكون واجبا على الكل الثاني أنه لا نزاع في وجوب تعظيم الرسول ص في الجملة وإيجاب الإتيان بمثل فعله تعظيم له بدليل العرف والتعظيمان هو يشتركان في قدر من المناسبة فيجمع بينهما بالقدر المشترك فيكون ورود الشرع بإيجاب ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 التعظيم يقتضي وروده بأن يجب على الأمة الإتيان بمثل فعله والجواب عن الأول لا نسلم أن لفظ الأمر حقيقة في الفعل على ما تقدم سلمناه لكنه بالإجماع أيضا حقيقة في القول فليس حمله على ذلك بأولى من حمله على هذا سلمناه لكن ها هنا ما يمنع من حمله على الفعل وهو من وجهين الأول أن تقدم ذكر الدعاء وذكر المخالفة يمنع منه فإن الإنسان إذا قال لعبده لا تجعدعائي كدعاء غيري واحذر مخالفة أمري فهم منه أنه أراد بالأمر القول الثاني وهو أنه قد أريد به القول بالإجماع فلا يجوز حمله على الفعل لأن اللفظ المشترك لا يجوز حمله على معنييه سلمناه لكن الهاء راجعة إلى الله تعالى لأنه أقرب المذكورين فإن قلت القصد هو الحث على اتباع الرسول ص لأنه تعالى قال لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا فحث بذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 على الرجوع إلى أقواله وأفعاله ثم عقب ذلك بقوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره فعلمنا أنه بعث بذلك على التزام ما كان دعا إليه من الرجوع إلى أمر النبي عليه الصلاة والسلام وأيضا فلم لا يجوز الحكم بصرف الكناية إلى الله تعالى والرسول ص قلت الجواب عن الأول أن صرف هذا الضمير إلى الله تعالى مؤكد لهذا الغرض أيضا لأنه لما حث على الرجوع إلى أقوال الرسول وأفعاله ثم حذر عن مخالفة أمر الله تعالى كان ذلك تأكيدا لما هو المقصود من متابعة الرسول ص وعن الثاني أن الهاء كناية عن واحد فلا يجوز عوده إلى الله تعالى والى الرسول معا سلمنا عود الضمير إلى الرسول فلم قلت إن عدم الإتيان بمثل فعله مخالفة لفعله فإن قلت يدل عليه أمران الأول أن المخالفة ضد الموافقة لكن موافقة فعل الغير هو أن تفعل مثل فعله فمخالفته هو أن لا تفعل مثل فعله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 الثاني وهو أن المعقول من المختلفين هما اللذان لا يقوم أحدهما مقام الآخر والعدم والوجود لا يقوم أحدهما مقام الآخر بوجه أصلا فكانا في غاية المخالفة فثبت إن عدم الإتيان بمثل فعله مخالف للإتيان بمثل فعله من كل الوجوه قلت هب أنها في أصل الوضع كذلك لكنها في عرف الشرع ليست كذلك ولهذا لا يسمى إخلال الحائض بالصلاة مخالفة للمسلمين بل هي عبارة عن عدم الإتيان بمثل فعله إذا كان الإتيان به واجبا وعلى هذا لا يسمى ترك مثل فعل النبي ص مخالفة إلا إذا دل فعله على الوجوب فإذا أثبتنا ذلك بهذا الدليل لزم الدور وهو محال والواجب عن الثاني لم قلت إن الإتيان بمثل فعل الغير مطلقا يكون تأسيا به بل عندنا كما يشترط في التأسي المساواة في الصورة يشترط فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 المساواة في الكيفية حتى أنه لو صام واجبا فتطوعنا بالصوم لم نكن متأسين به وعلى هذا لا يكون مطلق فعل الرسول عليه الصلاة والسلام سببا للوجوب في حقنا لأن فعله قدلا يكون واجبا فيكون فعلنا إياه على سبيل الوجوب قادحا في التأسي وتمام الأسئلة سيأتي في المسألة الآتية إن شاء الله تعالى والجواب عن الثالث أن قوله واتبعوه إما أن لا يفيد العموم أو يفيده فإن كان الأول سقط التمسك به وإن كان الثاني فبتقدير أن يكون ذلك الفعل واجبا عليه وعلينا وجب أن نعتقد فيه أيضا هذا الاعتقاد والحكم بالوجوب يناقضه فوجب أن لا يتحقق وهذا هو الجواب وسلم عن التمسك بقوله تعالى فاتبعوني والجواب عن الخامس لا نسلم أن قوله تعالى ما آتاكم الرسول فخذوه يتناول الفعل ويدل عليه وجهان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 الأول أن قوله تعالى وما نهاكم عنه فانتهوا يدل على أنه عنى بقوله ما آتاكم ما أمركم الثاني أن الإتيان إنما يتأتى في القول لأنا نحفظه وبامتثاله إن يصير كأننا أخذناه فيصير كأنه ص أعطاناه والجواب عن السادس أن الطاعة هي الإتيان بالمأمور أو بالمراد على اختلاف المذهبين فلم قلت إن مجرد فعل الرسول ص يدل على أنا أمرنا بمثله أو أريد منا مثله وهذا هو أول المسألة والجواب عن الإجماع من وجوه الأول أن هذه أخبار آحاد فلا تفيد العلم ولهم أن يقولوا هب أنها تفيد الظن لكن لما حصل ظن كونه دليلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 ترتب عليه ظن ثبوت الحكم فيكون العمل به دافعا لضرر مظنون فيكون واجبا وتقرير هذه الطريقة سيجئ إن شاء الله تعالى في مسألة القياس الثاني أن أكثر هذه الأخبار واردة في الصلاة والحج فلعله ص كان قد بين لهم أن شرعه وشرعهم سواء في هذه الأمور قال ص صلوا كما رأيتموني أصلي وعليه خرج مسألة التقاء الختانين وقال خذوا عني مناسككم وعليه خرج تقبيل عمر للحجر الأسود وقال هذا وضوئي ووضوء الآنبياء من قبلي وأما الوصال فإنهم ظنوا لما أمرهم بالصوم واشتغل معهم به أنه قصد بفعله بيان الواجب ففعلوا فرد عليهم ظنهم وأنكر عليهم الموافقة وأما خلع النعل فلا نعلم أنهم فعلوا ذلك واجبا وأيضا لا يمتنع أن يكونوا لما رأوه قد خلع نعله مع تقدم قوله تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 خذوا زينتكم عند كل مسجد ظنوا أن خلعها مأمور به غير مباح لأنه لو كان مباحا لما ترك به المسنون في الصلاة على أنه ص قال لهم لم خلعتم نعالكم فقالوا لأنك خلعت نعلك فقال إن جبريل أخبرني أن فيها أذى فبين بهذا أنه ينبغي أن يعرفوا الوجه الذي أوقع عليه فعله ثم يتبعونه وأما خلع الخاتم فهو مباح فلما خلع أحبوا موافقته لاعتقادهم وجوب ذلك عليهم والجواب عن الوجه الأول من المعقول أن الاحتياط إنما يصار إليه إذا خلا عن الضرر قطعا وها هنا ليس كذلك لاحتمال أن يكون ذلك الفعل حراما على الأمة وإذا احتمل الأمران لم يكن المصير إلى الوجوب احتياطا وعن الثاني إن ترك الإتيان بمثل ما يأتي به الملك العظيم قد يكون تعظيما ولذلك يقبح من العبد أن يفعل كل ما يفعل سيده واحتج القائلون بالندب بالقرآن والإجماع والمعقول أما القرآن فقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ولو كان التأسي واجبا لقال عليكم فلما قال لكم دل على عدم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 الوجوب ولما أثبت الأسوة الحسنة دل على رجحان جانب الفعل على جانب الترك فلم يكن مباحا وأما الإجماع فهو أنا رأينا أهل الأعصار متطابقين على الاقتداء في الأفعال بالنبي ص وذلك يدل على انعقا الإجماع على أنه يفيد الندب وأما المعقول فهو إن فعله عليه الصلاة والسلام إما أن يكون راجح العدم أو مساوى العدم أو مرجوح العدم والأول باطل لما ثبت أنه لا يوجمنه الذنب والثاني باطل ظاهرا لأن الاشتغال به عبث والعبث مزجور عنه بقوله تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا فتعين الثالث وهو أن يكون مرجوح العدم ثم إنا لما تأملنا أفعاله وجدنا بعضها مندوبا وبعضها واجبا والقدر المشترك هو رجحان جانب الوجود وعدم الوجوب ثابت بمقتضى الأصل فأثبتنا الرجحان مع عدم الوجوب والجواب عن الأول ما تقدم أن التأسي في إيقاع الفعل على الوجه الذي أوقعه عليه فلوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 كان فعله واجبا أو مباحا وفعلناه مندوبا لما حصل التأسي وعن الثاني أنا لا نسلم أنهم استدلوا بمجرد الفعل فلعلهم وجدوا مع الفعل قرائن أخرى وعن الثالث لا نسلم أن فعل المباح عبث لأن العبث هو الخالي عن الغرض فإذا حصلت في المباح منفعة ما لم يكن عبثا بل من حيث حصول النفع به خرج عن العبث فلم قلتم بأنه خلا عن الغرض ثم حصول الغرض في التأسي بالنبي ص ومتابعته في أفعاله بين فلا يعد من أقسام العبث والله أعلم واحتج القائلون بالإباحة بأنه لما ثبت أنه لا يجوز صدور الذنب منه ثبت أن فعله لا بد أن يكون إما مباحا أو مندوبا أو واجبا وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في رفع الحرج عن الفعل فأما رجحان جانب الفعل فلم يثبت على وجوده دليل لأن الكلام فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 وثبت على عدمه لأن دليل هذا الرجحان كان معدوما والأصل في كل شئ بقاؤه على ما كان فثبت بهذأنه لا حرج في فعله قطعا ولا رجحان في فعله ظاهرا فهذا الدليل يقتضي في كل أفعاله أن يكون مباحا ترك العمل به في الأفعال التي علم كونها واجبة أو مندوبة فيبقى معمولا به في الباقي وإذا ثبت كونه مباحا ظاهرا وجب أن يكون في حقنا كذلك للآية الدالة على وجوب التأسي ترك العمل به فيما كان من خواصه فيبقى معمولا به في الباقي والجواب هب أنه في حقه كذلك فلم يجب أن يكون في حق غيره كذلك والله أعلم المسألة الثالثة قال جماهير الفقهاء والمعتزلة التأسي به واجب ومعناه أنا إذا علمنا أن الرسول ص فعل فعلا على وجه الوجوب فقد تعبدنا أن نفعله على وجه الوجوب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 وإن علمنا أنه تنفل به كنا متعبدين بالتنفل به وإن علمنا أنه فعله على وجه الإباحة كنا متعبدين باعتقاد إباحته لنا وجاز لنا أن نفعله وقال أبو علي بن خلاد من المعتزلة نحن متعبدون بالتأسي به في العبادات دون غيرها كالمناكحات إلا والمعاملات ومن الناس من أنكر ذلك في الكل واحتج أبو الحسين بالقرآن والإجماع أما القرآن فقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة والتأسي بالغير في أفعاله هو أن يفعل على الوجه الذي فعل ذلك الغير ولم يفرق الله تعالى بين أفعال الرسول ص إذا كانت مباحة أو لم تكن مباحة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 وقوله تعالى واتبعوه أمر بالاتباع فيجب وأما الإجماع فهو أن السلف رجعوا إلى أزواجه في قبلة الصائم وفي أن من أصبح جنبا لم يفسد صومه وفي تزوج النبي ص ميمونة وهو حرام وذلك يدل على أن أفعاله لا بد من أن يمتثل فيها طريقه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 ولقائل أن يقول على الدليل الأول الآية تقتضي التأسي به مرة واحدة كما أن قول القائل لغيره لك في الدار ثوب حسن يفيد ثوبا واحدا فإن قلت هذا إن ثبت تم غرضنا من التعبد بالتأسي به ص في الجملة وأيضا فالآية تفيد إطلاق كون النبي ص أسوة حسنة لنا ولا يطلق وصف الإنسان بأنه أسوة حسنة إذا لم يجز لزيد لزيد أن يتبعه إلا في فعل واحد وإنما يطلق ذلك إذا كان ذلك الإنسان قدوة لزيد يقتدي به في الأمور كلها إلا ما خصه الدليل قلت الجواب عن الأول أن أحدا لا ينازع في التأسي به ص في الجملة لأنه لما قال صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم فقد أجمعوا على وقوع التأسي به ها هنا والآية ما دلت إلا على المرة الواحدة فكان التأسي به ص في هذه الصورة كافيا في العمل بالآية لا سيما والآية إنما وردت على صيغة الاخبار عما مضى وذلك يكفي فيه وقوع التأسي به فيما مضى والجواب عن الثاني إنك إن أردت به أنه لا يصح إطلاق اسم الأسوة عليه إلا إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 كان أسوة في كل شئ فهذا فيه ممنوع ثم الذي يدل على فساده وجهان الأول أن من تعلم من إنسان نوعا واحدا من العلم يقال له إن لك في فلان أسوة حسنة الثاني وهو أن يقال لك في فلان أسوة حسنة في كل شئ ويقال لك من فلان أسوة حسنة في هذا الشدون ذاك ولو اقتضى اللفظ العموم لكان الأول تكريرا والثاني نقضا وإن أردت أن يصح إطلاق اسم الأسوة إذا كان أسوة في بعض الأشياء فهذا مسلم ولكنه ص عندنا أسوة لنا في أقواله وفي كثير من أفعاله التي أمرنا بالاقتداء به فيها كقوله ص صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم والجواب عن الحجة الثانية ان قوله تعالى واتبعوه مطلق في الاتباع فلا يفيد العموم في كل شئ من الاتباعات صلى والأمر لا يقتضي التكرار فلا يفيد العموم في كل الأزمنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 فإن قلت ترتيب الحكم على الاسم يشعر بأن المسمى علة لذلك الحكم فماهية المتابعة علة للأمر بها قلت فعلى هذا لو قال السيد لعبده اسقني يلزم أن يكون أمرا له بجميع أنواع السقي في كل الأزمنة ولو قال له قم يلزم أن يكون أمرا له بجميع أنواع القيام في كل الأزمنة وفي هذه الأمثلة كثرة وما ذكرناه كاف في إفساد ما قالوا والله أعلم وأما الإجماع فقد سبق الكلام عليه والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 القسم الثاني في التفريع على وجوب التأسي المسألة الأولى لما عرفت أن التأسي مطابقة فعل المتأسى وقال به على الوجه الذي وقع فعله عليه وجب معرفة الوجه الذي يقع عليه فعل الرسول ص وهو ثلاثة الإباحة والندب والوجوب أما الإباحة فتعرف بطرق أربعة أحدها أن ينص الرسول ص على أنه مباح وثانيها أن يقع امتثالا لآية دالة على الإباحة وثالثها أن يقع بيانا لآية دالة على الإباحة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 ورابعها أنه لما ثبت أنه لا يذنب ثبت أنه لا حرج عليه في ذلك الفعل ولا في تركه وانتفى الوجوب والندب بالبقاء على الأصل فحينئذ يعرف كونه مباحا وأما الندب أنه فيعرف بتلك الثلاثة الأول مع أربعة أخرى أحدها أن يعلم من قصده ص أنه قصد القربة بذلك الفعل فيعلم أنه راجح الوجود ثم نعرف انتقاء الوجوب وهو بحكم الاستصحاب فيثبت الندب وثانيها أن ينص على أنه كان مخيرا بين ما فعل وبين فعل ما ثبت أنه ندب لأن التخيير لا يقع بين الندب وبين ما ليس بندب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 وثالثها أن يقع قضاء لعبادة كانت مندوبة ورابعها أن يداوم على الفعل ثم يخل به من غير نسخ فتكون إدامته عليه الصلاة والسلام دليلا على كونه طاعة وإخلاله به من غير نسخ دليلا على عدم الوجوب وأما الوجوب فيعرف بتلك الثلاثة الأول مع خمسة أخرى أحدها الدلالة على أنه كان مخيرا بينه وبين فعل آخر قد ثبت وجوبه لأن التخيير لا يقع بين الواجب وبين مال ليس بواجب وثانيها أن يكون قضاء لعبادة قد ثبت وجوبها وثالثها أن يكون وقوعه مع أمارة قد تقرر في الشريعة أنها أمارة الوجوب كالصلاة بأذان وإقامة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 ورابعها أن يكون جزاء لشرط فوجب كفعل ما وجب بالنذر وخامسها أن يكولو لم يكن واجبا لم يجز كالجمع بين ركوعين في صلاة الكسوف المسألة الثانية في الفعل إذا عارضه معارض منه ص فهو إما أن يكون قولا أو فعلا أما القول فإما أن يعلم أن المتقدم هو القول أو الفعل أو لا يعلم واحد منهما أما القسم الأول وهو أن يكون المتقدم هو القول فالفعل المعارض له إما أن يحصل عقيبه أو متراخيا عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 فإن كان متعقبا فإما أن يكون القول متناولا له خاصة أو لأمته خاصة أوله ولهم معا لا يجوز أن يتناوله خاصة إلا على قول من يجوز نسخ الشئ قبل حضور وقته وإن تناول أمته خاصة وجب المصير إلى القول دون الفعل وإلا كان القول لغو ولا يلغو الفعل لأن حكمه ثابت في الرسول ص وإن كان الخطاب يعمه وإياهم دل فعله على أنه مخصوص من القول وأمته داخلة فيه لا محالة وأن كان الفعل متراخيا عن القول فإن كان القول عاما لنا وله صار مقتضاه منسوخا عنا وعنه وإن تناوله دونه كان نسخا عنا دونه لأن القول لم يتناوله وإن تناوله دوننا كان منسوخا عنه دوننا ثم يلزمنا مثل فعله لوجوب التأسي به القسم الثاني أن يكون المتقدم هو الفعل فالقول المعارض له إما أن يحصل عقيبه أو متراخيا عنه فإن كان متعقبا فإما أن يكون القول متناولا له خاصة أو لأمته خاصة أو عاما فيه وفيهم فإن كان متناولا له خاصة وقد كان الفعل المتقدم دالا على لزوم مثله لكل مكلف في المستقبل فيصير ذلك القول المختص به مخصصا له عن ذلك العموم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 وإن كان متناولا لأمته خاصة دل على أن حكم الفعل مختص به دون أمته وإن كان عاما فيه وفيهم دل على سقوط حكم الفعل عنه وعنهم وأما إن كان القول متراخيا عن الفعل فإن كان متناولا له ولأمته فيكون القول ناسخا لحكم الفعل عنه وعن أمته وإن كان يتناول أمته دونه فيكون منسوخا عنهم دونه وإن كان يتناوله دون أمته فيكون منسوخا عنه دون أمته القسم الثالث إذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر فها هنا يقدم القول على الفعل ويدل عليه وجهان الأول أن القول أقوى من الفعل والأقوى راجح وإنما قلنا أن القول أقوى لأن دلالة القول تستغني عن الفعل ودلالة الفعل لا تستغني عن القول والمستغنى أقوى من المحتاج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 والثاني أنا نقطع بأن القول قد تناولنا وأما الفعل فبتقدير أن يتأخر كان متناولا لنا وبتقدير أن يتقدم لا يتناولنا فكون القول متناولا لنا معلوم وكون الفعل متناولا لنا مشكوك والمعلوم مقدم على المشكوك فرع نهى رسول الله ص عن استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة صلى الله عليه وسلم ثم جلس في البيوت لقضاء الحاجة مستقبل بيت المقدس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 فعند الشافعي رضي الله عنه أن نهيه مخصوص بفعله في الصحراء حتى يجوز استقبال القبلة واستدبارها في البيوت لكل أحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 وعند الكرخي رحمه الله يجب إجراء النهي على إطلاقه في الصحراء والبنيان فكان ذلك من خواص الرسول ص وتوقف القاضي عبد الجبار في المسألة حجة الشافعي رضي الله عنه أن النهي عام ومجموع الدليل الذي يوجب علينا أن نفعل مثل ما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع كونه مستقبل القبلة في البنيان عند قضاء الحاجة أخص من ذلك النهي والخاص مقدم على العام فوجب القول بالتخصيص والله أعلم أما إذا كان المعارض للفعل فعلا آخر فذلك على وجهين الأول أن يفعل الرسول ص فعلا يعلم بالدليل أن غيره مكلف به ثم نراه بعد ذلك قد أقر بعض الناس على فعل ضده فنعلم أنه خارج منه الثاني إذا علمنا أن ذلك الفعل إنما يلزم أمثاله الرسول ص في مثل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 تلك الأوقات ما لم يرد دليل ناسخ لم يفعل عليه الصلاة والسلام ضده في مثل ذلك الوقت فنعلم أنه كان قد نسخ عنه تنبيه التخصيص والنسخ في الحقيقة إنما لحقا ما دل على أن ذلك الفعل لازم لغيره وأنه لازم له في مستقبل الأوقات وإنما يقال إن ذلك الفعل قد لحقه النسخ بمعنى أنه قد زال التعبد بمثله وأن التخصيص قد لحقه على معنى أن بعض المكلفين لا يلزمه مثله والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 القسم الثالث في أن الرسول ص هل كان متعبدا بشرع من قبله وفيه بحثان البحث الأول أنه قبل النبوة هل كان متعبدا بشرع من قبله أثبته قوم ونفاه آخرون وتوقف فيه ثالث احتج المنكرون بأمرين الأول أنه لو كان متعبدا بشرع أحد لوجب عليه الرجوع إلى علماء تلك الشريعة والاستفتاء منهم والأخذ بقولهم ولو كان كذلك لاشتهر ولنقل بالتواتر قياسا على سائر أحواله فحيث لم ينقل علمنا أنه ما كان متعبدا بشرعهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 الثاني أنه لو كان على ملة قوم لافتخر به أولئك القوم ولنسبوه إذا إلى أنفسهم ولاشتهر ذلك فإن قلت ولو لم يكن متعبدا بشرع أحد لاشتهر ذلك قلت الفرق أن قومه ما كانوا على شرع أحد فبقاؤه لا على شرع البتة لا يكون شيئا بخلاف العادة فلا تتوفر الدواعي على نقله أما كونه على شرع لما كان بخلاف عادة قومة فوجب أن ينقل احتج المثبتون بأمرين الأول أن دعوة من تقدمه كانت عامة فوجب دخوله فيها الثاني أنه كان يركب البهيمة ويأكل اللحم ويطوف بالبيت والجواب عن الأول أنا لا نسلم عموم دعوة من تقدمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 سلمناه لكن لا نسلم وصول تلك الدعوة إليه بطريق يوجب العلم أو الظن الغالب وهذا هو المراد من زمان الفترة وعن الثاني أن نقول أما ركوب البهائم فهو حسن في العقل إذا كان طريقا إلى حفظها بالعلف وغيره وأما أكله لحم المذكى فحسن أيضا لأنه ليس فيه مضرة على حيوان وأما طوافه بالبيت فبتقدير ثبوته لا يجب لو فعله من غير شرع أن يكون حراما البحث الثاني في حاله عليه السلام بعد النبوة قال جمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء أنه لم يكن متعبدا بشرع أحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 وقال قوم من الفقهاء بل كان متعبدا بذلك إلا ما استثنا الدليل الناسخ ثم اختلفوا فقال قوم كان متعبدا بشرع إبراهيم وقيل بشرع موسى وقيل بشرع عيسى واعلم أن من قال إنه كان متعبدا بشرع من قبله إما أن يريد به أن الله تعالى كان يوحي إليه بمثل تلك الأحكام التي أمر بها من قبله أو يريد أن الله تعالى أمره باقتباس الأحكام من كتبهم فإن قالوا بالأول فإما أن يقولوا به في كل شرعه أو في بعضه والأول معلوم البطلان بالضرورة لأن شرعنا يخالف شرع من قبلنا في كثير من الأمور والثاني مسلم ولكن ذلك لا يقتضي إطلاق القول بأنه كان متعبدا بشرع غيره لأن ذلك يوهم التبعية وأنه ص ما كان تبعا لغيره بل كان أصلا في شرعه وأما الاحتمال الثاني وهو حقيقة المسألة فيدل على بطلانه وجوه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 الأول لو كان متعبدا بشرع أحد لوجب أن يرجع في أحكام الحوادث إلى شرعه وأن لا يتوقف إلنزول الوحي لكنه لم يفعل ذلك لوجهين الأول أنه لو فعل لاشتهر والثاني أن عمر رضي الله عنه طالع ورقة من التوراة فغضب رسول الله عليه الصلاة والسلام وقال لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي ولما لم يكن كذلك علمنا أنه لم يكن متعبدا بشرع أحد فإن قيل الملازمة ممنوعة لاحتمال أن يقال إنه ص علم في تلك الصور أنه غير متعبد فيها بشرع من قبله فلا جرم توقف فيها على نزول الوحي أو لأنه عليه الصلاة والسلام علم خلو شرعهم عن حكم تلك الوقائع فانتظر الوحي أو لأن احكام تلك الشرائع إن كانت منقولة بالتواتر فلا يحتاج في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 معرفتها إلى الرجوع إليهم وإلى كتبهم وإن كانت منقولة بالآحاد لم يجز قبولها لأن أولئك الرواة كانوا كفارا ورواية الكافر غير مقبولة سلمنا الملازمة لكن قد ثبت رجوعه إلى التوراة في الرجم لما احتكم إليه اليهود والجواب قوله إنما لم يرجع إليها لأنه عليه الصلاة والسلام علم أنه غير متعبد فيها بشرع من قبله قلنا فلما لم يرجع في شئ من الوقائع إليهم وجب أن يكون ذلك لأنه علم أنه غير متعبد في شئ منها بشرع من قبله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 قوله إنما لم يرجع إليها لعلمه بخلو كتبهم عن تلك الوقائع قلنا العلم بخلو كتبهم عنها لا يحصل إلا بالطلب الشديد والبحث الكثير فكان يجب أن يقع منه ذلك البحث والطلب قوله ذلك الحكم إما أن يكون منقولا بالتواتر أو بالآحاد قلنا يجوز أن يكون متن الدليل متواترا إلا أنه لا بد في العلم بدلالته على المطلوب من نظر كثير وبحث دقيق فكان يجب اشتغال النبي عليه الصلاة والسلام بالنظر في كتبهم والبحث عن كيفية دلالتها على الأحكام قوله إنه رجع في الرجم إلى التوراة قلنا لم يكن رجوعه إليها رجوع مثبت للشرع بها والدليل عليه أمور أحدها أنه لم يرجع إليها في غير الرجم وثانيها أن التوراة محرفة عنده فكيف يعتمد عليها وثالثها أن من أخبره بوجود الرجم في التوراة لم يكن ممن يقع العلم بخبره فثبت أن رجوعه إليها كان ليقرر عليهم أن ذلك الحكم كما أنه ثابت في شرعه فهو أيضا ثابت في شرعهم وأنهم أنكروه كذبا وعنادا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 الحجة الثانية أنه عليه السلام لو كان متعبدا بشرع من قبله لوجب على علماء الأعصار أن يرجعوا في الوقائع إلى شرع من قبله ضرورة أن التأسي به واجب وحيث لم يفعلوا ذلك البتة عمنا بطلان ذلك الحجة الثالثة أنه عليه الصلاة والسلام صوب معاذا في حكمه باجتهاد نفسه إذا عدم حكم الحادثة في الكتاب والسنة ولو كان متعبدا بحكم التوراة كما تعبد بحكم الكتاب لم يكن له العمل باجتهاد نفسه حتى ينظر في التوراة والإنجيل فإن قلت إن رسول الله ص لم يصوب معاذا في العمل بالاجتهاد إلا إذا عدمه في الكتاب والتوراة كتاب ولأنه لم يذكر التوراة لأن في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 القرآن آيات دالة على الرجوع إليها كما أنه لم يذكر الإجماع لهذا السبب قلت الجواب عن الآول من وجهين الأول أنه لا يفهم من إطلاق الكتاب إلا القرآن فلا يحمل على غير إلا بدليل الثاني أنه لم يعهد من معاذ قط تعلم التوراة والإنجيل والعناية بتميز المحرف منها عن غيره كما عهد منه تعلم القرآن وبه ظهر الجواب عن الثاني الحجة الرابعة لو كانت تلك الكتب حجة علينا لكان حفظها من فروض الكفايات كما في القرآن والأخبار ولرجعوا إليها في مواضع اختلافهم حيث أشكل عليهم كمسألة العول وميراث الجد والمفوضة وبيع أم الولد وحد الشرب والربا في غير النسيئة ودية الجنين فقال والرد بالعيب بعد الوطء والتقاء الختانين وغير ذلك من الأحكام ولما لم ينقل عن واحد منهم مع طول أعمارهم وكثرة وقائعهم واختلافاتهم مراجعة التوراة لا سيما وقد أسلم من أحبارهم من تقوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 الحجة بقولهم كعبد الله بن سلام وكعب ووهب وغيرهم ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب وكيف يحصل اليأس قبل العلم دل على أنه ليس بحجة احتجوا بأمور أحدها قوله تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون وثانيها قوله تعالى فبهداهم اقتده أمره أن يقتدي بهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 وثالثها قوله تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ورابعها قوله تعالى أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وخامسها قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والجواب عن الأول أن قوله يحكم بها النبيون لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأن جميع النبيين لم يحكموا بجميع ما في التوراة وذلك معلوم بالضرورة فوجب إما تخصيص الحكم وهو أن كل النبيين حكموا ببعضه وذلك لا يضرنا فإن نبينا حكم بما فيه من معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله أو تخصيص النبيين وهو أن النبيين حكموا بكل ما فيه وذلك لا يضرنا وعن الثاني أنه تعالى أمر بأن يقتدى بهدي مضاف إلى كلهم وهداهم الذي اتفقوا عليه هو الأصول دون ما وقع فيه النسخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 وعن الثالث أنه يقتضي تشبيه الوحي بالوحي لا تشبيه الموحى به بالموحى به وعن الرابع أن الملة محمولة على الأصول دون الفروع ويدل عليه أمور أحدها أنه يقال ملة الشافعي وأبي حنيفة واحد وإن كان مذهبهما في كثير من الشرعيات مختلفا وثانيها قوله بعد هذه الآية وما كان من المشركين وثالثها أن شريعة ابراهيم عليه السلام قد اندرست وعن الخامس أن الآية تقتضي أنه وصى محمدا عليه الصلاة والسلام بالذي وصى به نوحا عليه السلام من أن يقيسوا الدين ولا يتفرقوا فيه وأمرهم بإقامة الدين لا يدل على اتفاق دينهما كما أن أمر الإثنين أن يقوما بحقوق الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 تعالى لا يدل على أن الحق على أحدهما مثل الحق على الآخر وعلى أن الآية تدل على أنه تعبد محمدا بما وصى به نوحا عليهما السلام والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 الكلام في الناسخ والمنسوخ وهو مرتب على أقسام القسم الأول في حقيقة النسخ وفيه مسائل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 المسألة الأولى النسخ في أصل اللغة بمعنى إبطال الشئ وقال القفال إنه للنقل والتحويل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 لنا إنه يقال نسخت الريح آثار القوم إذا أعدمتها ونسخت الشمس الظل إذا أعدمته ثنا لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر فيظن أنه انتقل إليه والأصل في الكلام الحقيقة وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب أن يكون حقيقة في النقل دفعا للاشتراك فإن قيل وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار والشمس بأنها ناسخة للظل مجاز لأن المزيل للآثار والظل هو الله تعالى وإذا كان ذلك مجازا امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ثم نعارض ما ذكرتموه ونقول بل النسخ هو النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر كأنك تنقله إليه أو تنقل حكايته ومنه تناسخ وتناسخ القرون قرنا بعد قرن وتناسخ المواريث إنما هو التحويل من واحد إلى آخر بدلا عن الأول فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل ويلزم أن لا يكون حقيقة في الإزالة دفعا للاشتراك وعليكم الترجيح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 والجواب عن الأول من وجهين أحدهما إنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى هو الناسخ لذلك من حيث فعل الشمس والريح المؤثرين في تلك الإزالة ويكونان أيضا ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير وثانيهما أن أهل اللغة إنما أخطأوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح فهب أنه كذلك لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لا إسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس وعن الثاني أن النقل أخص من الزوال لأنه حيث وجد النقل فقد عدمت صفة وحصلت صفة أخرى فإذن مطلق العدم أعم من عدم يحصل عقيبه شئ آخر وإذا دار اللفظ بين العام والخاص كان جعله حقيقة في العام أولى من جعله حقيقة في خاص على ما تقدم تقريره في كتاب الغات والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 المسألة الثانية في حد النسخ في اصطلاح العلماء الذي ذكره القاضي أبو بكر وارتضاه الغزالي رحمهما الله أنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه وإنما آثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليكون شاملا اللفظ والفحوى والمفهوم وكل دليل اذ يجوز النسخ بجميع ذلك وإنما قلنا على ارتفاع الحكم الثابت ليتناول الأمر والنهي والخبر وجميع أنواع الحكم وإنما قلنا بالخطاب المتقدم لأن ابتداء ايجاب العبادات في الشرع يزيل حكم العقل من براءة الذمة ولا يسمى نسخا لأنه لم يزل حكم الخطاب وإنما قلنا لولاه لكان ثابتا لأن حقيقة النسخ الرفع وهو إنما يكون رافعا إذا كان المتقدم بحيث لولا طريانه لبقي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 وإنما قلنا مع تراخيه عنه لأن لو اتصل به لكان بيانا لمدة هذه العبادة لا نسخا ولقائل أن يقول هذا الحد مختل من وجوه أحدها أن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم المتقدم ناسخ للحكم الأول وليس بنسخ إذ النسخ هو نفس الارتفاع وفرق بين الرافع وبين نفس الارتفاع فجعل الرافع عين الارتفاع خطأ وثانيها أن تقييد ذلك بالخطاب خطأ لأن الناسخ قد يكون فعلا لا قولا فإنه صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلا وعلمنا بالضرورة أنه قصد به رفع بعض ما كان ثابتا فذلك يكون ناسخا مع أنه ليس بخطاب فإن قلت الناسفي الحقيقة هو الخطاب الدال على وجوب متابعته عليه السلام في أفعاله قلت لقدرنا إنه لم يرد أمر زائد يدل على وجوب متابعته في أفعاله ثم أنه عليه الصلاة والسلام فعل فعلا ووجد هناك من القرائن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 ما أفاد العلم الضروري بأن غرضه عليه الصلاة والسلام ازالة الحكم الذي كان ثابتا فإنه يكون ناسخا بالاجماع مع أنه لم يوجد الخطاب في هذه الصورة أصلا وثالثها أن الأمة إذا اختلفت على قولين فسوغت للعامي تقليد كل واحدة من الطائفتين ثم أجمعت بعد ذلك على أحد القولين فهذا الاجماع خطاب وهو ناسخ لجواز الأخذ بكلا القولين فقد وجد ها هنا خطاب دال على ارتفاع حكم خطاب مع أن الحق أن الاجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ويمكن جوابه بأنا ذكرنا حد النسخ مطلقا لا حد النسخ الجائز في الشرع ورابعها أن كون النسخ رفعا باطل وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وخامسها أن قوله بالخطاب المتقدم خطأ لأن الحكم الأول لو ثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم لا بقوله ل كان الذي يرفعه ناسخا له فهذا ما في هذا الحد والأولى أن يقال النسخ طريق شرعي يدل على أن مثل الحكم الذي كان ثابتا بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه عنه على وجلولاه ل كان ثابتا فقولنا طريق شرعي نعني به القدر المشترك بين القول الصادر عن الله تعالى وعن رسوله عليه الصلاة والسلام والفعل المنقول عنهما ويخرج عن اتفاق الأمة على أحد القولين لأن ذلك ليس بطريق شرعي على هذا التفسير ولا يلزم أن يكون الشرع ناسخا لحكم العقل لأن العقل ليس بطريق شرعي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 ولا يلزم أن يكون العجز ناسخا لحكم شرعي لأن العجز ليس بطريق شرعي ولا يلزم تقييد الحكم بغاية أو شرط أو استثناء لأن ذلك غير متراخ ولا يلزم ما إذا أمر نا الله تعالى بفعل واحد ثم نهانا عن مثله لأنه لو لم يكن هذا النهي لم يكن مثل حكم الأمر ثابتا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 المسألة الثالثة قال القاضي أبو بكر رحمه الله النسخ رفع ومعناه أن خطاب الله تعالى تعلق بالفعل بحيث لولا طريان الناسخ لبقي الا أنه زال لطريان الناسخ وقال الأستاذ أبو اسحاق رحمه الله إنه بيان ومعناه أن الخطاب الأول انتهى بذاته في ذلك الوقت ثم حصل بعده حكم آخر والمثال الكاشف عن حقيقة هذه المسألة أن من قال ببقاء الأعراض قال الضد الباقي يبقى لولا طريان الطارئ ثم إن الطارئ يكون مزيلا لذلك الباقي ومن قال بأنها لا تبقى قال الضد الأول ينتهي بذاته ويحصل ضده بعد ذلك من غير أن يكون للضد الطارئ أثر في ازالة ما قبله لأن الزائل بذاته لا يحتاج الى مزيل واذا ظهر هذا التمثيل عادت الدلائل المذكورة في تلك المسألة الى هذه المسألة نفيا واثباتا فنقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 احتج المنكرون للرفع بوجوه الحجة الأولى أنه ليس زوال الباقي بطريان الطارئ أولى من اندفاع الطارئ لأجل بقاء الباقي فإما أن يوجدا معا وهو محال بالضرورة أو بعد ما معا وهو محال لأن علة عدم كل واحد منهما وجود الآخر فلو عد ما معا لوجدا معا وذلك محال فإن قلت لم لا يجوز أن يقال الحادث أقوى من الباقي لحدوثه قلت هذا باطل لوجهين أحدهما أن الباقي إما أن يحصل له أمر زائد على ما كان حاصلا له حال حدوثه أو لا يحصل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 فإن كان الأول كان ذلك الزائد حادثا فذلك الزائد لحدوثه يكون مساويا للضد الطارئ في القوة واذا استويا في القوة امتنع رجحان أحدهما على الآخر واذا امتنع عدم كيفية الباقي امتنع عدم ذلك الباقي لا محالة وإن كان الثاني وهو أن لا يحصل للباقي أمر زائد على ما كان حاصلا له حال الحدوث لزم أن تكون قوة الباقي مساوية لقوة الحادث وحينئذ يبطل الرجحان وثانيهما أن الشئ حال حدوثه كما يمتنع عدمه فالباقي حال بقائه لا بد له من سبب لكونه ممكنا وهو مع السبب يمتنع عدمه فإذا امتنع العدم عليهما استويا في القوة فيمتنع الرجحان الحجة الثانية هي أن طريا الحكم الطارئ مشروط بزوال المتقدم فلو كان زوال المتقدم معللا بطريان الطارئ لزوم الدور وهو محال الحجة الثالثة أن الطارئ إما أن يطرأ حال كون الحكم الأول معدوما أو موجودا فإن كان الأول استحال أن يؤثر في عدمه لأن إعدام المعدوم محال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 وإن كان الثاني فقد وجد مع وجود الأول وإذا وجدا معا لم يكن بينهما منافاة وإذا لم يمكن بينهما منافاة لم يكن أحدهما رافعا للآخر فإن قلت لم لا يجوز أن يكون ذلك كالكسر مع الانكسار قلت الانكسار عبارة عن زوال تلك التأليفات عن اجزاء ذلك الجسم والتأليفات أعراض غير باقية فلا يكون للكسر أثر في إزالتها الحجة الرابعة هي أن كلام الله تعالى قديم والقديم لا يجوز رفعه فإن قلت المرفوع تعلق الخطاب قلت الخطاب إما أن يكون أمرا ثبوتيا أو لا يكون فإلم يكن أمرا ثبوتيا استحال رفعه وإزالته وإن كان أمرا ثبوتيا فهو إما أن يكون حادثا أو قديما فإن كان حادثا لزم كونه تعالى محلا للحوادث وإن كان قديما لزم عدم القديم وهو محال وأعلم أن هذه الوجوه كما أنها قوية في نفسها فهي أقوى لزوما على القاضي رحمه الله لأنه هو الذي عول عليها في امتناع إعدام الضد بالضد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 والقول بكون النسخ رفعا عين القول بإعدام الضد بالضد فيكون لزوم هذه الأدلة عليه أقوى واحتج إمام الحرمين رحمه الله على فساد الرفع بوجه آخر وهو أن علم الله تعالى إما أن يكون متعلقا باستمرار هذا الحكم أبدا أو يكون متعلقا بأنه لا يبقى إلا إلى الوقت الفلاني فإن كان الأول استحال نسخه وإلا لزم انقلاب العلم جهلا وهو محال والثاني يقتضي بطلان القول بالرفع لأن الله تعالى إذ علم أن ذلك الحكم لا يبقى إلا إلى ذالله الوقت استحال وجود ذلك الحكم بعذ ذلك وإلا لزم انقلاب العلم جهلا وإذا كان ممتنع الوجود بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 ذلك استحال أن يقع زوال بمزيل لأن الواجب لذاته يمتنع أن يكون واجبا لغيره ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يقال علم الله تعالى إن ذلك الحكم لا يبقى إلى ذلك الوقت لطريان الناسخ لا لذاته وإذا علم الله تعالى أنه يزول ذلك الحكم في ذلك الوقت لطريان ذلك الناسخ لم يكن ذلك قادحا في تعليل زواله بالنسخ ويزيده تقريرا أن يقال أن الله تعالى كان يعلم أن العالم يوجد في الوقت الفلاني فيكون وجوده في ذلك الوقت واجبا ولم يكن ذلك الوجوب قادحا في افتقاره إلى المؤثر لإنه لما علم الله تعالى أنه يوجد في ذلك الوقت بذلك المؤثر لم يكن الوجوب على هذا الوجه قادحا في افتقاره إلى المؤثر فكذا ها هنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 واحتج القائلون بالرفع بأمرين أولهما أن النسخ في اللغة عبارة عن الإزالة فوجب أن يكون في الشرع أيضا كذلك لأن الأصل عدم التغيير ولأننا ذكرنا في باب نفي الألفاظ الشرعية ما يدل على عدم التغيير وثانيهما أن الخطاب كان متعلقا بالفعل فذلك التعلق يمتنع أن يكون عدمه لذاته وإلا لزم أن لا يوجد وإن لم يكن لذاته فلا بد من مزيل ولا مزيل إلا الناسخ والجواب عن الأول أنه تمسك بمجرد اللفظ وهو لا يعارض الدلائل العقلية وعن الثاني أن كلام الله تعالى القديم كان متعلقا من الأزل إلى الأبد باقتضاء الفعل إلى ذالله الوقت المعين والمشروط بالشئ عدم عند عدم الشرط فلا يفتقر زواله إلى مزيل آخر والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 المسألة الرابعة النسخ عندنا جائز عقلا وواقع سمعا خلافا لليهود فإن منهم من أنكره عقلا ومنهم من جوزه عقلا لكنه منع منه سمعا ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ لنا وجهان الأول أن الدلالة القاطعة دلت على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ونبوته لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله فوجب القطع بالنسخ الثاني أن الأمة مجمعة على وقوع النسخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 ولنا على اليهود إلزامان به الأول جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من الفلك إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ثم قد حرم الله تعالى على موسى عليه السلام وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوانات الثاني كان آدم عليه السلام يزوج الأخ من الأخت وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام ولقائل أن يقول لا نسلم أن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا تصح إلا مع القول بالنسخ لأن من الجائز أن يقال إن موسى وعيسى عليهما السلام أمرا الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام ثم بعد ذلك أمر الناس باتباع شرع محمد عليه الصلاة والسلام فعند ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام زال التكليف بشرع موسى وعيسى عليهما السلام ووقع التكليف بشرع محمد عليه السلام لكنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 لا يكون نسخا بل يكون جاريا مجرى قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل والمسلمون الذين أنكروا وقوع النسخ بنوا مذهبهم على هذا الحرف وقالوا قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى عليهما السلام بشرا في التوراة والإنجيل بمبعث محمد ص وأنه عند ظهوره يجب الرجوع إلى شرعه وإذا كان الأمر كذلك امتنع تحقق النسخ وهكذا جواب اليهود عن الإلزامين الذين أوردناهما عليهم وأما ادعاء الإجماع فكيف يصح بعد ما صح وقوع الخلاف فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 والمعتمد في المسألة قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وجه الاستدلال به أن جواز التمسك بالقرآن إما أن يتوقف على صحة النسخ أو لا يتوقف فإن توقف عاد الأمر إلى أن نبوة محمد ص لا تصح إلا مع القول بالنسخ وقد صحت نبوته فوجب القول بصحة النسخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 وإن لم نتوقف عليه فحييئذ هذا يصح الاستدلال بهذه الآية على النسخ واحتج منكرو النسخ عقلا بأن الفعل الواحد إما أن يكون حسنا أو قبيحا فإن كان حسنا كان النهي عنه نهيا عن الحسن وإن كان قبيحا كان الأمر به أمرا بالقبيح وعلى كلا التقديرين يلزم إما الجهل وإما السفه واحتج المنكرون شرعا بوجهين الأول هو أن الله تعالى لما بين شرع موسى عليه السلام فاللفظ الدال عليه إما أن يقال إنه دل على دوام شرعه أو ما دل عليه فإن كان الأول فإما أن يكون قد ضم الله تعالى إليه ما يدل على أنه سينسخه أو لم يضم إليه ذلك فإن كان الأول فهو باطل من وجهين الأول أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جمع بين كلامين متناقضين وإنه عبث وسفه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 الثاني أن يكون على هذا التقدير قد بين الله تعالى لموسى عليه السلام أن شرعه سيصير منسوخا فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية أما أولا فلأنه لو جاز أينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية جاز في شرعنا أيضا ذلك وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ وأما ثانيا فلأن ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها وما كان كذلك وجب اشتهاره وإلا فلعل القرآن عورض ولم ينقل ولعل محمدا عليه الصلاة والسلام غير هذا الشرع عن هذا الوضع ولم ينقل وإذا ثبت وجوب نقل هذه الكيفية بالتواتر وجب أن يكون العلم بتلك الكيفية كالعلم باصل الشرع حتى يكون علمنا بأن موسى عليه السلام نص على أن شرعه سيصير منسوخا كعلمنا بأصل شرعه ولو كان كذلك لعلم الكل بالضرورة أن من دين موسى عليه السلام أن شرعه سيصير منسوخا ولو كان ذلك ضروريا لاستحال منازعة الجمع العظيم فيه وحيث نازعوا فيه دل ذلك على أنه عليه السلام ما نص على هذه الكيفية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 وأما القسم الثاني وهو أن الله تعالى ذكر لفظا يدل على الدوام ولم يضم إليه ما يدل على أنه سيصير منسوخا فنقول على هذا التقدير وجب أن لا يصير منسوخا وإلا لزمت محالات أحدها أن ذكر اللفظ الدال على الدوام مع أنه لا دوام تلبيس وهو غير جائز وثانيها إن جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق إلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخا لأن أقصى ما في الباب أن يقول الشرع هذه الشريعة دائمة ولا تصير منسوخة قط البته ولكن إذا رأينا مثل هذا مع عدم الدوام في بعض الصور زال الوثوق عنه في كل الصور وثالثها أنه مع تجويز مخالفة الظاهر لا يبقى وثوق بوعده ووعيده وكل بياناته فإن قلت عرفناه بالإجماع أو بالتواتر قلت أما الإجماع فلا يعرف كونه دليلا إلا بآية أو خبر ولا تتم دلالة الآية والخبر إلا بإجراء اللفظ على ظاهره فإذا جوزنا خلافه لا يبقى دليل الإجماع موثوقا به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 وأما التواتر فكذلك لأن غايته أن نعلم أن الرسول عليه السلام قال هذه الألفاظ لكن لعله أراد شيئا يخالف ظواهرها وأما القسم الثالث وهو أن يقال إنه بين شرع موسى عليه السلام بلفظ لا يدل على الدوام البته فنقول مثل هذا لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة على ما ثبت أن الأمر لا يفيد التكرار ومثله لا يحتاج إلى النسخ بل لا يقبل النسخ البته الثاني قالوا ثبت بالتواتر إن موسى عليه السلام قال تمسكوا بالسبت أبدا وقال تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض والتواتر حجة بالاتفاق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 والجواب عن الأول أن نقول لم لا يجوزأن يكون ذلك الفعل مصلحة في وقت ومفسدة في وقت آخر فيأمر به في الوقت الذي علم أنه مصلحة فيه وينهى عنه في الوقت الذي علم أنه مفسده فيه كما لا يمتنع أن يعلم فيما لا يزال أن إمراض زيد وفقره مصلحة له في وقت وصحته وغناه مصلحة له في وقت آخر فيمرضه ثم ويفقره حين يعلم أن ذلك مصلحة يغنيه ويصحه رسول حين يعلم أن ذلك مصلحة كما لا يمتنع أن يعلم الإنسان أن الرفق مصلحة ابنه وعبده اليوم والعنف مصلحته في غد فيأمر عبده بالرفق به في اليوم وبالعنف به في الغد والجواب عن الثاني أن نقول اتفق المسلمون على أنه تعالى بين شرع موسى عليه السلام بلفظ يدل على الدوام واختلفوا في أنه هل ذكر معه ما يدل على أنه سيصير منسوخا فقال أبو الحسين البصري رحمه الله يجب ذلك في الجملة وإلا كان تلبيسا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 وقال جماهير أصحابنا وجماهير المعتزلة لا يجب ذلك وقد مر توجيه المذهبين في مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب ونحن نأتي بالجواب عن هذه الشبهة تفريعا على كل واحد من هذين المذهبين أما على قول أبي الحسين من أنه لا بد من البيان فنقول لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى بين في تلك الشريعة أنها ستصير منسوخة لكن لم ينقله أهل التواتر فلا جرم لم يشتهر ذلك كما اشتهر أصل الشرع فإن قلت لما بين الله تعالى أصل ذلك الشرع وأوصله إلى أهل التواتر فهل أوصل ذلك المخصص إلى أهل التواتر أم لا فإن قلت أوصله إلى أهل التواتر فإما أن يجوز على أهل التواتر أن يخلوا بنقله أو لا يجوز فإن جاز على الشارع أن لا يوصل ذلك المخصص إلى أهل التواتر أو أنه أوصله إليهم لكنهم أخلوا بنقله جاز مثله في كل شرع فكيف تقطعون مع هذا التجويز بدوام شرعكم فلعلها وإن ولا كانت بحيث ستصير منسوخة إلا أن الله تعالى ما بين ذلك أو أن بينه لكن أهل التواتر أخلوا بنقله أيضا فلعل محمدا عليه الصلاة والسلام نسخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 الصلوات الخمس وصوم رمضان ولم ينقل ذلك ولما بطل هذان الاحتمالان ثبت أنه تعالى بين ذلك المخصص لأهل التواتر وأن أهل التواتر ما أخلوا بنقله وحينئذ يعود السؤال قلت الإشكال إنما يلزم لو ثبت أنه حصل من اليهود في كل عصر ما بلغ مبلغ التواتر وذلك ممنوع فإنهم انقطعوا في زمان بخت نصر فلا جرم انقطعت الحجة بقولهم بخلاف شرعنا فإنهم كانوا في جميع الأعصار بالغين مبلغ التواتر وأما الجواب على قول أصحابنا رحمة الله عليهم فهو أن المخصص لم يكن مذكورا في زمان موسى عليه السلام قوله هذا تلبيس قلنا سبق الجواب عنه في مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 والجواب عن الثالث أنا لا نعلم إن موسى عليه السلام قال ذلك لأن نقل التوراة منقطع بحادث بخت نصر سلمنا صحة هذا النقل لكن لفظ التأبيد في التورا قد جاء للمبالغة دون الدوام في صور إحداها قوله في العبد إنه يستخدم ست سنين ثم يعتق في السابعة فإن أبى العتق فلتثقب أذنه ويستخدم أبدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 وثانيها قيل في البقرة التي أمروا بذبحها يكون ذلك سنة أبدا ثم انقطع التعبد بذلك عندهم وثالثها أمروا في قصة دم الفصح بأن يذبحوا الجمل ويأكلوا لحمه ملهوجا ولا يكسروا منه عظما ويكون لهم هذا سنة ابدا ثم زال التعبد بذلك ورابعها قال في السفر الثاني قربوا إلي كل يوم خروفين خروفا غدوة وخروفا عشية قربانا دائما لاحقبكم ففي هذه الصور وجدت ألفاظ التأبيد ولم تدل على الدوام فكذا ما ذكرتموه والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 المسألة الخامسة اتفقت الأمة على جواز نسخ القرآن وقال أبو مسلم بن بحر الأصفهاني لا يجوز لنا وجوه أحدها أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولا وذلك في قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما في قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا قال أبو مسلم الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصا لا نسخا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 والجواب أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل لسنة أو أقل أو أكثر فجعل السنة مدة العدة يكون زائلا بالكلية وثانيها أمر الله تعالى بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ثم نسخ ذلك قال أبو مسلم إنما زال ذلك لزوال سببه لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون من حيث لا يتصدقون عن المؤمنين فلما حصل هذا الغرض سقط التعبد بالصدقة والجواب لو كان كذلك لكان كل من لم يتصدق منافقا لكنه باطل لأنه روي أنه لم يتصدق غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 ويدل عليه أيضا قوله تعالى فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم وثالثها أن الله تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى إيكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ثم نسخ ذلك بقوله تعالى الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ورابعها قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها قال أبو مسلم النسخ هو الإزالة والمراد من هذه الآية ازالة القرآن من اللوح المحفوظ والجواب أن إزالة القرآن من اللوح المحفوظ لا تختص ببعض القرآن وهذا النص مختص ببعضه وخامسها قوله تعالى سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 عليها ثم أزالهم عنها بقوله فول وجهك شطر المسجد الحرام قال أبو مسلم حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه اليها عند الإشكال ومع العلم إذا كان هناك عدو والجواب أن على ما ذكرته أنت لا فرق بين بيت المقدس وسائر الجهات فالخصوصية التي لها امتاز بيت المقدس عن سائر الجهات قد بطلت بالكلية فيكون نسخا وسادسها قوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر والتبديل يشتمل على رفع وإثبات والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم وكيف ما كان فهو رفع ونسخ فإن قلت لم لا يجوز أن يكون المراد به أن الله تعالى أنزل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 أحدى الآيتين بدلا عن الأخرى فيكون النازل بدلا عما لم ينزل قلت جعل المعدوم مبدلا غير جائز واحتج أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل وجوابه المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله تعالى ما يبطله ولا يأتيه من بعده ما يبطله والله أعلم المسألة السادسة اختلفوا في نسخ الشئ قبل مضي وقت فعله مثاله إذا قال الله تعالى لنا صبيحة يومنا صلوا عند غروب الشمس ركعتين بطهارة ثم لم قال عند الظهر لا تصللوا حدثنا عند غروب الشمس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 ركعتين بطهارة فهذا عندنا جائز خلافا للمعتزلة وكثير من الفقهاء لنا أن الله تعالى أمر ابراهيم عليه السلام بذبح ولده إسماعيل عليهما السلام ثم نسخ ذلك قبل وقت الذبح فإن قيل لا نسلم ان إبراهيم عليه السلام كان مأمورا بالذبح بل لعله كان مأمورا بمقدمات الذبح من الإضجاع وأخذ المدية مع الظن الغالب بكونه مأمورا بالذبح ولهذا قال قد صدقت الرؤيا ولو كان قد فعل بمعنى ما أمر به لكان قد صدق بعض الرؤيا فإن قلت الدليل عليه ثلاثة أوجه أحدها قوله تعالى إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر فقوله ما تؤمر لا بد وأن يكون عائدا إلى شئ والمذكور ها هنا قوله أني أذبحك فوجب صرفه إليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 وثانيها قوله تعالى إن هذا لهو البلاء المبين ومقدمات الذبح لا توصف بأنها بلاء مبين وثالثها قوله تعالى وفديناه بذبح عظيم ولو لم يكن مأمورا بالذبح لما احتاج إلى الفداء قلت الجواب عن الأول أن الرؤيا لا تدل على كونه مأمورا بذلك وأما قوله افعل ما تؤمر فإنما يفيد الأمر في المستقبل فلا ينصرف إلى ما مضى من رؤياه في المنام وعن الثاني أن إضجاع الابن وأخذ المدية مع غلبة الظن بأنه مأمور بالذبح بلاء مبين وعن الثالث أنه إنما فدى بالذبح بسبب ما كان بتوقعه من الأمر بالذبح سلمنا أنه أمر بالذبح لكن لا نسلم أنه نسخ ذلك وبيانه من وجهين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 الأول أنه كلما قطع موضعا من الحلق وتعداه إلى غيره أوصل الله تعالى ما تقدم قطعه فإن قلت حقيقة الذبح قطع مكان مخصوص تبطل معه الحياة قلت بطلان الحياة ليس جزءا من مسمى الذبح لأنه يقال قد ذبح هذا الحيوان وإن لم يمت بعد الثاني قيل إنه أمر بالذبح وإن الله تعالى جعل على عنقه صفيحة من حديد فكان إذا أمر إبراهيم عليه السلام السكين لم يقطع شيئا من الحلق سلمنا سلامة دليلكم لكنه معارض بدليل آخر وهو أن ذلك يقتضي كون الشخص الواحد مأمورا منهيا عن فعل واحد في وقت واحد على وجه واحد وذلك محال فالمؤدي إليه محال بيان أنه يلزم ذلك ثلاثة أوجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 أحدها أن المسألة مفروضة في هذا الموضع فإنه لما أمر بكرة بركعتين من الصلاة عند غروب الشمس ثم نهى وقت الظهر عن ركعتين من الصلاة عند غروب الشمس فقد تعلق الأمر والنهي بشئ واحد في وقت واحد من وجه واحد حتى لو لم يتحقق شرط من هذه الشرائط لم تكن هي المسألة التي تنازعنا فيها وثانيها أن قوله صلوا عند غيبوبة الشمس غير موضوع إلا للأمر بالصلاة في ذلك الوقت لغة وشرعا وقوله لا تصلوا عند غيبوبة الشمس غير موضوع إلا للنهي عن الصلاة في ذلك الوقت لغة وشرعا وثالثها هو أن النهي لو تعلق بغير ما تعلق به الأمر لكان لا يخلو إما ان يكون المنهي عنه أمرا يلزم من الانتهاء عنه وقوع الخلل في متعلق الأمر أو لا يلزم ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 فإن كان الأول كان المتأخر رافعا المتقدم استلزاما فيلزم توارد الأمر ابن والنهي على شئ واحد في وقت واحد من وجه واحد وإن كان الثاني لم يكن ذلك هي المسألة التي تنازعنا فيها لأنا توافقنا على أن الأمر بالشئ لا يمنع من النهي عن شئ آخر لا يلزم من الانتهاء عنه الإخلال بذلك المأمور بيان أن ذلك محال أن ذلك الفعل في ذلك الوقت لا بد وأن يكون إما حسنا وإما قبيحا وكيفما كان فإما أن يقال المكلف ما كان عالما بحاله ثم بدا له ذلك فلذلك اختلف الأمر والنهي وذلك محال لاستحالة البداء على الله تعالى وإما أن يقال أنه كان عالما بحاله فيلزم منه إما الأمر بالقبيح أو النهي عن الحسن وذلك أيضا محال والجواب الدليل على أنه كان مأمورا بالذبح أنه لو لم يكن مأمورا به بل كان مأمورا بمجرد المقدمات وهو قد أتى بتمام تلك المقدمات فوجب أن يحتاج معها إلى الفدية لأن الآتي بالمأمور به يجب خروجه عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 العهدة والخارج عن العهدة لا يحتاج إلى الفداء فبحث وقعت الحاجة إليه علمنا أنه لم يدخل تمام المأمور به في الوجود وهذا هو الجواب عن قوله كلما قطع موضعا من الحلق وتعداه إلى غيره وصل الله تعالى ما تقدم قطعه لأن على هذا التقدير يكون كل المأمور به داخلا في الوجود فوجب أن لا يحتاج معه إلى الفداء وأما قوله تعالى قد صدقت الرؤيا فغير دال على أنه أتى بكل المأمور به بل يدل على أنه عليه السلام صدقها وعزم على الإتيان بها فأما أنه فعلها بتمامها فليس في الآية دلالة عليه قوله أن الله تعالى جعل على عنقه صفيحة من حديد قلنا إن اعترفتم بأنه كان مأمورا بنفس الذبح لم يجز ذلك على قولكم وإلا فهو تكليف مالا يطاق وإن قلتم إنه كان مأمورا بالمقدمات فهو عود إلى السؤال الأول وأما المعارضة فالجواب عنها من وجهين الأول وهو الذي يحسم المنازعة أنها مبنية على القول بالحسن والقبح ونحن لا نقول به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 الثاني سلمنا ذلك ولكنا نقول كما يحسن الأمر بالشئ والنهي عن الشئ لحكمة تتولد من المامور به والمنهي عنه فقد يحسنان أيضا لحكمة تتولد من نفس الأمر والنهي فإن السيد قد يقول لعبده إذهب إلى القرية غدا راجلا ويكون غرضه من ذلك حصول الرياضة له في الحال وعزمه على أداء ذلك الفعل وتوطين النفس عليه مع علمه بأنه سيرفع عنه غدا ذلك التكليف وإذا ثبت هذا فنقول ألأمر بالفعل إنما يحسن إذا كان المأمور به منشأ المصلحة والأمر به أيضا منشأ المصلحة فأما إذا كان المأمور به منشأ المصلحة لكن الأمر به لا يكون منشأ المصلحة لم يكن الأمر به حسنا وعند هذا يظهر الجواب عما قالوه لأنه حين أمر بالفعل كان المأمور به منشأ المصلحة وكان الأمر به أيضا منشأ المصلحة فلا جرم حسن الأمر به وفي الوقت الثاني بقي المأمور به منشأ المصلحة لكن ما بقي الأمر به منشأ المصلحة فلا جرم حسن النهي عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 فإن قلت لما بقي الفعل منشأ المصلحة كما كان فالنهي عنه يكون منعا عن منشأ المصلحة وذلك غير جائز قلت إنه يكفي في المنع عن الشئ اشتماله على جهة واحد من جهات المفسدة فها هنا المأمور به وإن بقي منشأ المصلحة إلا أن الأمر به والحث عليه لما صار منشأ المفسدة كان الأمر به وان كان حسنا نظرا إلى المأمور به لكنه قبيح نظرا إلى نفس الأمر وذلك كاف في قبحه والله أعلم المسألة السابعة يجوز نسخ الشئ لا إلى بدل خلافا لقوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 لنا أنه نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول عليه الصلاة والسلام لا إلى بدل احتجوا بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها والجواب أن نسخ الآية يفيد نسخ لفظها ولهذا قال نأت بخير منها أو مثلها فليس لنسخ الحكم ذكر في الآية سلمنا أن المراد نسخ الحكم لكن لم لا يجوز أن يقال إن نفي ذلك الحكم وإسقاط التعبد به خير من ثبوته في ذلك الوقت والله أعلم المسألة الثامنة يجوز نسخ الشئ إلى ما هو أثقل منه خلافا لبعض أهل الظاهر لنا أن المسلمين سموا إزالة التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 نسخا وهو أشق وإزالة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم نسخا وأمر الصحابة بترك القتال ثم أمرهم بنصب القتال من التشديد بثبات الواحد للعشرة وحرم الخمر ونكاح المتعة بعد إطلاقهما ونسخ جواز تأخير الصلاة عند الخوف إلى إيجابها في أثناء القتال ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكانت الصلاة ركعتين عند قوم فنسخت بأربع في الحضر احتجوا بقوله تعالى نأت بخير منها والخير ما هو أخف علينا وبقوله تعالى يرد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر والجواب عن الأول أن نقول بل الخير ما هو أكثر ثوابا وأصلح لنا في المعاد وإن كان أثقل في الحال وعن الثاني أنه محمول على اليسر في الآخرة حتى لا يتطرق إليها تخصيصات غير محصورة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 المسألة التاسعة يجوز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس لأن التلاوة والحكم عبادتان منفصلتان وكل ما كاكذلك فإنه غير مستبعد في العقل أن يصيرا معا مفسدتين أو أن يصير أحدهما مفسدة دون الآخر وتكون الفائدة في بقاء التلاوة دون الحكم ما يحصل من العلم بأن اللتعالى أزال مثل هذا الحكم رحمة منه على عباده وقد نسخ الله تعالى الحكم دون التلاوة في قوله تعالى متاعا إلى الحول غير إخراج بقوله تعالى يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا والتلاوة دون الحكم فيما يروى من قوله الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 وعن أنس رضي الله عنه أنه نزل في قتلى بئر معونة بلغوا إخواننا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 وعن أبي بكرضي الله عنه كنا نقرأ في القران لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم والحكم والتلاوة معا وهو ما يروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات محرمات فنسخن بخمس وروي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 المسألة العاشرة الخبر إما أن يكون خبرا عما لا يجوز تغيره كقولنا العالم محدث وذلك لا يتطرق إليه النسخ أو عما يجوز تغيره وهو إما أن يكون ماضيا أو مستقبلا والمستقبل إما أن يكون وعدا أو وعيدا أو خبرا قوله عن حكم كالخبر عوجوب الحج ويجوز النسخ في الكل وقال أبو علي وأبو هاشم لا يجوز النسخ في شئ منه وهو قول أكثر المتقدمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 لنا أن الخبر إذا كان عن أمر ماض كقوله عمرت نوحا ألف سنة جاز أن يبين من بعده أنه أراد ألف سنة إلا خمسين عاما وإن كان خبرا مستقبلا وكان وعدا أو وعيدا كقلوه لأعذبن الزاني أبدا فيجوز أن يبين من بعد أنه أراد ألف سنة وإن كان خبرا عن حكم الفعل في المستقبل كان الخبر كالأمر في تناوله للأوقات المستقبلة فيصح إطلاق الكل مع أن المراد بعض ما تناوله بموضوعه فثبت أن حكم النسخ في الخبر كهو في الأمر احتجوا بوجهين الأول إن دخول النسخ في الخبر يوهم أنه كان كاذبا والثاني أنه لو جاز نسخ الخبر لجاز أن يقول أهلك الله عادا ثم يقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 ما أهلكهم ومعلوم أنه لو قال ذلك كان كذبا والجواب عن الأول أن دخول النسخ على الأمر يوهم البداء أيضا فإن قالوا لا يوهم لأن النهي إنما دل على أن الأمر لم يتناول ذلك الوقت قلنا وها هنا أيضا لا يوهم الكذب لأن الناسخ يدل على أن الخبر ما تناول تلك الصورة وعن الثاني أن إهلاكهم غير متكرر لإنهم لا يهلكون إلا مرة واحدة فقط فقوله ما أهلكهم رفع لتلك المر فيلزم الكذب وأما إن أراد بقوله ما أهلكهم أنه ما أهلك بعضهم كان ذلك تخصيص بالأشخاص لا بالأزمان فلم يكن نسخا والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 المسألة الحادية عشرة إذا قال الله تعالى افعلوا هذا الفعل أبدا يجوز نسخه خلافا لقوم لنا وجهان الأول أن لفظ التأبيد في تناوله لجميع الأزمان المستقبلة كلفظ العموم في تناوله لجميع الأعيان فإذا جاز أحد التخصيصين فكذا الثاني والجامع هو الحكمة الداعية إلى جواز التخصيص الثاني أن شرط النسخ أن يرد على ما أمر به على سبيل الدوام والتأبيد لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 يدل إلا على الدوام فكان التأبيد شرطا لإمكان النسخ وشرط الشئ لا ينافيه احتجوا بأمرين الأول أن قوله أفعلوا أبدا قائم مقام قوله افعلوا في هذا الوقت وفي ذلك وذاك إلى أن يذكر الأوقات كلها ولو ذكر على هذا الوجه لم يجز النسخ فكذا إذا ذكر بلفظ التأبيد الثاني لو جاز نسخ ما ورد بلفظ التأبيد لم يكن لنا طريق إلى العلم بدوام التكليف والجواب عن الأول أن ذلك يمنع من النسخ كله لأن المنسوخ لا بد من كونه لفظا يفيد الدوام إما بصريحه وإما بمعناه ثم إنه ينتقض بأنه يجوز أن يقال جاءني الناس إلا زيدا ولا يجوز جائني زيد وعمر وبكر وما جاءني زيد ثم الفرق ما حققناه في مسألة أن للعموم صيغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 وعن الثاني أن لفظ التأبيد يفيد ظن الاستمرار لكن القطع به لا يحصل إلا من القرائن والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 القسم الثاني في الناسخ والمنسوخ وفيه مسائل المسألة الأولى نسخ السنة بالسنة يقع على أربعة أوجه الأول نسخ السنة المقطوعة بالسنة المقطوعة والثاني نسخ خبر الواحد بخبر الواحد كقوله عليه الصلاة والسلام كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وقال في شارب الخمر فإن شربها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 الرابعة فاقتلوه ثم حمل إليه من شربها الرابعة فلم يقتله والثالث نسخ خبر الواحد بالخبر المقطوع ولا شك فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 والرابع نسخ الخبر المتواتر وهو جائز في العقل غير واقع في السمع عند الأكثرين خلافا لبعض أهل الظاهر لنا أن الصحابة رضي الله عنهم كانت تترك خبر الواحد إذا رفع حكم الكتاب قال عمر رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وهذا الاستدلال ضعيف لأنا نقول هب أن هذا الحديث دل على أنهم ما قبلوا ذلك الخبر في نسخ المتواتر فكيف يدل على إجماعهم على أنهم ما قبلوا خبرا من أخبار الآحاد في نسخ المتواتر واحتج اهل الظاهر بوجوه الأول أنه جاز تخصيص المتواتر بالآحاد فجاز نسخه به والجامع دفع الضرر المظنون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 الثاني أن خبر الواحد دليل من أدلة الشرع فإذا صار معارضا لحكم المتواتر وجب تقديم المتأخر قياسا على سائر الأدلة الثالث أن نسخ الكتاب وقع بأخبار الآحاد من وجوه أحدها قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية منسوخ بما روي بالآحاد أن النبي ص نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وثانيها قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم منسوخ بما روي بالآحاد أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 النبي ص قال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها وثالثها قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف منسوخ بما روي بالآحاد من قوله عليه الصلاة والسلام لا وصية لوارث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 ورابعها أن الجمع بين وضع الحمل والمدة منسوخ بأحد الأجلين وإذا ثبت نسخ الكتاب بخبر الواحد وجب جواز نسخ الخبر المتواتر لأنه لا قائل بالفرق الرابع أن أهل قبا قبلوا نسخ القبلة بخبر الواحد ولم ينكر الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 الخامس أنه عليه الصلاة والسلام كان ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ والجواب عن الأول أن الفرق بين النسخ والتخصيص واقع بإجماع الصحابة رضي الله عنهم وللخصم أن يمنع وجود هذا الإجماع كما سبق وعن الثاني أن المتواتر مقطوع في متنه والآحاد ليس كذلك فلم لا يجوز أن يكون هذا التفاوت مانعا من ترجيح خبر الواحد وأما الآيات فقوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 محرما إنما يتناول الموحى إليه إلى تلك الغاية ولا يتناول ما بعد ذلك فلم يكن النهي الوارد بعده نسخا وعن الثانية أنا إنما خصصنا قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم بقوله عليه الصلاة والسلام لا تنكح المرأة على عمتها لتلقي الأمة هذا الحديث بالقبول وأيضا غير ممتنع أن يكون الخبر مقارنا فقبلوه مخصصا لا ناسخا وعن الثالثة أنه يجوز أن يصدر الإجماع عن خبر ثم لا ينقل ذلك الخبر أصلا استغناء بالإجماع عنه وإذا جاز ذلك فالأولى أن يجوز أن يصدر إجماعهم عن خبر ثم يضعف نقله استغناء بالإجماع عنه وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يكون هذا الخبر مقطوعا به عندهم ثم يضعف نقله لإجماعهم على العمل بموجبه وهذا هو الجواب أيضا عن الرابعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 والجواب عن الحجة الرابعة لعل رسول الله عليه الصلاة والسلام أخبرهم بذلك قبل وقوع الواقعة فلهذا قبلوا خبر الواحد أو لعله انضم إليه من القرائن ما أفاد العلم نحو كون المسجد قريبا من الرسول عليه الصلاة والسلام وارتفاع الضجة في ذلك والجواب عن الحجة الخامسة أنا سنبين ضعفها في باب خبر الواحد إن شاء الله تعالى المسألة الثانية قال الأكثرون يجوز نسخ الكتاب ودليله ما ذكرناه في الر على أبي مسلم الأصفهاني بقي ها هنا أمران الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 احدهما أنه يجوز نسخ السنة بالقرآن وهو أيضا واقع وقال الشافعي رضي الله عنه لا يجوز احتج المثبتون بأمور أحدها أن التوجه إلى بيت المقدس كان واجبا في الابتداء بالسنة لأنه ليس في القرآن ما يتوهم كونه دليللا له عليه إلا قوله تعالى فأينما تولوا فثم وجه الله وذلك لا يدل عليه لأنها تقتضي التخيير بين الجهات ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يقال التوجه إلى بيت المقدس وقع في الأصل بالكتاب إلا أنه نسخت تلاوته كما نسخ حكمه فإنه لا دليل يمنع من هذا التجويز سلمنا أن التوجه إلى بيت المقدس وقع بالسنة فلم لا يجوز أن يقال وقع نسخه أيضا بالسنة وليس من حيث ثبت التوجه إلى الكعبة بالكتاب ما يوجب أن يكون التحويل عن بيت المقدس بالكتاب لأن الظاهر أنه حول عن بيت المقدس ثم أمر بالتوجه إلى الكعبة ولهذا كان يقلب وجهه في السماء لالوجه سوى أنه قد حول عن الجهة التي كان يتوجه إليها وينتظر ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 يؤمر به من بعد فأمر بالتوجه إلى الكعبة فإن لم يكن ذلك هو الظاهر فهو مجوز وهذا كاف في المنع من من الاستدلال وثانيها قوله تعالى فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وهو نسخ تحريم المباشرة وليس لتحريم في القرآن وثالثها نسخ صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان وكان صوم عاشوراء ثابتا بالسنة ورابعها صلاة الخوف وردت في القرآن ناسخة لما ثبت بالسنة من جواز تأخيرها إلى انجلاء القتال حتى قال عليه الصلاة والسلام يوم الخندق حشى الله قبورهم نارا لحبسهم عن الصلاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 وخامسها قوله تعالى فلا ترجعوهن إلى الكفار نسخ لما قرره رسول الله ص من العهد والصلح واعلم أن السؤالين المذكورين واردان في الكل ومن الجهال من قدح في هذين السؤالين وقال لا حاجة بنا إلى تقدير سنة خافية مندرسة ولا ضرورة فلم نقدرهما ذلك وهذا جهل عظيم لأن المستدل لا بد له من تصحيح مقدماته بالدلالة فإذا عجز عنها لم يتم دليله واحتج الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى لتبين للناس ما نزل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 إليهم وهذا يدل على أن كلامه بيان للقرآن والناسخ بيان للمنسوخ فلو كان القرآن ناسخا للسنة لكان القرآن بيانا للسنة فيلزم كون كل واحد منهما بيانا للآخر والجواب ليس في قوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم دليل على أنه لا يتكلم إلا بالبيان كما أنك إذا قلت إذا دخلت الدار لا أسلم على زيد ليس فيه أنك لا تفعل فعلا آخر سلمنا أن السنة كلها بيان لكن البيان هو الإبلاغ وحمله على هذا أولى لأنه عام في كل القرآن أما حمله على بيان المراد فهو تخصيص ببعض ما أنزل وهو ما كان مجملا أو عاما مخصوصا وحمل اللفظ على ما يطابق الظاهر أولى من حمله على ما يوجب ترك الظاهر والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 المسألة الثالثة نسخ الكتاب بالسنة المتواترة جائز وواقع وقال الشافعي رضي الله عنه لم يقع احتج المثبتون بصورتين أحداها أنه كان الواجب على الزانية الحبس في البيوت لقوله تعالى فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت ثم أن الله تعالى نسخ ذلك بآية الجلد ثم إنه ص نسخ الجلد بالرجم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 فإن قلت بل نسخ ذلك بما كان قرآنا وهو قوله الشيخ والشيخة إذ زنيا فارجموهما البته قلت إن ذلك لم يكن قرآنا ويدل عليه أن عمر رضي الله عنه قال لولا أن يقول الناس إن عمر زاد في كتاب الله شيئا لألحقت ذلك بالمصحف ولو كان ذلك قرآنا في الحال أو كان ثم نسخ لما قال ذلك ولقائل أن يقول لما نسخ الله تعالى تلاوته وحكم بإخراجه من المصحف كفى ذلك فصحة قول عمر رضي الله عنه ولم يلزم منه القطع بأنه لم يكن البتة قرآنا وثانيها نسخ الوصية للأقربين بقوله عليه السلام لا وصية لوارث لأن آية المواريث لا تمنع الوصية إذ الجمع ممكن وهذا ضعيف لأن كون الميراث حقا للوارث يمنعه من صرفه إلى الوصية فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية ولأن قوله ص لا وصية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 لوارث خبر واحد إذ لو قلنا إنه كان متواترا لوجب أن يكون الآن متواترا لأنه خبر في واقعة مهمة تتوفر الدواعي على نقله وما كان كذلك وجب بقاؤه متواترا وحيث لم يبق الآن متواترا علمنا أنه ما كان متواترا في الأصل فالقول بأن الآية صارت منسوخة به يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز بالإجماع واحتج الشافعي رضي الله عنه بأمور الأول قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها والاستدلال من وجوه أربعة أحدها أنه تعالى أخبر أن ما ينسخه من الآيات يأت بخير منه وذلك يفيد أنه تعالى يأتي بما هو من جنسه كما إذا قال للإنسان ما أخذ منك من ثوب آتك بخير منه أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه وأذا ثبت أنه لا بد وأن يكون من جنسه فجنس القرآن قرآن وثانيها أن قوله تعالى نأت بخير منها يفيد أنه هو المتفرد بالإتيان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 بذلك الخير وذلك هو القرآن الذي هو كلام الله تعالى دون السنة التي يأتي بها الرسول عليه السلام وثالثها أن قولتعالى نأت بخير منها يفيد أن المأتي به خير من الآية والسنة لا تكون خيرا من القرآن ورابعها أنه تعالى قال ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير دل على أن الذي يأتي بخير منها هو المختص بالقدرة على إنزاله وهذا هو القرآن دون غير الثاني قوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم فوصفه بأنه مبين للقرآن ونسخ العبادة رفعها ورفعها ضد بيانها الثالث قوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية أخبر تعالى بأنه هو الذي يبدل الآية بالآية الرابع أنه تعالى حكى عن المشركين أنهم قالوا عند تبديل الآية بالآية إنما أنت مفتر ثم إنه تعالى أزال هذا الإبهام بقوله قل نزله روح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 القدس من ربك وهذا يقتضي أن ما لم ينزله روح القدس من ربه لا يكون مزيلا للإبهام الخامس قوله تعالى قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي وهذا يدل على أن القرآن لا تنسخه السنة السادس أن ذلك يوجب التهمة والنفرة والجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في الآية الأولى بوجه عام ثم بما يخص كل واحد من تلك الوجوه أما العام فهو أن قوله تعالى نأت بخير منها ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخا بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئا مغايرا للناسخ يحصل بعد حصول النسخ والذي يدل على تحقق هذا الاحتمال أن هذه الآية صريحة في أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 الآية الأولى فلو كان نستلك الآية مرتبا على الإتيان بذلك الخير لزم ترتب كل واحد منهما على الآخر وهو دور وأما الوجوه الخاصة فالجواب عن الأول لا نسلم أن ذلك الخير لا بوأن يكون من جنس الآية المنسوخة فليس تعلقهم بالمثال الذي ذكروه أولى من مثاآخر وهو أن يقول القائل من يلقني بحمد وثناء جميل محمد ألقه بخير منه في أنه لا يقتضي أن الذي يلقاه به من جنس الحمد والثناء أو من قبيل المنحة والعطاء وعن الثاني وهو أن قوله نأت بخير منها يفيد أنه هو المتفرد بالإتيان بذلك الخير أن نقول المراد بالإتيان شرع الحكم وإلزامه والسنة في ذلك كالقرآن في أن المثبت لهما هو الله تعالى وعن الثالث وهو قوله السنة لا تكون خيرا من القرآن أن نقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 إذا كان المراد بالخير الأصلح في التكليف والأنفع في الثواب لم يمتنع أن يكون مضمون السنة خيرا من مضمون الآية وعن الرابع أن النسخ رفع الحكم سواظهر ذلك بالقرآن أو بالسنة وعلى التقديرين فالله تعالى هو المتفرد به والجواب عن الحجة الثانية أن النسخ لا ينافي البيان لأنه تخصيص للحكم بالأزمان كما أن التخصيص تخصيص للحكم بالأعيان والجواب عن الحجة الثالثة أن الناسخ سواء كان قرآنا أو خبرا فالمبدل في الحقيقة هو الله تعالى والجواب عن الحجة الرابعة أن من يتهم الرسول عليه الصلاة والسلام فإنما يتهمه لأنه يشك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 في نبوته ومن تكن هذه حاله فالنبي عليه الصلاة والسلام مفتر عنده سواء نسخ الكتاب بالكتاب أو بالسنة والمزيل لهذه التهمة التمسك بمعجزاته والجواب عن الحجة الخامسة وهي قوله تعالى ائت بقرآن غير هذا أو بدله إنه يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لا ينسخ إلا بوحي ولا يدل على أن الوحي لا يكون إلا قرآنا والجواب عن الحجة السادسة أن النفرة زائلة بالدليل الدال على أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى والله أعلم المسألة الرابعة في كون الإجماع منسوخا وناسخا الإجماع إنما ينعقد دليلا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه ما دام عليه الصلاة والسلام حيا لم ينعقد الإجماع من دونه لأنه ص سيد المؤمنين ومتى وجد قوله عليه الصلاة والسلام فلا عبرة بقول غيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 فإذن الإجماع إنما ينعقد دليلا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام إذا ثبت هذا فنقول لو انتسخ الإجماع لكان انتساخه إما بالكتاب أو بالسنة أو بالإجماع أو بالقياس الكل باطل أما بالكتاب والسنة فلأنه لا يخلو إما أن يقال إنهما كانا موجودين وقت انعقاد ذلك الإجماع أو ما كانا موجودين في ذلك الوقت فإن كانا موجودين مع أن الأمة حكمت على خلافهما كانت الأمة مجمعة على الخطأ ذاهبة عن الحق وإنه غير جائز وإن لم يكونا موجودين استحال حدوثهما بعد ذلك لاستحالة أن يحدث كتاب أو سنة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وأما بالإجماع فلأن انعقاد هذا الإجماع الثاني إما أن يكون لا عن دليل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 أو عن دليل فإن لم يكن عن دليل كان ذلك إجماعا على الخطأ وإنه غير جائز وإن كان عن دليل عاد التقسيم الأول من أن يقال إن ذلك الدليل أما أن يكون حال انعقاد الإجماع الأول أو حدث بعده وقد بينا فساد هذين القسمين فإن قلت أليس أن الأمة إذا اختلفت على قولين فقد جوزت للعامي أن يأخذ بأيهما شاء ثم إذا اتفقت بعذ ذلك على أحدهما فقد منعت العامي من الأخذ بذلك القول الثاني فها هنا الإجماع الثاني ناسخ لحكم الإجماع الأول قلت الأمة إنما جوز ت للعامي الأخذ بأي القولين شاء بشرط أن لا يحصل الإجماع على أحد القولين فكان الإجماع الأول مشروطا بهذا الشرط فإذا وجد الإجماع فقد زال شرط الإجماع الأول فانتفى الإجماع الأول لانتفاء شرطه لا لأن الثاني نسخه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 وأما بالقياس فلأن شرط صحة القياس عدم الإجماع فإذا وجد الإجماع لم يكن القياس صحيحا فلم يجز نسخه به وأما كون الإجماع ناسخا فقد جوزه عيسى بن أبان والحق أنه لا يجوز لنا أن المنسوخ بالإجماع إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا والأول يقتضي وقوع الإجماع على خلاف النص وخلاف النص خطأ والإجماع لا يكون خطأ والثاني أيضا باطل لأن الإجماع المتأخر إما أن يقتضي أن الإجماع الأول حين وقع وقع خطأ أو يقتضي أنه كان صوابا ولكن إلى هذه الغاية والأول باطل لأن الإجماع لا يكون خطأ ولو جاز ذلك لما كان المنسوخ به أولى من الناسخ وإن كان صوابا حين وقع ولكن كان مؤقتا فلا يخلو ذلك الإجماع المتقدم المفيد للحكم المؤقت من أن يكون مطلقا أو مؤقتا فإن كان مطلقا استحال أن يفيد الحكم مؤقتا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 وإن كان مؤقتا إلى غاية فذلك الإجماع ينتهي عند حصول تلك الغاية بنفسه فلا يكون الإجماع المتأخر رافعا له والثالث باطل لأن هذه المسألة لا تتصور إلا إذا اقتضي القياس حكما ثم أجمعوا على خلاف حكم ذلك القياس فحينئذ يزول حكم ذلك القياس بعد ثبوته لتراخي الإجماع عنه وهذا محال لأن شرط صحة القياس عدم الإجماع فإذا وجد الإجماع فقد زال شرط صحة القياس وزوال الحكم لزوال شرطه لا يكون نسخا المسألة الخامسة في كون القياس منسوخا وناسخا أما كونه منسوخا فنقول نسخ القياس إما أن يكون في زمان حياة الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد وفاته فإن كان حال حياته فلا يمتنع رفعه بالنص أو بالإجماع أو بالقياس أما بالنص فبأن ينص الرسول عليه الصلاة والسلام في الفرع على خلاف الحكم الذي يقتضيه القياس بعد استقرار التعبد بالقياس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 وأما بالإجماع فلأنه إذا اختلفت الأمة على قولين قياسا ثم أجمعوا على أحد القولين كان إجماعهم على أحد القولين رافعا لحكم القياس الذي اقتضاه القول الآخر وأما بالقياس فبأن ينص في صورة على خلاف ذلك الحكم ويجعله معللا بعلة موجودة في ذلك الفرع وتكون أمارة عليتها أقوى من أمارة علية الوصف للحكم الأول في الأصل الأول ويكون كل ذلك بعد استقرار التعبد بالقياس الأول وأما بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه يجوز نسخه في المعنى وإن كان ذلك لا يسمى نسخا في اللفظ أما بالنص فكما إذا اجتهد إنسان في طلب النصوص ثم لم يظفر بشئ أصلا ثم اجتهد فحرم شيئا بقياس ثم ظفر بعذ ذلك بنص أو إجماع أو قياس أقوى من القياس الأول على خلافه فإن قلنا كل مجتهد مصيب كان هذا الوجدان ناسخا لحكم القياس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 الأول لكنه لا يسمى ناسخا لأن القياس إنما يكون معمولا به بشرط أن لا يعارضه شئ من ذلك وإن قلنا المصيب واحد لم يكن القياس الأول متعبدا به فلم يكن النص الذي وجده أخرا ناسخا لذلك القياس وأما كون القياس ناسخا فهو إما أن ينسخ كتابا أو سنة أو إجماعا أو قياسا والأقسام الثلاثة الأول باطلة بالإجماع وأما الرابع وهو كونه ناسخا لقياس آخر فقد تقدم القول فيه والله أعلم المسألة السادسة في كون الفحوى منسوخا وناسخا أما كونه منسوخا فقد اتفقوا على جواز نسخ الأصل والفحوى معا وأما نسخ الأصل وحده فإنه يقتضي نسخ الفحوى لأن الفحوى تبع الأصل وإذا زال المتبوع زال التبع لا محالة وأما نسخ الفحوى مع بقاء الأصل فاختيار أبي الحسين رحمه الله إنه لا يجوز قال لأن فحوى القول لا يرتفع مبقاء الأصل إلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 وينتقض الغرض لأنه إذا حرم علينا التأفيف على سبيل الإعظام للأبوين كانت إباحة ضربهما نقضا للغرض وأما كونه ناسخا فمتفق عليه لأن دلالته إن كانت لفظية فلا كلام وإن كانت عقلية فهي يقينية فتقتضي النسخ لا محالة والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 القسم الثالث فيما ظن أنه ناسخ وليس كذلك وفيه مسائل المسألة الأولى اتفق العلماء على أن زيادة عبادة على العبادات لا يكون نسخا للعبادات ولا زيادة صلاة على الصلوات وإنما جعل أهل العراق زيادة صلاة على الصلوات الخمس نسخا لقوله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين لأنه يجعل ما كان وسطى غير وسطى فقيل لهم ينبغي أن تكون زياردة إلى عبادة على آخر العبادات نسخا لأنه يجعل العبادة الأخيرة غير أخيرة ولو كان عدد كل الواجبات قبل الزيادة عشرة فبعد الزيادة لا يبقى ذلك فيكون نسخا أما الزيادة التي لا تكون كذلك فقد اختلفوا فيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنها ليست نسخا وهو قول أبي علي وأبي هاشم وقالت الحنفية إنها نسخ ومنهم من فصل ونذكر فيه وجهين أحدهما أن النص إن أفاد من جهة دليل الخطاب أو الشرط خلاف ما أفادته الزيادة كانت الزيادة نسخا وإلا فلا وثانيهما قول القاضي عبد الجبار إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغييرا شديدا حتى صار المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة على حد ما كان يفعل قبلها كان وجوده كعدمه ووجب استئنافه فإنه يكون نسخا نحو زيادة ركعة على ركعتين وإن كان المزيد عليه لو فعل على حد ماكان يفعل قبل الزيادة صح فعله واعتد به ولم يلزم استئناف فعله وإنما يلزم أيضم إليه غيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 لم يكن نسخا نحو زيادة التغريب على الجلد وزيادة عشرين على حد القذف واعلم أن لأبي الحسين البصري رحمه الله طريقة في هذه المسألة هي أحسن من كل ما قيل فيها فقال النظر في هذه المسألة يتعلق بأمور ثلاثة أحدها أن الزيادة على النص هل تقتضي زوال أمر أم لا والحق أنه يقتضيه لأن إثبات كل شئ أقل من أن يقتضي زوال عدمه الذي كان وثانيها أن هذه الإزالة هل تسمى نسخا والحق أن الذي يزول بسبب هذه الزيادة إن كان حكما شرعيا وكانت الزيادة متراخية عنه سميت تلك الإزالة نسخا وإن كان حكما عقليا وهو البراءة الأصلية لم تسم تلك الإزالة نسخا وثالثها أنه هل تجوز الزيادة على النص بخبر الواحد والقياس أم لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 والحق أنه إن كان الزائل حكم العقل وهو البراءة الأصلية جاز ذلك إلا أن يمنع منه مانع خارجي كما لو قيل خبر الواحد لا يكون حجة فيما تعم به البلوى والقياس لا يكون حجة في الحدود والكفارات إلا أن هده الموانع لا تعلق لها بالنسخ من حيث هو نسخ وأما إن كان الحكم الزائل شرعيا فلينظر في دليل الزيادة فإن كان بحيث يجوز أن يكون ناسخا لدليل الحكم الزائل جاز إثبات الزيادة وإلا فلا فهذا حظ البحث الأصولي ولنحقق كان ذلك في المسائل الفقهية المفرعة على هذا الأصل وهي ثمانية الحكم الأول زيادة التغريب أو زيادة عشرين على جلد ثمانين لا يزيل إلا نفي وجوب ما زاد على الثمانين وهذا النفي غير معلوم بالشرع لأن إيجاب الثمانين قدر مشترك بين إيجاب الثمانين مع نفي الزائد وبين إيجابه مع ثبوت الزيادة وما به الاشتراك لا اشعار له بما به الامتياز فإيجاب الثمانين لا اشعار له ألبتة بالزائد لا نفيا ولا إثباتا إلا أن نفي الزيادة معلوم بالعقل فإن البراءة الأصلية معلومة بالعقل ولم ينقلنا عنه دليل شرعي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 وإذا كان ذلك حكما عقليا جاز قبول خبر الواحد والقياس فيه إلا أن يمنع مانع سوى النسخ وأما كون الثمانين وحدها مجزية وكونها وحدها كمال الحد وتعليق رد الشهادة عليها فكل ذلك تابع لنفي وجوب الزيادة فلما كان ذلك النفي معلوما بالعقل جاز قبول خبر الواحد والقياس فيه فكما أن الفروض لو كانت خمسا لتوقف على أدائها الخروج عن عهدة التكليف وقبول الشهادة فلو زيد فيها شئ آخر لتوقف الخروج عن عهدة التكليف وقبول الشهادة على أداء ذلك المجموع مع أنه يجوز إثباته بخبر الواحد والقياس فكذا ها هنا أما لو قال الله تعالى الثمانون كمال الحد وعليها وحدها يتعلق رد الشهادة لم نقبل في الزيادة ها هنا خبر الواحد والقياس لأن نفي وجوب الزيادة ثبت بدليل شرعي متواتر وأيضا لو كان إيجاب الثمانين يقتضي على سبيل المفهوم نفي الزائد وثبت أن مفهوم المتواتر لا يجوز نسخه بخبر الواحد والقياس لكنا لا نثبت ذلك بخبر الواحد والقياس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 الحكم الثاني تقييد الرقبة بالإيمان هو في معنى التخصيص لأنه يخرج عتق الكافرة من الخطاب فإن كان المقتضي لهذا التقييد خبر واحد أو قياسا وكان متراخيا لم يقبل لأن عموم الكتاب أجاز عتق الكافرة فتأخير حظر عتقها في الكفارة هو النسخ بعينه فلم يقبل فيه خبر واحد ولا قياس وإن كانا متقارنين فهو تخصيص والتخصيص بخبر الواحد والقياس يجوز الحكم الثالث إذا قطعت يد السارق وإحدى رجليه ثم سرق فإباحة قطع رجله الأخرى رفع لحظر قطعها وذلك الحظر إنما ثبت بالعقل فجاز رفعه بخبر الواحد والقياس ولم يسم نسخا الحكم الرابع إذا أمرنا الله تعالى بفعل أو قال هو واجب عليكم ثم خيرنا بين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 فعله وبين فعل آخر فهذا التخيير يكون نسخا لحظر ترك ما أوجبه علينا إلا أن حظر تركه كان معلوما بالبقاء على حكم العقل وذلك لأن قوله أوجبت عليكم هذا الفعل يقتضي أن للإخلال به تأثيرا في استحقاق الذم وهذا لا يمنع من أن يقوم مقامه واجب آخر وإنما نعلم أن غيره لا يقوم مقامه لأن الأصل أن غيره غير واجب ولو كان واجبا بالشرع لدل عليه دليل شرعي فصار علمنا بنفي وجوبه موقوفا على أن الأصل نفي وجوبه مع نفي دليل شرعي فالمثبت لوجوبه إنما رفع حكما عقليا فجاز أن يثبته بقياس أو خبر واحد مثال ذلك أن يوجب الله تعالى علينا غسل الرجلين ثم يخيرنا بينه وبين المسح على الخفين وكذلك إذا خيرنا الله تعالى بين شيئين ثم أثبت معهما ثالثا فأما إذا قال الله تعالى هذا الفعل واجب وحده أو قال لا يقوم غيره مقامه فإن إثبات بدل له فيما بعد رافع لما علمناه بدليل شرعي لأن قوله هذا واجب وحده صريح في نفي وجوب غيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 فالمثبت لغيره رافع لحكم شرعي فلم يجز كونه خبر واحد ولا قياسا فأما قوله تعالى واستشهدو شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان فهو تخيير بين استشهاد رجلين أو رجل وامرأتين والحكم بالشاهد واليمين زيادة في التخيير وقد بينا أن الزيادة في التخيير ليس بنسخ يمنع من قبول خبر الواحد والقياس فيه ومن قال الحكم بالشاهد واليمين نسخ لهذه الآية يلزمه أن يكون الوضوء بالنبيذ نسخا لقوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا الحكم الخامس إذا كانت الصلاة ركعتين فقط فزيد عليها ركعة أخرى قبل التشهد فإن ذلك يكون ناسخا لوجوب التشهد عقيب الركعتين وذلك حكم شرعي معلوم بطريقة معلومة فلا يثبت بخبر واحد ولا قياس وليس ذلك نسخا للركعتين لأن النسخ لا يتناول الأفعال ولا هو نسخ لوجوبهما فإنه ثابت ولا هو نسخ لإجزائهما لأنهما مجزيتان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 أبو وإنما كانتا مجزيتين أو من دون رفعة أخرى والآن لا يجزيان إلا مع ركعة أخرى وذلك تابع لوجوب ضم ركعة أخرى ووجوب ركعة أخرى ليس يرفع إلا نفي وجوبها ونفي وجوبها إنما حصل بالعقل فلم يمتنع من هذه الجهة إن يقبل فيه خبر الواحد والقياس وأما إذا زيدت الركعة بعد التشهد وقبل التحلل فإنه يكون نسخا لوجوب التحلل بالتسليم أو يكون ناسخا لكونه ندبا وذلك حكم شرعي معلوم فلم يجز إن يقبل فيه خبر الواحد ولا القياس فأما كونه ناسخا للركعتين أو لوجوبهما أو لإجزائهما فالقول فيه ما ذكرناه الآن الحكم السادس زيادة غسل عضو في الطهارة ليس بنسخ لإجزائها ولا لوجوبها وإنما هو رفع لنفي وجوب غسل ذلك العضو وذلك النفي معلوم بالعقل وكذا زيادة شرط آخر في الصلاة لا يقتضي نسخ وجوب الصلاة فأما كون الصلاة غير مجزية بعد زيادة الشرط الثاني فهو تابع لوجوب ذلك الشرط وإجزاؤها تابع وجوبه ونفي وجوبه لم يعلم بالشرع فكذلك لنفي ما يتبعه فجاز قبول خبر الواحد والقياس فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 هذا إن لم نكن قد علمنا نفي وجوب هذه الأشياء من دين النبي عليه الصلاة والسلام باضطرار فأما إن علمناه باضطرار فقد صار معلوما بالشرع مقطوعا به فلم يجز بخبر الواحد والقياس الحكم السابع قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل فإنه يفيد كون أول الليل طرفا وغاية للصيام كما يفيده لو قال تعالى آخر الصيام وغايته الليل لأن لفظة إلى موضوعة للغاية فإيجاب الصوم إلى غيبوبة الشفق يخرج أوله عن أن يكون طرفا مع أن الخطاب يفيده وفي ذلك كونه حقيقة فلا يقبل فيه خبر واحد ولا قياس لأن نفي وجوب صوم أول الليل معلوم بدليل قاطع أما لو قال صوموا النهار ثم جاء الخبر بإتمام الصوم إلى غيبوبة الشفق لم يكن ذلك نسخا لأن الخبر لم يثبت ما نفاه النص لأن النص لم يتعرض لليل وإنما نفينا الصوم بالليل لأن الأصل أن لا صوم وقامت الدلالة في النهار خاصة على وجوب الصوم فبقي الليل على حكم العقل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 الحكم الثامن لو قال الله تعالى صلوا إن كنتم متطهرين فإنه لا يمتنع أن يقبل خبر الواحد والقياس في إثبات شرط آخر للصلاة لأن إثبات بدل الشرط لا يخرجه عن أن يكون شرطا إذ لا يمتنع أن يكون للحكم شرطان وليس كذلك إثبات صوم جزء من الليل لأن ذلك يخرج أول الليل من أن يكون له غاية وأما نفي كون الشرط الآخر شرطا فلم يعلم إلا بالعقل فلم يكن رفعه رفعا لحكم شرعي والله أعلم المسألة الثانية شك في أن النقصان من العبادة نسخ لما أسقط ولا شك في أن مالا تتوقف عليه صحة العبادة لا يكون نسخه نسخا للعبادة كما لو قال أوجبت الصلاة والزكاة ثم قال نسخت الزكاة أما الذي تتوقف صحة العبادة عليه فذلك قد يكون جزءا من ماهية العبادة وقد يكون خارجا عنها واختلفوا فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 فقال الكرخي نقصان ما تتوقف العبادة عليه سواء كان جزءا أو خارجا لا يقتضي نسخ العبادة وهو المختار وقال القاضي عبد الجبار نقصان الجزء يقتضي نسخ الباقي ونقصان الشرط المنفصل لا يقتضي نسخ الباقي فنقول الدليل عليه أن نسخ أحد الجزأين لا يقتضي نسخ الجزء الآخر وذلك لأن الدليل المقتضي للكل كان متناولا للجزأين فخروج أحد الجزأين لا يقتضي خروج الجزء الآخر كسائر أدلة التخصيص واحتجوا بأن نقصان الركعة من الصلاة يقتضي رفع وجوب تأخير التشهد ونفي إجزائها من دون الركعة لأن قبل النسخ ما كان تجوز الصلاة من دون هذه الركعة وأيضا إن كانت الركعة لما نسخت أوحبت) علينا أن نخلي الصلاة منها فقد ارتفع إجزاء الصلاة إذا فعلناها مع الركعة المنسوخة وإجزاء الصلاة مع الركعة قد يكون حكما شرعيا فجاز أن يكون رفعه نسخا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 والجواب أن هذه احكام للركعة الباقية مغايرة لذاتها فكان نسخها مغايرا لنسخ تلك الذات وأما نقصان الشرط المنفصل من العبادة فلا يقتضي نسخ العبادة لأنهما عبادتان فإذا نسخ إحداهما لدليل مقصور عليها لم يجز نسخ الآخرى فعلى هذا نسخ الوضوء لا يكون نسخا للصلاة بل نفي الإجزاء مع فقد الطهارة قد زال وذلك لأن الصلاة ما كانت تجزئ بلا طهارة فإذا نسخ وجوب الطهارة صارت مجزية وارتفع نفي إجزائها فإن أراد الإنسان بقوله إن نسخ الوضوء يقتضي نسخ الصلاة هذا المعنى فصحيح لكن الكلام موهم لأن إطلاق القول بأالصلاة منسوخة هو أنه قد خرجت عن الوجوب أو عن أن تكون عبادة والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 القسم الرابع في الطريق الذي به يعرف كون الناسخ ناسخا والمنسوخ منسوخا قد يعلم عبد ذلك باللفظ تارة وبغيره اخرى أما اللفظ فهو أن يوجد لفظ النسخ أما بأن يقول هذا منسوخ أو يقول ذاك ينسخ هذا وأما غير اللفظ فهو أن يأتي بنقيض الحكم الأول أو بضده مع العلم بالتاريخ مثال النقيض قوله تعالى الآن خفف الله عنكم فإنه نسخ لثبات الواحد للعشرة لأن التخفيف نفي للثقل المذكور ومثال الضد التحويل من قبلة إلى أخرى لأن التوجه إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 الكعبة ضد التوجه إلى بيت المقدس وأما التاريخ فقد يعلم باللفظ أو بغيره أما اللفظ فكما إذا قال أحد الخبرين قبل الآخر وأما غير اللفظ فعلى وجوه أحدها أن يقول هذا الخبر ورد سنة كذا وهذا في سنة كذا وثانيها أن يعلق أحدهما على زمان معلوم التقدم والآخر بالعكس كما لو قال كان هذا في غزاة بدر والآخر في غزاة أحد وهذه الآية نزلت قبل الهجرة والأخرى بعدها وثالثها أن يروي أحدهما رجل متقدم الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويروي الآخر رجل متأخر الصحبة وانقطعت صحبة الأول للرسول عليه السلام عند ابتداء الآخر بصحبته فهذا يقتضي أن يكون خبر الأول متقدما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 أما لو دامت صحبة المتقدم مع الرسول عليه الصلاة والسلام لم يصح هذا الاستدلال ويتفرع على هذا الأصل مسائل مسألة قال القاضي عبد الجبار الصحابي إذا قال في أحد الخبرين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 المتواترين إنه كان قبل الآخر قبل ذلك وإن لم يقبل قوله في نسخ المعلوم كما تقبل شهادة الشاهدين في الإحصان الذي يترتب عليه الرجم وإن لم يقبل في إثبات الرجم وكما يقبل قول القابلة في الولد إنه من إحدى المرأتين وإن كان يترتب على ذلك ثبوت نسب الولد من صاحب الفراش مع أن شهادة المرأة لا تقبل في ثبوت النسب قال أبو الحسين رحمه الله هذا يقتضي الجواز العقلي في قبول خبر الواحد في تاريخ الناسخ ولا يقتضي وقوعه إلا إذا تبين أنه يلزم من ثبوت أحد الحكمين ثبوت الآخر مسألة اذا قال الصحابي كان هذا الحكم ثم نسخ كقولهم إن خبر الماء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 المتواترين إنه كان قبل الآخر قبل ذلك وإن لم يقبل قوله في نسخ المعلوم كما تقبل شهادة الشاهدين في الإحصان الذي يترتب عليه الرجم وإن لم يقبل في إثبات الرجم وكما يقبل قول القابلة في الولد إنه من إحدى المرأتين وإن كان يترتب على ذلك ثبوت نسب الولد من صاحب الفراش مع أن شهادة المرأة لا تقبل في ثبوت النسب قال أبو الحسين رحمه الله هذا يقتضي الجواز العقلي في قبول خبر الواحد في تاريخ الناسخ ولا يقتضي وقوعه إلا إذا تبين أنه يلزم من ثبوت أحد الحكمين ثبوت الآخر مسألة اذا قال الصحابي كان هذا الحكم ثم نسخ كقولهم إن خبر الماء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 من الماء نسخ بخبر التقاء الختانين لم يكن ذلك حجة لأنه يجوز أن يكون قاله اجتهادا فلا يلزمنا وعن الكرخي أن الراوي إذا عين الناسخ فقال هذا نسخ هذا جاز أن يكون قاله اجتهادا فلا يجب الرجوع إليه وإلم يعين الناسخ بل قال هذا منسوخ وجب قبوله لأنه لولا ظهور النسخ فيه لما أطلق النسخ اطلاقا وهذا ضعيف فلعله قاله لقوة ظنه في أن الأمر كذلك وإن كان قد أخطأ فيه والله أعلم بالصواب وبهذا انتهي المجلد الاول من المخطوطات التي تم تحقيق الكتاب عليها بحسب تقسيم المصنف ومن نقلوا عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 بسم الله الرحمن الرحيم جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الثالثة 1418 هـ / 1997 م الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 المحصول في علم أصول الفقه للامام الاصولي النظار المفسر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 - 606 هـ / 1149 - 1209 م دراسة وتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني الجزء الرابع مؤسسة الرسالة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 نموذج لورقة الغلاف من نسخة دار الكتب المصرية أصول والتي رمزنا لها ب (س) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 نموذج للورقة الاولى من نسخة دار الكتب المصرية أصول والتي رمزنا لها ب (س) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 نموذج الورقة الاخيرة من نسخة دار الكتب المصرية أصول والتي رمزنا لها ب (س) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 نموذج من الورقة التي تبدأ بها نسخة سوهاج والتي رمزنا لها ب (ج) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 نموذج الورقة الثانية من النسخة سوهاج التي رمزنا لها ب (ج) وتلاحظ آثار الرطوبة عليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 نموذج من الورقة الاخيرة من النسخة سوهاج والتي رمزنا لها ب (ج) ويلاحظ عليها تاريخ النسخ واسم الناسخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله واصحابه ومن تبعه، واهتدي بهديه الى يوم الدين، اما بعد: فقد انعم الله - تعالى - بفضله ومنه باتمام طبع الجزء الاول باقسامه الثلاثة وها نحن نتبعه بالجزء الثاني، وذلك تنفيذا لتوجيهات معالي مدير الجامعة الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي - الذي حرص - حفظه الله ان يقدم الكتاب كاملا بجميع اقسامه باقرب فرصته وابهي حلة ليكون في متناول ايدي الباحثين. فسارعت - مستعينا - بالله تعالى - مستمدا منه - جل شأنه - العون والتوفيق لاعداده وانجازه. وهذا الجزء - من الكتاب قد اشتمل على: 1 - كتاب الاجماع وقد رتبه الامام المصنف في سبعة اقسام، وفي كل قسم مجموعة من المسائل. فالقسم الأول في اصل الاجماع، والقسم الثاني: فيما أخرج من الاجماع وهو منه، والقسم الثالث: فيما ادخل في الاجماع وليس منه، والقسم الرابع: فيما يصدر عنه الاجماع والقسم لاخامس: في المجمعين والقسم السادس: فيما عليه ينعقد الاجماع، والقسم السابع: في حكم الاجماع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 2 - الكلام في الأخبار: وهو مرتب على مقدمة وثلاثة أقسام: وقد اشتملت المقدمة على خمس مسائل. وأما القسم الأول فهو في ثلاثة ابواب ادرج تحت كل باب مجموعة من المسائل. وأما القسم الثاني فقد رتب القول فيه على اقسام وفصول ضمن كل قسم وفصل مجموعة من المسائل وكذلك فعل في القسم الثالث. 3 - الكلام في القياس: وهو في مقدمة واقسام ثلاثة: ضمن المقدمة عددا من المسائل وادرج تحت كل قسم مجموعة من الابواب والفصول تناول فيها مباحث القياس كلها، وهذا القسم من الجزء اطول اقسامه واوسعها. 4 - الكلام في التعادل والترجيح، وهو مرتب على أربعة أقسام في كل قسم مجموعة من المسائل المندرجة تحته. 5 - الكلام في الاجتهاد: وقد رتبه في اربعة اركان. 6 - الكلام في المفتي والمستفتي: وقد جعله في ثلاثة اقسام. 7 - الكلام فيما اختلف فيه لا مجتهدون من أدلة الشرع وفيه احدى عشرة مسألة بالفراغ منها تم الكتاب. واما النسخ - التي حققناه عليها - فهي سبع نسخ بدلا من الستة التي حققنا الجزء الاول عليها، فقد اضفنا نسختين: اولاهما: نسخة دار الكتب المصرية رقم اصول الفقه، وهي نسخة كاملة للجزء الثاني - وحده - كتبت بخط معتاد اوراقها سبع وسبعون ومائة ورقة وابعادها (22 * 5، 16 سم) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 فرغ من نسخها سنة خمس وخمسين وستمائة هجرية. ناسخها: عبد الواحد بن أبي طالب النعجواني. وعليها تملكا وتواقيع منها الظاهر ومنها المطموس (يمكن ملاحظتها في نموذج صورة الورقة الاولى) . وقد رمزنا بالحرف (س) . والثانية: نسخة (سوهاج) برقم اصول، وهي اقدم النسخ - التي اطلعنا عليها - حيث فرغ من سنخها سنة تسع وستمائة - بعد وفاة الامام المصنف بثلاث سنوات وهي نسخة مكتبوبة بخط معتاد، وقد بلغت اوراقها تسعا وعشرين ومائتي ورقة. وابعادها (16 * 26 سم) . وفيها نقص من اولها يقرب من ثماني ورقات حيث تبدأ في الكلام على حجية الاجماع كما يلاحظ في صورة الورقة الاولى منها. وقد وصلت الى مكتبة جامعة الامام صورة عن نسخة (جستربتي) وهي اقدم النسخ التي اطلعنا عليها، حيث فرغ من نسخها سنة هـ - اي قبل وفاة المؤلف بثماني سنوات وبها نقص في الجزء الاول من الكتاب من اوله حتى (النظر الخامس) لكن هذا لا نقص لا يقلل كثيرا من قيمة هذه النسخة واهميتها. ولقد بادرنا لتصوير نسخة عنها استفندنا منها فيما لم يكن قد طبع من الجزء الثاني، وسنستفيد منها كلها إن شاء الله في الطبعة القادمة للكتاب. وبعد: فهذا كتاب (المحصول في علم اصول الفقه) نقدمه - لاول مرة - كاملا وبجميع اجزائه لطلاب العلم والباحثين محققا ومرتبا ليكون في متناول ايدي اهل العلم بعد مرور ثمانية قرون على تأليفه. واني لارجو ان اكون قد وفقت في وضع بنية هامة في بناء صرح ثقافتنا الاسلامية وعلوم شريعتنا الغراء بتقديم هذا الكتاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 والله - تعالى - اسأل ان يتقبل هذا العمل بقبول حسن - وان يجعله خالصا لوجهه الكريم، وان يحقق به النفع المأمول. انه سميع مجيب. د. طه جابر فياض العلواني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 المحصول في علم اصول الفقه للاما الاصولي النظار المفسر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 - 606 هـ / 1149 - 1209 م دراسة وتحقيق الدكتور جابر فياض العلواني الجزء الرابع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 بسم الله الرحمن الرحيم الكلام في الإجماع هو مرتب على سبعة اقسام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 القسم الأول في أصل الإجماع المسألة الأولى الإجماع يقال بالاشتراك على معنيين أحدهما العزم قال الله تعالى فأجمعوا أمركم وقال عليه الصلاة والسلام لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 وثانيهما الاتفاق يقال أجمع الرجل إذا صار ذا جمع كما يقال ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وذا تمر فقولنا اجمعوا على كذا أي صاروا ذوي جمع عليه وأما في اصطلاح العلماء فهو عبارة عن اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور ونعني ب الاتفاق الاشتراك إما في الاعتقاد أو القول أو الفعل أو إذا أطبق بعضهم على الاعتقاد وبعضهم على القول أو الفعل الدالين على الإعتقاد ونعني بأهل الحل والعقد المجتهدين في الأحكام الشرعية وإنما قلنا على أمر من الأمور ليكون متناولا للعقليات والشرعيات واللغويات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 عليه المسألة الثانية من الناس من زعم أن اتفاقهم على الحكم الواحد الذي لا يكون معلوما بالضرورة محال كما أن أتفاقهم في الساعة الواحدة على المأكول الواحد والتكلم بالكلمة الواحدة محال وربما قال بعضهم كما أن اختلاف العلماء في الضروريات محال فكذا اتفاقهم في النظريات محال والجواب أن الاتفاق إنما يمتنع فيما يتساوى فيه الاحتمال كالمأكول المعين والكلمة المعينة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 أما عند الرجحان وذلك عند قيام الدلالة أو الأمارة الظاهرة فذلك غير ممتنع وذلك كاتفاق الجمع العظيم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم واتفاق الشافعية والحنفية مع كثرتهما على قوليهما مع أن أكثر أقوالهما صادر عن الأمارة ومن الناس من سلم إمكان هذا الاتفاق في نفسه لكنه قال لا طريق لنا إلى العلم بحصوله لأن العلم بالأشياء إما أن يكون وجدانيا أو لا يكون أما الوجداني فكما يجد كل واحد منا من نفسه من جوعه وعطشه ولذته وألمه إلى غير ذلك ولا شك أن العلم بحصول اتفاق أمه محمد صلى الله عليه وسلم ليس من هذا الباب وأما الذي لا يكون وجدانيا فقد اتفقوا على أن الطريق إلى معرفته إما الحس وإما الخبر وإما النظر العقلي أما النظر العقلي فلا مجال له في أن الشخص الفلاني قال بهذا القول أو لم يقل به بقي أن يكون الطريق إليه إما الحس وإما الخبر لكن من المعلوم أن الإحساس بكلام الغير أو الإخبار عن كلامه لا يمكن إلا بعد معرفته فإذن العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كل واحد من الأمة لكن ذلك متعذر قطعا فمن الذي يعرف جميع الناس الذين هم بالشرق والغرب وكيف الأمان من وجود إنسان في مطمورة لا خبر عندنا منه فإنا إذا أنصفنا علمنا أن الذين بالشرق لا خبر عندهم من أحد من علماء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 الغرب فضلا عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل وبكيفية مذاهبه وأيضا فبتقدير العلم بكل واحد من علماء العالم لا يمكننا معرفة اتفاقهم لأنه لا يمكن ذلك إلا بالرجوع إلى كل واحد منهم وذلك لا يفيد حصول الاتفاق لاحتمال أن بعضهم أفتى بذلك على خلاف اعتقاده تقية أو خوفا أو لأسباب أخرى مخفية عنا وايضا فبتقدير أن نرجع إلى كل واحد منهم ونعلم أن كل واحد منهم أفتى بذلك من صميم قلبه فهو لا يفيد حصول الإجماع لاحتمال أن علماء بلدة إذا أفتوا بحكم فعند الإرتحال عن بلدهم والذهاب إلى البلدة الأخرى رجعوا عن ذلك الحكم قبل فتوى أهل البلدة الأخرى بذلك وعلى هذا التقدير لا يحصل الاتفاق لأنا لو قدرنا أن الأمة انقسمت إلى قسمين وأحد القسمين أفتى بحكم والآخر أفتى بنقيضه ثم انقلب المثبت نافيا والنافي مثبتا لم يحصل الإجماع وإذا كان كذلك فمع قيام هذا الاحتمال كيف يحصل اليقين بحصول الإجماع بل ها هنا مقام اخر وهو أن أهل العلم بأسرهم لو اجتمعوا في موضع واحد ورفعوا أصواتهم دفعة واحدة وقالوا أفتينا بهذا الحكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 فهذا مع امتناع وقوعه لا يفيد العلم بالإجماع لاحتمال أن يكون بعضهم كان مخالفا فيه فخاف من مخالفة ذلك الجمع العظيم أو خاف ذلك الملك الذي أحضرهم أو أنه أظهر المخالفة لكن خفى صوته فيما بين أصواتهم فثبت أن معرفة الإجماع ممتنعة فان قلت ما ذكرتموه باطل بصور إحداها أنا نعلم بالضرورة أن المسلمين معترفون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبوجوب الصلوات الخمس ونعلم اتفاق أصحاب الشافعي على القول ببطلان البيع الفاسد واتفاق الحنفية على القول بانعقاد وإن كانت الوجوه التي ذكرتموها بأسرها حاصلة ها هنا وثانيها أنا نعلم ان الغالب على أهل الروم النصرانية وعلى بلاد الفرس الإسلام وإن كنا ما لقينا كل واحد من هذه البلاد ولا كل واحد من ساكنيها وثالثها أن السلطان العظيم يمكنه أن يجمع الناس في موضع واحد بحيث يمكن معرفة اتفاقهم واختلافهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 قلت أما قوله نعلم بالضرورة اتفاق المسلمين على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قلت إن كنت تعني بالمسلمين المعترفين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقولك نعلم اتفاق المسلمين على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يجرى مجرى أن يقال نعلم اتفاق القائلين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كنت تعني به شيئا آخر غير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلا نسلم أنا نقطع أن القائل بذلك قائل بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا نسلم أيضا أنا نقطع بأن كل من قال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قال بوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وإن كنا نعترف بحصول الظن والذي يدل عليه أن الانسان قبل الإحاطة بالمقالات الغربية والمذاهب النادرة يعتقد اعتقادا جازما أن كل المسلمين يعترفون أن ما بين الدفتين كلام الله عز وجل ثم إذا فتش عن المقالات الغربية وجد في ذلك اختلافا شديدا نحو ما يروى عن ابن مسعود أنه أنكر كون الفاتحة والمعوذتين والمعوذتين من القرآن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 ويروى عن الميمونية قوم من الخوارج أنهم أنكروا كون سورة يوسف من القرآن ويروى عن كثير من قدماء الروافض أن هذا القرآن الذي عندنا ليس هو ذلك الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بل غير وبدل ونقص عنه وزيد فيه وإذا كان كذلك علمنا أنا وإن اعتقدنا في الشئ أنه مجمع عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 اعتقادا قويا لكن ذلك الاعتقاد لا يبلغ حد العلم ولا يرتفع عن درجة الظن قوله نعلم استيلاء بعض المذاهب على بعض البلاد قلنا علمنا ذلك بخبر التواتر وفرق بين معرفة حال الأكثر وبين معرفة حال الكل لأن من دخل بلدا ورأى شعائر الإسلام في جميع المحلات والسكك ظاهرة علم بالضرورة أن الغالب على أهل تلك المدينة الاسلام فإما أن يعلم قطعا أنه ليس في البلدة أحد إلا مسلم ظاهرا وباطنا فذلك مما لا سبيل إليه ألبتة والعلم بامتناعه ضروري قوله السلطان العظيم يمكنه جمع علماء العالم في موضع واحد قلنا هذا السلطان المستولي على جميع معمورة العالم مما لم يوجد إلى الآن وبتقدير وجودة فكيف يمكن القطع بأنه لم ينفلت منه أحد في أقصى الشرق الغرب او اقصى فإن ذلك الملك ليس بعلام أبي الغيوب وبتقدير أن لا ينفلت منه أحد فكيف يمكن القطع بأن الكل أفتوا بذلك الحكم طائعين راغبين غير مكرهين ولا مجبرين والإنصاف انه لا طريق لنا إلى معرفة حصول الإجماع الا في زمان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 الصحابة حيث كان المؤمنين قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم على التفضيل المسألة الثالثة إجماع أمه محمد صلى الله عليه وسلم حجة خلافا للنظام والشيعة والخوارج لنا وجوه الأول قول تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 سبيل المؤمنين الآية جمع الله تعالى بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحا لما جمع بينه وبين المحظور كما لا يجوز أن يقال إن زنيت وشربت الماء عاقبتك فثبت أن متابعة غير سبيل المؤمنين محظورة ومتابعة غير سبيل المؤمنين عبارة عن متابعة قول أو فتوى غير قولهم وفتواهم وإذا كانت تلك محظورة وجب أن تكون متابعة قولهم وفتواهم واجبة ضرورة أنه لا خروج من القسمين فإن قيل لا نسلم أن متابعة غير سبيل المؤمنين محظورة على الاطلاق ولم لا يجوز أن يكون كونها محظورة مشروطا بمشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تكون محظورة بدون هذا الشرط خرج على هذا قوله إن زنيت وشربت الماء عاقبتك لأن شرب الماء غير محظور لا مطلقا ولا بشرط الزنا فإن قلت إذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما عند حصول المشاقة وجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجبا عند حصول المشاقة لأنه لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 خروج عن القسمين لكن ذلك باطل لأن المشاقة ليست عبارة عن المعصية كيف كانت وإلا لكان كل من عصى الرسول صلى الله عليه وسلم مشاقا له بل هي عبارة عن الكفر به وتكذيبه وإذا كان كذلك لزم وجوب العمل بالإجماع عند تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك باطل لأن العلم بصحة الإجماع متوقف على العلم بالنبوة فايجاب العمل به حال عدم العلم بالنبوة يكون تكليفا بالجمع بين الضدين وهو محال قلت لا نسلم أنه إذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما عند المشاقة كان اتباع سبيل المؤمنين واجبا عند المشاقة لأن بين القسمين ثالثا وهو عدم الاتباع أصلا سلمنا أنه يلزم وجوب اتباع سبيل المؤمنين عند المشاقة لكن لا نسلم أنه ممتنع قوله المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر به وإيجاب العمل بالإجماع عند حصول الكفر محال قلنا لا نسلم أن المشاقة لا تحصل إلا مع الكفر بيانه أن المشاقة مشتقة من كون أحد الشخصين في شق وكون الآخر في الشق الآخر وذلك يكفي فيه أصل المخالفة سواء بلغ حد الكفر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 أو لم يبلغه سلمنا أن المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر فلم قلت إن حصول الكفر ينافي تمكن العمل بالاجماع بيانه أن الكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم كما يكون بالجهل بكونه صادقا فقد يكون أيضا بأمور أخر كشد الزنار ولبس الغيار وإلقاء المصحف في القاذورات والاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم مع الاعتراف بكونه نبيا وإنكار نبوته باللسان مع العلم بكونه نبيا وشئ من هذه الأنواع من الكفر لا ينافي العلم بوجوب الإجماع سلمنا هذه المنافاة فلم قلت إنها مانعة من التكليف بيانه أن الله تعالى كلف أبا لهب بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن فيكون أبو لهب مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن وذلك متعذر وهذ التوجيه ظاهر أيضا في قوله تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وإن أؤلئك الذي أخبر الله عنهم بهذا الخبر كانوا مكلفين بالإيمان فكانوا مكلفين بتصديق هذه الآية وباقي التقرير ظاهر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 سلمنا أن هذه الآية تقتضي المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين لا بشرط مشاقة الرسول لكن بشرط تبين الهدى أولا بهذا الشرط الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أنه تعالى ذكر مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وشرط فيها تبين الهدى ثم عطف عليها اتباع غير سبيل المؤمنين فوجب أن يكون تبين الهدى شرطا في التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين لأن ما كان شرطا في المعطوف عليه يجب أن يكون شرطا في المعطوف واللام في الهدى للاستغراق فيلزم أن لا يحصل التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين إلا عند تبين جميع أنواع الهدى ومن جملة أنواع الهدى ذلك الدليل الذي لأجله ذهب أهل الإجماع إلى ذكر الحكم وعلى هذا التقدير لا يبقى للتمسك بالإجماع فائدة وأيضا فالإنسان إذا قال لغيره إذا تبين لك صدق فلان فاتبعه فهم منه تبين صدق قوله بشئ غير قوله فكذا ها هنا يجب أن يكون تبين صحة إجماعهم بشئ وراء إجماعهم وإذا كنا لا نتمسك بالإجماع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 إلا بعد دليل منفصل على صحة ما أجمعوا عليه لم يبق للتمسك بالإجماع أثر وفائدة سلمنا انها تقتضي المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين ولكن عن متابعة كل ما كان غير سبيل المؤمنين أو عن متابعة بعض ما كان كذلك الأول ممنوع وبتقدير التسليم فالاستدلال ساقط أما المنع فلأن لفظ الغير ولفظ السبيل كل واحد منهما لفظ منفرد فلا يفيد العموم وأما أن بتقدير التسليم فالاستدلال ساقط لأنه يصير معنى الآية أن كل من اتبع كل ما كان مغايرا لكل ما كان سبيل المؤمنين يستحق العقاب وهذا يقتضي أن يكون المتبع لبعض ما غاير سبيل المؤمنين مستحقا للعقاب والثاني مسلم ونقول بموجبه فإن عندنا يحرم بعض ما غاير بعض سبيل المؤمنين أو بعض ما غاير كل سبيل المؤمنين أو كل ما غاير بعض سبيل المؤمنين وهو السبيل الذي صاروا به مؤمنين والذي يغايره هو الكفر بالله تعالى وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا التأويل متعين لوجهين أحدهما أنا إذا قلنا لا تتبع غير سبيل الصالحين فهم منه المنع من متابعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 غير سبيل الصالحين فيما به صاروا غير صالحين ولا يفهم منه المنع من متابعة سبيل غير الصالحين في كل شئ حتى في الأكل والشرب وثانيهما أن الآية نزلت في رجل ارتد وذلك يدل على أن الغرض منها المنع من الكفر سلمنا حظر اتباع غير سبيلهم مطلقا لكن لفظ السبيل حقيقة في الطريق الذي يحصل فيه المشي وهو غير مراد ها هنا بالاتفاق فصار الظاهر متروكا فلا بد من صرفه إلى المجاز وليس البعض أولى من البعض فتبقى الآية مجملة وأيضا فإنه لا يمكن جعله مجازا عن اتفاق الآمة على الحكم لأنه لا مناسبة ألبتة بين الطريق المسلوك وبين اتفاق أمه محمد صلى الله عليه وسلم على شئ من الأحكام وشرط حسن التجوز حصول المناسبة سلمنا أنه يجوز جعله مجازا عن ذلك الاتفاق لكن يجوز أيضا جعله مجازا عن الدليل الذي لأجله اتفقوا على ذلك الحكم فإنهم إذا أجمعوا على الشئ فإما أن يكون ذلك الإجماع عن استدلال أو لا عن استدلال فإن كان عن استدلال فقد حصل لهم سبيلان الفتوى والاستدلال فلم كان حمل الآية على الفتوى أولى من حملها على الاستدلال على الفتوى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 بل هذا أولى فإن بين الدليل الذي يدل على ثبوت الحكم وبين الطريق الذي يحصل فيه المشي مشابهة فإنه كما أن الحركة البدنية في الطريق المسلوك توصل البدن إلى المطلوب فكذا الحركة الذهنية في مقدمات ذلك الدليل توصل الذهن إلى المطلوب والمشابهة إحدى جهات حسن المجاز وإذا كان كذلك كانت الآية تقتضي إيجاب اتباعهم في سلوك الطريق الذي لأجله اتفقوا على الحكم ويرجع حاصله إلى إيجاب الاستدلال بما استدلوا به على ذلك الحكم وحينئذ يخرج الإجماع عن كونه حجة وأما إن كان إجماعهم لا عن استدلال والقول لا عن استدلال خطأ فيلزم إجماعهم على الخطأ وذلك يقدح في صحة الإجماع سلمنا دلالة الآية على تحريم متابعة غير قولهم لكن لا نسلم أن كلمة من للعموم وأن لفظ المؤمنين لعموم فإنا لو حملناه على للعموم لزم تطرف التخصيص إلى الآية لعدم دخول العوام والمجانين والنساء والصبيان في الإجماع سلمنا ذلك لكن لم قلت إنه يلزم من حظر اتباع غير سبيلهم وجوب اتباع سبيلهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 بيانه أن لفظ غير وإن كان يستعمل في الاستثناء لكنهم أجمعوا على أنه في الأصل للصفة وإذا كان كذلك كان بين اتباع غير سبيل المؤمنين وبين اتباع سبيلهم قسم ثالث وهو ترك الاتباع فإن قلت ترك متابعة سبيل المؤمنين غير سبيل المؤمنين فمن ترك متابعة سبيلهم فقد اتبع غير سبيلهم قلت لم لا يجوز أن يقال الشرط في كون الإنسان متابعا لغيره كونه آتيا بمثل فعل الغير لأجل أن ذلك الغير أتى به فمن ترك متابعة سبيل المؤمنين وهو إنما تركه لأجل أن غير المؤمنين تركوه كان متبعا في ذلك سبيل غير المؤمنين أما من تركه لأن الدليل دل عنده على وجوب ذلك الترك أو لأنه لما لم يدل شئ على متابعة المؤمنين تركه على الأصل لم يكن ها هنا متبعا لأحد فلا يدخل تحت الوعيد سلمنا دلالة الآية على وجوب متابعة سبيل المؤمنين لكن في كل الأمور أو في بعضها الأول ممنوع لوجوه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 أحدها أن المؤمنين إذا اتفقوا على فعل شئ من المباحات فلو وجب اتباع سبيلهم في كل الأمور لزم التناقض لأنه يجب عليهم فعله من حيث إنهم فعلوه ولا يجب ذلك لحكمهم بأنه غير واجب وثانيها أن أهل الإجماع قبل اتفاقهم على ذلك الحكم كانوا متوقفين في المسألة غير جازمين بالحكم بل كانوا جازمين بأنه يجوز البحث عنها ويجوز الحكم لكل أحد بما أدى إليه اجتهاده ثم إنهم بعد الإجماع قطعوا بذلك الحكم فلو وجب متابعتهم في كل ما يقولونه لزم اتباعهم في النقيضين وهو محال فإن قلت الإجماع الأول على تجويز التوقف وطلب الدلالة والحكم بما أدى إليه الاجتهاد ما كان مطلقا بل كان بشرط عدم الاتفاق على حكم واحد فإذا حصل الاتفاق زال شرط الإجماع فزال بزواله قلت المفهوم من عدم حصول الإجماع حصول الخلاف فلو شرطنا تجويز الخلاف بعدم الإجماع لزم أن يكون تجويز وجود الشئ مشروطا بوجوده وأيضا ف لو جاز في أحد الإجماعين أن يكون مشروطا بشرط جاز أيضا في الإجماع الثاني والثالث ويلزم منه أن لا يستقر شئ من الإجماعات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 وثالثها أن اتفاق المجمعين على ما أجمعوا عليه إما أن لا يكون عن استدلال أو يكون عن استدلال والأول باطل لأن القول بغير استدلال خطأ بالإجماع فلو اتفق أهل الإجماع عليه كانوا مجمعين على الخطأ وذلك يقدح في كون الإجماع حجة وإذا كان الثاني فذلك الدليل إما الإجماع أو غيره والأول باطل لأن الإجماع إما أن يكون نفس حكمهم أو نتيجة حكمهم والدليل على الحكم متقدم على الحكم والثاني يقتضي أن يكون سبيل المؤمنين إثبات ذلك الحكم بغير الإجماع فيكون إثباته بالإجماع اتباعا لغير سبيلهم فوجب أن لا يجوز فظهر أنا لو حملنا الآية على اقتضاء متابعة المؤمنين في كل الأمور لزم التناقض وإذا بطل ذلك وجب حملها على اقتضاء المتابعة في بعض الأمور وحينئذ نقول بموجبه ونحمله على الإيمان بالله تعالى ورسوله ثم الذي يؤكد هذا الاحتمال وجوه أحدها أن القائل إذا قال اتبع سبيل الصالحين فهم منه الأمر باتباعهم فيما به صاروا صالحين فكذا ها هنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 وثانيها أنا إذا حملنا الآية على ذلك كان ذلك السبيل حاصلا في الحال ولو حملناه على إجماعهم على الحكم الشرعي كان ذلك مما سيصير سبيلا في المستقبل لأنه لا يوجد إلا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فالحمل على الأول إولى وثالثها أن السلطان إذا قال ومن يشاقق وزيري من الجند ولم يتبع سبيل فلان ويشير به إلى اقوام متظاهرين في طاعة الوزير عاقبتهم فإنه انما يعنى بالسبيل المذكور سبيلهم في طاعة الوزير دون سائر السبل سلمنا دلالة الآية على وجوب المتابعة في كل الأمور لكنها تدل على وجوب متابعة بعض المؤمنين أو كلهم الأول باطل لأن لفظ المؤمنين جمع فيفيد الاستغراق ولأن إجماع البعض غير معتبر بالإجماع ولأن أقوال الفرق متناقضة والثاني مسلم ولكن كل المؤمنين هم الذين يوجدون إلى قيام الساعة فلا يكون الموجودون في العصر كل المؤمنين فلا يكون إجماعهم إجماع كل المؤمنين فإن قلت المؤمنون هم المصدقون وهم الموجودون وأما الذين لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 يوجدوا بعد فليسوا بمؤمنين قلت إذا وجد أهل العصر الثاني ففي العصر الثاني لا يصح القول بأن أهل العصر الأول هم كل المؤمنين فلا يكون اجماع أهل العصر الأول عند حصول أهل العصر الثاني قولا لكل المؤمنين فلا يكون اجماع أهل العصر الأول حجة على أهل العصر الثاني سلمنا أن أهل العصر هم كل المؤمنين لكن الآية إنما نزلت في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم فتكون الآية مختصة بمؤمني ذلك الوقت وهذا يقتضي أن يكون إجماعهم حجة لكن التمسك بالإجماع إنما ينفع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فما لم يثبت أن الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية بقوا بأسرهم إلى ما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه اتفقت كلمتهم على الحكم الواحد لم تدل هذه الآية على صحة ذلك الإجماع ولكن ذلك غير معلوم في شئ من الإجماعات الموجودة في المسائل بل المعلوم خلافه لأن كثيرا منهم مات زمان حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فسقط الاستدلال بهذه الآية سلمنا دلالاتها على وجوب متابعة مؤمني كل عصر لكن المراد متابعة كل مؤمني ذلك العصر أو بعضهم الأول باطل وإلا لاعتبر في الإجماع قول العوام بل الأطفال والمجانين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 والثاني نقول به لأن عندنا يجب في كل عصر متابعة بعض من كان فيه من المؤمنين وهو الإمام المعصوم سلمنا أن المراد متابعة جميع مؤمني العصر لكن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وهو أمر غائب عنا فكيف يعلم في المجمعين كونهم مصدقين بقلوبهم لاحتمال أنهم وإن كانوا مصدقين باللسان لكنهم كفرة بالقلب وإذا جهلنا ذلك جهلنا كونهم مؤمنين وإذا كان الواجب علينا اتباع المؤمنين فمتى جهلنا كونهم مؤمنين لم يجب علينا اتباعهم وهو أيضا لازم على المعتزلة القائلين بأن المؤمن هو المتسحق للثواب لأن ذلك غير معلوم أيضا وأيضا فالأمة متى أجمعت لم نعلم كونهم مستحقين للثواب إلا بعد العلم بكونهم محقين في ذلك الحكم إذ لو لم نعلم ذلك لجوزنا كونهم مخطئين وأن يكون خطؤهم كثيرا يخرجهم عن استحقاق الثواب واسم الايمان فإذن إنما نعرف كون المجمعين مؤمنين إذا عرفنا أن ذلك الحكم صواب فلو استفدنا العلم بكونه صوابا من إجماعهم لزم الدور فإن قلت لم لا يجوز أن يكون المراد من المؤمنين المصدقين باللسان كما في قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن قلت لا شك أن إطلاق اسم المؤمنين على المصدقين باللسان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 دون القلب مجاز فإذا جاز لكم حمل الآية على هذا المجاز فلم لا يجوز لنا حملها على مجاز آخر وهو أن نقول المراد إيجاب متابعة السبيل الذي من شأنه أن يكون سبيلا للمؤمنين كما إذا قيل اتبع سبيل الصالحين لا يراد به وجوب اتباع سبيل من يعتقد فيه كونه صالحا بل وجوب اتباع السبيل الذي يجب أن يكون سبيلا للصالحين سلمنا دلالة الآية على كون الإجماع حجة لكن دلالة قطيعة أم ظنية الأول ممنوع والثاني مسلم لكن المسألة قطعية فلا يجوز التمسك فيها بالدلائل الظنية بيانه ما تقدم في كتاب اللغات أن التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد اليقين ألبتة فإن قلت أنا نجعل هذه المسألة ظنية قلت إن أحدا من الأمة لم يقل إن الإجماع المنعقد بصريح القول دليل ظني بل كلهم نفوا ذلك فإن منهم من نفى كونه دليلا أصلا ومنهم من جعله دليلا قاطعا فلو أثبتناه دليلا ظنيا لكان هذا تخطئه لكل الأمة وذلك يقدح في الإجماع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 والعجب من الفقهاء أنهم أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه هذه العمومات لا يكفر ولا يفسق إذا كان ذلك الإنكار لتأويل ثم يقولون الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع به ومخالفه كافر أو فاسق فكأنهم قد جعلوا الفرع أقوى من الأصل وذلك غفلة عظيمة سلمنا دلالة هذه الآية على أن الإجماع حجة لكنها معارضة بالكتاب والسنة والمعقول أما الكتاب فكل ما فيه منع لكل الأمة من القول الباطل والفعل الباطل كقوله عز وجل وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل والنهي عن الشئ لا يجوز إلا إذا كان المنهي عنه متصورا وأما السنة فكثيرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 أحدها قصة معاذ وأنه لم يجر فيها ذكر الإجماع ولو كان ذلك مدركا شرعيا لما جاز الإخلال بذكره عند اشتداد الحاجة إليه لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وثانيها قوله عليه الصلاة والسلام لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي وثالثها قوله عليه السلام لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ورابعها قوله عليه الصلاة والسلام أن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينترعه (من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 جهالا فسئلوا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وخامسها قوله عليه الصلاة والسلام تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها أول ما ينسى وسادسها قوله عليه الصلاة والسلام من أشراط الساعة أن يرتفع العلم ويكثر الجهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 وهذه الأحاديث بأسرها تدل على خلو الزمان عمن يقوم بالواجبات وأما المعقول فمن وجهين الأول أن كل واحد من الأمة جاز الخطأ عليه فوجب جوازه على الكل كما أنه لو كان كل واحد من الزنج أسود كان الكل سودا الثاني أن ذلك الإجماع إما أن يكون لدلالة أو لأمارة أو لا لدلالة ولا لأمارة فإن كان لدلالة فالواقعة التي أجمع عليها كل علماء العلم تكون واقعة عظيمة ومثل هذه الواقعة مما تتوفر الدواعي على نقل الدليل القاطع الذي لأجله أجمعوا فكان ينبغي اشتهار تلك الدلالة وحينئذ لا تبقى للتمسك بالإجماع فائدة وإن كان لأمارة فهو محال لأن الأمارات يختلف حال الناس فيها فيستحيل اتفاق الخلق على مقتضاها ولأن في الأمة من لم يقل بكون الأمارة حجة فلا يمكن اتفاقهم لأجل الأمارة على حكم وإن كان لا لدلالة ولا لأمارة كان ذلك خطأ فادحا في الإجماع ولو اتفقوا عليه لكانوا متفقين على الباطل وذلك قادح في الإجماع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 والجواب قوله الآية تقتضي التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين بشرط المشاقة قلنا هذا باطل لأن المغلق على الشرط إن لم يكن عدما عند عدم الشرط فقد حصل غرضنا وإن كان عدما عند عدم الشرط فلو كان التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين مشروطا بالمشاقة ل كان عند عدم المشاقة اتباع غير سبيل المؤمنين جائزا مطلقا وهذا باطل لأن مخالفة الإجماع إن لم تكن خطأ لكن لا شك في أنه لا يكون صوابا مطلقا فبطل ما ذكروه قوله تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين مشروط بتبين الهدى قلنا لا نسلم لأن تبين الهدى شرط في الوعيد عند المشاقة لا عند اتباع غير سبيل المؤمنين ولا نسلم إنه يلزم من العطف اشتراك إحدى الجملتين بما كانت الجملة الأخرى مشروطه به سلمنا أن العطف يقتضي الاشتراك في الاشتراط لكن الهدى الذي نتبينه شرطا في حصول الوعيد عند مشاقة الرسول هو الدليل الدال على التوحيد والنبوة لا الدليل الدال على أحكام الفروع وإذا لم يكن تبين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 الدليل على مسائل الفروع شرطا في لحوق الوعيد على مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وجب أن لا يكون ذلك شرطا أيضا في لحوق الوعيد على اتباع غير سبيل المؤمنين وإلا لم تكن الجملة الثانية مشروطة بالشرط المعتبر في الجملة الأولى بل بشرط لم يدل عليه الدليل أصلا سلمنا أن مقتضى العطف ما ذكرتموه لكن معنا دليل يمنع منه من وجهين الأول أن هذه الآية خرجت مخرج المدح للمؤمنين وتمييزهم عن غيرهم ولو حملناه على ما ذكره السائل لبطل ذلك ألا ترى أن اليهود والنصارى إذا عرفنا أن قولا من أقاويلهم هدى فإنه يلزمنا أن نقول بمثله مع أنه لا تبعية لهم فيه الثاني أن اتباع المؤمنين هو الرجوع إلى قولهم لأجل أنهم كانوا هـ لا لأنه صح ذلك بالدليل ألا ترى أنا لا نكون متبعين لليهود والنصارى في قولنا بإثبات الصانع ونبوة موسى وعيسى عليهما السلام وإن شاركناهم في ذلك الاعتقاد لأجل أنا لم نذهب إلى ذلك لأجل قولهم قوله لفظ الغير والسبيل ليس للجمع فلا يقتضي تحريم كل ما كان غيرا لكل ما كان سبيلا للمؤمنين قلنا العموم حاصل من حيث اللفظ ومن حيث الإيماء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 أما اللفظ فلوجهين الأول أن القائل إذا قال من دخل غير داري ضربته فهم منه العموم بدليل صحة الاستثناء لكل واحد من الدور المغايرة لداره الثاني أنا لو حملنا الآية على سبيل واحد مع أنه غير مذكور صارت الآية مجملة ولو حملناها على العموم لم يلزم ذلك وحمل كلام الله عز وجل على ما هو أكثر فائدة أولى لا سيما إذا كانت هذه اللفظة إنما تستعمل في العرف لإفادة العموم أما الإيماء فلما سيأتي في باب القياس إن شاء الله عز وجل أن ترتيب الحكم على الاسم مشعر بكون المسمى علة لذلك الحكم فكانت عله التهديد كونه اتباعا لغير سبيل المؤمنين فيلزم عموم الحكم لعموم هذا المقتضي قوله إذا حملناه على الكل سقط الاستدلال قلنا ذلك إنما يلزم لو حملناه على الكل من حيث هو كل أما لو حملناه على كل واحد لم يلزم ذلك ولا شك أنه هو المتبادر إلى الفهم لأن من قال من دخل غير دارى فله كذا لا يفهم منه أنه أراد به من دخل جميع الدور المغايره لداره قوله المراد منه المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين فيما به صاروا غير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 مؤمنين وهو الكفر قلنا لا نسلم بل الأصل اجراء الكلام على عمومه وايضا فلأنة لا معنى لمشاقة الرسول الا اتباع سبيل المؤمنين فيما به صاروا غير مؤمنين فلو حملنا قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين على ذلك لزم التكرار قوله نزلت في رجل ارتد قلنا تقدم بيان أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب قوله السبيل هو الطريق الذي يحصل المشي فيه قلنا لا نسلم لقوله تعالى قل هذه سبيلي وقوله ادع إلى سبيل ربك سلمناه لكنا نعلم بالضرورة أن ذلك غير مراد ها هنا ولا نزاع في أن أهل اللغة يطلقون لفظ السبيل على ما يختاره الإنسان لنفسه في القول والعمل وإذا كان ذلك مجازا ظاهرا وجب حمل اللفظ عليه لأن الأصل عدم المجاز الآخر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 وحينئذ يحمل اللفظ على هذا المعنى إلى أن يذكر الخصم دليلا معارضا وبه نجيب عن قولهم لا مناسبة بين الأتفاق على الحكم وبين الطريق الذي يحصل المشي فيه قوله لم لا يجوز أن يكون المراد وجوب متابعتهم في الاستدلال بالدليل الذي لأجله أثبتوا ذلك الحكم قلنا هب أن الأمر كذلك ولكن لما أمر الله تعالى باتباع سبيلهم في الاستدلال بدليلهم ثبت أن كل ما اتفقوا عليه صواب وأيضا فمن أثبت الحكم لدليل لم يكن متبعا لغيره قوله لم قلت إن لفظة من والمؤمنين للعموم قلنا لما تقدم في باب العموم قوله لم قلت إنه يلزم من حظر اتباع غير سبيلهم وجوب اتباع سبيلهم قلت لأنه يفهم في العرف من قول القائل لا تتبع غير سبيل الصالحين الأمر بمتابعة سبيل الصالحين حتى لو قال لا تتبع غير سبيل الصالحين ولا تتبع سبيلهم أيضا لكان ذلك ركيكا بلى لو قال لا تتبع سبيل غير الصالحين فإنه لا يفهم منه الأمر بمتابعة سبيلهم ولذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 لا يستقبح أن يقال لا تتبع سبيل غير الصالحين ولا سبيلهم وبالجملة فالفرق معلوم بالضرورة في العرف بين قولنا لا تتبع غير سبيل الصالحين وبين قولنا لا تتبع سبيل غير الصالحين قوله يجب اتباع سبيل المؤمنين في كل الأمور أو في بعضها قلنا بل في كلها ولذلك يصح الاستثناء لأنه لما ثبت النهي عن متابعة كل ما هو غير سبيل المؤمنين وثبت أنه لا واسطة بينها وبين اتباع سبيل المؤمنين لزم أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجبا في كل شئ قوله يلزم وجوب اتباعهم في فعل المباحات قلنا هب أن هذه الصورة مخصوصة للضرورة التي ذكرتموها فتبقى حجة فيما عداها قوله الناس قبل حصول الإجماع كانوا مجمعين على التوقف في الحكم وطلب الدليل قلنا الإجماع على ذلك مشروط بأن لا يحصل الاتفاق قوله عدم الإجماع هو الاختلاف فيلزم أن يكون جواز الاختلاف مشروطا بوقوع الاختلاف قلنا هب أنه كذلك فأي محال يلزم منه قوله لو جاز أن يكون هذا الاجماع مشروطا لجاز مثله في سائر الإجماعات قلنا ذلك جائز ولكن أهل الإجماع حذفوا هذا الشرط عند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 حصول الاتفاق على الحكم ولم يحذفوه عند الاتفاق على جواز الاختلاف قوله أهل الإجماع أثبتوا ذلك الحكم بغير الإجماع وإثباته بالإجماع مغاير لسبيل المؤمنين قلنا لما أثبتوا الحكم بدليل سوى الإجماع فقد فعلوا أمرين أحدهما أنهم أثبتوا ذلك الحكم بدليل والآخر أنهم تسمكوا بغير الاجماع والآية لما دلت على وجوب متابعتهم في كل الأمور كانت متناولة للصورتين إلا أنه ترك العمل بمقتضى الآية في إحدى الصورتين لانعقاد الإجماع على أنه لا يجب علينا الاستدلال بما استدل به أهل الإجماع فبقى العمل بها في الباقي قوله إذا قال اتبع سبيل الصالحين فهم منه إيجاب اتباع سبيلهم فيما به صاروا صالحين قلنا لا نسلم لأن سبيل الصالح شئ مضاف إلى الصالح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 والمضاف إلى الشئ خارج عنه والصلاح جزء من ماهية الصالح وداخل فيها والخارج عن الشئ لا يكون نفس الداخل فيه سلمنا لكن المتابعة في الصلاح ممكنة أما في الإيمان فلا لأنه لا يحصل بالتقليد وقد بينا أن الاتباع هو الإتيان بمثل فعل الغير لأجل أن ذلك الغير فعله قوله إذا حملناه على الإيمان كان ذلك السبيل حاصلا في الحال ولو حملناه على الإجماع لم يكن حاصلا في الحال قلنا لما دللنا على إنه لا يجوز حمله على الإيمان وجب حمله على ذلك غايته أنه يفضي إلى المجاز لكنه مجاز سائغ لأن تسمية الشئ باسم ما يؤول إليه مشهور قوله السلطان إذا قال ومن يشاقق وزيري ويتبع غير سبيل فلان ويعني به المطيعين لذلك الوزير فهم منه أنه أراد بذلك سبيلهم في طاعته قلنا لا نسلم فإن اللفظ يقتضي العموم وما ذكرتموه قرينة عرفية تقتضي الخصوص والدلالة اللفظية راجحة على القرينة العرفية قوله المراد إيجاب اتباع كل المؤمنين أو بعضهم قلنا الكل قوله كل المؤمنين هم الذين يوجدون إلى قيام الساعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 قلنا هذا مدفوع لوجهين الأول أن جميع المؤمنين هم الذين دخلوا في الوجود لأن المؤمن هو المتصف بالإيمان والمتصف بالإيمان يجب ان يكون موجودا وما س يوجد في المستقبل ولم يوجد في الحال فهو غير موجود قوله الموجودون في العصر الأول لا يصدق عليهم في العصر الثاني أنهم كل المؤمنين قلنا لكن لما صدق عليهم في العصر الأول أنهم كل المؤمنين وهم في العصر الأول اتفقوا على أنه لا يجوز لأحد من سائر الأعصار مخالفتهم وجب أن يكون ذلك الحكم منهم صدقا في العصر الأول فإذا ثبت في العصر الأول أن ذلك الحكم حق في كل الأعصار ثبت ذلك في كل الأعصار إذ لو لم يكن حقا في العصر الثاني لما صدق في العصر الأول أنه حق في كل الأعصار مع أنا فرضنا أن ذلك حق الثاني إن الله عز وجل علق العقاب على مخالفة كل المؤمنين زجرا عن مخالفتهم وترغيبا في الأخذ بقولهم فلا يجوز أن يكون المراد جميع المؤمنين إلى قيام الساعة لأنه لا فائدة في التمسك بقولهم بعد قيام الساعة قوله إذا كان المراد من المؤمنين الموجودين في ذلك العصر كانت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 الآية دالة على أن إجماع الموجودين في وقت نزول الآية حجة قلنا لا يجوز أن يكون مراد الله تعالى إيجاب اتباع مؤمني ذلك العصر لأن قول المؤمنين حال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان مطابقا لقوله كانت الحجة في قوله لا في قولهم فيصير قولهم لغوا ولما بطل ذلك ثبت أن المراد إيجاب العمل بقول المؤمنين في أي عصر كان قوله المراد كل مؤمني العصر أو بعضهم قلنا ظاهره الكل إلا ما أخرجه الدليل المنفصل وهم العوام والأطفال والمجانين فبقى غيرهم وهم جمهور العلماء داخلا تحت الآية قوله نحمله على الإمام المعصوم قلنا هذا باطل لأن الوعيد على مخالفة المؤمنين فحمله على الواحد ترك للظاهر قوله المراد بالمؤمن المصدق في الباطن وهو غير معلوم الوجود قلنا المؤمن في اللغة هو المصدق باللسان فوجب حمله عليه إلى قيام المعارض والذي يدل عليه أنه تعالى لما أوجب علينا اتباع سبيلهم فلابد وأن نكون متمكنين من معرفتهم والاطلاع على الأحوال الباطنة ممتنع فوجب حمله على التصديق باللسان قوله لم لا يجوز أن يكون المراد إيجاب اتباع السبيل الذي من شأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 أن يكون سبيلا للمؤمنين قلنا هذا عدول عن الظاهر من غير ضرورة قوله هذه الدلالة ظنية فلا يجوز إثبات الحكم القطعي بها قلنا عندنا أن هذه المسألة ظنية ولا نسلم انعقاد الإجماع عن أنها ليست ظنية قوله أعطيتم الفرع من القوة ما ليس للأصل قلنا نحن لا نقول بتكفير مخالف الإجماع ولا بتفسيقه ولا نقطع أيضا به وكيف وهو عندنا ظني قوله هذه الدلالة معارضة بالآيات الدالة على النهي عن الباطل قلنا لا نسلم أن ذلك النهي خطاب مع الكل بل خطاب مع كل واحد منهم والفرق بين الكل وبين كل واحد منهم معلوم ونحن إنما ندعي عصمة الكل لا عصمة كل واحد سلمنا كونه خطابا للكل لكن النهي لا يقتضي إمكان المنهى عنه من من! كل وجه لأن الله عز وجل ينهى المؤمن عن الكفر مع علمه بأنه لا يفعله وما علم أنه لا يوجد فهو محال الوجود وأما حديث معاذ فهو إنما ترك ذكر الإجماع لأنه لا يكون حجة في زمان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي فهو يدل على حصول الشرار في ذلك الوقت فأما أن يكونوا بأسرهم شرارا فلا وكذا القول في سائر الحديث وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ففي صحته كلام سلمناه لكن لعلة خطاب مع قوم مخصوصين قوله جاز الخطأ على كل واحد فيجوز على الكل قلنا لا نسلم أن حكم المجموع مساو لحكم الآحاد والمثال الذي ذكره يدل على أن ذلك قد يكون كذلك ولا يدل على أنه لابد وأن يكون كذلك سلمنا أن حكم المجموع مساو لحكم الآحاد ولكن عندنا يجوز الخطأ على الكل أيضا لكن ليس كل ما جاز وقع والله تعالى لما أخبر عنهم أن ذلك لا يقع علمنا أنهم لا يتفقون على الخطأ قوله اتفاقهم إما أن يكون لدلالة أو لأمارة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 قلنا لم لا يجوز أن يكون لدلالة إلا أنهم ما نقلوها اكتفاء منهم بالإجماع فإنه متى حصل الدليل الواحد كان الثاني غير محتاج إليه والله أعلم المسلك الثاني التمسك بقوله عز وجل وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس الله تعالى أخبر عن كون هذه الأمة وسطا والوسط من كل شئ خياره فيكون الله عز وجل قد أخبر عن خيرية هذه الأمة فلو أقدموا على شئ من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شئ من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجة فإن قيل الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها وخلاف ذلك معلوم بالضرورة فلا بد من حملها على البعض ونحن نحملها على الأئمة المعصومين سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر لكن لا نسلم أن الوسط من كل شئ خياره ويدل عليه وجهان الأول أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات واجتناب المحرمات وهذا من فعل الرجل وقد أخبر الله تعالى أنه جعلهم وسطا فاقتضى ذلك أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 كونهم وسطا من فعله تعالى وذلك يقتضي أن يكون ذلك غير عدالتهم التي ليست من فعل الله تعالى الثاني أن الوسط اسم لما يكون متوسطا بين شيئين فجعله حقيقة في العدل يقتضي الاشتراك وهو خلاف الأصل سلمنا أن الوسط من كل شئ خياره فلم قلتم أن خبر الله تعالى عن خيرية قوم يقتضي اجتنابهم عن كل المحظورات ولم لا يجوز أن يقال إنه يكفي فيه اجتنباهم ما عن الكبائر فأما عن الصغائر فلا وإذا كان كذلك فيحتمل أن الذي أجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم ومما يؤكد هذا الاحتمال أنه تعالى حكم بكونهم عدولا ليكونوا شهداء على الناس وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر ولكن الله تعالى بين أن أتصافهم بذلك إنما كان لكونهم شهداء على الناس ومعلوم أن هذه الشهادة إنما تكون في الآخرة فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمل وذلك مما لا نزاع فيه لأن الأمة تصير معصومة في الآخرة فلم قلتم إنهم في الدنيا كذلك سلمنا وجوب كونهم عدولا في الدنيا لكن المخاطبين بهذا الخطاب هم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية لأن الخطاب مع من لم يوجد بعد محال وإذا كان كذلك فهذا يقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت ولا يقتضي عدالة غيرهم فهذه الآية تدل على أن إجماع أولئك حق فيجب أن لا نتمسك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه لكن ذلك يقضي حصول العلم بأعيانهم والعلم ببقاءهم لا إلى ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولما كان ذلك مفقودا تعذر التمسك بشئ من الإجماعات والجواب قوله الآية متروكة الظاهر قلنا لا نسلم قوله لأنها تقتضي كون كل واحد منهم عدلا قلنا لما ثبت إنه لا يجوز إجراؤها على الظاهر وجب أن يكون المراد منه امتناع خلو هذه الأمة من! العدول قوله تحمله على الإمام المعصوم قلنا قوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا صيغة جمع فحمله على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 الواحد خلاف الظاهر قوله لم قلت إن الوسط في كل شئ خياره قلنا للآية والخبر والشعر والنقل والمعنى أما الآية فقوله عز وجل قال أوسطهم أي أعدلهم وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلم خير الأمور أوسطها أي أعدلها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوسط قريش نسبا وقال عليه السلام عليكم بالنمط الأوسط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 وأما الشعر فقوله هموا وسط يرضى الأنام بحكمهم وأما النقل فقال الجوهري في الصحاح وكذلك جعلناكم أمة وسطا أي عدولا وأما المعني فلأن الوسط حقيقة في البعد عن الطرفين فالشئ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 الذي يكون بعيدا عن طرفي الإفراط والتفريط الذين هما رديان أن كان متوسطا فكان فضيلة ولهذا سمي الفاضل في كل شئ وسطا قوله عدالتهم من فعلهم لا من فعل الله تعالى قلنا هذا ممنوع على مذهبنا قوله لم قلت إن إخبار الله تعالى عن عدالتهم يقتضي اجتنابهم عن الصغائر قلنا من الناس من قال لا صغير على الإطلاق بل كل ذنب فهو صغير بالنسبة إلى ما فوقه كبير بالنسبة إلى ما تحته فسقط عنه هذا السؤال وأما من اعترف بذلك فجوابه أن الله تعالى عالم بالباطن والظاهر فلا يجوز أن يحكم بعدالة أحد وصحة شهادته إلا والمخبر عنه مطابق للخبر فلما أطلق الله تعالى القول بعدالتهم وجب أن يكونوا عدولا في كل شئ بخلاف شهود الحاكم حيث تجوز شهادتهم وأن جاز عليهم الصغائر لأنه لا سبيل للحاكم إلى معرفة الباطن فلا جرم اكتفى بالظاهر قوله الغرض من هذه العدالة أداء الشهادة في الآخرة وذلك يوجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 عدالتهم في الآخرة لا في الدنيا قلنا لو كان المراد صيرورتهم عدولا في الآخرة لقال سنجعلكم أمة وسطا ولأن جميع الأمم عدول في الآخرة فلا يبقى في الآية تخصيص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة قوله المخاطب بهذ الخطاب هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية قلنا مر الجواب عن مثل هذا السؤال في المسلك الأول والله أعلم وأحكم المسلك الثالث قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولام الجنس تقتضي الاستغراق فدل على أنهم أمروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر فلو أجمعوا على خطأ قولا لكان قد أجمعوا على منكر قولا ولو كانوا كذلك لكانوا آمرين بالمنكر ناهين عن المعروف وهو يناقض مدلول الآية فإن قيل الآية متروكة الظاهر لأن قوله كنتم خير أمة خطاب معهم وهو يقتضي اتصاف كل واحد منهم بهذا الوصف والمعلوم خلافة فثبت أنه لا يمكن إجراؤها على ظاهرها فنحملها على أن المراد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 من الأمة بعضهم وعندنا أن ذلك البعض هو الإمام المعصوم سلمنا أنه يمكن إجراء الآية على ظاهرها لكن لا نسلم أنهم كانوا يأمرون بكل معروف لما مر في باب العموم أن المفرد المعرف لا يفيد الاستغراق سلمنا العموم لكن الآية تقتضي اتصافهم بالأمر بالمعروف في الماضي أو الحاضر الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلتم بأنهم بقوا على هذه الصفة في الحال فإن قلت لأن هذه الآية خرجت مخرج المدح لهم في الحال ولا يجوز أن يمدح إنسان في الحال بما فعله من قبل إذا عدل عنه إلى ضده فإن الناهي عن المنكر إذا صار آمرا به استحق الذم قلت لا نسلم أن هذه الآية خرجت مخرج المدح ولم لا يجوز أن يقال ليس فيها إلا بيان أن هذه الأمة كانوا قبل ذلك خيرا من سائر الأمم ومجرد الإخبار لا يقتضي المدح سلمنا دلالتها على المدح لكن لم لا يجوز أن يدمح على الإنسان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 في الحال بما صدر عنه في الماضي وإن كان يستحق الذم في الحال بما صدر عنه في الحال فإن عندنا الجمع بين استحقاق الذم والمدح غير ممتنع على ما ثبت في مسألة الاحتياط سلمنا دلالة الآية على حصول هذا الوصف في الحال لكن قوله عز وجل كنتم خير أمة صريح في أن هذا الوصف إنما حصل لهم في الزمان الماضي ومفهومه يدل على عدم حصوله في الحال سلمنا دلالة الآية على اتصافهم بتلك الصفة في الحال ف لم لا يجوز خروجهم عنها بعد ذلك فإنه لا نزاع في أنه يحسن مدح الإنسان بما له من الصفات في الحال وإن كان يعلم زوالها في المستقبل فإن قلت ف يلزم أن يكون إجماعهم حجة في ذلك الزمان قلت هب أنه كذلك لكنا لا نقطع على شئ من الإجماعات بإنه حصل في ذلك الزمان واذا وقع الشك في الكل خرج الكل عن كونه حجة سلمنا اتصافهم بهذا الوصف في الماضي والحال والمستقبل لكن الآية خطاب مع الموجودين في ذلك الوقت فيكون إجماعهم حجة أما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 إجماع غيرهم فلا يكون حجة على ما مر من تقرير هذا السؤال في المسلكين الأولين والجواب قوله الآية متروكة الظاهر قلنا لا نسلم قوله لأنها تقتضي أن يكون كل واحد منهم آمرا بالمروف وليس كذلك قلنا المخاطب بقوله تعالى كنتم خير أمة ليس كل واحد من الأمة أما أولا فلأنه تعالى وصف المخاطب بهذا الخطاب بكونه خير أمة فلو كان المخاطب بهذا الخطاب كل واحد من الأمة لزم وصف كل واحد من الأمة بأنه خير أمة وذلك غير جائز لأن الشخص الواحد لا يوصف بأنه أمه إلا على سبيل المجاز كما في قوله تعالى إن إبراهيم كان أمة بدليل أن المتبادر إلى الفهم من قوله حكمت الأمة بكذا المجموع وأما ثانيا فلأنه يلزم في كل واحد أن يكون خير أمة أخرجت للناس وإن كان كل واحد خير أمة وجب أن يكون كل واحد خيرا من صاحبه ولما بطل ذلك ثبت أن المجموع هو المخاطب بهذ الخطاب وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 يجري مجرى قول الملك لعسكره أنتم خير عسكر في الدينا تفتحون القلاع وتكسرون الجيوش فإن هذا الكلام لا يفهم منه أن الملك وصف كل واحد من آحاد العسكر بذلك بل إنه وصف المجموع بذلك بمعنى أن في العسكر من هو كذلك فكذا ها هنا وصف الله تعالى مجموع الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى أن منهم من هو كذلك وحمله على الإمام المعصوم غير جائز لأنه واحد ولفظ الأمة لفظ الجمع قوله المفرد المعرف لا يفيد الاستغراق قلنا كثير من الناس ذهب إلى أنه يقتضيه وأيضا فلفظ المعرف لو لم نحمله على الاستغراق لوجب حمله على الماهية ويكفي في العمل به ثبوته في صورة واحدة فيكون معناه أنهم أمروا بمعروف واحد ونهوا عن منكر واحد وهذا القدر حاصل في سائر الأمم لأن كل واحد منهم قد كان آمرا بمعروف واحد وهو الدين الذي قبله وناهيا عن منكر واحد وهو الكفر الذي رده وحينئذ لا يثبت بذلك كون هذه الأمة خيرا من سائر الأمم لكن الله تعالى ذكره لبيان ذلك الحكم فعلمنا أنه وجب حمله على الاستغراق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 تحصيلا للغرض فإنا لو لم نحمله على الاستغراق ولا نحمله على الماهية كان ذلك مخالفا للغة قوله الآية تقتضي الاتصاف بهذا الوصف في الماضي أو الحاضر قلنا بل في الحاضر لأن قوله تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر لا يتناول الماضي قولة لفظة كنتم تدل على الماضي قلنا لا نسلم ل أن قوله كنتم إما أن تكون ناقصة أو زائدة أو تامة فإن كنت ناقصة فنقول إنه وان أفاد تقدم كونهم كذلك لكن قوله تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر يقتضي كونهم كذلك في المستقبل ودلالة قوله تعالى كنتم على تقدم هذا الوصف لا يمنع من حصوله في المستقبل فتبقى دلالة قوله تأمرون بالمعروف على كونهم كذلك في المستقبل سليمة عن المعارض وأما الوجهان الآخران فالاستدلال معهما ظاهر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 قوله لم قلت إنهم يكونون في الزمان المستقبل كذلك على هذه الصفة قلنا لأن صيغة المضارع بالنسبة إلى الحال والاستقبال كاللفظ العام فوجب تناولها لهما معا قوله هذه الآية خطاب مع الحاضرين قلنا مر الجواب عنه في المسلك الأول والله أعلم المسلك الرابع التمسك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تجتمع على خطأ والكلام ها هنا يقع في موضعين أحدهما إثبات متن الخبر والثاني كيفية الاستدلال به أما الأول فللناس فيه طرق ثلاثة الفريق الأول ادعاء الضرورة في تواتر معنى هذا الخبر قالوا لأنه نقل هذا المعنى بألفاظ مختلفة بلغت حد التواتر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 الأول روي عنه عليه الصلاة والسلام انه قال أمتي لا تجتمع على خطأ الثاني ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن الثالث لا تجتمع أمتي على ضلالة الرابع يد الله على الجماعة رواه ابن عمر رضي الله عنهما الخامس سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على الضلالة فأعطيتها السادس لم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة وروى ولا على خطأ وروي عن الحسن البصري وابن أبي ليلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 الخبر وكان الحسن يقول إذا حدثني أربعة من الصحابة تركتهم وقلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الخبر من مراسليه السابع عليكم بالسواد الأعظم وذلك جماعة الأمة لأن كل من دونهم فالأمة بأسرها أعظم منه الثامن أبو سعيد مرفوعا يد الله على الجماعة ولا نبالي بشذوذ من شذ التاسع من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام عن عنقه العاشر من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 الحادي عشر أبو أمامة مرفوعا لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم الثاني عشر عمران بن الحصين مرفوعا لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق حتى يقاتلها الدجال الثالث عشر قام ابن عمر في الناس خطيبا وقال إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله الرابع عشر ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن إخلاص العمل لله والنصح لأئمة المسلمين ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم رواه جبير بن مطعم وجابر الخامس عشر من سره أن يسكن بحبوحه الله الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد خطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب به أيضا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جماعة من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 الصحابة رضي الله عنهم السادس عشر لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من ناوأهم إلى يوم القيامة السابع عشر ثوبان مرفوعا لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله الثامن عشر أنس وقوم آخرون عنه عليه الصلاة والسلام ستفترق أمتي كذا وكذا فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة قيل ومن تلك الفرقة قال هي الجماعة وهذه الأخبار كلها مشتركة في الدلالة على معنى واحد وهو أن الأمة بأسرها لا تتفق على الخطأ وإذا اشتركت الأخبار الكثيرة في الدلالة على شئ واحد ثم إن كل واحد من تلك الأخبار يرويه جمع كثير صار ذلك المعنى مرويا بالتواتر من جهة المعنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 الطريق الثاني الاستدلال وهو من وجهين أحدهما أن هذه الأخبار لو صحت لثبت بها أصل عظيم مقدم على الكتاب والسنة وما هذا شأنه كانت الدواعي متوفرة على البحث عنه بأقصى الوجوه أما الأولياء فلتصحح قال هذا الأصل العظيم بها وأما الأعداء فلدفع مثل هذا الأصل العظيم فلو كان في متنها خلل لاستحال ذهولهم عنه مع شدة بحثهم عنه وطلبهم له فلما لم يقدر أحد على الطعن فيها علمنا صحتها وثانيهما أنه قد ظهر من التابعين إجماعهم على أن الإجماع حجة وظهر منهم استدلالهم على ذلك بهذه الأخبار والاستقراء دل على أن أمتنا لا يجمعون على موجب خبر لأجل ذلك الخبر إلا ويكونون قاطعين بصحة ذلك الخبر فهذا يدل على قطعهم بصحة هذا الخبر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 الطريق الثالث أنا نسلم أن هذه الأخبار من باب الآحاد وندعي الظن بصحتها وذلك مما لا يمكن النزاع فيه ثم نقول إنها تدل على أن الإجماع حجة فيحصل حينئذ ظن أن الإجماع حجة وإذا كان كذلك وجب العمل به لأن دفع الضرر المظنون واجب وهذا الطريق أجود الطرق فنقول أما الطريق الأول وهو ادعاء التواتر فبعيد فإنا لا نسلم بلوغ مجموع هذه الأخبار إلى حد التواتر لأن العشرين بل الآلف لا يكون متواترا لأنه ليس يستبعد في العرف إقدام عشرين إنسانا على الكذب في واقعة معينة بعبارات مختلفة وبالجملة فهم مطالبون بإقامة الدلالة على أن مجموع هذه الروايات يستحيل صدوره عن الكذب سلمنا حصول القطع بهذه الأخبار في الجملة لكنكم إما أن تدعوا القطع بلفظها أو بمعناها أما القطع بلفظها فهو أن يقال إنا وإن جوزنا في كل واحد من هذه الأحاديث أن يكون كذبا إلا أنا نقطع بأن مجموعها يستحيل أن يكون كذبا بل لا بد أن يكون بعضها صحيحا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 وأما القطع بمعناها فهو أن يقال أن هذه الألفاظ على اختلافهما مشتركة في إفادة معنى واحد فذلك المشترك يصير مرويا بكل هذه الألفاظ فيصير ذلك المشترك منقولا بالتواتر فنقول إن أردتم الأول فهو مسلم لكن المقصود لا يتم إلا إذا بينتم أن كل واحد من هذه الألفاظ يدل على أن الإجماع حجة دلالة قاطعة إذ لو وجد فيها ما يدل على المطلوب لا على هذا الوجه لم يحصل الغرض لأن الذي ثبت عندكم ليس إلا صحه أحد هذه الأخبار فيحتمل أن يكون الصحيح هو ذلك الخبر الذي لا يدل دلالة قاطعة على حقية الإجماع لكنا نرى المستدلين بهذه الأخبار بعد فراغهم من تصحيح المتن يتمسكون بواحد منها على التعيين كقوله عليه الصلاة والسلام لا تجتمع أمتي على خطأ ويبالغون فيه سؤالا وجوابا ومعلوم أنه باطل وأما إن أردتم الثاني فنقول ذلك المعنى المشترك بين الأخبار إما أن يكون هو أن الإجماع حجة أو معنى يلزم منه كون الإجماع حجة فإن كان الأول فقد ادعيتم أنه نقل نقلا متواترا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإجماع حجة ومعلوم أن ذلك باطل وإلا لكان العلم بكون الإجماع حجة جاريا مجرى العلم بغزوة بدر وأحد ولما وقع الخلاف فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 وأيضا فإنا نراكم بعد الفراغ من تصحيح متن هذه الأخبار تتمسكون بلفظ خبر واحد وتوردون عن عليه الأسئلة والأجوبة ولو كان ذلك منقولا على سبيل التواتر لكان ذلك الاستدلال عبثا وبهذا يظهر الفرق بين علمنا بشجاعة علي وسخاوة حاتم بسبب الأخبار المتفرقة وبين هذه المسألة فإنا بعد سماع تلك الأخبار المتفرقة لا نحتاج إلى الاستدلال ببعض تلك الأخبار على شجاعة علي بل يحصل العلم الضروري بذلك أما ها هنا فقد سلمتم أن بعد سماع هذه الأخبار نفتقر إلى الاستدلال ببعضها على هذا المطلوب فعلمنا أن كون الإجماع حجة ليس جزءا من مفهوم هذه الألفاظ وإن ادعتيم من أن هذه الأخبار دالة على معنى مشترك بين كلها وذلك المعنى يقتضي كون الإجماع حجة فلا بد من الإشارة إلى ذلك المعنى ثم من إقامة الدليل على أنه يلزم من ذلك المشترك كون الإجماع حجة وأنتم ما فعلتم ذلك فإن قلت القدر المشترك بين هذه الأخبار تعظيم أمر هذه الأمة وبعدها عن الخطأ وما يجري هذا المجرى قلت تدعون التواتر في مطلق التعظيم أو في تعظيم ينافي إقدامهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 على الخطأ في شئ ما الأول مسلم ولا يفيد الغرض والثاني إدعاء للتواتر في نفس كون الإجماع حجة وقد تقدم إبطاله وأما الطريق الثاني وهو الاستدلال فضعيف قوله لو كانت هذه الأحاديث ضعيفة لطعنوا فيها قلت وقد طعنوا فيها بأنها من الآحاد فإن قلت إن أحدا من الصحابة والتابعين لم يقل إنها من الآحاد بل اتفقوا على أنها متواترة سلمنا أنهم طعنوا فيها من هذا الوجه لكن كان يجب أن يطعنوا فيها على سبيل التفصيل قلت الجواب عن الأول إن النقل عن المؤمنين أنهم جعلوها من باب التواتر ثبت بالتواتر أو بالآحاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 الأول يقتضي كونها متواترة عندنا لأنه متى كان الخبر متواترا وصح عندكم بالتواتر كونها متواترة عندهم لزم كونها متواترة عندكم لكنكم في هذا المقام سلمتم أنها ليست كذلك والثاني يقتضي أن تكون هذه الأخبار من الآحاد لأن كونها متواترة عن الصحابة والتابعين لما لم يثبت عندنا إلا بالآحاد كانت عندنا من باب الآحاد لأن استواء الطرفين والواسطة معتبر في التواتر وعن الثاني أن نقول ليس كل من لا يعلم صحته وجب أن يعلم فساده فالصحابة والتابعون ما عرفوا صحة هذه الأخبار ولا فسادها بل ظنوا صحتها فلا يجب عليهم في هذه الحالة أن يطعنوا فيها على سبيل التفصيل وأما الوجه الثاني في الاستدلال وهو قوله الصحابة والتابعون اجمعوا على صحة الإجماع وانما اجمعوا على صحته لهذا الأخبار وعادة امتنا انهم لا يجمعون على موجب خبر لأجل ذلك الخبر إلا وكان الخبر مقطوعا به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 قلنا المقدمات الثلاثة ممنوعة فلا نسلم إجماع الصحابة والتابعين على صحة الإجماع سلمناه لكن لا نسلم أنهم إنما ذهبوا إلى ذلك لأجل هذه الأخبار بل إنما قالوا به لأجل الآيات فإن ادعوا التواتر في هذين المقامين كان ذلك مكابرة فإن تلك الأخبار أظهر بكثير من ادعاء هذين المقامين ولما لم يدعوا التواتر في تلك الأخبار فلأن لا يجوز ادعاؤه في هذين المقامين كان أولى سلمنا هما لكن لا نسلم أن عادتهم جارية بأنهم لا يجمعون على موجب خبر لأجل ذلك الخبر إلا وقد قطعوا بصحته ألا ترى أن الصحابة أجمعوا على حكم المجوس بخبر عبد الرحمن وأجمعوا على أن المرأة لا تنكح على عمتها ولا خالتها بخبر واحد وبالجملة فهم مطالبون بالدلالة على هذه العادة التي ادعوها فثبت بما ذكرنا ضعف هذه الوجوه وثبت أن الصحيح هو الطريق الثالث وهو أن نجعلها من أخبار الآحاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 وعلى هذا لا نحتاج إلى تكثيرها بل كل واحد منها يكفي في الاستدلال المقام الثاني في كيفية الاستدلال التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على خطأ فإن قيل إن كان المراد بقوله أمتي كل من يؤمن به إلى يوم القيامة خرج الإجماع عن كونه حجة وإن كان المراد به الموجودين وقت نزول ذلك الخبر دل ذلك على أن إجماعهم حجة لكنا إنما نعرف إجماعهم إذا عرفناهم بأعيانهم وعرفنا بقاءهم إلى ما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك غير معلوم فحينئذ يخرج الإجماع عن كونه حجة سلمنا أن المراد بالأمة أهل كل عصر لكن لم قلت إن هذه اللفظة تدل على نفي الخطأ عنهم لاحتمال أن قوله لا تجتمع أمتي على خطأ جاء بسكون العين على أن يكون ذلك نهيا منه صلى الله عليه وسلم لأمته عن أن يجتمعوا على خطأ فاشتبه ذلك على الراوي فنقله مرفوعا على أن يكون خبرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 سلمنا كونه خبرا لكن لم قلت إنه يدل على نفي الخطأ بأسره عنهم ولا نسلم أن النكرة في النفي تعم وإذا كان كذلك فإما أن نحمله على نفي السهو أن نفي الكفر جمعا بينه وبين الحديث المروي في هذا الباب وهو قوله صلى الله عليه وسلم أمتي لا تجتمع على ضلالة سلمنا كون الأمة مصيبين في كل أقوالهم وأفعالهم فلم لا يجوز مخالفتهم فإن المجتهد قد يكون مصيبا مع أن المجتهد الآخر يكون متمكنا من مخالفته والجواب أما السؤال الأول فمدفوع بسائر الأحاديث الواردة في هذا الباب وهي قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وقوله ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وقوله من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه قوله لعل هذا الحديث ورد على صيغة النهي قلنا عدالة الراوي تفيد ظن صحة تلك الرواية ومطلوبنا ها هنا الظن وإلا لو فتحنا هذا الباب لا نسد باب الاستدلال بأكثر النصوص الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 ثم إنه مدفوع بسائر الأحاديث وأما أن النكرة في النفي تعم فقد تقدم بيانه في باب العموم قوله نحمله نفي السهو قلنا اجتماع الجمع العظيم على عدم السهو ممتنع ف لا يمكن ذكره في معرض التعظيم ولأنه لا يكون في تخصيص أمته بذلك فضيلة قوله نحمله على نفي الكفر كقوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على ضلالة قلنا كل حديث مستقل بنفسه ولأن الضلال لا يقتضي الكفر قال الله تعالى ووجدك ضالا فهدى وقال فعلتها إذن وأنا من الضالين قوله هب أن الأمة مصيبون في إجماعهم فلم لا تجوز مخالفتهم قلت لأن الأمة على قولين منهم من قال إن الإجماع حجة لا تجوز مخالفته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 ومنهم من قال أنه ليس بحجة فلو قلنا إنه حجة تجوز مخالفتها لكان قولا خارجا عن أقول الأمة فلو كان الحق ذلك لكانت الأمة متفقين على الخطأ وذلك باطل بالحديث المسلك الخامس دليل العقل وهو الذي عول عليه إمام الحرمين رحمه الله فقال إجماع الخلق العظيم على الحكم الواحد يستحيل أن يكون إلا لدلالة أو أمارة فإن كان لدلالة فقد كشف الإجماع عن وجود تلك الدلالة فيكون خلاف الإجماع خلافا لتلك الدلالة وإن كان لأمارة فقد رأينا التابعين قاطعين بالمنع عن مخالفة هذا الإجماع فلولا اطلاعهم على دلالة قاطعة مانعة من مخالفة هذا الإجماع وإلا لاستحال اتفاقهم على المنع من مخالفته وهذه الدلالة ضعيفة جدا لاحتمال أن يقال إنهم قد اتفقوا على الحكم لا لدلالة ولا لأمارة بل لشبهة وكم من المبطلين من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 كثرتهم وتفرقهم في الشرق والغرب قد اتفقت كلمتهم لأجل الشبهة سلمنا الحصر فلم لا يجوز أن يكون لأمارة تفيد الظن قوله رأينا الصحابة مجمعين على المنع من مخالفة هذا الإجماع وذلك يدل على اطلاعهم على دليل قاطع مانع من مخالفة هذا الإجماع قلنا لا نسلم اتفاق الصحابة على ذلك سلمناه لكنك لما جوزت حصول الإجماع لأجل الأمارة فلعلهم أجمعوا على المنع من مخالفة الإجماع الصادر عن الأمارة لأمارة أخرى فإن قلت إنهم لا يتعصبون في الإجماع الصادر عن الأمارة وقد تعصبوا في هذا الإجماع فدل على أن هذا الإجماع ما كان عن أمارة قلت إذا سلمت إنهم لا يتعصبون في الإجماع الصادر عن الأمارة ف قد بطل قولك إنهم منعوا من مخالفة هذا الإجماع المسألة الرابعة أما الشيعة فقد استدلوا على أن الإجماع حجة بأن زمان التكليف لا يخلو عن الإمام المعصوم ومتى كان كذلك كان الإجماع حجة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 بيان الأول يتوقف على إثبات أمرين الأول أنه لا بد من الإمام والدليل عليه أن الإمام لطف وكل لطف واجب فالإمام واجب وإنما قلنا أن الإمام لطف لأنا نعلم أن الخلق إذا كان لهم رئيس قاهر يمنعهم عن القبائح ويحثهم على الواجبات كان حالهم في الإتيان بالواجب والاجتناب عن القبيح أتم من حالهم إذا لم يكن لهم هذا الرئيس والعلم بذلك بعد استقراء العادة ضروري وإنما قلنا إن اللطف واجب لوجهين الأول أن اللطف كالتمكين في كونه إزاحة لعذر المكلف فإذا كان التمكين واجبا فكذا اللطف إنما قلنا إن اللطف كالتمكين لأنه يثبت في الشاهد أن أحدنا إذا دعا غيره إلى طعام وكان غرضه نفع ذلك الغير وبقي على ذلك الغرض إلى وقت التناول ولم يبدله وعلم أنه متى تواضع له فإنه يتناول طعامه ومتى لم يفعل ذلك لم يتناوله فإنه تركه التواضع في هذه الحال يجرى مجرى رد الباب عليه والعلم به ضروري الثاني أن المكلف لو لم يجب عليه فعل اللطف لم يقبح منه فعل المفسدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 أيضا لأنه لا فرق في العقل بين فعل ما يختار المكلف عنده القبيح وبين ترك ما يخل المكلف عنده بالواجب فثبت إن اللطف واجب وثبت أنه لا بد في زمان التكليف من الإمام الثاني أن ذلك الإمام يجب أن يكون معصوما والدليل عليه أنه إنما احتاج الخلق إلى الإمام لصحة القبيح عليهم فلو تحققت هذه الصحة في الأمام لافتقر الإمام إلى إمام اخر ولزم التسلسل وهو محال فثبت أنه يجب أن يكون معصوما وثبت أنه لا بد في زمان التكليف من إمام معصوم وإذا ثبت هذا وجب كون الإجماع حجة لأنه مهما اتفق العلماء على حكم فلا بد وأن يوجد في أثناء قولهم قول ذلك المعصوم لأنه أحد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 العلماء بل هو سيدهم وإلا لم يكن ذلك قولا لكل الأمة وقول المعصوم حق فإذن إجماع الأمة يكشف عن قول المعصوم الذي هو حق فلا جرم قلنا الإجماع حجة قالوا وظهر بهذا أن العلم بكون الإجماع حجة لا يتوقف على العلم بالنبوة أصلا وأن إجماع كل الأمم حجة كما أن إجماع أمتنا حجة والسؤال عليه أنا لا نسلم أنه لا بد من إمام ولا نسلم أنه لطف ولا نسلم أن الخلق إذا كان لهم رئيس يمنعهم عن القبائح ويحثهم على الطاعات كانوا أقرب إليها مما إذا لم يكن لهم هذا الرئيس بيانه أنكم تزعمون إن الله عز وجل ما أخلى العالم قط من رئيس فقولكم وجدنا متى خلا عن الرئيس حصلت المفاسد باطل لأنكم إذا لم تجدوا العالم خاليا عنه قط ف كيف يمكنكم أن تقولوا إنا وجدنا العالم متى خلا عن الإمام حصلت المفاسد بل الذي جربناه أنه متى كان الإمام في الخوف والتقية حصلت المفاسد لكنكم لا توجبون ظهوره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 وقوته فالذي تريدونه من أن ظهور المفسدة عند عدمه أزيد مما وجدتموه عند خوفه وتستره شئ ما جربتموه والذي جربتموه وهو ظهور المفسدة عند ضعفه وخوفه فأنتم لا تقولون به فظهر فساد قولكم سلمنا إمكان هذه التجربة لكنا نقول تدعون اندفاع هذه المفاسد بوجود الرئيس كيف كان أو بوجود الرئيس القاهر الأول ممنوع فلا بد من الدلالة واستقراء العرف لا يشهد لهم البتة لأن الخلق إنما ينزجرون من السلطان القاهر فأما السلطان الضعيف فلا بل الشخص الذي لا يرى ولا يعرف ولا يظهر منه في الدنيا أثر ولا خبر فإنه لا يحصل بسببه انزجار عن القبائح ولا رغبة في الطاعات فلم قلتم إن مثل هذا الإمام يكون لطفا وإن أرددتم في الثاني فهو مسلم لكنكم لا توجبونه فالحاصل أن الذي عرف بالاستقراء كونه لطفا أنتم لا توجبونه والذي توجبونه لا يعرف بالاستقراء كونه لطفا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 فإن قلت نحن الآن في إثبات وجوب أصل الإمام فأما البحث عن كيفية فذاك يتعلق بالفضل ونحن الآن لا نتكلم فيه ثم السبب في تستره ظاهر وهو أن الإمام لو أزيل عنه الخوف لظهر ولزجر بن الناس عن القبائح ورغبهم في الطاعات فحيث أخافوه كان الذنب من قبلهم قلت إنكم ادعيتم وجوب نصب الإمام كيف كان سواء كان ظاهرا أو مخفيا ودللتم على وجوبه بكونه لطفا ودللتم على كونه لطفا بتفاوت حال الخلق معه في الطاعات والمعاصي فلا بد من إثبات هذه المقدمة عند وجود الإمام كيف كان الإمام حتى يمكن الاستدلال به على وجود الأمام كيف كان ونحن نمنع ذلك فإن تمسكتم باستقراء أحوال العالم قلنا ذلك التفاوت إنما يحصل من الإمام القاهر وأنت محتاج إلى بيان حصول التفاوت من وجود الإمام كيف كان فما لم تشتغلوا بإثبات هذه المقدمة لا يتم دليلكم فأي نفع لكم ها هنا في أن تذكروا السبب في غيبته وخوفه سلمنا أن نصب الإمام يقتضي تفاوت حال الخلق من الوجه الذي ذكرتموه لكنه متى يجب نصبه إذا خلا عن جميع جهات القبح أو إذا لم يخل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 الأول مسلم ولكن دليلكم لا يتم إلا إذا أقمتم الدلالة على خلوه عن جميع جهات المفسدة وأنتم ما فعلتم ذلك والثاني ممنوع لأن بتقدير اشتماله على جهة واحدة من جهات القبح لا يجوز نصبه لأنه يكفي في كون الشئ قبيحا اشتماله على جهة من جهات القبح ولا يكفي في حسنه اشتماله على جهة واحدة من جهات الحسن ما لم يعرف انفكاكه عن كل جهات القبح فإن قلت ما ذكرته مدفوع من أربعة أوجه أحدها أنه لو جاز القدح في كون الإمام لطفا بما ذكرته جاز القدح في كون معرفة الله تعالى لطفا بذلك لأن الذي يمكننا في بيان أن معرفة الله تعالى لطف هو أنها باعثة على أداء الواجبات والاحتراز عن القبائح العقلية فأما بيان خلوها عن جميع جهات القبح فمما لو يوجبه أحد فلو قدح هذا في كون الإمامة لطفا لقدح في كونه معرفة الله تعالى لطفا وثانيها أن ما ذكرته يفضي إلى تعذر القطع بوجوب شئ على الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 لكونه لطفا لأنه لا شئ يدعى كونه لطفا إلا والاحتمال المذكور قائم فيه وثالثها أنه لا دليل على اشتمال الإمامة على جهة قبح وما لا دليل عليه وجب نفيه ورابعها أن جهات القبح محصورة وهي كون الفعل كذبا وظلما وجهلا وغيرها من الجهات وهي بأسرها زائلة عن الإمامة فوجب القطع ينفي اشتمالها على جهة من جهات القبح قلنا أما الأول فغير لازم لأن هذا الاحتمال الذي ذكرناه في الإمامة إن كان بعينه قائما في المعرفة من غير فرق وجب الجواب عنه في الموضعين ولا يلزم من تعذر الجواب عنه في الصورتين الحكم بسقوطه من غير جواب وإن حصل الفرق بين الصورتين بطل ما ذكرتموه ثم إن الفرق أن معرفة الله عز وجل من الألطاف التي يجب علينا فعلها فإذا علمنا اشتمال المعرفة على جهة مصلحة ولم نعلم اشتمالها على جهة مفسدة غلب على ظننا كونها لطفا والظن في حقنا قائم مقام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 العلم في اقتضاء العمل فإنه كما يقبح الجلوس تحت الجدار المائل الذي يعلم سقوطه كذلك يقبح إذا ظن ذلك فلا جرم وجب علينا فعل المعرفة أما الإمامة فهي من الألطاف التي توجبونها على الله عز وجل ولا يكفي في الإيجاب على الله تعالى ظن كونها لطفا لأنه عز وجل عالم بجميع المعلومات فما لم يثبت خلو الفعل عن جميع جهات القبح لا يمكن إيجابه على الله عز وجل فظهر الفرق وعن الثاني أنا لا نقول في فعل معين إنه لطف فيكون واجبا على الله عز وجل لأن الاحتمال المذكور قائم فيه بل نقول الذي يكون لطفا في نفسه فإنه يجب فعله على الله عز وجل وذلك لا يقدح فيه الاحتمال المذكور وعن الثالث أن نقول ما المراد من قولك ما لا دليل عليه وجب نفيه إن عنيت به أن ما لا يعلم عليه دليل وجب نفيه فهذا باطل وإلا وجب على العوام نفي أكثر الأشياء لعدم علمهم بأدلتها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 وإن عنيت أن ما لا يوجد دليل عليه في نفس الأمر في نفس الآمر! وجب نفيه فهذا أيضا ممنوع وبتقدير التسليم لكن لا نسلم أنه لم يوجد عليه دليل فلعله وجد وأنتم لا تعلمونه فإن قلت سبرت وبحثت فما وجدت قلت أقم الدلالة على أن عدم الوجدان يدل على عدم الوجود وعن الرابع أن صوم أول يوم من شوال لم يشتمل على كونه ظلما وجهلا وكذبا مع أنه قبيح فجوز ها هنا مثله وبالجملة فالتقسيم الذي يكون حجة هو المنحصر أما غيره فلا سلمنا أنه لا بد في القدح في كونه لطفا من تعيين جهة المفسدة لكن ها هنا جهتان أحداهما أن نصب الإمام يقتضي كون المكلف تاركا للقبيح لا لكونه قبيحا بل للخوف من الإمام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 وإما عند عدم الإمام فالمكلف إنما يتركه لقبحه لا للخوف من الإمام فإن قلت هذا باطل بترتب العقاب على فعل القبيح فإنه يقتضي أن يكون المكلف تاركا للقبيح لا لقبحه بل للخوف من العقاب قلت أنا سائل فيكفيني أن أقول لم لا يجوز أن تكون هذه الجهة مفسدة مانعة وعليك الدلالة على أنها ليست كذلك ولا يلزم من قولنا ترتيب العقاب عليه لا يقتضي هذه الجهة من المفسدة أن يكون نصب الإمام غير مقتض لها لاحتمال أن يكون حال كل واحدة منهما بخلاف حال الآخر والذي يحقق ذلك أن ترتيب العقاب على فعل القبيح لا يعلم إلا بالشرع فقبل ورود الشرع يجوز أن تكون فيه مفسدة من هذه الجهة فلما ورد الشرع به علمنا أنه لا مفسدة فيه من هذه الجهة لأن الشرع لا يأتي بالمفسدة فنظيره في مسألتنا أن تقولوا يجوز قبل ورود الشرع أن يكون نصب الإمام مفسدة من هذه الجهة فلما ورد الشرع به علمنا أنه لم يكن مفسدة من هذه الجهة لكن على هذا التقدير يصير وجوب الإمامة شرعيا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 وثانيهما أن يقال فعل الطاعة وترك المعصية عند عدم الإمام أشق منهما عند وجوده فيكون نصب الإمام سببا لنقصان الثواب من هذا الوجه وبتقدير هذا الاحتمال فلا نسلم أنه يحسن نصب الإمام فضلا عن وجوبه سلمنا أن الإمام لطف لكن في كل الأزمنة أو في بعضها الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن من الجائز أن يتفق في بعض الأزمنة وجود قوم يستنكفون عن طاعة الغير ويعلم الله تعالى منهم أنه متى نصب لهم رئيسا قصدوه بالقتل وإثاره الفتن العظيمة وإذا لم ينصب لهم رئيسا فإنهم لا يقدمون على القبائح ولا يتركون الواجبات فيكون نصب الرئيس في ذلك الوقت مفسدة ثم هذا وإن كان نادرا إلا أنه لا زمان إلا ويجوز أن يكون هو ذلك الزمان النادر وحينئذ لا يمكن الجزم بوجوب نصب الإمام في شئ من الأزمنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 فإن قلت هذا مدفوع من وجهين الأول إن الاستنكاف إنما يكون عن الرئيس المعين وليس الكلام الآن فيه بل في مطلق الرئيس الثاني أن هذه مفسدة نادرة والمفاسد الحاصلة عند عدم الإمام غالبة وإذا تعارض الغالب والنادر كان الغالب أولى بالدفع قلت الجواب عن الأول أنه كما يتفق الاستنكاف عن طاعة رئيس معين فقد يتفق الاستنكاف عن طاعة مطلق الرئيس وأيضا فإذا سلمتم أن الاستنكاف قد يقع عن طاعة الرئيس المعين فيكون نصب ذلك المعين مفسدة ثم إذا لم يمكن تحصيل المطلق إلا في ذلك المعين كما هو قولكم في الإمامة في أشخاص معينين كان ذلك المطلق أيضا مفسدة وعن الثاني هب أن الزمان الذي يقع فيه ذلك الاحتمال نادر إلا أن كل زمان لما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 احتمل أن يكون هو ذلك النادر لم يمكنا القطع بوجوب نصبه في شئ من الأزمنة سلمنا أن الإمامة لطف في كل الأزمنة لكنها لطف يقوم غيرها مقامها أو لا يقوم الأول مسلم ولكن لما قام غيرها مقامها لم يمكن الجزم بوجوبها على التعين والثاني ممنوع فلا بد من الدلالة عليه ثم إنا نبين إمكان البدل على الإجمال تبرعا فنقول إنكم توجبون عصمة الإمام ولسيت عصمة الإمام بإمام اخر معصوم وإلا وقع التسلسل فإذن له شئ سوى الإمام وقع لطفا في الاحتراز عن القبائح وأداء الواجبات وإذا ثبت ذلك في الجملة فلم لا يجوز أن يحصل للأمة لطف قائم مقام الإمام وحينئذ لا يكون نصب الإمام واجبا عينا سلمنا كون الإمام لطفا على التعين لكن في المصالح الدنيوية أو الدينية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن ما ذكرتموه من منفعة وجود الأمام ليس إلا في حصول نظام العالم واندفاع الهرج والمرج وذلك كله مصلحة دنيوية وتحصيل الأصلح في الدنيا غير واجب على الله تعالى فما يكون لطفا فيه أولى أن لا يجب أو في إقامة الصلوات وأخذ الزكوات وذلك كله مصالح شرعية فما يكون لطفا فيه لا يجب وجوده عقلا وإن ادعيتم كونه لطفا في شئ آخر وراء ذلك فهو ممنوع فإن قلت الإمام لطف في المصالح الدينية العقلية لأنه إذا زجرهم عن القبائح وأمرهم بالواجبات العقلية مرة بعد أخرى تمرنت نفوسهم عليها وإذا تمرنت نفوسهم عليها تركوا القبائح لقبحها وأتوا بالواجبات لوجه وجوبها وذلك مصلحة دينية قلت لا نسلم تفاوت حال الخلق بسبب وجود الإمام في هذا المعنى فإن بوجود الإمام ربما وقعت أحوال القلوب على ما ذكرتموه وربما صارت بالضد من ذلك لأنهم إذا أبغضوه بقلوبهم وعاندته نفوسهم ازدادت المفسدة وربما أقدموا على الأفعال والتروك لمحض الخوف منه وبالجملة فالتفاوت الحاصل في أحوال الخلق إنما يظهر فيما عددناه من المصالح الدنيوية أو فيما عددناه من المصالح الشرعية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 فأما فيما تعدونه من المصالح الدينية العقلية فهذا التفاوت ممنوع فيه فإن الاحتمالات متعارضة فيها سلمنا أنه لطف فلم قلتم إن كل لطف واجب قوله في الوجه الأول فعل اللطف جار مجرى التمكين قلنا هذا قياس وقد بينا أنه لا يفيد اليقين ثم نقول لا نسلم أن فعل اللطف جار مجرى التمكين قوله من قدم الطعام إلى إنسان وأراد منه تناوله إلى اخره قلنا لا نسلم أن ترك التواضع في تلك الحالة يقدح في تلك الإرادة على الإطلاق بيانه أن الإرادات مختلفة فقد يريد الإنسان من غيره أن يتناول طعامه إرادة في الغاية حتى يقرر مع نفسه أنه يفعل كل ما يعلم أن ذلك الضيف لا يتناول طعامه إلا عند فعله وقد تكون الإرادة لا إلى ذلك الحد كمن يقول أريد أن تأكل طعامي لكن لا إلى حيث أنك لو لم تأكل طعامي إلا عند تقبيلي هذه رجلك فعلته بل إرادة دون ذلك إذا لبث هذا فنقول الإرادة إن كانت على الوجه الأول كان ترك التواضع قادحا في تحققها لكن لو كانت على الوجه الثاني لم يلزم من عدم التواضع عدمها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 إذا ثبت هذا فنقول لم قلت أن الله عز وجل أراد من المكلفين فعل الطاعات والاجتناب عن القبائح إرادة على الوجه الأول حتى يلزمه فعل اللطف بيانه أن التكليف تفضل وإحسان والمتفضل لا يجب عليه أن يأتي بجميع مراتب التفضل قوله في الوجه الثاني أن ترك اللطف كفعل المفسدة قلنا إنه قياس فلا يفيد اليقين لاحتمال أن ما به وقع التغاير يكون شرطا أو مانعا ثم نقول الفرق أن فعل المفسدة إضرار وترك اللطف ترك للإنفاع سنة وليس يلزم من قبح الإضرار قبح ترك الإنفاع فإنه يقبح منا الإضرار بالغير ولا يقبح ترك إنفاعه عمرو سلمنا أنه يجب فعل اللطف لكن يجب فعل اللطف المحصل أو فعل اللطف المقرب الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلتم إن الإمام لطف محصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 بيانه أنه لا يمكن القطع بأنه عند وجود الإمام يقدم الإنسان على الطاعة ويحترز عن المعصية لا محالة بل الذي يمكن ادعاوه قبل أن الإنسان عند وجود الإمام يكون أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية فيكون الإمام لطفا مقربا وإذا كان كذلك فلم قلت بوجوبه على الله تعالى وخرج على هذه المسألة مسألة الضيف فإن المضيف إنما يجب عليه التواضع للضيف إذا علم أنه لو تواضع له لأجابه إلى المقصود أو ظن ذلك فأما إذا علم قطعا أنه لا يجيب به إليه فلا نسلم أنه يحسن منه فعل ذلك التواضع فضلا عن الوجوب وعلى هذا لا يبعد أن يوجد زمان علم الله أن نصب الإمام في ذلك الزمان لا يكون لهم لطفا محصلا فلم قلت يجب على الله عز وجل نصب الإمام في ذلك الزمان سلمنا أن اللطف واجب مطلقا لكن متى إذا أمكن فعله أو إذا لم يمكن الأول مسلم والثاني ممنوع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 بيانه إذا علم الله عز وجل أن كل من خلقه في ذلك الزمان فإنه يكون كافرا أو فاسقا فحينئذ لا يكون خلق المعصوم في ذلك الزمان مقدورا له وإذا كان كذلك فلم قلت أنه لا يحسن التكليف في هذه الحالة وإذا حسن هذا التكليف جوزنا في كل زمان أن يكون هو ذلك الزمان فلا يمكننا القطع بوجوب الإمام في شئ من الأزمنة وخرج عليه مسألة الضيف فإن هناك إنما يجب عليه التواضع إذا كان ذلك التواضع مقدورا له فأما إذا لم يكن مقدورا له لم يتوقف التماس المضيف تناول الطعام على فعل التواضع بل حسن ذلك الالتماس بدون التواضع سلمنا كل ما ذكرتموه ولكنه بناء على التحسين والتقبيح العقليين وإنه باطل على ما ثبت في الكتب الكلامية فهذا هو الاعتراض على مقدمات دليلهم على الترتيب ثم نقول دليلكم منقوض بصور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 إحداها أنه لو كان القضاة والأمراء والجيوش معصومين لكان حال الخلق في الاجتناب عن القبائح أقرب مما إذا لم يكن كذلك وثانيتها أنه لو وجد في كل بلد امام معصوم وثالثتها لو كان الإمام عالما بالغيوب وقادرا على التصرف في الشرق والغرب والسماء والأرض ورابعتها لو كان بحيث لو شاء لاختفى يحيى عن الاعين ولطار الرحمن مع الملائكة فإن خوف المكلفين ها هنا يشتد منه لأن كل أحد يقول لعله معي وإن كنت لا أراه فكان انزجاره عن القبيح أشد ولا خلاص عن هذه الإلزامات إلا بأحد أمرين الأول أن يقال إن هذه الأشياء وإن حصلت فيها هذه المنافع لكن علم الله تعالى فيها وجه مفسدة لا نعلمه نحن ولذلك لم يجب على الله تعالى فعلها الثاني أن يقال إنها وإن كانت خالية عن جميع جهات المفسدة لكن لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 يجب على الله تعالى فعلها ثم أن كل واحد من هذين الاحتمالين قائم فيما ذكروه فيبطل به أصل دليلهم سلمنا أنه لا بد من الإمام فلم قلت إنه معصوم قوله ولو لم يكن معصوما لافتقر إلى لطف اخر قلنا نعم لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك اللطف هو الأمة فإنا قبل قيام الدلالة على أن الإجماع حجة نجوز كونه حجة وذلك التجويز يكفينا في ذلك المقام لأنهم هم المستدلون فيكفينا أن نقول لم لا يجوز أن يكون الإمام لطفا لكل واحد من آحاد الأمة ويكون مجموع الأمة لطفا للإمام فعليهم إقامة الدليل على أنه لا يجوز أن يكون مجموع الأمة معصوما ومعلوم أنه لا يكفي في ذلك قدحهم في أدلتنا على أن الإجماع حجة سلمنا كونه معصوما فلم قلت إن الإجماع يشتمل على قوله وتقريره ما بيناه في أول الباب أن العلم باتفاق كل الناس بحيث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 يقطع بأنه لم يشد واحد منهم في الشرق والغرب متعذر لا سبيل اليه سلمنا وجود قوله لكن لا نسلم أن قوله صواب لأن عندهم يجوز أن يفتي الإمام بالكفر والبدعة على سبيل التقية والخوف ويحلف بالله تعالى والأيمان التي لا مخرج منها أن الأمر كذلك وإذا كان كذلك فلعله لما رأى أهل العالم متفقين على ذلك القول خاف من مخالفتهم فأظهر الموافقة على ذلك الباطل كيف وعندهم قد أظهر علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع جميع رهط الهاشميين والأمويين والأنصار التقية خوفا من أبي بكر ومن عمر رضي الله عنهما مع قلة أنصارهما وكان وأعوانهما فإذا جاز الخوف والتقية في هذه الصورة فكيف لا يخاف الرجل الواحد جميع أهل العالم عند اتفاقهم على الباطل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 سلمنا أنه افتى به عن اعتقاد فلم لا يجوز أن يكون ذلك خطأ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 من باب الصغائر وعند ذلك يحتاجون إلى إقامة الدلالة على أنه لا تجوز الصغيرة على الأئمة فإن عولوا فيه على حديث التنفير فهو ضعيف لأن العجز الشديد والفتوى بالكفر والفسق وإباحة الدماء والفروج مع الأيمان الغليظة أدخل في باب التنفير من وقوع الصغيرة فإذا جاز أن لا يكون منزها عنه فلم لا يجوز أن لا يكون منزها عن الصغيرة فهذا ما على هذه الطريقة من الاعتراضات ومن أحاط بها تمكن من القدح في جميع مذاهب الشيعة أصولا وفووعا روى! لأن أصولهم في الإمامة مبنية على هذه القاعدة ومذاهبهم في فروع الشريعة مبنية على التمسك بهذا الإجماع والله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 القسم الثاني فيما أخرج من الإجماع وهو منه المسألة الأولى كل مسألة فالحكم فيها إما أن يكون بالإيجاب الكلي أو بالسلب الكلي أوبالإيجاب في البعض والسلب في البعض فهذه احتمالات ثلاثة لا مزيد عليها فإذا اختلف أهل العصر الأول على قولين من هذه الثلاثة فهل لمن بعدهم أن يذكروا الثالث الأكثرون منعوه وأهل الظاهر جوزوه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 والحق أن إحداث القول الثالث إما أن يلزم منه الخروج عما أجمعوا عليه أو لا يلزم فإن كان الأول لم يجز إحداث القول الثالث مثاله الأمة اختلفت في الجد مع الأخ على قولين منهم من جعل المال كله للحد ومنهم من قال إنه يقاسم الأخ فالقول الثالث وهو صرف المال كله إلى الأخ غير جائز لأن أهل العصر الأول القائلين بالقولين الأولين اتفقوا على أن للجد قسطا من المال فالقول بصرف المال كله إلى الأخ يبطل ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 وأما الثاني فإن إحداث القول الثالث فيه جائز لأن المحذور مخالفة الإجماع أو القول بما يلزم منه مخالفته فأما إذا لم يكن إحداث القول كذلك وجب جوازه واحتج المانعون بأمرين أحدهما أن الأمة لما اختلفت على قولين فقد أوجب كل واحد من الفريقين الأخذ إما بقوله أو بقول صاحبه وتجويز القول الثالث يبطل ذلك فإن قلت إنهم إنما أوجبوا ذلك بشرط أن لا يظهر وجه ثالث فإذا ظهر فقد زال شرط ذلك الإجماع قلت لو جوزنا هذا الاحتمال لجوزنا أن يقال إنما أوجبوا التمسك بالإجماع على القول الواحد بشرط أن لا يظهر وجه القول الثاني فإذا ظهر فقد زال شرط ذلك الإجماع فيجوز الخلاف وثانيهما أن الذهاب إلى القول الثالث إنما يجوز لو أمكن كونه حقا ولا يمكن كونه حقا إلا عند كون الأولين باطلين ضرورة أن الحق واحد وحينئذ يلزم إجماع الأمة على الباطل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 والجواب عن الأول أن ايجاب الأخذ بأحد ذينك القولين مشروط بأن لا يظهر الثالث قوله لو جاز ذلك لجاز مثله في القول الواحد قلنا إنه جائز لكنهم منعوا من اعتباره فليس لنا أن نتحكم عليهم بوجوب التسوية وعن الثاني أن هذا الإشكال غير وارد على القول بأن كل مجتهد مصيب فإنه لا يلزم من حقية أحد الأقسام فساد الباقي وأما على القول بأن المصيب واحد فلا يلزم من التمكن من إظهار القول الثالث كونه حقا لأن المجتهد قد تمكن من العمل بالإجتهاد الخطأ والله أعلم المسألة الثانية الأمة إذا لم تفصل بين مسألتين فهل لمن بعدهم أن يفصل بينهما واعلم أن هذا يقع على وجهين أحدهما أن يقولوا لا فصل بين هاتين المسألتين في كل الأحكام أو في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 الحكم الفلاني والآخر أن لا ينصوا على ذلك لكن ما كان فيهم من فرق بينهما أما القسم الأول فإنه لا يجوز الفصل بينهما ثم إنه على ثلاثة أقسام أحدها أن تحكم الأمة في المسألتين بحكم واحد إما ب التحليل أو بالتحريم وثانيها أن يحكم بعض الأمة فيهما بالتحريم والبعض الآخر بالتحليل وثالثها أن لا ينقل الينا عنهم حكم فيهما ففي هذه الصورة الثالثة متى دل الدليل في إحدى المسألتين على تحليل أو تحريم وجب أن يكون الحال في الأخرى كذلك وأما القسم الثاني فقيل فيه إن علم أن طريقة الحكم في المسألتين واحدة فذلك جار مجرى أن يقولوا لا فصل بينهما فمن فصل بينهما فقد خالف ما اعتقدوه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 مثاله من ورث العمة ورث الخالة ومن منع إحداهما منع الأخرى وإنما جمعوا بينهما من حيث انتظمهما حكم ذوي الأرحام فهذا مما لا يسوغ خلافهم فيه بتفريق ما جمعوا بينهما إلا أن هذا الاجماع متأخر عن سائر الإجماعات في القوة وأما إن لم يكن كذلك فالحق جواز الفرق لمن بعدهم لأنه لا يكون بذلك مخالفا لما أجمعوا عليه لا في حكم ولا في علة حكم ولأنه لو امتنع الفرق لكان من وافق الشافعي رضي الله عنه في مسألة لدليل وجب عليه أن يوافقه في كل المسائل احتج المانعون من الفصل مطلقا بوجهين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 الأول أن الأمة إذا قال نصفها بالحرمة في المسألتين وقال النصف الآخر بالحل فيهما فقد اتفقوا على أنه لا فصل بين المسألتين فيكون الفصل بينهما رد للإجماع الثاني أن الأمة إذا اختلفت على قولين في مسألتين فقد أوجبت كل واحدة من الطائفتين على الأخرى أن تقول بقولها أو بقول الطائفة الأخرى وحظرت ما سوى ذلك وذلك يمنع من الفرق بين المسألتين والجواب عن الأول إنكم إن عنيتم بقولكم اتفقوا على أنه لا فصل بينهما أنهم نصوا على استوائهما في الحكم أو هما مستويان في علة الحكم فليس كذلك لأن النزاع ليس ها هنا وإن عنيتم به أن كل من قال بأحدى المسألتين فقد قال أيضا بالأخرى فلم قلتم أن ذلك يمنع من الفصل فإن هذا أول المسألة وعن الثاني أنهم إنما أوجبوا ذلك بشرط أن لا يفرق بعض المجتهدين بين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 المسألتين فإن أدعوا أنه لا التفات إلى هذا الشرط فهذا عين المتازع ولم فيه ومن الناس من جوز الفصل مطلقا استدلالا بعمل ابن سيرين في زوج وأبوين أن للام ثلث ما يبقى وقال في امرأة وأبوين للام ثلث المال فقال في إحداهما بقول ابن عباس وفي الأخرى بقول عامة الصحابة والثوري قال الجماع ناسيا يفطر والأكل ناسيا لا يفطر وفرق بين المسألتين مع أنه جمعتهما طريقة واحدة والله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 المسألة الثالثة يجوز حصول الاتفاق بعد الخلاف وقال الصيرفي لا يجوز لنا إجماع الصحابة على إمامة ابي بكر رضي الله عنه بعد اختلافهم فيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 واتفاق التابعين على المنع من بيع أمهات الأولاد بعد اختلاف الصحابة فيه احتج الخصم بأن أهل العصر الأول اتفقوا على جواز الأخذ بأي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 القولين كان إذا أدى الاجتهاد إليه فلو أجمعوا على أحد القولين وجب أن يكون الإجماعان صوابا ويكون المتأخر ناسخا للمتقدم لكن ذلك باطل على ما مر في باب النسخ ولأنه لو جاز ذلك لجاز أن يتفق أهل عصر على قول ويتفق أهل عصر ثان على خلافه والجواب أن الإجماع على الأخذ بأي القولين شاء مشروط بعدم الاتفاق فإذا حصل الاتفاق زال شرط الإجماع فزال لزوال شرطه قوله لو جاز ذلك لجاز مثله عند الاتفاق قلنا مر الجواب عنه في المسألة الأولى والله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 المسألة الرابعة إذا اتفق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول كان ذلك اجماعا لا تجوز مخالفته خلافا لكثير من المتكلمين وكثير من فقهاء الشافعية والحنفية لنا أن ما أجمع عليه أهل العصر الثاني سبيل المؤمنين فيجب اتباعه لقوله عز وجل ويتبع غير سبيل المؤمنين ولأنه إجماع حدث بعد ما لم يكن فيكون حجة كما إذا حدث بعد تردد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 أهل الإجماع فيه حال التفكر واعلم أن هذا المقيس عليه ينقض على المخالف أكثر أدلته احتجوا بأمور أحدها قوله عز وجل فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول أوجب الرد إلى كتاب الله تعالى عند التنازع وهو حاصل لأن حصول الأتفاق في الحال لا ينافي ما تقدم من الاختلاف فوجب فيه الرد إلى كتاب الله تعالى وثانيها قوله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ظاهره يقتضي جواز الأخذ بقول كل واحد من الصحابة ولم يفصل بين ما يكون بعده إجماع أو لا يكون وثالثها أن في ضمن اختلاف أهل العصر الأول الاتفاق على جواز الأخذ بأيهما أريد فلو انعقد إجماع في العصر الثاني لتدافع الإجماعان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 ورابعها لو كان قولهم إذا اتفقوا بعد الاختلاف حجة لكان قول إحدى الطائفتين إذا ماتت الأخرى حجة وفيه كون قولهم حجة بالموت وخامسها لو كان اتفاق أهل العصر الثاني حجة لكانوا قد صاروا إليه لدليل وذلك باطل لأنه لو وجد ذلك الدليل لما خفى على أهل العصر الأول وسادسها أن أهل العصر الثاني بعض الأمة فلا يكون اتفاقفهم بين وحدهم إجماعا وسابعها أنه قد ثبت أن أهل العصر الأول إذا اختلفوا على قولين لم يجز لمن بعدهم إحداث قول ثالث وأهل العصر الأول لما اختلفوا لم يكن القطع بذلك الحكم قولا لواحد منهم فيكون القطع بذلك إحداثا لقول ثالث وإنه غير جائز وثامنها أن الصحابة في الحادثة التي اختلفوا فيها كالأحياء ألا ترى أنه تحفظ في ذلك أقوالهم ويحتج لها وعليها وإذا لم ينعقد الإجماع مع تلك الأقوال حال حياة القائلين بها وجب أيضا أن لا ينعقد حال وفاتهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 وتاسعها أن هذا الإجماع لو كان حجة لوجب ترك القول الآخر ولكان إذا حكم به حاكم ثم انعقد الإجماع على خلافه وجب نقضه لكونه واقعا على مضادة دليل قاطع لكن ذلك باطل لأن أهل العصر الأول اتفقوا على نفوذ هذا القضاء فنقضه يكون على خلاف الإجماع الجواب عن الأول أن التعلق بالإجماع رد إلى الله والرسول ولأن أهل العصر الثاني إذا اتفقوا فهم ليسوا بمتنازعين أهل فلم يجب عليهم الرد إلى كتاب الله لأن المعلق بالشرط عدم عند عدم شرطه وعن الثاني أنه مخصوص بتوقف الصحابة في الحكم حال الاستدلال مع أنه لا يجوز الاقتداء به في ذلك بعد انعقاد الإجماع فوجب تخصيص محل النزاع عنه والجامع ما تقدم وعن الثالث ما مر غير مرة أن ذلك الإجماع مشروط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 ثم إنه منقوض باتفاقهم حال الاستدلال على التوقف وتجويز الأخذ بأي قول ساق الدليل إليه ولأنكم اذا جوزتم أن لا يكون اتفاق أهل العصر الثاني حجة فلم لا يجوز أن لا يكون اتفاق أهل العصر الأول حجة إذ ليس أحد الاتفاقين حديث اولى من الآخر واذا لم يكن الاتفاق الأول حجة لم يلزم من حصول الاتفاق الثاني ما ذكرتموه من المحذور فثبت أن هذه الحجة متناقضة وعن الرابع أنا نتبين بموت إحدى الطائفتين أن قول الطائفة الأخرى حجة لاندراج قولهم تحت أدلة الإجماع لا ان الموت نفسه هو الحجة وعن الخامس أنه لا يجوز أن يخفى ذلك الدليل على كلهم لكن يجوز خفاوه عند على بعضهم عن السادس أنه لو كان أهل العصر الثاني بعض الأمة لوجب أن لا يكون اتفاقهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 الذي لا يكون مسبوقا بالخلاف حجة وهذا يقتضي أن لا يكون الحجة إجماع الصحابة فقط بل إجماع الذين كانوا موجودين عند ظهور أدلة الإجماع وهذا القائل لا يقول بهذه المذاهب وعن السابع أنه لا يجوز إحداث قول ثالث إذا كان الإجماع منعقدا على عدم جوازه مطلقا أما إذا كان مشروطا بشرط جاز ذلك عند عدم ذلك الشرط كما ذكرنا أنهم حال الاستدلال مطبقون على جواز التوقف وعدم القطع مع أن ذلك لا ينافي اتفاقهم على القطع بعده وعن الثامن قوله أقوال الصحابة باقية بعد وفاتهم إن عنى بذلك كونها مانعة من انعقاد الإجماع فهذا عين النزاع وإن عنى به علمنا بأنهم ذكروا هذه الأقول فلم قلت إن ذلك ينفي انعقاد الإجماع وان عنيتم ثالثا فبينوه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 وعن التاسع أنا لا ننقض ذلك الحكم لأنه صار مقطوعا به في زمان عدم هذا الإجماع ونحن إنما ننقض الحكم الذي حكم به القاضي إذا وقع ذلك الحكم في زمان قيام الدلالة القاطعة على فساده والله أعلم المسألة الخامسة أهل العصر إذا انقسموا إلى قسمين ثم مات أحد القسمين صار قول الباقين إجماعا لأن بالموت ظهر اندراج قول ذلك القسم وحده تحت أدلة الإجماع وكذا القول إذا انقسموا إلى قسمين ثم كفر أحدهما فإنه يصير القول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 الثاني حجة والله أعلم المسألة السادسة أهل العصر إذا اختلفوا على قولين ثم رجعوا إلى أحد ذينك القولين هل يكون ذلك إجماعا أما من قال بانعقاد الإجماع في المسألتين السابقتين فقوله به ها هنا أولى ونثبت هذه الأولوية من وجهين أحدهما أن في المسألتين السابقتين لقائل أن يقول المجمعون ليسوا كل الأمة فلا يكون اتفاقهم قولا لكل الأمة فلا يكون حجة وأما ها هنا فهذه الشبهة زائلة لأن الذين اتفقوا هم بعينهم الذين اختلفوا فكان المجمعون كل الأمة وثانيهما أن في المسألتين السابقتين ما صار القول الثاني مرجوعا عنه أصلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 وها هنا صار كذلك وأما المنكرون لانعقاد الإجماع هناك فقد اختلفوا ها هنا فأما من اعتبر انقراض العصر فإنه جوز ذلك قال لأن الانقراض لما كان شرطا في الإجماع وهم لم ينقرضوا على ذلك الخلاف فلم يحصل الإجماع على جواز الخلاف فلم يكن الاتفاق حاصلا بعد الإجماع على جواز الخلاف وأما من لم يعتبر الانقراض فقد اختلفوا فمنهم من أحال وقوعه ومنهم من جوزه وزعم أنه لا يكون حجة ومنهم من جعله إجماعا يحرم خلافه وهو المختار لنا ما تقدم من أن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في الإمامة ثم اتفقوا بعد ذلك عليها وإذا ثبت وقوعه وجب أن يكون حجة لقوله عز وجل ويتبع غير سبيل المؤمنين والشبه التي يذكرونها ها هنا هي التي مرت والله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 المسألة السابعة انقراض العصر غير معتبر عندنا في الإجماع خلافا لبعض الفقهاء والمتكلمين منهم الأستاذ أبو بكر بن فورك لنا قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا وصفهم بالخيرية وإجماعهم لا على الصواب يقدح في وصفهم بالخيرية وأيضا فقوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على الخطأ ينافي إجماعهم على الخطأ ولو في لحظة واحدة ومما تمسكوا به في المسألة أنا لو اعتبرنا الانقراض لم ينعقد إجماع لأنه قد حدث من التابعين في زمن الصحابة قوم من أهل الاجتهاد فيجوز لهم مخالفة الصحابة لأن العصر لم ينقرض ثم الكلام في هذا العصر كالكلام في العصر الأول فوجب أن لا يستقر إجماع أبدا فإن قلت لم لا يجوز أن يكون المعتبر انقراض عصر من كان مجتهدا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 عند حدوث الحادثة لا من يتجدد بعد ذلك فلا يلزم اعتبار عصر التابعين إذا حدث فيهم مجتهد بعد حد وث الحادثة قلت بتقدير أن يحدث في التابعين واحد من أهل الاجتهاد قبل انقراض عصر من كان مجتهدا عند حدوث الحادثة من الصحابة ففي ذلك الوقت إجماع الصحابة غير منعقد فوجب أن يجوز للتابعي مخالفتهم وكذلك يحدث في تابعي التابعين قبل انقراض عصر من كان مجتهدا من التابعين وهلم جرا إلى زماننا فيلزم ان لا ينعقد الإجماع على ذلك التقدير ثم إنا نجوز هذا الاحتمال في كل الإجماعات ولا نعلم عدمه فوجب أن لا ينعقد شئ من الإجماعات واحتج المخالف بأمور أحدها أن عليا رضي الله عنه سئل عن بيع أمهات الأولاد فقال قد كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 رأيي ورأي عمر أن لا يبعن ثم رأيت بيعهن فقال له عبيدة السلماني رأيك في الجماعة أحب الينا من رأيك وحدك فدل قول عبيدة عن أن الإجماع كان حاصلا مع أن عليا رضي الله عنه خالفه وثانيها أن الصديق كان يرى التسوية في القسم ولم يخالفه أحد في زمانه ثم خالفه عمر بعد ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 وثالثها أن الناس ما داموا في الحياة يكونون في التفحص والتأمل فلا يستقر الاجماع ورابعها قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس ومذهبكم! يقتضي أن يكونوا شهداء على أنفسهم أيضا وخامسها أن قول المجمعين لا يزيد على قول النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كانت وفاة النبي صلى الله عليه وأله وسلم شرطا في استقرار الحجة من قوله فلأن يعتبر ذلك في قول أهل الاجماع أولى والجواب عن الأول أن قول السلماني رأيك في الجماعة دل على أن المنع من بيعهن كان رأي جماعة ولم يدل على أنه كان رأي كل الأمة وإنما أراد أن ينضم قول علي الى قول عمر رضي الله عنهما لأنه رجح قول الأكثر على قول الأقل وعن الثاني أنا لا نسلم انعقاد الإجماع على فعل أبي بكر رضي الله عنه بل نقل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 أن عمر رضي الله عنه نازعه فيه وعن الثالث أنهم إن أرادوا بنفي الاستقرار أنه لا يحصل الاتفاق فهو باطل لأن كلامنا في أنه لو حصل لكان حجة وإن أرادوا به أنه بعد حصوله لا يكون حجة فهو عين النزاع وعن الرابع أن كونهم شهداء على الناس لا ينافي شهادتهم على أنفسهم وعن الخامس أنه جمع بين الموضعين من غير دليل وبالله التوفيق المسألة الثامنة اختلفوا في أنا لو جوزنا انعقاد الإجماع عن السكوت فهل يعتبر فيه الإنقراض ذهب كثير ممن لم يعتبر الانقراض في الإجماع القولي إلى اعتباره ها هنا لأن سكوته يمكن أن يكون للتفكر في حكم تلك الحادثة فأما إذا مات عليه علمنا حينئذ أن سكوته كان رضى وهذا ضعيف لأن السكوت إن دل على الرضا وجب أن يحصل ذلك قبل الموت وإن لم يدل عليه لم يحصل ذلك أيضا بالموت لاحتمال أنه مات على ما كان عليه قبل الموت والله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 المسألة التاسعة الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة خلافا لأكثر الناس لنا أن ظن وجوب العمل به حاصل فوجب العمل به دفعا للضرر المظنون ولأن الإجماع نوع من الحجة فيجوز التمسك بمظنونه كما يجوز بمعلومه قياسا على السنة ولأنا بينا أن أصل الإجماع قاعدة ظنية فكيف القول في تفاصيله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 القسم الثالث فيما أدخل في الإجماع وليس منه المسألة الأولى إذا قال بعض أهل العصر قولا وكان الباقون حاضرين لكنهم سكتوا وما انكروه فمذهب الشافعي رضي الله عنه وهو الحق أنه ليس بإجماع ولا حجة وقال الجبائي إنه إجماع وحجة بعد انقراض العصر وقال أبو هاشم ليس بإجماع ولكنة حجة وقال أبو علي بن أبي هريرة إن كان هذا القول من حاكم لم يكن إجماعا ولا حجة وإن لم يكن من حاكم كان إجماعا وحجة لنا أن السكوت يحتمل وجوها أخر سوى الرضى وهي ثمانية أحدها أن يكون في باطنه مانع من إظهار القول وقد تظهر عليه قرائن السخط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 وثانيها ربما رآه قولا سائغا أدى اجتهاده إليه وإن لم يكن موافقا عليه وثالثها أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب فلا يرى الإنكار فرضا أصلا ورابعها ربما أراد الإنكار ولكنه ينتهز فرصة التمكن منه ولا يرى المبادرة إليه مصلحة وخامسها أنه لو أنكر لم يلتفت إليه ولحقه بسبب ذلك ذل كما قال ابن عباس في سكوته عن العول هبته وكان والله مهيبا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 وسادسها ربما كان في مهلة النظر وسابعها ربما سكت لظنه أن غيره يقوم مقامه في ذلك الإنكار وإن كان قد غلط فيه وثامنها ربما رأى ذلك الخطأ من الصغائر فلم ينكره وإذا احتمل السكوت هذه الجهات كما احتمل الرضى علمنا أنه لا يدل على الرضا لا قطعا ولا ظاهرا وهذا معنى قول الشافعي رحمه الله لا ينسب الى ساكت قول واحتج الجبائي بأن العادة جارية بأن الناس إذا تفكروا في مسألة زمانا طويلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 واعتقدوا خلاف ما انتشر من القول أظهروه إذا لم تكن هناك تقية ولو كانت هناك تقية لظهرت واشتهرت فيما بين الناس فلما لم يظهر سبب التقية ولم يظهر الخلاف علمنا حصول الموافقة وجوابه ما بينا أن وراء الرضى احتمالات أخرى واحتج أبو هاشم بأن الناس في كل عصر يحتجون بالقول المنتشر في الصحابة إذا لم يعرف له مخالف وجوابه أن ذلك ممنوع واحتج أبو علي بن أبي هريرة بأن هذا القول أن كان من حاكم لم يدل سكوت الباقين على الإجماع لأن الواحد منا قد يحضر مجالس الحكام فيجدهم يحكمون بخلاف مذهبه وما يعتقده ثم لا ينكر عليهم وإن كان من غير الحاكم كان إجماعا وهو ضعيف لأن عدم الإنكار إنما يكون بعد استقرار المذهب وأما حال الطلب فالخصم لا يسلم جواز السكوت إلا عن الرضى سواء كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 مع الحاكم أو مع غيره والله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 المسألة الثانية اختلفوا فيما إذا قال بعض الصحابة قولا ولم يعرف له مخالف والحق أن هذا القول إما أن يكون مما تعم به البلوى أولا يكون فإن كان الأول ولم ينتشر ذلك القول فيهم فلا بد وأن يكون لهم في تلك المسألة قول إما موافق أو مخالف ولكنه لم يظهر ف يجرى ذلك مجرى قول البعض بحضرة الباقين وسكوت الباقين عنه وإن كان الثاني لم يكن إجماعا ولا حجة لاحتمال ذهول البعض عنه وبهذا التقدير لا يكون للذاهلين فيه قول فلا يكون الإجماع حاصلا المسألة الثالثة إذا استدل أهل العصر بدليل أو ذكروا تأويلا ثم استدل أهل العصر الثاني بدليل آخر أو ذكروا تأويلا آخر فقد اتفقوا على أنه لا يجوز إبطال التأويل القديم لأنه لو كان ذلك باطلا وكانوا ذاهلين عن التأويل الجديد الذي هو الحق لكانوا مطبقين على الخطأ وهو غير جائز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 وأما التأويل الجديد فإن لزم من ثبوته القدح في التأويل القديم لم يصح كما إذا اتفقوا على تفسير اللفظ المشترك بأحد معنييه ثم جاء من بعدهم وفسره بمعناه الثاني لم يجز ذلك لأنا قد دللنا على أن اللفظ الواحد لا يجوز استعماله لإفادة معنييه جميعا فصحة هذا التأويل الجديد تقتضي فساد القديم وإنه غير جائز أو يقال إنه تعالى تكلم بتلك اللفظه مرتين وهو باطل لانعقاد الإجماع على ضده وإما اذا لم يلزم من صحة التأويل الجديد فساد التأويل القديم جاز ذلك والدليل عليه أن الناس يستخرجون في كل عصر أدلة وتأويلات جديدة ولم ينكر عليهم أحد فكان ذلك إجماعا وللمانع أن يحتج بأمور أولها أن الدليل الجديد مغاير لسبيل المؤمنين فوجب أن يكون محظورا لقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين وثاينها أن قوله تعالى كنتم خير أمة خطاب مشافهة فلا يتناول إلا أهل العصر الأول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 ثم قوله تأمرون بالمعروف يقتضي كونهم آمرين بكل معروف فكل ما لم يأمروا به ولم يذكروه وجب أن لا يكون معروفا فكان منكرا وثالثها أن الدليل الثاني والتأويل الثاني لو كان صحيحا لما جاز ذهول الصحابة مع تقدمهم في العلم عنه والجواب عن الأول أن قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين خرج مخرج الذم فيختص بمن اتبع ما نفاه المؤمنون لأن ما لم يتكلم فيه المؤمنون بنفي ولا بإثبات لا يقال فيه إنه اتباع لغير سبيل المؤمنين وأيضا فالحكم بفساد ذلك الدليل ما كان سبيلا للمؤمين فوجب كونه باطلا وعن الثاني أن قوله وتنهون عن المنكر يقتضي نهيهم عن كل المنكرات فكل ما لم ينهوا عنه وجب أن لا يكون منكرا لكنهم ما نهوا عن هذا الدليل الجديد فوجب أن لا يكون منكرا وعن الثالث أنه لا استبعاد في أنهم اكتفوا بالدليل الواحد والتأويل الواحد وتركوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 طلب الزيادة والله أعلم المسألة الرابعة قال مالك إجماع أهل المدينة وحدها حجة وقال الباقون ليس كذلك حجة مالك قوله صلى الله عليه وسلم إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد والخطأ خبث فكان منفيا عنهم فإن قيل وجد في الخبر ما يقتضي كونه مردودا لأن ظاهره أن كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 من خرج عنها فإنه من الخبث الذي تنفيه المدينة وذلك باطل لأنه قد خرج منها الطيبون كعلي وعبد الله رضي الله عنهما بل ذكروا ثلاثمائة ونيفا من الصحابة الذين انتقلوا إلى العراق وهم أمثل من الذين بقوا فيها كأبي هريرة وأمثاله سلمنا سلامته عن هذا الطعن لكنه من أخبار الآحاد فلا يجوز التمسك به في مسألة علمية سلمنا صحة متنه لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك محمولا على من خرج منها لكراهية المقام بها مع أن في المقام بها بركة عظيمة بسبب جوار الرسول وجوار مسجده صلى الله عليه وآله وسلم ومع ما ورد من الثناء الكثير على المقيمين بها لأن الكاره للمقام بها مع هذه الأحوال لا بد وأن يكون ضعيف الدين ومن كان كذلك فهو خبث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 سلمنا أن المراد كونها نافية للقول الباطل لكن قوله لتنفي خبثها ليس فيه صيغة عموم سلمناه لكن لم لا يجوز تخصيص هذا القول بزمانه ويكون المراد بالخبث الكفار ثم إنه معارض بأمور ثلاثه الأول أن الذي دل على كون الإجماع حجة وارد بلفظين لفظ المؤمنين في آية المشاقة ولفظ الأمة في غيرها وهاتان اللفظتان غير مخصوصتين ببلدة دون بلدة فوجب اعتبار الكل الثاني أن الأماكن لا تؤثر في كون الأقول حجة الثالث أن القول به يودي إلى المحال لأن من كان ساكن المدينة كان قوله حجة فإذا خرج منها لا يكون قوله حجة ومن كان قوله حجة في مكان كان قوله حجة في كل مكان كالرسول صلى الله عليه وسلم والجواب قوله يقتضي أن كل من خرج من المدينة فهو خبث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 قلنا لا نسلم لأن الخبر يقتضي أن كل ما كان خبثا فإن المدينة تخرجه وهذا لا يقتضي أن كل ما تخرجه المدينة فهو خبث قوله إنه خبر واحد فلا يجوز التمسك به في العلميات قلنا لا نسلم أن هذه المسألة علمية بل لما ثبت بهذا الخبر ظن أن اجماع أهل المدينة حجة والعمل بالظن واجب وجب العمل به قوله نحمله على من كره المقام بالمدينة قلنا تقييد المطلق خلاف الأصل ولو جاز ذلك لجاز في قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين وفي قوله عليه الصلاة والسلام لا تجتمع أمتي على خطأ حمله على بعض الصور ولما كان جواب الجمهور أن تخصيص العام وتقييد المطلق خلاف الأصل وأنه لا يجوز القول به من غير ضرورة فكذا ها هنا قوله ليس في قوله لتنفى خبثها صيغة عموم قلنا لا نسلم فإن الحقيقة لا تنتفي إلا عند انتفاء جميع أفرادها فلولا انتفاء جميع أفراد الخبث عن المدينة وإلا لما صح القول بأنها تنفى الخبث قوله لم لا يجوز تخصيصه بزمانه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 قلنا لأن التخصيص خلاف الأصل قوله الأدلة على أن الإجماع حجة غير مختصة بقوم دون قوم قلنا تلك الأدلة لا تقتضي أن إجماع أهل المدينة حجة ولكنها لا تبطل ذلك فإذا أثبتناه بدليل منفصل لم يلزمنا محذور قوله لا أثر للمكان قلنا لا استبعاد في أن يخص الله تعالى أهل بلدة معينة بالعصمة كما أنه لا استبعاد في أن يخص تعالى أهل زمان معين بالعصمة فإنه تعالى خص أمتنا بالعصمة من بين سائر الأمم بلى العقل لا يدل على ذلك وإنما الرجوع فيه إلى السمع قوله من كان قوله حجة في مكان كان حجة في كل مكان كالنبي صلى الله عليه وسلم قلنا هذا قياس طردي في مقابلة النص فكان باطلا والله أعلم فهذا تقرير قول مالك رحمه الله وليس بمستبعد كما اعتقد هو وجمهور أهل الأصول والله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 المسألة الخامسة إجماع العترة وحدها ليس بحجة خلافا للزيدية والإمامية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 لنا أن عليا رضي الله عنه خالفه الصحابة في كثير من المسائل ولم يقل لأحد ممن خالفه إن قولي حجة فلا تخالفني احتجوا بالآية والخبر والمعنى أما الآية فقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا والخطأ رجس فيجب أن يكونوا مطهرين عنه وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 وأما المعنى فإن أهل البيت مهبط الوحي والنبي صلى الله عليه وسلم منهم وفيهم فالخطأ عليهم أبعد والجواب عن الأول أن ظاهر الآية في أزواجه صلى الله عليه وسلم لأن ما قبلها وما بعدها خطاب معهن لأنه تعالى قال وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ويجرى هذا المجرى قول الواحد لابنه تعلم وأطعني إنما أريد لك الخير ومعلوم أن هذا القول لا يتناول إلا ابنه فكذا هاهنا فإن قلت هذا باطل من وجوه أحدها أنه لو أرادهن لقال إنما يريد الله ليذهب عنكن الرجس وثانيها أن أهل البيت علي وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم لأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 لما نزلت هذه الآية لف الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم كساء وقال هو أهل بيتي وثالثها أن كلمة إنما للحصر فهي تدل على إنه تعالى ما أراد أن يزيل الرجس عن احد ألا عن أهل البيت وهذا غير جائز لأنه تعالى أراد زوال الرجس عن الكل وإذا تعذر حمله على ظاهره وجب حمله على زوال بعض الرجس عنهم لأن ذكر السبب لإرادة المسبب جائز وزوال الرجس هو العصمة فإذن هذه الآية تدل على عصمة أهل البيت وكل من قال ذلك زعم أن المراد به علي وفاطمة والحسن والحسين لا غير فلو حملناه على غيرهم كان ذلك قولا ثالثا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 قلت الجواب عن الأول أن التذكير لا يمنع من إرادتهن بالخطاب وإنما يمنع من القصر عليهن وعن الثاني أنه معارض بما يروى عن أم سلمة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألست من أهل البيت فقال بلى إن شاء الله ولأن لفظ أهل البيت حقيقة فيهن لغة فكان تخصيصه ببعض الناس خلاف الأصل وعن الثالث لا نسلم دلالة الآية على زوال كل رجس لأن المفرد المعرف لا يفيد العموم والجواب عن التمسك بالخبر أنه من باب الآحاد وعند الإمامية لا يجوز العمل به فضلا عن العلم فإن قلت بل هو صيح! قطعا لأن الأمة اتفقت على قبوله بعضهم للاستدلال به على أن إجماع العترة حجة وبعضهم للاستدلال به على فضيلتهم قلت قد تقدم أن هذا لا يفيد القطع بالصحة سلمنا صحة الخبر لكنه يقتضي وجوب التمسك بالكتاب والعترة وذلك مسلم فلم قلتم إن قول العترة وحدها حجة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 (و) الجواب عن التمسك بالمعنى انه باطل بزوجاته صلى الله عليه وسلم فإنهن شاهدن اكثر احواله مع ان قولهن ليس وحده بحجة المسألة السادسة إجماع الأئمة الأربعة وحدهم ليس بحجة وحكى أبو بكر الرازي أن أبا حازم القاضي كان يقول إجماع الخلفاء الأربعة حجة ولهذا لم يعتد بخلاف زيد بن ثابت في توريث ذوي الأرحام وحكم برد أموال حصلت في بيت مال المعتضد إلى ذوي الأرحام وقبل المعتضد فتياه وأنفذ قضاءه وكتب به إلى الآفاق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 ومن الناس من جعل إجماع الشيخين حجة واحتج أبو حازم بقوله عليه الصلاة والسلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجد واحتج الباقون بقوله عليه الصلاة والسلام اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ولما لم يكن الاقتداء بهما حال اختلافهما وجب ذلك حال اتفاقهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 والجواب أنه معارض بقوله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم أقتديهم لأنه اهتديتم مع أن قول كل واحد من الصحابة وحده ليس بحجة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 المسألة السابعة إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين ليس بحجة خلافا لبعضم لنا لو كان قول التابعي باطلا لما جاز رجوع الصحابة إليه لكنهم قد رجعوا إليه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن فريضة فقال سلوها سعيد بن جبير فإنه أعلم به وعن أنس رضي الله عنه ربما سئل عن شئ فقال سلوا مولانا الحسن فإنه سمع وسمعنا وحفظ ونسينا وسئل ابن عباس عن النذر بذبح الولد فأشار إلى مسروق فأتاه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 السائل بجوابه فتابعه عليه وفي أمثال هذه الروايات كثرة واحتج المخالف بالآية والخبر والأثر أما الآية فقوله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ولن يرضى عنهم إلا إذا كانوا غير مقدمين على فعل شئ من المحظورات ومتى كذلك كان قولهم حجة أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام لو أنفق غيرهم ملأ الأرض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وذلك يدل على أن التابعي إذا خالف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 فالحق ليس مع التابعي بل معهم وأما الأثر فهو أن عائشة رضي الله عنها أنكرت على ابي سلمة بن عبد الرحمن خلافه على ابن عباس في عدة المتوفى عنها زوجها وهي حامل وقالت فروج يصيح مع الديكة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 والجواب عن الأول أن الآية مختصة بأهل بيعة الرضوان وبالاتفاق لا اختصاص لهم بالإجماع وعن الخبر أنه يلزم منه أن الصحابي الواحد إذا قال نقيض قول التابعي أن نقطع بأن الحق قول الصحابي وعن الأثر أن إنكارها على أبي سلمة لعله كان لأنه خالف بعد الإجماع أو في مسألة قطعية أو لأنه خالف قبل أن كان أهلا للاجتهاد أو لأنه أساء الأدب في المناظرة ولأن قول عائشة رضي الله عنهما ليس بحجة المسألة الثامنة اختلفوا في انعقاد الإجماع مع مخالفة المخطئين من أهل القبلة في مسائل الأصول فإن لم نكفرهم اعتبرنا قولهم لأنهم اذا كانوا من المؤمنين ومن الأمة كان قول من عداهم قول بعض المؤمنين فلا يكون حجة وإن كفرناهم انعقد الإجماع بدونهم لكن لا يجوز التمسك بإجماعنا عن كفرهم في تلك المسائل لأنه إنما ثبت خروجهم عن الإجماع بعد ثبوت كفرهم في تلك المسائل فلو أثبتنا كفرهم فيها بإجماعنا وحدنا لزم الدور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 واعلم أن قول العصاه من أهل القبلة معتبر في الإجماع لأن من مذهبنا أن المعصية لا تزيل اسم الإيمان فيكون قول من عداهم قول بعض المؤمنين فلا يكون حجة المسألة التاسعة الإجماع لا يتم مع مخالفة الواحد والإثنين خلافا لأبي الحسين الخياط من المعتزلة ومحمد بن جرير الطبري وأبي بكر الرازي لنا أن جمع الصحابة أجمعوا على ترك قتال مانعي الزكاة وخالفهم فيه أبو بكر رضي الله عنه وحده فيه ولم يقل أحد إن خلافه غير معتد به بل لما ناظروه رجعوا إلى قوله وكذلك ابن عباس وابن مسعود خالفا كل الصحابة في المسائل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 الفرائض وخلافهما باق إلى الآن واحتج المخالف بأمور أحدها أن لفضي المؤمنين والأمة يتناولهم مع خروج الواحد والإثنين منهم كما يقال في البقرة إنها سوداء وإن كانت فيها شعرات بيض وكما يقال للزنجي إنه أسود مع بياض حدقته وأسنانه وثانيها قوله عليه الصلاة والسلام عليكم بالسواد الأعظم وقوله الشيطان مع الواحد وهذا يقتضي أن الواحد المنفرد بقوله مخطئ وثالثها أن الإجماع حجة على المخالف فلو لم يكن في العصر مخالف لم يتحقق هذا المعنى ورابعها أن الصحابة أنكرت على ابن عباس خلافة للباقين في الصرف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 وخامسها أن المسلمين اعتمدوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على الإجماع مع مخالفة سعد وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وسادسها أن في رواية الأخبار يحضل الترجيح بكثرة العدد فكذا في أقوال المجتهدين وسابعها أن تفاق الجمع على الكذب ممتنع عادة واتفاق الجمع القليل على ذلك غير ممتنع فإذا اتفقت الأمة على الحكم الواحد إلا الواحد منهم أو الإثنين كان ذلك الجمع العظيم قد أخبروا عن أنفسهم بكونهم مؤمنين وذلك لا يحتمل الكذب وأما الواحد والإثنان لما أخبروا عن أنفسهم بكونهم مؤمنين فذلك يحتمل الكذب وإذا كان كذلك كان ما اتفق عليه الكل سوى الواحد والإثنين هو سبيل المؤمنين قطعا فوجب أن يكون حجة وثامنها لو اعتبرنا مخالفة الواحد والإثنين لم ينعقد الإجماع قطعا لأنه لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 يمكننا أن ندعي في شئ من الإجماعات أنه ليس هناك واحد أو اثنان يخالفون فيه والجواب عن الأول أن ألفاظ العموم لا تتناول الأكثر على سبيل الحقيقة في اللغة لأنه يجوز أن يقال لما عدا الواحد من الأمة ليسوا كل الأمة ويصح استثناوه أخبرنا عنهم وعن الثاني أن السواد الأعظم كل الأمة لأن من عدا الكل فالكل أعظم منه ولولا ما ذكرناه لدخل تحته النصف من الأمة إذا زاد على النصف الآخر بواحد وأما قوله عليه الصلاة والسلام الشيطان مع الواحد فذلك لا يقتضي أن يكون مع كل واحد وإلا لم يكن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وحده حجة وعن الثالث أنه حجة على المخالف الذي يوجد بعد ذلك ولو كان الأمر كما ذكرتم لوجب في كل إجماع أن يكون فيه مخالف شاذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 وعن الرابع أن الصحابة ما أنكروا علي ابن عباس مخالفته للإجماع بل مخالفته خبر أبي سعيد رضي الله عنهما وعن الخامس أن الإمامة لا يعتبر في انعقادها حصول الإجماع بل البيعة كافية وعن السادس لم قلتم إن الحال في الإجماع كالحال في الرواية فلو كان كذلك لحصل الإجماع بقول الواحد والإثنين كالرواية وعن السابع أنا وإن عرفنا في ذلك الجمع كونهم مؤمنين لكنا لا ندري أنهم كل المؤمنين فلا جرم لم يجب علينا أن نحكم بقولهم وعن الثامن أنا إنما نتمسك بالإجماع حيث يمكننا العلم بذلك كما في زمان الصحابة رضي الله عنهم المسألة العاشرة الإجماع إذا لم يحصل فيه قول من كان متمكنا من الاجتهاد وإن لم يكن مشهورا له لم يكن حجة لأن قول من عداه قول بعض المؤمنين فلا يندرج تحت أدلة الإجماع والله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 القسم الرابع فيما يصدر عنه الإجماع المسألة الأولى لا يجوز حصول الإجماع إلا عن دلالة أو أمارة وقال قوم يجوز صدوره عن التبخيت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 لنا أن القول في الدين بغير دلالة أو أمارة خطأ فلو اتفقوا عليه لكانوا مجمعين على الخطأ وذلك يقدح في الإجماع احتج المخالف بأمرين الأول أنه لو لم ينعقد الإجماع إلا عن دليل لكان ذلك الدليل هو الحجة ولا يبقى في الإجماع فائدة الثاني أن الإجماع لا عن الدلالة ولا عن الأمارة قد وقع كإجماعهم على بيع المراضاة وأجرة الحمام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 والجواب عن الأول أن ذلك يقتضي أن لا يصدر الإجماع عن دلالة ولا عن أمارة ألبتة وأنتم لا تقولون به ولأن فائدة الإجماع أنه يكشف عن وجود دليل في المسألة من غير حاجة إلى معرفة ذلك الدليل والبحث عن كيفية دلالته على المدلول وعن الثاني أن الصور التي ذكرتموها غايتكم أن تقولوا لم ينقل إلينا فيها دليل ولا أمارة ولا يمكنكم القطع بأنهما ما كانا موجودين فلعلها كانا موجودين لكن تركوا نقلهما للاستغناء بالإجماع عنهما المسألة الثانية القائلون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن طريق اتفقوا على جواز وقوعه عن الدلالة والحق عندنا جواز وقوعه عن الأمارة أيضا وقال ابن جرير الطبري لو ذلك غير ممكن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 ومنهم من سلم الإمكان ومنع الوقوع ومنهم من قال الأمارة إن كانت جلية جاز وإلا فلا لنا أن ذلك قد وقع روي عن عمر رضي الله عنه أنه شاور الصحابة في حد الشارب فقال علي رضي الله عنه إذا شرب سكر واذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه هذا حد وأقل الحد ثمانون فإن قلت لعلهم أجمعوا على تبليغ الحد ثمانين لنص استغنوا بالاجماع عن نقله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 قلت هذا جائز لو لم ينصوا على فزعهم إلى الإجتهاد في هذه المسألة وأيضا أثبتوا إمامة ابي بكر رضي الله عنه بالقياس على تقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 في الصلاة ثم أجمعوا عليها واحتج المخالف بأمور أحدها أن الأمة على كثرتها واختلاف دواعيها لا يجوزأن تجمعها الأمارة مع خفائها كما لا يجوز اتفاقهم في الساعة الواحدة على أكل الزبيب الأسود والتكلم باللفظة الواحدة وهذا بخلاف إجماعهم على مقتضى الدليل والشبهة لأن الدلالة قوية والشبهة تجري مجرى الدلالة عند من صار إليها وبخلاف اجتماع الخلق العظيم في الأعياد لأن الداعي إليه ظاهر وثانيها من الأمة من يعتقد بطلان الحكم بالأمارة وذلك يصرفه عن الحكم بها وثالثها أن ذلك يفضي إلى اجتماع أحكام متنافية لأن الحكم الصادر عن الاجتهاد لا يفسق مخالفة وتجوز مخالفته ولا يقطع عليه ولا على تعلقه بالأمارة والحكم المجمع عليه بالعكس في هذه الأمور فلو صدر ال إجماع عن الإجتهاد لاجتمع النقيضان فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 والجواب عن الأول أنه منقوض باتفاق أصحاب الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله على قوليهما وعن الثاني أن الخلاف في صحة القياس حادث ولأنه يجوز أن تشتبه الأمارة بالدلالة فيثبت الحكم بالأمارة على اعتقاد أنه أثبته بالدلالة ولأنه ينتقض بالعموم وخبر الواحد فإنه يجوز صدور الإجماع عنهما مع وقوع الخلاف فيهما وعن الثالث أن تلك الأحكام المرتبة على الاجتهاد مشروطة بأن لا تصير المسألة إجماعية فإذا صارت إجماعية فقد زال الشرط فتزول تلك الأحكام والله أعلم المسألة الثالثة قال أبو عبد الله البصري الإجماع الموافق لمقتضى خبر يدل على أن ذلك الإجماع لأجل ذلك الخبر والحق أنه غير واجب لأن قيام الدلائل الكثيرة على المدلول الواحد جائز فلعلهم أثبتوا مقتضى الخبر بدليل اخر سواه والله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 القسم الخامس في المجمعين قبل الخوض في المسائل لا بد من مقدمة وهي أن الخطأ جائز عقلا على هذه الأمة كجوازه على سائر الأمم لكن الأدلة السمعية منعت منه وهي واردة بلفظين أحدها لفظ المؤمنين في آية المشاقة والآخر لفظ الأمة في سائر الآيات والخبر فأما لفظ المؤمنين فقد مر في باب العموم أنه للاستغراق وأما لفظ الأمة فإنه يتناول كافة الأمة فعلى هذا يجب أن يكون المعتبر قوق كل المؤمنين وقول كل الأمة فإن خرج البعض فلا بد من دليل منفصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 وإن اكتفينا بالبعض لم يمكن إثباته بهذه الأدلة بل لا بد من دليل اخر إلا أن هذه الأدلة كما لا تقتضي ذلك الحكم في البعض لا تمنع من ثبوته في البعض لأن ما يدل على ثبوت حكم في الكل لا يمنع من ثبوته في البعض ولا يلزم من انتفاء دليل معين انتفاء المدلول المسألة الأولى لا يعتبر في الإجماع اتفاق الأمة من وقت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة لأن الذي دل على الإجماع دل على وجوب الاستدلال به وذلك الاستدلال إما أن يكون قبل يوم القيامة وهو محال على التقدير الذي قالوه لجواز أن يحدث بعد ذلك قوم آخرون أو بعده وهو باطل لأنه لا حاجة في ذلك الوقت إلى الاستدلال المسألة الثانية لا عبرة في الإجماع بقول الخارجين عن الملة لأن آية المشاقة دالة على وجوب اتباع المؤمنين وسائر الأدلة دالة على وجوب اتباع الأمة والمفهوم من الأمة في عرف شرعنا الذين قبلوا دين الرسول صلى الله عليه وسلم المسألة الثالثة لا عبرة بقول العوام خلافا للقاضي أبي بكر رحمه الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 لنا وجوه أحدها أن العالم إذا قال قولا وخالفه العامي فلا شك أن قول العامي حكم في الدين بغير دلالة ولا أماره فيكون خطأ فلو كان قول العالم أيضا خطأ لكانت الأمة بأسرها مخطئة في مسألة واحد وإن كان ذلك الخطأ من وجهين ولكنه غير جائز وثانيها إن العصمة من الخطأ لا تتصور إلا في حق من تتصور في حقه الإصابة والعامي لا يتصور في حقه ذلك لأن القول في الدين بغير طريق غير صواب وثالثها أن خواص الصحابة رضي الله عنهم وعوامهم أجمعوا على أنه لا عبرة بقول العوام في هذا الباب ورابعها أن العامي ليس من أهل الاجتهاد فلا عبرة بقوله كالصبي والمجنون احتج المخالف بأن أدلة الإجماع تقتضي متابعة الكل والجواب إيجاب متابعة الكل لا يقتضي أن لا يجب إلا متابعة الكل والأدلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 التي ذكرناها تقتضي وجوب متابعة العلماء فوجب القول به المسألة الرابعة المعتبر بالإجماع في كل فن أهل الاجتهاد في ذلك الفن وإن لم يكونوا من أهل الاجتهاد في غيره مثلا العبرة بالاجماع في مسائل الكلام بالمتكلمين وفي مسائل الفقه بالمتمكنين يكون من الاجتهاد في مسائل الفقه فلا عبرة بالمتكلم في الفقه ولا بالفقيه في الكلام بل من يتمكن من الاجتهاد في الفرائض دون المناسك يعتبر وفاقه وخلافه في الفرائض دون المناسك ولا عبرة أيضا بالفقيه الحافظ للأحكام والمذاهب إذا لم يكن متمكنا من الاجتهاد والدليل على هذه المسائل أن هؤلاء كالعوام فيما لا يتمكنون من الاجتهاد فيه فلا يكون بقولهم عبرة أما الأصولي المتمكن من الاجتهاد إذا لم يكن حافظا للأحكام فالحق أن خلافه معتبر خلافا لقوم والدليل عليه أنه متمكن من الاجتهاد الذي هو الطريق إلى التمييز بين الحق والباطل فوجب أن يكون قوله معتبرا قياسا على غيره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 المسألة الخامسة لا يعتبر في المجمعين بلوغهم إلى حد التواتر لأن الآيات والأخبار دالة على عصمة الأمة والمؤمنين فلو بلغوا والعياذ بالله إلى الشخص الواحد كان مندرجا تحت تلك الدلالة فكان قوله حجة فأما من أثبت الإجماع بالعقل من حيث إن اتفاقهم يكشف عن وجود الدليل فيعتبر فيه بلوغ المجمعين حد التواتر لكنه باطل عندنا على ما مر المسألة السادسة إجماع غير الصحابة حجة خلافا لأهل الظاهر لنا إن التابعين إذا اجمعوا كان قولهم سبيلا للمؤمنين فيجب اتباعه بالآية فإن قلت الآية إنما دلت على وجوب اتباع سبيل المؤمنين الذين كانوا حاضرين عند نزول الآية لأنهم كانوا هم المؤمنين أما الذين سيوجدون بعد ذلك فلا يصدق عليهم في ذلك الوقت أنهم مؤمنون قلت فهذا يقتضي أنه لو مات من أؤلئك الحاضرين واحد أن لا ينعقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 الإجماع بعد ذلك لكن كثيرا منهم مات قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم نقطع بذلك لكن لا يمكننا القطع ببقائهم بعد وفاته فيكون الشك فيه شكا في انعقاد الإجماع احتج المخالف بأمور أحدها أن أدلة الإجماع لا تتناول إلا الصحابة فلا يجوز القطع بأن إجماع غيرهم حجة بيان الأول أن قوله عز وجل وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس لا شك أنه خطاب مواجهة فلا يتناول إلا الحاضرين وأما قوله عز وجل ويتبع غير سبيل المؤمنين فكذلك لأن من سيوجد بعد ذلك لا يصدق عليه في الحال اسم المؤمنين فالآية لا تتناول إلا من كان مؤمنا حال نزولها وكذا القول في قوله صلى الله عليه وسلم أمتي لا تجتمع على خطأ وإذا ثبت أن هذه الأدلة لا تتناول إلا الصحابة وثبت أنه لا طريق إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 إثبات الإجماع إلا هذه الأدلة وجب أن لا يكون إجماع غير الصحابة حجة وثانيها أن أهل العصر الثاني لو أجمعوا لكان إجماعهم إما أن يكون لقياس أو لنص والأول باطل لأن القياس ليس بحجة عند الكل فلا يجوز أن يكون طريقا إلى صدور الإجماع من لكل فيبقى الثاني وهو أنهم إنما أجمعوا من جهة النص والنص إنما وصل إليهم من الصحابة فكان إجماع الصحابة على ذلك الحكم لأجل ذلك النص أولى فلما لم يوجد إجماعهم علمنا عدم ذلك النص وثالثها أنه لا بد في الإجماع من اتفاق الكل والعلم باتفاق الكل لا يحصل إلا عند مشاهدة الكل مع العلم بأنه ليس هناك أحد سواهم وذلك لا يتأتى إلا في الجمع المحصور كما في زمان الصحابة أما في سائر الأزمنة فمع كثرة المسلمين وتفرقهم في مشارق الأرض ومغاربها يستحيل أن يعرف أتفاقهم على شئ من الأشياء ورابعها أن الصحابة أجمعوا على أن كل مسألة لا تكون مجمعا عليها فأنه يجوز الاجتهاد فيها فالمسألة التي لا تكون مجمعا عليها بين الصحابة تكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 محلا للاجتهاد بإجماع الصحابة فلو أجمع التابعون عليها لخرجت عن أن تكون محلا للإجتهاد وذلك يفضي إلى تناقض الإجماعين وخامسها أن الصحابة إذا اختلفت على قولين ثم أجمع التابعون على أحدهما لا يصير القول الثاني مهجورا كما تقدمت هذه المسألة وإذا كان كذلك فنقول المسألة التي أجمع التابعون عليها يحتمل أن يكون لواحد من الصحابة فيها قول يخالف قول التابعين مع أن ذلك القول لم ينقل إلينا ومع هذا الاحتمال لا يثبت الإجماع فإن قلت لو فتحنا هذا الباب لزم أن لا يبقى شئ من النصوص دليلا على شئ من الأحكام لاحتمال طريان النسخ والتخصيص قلت الفرق أن حصول إجماع التابعين مشروط بأن لا يكون لأحد من الصحابة قول يخالف قولهم فالشك فيه شك في شرط يتوقف ثبوت الإجماع عليه فيكون ذلك شكا في حدوث الإجماع والأصل بقاؤه على العدم وأما في مسألة الإلزام ف اللفظ بظاهره يقتضي العموم والشك إنما وقع في طريان المزيل والأصل عدم طريانه فظهر الفرق والجواب عن الأول أن الذي ذكرتموه يقتضي أنه لما مات واحد من أولئك الحاضرين أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 لا يبقى إجماع الباقين حجة وذلك يقضي إلى سقوط العمل بالإجماع وهم لا يقولون به وعن الثاني أنه يحتمل أن تكون تلك الواقعة ما وقعت في زمن الصحابة فلم يتفحصوا عما يمكن الاستدلال به عليها ثم إنها وقعت في زمن التابعين فتفحصو مع عن الأدلة فوجودا بعض ما نقلته الصحابة دليلا عليه وعن الثالث أن حاصل ما ذكرتموه راجع إلى تعذر حصول الإجماع في غير زمان الصحابة وهذا لا نزاع فيه إنما النزاع في أنه لو حصل كان حجة وعن الرابع ما مر من الجواب عنه غير مرة وعن الخامس أنه يلزمكم أن لا يكون إجماع الصحابة حجة لاحتمال أن يكون الصحابي الذي مات قبل وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام له فيه قول والله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 القسم السادس فيما عليه ينعقد الإجماع المسألة الأولى كل ما لا يتوقف العلم بكون الإجماع حجة على العلم به أمكن إثباته بالإجماع وعلى هذا لا يمكن إثبات الصانع وكونه تعالى قادرا عالما بكل المعلومات وإثبات النبوه بالإجماع أما حدوث العالم فيمكن إثباته به لأنه يمكننا إثبات الصانع بحدوث الأعراض ثم نعرف صحة النبوة ثم نعرف به الإجماع ثم نعرف به حدوث الأجسام وأيضا يمكن التمسك به في أن الله عز وجل واحد لأننا قبل العلم بكونه واحدا يمكننا أن نعلم صحة الإجماع المسألة الثانية اختلفوا في أن الإجماع في الآراء والحروب هل هو حجة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 منهم من أنكر ومنهم من قال إنه حجة بعد استقراء الرأي وأما قبله فلا والحق أنه حجة مطلقا لأن أدلة الإجماع غير مختصة ببعض الصور المسألة الثالثة هل يجوز أن تنقسم الأمة إلى قسمين وأحد القسمين مخطئون في مسألة والقسم الآخر مخطئون في مسألة أخرى مثل إجماع شطر الأمة على أن القاتل لا يرث والعبد يرث وإجماع الشطر الآخر على أن القاتل يرث والعبد لا يرث والأكثرون على أنه غير جائز لأن خطأهم في مسألتين لا يخرجهم عن أن يكونوا قد اتفقوا على الخطأ وهو منفي عنهم ومنهم من جوزه وقال لأن الخطأ ممتنع على كل الأمة لا على بعض الأمة والمخطئون سعيد في كل واحدة من المسألتين بعض الأمة المسألة الرابعة لا يجوز اتفاق الأمة على الكفر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 وحكى عن قوم أنه يجوز أن ترتد الأمة لأنها إذا فعلت ذلك لم يكونوا مؤمنين ولا سبيلهم سبيل المؤمنين وإذا كذبت الرسول خرجت من أن تكون من أمته وجه القول الأول أن الله عز وجل أوجب اتباع سبيل المؤمنين واتباع سبيلهم مشروط بوجود سبيلهم وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب هذا إذا حملنا لفظ المؤمنين على الإيمان بالقلب أما إذا حملناه على التصديق باللسان ظهر أن الآية دالة على أن المصدقين في الظاهر لا يجوز إجماعهم على الخطأ ذلك يؤمننا من إجماعهم على الكفر المسألة الخامسة يجوز اشتراك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به لأن عدم العلم بذلك الشئ إذا كان صوابا لم يلزم من إجماعهم عليه محذور وللمخالف أن يقول لو اجمعوا على عدم العلم بذلك الشئ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 لكان عدم العلم به سبيلا للمؤمنين فكان يجب اتباعهم فيه حتى يحرم تحصيل العلم به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 القسم السابع في حكم الإجماع المسألة الأولى جاحد الحكم المجمع عليه لا يكفر خلاف لبعض الفقهاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 لنا أن أدلة أصل الإجماع ليست مفيدة للعلم فما تفرع عليها أولى أن لا يفيد العلم بل غايته الظن ومنكر المظنون لا يكفر بالإجماع وايضا فبتقدير أن يكون أصل كون الإجماع حجة معلوما لا مظنونا لكن العلم به غير داخل في ماهية الاسلام وإلا لكان من الواجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يحكم بإسلام أحد حتى يعرفه أن الإجماع حجة ولما لم يفعل ذلك بل لم يذكر هذه المسألة صريحا طول عمره صلى الله عليه وسلم علمنا أن العلم به ليس داخلا في ماهية الإسلام وإذا لم يكن العلم بأصل الإجماع معتبرا في الإسلام وجب أن لا يكون العلم بتفاريعه داخلا فيه المسألة الثانية الإجماع الصادر عن الاجتهاد حجة خلافا للحاكم صاحب المختصر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 لنا أنهم لما أجمعوا على ذلك الحكم صار سبيلا لهم فوجب اتباعه للآية فإن قلت ومن سبيلهم إثباته بالاجتهاد وجواز القول بخلافه إذا لاح اجتهاد اخر قلت ومن سبيلهم إثباته بطريق كيف كان فأما تعينه فقد أجمعوا على أنه غير معتبر وعن الثاني أن تجويزهم القول بخلافة حاصل لا مطلقا بل بشرط أن لا يحصل الأتفاق المسألة الثالثة اختلفوا في أنه هل يجوز انعقاد الإجماع بعد إجماع على خلافه ذهب أبو عبد الله البصري إلى جوازه لأنه لا امتناع في إجماع الأمة على قول شرط أن لا يطرأ عليه إجماع اخر ولكن أهل الإجماع لما اتفقوا على أن كل ما أجمعوا عليه فإنه واجب العمل به في كل الأعصار فلا جرم أمنا من وقوع هذا الجائز وذهب الأكثرون إلى أنه غير جائز لأنه يكون أحدهما خطأ لا محالة وإجماعهم على الخطأ غير جائز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 والقول الأول عندنا أولى المسألة الرابعة إذا أجمعوا على شئ وعارضه قول الرسول صلى الله عليه وسلم فإما أن يعلم أن قصد النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه ما هو ظاهره وقصد أهل الإجماع بكلامهم ما هو ظاهره أو يعلم أحدهما دون الثاني أو لا يعلم واحد منهما والأول غير جائز لامتناع تناقض الأدلة وإن كان الثاني قدمنا ما علم ظهوره وإن كان الثالث فإن كان أحدهما أخص من الآخر خصصنا الأعم بالأخص توفيقا بين الدليلين بقدر الإمكان وإن لم يكن كذلك تعارضا لأنا نقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم والأمة أراد أحدهما بكلامه غير ظاهرة لكنا لا نعلم أيهما كذلك فلا جرم يتساقطان والله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 الكلام في الأخبار وهو مرتب على مقدمه وقسمين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 أما المقدمة ففيها مسائل المسألة الأولى لفظ الخبر حقيقة في القول المخصوص وقد يستعمل في غير القول كقول الشاعر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 تخبرني العينان ما القلب كاتم وكقول المعري نبي من الغربان ليس على شرع يخبرنا أن الشعوب إلى صدع وكقولهم خبر الغراب بكذا لكنه مجاز فيه بدليل أن من وصف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 غيره بأنه مخبر أو أخبر لم يسبق إلى فهم السامع إلا القول المسألة الثانية ذكروا في حده أمورا ثلاثة أحدها أنه الذي يدخله الصدق أو الكذب وثانيها أنه الذي يحتمل التصديق أو التكذيب وثالثها ما ذكره أبو الحسين البصري وهو أنه كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفيا أو إثباتا قال واحترزنا بقولنا بنفسه عن الأمر فإنه يفيد وجوب الفعل لكن لا بنفسه لأن ماهية الأمر استدعاء الفعل والصيغة لا تفيد إلا هذا القدر ثم إنها تفيد كون الفعل واجبا تبعا لذلك وكذا القول في دلالة النهي على قبح الفعل فأما قولنا هذا الفعل واجب أو قبيح فإنه يفيد بصريحه تعلق الوجوب أو القبح بالفعل وأعلم أن هذه التعريفات ردية أما الأول فلان الصدق والكذب نوعان تحت الخبر والجنس جزء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 من ماهية النوع وأعرف منها فإذن لا يمكن تعريف الصدق والكذب إلا بالخبر فلو عرفنا الخبر بهما لزم الدور واعترضوا عليه أيضا من ثلاثة أوجه أحدها أن كلمة أو للترديد وهو ينافي التعريف ولا يمكن إسقاطها هاهنا لأن الخبر الواحد لا يكون صدقا وكذبا معا وثانيها ان كلام الله عز وجل لا يدخله الكذب فكان خارجا عن هذا التعريف وثالثها أن من قال محمد ومسيلمة صادقان فإن هذا خبر مع أنه ليس بصدق ولا كذب ويمكن أن يجاب عن الأول بأن المعرف لماهية الخبر أمر واحد وهم إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه وذلك لا ترديد فيه وعن الثاني أن المعتبر إمكان تطرق أحد هذين الوصفين إليه وخبر الله تعالى كذلك لأنه صدق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 وعن الثالث أن قوله محمد ومسيلمة صادقان خبران وإن كانا في اللفظ خبرا واحدا لأنه يفيد إضافة الصدق إلى محمد عليه الصلاة والسلام والى مسيلمة وأحد الخبرين صادق والثاني كاذب سلمنا أنه خبر واحد لكنه كاذب لأنه يقتضي إضافة الصدق إليهما معا وليس الأمر كذلك فكان كذبا لا محالة وأما التعريف الثاني فالاعتراض عليه أن التصديق والتكذيب عبارة عن الإخبار عن كون الخبر صدقا وكذا فقولنا الخبر ما يدخله التصديق والتكذيب جار مجرى أن يقال الخبر هو الذي يجوز الإخبار عنه بأنه صدق أو كذب فيكون هذا تعريفا للخبر بالخبر وبالصدق والكذب والأول هو تعريف الشئ بنفسه والثاني تعريف الشئ بما لا يعرف إلا به وأما الثالث فالاعتراض عليه من ثلاثة أوجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 أحدها أن وجود الشئ عند أبي الحسين عين ذاته فإذا قلنا إن السواد موجود فهو خبر مع أنه إضافة شئ إلى شئ اخر فإن قلت السؤال إنما يلزم أن لو قال إضافة أمر إلى أمر اخر وإنه لم يقل ذلك بل قال إضافة أمر إلى أمر وهذا أعم من قولنا إضافة أمر إلى أمر اخر وايضا فقولنا السواد موجود معناه أن المسمى بلفظ السواد مسمى بلفظ الموجود قلت الجواب عن الأول أن الإضافة مشعرة بالتغاير إذ لو لم يكن ذلك معتبرا لدخل اللفظ المفرد في الحد وعن الثاني أن موضع الإلزام ليس هو الإخبار عن التسمية بل عن وجوده وحصوله في نفسه ومعلوم أن من تصور ماهية المثلث أمكنه أن يشك في أنه هل هو موجود أم لا فموضع الإلزام ها هنا لا هناك وثانيها أنا إذا قلنا الحيوان الناطق يمشي فقولنا الحيوان الناطق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 يقتضي نسبة الناطق إلى الحيوان مع أنه ليس بخبر لأن الفرق بين النعت والخبر معلوم بالضرورة فإن قلت أزيد في الحد قيدا اخر فاقول إنه الذي يقتضي نسبة أمر إلى أمر بحيث يتم معنى الكلام والنعت ليس كذلك قلت إن عنيتم بكون الكلام تاما إفادته لمفهومه فذاك حاصل في النعت مع المنعوت لأن قول القائل الحيوان الناظق بكر يفيد معناه بتمامه وإن عنيتم به إفادته لتمام الخبر لم يعقل ذلك إلا بعد تعقل الخبر فإذا عرفتم به الخبر لزم الدور وإن عنيتم به معنى ثالثا فاذكروه وثالثها أن قولنا نفيا وإثباتا يقتضي الدور لأن النفي هو الإخبار عن عدم الشئ والإثبات هو الإخبار عن وجوده فتعريف الخبر بهما دور واذا بطلت هذه التعريفات فالحق عندنا أن تصور ماهية الخبر غني عن الحد والرسم لدليلين الأول أن كل أحد يعلم بالضرورة معنى قولنا إنه موجود وإنه ليس بمعدوم وأن الشئ الواحد لا يكون موجودا ومعدوما ومطلق الخبر جزء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 من الخبر الخاص والعلم بالكل موقوف على العلم بالجزء فلو كان تصور مطلق ماهية الخبر موقوفا على الاكتساب لكان تصور الخبر الخاص أولى أن يكون كذلك فكان يجب أن لا يكون فهم هذه الأخبار ضروريا ولما لم يكن كذلك علمنا صحة ما ذكرناه والثاني أن كل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر ويميزه عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر ولولا أن هذه الحقائق متصورة تصورا بديهيا وإلا لم يكن الأمر كذلك فإن قلت الخبر نوع من أنواع الألفاظ والألفاظ ليست تصوراتها بديهية فكيف قلت إن ماهية الخبر متصورة تصورا بديهيا قلت حكم الذهن بين أمرين بأن أحدهما له الآخر أو ليس له الآخر معقول واحد لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وكل أحد يدركه من نفسه ويجد التفرقة بينه وبين سائر أحواله النفسانية من ألمه ولذته وجوعه وعطشه وإذا ثبت هذا فنقول إن كان المراد من الخبر هو الحكم الذهني فلا شك أن تصوره في الجملة بديهي مركوز في فطرة العقل وإن كان المراد منه اللفظة الدالة على هذه الماهية فالاشكال غير وارد أيضا لأن مطلق اللفظ الدال على المعنى البديهي التصور يكون أيضا بديهي التصور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 المسألة الثالثة قيل لا بد في الخبر من الإرادة لأن هذه الصيغة قد تجي ولا تكون خبرا إما لصدورها عن الساهي والحاكي أو لأن المراد منها الأمر مجازا كما في قوله تعالى والجروح قصاص وإذا كانت الصيغة صالحة للدلالة على الخبرية وعلى غيرها لم ينصرف الى أحد الأمرين دون الآخر إلا لمرجح وهو الإرادة أو الداعي والكلام في هذا الأصل قد تقدم في أول باب الأمر وأيضا فلا معنى لكون الصيغة خبرا إلا أن المتلفظ تلفظ بها وكان مقصودة تعريف الغير ثبوت المخبر به للمخبر عنه أو سلبه عنه وزعم أبو علي وأبو هاشم أن الصيغة حال كونها خبرا صفة معللة بتلك الإرادة وإبطاله أيضا قد مضى في أول باب الأمر المسألة الرابعة إذا قال القائل العالم حادث فمدلول هذا الكلام حكمه بثبوت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 الحدوث للعالم لا نفس ثبوت الحدوث للعالم إذ لو كان مدلوله نفس ثبوت الحدوث للعالم لكان حيثما وجد قولنا العالم محدث كان العالم محدثا لا محالة فوجب أن لا يكون الكذب خبرا ولما بطل ذلك علمنا أن مدلول الصيغة هو الحكم بالنسبة لا نفس النسبة بقي ها هنا البحث عن ماهية الحكم فإنه لا يجوز أن يكون المراد منه الاعتقاد لإن الإنسان قد يخبر عما لا يعتقد فيه ألبته لأن من لا يعتقد أن زيدا في الدار يمكنه والحالة هذه أن يقول زيد في الدار ولا يجوز أن يكون المراد منه الإرادة لأن الإخبار قد يكون عن الواجب والممتنع مع أن الإرادة يمتنع تعلقها به فلم يبق إلا أن يكون الحكم الذهني أمرا مغايرا لجنس الاعتقادات والقصود وذلك هو كلام النفس الذي لا يقول به أحد إلا أصحابنا المسألة الخامسة اتفق الأكثرون على أن الخبر لا بد وأن يكون إما صدقا وإما كذبا خلافا للجاحظ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 والحق أن المسألة لفظية لأنا نعلم بالبديهة أن كل خبر فإما أن يكون مطابقا للمخبر عنه أو لا يكون فإن أريد بالصدق الخبر المطابق كيف كان وبالكذب الخبر الغير المطابق كيف كان وجب القطع بأنه لا واسطة بين الصدق والكذب وإن أريد بالصدق ما يكون مطابقا مع أن المخبر يكون عالما بأنه غير مطابق كان هناك قسم ثالث بالضرورة وهو الخبر الذي لا يعلم قائله أنه مطابق أم لا فثبت أن المسألة لفظية فنقول للجاحظ أن يحتج على قوله بالنص والمعقول أما النص فقوله تعالى حكاية عن الكفار أفترى على الله كذبا أم به جنة جعلوا إخباره عن نبوة نفسه إما كذبا وإما جنونا مع أنهم كانوا يعتقدون أنه ليس برسول الله على التقديرين وهذا يقتضي أن يكون إخباره عن نبوة نفسه حال جنونه مع أنه ليس نبي عندهم لا يكون كذبا لأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 المجعول في مقابلة الكذب لا يكون كذبا وأما المعقول فمن وجهين الأول أن من غلب على ظنه أن زيدا في الدار فأخبر عن كونه في الدار ثم ظهر أنه ما كان كذلك لم يقل أحد إنه كذب في هذا الخبر الثاني أن أكثر العمومات والمطلقات مخصصة ومقيدة فلو كان الخبر الذي لا يطابق المخبر كذبا لتطرق الكذب إلى كلام الشارع واحتج الجمهور باتفاق الأمة على تكذيب اليهود والنصارى في كفرياتهم مع أنا نعلم أن فيهم من لا يعلم فساد تلك المذاهب ويمكن أن يجاب عنه بأن أدلة الإسلام لما كانت جلية قوية كان حالهم شبيها بحال من أخبر عن الشئ مع العلم بفساده تنبيه واعلم أن الخبر إما أن يقطع بكونه صدقا أو بكونه كذبا أو لا يقطع بواحد منهما فلا جرم رتبنا هذا الكتاب على قسمين القسم الأول في الخبر المقطوع به وهو إما أن يكون صدقا أو كذبا أما الصدق فطريق هذا القطع إما أن يكون هو التواتر أو غيره ونحن نتكلم أولا في التواتر ثم في سائر الطرق المفيدة للقطع ثم في الطرق التي يظن أنها تفيد القطع وإن لم تكن كذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 الباب الأول في التواتر المسألة الأولى التواتر في أصل اللغة عبارة عن مجئ الواحد بعد الواحد بفترة بينهما مأخوذ من قوله تعالى ثم أرسلنا رسلنا تترا أي رسولا بعد رسول بفترة بينهما فكذا التواتر في المخبرين المراد به مجيئهم على غير الاتصال وأما في اصطلاح العلماء فهو خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم المسألة الثانية أكثر العلماء اتفقوا على أن أمثال هذه الأخبار قد تفيد العلم سواء أكان إخبارا على أمور موجودة في زماننا كالإخبار عن البلدان الغايبة قد أو عن أمور ماضية كالإخبار عن وجود الأنبياء والملوك الذي كانوا في القرون الماضية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 وحكي عن السمنية أن خبر التواتر عن الأمور الموجودة في زماننا لا يفيد العلم اليقيني ألبتة بل الحاصل منه الظن الغالب القوي ومنهم من سلم أن خبر التواتر عن الأمور الموجودة في زماننا يفيد العلم لكن الخبر عن الأمور الماضية في القرون الحالية لا يفيد العلم ألبتة لنا أنا نجد أنفسنا جازمة ساكنة بوجود البلاد الغائبة والأشخاص الماضية جزما خاليا عن التردد جاريا مجرى جزمنا بوجود المشاهدات فيكون المنكر لها كالمنكر للمشاهدات فلا يستحق المكالمة قال الخصم أنا لا أنكر وجود الظن الغالب القوي الذي لا يكاد يتميز عند الأكثرين عن اليقين التام لكن الكلام في أنه هل حصل اليقين أو لا والذي يدل على أن الحاصل ليس بيقين وجهان الأول أنا إذا عرضنا على عقولنا أن الواحد نصف الإثنين وعرضنا على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 عقولنا وجود جالينوس وفلان وفلان عند هذه الأخبار المتواترة وجدنا الجزم الأول أقوى وآكد من الجزم الثاني وقيام التفاوت يدل على احتمال تطرق النقيض إلى الاعتقاد الثاني وقيام هذا الاحتمال فيه كيف كان يخرجه عن كونه يقينا الثاني أن جزمي بوجود هذه المخبرات وفي ليس أقوى من جزمي بأن ولدي الذي أراه في هذه الساعة هو الذي رأيته بالأمس ثم هذا الجزم ليس بيقين لأنه يجوز أن يوجد شخص مساو لولدي في الشخص والصورة من كل الوجوه إما لأن القادر المختار خلقه أو لأن شيئا من التشكلات الفلكية يقتضي وجوده عند منكري القادر فثبت أن هذا الجزم ليس بيقين بل ظن فكذلك الجزم الحاصل عقيب خبر التواتر فإذا قلت لو جوزنا أن يكون هذا الشخص الذي أراه الآن غير الذي رأيته بالأمس أدى ذلك إلى الشك في المشاهدات قوله لعل القادر خلق مثله أو الشكل الغريب الفلكي اقتضاه قلنا بل ها هنا قام برهان مانع منه وهو أن الله تعالى لو فعل ذلك لأفضى إلى اشتباه الشخص وذلك تلبيس وهو على الله تعالى محال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 قلنا لا نسلم أن تجويزه يفضي إلى الشك في المشاهدات لأن المشاهد هو وجود هذا الذي أراه الآن فأما أن هذا هو الذي رأيته بالأمس فهو غير مشاهد فلا يلزم من تطرق الشك إلى هذا المعنى تطرقه إلى المشاهدات وأما البرهان الذي ذكره على امتناع هذا الاحتمال فلا يدفع الإلزام لأن هذا الجزم لو كان بناء على ذلك البرهان لكان الجاهل بذلك البرهان خاليا عن ذلك الجزم لكن العوام لا يعرفون هذا البرهان فيجب أن لا يحصل لهم ذلك الجزم والجواب أن هذا تشكيك في الضروريات فلا يستحق الجواب كما أن شبه منكري المشاهدات لا تستحق الجواب لمثل هذا السبب المسألة الثالثة العلم الحاصل عقيب خبر التواتر ضروري وهو قول الجمهور خلافا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 لأبي الحسين البصري والكعبي من المعتزلة ولإمام الحرمين والغزالي منا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 وأما الشريف المرتضى من الشيعة فإنه كان متوقفا فيه لنا لو كان ذلك العلم نظريا لما حصل لمن لا يكون من أهل النظر كالصبيان والبله ولما حصل ذلك لهم علمنا أنه ليس بنظري اعترض أبو الحسين والمرتضى على هذا الوجه بكلام واحد وهو أن النظر في ذلك ليس إلا ترتيب العلوم بأحوال المخبرين وهذا القدر حاصل للعامة والمراهقين لأنه قد حصل في عقولهم علوم كثيرة وهم يستنتجون كل من تركيبها علوما آخر سلمنا أن ما ذكرته يدل على قولك لكن معنا ما يبطله من ثلاثة أوجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 الأول ما ذكره أبو الحسين البصري وهو أن الاستدلال عبارة عن ترتيب علوم أو ظنون يتوصل بها إلى علوم أو ظنون وكل اعتقاد توقف وجوده على ترتيب اعتقادات أخر فهو استدلالي والعلم الواقع بالتواتر هذا سبيله لأنا لا نعلم وجود ما أخبرنا أهل التواتر عنه إلا إذا علمنا أنه لا داعي للمخبرين إلى الكذب ولا لبس في المخبر عنه وأنه متى كان كذلك استحال كون الخبر كذبا وإذا بطل كونه كذبا ثبت كونه صدقا فالسامع لخبر التواتر ما لم يتقرر عنده كل واحدة من هذه المقدمات لم يحصل له العلم فكان ذلك العلم استدلاليا الثاني أن العلم الحاصل بالخبر المتواتر لو كان ضروريا لكنا مضطرين إليه بحيث لا يمكننا الانفكاك عنه ولو كان كذلك لعلمنا بالضرورة كوننا عالمين على سبيل الاضطرار بذلك وكان ينبغي أن يعلم بالضرورة كل عاقل كون هذا العلم ضروريا كما في سائر العلوم الضرورية ولما لم يكن كذلك علمنا أن هذا العلم ليس بضروري الثالث ذكره الكعبي وهو أنه لو جاز أن يعلم ما غاب عن الحس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 بالضرورة لجاز أن يعلم المحسوس بالاستدلال ولما بطل هذا بطل الأول والجواب قوله ذلك الاستدلال سهل يتأتى من كل أحد قلنا سنبين ان شاء الله تعالى في فصل مفرد أن ذلك الاستدلال غامض جدا وهو الجواب بعينه عن المعارضة الأولى وعن الثاني أن كون العلم ضروريا كيقية للعلم ويجوز أن يكون أصل الشئ معلوما وتكون كيفيته مجهولة وعن الثالث أنه لا بد من الجامع المسألة الرابعة استدل أبو الحسين البصري على أن خبر أهل التواتر صدق وقال لو كان كذبا لكان المخبرون إما أن يكونوا ذكروه مع علمهم بكونه كذبا أو لا مع علمهم بكونه كذبا والقسمان باطلان فبطل كونه كذبا فتعين كونه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 صدقا فكان مفيدا للعلم إنما قلنا إنه لا يجوز أن يذكره المخبرون مع علمهم بكونه كذبا لأنهم على هذا التقدير إما أن يكونوا قصدوا فعل الكذب لغرض ومرجح أو لا لغرض ومرجح والثاني محال أما أولا فلان الفعل لا يحصل في وقت دون وقت إلا لمرجح وإلا لزم ترجح أحد الطرفين على الآخر من غير مرجح وهو محال وأما ثانيا فلان كونه كذبا جهة قبح وجهة القبح صارفة عن الفعل ومع حصول الصارف القوي عن الفعل يستحيل حصول الفعل إلا لداع أقوى من ذلك الصارف وأما القسم الأول وهو أنهم قصدوا فعل الكذب لغرض فذلك الغرض إما نفس كونه كذبا أو شئ أخر والأول باطل لأن كونه كذبا جهة صرف لا جهة دعاء والثاني باطل لأن ذلك الغرض إما أن يكون دينيا أو دنيويا وعلى التقديرين فإما أن يكون رغبة أو رهبة وعلى التقديرات فإما أن يقال كلهم كذبوا لداع واحد من هذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 الأقسام أو يقال فعله بعضهم لبعض هذه الدواعي وبعضهم للبعض الآخر وعلى كل التقديرات فإما أن تحصل تلك الدواعي بالتراسل أو لا بالتراسل والأقسام كلها باطلة أما إنه لا يجوز أن يكون للدين فلان قبح الكذب متفق عليه سواء كان ذلك بالعقل أو بالشرع فكان ذلك صارفا دينيا لا داعيا دينيا وأما الرغبة الدنيوية فقد تكون رجاء عوض على الكذب أو لأجل أن يسمع غيره شيئا غريبا وإن كان لا أصل له والأول باطل لأن كثيرا من الناس لا يرضى بالعوض الكثير في مقابلة الكذب وإن احتاج إليه وكذا القول في القسم الثاني وأما الرهبة فهي لا تكون إلا من السلطان لكن السلطان لا يقدر على أن يجمع الجمع العظيم على الكذب ألا ترى أن السلطان لا يمكنه ذلك في جميع أهل بغداد لأنه لا يعلم كل واحد منهم حتى يجعله مضطرا إلى ذلك الكذب ولأن السلطان كثيرا ما يخوف الناس عن التحدث بكلام مع أنهم آخر الأمر يقولونه حتى يصير مشهورا بينهم ولأنا نعلم في كثير من الأمور إنه لا غرض للسلطان في أن يخبر عنه بالكذب ولا يجوز أيضا أن يقال الجماعة العظيمة كذبوا بعضهم للرغبة وبعضهم للرهبة وبعضهم للتدين لأن كلامنا في جماعة عظيمة أبعاضها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 جماعات عظيمة يمتنع تساوي أجزائها في قوة هذه الدواعي وأما القسم الثاني وهو أنهم كذبوا مع أنهم لم يعلموا كونهم كاذبين فذاك لا يمكن إلا إذا اشتبه عليهم الشئ بغيره والاشتباه في الضروريات باطل وشرط خبر التواتر أن يكون واقعا عما علم وجوده بالضرورة وهذا إذا أخبر المخبرون عن المشاهدة وأما ما توسط بين من أخبرنا وبين من شاهد ذلك واسطة واحدة أو وسائط فإنه لا يحصل العلم بخبرهم إلا إذا علمنا كون الوسائط متصفين بالصفات المعتبرة في أهل التواتر وذلك إنما يعلم بطريقين الأول أن يكون أهل التواتر الذين رأيناهم أخبروا أن أولئك الذين مضوا كانوا مستجمعين للشرائط المعتبرة في أهل التواتر والثاني أن كل ما ظهر بعد خفاء وقوى بعد ضعف فلا بد وأن يشتهر فيما بين الناس حدوثه ووقت حدثوه فإن مقالة الجهمية والكرامية لما حدثت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 بعد أن لم تكن لا جرم اشتهر في ما بين الناس وقت حدوثها فلما لم يظهر شئ من ذلك علمنا أن الأمر كان كذلك في كل الأزمنة هذا تمام الاستدلال والاعتراض عليه أن يقال لأبي الحسين إما أن يكون غرضك من هذا الاستدلال ظنا قويا بكون الخبر صدقا فذلك مسلم أو اليقين فلا نسلم أن ما ذكرته يفيد اليقين لأن التقسيم المفضي إلى اليقين يجب أن يكون دائرا بين النفي والاثبات ثم نبين فساد كل قسم سوى المطلوب بدليل قاطع وهذا الذي ذكره أبو الحسين ليس كذلك فلنبين هذه الأشياء فنقول لم لا يجوز أن يقال كذبوا لا لغرض قوله الفعل بدون المرجح محال قلنا هذا لا يتم على مذهبك لأنه يقتضي الجبر وأنت لا تقول به بيان أنه يقتضى الجبر أن قادرية العبد صالحة للفعل والترك وإلا لزم الجبر فلو لم يترجح أحد الطرفين إلا لمرجح فذاك المرجح إن كان من فعل العبد عاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 الطلب من أنه لم فعل مرجح أحد الطرفين دون الآخر وإن كان ذلك لمرجح اخر من فعله لزم التسلسل أو ينتهي إلى مرجح ليس من فعله فعند حصول ذلك المرجح الذي ليس من فعله إما أن يكون ترتب أثره عليه واجبا أو لا يكون واجبا فإن كان الأول لزم الجبر وإن كان الثاني فهو باطل وبتقدير صحته فالإلزام عليك وارد أما أنه باطل فلأنه إذا لم يجب ترتب أثره عليه جاز حينئذ أن لا يترتب عليه في بعض الأوقات ذلك الأثر وجاز في وقت آخر أن يترتب إذ لو لم يجز ذلك أصلا لما كان ذلك مرجحا تاما وكلامنا في المرجح التام وإذا كان كذلك فترتب الأثر عليه في أحد الوقتين دون الوقت الآخر إما أن يكون لمزية يختص بها ذلك الوقت دون الوقت الثاني وإما لا يكون كذلك فإن كان الأول فقبل حصولك * تلك المزية ما كان المرجح التام حاصلا لكنا قد فرضناه حاصلا هذا خلف ثم إننا ننقل الكلام إلى تلك المزية فنبين أنها من فعل الله عز وجل وبعد حصولها فإن وجب ترتب الأثر عليها لزم الجبر وإن لم يجب افتقر إلى مزية أخرى لا إلي نهاية وهو محال وأما إن لم يكن ترتب الأثر على ذلك المرجح في ذلك الوقت لأجل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 حصول مزية في ذلك الوقت دون سائر الأوقات كانت نسبة تلك المزية إلى زماني ترتب الأثر عليه ولا ترتبه عليه على السواء ولا مرجح ولا مخصص ألبته فيكون اختصاص ذلك الوقت بترتب ذلك الأثر على ذلك المرجح دون الوقت الثاني يكون ترجيحا لأحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجح وهو محال وقد بان بهذا أنه ما لم يحصل للعبد مرجح من قبل الغير يمتنع أن يكون فاعلا وإذا حصل المرجح وجب أن يكون فاعلا وهذا هو الجبر وأما بتقدير أن لا يجب ذلك فالإشكال وارد لأن عند حصول مرجح الوجود إذا جاز أن لا يوجد الوجود كان اللاوجود فلا واقعا لا عن مرجح أصلا وإذا جوزت ذلك بطل قولك الفعل لا يقع إلا عن الداعي فلم لا يجوز في أهل التواتر أن يكذبوا لا لداع وأما قوله ثانيا كونه كذبا جهة صرف لا جهة دعاء قلنا هذا بناءا على أن الكذب قبيح لكونه كذبا وقد مر الكلام في إبطاله في أول الكتاب سلمناه لكن عند حصول الصارف لو وجب الترك لزم الجبر وأنت لا تقول به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 وإن لم يجب فقد جوزت عند حصول الصارف أن لا يقع العدم وجواز أن لا يقع العدم يقتضي جواز أن يقع الوجود فقد جوزت مع الصارف عن الفعل أن يوجد الفعل فلم يلزم من كون الكذب جهة صرف امتناع أن يوجد الكذب سلمنا أنه لا بد من داع فلم لا يجوز أن يوجد فيه شهوة متعلقة بالكذب لكونه كذبا ومتى كان كذلك أقدم العاقل على الكذب لا لغرض آخر سوى كونه كذبا فإن قلت إنه من المحال أن يشتهي العاقل الكذب لمجرد كونه كذبا وإن سلمنا جوازه لكن في حق الواحد والإثنين أما في حق الجمع العظيم فمحال وهذا كما أنه جاز على كل واحد منهم وحده أن يأكل في الساعة المعينة من اليوم المعين طعاما واحدا لكن لا يجوز اتفاق الكل عليه قلت الجواب عن الأول أنا لا نسلم امتناع ذلك فما الدليل عليه وكيف ونرى جمعا اعتادوا الكذب بحيث لا يصبرون عنه وإن كانوا يعلمون أن ذلك يضرهم عاجلا أو اجلا وإذا كان كذلك علمنا أن دعوى الضرورة باطلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 وعن الثاني نسلم أن استقراء العادة يفيد ظنا قويا بأن الخلق العظيم لا يتفقون على أكل طعام معين في زمان معين لكن لا نسلم حصول اليقين التام بذلك كيف وذلك جائز على كل واحد منهم وصدوره من كل واحد منهم لا يمنع صدوره عن الباقي فيكون صدوره عن كلهم كصدوره عن كل واحد منهم ومع هذه الحجة اليقينية على الجوار كيف تدعى ضرورة الامتناع سلمنا أنه لا بد من غرض سوى كونه كذبا فلم قلت إن ذلك الغرض إما أن يكون دينيا أو دنيويا أو رغبة او رهبه منه وما الدليل القاطع على الحصر سلمناه فلم لا يجوز أن يكون دينيا قوله حرمة الكذب متفق عليها قلنا مطلقا لا نسلم فإن كثيرا من الناس يعتقد أن الكذب المفضى إلى حصول مصلحة في الدين جائز ولذلك نرى جمعا من الزهاد وضعوا أشياء كثيرة من الأحاديث في فضائل الأوقات وزعموا أن غرضهم منه حمل الناس على العبادات وإذا كان كذلك فلعلهم اتفقوا على الكذب لما أنهم اعتقدوا فيه حصول مصلحة دينية وإن كان الأمر بخلاف ما تخيلوه سلمنا أنه ليس الغرض دينيا فلم لا يجوز أن يكون لرغبة دنيوية قوله الرغبة إما أخذ المال أو إسماع الغير كلاما غريبا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 قلنا أين الدليل على الحصر ثم اين الدليل القاطع على فساد هذين القسمين قوله الجماعات العظيمة لا يشتركون في الرغبة إلى الكذب لأجل هذين الغرضين قلنا إن أدعيت الظن القوي فلا نزاع وإن ادعيت الجزم المانع من النقيض فما الدليل عليه فإنه إذا جاز ذلك في العشرة أو المائة ولم يكن ثبوت هذا الحكم للبعض مانعا من ثبوته للباقي فلم قلت إنه يمتنع كون الكل كذلك والذي يؤكده أنا لو قدرنا أن أهل بلدة علموا أن أهل سائر البلاد لو عرفوا ما في بلدهم من الوباء العام لتركوا الذهاب إلى بلدهم ولو تركوا ذلك لاختلت المعيشة في تلك البلدة وقدرنا أن أهل تلك البلدة كانوا علماء حكماء جاز في مثل هذه الصورة أن يتطابقوا على الكذب وإن كانوا كثيرين جدا فثبت بهذا إمكان اتفاق الخلق العظيم على الكذب لأجل الرغبة سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون للرهبة قوله السلطان لا يمكنه إسكات الكل قلنا إن أدعيت الظن القوي فمسلم وإن ادعيت اليقين فما الدليل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 عليه فإنه إذا جاز إسكات الألف والألفين رهبة فلم لا يجوز إسكات الكل وما الضابط فيما يجوز وفيما لا يجوز فإن قلت أجد العلم ضروري بذلك من غير دلالة قلنا هذا الاعتقاد ليس أقوى من الاعتقاد الحاصل بوجود محمد وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام فلم لا تدعون الضرورة في ذلك حتى تتخلصوا عن مثل هذه الدلالات الضعيفة سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يقال إنهم كذبوا لدواع مختلفة بعضهم للرغبة وبعضهم للرهبة وبعضهم بالمراسلة وبعضهم بالمشافهة قوله الكلام في جماعة عظيمة بعضها جماعات عظيمة قلنا إما أن يكون من شرط أهل التواتر أن يكون أبعاضهم بالغين حد التواتر أو ليس من شرطهم ذلك والأول باطل وإلا لزم أن يكون كل واحد من أبعاض تلك الأبعاض كذلك ولزم التسلسل والثاني حق ونحن نفرض الكلام فيما إذا كان الأمر كذلك وحينئذ يبطل ما ذكروه سلمنا أنهم ما كذبوا عمدا فلم لا يجوز أن يقال كذبوا سهوا لأن الأمر اشتبه عليهم والاشتباه حاصل في المحسوسات بدليل العقل والنقل أما العقل فمن وجهين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 الأول أن الله تعالى قادر على أن يخلق شخصا اخر مثل زيد في شكله وفي تخطيطه وبهذا التقدير لا يبقى اعتمادا على التواتر لجواز أن يكونوا قد رأوا امثل زيد فظنوه زيدا ومما يؤكد ذلك أن الأجسام المعدنية والنباتية قد تتشابه بحيث يعسر تمييز بعضها عن بعض وكذلك الحيوانا: لا سيما البرية والجبلية قد تبلغ مشابهة بعضها بعض إلى حد يعسر التمييز وإذا كان كذلك فلم لا يجوز مثله في الناس غايته أنه نادر ولكن الندرة لا تمنع الاحتمال فإن قلت أن حكمته تعالى تمنعه من خلق شخص مثل زيد لما فيه من التلبيس قلت قد سبق جوابه الثاني أن غلط الناظر أمر مشهور فإن الإنسان قد يرى المتحرك ساكنا وبالعكس وذلك يقتضي حصول اللبس في الحسيات وأما النقل فمن وجهين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 الأول أن المسيح عليه السلام شبه بغيره فإن قلت هذا لا يلزم من وجوه أحدها أن ذلك كان في زمان عيسى عليه السلام وخرق العادة جائز في زمان الأنبياء دون سائر الأزمنة وثانيها أن المصلوب تتغير خلقته وشكله فيكون الاشتباه أكثر وأما المباشرون لذلك العمل فكانوا قليلين فيجوز عليهم الكذب عمدا وثالثها أنهم نظروا إليه من بعيد وذلك مظنة الاشتباه قلت الجواب عن الأول أنه لو جاز ذلك في زمان الأنبياء لجاز مثله في سائر أزمنة الأنبياء وحينذ لا يمكننا القطع بأن الذي أوجب الصلوات الخمس هو المصطفى صلى الله عليه وسلم لجواز أن يكون شخصا اخر شبه به وأيضا فلم لا يجوز انخراق العادات في هذا الزمان ككرامات غير الأولياء فان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 منعوها قلنا هذا لا يستقيم على قول أبي الحسين فإنه لا يمنعها ولأن بتقدير امتناعها فليس ذلك الامتناع معلوما إلا بالبرهان فقبل العلم بذلك البرهان يكون التجويز قائما والعلم بصحة خبر التواتر موقوف على فساد هذا الاحتمال فوجب أن لا يحصل العلم بخبر التواتر لم لمن يعرف بالدليل امتناع الكرامات وعن الثاني أن التغير إنما يكون بعد الصلب والموت فأما حال الصلب فلا وعندكم أن الاشتباه حصل حال الصلب لأنهم لو ميزوا بين ذلك الشخص وبين المسيح عليه السلام لما صلبوا ذلك الشخص وعن الثالث أن الذين مارسوا الصلب كانوا قريبين منه وناظرين إليه ولأن النصاري يروون بالتواتر أنه بقي بعد الصلب وقبل الموت مدة طويلة بحيث رآه الجمع العظيم في بياض النهار وذلك يبطل قولكم الوجه الثاني روي ان جبريل عليه السلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 وأن الملائكة يوم بدر تشكلوا بأشكال الأدميين الوجه الثالث أن الإنسان ربما يتشبح أحمد له عند الخوف الشديد أو الغضب الشديد أو الفكر الشديد صورة لا وجود لها في الخارج وكل ذلك مما يؤكد احتمال الاشتباه سلمنا صحة دليلكم في التواتر عن الأمور الموجودة فلم قلتم إن خبر التواتر عن الأمور الماضية في القرون الحالية قد وجدت هذه الشروط في كل الطبقات الماضية قوله في الوجه الأول أهل التواتر في زماننا قد أخبرونا بأن أولئك الذين مضوا كانوا موصوفين بصفات أهل التواتر قلنا هذا بهت صريح لأن الذين أخبرونا ما أخبرنا كل واحد منهم أن الذين أخبروه كانوا بصفة أهل التواتر وأن الذين أخبروا كل واحد ممن أخبره كانوا كذلك بل الذي يمكن ادعاؤه عليهم أنهم سمعوا هذا الخبر من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 أناس كثيرين فأما أن يدعى عليهم ما ذكرتموه فبهت لأن أكثر الفقهاء والنحاة لا يتصورون هذه الدعوى على وجهها فضلا عن العوام فضلا عن أن يقال إنهم علموا ذلك بالضرورة قوله لو كان حادثا لظهر زمان حدوثه قلنا لا نسلم أن كل مقالة ظهرت بعد الخفاء فلا بد وأن يشتهر فيما بين الخلق حدوث ظهورها ووقت ظهورها لجواز أن يضع الرجل الواحد مقالة ثم إنه يذكرها لجماعة قليلين ثم كل واحد من أولئك يذكر ذلك الخبر لجماعة أخرى من غير أن يسنده إلى القائل الآول إلى أن يشتهر ذلك الخبر جدا مع أن كل واحد منهم لا يعرف حدوث تلك المقالة ولا زمان حدوثها وبهذا الطريق تحدث الأراجيف بين الناس وبالجملة فعليهم إقامة الدلالة على فساد هذا الاحتمال ثم الذي يفيد القطع بصحة ما ذكرنا أن الوقائع الكبار التي وقعت لعظماء الملوك الذين كانوا قبل الإسلام بل كيفية وقائع نوح وإدريس وموسى وعيسى عليهم السلام لم ينقل شئ منها إلينا نقل الآحاد فضلا عن التواتر مع كونها من الأمور العظام فعلمنا أن وصول الأخبار إلينا غير واجب فإن قلت ذلك لتطاول مدتها أو لعدم الداعي إلى نقلها قلت فلا بد من ضبط طول المدة وقصرها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 وأيضا فيلزم أن لا يكون خبر التواتر بوجود نوح وإبراهيم وإدريس وغيرهم مفيدا للعلم لأنه لا يفيد ما لم يثبت استواء الطرفين والواسطة في نقل الرواة وذلك لا يثبت إلا بأنه لو كان موضوعا لاشتهر الواضع وزمان الوضع فإذا لم يجب ذلك عند تطاول المدة لم يفد ذلك الخبر العلم سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن خبر التواتر يفيد العلم لكن معنا ما يبطله من وجوه الأول لو أفاد خبر التواتر العلم لأفاد إما علما ضروريا أو نظريا والقسمان باطلان فالقول بالإفادة باطل إنما قلنا إنه لا يفيد علما ضروريا لأن العلم الضروري هو الذي لا يلزم من وقع الشك في غيره من القضايا وقوعه فيه وها هنا يلزم من وقوع الشك في غير هذه القضية وقوعه فيها لأنا لو جوزنا أن يكذبوا لا لغرض أو لغرض من رهبة أو رغبة أو لوقوع التباس فإن مع استحضار الشك في هذه المقدمات لم يمكن الجزم بأن الأمر كما أخبروا عنه وإذا كان كذلك لم يكن هذا العلم ضروريا ولا جائز أن يكون نظريا لأن النظر في الدليل لا يتأتى للصبيان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 والمجانين فكان يجب أن لا يحصل لهم العلم لكن الاعتقاد الذي في هذا الباب للعقلاء لا يزيد في القوة على قوة اعتقاد الصبيان والبله فإذا لم يكن اعتقادهم علما فكذا اعتقاد العقلاء الثاني أن كون التواتر مفيدا للعلم يتوقف على عدم تطرق اللبس إلى الخبر على ما مر بيانه لكن اللبس يتطرق إليه على ما مر فوجب أن لا يفيد العلم الثالث لو حصل العلم عقيب التواتر لحصل إما مع الجواز أو مع الوجوب فإن حصل مع جواز أن لا يحصل امتنع القطع بحصوله فلا يمكن القطع بأن التواتر يفيد العلم لا محالة بل يجري حصول العلم عقيب خبر التواتر مجرى حصوله عند سماع صرير الباب ونعيق الغراب وإن حصل مع الوجوب فالمستلزم بعد إما قول كل واحد أو قول المجموع الأول باطل أما أولا فلأنا نعلم بالضرورة أن قول الواحد لا يفيد العلم وأما ثانيا فلأن قول كل واحد منهم إذا كان مستقلا بالاستلزام فإن وجدت الأقوال دفعة لزم أن يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة بالتأثير وهو محال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 وإن وجدت على التعاقب فإذا حصل الأثر بالسابق استحال حصول ذلك الأثر بعينه باللاحق لامتناع ايجاد الموجود واستحال أيضا حصول مثله باللاحق لاستحالة الجمع بين المثلين فيلزم أن يبقى اللاحق خاليا عن التأثير فتكون العلة القطعية منفكة عن المعلول وهو محال ولا جائز أن يكون المؤثر قول المجموع أما أولا فلأن قول كل واحد إن بقي عند الإجتماع كما كان عند الانفراد ولم يحدث عند الاجتماع أمر زائد ألبته فكما لم يكن الاستلزام حاصلا عند الانفراد وجب أن لا يحصل عند الاجتماع وإن حدث أمر ما إما بزوال أو بالحدوث فإن كان المقتضي لذلك الحدوث قول كل واحد عاد المحذور المذكور وإن كان المجموع عاد التقسيم المذكور وإن كان لحدوث أمر آخر لزم التسلسل وأما ثانيا وهو أن المستلزمية نقيض اللامستلزمية يقول التي هي أمر عدمي فكانت المستلزمية أمرا ثبوتيا فإن كان الموصوف بها هو المجموع لزم حلول الصفة الواحدة في الأشياء الكثيرة وهو محال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 وأما ثالثا فلأن التواتر في الأكثر إنما يكون بورود الخبر عقيب الخبر وإذا كان كذلك كان عند حصول كل واحد منهما حال وجود الثاني معدوما فلا يكون للمجموع وجود في زمان أصلا فيستحيل أن يكون المؤثر هو المجموع لأن الشئ ما لم يوجد في نفسه لا يقتضي وجود غيره وأما رابعا وهو الكلام المشهور في هذا المسألة أن قول كل واحد لما لم يكن مؤثرا وجب أن يكون قول الكل غير مؤثر كما أن كل واحد من الزنج لما لم يكن أبيض استحال كون الكل أبيض الوجه الرابع في استحالة أن يكون خبر التواتر مستلزما للعلم لأن المستلزم إما آحاد الحروف وهو باطل أو المجموع وهو محال لأن المجموع لا وجود له وما لا وجود له استحال أن يستلزم شيئا اخر فإن قلت الموجب هو الحرف الأخير بشرط وجود سائر الحروف قبله أو بشرط مسبوقية الحرف الأخير بسائر الحروف قلت الشرط لا بد من حصوله حال حصول المشروط والحروف السابقة غير حاصلة حال حصول الحرف الأخير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 وعن الثاني أن مسبوقية الشئ بغيره لا تكون صفة وإلا كانت صفة حادثة فتكون مسبوقتيها الذي بالغير صفة أخرى ولزم التسلسل وإذا كانت المسبوقية أمرا عدميا استحال أن يكون جزء العلة أو شرطها أما الذين سلموا أن خبر التواتر عن الأمور الموجودة يفيد العلم لكنهم منعوا من كون التواتر عن الأمور الماضية مفيدا للعلم فقد احتجوا بأن التواتر عن الأمور الماضية وقع عن أمور باطلة فوجب أن لا يكون حجة بيان الأول أن اليهود والنصارى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 والمجوس والمانوية على كثرة كل فرقة منهم وتفرقهم في الشرق والغرب يخبرون عن أمور هي باطلة قطعا عند المسلمين وذلك يقتضي القدح في التواتر فإن قلت شرط التواتر استواء الطرفين الواسطة وهو غير حاصل في هذه الفرق لأن اليهود قل عددهم في زمان بختنصر والنصاري كانوا قليلين في الابتداء وكذا القول في المجوس والمانوية قلت صدقتم حيث قلتم لا بد من استواء الطرفين والواسطة لكن الطريق إليه إما العقل أو النقل أو ما هو مركب منهما والعقل المحض لا يكفي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 وأما النقل فإما من الواحد أو من الجمع وقول الواحد إنما يفيد لو كان معصوما وهو مفقود في زماننا وأما الجمع فهو أن يقال إن أهل التواتر في زماننا على كثرتهم يخبرون إنهم كانوا كذلك أبدا لكن كما أن أهل الإسلام يدعون ذلك فهذه الفرق الأخرى تدعي ذلك فليس تصديق إحداهما وتكذيب الأخرى أولى من العكس وأما المركب منهما فهو أن يقال لو كان خبرا موضوعا لعرفنا أن الأمر كذلك وقد عرفت ضعف هذه الطريقة ثم إن جميع هذه الفرق يصححون قولهم بمثل هذه الطريقة فليس قبول أحد القولين أولى من الآخر فإما الذي يقال إن بختنصر قتل اليهود حتى لم يبق منهم عدد أهل التواتر قلنا هذا محال لأن الأمة العظيمة المتفرقة في الشرق والغرب يستحيل قتلها إلى هذا الحد وأما النصارى فلو لم يكونوا بالغين في أول الأمر إلى حد التواتر لم يكن شرعه حجة إلى زمان ظهور محمد صلى الله عليه وسلم لكنه باطل باتفاق المسلمين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 وها هنا وجوه أخر من المعارضات مذكورة في كتاب النهاية فهذا تمام الاعتراضات واعلم أن بعض هذه الأسئلة والمعارضات لا شك أن فسادها أظهر من صحتها لكن ذلك إنما يكفي في ادعاء الظن القوي لا في ادعاء اليقين التام وكان غرضنا من الإطناب في هذه الأسئلة إن الذي قاله أبو الحسين من أن الاستدلال بخبر النوادر على صدق المخبرين أمر سهل هين مقرر في عقول البله والصبيان ليس بصواب بل لما فتحنا باب المناظرة دق الكلام ولا يتم المقصود إلا بالجواب القاطع عن كل هذه الإشكالات وذلك لو أمكن فإنما يمكن بعد تدقيقات في النظر عظيمة ومن البين لكل عاقل أن علمه بوجود مكة ومحمد صلى الله عليه وسلم اظهر من علمه بصحة هذه الدلالة وإبطال ما فيها من الأقسام سوى القسم المطلوب وبناء الواضح على الخفي غير جائز فظهر أن الحق ما ذهبنا اليه من أن هذا العلم ضروري وحينئذ لا نحتاج إلى الخوض في الجواب عن هذه الأسئلة لأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 التشكيك في الضروريات لا يستحق الجواب المسألة الخامسة في شرائط التواتر اعلم أن هذه الأخبار التي نعلم مخبرها باضطرار الحجة علينا فيها هو العلم ولا حاجة بنا إلى اعتبار حال المخبرين بل يجب أن يعتبر السامع حال نفسه فإذا حصل له العلم بمخبر تلك الأخبار صار محجوجا بها وإلا فالحجة عنه زائلة ثم إنه بعد وقوع العلم بمخبر خبرهم صح أن نبحث عن أحوالهم فنقول لو لم يكونوا على هذه الصفة لما وقع لنا العلم بخبرهم وأعلم أن ها هنا أمور معتبرة في كون التواتر مفيدا للعلم وأمورا ظن أنها معتبرة مع أنها في الحقيقة غير معتبرة أما القسم الأول فنقول إن تلك الأمور إما أن تكون راجعة إلى السامعين أو إلى المخبرين أما الأمور الراجعة إلى السامعين فأمران الأول أن لا يكون السامع عالما بما أخبر به اضطرارا لأن تحصيل الحاصل محال وتحصيل مثل الحاصل أيضا محال وتحصيل التقوية أيضا محال لأن العلم الضروري أيضا يستحيل أن يصير أقوى مما كان مثاله إن كان العلم حاصلا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 يكن للاخبار عنه تأثير في العلم به والثاني قال الشريف المرتضي يجب أن لا يكون السامع قد سيق بشبهة أو تقليد إلى اعتقاد نفى موجب الخبر وهذا الشرط إنما اعتبره الشريف لأن عنده الخبر عن النص على إمامة علي رضي الله عنه متواتر ثم لم يحصل العلم به لبعض السامعين فقال ذلك لأنهم اعتقدوا نفي النص لشبهة واحتج عليه بأن حصول العلم عقيب خبر التواتر إذا كان بالعادة جاز أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال فيحصل للسامع إذا لم يكن قد اعتقد نقيض ذلك الحكم قبل ذلك الحكم ولا يحصل له إذا اعتقد ذلك فإن قلت يلزمكم عليه أن تجوزوا صدق من أخبركم بأنه لم يعلم وجود البلدان الكبار والحوادث العظام بالأخبار المتواترة لأجل شبهة اعتقدها في نفي تلك الأشياء قلت أنه لا داعي يدعو العقلاء إلى سبق اعتقاد نفي هذه الأمور ولا شبهة في نفي تلك الأشياء أصلا أما ما يرجع إلى المخبرين فأمران الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 الأول أن يكونوا مضطرين إلى ما أخبروا عنه لأن غير الضروري يجوز دخول الالتباس فيه فلا جرم لا يحصل العلم به ولذلك فإن المسلمين يخبرون اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يحصل لهم العلم بها الثاني العدد وفيه مسائل المسألة الأولى قال القاضي أبو بكر اعلم أن قول الأربعة لا يفيد العلم أصلا وأتوقف في قول الخمسة واحتج عليه بأنه لو وقع العلم بخبر أربعة صادقين لوقع بخبر كل أربعة صادقين وهذا باطل فذاك مثله بيان الملازمة أنه لو وقع العلم بقول أربعة ولا يقع بقول مثلهم مع تساوي الأحوال والقائلين والسامعين في جميع الشروط لم يمتنع أن تخبرنا قافلة الحاج بوجود مكة فنعرفها ثم هم بأعيانهم يخبروننا بوجود المدينة فلا نعرفها ولما لم يجز ذلك صح قولنا وإنما قلنا إن العلم لا يحصل بخبر كل أربعة لأنه لو وقع العلم بخبر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 كل أربعة إذا كانوا صادقين لكان يجب إذا شهد أربعة انهم شاهدوا فلانا على الزنا أن يستغنى القاضي عن التزكية لأنهم إذا كانوا صادقين وجب أن يحصل له العلم بقولهم وحينئذ يستغنى عن التزكية وإن لم يحصل له العلم بقولهم قطع بكونهم كاذبين قطعا وحينئذ يسغنى لأن أيضا عن التزكية ولما لم يكن كذلك بل أجمعوا على وجوب إقامة الحد وإن لم يضطر القاضي إلى صدقهم علمنا أن العلم لا يحصل بخبر الأربعة فإن قيل الملازمة ممنوعة قوله لو وقع العلم بخبر أربعة صادقين ولا يقع بخبر أربعة صادقين اخرين لزم كذا وكذا قلنا لم قلت إنه يلزم ذلك بيانه أن العلم بمخبر الأخبار حاصل عن فعل الله تعالى عندكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 وإذا كان كذلك جاز منه تعالى أن يخلق ذلك العلم عند خبر أربعة ولا يخلقه عند خبر أربعة أخرى ولا تجري العادة في ذلك على طريقة واحدة وإن كانت العادة في أخبار الجماعات العظيمة جارية على طريقة واحدة كما أن التكرار على البيت الواحد ألف مرة سبب لحفظه في العادة المطردة وأما تكراره مرتين أو ثلاثا فقد يكون سببا لحفظه وقد لا يكون والعادة فيه مختلفة سلمنا أنه يلزم من اطراد العادة في شئ اطرادها في مثله فلم قلت يلزم من حصول العلم عند رواية أربعة حصوله عند شهادة أربعة بيانه أن الشهادة وإن كانت خبرا في المعنى لكن لفظ الشهادة مخالف للفظ الخبر الذي ليس بشهادة فلم لا يجوز أن يجري الله تعالى عادته بفعل العلم الضروري عند الخبر الذي ليس فيه لفظ الشهادة ولا يفعله عند لفظ الشهادة وإن كان الكل خبرا سلمنا أن التفاوت بين لفظ الشهادة وبين لفظ الخبر الذي ليس بشهادة غير معتبر فلم لا يجوز أن يقال لما كان من شرط الشهادة أن يجتمع المخبرون عند الشهادة وذلك الاجتماع يوهم الاتفاق على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 الكذب فلا جرم لم يفد العلم بخلاف الرواية سلمنا أن ما ذكرته يوجب الجزم بأن قول الأربعة لا يفيد العلم لكنه يوجب الجزم بأن قول الخمسة لا يفيد أيضا لأن قول الخمسة لو أمكن أن يفيد فإذا شهدوا فإن كانوا صادقين وجب أن يفيد العلم الضروري وإن لم يحصل العلم بصدقهم وجب القطع بكذبهم فهذا يقتضي أن تكون الخمسة كالأربعة في القطع بأنها لا تفيد سلمنا ذلك لكن يلزمكم أن تقطعوا بأن عدد أهل القسامة لا يفيد العلم لعين ما تقدم ذكره في الخمسة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 والجواب أما الأسئة وقد الثلاثة الأولى فواردة ولا جواب عنها وأما المعارضة بقول الخمسة فالجواب أنه لا يمتنع أن يقع العلم بخبر خمسة والحاكم إنما لم يعلم صدق هؤلاء الخمسة وإن وجب عليه إقامة الحد لجواز أن يكون أربعة منهم شاهدوا ذلك والخامس ما شاهده فلزم إقامة الحد بقول أربعة منهم وإن لم يعرفهم بأعيانهم وكان الخامس كاذبا فلا جرم وجب عليه البحث عن أحوالهم وهذا بخلاف الأربعة فإنه إذا لم يحصل العلم بقولهم وجب أن يكون واحد منهم كاذبا وبهذا التقدير تسقط الحجة بقولهم ولزم على الحاكم رد قولهم وإقامة الحد عليهم فظهر الفرق واعلم أن هذا الجواب يقتضي القطع بكذب واحد من الخمسة أو القطع بأن قول الخمسة لا يفيد العلم أصلا أو القول بأنه لا يلزم من كون قول الخمسة مفيدا للعلم أن يكون قول كل خمسة مفيدا للعلم قوله يلزمكم أن تقطعوا بأنه لا يقع العلم بخبر أهل القسامة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 قلنا أهل العراق يقولون يحلف خمسون من المدعى عليهم كل واحد منهم على أنه ما قتل ولا عرف قاتلا فكل واحد منهم يخبر عن غير ما يخبر عنه الآخر وعند الشافعي رضي الله عنه يحلف خمسون من المدعين كل واحد منهم بحسب ظنه فخبر كل واحد منهم غير خبر الآخر المسألة الثانية الحق أن العدد الذي يفيد قولهم العلم غير معلوم فإنه لا عدد يفرض إلا وهو غير مستبعد في العقل صدور الكذب عنهم وإن الناقص عنهم بواحد أو الزائد عليهم بواحد لا يتميز عنهم في جواز الإقدام على الكذب ومنهم من اعتبر فيه عددا معينا وذكروا وجوها أحدها الاثنا عشر لقوله تعالى وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 وثانيها العشرون وهو قول أبي الهذيل قال لقوله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين أوجب الجهاد على العشرين وإنما خصهم بالجهاد لأنهم إذا أخبروا حصل العلم بصدقهم وثالثها الأربعون لقوله تعالى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين نزلت في الأربعين ورابعها السبعون لقول تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 وخامسها ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر وسادسها عدد بيعة الرضوان واعلم أن كل ذلك تقييدات لا تعلق للمسألة بها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 فإن قلت إذا جعلتم العلم معرفا لكمال العدد تعذر عليكم الاستدلال به على الخصم قلت إنا لا نستدل ألبتة على حصول العلم بالخبر المتواتر بل المرجع فيه إلى الوجدان كما تقدم بيانه فهذه هي الشرائط المعتبرة في خبر التواتر إذا أخبر المخبرون عن المشاهدة فأما إذا نقلوا عن قوم اخرين فالواجب حصول هذه الشرائط في كل تلك الطبقات ويعبر عن ذلك بوجوب استواء الطرفين والواسطة وأما القسم الثاني وهي الشرائط التي اعتبرها قوم مع انها غير معتبرة فأربعة الأول أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد وهو باطل لأن اهل الجامع لو أخبروا عن سقوط المؤذن عن المنارة فيما بين الخلق لكان إخبارهم مفيدا للعلم الثاني أن لا يكونوا على دين واحد وهذا شرط اعتبره اليهود وهو باطل لأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 التهمة لو حصلت لم يحصل العلم سواء كانوا على دين واحد أو على أديان وإن ارتفعت حصل العلم كيف كانوا الثالث أن لا يكونوا من نسب واحد ولا من بلد واحد والقول فيه ما تقدم الرابع شرط ابن الرواندي وجود المعصوم في المخبرين لئلا يتفقوا على الكذب وهو باطل لأن المفيد حينئذ قول المعصوم لا خير أهل التواتر المسألة الثالثة في خبر التواتر من جهة المعنى مثاله أن يروي واحد أن حاتما وهب عشرة من العبيد واخبر اخر أنه وهب خمسة من الإبل وأخبر اخر أنه وهب عشرين ثوبا ولا يزال يروي كل واحد منهم من هذا الخبر شيئا فهذه الأخبار تدل على سخاوة حاتم من وجهين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 الأول أن هذه الجزئيات مشتركة في كلي واحد وهو كونه سخيا والراوي للجزئي بالمطابقة راو للكلي المشترك فيه بالتصمت علي فإذا بلغوا حد التواتر صار ذلك الكلي مرويا بالتواتر الثاني أن نقول هؤلاء الرواة بأسرهم لم يكذبوا بل لا بد وأن يكون الواحد منهم صادقا وإذا كان كذلك فقد صدق جزئي واحد من هذه الجزئيات المروية ومتى صدق واحد منها ثبت كونه سخيا والوجه الأول أقوى لأن المرة الواحدة لا تثبت السخاوة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 الباب الثاني فيما عدا التواتر من الطرق الدالة على كون الخبر صدقا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 القول في الطرق الصحيحة وهي ثمانية الأول الخبر الذي عرف وجود مخبره بالضرورة الثاني الخبر الذي عرف وجود مخبره بالاستدلال الثالث خبر الله تعالى صدق باتفاق أرباب الملل والأديان ولكنهم اختلفوا في الدلالة عليه بحسب اختلافهم في مسألتي الحسن والقبح والمخلوق أما أصحابنا فقد قال الغزالي رحمه الله يدل عليه دليلات أقواهما إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن امتناع الكذب على الله تعالى والثاني أن كلامه تعالى قائم بذاته ويستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل عليه الجهل إذ الخبر يقوم بالنفس على وفق العلم والجهل على الله تعالى محال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 ولقائل أن يعترض على الأول بأن العلم بصدق الرسول موقوف على دلالة المعجزة على صدقه صلى الله عليه وسلم وذلك إنما كان لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول وإذا كان صدق الرسول صلى الله عليه وسلم مستفادا من تصديق الله تعالى إياه وذلك إنما يدل أن لو ثبت أن الله صادق إذا لو جاز الكذب عليه لم يلزم من تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم كونه صادقا فإذن العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم موقوف على العلم بصدق الله تعالى فلو استفدنا العلم بصدق الله تعالى من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم للزم الدور فان قلت لا نسلم أن دلالة تصديق الله تعالى للرسول على كونه صادقا يتوقف على العلم بكون الله تعالى صادقا لأن قوله للشخص المعين أنت رسولي جار مجرى قول الرجل لغيره أنت وكيلي فإن هذه الصيغة وإن كانت إخبارا في الأصل لكنها إنشاء في المعنى والإنشاء لا يتطرق إليه التصديق والتكذيب وإذا كان كذلك فقول الله تعالى للرجل المعين أنت رسولي يدل على رسالته سواء قدر أن الله تعالى صادق أو لم يقدر ذلك وعلى هذا ينقطع الدور قلت هب أن قوله في حق الرسول المعين إنه رسولي إنشاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 ليس يحتمل الصدق والكذب لكن الإنشاء تأثيره في الأحكام الوضعية لا في الأمور الحقيقية وإذا كان كذلك لم يلزم من قول الله تعالى له أنت رسولي أن يكون الرسول صادقا في كل ما يقول لأن كون ذلك الرجل صادقا أمر حقيقي والأمور الحقيقية لا تختلف باختلاف الجعل الشرعي فإذن لا طريق إلى معرفة كون الرسول صادقا فيما يخبر عنه إلا من قبل كون الله تعالى صادقا وحينئذ يلزم الدور وعلى الثاني أن البحث في أصول الفقه غير متعلق بالكلام القائم بذات الله تعالى الذي ليس بحرف ولا صوت بل عن الكلام المسموع الذي هو الأصوات المقطعة وإذا كان كذلك لم يلزم من كون الكلام القائم بذاته تعالى صدقا كون هذا المسموع صدقا فلعمنا حتى أن هذه الحجة مغالطة وأيضا يقال لم قلت إن الكلام القائم بذاته تعالى صدق قوله لأنه تعالى ليس بجاهل ومن لا يكون جاهلا استحال أن يخبر بالكلام النفساني خبرا كاذبا قلنا هذه القضية غير بديهية فما البرهان وأما المعتزلة فهم ظنوا أن هذا البحث ظاهر على قواعدهم فقالوا الكذب قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 والاعتراض أن نقول إن البحث عن أن الله تعالى لا يصح عليه الكذب يجب أن يكون مسبوقا بالبحث عن ماهية الكذب لأن التصديق مسبوق بالتصور فنقول أما أن يكون المراد من الكذب الكلام الذي لا يكون مطابقا للمخبر عنه في الظاهر سواء كان بحيث لو أضمر فيه زيادة أو نقصان أو تغيير صح وإما أن يكون المراد منه الكلام الذي لا يكون مطابقا للمخبر عنه في الظاهر ولا يمكن أن يضمر فيه ما عنده يصير مطابقا فإن أردتم بالكذب المعنى الأول لم يمكنكم أن تحكموا بقبحه وبأنه لا يجوز ذلك على الله تعالى لأن أكثر العمومات في كتاب الله مخصوص وإذا كان كذلك لم يكن ظاهر العموم مطابقا للمخبر عنه وكذا الحذف والإضمار واقعان باتفاق أهل الإسلام في كتاب الله تعالى حتى إنه حاصل في أوله فإن الناس اختلفوا في معنى بسم الله الرحمن الرحيم فمنهم من قدم المضمر وهو الأمر أو الخبر ومنهم من أخره وكذا الحمد لله رب العالمين قالوا معناه قولوا الحمد لله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 فالإضمار متفق عليه ولأن المعتزلة اتفقوا على حسن المعاريض على أنه لا معنى لها إلا الخبر الذي يكون ظاهره كذبا ولكنه عند إضمار شرط خاص وقيد خاص يكون صدقا وإذا كان كذلك ثبت إنه لا يمكن تفسير الكذب الممتنع على الله تعالى بالوجه الأول وأما التفسير الثاني فنقول نسلم أنه قبيح بتقدير الوقوع ولكنه غير ممكن الوجود لأنه لا خبر يفرض كونه كذبا إلا وهو بحال متى أضمرنا فيه زيادة أو نقصانا صار صدقا وعلى هذا التقدير يرتفع الأمان عن جميع ظواهر الكتاب والسنة فان قلت لو كان مراد الله غير ظواهرها لوجب أن يبينها وإلا كان ذلك تلبيسا وهو غير جائز ولأنا لو جوزنا ذلك لم يكن في كلام الله تعالى فائدة فيكون عبثا وهو غير جائز قلت الجواب عن الأول ما الذي تريد بكونه تلبيسا إن عنيت به أنه تعالى فعلا يحتمل إلا التجهيل والتلبيس فهذا غير لازم لأنه تعالى لما قرر في عقول المكلفين أن اللفظ المطلق جائز أن يذكر ويراد به المقيد بقيد غير مذكور معه ثم أكد ذلك بأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 بين للمكلف وقوع ذلك في أكثر الآيات والأخبار فلو قطع المكلف بمقتضى الظاهر كان وقوع المكلف في ذلك الجهل من قبل نفسه لا من قبل الله تعالى حيث قطع لا في موضع القطع وهذا كما يقال في إنزل المتشابهات فإنها وإن كانت موهمة للجهل إلا أنها لما لم تكن متعينة لظواهرها تعالى بل كان فيها احتمال لغير تلك الظواهر الباطلة لا جرم كان القطع بذلك تقصيرا من المكلف لا تلبيسا من الله تعالى وعن الثاني أنا لو ساعدنا على أنه لا بد لله تعالى في كل فعل من غرض معين لكن لم قلت إنه لا غرض من تلك الظواهر إلا منهم معانيها الظاهرة أليس أنه ليس الغرض من إنزال المتشابهات فهم ظواهرها بل الغرض من إنزالها أمور أخرى فلم لا يجوز أن يكون الأمر ها هنا كذلك فإن قلت جواز إنزال المتشابهات مشروط بأن يكون الدليل قائما على امتناع ما أشعر به ظاهر اللفظ فما لم يتحقق هذا الشرط لم يكن إنزال المتشابهات جائزا قلت لا شك أن إنزال المتشابه غير مشروط بأن يكون الدليل المبطل للظاهر معلوما للسامع بل هو مشروط بأن يكون ذلك الدليل موجودا في نفسه سواء علمه السامع لذلك المتشابه أو لم يعلمه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 وإذا كان كذلك فما لم يعلم السامع أنه ليس في نفس الأمر دليل مبطل لذلك الظاهر لا يمكنه إجراؤه على ظاهره ثم لا يكفي في العلم بعدم الدلل فإن العقلي المبطل للظاهر عدم العلم بهذا الدليل المبطل لأنا بينا في الكتب الكلامية أنه لا يلزم من عدم العلم بالشئ العلم بعدم الشئ إذا كان كذلك فلا ظاهر نسمعه إلا ويجوز أن يكون هناك دليل عقلي أو نقلي يمنع من حمله على ظاهره وإذا كان هذا التجويز قائما لم يقع الوثوق بشئ من الظواهر على مذهب المعتزلة ألبتة ولما بينا ضعف هذه الطرق فالذي نعول عليه في المسألة أن الصادق أكمل من الكاذب والعلم به ضروري فلو كان الله جده وتقدست اسماؤه كاذبا لكان الواحد منا حال كونه صادقا أكمل وأفضل من الله تعالى وذلك معلوم البطلان بالضرورة فوجب القطع بكون الله تعالى صادقا وهو المطلوب الرابع خبر الرسول صلى الله عليه وسلم قال الغزالي رحمه الله دليل صدقه دلالة المعجزة على صدقه مع استحالة ظهور على يد الكذابين لأن ذلك لو كان ممكنا لعجز الله تعالى عن تصديق رسله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 ولقائل أن يقول اذا كان يلزم من اقتدار الله تعالى على إظهار المعجز على يد الكاذب عجزه تعالى عن تصديق الرسول فكذا يلزم من الحكم بعدم اقتداره عليه عجزه فلم كان نفي أحد العجزين عنه أولى من الآخر وأيضا إذا فرضنا أن الله تعالى قادر على إقامة المعجزة على يد الكاذب فمع هذا الفرض إما أن يكون تصديق الرسول ممكنا أو لا يكون فإن أمكن بطل قوله إنه يلزم من قدرة الله تعالى على إظهار المعجز على يد الكاذب عجزه عن تصديق الرسول وإن لم يكن ذلك ممكنا لم يلزم إنما يتحقق عما يصح أن يكون مقدورا في نفسه ألا ترى أن الله لا يوصف بالعجز عن خلق نفسه وأيضا فإذا استحال يقدر الله تعالى على تصديق رسله إلا استحال منه إظهار المعجزة على يد الكاذب وجب أن ينظر أولا أن ذلك هل هو محال أم لا وإن لا يستدل باقتداره على تصديق الرسل على عدم قدرته على إظهاره على يد الكاذب لأن ذلك تصحيح الأصل بالفرع وهو دور وأيضا إذا تأملنا علمنا أن ذلك غير ممتنع لأن قلب العصا حية لما كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 مقدورا لله تعالى وممكنا في نفسه لم يقبح من الله تعالى فعله في شئ من الأوقات وبشئ من الجهات فبأن قال زيد كاذبا أنا رسول الله يستحيل أن ينقلب الممكن ممتنعا والمقدور معجوزا سلمنا ذلك لكن المعجز يدل على كونه صادقا في ادعاء الرسالة فقط أو على صدقه في كل ما أخبر عنه الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن يكون إذا ادعى الرسالة وأقام المعجز كان المعجز دالا على صدقه فيما ادعاه وهو كونه رسولا لا على صدقه في غير ما ادعاه فإن الرسول ما ادعى كونه صادقا في جميع الأمور أو لا يعلم أنه ادعى الصدق في كل الأمور فإذن هذا المطلوب لا يتم إلا بإقامة الدلالة على أنه ادعى كونه صادقا في جميع ما يخبر عنه ثم أقام المعجزة عليه وذلك لا يكفي فيه قيام المعجز على ادعاء الرسالة وكيف والعلماء اختلفوا في جواز الصغائر على الأنبياء بل جوز بعضهم الكبائر عليهم واتفقوا على جواز السهو والنسيان بل الصواب أن يقال إن ظهر المعجز عقيب ادعاء الصدق في كل ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 يخبر عنه وجب الجزم بتصديقه في الكل وإلا ففي القدر المدعى فقط الخامس خبر كل الأمة عن الشئ يجب أن يكون صدقا لقيام الدلالة على أن الإجماع حجة السادس خبر الجمع العظيم عن الصفات القائمة بقلوبهم من الشهوة والنفرة لا يجوز أن يكون كذبا وأيضا الجمع العظيم البالغ إلى حد التواتر إذا أخبر واحد منهم عن شئ غير ما أخبر عنه صاحه عمر! فلا بد وأن يقع فيها ما يكون صدقا ولذلك نقطع بأن الأخبار المروية عنه صلى الله عليه وسلم على سبيل الآحاد ما هو قوله وان كنا لا نعرف ذلك بعينه السابع اختلفوا في أن القرائن هل تدل على صدق الخبر أم لا فذهب النظام وإمام الحرمين والغزالي إليه والباقون أنكروه احتج المنكرون بأمور أولها أن الخبر مع القرائن التي يذكرها النظام لو أفاد العلم لما جاز انكشافه عن الباطل لكن قد ينكشف عنه لأنا قد علمنا أن الخبر عن موت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 إنسان مع القرائن التي يذكرها النظام من البكاء عليه والصراخ وإحضار الجنازة والأكفان قد ينكشف عن الباطل فيقال انه أغمى عليه أو لحقته سكتة أو أظهر ذلك ليعتقد السلطان موته فلا يقتله فثبت أن هذه القرائن لا تفيد العلم الثاني لو كانت القرائن هي المفيدة للعلم لجاز أن لا يقع العلم عند خبر التواتر لعدم تلك القرائن ولما لم يجز ذلك بطل قوله الثالث لو وجب العلم عند خبر واحد لوجب ذلك عند خبر كل واحد كما أن الخبر المتواتر لما اقتضاه في موضع اقتضاه في كل موضع والجواب عن الأول أن الذي ذكرتموه لا يدل إلا على أن ذلك القدر من القرائن لا يفيد العلم ولا يلزم منه أن لا يحصل العلم بشئ من القرائن لأن القدح في صورة خاصة لا يقتضي القدح في كل الصور وعن الثاني أن النظام يلتزم ويقول خبر التواتر ما لم تحصل فيه القرائن لم يفد العلم ومن تلك القرائن أن يعلم أنه ما جمعهم جامع من رغبة أو رهبة أو التباس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 سلمنا ذلك لكن لا يلزم من قولنا القرائن تفيد العلم قولنا إنها هي المفيدة وبتقدير أن تكون هي المفيدة فلم قلت يجوز انفكاك خبر التواتر عنها وعن الثالث أن خبر الواحد إنما يفيد العلم لا لذاته فقط بل بمجموع القرائن فمتى حصل ذلك المجموع مع أي خبر كان أفاد العلم وأيضا فالعلم الحاصل عقيب خبر التواتر عندكم حاصل بالعادة فيجوز أيضا أن يكون حصوله عقيب القرائن بالعادة وإذا كان كذلك جاز أن تكون هذه العادة مختلفة وإن كانت مطردة في التواتر والمختار أن القرينة قد تفيد العلم إلا القرائن لا تفي العبارات بوصفها فقد تحصل أمور يعلم بالضرورة عند العلم بها كون الشخص خجلا أو وجلا مع أنا لو حاولنا التعبير عن جميع تلك الأمور لعجزنا عنه والإنسان إذا أخبر عن كونه عطشانا فقد يظهر على وجهه ولسانه من أمارات العطش ما يفيد العلم بكونه صادقا والمريض إذا أخبر عن ألم في بعض أعضائه مع أنه يصيح وترى عليه علامات ذلك الألم ثم إن الطبيب يعالجه بعلاج لو لم يكن المريض صادقا في قوله لكان ذلك العلاج قاتلا له فها هنا يحصل العلم بصدقه وبالجملة فكل من استقرأ العرف عرف أن مستند اليقين في الأخبار ليس إلا القرائن فثبت إن الذي قاله النظام حق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 القول في الطرق الفاسدة وهي خمسة الأول إذا أخبر واحد بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم عن شئ والرسول ترك الإنكار عليه قال بعضهم ذلك يدل على كون ذلك الخبر صدقا والحق أن يقال ذلك الخبر إما أن يكون خبرا عن أمر يتعلق بالدين أو بالدنيا فإن كان عن الدين فسكوته عليه الصلاة والسلام عن الإنكار يدل على صدقه لكن بشرطين أحدهما أن لا يكون قد تقدم بيان ذلك الحكم والثاني أن يجوز تغير ذلك الحكم عما بينه فيما قبل وإنما وجب اعتبار هذين الشرطين لأن بيان الحكم لو تقدم وأمنا عدم تغيره كان فيما سبق من البيان ما يغني عن استئناف البيان ولهذا لا يلزمه عليه الصلاة والسلام تجديد الإنكار حالا بعد حال على الكفار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 وأما القسم الثاني وهو الخبر عن أمر متعلق بالدنيا فسكوته عليه الصلاة والسلام يدل على الصدق بأحد شرطين أحدهما أن يستشهد بالنبي صلى الله عليه وسلم ويدعي عليه علمه بالمخبر عنه وثانيهما أن يعلم الحاضرون علم النبي صلى الله عليه وسلم بتلك القصة ففي كل واحد من هذين الوجهين يجب صدق الخبر إذ سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم ها هنا يوهم التصديق فلو كان المخبر كاذبا لكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوهم تصديقه وأنه غير جائز وأما إذا علمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم المخبر عنه أو جوزنا ذلك لم يلزم حينئذ من السكوت عن التكذيب حصول التصديق لأنه عليه الصلاة والسلام يجوز سكوته لاحتمال كونه متوقفا في الأمر الثاني قالوا إذا أخبر الواحد بحضرة جماعة كثيرة عن شئ بحيث لو كان كذبا لما سكتوا عن التكذيب كان ذلك دليلا على صدقه فيه لأنهم إما أن يكونوا سكتوا مع علمهم بكذبه أو لا مع علمهم بكذبه والأول باطل لأن الداعي إلى التكذيب قائم والصارف زائل ومع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 حصول هذين الشرطين يجب الفعل فلما لم يوجب دل على أنهم لم يعلموا كذبه وإنما قلنا إن الداعي حاصل لأن من استشهد على خبر كذب فأراد الصبر على التكذيب وجد من نفسه مشقة على ذلك الصبر وذلك يدل على حصول الداعي وأما زوال الصارف فإن ذلك الصارف إما رغبة أو رهبة والجمع العظيم لا يعمهم من الرغبة أو الرهبة ما يحملهم على كتمان ما يعلمونه ولهذا لا يجتمعون على كتمان الرخص والغلاء العظيمين فأما القسم الثاني وهو أن يقال سكتوا لعدم علمهم بكذب القائل فباطل لأنه يبعد عن الجمع العظيم أن لا يطلع واحد منهم عليه واعلم أن هذا الطريق لا يفيد اليقين بل الظن لأنه لا يمكنا القطع بامتناع اشتراك الجماعة الذين حضروا في رغبة أو رهبة مانعة من السكوت وإن سلمناه لكن لا يستبعد غفلة الحاضرين عن معرفة كونه كذبا إذ ربما لم يتعلق لهم به غرض فلم يبحثوا عنه الثالث زعم أبو هاشم والكرخي وتلميذهما أبو عبد الله البصري أن الإجماع على العمل بموجب الخبر يدل على صحة الخبر وهذا باطل من وجهين أحدهما أن عمل كل الأمة بموجب الخبر لا يتوقف على قطعهم بصحة ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 الخبر فوجب أن لا يدل على صحة ذلك الخبر أما الأول فلأن العمل بخبر الواحد واجب في حق الكل فلا يكون عملهم به متوقفا على القطع به وأما الثاني فلأنه لما لم يتوقف عليه لم يلزم من ثبوته ثبوته الثاني أن علمهم بمقتضى ذلك الخبر يجوز أن يكون لدليل اخر لاحتمال قيام الأدلة الكثيرة على المدلول الواحد واحتجوا بأن المعلوم من عادة السلف فيما لم يقطعوا بصحته أن يرد مدلوله بعضهم ويقبله الآخرون والجواب هذه العادة ممنوعة بدليل اتفاقهم على حكم المجوس بخبر عبد الرحمن الرابع قال بضع الزيدية بقاء النقل مع ترفر النبي الدواعي على إبطاله الدواعي على إبطاله يدل على صحة الخبر كخبر الغدير والمنزلة فإنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 سلم نقلهما في زمان بني أمية مع توفر دواعيهم على ابطالهما وهذا أيضا ليس بشئ لاحتمال أنه كان من باب الآحاد أولا ثم اشتهر فيما بين الناس بحيث عجز العدو عن إخفائه ولأن الصوارف من جهة بني أمية وإن حصلت لكن الدواعي من جهة الشيعة حصلت ولأن الناس إذا منعوا من إفشاء فضيلة إنسان كانت محبتهم له وحرصهم على ذكر مناقبه أشد مما إذا لم يمنعوا الخامس اعتمد كثير من الفقهاء والمتكلمين في تصحيح خبر الإجماع وأمثاله بأن الأمة فيه على قولين منهم من احتج به ومنهم من اشتغل بتأويله وذلك يدل على اتفاقهم على قبوله وهو ضعيف أيضا لاحتمال أن يقال إنهم قبلوه كما يقبل خبر الواحد ويمكن أن يجاب عنه بأن خبر الواحد يقبل في العمليات لا في العلميات وهذه المسألة علمية فلما قبلوا هذا الخبر فيها دل ذلك على اعتقادهم في صحته والجواب لا نسلم أن كل الأمة قبلوه بل كل من لم يحتج به في الإجماع طعن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 فيه بأنه من باب الآحاد فلا يجوز التمسك به في مسألة علمية بل هب أنهم ما طعنوا فيه على التفصيل لكن لا يلزم من عدم الطعن من جهة واحدة عدم الطعن مطلقا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 الباب الثالث في الخبر الذي يقطع بكونه كذبا وهو أربعة الأول الخبر الذي ينافي مخبره وجود ما علم بالضرورة سواء كان المعلوم بالضرورة حسيا أو وجدانيا أو بديهيا ومن هذا الباب قول القائل الذي لم يكذب قط أنا كاذب فهذا الخبر كذب لأن المخبر عنه بكونه كاذبا إما أن تكون الأخبار التي وجدت قبل هذا الخبر أو هذا الخبر والأول باطل لأن تلك الأخبار ما كانت كذبا فإخباره عن نفسه بكونه كاذبا فيها كذب والثاني باطل لأن الخبر عن الشئ يتأخر في الرتبة عن المخبر عنه فإن جعلنا الخبر عين المخبر عنه لزم تأخر الشئ عن نفسه في الرتبة وهو محال الثاني الخبر الذي يكون مخبره على خلاف الدليل القاطع ثم ذلك الخبر إما أن يحتمل تأويلا صحيحا أو لا يحتمله فإن احتمله فإما أن يحتمل تأويلا قريبا أو تأويلا متعسفا فإن كان قريبا جاز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تكلم به لإرادة ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 المعنى كما في متشابهات الكتاب وإن كان متعسفا حكم إما بكذبه وإما بأنه كان معه زيادة أو نقصان يصح الكلام معه مع أنه لم ينقل وكذا القول فيما لا يقبل التأويل الثالث وهو في الحقيقة داخل تحت القسم الثاني الأمر الذي لو وجد لتوفرت الدواعي على نقله على سبيل التواتر إما لتعلق الدين به كأصول الشرع أو لغرابته كسقوط المؤذن من المنارة أو لهما جميعا كالمعجزات ومتى لم يوجد ذلك دل على كذبه والخلاف فيه مع الشيعة فإنهم جوزوا في مثل هذا الشئ أن لا يظهر لأجل الخوف والتقية لنا لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكون بين البصرة وبين بغداد بلدة أعظم منهما مع أن الناس ما أخبروا عنها ولجوزنا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب عشر صلوات لكن الأمة ما نقلت إلا خمسة ولما كان ذلك باطلا فكذا ما أدى إليه فإن قيل هذا الكلام ظلم لأن العلم بعدم هذه الأمور إما أن يكون متوقفا على العلم بأنه لو كان لوجب نقله أو لا يكون متوقفا عليه فإن كان الأول وجب أن يكون الشاك في الأصل شاكا في هذه الفروع لكن الناس كما يعلمون بالضرورة وجود بغداد والبصرة يعلمون بالضرورة عدم بلدة بينهما أكبر منهما والعلم الضروري لا يكون متوقفا على العلم النظري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 وإن كان الثاني فحينئذ العلم بعدم هذه البلدة غير متوقف على العلم بأنها لو كانت لنقلت فلا يلزم من عدم هذا عدم ذاك سلمنا توقف العلم بعدم هذه الأمور على العلم بأنها لو كانت لنقلت لكن ما ذكرتموه مثال واحد ولا يلزم من حصول الحكم في مثال واحد على وفق قولكم حصوله في كل الصور على وفق قولكم فإن قستم سائر الصور على هذه الصورة فقد بينا أن القياس لا يفيد اليقين لاحتمال أن يكون ما به فارق الأصل الفرع شرطا في الأصل أو مانعا في الفرع ثم الذي يبين أن الأمر ليس كذلك في كل الصور أمور أحدها أن إفراد الإقامة وتثنيتها من أظهر الأمور وأجلاها ثم إن ذلك لم ينقل بالتواتر وثانيها القول في هيئآت الصلاة من رفع اليدين والجهر بالتسمية كل ذلك أمور ظاهرة مع أنها لم تنقل نقلا متواترا وثالثها انشقاق القمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 وتسبيح الحصى وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 ونبوع الماء من بين الأصابع أمور عظيمة ثم إنها لم تنقل بالتواتر فإن قلت ذلك لأنهم استغنوا بنقل القرآن عن نقلها قلت لا نسلم حصول الاستغناء بنقل القرآن لأن كون القرآن معجزا أمر لا يعرف إلا بدقيق النظر والعلم بكون هذه الأشياء معجزات علم ضروري فكيف يقوم أحدهما مقام الآخر فلأن قلتم لا نزاع في حصول التفاوت من هذه الجهة ولكن لما كان القرآن دليلا قاطعا جاز أن يصير ظهوره واشتهاره سببا لفتور الدواعي عن نقل سائر المعجزات وإن كانت أظهر من القرآن فنقول لم لا يجوز أن يقال إن دلالة قوله تعالى إنما وليكم الله ورسوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 ودلالة خبر الغدير والمنزلة على إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإن كانت خفية إلا أن ذلك صار سببا لفتور الدواعي عن نقل النص الجلي ورابعها أن أقاصيص الأنبياء المتقدمين والملوك الماضين ما نقلت نقلا متواترا وهو يقدح في قولكم والجواب قوله العلم بعدم الواقعة العظيمة أما أن يتوقف على العلم بأنها لو كانت لنقلت أو لا يتوقف قلنا يتوقف عليه قوله العلم بعدم بلدة بين البصرة وبغداد أكبر منهما علم ضروري وهذه القاعدة نظرية والضروري لا يستفاد من النظري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 قلنا لا نسلم أنه ضروري ولذلك فإن كل من ادعى نفي هذه البلدة إذا قيل له كيف عرفت عدمها فلا بد وأن يقول لأنها لو كانت موجودة لاشتهر خبرها كما اشتهر خبر بغداد والبصرة فعلمنا أن ذلك العدم مستفاد من هذا الأصل قوله ما ذكرته مثال واحد قلنا لم نذكر ذلك المثال لاختصاص دليلنا به بل للتنبيه على القاعدة الكلية قوله ينتقض بالإقامة قلنا اختلف أصحابنا في الجواب عنه على وجهين الأول وهو قول القاضي أبي بكر لعل المؤذن كان ينفرد مرة ويثنى أخرى فإن قلت فكان يجب أن ينقل بالتواتر كونه كذلك قلت يحتمل أن الراوي روى بعض ما رأى وأهمل الباقي لاعتقاده أن التساهل في مثل هذا الباب سهل ولا يتعلق به غرض أصلا في الدين نفيا وإثباتا والثاني لعلهم عرفوا أن هذه المسألة من الفروع التي لا يوجب الخطأ فيها كفرا ولا بدعة فلذلك تساهلوا فيها ولما تساهلوا فيها نسوا ما شاهدوه لا سيما وكانوا مشتغلين بالحروب العظيمة والذين شاهدوها في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 قتلوا وقلوا فصارت الرواية من باب الآحاد وأما اختلافهم في الجهر بالتسمية فعنه أيضا جوابان الأول لعل فعله فيه كان مختلفا الثاني أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ابتدأ بالقراءة أخفى صوته ثم يعلو صوته على التدريج وعلى هذا التقدير يجوز أن يسمع جهره بالتسمية القريب دون البعيد وأما سائر المعجزات قلنا لعل الذين شاهدوا تلك الأشياء كانوا قليلين فلا جرم ما حصل النقل المتواتر فأما الذين سمعوا النص الجلي في الإمامة فان كانوا قليلين صارت الرواية من الآحاد فلا تكون حجة قطعية وإن كانوا بالغين حد التواتر وجب ظهور النقل وأما أقاصيص سائر الأنبياء فإنما لم تنقل بالتواتر لأنه لا يتعلق بروايتها غرض أصلي في الدين بخلاف النص الجلي في الإمامة الرابع الخبر الذي يروي في وقت قد استقرت فيه الأخبار فإذا فتش عنه فلم يوجد في بطون الكتب ولا في صدور الرواة علم أنه لا أصل له وأما في عصر الصحابة حين لم تكن قد استقرت الأخبار فإنه يجوز أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 يروي أحدهم ما لم يوجد عند غيره مسألة في أن الأخبار المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالآحاد قد وقع فيها ما يكون كذبا ثم في بيان الداعي إلى وضع الكذب عليه فهما مقامان أما المقام الأول فالذي يدل عليه وجوه أحدها ما روي عنه عليه الصلاة والسلام سيكذب علي فهذا الخبر إن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 كان صدقا فلا بد من أن يكذب عليه وإن كان كذبا فقد كذب عليه أيضا وثانيها أنه قد حصل في الأخبار ما لا يجوز نسبته الى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يقبل التأويل وإذا كان كذلك وجب القطع بكونه كذبا وثالثها ما روي عن شعبة أن نصف الحديث كذب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 وأما المقام الثاني وهو سبب الكذب فاعلم أن ذلك إما أن يكون من جهة السلف أو من جهة الخلف أما السلف فهم منزهون عن تعمد الكذب إلا أنه لو وقع لوقع ذلك لوقع على وجوه أحدها أن يكون الراوي يرى نقل الخبر بالمعنى فيبدل مكان اللفظ اخر لا يطابقه في معناه وهو يرى أنه يقوم مقامه وثانيها أنهم لا يكتبون الحديث في الغالب فإذا قدم العهد فربما نسي اللفظ فأبدل به لفظا اخر وهو يرى أن ذلك اللفظ هو المسموع وربما نسي زيادة يصح بها الخبر وثالثها ربما أدرك الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يروي متن الخبر ولم يذكر إسناده إلى غيره فيظن أن الخبر من جهته صلى الله عليه وسلم ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يستأنف الحديث إذا أحس بداخل ليكمل له ومن ذلك ما وري أنه عليه الصلاة والسلام قال الشؤم في ثلاثة المرأة والدار والفرس فقالت عائشة رضي الله عنها إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حكاية عن غيره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 ورابعها أنه ربما خرج الحديث على سبب وهو مقصور عليه ويصح معناه به وما هذا سبيله ينبغي أن يروى مع سببه فإذا لم يعرف سببه أوهم الخطأ كما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال التاجر فاجر فقالت عائشة رضي الله عنها إنما قال ذلك في تاجر دلس وخامسها ما روي أن أبا هريرة كان يروي أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وكعب يروي أخبار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 اليهود والسامعون ربما ألبس عليهم ذلك فرووا في الخبر أنهم سمعوا من أبي هريرة وإنما سمعوا من كعب وأما سبب الكذب في الأخبار من جهة الخلف فوجوه أحدها أن الملاحدة وضعوا الأباطيل ونسبوها إلى الرسول عليه الصلاة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 والسلام تنفيرا للعقلاء منه كما يروي ذلك عن عبد الكريم بن أبي العوجا وثانيها ما قيل إن الإمامية يسندون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما صح عندهم عن بعض أئمتهم قالوا لأن جعفر بن محمد قال حدثني أبي وحدثني جدي وحديث أبي وجدي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حرج عليكم إذا سمعتم مني حديثا أن تقولوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 وثالثها أن يكون الراوي يرى جواز الكذب المؤدي إلى صلاح الأمة فإن من مذهب الكرامية أنه إذا صح المذهب جاز وضع الأخبار فيه لأن ذلك سبب لترويج الحق فوجب أن يكون جائزا ورابعها الرغبة كما وضعوا في ابتداء دولة بني العباس أخبارا في النص على إمامة العباس وولده مسألة في تعديل الصحابة رضي الله عنهم مذهبنا إن الأصل فيهم العدالة إلا عند ظهور المعارض للكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقوله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين وقوله تعالى والسابقون الأولون وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام أصحابي كالنجوم بأيهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 أقتديتم اهتديتم وقوله ولا تسبوا أصحابي وقوله لو أنفق أحدكم ملأ الأرض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقوله خير الناس قرني وقد بلغ إبراهيم النظام في الطعن فيهم على ما نقله الجاحظ عنه في كتاب الفتيا ونحن نذكر ذلك مجملا ومفصلا أما مجملا فإنه روي من طعن بعضهم في بعض أخبارا كثيرة يأتي تفصيلها وقال النظام رأينا بعض الصحابة يقدح في البعض وذلك يقتضي توجه القدح إما في القادح إن كان كاذبا وإما في المقدوح فيه إن كان القادح صادقا بيان المقام الأول من وجوه أقال عمران بن الحصين والله لو أردت لحدثت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام يومين متتابعين فإني سمعت كما سمعوا وشاهدت كما شاهدوا ولكنهم يحدثون أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 ب عن حذيفة أنه يحلف لعثمان بن عفان على أشياء بالله أنه ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 قالها وقد سمعناه قالها فقلنا له فيه فقال إني اشتري ديني بعضه ببعض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 مخافة أن يذهب كله ج بن عباس رضي الله عنهما بلغه أن ابن عمر رضي الله عنهما يروي أن الميت ليعذب ببكاء أهله قال ذهل أبو عبد الرحمن إنما مر النبي عليه الصلاة والسلام بيهودي يبكي على ميت فقال إنه ليبكي عليه وإنه ليعذب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 د ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام قال في الضب كل لا آكله ولا أحله ولا أحرمه فقال زيد الأصم قلت لابن عباس إن ناسا يقولون أنه عليه الصلاة والسلام قال في الضب كل لا آكله ولا أحله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 ولا أحرمه قال بئس ما قلتم ما بعث الله النبي محللا ولا محرما هـ عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر فقال هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ثم قال إنهم الآن يسمعون ما أقول فذكروه لعائشة رضي الله عنها فقالت لا بل قال إنهم ليعلمون أن الذي كنت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 أقول لهم هو الحق قال النظام وهذا هو التكذيب ولما روت فاطمة بنت قيس أن زوجي طلقني ثلاثا ولم يجعل لي رسول الله عليه الصلاة والسلام سكنى ولا نفقة فقال عمر لا نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وقالت عائشة رضي الله عنها يا فاطمة قد قتلت الناس ومعلوم أنها كانت من المهاجرات مع أنها عند عمر وعائشة رضي الله عنهما كاذبة ز أراد وأن عمر رضي الله عنه ضرب أبي موسى رضي الله عنه في خبر الاستيذان حتى شهد له أبو سعيد الخدري ح كان على رضي الله عنه يستحلف الرواة فلو كانوا غير متهمين لما استحلفهم فإن عليا أعلم بهم منا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 طحميد كما بن عبد الرحمن الحميري بعث أبن أخ له إلى الكوفة وقال سل علي بن أبي طالب عن الحديث الذي رواه عنه أهل الكوفة في البصرة فإن كان حقا فخبرنا عنه فأتى الكوفة فلقى الحسن بن علي رضي الله عنهما فأخبره الخبر فقال له الحسن أرجع إلى عمك وقل له قال أمير المؤمنين يعني أباه إذا حدثتكم عن رسول الله فإني لن أكذ ب على الله ولا على رسوله وإذا حدثتكم برأيي فإنما أنا رجل محارب ويروي عنه هذا المعنى بروايات قال عمرو بن عبيد الله وهاشم الأوقص يرى أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 قوله أمرت أن أقاتل الناس أو القاسطين أو المارقين من ذلك وقوله في ذي الثدية ما كذبت ولا كذبت فإنما ربما كان الشئ عنده حقا فيقول إن الرسول أمرني به لأن الرسول كان آمرا بكل حق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 ى ورويتم هو عن أبي سعيد الخدري وجابر وأنس رضي الله عنهم قال وذكر سنة مائة أنه لا يبقى على ظهرها نفس منفوسة ثم يروي أن عليا رضي الله عنه قال لأبي مسعود إنك تفتي الناس قال أجل وأخبرهم أن الأخير شر قال فأخبرني ما سمعت منه قال سمعته يقول لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف فقال علي أخطأت وأخطأ في أول فتواك إنما قال ذلك لمن حضره يومئذ وهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 الرجاء الا بعد مائة يا أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال عليه الصلاة والسلام الشمس والقمر نوران مكوران في النار يوم القيامة قال الحسن ما ذنبهما قال أبو هريرة أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 وهذا من الحسن رد على أبي هريرة يب قال علي لعمر رضي الله عنهما في قصة الجنين إن كان هذا جهد رأيهم فقد قصروا وإن كانوا قاربوك فقد غشوك وهذا من علي رضي الله عنه حكم بجواز اللبس يج أبو الأشعث قال كنا في غزاة وعلينا معاوية رضي الله عنه فأصبنا ذهبا وفضة فأمر معاوية رجلا ببيعها للناس في أعطياتهم فتسارع الناس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 فيها فقام عبادة بن الصامت رضي الله عنه فنهاهم فردوها فأتى الرجل معاوية فشكا إليه فقام معاوية خطيبا فقال ما بال رجال يحدثون عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه فقام عبادة واعاد القصة ثم قال والله لنحدثن عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وإن كره معاوية أو قال وأن رغم ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء فهذا يدل إما على كذب عبادة أو كذب معاوية ولو كذبنا معاوية لكذبنا وسلم أصحاب صفين كالمغيرة عنه وغيره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 وعلى أن معاوية لو كان كذابا لما ولاه عمر وعثمان على الناس يد إن أبا موسى قام على منبر الكوفة لما بلغه أن عليا رضي الله عنه أقبل يريد البصرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أهل الكوفة والله ما أعلم واليا أحرص على صلاح الرعية مني والله لقد منعتكم حقا كان لكم بيمين كاذبة فأستغفر الله منها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 وهذا إقرار منه على نفسه باليمين الكاذبة يه روى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يوم السقيفة أنه عليه الصلاة والسلام قال الأئمة من قريش ثم رويتم أشياء ثلاثة تناقضه أحدها قول عمر رضي الله عنه في آخر حياته لو كان سالم حيا لما تخالجني فيه شك وسالم مولى أمرأة من الأنصار وهي حازت ميراثه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 وثانيها أنه عليه الصلاة والسلام قال اسمع وأطع ولو كان عبد حبشيا وثالثها قوله عليه الصلاة والسلام لو كنت مستخلفا من هذه الأمة أحدا من غير مشورة لاستخلفت ابن أم عبد يو لما روى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال إن المرأة والكلب والحمار يقطعن الصلاة مشت عائشة رضي الله عنها في خف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 واحدة وقالت لأخشن أبا هريرة فإني ربما رأيت الرسول عليه الصلاة والسلام وسط السرير وأنا على السرير بينه وبين القبلة يز روى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال إن الميت على من غسله الغسل وعلى من حمله الوضوء فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت أنجاس موتاكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 يح عن ابراهيم أن عليا رضي الله عنه بلغه أن أبا هريرة يبتدئ بميامينه في الوضوء وفي اللباس فدعا بماء فتوضأ وبدأ بمياسيره وقال لأخالفن أبا هريرة يط إن أصحاب عبد الله لما بلغهم خبر أبي هريرة من قام من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا قالوا إن أبا هريرة مكثار فكيف نصنع بالمهراس ك لما قال أبو هريرة حدثني خليلي قال له علي رضي الله عنه متى كان خليلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 وقال عمرو بن عبيد الله كأنه ما سمع قوله عليه الصلاة والسلام لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا كا لما روى أبو هريرة من أصبح جنبا فلا صوم له أرسل مروان في ذلك إلى عائشة وحفصة رضي الله عنهما فقالتا كان النبي عليه الصلاة والسلام يصبح جنبا ثم يصوم فقال للرسول اذهب إلى أبي هريرة فأخبره بذلك فقال أبو هريرة أخبرني بذلك الفضل بن عباس قال النظام والاستدلال به من ثلاثة أوجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 أحدها أنه استشهد ميتا وثانيها أنه لو لم يكن متهما فيه لما سألوا غيره وثالثها أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما كذبتاه كب ولما روى أبو سعيد الخدري خبر الربا قال ابن عباس نحن أعلم بهذا وفينا نزلت آية الربا فقال الخدري أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول لي ما تقول والله لا يظلني وإياك سقف بيت وهذا تكاذب بين ابن عباس وأبي سعيد كج لما قدم ابن عباس البصرة سمع الناس يتحدثون عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم فكتب إليه فقال أبو موسى لا أعرف منها حديثا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 كد روى أن عمر رضي الله عنه كان إذا ولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعمال وشيعهم قال لهم عند الوداع أقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النظام فلولا التهمة لما جاز المنع من العلم كه رووا عن سهل بن أبي خيثمة في القسامة ثم إن عبد الرحمن بن عبيد قال والله ما كان الحديث كما حدث سهل ولقد وهم وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل خبير إن قتيلا وجد في أو ديتكم فدوه فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه فواده رسول الله من عنده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 وقال محمد بن اسحاق سمعت عمرو بن شعيب في المسجد الحرام يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أن حديث سهل ليس كما حدث كو قال أصحاب الشعبي إنك لا ترى طلاق المكره قال أنتم تكذبون علي وأنا حي فكيف لا تكذبون على إبراهيم وقد مات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 كز قال ابن أبي ملكية ألا تعجب حدثني عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أهللت بعمرة وقال القاسم إنها قالت بحجة كح قال صدقة بن يسار سمعت أنه عليه الصلاة والسلام قال في الذي يسافر وحده وفي الإثنين شيطان وشيطانان إن فلقيت القاسم بن محمد فسألته فقال كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث البريد وحده وكان النبي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 وصاحبه وحدهما فهذا من القاسم تكذيب بهذا الخبر كط كان أبن سيرين يعيب الحسن في التفسير وكان الحسن يعيبه في التعبير ويقول كأنه من ولد يعقوب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 ل ابن عباس رضي الله عنهما الحجر الأسود من الجنة وكان أشد بياضا من الثلج حتي سودته خطايا أهل الشرك فسئل ابن الحنفية عن الحجر وقيل ابن عباس يقول هو من الجنة فقال هو من بعض الأودية قال النظام لو كان كفر أهل الجاهلية يسود الحجر لكان إسلام المؤمنين يبيضه ولأن الحجارة قد تكون سوادء وبيضاء فلو كان ذلك السواد من الكفر لوجب أن يكون سوادها بخلاف سائر الأحجار ليحصل التمييز ولأنه لو كان كذلك لاشتهر ذلك لأنه من الوقائع العجيبة كالطير الأبابيل لا روى أبو سعيد الخدري أنه لا هجرة بعد الفتح لكن جهاد ونية فقال له مروان كذبت وعنده رافع ابن خديج وزيد بن ثابت وهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 قاعدان على سريره فقال أبو سعيد لو شاء هذان لعرفاك إلا ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة فسكتا فرفع مروان عليه الدرة فلما رأيا ذلك قالا صدق لب عطاء بن أبي رباح قيل له روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال سبق الكتاب الخفين قال كذب أنا رأيت ابن عباس يمسح على الخفين لج قال أيوب لسعيد بن جبير إن جابر بن زيد يقول إذا زوج السيد العبد فالطلاق بيد السيد قال كذب جابر لد قال عروة لابن عباس أضللت الناس يا ابن عباس قال وما ذاك يا عروة قال تأمرنا بالعمرة في هذه الأيام وليست فيها عمرة قال أفلا تسأل أمك عن هذا فإنها قد شهدته قال عروة فإن أبا بكر وعمر كانا لا يفعلانه قال هذا الذي أضلكم أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثونني فيه عن أبي بكر وعمر فقال عروة أبو بكر وعمر كانا أتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلم بها منك وهذا تكذيب من عروة لابن عباس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 له رويتم عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال أي سماء تضلني! وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأي ثم رويتم أنه سئل عن الكلالة فقال أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان قال النظام وهذان الأثران متناقضان ثم رويتم أن عمر رضي الله عنه قال إني لأستحيي أن أخالف أبا بكر قال النظام فإن كان عمر استقبح مخالفة أبي بكر فلم خالفه في سائر المسائل فإنه قد خالفه في الجد وفي أهل الردة وقسمة الغنائم ثم إن النظام قدح في ابن مسعود رضي الله عنه خاصة من وجوه آزعم أنه رأى القمر انشق وهذا كذب ظاهر لأن الله تعالى ما شق القمر له وحده وإنما يشقه آية للعالمين فكيف لم يعرف ذلك غيره ولم يؤرخ الناس به ولم يذكره شاعر ولم يسلم عنده كافر ولم يحتج به مسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 على ملحد ب أنكر ابن مسعود كون المعوذتين من القرآن فكأنه ما شاهد قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم لهما ولم يهتدء صلى إلى ما فيهما من فصاحة المعجزة أو لم يصدق جماعة الأمة في كونهما من القرآن فإن كانت تلك الجماعة ليست حجة عليه فأولى أن لا تكون حجة علينا فنحن معذورون في أن لا نقبل قولهم ج إختار المسلمون قراءة زيد وهو خالف الكل ولم يقرأ بها د لما صلى عثمان رضي الله عنه بمنى أربعا عابه فقيل له فيه فقال الخلاف شر والفرقة شر ثم إنه عمل بالفرقة في أمور كثيرة هـ وما زال يقدح القول في عثمان ويسر القول فيه منذ اختار قراءة زيد ورأى أناسا من الزط فقال هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن ثم قال علقمة قلت لابن مسعود أكنت مع النبي عليه الصلاة والسلام ليلة الجن فقال ما شهدها منا أحد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 ز سأله عمر رضي الله عنه عن شئ من الصرف فقال لا بأس به فقال عمر رضي الله عنه لكني أكرهه فقال قد كرهته إذ كرهته فرجع عن قول إلى قول بغير دليل قال النظام فقد ثبت قدح بعضهم في البعض فإن صدق القادح فقد توجه العيب وإن كذب فكذلك أما الخوارج فقد طعنوا في الصحابة رضي الله عنهم ولعن مبغضيهم من وجوه أحدها قالوا رأيناهم قبلوا خبر الواحد على مناقضة كتاب الله تعالى وذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 يوجب القطع بفساد ذلك الخبر والطعن في العامل به بيانه أن الله تعالى ذكر أنواع المعاصي من الكفر والقتل والسرقة فلما ذكر الزنا استقصى الكلام فيه فإنه تعالى نهى عنه فقال ولا تقربوا الزنا ثم أوعد عليه بالنار كما صنع وبجميع المعاصي ثم ذكر الجلد ثم خصه بإحضار المسلمين وبالنهي عن رحمته والرأفة عليه بقوله ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ثم جعل على من رمى مسلما بالزنا ثمانين جلدة ولم يجعل ذلك على من رماه بالقتل ولا بالكفر وهما أعظم ثم قال ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ثم ذكر من رمى به زوجته وبين هناك أحكام اللعان وقال والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ثم خصه بأن جعل الشهود عليه أربعا فمع هذه المبالغة العظيمة كيف يجوز إهمال ما هو أجل أحكامها وأعظم مراتبها وهو الرجم ثم أنه تعالى ذكر آيات صريخة وقال في نفي الرجم أحدها قوله الزانية والزاني فاجلدوا وهذا صريح في وجوب الجلد على كل الزناة وصريح في نفي الرجم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 وثانيها قوله فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب والرجم لا نصف له وثالثها وهو الدلالة العقيلة أن الرجم لو كان مشروعا لوجب أن ينقل نقلا متواترا لأنه من الوقائع العظيمة فحيث لم ينقل دل على أنه غير مشروع ثم أنهم قبلوا خبر الواحد في الرجم مع كونه على مناقضة هذه الأدلة الشرعية والعقلية فكان الطعن متوجها قطعا وثانيها رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج يوما على أصحابه وهم يكتبون أحاديث من أحاديثه فقال ما هذه الكتب أكتابا أنه مع كتاب الله تعالى يوشك أن يقبض الله تعالى بكتابه فلا يدع في قلب ولا رق منه شيئا إلا أذهبه ورويتم أيضا أنه قال إذا حدثتم بحديث فاعرضوه على كتاب الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه ثم إنكم مع ذلك جوزتم المسح على الخفين مع صريح قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة وقلتم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ويحرم نكاح المرأة على عمتها وخالتها وبنت أخيها وأختها مع قوله تعالى وأحل لكم ما وراءه ذلكم وكيف يجلد العبد القاذف أربعين مع قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ولم يذكر حرا ولا عبدا وكيف يجلد العبد على الزنا خمسين وإنما ذكر الله تعالى الإماء دون العبيد فقال فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب وكيف رددتم شهادة العبد مع قوله تعالى وأشهدوا ذوي عدل منكم ومع قوله ممن ترضون من الشهداء وكيف منعتم من إمامة غير القرشي مع قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 وثالثها ما يروى من شتم بعضهم بعضا ولنذكر من ذلك حكايات الحكاية الأولى حكى ابن داب في مجادلات قريش قال اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص وعتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة والمغيرة بن شعبة ثم أحضروا الحسن بن علي رضي الله عنهم ليسبوه وهو فلما حضر تكلم عمرو بن العاصى وذكر عليا رضى الله عنه ولم يترك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 شئ من المساوئ الا ذكر فيه وفيما قال إن عليا شتم أبا بكر وشارك في دم عثمان إلى أن قال اعلم أنك وأباك من شر قريش ثم خطب كل واحد منهم بمساوئ علي والحسن رضي الله عنهما ومقابحهما صلى الله عليه وسلم ونسبوا عليا إلى قتل عثمان ونسبوا الحسن إلى الجهل والحمق فلما ال الأمر إلى الحسن رضي الله عنه خطب ثم بدأ يشتم معاوية رضي الله عنه وطول فيه إلى قال له إنك كنت ذات يوم تسوق بأبيك ويقود به أخوك هذا القاعد وذلك بعدما عمي أبو سفيان فلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمل وراكبه وسائقه وقائده فكان أبوك الراكب وأخوك القائد وأنت السائق ثم قال لعمرو بن العاص إنما أنت سبة كما أنت فأمك زانية اختصم فيك خمسة نفر من قريش كلهم يدعي عليك أنك أبنه فغلب عليك جزار قريش من الأمهم حسبا وأقلهم منصبا وأعظمهم لعنة ما أنت إلا شانئ محمد فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم إن شانئك هو الأبتر ثم هجوت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعين قافية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إني لا أحسن الشعر فالعنه بكل قافية لعنة وأما أنت يا ابن أبي معيط فوالله ما ألومك أن تبغض عليا وقد جلدك في الخمر وفي الزنا وقتل أباك صبرا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وسماه الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 تعالى في عشر آيات مؤمنا وسماك فاسقا وأنت فاسقا وأنت علج من أهل النورية أما أنت يا عتبة فما أنت بحصيف إذا فأجيبك ولا عاقل فأعاتبك فقال وأما وعدك إياي بالقتل فهلا قتلت الذي وجدت في فراشك مع أهلك وأما أنت يا مغيرة بن شعبة فمثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة استمسكي فإني عليك نازلة فقالت النخلة والله ما شعرت بوقوعك أي علي وأما زعمك أنه قتل عثمان فلعمري لو قتل عثمان ما كنت منه في شئ وإنك لكاذب قال الخوارج فهذه المشاتمة العظيمة المتناهية التي دارت بينهم تدل على أنهم ما كانوا يمسكون ألسنتهم عن القذف والقدح في الدين والعرض وذلك بوجب القدح العظيم في احدى الطائفتين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 الحكاية الثانية أن عثمان رضي الله عنه أخر عن عائشة رضي الله عنها بعض أرزاقها فغضبت ثم قالت يا عثمان أكلت أمانتك وضيعت الرعية وسلطت عليهم الأشرار من أهل بيتك والله لولا الصلوات الخمس لمشى إليك أقوام ذوو بصائر يذبحونك كما يذبح الجمل فقال عثمان رضي الله عنه ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط الآية فكانت عائشة رضي الله عنها تحرض عليه جهدها وطاقتها وتقول أيها الناس هذا قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبل وقد بليت سنته اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا ثم إن عائشة ذهبت إلى مكة فلما قضت حجها وقربت من المدينة أخبرت بقتل عثمان فقالت ثم ماذا فقالوا بايع الناس علي بن أبي طالب فقالت عائشة قتل عثمان والله مظلوما وأنا طالبة بدمه والله ليوم من عثمان خير من علي الدهر كله فقال لها عبيد بن أم كلاب ولم تقولين ذلك فوالله ما أظن أن بين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 السماء والأرض أحدا في هذا اليوم أكرم على الله من علي بن أبي طالب فلم تكرهين ولايته ألم تكوني تحرضين الناس على قتله فقلت اقتلوا النعثل ثنا فقد كفر فقالت عائشة لقد قلت ذلك ثم رجعت عما قلت وذلك أنكم أسلمتموه حتى إذا جعلتموه في القبضة قتلتموه والله لأطلبن بدمه فقال عبيد بن أم كلاب هذا والله تخليط يا أم المؤمنين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 الحكاية الثالثة الخصومة العظيمة التي كانت بين عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمار وبين عثمان والخصومة التي كانت بين عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم حتى آل الأمر إلى الضرب والنفي عن البلد واللعن وكل ذلك يقتضي توجه القدح إلى عدالة بعضهم الحكاية الرابعة مقتل عثمان رضي الله عنه والجمل وصفين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 ثم قالت الخوارج رأينا هؤلاء المحدثين يجرحون الراوي بأدنى سبب ثم إنهم مع علمهم بهذه القوادح العظيمة يقبلون روايات الصحابة ويعملون بروايات القادح والمقدوح به فيه وهذا ليس من الدين في شئ بل هؤلاء المحدثون أتباع كل من عز وعبيد كل من غلب ويروون لأهل كل دولة في ملكهم فإن انقضت دولتهم تركوهم ومما رواه الكل أن إماما سيكون منهم وأنه سيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا فروت الحسينية ذلك لنفسها وروت العباسية لنفسها حتى سموا ولد المنصور مهديا وحتى روت الأموية مثل ذلك في السفياني وسموا سليمان بن عبد الملك مهديا وحتى روت اليمانية في الأصغر القحطاني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 إلى أن خرج ابن الأشعث على ذلك الطمع تارة ويزيد بن الملهب أخرى ورابعها قالوا أنا نعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم متى كان يشرع في الكلام فالصحابة ما كانوا يكتبون كلامه من أوله إلى آخره لفظا وإنما كانوا يسمعونه ثم يخرجون من عنده وربما رووا ذلك الكلام بعد ثلاثين سنة ومن المعلوم أن العلماء الذين تعودوا تلقف الكلام ومارسوه هذا وتمرنوا عليه لو سمعوا كلاما قليلا مرة واحدة فأرادوا إعادته في تلك الساعة بتلك الألفاظ من غير تقديم ولا تأخير لعجزوا عنه فكيف الكلام الطويل بعد المدة المتطاولة من غير تكرار ولا كتابة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 ومن أنصف قطع بأن هذه الأخبار التي رووها ليس شئ من ألفاظها لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم ثم من يعيد الكلام بعد هذه ال مدة لا يمكنه أن يعيد معناه بتمامه فإن الإنسان مظنة النسيان بل لا يعيد الا بعضه وإذا كان كذلك لزم القطع بسقوط الحجة عن هذه الألفاظ لا سيما وقد جربناهم فرأيناهم يذكرون الكلام الواحد في الواقعة الواحدة بروايات كثيرة مع زيادات ونقصانات ثم وأحسن الأحوال في ذلك أن نحمل ما قلناه من عدم حفظ الألفاظ وتغيير التقديم والتأخير بسبب طول المدة وكل ذلك يوجب القدح في هذه الأخبار والجواب اعلم أن اعتماد أصحابنا في هذا الباب على حجة واحدة وهي أن آيات القرآن دالة على سلامة أحوال الصحابة وبراءتهم من المطاعن وإذا كان كذلك وجب علينا أن نحسن الظن بهم إلى أن يقوم دليل قاطع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 على الطعن فيهم وأما هذه المطاعن التي ذكرتموها فمروية رسول بالآحاد فإن فسدت رواية الآحاد فسدت هذه المطاعن وإن صحت فسدت هذه المطاعن أيضا فعلى كل التقديرات هذه المطاعن مدفوعة فيبقى الأصل الذي ذكرناه سليما وأما طعن الخوارج فهو بناء على أن تخصيص الكتاب بخبر الواحد لا يجوز وقد تقدم القول فيه وأما قولهم أن الظاهر أن هذه الألفاظ ليست ألفاظ الرسول عليه الصلاة والسلام قلت لما ثبت الظاهر من حال الراوي العدالة وقد أخبر بأنها ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم وجب تصديقه فيه ظاهرا والله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 القسم الثاني في الخبر الذي لا يقطع بكونه صدقا أو كذبا وفيه أبواب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 الباب الأول في إقامة الدليل على أنه حجة في الشرع اختلف الناس فيه فالأكثرون جوزوا التعبد به عقلا والأقلون منعوا منه عقلا أما المجوزون فمنهم من قال وقع التعبد به ومنهم من قال لم يقع التعبد به والذين قالوا وقع التعبد به اتفقوا عى أن الدليل السمعي دل عليه واختلفوا في ان الدليل العقلي هل دل عليه فذهب القفال وابن سريج منا وأبو الحسين البصري من المعتزلة إلى أن دليل العقل دل على وقوع التعبد به أما الجمهور منا ومن المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار فقد اتفقوا على أن دليل التعبد به السمع فقط وهو قول أبي جعفر الطوسي من الإمامية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 أما الذين قالوا لم يرد التعبد به فهم فرق ثلاث الأولى أنه لم يوجد ما يدل على كونه حجة فوجب القطع بأنه ليس بحجة والثانية أنه جاء في الأدلة السمعية ما يدل على أنه ليس بحجة والثالثة أن الدليل العقلي قائم على امتناع العمل به ثم إن الخصوم بأسرهم اتفقوا على جواز العمل بالخبر الذي لا تعلم صحته كما في الفتوى وفي الشهادة وفي الأمور الدنيوية لنا النص والإجماع والسنة المتواترة والقياس والمعقول أما النص فوجهان الأول قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين وجه الاستدلال أن الله تعالى أوجب الحذر بإخبار الطائفة والطائفة ها هنا عدد لا يفيد قولهم العلم ومتى وجب الحذر باخبار عدد لا يفيد قولهم العلم فقد وجب العمل بالخبر الذي لا نقطع بصحته وإنما قلنا إنه أوجب الحذر عند إخبار الطائفة لأنه أوجب الحذر بإنذار الطائفة والإنذار هو الإخبار وانما قلنا أنه أوجب الحذر بإنذار الطائفة لقوله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وكلمه لعل للترجي وذلك في حق الله تعالى محال وإذا تعذر حمله على ظاهره وجب حمله على المجاز وذلك لأن المترجي طالب للشئ فإذا كان الطلب لازما للترجي وجب حمل هذا اللفظ على الطلب فيلزم أن يكون الله طالبا للحذر وطلب الله تعالى هو الأمر فثبت أن الله تعالى أمر بالحذر عند انذار الطائفة وإنما قلنا إن الإنذار هو الإخبار لأنه عبارة عن الخبر المخوف والخبر داخل في الخبر المخوف فثبت أن الله تعالى أوجب الحذر عند إخبار الطائفة وإنما قلنا إن الطائفة ها هنا عدد لا يفيد قولهم العلم لأن كل ثلاثة فرقة والله تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة والطائفة من الثلاثة واحد أو اثنان وقول الواحد أو الإثنين لا يفيد العلم وإنما قلنا أنه تعالى لما أوجب الحذر عند خبر العدد الذي لا يفيد قولهم العلم وجب العمل بذلك الخبر لأن قوما إذا فعلوا فعلا وروي الراوي لهم خبرا يقتضي المنع من ذلك الفعل فإما أن يجب عليهم تركه عند سماع ذلك الخبر أو لا يجب فإن وجب فهو المراد من وجوب العمل بمقتضى ذلك الخبر وإذا ثبت وجوب العمل بمقتضى ذلك الخبر في هذه الصورة وجب العمل به في سائر الصور ضرورة أن لا قائل بالفرق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 وإن لم يجب الترك لم يجب الحذر وذلك ينافي ما دلت الآية عليه من وجوب الحذر فإن قيل لا نسلم أنه تعالى أوجب الحذر عند انذار الطائفة وأما قوله تعالى لعلهم يحذرون قلنا سلمتم أنه لا يمكن حمله على ظاهره فلم قلتم إنه يجب حمله على ذلك المجاز ولم لا يجوز حمله على مجاز اخر لا بد فيه من الدليل سلمنا وجوب الحذر عند الإنذار لكن لا نسلم أن الإنذار هو الإخبار فإن الإنذار من جنس التخويف فنحن نحمل الآية على التخويف الحاصل من الفتوى بل هذا أولى لأنه أوجب التفقه لأجل الإنذار والتفقه إنما يحتاج إليه في الفتوى لا في الرواية فإن قلت الحمل على الفتوى متعذر لوجهين الأول أنا لو حملناه على الفتوى لاختص لفظ القوم بغير المجتهدين لأن المجتهد لا يجوز له العمل بفتوى المجتهد لكن التقييد غير جائز لأن الآية مطلقة في وجوب إنذار القوم سواء كانوا مجتهدين أو لم يكونوا كذلك أما لو حلمناه ولا على رواية الخبر لا يلزمنا ذلك لأن الخبر كما يروي لغير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 المجتهد فقد يروي أيضا للمجتهد والثاني أن من شرب النبيذ فروى إنسان خبرا يدل على أن شاربة في النار فقد أخبره بخبر مخوف ولا معنى للإنذار إلا ذلك فصح وقوع اسم الإنذار على الرواية ثم بعد ذلك نقول لا يخلو إما ان لا يقع اسم الإنذار على الفتوى أو يقع فإن لم يقع فقد حصل الغرض من أن المراد من الانذار الرواية لا الفتوي وإن وقع لم يجز جعله حقيقة فيهما دفعا للاشتراك فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك وهو الخبر المخوف وعلى هذا التقدير يكون متناولا للرواية والفتوى جميعا وذلك مما لا يضرنا قلت الجواب عن الأول أنه كما يلزم من حمل الإنذار على الفتوى تخصيص لفظ القوم بغير المجتهد يلزم من حمله على الرواية تخصيص لفظ القوم بالمجتهد لإجماعنا على أنه لا يجوز للعامي أن يستدل بالحديث فالتقييد لازم عليكم كما أنه لازم علينا فعليكم الترجيح ثم أنه معنا لأن غير المجتهد أكثر من المجتهد والتقييد كلما كان أقل كان أولى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 وعن الثاني أنه إذا كان المراد من الإنذار القدر المشترك بين الفتوى والرواية والمأمور به إذا كان مشتركا فيه بين صور كثيرة كفى في الوفاء بمقتضى الأمر الاتيان بصورة واحدة من تلك الصور لأنه إذا كان المطلوب إدخال القدر المشترك بين الفتوى والرواية في الوجود وذلك المشترك يحصل في الفتوى فالقول بكون الفتوى حجة يكفي في العمل بمقتضى النص فلا تبقى للنص دلالة على وجوب العمل بالرواية سلمنا أن المراد من الانذار رواية الخبر فقط لكن لم لا يجوز أن يكون المراد رواية أخبار الأولين وكيفية ما فعل الله تعالى بهم لأن سماع أخبارهم يقتضي الاعتبار على ما قال الله تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب أو يكون المراد منه التنبيه على وجوب النظر والاستدلال سلمنا أن الآية تقتضي وجوب الحذر عند خبر الطائفة فلم قلت إن الطائفة اسم لعدد لا يفيد قولهم العلم قوله لأن كل ثلاثة فرقة والخارج من الثلاثة واحد أو اثنان قلنا لا نسلم أن كل ثلاثة فرقة فما الدليل ثم إن الذي يدل على بطلانه وجهان الأول أنه يقال الشافعية فرقة واحدة لا فرق ولو كان كل ثلاثة فرقة لما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 كان الشافعية واحدة بل فرقا الثاني أنه تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة للتفقه ولو كان كل ثلاثة فرقة لوجب أن يخرج من كل ثلاثة واحد وذلك باطل بالاتفاق سلمنا إن الطائفة اسم لعدد لا يفيد قولهم العلم فلم قلت إنه يقتضي وجوب الحذر بقول عدد لا يفيد قولهم العلم بيانه أن الطائفة عندكم اسم للواحد أو الإثنين وقوله ولينذوا قومهم ض مير جمع وأقل الجمع ثلاثة على ما تقدم فإذن قوله ولينذروا ليس عائدا إلى كل واحد من تلك الطوائف بل إلى مجموعها فلم قلت إن مجموع تلك الطوائف ما بلغوا حد التواتر سلمنا أن الآية تقتضي وجوب الحذر عند خبر من لا يفيد قولهم العلم فلم قلت إنها تقتضي وجوب العمل بذلك الخبر فإنا إنما نوجب عليهم ذلك الترك للاحتياط حتى أنه لو كان عاميا وجب عليه الرجوع إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 المفتي فإن أذن له جاز له العود اليه وإن كان مجتهدا نظر في سائر الأدلة فإن وجد فيها ما يقتضي المنع من ذلك الفعل امتنع منه وإلا جاز له العود إليه والجواب قوله لم قلت إنه يفيد وجوب الحذر قلنا لثلاثة أوجه الأول أنه لا يجوز حمله على ظاهره فوجب حمله على الأمر به قوله لم قلت ليس ها هنا مجاز اخر قلت لأن الأصل عدم المجاز فإذا وجد هذا المجاز الواحد فالظاهر عدم سائر المجازات الثاني أن قوله تعالى لعلهم يحذرون يقتضي إمكان تحقق الحذر في حقهم والحذر هو التوقي من المضرة والفعل الذي يقتضي خبر الواحد المنع منه قد لا يكون مضرا في الدنيا فلا بد وأن يكون مضرا في الآخرة وإلا لم يكن الحذر ممكنا ولا معنى لمضره لم الآخرة إلا العقاب فإذا كان هو بحال يحذر عنه وجب أن يكون بحال يترتب العقاب على فعله ولا معنى لقولنا خبر الواحد حجة إلا هذا القدر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 الثالث أن قوله تعالى لعلهم يحذرون إن لم يقتض وجوب الحذر فلا أقل من أن يقتضي حسن الحذر وذلك يقتضي جواز العمل بخبر الواحد والخصم ينكره فصار محجوجا به قوله لم لا يجوز أن يكون المراد الفتوى قلنا للوجهين المذكورين أحدهما أنا لو حملناه على الفتوى لزم تخصيص القوم بغير المجتهد قوله ولو حملناه على الرواية لزم تخصيصه بالمجتهد قلنا لا نسلم فإن الخبر كما يروي للمجتهد فقد يروى لغير المجتهد بلى لا يجوز لغير المجتهد أن يتمسك به ولكن ينتفع به من وجوه أخر منها أنه ينزجر عن فعله ويصير ذلك داعيا له إلى الرجوع إلى المفتي وربما بحث عنه واطلع على معناه الوجه الثاني انا نحمله على القدر المشترك قوله يكفي في العمل به ثبوته في صورة واحدة قلنا الجواب عنه من وجهين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 الأول أنه رتب وجوب الحذر على مسمى الإنذار الذي هو القدر المشترك فوجب كون هذا القدر المشترك علة للحكم فوجب أن يكون الحكم ثابتا أينما ثبت هذا المسمى والثاني أن قبل ورود هذه الآية إما أن يقال كان الأمر بقبول الفتوى واردا أو ما كان واردا فإن كان واردا لم يجز حمل هذه الآية عليه وإلا كان ذلك تكريرا من غير فائدة وإن قلنا إنه ما كان واردا وجب حمله على الأمر بالصورتين وإلا تطرق الإجمال إلى الآية وهو خلاف الأصل قوله لم لا يجوز أن يكون المراد من الانذار رواية أخبار الأولين قلنا الجواب عنه كما تقدم على السؤال الأول قوله لم قلت كل ثلاثة فرقة قلنا لأن الفرقة في أصل اللغة فعلة من فرق أو فرق كالقطعة من قطع أو قطع وكل شئ حصل الفرق أو التفريق فيه كان فرقة كما أن كل ما حصل القطع أو التقطيع فيه كان قطعة ولذلك من شق الخشبة يقال فرقها فرقا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 وإذا كان كذلك فالفرقة في اللغة تقع على كل واحد من الأشخاص حقيقة إلا أنا خصصناها في هذه الآية بالثلاثة حتى يمكن خروج الطائفة عنها فوجب أن تبقى حقيقة في الثلاثة قوله أصحاب الشافعي رضي الله عنه فرقة واحدة قلنا ذلك لأنهم بحسب المذهب امتازوا عن غيرهم فلأجل هذا الافتراق سموا فرقة واحدة أما بحسب الشخص فهم فرق قوله إن الله تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة للتفقه ولا يجب ذلك على كل ثلاثة قلنا ترك العمل به في حق هذا الحكم فيبقى معمولا به في الباقي قوله لم لا يجوز أن يكون المراد أن ينذر مجموع الطوائف قومهم قلنا هذا باطل لقوله إذا رجعوا إليهم لأنه لا يجوز أن يقال فلان رجع إلى ذلك الموضع إلا بعد أن كان فيه ومعلوم أن الطائفة من كل فرقة ما كانت في غير تلك الفرقة ولا يمكن أن يقال كل طائفة ترجع إلى كل الفرق بل إنما يمكن رجوعها إلى فرقتها الخاصة قوله الضمير في قوله ولينذروا ليس ضمير الواحد والإثنين قلنا هذا لا يضرنا لأنه تعالى قابل مجموع الطوائف بمجموع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 القوم فيتوزع البعض على البعض قوله لم قلت إنه يدل على وجوب الترك بذلك الخبر قلنا لما تقدم قوله يجب عليه الترك في الحال ليستفتى إن كان عاميا وليتأمل إن كان مجتهدا قلنا هذا باطل لأن العامي لا يجوز له الإقدام على الفعل إلا بعد أن يعلم أولا جواز ذلك الفعل من جهة المفتي ومتى علم الفتوى لم يجب عليه الاستفتاء مرة أخرى وأما المجتهد فإن كان خبر الواحد حجة عليه فهو المطلوب وإن لم يكن دليلا لم يجب عليه التوقف لانعقاد الإجماع على أن الذي لا يكون دليلا لا يمنعه عن فعل ما ثبت له جواز فعله بدليل متقدم المسلك الثاني لو وجب في خبر الواحد إن لا يقبل لما كان كون خبر الفاسق غير مقبول معللا بكونه فاسقا لكنه معلل به فلم يجب في خبر الواحد إن لا يقبل فإذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 لم يجب أن لا يقبل جاز قبوله في الجملة وهو المقصود بيان الملازمة أن كون الراوي الواحد واحدا أمر لازم لشخصه المعين يمنع خلوه عنه عقلا وأما كونه فاسقا فهو وصف عرضي يطرى ويزول واذا اجتمع في المحل وصفان أحدهما لازم والآخر عرضي مفارق وكان كل واحد منهما مستقلا باقتضاء الحكم كان الحكم لا محالة مضافا إلى اللازم لأنه كان حاصلا قبل حصول المفارق وموجبا لذلك الحكم وحين جاء المفارق كان ذلك الحكم حاصلا بسبب ذلك اللازم وتحصيل الحاصل مرة أخرى محال فيستحيل إسناد ذلك الحكم إلى ذلك المفارق مثاله يستحيل أن يقال الميت لا يكتب لعدم الدواة والقلم عنده لأن الموت لما كان وصفا لازما مستقلا بامتناع صدور الكتابة عنه لم يجز تعليل امتناع الكتابة بالوصف العرضي وهو عدم الدواة والقلم وإنما قلنا إنه معلل به لقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أمر بالتثبت مرتبا على كونه فاسقا والحكم المرتب على الوصف المشتق المناسب يقتضي كونه معللا بما منه الاشتقاق ولا شك في أن الفسق يناسب عدم القبول فثبت بما ذكرنا أن خبر الواحد لو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 وجب أن لا يقبل لامتنع تعليل أن لا يقبل خبر الفاسق بكونه فاسقا وثبت أنه معلل به فخبر الواحد لا يجب أن لا يقبل فهو إذن مقبول في الجملة ومن الناس من تمسك بالآية على وجه آخر وهو أنه تعالى أمر بالتثبت بشرط أن يكون الخبر صادرا عن الفاسق والمشروط بالشئ عدم عند عدم الشرط فوجب أن لا يجب التثبت إذا لم يوجد مجئ الفاسق فإذا جاء غير الفاسق ولم يتثبت فإما أن يجزم بالرد وهو باطل وإلا كان خبر العدل أسوأ حالا من خبر الفاسق وهو باطل بالإجماع فيجب القبول وهو المطلوب المسلك الثالث السنة المتواترة وهو ما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث رسله إلى القبائل لتعليم الأحكام مع أن كل واحد من أولئك الرسل ما كانوا بالغين حد التواتر واعترض أبو الحسين البصري على هذه الدلالة بسؤال واقع فقال كان يبعثهم إلى القبائل للفتوى أو لرواية الخبر الأول مسلم والثاني ممنوع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 بيانه أن العوام في القبائل كانوا أكثر من المجتهدين فكانت حاجتهم إلى الفتوى أشد من حاجتهم إلى من يروى لهم الخبر ليحتجوا به وبالجملة هب أن هذا الاحتمال ليس أظهر لكن لا بد من قيام الدلالة على قطع هذا الإحتمال ليتم الاستدلال المسلك الرابع الإجماع العمل بخبر الواحد الذي لا يقطع بصحته مجمع عليه بين الصحابة فيكون العمل به حقا إنما قلنا إنه مجمع عليه بين الصحابة لأن بعض الصحابة عمل بالخبر الذي لا يقطع بصحته ولم ينقل عن أحد منهم إنكار على فاعله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 وذلك يقتضي حصول الإجماع وإنما قلنا إن بعض الصحابة عمل به لوجهين الأول وهو أنه روى بالتواتر أن يوم السقيفة لما احتج أبو بكر رضي الله عنه على الأنصار بقوله عليه الصلاة والسلام الأئمة من قريش مع أنه مخصص لعموم قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قبلوه ولم ينكر عليه أحد ولم يقل له أحد كيف تحتج علينا بخبر لا نقطع بصحته فلما لم يقل أحد منهم ذلك علمنا أن ذلك كان كالأصل المقرر عندهم الثاني الاستدلال بأمور لا ندعي التواتر في كل واحد منها بل في مجموعها وتقريره أن نبين أن الصحابة عملوا على وفق خبر الواحد ثم نبين أنهم إنما عملوا به لا بغيره أما المقام الأول فبيانه من وجوه الأول رجوع الصحابة إلى خبر الصديق في قوله عليه الصلاة والسلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 الأنبياء يدفنون حيث يموتون وفي قوله الأئمة من قريش وفي قوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث وإلى كتابه في معرفة نصب الزكوات ومقاديرها الثاني روي أن أبا بكر رضي الله عنه رجع في توريث الجدة إلى خبر المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة ونقل عنه أيضا أنه قضى بقضية بين أثنين فأخبره بلال أنه عليه الصلاة والسلام قضى فيها بخلاف قضاءه فرجع اليه الثالث روي أن عمر رضي الله عنه كان يجعل في الأصابع نصف الدية ويفصل بينها فيجعل في الخنصر ستة وفي البصر تسعة وفي الوسطى والسبابة عشرة عشرة وفي الأبهام خمسة عشر فلما روي له في كتاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 عمرو بن حزم أن في كل أصبع عشرة رجع عن رأيه الرابع وقال في الجنين رحم اله امرأ سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئا فقام إليه حمل بن مالك فأخبره بأن الرسول عليه الصلاة والسلام قضى فيه بغرة فقال عمر لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغيره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 الخامس أنه كان لا يرى ثوريث حدثنا المرأة من دية زوجها فأخبره الضحاك أنه عليه الصلاة والسلام كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فرجع إليه السادس تظاهرت الرواية أن عمر قال في المجوس ما أدري ما أصنع بهم فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب فأخذ منهم الجزية وأقر هم على دينهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 السابع أنه ترك العمل برأيه في بلاد الطاعون بخبر عبد الرحمن الثامن روي عن عثمان أنه رجع إلى قول فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري حين قالت جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأذنه بعد وفاة زوجي في موضع العدة فقال صلى الله عليه وسلم امكثي في بيتك حتى تنقضي عدتك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 ولم ينكر عليها الخروج للاستفتاء فأخذ عثمان بروايتها في الحال وفي أن المتوفى عنها زوجها تعتد في منزل الزوج ولا تخرج ليلا وتخرج نهارا إن لم يكن لها من يقوم بأحوالها التاسع اشتهر عن علي رضي الله عنه أنه كان يحلف الراوي وقبل رواية أبي بكر رضي الله عنه من غير حلف وأيضا قبل رواية المقداد بن الأسود في حكم المذي العاشر رجوع الجماهير إلى قوم عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 التقاء الختانين الحادي عشر رجوع الصحابة في الربا إلى خبر أبي سعيد الثاني عشر قال ابن عمر كنا نخابر أربعين سنة ولا نرى به بأسا حتى روى لنا رافع بن خديج نهيه عليه الصلاة والسلام عن المخابرة الثالث عشر قال أنس كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب إذا أتانا آت فقال حرمت الخمر فقال أبو طلحة قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها فقمت فكسرتها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 الرابع عشر اشتهر عمل أهل قباء في التحول عن القبلة بخبر الواحد الخامس عشر قيل لابن عباس رضي الله عنهما إن فلان يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني اسرائيل فقال ابن عباس كذب عدو الله أخبرني أبي بن كعب قال خطب بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر موسى والخضر بشئ يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني اسرائيل السادس عشر عن أبي الدرداء أنه لما باع معاوية شيئا من أواني الذهب والفضة بأكثر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 من وزنها قال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه فقال معاوية لا أرى به بأسا فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية أخبره عن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أبدا فهذه الأخبار قطرة من بحر هذا الباب ومن طالع كتب الأخبار وجد فيها من هذا الجنس ما لا حد له ولا حصر وكل واحد منها وإن لم يكن متواترا لكن القدر المشترك فيه بين الكل وهو العمل على وفق الخبر الذي لا تعلم صحته معلوم فصار ذلك متواترا في المعنى وأما المقام الثاني وهو أنهم انما عملوا على وفق هذه الأخبار لأجلها فبيانه من وجهين الأول لو لم يعلموا لأجلها بل لأمر آخر إما لاجتهاد تجدد لهم أو ذكروا شيئا سمعوه من الرسول عليه الصلاة والسلام لوجب من جهة العادة والدين أن يظهروا ذلك أما العادة فلأن الجمع العظيم إذا اشتد اهتمامهم بأمر قد التبس ثم زال اللبس عنهم فيه لدليل سمعوه أو لرأي حدث فيه فإنه لا بد لهم من إظهار ذلك الدليل والاستبشار بسبب الظفر به والتعجب من ذهاب ذلك عليهم فإن جاز في الواحد أن لا يظهر له ذلك لم يجز في الكل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 أما الدين فلأن سكوتهم عن ذكر ذلك الدليل وعملهم عند الخبر بموجبه يوهم أنهم عملوا لأجله كما يدل عملهم بموجب اية سمعوها على أنهم عملوا لأجلها وايهام الباطل غير جائز كما أنه لو قال لهم قائل احكموا في هذه المسألة بمجرد شهوتي فتذكروا عند ذلك خبرا سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحسن من جهة الدين أن لا يبينوا أنهم إنما حكموا لذلك الدليل لا لشهوة ذلك القائل الثاني أن طلب أبي بكر من المغيرة رضي الله عنهما شاهدا في إرث الجدة دليل على أنه كان يرى أن الحكم متعلق بروايتهما ولأن عمر رضي الله عنه قال في الجنين لولا هذا لقضينا فيه برأينا وترك رأيه في دية الأصابع بالخبر الذي سمعه وصرح ابن عمر برجوعهم عن المخابرة بخبر رافع وصرحوا بأنهم رجعوا إلى وجوب الغسل بالتقاء الختانين لأجل قول عائشة رضي الله عنها فثبت بمجموع هذين المقامين إن بعض الصحابة عمل بالخبر الذي لم يعلم صدقه وأما بيان المقدمتين الباقيتين وهو أنه لم يظهر من أحد منهم الإنكار وأنه متى كان كذلك انعقد الإجماع فتقريره سيأتي إن شاء الله تعالى في مسألة القياس فإن قيل لا نسلم عمل بعض الصحابة على وفق الخبر الذي لم تعلم صحته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 أما دعوى الضرورة فممنوعة قال المرتضى إن الضرورة لا يختص بها البعض مع المشاركة في طريقها والإمامية وكل مخالف في خبر الواحد من النظام وجماعة من شيوخ المتكلمين يخالفونهم فيما ادعوا فيه الضرورة مع الاختلاط بأهل الأخبار ويقسمون على انهم لا يعلمون ذلك ولا يظنونه فإن كذبتموهم ابن فعلتم ما لا يحسن وكلموكم قوله بمثله وأما الاستدلال فضعيف لأن الروايات التي ذكرتموها وإن بلغت المائة والمائتين فهي غير بالغة إلى حد التواتر فلا تفيد العلم ويرجع حاصله إلى إثبات خبر الواحد بخبر الواحد سلمنا صحة هذه الروايات لكن لا نسلم أنهم عملوا بتلك الأخبار ولم لا يجوز أن يقال إنهم لما سمعوا تلك الأخبار تذكروا دليلا دلهم على تلك الأحكام قوله لو كان كذلك لوجب إظهاره من جهة الدين والعادة قلنا لا نزاع في أن ما ذكرتموه هو الاحتمال الأظهر لكن القطع بوجوبه على كل حال ممنوع والمسألة قطعية فلا يجوز بناؤها على مقدمة ظنية سلمنا عمل بعض الصحابة بهذه الأخبار لكن لا نسلم سكوت الكل عن الإنكار فما الدليل عليه ثم نقول إنهم أنكروه في صور إحداها توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوبل خبر ذي اليدين إلى أن شهد له أبو بكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 وعمر رضي الله عنهما وثانيها رد أبي بكر خبر المغيرة في توريث الجدة حتى أخبره محمد بن مسلمة وثالثها رد أبو بكر وعمر خبر عثمان فيما رواه من إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد الحكم بن أبي العاص حتى طالباه بمن يشهد معه به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 ورابعها رد عمر رضي الله عنه خبر أبي موسى الأشعري حتى شهد له أبو سعيد الخدري وخامسها رد عمر خبر فاطمة بنت قيس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 وسادسها رد علي خبر أبي سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق وأيضا فقد ظهر عنه تحليف الرواة وسابعها رد عائشة خبر بن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه وثامنها أن عمر منع أبا هريرة من الرواية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 سلمنا سكوتهم عن الإنكار لكن السكوت إنما يدل على الإجماع إذا صدر عن الرضا فلم قلت إن الأمر كذلك بل ها هنا احتمالات أخر سوى الرضا من التقية والخوف سلمنا إجماعهم على قبول الخبر الذي لا يعلم صحته لكن دل على أنهم قبلوا جميع أنواع الخبر الذي يكون كذلك أو على أنهم قبلوه في الجملة والأول ظاهر الفساد والثاني يقدح في غرضكم لأنهم لما اتفقوا على قبول نوع من أنواع الخبر الذي لا تعلم صحته لم يلزم من إجماعهم على قبول ذلك النوع إجماعهم على قبول سائر الأنواع لاحتمال أن يأمر الله تعالى بالعمل بذلك النوع دون النوع الآخر ثم إنه لما لم ينقل إلينا ذلك النوع الذي أجمعوا على قبوله لم يعرف ذلك النوع فإذن لا نوع من أنواع خبر الواحد إلا ولا يدري أنه هل هو ذلك النوع الذي أجمعوا على قبوله أو غيره وإذا كان كذلك وجب التوقف في الكل سلمنا أن النوع الذي أجمعوا على العمل به معلوم فلم قلت إنه لما جاز لهم العمل بخبر الواحد جاز لنا بيانه أن الصحابة كانوا قد شاهدوا الرسول عليه الصلاة والسلام وعرفوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 مجاري كلامه ومناهج أموره وإشاراته وعرفوا أحوال أولئك الرواة في العدالة وعدمها في الأفعال الموجبة للعدالة والأفعال المنافية لها وإذا كان كذلك كان ظنهم بصدق تلك الأخبار وعدالة الرواة أقوى من ظن من لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم ألبته ولا سمع كلامه ولم يشاهد حال أولئك الرواة فلم يعرف عدالتهم ولا فسقهم إلا بالروايات المتباعدة والوسائط الكثيرة وإذا كان كذلك فلم قلت إن انعقاد الإجماع على قبول الخبر الذي لا يقطع بصحته عند حصول الظن القوي في صحته يوجب قبوله عندما لا يحصل ذلك الظن القوي فإن قلت أن كل من قال بقبول بعض هذه الأنواع في بعض الأزمنة قال بقبوله في كل نوع وفي كل زمان قلت هذه الحجة إنما تنفع في زمان التابعين وقد بينا في أول باب الإجماع أنه لا سبيل إلى القطع بهذا الإجماع لكثرة المسلمين وتفرقهم في الشرق والغرب والجواب إما دعوى الضرورة فلما مر تقريرها من أنه نقل إلينا بالتواتر حضور أبي بكر مع الأنصار يوم السقيفة وتمسكه عليهم بقوله عليه الصلاة والسلام الأئمة من قريش ولم ينكر عليه أحد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 فأما قول المرتضى إن النظام وجمعا من شيوخ المعتزلة والقاشاني والإمامية ينكرون ذلك ويقسمون بالله إنهم لا يجدون علما ولا ظنا قلنا رواية المذاهب لا تجوز بالتشهي واليمين والنظام ما أنكر ذلك بل سلم إلا أنه قال إجماع الصحابة ليس بحجة على ما حكيناه قبل ذلك وكذا قول سائر شيوخ المعتزلة وأما الإمامية فالأخباريون له منهم مع أن كثرة الشيعة في قديم الزمان ما كانت إلا منهم فهم لا يعولون في أصول الدين فضلا عن فروعه إلا على الأخبار التي يروونها عن أئمتهم وأما الأصوليون فأبو جعفر الطوسي وافقنا على ذلك فلم يبق ممن ينكر العلم هذا إلا المرتضى مع قليل من أتباعه فلا يستبعد اتفاق مثل هذا الجمع على المكابرة في الضروريات ومما يحقق ذلك أنه قال إنهم يقسمون بالله على انهم لا يعلمون بل لا يظنون ونحن نعلم بالضرورة أن هذه الروايات وإن تقاصرت عن العلم إلا أنها ما تقاصرت عن الظن فعلمنا أن غرض المرتضى مما ذكر محض المكابرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 قوله لم لا يجوز أن يقال إنهم عند سماع هذه الأخبار تذكروا دليلا آخر قلنا لما ذكرنا أن الدين والعادة يوجبان إظهار ذلك الدليل قوله ما الدليل عليه قلنا الرجوع فيه إلى العرف فإنا نعلم بالضرورة أن الجمع العظيم إذا اشتبه عليهم أمر من الأمور ثم أنهم عند سماع شئ يوهم أنه هو الدليل تذكروا شيئا اخر هو الدليل حقيقة فإنه يستحيل اتفاقهم بأسرهم على السكوت عن ذكر ذلك الدليل ورفع ذلك الوهم الباطل قوله من الصحابة من رد خبر الواحد قلنا الجواب عنه من وجهين الأول أن الذين نقلتم عنهم أنهم لم يقبلوا خبر الواحد هم الذين نقلنا عنهم أنهم قبلوا فلا بد من التوفيق وما ذاك إلا أن يقال إنهم قبلوا خبر الواحد إذا كان مع شرائط مخصوصة وردوها عند عدم تلك الشرائط الثاني أن الروايات التي ذكرتموها كما دلت على ردهم خبر الواحد دلت على قبولهم خبر الإثنين والثلاثة ونحن لم ندع في هذا المقام إلا قبول الخبر الذي لا تقطع بصحته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 فأما الأسئلة الثلاثة الأخيرة فالجواب عنها سيأتي في مسألة القياس إن شاء الله تعالى المسلك الخامس القياس أجمعوا على أن الخبر الذي لا يقطع بصحته مقبول في الفتوى والشهادات فوجب أن يكون مقبولا في الروايات والجامع تحصيل المصلحة المظنونة أو دفع المفسدة المظنونة بل الروايات أولى بالقبول من الفتوى لأن الفتوى لا تجوز إلا إذا سمع المفتي دليل ذلك الحكم وعرف كيفية الاستدلال به وذلك دقيق صعب يغلط فيه الأكثرون أما الرواية فلا يحتاج فيها إلا إلى السماع فإذن الرواية أحد أجزاء الفتوى فإذا كانت الفتوى مقبولة من الواحد فلأن تكون الرواية مقبولة كان أولى فإن قيل هذا قياس وأنه لا يفيد اليقين على ما تقدم ثم نقول الفرق بين الفتوى والشهادة وقبول خبر الواحد من وجهين الأول وهو أن العمل بخبر الواحد يقتضي صيرورة ذلك الحكم شرعا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 عاما في حق كل الناس والعمل بالشهادة والفتوى ليس كذلك ولا يلزم من تجويز العمل بالظن الذي قد يخطئ وقد يصيب في حق الواحد تجويز العمل به في حق عامة الخلق الثاني العمل بالفتوى ضروري لأنه لا يمكن تكليف كل واحد في كل واقعة بالاجتهاد وكذا الشهادة ضرورية في الشرع لأجل تمييز المحق عن الباطل () أما العمل بخبر الواحد فغير ضروري لأنا إن وجدنا في المسألة دليلا قاطعا عملنا به وإلا رجعنا إلى البراءة الأصلية ولا يلزم من جواز العمل بالظن عند الضرورة جواز العمل به لا عند الضرورة وأنه قياس فاسد والجواب أما السؤال الأول فحق وأما الفرق الأول فملغي ذلك بشرعية أصل الفتوى فإنه أمر لكل باتباع الظن وأما الفرق الثاني فضعيف لأنه لا ضرورة في الرجوع إلى الشهادة والفتوى لإمكان الرجوع إلى البراءة الأصلية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 المسلك السادس دليل العقل وهو أن العمل بخبر الواحد يقتضي دفع ضرر مظنون فكان العمل به واجبا بيان المقدمة الأولى أن الراوي العدل إذا أخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر بهذا الفعل حصل ظن أنه وجد الأمر وعندنا مقدمة يقينية أن مخالفة الأمر سبب لاستحاق محمد العقاب فحينئذ يحصل من ذلك الظن وذلك العلم ظن أنا لو تركنا قوله لصرنا مستحقين للعقاب فوجب أن يجب العمل به لأنه إذا حصل الظن الراجح والتجويز المرجوح فإما أن يجب العمل بهما وهو محال أو يجب تركهما وهو محال أو يجب ترجح المرجوح على الراجح وهو باطل بضرورة العقل او ترجيح الراجح على المرجوح وحينئذ يكون العمل بمقتضى خبر الواحد واجبا واعلم أن هذه الطريقة يتمسك بها في مسألة القياس ونستقصي إلى الكلام فيها سؤالا وجوابا إن شاء الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 وأما المنكرون فمنهم من عول على العقل ومنهم من عول على النقل أما العقل فمن وجوه أحدها لو جاز أن يقول الله تعالى مهما غلب على ظنكم صدق الراوي فاعملوا بمقتضى خبره جاز أن يقول الله تعالى أيضا مهما غلب على ظنكم صذق كان المدعي للرسالة فاقبلوا شرعه وأحكامه لأنا في كلتا الصورتين نكون عاملين بدليل قاطع وهو إيجاب الله تعالى علينا العمل بالظن أو إيجاب العقل علينا ذلك ولما لم يجز ذلك هناك فكذا ها هنا وثانيها لو جاز التعبد بأخبار الآحاد في الفروع لجاز التعبد بها في الأصول حتى يكتفي في معرفة الله تعالى بالظن وثالثها الشرعيات مصالح والخبر الذي يجوز كذبه لا يمكن التعويل عليه في تحصيل المصالح فإن قلت لم لا يجوز أن تكون المصلحة هي إيقاع ذلك الفعل المظنون قلت كون الفعل مصلحة إما أن يكون بسبب ذلك الظن أولا بسببة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 والأول باطل لأنه لو جاز أن يوثر ظننا في صيرورة ما ليس بمصلحة مصلحة لجاز أن يؤثر ظننا بمجرد التشهي في ذلك حتى يحسن من الله تعالى أن يقول أطلقت لك في أن تحكم بمجرد التشهي من غير دليل ولا أمارة ومعلوم أنه باطل وأما الثاني فنقول إذا كان كون الفعل مصلحة ليس تابعا لظننا فيجوز أن يكون الظن مطابقا وأن لا يكون فيكون الإذن في العمل بالظن إذنا في فعل ما لا يجوز فعله وإنه غير جائز وأما المعولون أو على النقل فقد تمسكوا بقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون إن الظن لا يغني من الحق شيئا والجواب عن الوجوه العقلية أنها منقوضة بالعمل بالظن في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية فان من أخبر أن هذا الطعام مسموم وحصل ظن صدقه فإنه لا يجوز تناوله ثم إنا نطالبهم فيها بالجامع العقلي اليقيني ثم ببيان امتناع الجامع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 وأيضا ينتقض بتعويل) أهل العالم على الظن في أمر الأغذية والأشربة والعلاجات والأسفار والأرباح وأما التمسك بالآيات فسيأتي الجواب عنها في القياس إن شاء الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 الباب الثاني في شرائط العمل بهذه الأخبار وهذه الشرائط إما أن تكون معتبرة في المخبر أو المخبر عنه أو الخبر القسم الأول في المخبر وهو مرتب على فصول ثلاثة الفصل الأول في الأمور التي يجب وجودها حتى يحل للسامع أن يقبل روايته والضابط فيه كونه بحيث يكون اعتقاد صدقه راجحا على اعقاد عبد كذبه ثم نقول تلك الأمور خمسة الأول أن يكون عاقلا فإن المجنون والصبي غير المميز لا يمكنه الضبط والاحتراز عن الخلل والثاني أن يكون مكلفا وفيه مسألتان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 المسألة الأول رواية الصبي غير مقبولة لثلاثة أوجه الأول أن رواية الفاسق لا تقبل فأولى أن لا تقبل رواية الصبي فإن الفاسق يخاف الله تعالى والصبي لا يخاف الله تعالى ألبتة الثاني أنه لا يحصل الظن بقوله فلا يجوز العمل به كالخبر عن الأمور الدنيوية الثالث الصبي إن لم يكن مميزا لا يمكنه الاحتراز عن الخلل وإن كان مميزا علم أنه غير مكلف فلا يحترز عن الكذب فإن قلت أليس يقبل قوله في إخباره عن كونه متطهرا حتى يجوز الاقتداء به في الصلاة قلت ذلك لأن صحة صلاة المأموم غير موقوفة على صحة صلاة الإمام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 المسألة الثانية إذا كان صبيا عند التحمل بالغا عند الرواية قبلت روايته لوجوه أربعة الأول إجماع الصحابه فإنهم قبلوا رواية ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير رضي الله عنهم من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ أو بعده الثاني إجماع الكل على إحضار الصبيان مجالس الرواية الثالث أن إقدامه على الرواية عند الكبر يدل ظاهرا على ضبطه للحديث الذي سمعه حال الصغر الرابع أجمعنا على أنه تقبل منه الشهادة التي تحملها حال الصغر فكذا الرواية والجامع أنه حال الأداء مسلم عاقل بالغ يحترز من الكذب الشرط الثالث أن يكون مسلما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 وفيه مسألتان المسألة الأولى الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة أجمعت الأمة على أنه لا تقبل روايته سواء علم من دينه المبالغة في الاحتراز عن الكذب أو لم يعلم المسألة الثانية المخالف من أهل القبلة إذا كفرناه كالمجسم وغيره هل تقبل روايته أم لا الحق أنه إن كان مذهبه جواز الكذب لم تقبل روايته وإلا قبلناها وهو قول أبي الحسين البصري وقال القاضي أبو بكر والقاضي عبد الجبار لا تقبل روايتهم لنا أن المقتضي للعمل به قائم ولا معارض فوجب العمل به بيان أن المقتضي قائم أن اعتقاده تحريم الكذب يزجره عن الإقدام عليه فيحصل ظن صدقه فيجب العمل به على ما بيناه وبيان أنه لا معارض أنهم أجمعوا على إن الكافر الذي ليس من أهل القبلة لا تقبل روايته وذلك الكفر منتف ها هنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 واحتج أبو الحسين بأن كثيرا من أصحاب الحديث قبلوا أخبار سلفنا كالحسن وقتادة وعمرو بن عبيد مع علمهم بمذهبهم وإكفارهم من يقول بقولهم واحتج المخالف بالنص والقياس أما النص فقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أمر بالتثبت عند نبأ الفاسق وهذا كافر فوجب التثبت عند خبره وأما القياس فأجمعنا على إن الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة لا تقبل روايته فكذا هذا الكافر والجامع أن قبول الرواية تنفيذ لقوله على كل المسلمين وهو منصب شريف والكفر يقتضي الإذلال وبينهما منافاة أقصى ما في الباب أن يقال هذا الكافر جاهل بكونه كافرا لكنه لا يصلح عذرا لأنه ضم إلى كفره جهلا اخر وذلك لا يوجب رجحان حاله على الكافر الأصلي والجواب عن الأول أن اسم الفاسق في عرف الشرع مختص بالمسلم المقدم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 على الكبيرة وعن الثاني الفرق بين الموضعين أن كفر الخارج عن الملة أعظم من كفر صاحب التأويل فقد رأينا الشرع فرق بينهما في أمور كثيرة مع ظهور الفرق لا يجوز الجمع الشرط الرابع العدالة وهي هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفس بصدقه ويعتبر فيها الاجتناب عن الكبائر وعن بعض الصغائر كالتطفيف في الحبة وسرقة باقة من البقل وعن المباحاث عليه القادحة في المروءة كالأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأراذل والإفراط في المزاح والضابط فيه أن كل ما لا يؤمن معه جرأته على الكذب ترد به الرواية وما لا فلا ويتفرع على هذا نوعان من الكلام النوع الأول في أحكام العدالة وفيه مسائل المسألة الأولى الفاسق اذا أقدم على الفسق فإن علم كونه فسقا لم تقبل روايته بالإجماع وإن لم يعلم كونه فسقا فكونه فاسقا إما أن يكون مظنونا أو مقطوعا فإن كان مظنونا قبلت روايته بالاتفاق قال الشافعي رضي الله عنه أقبل شهادة الحنفي وأحده إذا شرب النبيذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 وإن كان مقطوعا به قبلت روايته أيضا قال الشافعي رضي الله عنه أقبل رواية أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 وقال القاضي أبو بكر لا تقبل لنا أن ظن صدقه راجح والعمل بهذا الظن واجب والمعارض المجمع عليه منتف فوجب العمل به واحتج الخصم بأن منصب الرواية لا يليق بالفاسق أقصى ما في الباب أنه جهل فسقه ولكن جهله بفسقه فسق آخر فإذا منع أحد الفسقين من قبول الرواية فالفسقان أبي أولى بذلك المنع والجواب أنه إذا علم كونه فسقا دل إقدامه عليه على اجترائه على المعصية بخلاف ما إذا لم يعلم ذلك المسألة الثانية المخالف الذي لا نكفره ولكن ظهر عناده لا تقبل روايته لأن المعاند يكذب مع علمه بكونه كذبا وذلك يقتضي جرأته على الكذب فوجب أن لا تقبل روايته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 المسألة الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه رواية المجهول غير مقبولة بل لا بد فيه من خبرة ظاهرة والبحث عن سيرته وسريرته وقال أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه يكفي في قبول الرواية الإسلام بشرط سلامة الظاهر عن الفسق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 لنا أوجه الأول الدليل ينفي العمل بخبر الواحد لقوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا خالفناه في حق من اختبرناه لأن الظن هناك أقوى فيبقى في المجهول على الأصل الثاني الدليل ينفي جواز العمل بخبر الواحد إلا إذا قطعنا بأن الراوي ليس بفاسق ترك العمل به فيما غلب على ظننا أنه ليس بفاسق بسبب كثرة الاختبار فيبقى فيما عداه على الأصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 بيان الثاني أن عدم الفسق شرط جواز الرواية فوجب أن يكون العلم به شرطا لجواز الرواية وإنما قلنا أن عدم الفسق شرط جواز الرواية لقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وهو صريح في المنع من قبول رواية الفاسق وإنما قلنا إن عدم الفسق لما كان شرطا لجواز الرواية وجب ان يكون العلم به شرطا لجواز الرواية لأن الجهل بالشرط يوجب الجهل بالمشروط وبيان الفارق أن العدالة أمر كامن في الباطن لا اطلاع عليه حقيقة بل الممكن فيه الاستدلال بالأفعال الظاهرة وذلك وإن لم يفد العلم لكنه يفيد الظن ثم الظن الحاصل بعد طول الاختبار أقوى من الظن الحاصل قبله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 وإذا كان كذلك لم يلزم من مخالفة الدليل عند وجود المعارض القوي مخالفته عند وجود المعارض الضعيف الثالث أجمعنا على أنه لما كان الصبا والرق والكفر وكونه محدودا في القذف مانعا من الشهادة لا جرم اعتبر في قبول الشهادة العلم بعدم هذه الأشياء ظاهرا فوجب أن يكون الأمر كذلك في العدالة والجامع الاحتراز عن المفسدة المحتملة الرابع إجماع الصحابة رضي الله عنهم على رد رواية المجهول رد عمر رضي الله عنه خبر فاطمة بنت قيس وقال كيف نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ورد علي رضي الله عنه خبر الأشجعي في المفوضة وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحلف الراوي ثم أن أحدا من الصحابة ما أظهر الإنكار على ردهم وذلك يقتضي حصول الإجماع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 واحتج المخالف بأمور أحدها أنه يقبل قول المسلم في كون اللحم لحم المذكى وفي كون الماء في الحمام طاهرا وفي كون الجارية المبيعة رقيقة وفي كون المرأة غير مزوجة ولا معتدة وفي كونه على الوضوء إذا أم الناس وفي إخباره للأعمى عن القبلة فكذا ها هنا وثانيها أن الصحابة قبلت قول العبيد والصبيان والنسوان لأنهم عرفوهم لا بالاسلام وما عرفوهم بالفسق وثالثها أنه عليه الصلاة والسلام قبل شهادة الأعرابي على رؤية الهلال مع أنه لم يظهر منه إلا الإسلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 ورابعها قوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا والمعلق على شرط عدم عند عدم الشرط فما لم يعلم فسقه لم يجب التثبت والجواب عن الأول لم قلتم إنه لما قبل قول المجهول في تلك الصور قبل قوله في الرواية والفرق أن منصب الرواية أعلى من تلك المناصب فإن ألغوا هذه الزيادة بإيماء قوله عليه الصلاة والسلام نحن نحكم بالظاهر قلنا ترك العمل بهذا الإيماء في الكفر والحرية فكذا ها هنا وعن الثاني لا نسلم أن الصحابة قبلت قول المجاهيل فإن هذا هو نفس المسألة وعن الثالث لا نسلم أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يعرف من حال ذلك الأعرابي إلا مجرد الاسلام وعن الرابع لما وجب التوقف عند قيام المفسق وجب أن نعرف أنه في نفسه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 هل هو فاسق أم لا حتى يمكننا أن نعرف أنه هل يجب التوقف في قوله أم لا النوع الثاني في طريق معرفة العدالة والجرح وهو أمران احدهما الاختبار وثانيهما التزكية والمقصود ها هنا بيان احكام التزكية والجرح وفيه مسائل المسألة الأولى شرط بعض المحدثين العدد في المزكي والجارح في الرواية والشهادة وقال القاضي أبو بكر لا يشترط العدد في تزكية الشاهد ولا في تزكية الراوي وإن كان الأحوط في الشهادة الاستظهار بعدد المزكي وقال قوم يشترط في الشهادة دون الرواية وهو الأظهر لأن العدالة التي تثبت بها الرواية لا تزيد على نفس الرواية وشرط الشئ لا يزيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 على أصله فالإحصان يثبت بقول اثنين وإن لم يثبت الزنا إلا بقول اربعة وكذلك نقول تقبل تزكية العبد والمرأة في الرواية كما يقبل قولهما المسألة الثانية قال الشافعي رضي الله عنه يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل لأنه قد يجرح بما لا يكون جارحا لاختلاف المذاهب فيه وأما العدالة فليس لها إلا سبب واحد وقال قوم يجب ذكر سبب التعديل دون الجرح لأن مطلق الجرح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى الثناء على الظاهر فلا بد من سبب وقال قوم لا بد من السبب فيهما جميعا أخذا بمجامع كلام الفريقين وقال القاضي أبو بكر لا يجب ذكر السبب فيهما جميعا لأنه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن لم تصح تزكيته وإن كان بصيرا فلا معنى للسؤال والحق أن هذا يختلف باختلاف أحوال المزكي فإن علمنا كونه عالما بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإطلاقه وإن علمنا عدالته في نفسه ولم نعرف اطلاعه على شرائط الجرح والتعديل استخبرناه (عن أسباب الجرح والتعديل المسألة الثالثة إذا تعارض الجرح والتعديل قدمنا الجرح لأنه اطلاع على زيادة لم يطلع عليها المعدل ولا نفاها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 فإن نفاها بطلت عدالة المزكي إذا النفي لا يعلم اللهم إلا إذا جرحه بقتل انسان فقال المعدل رأيته حيا فها هنا يتعارضان وعدد المعدل إذا زاد قيل إنه يقدم على الجارح وهو ضعيف لأن سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على زيادة فلا ينتفي ذلك بكثرة العدد المسألة الرابعة للتزكية مراتب أربعة أعلاها أن يحكم بشهادته والثانية أن يقول هو عدل لأني عرفت منه كيت وكيت فإن لم يذكر السبب وكان عارفا بشروط العدالة كفى والثالثة أن يروي عنه خبرا واختلفوا في كونه تعديلا والحق أنه إن عرف من عادته أو بصريح قوله أنه لا يستجيز الرواية إلا عن عدل كانت الرواية تعديلا وإلا فلا إذ من عادة أكثرهم الرواية عن كل من سمعوه ولو كلفوا الثناء عليهم سكتوا فإن قلت لو عرفه بالفسق ثم روى عنه كان غاشا في الدين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 قلت إنه لم يوجب على غيره العمل به بل قلت سمعت فلانا يقول كذا وصدق فيه ثم لعله لم يعرفه بالفسق ولا بالعدالة فروى ووكل البحث إلى من أراد القبول والرابعة العمل بالخبر إن أمكن حملة على الاحتياط أو على العمل بدليل اخر وافق الخبر فليس بتعديل وإن عرف يقينا أنه عمل بالخبر فهو تعديل إذ لو عمل بخبر غير العدل لفسق المسألة الخامسة ترك الحكم بشهادته لا يكون جرحا في روايته وذلك لأن الرواية والشهادة مشتركتان في هذه الشرائط الأربعة أعني العقل والتكليف والاسلام والعدالة واختصت الشهادة بأمور ستة هي غير معتبرة في الرواية وهي عدم القرابة والحرية والذكورة والبصر والعدد والعداوة والصداقة فهذه الستة توثر في الشهادة لا في الرواية لأن الولد له أن يروي عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 والده بالإجماع والعبد له أن يروي أيضا والضرير له أن يروي أيضا ذلك لأن الصحابة رووا عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم في حقهن كالضرير الشرط الخامس أن يكون الراوي بحيث لا يقع له الكذب والخطأ وذلك يستدعي حصول أمرين أحدهما أن يكون ضابطا والآخر أن لا يكون سهوه أكثر من ذكره ولا مساويا له أما ضبطه فلأنه إذا عرف بقلة الضبط لم تؤمن الزيادة والنقصان في حديثه ثم هذا على قسمين أحدهما أن يكون مختل الطبع جدا غير قادر على الحفظ أصلا ومثل هذا الإنسان لا يقبل خبره ألبتة والثاني أن يقدر على ضبط قصار الآحاديث دون طوالها وهذا الإنسان يقبل منه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 ما عرف كونه قادرا على ضبطه دون ما لا يكون قادرا عليه أما إذا كان السهو غالبا عليه لم يقبل حديثه لأنه يترجح أنه سها في حديثه وأما إذا استوى الذكر والسهو لم يترجح أنه ما سها والفرق بين أن لا يكون ضابطا وبين أن يعرض له السهو أن من لا يضبط لا يحصل الحديث حال سماعه ومن يعرض له السهو قد يضبط الحديث حال سماعه وتحصيله إلا أنه قد يشذ عنه بعارض السهو فإن قلت لم لا يجوز أن يقبل حديثه لأنه لو لم يكن ضبطه أو ضبطه ثم سها عنه لم يروه مع عدالته قلت عدالته تمنع من الكذب والخطأ عمدا لا سهوا فجاز أن يتصور مع عدالته فيما لم يضبطه أنه ضبطه وانه لم يسه فيما سها عنه فوجب أن لا يقبل حديثه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 الفصل الثاني في الأمور التي يجب ثبوتها حتى يحل للراوي أن يروي الخبر اعلم ان لذلك مراتب فأعلاها أن يعلم أنه قرأه على شيخه أو حدثه به ويتذكر ألفاظ قراءته ووقت ذلك فلا شبهة في أنه يجوز له روايته والأخذ به وثانيها أن يعلم أنه قرأ جميع ما في الكتاب أو حدثه به ولا يتذكر ألفاظ قراءته ولا وقت ذلك فيجوز له روايته لأنه عالم في الحال أنه سمعه وثالثها أن يعلم أنه لم يسمع ذلك الكتاب ولا يظن أيظا أنه سمعه أو يجوز الأمرين تجويزا على السوية فلا تجوز له روايته لأنه لا يجوز له أن يخبر بما يعلم أنه كاذب فيه أو ظان أو شاك فيه ورابعها أن لا يتذكر سماعه ولا قراءته لما فيه لكنه يظن ذلك لما يرى من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 خطه وها هنا اختلفوا فيه فعند الشافعي رضي الله عنه تجوز له روايته وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وقال أبو حنيفة رحمه الله لا تجوز لنا الإجماع والمعقول أما الإجماع فهو أن الصحابة رضي الله عنهم كانت تعمل على كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو كتابه لعمرو بن حزم من غير أن يقال إن راويا روى ذلك الكتاب لهم وإنما علموا ذلك لأجل الخط وأنه منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاز مثله في سائر الروايات وأما المعقول فلأن الظن حاصل ها هنا والعمل بالظن واجب احتج أبو حنيفة رحمه الله بأنه إذا لم يعلم السامع لم يؤمن الكذب جوابه أنه يروي بحسب الظن وذلك يكفي في وجوب العمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 الفصل الثالث فيما جعل شرطا في الراوي مع أنه غير معتبر والضابط في هذا الباب كل خصلة لا تقدح في غالب الظن بصحة الرواية ولم يعتبر الشرع تحقيقها تعبدا فإنها لا تمنع من قبول الخبر وفيه مسائل المسألة الأولى رواية العدل الواحد مقبولة خلافا للجبائي فإنه قال رواية العدلين مقبولة وأما خبر العدل الواحد فلا يكون مقبولا إلا إذا عضده ظاهر أو عمل بعض الصحابة أو اجتهاد أو يكون منتشرا فيهم وحكى عنه القاضي عبد الجبار أنه لم يقبل في الزنا إلا خبر أربعة كالشهادة عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 لنا وجهان الأول إجماع الصحابة عمل أبو بكر على خبر بلال وعمل عمر على خبر حمل بن مالك وعلى خبر عبد الرحمن في المجوس وعمل علي على خبره المقداد وعملت الصحابة على خبر أبي سعيد في الربا وعملت على خبر رافع ابن خديج في المخابرة وعلى خبر عائشة في التقاء الختانين وكان علي يقبل خبر أبي بكر رضي الله عنهم اجمعين فإن قلت لعلهم قبلوا ما قبلوه لأن الاجتهاد عضده قلت إنهم كانوا يتركون اجتهادهم بهذه الأخبار وكانوا لا يرون بالمخابرة بأسا حتى روى لهم رافع بن خديج نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها الثاني أن العمل بخبر الواحد العدل يتضمن دفع ضرر مظنون فيكون واجبا احتج الخصم بأمور أحدها أنه عليه الصلاة والسلام لم يقبل خبر ذي اليدين حتى شهد له أبو بكر وعمر رضي الله عنهم وثانيها أن الصحابة إعتبرت العدد فإن أبا بكر لم يقبل خبر المغيرة في الجدة حتى رواه معه محمد بن مسلمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 ولم يعمل عمر علي خبر أبي موسى في الاسئذان حتى رواه أبو سعيد الخذري ورد خبر فاطمة بنت قيس ورد أبو بكر وعمر خبر عثمان رضي الله عنهم أجمعين في رد الحكم بن العاص وثالثها قياس الرواية على الشهادة بل أولى لأن الرواية تقتضي شرعا عاما والشهادة شرعا خاصا فإذا لم تقبل رواية الواحد في حق الإنسان الواحد فلأن لا تقبل في حق كل الأمة كان أولى ورابعها الدليل ينفي العمل بالخبر المظنون لقوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا ترك العمل به في خبر العدلين والعدل الواحد ليس في معناه لأن الظن هناك أقوى مما ها هنا فوجب أن يبقى على الأصل والجواب عن الأول أن ذلك إن دل فإنما يدل على اعتبار ثلاثة أبي بكر وعمر وذي اليدين رضي الله عنهم ولأن التهمة كانت قائمة هناك لأنها كانت واقعة في محفل عظيم والواجب فيها الاشتهار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 وعن الثاني أن بينا أنهم قبلوا خبر الواحد وها هنا اعتبروا العدد فلا بد من التوفيق فنقول ما ذكرناه من الروايات يدل على أن العدد ليس بشرط في أصل الرواية وما ذكروه دل على أنهم طلبوا العدد لقيام تهمة في تلك الصور وعن الثالث أنه منقوض بسائر الأمور التي هي معتبرة في الشهادة لا في الرواية كالحرية والذكورة والبصر وعدم القرابة عن الرابع لا نسلم أن قول الله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا يمنع من التعلق بخبر الواحد فإنا لما علمنا أن الله تعالى أمرنا بالتمسك كان تمسكنا به معلوما لا مظنونا المسألة الثانية زعم أكثر الحنفية أن راوي الأصل إذا لم يقبل الحديث قدح ذلك في رواية الفرع والمختار أن نقول راوي الفرع إما أن يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 جازما بالرواية أو لا يكون فإن كان جازما فالأصل إما أن يكون جازما بفساد الحديث أو بصحته أو لا يجزم بواحد منهما فإن كان الأول فقد تعارضا فلا يقبل الحديث ولأن قبول الحديث من الفرع لا يمكن إلا بالقدح في الأصل وذلك يوجب القدح في الحديث وأما الثاني فلا نزاع في صحته وأما الثالث فإما أن يقول الأغلب على ظني أني ما رويته أو الأغلب أني رويته أو الأمران على السواء أو لا يقول شيئا من ذلك ويشبه أن يكون الخبر في كل هذه الأقسام مقبولا لأن الفرع جازم ولم يوجد في مقابلته جزم يعارضه فلا يسقط به الاستدلال وإما اذا لم يكن الفرع جازما بل يقول أظن أني سمعته منك فإن جزم الأصل بأني ما رويته لك تعين الرد وان قال اظن أني ما رويته لك تعارضا والأصل العدم وإن ذهب إلى سائر الأقسام فالأشبه قبوله والضابط أنه حيث يكون قول الأصل معادلا بقول الفرع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 تعارضا وحيث ترجح أحدهما على الآخر فالمعتبر هو الراجح واحتج المانعون مطلقا بأن الدليل ينفي قبول خبر الواحد فالفناه ما فيما إذا لم يوجد هذا المعنى لأن الظن هناك فيبقى فيما عداه على الأصل والجواب ما تقدم المسألة الثالثة لا يشترط كون الراوي فقيها سواء كانت روايته موافقه للقياس أو مخالفة له خلافا لأبي حنيفة رحمه الله فيما يخالف القياس لنا الكتاب والسنه والعقل أما الكتاب فقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فوجب أن لا يجب التبين في غير الفاسق سواء كان عالما أو جاهلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم نضر الله أمرءا سمع مقالتي فوعاها إلى قوله فرب حامل فقه ليس بفقيه وأما العقل فهو أن خبر العدل يفيد ظن الصدق فوجب العمل به لما تقدم من أن العمل بالظن واجب واحتج الخصم بوجهين الأول أن الدليل ينفي جواز العمل بخبر الواحد خالفناه إذا كان الراوي فقيها لأن الاعتماد على روايته أوثق الثاني أن الأصل أن لا يرد الخبر على مخالفة القياس والأصل أيضا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 صدق الراوي فإذا تعارضا تساقطا ولم يجز التمسك بواحد منهما وأيضا فبتقدير صدق الراوي لا يلزم القطع بكون ذلك الخبر حجة لأنه إذا جرى حديث منافق عند الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا جاء ذلك الرجل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم اقتلوا الرجل علم الفقيه أن الألف واللام ها هنا ينصرف إلى المعهود والعامي ربما ظن أن المراد منه الاستغراق والجواب عن الأول ما مر وعن الثاني أن في التعارض تسليما بصحة أصل الخبر قوله يجوز أن يشتبه عليه المعهود بالاستغراق قلنا التمييز بين الأمرين لا يتوقف على الفقه بل كل من كانت له فطنه سليمة أمكنه التمييز بين الأمرين وأيضا فإن ذلك يقتضي اعتبار الفقه في رواة خبر التواتر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 المسألة الرابعة إذا عرف منه التساهل في أمر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا خلاف في أنه لا يقبل خبره وأما إذا عرف منه التساهل في غير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف منه الاحتياط جدا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قبول خبره على الرأي الأظهر لأنه يفيد الظن ولا معارض فوجب العمل به المسألة الخامس لا يعتبر في الراوي أن يكون عالما بالعربية وبمعنى الخبر لأن الحجة في لفظ الرسول عليه الصلاة والسلام والأعجمي والعامي يمكنهما حفظ اللفظ وكذلك يمكنهما حفظ القرآن ولا يعتبر أيضا أن يكون ذكرا أو حرا أو بصيرا وهو مجمع عليه المسألة السادسة تقبل رواية من لم يرو إلا خبرا واحدا فأما إذا أكثر من الروايات مع قلة مخالطته لأهل الحديث فإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 أمكن تحصيل ذلك القدر من الأخبار في ذلك القدر من الزمان قبلت أخباره وإلا توجه الطعن في الكل المسألة السابعة لا يجب كون الراوي معروف النسب بل إذا حصلت الشرائط المعتبرة المذكورة فيه قبل خبره وإن لم يعرف نسبه وأما إذا كان له اسمان وهو بأحدهما أشهر جازت الرواية عنه وأما اذا كان مترددا بينهما وهو بأحدهما مجروج وبالآخر معدل لم يقبل لأجل التردد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 القسم الثاني في البحث عن الأمور العائدة إلى المخبر عنه اعلم أن الشرط العائد إلى المخبر عنه في العمل بالخبر هو عدم دليل قاطع يعارضه والمعارض على وجهين أحدهما أن ينفي أحدهما ما أثبته الآخر على الحد الذي أثبته الآخر كما إذا قال في أحدهما ليصل فلان في الوقت الفلاني على الوجه الفلاني وينهى في الثاني عن ذلك الحد في ذلك الوقت وثانيهما أن يثبت أحدهما ضد ما أثبته الآخر على الحد الذي أثبته الآخر مثل أن يوجب عليه صلاة أخرى في عين ذلك الوقت في غير ذلك المكان والدليل القاطع ضربان عقلي وسمعي فإن كان المعارض عقليا نظرنا فإن كان خبر الواحد قابلا للتأويل كيف كان أولناه فلم نحكم برده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 وإن لم يقبل التأويل قطعنا بفساده لأن الدالة العقلية غير محتملة للنقيض فإذا كان خبر الواحد غير محتمل للنقيض في دلالته وهو محتمل للنقيض في متنه قطعنا بوقوع ذلك المتحمل وإلا فقد وقع الكذب من الشرع وإنه غير جائز وأما أدلة السمع فثلاثه الكتاب والسنة المتواترة والإجماع وأعلم أنه لا يستحيل عقلا أن يقول الله تعالى أمرتكم بأن تعملوا بالكتاب والسنة المتواترة والإجماع بشرط أن لا يرد خبر واحد على مناقضته فإذا ورد ذلك فيكفيكم لا أن تعملوا بخبر الواحد لا بهذه الأدلة لكن الإجماع عرفنا أن هذا المحتمل لم يقع لأن الإجماع منعقد على أن الدليلين إذا استويا ثم اختص أحدهما بنوع قوة غير حاصل في الثاني فإنه يجب تقديم الراجح فها هنا هذه الأدلة الثلاثة لما كانت مساوية لخبر الواحد في الدلالة واختصت هذه الأدلة الثلاثة بمزيد قوة وهي بكونها قاطعة في متنها لا جرم وجب تقديمها على خبر الواحد وأما أن خبر الواحد هل يقتضي تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة فقد تقدم القول فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 القول فيما ظن أنه شرط في هذا الباب وليس بشرط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 المسألة الأولى خبر الواحد إذا عارضه القياس فإما أن يكون خبر الواحد يقتضي تخصيص القياس أو القياس يقتضي تخصيص خبر الواحد وإما أن يتنافيا بالكلية فإن كان الأول فمن يجيز تخصيص العلة يجمع بينهما ومن لا يجيزه يجري هذا القسم مجرى ما إذا تنافيا بالكلية وإن كان الثاني كان ذلك تخصيصا لعموم خبر الواحد بالقياس وأنه جائز لأن تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بالقياس لما كان جائزا فها هنا أولى وأما الثالث وهو ما إذا كان كل واحد منهما مبطلا لكل مقتضيات الآخر فنقول ذلك القياس لا بد وأن يكون أصله قد ثبت بدليل وذلك الدليل إما أن يكون هو ذلك الخبر أو غيره فإن كان الأول فلا نزاع أن الخبر مقدم على القياس وإن كان الثاني فهذا يحتمل وجوها ثلاثة وذلك لأن القياس يستدعي أمورا ثلاثة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 أحدها ثبوت حكم الأصل وثانيها كونه معللا بالعلة الفلانية وثالثها حصول تلك العلة في الفرع ثم لا يخلو كل واحد من هذه الثلاثة إما أن تكون قطعية أو ظنية أو بعضها قطعي وبعضها ظني فإن كان الأول كان القياس مقدما على خبر الواحد لا محالة لأن هذا القياس يقتضي القطع وخبر الواحد يقتضي الظن ومقتضى القطع مقدم على مقتضى الظن وإن كان الثاني كان الخبر لا محالة مقدما على القياس لأن الظن كلما كان أقل كان بالأعتبار أولى وإن كان الثالث فهذا يحتمل أقساما كثيرة ونحن نعين منها صورة واحدة وهي أن يكون دليل ثبوت الحكم في الأصل قطعيا إلا أن كونه معللا بالعلة المعينة ووجود تلك العلة في الفرع ظنيا فها هنا اختلفوا فعند الشافعي رضي الله عنه الخبر راجح وعند مالك رحمه الله القياس راجح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 وقال عيسى بن أبان إن كان راوي الخبر ضابطا عالما وجب تقديم خبره على القياس وإلا كان في غير محل الاجتهاد وقال أبو الحسن البصري طريق ترجيح أحدهما على الآخر الاجتهاد فإن كانت أمارة القياس أقوى عنده من عدالة الراوي وجب المصير إليها وإلا فبالعكس ومن الناس من توقف فيه لنا وجوه الأول أن الصحابة كانوا يتركون اجتهادهم لخبر الواحد من ذلك قصة عمر رضي الله عنه في الجنين حتى قال كدنا نقضي فيه برأينا وفيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا ترك اجتهاده في المنع من توريث المرأة من ديه زوجها وأيضا قال أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 وأيضا فإن أبا بكر رضي الله عنه نقض حكما حكم فيه برأيه لحديث سمعه من بلال فإن قلت إن أبن عباس رد خبر أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا استيقظ أحدكم من نومه حتى قال فما نصنع بمهراسنا قلت ظاهر هذا القول لا يقتضي رد الخبر وإنما هو وصف للمشقة في العمل بموجبه مع عظم المهراس سلمنا أنه ترك هذا الحديث لكن إنما تركه لأنه لا يمكن الأخذ به من حيث لا يمكن قلب المهراس على اليد فإن قلت ليس فيه تكليف ما لا يطاق لأنه كان يمكنهم غسل أيديهم من إناء اخر ثم ادخالها في المهراس قلت ومن أين يعلم أن قياس الأصول يقضي غسل اليدين من ذلك الإناء حتى يكون قد رد الخبر لذلك القياس الثاني أن قصة معاذ تقتضي تقديم الخبر على القياس الثالث أن التمسك بالخبر لا يتم إلا بثلاث مقدمات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 إحداها ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثانيتها دلالته على الحكم وثالثها وجوب العمل به والمقدمة الأولى ظنية والثانية والثالثة يقينية وأما التمسك بالقياس فلا يتم إلا بخمسن أن مقدمات أحداها ثبوت حكم الأصل وثانيتها كونه معللا بالعلة الفلانية وثالثتها حصول تلك العلة في الفرع ورابعتها عدم المانع في الفرع عند من يجيز تخصيص العلة وخامستها وجوب العمل بمثل هذه الدلالة والمقدمة الأولى والخامسة يقينية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 وأما الثانية والثالثة والرابعة فظنية وإذا كان كذلك كان العمل بالخبر أقل بالخبر أقل ظنا من العمل بالقياس فوجب أن يكون الخبر راجحا فإن قلت إذا كانت الأمارة الدالة على ثبوت الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ضعيفة والإمارات الدالة على المقدمات الثلاثة الظنية في جانب القياس قوية بحيث يتعارض ما في أحد الجانبين من الكمية بما في الجانب الآخر من الكيفية فها هنا يتعين الاجتهاد والرجوع إلى الترجيح قلت لو خلينا والعقل لكان الأمر كما ذكرت إلا أن الدليلين الأولين منعا منه المسألة الثانية إذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عمل بخلاف موجب الخبر فالخبر إما أن يكون متناولا للرسول صلى الله عليه وسلم أو غير متناول له فإن لم يتناوله لم يخل من أن يكون قد قامت الدلالة على أن حكمنا وحكمه صلى الله عليه وسلم فيه سواء أو لم تقم الدلالة على ذلك فإن لم يقم عليه دليل جاز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا بذلك الحكم وعلى هذا التقدير لا يكون بين فعله وبين الخبر تناف فلا يرد الخبر لأجله وإن قامت الدلالة على أن حكمه صلى الله عليه وسلم وحكمنا فيه سواء نظر في الخبرين فإن أمكن تخصيص أحدهما بالآخر فعل وإن لم يمكن كان أحدهما متواترا عمل بالتواتر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 وإن لم يكونا متواترين عمل فيهما بالترجيح المسألة الثالثة عمل أكثر الأمة بخلاف الخبر لا يوجب رده وعمل أكثر الأمة بموجب الخبر لا يوجب قبوله لأن أكثر الأمة بعض الأمة وقول بعض الأمة ليس بحجة إلا أن ذلك وإن لم يكن حجة فإنه من المرجحات المسألة الرابعة الحفاظ إذا خالفوا الراوي في بعض ذلك الخبر فقد اتفقوا على أن ذلك لا يقتضي المنع من قبول ما لم يخالفوه فيه لأن ظاهر حاله الصدق ولم يوجد معارض فوجب قبوله وأما القدر الذي خالفوه فيه فالأولى أن لا يقبل لأنه وإن جاز أن يكونوا سهوا وحفظ هو لكن الأقوى أنه سها وحفظوا هم لأن السهو على الواحد أجوز منه على الجماعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 المسألة الخامسة خبر الواحد إذا تكاملت شروط صحته هل يجب عرضه على الكتاب قال الشافعي رضي الله عنه لا يجب لأنه لا تتكامل شروطه إلا وهو غير مخالف للكتاب وعند عيسى بن أبان يجب عرضه عليه لقوله صلى الله عليه وسلم إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه المسألة السادسة لا شبهة في أن الناسخ يجب أن يكون غير مقارن للكتاب فإن علم أن خبر الواحد غير مقارن للكتاب لم يقبل لما ثبت أن نسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز وإن شك فيه قبل عند القاضي عبد الجبار قال لأن الصحابة رفعت بعض أحكام القرآن لأخبار الآحاد ولم تسأل هل كانت مقارنة أم لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 المسألة السابعة اختلفوا فيما إذا كان مذهب الراوي بخلاف روايته فالأول هو قول بعض الحنفية الراوي للحديث العام إذا خصه رجع إليه لأنه لما شاهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان أعرف بمقاصده ولذلك حملوا رواية أبي هريرة فولوغ الكلب أنه يغسل سبعا على الندب لأن أبا هريرة كان يقتصر على الثلاث الثاني وهو قول الكرخي أن ظاهر الخبر أولى والثالث أنه إن كان تأويل الراوي بخلاف ظاهر الحديث رجع إلى الحديث وإن كان هو أحد محتملات الظاهر رجع إلى تأويله وهو ظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه والرابع وهو قول القاضي عبد الجبار إن لم يكن لمذهبه وتأويله وجه إلا أنه علم بالضرورة قصد النبي صلى الله عليه وسلم إليه وجب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوزنا أن يكون قد صار إليه لنص أو قياس وجب النظر في ذلك فإن اقتضى ما ذهب إليه صير إليه وإلا فلا وكذا إن كان الحديث مجملا وبينه الراوي كان بيانه أولى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 حجة الشافعي رضي الله عنه أن المقتضى وهو ظاهر اللفظ قائم والمعارض الموجود وهو مخالفة الراوي لا يصلح أن يكون معارضا لاحتمال أن يكون قد تمسك في تلك المخالفة بما ظنه دليلا مع أنه لا يكون كذلك فإن قلت الظاهر من دينه أنه لا يخالف إلا لدليل قلت دينه يمنعه عن الخطأ عمدا لا سهوا وغلطا وليس ها هنا ظاهر يدل على أنه كان من العلم بحيث لا يعرض له ذلك الخطأ المسألة الثامنة خبر الواحد إما أن يقتضي علما أو عملا فإن اقتضى علما فإما أن يكون في الأدلة القاطعة ما يدل عليه أو لا يكون فإن كان الأول جاز قوله لأنه لا يمتنع أن يكون عليه الصلاة والسلام قاله واقتصر به على آحاد الناس واقتصر بغيرهم على الدليل الآخر وإن كان الثاني وجب رده سواء اقتضى مع العلم عملا أو لم يقتضه لأنه لما كان التكليف فيه بالعلم مع إنه ليس له صلاحية إفاده العلم كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 ذلك تكليفا بما لا يطاق اللهم إلا أن يقال لعله عليه الصلاة والسلام أوجب العلم به على من شافهه دون من لم يشافهه فإن ذلك جائز فأما إذا اقتضى عملا وكان البلوي به عاما فعندنا لا يجب رده وعند الحنفية يجب رده لنا وجوه أحدها عموم قوله تعالى ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم وقوله إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وثانيها أن خبر الواحد العدل في هذا الباب يفيد ظن الصدق فيكون العمل دافعا لضرر مظنون فيكون واجبا وثالثها رجوع الصحابة إلى عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين مع أن ذلك مما تعم به البلوي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 ورابعها أن البلوي عام بمعرفة أحكام القئ والرعاف والقهقهة في الصلاة ووجوب الوتر مع أنهم يقبلون خبر الواحد فيه وليس يعصمهم من ذلك أنه قد تواتر النقل بالوتر لأن وجوبها يعم به البلوي ولم يتواتر نقله واحتجوا بالإجماع والمعقول أما الإجماع فهو أن أبا بكر رد حديث المغيرة في الجدة ورد عمر خبر أبي موسى في الاسئذان وأما المعقول فهو أنه لو كان صحيحا لأشاعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولأوجب نقله على جهة التواتر مخافة أن لا يصل إلى من كلف به فلا يتمكن من العمل به ولو فعل ذلك لتوافرت على الدواعي إلى نقله على جهة التواتر والجواب عن الأول أنه أنما كان يجب ذلك الذي قلتم لو لم يقبلوا فيه إلا خبرا متواترا فأما إذا لم يقبلوا خبر الواحد وقبلوا خبر الأثنين فلا وقد قبلوا خبر الاثنين فيه فلم ينفعكم ذلك وعن الثاني أن ذلك يجب أن لو كان يتضمن علما أو أوجب العمل به على كل حال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 فأما إذا أوجبه بشرط أن يبلغه فليس فيه تكليف ما لا طريق إليه ولو وجب ذلك فيما تعم به البلوي لوجب في غيره لجواز أن لا يصل إلى من كلف به فإن قلتم هناك إنه كلف العمل به بشرط أن يبلغه قيل لكم مثله فيما تعم به البلوى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 القسم الثالث في الإخبار وفيه مسائل المسألة الأولى في كيفية ألفاظ الصحابة في نقل الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي على سبع مراتب المرتبة الأولى أن يقول الصحابي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا أو أخبرني رسول الله أو حدثني رسول الله أو شافهني رسول الله صلى الله عليه وسلم المرتبة الثانية أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فهذا ظاهره النقل إذا صدر عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 الصحابي وليس نصا صريحا إذ قد يقول الواحد منا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمادا على ما نقل إليه وإن لم يسمعه منه صلى الله عليه وسلم إما إذا صدر عن غير الصحابي فليس ظاهره ذلك المرتبة الثالثة أن يقول أمر رسول الله بكذا أو نهى عن كذا وهذا يتطرق إليه الاحتمال الأول مع احتمال آخر وهو أن مذاهب الناس في صيغ الأوامر النواهي مشهورة فربما ظن ما ليس بأمر أمرا ولأجله اختلف الناس في أنه هل هو حجة أم لا والأكثرون على أنه حجة لأن الظاهر من حال الراوي أن لا يطلق هذا اللفظ إلا إذا تيقن مراد الرسول صلى الله عليه وسلم ولقائل أن يقول لم لا يكفي فيه الظن فإن قلت لأن هذه الصيغة حجة فلو أطلقه الراوي مع تجويزه خلافه لكان قد أوجب على الناس ما يجوز أن لا يكون واجبا عليهم وذلك يقدح في عدالته فنقول على هذا لا يمكنكم العلم بأن هذا الراوي ما اطلق هذه اللفظه إلا بعد علمه بمراد الرسول إلا إذا علمتم أنه حجة وأنتم إنما اثبتم كونه حجة بذلك فلزم الدور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 وفي المسألة احتمال ثالث وهو أن قول الراوي أمر الرسول بكذا ليس فيه لفظ يدل على أنه أمر الكل أو البعض دائما أو غير دائم فلا يجوز الاستدلال به إلا إذا ضم إليه قوله عليه الصلاة والسلام حكمي على الواحد حكمي على الجماعة المرتبة الرابعة أن يقول الصحابي أمرنا بكذا أو أوجب كذا ونهينا عن كذا وأبيح كذا قال الشافعي رضي الله عنه أنه يفيد أن الآمر هو الرسول عليه الصلاة والسلام والكرخي خالف فيه لنا وجهان الأول أن من التزم طاعة رئيس فإنه متى قال أمرنا بكذا فهم منه أمر ذلك الرئيس ألا ترى أن الرجل من خدم السلطان إذا قال في دار السلطان أمرنا بكذا فهم كل أحد من كلامه أمر السلطان الثاني أن غرض الصحابي أن يعلمنا الشرع فيجب حمله على من صدر الشرع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 عنه دون الأئمة دون والولاة فلا يحمل هذ القول على أمر الله تعالى لأن أمره تعالى ظاهر للكل لا نستفيده من قول الصحابي ولا على أمر جماعة الأمة لأن ذلك الصحابي من الأمة وهو لا يأمر نفسه المرتبة الخامسة أن يقول الصحابي من السنة كذا فهم منه سنة الرسول عليه الصلاة والسلام للوجهين المذكورين فإن قلت هذا غير واجب للخبر والعقل أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها وعنى به سنة غيره وأما العقل فهو أن السنة مأخوذة من الاستنان وذلك غير مختص بشخص دون شخص الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 قلت لا يمتنع ما ذكرتموه بحسب اللغة ولكن بحسب الشرع يفيد ما قلنا المرتبة السادسة أن يقول الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال قوم يحتمل أن يقال إنه أخبره إنسان آخر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لم يسمعه منه وقال اخرون بل الأظهر أنه سمعه منه المرتبة السابعة قوله الصحابي كنا نفعل كذا فالظاهر أنه قصد أن يعلمنا بهذا الكلام شرعا ولن يكون كذلك إلا وقد كانوا يفعلونه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بذلك ومع أنه صلى الله عليه وسلم ما كان ينكر ذلك عليهم وهذا يقتضي كونه شرعا عاما فأما إذا قال الصحابي قولا لا مجال للاجتهاد فيه فحسن الظن به يقتضي أن يكون قاله عن طريق فإذا لم يمكن الاجتهاد فليس إلا السماع من النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 المسألة الثانية في كيفية رواية غير الصحابي وهذا أيضا على سبع مراتب المرتبة الأولى أن يقول الراوي حدثني فلان أو أخبرني فلان أو سمعت فلانا فالسامع يلزمه العمل بهذا الخبر وأما أن السامع كيف يروي فنقول إن الراوي إن قصد إسماعه خاصة ذلك الكلام أو كان هو في جمع قصد الراوي إسماعهم فله أن يقول ها هنا أخبرني وسمعته يحدث عن فلان إما إن لم يقصد إسماعه لا على التفصيل ولا على الجملة فله أن يقول سمعته يحدث عن فلان لكن ليس له أن يقول أخبرني ولا حدثني لأنه لم يخبره ولم يحدثه المرتبة الثانية أن يقال للراوي هل سمعت هذا الحديث عن فلان فيقول نعم أو يقول بعد الفراغ من القراءة عليه الأمر كما قرئ على فها هنا العمل بالخبر لازم على السامع وله أيضا أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعت فلانا ألا ترى أنه لا فرق في الشهادة على البيع بين أن يقول البائع وبين أن يقرأ عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 كتاب البيع فيقول الأمر كما قرئ علي المرتبة الثالثة أن يكتب إلى غيره بأني سمعت كذا من فلان فللمكتوب إليه أن يعمل بكتابه إذا علم أنه كتابه واذا ظن أنه خطه جاز له ذلك أيضا لكن ليس له أن يقول سمعت أو حدثني لأنه ما سمع ولا حدث بل يجوز أن يقول أخبرني لأن من كتب إلى غيره كتابا يعرفه فيه واقعة جاز له أن يقول أخبرني المرتبة الرابعة أن يقال له هل سمعت هذا الخبر فيشير برأسه أو بأصبعه فالإشارة ها هنا كالعبارة في وجوب العمل ولا يجوز أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعته لأنه ما سمع شيئا المرتبة الخامسة أن يقرأ عليه حدثك فلان فلا ينكر ولا يقر بعبارة ولا بإشارة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 فها هنا إن غلب على الظن أنه ما سكت إلا لأن الأمر كما قرئ عليه وإلا كان ينكره لزم السامع العمل به لأنه حصل ظن أنه قول الرسول عليه الصلاة والسلام والعمل بالظن واجب واختلفوا في جواز الرواية فعامة الفقهاء والمحدثين جوزوه والمتكلمون أنكروه وقال بعض أصحاب الحديث ليس له إلا أن يقول أخبرني قراءة عليه وكذا الخلاف فيما لو قال القارئ للراوي بعد قراءة الحديث عليه أرويه عنك فقال نعم فالمتكلمون قالوا لا تجوز له الرواية عنه ها هنا أيضا حجة الفقهاء أن الإخبار في أصل اللغة لإفادة الخبر والعلم وهذا السكوت قد أفاد العلم بأن هذا المسموع كلام الرسول عليه الصلاة والسلام فوجب أن يكون إخبارا وأيضا فلا نزاع في أن لكل قوم من العلماء اصطلاحات مخصوصة يستعملونها في معان مخصوصة إما لأنهم نقلوها بحسب عرفهم إلى تلك المعاني أو لأنهم استعملوها فيها على سبيل التجوز ثم صار المجاز شائعا والحقيقة مغلوبة ولفظ أخبرني وحدثني ها هنا كذلك لأن هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 السكوت شابه الإخبار في إفادة الظن والمشابهة إحدى أسباب المجاز وإذا كان هذا الاستعمال مجازا ثم استقر عرف المحدثين عليه صار ذلك كالاسم المنقول بعرف المحدثين أو كالمجاز الغالب وإذا ثبت ذلك وجب جواز استعماله قياسا على سائر الاصطلاحات حجة المتكلمين أنه لم يسمع من الراوي شيئا فقوله حدثني وأخبرني وسمعت كذب والجواب ما تقدم من أنه بعد هذا النقل العرفي لا نسلم أنه كذب المرتبة السادسة المناولة وهي أن يشير الشيخ إلى كتاب يعرف ما فيه فيقول قد سمعت ما في هذا الكتاب فإنه يكون بذلك محدثا ويكون لغيره أن يروي عنه سواء قال له أروه عني أو لم يقل له ذلك فأما إذا قال له حدث عني ما في هذا الجزء ولم يقل له قد سمعته فإنه لا يكون محدثا له وإنما جاز للتحدث له وليس له أن يحدث به عنه لأنه يكون كاذبا وإذا سمع الشيخ نسخة من كتاب مشهور فليس له أن يشير إلى نسخة أخرى من ذلك الكتاب ويقول سمعت هذا لأن النسخ تختلف إلا أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 يعلم أنهما متفقتان المرتبة السابعة الإجازة وهي أن يقول الشيخ لغيره قد أجزت لك أن تروي ما صح عني من أحاديثي واعلم أن ظاهر الإجاز يقتضي أن الشيخ أباح له أن يحدث بما لم يحدثه به وذلك إباحة الكذب لكنه في العرف يجري مجرى أن يقول ما صح عندك أني سمعته فاروه عني المسألة الثالثة ذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن المرسل غير مقبول وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور المعتزلة إنه مقبول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 لنا أن عدالة الأصل غير معلومة فلا تكون روايته مقبولة إنما قلنا أن عدالة الأصل غير معلومة لأنه لم توجد إلا رواية الفرع عنه ورواية الفرع عنه لا تكون تعديلا له إذا المعدل قد يروي عمن لو سئل عنه لتوقف فيه او لجرحه وبتقدير أن يكون تعديلا لا يقتضى كونه عدلا في نفسه لاحتمال أنه لو عينه لنا لعرفناه بفسق لم يطلع عليه المعدل فثبت أن عدالته غير معلومة وإذا كان كذلك وجب أن لا تقبل روايته لأن قبول روايته يقتضي وضع شرع عام في حق كل المكلفين من غير رضاهم وذلك ضرر والضرر على خلاف الدليل ترك العمل به فيما إذا علمت عدالة الراوي فيبقى في الباقي على الأصل فإن قيل لا نسلم أن عدالته غير معلومة قوله لم يوجد إلا رواية الفرع عنه ورواية الفرع عنه لا تكون تعديلا له لأنه قد يروي عن العدل وغيره قلنا لا نزاع في جوازه في الجملة لكن لم لا يجوز أن يقال روايته عن العدل أرجح من روايته عن غيره وبيانه من وجهين الأول أن الفرع مع عدالته لا يجترئ أن يخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 الإخبار بذلك ولا يكون له ذلك إلا وهو عالم أو ظان بكونه قولا للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لو استوى الطرفان لحرم الإخبار ولا يكون عالما ولا ظانا بكونه قولا للرسول إلا إذا علم أو ظن عدالة الأصل الثاني أن الفرع مع عدالته ليس له أن يوجب شيئا على غيره أو يطرحه عنه إلا إذا علم أنه عليه الصلاة والسلام أوجب ذلك أو ظنه فثبت بهذين الدليلين رجحان هذا الاحتمال وهذا يقتضي كون الأصل عدلا ظاهرا فوجب قبول روايته كما في سائر العدول وهذه هي النكتة التي عولوا عليها في وجوب قبول المرسل ثم ما ذكرتموه من الدليل معارض بالنص والإجماع والقياس أما النص فعموم قوله تعالى ولينذروا قومهم وقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فإذا جاء من لا يكون فاسقا وجب القبول والراوي للفرع ليس بفاسق فوجب قبول خبره وأما الإجماع فإن البراء بن عازب قال ليس كل ما حدثناكم به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه غير أنا لا نكذب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 وروى أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام من أصبح جنبا فلا صوم له ثم ذكر أنه أخبره به الفضل بن عباس وروى ابن عباس رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لا ربا إلا في النسيئة ثم اسنده إلى أسامة وروى أيضا ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة ثم ذكر أنه أخبره به الفضل بن عباس رضي الله عنهما وهذه الروايات تدل على جواز قبول المرسل وأما القياس فلأنه لو لم يقبل المرسل لما قبل ما يجوز كونه مرسلا فكان ينبغي إذا قال الراوي عن فلان أن لا يقبل لأنه لا يجوز أن يكون أخبر عنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 والجواب قد بينا أن العدل يروي عن العدل وعن من لا يكون عدلا قوله لم لا يجوز أن يقال روايته عن العدل أرجح من روايته عمن ليس بعدل قلنا لأنه إذا ثبت أنه لا منافاة بين كونه عدلا وبين روايته عمن ليس بعدل كان ذلك ممكنا بالنسبة إليه من حيث هو هو والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح منفصل فقبل حصول ذلك المرجح لا يبقى إلا أصل الإمكان قوله أولا الفرع مع عدالته أخبر عن الرسول ولا يجوز له ذلك الإخبار إلا وقد اعتقد عدالة الراوي قلنا الفرع إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا يقتضي الجزم بأن هذا القول قول رسول الله والجزم بالشئ مع تجويز نقيضه كذب وذلك يقدح في عدالة الراوي فإذن لا بد من صرف هذا اللفظ عن ظاهره فليسوا بأن يقولوا المراد منه أني أظن أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من أن نقول نحن المراد منه أني سمعت أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم أنه لو صرح بهذا القدر لم يكن فيه تعديل للأصل لأنه لو سمعه من كافر متظاهر بالكفر لحل أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 يقول سمعت أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمنا سقوط ما ذكروه قوله ثانيا الفرع مع عدالته ليس يجوز له أن يوجب شيئا على غيره إلا إذا علم أو ظن أنه عليه الصلاة والسلام أوجبه قلنا روايته إنما توجب على الغير شيئا لو ثبت كون الراوي عدلا فإن بينتم إثبات كونه عدلا بأن هذه الرواية توجب على غيره شيئا لزم الدور ثم نقول ينتقض ما ذكرتموه من الوجهين بشاهد الفرع إذا لم يذكر شاهد الأصل فإن ما ذكرتموه قائم فيه مع لا تقبل شهادته فإن قلت الفرق من وجهين الأول أن الشهادة تتضمن إثبات حق على عين والخبر يتضمن إثبات الحق على الجملة من دون تخصيص ويدخل من التهمة في إثبات الحقوق على الأعيان ما لا يدخل في إثباتها على الجملة فجاز ان تؤكد الشهادة بما لا تؤكد به الرواية كما أكدنا باعتبار العدد فيها دون الرواية الثاني أن شهود الأصل لو رجعوا عن شهادتهم لزمهم الضمان على قول بعض الفقهاء فإذا لم يؤمن أن يؤدي اجتهاد الحاكم إلى ذلك لو رجعوا وجب أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 يعرفهم بأعيانهم ليتأتى إلزامهم الضمان إن هم رجعوا قلت الجواب عن الأول أن إثبات الحق على الأعيان لو ترجح على إثبات الحق في الجملة من ذلك الوجه فهذا يترجح على ذلك من وجه آخر وهو أن الخبر يقتضي شرعا عاما في حق جميع المكلفين إلى يوم القيامة فالاحتياط فيه أولى من الاحتياط في إثبات الحكم في حق مكلف واحد وعن الثاني أنه ملغي بما إذا كان شاهد الأصل قد مات ولم يبق له في الدنيا دينار ولا درهم فكيف يمكن تضمينه وأما المعارضة الآولى فجوابها أن هذه النصوص خصصت في الشهادة فوجب تخصيصها في الرواية والجامع الاحتياط وعن الثانية أن هذه المسألة عندنا اجتهادية فلعل بعض الصحابة كان قائلا به ومخالفوهم ما أنكروه عليهم لكون المسألة اجتهادية وأيضا فالصحابي الذي رأى الرسول إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الظاهر منه الإسناد وإذا كان كذلك وجب على السامع قبوله ثم بعد ذلك إذا بين الصحابي أنه كان مرسلا ثم بين إسناده وجب أيضا قبوله ولم يكن قبوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 في إحدى الحالتين دليلا على العمل بالمرسل وعن الثالث أن مدار العمل بهذه الأخبار على الظن فإذا قال الراوي قال فلان عن فلان وقد أطال صحبته كان ذلك دليلا على أنه سمعه منه ومتى لم يعلم أنه صحبه (كان ذلك دليلا على أنه) سمعه منه ومتى لم يعلم أنه صحبه لم يقبل حديثه فروع الأول قال الشافعي رضي الله عنه لا اقبل المرسل إلا إذا كان الذي أرسله مرة أسنده أخرى أقبل مرسله أو أرسله هو وأسنده غيره وهذ إذا لم تقم الحجة بإسناده أو أرسله راو اخر ويعلم أن رجال أحدهما غير رجال الآخر أو عضده قول صحابي أو توى أكثر أهل العلم أو علم أنه لو نص لم ينص إلا على من يسوغ قبول خبره قال وأقبل مراسيل سعيد بن المسيب لأني اعتبرتها فوجدتها بهذه الشرائط قال ومن هذه حاله أحببت قبول مراسليه ولا أستطيع أن أقول إن الحجة تثبت به كثبوتها بالمتصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 قالت الحنفية أما قوله أقبل مراسيل الراوي إذا كان أسنده مرة فبعيد لأنه إذا أسند قبل لأنه مسند وليس لإرساله تأثير وأما قوله يقبل مرسل الراوي إذا كان قد أسنده غيره فلا يصح لما ذكرنا ولأن ما ليس بحجة لا يصير حجة إذا عضدته الحجة وأما قوله أقبل المرسل إذا كان أرسله أثنان وشيوخ أحدهما غير شيوخ الآخر لا يصح لأن ما ليس بحجة إذا انضاف إليه ما ليس بحجة لا يصير حجة إذا كان المانع من كونه حجة عند الانفراد قائما عند الاجتماع وهو الجهل بعدالة راوي الأصل وهذا بخلاف الشاهد الواحد فإن المانع من قبول شهادته الانفراد وهو يزول عند انضمام غيره إليه والجواب أن غرض الشافعي رضي الله عنه من هذه الأشياء حرف واحد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 وهو أنا إذا جهلنا عدالة راوي الأصل لم يحصل ظن كون ذلك الخبر صدقا فإذا انضمت هذه المقويات إليه قوى بعض القوة فحينئذ يجب العمل به إما دفعا للضرر المظنون وإما لقوله عليه الصلاة والسلام أقضي بالظاهر فظهر فساد هذا السؤال الثاني إذا أرسل الحديث وأسنده غيره فلا شبهة في قبوله عند من يقبل المرسل وكذا عند من لا يقبله لأن إسناد الثقة يقتضي القبول إذا لم يوجد مانع ولا يمنع منه إرسال المرسل لأنه يجوز أن يكون أرسله لأنه سمعه مرسلا أو سمعه متصلا لكنه نسى شيخ نفسه وهو يعلم أنه ثقة في الجملة وكذا القول فيما إذا أرسله مرة وأسنده أخرى لأنه يجوز أن يوجد بعض ما ذكرنا الثالث إذا الحق الحديث بالنبي ووافقه غيره على الصحابي فهو متصل لأنه يجوز أن يكون الصحابي رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم مرة وذكر عن نفسه على سبيل الفتوى مرة فرواه كل واحد منهما بحسب ما سمعه أو سمعه أحدهما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم فنسى ذلك وظن أنه ذكره عن نفسه الرابع إذا وصله بالنبي صلى الله عليه وسلم مرة ووقفه على الصحابي أخرى فإنه يجعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 متصلا لجواز أن يكون سمعه من الصحابي يرويه مرة عنه عليه الصلاة والسلام ومرة عن نفسه أو سمعه وصله بالنبي صلى الله عليه وسلم فنسى ذلك وظن أنه ذكره عن نفسه فأما إذا أرسله أو أوقفه زمانا طويلا ثم أسنده أو وصله بعد ذلك فإنه يبعد أن ينسى ذلك الزمان الطويل إلا أن يكون له كتاب يرجع إليه فيذكر ما قد نسيه الزمان الطويل الخامس من يرسل الأخبار إذا أسند خبرا هل يقبل أو يرد أما من يقبل المراسيل فإنه يقبله وأما من لا يقبلها فكثير منهم قبله أيضا لأن إرساله مختص بالمرسل دون المسند فوجب قبول مسنده ومنهم من لم يقبله قال لأن إرساله يدل على أنه إنما لم يذكر الراوي لضعفه فستره له والحالة هذه خيانة واختلف من قبل حديث المرسل إذا أسنده كيف يقبل فقال الشافعي رضي الله عنه لا يقبل من حديثه إلا ما قال فيه حدثني أو سمعت فلانا ولا يقبل إذا أتى بلفظ موهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 وقال بعض المحدثين لا يقبل إلا إذا قال سمعت فلانا وهؤلاء يفرقون بين أن يقال حدثني فلان وأخبرني فيجعلون الأول دالا على أنه شافهه بالحديث ويجعلون الثاني مرددا بين المشافهة وبين أن يكون إجازة له أو كتب إليه وهذه عادة لهم وإن لم يكن بينهما فرق في اللغة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 المسألة الرابعة في التدليس إذا روى الراوي الحديث عن رجل يعرف باسم فلم يذكره بذلك وذكره باسم لا يعرف به فإن فعل ذلك لأن من يروى عنه ليس بأهل أن يقبل حديثه فقد غش الناس فلا يقبل حديثه وإن لم يذكر اسمه لصغر سنه لا لأنه ليس بثقة فمن يقول يكفي ظاهر الاسلام في العدالة قبل هذا الحديث ومن يقول لا بد من التفحص عن عدالته بعد إسلامه فمن لا يقبل المراسيل فإنه لا يقبله لأنه لم يتمكن من التفحص عن عدالته حيث لم يذكر اسمه فهو كالمرسل ومن يقبل المراسيل ينبغي أن يقبله لأن عدالته تقتضي أنه لولا أنه ثقة عنده لما ترك ذكر اسمه فصار كما لو عدله المسألة الخامسة يجوز نقل الخبر بالمعنى وهو مذهب الحسن البصري وأبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهم خلافا لابن سيرين وبعض المحدثين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 ولكن بشرائط ثلاث أحدها أن لا تكون الترجمة قاصرة عن الأصل في إفاده المعنى وثانيها أن لا تكون فيها زيادة ولا نقصان وثالثها أن تكون الترجمة مساوية للأصل في الجلاء والخفاء لأن الخطاب تارة يقع بالمحكم وتارة بالمتشابه لحكم وأسرار استأثر الله بعلمها فلا يجوز تغييرها عن وضعها لنا وجوه الأول أن الصحابة نقلوا قصة واحدة بألفاظ مختلفة مذكورة في مجلس واحد ولم ينكر بعضهم على بعض فيه وذلك يدل على قولنا الثاني أنه يجوز شرح الشرع للعجم بلسانهم فإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فبأن يجوز إبدالها بعربية أخرى كان أولى ومن أنصف علم أن التفاوت بين العربية وترجمتها بالعربية أقل مما بينها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 وبين العجمية الثالث روى أنه عليه الصلاة والسلام قال إذا أصبتم المعنى فلا بأس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 وعن ابن مسعود أنه كان إذا حدث قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو نحوه الرابع وهو الأقوى أن نعلم بالضرورة أن الصحابة الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأخبار ما كانوا يكتبونها في ذلك المجلس وما كانوا يكررون عليها في ذلك المجلس بل كما سمعوها تركوها وما ذكروها إلا بعد الأعصار والسنين وذلك يوجب القطع بتعذر روايتها على تلك الألفاظ احتج المخالف بالنص والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام رحم الله أمرءا اسمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها قالوا وأداؤها كما سمعها هو اداء اللفظ المسموع ونقل الفقه الى من هو أفقه منه معناه والله أعلم أن الأفطن ربما فطن بفضل فقهه من فوائد اللفظ لما لم يفطن له الرواي لأنه ربما كان دونه في الفقه وأما المعقول فمن وجهين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 الأول أنه لما جربنا رأينا أن المتأخر ربما استنبط من فوائد آية أو خبر ما لم يتنبه له أهل الأعصار السالفة من العلماء والمحققين فعلمنا أنه لا يجب في كل ما كان من فوائد اللفظ أن يتنبه له السامع في الحال وإن كان فقيها ذكيا فلو جوزنا النقل بالمعنى فربما حصل التفاوت العظيم مع أن الراوي يظن أنه لا تفاوت الثاني أنه لو جاز للراوي تبديل لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظ نفسه كان للراوي الثاني تبديل اللفظ الذي سمعه بلفظ نفسه بل هذا أولى لأن جواز تبديل لفظ الراوي أولى من جواز تبديل لفظ الشارع وكذا في الطبقة الثالثة والرابعة وذلك يفضي إلى سقوط الكلام الأول لأن الأنسان وإن اجتهد في تطبيق الترجمة لكن لا ينفك عن تفاوت وإن قل فإذا توالت هذه التفاوتات الله كان التفاوت الأخير تفاوتا فاحشا بحيث لا يبقى بين الكلام الأخير وبين الأول نوع مناسبة والجواب عن الأول أن من أدى تمام معني كلام الرجل فإنه يوصف بأنه أدى كما سمع وإن اختلفت الألفاظ وهكذا الشاهد والترجمان يقع عليهما الوصف بأنهما أديا كما سمعا وإن كان لفظ الشاهد خلاف لفظ المشهود عليه ولغة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 المترجم غير لغة المترجم عنه وعن الثاني والثالث ما تقدم من قبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 المسألة السادسة الراويات إذا اتفقا على رواية خبر وانفرد أحدهما بزيادة وهما ممن يقبل حديثه فإما أن يكون المجلس واحدا أو متغايرا فإن كان متغايرا قبلت الزيادة لأنه لا يمتنع أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر الكلام في أحد المجلسين مع زيادة وفي المجلس الثاني بدون تلك الزيادة وإذا كان كذلك فنقول عدالة الراوي تقتضي قبول قوله ولم يوجد ما يقدح فيه فوجب قبوله وإن كان المجلس واحدا فالذين لم يرووا الزيادة إما أن يكونوا عددا لا يجوز أن يذهلوا عما يضبطه الواحد أو ليسوا كذلك فإن كان الأول لم تقبل الزيادة وحمل أمر راويها على أنه يجوز مع عدالته أن يكون قد سمعها من غير النبي صلى الله عليه وسلم وظن أنه قد سمعها منه وإن كان الثاني فتلك الزيادة إما أن لا تكون مغيرة لإعراب الباقي أو تكون فإن لم تغير إعراب الباقي قبلت الزيادة عندنا إلا أن يكون الممسك عنها أضبط من الراوي لها خلافا لبعض المحدثين لنا أن عدالة راوي الزيادة تقتضي قبول خبره وإمساك الراوي الثاني عن روايتها لا يقدح فيه لاحتمال أن يقال إنه كان حال ذكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 الرسول عليه الصلاة والسلام تلك الزيادة عرض له سهو أو شغل قلب أو عطاس أو دخول انسان أو فكر أذهله عن سماع تلك الزيادة وإذا وجد المقتضي لقبول الخبر خاليا عن المعارض وجب قبوله فإن قلت كما جاز السهو على الممسك جاز أيضا على الراوي قلت لا نزاع في الجواز على الجملة لكن الأغلب على الظن أن راوي الزيادة أبعد عن السهو لأن ذهول الإنسان عما سمعه أكثر من توهمه فيما لم يسمع أنه سمعه بلي لو صرح الممسك بنفي الزيادة وقال إنه عليه الصلاة والسلام وقف على قوله فيما سقت السماء العشر فلم يأت بعده بكلام آخر مع انتظارى له فها هنا يتعارض القولان ويصار إلى الترجيح أما إذا كانت الزيادة مغيرة لإعراب الباقي كما إذا روى أحدهما أدوا عن كل حر أو عبد صاعا من بر ويروى الآخر نصف صاع من بر فالحق أنها لا تقبل خلافا لأبي عبد الله البصري لنا أنه حصل التعارض لأن أحدهما إذا رواه صاعا فقد رواه بالنصب والآخر اذا روى نصف صاع فقد روى الصاع بالجر والنصب ضد الجر فقد حصل التعارض وإذا كان كذلك وجب المصير إلى الترجيح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 فرع الراوي الواحد إذا روى الزيادة مرة ولم يروها غير تلك المرة فإن أسندهما إلى مجلسين قبلت الزيادة سواء غيرت اعراب الباقي أو لم تغير وإن أسندهما إلى مجلس واحد فالزيادة إن كانت مغيرة للإعراب تعارضت روايتاه كما تعارضتا من راويين وإن لم تغير الإعراب فإما أن تكون روايته للزيادة مرات أقل من مرات الإمساك أو بالعكس أو يتساويان فإن كانت مرات الزيادة أقل من مرات الإمساك لم تقبل الزيادة لأن حمل الأقل على السهو أولى من حمل الأكثر عليه اللهم إلا أن يقول الراوي إني سهوت في تلك المرات وتذكرت في هذه المرة فها هنا يرجح المرجوح على الراجح لأجل هذا التصريح وإن كانت مرات الزيادة أكثر قبلت لا محالة لوجهين أحدهما ما ذكرنا أن حمل الأقل على السهو أولى والثاني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 فرع الراوي الواحد إذا روى الزيادة مرة ولم يروها غير تلك المرة فإن أسندهما إلى مجلسين قبلت الزيادة سواء غيرت اعراب الباقي أو لم تغير وإن أسندهما إلى مجلس واحد فالزيادة إن كانت مغيرة للإعراب تعارضت روايتاه كما تعارضتا من راويين وإن لم تغير الإعراب فإما أن تكون روايته للزيادة مرات أقل من مرات الإمساك أو بالعكس أو يتساويان فإن كانت مرات الزيادة أقل من مرات الإمساك لم تقبل الزيادة لأن حمل الأقل على السهو أولى من حمل الأكثر عليه اللهم إلا أن يقول الراوي إني سهوت في تلك المرات وتذكرت في هذه المرة فها هنا يرجح المرجوح على الراجح لأجل هذا التصريح وإن كانت مرات الزيادة أكثر قبلت لا محالة لوجهين أحدهما ما ذكرنا أن حمل الأقل على السهو أولى والثاني ما ذكرنا أن حمل السهو على نسيان ما سمعه أولى من حمله على توهم أنه سمع ما لم يسمعه وأما إن تساويا قبلت الزيادة لما بينا أن هذا السهو أولى من ذلك والله أعلم القسم الثاني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 المحصول في علم أصول الفقه جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الثالثة 1418 هـ / 1997 م المحصول في علم أصول الفقه للامام الاصولي النظار المفسر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 - 606 هـ / 1149 - 1209 م دراسة وتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني الجزء الخامس مؤسسة الرسالة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 بسم الله الرحمن الرحيم الكلام في القياس وهو مرتب على مقدمة وأربعة أقسام أما المقدمة ففيها مسائل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 المسألة الأولى في حد القياس أسد ما قيل في هذا الباب تلخيصا وجهان الأول ما ذكره القاضي أبو بكر واختاره جمهور المحققين منا أنه حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما وإنما ذكرنا لفظ المعلوم ليتناول الموجود المعدوم فإن القياس يجرى فيهما جميعا ولو ذكرنا الشئ لاختص بالموجود على مذهبنا ولو ذكرنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 الفرع لكان يوهم اختصاصه بالموجود وأيضا فلا بد من معلوم ثان يكون أصلا فإن القياس عبارة عن التسوية وهي لا تتحقق إلا بين أمرين ولأنه لولا الأصل لكان ذلك إثباتا للشرع بالتحكم وأيضا فالحكم قد يكون نفيا وقد يكون إثباتا وأيضا فالجامع قد يكون أمرا حقيقيا وقد يكون حكما شرعيا وكل واحد منهما قد يكون نفيا وقد يكون إثباتا هذا شرح هذا التعريف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 والاعتراض عليه من وجوه أحدها أن نقول إن أردت بحمل أحد المعلومين على الآخر إثبات مثل حكم أحدهما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 للأخر فقولك بعد ذلك في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما إعادة لعين ذلك فيكون ذلك تكريرا من غير فائدة وإن كان شيئا آخر فلا بد من بيانه وأيضا فبتقدير أن يكون المراد منه شيئا آخر لكن لا يجوز ذكره في تعريف القياس لأن ماهية القياس تتم بإثبات مثل معلوم لمعلوم آخر بأمر جامع وإذا تمت الماهية بهذا القدر وكان ذلك المعلوم الزائد خارجا فلا يجوز ذكره وثانيها أن قوله في إثبات حكم لهما مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع مثبت بالقياس وهو باطل فإن القياس فرع على ثبوت الحكم في الأصل فلو كان ثبوت الحكم في الأصل فرعا على القياس للزم الدور وثالثها أنه كما يثبت الحكم بالقياس فقد تثبت الصفة أيضا بالقياس كقولنا الله عالم فيكون له علم قياسا على الشاهد ولا نزاع في أنه قياس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 لأن القياس أعم من القياس الشرعي والقياس العقلي وإذا كان كذلك فنقول إما أن تكون الصفة مندرجة في الحكم أو لا تكون فان كان الأول كان قوله بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة أو نفيهما عنه تكررا لأن الصفة لما كانت أحد أقسام الحكم كان ذكر الصفة بعد ذكر الحكم تكرارا وإن كان الثاني كان التعريف ناقصا لأنه ذكر ما إذا كان المطلوب ثبوت المحكم أو عدمه ولم يذكر ما إذا كان المطلوب وجود الصفة أو عدمها فهذا التعريف أما زائد أو ناقص ورابعها أن المعتبر في ماهية القياس إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر بأمر جامع فأما أن ذلك الجامع تارة يكون حكما وتارة يكون صفة وتارة يكون نفيا للحكم وتارة يكون نفيا للصفة فذاك إشارة إلى ذكر أقسام الجامع والمعتبر في تحقق ماهية القياس الجامع من حيث أنه جامع لاأقسام قال الجامع بدليل أمرين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 الأول أن ماهية القياس قد توجد منفكة عن كل واحد من أقسام الجامع بعينه وإن كان لا بد لها من قسم ما وما ينفك عن الماهية لا يكون معتبرا في تحقق الماهية والثاني أن الجامع كما ينقسم إلى الحكم والصفة ونفيهما فكذا الحكم ينقسم إلى الوجوب والحظر وغيرهما والوجوب ينقسم إلى الموسع والمضيق والمخير والمعين وغيرها فلو لزم من اعتبار الجامع في ماهية القياس ذكر أقسامه لوجب من ذكر كل واحد من تلك الأقسام ذكر ما لكل واحد من الأقسام وخامسها أن كلمة أو للإبهام وماهية كل شئ معينة والإبهام ينافي التعيين فإن قلت كونه بحيث يلزمه أحد هذه الأمور حكم معين قلت فالمعتبر إذن في الماهية ملزوم هذه الأمور وهو كونه جامعا من حيث إنه جامع فيكون ذكر هذه الزوائد لغوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 وسادسها هو أن القياس الفاسد قياس وهو خارج عن هذا التعريف أما الأول فلأن القياس الفاسد قياس مع كيفية فيكون قياسا وأما الثاني فلأن قوله بأمر جامع دليل على أن هذا القائل يعتبر في حد القياس حصول الجامع ومتى حصل الجامع كان القياس صحيحا فيكون القياس الفاسد خارجا عنه وإنه غير جائز بل يجب أن يقال بأمر جامع في ظن المجتهد فأن القياس الفاسد حصل فيه الجامع في ظن المجتهد وإن لم يحصل في نفس الأمر التعريف الثاني ما ذكره أبو الحسين البصري وهو أنه تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد وهو قريب وأظهر منه أن يقال إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لأجل اشتباههما في علة الحكم عند المثبت فلنفسر عن الألفاظ المستعملة في هذا التعريف أما الإثبات فالمراد منه القدر المشترك بين العلم والاعتقاد والظن سواء تعلقت هذه الثلاثة بثبوت الحكم أو بعدمه وقد يطلق لفظ الإثبات ويراد به الخبر باللسان لدلالته على الحكم الذهنى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 وأما المثل فتصوره بديهي لأن كل عاقل يعلم بالضرورة كون الحار مثلا للحار في كونه حارا ومخالفا للبارد في كونه باردا ولو لم يحصل تصور ماهية التماثل والاختلاف إلا بالاكتساب لكان الخالى عن ذلك الاكتساب خاليا عن ذلك التصور فكان خاليا عن هذا التصديق ولما علمنا أننا قبل كل اكتساب نعلم بالضرورة هذا التصديق المتوقف على ذلك التصور علمنا أن حصول ذلك التصور غنى عن الاكتساب وأما الحكم فقد مر في أول الكتاب تعريفه وأما المعلوم فلسنا نعنى به مطلق متعلق العلم فقط بل ومتعلق الاعتقاد والظن لأن الفقهاء يطلقون لفظ المعلوم على هذه الأمور وأما العلة فسيأتي تفسيرها إنشاء الله تعالى وقولنا عند المثبت ذكرناه ليدخل فيه القياس الصحيح والفاسد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 فإن قيل هذا التعريف ينتقض بقياس العكس وقياس التلازم والمقدمتين والنتيجة أما قياس العكس فكقولنا لو لم يكن الصوم شرطا لصحة الاعتكاف لما كان شرطا له بالنذر قياسا على الصلاة فإنها لما لم تكن شرطا لصحة الاعتكاف لم تكن شرطا له بالنذر فالمطلوب في الفرع إثبات كون الصوم شرطا لصحة الاعتكاف والثابت في الأصل نفي كون الصلاة شرطا له فحكم الفرع ليس حكم الأصل بل نقيضه وأما قياس التلازم فكقولنا إن كان هذا إنسانا فهو حيوان لكنه إنسان فهو حيوان لكنه ليس بحيوان فليس بإنسان وأما المقدمتان فكقولنا كل جسم مؤلف وكل مؤلف محدث فكل جسم محدث فإن قلت لا أسمي هاتين الصورتين قياسا لأن القياس عبارة عن التسوية وهي لا تحصل إلا عند تشبيه صورة بصورة وليس الأمر كذلك في التلازم وفي المقدمتين والنتيجة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 قلت بل التسوية حاصلة في هذين الموضعين لأن الحكم في كل واحدة من المقدمتين معلوم والحكم في النتيجة مجهول فاستلزام المطلوب من هاتين المقدمتين يوجب صيرورة الحكم المطلوب مساوية للحكم في المقدمتين في صفة المعلومية والجواب أما الشئ الذي سميتموه بقياس العكس فهو في الحقيقة تمسك بنظم التلازم وإثبات لإحدى مقدمتى التلازم بالقياس فإنا نقول لو لم يكن الصوم شرطا في صحة الاعتكاف لما صار شرطا له بالنذر لكنه يصير شرطا له بالنذر فهو شرط له مطلقا فهذا تمسك بنظم التلازم واستثناء نقيض اللازم لإنتاج نقيض الملزوم ثم إنا نثبت المقدمة الشرطية بالقياس وهو أن ما لا يكون شرطا للشئ في نفسه لم يصر شرطا له بالنذر كما في الصلاة وهذا قياس الطرد لا قياس العكس وأما الصورتان الباقيتان فلا نسلم أنه قياس لما بينا قوله معنى التسوية حاصل فيه من الوجه المذكور قلنا لو كفى ذلك الوجه في إطلاق اسم القياس لوجب أن يسمى كل دليل قياسا لأن المتسك من بالنص جعل مطلوبه مساويا لذلك النص في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 المعلومية ولو صح ذلك لأمتنع في أن يقال ثبت الحكم في محل النص بالنص لا بالقياس فإن أردنا أن نذكر عبارة في تعريف القياس بحيث تتناول كل هذه الصور نقل القياس قول مؤلف من أقوال إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر وتحقيق القول في هذا التعريف مذكور في كتبنا العقلية المسألة الثانية في الأصل والفرع إذا قسنا الذرة على البر في تحريم بيعه بجنه بن متفضلا فأصل القياس إما أن يكون هو البر أو الحكم الثابت فيه أو علة ذلك الحكم أو النص الدال على ثبوت ذلك الحكم فالفقهاء جعلوا الأصل اسما لمحل الحكم المنصوص عليه والمتكلون جعلوه اسما للنص الدال على ذلك الحكم أما قول الفقهاء فضعيف لأن أصل الشئ ما تفرع عنه غيره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 والحكم المطلوب إثباته في الذرة غير متفرع على البر لأن البر لو لم يوجد فيه ذلك الحكم وهو حرمة الربا لم يمكن تفريع حرمة الربا في الذرة عليه ولو وجد ذلك الحكم في صورة أخرى ولم يوجد في البر أمكن تفريع حكم الربا في الذرة عليه فإذن الحكم المطلوب إثباته غير متفرع أصلا على البر بل على الحكم الحاصل في البر فالبر إذن لا يكون أصلا للحكم المطلوب وأما زيادة قول المتكلمين فضعيف أيضا من هذا الوجه لأنا لو قدرنا كوننا عالمين بحرمة الربا في البر بالضرورة أو بالدليل العقلى لأمكننا أن نفرع عليه حكم الذرة فلو قدرنا أن النص على حرمة الربا في صورة خاصة لم يكن أن نفرع عليه حكم الذرة تفريعا قياسيا وإن أمكن تفريعا نصيا وإذا كان كذلك لم يكن النص أصلا للقياس بل أصلا لحكم محل الوفاق ولما فسد هذان القولان بقى أن يكون أصل القياس هو الحكم الثابت في محل الوفاق أو علة ذلك الحكم ولابد فيه من تفصيل فنقول الحكم أصل في محل الوفاق فرع في محل الخلاف والعلة فرع في محل الوفاق أصل في محل الخلاف وبيانه أنا ما لم نعلم ثبوت الحكم في محل الوفاق لا نطلب علة وقد نعلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 ذلك الحكم ولا نطلب علته أصلا فلما توقف إثبات علة الحكم في محل الوفاق على إثبات ذلك الحكم ولم يتوقف إثبات ذلك الحكم على إثبات علة الحكم في محل الوفاق لاجرم كانت العلة فرعا على الحكم في محل الوفاق والحكم أصلا فيه وأما في محل الخلاف فما لم نعلم حصول العلة فيه لا يمكننا إثبات الحكم فيه قياسا ولا ينعكس فلا جرم كانت العلة أصلا في محل الخلاف والحكم فرعا فيه وإذا عرفت ذلك فنقول إن لقول الفقهاء والمتكلمين وجها أيضا لأنه إذا ثبت أن الحكم الحاصل في محل الوفاق أصل وثبت أن النص أصل لذلك الحكم فكان النص أصلا لأصل الحكم المطلوب وأصل الأصل أصل فيجوز تسمية ذلك النص بالأصل على قول المتكلمين وأيضا فالحكم الذي هو الأصل محتاج إلى محلة فيكون محل الحكم أصلا للأصل فتجوز تسميته بالأصل أيضا على ما هو قول الفقهاء وهاهنا دقيقة وهي أن تسمية العلة في محل النزاع أصلا أولى من تسمية محل الوفاق بذلك لأن العلة مؤثرة في الحكم والمحل غير مؤثر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 في الحكم فجعل علة الحكم أصلا له أولى من جعل محل الحكم أصلا له لأن التعليق الأول أقوى من الثاني وأما الفرع فهو عند الفقهاء عبارة عن محل الخلاف وعندنا عبارة عن الحكم المطلوب إثباته لأن محل الخلاف غير متفرع على الأصل بل الحكم المطلوب إثباته فيه هو المتفرع عليه وهاهنا دقيقة وهى إطلاق لفظ الأصل على محل الوفاق أولى من إطلاق لفظ الفرع على محل الخلاف لأن محل الوفاق أصل للحكم الحاصل فيه والحكم الحاصل فيه أصل للقياس فكان محل الوفاق أصل أصل القياس وأما هاهنا فمحل الخلاف أصل للحكم المطلوب إثباته فيه وذلك الحكم فرع للقياس فيكون محل الخلاف أصل فرع القياس وإطلاق اسم الأصل على أصل أصل القياس أولى من إطلاق اسم الفرع على أصل الفرع واعلم أنا بعد التنبيه على هذه الدقائق نساعد الفقهاء على مصطلحهم وهو أن الأصل محل الوفاق والفرع محل الخلاف لئلا نفتقر إلى تغيير مصطلحهم المسألة الثالثة إذا اعتقدنا كون الحكم في محل الوفاق معللا بوصف ثم اعتقدنا حصول ذلك الوصف بتمامه في محل النزاع حصل لا محالة اعتقاد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 أن الحكم في محل النزاع مثل الحكم في محل الوفاق فإن كانت المقدمتان قطعيتين كانت النتيجة كذلك ولا نزاع بين العقلاء في صحته أما إذا كانتا ظنيتين أو كانت إحداهما فقط ظنية فالنتيجة تكون ظنية لا محالة وهذا إما أن يكون في الأمور الدنيوية أو في الأحكام الشرعية فإن كان في الأمور الدنيوية فقد اتفقوا على أنه حجة وأما في الشرعيات فهو محل الخلاف والمراد من قولنا القياس حجة أنه إذا حصل ظن أن حكم هذه الصورة مثل حكم تلك الصورة فهو مكلف بالعمل به في نفسه ومكلف بأن يفتى به غيره واعلم أن الجمع بين الأصل والفرع تارة يكون بإلغاء الفارق والغزالي يسميه تنقيح المناط وتارة باستخراج الجامع وهاهنا لا بد من بيان أن الحكم في الأصل معلل بكذا ثم من بيان وجود ذلك المعنى في الفرع والغزالي يسمى الأول تخريج المناط والثاني تحقيق المناط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 القسم الأول في إثبات أن القياس حجة اختلف الناس في القياس الشرعي فقلت طائفة العقل يقتضى جواز التعبد به في الجملة وقالت طائفة العقل يقتضي المنع من التعبد به والأولون قسمان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 منهم من قال وقع التعبد به ومنهم من قال لم يقع أما من اعترف بوقوع التعبد به فقد اتفقوا على أن السمع دل عليه ثم اختلفوا في ثلاثة مواضع أحدها أنه هل في العقل ما يدل عليه فقال القفال منا وأبو الحسين والبصرى من المعتزلة العقل يدل على وجوب العمل به وأما الباقون منا ومن المعتزلة فقد أنكروا ذلك وثانيها أن أبا الحسين البصري زعم أن دلالة الدلائل السمعية عليه ظنية والباقون قالوا قطعية وثالثها القاشاني والنهرواني ذهبا إلى العمل بالقياس في صورتين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 إحداهما إذا كانت العلة منصوصة بصريح اللفظ أو بإيمائه والثانية كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف أما جمهور العلماء فقد قالوا بسائر الأقيسة وأما القائلون بأن التعبد لم يقع به فمنهم من قال لم يوجد في السمع ما يدل على وقوع التعبد به فوجب الامتناع من العمل به ومنهم من لم يقنع بذلك بل تمسك في نفيه بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة وإجماع العترة وأما القسم الثاني وهم الذين قالوا بأن العقل يقتضى المنع من التعبد به فهم فريقان أحدهما خصص ذلك المنع بشرعنا وقال لأن مبنى شرعنا على الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات وذلك يمنع من القياس وهذا قول النظام وثانيها الذين قالوا يمتنع ورود التعبد به في كل الشرائع وهؤلاء فرق ثلاث إحداها الذين قالوا يمتنع أن يكون القياس طريقا إلى العلم والظن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 وثانيتها الذين سلموا أنه يفيد الظن لكنهم قالوا لا يجوز متابعة الظن لأنه قد يخطئ وقد يصيب وثالثها الذين سلموا أنه يجوز متابعة الظن في الجملة ولكن حيث يتعذر النص كما في قيم المتلفات وأروش الجنايات والفتوى والشهادات لأنه لا نهاية لتلك الصور فكان التنصيص على حكم كل واحد منها متعذرا أما في غير هذه الأحكام فإنه يمكن التنصيص عليها فكان الاكتفاء بالقياس اقتصارا على أدنى البابين مع القدرة على أعلاهما وأنه غير جائز وهذه طريقة داود وأتباعه من أهل الظاهر فهذا تفصيل المذاهب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 والذي نذهب إليه وهو قول الجمهور من علماء الصحابة والتابعين أن القياس حجة في الشرع لنا الكتاب والسنه والإجماع والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وجه الاستدلال به أن الاعتبار مشتق من العبور وهو المرور يقال عبرت عليه وعبرت النهر والمعبر الموضع الذي يعبر عليه والمعبر السفينة التي يعبر فيها كأنها أداة العبور والعبرة الدمعة التي عبرت من الجفن وعبر الرؤيا وعبرها جاوزها إلى ما يلازمها فثبت بهذه الاستعمالات كون الاعتبار حقيقة في المجاوزة فوجب أن لا يكون حقيقة في غيرها دفعا للاشتراك والقياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع فكان داخلا تحت الأمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 فإن قيل لا نسلم أن الاعتبار هو المجاوزة بل هو عبارة عن الاتعاظ لوجوه أحدها أنه لا يقال لمن يستعمل القياس العقلى إنه معتبر وثانيها أن المتفكر في إثبات الحكم من طريق القياس إذا لم يتفكر في أمر معاده يقال إنه غير معتبر أو قليل الاعتبار وثالثها قوله تعالى إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار وإن لكم في الأنعام لعبرة والمراد به الاتعاظ ورابعها يقال السعيد من اعتبر بغيره والأصل في الكلام الحقيقة فهذه الأدلة تدل على أن الاعتبار حقيقة في الاتعاظ لا في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 المجاوزة فحصل التعارض بين ما قلتم وما قلناه فعليكم الترجيح ثم الترجيح معنا فإن الفهم أسبق إلى ما ذكرنا سلمنا أن ما ذكرتموه حقيقة ولكن شرط حمل اللفظ على الحقيقة أن لا يكون هناك ما يمنع منه وقد وجد هاهنا ما يمنع فإنه لو قال يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر كان ركيكا لا يليق بالشرع وإذا كان كذلك ثبت أنه وجد ما يمنع من حمل اللفظ على حقيقته سلمنا أنه لا مانع من حمله على المجاوزة لكن لا نسلم أن الأمر بالمجاوزة أمر بالقياس الشرعي وبيانه أن كل من تمسك بدليل على مدلول فقد عبر من الدليل إلى المدلول فمسمى الاعتبار مشترك فيه بين الاستدلال بالدليل العقلى القاطع وبالنص وبالبراءة الأصلية وبالقياس الشرعي فكل واحد من هذه الأنواع يخالف الآخر بخصوصيته وما به الاشتراك غير ما به الامتياز وغير مستلزم له فاللفظ الدال على ما به الاشتراك غير دال على ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 به الامتياز لا بلفظه ولا بمعناه فلا يكون دالا على النوع الذي ليس إلا عبارة عن مجموع جهة الاشتراك وجهة الامتياز فلفظ الاعتبار غير دال على القياس الشرعي لا بلفظه ولا بمعناه فإن قلت القدر المشترك بين أنواع مخصوصة لا يوجد إلا عند وجود واحد منها والأمر بالشئ أمر بما هو من ضروراته فالأمر بإدخال الاعتبار في الوجود أمر بإدخال أحد أنواعه في الوجود ثم ليس تعيين أحد أنواعه أولى من تعيين الباقي لأن نسبة القدر المشترك بين أنواع مخصوصة إلى كل واحد منها على السوية فإما أن لا يجب شئ منها وهو باطل لأن تجويز الإخلال بجميع أنواع الماهية يلزم تجويز الإخلال بتلك الماهية فيلزم أن لا يكون مسمى الاعتبار مأمورا به وهو باطل أو يجب جميع أنواع الاعتبار المأمور به في الآية فيكون القياس الشرعي مندرجا فيه قلت لا نسلم أنه ليس بعض الأنواع أولى من بعض لأن الاعتبار المأمور به في الآية لا يمكن أن يكون هو القياس الشرعي فقط وإلا لصار معنى الآية يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر ومعلوم أنه غير جائز بل لا بد من الاعتراف بأن الاعتبار المأمور به يفيد نوعا غير القياس الشرعي وهو الاتعاظ مثلا إلا أنا نقول إنه يفيد الاتعاظ فقط وأنتم تقولون يفيد الاتعاظ والقياس الشرعي فظهر بهذا أن الأمر بالاعتبار يستلزم الأمر بالاتعاظ ومسمى الاعتبار حاصل في الاتعاظ ففي إيجاب الاتعاظ حصل إيجاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 مسمى الاعتبار فلا حاجة إلى إيجاب سائر أنواعه وأيضا فنحن نوجب اعتبارات أخر أحدها إذا نص الشارع على علة الحكم فهاهنا القياس عندنا واجب وثانيها قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف وثالثها الأقيسة العقلية ورابعها الأقيسة في أمور الدنيا فإن العمل بها عندنا واجب وخامسها أن نشبه الفرع بالأصل في أنه لا يستفاد حكمه إلا من النص وسادسها الاتعاظ والانزجار بالقصص والأمثال فثبت بما تقدم أن الآتى بفرد من أفراد ما يسمى اعتبارا يكون خارجا عن عهدة هذا الأمر وثبت أنا أتينا به في صور كثيرة فلا تبقى فيه دلالة البتة على الأمر بالقياس الشرعي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 سلمنا أن اللفظ يقتضى العموم لكن حمله عليه هاهنا يفضي إلى التناقض لأن التسوية بين الفرع والأصل في الحكم نوع من الاعتبار والتسوية بينهما في أنه لا يستفاد حكم الفرع إلا من النص كما أنه في الأصل كذلك ولأنه نوع أخر من الاعتبار والأمر بأحد الاعتبارين مناف للأمر بالآخر فإجراء اللفظ على ظاهره يقتضى الأمر بالمتنافيين معا وهو محال ثم ليس إخراج أحد القسمين من تحت ظاهر العموم لإبقاء الآخر أولى من العكس وعليكم الترجيح ثم أنه معنا لأن تشبيه الفرع بالأصل في أنه لا يستفاد حكمه إلا من النص عمل بالاحتياط واحتراز عن الظن الذي لا يغني من الحق شيئا سلمنا بأن حمله على العموم لا يفضى إلى التناقض لكنه عام دخله التخصيص فوجب أن لا يكون حجة بيان الأول من وجوه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 أحدهما أن الرجل لا يكون مأمورا بالاعتبار عند تعادل الأمارات وفي الأشياء التي ما نصب الله تعالى عليها دليلا كمقادير الثواب والعقاب وأجزاء السماوات والأرض وفي الأشياء التي عرف حكمها بالاعتبار مرة فالمكلف بعد ذلك لا يكون مأمورا بأعتبار آخر وثانيها لو قال لوكيله أعتق غانما لسواده فليس للوكيل أن يعتق سالما لسواده وثالثها أن عند قيام النص في المسألة لا يكون الرجل مأمورا بالعمل بالقياس ورابعها الأقيسة المتعارضة لا يتناولها الأمر فثبت أن هذا العام مخصوص ومثل هذا العام ليس بحجة على ما سبق بيانه في باب العموم سلمنا أنه حجة لكن حجة قطعية أو ظنية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أنكم إنما بينتم كون الاعتبار اسما للمجاوزة بتلك الاشتقاقات ولا شك أن التوسل بالاشتقاقات هذه إلى تعيين المسمى دليل ظنى ومسألة القياس مسألة يقينية وبناء اليقيني على الدليل المبنى على المقدمة الظنية لا يجوز سلنا أنه يفيد اليقين لكنه أمر والأمر لا يفيد التكرار فلا يتناول كل الأوقات سلمنا أنه يتناول كل الأوقات ولكنه خطاب مشافهة فيختص بالحاضرين في عصر الرسول ص والجواب قلنا جعله حقيقة في المجاوزة أولى لوجهين الأول أنه يقال فلان اعتبر فأتعظ فيجعلون الاتعاظ معلول الاعتبار وذلك يوجب التغاير الثاني أن معنى المجاوزة حاصل في الاتعاظ فإن الإنسان ما لم يستدل بشئ آخر على حال نفسه لا يكون متعظا إذا ثبت هذا فنقول لو جعلناه حقيقة في المجاوزة لكان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 حقيقة في الاتعاظ وغيره على سبيل التواطئ أما لو جعلناه حقيقة في الاتعاظ كان استعماله في غيره إما بالاشتراك أو بالمجاز وهما على خلاف الأصل وعلى هذا التقرير لا يضرنا قولهم إن لفظ الاعتبار مستعمل في الاتعاظ فأما قوله لا يقال لمن يستعمل القياس إنه معتبرا قلنا لا نسلم فإنه يصح أن يقال إن فلانا يعتبر الأشياء القعلية بغيرها بلى من أتى بقياس واحد لا يقال إنه معتبرا على الإطلاق كما أنه لا يقال له إنه قائس على الإطلاق لأن لفظ المعتبر والقائس على الإطلاق لا يستعمل إلا في المكثر منه قوله المكثر من حمل الفروع على الأصول إذا لم يتفكر في أمر آخرته لا يقال له إنه معتبر قلنا لما كان الغرض الأعظم من الاعتبار هو العمل للآخرة فإذا لم يأت بما هو المقصود الأصلى قيل أنه غير معتبر على سبيل المجاز كما يقال لمن لا يتدبر في الآيات إنه أعمى وأصم وأما قوله تعالى وإن لكم في الأنعام لعبرة قلنا معنى المجاوزة حاصل فيه لأن النظر في خلقها يفيد العلم بوجود صانعها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 قوله سلمناه أنه حقيقة في المجاوزة ولكن لكن وجد ما يمنع من حمله عليها قلنا لا نسلم قوله لو قال يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا الذرة على البر كان ركيكا قلنا لا نزاع في أنه لو نص على هذه الصورة كان ركيكا لأنه لا مناسبة بين خصوص هذا القياس وبين قوله تعالى يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين لكن لم قلت إنه لو أمر بمطلق الاعتبار الذي يكون القياس الشرعي أحد جزئياته كان ركيكا مثاله لو سأله عن مسألة فأجاب بما لا يتناول تلك المسألة كان باطلا أما لو أجاب بما يتناول تلك المسألة وغيرها كان حسنا قوله الأمر بالاعتبار لا يقتضى إلا إدخال فرد من أفراد هذه الماهية في الوجود قلنا بل يقتضى العموم لدليلين الأول أن ترتيب الحكم على المسمى يقتضى أن علة ذلك الحكم هو ذلك المسمى وذلك يقتضى أن علة الأمر بالاعتبار هو كونه اعتبارا فيلزم أن يكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 كل اعتبار مأمورا به الثاني أنه يحسن أن يقال اعتبر إلا الاعتبار الفلانى وقد بينا في باب العموم أن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحت اللفظ فعلمنا أن كل الاعتبارات داخلة تحت هذا اللفظ قوله لو حملناه على العموم لا يفضي إلى التناقض قلنا هب أنه كذلك لكنا نقول لا يجوز أن يكون المراد منه تشبيه الفرع بالأصل في أنه لا يستفاد حكمه إلا من النص وذلك لوجهين الأول أن الاعتبار المذكور هاهنا لابد وأن يكون معناه لائقا بما قبل هذه الآية وما بعدها وإلا جاءت الركاكة والذي يليق به هو التشبيه في الحكم لا المنع منه وإلا لصار معنى الآية يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فلا تحكموا هذا الحكم في حق غيرهم إلا بنص وارد في حق ذلك الغير ومعلوم أن ذلك باطل وإذا بطل حمل الآية عليه وجب حملها على التشبيه في الحكم عملا بعموم اللفظ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 الثاني هو أن المتبادر إلى الفهم من لفظ الاعتبار هو التشبيه في الحكم لا المنع منه ولذلك فإن السيد إذا ضرب بعض عبيده على ذنب صدر منه ثم قال للأخر اعتبر به فهم منه الأمر بالتسوية في الحكم لا الأمر بالمنع منه قوله إنه عام مخصوص قلنا هذا مسلم لكنا بينا في باب العموم ان العام المخصوص حجة قوله بعض مقدمات هذه الدلالة ظنية قلنا هذا السؤال عام في كل السمعيات فلا يكون له تعلق بخاصية هذه المسألة قوله الأمر لا يفيد التكرار قلنا إنه لما كان أمرا بجميع الأقيسة كان متناولا لا محالة لجميع الأوقات وإلا قدح ذلك في كونه متناولا لكل الأقيسة قوله هو خطاب مع أولئك الذين كانوا في عصر الرسول ص فلم قلتم إنه يتناولنا قلنا للإجماع على عدم الفرق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 المسلك الثاني التمسك بخبر معاذ وهو مشهور روى أنه ص أنفذ معاذا وأبا موسى الأشعرى رضى الله عنهما إلى اليمن فقال عليه الصلاة والسلام لهما بما تقضيان فقالا إذا لم نجد الحكم في السنة نقيس الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى الحق عملنا به فقال علية الصلاة والسلام أصبتما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 وقال عليه الصلاة والسلام لأبن مسعود اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما فإن لم تجد الحكم فيهما فأجتهد برأيك فإن قيل لا نسلم صحة الحديث وبيانه من وجهين الأول أنه مشتمل على الخطأ فوجب أن لا يكون صحيحا بيان الأول من وجوه أحدها أن فيه قوله فإن لم تجد في كتاب الله وهو يناقض قوله تعالى ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 فرطنا في الكتاب من شئ وقوله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) وثانيها أن في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام صوبه على قوله أجتهد رأيي وهو خطأ لأن الاجتهاد في زمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز على ما سيأتي دليله إن شاء الله تعالى وثالثها أنه عليه الصلاة والسلام سأله عما به يقضى والقضاء هو الإلزام فيكون السؤال واقعا عن الشئ الذي يجب الحكم به والسنة لا تصلح جوابا عن ذلك لأنها تذكر في مقابلة الفرض هذا سنة وليس بفرض ورابعها أن الحديث يقتضى أنه سأله عما به يقضي بعد أن نصبه للقضاء وذلك لا يجوز لأن جواز نصه للقضاء مشروطا بصلاحيته للقضاء وهذه الصلاحية إنما تثبت لو ثبت كونه عالما بالشئ الذي يجب أن يقضى به والشئ الذي لا يجب أن يقضى به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 وخامسها أن مقتضى الحديث أنه لا يجوز الاجتهاد إلا عند عدم وجدان الكتاب والسنة وهو باطل لأن تخصيص الكتاب والسنة بالقياس جائز الوجه الثاني في بيان ضعف الحديث روى أن معاذا لما قال أجتهد رأيي قال له الرسول ص اكتب إلي أكتب إليك وليس لأحد أن يقول إنا نصحح الروايتين لأنهما نقلا في واقعة واحدة فإنه لا يمكن الجمع بينهما سلمنا سلامة المتن عن هذه المطاعن لكن لا نزاع بين المحدثين في كونه مرسلا والمرسل ليس بحجة على ما تقدم بيانه سلمنا أنه ليس بمرسل ولكنه ورد في إثبات القياس والاجتهاد وإنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 أصل عظيم في الشرع والدواعي تكون متوفرة على نقل ما هذا شأنه وما يكون كذلك وجب بلوغه في الاشتهار إلى حد التواتر فلما لم يكن كذلك علمنا أنه ليس بحجة والحاصل أنه مرسل فوجب أن لا يكون حجة عند الشافعي رضي الله عنه وأنه خبر وارد فيما تعم به البلوى فوجب أن لا يكون حجة عند أبي حنيفة سلامته عن هذا الأمر لكنه خبر واحد فلا يجوز التمسك به في المسائل القطعية فإن قلت الدليل على صحته أن مثبتى القياس كانوا أبدا متمسكين به في إثبات القياس والنفاة كانوا مشتغلين بتأويله وذلك يدل على اتفاقهم على قبوله قلت قد تقدم بيان ضعف هذا الوجه سلمنا صحته فلم يدل على كون القياس حجة أما قوله أجتهد رأيي قلنا الاجتهاد عبارة عن استفراغ الجهد في الطلب فنحمله على طلب الحكم من النصوص الخفية فإن قلت إنما قال أجتهد رأيي بعد أن كان لا يجده في الكتاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 والسنة وما دلت النصوص الخفية عليه لا يجوز أن يقال إنه غير موجود في الكتاب والسنة قلنا لا نسلم أن قوله فإن لم تجده يقتضى العموم بيانه أنه يصح أن يستفهم فيقال أتعني بقولك فإن لم تجد عدم الوجدان في صرائحه فقط أم فيه وفي جميع وجوه دلالته سلمنا أنه بظاهرة للعموم لكن هاهنا لا يمكن حمله على العموم لأن العمل بالقياس مفهوم عندكم من الكتاب والسنة فكيف يصح حمل قوله فإن لم تجد على العموم سلمنا أنه يمكن حمله على العموم لكن قوله أجتهد رأيي يكفى في العمل بمقتضاه نوع واحد من الاجتهاد فنحمله على التمسك بالبراءة الأصلية أو على التمسك بما ثبت في العقل من أن الأصل في الأفعال الإباحة أو الحظر سلمنا أنه لا يجوز حمله عليه فلم قلتم إنه لما لم يجز حمله على النص الخفي وعلى دليل العقل وجب حمله على القياس الشرعي وما الدليل على الحصر فإن هاهنا طرقا أخرى سوى القياس كالتمسك بالمصالح المرسلة والتمسك بطريقة الاحتياط في تنزيل اللفظ على أكثر مفهوماته أو أقل مفهوماته أو قول الشارع احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 وبالجملة فلابد من دليل على الحصر سلمنا أنه يتناول القياس الشرعي ولكن يكفي في العمل بمقتضاه إثبات نوع واحد من أنواع القياس الشرعي ونحن نقول به فإن مذهب النظام أن الشرع إذا نص على علة الحكم وجب القياس ورد الأمر بالقياس أو لم يرد ويجب أيضا قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف سلمنا أنه يدل على جواز العمل بالقياس الشرعي لكن في زمان حياة الرسول ص أو بعده على الإطلاق الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن شرط العمل بالقياس عدم الوجدان في الكتاب والسنة وذلك إنما يمكن في زمان حياة الرسول ص لعدم استقرار الشرع فأما بعد نزول قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم فإن هذا متعذر لأن الدين إنما يكون كاملا أن لو بين فيه جميع ما يحتاج إليه وذلك إنما يكون بالتنصص سنة على كليات الأحكام وإذا كان جميع الأحكام موجودا في الكتاب والسنة وكان العمل بالقياس مشروطا بعدم الوجدان فيهما لم يجز العمل بالقياس بعد زمان الرسول ص الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 والجواب قوله هذا الحديث مناف لكتاب الله تعالى قلنا لا نسلم وأما قوله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وقوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شئ قلنا هذه الأدلة تدل على اشتمال الكتاب على كل الأمور إبتداء أو بواسطة الأول باطل لخلو ظاهر كتاب الله تعالى عن دقائق الهندسة والحساب وتفاريع الحيض والوصايا والثاني لا يضرنا لأن كتاب الله تعالى لما دل على وجوب قبول قول الرسول ص وقول الرسول دل على أن القياس حجة والقياس دل على هذه الأحكام كان كتاب الله تعالى دالا على هذه الأحكام قوله الحديث يدل على جواز الاجتهاد في زمان الرسول ص قلنا وأي محذور يلزم منه فإن الواقعة التي لا يمكن تأخير الحكم فيها إلى مدة يذهب الرجل من اليمن إلى المدينة ويرجع عنها لا يكون تحصيل النص فيها ممكنا فوجب جواز الرجوع إلى القياس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 قوله ذكر السنة جوابا عما به يقضى غير جائز قلنا لا نسلم لأن السنة عبارة عن الطريقة كيف كانت قوله لا يجوز نصبه للقضاء إلا بعد العلم بأنه يعرف التمييز بين ما يجوز به القضاء وبين ما لا يجوز قلنا المراد بقوله لما بعث معاذا إلى اليمن لما عزم على أن يبعثه قوله الحديث يمنع من تخصيص الكتاب والسنة بالقياس قلنا كثير من الناس ذهب إليه قوله نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال اكتب إلي أكتب إليك قلنا روايتنا مشهورة وروايتكم غريبة لم يذكرها أحد من المحدثين فلا يحصل التعارض وأيضا فكيف يجوز أن يقول عليه الصلاة والسلام اكتب إلي أكتب إليك وقد يعرض من الحكم مالا يجوز تأخيره وأيضا يمكن الجمع بينهما وإن وردا في واقعة واحدة وهو أن يقال الحادثة إن احتملت التأخير وجب عرضها وإن لم تحتمل وجب الاجتهاد قوله إنه مرسل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 قلنا هب أنه كذلك لكنه مرسل تلقته الأمة بالقبول ومثله حجة عندنا قوله وارد فيما تعم به البلوى فوجب بلوغه إلى حد التواتر قلنا وروده فيما تعم به البلوى لا يوجب كونه متواترا بدليل المعجزات المنقولة عن النبي ص قوله إنه خبر واحد قلنا هب أنه كذلك لكن لا نثبت به القطع بكون القياس حجة بل ظن كونه حجة قوله نحمله على طلب النص الخفى قلنا قوله فإن لم تجد يقتضى نفي النص جليا كان أو خفيا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 قوله لا نسلم أن قوله فإن لم تجد للعموم قلنا الدليل الدال على أنه للعموم جواز الاستثناء قوله لما دل الكتاب والسنة على العمل بالقياس كان دليلا على الحكم الثابت بالقياس قلنا هب أنه كذلك ولكن الحكم الذي هو مدلول القياس لا يكون حاصلا فيهما وهذا القدر يكفى في جواز أن يقال إنه غير موجود في الكتاب والسنة وقول معاذ أحكم بكتاب الله أراد به ما دل عليه الكتاب بنفسه لا بواسطة إذ لو أراد به كل ما دل عليه الكتاب سواء كان ابتداء أو بواسطة لكان القول بأنه إذا لم يوجد في الكتاب حكمت بما في السنة خطأ قوله نحمله على البراءة الأصلية قلنا البراءة الأصلية معلومة لكل احد فلا حاجة في معرفتها إلى الاجتهاد فلا يجوز حمل قوله أجتهد عليه قوله نحمله على القياس الذي نص الشرع على علته أو على ما يكون مثل قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف قلنا الشرع إنما سكت عند قوله أجتهد لعلمه بأن الاجتهاد واف بجميع الأحكام فلو حملناه على ما ذكرتموه من القياس لم يكن ذلك وافيا بمعرفة عشر عشير الأحكام فكان يجب أن لا يسكت عليه كما لم يسكت عند قوله أقضي بالكتاب والسنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 قوله ما الدليل على الحصر قلنا أجمعت الأمة على الحصر فوجب القطع به المسلك الثالث روى أن عمر رضي الله عنه سأل النبي ص عن قبلة الصائم فقال أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه وجه الاستدلال به أنه عليه الصلاة والسلام استعمل القياس وذلك يوجب كون القياس حجة إنما قلنا إنه استعمل القياس لأنه عليه الصلاة والسلام حكم بأن القبلة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 من دون الإنزال لا تفسد الصوم كما أن المضمضة من دون الأزدراد عمرو لا تفسد الصوم وإيراد هذا الكلام يدل على أن الجامع بينهما ما يفهمه كل عاقل عند سماع هذا الكلام من أنه لم يحصل عند المقدمتين ما هو الثمرة المطلوبة فوجب أن لا يكون حكم المقدمة كحكم الثمرة المطلوبة وإنما قلنا إنه عليه الصلاة والسلام لما استعمل القياس وجب أن يكون حجة لوجهين الأول أن التأسي به واجب الثاني أن قوله ص أرأيت خرج مخرج التقرير فلولا أنه عليه الصلاة والسلام قد مهد عند عمر رضي الله عنه التعبد بالقياس لما قرر ذلك عليه ألا ترى أن الإنسان لو حكم بحكم من الكتاب جاز أن يقول لمن سأله عنه أليس قد قال الله تعالى كذا وكذا إذا كان الكتاب عنده وعند من يخاطبه حجة ولا يجوز أن يقول ذلك إذا كان هو ومن يخاطبه لا يعتقدان كونه حجة ولا يقول الإنسان في حكم حكم به لأجل القياس أليس أن القياس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 يقتضيه مع أنه ومن خاطبه لا يعتقدان كون القياس حجة فإن قيل هذا خبر واحد فلا يجوز بناء المسألة العلمية عليه سلمنا ذلك لكن لم قلت إنه عليه الصلاة والسلام نبه هاهنا على العلة ومثل هذا القياس عندنا حجة سلمنا دلالة الحديث على أن القبلة تجرى مجرى المضمضة لكن ليس فيه أن النص أوجب ذلك أو القياس وإذا احتملا لم يجز القطع على أحدهما بغير دليل والجواب قوله هذا خبر واحد قلنا سبق الجواب عنه قوله نبه على العلة قلنا إنه عليه الصلاة والسلام ما نص على العلة ولكنه لم يفعل إلا أنه ذكر أصل القياس بلى العلة متبادرة إلى الإفهام والتنصيص على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 أصل القياس لا يكون تنصيصا على العلة قوله إنه ليس في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أجرى القبلة مجرى المضمضة لأجل نص أو لأجل قياس قلنا بينا أن المفهوم من قوله عليه الصلاة والسلام أرأيت لو تمضمضت هو أن كل واحد منهما لم يحصل الثمرة المطلوبة بذلك الفعل ولو أن بعض العامة فضلا عن أهل العلم استفتى فقيها في صائم قبل ولم ينزل فقال له الفقيه أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته لاكتفى المستفتى بذلك في أن القبلة لا تفسد صومه ولعلم أنه أجرى أحدهما مجرى الآخر من الوجه الذي ذكرناه فبطل أن يقال إن هذا الكلام لا يدل على الوجه الجامع بينهما وأنه لا يمتنع أن يكون بعض الظواهر اقتضى الجمع المسلك الرابع التمسك بقوله عليه الصلاة والسلام للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين قضيته أكان يجزي فقالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 ووجه الاستدلال به كما في قبلة الصائم من غير تفاوت المسلك الخامس الإجماع وهو الذي عول عليه جمهور الأصوليين وتحريره أن العمل بالقياس مجمع عليه بين الصحابة وكل ما كان مجمعا عليه بين الصحابة فهو حق فالعمل بالقياس حق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 أما المقدمة الثانية فقد مر تقريرها في باب الإجماع وأما المقدمة الأول فالدليل عليها أن بعض الصحابة ذهب إلى العمل بالقياس والقول به ولم يظهر من أحد منهم الإنكار على ذلك ومتى كان كذلك كان الإجماع حاصلا فهذه مقدمات ثلاث المقدمة الأولى في بيان أن بعض الصحابة ذهب إلى العمل بالقياس والقول به والدليل عليه وجوه أربعة الوجه الأول ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعرى في رسالته المشهورة اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك وهذا صريح في المقصود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 الوجه الثاني أنهم صرحوا بالتشبيه لأنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أنكر على زيد قوله الجد لا يحجب الأخوة فقال ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا ومعلوم أنه ليس مراده تسمية الجد أبا لأن ابن عباس رضي الله عنهما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 لا يذهب عليه مع تقدمه في اللغة أن الجد لا يسمى أبا حقيقة ألا ترى أنه ينفي عنه هذا الاسم فيقال إنه ليس أبا للميت ولكنه جده فلم يبق إلا أن مراده أن الجد بمنزلة الأب في حجبه الإخوة كما أن ابن الابن بمنزلة الابن في حجبهم وعن على وزيد أنهما شبهاهما قبل بغصني شجرة وجدولى يحيى نهر فعرفا بذلك قربهما من الميت ثم شركا بينهما في الميراث الوجه الثالث أنهم اختلفوا في كثير من المسائل وقالوا فيها أقوالا ولا يمكن أن تكون تلك الأقوال إلا عن القياس واعلم أن الأصوليين أكثروا من تلك المسائل إلا أن أظهرها أربع إحداها مسألة الحرام فإنهم قالوا فيها خمسة أقوال فنقل عن على وزيد وابن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 عمر رضي الله عنهم أنه في حكم التطليقات الثلاث وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه في حكم التطليقة الواحدة إما بائنة أو رجعية على اختلاف بينهم وعن أبي بكر وعمر وعائشة رضى الله عنهم أنه يمين تلزم فيه الكفارة وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه في حكم الظهار وعن مسروق رحمه الله أنه ليس بشئ لأنه تحريم لما أحله الله تعالى فصار كما لوا قال هذا الطعام على حرام والمرتضى روى هذا القول عن علي رضي الله عنه وثانيتها أنهم اختلفوا في الجد مع الإخوة فبعضهم ورث الجد مع الإخوة وبعضهم أنكر ذلك والأولون اختلفوا فمنهم من قال إنه يقاسم الإخوة ما كانت المقاسمة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 خيرا له من الثلث فأجراه مجرى الأم ولم ينقص حقه عن حقها لأن له مع الولادة تعصيبا ومنهم من قال إنه يقاسم الإخوة ما كانت المقاسمة خيرا له من السدس وأجراه مجرى الجدة في أن لا ينقص من حقها السدس وثالثتها اختلافهم في مسألة المشتركة وهى زوج وأم وإخوة لأم وإخوة لأب وأم حكم عمر رضي الله عنه فيها بالنصف للزوج وبالسدس للأم وبالثلث للإخوة من الأم ولم يعط للإخوة من الأب والأم شيئا فقالوا هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة فشرك بينهم وبين الإخوة من الأم في الثلث ورابعتها اختلافهم في الخلع هل يهدم من الطلاق شيئا أو يبقى عدد الطلاق على ما كان ففي إحدى الروايتين عن عثمان رضى الله عنه أنه طلاق والرواية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 الأخرى أنه ليس بطلاق وهو محكى عن ابن عباس وإذا عرفت هذه المسائل فنقول إما أن يكون ذهاب كل واحد منهم إلى ما ذهب إليه لا عن طريق أو عن طريق والأول باطل لأن الذهاب إلى الحكم لا عن طريق باطل فلو اتفقوا عليه كانوا متفقين على الباطل وإنه غير جائز وأما إن ذهبوا إليها عن طريق فذلك الطريق إما أن يكون هو العقل أو السمع والأول باطل لأن حكم العقل في المسألة شئ واحد وهو البراءة الأصلية وهذه أقاويل مختلفة أكثرها يخالف حكم العقل وأما الثاني فلا يخلو إما أن يكون ذلك الدليل نصا أو غيره أما النص فسواء كان قولا أو فعلا وسواء كان جليا أو خفيا فالقول به باطل لأنهم لو قالوا بتلك الأقاويل لنص لأظهروه ولو أظهروه لاشتهر ولو اشتهر لنقل ولو نقل لعرفه الفقهاء والمحدثون ولما لم يكن كذلك علمنا أنهم لم يقولوا بتلك الأقاويل لأجل نص الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 وإنما قلنا إنهم لو قالوا بتلك الأقاويل لأجل نص لأظهروه لأنا نعلم بالضرورة أنه كان من عاداتهم إعظام نصوص الرسول ص واستعظام مخالفتها حتى نقلوا منها ما لا يتعلق به حكم كقوله عليه الصلاة والسلام نعم الإدام الخل وكان من عادتهم أيضا التفحص عن نصوص الرسول عليه الصلاة والسلام والحث على نقلها إليهم ليتمسكوا الرحمن بها إن كانت موافقة لمذاهبهم أو ليرجعوا عن مذاهبهم إن كانت مخالفة لها وليس يجوز فيمن هذه عادته أن يحكم في قضية بحكم لنص ثم يسكت عن ذكر ذلك النص وذلك معلوم بالضرورة وبهذا الطريق ثبتت المقدمة الثانية وهى قولنا لو أظهر النص لاشتهر ولو اشتهر لنقل ولو نقل لعرفه الفقهاء والمحدثون وأما أن ذلك لم ينقل فلأنا بعد البحث التام والطلب الشديد والمخالطة للفقهاء والمحدثين ما وجدنا في ذلك ما يدل على نقلها وذلك يدل على عدمها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 فثبت أنهم لم يقولوا بتلك الأقاويل لأجل نص وإذا بطل ذلك ثبت أنه لأجل القياس الوجه الرابع نقل عن الصحابة القول بالرأى والرأى هو القياس وإنما قلنا إنهم قالوا بالرأى لأنه روى عن أبي بكر أنه قال في الكلالة أقول فيها برأيي وفي الجنين لما سمع الحديث لولا هذا لقضينا فيه برأينا وقول عثمان لعمر رضي الله عنهما في بعض الأحكام إن اتبعت رأيك فرأيك رشيد وإن تتبع رأى من قبلك فنعم ذو الرأى كان وعن على رضى الله عنه اجتمع رأيي ورأي عمر في أم الولد على أن لا تباع وقد رأيت الآن بيعهن وعن ابن مسعود رضي الله عنه في قصة بروع أقول فيها برأيي وإنما قلنا إن الرأى عبارة عن القياس لأنه يقال للإنسان أقلت هذا برأيك أم بالنص فيجعل أحدهما في مقابلة الآخر وذلك يدل على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 أن الرأى لا يتناول الاستدلال بالنص سواء كان جليا أو خفيا فثبت بهذه الوجوه الأربعة إن بعض الصحابة ذهب إلى القول بالقياس والعمل به وأما المقدمة الثانية وهى أنه لم يوجد من أحدهم إنكار أصل القياس فلأن القياس أصل عظيم في الشرع نفيا وإثباتا فلو أنكر بعضهم لكان ذلك الإنكار أولى بالنقل من اختلافهم في مسألة الحرام والجد ولو نقل لاشتهر ولوصل إلينا فلما لم يصل إلينا علمنا أنه لم يوجد وتقرير مقدمات هذا الكلام ما تقدم مثله في المقدمة الأولى وأما المقدمة الثالثة وهى أنه لما قال بالقياس بعضهم ولم ينكره أحد منهم فقد انعقد الإجماع على صحته فالدليل عليه أن سكوتهم إما أن يقال أنه كان عن الخوف أو عن الرضا والأول باطل لأنا نعلم من حال الصحابة شدة انقيادهم للحق لا سيما فيما لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 يتعلق به رغبة ولا رهبة في العاجل أصلا وذلك يمنع من حمل السكوت على الخوف وأيضا فلأن بعضهم خالف البعض في المسائل التي حكيناها ولو كان هناك خوف يمنعهم من إظهار ما في قلوبهم لما وقع ذلك فثبت أن سكوتهم كان عن الرضا وذلك يوجب كون القياس حجة وإلا لكانوا مجمعين على الخطأ وإنه غير جائز هذا تحرير الأدلة فإن قيل لا نسلم ذهاب أحد من الصحابة إلى القول بالقياس والوجوه الأربعة المذكورة لا يزيد رواتها على المائة والمائتين وذلك لا يفيد القطع بالصحة لاحتمال تواطؤ هذا القدر على الكذب كيف والأحاديث التي يتمسك بها أهل الزمان في المسائل الفقهية مشهورة فيما بين الأمة إلا أن روايتها في الأصل لما انتهت إلى الواحد والإثنين لا جرم لم نقطع به فكذا هاهنا فإن قلت الأمة في هذه الروايات على قولين منهم من قبلها واعترف بدلالتها على القياس ومنهم من اشتغل بتأويلها وذلك يدل على اتفاقهم على قبولها قلت قد مر غير مرة أن هذا الطريق لا يفيد الجزم بصحتها سلمنا صحة هذه الروايات لكن لا نسلم دلالتها على ذهابهم إلى القول بالقياس والعمل به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 وأما الوجه الأول وهو قول عمر رضي الله عنه اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك قلنا التمسك إما أن يكون بقوله اعرف الأشباه والنظائر أو بقوله قس الأمور برأيك أما الأول فلا حجة فيه لأن الله تعالى لما نص على حكم كل جنس ونوع وجب على المستدل معرفة الأشباه والنظائر لئلا يخرج منه ما هو من جنسه ولا يدخل فيه ما هو من غير جنسه وقد يشتبه الشئ بالشئ فلا بد من التأمل الكثير ليعرف أنه من جنسه أو من غير جنسه وأما الثاني وهو قوله قس الأمور برأيك فلا يدل أيضا على الغرض لأن القياس في أصل اللغة عبارة عبارة عن التسوية فقوله قس الأمور برأيك معناه اعرض الأشيا على فكرتك وتأملك وكان لأن التفكير في الشئ لا معنى له إلا استحضار علوم أو ظنون ليتوصل بها إلى تحصيل علوم أو ظنون فالمتفكر روى كأنه يريد التسوية بين المطلوب المجهول وبين المقدمات المعلومة ليصير المجهول معلوما وهذا التأويل متعين لأن الرأى هو الروية فقوله قس الأمور برأيك معناه سو الأشياء برويتك ولم وتسوية الأشياء بالروية ليست إلا ما ذكرنا فيرجع حاصل الأمر إلى أنه أمره بأن لا يحكم بمجرد التشهى والتمني بل بالاستدلال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 والنظر وذلك ليس من القياس الشرعي في شئ سلمنا أن المراد منه الأمر بتشبيه الفرع بالأصل لكن يحتمل أن يكون المراد التشبيه في ثبوت ذلك الحكم وأن يكون المراد منه التسوية في أنه كما لا يثبت حكم الأصل إلا بالنص فكذا حكم الفرع لا يثبت إلا بالنص فلم قلت إن الاحتمال الأول أولى من الثاني وأما الوجه الثاني وهو تشبيه ابن عباس قلنا لم قلت إن المراد أنه جمع بين الأمرين بعلة قياسية ولم لا يجوز أن يكون ذلك لأجل أنه كما سمى النافلة بالابن مجازا واكتفى بهذا الاسم المجازي في اندراج النافلة تحت عموم قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم وكذلك سمى الجد أبا مجازا حتى يكفى هذا في اندراجه تحت عموم قوله تعالى وورثه أبواه والذي يؤكد هذا الاحتمال أن ابن عباس نسب زيدا إلى مفارقة التقوى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 وتارك القياس لا يكون كذلك بل تارك النص يكون كذلك وإنما يكون زيد تاركا للنص لو كان الأمر على ما قلنا وأما الوجه الثالث فالكلام عليه أنه ألا يجوز أن يقال إن ذهاب كل واحد إلى ما ذهب إليه في تلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 المسائل كان لتمسكه بنص ظنه دليلا على قوله سواء أصاب في ذلك الظن أو أخطأ فيه قوله لو كان كذلك لأظهروا ذلك النص ولاشتهر ولنقل ولوصل إلينا فلما لم يصل إلينا علمنا عدمه قلنا هذه المقدمات بأسرها ممنوعة قوله علمنا بالضرورة شدة تعظيمهم لنصوص الرسول عليه الصلاة والسلام ويمتنع ممن هذه حاله أن يحكم بحكم لأجل نص ثم أنه لا يذكره قلنا لا نسلم أن شدة تعظيمهم للنص يقتضى إظهار النص الذي لأجله ذهبوا إلى ذلك القول بيانه أن شدة التعظيم إنما تقتضى إظهار النص عند الحاجة إلى إظهاره وهم ما احتاجوا إليه لأن الحاجة إما أن تكون عند المناظرة أو مع المستفتى والأول باطل لأنهم لم يجتمعوا في محفل لأجل المناظرة في تلك المسائل وما كانت عادتهم جارية بالاجتماع على المناظرات والمجادلات وأما المستفتى فلا فائدة من ذكر الدليل معه سلمنا أن شدة تعظيمهم للنص تقتضى إظهار النص ولكن بشرط أن يكون السامع بحيث يمكنه الانتفاع به ولم يوجد هذا الشرط هناك لأنه إذا روى ذلك النص كان ذلك النص خبر واحد في حق السامع وخبر الواحد ليس بحجة فلا فائدة إذا في إظهار هذا النص الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 سلمنا أنه يجب إظهاره ولكن إذا كان النص جليا أو مطلقا سواء كان جليا أو خفيا الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه إن الإنسان إنما يدعوه الداعي إلى إظهار دليل مذهبه إذا كان ذلك الدليل ظاهرا قويا أما إذا كان خفيا فقد لا يدعوه الداعي إلى إظهاره وبالجملة فأنتم المستدلون فعليكم إقامة الدلالة على أن يجب إظهاره سواء كان قويا أو ضعيفا سلمنا ما ذكرتموه لكن نعارضه فنقول لو كان ذهابهم إلى مذاهبهم لأجل القياس لوجب عليهم إظهاره ولكن لم يقل عن أحد من الصحابة القياس الذي لأجله ذهب إلى ما ذهب إليه فإن قلت الفرق أن القياس لا يجب اتباع العالم فيه والنص يجب اتباعه فيه قلت القياس إذا كان ظاهرا جليا فلا نسلم أنه لا يجب الاتباع فيه ولولا ذلك لما حسنت المناظرة فيه بين القائسين سلمنا أنهم لو تمسكوا بالنصوص لأظهروها بين فلم قلت إنهم لو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 أظهروها لاشتهر فإن ذلك ليس من الوقائع العظام التي يمتنع أن لا تتوفر الدواعي على نقلها فأن قلت لما توفرت دواعيهم على نقل مذاهبهم مع أنه لا فائدة فيها فلأن تتوفر دواعيهم على نقل تلك الأدلة مع ما فيها من الفوائد كان أولى قلت إنا لم نقل إن الأمور التي لا تكون عظيمة يمتنع نقلها حتى يكون ما ذكرتموه لازما علينا بل قلنا أنه لا يجب نقلها ولا يمتنع أيضا سلمنا أنه من الوقائع العظيمة لكن لم قلت إنه يجب نقله والدليل عليه أن معجزات الرسول ص على جلالة قدرها وأمر الإقامة في الأفراد والتثنية على نهاية ظهورها لم ينقله إلا الواحد والإثنان وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن لا ينقله ذلك الواحد أيضا سلمنا أنها لو اشتهرت لنقلت لكن لا نسلم أنها ما نقلت قوله لو نقلت لعرفناها أهل قلنا إما أن تدعى أن كل ما نقل عن الرسول ص وجميع أصحابه فلا بد وأن تعلمه أنت أو تدعي أنه لا بد وأن يوجد في زمانك من يعلمه أما الأول فلا يقول به إنسان سليم العقل وأما الثاني فمسلم ولكن كيف عرفت أنه ليس في زمانك من يعلم تلك النصوص فإن كل أحد إنما يعلم حال نفسه لا حال غيره سلمنا أنه لو نقل لعرفه كل واحد منا لكن لا نسلم أنا لا نعرفه فلنتكلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 في مسألة الحرام فنقول أما من ذهب إلى كونه يمينا فيحتمل أنه إنما ذهب إليه استدلالا بقوله تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وانه عليه الصلاة والسلام حرم على نفسه مارية القبطية فأنزل الله تعالى هذه الآية وسماه يمينا ومن ذهب إلى أنه لا اعتبار به تمسك بقوله تعالى لا تحرموا طيبات ما أحل لكم والنهي يدل على الفساد أو بالبراءة الأصلية ومن ذهب إلى أنه للطلقات حديث الثلاث زعم أنه قد يجعل كناية عن الطلقات الثلاث فوجب تنزيله على أعظم أحواله وهو الطلقات الثلاث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 ثم أدخله تحت قوله تعالى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ومن ذهب إلى أنه للطلقة الواحدة نزله على أقل أحواله ومن جعله ظهارا جعله كناية عنه والكنايات في اللغة ليست عبارة عن القياس الشرعي سلمنا أن قولهم بتلك المذاهب ليس للنص فلم قلتم إنه لا بد وأن يكون للقياس فما الدليل على نفى الواسطة ثم إنا نتبرع بذكر الوسائط منها تنزيل اللفظ على أقل المفهومات أو على الأكثر ومنها استصحاب الحال ومنها المصالح المرسلة الخالية عن شهادة الأصول ومنها الاستقراء والفرق بينه وبين القياس أن الاستقراء عبارة عن إثبات الحكم في كلى لثبوته في بعض جزئياته والقياس عبارة عن إثباته في جزئي لأجل ثبوته في جزئي آخر ومنها إنه كان من مذهبه أن مجرد قوله حجة ومستند ذلك الوهم إلى أن قول بعض الأنبياء حجة فيكون قول هذا العالم حجة بيان الأول قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 نفسه أضاف التحريم إليه بيان الثاني قوله عليه الصلاة والسلام علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل فهذه الشبهة تقتضى أن يكون مجرد قول العالم حجة فلعل هذه الشبهة خطرت ببالهم ومنها الإجماع فإن قلت حصول الإجماع في محل الخلاف محال قلت المقصود من ذكر الإجماع بيان ثبوت الواسطة بين النص والقياس في الجملة فهذا هو الكلام على الوجه الثالث وأما الوجه الرابع وهو أن الصحابة قالت بالرأى والرأى هو القياس فنقول لا نسلم أن الرأى هو القياس والدليل عليه وجوه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 الأول أنه يقال رأى يرى رؤية ورأيا فدل هذا على انه مرادف للرؤية فإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون حقيقة في القياس دفعا للاشتراك وإذا ثبت أنه ما كان في أصل اللغة للقياس وجب أن لا يكون في عرف الشرع له لأن النقل خلاف الأصل الثاني لو كان الرأى اسما للقياس لكان اللفظ المشتق منه دليلا على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 القياس وكان يجب أن يكون قولنا فلان يرى كذا معناه أنه يقيس ومعلوم أن ذلك باطل لأن من يذهب إلى الرؤية والصفات وخلق الأعمال يجوز أن يحكى عن نفسه أنى أرى القول بهذه الأشياء وعمن يشاركه في المذهب إنه يرى القول بها الثالث أنكم رويتم عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال في الكلالة أقول فيها برأيي ومعلوم أن تفسير اللفظة اللغوية لا يكون بالقياس فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الرأى ليس اسما للقياس وأما الذي تمسكتم به من أنه يقال أقلت هذا عن رأيك أو عن النص قلنا أقصى ما في الباب أن يدل هذا الاستعمال على أن الرأى غير النص لكن من أين يدل على إنه لما كان غير النص وجب أن يكون قياسا بيانه أن النص هو اللفظ الدال على الحكم دلالة ظاهرة جلية فما لا يكون كذلك لا يكون نصا فلا يلزم من كون الرأى خارجا عن النص أن لا يكون ذلك الاستدلال لفظيا لاحتمال إنه لما كان خفيا لا جرم لا يسمى بالنص الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 سلمنا أن مسمى الرأى ليس هو النص فلم قلتم إنه هو القياس وما الدليل على هذا الحصر فهذا هو الكلام المختصر على الوجوه الأربعة المذكورة في تقرير المقدمة الأولى سلمنا أن بعض الصحابة قال بالقياس أو عمل به فلم قلت إن أحدا منهم ما أنكره قوله لو أنكروه لاشتهر ولنقل ولوصل إلينا قلنا الكلام على هذه المقدمات قد مر والذي نقوله الآن أنا لا نسلم أنه ما وصل ذلك الإنكار إلينا فإنه نقل عنهم تارة إنكار الرأى وأخرى إنكار القياس وأخرى ذم من أثبت الحكم لا بالكتاب والسنة روى عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي وعن عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأى فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 وعنه رضى الله عنه إياكم والمكايلة قيل وما المكايلة قال المقايسة وعن شريح قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يومئذ من قبله قاض اقض بما في كتاب الله تعالى فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما في سنة رسول الله ص فإن جاءك ما ليس فيها فاقض بما أجمع عليه أهل العلم فإن لم تجد فلا عليك أن تقضي وعن على لو كان الدين يؤخذ بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 وروى عنه من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه وهذا أيضا يروى عن عمر رضي الله عنه وعن ابن عباس يذهب قراؤكم وصلحاؤكم ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم وقال إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرمه الله تعالى وحرمتم كثيرا مما حلل الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 وقال إن الله تعالى قال لنبيه ص فاحكم بينهم بما أنزل الله ولم يقل بما رأيت وقال لو جعل لأحدكم أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله ص ولكن قيل له وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقال إياكم والمقاييس فإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وعن ابن عمر رضي الله عنه السنة ما سنة رسول الله ص لا تجعلوا الرأى سنة للمسلمين وعن مسروق لا أقيس شيئا بشئ أخاف أن تزل قدمي بعد ثبوتها وكان ابن سيرين يذم القياس ويقول أول من قاس إبليس وقال الشعبي لرجل لعلك من القياسيين وقال إن أخذتم بالقياس أحللتم الحرام وحرمتم الحلال فثبت بهذه الروايات تصريح الصحابة والتابعين بإنكار الرأى والقياس فإن قلت هؤلاء الذين نقلت عنهم المنع من القياس هم الذين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 دللنا على ذهابهم إلى القول به فلا بد من التوفيق وذلك بأن نصرف الروايات المانعة من القياس إلى بعض أنواعه وذلك حق لأن العمل بالقياس لا يجوز عندنا إلا بشرائط مخصوصة قلت هب أن الذين نقلنا عنهم المنع من القياس هم الذين دللتم على أنهم كانوا عاملين به إلا أنا نقلنا عنهم التصريح بالرد والمنع على الإطلاق من غير تقييد بصورة خاصة وانتم ما نقلتم عنهم التصريح بالقول بل رويتم عنهم أمورا ثم دللتم بوجوه دقيقة غامضة على إن تلك الأمور دالة على قولهم بالقياس ومعلوم أن التصريح بالرد أقوى مما ذكرتموه فكان قولنا راجحا سلمنا عدم الترجيح من هذا الوجه لكن كما أن التوفيق الذي ذكرتموه ممكن فهاهنا توفيق آخر وهو أن يقال إن بعضهم كان قائلا بالقياس حين كان البعض الآخر منكرا له ثم لما انقلب المنكر مقرا انقلب المقر أيضا منكرا وعلى هذا التقدير يكون كل واحد منهم مادحا للقياس وذاما له من غير تناقض مع أنه لا يحصل الإجماع سلمنا أن بعض الصحابة قال بالقياس وأن أحدا منهم ما أظهر الإنكار فلم قلتم يحصل الإجماع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 وبيانه أن السكوت قد يكون للخوف والتقية قوله القول بالقياس ليس سببا لنفع دنيوى فكيف يحصل الخوف من إنكار الحق فيه قلنا لا نسلم عدم الخوف هناك قال النظام في هذا المقام الصحابة ما اجمعوا على القياس بل القائل به قوم معدودون وهم عمر وعثمان وعلى وابن مسعود وأبى وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وأبو موسى وأناس قليل من أصاغر الصحابة والباقون ما كانوا عاملين به ولكن لما كان فيهم عمر وعثمان وعلى وهؤلاء لهم سلطان ومعهم الرغبة والرهبة شاع ذلك في الدهماء وانقادت لهم العوام فجاز للباقين السكوت على التقية لأنهم قد علموا أن إنكارهم غير مقبول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 قال والذي يدل عليه أنه قال في الفتيا عبد الله بن عباس والعباس أكبر منه ولم يقل في الفتيا شيئا من غير عجز ولا عى ولا غيبة عن شئ شهده أبنه وقال في الفتيا عبد الله بن الزبير والزبير أعظم منه ولم يقل فيه شيئا وكان أبو عبيدة ومعاذ بن جبل بالشام فقال معاذ ولم يقل أبو عبيدة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 مع أن أبا عبيدة أعظم منه فإنه قال عليه الصلاة والسلام أبو عبيدة أمين هذه الأمة وكيف يقال كان الخوف زائلا وابن عباس قال هبته وكان الله مهيبا وأيضا فإن الرجل العظيم إذا أختار مذهبا فلو أن غيره أبطل ذلك المذهب عليه فإنه يشق عليه غاية المشقة ويصير ذلك سببا للعداوة الشديدة قوله لو كان الخوف مانعا من المخافة لما خالف بعضهم بعضا في مسألة الجد والحرام قلنا القياس أصل عظيم في الشرع نفيا وإثباتا فكان النزاع فيه أصعب من النزاع في فروع الفقه ولذلك نرى في المختلفين في مسألة القياس يضلل بعضهم بعضا والمختلفين في الفروع لا يفعلون ذلك سلمنا أن أسباب الخوف ما كانت ظاهرة ولكن أجمع المسلمون على أنهم ما كانوا معصومين فكيف يمكننا القطع باحترازهم عند عن كل ما لا ينبغي غاية ما في الباب حسن الظن بهم ولكن ذلك يكفى في القطعيات سلمنا زوال الخوف ولكن لعلهم سكتوا لأنه ما ظهر لهم كون القياس حقا ولا باطلا فكان فرضهم السكوت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 أو أنهم عرفوا كونه خطأ لكنهم اعتقدوا أنه من الصغائر فلا يجب الإنكار على العامل به ولأن كل واحد منهم اعتقد في غيره أنه أولى بإظهار الإنكار سلمنا أنهم بأسرهم رضوا لكن حصل الرضا دفعة واحدة أولا دفعة واحدة الأول مما لا يعرفه إلا الله تعالى لأنهم ما جلسوا في محفل واحد قاطعين بصحته دفعة واحدة والثاني لا يفيد الإجماع لأنه ربما كان الأمر بحيث لما صار البعض راضيا بقلبه صار الآخر متوقفا فيه أو منكرا عليه بالقلب وذلك يمنع من انعقاد الإجماع فإن قلت هذا الاحتمال يمنع من انعقاد الإجماع قلت لا نسلم فإن أهل الإجماع كانوا قليلين في زمان الصحابة وكان يمكنهم أن يجتمعوا في محفل واحد ويقطعوا بالحكم فيكون ذلك الإجماع خاليا عن هذا الاحتمال أما إذا لم يجتمعوا في محفل واحد فإذا سئل بعضهم فأفتى به ثم أنه سئل إنسان آخر في بلد آخر فلعل المفتى الأول رجع عن فتواه حينما أفتى به المفتى الثاني وحينئذ لا يتم الإجماع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 وهذا سؤال أهل الظاهر ولهذا قالوا لا حجة إلا في إجماع الصحابة سلمنا انعقاد الإجماع على قياس ما لكن لم ينقل إلينا أنهم أجمعوا على النوع الفلانى من القياس أو على كل أنواعه ولم يلزم من انعقاد الإجماع على صحة نوع انعقاده على صحة كل نوع فإذن لا نوع إلا ويحتمل أن يكون النوع الذي أجمعوا عليه هو هذا النوع وأن يكون غيره وإذا كان كذلك صار كل أنواعه مشكوكا فيه فلا يجوز العمل بشئ منه فإن قلت الأمة على قولين منهم من أثبت القياس ومنهم من نفاه وكل من أثبته فقد أثبت النوع الفلانى مثلا فلو أثبتنا قياسا غير هذا النوع كان خرقا للإجماع قلت لا نسلم أن كل من أثبت نوعا من القياس أثبت نوعا معينا منه لأن القياس إما أن يكون مناسبا أو لا يكون وكل واحد من القسمين مختلف فيه أما المناسب فرده قوم قالوا لأن مبناه على تعليل أحكام الله تعالى بالحكم والأغراض وأنه غير جائز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 وأما غير المناسب فقد ردة الأكثرون فثبت أنه ليس هاهنا قياس مقبول بإجماع القايسين سلمنا إنعقاد إجماع القائسين على نوع واحد ولكن لم لا يجوز أن يكون ذلك هو قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف وما إذا نص الله تعالى على العلة فإن هذا القياس عندنا حجة سلمنا انعقاد الإجماع على جواز العمل بالقياس في زمان الصحابة فلم يجوز في زماننا والفرق أن الصحابة لما شاهدوا الرسول ص والوحى فربما عرفوا بقرائن الأحوال أن المراد من الحكم الخاص بصورة معينة رعاية الحكمة العامة فلا جرم جاز منهم التعبد به وأما غير الصحابة فإنهم لما لم يشاهدوا الوحى والرسول والقرائن لم يكن حالهم كحال الصحابة فإن قلت كل من جوز العمل بالقياس للصحابة جوزه لغيرهم قلت كيف يقطع بأنه ليس في فرق الأمة على كثرتها أحد يقول بهذا الفرق مع وضوحه غايته أنا لا نعرف أحدا قاله لكن عدم العلم بالشئ لا يقتضى العلم بعدمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 والجواب أن أصحابنا ذهبوا إلى أن الروايات المذكورة في اختلافهم في مسألة الجد والحرام والمشركة والإيلاء والخلع وتقدير الحد بشرب الخمر وقياس العهد على العقد وقول الصحابة على بالتشبيه والرأى وما نقل من الأحاديث في القياس كخبر معاذ وابن مسعود وخبر الخثعمية والسؤال عن قبلة الصائم وأمر عمر أبا موسى بالقياس وقول ابن عباس بالتشبيه قد بلغ مجموعها إلى حد التواتر فإن من خالط أهل الأخبار وطالع كتبهم قطع بصحة شئ من هذه الأخبار فإنها بأسرها يمتنع أن تكون كذبا وأى واحد منها صح صح القول بالقياس وهذا الذي قاله الأصحاب جيد إلا أن الخصم لو كابر وقال لا أسلم خروج هذا المجموع عن كونه خبر واحد قلنا هب أنه كذلك فأيش يلزم قوله المسألة علمية قطعية فلا يجوز إثباتها بدليل ظني قلنا لا نسلم أنها قطعية بل هي عندنا ظنية لأن هذه المسألة عملية والظن قائم مقام العلم في وجوب العلم ألا ترى أنه لا فرق بين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 أن يعلم بالمشاهدة وجود الغيم الرطب المنذر بالمطر الذي يجب التحرز منه وبين أن يخبر بوجود مثل هذا الخيم مخبر لمن لا يمكنه مشاهدة الغيم في أنه يلزمه التحرز منه فكذا هاهنا لا فرق بين أن يتواتر النقل عن الشرع في أنا مأمورون بالقياس وبين أن يخبر نا به من يظن صدقه في وجوب العمل بالقياس وإن لم نعلم صدق المخبر بذلك وهذا الجواب قاطع للشغب بالكلية قوله على الوجه الأول لا يجوز أن يكون المراد من قول عمر اعرف الأشباه والنظائر الأمر بمعرفة ماهية كل جنس لئلا يدخل تحت النص المذكور في ذلك الجنس ما ليس منه ولا يخرج عنه ما هو منه قلنا مقدمة هذا الكلام ومؤخرته تبطل هذا الاحتمال وهو قول عمر رضي الله عنه الفهم عندما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في كتاب الله ولا سنة نبيه ثم اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك عند ذلك ثم اعمد إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق فيما ترى فمن تأمل هذا الكلام عرف أنه صريح في الأمر بالقياس الشرعي وهو الجواب أيضا عن قوله لم لا يجوز أن يكون المراد منه تشبيه الفرع بالأصل في أنه لا يثبت حكمه إلا بالنص قوله على الوجه الثاني لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنه لم لا يسمى الجد أبا مجازا حتى يدخل تحت قوله وورثه أبواه كما سمى النافلة ابنا حتى دخل تحت قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 قلنا لا يجوز أن يكون إنكار ابن عباس على زيد لأجل امتناعه من المجاز في أحد الموضعين دون الثاني لأن حسن المجاز في أحد الموضعين لا يوجب حسنه في الموضع الثاني وبتقدير التساوي في الحسن لكن القطع به في أحد الموضعين لا يوجب القطع به في الموضع الثاني وإذا ثبت أن هذا الإنكار غير متوجه على التفرقة في إطلاق الاسم المجازى ثبت أنه متوجه على التفرقة في الحكم الشرعي فيكون ذلك تصريحا بالقياس الشرعي قوله لو كان المراد هو الحكم الشرعي لما نسبه إلى مفارقة التقوى قلنا لعل هذا القياس كان جليا عند ابن عباس وكان من مذهبه أن الخطأ في مثل هذا القياس يقدح في التقوى وأيضا فذلك محمول على المبالغة قوله على الوجه الثالث لم قلت إن مبالغتهم في تعظيم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوجب إظهار النص قلنا استقراء العرف يشهد به فإن من حكم بحكم غريب يخالفه فيه جمع يوافقونه على تعظيم شخص معين ووجد ذلك الإنسان حجة من قول ذلك الإنسان العظيم فإنه لابد أن يذكر لهم ذلك القول ويصرح به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 قوله إنما يذكر عند الحاجة إلى ذكره قلنا والحاجة إلى ذكره حاصلة مطلقا لأن من يعتقد أن مذهبه ثابت بالنص فلا بد أن يعلم أن مخالفه إنما خالفه إما لا لطريق أو لطريق مرجوح بالنسبة إلى طريقه أو مساوله أو راجح عليه وعلى التقديرين الأولين كان مخالفه مخالفا للنص وعلى التقدير الثالث يكون فرض كل واحد منها التوقف فتكون الفتوى بأحدهما محظورا وعلى التقدير الرابع يكون مخالفا للنص فإذن من أثبت مذهبه بالنص فإنه لا بد وأن يعتقد فيمن خالفه أو في نفسه كونه مخالفا للنص لكن شدة إنكارهم على مخالفة النص تقتضي شدة احترازهم عنها ولا طريق إلى ذلك الاحتراز إلا بذكر ذلك النص فثبت أن شدة تعظيمهم للرسول ص توجب عليهم أن يذكروا نصوصه على الإطلاق وبهذا ظهر الجواب عن قوله أنه لا يجب ذكر النصوص الخفية لأن الدليل الذي ذكرناه مطرد في الكل قوله لو أثبتوا مذاهبهم بالقياس لوجب عليهم أن يذكروه قلنا الفرق من وجوه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 أحدها أن إنكارهم على مخالف النص أقوى من إنكارهم على مخالف القياس فلم يلزم من ترك أقل الانكارين لأنه ترك أعظمها وثانيها أن الخواطر مستقلة بمعرفة العلل القياسية فلا يجب التنبيه عليها وهي غير مستقلة بمعرفة النصوص وذلك يقتضى وجوب التنبيه عليها فإن قلت لو لم يجب التنبيه على العلل القياسية لما حسنت المناظرات قلت ليس كل ما لا يجب لا يحسن وثالثها أن النصوص يجب اتباعها فيجب نقلها والأقيسة لا يجب اتباعها فلا يجب نقلها لأن عندنا كل مجتهد مصيب ورابعها أن النصوص يمكن الإخبار عنها على كل حال وأما الأمارات فقد يتعذر التعبير عنها وإن كانت مفيدة للظن مثل الأمارات في قيم المتلفات وأروش الجنايات ولذلك لا يتمكن المقوم من أن يذكر أمارة ملخصة في تقدير القيمة بالقدر المعين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 فإن قلت أليس أن فقهاء هذا الزمان يعبرون عن هذه الأمارات قلت المتأخر في كل علم يلخص ما لم يلخصه أخبرنا المتقدم سلمنا أنه يجب عليهم ذكر تلك الأقيسة لكن يجب ذكرها صريحا أو تنبيها الأول ممنوع والثاني مسلم وهاهنا قد نبهوا على العلل بالإشارة إلى الأصول التي ذكروها بيانه أنهم اتفقوا على أنه حكم قوله أنت على حرام أما أن يكون حكمه حكم الطلاق أو الظهار أو اليمين وعلة ذلك ظاهرة وهى أن قوله أنت على حرام لفظ موضوع للتحريم فيؤثر فيه إذا توجه إلى الزوجة كهذه المسائل ثم أن كل واحد منهم رجح الأصل الذي اختاره فمنهم رجح الاحتياط فجعله طلاقا ثلاثا ومنهم من رجح بالمتيقن فجعله طلقة واحدة ومنهم من جعله ظهارا لمشابهته إياه في اقتضاء التحريم ومباينته لصرائح الطلاق وكناياته ثم جعل كفارته كفارة الظهار أخذا بالاحتياط لأنها أغلظ من كفارة اليمين ومنهم من رجح بأن كفارة اليمين أقل الكفارات فيوجبها أخذا بالأقل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 فظهر أن ذكر هذه الأصول منبه على كيفية قياساتهم قوله لم قلت لو أظهروا تلك النصوص لوجب اشتهارها قلنا لأن هذه المسائل من المسائل التي يكثر وقوعها فكانت الحاجة إلى معرفة حكم الله تعالى فيها بالدليل شديدة وما كان كذلك فإن الدواعى تتوفر على حفظ النصوص الواردة فيها فهذا إن لم يفد القطع فلا أقل من الظن قوله تدعى أن تلك النصوص لو نقلت لعرفتها أنت أو لعرفه أحد ممن في هذا الزمان قلنا ندعى قسما ثالثا وهو أن يكون مشهورا في الكتب بحيث يجده كل من حاول طلبه قوله من ذهب إلى أنه يمين تمسك بقوله تعالى لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم قلنا أن قوله تعالى لم تحرم ما أحل الله لك لا يدل على أنه إذا حرم فماذا حكمه ثم إن دل فإنما يدل على مذهب مسروق وأما قوله تعالى قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فنقول ليس في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 الآية إلا أنه عليه الصلاة والسلام حرم ما أحل الله له فيجوز أن يكون قد حرمه بلفظ اليمين بأن كان قد حلف بأنه لا يقرب مارية بل هذا أولى لأن اليمين القسم بالله ولا شبهة في أن قوله أنت على حرام ليس قسما بالله فثبت أن هذه الآية لا دلالة فيها على حكم هذه المسألة وأيضا فلو نزلت هذه الآية بسبب قوله لماريه يا أنت على حرام لكان ذلك نصا في الباب وذلك يمنع من ذهاب كل واحد منهم في هذه المسألة إلى قول آخر لما بينا أن شدة إنكارهم على من خالف نصوصه يمنع منه قوله من حمله على الطلقات الثلاث جعله ككنايات الطلاق قلنا لاشك أن قوله أنت على حرام ليس من صرائح الطلاق وما أجمعوا على أنه من كنايات الطلاق فإذن لابد وأن يقال إن حكم هذا الكلام مثل حكم الصرائح والكنايات وهذا التشبيه نفس القياس بل لا نزاع في أنه بعد ثبوت هذه المشابهة يندرج تحت قوله إذا طلقتم النساء وقوله الطلاق مرتان قوله من حمله على الطلقة الواحدة فإنما حمله عليها أخذا بالمتيقن قلنا هذا إنما يثبت بعد أن نجعله من صرائح الطلاق أو كناياته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 وحينئذ فلا بد فيه من القياس قوله من حمله على الظهار فقد أجراه مجرى الظهار قلنا إن أردتم به أنه أجراه مجرى الظهار في الحكم فهذا هو القياس وإن أردتم غيره فبينوه قوله إن مسروقا تمسك بالبراءة الأصلية قلنا لا نسلم بل قاسه على قصتة من ثريد فإنه حكى عنه أنه قال لا فرق عندي بينه وبين قصعة من ثريد وأيضا فإن مسروقا كان من التابعين فإما أن يقال إنه عاصر الصحابة حين اختلفوا في هذه المسألة أو ما عاصرهم في ذلك الوقت فإن كان الأول كانت الصحابة تاركين للبراءة الأصلية بسبب القياس لما بينا أنهم ما ذهبوا إلى مذاهبهم لأجل النص وذلك يقتضى عمل بعض الصحابة بالقياس ولا مطلوب في هذا المقام إلا ذلك وإن كان الثاني كان إجماعهم حجة عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 قوله هب أنهم ما ذهبوا إلى تلك المذاهب لأجل النص فلم قلت ذهبوا إليها للقياس قلنا لأن كل من قال الصحابة لم يرجعوا في تلك الأقاويل إلى البراءة الأصلية ولا إلى النصوص الجلية أو الخفية قال إنهم عملوا فيها بالقياس هذا تمام الكلام في الوجه الثالث قوله على الوجه الرابع إن الرأى في أصل اللغة ليس للقياس قلنا هذا مسلم لكنا ندعى أنه في عرف الشرع اختص بالقياس وهذا وإن كان خلاف الأصل لكن الدليل قام عليه فإنكم رويتم عنهم كلاما كثيرا في ذم الرأى وقد ساعدنا خصومنا على أن المراد منه ذم القياس فعلمنا أن عرف الشرع يقتضي تخصيص اسم الرأى بالقياس وهذا تمام الكلام في المقدمة الأولى قوله إنهم صرحوا بالإنكار قلنا نعم ولكن التوفيق ما ذكروا قوله روايات الإنكار صريحة وروايات الاعتراف غير صريحة قلنا هب إنها غير صريحة لفظا لكنها صريحة بحسب الدلالة المذكورة فلم قلت إنه يبقى ما ذكرتموه من الترجيح قوله لعل المنكر انقلب مفردة وبالعكس قلنا لو وقع ذلك لاشتهر لأنه من الأمور العجيبة فحيث لم يشتهر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 دل على أنه لم يقع قوله لعلهم سكتوا خوفا قلنا استقراء حال الصحابة يفيد ظنا غالبا بشدة انقيادهم للحق وأما قدح النظام فيهم فقد سبق الجواب عنه في باب الأخبار قوله يجوز أن يكون سكوتهم لعدم علمهم بكونه حقا أو باطلا قلت هب أنهم كانوا متوقفين فيه في أول الأمر ولكن الظاهر أن بعد انقضاء الأعصار يظهر لهم كونه حقا أو باطلا قوله لعل كل واحد منهم اعتقد أن غيره أولى بالإنكار قلنا لا بد وأن يكون واحد منهم أولى بذلك أو يكون الكل في درجة واحدة وكيفما كان فأجماعهم لو على ترك الإنكار إجماع على الخطأ قوله حصل الرضا دفعة أولا دفعة قلنا الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان قوله لا نعلم أنهم بأي أنواع القياس تمسكوا قلنا الإجماع الظاهر حاصل في أن القياس المناسب حجة قوله لم قلت إنه يلزم من جواز العمل بالقياس للصحابة جوازه لنا قلنا لا نعرف أحدا قال بالفرق فيكون الإجماع حاصلا ظاهرا فهذا تمام الكلام في هذه الطريقة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 وإنما استقصينا القول فيها جوابا وسؤالا لأنا رأينا الأصوليين يعولون عليها في كثير من مسائل هذا العلم وقد ذكرناها أيضا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب فأردنا أن نعرف مقدار قوتها وقد ظهر أنها لو أفادت شيئا ما أفادت إلا ظنا ضعيفا وأنه ليس الأمر كما يعتقده الجمهور من أنه يفيد إجماعا قاطعا المسلك السادس تقرير الإجماع على وجه آخر فنقول نعلم بالضرورة اختلاف الصحابة في المسائل الشرعية فإما أن يكون ذهابهم إلى ما ذهبوا إليه لا لطريق فيكون ذلك إجماعا على الخطأ وإنه غير جائز أو لطريق وهو إما أن يكون عقليا أو سمعيا لا يجوز أن يكون عقليا لأن العقل لا دلالة فيه إلا على البراءة الأصلية ويستحيل أن يكون قول واحد من المختلفين قولا بالبراءة الأصلية فثبت أنه كان سمعيا وهو إما أن يكون قياسيا أو نصا أو غيرهما أما القياس فهو المطلوب وأما النص فغير جائز لأن مخالف النص يستحق العقاب العظيم لقوله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 ونحن نعلم بالضرورة أن المختلفين منهم في المسائل الشرعية ما كان كل واحد منهم يعتقد في صاحبه كونه مستحقا للعقاب العظيم بسبب تلك المخالفة وأما الذي ليس بنص ولا قياس فباطل لأن كل من قال من الأمة إنهم لم يتمسكوا في تقرير أقوالهم بشئ من النصوص الجلية أو الخفية ولا بالبراءة الأصلية قال إنهم تمسكوا بالقياس فلو قلنا إنهم قالوا بتلك الأقاويل بشئ غير هذين القسمين كان ذلك قولا غير قولى كل الأمة وهو باطل فهذه الدلالة وإن كان يتوجه عليها كثير مما توجه على الوجه الذي قبله إلا أن كثيرا من تلك الأسئلة ساقط عنها المسلك السابع وهو المعقول أن القياس يفيد ظن الضرر فوجب جواز العمل به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 بيان الوصف أن من ظن أن الحكم في الأصل معلل بكذا وعلم أو ظن حصول ذلك الوصف في الفرع وجب أن يحصل له الظن بأن حكم الفرع مثل حكم الأصل ومعه علم يقيني بأن مخالفة حكم الله تعالى سبب العقاب فتولد من ذلك الظن وهذا العلم ترك العمل به سبب للعقاب فثبت أن القياس يفيد ظن الضرر بيان التأثير أن العاقل يعلم ببديهة عقله أنه لا يمكنه الخروج عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 النقيضين ولا يمكنه الجمع بينهما بل يجب لا محالة ترجيح أحدهما على الآخر ونعلم بالضرورة أن ترجيح ما غلب على ظنه خلوه عن المضرة على ما غلب على ظنه اشتماله على المضرة أولى من العكس ولا معنى لجواز العمل بالقياس إلا هذا القدر فإن قيل دليلكم مبني على إمكان ما يدل على أن الحكم في الأصل معلل بعلة ثم على وجود ذلك الوصف في الأصل ثم على إمكان ما يدل على حصول ذلك الوصف في الفرع ثم على إنه يلزم من حصول ذلك الوصف في الفرع ظن حصول ذلك الحكم فيه وتقرير هذه المقامات الخمس سيأتي في الأبواب الآتية إن شاء الله تعالى سلمنا حصول هذا الظن فلم قلتم إن العمل به واجب قوله لأن ترجيح الخالى عن الضرر على المشتمل عليه متعين في بديهة العقل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 قلنا هذا منقوض بما أنه لا يجب على القاضي أن يعمل بقول الشاهد الواحد إذا غلب على ظنه صدقه وأن يعمل في الزنا بقول الشاهدين إذا غلب على ظنه صدقهما وبما إذا ظهرت مصلحة لا يشهد باعتبارها حكم شرعي ألبتة وبما إذا ادعى الرجل الذي غلب على الظن صدقه للنبوة وبما إذا غلب على ظن الدهرى واليهودى أو النصراني والكافر قبح هذه الأعمال الشرعية فإن غلبة الظن حاصلة في هذه الصور ولا يجوز العمل بها فإن قلت المظنة إنما تفيد الظن إذا لم يقم دليل قاطع على فسادها وفي هذه الصور قد قامت الدلالة على فسادها فلا يبقى الظن قلت فعلى هذا التقدير القياس إنما يفيد ظن دفع الضرر إذا لم يوجد دليل يدل على فساد القياس فيصير نفى ما يدل على فساد القياس جزءا من المقتضى لظن الضرر فعليكم أن تثبتوا أنه لم يوجد ما يدل على نفى القياس حتى يمكنكم ادعاء حصول ظن الضرر وبعد المجاوزة عن النقض نقول متى يجب الاحتراز عن الضرر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 المظنون إذا أمكن تحصيل العلم به أم إذا لم يمكن الأول ممنوع فإن الشئ الذي أمكن تحصيل العلم به فالاكتفاء بالظن مع جواز كونه خطأ اقدام على ما لا يؤمن كونه قبيحا مع إمكان الاحتراز عنه وهو غير جائز بالاتفاق والثاني مسلم ولكن إنما يجوز الاكتفاء بالظن في الوقائع الشرعية إذا بينتم أنه لا طريق إلى تحصيل العلم بها ألبتة وذلك إنما يصح لو ثبت أنه لم يوجد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله ص ما يدل على احكام تلك الوقائع ولم يوجد في الزمان إمام معصوم يعرفنا تلك الأحكام فان بتقدير وجود أحد هذه الأمور كان تحصيل اليقين بالحكم ممكنا سلمنا إنه لا طريق إلى تحصيل العلم بها لكن لما قلت إنه لم يوجد ما يقتضى ظنا هو أقوى من الظن الحاصل بالقياس فان بتقدير إمكان ذلك كان التعويل على القياس اكتفاء بأضعف الظنين مع القدرة على تحصيل الأقوى وأنه غير جائز ثم نقول إن دل على ما ذكرتموه على صحة القياس فمعنا ما يدل على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 فساده وهو الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وإجماع العترة والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى لا تقدموا بين يدي الله ورسوله والقول بالقياس تقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وأله وسلم وقوله تعالى وأن تقولوا على الله مالا تعلمون ولا تقف ما ليس لك به علم والقول بالحكم في الفرع لأجل القياس قول بالمظنون لا بالمعلوم وأيضا قال الله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله والحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله تعالى وأيضا قال الله تعالى ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ما فرطنا في الكتاب من شئ فهذه الآية دالة على اشتمال الكتاب على الأحكام الشرعية بأسرها فإذن كل ما ليس في الكتاب وجب أن لا يكون حقا وعند ذلك نقول ما دل عليه القياس إن دل عليه الكتاب فهو ثابت بالكتاب لا بالقياس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 وإن لم يدل عليه الكتاب كان باطلا وأقوى ما تمسكوا به من الآيات قوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا وجه الاستدلال به أن في القياس الشرعي لا بد وأن يكون تعليل الحكم في الأصل وثبوت تلك العلة في الفرع ظنيا ولو وجب العمل بالقياس لصدق على ذلك الظن أنه أغنى من الحق شيئا وذلك يناقض عموم النفى فإن قلت يشكل التمسك بهذه النصوص بالفتوى والشهادات وأمارات القبلة قلت تخصيص العام في بعض الصور لا يخرجه عن كونه حجة وأما السنة فخبران الأول قوله عليه الصلاة والسلام تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا الثاني قوله عليه الصلاة والسلام تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 أعظمهم فتنة قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال ويحللون الحرام فإن قلت خبر الواحد لا يعارض الدليل العقلى الذي ذكرناه قلت الدليل الذي ذكرتموه هو أن القياس يفيد الضرر المظنون فيجب الاحتراز عنه ولا شك أن خبر الواحد يفيد الظن فإذا ورد في المنع من القياس أفاد ظن أن التمسك به سبب الضرر وذلك يوجب الاحتراز عنه وأما إجماع الصحابة فهو أنه نقل عن كثير منهم التصريح بذم القياس على ما تقدم بيانه ولم يظهر من أحد منهم الإنكار على ذلك الذم وذلك يدل على انعقاد الإجماع على فساد القياس فإن قلت هذا معارض بأنه نقل عنهم أنهم اختلفوا في مسائل مع إنه لا طريق لهم إلى تلك المذاهب إلا القياس قلت ما ذكرناه أولى لأن التصريح راجح على ما ليس بتصريح وأما إجماع العترة فلأنا كما نعلم بالضرورة بعد مخالطة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 أصحاب النقل أن مذهب الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة ومالك رحمهما الله القول بالقياس فكذا نعلم بالضرورة أن مذهب أهل البيت كالصادق يكون والباقر إنكار القياس وقد تقدم في باب الإجماع أن إجماع العترة حجة وأما المعقول فمن وجوه الأول لو جاز العمل بالقياس لما كان الاختلاف منهيا عنه لكنه منهي عنه فالعمل بالقياس غير جائز بيان الملازمة أن العمل بالقياس يقتضى اتباع الأمارات وذلك يقتضى وقوع الاختلاف لا محالة ووقوع ذلك شاهد على صحة ما قلناه بيان أنه لا تجوز المخالفة قوله تعالى ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم الثاني أن الرجل لو قال أعتقت غانما لسواده فقيسوا عليه لم يعتق سائر عبيده السود فضلا عما إذا لم يأمر بالقياس فإذا قال الله تعالى حرمت الربا في البر فكيف يجوز القياس عليه فهذا كله كلام من لم يمنع القياس عقلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 أما المانعون منه عقلا فقد ذكرنا أن منهم من خص ذلك المنع بهذا الشرع أما المانعون منه عقلا فقد ذكرنا أن منهم من خص ذلك المنع بهذا الشرع ومنهم من منعه في كل الشرائع أما الأول فهو قول النظام واحتج عليه بأن مدار هذا الشرع على الجمع بين المختلفات والفرق بين المتماثلات وذلك يمنع من القياس في هذا الشرع بيان الأول بصور إحداهما أنه جعل بعض الأزمنة والأمكنة أشرف من بعض مع استواء الكل في الحقيقة قال الله تعالى ليلة القدر خير من ألف شهر وفضل الكعبة على سائر البقاع وثانيتها جعل التراب طهورا مع أنه ليس بغسال مع بل يزيد في تشويه الخلقة وثالثتها فرض الغسل من المنى والرجيع أنتن منه ورابعتها نهانا عن إرسال السبع على مثله وأقوى منه ثم أباح إرساله على البهيمة الضعيفة وخامستها نقص من صلاة المسافر الشطر مما كان عدده أربعا وترك ما كان ركعتين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 وسادستها أسقط الصوم والصلاة على الحائض ثم أوجب عليها قضاء الصوم مع أن الصلاة أعظم قدرا من الصوم وسابعتها جعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن والمائة من الجوارى الحسان لا يحصن وثامنتها حرم النظر إلى شعر العجوز الشوهاء مع أنها لا تفتن الرجال الشبان ألبتة وأباح النظر إلى محاسن الأمة الحسناء مع لأنها تفتن الشيخ وتاسعتها قطع سارق القليل وعفى عن غاصب الكثير وعاشرتها جلد بالقذف بالزنا ولم يجلد بالقذف بالكفر وحادية عشرها قبل في الكفر والقتل شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة وهو دونهما وثانية عشرها جلد قاذف الحر الفاجر وعفا عن قاذف العبد العفيف وثالثة عشرها أوجب على الصبية المتوفى عنها زوجها العدة وفرق في العدة بين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 الموت والطلاق مع أن حال الرحم لا يختلف فيهما ورابعة عشرها جعل استبراء الأمة بحيضة والحرة المطلقة بثلاث حيض وخامس عشرها يخرج الريح من موضع الغائط وفرض تطهير موضع آخر مع أن غسل ذلك المكان أولى إذا ثبت هذا فنقول إن مدار القياس على أن الصورتين لما تماثلتا في الحكمة والمصلحة وجب استواؤهما في الحكم لكن هذه المقدمة لو كانت حقة لامتنع التفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات في تلك الصور فلما لم يمتنع ذلك علمنا فساد تلك المقدمة وإذا فسدت تلك المقدمة بطل القول بالقياس وأما الذين منعوا من القياس في كل الشرائع فقد عرفت أنهم ثلاث فرق الفرقة الأولى الذين أنكروا كون القياس طريقا إلى الظن وهؤلاء قد تمسكوا بوجوه أحدها أن البراءة الأصلية معلومة والحكم الثابت بالقياس إما أن يكون على وفق البراءة الأصلية أو لا على وفقها فإن كان على وفقها لم يكن في القياس فائدة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 وان كان على خلافها كان ذلك القياس معارضا للبراءة الأصلية لكن البراءة الأصلية دليل قاطع والقياس دليل ظنى والظنى إذا عارض اليقينى كان الظنى باطلا فيلزم كون القياس باطلا وثانيها أن القياس لا يتم في شئ من المسائل إلا إذا سلمنا أن الأصل في كل شئ بقاؤه على ما كان إذ لو لم يثبت ذلك فهب أن الشارع أمر بالقياس ولكن كيف يعرف أنه بقى ذلك التكليف وإذا نص على حكم الأصل فكيف يعرف أن ذلك الحكم باق في هذا الزمان فثبت أن القياس لا يتم إلا مع المساعدة على هذا الأصل إذا ثبت ذلك فنقول الحكم المثبت بالقياس إما أن يكون نفيا أو إثباتا فإن كان نفيا فلا حاجة فيه إلى القياس لأنا علمنا أن هذا الحكم كان معدوما في الأزل والأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان فيحصل لنا ظن ذلك العدم فيكون إثبات ذلك الظن بالقياس مرة أخرى عبثا فإن قلت ثبوته بدليل لا يمنع من ثبوته بدليل آخر قلت نعم ولكن بشرط ان لا يفتقر الدليل الثاني إلى الأول وأما إذا افتقر إلية كان التمسك بالدليل الثاني تطويلا محضا من غير فائدة وأما إن كان الحكم المثبت بالقياس إثباتا فنقول قد بينا أن قولنا إن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان يقتضي ظن عدم ذلك الحكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 في الحال فلو اقتضى القياس ثبوته في الحال مع أن القياس متفرع على تلك المقدمة لزم وقوع التعارض بين تلك المقدمة التي هي الأصل وبين القياس الذي هو الفرع ولا شك أن في مثل هذا التعارض يجب ترجيح الأصل على الفرع فوجب القطع هاهنا بسقوط القياس وثالثها أن القياس لا يفيد ظن الحكم إلا إذا ظننا كون الحكم في الأصل معللا بالوصف الفلانى وذلك الظن محال لما سيأتي في الباب الثاني أن تعليل الحكم الشرعي محال الفرقة الثانية الذين سلموا أن القياس يفيد الظن لكنهم قالوا لا يجوز التكليف بإتباع الظن قالوا لأن الظن قد يخطئ وقد يصيب فالأمر به أمر بما يجوز أن يكون خطأ وذلك غير جائز الفرقة الثالثة الذين قالوا يجوز التكليف بإتباع الظن لكنه غير جائز هاهنا قالوا لأن الاكتفاء بالقياس اقتصار على أدون البابين مع القدرة على أعلاهما وذلك غير جائز إنما قلنا إنه اقتصار على أدون البابين لأنا نعلم بالضرورة أن تنصيص صاحب الشرع أظهر في باب البيان من التفويض إلى القياس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 وإنما قلنا إنه مع القدرة على أعلاهما لأنه لا امتناع في التنصيص على أحكام القواعد الكلية واحترزنا بهذا عن الشهادة والفتوى وقيم المتلفات وأروش الجنايات والتمسك بالأمارات في معرفة القبلة والأمراض والأرباح والأمور الدنيوية لأن هذه الأشياء تختلف بأختلاف الأشخاص والأوقات والأمكنة والاعتبارات فالتنصيص عليها كالتنصيص على مالا نهاية له وهو محال وإنما قلنا إن الاقتصار على أدون البابين مع القدرة على أعلاهما غير جائز لأنه إذا لم يقع البيان على أقصى الوجوه حسن من المكلف أن يحمل اليقين على صعوبة البيان لا على تقصير نفسه فالإتيان بكمال البيان إزاحة لعذر المكلف فيكون كاللطف سعيد وترك المفسدة في الوجوب والجواب أما النقوض فقد ذكرنا أن الدليل الشرعي لما قام على عدم الالتفات إلى تلك المظان لم يبق الظن قوله فحينئذ يصير عدم الدليل المبطل للقياس جزء من المقتضى قلنا ليس كل ما وجدده يمنع من عمل المقتضى كان عدمه جزء من المقتضي فإن الذي يمنع الثقيل من النزول لا يصير عدمه جزء المقتضى للنزول لاستحالة كون العدم من العلة الوجودية قوله جواز الرجوع إلى الظن في الشرعيات مشروط بعدم التمكن من تحصيل العلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 قلنا لا نسلم فإنه إذا حصل الظن الغالب بسبب القياس بأشتمال بكر أحد الطرفين على المفسدة والآخر على المصلحة فإلى أن يستقصى في طلب العلم لابد في الحال من أن يرجح أحد الطرفين على الآخر لامتناع ترك النقيضين وصريح العقل يشهد بأنه لا يجوز ترجيح المرجوح فتعين ترجيح الراجح وهو الجواب أيضا عن الإمام المعصوم وأما المعارضات فنقول أما التمسك بالآيات فالجواب عنها أن الدلالة لما دلت على وجوب العمل بهذا الظن صار كأن الله تعالى قال مهما ظننت أن هذه الصورة تشبه تلك الصورة في علة الحكم فاعلم قطعا أنك مكلف بذلك الحكم وحينئذ يكون الحكم معلوما لا مظنونا ألبتة وأما الأحاديث فهي معارضة بالأحاديث الدالة على العمل بالقياس وطريق التوفيق أن نصرف الأمر بالقياس إلى بعض أنواعه والنهي إلى نوع آخر وأما إجماع الصحابة فقد سبق الجواب عنه وأما إجماع العترة فممنوع وروايات الإمامية معارضة بروايات الزيدية فانهم ينقلون عن الأئمة جواز العمل بالقياس قوله العمل بالقياس يستلزم وقوع الاختلاف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 قلنا وكذا العمل بالأدلة العقلية والنصوص يستلزم وقوع الخلاف فما هو جوابكم هناك فهو جوابنا هاهنا قوله لو قال لوكيله أعتق غانما لسواده فإنه لا يعتق عليه كل عبيده السود قلنا إنه لو صرح بعد ذلك فقال قيسوا عليه سائر عبيدي لم يعتق عليه سائر عبيده ولو نص الله تعالى على حكم ثم قال قيسوا عليه فلا نزاع في جواز القياس فظهر الفرق بين الصورتين والسبب فيه أن حقوق العباد مبنية على الشح والضنة لكثرة حاجاتهم وسرعة رجوعهم عن دواعيهم وصوار فهم وأما شبه النظام فجوابها أن غالب أحكام الشرع معلل برعاية المصالح المعلومة والخصم إنما بين خلاف ذلك في صور قليلة جدا وورود الصور النادرة على خلاف الغالب لا يقدح في حصول الظن كما أن الغيم الرطب إذا لم يمطر نادرا لا يقدح في ظن نزول المطر منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 قوله البراءة الأصلية معلومة والقياس دليل ظنى والظن لا يعارض اليقين قلنا ينتقض ذلك بجواز العمل بالفتوى والشهادة وتقويم المقومين وبجواز العمل بالظن في الأمور الدنيوية قوله القياس إما أن يرد على وفق حكم الأصل أو على خلافه قلنا ينتقض بالأمور المذكورة قوله الظن قد يخطئ وقد يصيب قلنا ينتقض بالأمور المذكورة قوله الاكتفاء بالقياس اكتفاء بأدون البابين مع القدرة على أعلاهما قلنا إنه كذلك فلم لا يجوز فإن قالوا لأنه لطف واللطف واجب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 قلنا الكلام على هذه الطريقة سبق في باب الإجماع على الاستقصاء المسألة الثانية قال النظام النص على علة الحكم يفيد الأمر بالقياس وهو قول أبي الحسين البصري وجماعة من الفقهاء ومنهم من أنكره وهو المختار وقال أبو عبد الله البصري أن كانت العلة علة في الفعل لم يكن التنصيص عليها تعبدا بالقياس وأن كانت علة في الترك كان التنصيص عليها تعبدا بالقياس لنا أن قوله حرمت الخمر لكونها مسكرة يحتمل أن تكون العلة هي الإسكار وأن تكون العلة هي إسكار الخمر بحيث يكون قيد كونه مضافا إلى الخمر معتبرا في العلة وإذا احتمل الأمرين لم يجز القياس إلا عند أمر مستأنف بالقياس فإن قيل لا نسلم أن قيد كون الإسكار في ذلك المحل يحتمل أن يكون جزء من العلة فإنا لو جوزنا ذلك للزمنا تجويز مثله في العقليات حتى نقول هذه الحركة إنما اقتضت المتحركية لقيامها بهذا المحل فالحركة القائمة لا بهذا المحل لا تكون علة للمتحركية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 قد سلمنا إمكان كونه معتبرا في الجملة لكن العرف يدل على سقوط هذا القيد عن درجة الاعتبار لأن الأب إذا قال لأبنه لا تأكل هذه الحشيشة لأنا سم يقتضى منعه من أكل حشيشة تكون سما وإذا ثبت ذلك في العرف ثبت مثله في الشرع لقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن سلمنا أنه غير ساقط في العرف إلا أن الأغلب على الظن سقوطه لأن علة الحكم وجب أن تكون منشأ الحكمة ولا مفسدة في كون الإسكار قائما بهذا المحل أو بذاك بل منشأ المفسدة كونه مسكرا فقط فإذا غلب على ظننا ذلك وجب الحكم به احترازا عن الضرر المظنون سلمنا أن هذا القيد غير ظاهر لكن دليلكم إنما يتمشى فيما إذا قال الشارع حرمت الخمر لكونها مسكرة أما لو قال علة حرمة الخمر إنما هي الإسكار لا يبقى ذلك الاحتمال سلمنا أن دليلكم يمنع من القياس لكن هاهنا ما يدل على جوازه فإن قول الشارع حرمت الخمر لكونها مسكرة يقتضى إضافة الحرمة إلى الإسكار وذلك يدل على أن العلة هي الإسكار فوجب أن يترتب الحكم عليه أينما وجد وأما من فرق بين الفعل والترك فقد قال إن من ترك أكل رمانة لحموضتها وجب عليه أن يترك أكل كل رمانة حامضة أما من أكل رمانة لحموضتها لا يجب عليه أن يأكل كل رمانة حامضة والجواب قوله هذا الاحتمال قائم في الحركة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 قلنا إن عنيت بالحركة معنى يقتضى المتحركية فهذا المعنى يمتنع فرضه بدون المتحركية وإن عنيت بالحركة شيئا آخر بحيث يبقى فيه هذا الاحتمال فهناك نسلم أنه لابد في إبطال ذلك الاحتمال من دليل منفصل قوله العرف يقتضى إلغاء هذا القيد قلنا ذاك إنما عرف بالقرينة وهي أن شفقته تمنع من تناول كل ما يقتضى ضررا فلم قلت أن هذا المعنى حاصل في العلة المنصوصة قوله الغالب على الظن إلغاء هذا القيد قلنا هب أن الأمر كذلك ولكن إنما يلحق الفرع بالأصل لأنه لما غلب على ظننا كونه في معناه ثم الدليل دل على وجوب الاحتراز من الضرر المظنون فحينئذ يجب علينا أن نحكم في الفرع بمثل حكم الأصل ولكن هذا هو الدليل الذي دل على كون القياس حجة فالتنصيص على علة الحكم لا يقتضى ثبات مثله في الفرع إلا مع الدليل الدال على وجوب العمل بالقياس قوله لو صرح بأن العلة هي الإسكار لا يبقى فيه هذا الاحتمال قلنا في هذه الصورة نسلم أنه أينما حصل الإسكار حصلت الحرمة لكن ذلك ليس بقياس لأن العلم بأن الإسكار من حيث هو إسكار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 يقتضى الحرمة يوجب العمل بثبوت هذا الحكم في كل محالة ولم يكن العلم بحكم بعض تلك المحال متأخرا عن العلم بالبعض فلم يكن جعل البعض فرعا والآخر أصلا أولى من العكس فلا يكون هذا قياسا بل إنما يكون قياسا لو قال حرمت الخمر لكونها مسكرة فحينئذ يكون العلم بثبوت هذا الحكم في الخمر أصلا للحكم به في النبيذ ومتى قال على هذا الوجه انقدح الاحتمال المذكور قوله إن قوله حرمت الخمر لكونها مسكرة يقتضى إضافة الحرمة إلى نفس الأسكار قلنا لا نسلم فلعل قيد كون الاسكار فيه معتبر في العلية على ما حققناه قوله من ترك أكل رمانة لحموضتها يجب عليه أن يترك الكل قلنا لا نسلم لاحتمال أن يكون الداعي له إلى الترك لا مطلق حموضة الرمانة بل حموضة هذه الرمانة وإنها غير حاصلة في سائر الرمانات وفي سلمناه ولكن لا فرق في ذلك بين الفعل والترك قوله من أكل رمانة لحموضتها لا يجب عليه أن يأكل كل رمانة حامضة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 قلنا ذاك لأنه ما أكلها لمجرد حموضتها بل لأجل حموضتها مع قيام الاشتهاء الصادق لها وخلو المعدة عن الرمان وعلمه بعدم تضرره بها وهذه القيود بأسرها لم توجد في أكل الرمانة الثانية المسألة الثالثة إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه قد يكون ظاهرا جليا وقد لا يكون كذلك فالأول كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف ومن الناس من قال المنع من التأفيف منقول بالعرف عن موضوعه اللغوى إلى المنع من أنواع الأذى لنا وجهان الأول أن المنع من التأفيف لو دل عليه لدل عليه إما بحسب الموضوع اللغوى أو بحسب الموضوع العرفي والأول باطل بالضرورة لأن التأفيف غير الضرب فالمنع من التأفيف لا يكون منعا من الضرب والثاني أيضا باطل لأن النقل العرفي خلاف الأصل وأيضا فلو ثبت أن النقل في العرف لما حسن من الملك إذا استولى على عدوه أن ينهى الجلاد عن صفعه والاستخفاف به وإن كان يأمره بقتله وإذا بطلت دلالة اللفظ عليه علمنا أن تحريم الضرب مستفاد من القياس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 واحتج المخالف بأمور أحدها لو كان مستفادا من القياس لوجب فيمن لا يقول بصحة القياس أن لا يعلم ذلك وثانيها أنه يلزم أن لا يعلم العاقل حرمة ضربهما لو منعه الله عن القياس الشرعي وثالثها أجمعنا على أن قوله فلان لا يملك حبة يفيد في العرف أنه لا شئ له ألبتة وكذا قولهم لا يملك نقيرا ولا قطميرا يفيد أنه ليس له شئ ألبتة وإن كان النقير في أصل اللغة عبارة عن النقرة التي على ظهر النواة والقطمير عبارة عما في شق النواة وكذلك قولهم فلان مؤتمن على قنطار فإنه يفيد في العرف كونه أمينا على الإطلاق وإنما حكمنا في هذه الألفاظ بالنقل العرفى لتسارع الفهم إلى هذه المعاني العرفية فوجب أن تكون حرمة التأفيف موضوعة في العرف للمنع من الإيذاء لتسارع الفهم إليه والجواب عن الأول أن القياس قد يكون يقينيا وقد يكون ظنيا أما الأول فكمن علم علة الحكم في الأصل ثم علم حصول مثل تلك العلة في الفرع فإنه لابد وأن يعلم ثبوت الحكم في الفرع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 أما الثاني فكما إذا كانت إحدى المقدمتين أو كلاهما مظنونة والقياس في هذه المسألة من النوع الأول فلا جرم لا يمكن أن يكون القادح في صحة القياس الظنى قادحا في صحة هذا القياس وهذا هو الجواب بعينه عن الثاني أما الثالث فقوله ليس لفلان حبة يفيد نفى الأكثر من الحبة لأن الأكثر من الحبة يوجد فيه الحبة أما ما نقص من الحبة فلا يتعرض له كلامه وأما النقير والقطمير فقد حكمنا فيه بالنقل العرفي للضرورة ولا ضرورة في مسألتنا وأما قوله فلان مؤتمن على قنطار فأنما يفيد كونه مؤتمنا على ما دون القنطار لأن ما دون القنطار داخل في القنطار فأما ما فوقه فلا يدخل فيه المسألة الرابعة ثبوت الحكم في الأصل إما أن يكون يقينيا أو لا يكون فإن كان يقينيا استحال أن يكون ثبوت الحكم في الفرع أقوى منه لأنه ليس فوق اليقين درجة أما إذا لم يكن يقينيا فثبوت الحكم في الفرع إما أن يكون أقوى من ثبوته في الأصل أو مساويا له أو دونه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 مثال الأول قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف فإن تحريم الضرب وهو الفرع أقوى ثبوتا من تحريم التأفيف الذي هو الأصل ومثال الثاني قوله عليه الصلاة والسلام لا يبولن أحدكم في الماء الراكد فأنا نقيس عليه ما إذا بال في الكوز ثم صبه في الماء الراكد ولا تفاوت بين الحكم في الأصل والفرع وهذا هو الذي يسمى بالقياس في معنى الأصل ومثال الثالث جميع الأقيسة التي يتمسك الفقهاء بها في مباحثهم وأما مراتب التفاوت فهي بحسب مراتب الظنون ولما كانت مراتب الظنون محصورة فكذا القول في مراتب هذا التفاوت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 القسم الثاني في الطرق الدالة على كون الوصف المعين علة للحكم في الأصل قد عرفت أن حاصل القياس يرجع إلى أصلين أحدهما أن الحكم في محل النص معلل بالوصف الفلاني وثانيهما أن ذلك الوصف حاصل في الفرع والأصل الأول أعظمهما وأولاهما بالبحث والتدقيق والكلام في هذا القسم مرتب على مقدمة وأربعة أبواب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 أما المقدمة ففي تفسير العلة في هذا الموضع قال نفاة القياس إما أن يكون المراد من العلة ما يكون مؤثرا في الحكم أو ما يكون داعيا للشرع إلى إثباته أو ما يكون معرفا له أو معنى رابعا والثلاثة الأولة باطلة والرابع لابد من افادة تصوره لننظر فيه هل يصح أم لا أما الأول وهو الموجب فهو باطل من وجوه أحدها أن حكم الله تعالى على قول أهل السنة مجرد خطابه الذي هو كلامه القديم والقديم يمتنع تعليله فضلا على أن يعلل بعلة محدثة وأما على قول من يقول الأحكام أمور عارضة للأفعال معللة بوقوع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 تلك الأفعال على جهات مخصوصة فهو قول المعتزلة في الحسن والقبح العقليين وقد أبطلتموه وثانيها أن الواجب هو الذي يستحق العقاب على تركه واستحقاق العقاب وصف ثبوتي لأنه مناقض لعدم الاستحقاق وتركه هو أن لا يفعله وهو عدمى ولو كان ذلك الاستحقاق معللا بهذا الترك لكان الوجود معللا بالعدم وهو محال فإن قلت لم لا يجوز أن يقال القادر لا ينفك عن فعل الشئ أو فعل ضده فإذا ترك الواجب فقد فعل ضده واستحقاق العقاب معلل بفعل ضده قلت هذا لا يستقيم على رأى أبي هاشم وأبي الحسين وأتباعهما لأنه يجوز عندهما خلو القادر من الأخذ والترك وأيضا ففعل الضد لو لم يستلزم الإخلال بواجب لم يستلزم استحقاق الذم والعقاب ولو فرضنا وقوع الإخلال بالواجب من غير فعل الضد لاستلزم استحقاق الذم والعقاب فعلمنا أن المستلزم بالذات لهذا الاستحقاق هو أن لا يفعل الواجب لا فعل ضده وثالثها أن العلة الشرعية لو كانت مؤثرة في الحكم لما اجتمع على الحكم الواحد علل مستقلة لكن قد يحصل هذا الإجماع فالعلة غير مؤثرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 بيان الملازمة أن الحكم مع علته المستقلة واجب الحصول وما كان واجب الحصول لذاته استحال وقوعه لأن الواجب لذاته لا يكون واجبا لغيره فإذا اجتمعت عليه علل مستقلة كان لكونه مع هذا منقطعا عن الآخر وبالعكس فيلزم استغناؤه عن الكل حال احتياجه إلى الكل وهو محال بيان استثناء نقيض التالي ما إذا زنا وأرتد أو لمس ومس معا فإن الحكم هاهنا واحد لامتناع اجتماع المثلين وبتقدير جوازه فإنه لا يكون استناد أحد الحكمين إلى أحد العلتين أولى من استناده إلى العلة الأخرى ومن استناد الحكم الأخر إليها فيعود إلى كون كل واحد من الحكمين معللا بكل واحدة من العلتين وهو محال ورابعها أن كون القتل العمد العدوان قبيحا وموجبا لأستحقاق كل الذم والقصاص لو كان معللا بكونه قتلا عمدا عدوانا والعدوانية صفة عدمية لأن معناها انها غير مستحقة لزم أن يكون العدم جزء من علة الأمر الوجودي وهو محال فإن قلت لم لا يجوز أن يكون هذا العدم شرطا لصدور الأثر عن المؤثر قلت لأن عليه العلة ما كانت حاصلة قبل حصول هذا الشرط ثم حدثت عند حصوله فتلك العلية أمر حادث لابد له من مؤثر وهو الشرط فلو جعلنا الشرط عدما لزم جعل العدم علة لتلك العلية وهو محال ومن الفقهاء مقال هذه الإشكالات إنما تتوجه على من يجعل هذه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 الأوصاف عللا مؤثرة لذواتها في هذه الأحكام ونحن لا نقول بذلك بل كونها عللا لهذه الأحكام أمر ثبت بالشرع فهي لا توجب الأحكام لذواتها بل لأن الشرع جعلها موجبة لهذه الأحكام وهذا هو الذي عول عليه الغزالى في شفاء الغليل فيقال له إن أردت بجعل الزنا علة موجبة للرجم أن الشرع قال مهما رأيتم إنسانا يزني فاعلموا أني أوجبت رجمه فهذا صحيح ولكن يرجع حاصله إلى كون الزنا معرفا لذلك الحكم وهو غير ما نحن الآن فيه وإن أردت به أن الشرع جعل الزنا مؤثرا في هذا الحكم فهو باطل من وجهين الأول أنه معترف بأن الحكم ليس إلا خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين وذلك هو كلامه القديم فكيف يعقل كون الصفة المحدثة موجبة للشئ القديم سواء كانت الموجبية بالذات أو بالجعل الثاني أن الشارع إذا جعل الزنا علة فحال ذلك الجعل إن لم يصدر عنه أمر ألبتة لم يكن جاعلا ألبتة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 وإن صدر عنه أمر فذلك الأمر إما الحكم أو ما يؤثر في الحكم أو لا الحكم ولا ما يؤثر في الحكم فإن كان الصادر هو الحكم كان المؤثر في الحكم هو الشارع لا الوصف وقد فرض أن المؤثر هو الوصف هذا خلف وإن كان الصادر ما يؤثر في الحكم كان تأثير الشارع في إخراج ذلك المؤثر من العدم إلى الوجود ثم إنه بعد وجوده يؤثر في الحكم لذاته فتكون موجبيتة لذاته لا بالشرع وإن كان الصادر لا الحكم ولا ما يؤثر فيه ألبتة لم يحصل الحكم حينئذ وإذا لم يحصل الحكم لم يجعل الشرع ذلك الوصف موجبا لذلك الحكم وقد فرض كذلك هذا خلف التفسير الثاني الداعى وهو بالحقيقة أيضا موجب لأن القادر لما صح منه فعل الشئ وفعل ضده لم تترجح فاعليته للشئ على فاعليته لضده إلا إذا علم أن له فيه مصلحة فذلك العلم هو الذي لأجله صار القادر فاعلا لهذا الضد بدلا من كونه فاعلا لذلك الضد لكن العلم موجب لتلك الفاعلية ومؤثر فيها فمن قال أكلت للشبع كان معناه ذلك إذا عرفت هذا فنقول هذا في حق الله تعالى محال لوجهين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 الأول أن كل من فعل فعلا لغرض فإنه مستكمل بذلك الغرض والمستكمل بغيره ناقص بذاته وذلك على الله تعالى محال وإنما قلنا إن فعل فعلا لغرض فإنه مستكمل بذلك الغرض لأنه إما أن يكون حصول ذلك الغرض ولا حصوله بالنسبة إليه في اعتقاده على السواء وإما أن يكون أحدهما أولى به في اعتقاده فإن كان الأول استحال أن يكون غرضا والعلم به ضروري بعد الاستقراء والاختبار وإن كان الثاني كان حصول تلك الأولوية معلقا بفعل ذلك الغرض وكل ما كان معلقا على غيره لم يكن واجبا لذاته فحصول ذلك الكمال غير واجب لذاته فهو ممكن العدم لذاته فلا يكون كمال الله تعالى صفة واجبة له بل ممكنة الزوال عنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فإن قلت حصول ذلك الغرض ولا حصوله بالنسبة إليه تعالى على السواء ولكن بالنسبة إلى غيره لا على السواء فلا جرم أن الله تعالى يفعل لا لغرض يعود إليه بل الغرض يعود إلى عبده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 قلت كونه تعالى فاعلا للفعل الذي هو أولى بالعبد وكونه غير فاعل له إما أن يتساويا بالنسبة إليه تعالى من جميع الوجوه أو لا يتساويا فإن كان الأول استحال أن يكون ذلك داعيا لله تعالى إلى الفعل وأيضا فكيف يعقل هذا مع أن المعتزلى يقول لو لم يفعل لاستحق الذم ولما كان مستحقا للمدح ولصار سفيها غير مستحق للآلهية وأن كان أحدهما أولى عاد الإشكال الثاني أن البديهة شاهدة بأن الغرض والحكمة ليس إلا جلب المنفعة أو دفع المضرة والم عبارة عن اللذة أو ما يكون وسيلة إليها والمضرة عبارة عن الألم أو ما يكون وسيلة إليه والوسيلة إلى اللذة مطلوبة بالعرض والمطلوب بالذات هو اللذة وكذا الوسيلة إلى الألم مهروب عنها بالغرض والمهروب عنه بالذات ليس إلا الألم فيرجع حاصل الغرض والحكمة إلى تحصيل اللذة ورفع الألم ولا لذة إلا والله تعالى قادر على تحصيلها إبتداء من غير شئ من الوسائط ولا ألم إلا والله تعالى قادر على دفعه ابتداءا من غير شئ من الوسائط وإذا كان الأمر كذلك استحال أن تكون فاعليته لشئ لأجل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 تحصيل اللذة أو دفع الألم لأن الشئ إنما يكون معللا بشئ آخر إذا كان يلزم من عدم ما فرض علة وعدم كل ما يقوم مقامها أن لا تكون العلية حاصلة ألبتة وبهذا الطريق علمنا أن نعيق الغراب وصرير الباب ليس علة لوجود السماء والأرض ولا بالعكس وإذا ثبت هذا فنقول لما لم تكن فاعلية الله تعالى لتحصيل اللذات ودفع الآلام متوقفا ألبتة على وجود هذه الوسائط ولم تكن أيضا فاعليته للوسائط متوقفة على فاعليته لتلك اللذات والآلام استحال تعليل أحدهما بالآخر وإذا بطل التعليل بطل كونها داعية لما بينا أن الداعى علة لعلية الفاعلية التفسير الثالث للعلة المعرف فنقول إنه أيضا باطل لأنا إذا قلنا الحكم في الأصل معلل بالعلة الفلانية استحال أن يكون مرادنا من العلة المعرف وإلالكان معنى الكلام أن الحكم في الأصل إنما عرف ثبوته بواسطة الوصف الفلاني وذلك باطل لأن علية الوصف لذلك الحكم لا تعرف إلا بعد معرفة ذلك الحكم فكيف يكون الوصف معرفا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 والجواب أما المعتزلة فإنهم يفسرون العلة الشرعية تارة بالموجب وتارة بالداعى فيحتاجون إلى الجواب عن هذه الكلمات التي سبقت والكلام في ذلك طويل وأما أصحابنا فإنهم يفسرونه بالمعرف وأما قوله الحكم معرف بالنص فلا يمكن كون الوصف معرفا له قلنا ذلك الحكم الثابت في محل الوفاق فرد من أفراد ذلك النوع من الحكم ثم بعد ذلك يجوز قيام الدلالة على كون ذلك الوصف معرفا لفرد أخر من أفراد ذلك النوع من الحكم وعلى ذلك التقدير لا يكون تعريفا للمعرف ثم إذا وجدنا ذلك الوصف في الفرع حكمنا بحصول ذلك الحكم لما أن الدليل لا ينفك عن المدلول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 الباب الأول في الطرق الدالة على عِلِّيَّةِ الوصف في الأصل وهي عشرة النص والإيماء والإجماع والمناسبة والتأثير والشبه والدوران والسبر والتقسيم والطرد وتنقيح المناط وأمور أخرى اعتبرها قوم وهي عندنا ضعيفة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 الفصل الأول في النص ونعنى بالنص ما تكون دلالته على العلية ظاهرة سواء كانت قاطعة أو محتملة أما القاطع فما يكون صريحا في المؤثرية وهو قولنا لعله كذا أو لسبب كذا أو لموجب كذا أو لأجل كذا كقوله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل وأما الذي لا يكون قاطعا فألفاظ ثلاثة اللام وإن والباء أما اللام فكقولنا ثبت لكذا كقوله منه وما خلقت الجن الأنس إلا ليعبدون فإن قلت اللام ليست صريحة في العلية ويدل عليه وجوه الأول أنها تدخل على العلة فيقال ثبت هذا الحكم لعلة كذا ولو كانت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 اللام صريحة في التعليل لكان ذلك تكرارا الثاني أنه تعالى قال ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس وبالاتفاق لا يجوز أن يكون ذلك غرضا الثالث قول الشاعر لدوا للموت وابنوا للخراب وليست اللام هاهنا للغرض الرابع يقال أصلى لله تعالى ولا يجوز أن تكون ذات الله تعالى غرضا قلت أهل اللغة صرحوا بأن اللام للتعليل وقولهم حجة وإذا ثبت ذلك وجب القول بأنها مجاز في هذه الصور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 وثانيها أن كقوله عليه الصلاة والسلام إنها من الطوافين عليكم إنه دم عرق وثالثها الباء كقوله تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله واعلم أن أصل الباء للإلصاق وذات العلة لما اقتضت وجود المعلول حصل معنى الإلصاق هناك فحسن إستعمال الباء فيه مجازا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 الفصل الثاني في الإيماء وهو على خمسة أنواع الأول تعليق الحكم على العلة بحرف الفاء وهو على وجهين الأول أن تدخل الفاء على حرف العلة ويكون الحكم متقدما كقوله عليه الصلاة والسلام في المحرم الذي وقصت به ناقته لا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 الثاني أن تدخل الفاء على الحكم وتكون العلة متقدمة وذلك أيضا على وجهين أحدهما أن تكون الفاء دخلت في كلام الشارع مثل قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وقوله إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وثانيها أن تدخل على رواية الراوى كقول الراوى سها رسول الله ص فسجد وزنا ماعز فرجم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 فرعان الأول الحكم المرتب على الوصف مشعر بكون الوصف علة سواء كان ذلك الوصف مناسبا لذلك الحكم أو لم يكن مناسبا لذلك الحكم وقال قوم لا يدل على العلية إلا إذا كان مناسبا لنا وجهان الأول أن الرجل إذا قال أكرموا الجهال واستخفوا بالعلماء يستقبح هذا الكلام في العرف فلا يخلو إما أن يكون الاستتباح جاء لأنه فهم منه أنه حكم يكون الجاهل مستحقا للإكرام بجهله ويكون العالم مستحقا للاستخفاف بعلمه أو لأنه فهم منه أنه جعل الجاهل مستحقا للإكرام والعالم مستحقا للاستخفاف والثاني باطل لأن الجاهل قد يستحق الإكرام بجهة أخرى نحو نسبه أو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 شجاعته أو سوابق حقوقه والعالم قد يستحق الاستخفاف لفسقه أو لسبب آخر وإذا بطل هذا القسم ثبت الأول وذلك يدل على أن ترتيب الحكم على الوصف يفيد كون الوصف علة الحكم سواء تحققت المناسبة أو لم تتحقق فإن قلت لم لا يجوز أن يقال إن الاستقباح إنما جاء لأن الجهل مانع من الإكرام والعلم مانع من الاستخفاف فلما أمر بإكرام الجاهل فقد أثبت الحكم مع قيام المانع وأيضا فهب أن الحكم في هذا المثال كذلك فلم قلت إنه في سائر الصور يجب أن يكون كذلك قلت الجواب عن الأول أنا قد بينا أنه قد يثبت استحقاق الإكرام مع الجهل فوجب أن لا يكون الجهل مانعا منه لئلا يلزم مخالفة الأصل وعن الثاني أنه لما ثبت ما ذكرناه في بعض الصور وجب ثبوته في كل الصور وإلا وقع الاشتراك في هذا النوع من التركيب والاشتراك على خلاف الأصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 الوجه الثاني في المسألة أنه لا بد لهذا الحكم من علة ولا علة إلا هذا الوصف أما الأول فلأنه لو ثبت الحكم بدون العلة والداعى كان عبثا وهو على الله تعالى محال وأما الثاني فلأن غير هذا الوصف كان معدوما والعلم بأنه كان معدوما يوجب ظن بقائه على ذلك على ما سيأتى تقرير هذا الأصل وإذا بقي على العدم امتنع أن يكون علة فثبت أن غيره يمتنع أن يكون علة فوجب أن تكون العلة ذلك الوصف الفرع الثاني قد ذكرنا أن دخول الفاء يقع على ثلاثة أوجه ولا شك أن قول الشارع أبلغ في إفادة العلية من قول الراوى لأنه يجوز أن يتطرق إلى كلام الراوى من الخلل ما لا يجوز تطرقه إلى كلام الشارع وأما القسمان الباقيان فيشبه أن يكون الذي تقوم العلة فيه على الحكم أقوى في الأشعار بالعلية من القسم الثاني لأن أشعار العلة بالمعلول أقوى من أشعار المعلول بالعلة لأن الطرد واجب في العلل والعكس غير واجب فيها النوع الثاني أن يشرع الشارع الحكم عند علمه بصفة المحكوم عليه فيعلم أنها علة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 الحكم فإذا قال القائل يا رسول الله أفطرت فيقول عليك الكفارة فيعلم أن الكفارة وجبت لأجل الإفطار وإنما قلنا إن ذلك مشعر بالعلية لأن قوله عليك الكفارة كلام يصلح أن يكون جوابا عن ذلك سؤال والكلام الذي يصلح أن يكون جوابا عن السؤال إذا ذكر عقب السؤال يفيد الظن بأنه إنما ذكره جوابا عن السؤال وإذا ذكره جوابا عن السؤال كان السؤال كالمعاد في الجواب فيصير التقدير أفطرت فأعتق وحينئذ يلتحق هذا بالنوع الأول فإن قلت لا نزاع في أن هذا الكلام صالح لأن يكون جوابا عن ذلك السؤال لكن لا نسلم أن مثل هذا الكلام إذا ذكر عقيب السؤال حصل ظن أنه ذكر ليكون جوابا عن ذلك السؤال فإنه ربما ذكره جوابا عن سؤال آخر أو لغرض آخر أو زجرا له عن هذا السؤال كما أن العبد إذا قال لسيده دخل فلان دارك فيقول له السيد اشتغل بشأنك فمالك وهذا الفضول ولا يمكن إبطال هذا الاحتمال بما قاله بعضهم من أنه لو لم يكن هذا الكلام جوابا عن ذلك السؤال لكان تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة وإنه لا يجوز لاحتمال أنه عليه الصلاة والسلام عرف أنه لا حاجة بذلك المكلف إلى ذلك الجواب في ذلك الوقت فلا يكون اعراض الرسول ص الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 عن ذكر الجواب تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة سلمنا أن ما يقوله الرسول ص جوابا عن السؤال مشعر بالتعليل فلم قلتم إن الذي يزعم الراوى أنه جواب عن السؤال مشعر به لاحتمال أنه اشتبه الأمر على الراوى فظن ما لم يكون جوابا جوابا قلت الجواب عن الأول أن الأكثر على أن الكلام الذي يصلح أن يكون جوابا عن السؤال إذا ذكر عقيب السؤال فإنما يذكر جوابا عنه والصورة التي ذكرتموها نادرة والنادر مرجوح وعن الثاني أن العلم يكون الكلام المذكور بعد السؤال جوابا عنه أو ليس جوابا عنه أمر ظاهر يعرف بالضرورة عند مشاهدة المتكلم ولا يفتقر فيه إلى نظر دقيق النوع الثالث أن يذكر الشارع في الحكم وصفا لو لم يكن موجبا لذلك الحكم لم يكن في ذكره فائدة وهذا يقع على أقسام أربعة أحدها أن يدفع السؤال المذكور في صورة الإشكال بذكر الوصف كما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 روى أنه عليه الصلاة والسلام امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب فقيل له إنك تدخل على فلان وعنده هرة فقال عليه الصلاة والسلام إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات فلو لم يكن لكونها من الطوافين أثر في طهارتها لم يكن لذكره عقيب الحكم بطهارتها فائدة وثانيها أن يذكر وصفا في محل الحكم لا حاجة إلى ذكره إبتداء فيعلم أنه إنما ذكره لكونه مؤثر في الحكم كما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال تمرة طيبة وماء طهور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 وثالثها أن يقرر النبي ص على وصف الشئ المسئول عنه كقوله ص أينقص الرطب إذا جف قالوا نعم قال فلا إذن فلو لم يكن نقصانه باليبس علة في المنع من البيع لم يكن للتقرير عليه فائدة وهذا أيضا يدل على العلية من حيث الجواب بالفاء ورابعها أن يقرر الرسول ص على حكم ما يشبه المسئول عنه وينبه على وجه الشبه فيعلم أن وجه الشبه هو العلة في ذلك الحكم كقوله عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه وقد سأله عن قبلة الصائم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته فنبه بهذا على أنه لا يفسد الصوم بالمضمضة والقبلة لأنه لم يحصل ما هو الأثر المطلوب منهما النوع الرابع أن يفرق الشرع بين شيئين في الحكم بذكر صفة فيعلم أنه لو لم تكن تلك الصفة علة لم يكن لذكرها فائدة وهو ضربان أحدهما أن لا يكون حكم أحدهما مذكورا في الخطاب كقوله عليه الصلاة والسلام القاتل لا يرث فإنه قد تقدم بيان إرث الورثة فلما قال القاتل لا يرث وفرق بينه وبين جميع الورثة بذكر القتل الذي يجوز كونه مؤثرا في نفي الإرث علمنا أنه العلة في نفي الإرث وثانيها أن يكون حكمهما مذكورا على الخطاب وهو على خمسة أوجوه أحدها أن تقع التفرقة بلفظ يجرى مجرى الشرط كقوله عليه الصلاة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 والسلام فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد بعد نهيه عن بيع البر بالبر متفاضلا فدل على أن اختلاف الجنسين علة في جواز البيع وثانيها أن تقع التفرقة في الغاية كقوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن وثالثها أن تقع بالاستثناء كقوله تعالى إلا أن يعفون ورابعها أن تقع بلفظ يجرى مجرى الاستدراك كقوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فدل على أن التعقيد مؤثر في المؤاخذة وخامسها أن يستأنف أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته بعد ذكر الأخرى وتكون تلك الصفة مما يجوز أن يؤثر كقوله ص للراجل سهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 وللفارس سهمان وأعلم أن الاعتماد على هذين النوعين على أنه لا بد لتلك التفرقة من سبب ولا بد في ذكر ذلك الوصف من فائدة فإذا جعلنا الوصف سببا للتفرقة حصلت الفائدة النوع الخامس النهى عن فعل يمنع ما تقدم وجوبه علينا فيعلم أن العلة في ذلك النهي كونه مانعا من ذلك الواجب كقوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فإنه لما أوجب علينا السعي ونهانا عن البيع مع علمنا بأنه لو لم يكن النهي عن البيع لكونه مانعا من السعى لكان ذكره في هذا الموضع غير جائز وذلك يدل على أنه إنما نهانا عنه لأنه يمنع من الواجب وكتحريم التأفيف فإن العلة فيه كونه مانعا من الإعظام الواجب فهذه جملة أقسام الإيماءات مسألة الظاهر من هذه الأقسام وإن دل على العلية لكن قد يترك هذا الظاهر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 عند قيام الدليل عليه مثاله قوله عليه الصلاة والسلام لا يقضي القاضي وهو غضبان ظاهره يدل على أن العلة هي الغضب ولكن لما علمنا أن الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الفكر لا يمنع من القضاء وأن الجوع المبرح والألم المبرح يمنع علمنا أن علة المنع لست هي الغضب بل تشويش الفكر قوله من يقول الغضب هو العلة لكن لكونه مشوشا خطأ لأن الحكم لما دار مع تشويش الفكر وجودا وعدما وانقطع عن الغضب وجودا وعدما وليس بين التشويش والغضب ملازمة أصلا لأن تشويش الفكر قد يوجد حيث لا غضب والغضب يوجد حيث لا تشويش علمنا أنه ليس بينهما ملازمة وحينئذ تعلم أنه لا يمكن أن يكون الغضب علة بل العلة إنما هو التشويش فقط إلا أنه يجوز إطلاق لفظ الغضب لإرادة التشويش إطلاقا لاسم السبب على المسبب ويجب أن يعلم أن الذي به يصرف اللفظ عن ظاهرة لابد وأن يكون أقوى وجهات القوة ستأتي في باب الترجيح إن شاء الله تعالى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 الفصل الثالث في بيان علية الوصف بالمناسبة وهو مرتب على فنين الأول في المقدمات وفيه مسائل المسألة الأولى في تعريف المناسبة الناس ذكروا في تعريف المناسب شيئين الأول أنه الذي يفضى إلى ما يوافق الإنسان تحصيلا وإبقاء وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة وعن الإبقاء بدفع المضرة لأن ما قصد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 إبقاؤه فإزالته مضرة وإبقاؤه دفع المضرة ثم هذا التحصيل والإبقاء قد يكون معلوما وقد يكون مظنونا وعلى التقديرين فإما أن يكون دينيا أو دنيويا والمنفعة عبارة عن اللذة أو ما يكون طريقا إليه والمضرة عبارة عن الألم أو ما يكون طريقا إليه واللذة قيل في حدها إنها إدراك الملائم والألم إدراك المنافي والصواب عندي إنه لا يجوز تحديدهما لأنهما من أظهر ما يجده الحي من نفسه ويدرك بالضرورة التفرقة بين كل واحد منهما وبينهما وبين غيرهما وما كان كذلك يتعذر تعريفه بما هو أظهر منه الثاني أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات فإنه يقال هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة أي الجمع بينهما في سلك واحد متلائم وهذه الجبة تناسب هذه العمامة أي الجمع بينهم متلائم والتعريف الأول قول من يعلل أحكام الله تعالى بالحكم والمصالح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 والتعريف الثاني قول من يأباه المسألة الثانية في تقسم المناسب وذلك من أوجه التقسيم الأول المناسب إما أن يكون حقيقيا أو إقناعيا أما الحقيقي فنقول كون المناسب مناسبا إما أن يكون لمصلحة تتعلق بالدنيا أو لمصلحة تتعلق بالآخرة أما القسم الأول فهو على ثلاثة أقسام لأن رعاية تلك المصلحة أما أن تكون في محل الضرورة أو في محل الحاجة أو لا في محل الضرورة ولا في محل الحاجة أما التي في محل الضرورة فهي التي تتضمن حفظ مقصود من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 المقاصد الخمسة وهى حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل أما النفس فهي محفوظة بشرع القصاص وقد نبه الله تعالى عليه بقوله ولكم في القصاص حياة وأما المال فهو محفوظ بشرع الضمانات والحدود وأما النسب فهو محفوظ بشرع الزواجر عن الزنا لأن المزاحمة على الأبضاع تفضي إلى اختلاط الأنساب المفضى إلى انقطاع التعهد عن الأولاد وفيه التوثب على الفروج بالتعدي والتغلب وهو مجلبة الفساد والتقاتل وأما الدين فهو محفوظ بشرع الزواجر عن الردة والمقاتلة مع أهل الحرب وقد نبه الله تعالى عليه بقوله قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وأما العقل فهو محفوظ بتحريم المسكر وقد نبه الله تعالى عليه بقوله أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر فهذه الخمسة هي المصالح الضرورية وأما التي في محل الحاجة فتمكين الولى من تزويج الصغيرة فإن مصالح النكاح غير ضرورية لها في الحال إلا أن الحاجة إليه بوجه ما حاصلة وهي تقييد الكفؤ الذي لو فات فربما فات لا إلى بدل وأما التي لا تكون في محل الضرورة ولا الحاجة فهي التي تجري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 مجرى التحسينات وهي تقرير الناس على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وهذا على قسمين منه ما يقع لا على معارضة قاعدة معتبرة وذلك كتحريم تناول القاذورات وسلب أهلية الشهادة عن الرقيق لأجل أنها منصب شريف والرقيق نازل القدر والجمع بينهما غير متلائم ومنه ما يقع على معارضة قاعدة معتبرة وهو مثل الكتابة فإنها وإن كانت مستحسنة في العادات إلا أنها في الحقيقة بيع الرجل ماله بماله وذلك غير معقول وأما الذي يكون مناسبا لمصلحة تتعلق بالآخرة فهي الحكم المذكورة في رياضة النفس وتهذيب الأخلاق فإن منفعتها في سعادة الآخرة فرع أن كل واحدة من هذه المراتب قد يقع فيه ما يظهر كونه من ذلك القسم وقد يقع فيه ما لا يظهر كونه منه بل يختلف ذلك بحسب اختلاف الظنون وقد استقصى إمام الحرمين رحمه الله في أمثله هذه الأقسام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 ونحن نكتفى بواحد منها قال رحمه الله قد ذكرنا أن حفظ النفوس بشرع القصاص من باب المناسب الضروري ومما نعلم قطعا أنه من هذا الباب شرع القصاص في المثقل فإنا كما نعلم أنه لولا شرع القصاص في الجملة لوقع الهرج والمرج فكذلك نعلم أنه لو ترك في المثقل لوقع الهرج ولأدى الأمر إلى أن كل من أراد قتل إنسان فإنه يعدل عن المحدد إلى المثقل دفعا للقصاص عن نفسه إذ ليس في المثقل زيادة مؤنة ليست في المحدد بل كان المثقل أسهل من المحدد وعند هذا قال رحمه الله لا يجوز في كل شرع تراعى فيه مصالح الخلق عدم وجوب القصاص بالمثقل قال رحمه الله فأما إيجاب قطع الأيدي باليد الواحدة فإنه يحتمل أن يكون من هذا الباب لكنه لا يظهر كونه منه أما وجه الاحتمال فلأنا لو لم نوجب قطع الأيدي باليد الواحدة لتأدى الأمر إلى أن كل من أراد قطع يد إنسان استعان بشريك ليدفع القصاص عنه فتبطل الحكمة المرعية بشرع القصاص وأما أنه لا يظهر كونه من هذا الباب فلأنه يحتاج فيه إلى الاستعانة بالغير وقد لا يساعده الغير عليه فليس وجه الحاجة إلى شرع القصاص من هاهنا مثل وجه الحاجة إلى شرعه في المنفرد وأما المناسب الإقناعى: فهو الذي يظن به في أول الأمر كونه مناسبا لكنه إذا بحث عنه حق البحث يظهر أنه غير مناسب مثاله تعليل الشافعية تحريم بيع الخمر والميتة والعذرة بنجاستها وقياس الكلب والسرجين عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 ووجه المناسبة أن كونه نجسا يناسب إذلاله ومقابلته بالمال في البيع يناسب إعزازه والجمع بينهما متناقض وهذا وإن كان يظن به في الظاهر أنه مناسب لكنه في الحقيقة ليس كذلك لأن كونه نجسا معناه أنه لا يجوز الصلاة معه ولا مناسبة ألبتة بين المنع من استصحابه في الصلاة وبين المنع من بيعه التقسيم الثاني الوصف المناسب إما أن يعلم أن الشارع اعتبره أو يعلم أنه ألغاه أو لا يعلم واحد منهما أما القسم الأول فهو على أقسام أربعة لأنه إما أن يكون نوعه معتبرا في نوع ذلك الحكم أو في جنسه أو يكون جنسه معتبرا في نوع ذلك الحكم أو في جنسه مثال تأثير النوع في النوع أنه إذا ثبت أن حقيقة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 السكر اقتضت حقيقة التحريم كان النبيذ ملحقا بالخمر لأنه لا تفاوت بين العلتين وبين الحكمين إلا اختلاف المحلين واختلاف المحل لا يقتضي ظاهرا اختلاف الحالين مثال تأثير النوع في الجنس أن الإخوة من الأب والأم نوع واحد يقتضى التقدم في الميراث فيقاس عليه التقدم في النكاح والأخوة من الأب والأم نوع واحد في الموضعين إلا أن ولاية النكاح ليست كولاية الإرث لكن بينهما مجانسة في الحقيقة ولا شك أن هذا القسم دون القسم الأول في الظهور لأن المفارقة بين المثلين بحسب اختلاف المحلين أقل من المفارقة بين نوعين مختلفين مثال تأثير الجنس في النوع إسقاط قضاء الصلاة عن الحائض تعليلا بالمشقة فإنه ظهر تأثير جنس المشقة في إسقاط قضاء الصلاة وذلك مثل تأثير المشقة في السفر في إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين مثال تأثير الجنس في الجنس تعليل الأحكام بالحكم التي لا تشهد لها أصول معينة مثل أن عليا رضي الله عنه أقام الشرب مقام القذف إقامة لمظنة الشئ مقامه قياسا على إفامة غير الخلوة بالمرأة مقام وطئها في الحرمة ثم أعلم أن للجنسية مراتب فأعم أوصاف الأحكام كونها حكما ثم ينقسم الحكم إلى تحريم وإيجاب وندب وكراهة والواجب ينقسم إلى عبادة وغيرها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 والعبادة تنقسم إلى الصلاة وغيرها والصلاة تنقسم إلى فرض ونقل فما ظهر تأثيره في الفرض أخص مما ظهر تأثيره في الصلاة وما ظهر تأثيره في الصلاة أخص مما ظهر تأثيره في العبادة وكذا في جانب الوصف أعم أوصافه كونه وصفا تناط به الأحكام حتى تدخل فيه الأوصاف المناسبة وغير المناسبة وأخص منه المناسب وأخص منه المناسب الضروري وأخص منه ما هو كذلك في حفظ النفوس وبالجملة فالأوصاف إنما يلتفت إليها إذا ظن التفات الشرع إليها وكل ما كان التفات الشرع إليه أكثر كان ظن كونه معتبرا أقوى وكلما كان الوصف والحكم أخص كان ظن كون ذلك الوصف معتبرا في حق ذلك الحكم آكد فيكون لا محالة مقدما على ما يكون اعم منه وأما المناسب الذي علم أن الشرع ألغاه فهو غير معتبر أصلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 وأما المناسب الذي لا يعلم أن الشرع ألغاه أو اعتبره فذلك يكون بحسب أوصاف أخص من كونه وصفا مصلحيا وإلا فعموم كونه وصفا مصلحيا مشهود له بالاعتبار وهذا القسم هو المسمى بالمصالح المرسلة واعلم أن كل واحد من هذه الأقسام الأربعة مع كثرة مراتب العموم والخصوص قد يقع فيه كل واحد من الأقسام الخمسة المذكورة في التقسيم الأول ويحصل هناك أقسام كثيرة جدا وتقع فيما بينها المعارضات والترجيحات ولا يمكن ضبط القول فيها لكثرتها والله تعالى هو العالم بحقائقها التقسيم الثالث الوصف بأعتبار الملاءمة ووقوع الحكم على وفق أحكام أخر وشهادة الأصل على أربعة أقسام الأول ملائم شهد له أصل معين وهو الذي أثر نوع الوصف في نوع الحكم وأثر جنسه في جنسه وهذا متفق على قبوله بين القايسين وهو كقياس المثقل على الجارح في وجوب القصاص فخصوص كونه قتلا معتبر في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 خصوص كونه قصاصا وعموم جنس الجناية معتبر في عموم جنس العقوبة وثانيها مناسب لا يلائم ولا يشهد له أصل معين فهذا مردود بالإجماع مثاله حرمان القاتل من الميراث معارضة له بنقيض قصده لو قدرنا أنه لم يرد فيه نص وثالثها مناسب ملائم لا يشهد له أصل معين بالاعتبار يعنى أنه اعتبر جنسه في جنسه لكن لم يوجد له أصل يدل على اعتبار نوعه في نوعه وهذا هو المصالح المرسلة ورابعها مناسب شهد له أصل معين ولكنه غير ملائم أي شهد نوعه لنوعه لكن لم يشهد جنسه لجنسه كمعنى الإسكار فإنه يناسب تحريم تناول المسكر صيانة للعقل وقد يشهد لهذا المعنى الخمر بأعتباره أحمد لكن لم تشهد له سائر الأصول وهذا هو المسمى بالمناسب الغريب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 المسألة الثالثة في أن المناسبة لا تبطل بالمعارضة والدليل عليه أن كون الوصف مناسبا إنما يكون لكونه مشتملا على جلب منفعة أو دفع مضرة وذلك لا يبطل بالمعارضة أما الأول فظاهر وأما الثاني فيدل عليه وجوه الأول أن المناسبتين المتعارضتين إما أن تكونا متساويتين أو إحداهما أرجح من الأخرى فإن كان الأول لم يكن بطلان إحداهما بالأخرى أولى من العكس فإما أن نبطل كل واحدة منهما بالأخرى وهو محال لأن المقتضى لعدم كل واحدة منهما وجود الأخرى والعلة لابد وأن تكون حاصلة مع المعلول فلو كان كل واحدة منهما مؤثرة في عدم الأخرى لزم أن تكونا موجودتين حال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 كونهما معدومتين وذلك محال وأما إن لا تبطل إحداهما بالأخرى عند التعارض وذلك هو المطلوب وأما إن كانت إحدى المناسبتين أقوى فهاهنا لا يلزم التفاسد أيضا لأنه لو لزم التفاسد لكان لما بينهما من المنافاة لكنا بينا في القسم الأول أنه لا منافاة بينهما لأنهما اجتمعا وإذا زالت المنافاة لم يلزم من وجود أحدهما عدم الآخر الثاني أن المفسدة الراجحة إذا صارت معارضة بمصلحة مرجوحة فإما أن ينتفى شئ من الراجح لأجل المرجوح أو لا ينتفي والأول باطل وإلا لزم أن تكون المفسدة المعارضة بمصلحة مرجوحة مساوية للمفسدة الخالصة عن شوائب المصلحة وذلك باطل بالبديهة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 والثاني أيضا باطل لأن القدر الذي يندفع من المفسدة بالمصلحة يكو مساويا لتلك المصلحة فيعود التقسيم الأول في ذينك التقديرين المتساويين في أنه ليس اندفاع أحدهما بالآخر أولى من العكس فإما أن يندفع كل واحد منهما بالآخر وهو محال أو لا يندفع واحد منهما بالآخر وهو المطلوب وأيضا فليس اندفاع بعض أجزاء الطرف الراجح بالطرف المرجوح وبقاء بعضه أولى من اندفاع ما فرض باقيا وبقاء ما فرض زائلا لأن تلك الأجزاء متساوية في الحقيقة الثالث وهو أن تقرر في الشرع إثبات الأحكام المختلفة نظرا إلى الجهات المختلفة مثل الصلاة في الدار المغصوبة فأنها من حيث أنها صلاة سبب الثواب ومن حيث أنها غصب سبب العقاب والجهة المقتضية للثواب مشتملة على المصلحة والجهة المقتضية للعقاب مشتملة على المفسدة وعند ذلك نقول المصلحة والمفسدة إما أن يتساويا أو تكون إحداهما راجحة على الأخرى فعلى تقدير التساوي يندفع كل واحد منهما بالآخر فلا تبقى لا مصلحة ولا مفسدة فوجب أن لا يترتب عليها لا مدح ولا ذم وقد فرضنا ترتبهيا بعد عليها هذا خلف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 وإن كانت إحدى الجهتين راجحة كانت المرجوحة معدومة فيكون الحاصل إما المدح وحده أو الذم وحده وقد فرضنا حصولهما معا وهذا خلف واعلم أن هذا الوجه مبنى على قول الفقهاء الصلاة في الدار المغصوبة عبادة من وجه معصية من وجه الرابع العقلاء يقولون في فعل معين الإتيان به مصلحة في حقى لولا ما فيه من المفسدة الفلانية ولولا صحة إجتماع وجهى المفسدة والمصلحة وإلا لما صح هذا الكلام والله أعلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 الفصل الثاني من هذا الفصل في إقامة الدلالة على أن المناسبة دالة على العلية فنقول المناسبة تفيد ظن العلية والظن واجب اعمل به بيان الأول من وجهين الأول أن الله تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد وهذه مصلحة فيحصل ظن أن الله تعالى إنما شرعه لهذه المصلحة فهذه مقدمات ثلاث لا بد من إثباتها بالدليل أما المقدمة الأولى فالدليل عليها وجوه أحدها أن الله تعالى خصص الواقعة المعينة بالحكم المعين لمرجح أو لا لمرجح والقسم الثاني باطل وإلا لزم ترجيح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح وهذا محال فثبت القسم الأول وذلك المرجح إما أن يكون عائدا إلى الله تعالى أو إلى العبد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 والأول باطل بإجماع المسلمين فتعين الثاني وهو أنه تعالى إنها شرع الأحكام لأمر عائد إلى العبد والعائد إلى العبد إما أن يكون مصلحة العبد أو مفسدته أو ما لا يكون مصلحته ولا مفسدته والقسم الثاني والثالث باطل باتفاق العقلاء فتعين الأول فثبت أنه تعالى إنما شرع الأحكام لمصالح العباد وثانيها أنه تعالى حكيم بإجماع المسلمين والحكم لا يفعل إلا لمصلحة فإن من يفعل لا لمصلحة يكون عابثا والعبث على الله تعالى محال للنص والإجماع والمعقول أما النص فقوله تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ربنا ما خلقت هذا باطلا ما خلقناهما إلا بالحق وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على أنه تعالى ليس بعابث وأما المعقول فهو أن العبث سفه والسفه صفة نقص والنقص على الله تعالى محال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 فثبت أنه لا بد من مصلحة وتلك المصلحة يمتنع عودها إلى الله تعالى كما بينا فلابد من عودها إلى العبد فثبت أنه تعال شرع الأحكام لمصالح العباد وثالثها أن الله تعالى خلق الآدمي مشرفا مكرما لقوله تعالى ولقد كرمنا بني آدم ومن كرم أحدا ثم سعي في تحصيل مطلوبه كان ذلك السعي ملائما لأفعال العقلاء مستحسنا فيما بينهم فإذن ظن كون المكلف مكرما يقتضى ظن أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له ورابعها أن الله تعالى خلق الآدميين للعبادة لقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون والحكيم إذا أمر عبده بشئ فلا بد وأن يزيح عذره وعلته ويسعى في تحصيل منافعه ودفع المضار عنه ليصير فارغ البال فيتمكن من الاشتغال بأداء ما أمره به والاجتناب عما نهاه عنه فكونه مكلفا يقتضى ظن أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له وخامسها النصوص الدالة على أن مصالح الخلق ودفع المضار عنهم مطلوب الشرع قال الله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 خلق لكم ما في الأرض جميعا وقال وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا وقال يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال عز وجل وما جعل عليكم في الدين من حرج وقال عليه الصلاة والسلام بعثت بالحنيفية السهلة السمحة وقال لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وسادسها أنه وصف نفسه بكونه رؤوفا رحيما بعباده وقال ورحمتي وسعت كل شئ فلو شرع ما لا يكون للعبد فيه مصلحة لم يكن ذلك رأفة ولا رحمة فهذه الوجوه الستة دالة على انه تعالى ما شرع الأحكام إلا لمصلحة العباد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 ثم أختلف الناس بعد ذلك أما المعتزلة فقد صرحوا بحقيقة هذا المقام وكشفوا الغطاء عنه وقالوا إنه يقبح من الله تعالى فعل القبيح وفعل العبث بل يجب أن يكون فعله مشتملا على جهه مصلحة وغرض وأما الفقهاء فإنهم يصرحون بأنه تعالى إنما شرع هذا الحكم لهذا المعنى ولأجل هذه الحكمة ولو سمعوا لفظ الغرض لكفروا قائله مع أنه لا معنى لتلك اللام إلا الغرض وأيضا فإنهم يقولون إنه وإن كان لا يجب على الله تعالى رعاية المصالح إلا أنه تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة لعباده تفضلا منه وإحسانا لا وجوبا فهذا هو الكلام في تقرير هذه المقدمة أما المقدمة الثانية وهى أن هذا الفعل مشتمل على هذه الجهة من المصلحة فظاهر لأنا إنما نحكم بعلية الوصف إذا بينا كونه كذلك أما المقدمة الثالثة وهى أنا لما علمنا أنه لا يشرع إلا لمصلحة وعلمنا أن هذا المعنى مصلحة حصل لنا ظن أن الداعي له تعالى إلى شرع ذلك الحكم هو هذه المصلحة فقد استدلوا عليه من وجهين الأول وهو أن المصلحة المقتضية لشرع هذا الحكم إما هذه المصلحة أو غيرها لا جائز أن يكون غيرها لأن ذلك الغير أما أن يقال إنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 كان مقتضيا لذلك الحكم في الأزل أو ما كان مقتضيا له في الأزل والأول باطل وإلا لكان الحكم ثابتا في الأزل لكن التكليف بدون المكلف محال فتعين الثاني وهو أنه ما كان مقتضيا لهذا الحكم في الأزل وذلك يفيد ظن استمرار هذا السلب لما سنبين إن شاء الله تعالى أن العلم بوقوع أمر على وجه مخصوص يقتضى ظن بقائه على ذلك الوجه أبدا وإذا ثبت ظن أن غير هذا الوصف ليس علة لهذا الحكم ثبت ظن أن هذا الوصف هو العلة لهذا الحكم ونحن ما ادعينا إلا الظن الثاني أن الظن بكون الحاكم حكيما مع العلم بأن هذا الحكم فيه هذه الجهة من الحكمة يفيد في الشاهد ظن أن ذلك الحكيم إنما شرع ذلك الحكم لتلك الجهة واذا كان الأمر كذلك في الشاهد وجب أن يكون في الغائب مثله بيان المقام الأول أنا إذا اعتقدنا في ملك البلدة أنه لا يفعل فعلا إلا لحكمة فإذا رأيناه يدفع مالا إلى فقير وعلمنا أن فقره يناسب دفع المال إليه ولم تخطر ببالنا صفة أخرى فيها مناسبة لدفع المال إليه غلب على ظننا أنه إنما دفع المال إليه لفقره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 نعم لا ننكر أنه يجوز أن يكون له غرض سوى ما ذكرناه لكنه تجويز مرجوح لا يقدح في ذلك الظن الغالب أما إذا ظهر وجهان من المناسبة مثل أن كان ذلك الفقير فقيها فهاهنا إن تساوى الوجهان في القوة لا يبقى ظن أنه أعطاه لهذا الوصف أو لذلك أو لهما جميعا فثبت أن العلم يكون الفاعل حكيما مع العلم بحصول جهة معينة في الحكم ومع الغفلة عن سائر الجهات يقتضى ظن أن ذلك الفاعل إنما فعل لتلك الحكمة بيان المقام الثاني أن في الشاهد دار ذلك الظن مع حصول ذينك العلمين وجودا وعدما والدوران دليل العلية ظاهرا فيحصل ظن أن العلم بكون الفاعل حكيما مع العلم باشتمال هذا الفعل على جهة مصلحة ومع الغفلة عن سائر الجهات علة لحصول الظن بأن ذلك الحكيم إنما أتى بذلك الفعل لتلك الحكمة والعلة أينما حصلت حصل الحكم فإذا حصل ذلك العلمان في أفعال الله تعالى وأحكامه وجب أن يحصل ظن أنه تعالى إنما شرع ذلك الحكم لتلك المصلحة فثبت بهذا أن المناسبة تفيد ظن العلية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 الوجه الثاني في بيان أن المناسبة تفيد ظن العلية أن نسلم أن أفعال الله وأحكامه يمتنع أن تكون معللة بالدواعي والأغراض ومع هذا فندعى الذي أن المناسبة تفيد ظن العلية وبيانه أن مذهب المسلمين أن دوران الأفلاك وطلوع الكواكب وغروبها وبقائها على أشكالها وأنوارها غير واجب ولكن الله تعالى لما أجرى عادته بإبقائها على حالة واحدة لا جرم يحصل ظن أنها تبقى غدا وبعد غد على هذه الصفات وكذلك نزول المطر عند الغيم الرطب وحصول الشبع عقيب الأكل والرى عقيب الشرب والأحتراق لأن عند مماسة النار غير واجب لكن العادة لما اطردت بذلك لا جرم حصل ظن يقارب اليقين بأستمرارها على مناهجها والحاصل أن تكرير الشئ مرارا كثيرة يقتضى ظن أنه متى حصل لا يحصل إلا على ذلك الوجه إذا ثبت هذا فنقول إنا لما تأملنا الشرائع وجدنا الأحكام والمصالح متقارنين لا ينفك أحدهما عن الآخر وذلك معلوم بعد استقرار أوضاع الشرائع وإذا كان كذلك كان العلم بحصول هذا مقتضيا ظن حصول الآخر وبالعكس من غير أن يكون أحدهما مؤثرا في الآخر وداعيا إليه فثبت أن المناسبة دليل العلية مع القطع بأن أحكام الله تعالى لا تعلل بالأغراض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 أما المقدمة الثانية من أصل الدليل وهي أن المناسبة لما أفادت ظن العلية وجب أن يكون ذلك القياس حجة فالاعتماد علي فيه على ما ذكرنا أن العمل بالظن واجب لما فيه من دفع الضرر عن النفس وهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل فإن قيل لا نسلم أن الله تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد قوله تخصيص الصورة المعينة بالحكم المعين لا بد وأن يكون لمرجح وذلك المرجح يمتنع أن يكون عائدا إلى الله تعالى فلا بد وأن يكون عائدا إلى العبد قلنا إما أن تدعى أن التخصيص لا بد له من مخصص أو لا تدعى ذلك وعلى التقديرين لا يمكنك القول بتعليل أحكام الله تعالى بالمصالح أما على القول بأن التخصيص لابد له من مخصص فلأن أفعال العباد إما أن تكون واقعة بالله تعالى أو العبد فإن كان الأول كأن الله تعالى فاعلا للكفر والمعصية ومع القول بذلك يستحيل القول بأنه لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للعبد وإن كانت واقعة بالعبد فالعبد الفاعل للمعصية مثلا إما أن يكون متمكنا من تركها أو لا يكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 فإن لم يكن متمكنا من تركها وتلك القدرة والداعية مخلوقة لله تعالى كأن الله تعالى قد خلق في العبد ما يوجب المعصية ويمتنع عقلا انفكاكه عنها ومع هذا لا يمكن القول بأن الله تعالى يراعي مصالح العباد وإن كان العبد متمكنا من تركها فنقول لما كان كونه فاعلا للمعصية وتاركا لها أمرين ممكنين لم يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح لأنا نتكلم الآن تفريعا على تسليم هذه المقدمة فذلك المرجح إن كان من فعل العبد عاد التقسيم الأول وان كان من فعل الله تعالى فإما أن يجب الترجيح عند حصول ذلك المرجح من الله تعالى أولا يجب فإن وجب عاد الأمر إلى أنه تعالى فعل فيه ما يوجب المعصية ومع هذا لا يمكن القول بأن الله تعالى يراعي المصالح وإن لم يجب كان حصول الترجيح مع ذلك المرجح ممكنا أن يكون وأن لا يكون فيفتقر إلى مرجح أخر فإما أن يتسلسل وهو محال أو ينتهى إلى الوجوب فيعود الإشكال فإن قلت عند حصول المرجح يصير الترجيح أولى بالوقوع لكنه لا ينتهى إلى حد الوجوب قلت حصول الترجيح ولا حصوله مع ذلك القدر من الأولوية إن كانا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 ممكنين فلنفرض وقوعهما فنسبة ذلك القدر من الأولوية إلى الترجيح واللاترجيح حتى على السواء فأختصاص تعالى أحد زماني حصول تلك الأولوية بالوقوع دون الزمان الثاني يكون ترجيحا للممكن المساوى من غير مرجح وهو محال لأنا نتكلم الآن تفريعا على هذه المقدمة فثبت أن القول بأفتقار فإن التخصيص إلى المخصص يمنع من تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح وأما أن القول بأن التخصص لا يفتقر إلى المخصص يمنع من القول بتعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح فذلك ظاهر فثبت أن تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح باطل وهذا الكلام كما أنه اعتراض على ما قالوه فهو دلالة قاطعة ابتداء في المسألة وبه يظهر فساد سائر الوجوه التي عولوا عليها لأنها أدلة ظنية وما ذكرناه برهان قاطع ثم نقول إن دل على ما ذكرتموه على أن تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح واقع فمعنا أدلة قاطعة مانعة منه وهي من وجوه الأول أنه خالق أفعال العباد وذلك يمنع من القول بأنه تعالى يراعي المصالح إنما قلنا إنه تعالى خالق أفعال العباد لوجوه أحدها أن العبد لو كان موجدا لأفعاله لكان عالما بتفاصيل أفعاله واللازم باطل فالملزوم مثله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 بيان الملازمة أن فعل العبد واقع على كيفية مخصوصة وكمية مخصوصة مع جواز وقوعه على خلاف تلك الكيفية والكمية فلابد وأن يكون ذلك الاختصاص لمخصص إذ لو عقل الاختصاص لا لمخصص لعقل اختصاص حدوث العالم بوقت معين وقدر معين مع جواز وقوعه لاعلى هذا الوجه لا لمخصص وذلك يقتضي القدح في دليل إثبات الصانع فثبت أنه لابد لفعل العبد من مخصص والتخصيص مسبوق بالعلم فإن التخصيص عبارة عن القصد إلى إيقاعه على ذلك الوجه والقصد إلى إيقاعه على ذلك الوجه مشروط بالشعور بذلك الوجه فالغافل ع الشئ استحال منه القصد إلى إيقاعه فثبت أنه لوه كان موجودا لأفعال نفسه لكان عالما بتفاصيل أفعاله وإنما قلنا إنه غير عالم بتفاصيل أفعاله لأن النائم فاعل مع انه لا يخطر بباله شئ من تلك التفاصيل بل اليقظان يفعل أفعالا كثيرة مع انه لا يخطر بباله كيفية تلك الأفعال فإن من فعل حركة بطيئة فذلك البطؤ إما أن يكون عبارة عن تحلل السكنات أو عن كيفية قائمة بالحركة فإن كان الأول فالفاعل للحركة البطيئة فاعل في بعض الأحيان حركة وفي بعضها سكونا مع أنه لم يخطر بباله ذلك وإن كان الثاني كان قد فعل حركة وفعل فيها عرضا آخر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 ثم ذلك البطؤ له درجات مختلفة فهو قد فعل عرضا مخصوصا في عرض آخر مع جواز أن يحصل سائر مراتب البطء مع أنه لم يخطر بباله شئ من ذلك فعلمان أنه قد يفعل ما لم يخطر بباله فثبت بهذه الدلالة أن العبد غير موجد لأفعال نفسه الثاني أن موجد العبد مقدور لله تعالى فيجب وقوعه بقدرة الله تعالى إنما قلنا إن مقدور العبد لله تعالى لأنه في نفسه ممكن والإمكان مصحح للمقدورية وإنما قلنا إنه لما كان مقدورا لله تعالى وجب وقوعه بقدرة الله تعالى لأنا لو قدرنا قدرة العبد صالحة للإيجاد فإذا فرضنا أن كل واحد منهما أراد الإيجاد فحينئذ يجتمع على ذلك الفعل مؤثران مستقلان بالإيجاد وذلك محال لأن الأثر مع المؤثر المستقل به يصير واجب الوقوع وكل ما كان واجب الوقوع في نفسه استحال استناده إلى غيره وحينئذ يلزم أن يستغنى بكل واحد منهما عن كل واحد منهما فيلزم انقطاع ذلك المقدور عنهما حال استناده إليهما معا وهو محال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 والثالث إذا فرضنا أن العبد أراد تحريك المحل حالما أراد الله تعالى تسكينه فإذا كانت قدرة العبد مستقلة في الإيجاد وقدرة الله تعالى أيضا مستقلة به لم يكن وقوع أحد المقدورين أولى من وقوع الآخر فإما أن يمتنعا وهو محال لأن المانع من وجود كل واحد منهما وجود الآخر فالمانع حاصل حال تحقق الامتناع فيلزم وجودهما عند عدمهما وهو محال أو يقعان جميعا فيلزم حصول الضدين وهو محال فإن قلت قدرة الله تعالى أقوى فكانت أولى بالتأثير قلت إنها أقوى بمعنى أنها مؤثرة في أمور أخر لا تؤثر فيها قدرة العبد أما فيما يرجع إلى التأثير في ذلك المقدور الواحد فيستحيل التفاوت لأن ذلك المقدور شئ واحد لا يقبل التفاوت وإذا لم يكن هو في نفسه قابلا للتفاوت استحال وقوع التفاوت في التأثير فيه الرابع لو قدر العبد على بعض المقدورات الممكنات لقدر على الكل لأن المصحح للمقدورية ليس إلا الأمكان وهو قضية واحدة فيلزم من الاشتراك فيه الاشتراك في المقدورية لكنه غير قادر على كل الممكنات لأنه لا يقدر على خلق السماوات والأرض فوجب أن لا يقدر على الإيجاد ألبتة فثبت بمجموع هذه الوجوه أن العبد غير موجد لأفعاله بل موجدها هو الله عز وجل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 وإذا كان كذلك فكل ما حصل من الكفر والمعاصي فهو من فعل الله تعالى ولا شك أن الغالب على أهل العالم الكفر والمعاصي ومع هذا القول لا يمكن القول بأن الله تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للعبد فإن قلت هب أن الله تعالى هو الخالق لفعل العبد ولكن المكلف مخير في اختيار الكفر والأيمان والله تعالى أجرى عادته أن يخلق الشئ على وفق اختيار المكلف فإن اختار المكلف الكفر خلق فيه الكفر وإن اختار الأيمان خلق فيه الأيمان فمنشأ المفسدة هو اختيار المكلف قلت حصوله اختيار الكفر بدلا عن اختيار الأيمان إن كان من المكلف لا من الله تعالى لم يكن الله تعالى فاعلا لكل أفعال العباد وإن كان من الله تعالى فقد بطل الاختيار وتوجه الإشكال الدليل الثاني على أنه لا يجوز تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح أن القادر على الكفر إن لم يقدر على الأيمان لزم الجبر وذلك يقدح في رعاية المصالح وإن قدر عليهما فلابد وأن ينتهى إلى مرجح واقع بفعل الله تعالى وعند حصول ذلك المرجح يجب وقوع الكفر فيكون الجبر لازما وذلك يقدح في رعاية المصالح وتقرير هذا الوجه قد تقدم الدليل الثالث أنه قد وقع التكليف بما لا يطاق وذلك يمنع من القول برعاية المصالح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 بيان الأول من وجوه الأول أنه كلف بالأيمان من علم أنه لا يؤمن فصدور الأيمان منه يستلزم انقلاب العلم جهلا وهذا الانقلاب محال والمفضى إلى المحال محال فكان هذا التكليف تكليفا بالمحال وثانيها أنه إما أن يكلفه حال استواء الدواعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحدهما على الآخر والأول محال لأن الاستواء ما دام يكون حاصلا امتنع الرجحان فالأمر بالترجيح حال حصول الاستواء أمر بالجمع بين الضدين والثاني محال لأن حال الترجيح يكون الراجح واجب الوقوع والمرجوح ممتنع الوقوع فحال الرجحان إن كان مأمورا بترجيح المرجوح كان مأمورا بالجمع بين الضدين وإن كان مأمورا بترجيح الراجح كان مأمورا بإيقاع الواقع وكل ذلك تكليف بما لا يطاق وثالثها القدرة إذا حصلت في العبد فإما أن يؤمر بإيقاع الفعل في ذلك الزمان أو في الزمان الثاني والأول محال لأنه إذا وجد المقدور في ذلك الزمان فلو أمر الله تعالى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 العبد بإيقاعه في ذلك الزمان كان هذا أمرا بإيجاد الموجود وأنه محال والثاني أيضا محال لأنه في الزمان الأول لما لم يكن متمكنا من الفعل ألبتة كان أمره بالفعل أمرا لمن لا يقدر فان قلت إنه ما أمره في الحال بإيقاع الفعل في الحال حتى يلزم ما قلته بل أمره في الحال بأن يوقعه في الزمان الثاني قلت هل لقولك يوقعه مفهوم زائد على الفعل أم لا فإن لم يكن له مفهوم زائد لم يكن لقولك إنه أمره في الحال بإيقاع الفعل في الزمان الثاني معنى إلا أنه أعلم في الحال بأنه لا بد وأن يكون في الزمان بحيث يصدر عنه الفعل ففي هذا الزمان لم يحصل إلا الإعلام فأما الإلزام فلا يحصل إلا في الزمان الثاني فيعود الأمر إلى أنه أمره بإيقاع الفعل حال وقوعه فيه وإن كان لقولك يوقعه مفهوم زائد على مفهوم الفعل فذلك الزائد هل حصل في الزمان الأول أو ما حصل فإن حصل في الزمان الأول وقد أمر في الزمان الأول به فحينئذ يلزم كونه مأمورا بالشئ حال حصوله وإن لم يحصل في الزمان الأول بل في الزمان الثاني عاد ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 ذكرنا من أن الحاصل في الزمان الأول إعلام لا إلزام والإلزام لا يحصل إلا في الزمان الثاني فيعود ما ذكرنا من إنه أمر بالفعل حال وقوعه ورابعها أن الله تعالى قال إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون فأولئك الذين أخبر الله عنهم بهذا الخبر كانوا مأمورين بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه فإذن كانوا مأمورين بأن يصدقوا الله تعالى في إخباره عنهم بأنهم لا يؤمنون ألبتة وذلك تكليف ما لا يطاق وخامسها ما بينا أن فعل العبد لا يحصل إلا إذا خلق الله فيه داعية تلجئه إلى فعله إلجاءا عمر ضروريا فالكافر إذن ملجأ إلى فعل الكفر فإذا كلف بالإيمان كان ذلك تكليف ما لا يطاق وسادسها أن الله تعالى أمر بمعرفته وذلك تكليف ما لا يطاق لأن الأمر إما أن يتوجه إلى العبد حال كونه عارفا بالله تعالى أولا في هذه الحالة فإن كان الأول كان العارف مأمورا بتحصيل المعرفة فيكون ذلك أمرا بتحصيل الحاصل وهو محال وإن كان الثاني فحال كونه غير عارف بالله تعالى استحال أن يكون عارفا بأمر الله تعالى فحال كونه بحيث يستحيل عليه أن يعرف أمر الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 تعالى لما توجه عليه الأمر كان كذلك تكليفا بما لا يطاق وسابعها أنا أمرنا بالترك والأمر بالترك أمر بما لا قدرة كناعليه لأنا إذا تركنا الفعل فلا معنى لهذا الترك إلا أنه بقى معدوما كما كان والعدم المستمر لا قدرة لنا عليه وبيانه من وجهين الأول أن العدم نفى محض والقدرة مؤثرة فالجمع بينهما متناقض وثانيهما أن العدم لما كان مستمرا لا يمكن التأثير فيه لأن التأثير في الباقي محال فإن قلت الترك عندي أمر وجودى وهو فعل الضد قلت الإلزام هاهنا قائم لأنا الواحد منا قد يؤمر بترك الشئ الذي لا يعرف للى النبي ضدا فلو أمرنا في ذلك الوقت بفعل ضده لكنا قد أمرنا بفعل شئ لا نعرف ماهيته فيكون ذلك أيضا قولا بتكليف مالا يطاق فثبت بهذه الوجوه السبعة وقوع تكليف مالا يطاق ولا شك أن ذلك يقدح في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه في مصالح العباد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 الدليل الرابع أن تخصيص خلق العالم بالوقت الذي خلق فيه دون ما قبله وما بعده يستحيل أن يكون معللا بغرض لأن قبل حدوث العالم لا وقت ولا زمان بل ليس إلا الله تعالى والعدم الصرف ويستحيل أن يحصل في العدم الصرف وقت يكون منشأ المصالح ووقت أخر يكون منشأ المفاسد الدليل الخامس أن تقدير السماوات والكواكب المعينة وتقدير البحار والأرضين بمقاديرها المعينة لا يجوز أن يكون رعاية لغرض الخلق فإنا نعلم أنه لو ازداد في خلق الفلك الأعظم مقدار جزءا لا يتجزأ فإنه لا يتغير بذلك ألبتة شئ من مصالح المكلفين ولا من مفاسدهم الدليل السادس أنه تعالى خلق الكافر الفقير بحيث يكون في الدنيا من أول عمره إلى آخر عمره في المحنة وفي الآخرة يكون في أشد العذاب أبدا الآبدين ودهر الداهرين وأنه تعالى كان عالما من الأزل إلى الأبد أنه إذا خلقه وكلفه بالإيمان فإنه لا يستفيد من الخلق والتكليف إلا زيادة المحنة والبلاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 فكيف يقال إنه تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للمكلف الدليل السابع أنه تعالى خلق الخلق وركب فيهم الشهوة والغضب حتى أن بعضهم يقتل بعضا وبعضهم يضجر ببعض ولقد كان تعالى قادرا على أن يخلقنا في الجنة إبتداء ويغنينا بالمشتهيات الحسنة عن القبيحة فإن قلت إنه تعالى إنما فعل ذلك ليعطيه العوض في الآخرة ول يكون لطفا لمكلف آخر قلت أما العوض فلو أعطاه ابتداء كان أولى وأما اللطف فأى عاقل يرضى أن يقال إنما حسن إيلام هذا الحيوان ليكون لطفا بذلك الحيوان الدليل الثامن دلت الوجوه المذكورة في أول هذا القسم على أنه يستحيل أن يكون شئ من أفعاله وأحكامه معللا بالمصالح فظهر بهذه الوجوه انه ليس الغالب في أفعال الله تعالى رعاية مصالح الخلق وإذا كان كذلك لم يغلب على الظن أن أحكامه معللة بمصالح الخلق فإنا إذا رأينا شخصا يكون أغلب أفعاله رعاية المصالح ثم رأيناه حكم بحكم غلب على ظننا اشتمال ذلك الحكم على مصلحة أما إذا رأينا شخصا يكون أغلب أفعاله عدم الالتفات إلى المصالح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 ثم رأيناه حكم بحكم فإنه لا يغلب على ظننا اشتمال ذلك الحكم على مصلحة ألبتة هذا في حق الإنسان الذي يكون محتاجا إلى رعاية المصلحة أما الإله سبحانه وتعالى لما كان منزها عن المصالح والمفاسد بالكلية ثم رأينا أن الغالب في أفعاله ما لا يكون مصلحة للخلق كيف يغلب على الظن كون أفعاله وأحكامه معللة بالمصالح سلمنا أن أحكامه تعالى معللة بالمصالح وأن هذا الفعل مصلحة من هذا الوجه فلم قلت إن هذا القدر يقتضى ظن كون ذلك الفعل معللا بهذه المصلحة أما الوجه الأول فالاعتماد فيه على أن الاستصحاب يفيد الظن واما الوجه الثاني فالاعتماد فيه على أن الدوران يفيد الظن والكلام في هذين الموضعين سيأتي إن شاء الله تعالى ثم نقول على الوجه الثاني خاصة لم قلت لما حصل الظن في المثال المذكور وجب حصوله في حق الله تعالى قوله الدوران يفيد الظن قلنا لكن بشرط أن لا يظهر وصف آخر في الأصل وهاهنا قد وجد بيانه من وجهين الأول أنا إنما حكمنا بذلك في حق الملك لعلمنا بأن طبعه يميل إلى جلب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 المصالح ودفع المفاسد وذلك في حق الله تعالى مفقود الثاني أن المعتبر ليس دفع عموم الحاجة بل دفع الحاجة المخصوصة فمن عرف عادة الملك وأنه يراعي عادة هذا النوع أو ذاك لا جرم يحصل له ظن أن غرض الملك من هذا الفعل هذا المعنى أو ذاك وأما عادات الله تعالى في رعاية أجناس المصالح وأنواعها فمختلفة ولذلك قد يكون الشئ قبيحا في عقولنا وان كان حسنا عند الله تعالى وقد يكون بالعكس ولهذا المعنى انقطع الآن بقبح جميع الشرائع الواردة في زمان موسى وعيسى عليهما السلام وبحسن شريعتنا وإن كان التفاوت غير معلوم لنا الآن وإذا كان كذلك ظهر الفرق بين الصورتين سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على قولكم لكنه معارض بأمور أحدها أن أفعال الله تعالى وأحكامه لو كانت لدفع حاجة العبد لكانت الحاجات بأسرها مدفوعة واللازم باطل فالملزوم مثله بيان الملازمة أن الحاجات المختلفة مشتركة في أصل كونها حاجات ومتباينة بخصوصياتها وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فما به يمتاز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 كل واحد من أنواع الحاجة عن الآخر منها لا يكون حاجة وإذا كان كذلك كان التعليل بكونه حاجة يوجب سقوط تلك الزوائد عن العلية وارتباط الحكم بمسمى الحاجة الذي هو القدر المشترك بين كل أنواعه فإذا كان ذلك المسمى علة لشرع ما يصلح أن يكون دافعا له لزم من هذا كون جميع الحاجات مدفوعة ولما لم يكن كذلك علمنا أن التعليل بالحاجة غير جائز وثانيها إن تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح يفضى إلى مخالفة الأصل وذلك لأن العبادات التي كانت مشروعة في زمان موسى وعيسى عليهما السلام كانت واجبة وحسنة في تلك الأزمنة وصارت قبيحة في هذا الزمان فلابد وأن يكون ذلك لأ حصل شرط في ذلك الزمان لم يحصل الآن أو وجد الآن مانع ما كان موجودا في ذلك الزمان لكن توقف المقتضي على وجود الشرط أو تخلف حكمه لأجل المانع خلاف الأصل وثالثها أن الحكم إما أن يكون معللا بنفس الحكمة أو بالوصف المشتمل على الحكمة والأول باطل لأن الحكمة غير مضبوطة فلا يجوز ربط الأحكام بها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 والثاني باطل لأن الوصف إنما يكون علة للحكم لاشتماله على تلك الحكمة فيعود الأمر إلى كون الحكمة علة لعليه الوصف فيعود المحذور المذكور والجواب قد بينا أن أحكام الله تعالى مشروعة لأجل المصالح فأما الوجوه العقلية التي ذكرتموها فهي لو صحت لقدحت وإن في التكليف والكلام في القياس نفيا وإثباتا فرع على القول بالتكليف فكانت تلك الوجوه غير مسموعة في هذا المقام وهذا هو الجواب المعتمد الكافي في هذا المقام عن كل ما ذكرتموه وأما الفرقان اللذان ذكرتموهما بيبن الشاهد والغائب فذلك إنما يقدح في قول من يقول يجب عقلا تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح أما من يقول إن ذلك غير واجب ولكنه تعالى فعله على هذا الوجه تفضلا وإحسانا فذلك الفرق لا يقدح في قوله وأما المعارضات الثلاث الأخيرة فهي منقوضة بكون أفعالنا معللة بالدواعي والأغراض مع أن جميع ما ذكروه قائم فيها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 الفصل الرابع في المؤثر وهو أن يكون الوصف مؤثرا في جنس الحكم في الأصول دون وصف آخر فيكون أولى بأن يكون علة من الوصف الذي لا يؤثر في جنس ذلك الحكم ولا في عينه وذلك كالبلوغ الذي يؤثر في رفع الحجر عن المال فيؤثر في رفع الحجر عن النكاح دون الثيابة لأنها لا تؤثر في جنس هذا الحكم وهو رفع الحجر وكقولهم إذا قدم الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب في الميراث فينبغي أن يقدم عليه في ولاية النكاح فإن قلت لم قلت لما أثرت الإخوة من الأب والأم في التقديم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 في الإرث أثرت في التقديم في النكاح قلت ذكروا أنه يتبين ذلك بالمناسبة وبأن يقال لا فارق بين الأصل والفرع إلا كذا وهو ملغى وعند هذا يظهر أن هذه الطريقة لا تمشى إلا بعد الرجوع إلى طريق المناسبة وطريق السبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 الفصل الخامس في الشبه والنظر في ماهيته ثم في إثباته أما الماهية فقد ذكروا في تعريفها وجهين الأول ما قاله القاضي أبو بكر رحمه الله وهو أنه قال إن الوصف إما أن يكون مناسبا للحكم بذاته وإما أن لا يناسبه بذاته لكنه يكون مستلزما لما يناسبه بذاته وإما أن لا يناسبه بذاته ولا يستلزم ما يناسبه بذاته فالأول هو الوصف المناسب والثاني هو الشبه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 والثالث هو الطرد الثاني الوصف الذي لا يناسب الحكم إما أن يكون قد عرف بالنص تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم وإما أن لا يكون كذلك فالأول هو الشبه لأنه من حيث هو غير مناسب يظن أنه غير معتبر في حق ذلك الحكم ومن حيث علم تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم مع أن سائر الأوصاف ليس كذلك يكون ظن إسناد الحكم إليه أقوى من ظن إسناده إلى غيره واعلم أن الشافعى رضى الله عنه سمى هذا القياس قياس غلبة الأشباه وهو أن يكون الفرع واقعا بين أصلين فإذا كانت مشابهته لإحدى الصورتين أقوى من مشابهته للأخرى ألحق لا محالة بالأقوى فأما الذي يقع بين الاشتباه فالمحكى كما عن الشافعي رضي الله عنه أنه كان يعتبر الشبه في الحكم كمشابهة هو العبد المقتول للحر ولسائر المملوكات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 وعن ابن علية أنه كان يعتبر الشبه في الصورة كرد الجلسة الثانية في الصلاة إلى الجلسة الأولى في عدم الوجوب والحق أنه متى حصلت المشابهة فيما يظن أنه علة الحكم أو مستلزم لما هو علة له صح القياس سواء كان ذلك في الصورة أو في الأحكام النظر الثاني في أنه حجة قال القاضي أبو بكر ليس بحجة لنا أنه يفيد ظن العلية فوجب العمل به بيان الأول أنه لما ظن كونه مستلزما للعلية كان الاشتراك فيه يفيد ظن الاشتراك في العلة وعلى التفسير الثاني أنه لما ثبت أن الحكم لابد له من علة وأن العلة إما هذا الوصف وإما غيره ثم رأينا أن جنس هذا الوصف أثر في جنس ذلك الحكم ولم يوجد هذا المعنى في سائر الأوصاف فلا شك أن ميل القلب إلى إسناد الحكم إلى هذا الوصف أقوى من ميله إلى إسناده إلى غير ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 الوصف وإذا ثبت أنه يفيد الظن وجب أن يكون حجة لما بينا أن العمل بالظن واجب واحتج القاضي بوجهين الأول الوصف الذي سميتموه شبها إن كان مناسبا فهو معتبر بالاتفاق وإن كان غير مناسب فهو الطرد المردود بالاتفاق الثاني أن المعتمد في إثبات القياس عمل الصحابة ولم يثبت عنهم أنهم تمسكوا بالشبه والجواب عن الأول لا نسلم أن الوصف إذا لم يكن مناسبا كان مردودا بالاتفاق بل ما لا يكون مناسبا إن كان مستلزما للمناسب أو عرف بالنص تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم فهو عندنا غير مردود وهذا أول المسألة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 وعن الثاني أنا نعول في إثبات هذا النوع من القياس على عموم قوله تعالى فاعتبروا أو على ما ذكرنا أنه يجب العمل بالظن والله اعلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 الفصل السادس في الدوران ومعناه أن يثبت الحكم عند ثبوت وصف وينتفى عند انتفائه وذلك يقع في وجهين الأول أن يقع ذلك في صورة واحدة فأن العصير لما لم يكن مسكرا في أول الأمر لم يكن حراما فلما حدث وصف الإسكار فيه حدثت الحرمة فلما صار خلا وزالت المسكرية زالت الحرمة أيضا الثاني أن يوجد ذلك في صورتين وعندنا أنه يفيد ظن العلية وقال قوم من المعتزلة إنه يفيد يقين العلية وقال آخرون إنه لا يفيد يقين العلية ولاظنها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 لنا وجهان الأول أن هذا الحكم لا بد له من علة والعلة إما هذا الوصف أو غيره والأول هو المطلوب والثاني لا يخلو إما أن يكون ذلك الغير كان موجودا قبل حدوث هذا الحكم أو ما كان موجودا قبله فإن كان موجودا قبله وما كان هذا الحكم موجودا لزم تخلف الحكم عن العلة وهو خلاف الأصل وإن لم يكن موجودا فالأصل في الشئ بقاؤه على ما كان فيحصل ظن أنه بقي كما كان غير علة وإذا حصل ظن أن غيره ليس بعلة حصل ظن كون هذا الوصف علة لا محالة فإن قلت ذلك الحكم كما دار مع حدوث ذلك الوصف وجودا وعدما فكذلك دار مع تعين ذلك الوصف ومع حدوث حصول ذلك الوصف في ذلك المحل فيجب أن يكون تعينه وحدوثه في ذلك المحل معتبرا في العلية وذلك يمنع من التعدية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 قلت تعين الشئ معناه أنه ليس غيره وهذا أمر عدمي إذ لو كان وجوديا لكان ذلك الوجود مساويا لسائر التعينات القائمة بسائر الذوات في كونه تعينا ويمتاز عنها بخصوصيته فيلزم أن يكون للتعيين تعين آخر إلى غير نهاية وهو محال وأما حصول الوصف في ذلك المحل فيستحيل أن يكون أمرا وجوديا وإلا لكان ذلك وصفا لذلك الوصف فكونه وصفا للوصف زائد عليه فيلزم التسلسل وإذا ثبت أن التعين أمر عدمي والحصول في المحل المعين أمر عدمي استحال كونه علة ولا جزء علة أما أنه لا يكون علة فلأنا قولنا في الشئ المعين إنه علة نقيض لقولنا إنه ليس بعلة وقولنا إنه ليس بعلة يصح وصف المعدوم به في الجملة ووصف المعدوم لا يكون موجودا فقولنا ليس بعلة أمر عدمي وقولنا علة مناقض له ومناقض العدم ثبوت فمفهوم قولنا علة أمر ثبوتى فلو وصفنا العدم به لزم قيام الصفة الموجودة بالموصوف الذي هو نفى محض وذلك محال وأما أنه لا يجوز أن يكون جزء علة فلأنا لو فرضنا حصول سائر الأجزاء بدون هذا الجزء الواحد فأما إن تحصل العلية أو لا تحصل فإن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 حصلت العلية كان سائر الأجزاء دون هذا الجزء تمام العلة فلا يكون هذا الجزء جزء العلة وإن لم تحصل العلية عند عدم هذا الجزء وحصلت عند حصوله كانت العلية إنما حدثت لأجل هذا الجزء فجزء العلة علة تامة لعلية العلة وقد عرفت أن العدم لا يكون علة فوجب أن لا يكون العدم جزءا من العلة وهو المطلوب الوجه الثاني أن الدوران يفيد ظن العلية وهو أن بعض الدورانات يفيد ظن العلية فوجب أن يكون كل دوران كذلك مفيدا لهذا الظن بيان الأول أن من دعى بأسم فغضب ثم تكرر الغصب مع تكرر الدعاء بذلك الاسم حصل هناك ظن أنه إنما غضب لأنه دعى بذلك الاسم وذلك الظن إنما حصل من ذلك الدوران لأن الناس إذا قيل لهم لم اعتقدتم ذلك قالوا لأجل أنا رأينا الغضب مع الدعاء بذلك الاسم مرة بعد أخرى فيعللون وسلم الظن بالدوران بيان الثاني قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان والعدل هو التسوية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 ولن تحصل التسوية بين الدورانات إلا بعد اشتراكها في إفادة الظن واحتج المنكرون بأمرين الأول أن بعض الدورانات لا يفيد ظن العلية فوجب أن لا يفيد شئ منها ظن العلية بيان الأول من وجوه أحدها أن العلة والمعلول قد يكونان متلازمين نفيا وإثباتا والدوران مشترك بين الجانبين والعلة غير مشتركة بين الجانبين لأن المعلول لا يكون علة لعلته وثانيها أن الفصل لابد أن يكون مساويا للنوع والنوع إذا أوجب حكما فالدوران كما حصل مع العلة التي هي النوع حصل مع الفصل الذي هو جزء العلة مع أن جزء العلة ليس بعلة وثالثها أن العلة قد يكون اقتضاؤها للمعلول موقوفا على شرط فالدوران حاصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 مع شرط العلة مع أنه ليس بعلة ورابعها أن العلة قد يكون لها معلولان إما معا عند من يجوز ذلك أو على الترتيب فالدوران حاصل في علة العلة ومعلول العلة مع أنه لا علية هناك ألبتة وخامسها أن الجوهر والعرض متلازمان نفيا وإثباتا وذات الله تعالى وصفاته كذلك وكل واحدة من صفاته مع سائر الصفات كذلك ولا علية هناك وسادسها أن المضافين متلازمان معا نفيا وإثباتا كالأبوة والبنوة والمولى والعبد ويمتنع كون أحدهما على للآخر لأن العلة متقدمة على المعلول والمضافان معا ولا شئ من المع متقدم وسابعها أن المكان والمتمكن والحركة والزمان لا ينفك واحد منها عن الآخر مع عدم العلية وثامنها أن الجهات الست لا ينفك بعضها عن بعض مع عدم العلية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 وتاسعها أن علم الله تعالى دائر مع كل معلوم وجودا وعدما فإنه لو كان المعلوم جوهرا لعلمه جوهرا ولو لم يكن المعلوم جوهرا فإن الله تعالى لا يعلمه جوهرا فالعلم دائر مع المعلوم وجودا وعدما مع أنه يستحيل أن يكون أحدهما علة للآخر أما أنه لا يكون العلم علة للمعلوم فلأن شرط كونه علما أن يتعلق بالشئ على ما هو به فما لم يكن المعلوم في نفسه واقعا على ذلك الوجه استحال تعلق العلم به على ذلك الوجه إذن تعلق العلم به على ذلك الوجه مشروط بوقوعه على ذلك الوجه فلو كان وقوعه على ذلك الوجه متوقفا على تعلق العلم به لزم الدور واما أنه يستحيل أن يكون المعلوم علة للعلم فلأن علم الله تعالى صفة أزلية واجبة الوجود وما كان كذلك يستحيل أن يكون معلول علة فثبت أنه وجد الدوران هاهنا بدون العلية ثم أن علم الله تعالى متعلق بما لا نهاية له من المعلومات فهاهنا دورانات عنه لا نهاية لها بدون العلية وعاشرها أن الأعراض عند أهل السنة لا تبقى فهذه الألوان والأشكال تحدث حالا بعد حال فحين فنى ذلك اللون وذلك الشكل عن ذلك الجسم فنيت الألوان والأشكال وسائر الأعراض عن جميع الأجسام وحين حدث فيه لون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 وشكل حدث فيه سائر الأعراض في جميع الأجسام فقد حصلت هذه الدورانات الكثيرة بدون العلية وحادى عشرها أن الفلك إذا تحرك تحرك بجميع أجزاءه فحركة كل واحدة من أجزاءه إنما حدثت عند حركة جميع أجزاءه وحين كانت تلك الحركة معدومة عن ذلك الجزء كانت حركات سائر الأجزاء معدومة فقد حصلت هذه الدورانات الكثيرة بدون العلية وثاني عشرها أن جميع الحيوانات تتنفس ولا شك أن كل واحد منها إما أن يتنفس مع كون الآخر متنفسا أو عقيبه بلحظة قليلة فقد وجدت هذه الدورانات بدون العلية وثالث عشرها أن الحكم كما دار مع الوصف وجودا وعدما فقد دار أيضا مع تعين الوصف وخصوص المحل وخصوص وقوعه الزمان المعين والمكان المعين وشئ من ذلك لا يصلح للعلية لما ذكرتم أنها أمور عدمية والعدم غير صالح للعلية ورابع عشرها أن الحد دائر مع المحدود وجودا وعدما والرائحة الفائحة في الخمر دائرة مع الحرمة وجودا وعدما مع أنه لا علية هناك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 وأعلم أن لو أردنا استقصاء القول في الدورانات المنفكة عن العلية لطال الكلام ولكن فيما ذكرنا كفاية وإنما قلنا إن بعض الدورانات لما انفكت عن العلية وجب أن لا يحصل ظن العلية في شئ منها لأنه إذا حصل دوران ما منفكا عن العلية فلو قدرنا أن دورانا آخر يستلزم العلية لكان كونه مستلزما للعلية إما أن يتوقف على انضمام شئ آخر إليه أو لا يتوقف فإن توقف كان المستلزم للعلية هو المجموع الحاصل من الدوران ومن ذلك الشئ لا الدوران وحده وكلامنا الآن في الدوران وحده وإن لم يتوقف مع أن مسمى الدوران حاصل في الموضعين جميعا لزم ترجح أحد طرفي الجائز على الآخر لا لمرجح وهو محال هذا تمام تقرير هذا الدليل الوجه الثاني وهو الذي عول عليه المتقدمون في القدح قالوا الاطراد وحده ليس طريقا إلى علية الوصف بالاتفاق وأما الانعكاس فأنه غير معتبر في العلل الشرعية وإذا كان كل واحد منهما لا يدل على العلية كان مجموعهما أيضا كذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 والجواب عن الأول أن ذلك إنما يقدح في قول من يقول الدوران وحده يوجب ظن العلية ونحن لا نقول به بل ندعى أن الدوران يفيد ظن العلية بشرط أن لا يقوم عليه دليل يقدح في كونه علة وإذا لخصنا الدعوى على هذا الوجه سقط ما ذكرتموه من الاستدلال وعن الثاني لم قلت إن كل واحد منهما لما لم يفد ظن العلية وجب في المجموع أن يكون كذلك فإنا نعلم أن حال المجموع قد يكون مخالفا حال كل واحد من أجزائه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 الفصل السابع في السبر والتقسيم التقسيم إما أن يكون منحصرا بين النفى والإثبات أو لا يكون فالأول هو أن يقال الحكم إما أن يكون معللا أو لا يكون معللا فإن كان معللا فإما أن يكون معللا بالوصف الفلانى أو بغيره وبطل أن لا يكون معللا أو يكون معللا بغير ذلك الوصف فتعين أن يكون معللا بذلك الوصف وهذا الطريق عليه التعويل في معرفة العلل العقلية وقد يوجد ذلك في الشرعيات كما يقال أجمعت الأمة على أن حرمة الربا في البر معللة وأجمعوا على أن العلة إما المال أو القوت أو الكيل أو الطعم وبطل التعليل بالثلاثة الأولة فتعين الرابع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 وكما يقال أجمعت الأمة على أن ولاية الإجبار معللة إما بالصغر وإما بالبكارة والأول باطل وإلا لثبتت الولاية في الثيب الصغيرة لكنها لا تثبت لقوله عليه الصلاة والسلام الثيب أحق بنفسها من وليها فتعين التعليل بالبكارة وأما التقسيم المنتشر فكما إذا لم ندع الإجماع بل نقتصر على أن نقول حرمة الربا في البر إما أن تكون معللة بالطعم أو الكيل أو القوت أو المال والكل باطل إلا الطعم فيتعين التعليل به فإن قيل لا نسلم أن حرمة الربا معللة فإن الأحكام منها مالا يعلل بدليل أن علية العلة غير معللة وإلا لزم التسلسل وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يقال هذا من جملة مالا يعلل سلمنا كونه معللا فما الدليل على الحصر فإن قلت لو وجد وصف آخر لعرفه الفقيه البحاث قلت لعله عرفه لكنه ستره وأيضا فعدم الوجدان لا يد على عدم الوجود سلمنا الحصر لكن لا نسلم فساد الأقسام سلمنا فساد المفردات لكن لم لا يجوز أن يقال مجموع وصفين أو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 ثلاثة منها علة واحدة سلمنا فساد سائر الأقسام مفردا ومركبا لكن لم لا يجوز أن ينقسم هذا القسم الثاني إلى قسميه فتكون العلة أحد قسميه فقط والجواب لا نزاع في أن التقسيم المنتشر لا يفيد اليقين لكنا ندعى أنه يفيد الظن أما قوله لم لا يجوز أن لا يكون هذا الحكم معللا قلت لما سبق في باب المناسبة أن الدلائل العقلية والسمعية دلت على تعليل أحكام الله تعالى بالحكم والمصالح فكان هذا الاحتمال مرجوحا قوله ما الدليل على الحصر قلنا الجواب عنه من وجهين الأول أن المناظر تلو الناظر فلو أجتهد الناظر وبحث عن الأوصاف ولم يطلع إلا على القدر المذكور ووقف على فساد كلها إلا على الواحد فلا شك أن حكم قلبه بربط ذلك الحكم بذلك الوصف أقوى من ربطه بغير ذلك الوصف وإذا حصل الظن وجب العمل به وإذا ثبت ذلك في حق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 المجتهد وجب أن يكون الأمر كذلك في حق المناظر لأنه لا معنى للمناظرة إلا إظهار مأخذ الحكم الثاني لو سلمنا أنه لا بد من الدليل على الحصر فنقول لا شك أن جميع الأوصاف كانت معدومة وكانت بحيث يصدق عليها أنها لا توجب هذا الحكم والأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان فهذا القدر يفيد ظن عدم سائر الأوصاف فيحصل ظن الحصر ومطلوبنا هاهنا هذا القدر قوله لا نسلم فساد سائر الأقسام قلنا يمكن إفسادها بجميع المفسدات من النقض وعدم التأثير وأنواع الأيماءات إن بلى لا يمكن إفسادها هاهنا بعدم المناسبة لأنه حينئذ يحتاج إلى أن يبين خلو ما تدعيه علة عن هذا المفسد وذلك لا يتم إلا ببيان مناسبته ولو بين ذلك لاستغنى عن طريقة السبر قوله لم لا يجوز أن يكون المجموع هو العلة قلنا لأنعقاد الإجماع على ثبوت الحكم حيث لم يوجد المجموع قوله لم لا يجوز أن تكون العلة طعما مخصوصا قلنا لأن كل من اعتبر الطعم لم يعتبر طعما مخصوصا فكان القول به خرقا للإجماع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 الفصل الثامن في الطرد والمراد منه الوصف الذي لم يعلم كونه مناسبا ولا مستلزما للمناسب إذا كان الحكم حاصلا مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع فهذا هو المراد من الاطراد والجريان وهذا قول كثير من قدماء فقهائنا ومنهم من بالغ فقال مهما رأينا الحكم حاصلا مع الوصف في صورة واحدة حصل ظن العلية احتجوا على التفسير الأول بوجهين الأول أن استقراء الشرع يدل على أن النادر في كل باب ملحق بالغالب فإذا رأينا الوصف في جميع الصور المغايرة بمحل النزاع مقارنا للحكم ثم رأينا الوصف حاصلا في الفرع وجب أن يستدل به على ثبوت الحكم إلحاقا لتلك الصورة الواحدة بسائر الصور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 الثاني أنا إذا رأينا فرس القاضي واقفا على باب الأمير غلب على ظننا كون القاضي في دار الأمير وما ذاك إلا لأن مقارنتهما في سائر الصور أفاد ظن مقارنتهما في هذه الصورة المعينة احتج المخالف بأمرين أحدهما أن الاطراد عبارة عن كون الوصف بحيث لا يوجد إلا ويوجد معه الحكم وهذا لا يثبت إلا إذا ثبت أن الحكم حاصل معه في الفرع فإذا أثبتم حصول الحكم في الفرع بكون ذلك الوصف علة وبينتم عليته بكونه مطردا لزم الدور وهو باطل وثانيهما أن الحد مع الحدود والجوهر مع العرض وذات الله تعالى مع صفاته حصلت المقارنة فيها مع عدم العلية الجواب عن الأول إنا لا نستدل بالمصاحبة في كل الصور على العلية حتى يلزم الدو ر بل نستدل بالمصاحبة في كل صورة غير الفرع على العلية وحينئذ لا يلزم الدور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 وعن الثاني أن غاية كلامكم حصول الطرد في بعض الصور منفكا عن العلية وهذا لا يقدح في دلالته على العلية ظاهرا كما أن الغيم الرطب دليل المطر ثم عدم نزول المطر في بعض الصور لا يقدح في كونه دليلا وأيضا المناسبة والدوران والتأثير والأيماء قد ينفك كل واحد منها عن العلية ولم يكن ذلك قدحا في كونها دليلا على العلية ظاهرا فكذا هاهنا وأما التفسير الثاني وهو أضعف التفسيرين فقد احتجوا عليه بأنا إذا علمنا أن الحكم لابد له من علة وعلمنا حصول هذا الوصف وقدرنا خلو ذهننا عن سائر الأوصاف فإن علمنا بأنه لا بد للحكم من علة مع علمنا بوجود هذا الوصف يقتضيان اعتقاد كون هذا الحكم معللا بذلك الوصف اذا لو لم يقتض ذلك لكان ذلك إما لأجل أنه لا يسند ذلك الحكم إلى شئ أو لأجل أنه يسنده إلى شئ أخر والأول محال لأن اعتقاد أنه لابد من علة متناقض لعدم الاسناد والثاني محال لأن اسناد الذهن ذلك الحكم إلى غير ذلك الوصف مشروط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 بشعور الذهن بغير ذلك الوصف وتحقق ذلك حال خلو الذهن عن الشعور بغير ذلك الوصف محال فثبت بهذا أن مجرد ذينك العلمين يقتضيان ظن العلية بلى عند الشعور بوصف آخر يزول ذلك الظن ولكن الشعور بالغير كالمعارض لما يقتضى ذلك الظن ونفى المعارض ليس على المستدل حجة المنكرين من وجهين الأول أن تجويزه يفتح باب الهذيان كقولهم في إزالة النجاسة مائع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا تجوز إزالة النجاسة به كالدهن وقال بعضهم في مسألة اللمس طويل مشقوق فلا تنتقض الطهارة بلمسة إلا كالبوق الثاني أن تعين الوصف المعين للعلة مع كونه مساويا لسائر الأوصاف قول في الدين لمجرد التشهى فيكون باطلا لقوله تعالى فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات والجواب عن الأول أن ذلك الكلام يدل على جهل قائله بصورة المسألة لأنا نقول مجرد المقارنة يفيد ظن العلية ولكن بشرط أن لا يخطر بالبال وصف آخر هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 أولى بالرعاية منه ولكن هذا الشرط ساقط عن المعلل لأن نفى المعارض ليس من وظيفته وفي هذين المثالين إنما يبطل ذلك لأن العلم الضروري حاصل بوجود وصف آخر هو أولى بالاعتبار من الوصف المذكور لأنا متى علمنا كون الدهن لزجا غير مزيل للنجاسة علمنا أن هذا الوصف أولى بالاعتبار من كونه بحيث لا تبنى القنطرة على جنسه فإن قلت فهل يكفى في القدح في مثل هذا التعليل خطور وصف آخر بالبال قلنا لا لأن ذلك الوصف الآخر إما أن يكون متعديا إلى الفرع أو لا يكون فإن كان متعديا إلى الفرع فلم يضرنا لأن غرضنا من العلة المعرف وقيام معرف آخر لهذا الحكم لا يمنع من كون ما ذكرته معرفا له وإن لم يكن متعديا إلى الفرع كان التعليل بالوصف الذي ذكرته أولى لأنا أمرنا بالقياس في قوله تعالى فاعتبروا والأمر بالقياس أمر بما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 هو من ضروراته ومن ضرورات القياس تعليل حكم الأصل بعلة متعدية فكان التعليل بما ذكرناه أولى من التعليل بما ذكره الخصم اللهم إلا أن يذكر الخصم وصفا آخر ويعديه إلى فرع غير الفرع الذي وقع الخلاف فيه فهناك يجب على المعلل الأشتغال بالترجيح وعن الثاني أنا بينا أن مجرد المقارنة دليل العلية ظاهرا فلم يكن القول به مجرد التشهي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 الفصل التاسع في تنقيح المناط قال الغزالي رحمه الله إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه قد يكون باستخراج الجامع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 وقد يكون بإلغاء الفارق وهو أن يقال لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وكذا وذلك لا تأثير له في الحكم ألبتة فيلزم اشتراك الفرع والأصل في ذلك الحكم وهذا هو الذي يسميه أصحاب أبي حنيفة رحمه الله بالاستدلال ويفرقون بينه وبين القياس واعلم أن هذا لا يمكن ايراده على وجهين الأول أن يقال هذا الحكم لابد له من مؤثر وذلك المؤثر إما القدر المشترك بين الأصل والفرع أو القدر الذي أمتاز به الأصل عن الفرع والثاني باطل لأن الفارق ملغى فثبت أن المشترك هو العلة فيلزم من حصوله في الفرع ثبوت الحكم فهذا طريق جيد إلا أنه استخراج العلة بطريق السبر لأنا قلنا حكم الأصل لابد له من علة وهى إما جهة الاشتراك أو جهة الامتياز والثاني باطل فتعين الأول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 وجهة الاشتراك حاصلة في الفرع فعلة الحكم حاصلة في الفرع فيلزم تحقق الحكم في الفرع فهذا هو طريقة السبر والتقسيم من غير تفاوت أصلا وثانيهما أن يقال هذا الحكم لابد له من محل ولا يمكن أن يكون ما به الامتياز جزءا من محل هذا الحكم فالمحل هو القدر المشترك فإذا كان ذلك المحل حاصلا في الفرع وجب ثبوت الحكم فيه مثل أن يقال ما به امتاز الإفطار بالأكل عن الإفطار بالوقاع ملغى فمحل الحكم هو المفطر فأينما حصل المفطر وجب حصول الحكم وهذا الوجه ضعيف لأنه لا يلزم من ثبوت الحكم في المفطر ثبوته في كل مفطر فإنه إذا صدق أن هذا الرجل طويل صدق أن الرجل طويل لأن الرجل جزء من هذا الرجل ومتى حصل المركب حصل المفرد ثم لم يلزم من صدق قولنا الرجل طويل قولنا كل رجل طويل فكذا ها هنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 الفصل العاشر في الطرق الفاسدة وهو طريقان الأول قال بعضهم الدليل على أن هذا الوصف علة عجز الخصم افساده وهو ضعيف لأنه ليس جعل العجر عن الإفساد دليلا على الصحة أولى من جعل العجز عن التصحيح دليلا على الفساد بل هذا أولى لأنا لو أثبتنا كل مالا نعرف دليلا على فساده لزمنا إثبات مالا نهاية له وهو باطل أما لو لم نثبت كل مالا نعرف دليلا على صحته لزمنا أن لا نثبت مالا نهاية له وهو حق الثاني قال بعضهم هذا الذي ذكرته عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع فوجب دخوله تحت قوله تعالى فاعتبروا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 وربما قيل هذا تسوية بين الأصل والفرع فيكون فيكون مأمورا به لقوله تعالى إن الله يأمر بالعدل وهذا ضعيف أيضا لأن أقصى ما في الباب عموم اللفظ في هاتين الآيتين وتخصيص العموم بالإجماع جائز وأجمع السلف على أنه لا بد من دلالة ما على تعين الوصف للعلية وللمخالف أن ينكر هذا الإجماع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 الباب الثاني في الطرق الدالة على أن الوصف لا يكون علة وهي خمسة النقض وعدم التأثير والقلب والقول بالموجب والفرق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 الفصل الأول في النقض وفيه مسائل المسألة الأولى وجود الوصف مع عدم الحكم يقدح في كونه علة وزعم الأكثرون أن علية الوصف إذا ثبتت بالنص لم يقدح التخصيص في عليته وزعم آخرون أن علية الوصف وإن ثبتت بالمناسبة أو الدوران لكن إذا كان تخلف الحكم عنه لمانع لم يقدح في عليته أما إذا كان التخلف لا لمانع فالأكثرون على أنه يقدح في العلية ومنهم من قال لا يقدح أيضا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 لنا وجوه الأول أن اقتضاء العلة للحكم إما أن يعتبر فيه انتفاء المعارض أو لا يعتبر فإن اعتبر لم يكن علة إلا عند انتفاء المعارض وهذا يقتضي أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ليس تمام العلة بل بعضها وإن لم يعتبر فسواء حصل المعارض أو لم يحصل كان الحكم حاصلا وذلك يقدح في كون المعارض معارضا فإن قيل لم لا يجوز أن يتوقف الاقتضاء على انتفاء المعارض قوله هذا يدل على أن الحاصل قبل انتفاء المعارض ما كان تمام العلة بل جزءا منها قلنا لا نسلم ولم لا يجوز أن يكون هذا العدم شرطا لتأثير العلة في الحكم تقريره العلة إما أن تفسر بالداعي أو المؤثر أو المعرف أما المؤثر فإما أن يكون قادرا أو موجبا أما القادر فيجوز أن يتوقف صحة تأثيره على انتفاء المعارض لأمور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 الأول أن الفعل في الأزل محال لأن الفعل ماله أول والأزل مالا أول له والجمع بينهما محال فإذن تتوقف صحة تأثير قدرة الله تعالى في الفعل على نفى الأزل فالقيد العدمي لا يجوز أن يكون جزءا من المؤثرات الحقيقية فهو إذن شرط صحة التأثير وثانيها أن إشالة القادر الثقيل إلى فوق يقتضى الصعود إلى فوق بشرط أن لا يجره قادر أخر إلى أسفل فالقيد العدمي لا يكون جزءا من المؤثر الحقيقي وثالثها أن القادر لا يصح منه خلق السواد في المحل إلا بشرط عدم البياض فيه والعدم لا يكوم جزءا من المؤثر الحقيقي أما الموجب فهو أن الثقل يوجب الهوى بشرط عدم المانع وسلامة الحاسة توجب الإدراك بشرط عدم الحجاب وأما الداعي فمن أعطى إنسانا لفقره فجاء أخر فقال لا أعطيه لأنه يهودى فعدم كون الأول يهوديا لم يكن جزءا من المقتضى في إعطاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 الأول لأنه حين أعطى الفقير الأول لم تكن اليهودية خاطرة بباله فضلا عن عدمها ومالا يكون خاطرا بالبال لم يكن جزءا من الداعي فعلمنا أن عدم كون الأول يهوديا لم يكن جزءا من المقتضى أما المعرف فالعام المخصوص دليل على الحكم وعدم المخصص ليس جزءا من المعرف وإلا كان يجب ذكره عند الاستدلال فثبت بما ذكرنا أن عدم المعارض وإن كان معتبرا لكنه ليس جزءا من العلة سلمنا كونه جزءا ولكن يرجع الخلاف في هذه المسألة إلى بحث لفظي لا فائدة فيه لأن من جوز تخصيص العلة ومن لم يجوزه اتفقوا على أن اقتضاء العلة للحكم لابد فيه من ذلك العدم وأنتم أيضا سلمتم أن المعلل لو ذكر ذلك القيد في ابتداء التعليل لاستقامت العلة فلم يبق الخلاف إلا في أن ذلك القيد العدمى هل يسمى جزء العلة أم لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 ومعلوم أن ذلك مما لا فائدة فيه والجواب قد بينا أنه لو توقف اقتضاء العلة للحكم على انتفاء المعارض لم يكن الحاصل عند وجود المعارض تمام العلة بل جزءها قوله لو كان كذلك لزم جعل القيد العدمي جزءا من علة الوجود قلنا إن فسرنا العلة بالموجب أو الداعي امتنع جعل القيد العدمي جزءا من علة الوجود فحينئذ لا نقول إن عدم المعارض جزء العلة بل نقول إنه يدل على أنه حدث أمر وجودى انضم إلى ما كان موجودا قبل وحينئذ صار ذلك المجموع علة تامة فلم يلزم من قولنا العلة التامة إنما وجدت حال عدم المعارض أن يجعل عدم المعارض جزءا من العلة وإن فسرنا العلة بالمعرف لم يمتنع جعل القيد العدمي جزءا من العلة بهذا التفسير كما أنا نجعل انتفاء المعارض جزءا من دلالة المعجز على الصدق قوله لو كان عدم المخصص جزءا من المعرف لوجب على المتمسك بالعام المخصوص ذكر عدم المخصصات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 قلنا لا شك إنه لا يجوز التمسك بالعام إلا بعد ظن عدم المخصصات فأما أنه لم يجب الذكر في الابتداء فذلك يتعلق بأوضاع أهل الجدل والتمسك بها في إثبات الحقائق غير جائز قوله إنه يصير الخلاف لفظيا قلنا لا نسلم فإنا إذا فسرنا العلة بالداعي أو الموجب لم نجعل العدم جزءا من العلة بل كاشفا عن حدوث جزء العلة ومن يجوز التخصيص لا يقول بذلك وإن فسرناها بالأمارة ظهر الخلاف في المعنى أيضا لأن من أثبت العلة بالمناسبة بحث عن ذلك القيد العدمي فإن وجد فيه مناسبة صحح العلة وإلا أبطلها ومن يجوز التخصيص لا يطلب المناسبة ألبتة من هذا القيد العدمي الحجة الثانية في المسألة أنه لا بد وأن بين كون المقتضى مقتضيا اقتضاء حقيقيا بالفعل وبين كون المانع مانعا منعا حقيقيا بالفعل منافاة بالذات وشرط طريان أحد الضدين انتقاء الضد الأول فلا يجوز أن يكون انتفاء الضد الأول لطريان اللاحق وإلا وقع الدور فلما كان شرط كون المانع مانعا خروج المقتضى عن أن يكون مقتضيا بالفعل لم يجز أن يكون خروجه عن كونه مقتضيا بالفعل لأجل تحقق المانع بالفعل وإلا وقع الدرو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 فيه فإذن المقتضي إنما خرج عن كونه مقتضيا لا بالمانع بل بذاته وقد إنعقد الإجماع على إن ما يكون كذلك فإنه لا يصلح للعلية الحجة الثالثة الوصف وجد في الأصل مع وجود الحكم وفي صورة التخصيص مع عدم الحكم ووجوده مع الحكم لا يقتضى القطع بكونه علة لذلك الحكم لكن وجوده مع عدم الحكم في صورة التخصيص يقتضى القطع بأنه ليس بعلة لذلك الحكم ثم أن الوصف الحاصل في الفرع كما أنه مثل الوصف الحاصل في الأصل فهو أيضا مثل الوصف الحاصل في صورة التخصيص فليس إلحاقه بأحدهما أولى ما إلحاقه بالآخر ولما تعارضا لم يجز إلحاقه بواحد منهما فلم يجز الحكم عليه بالعلية قال المجوزون الأصل في الوصف المناسب مع الاقتران أن يكون علة فعند ذلك إذا رأينا الحكم متخلفا عنه في صورة وعثرنا صلى في تلك الصورة على أمر يصلح أن يكون مانعا وجب إحالة ذلك التخلف على ذلك المانع عملا بذلك الأصل أجاب المانعون بأن الأصل ترتب الحكم على المقتضي فحيث لم يترتب الحكم عليه وجب الحكم بأنه ليس بعلة عملا بهذا الأصل فصار هذا الأصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 معارضا للأصل الذي ذكرتموه وإذا تعارضا وجب الرجوع إلى ما كان عليه أولا وهو عدم العلية قال المجوزون الترجيح معنا من وجهين الأول أنا لو اعتقدنا أن هذا الوصف غير مؤثر يلزمنا ترك العمل بالمناسبة مع الاقتران من كل وجه ولو اعتقدنا أنه مؤثر عملنا بما ذكرتم من الدليل من بعض الوجوه لأن ذلك الوصف يفيد الأثر في بعض الصور ولا شك أن ترك العمل بالدليل من وجه أولى من ترك العمل بالدليل من كل الوجوه الثاني هو أن الوصف الذي ندعى كونه مانعا في صورة التخصيص يناسب انتفاء الحكم والانتفاء حاصل معه فيغلب على الظن أن المؤثر في ذلك الانتفاء هو ذلك المانع وإذا ثبت استناد ذلك الإنتفاء إلى المانع امتنع استناده إلى عدم المقتضى إذا ثبت هذا فنقول معكم أصل واحد وهو أن الأصل ترتب الحكم على العلة ومعنا أصلان أحدهما أن المناسبة مع الاقتران دليل على كون الوصف في الأصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 علة لثبوت الحكم فيه الثاني أن المناسبة مع الاقتران في صورة التخصيص دليل على كون المانع علة لانتفاء الحكم فيها ومعلوم أن العمل بالأصلين أولى من العمل بالأصل الواحد أجاب المانعون عن الأول بأنا لا نسلم أن المناسبة مع الاقتران دليل العلية بل عندنا المناسبة مع الاقتران والاطراد دليل العلية فإن حذفتم وقال الاطراد عن درجة الاعتبار فهو أول المسألة وعن الثاني أنا لا نسلم أن انتفاء الحكم في محل التخصيص يمكن تعليله بالمانع لأن ذلك الانتفاء كان حاصلا قبل حصول ذلك المانع والحاصل لا يمكن تحصيله ثانيا أجاب المثبتون عن هذا من وجهين الأول أن العلل الشرعية معرفات فلا يمتنع كون المتأخر علة للمتقدم بهذا التفسير الثاني أن المانع علة لنفى الحكم لا لانتفائه والنفى عبارة عن منعه من الدخول في الوجود بعد كونه بعرضية الدخول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 أجاب المانعون عن الأول بأنه إذا كان المراد من العلة المعرف لم يلزم من تعليل ذلك الانتفاء بعدم المقتضى تعذر تعليله أيضا بالمانع لجواز أن يدل على المدلول الواحد دليلان أحدهما وجودى والآخر عدمى وعن الثاني أن تأثير المانع ليس في إعدام شئ لأن ذلك يستدعى سابقة الوجود وهاهنا الحكم لم يوجد ألبتة فيمتنع إعدامه فعلم أن المستند إلى المانع ليس إلا ذلك العدم السابق احتج من جوز تخصيص العلة بوجوه أحدها أن دلالة العلة على ثبوت الحكم في محالها كدلالة العام على جميع الأفراد وكما أن تخصيص العام لا يوجب خروج العام عن كونه حجة فكذا تخصيص العلة لا يقدح في كونها علة وثانيها أن اقتضاء الوصف لذلك الحكم في هذا المحل إما أن يتوقف على اقتضاء الحكم في ذلك المحل الآخر أو لا يتوقف والأول محال لأنه ليس توقف أحدهما على الآخر أولى من العكس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 فيلزم افتقار كل واحد منهما إلى الآخر فيلزم الدور وإن لم يفتقر واحد منهما إلى الآخر فحينئذ لا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الآخر فلا يلزم من انتفاء كون الوصف مقتضيا لذلك الحكم في هذا المحل انتفاء كونه مقتضيا لذلك الحكم في المحل الآخر وثالثها العقلاء اجمعوا على جواز ترك العمل بمقتضى الدليل في بعض الصور لقيام دليل أقوى من الأول فيه مع أنه يجوز التمسك بالأول عند عدم المعارض فإن الإنسان يلبس الثوب لدفع الحر والبرد وإذا اتفق لبعض الناس أن قال له ظالم إن لبست هذا الثوب قتلتك فإنه يترك العمل بمقتضى الدليل الأول في هذه الصورة وإن كان يعمل بمقتضاه في غيرها من الصور وإذا ثبت حسن ذلك في العادة وجب حسنه في الشرع لقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ورابعها أن العلة الشرعية أمارة فوجودها في بعض الصور دون حكمها لا يخرجها عن كونها أمارة لأنه ليس من شرط كون الشئ أمارة على الحكم أن يستلزمه دائما فإن الغيم الرطب في الشتاء أمارة المطر ثم عدم المطر في بعض الأوقات لا يقدح في كونه أمارة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 وخامسها أن الوصف المناسب بعد التخصيص يقتضى ظن ثبوت الحكم فوجب العمل به بيان الأول أنا إذا عرفنا من الإنسان كونه مشرفا مكرما مطلوب البقاء غلب على ظننا حرمة قتله وإن لم يخطر ببالنا في ذلك الوقت ماهية الجناية فضلا عن عدمها فعلمنا أن مجرد النظر إلى الإنسانية مع مالها من الشرف يفيد ظن حرمة القتل وأن عدم كونه جانيا ليس جزءا من المقتضى لهذا الظن وإذا كان كذلك فأينما حصلت الإنسانية حصل ظن حرمة القتل وإذا ثبت أنه يفيد ظن الحكم وجب العمل به لأن العمل بالظن واجب وسادسها إن بعض الصحابة قال بتخصيص العلة روي عن ابن مسعود أنه كان يقول هذا حكم معدول به عن القياس وعن ابن عباس مثله ولم ينقل عن أحد أنه أنكر ذلك عليهما وذلك يفيد انعقاد الإجماع وسابعها أنه وجد في الأصل المناسبة مع الاقتران في ثبوت الحكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 وفي صورة التخصيص المناسبة مع الاقتران في انتفاء الحكم فلو أضفنا في صورة التخصيص انتفاء الحكم إلى انتفاء المقتضى كنا قد تركنا العمل بذينك الأصلين لكنا عملنا بأصل واحد وهو أن الأصل أن يكون عدم الحكم لعدم المقتضى أما لو أضفنافي صورة التخصيص انتفاء الحكم إلى حصول المانع كنا عملنا بذينك الأصلين وخالفنا أصلا واحدا وهو أن يكون عدم الحكم لعدم المقتضى ومعلوم أن مخالفة الأصل الواحد لإبقاء أصلين أولى من العكس فإحالة انتفاء الحكم على المانع أولى من إحالته على عدم المقتضى والجواب عن الأول أن نقول ما الجامع ثم الفرق أن دلالة العام المخصوص على الحكم وإن كانت موقوفة على عدم المخصص إلا أن عدم المخصص إذا ضم إلى العام صار المجموع دليلا على الحكم أما العلة فإن دلالتها موقوفة على عدم المخصص وذلك العدم لا يجوز ضمه إلى العلة على جميع التقديرات أما أولا فلأن منهم من منع كون القيد العدمي جزءا من علة الحكم الوجودى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 والذين جوزوه قالوا إنما يجوز ذلك بشرط أن يكون مناسبا فلا جرم وجب ذكره في أول الأمر ليعرف أنه هل يصلح لأن يكون جزءا لعلة الحكم أم لا وعن الثاني أنا إن فسرنا العلة بالموجب أو الداعي كان شرط كونه علة للحكم في محل أن يكون علة لذلك الحكم في جميع المحال لأن العلة إنما توجب الحكم لماهيتها ومقتضى الماهية أمر واحد فإن كانت تلك الماهية موجبة لذلك الحكم في موضع وجب كونها كذلك في كل المواضع وإلا فلا وعن الثالث إنه لا نزاع فيما قالوه لكنا ندعي أنه ينعطف من الفرق بين الأصل وبين صورة التخصيص قيد على العلة وهم ما أقاموا الدلالة على فساد ذلك وعن الرابع أن النظر في الأمارة إنما يفيد ظن الحكم إذا غلب على الظن انتفاء ما يلازمه انتفاء الحكم فإن من رأى الغيم الرطب في الشتاء بدون المطر في بعض الأوقات ثم رآه مرة أخرى فإنه لا يغلب على ظنه نزول المطر إلا إذا غلب على ظنه انتفاء الأمر الذي لازمه عدم نزول المطر في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 المرة الأولى وذلك لا يقدح في قولنا وعن الخامس أنه مسلم لكنا ندعي أنه ينعطف من الفرق بين الأصل وصورة التخصيص قيد على العلة وعن السادس هب أنهم قالوا ذلك لكنهم لم يقولوا التمسك بذلك القياس جائز أم لا وعن السابع ما ذكرناه في الحجة الثالثة من جانبنا المسألة الثانية في كيفية دفع النقض هذا لا يمكن إلا بأحد أمرين أحدها المنع من حصول تمام تلك الأوصاف في صورة النقض والثاني المنع من عدم الحكم أما القسم الأول ففيه أبحاث أحدها المستدل إذا منع من وجود الوصف في صورة النقض لم يمكن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 المعترض من إقامة الدليل على وجوده فيها لأنه انتقال إلى مسألة أخرى بلى لو قال المعترض ما دللت به على وجود المعنى في الفرع يقتضى وجوده في صورة النقض فهذا لو صح لكان نقضا على دليل وجود العلة في الفرع لا على كون ذلك الوصف علة للحكم فيكون انتقالا من السؤال الذي بدأ به إلى غيره وثانيها أن المنع من وجود الوصف في صورة النقض إنما يمكن لو وجد قيد في العلة يدفع النقض وذلك القيد إما أن يكون له معنى واحد أو معنيان فإن كان معناه واحدا فإما أن يكون وقوع الاحتراز به ظاهرا أو لا يكون مثال الظاهر قولنا طهارة عن حدث فتفتقر إلى النية كالتيمم فنقضه بإزالة النجاسة غير وارد لأنا نقول عن حدث وإزالة النجاسة لا تكون عن حدث مثال الخفي قولنا في السلم الحال عقد معاوضة فلا يكون الأجل من شرطه كالبيع ولا ينتقض بالكتابة لأنها ليست معاوضة لكنها عقد إرفاق أما إذا كان اللفظ له معنيان فإما أن يكون مقولا عليهما بالتواطؤ أو بالاشتراك مثال التواطؤ قولنا عبادة متكررة فتفتقر إلى تعيين النية كالصلاة فإن قيل ينتقض بالحج فإنه يتكرر على زيد وعمرو قلنا التكرار مقول على التكرار في الزمان وعلى التكرار في الأشخاص والأظهر هو الأول وهو مرادنا هاهنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 مثال الاشتراك قولنا جمع الطلاق في القرء الواحد لا يكون مبتدعا كما لو طلقها ثلاثا في قرء واحد مع الرجعة بين الطلقتين فإن قيل ينتقض بما لو طلقها في الحيض قلنا أردنا بالقرء الطهر وثالثها أنه هل يجوز دفع النقض بقيد طردي أما الطاردون فقد جوزوه وأما منكرو الطرد فمنهم من جوزه والحق أن لا يجوز لأن أحد أجزاء العلة إذا لم يكن مؤثرا لم يكن مجموع العلة مؤثرا ولأنه لو جاز تقيده بالقيد الطردي لجاز تقييده بنعيق الغراب وصرير الباب وبالشخص أنه والوقت ولا نزاع في فساده القسم الثاني في منع عدم الحكم وفيه أبحاث أحدها أن انتفاء الحكم إن كان مذهبا للمعلل والمعترض معا كان متوجها وإن كان مذهبا للمعلل فقط كان متوجها أيضا لأن المعلل إذا لم يف بمقتضى علته في الإطراد فلأن لا يجب على غيره كان أولى وإن كان مذهبا للمعترض فقط لم يتوجه لأن خلاف المعترض في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 تلك المسألة كخلافه في المسألة الأولى وهو محجوج بذلك الدليل في المسألتين معا وثانيها ان المنع من عدم الحكم قد يكون ظاهرا وهو معلوم وقد يكون خفيا وهو على وجهين الأول كقولنا في السلم الحال عقد معاوضة فلا يكون الأجل من شرطه فإن قيل ينتقض بالإجارة قلنا الأجل ليس شرطا في الإجارة بل تقدير المعقود عليه الثاني كقولنا عقد معاوضة فلا ينفسخ بالموت كالبيع فإن قيل ينتقض بالنكاح قلنا هناك لا ينتقض بالموت لكن انتهى العقد وثالثها أن الحكم إما أن يكون مجملا أو مفصلا وكل واحد منهما إما في طرف الثبوت أو في طرف الانتفاء فهذه الأقسام أربعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 الأول الإثبات المجمل والمراد أنا ندعي بثبوته ولو في صورة ما فهذا لا ينتقض بالنفي المفصل وهو النفي عن صورة معينة لأن الثبوت المجمل يكفي فيه ثبوته في صورة واحدة والثبوت في صورة واحدة لا يناقضه النفي في صورة معينة الثاني النفي المجمل ومعناه أنه لا يثبت ألبتة ولا في صورة واحدة فهذا ينتقض بالثبوت المفصل لأن ادعاء النفي عن كل الصور يناقضه في صورة معينة الثالث الإثبات المفصل لا يناقضه النفي المفصل لأن الثبوت في صورة معينة لا يناقضه النفي في صورة أخرى لكن يناقضه النفي المجمل لأن الثبوت في صورة واحدة يناقضه النفي المجمل الرابع النفي المفصل لا يناقضه الإثبات المفصل لما تقدم ولا الإثبات المجمل لأنه في قوة الإثبات المفصل بل يناقضه الإثبات العام ورابعها أن الحكم الذي لا يكون ثابتا تحقيقيا لكنه يكون ثابتا تقديرا هل يكون ذلك دافعا للنقض مثاله إذا قال ملك الأم علة لرق الولد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 قيل ينتقض ذلك بولد المغرور بحرية الجارية فإنه ينعقد ولده حرا فهاهنا انتفى ملك الولد تحقيقا ولكنه موجودا تقديرا بدليل أن الغرم يجب على المغرور ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع وإلا لما وجبت قيمة الولد المسألة الثانية وهي مشتملة على فرعين من فروع تخصيص العلة الفرع الأول إذا تخلف الحكم عن العلة لا لمانع فهل يقدح ذلك في صحة العلة أم لا قال قوم لا يقدح لأنا لم ندع في مثل هذه العلة كونها مستلزمة للحكم قطعا بل ادعينا كونها مستلزمة للحكم ظاهرا فتخلف الحكم عنها في بعض الصور لا يقدح في كونها مستلزمة له غالبا فوجب أن لا يكون مفسدا للعلة والحق أنه مفسد للعلة لأن ذات العلة إما أن تكون مستلزمة للحكم أو لا تكون فان كانت مستلزمة له وجب كونها كذلك أبدا ولو كانت كذلك أبدا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 لما زال هذا الحكم إلا لمزيل وذلك المزيل هو المانع فحيث زالت تلك المستلزمية لا لمزيل علمنا أن تلك الذات غير موصوفة بتلك المستلزمية فوجب أن لا يكون علة الفرع الثاني المتمسك بالعلة المخصوصة هل يجب عليه في ابتداء الدليل ذكر نفي المانع أم لا أما الذين قالوا لا يجب ذكره في الابتداء قالوا لأن المستدل مطالب بذكر ما يكون موجبا للحكم ومؤثرا فيه والموجب لذلك الحكم هو ذلك الوصف وأما نفي المانع فليس له دخل في التأثير وإذا كان كذلك لم يجب ذكره في الابتداء والذين قالوا يجب احتجوا بأن المستدل مطالب بذكر ما يكون معرفا للحكم والمعرف للحكم ليس تلك الأمارة فقط بل تلك الأمارة مع عدم المخصص وإذا كان كذلك وجب ذكرهما معا فمقتضى هذا الدليل بيان نفي كل الموانع ابتداءا إلا أن إيجاب ذلك يفضي إلى العسر والمشقة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 أما إيجاب نفي الموانع المتفق عليها فلا يفضي إلى ذلك فوجب أن يجب ذكره المسألة الرابعة في أن النقض إذا كان واردا على سبيل الاستثناء هل يقدح في العلة أم لا قال قوم إنه لا يقدح سواء كانت العلة معلومة أو مظنونة أما المعلومة فلأنا نعلم أن من لم يقدم على جناية لا يؤاخذ بضمانها ثم هذا لا ينتقض بضرب الدية على العاقلة وأما المظنونة فكالتعليل وهو بالطعم فإنه لا ينتقض بمسألة العرايا فإنها وردت على سبيل الاستثناء رخصة واعلم أنا إنما نعلم ورود النقض على سبيل الاستثناء إذا كان لازما على جميع المذاهب مثل مسألة العرايا فإنها لازمة على جميع العلل كالقوت والكيل والمال والطعم وإنما قلنا إن الوارد مورد الاستثناء لا يقدح في العلة لأن الإجماع لما انعقد على أن حرمة الربا لا تعلل إلا بأحد هذه الأمور الأربعة ومسألة العرايا ورادة عليها أربعتها صلى الله عليه وسلم فكانت هذه المسألة واردة على علة قطعنا بصحتها والنقض لا يقدح في مثل هذه العلة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 وأما أنه هل يجب الاحتراز عنه في اللفظ فقد اختلفوا فيه والأولى الاحتراز منه المسألة الخامسة الكسر نقض يرد على المعنى دون اللفظ كما إذا قال في وجوب صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها قياسا على صلاة الأمن فيظن المعترض أنه لا تأثير لكون العبادة صلاة في هذا الحكم وأن المؤثر هو وجوب القضاء فينقضه بصوم الحائض فإنه يجب قضاؤه ولا يجب أداؤه وأعلم أن المعترض ما لم يبين إلغاء القيد الذي به وقع الاحتراز عن النقض لا يمكنه إيراد النقض على الباقي فيكون ذلك في الحقيقة قدحا في تمام العلة لعدم التأثير في جزءها بالنقض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 الفصل الثاني في عدم التأثير وهو عبارة عما إذا كان الحكم يبقى بدون ما فرض علة له وأما العكس فهو أن يحصل مثل هذا الحكم في صورة أخرى لعلة تخالف العلة الأولى وإذا عرق هذا فنقول الدليل على أن عدم التأثير يقدح في كون الوصف علة هوأن الحكم لما بقى بعد عدمه وكان موجودا قبل وجوده علمنا استغناءه عنه والمستغني عن الشئ لا يكون معللا به واعلم أن هذا حق إذا فسرنا العلة بالمؤثر أما إذا فسرناها بالمعرف فلا لجواز أن كون الحادث معرفا لوجود ما كان موجودا قبله ويبقى موجودا بعده كالعالم مع البارى تعالى وإما أن العكس غير واجب في العلل فهو قولنا وقول المعتزلة وأما أصحابنا فإنهم أوجبوا العكس في العلل العقلية وما أوجبوا في العلل الشرعية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 والدليل على عدم وجوبه في العلل العقلية أن المختلفين يشتركان في كون كل واحد منهما مخالفا للأخر وتلك المخالفة من لوازم ماهيتهما واشتراك اللوازم مع اختلاف الملزومات يدل على قولنا والذي يدل على جواز ذلك في العلل الشرعية أنا سنقيم الدلالة على جواز تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة في الشرعيات وذلك يوجب القطع بأن العكس غير معتبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 الفصل الثالث في القلب وفيه مسائل المسألة الأولى في حقيقته وحقيقتة أن يعلق على العلة المذكورة في قياس نقيض الحكم المذكور فيه ويرد إلى ذلك الأصل بعينه وإنما شرطنا إتحاد الأصل لأنه لو رد إلى أصل آخر لكان ذلك الأصل الآخر إما أن يكون حاصلا في الأصل الأول أو لا يكون فإن كان الأول كان رده إليه أولى لأن المستدل لا يمكنه منع وجود تلك العلة فيه ويمكنه منع وجودها في أصل آخر وإن كان الثاني كان أصل القياس الآخر نقضا على تلك العلة لأن ذلك الوصف حاصل فيه مع عدم ذلك الحكم المسألة الثانية منهم من أنكر إمكانه لوجهين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 الأول أن الحكم الذي علقه القالب على العلة لابد وأن يكون مخالفا للحكم الذي علقه القائس عليها وإلا لما كان إلا تكريرا في اللفظ ثم إن ذينك الحكمين إما أن يمكن اجتماعهما أو لا يمكن فإن كان الأول لم يقدح ذلك في العلة لأنه لا امتناع في أن يكون للعلة الواحدة حكمان غير متنافيين والثاني محال لأنا بينا أن الأصل الذي يرد إليه القالب والقائس لابد وأن يكون واحدا والصورة الواحدة يستحيل أن يحصل فيها حكمان متنافيان الثاني أن العلة المستنبطة لابد وأن تكون مناسبة للحكم والوصف الواحد يستحيل أن يكون مناسبا لحكمين متنافيين والجواب عن الأول أن هاهنا احتمالا آخر وهو أن لا يكون الحكمان متنافيين فلا جرم يصح حصولهما في الأصل لكن دل دليل منفصل على امتناع اجتماعهما في الفرع فإذا بين القالب أن الوصف الحاصل في الفرع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 ليس بأن يقتضى أحد الحكمين أولى من الآخر كان الأصل شاهدا لهما بالاعتبار لما بينا أنه لا منافاة بينهما في الأصل ويقتضى امتناع حصول الحكم في الفرع لما أنه ليس حصول أحدهما أولى من الآخر وقد قامت الدلالة على امتناع حصولهما في الفرع وهذا الكلام كما أنه جواب عن شبهة المنكر فهو دليل إبتداءا على إمكان القلب وعن الثاني أن المناسبة قد لا تكون حقيقية بل إقناعية فبالقلب ينكشف أنها ما كانت حقيقية المسألة الثالثة القلب معارضة إلا في أمرين أحدهما إنه لا يمكن فيه الزيادة في العلة وفي سائر المعارضات يمكن الثاني إنه لا يمكن منع وجود العلة في الفرع والأصل لأن أصله وفرعه هو أصل المعلل وفرعه ويمكن ذلك في سائر المعارضات وأما فيما وراء هذين الوجهين فلا فرق بينه وبين المعارضة فعلى هذا للمستدل أن يمنع حكم القالب في الأصل وأن يقدح في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 تأثير العلة فيه بالنقض وعدم التأثير وأن يقول بموجبه إذا أمكنه بيان أن اللازم من ذلك القلب لا ينافي حكمه وأن يقلب قلبه إذا لم يكن قلب القالب مناقضا للحكم لأن قلب القالب إذا فسد بالقلب الثاني سلم أصل القياس من القلب المسألة الرابعة القالب إما أن يذكر القلب لإثبات مذهبه أو لإبطال مذهب خصمه والأول مثل أن يقول الحنفي في أن الصوم شرط في صحة الاعتكاف لبث مخصوص فلا يكون بدون الصوم قربة كالوقوف بعرفة فيقول القالب لبث مخصوص فلا يعتبر الصوم في كونه قربة كالوقوف بعرفة فالحكمان المذكوران في الأصل والقلب لا يتنافيان في الأصل ويتنافيان في الفرع وأما الثاني فإما أن يدل القالب على فساد مذهبه صريحا أو ضمنا وهو أن يدل على فساد لازم من لوازم مذهب الخصم مثال الأول قول الحنفي في المسح ركن من أركان الوضوء فلا يكتفى فيه بأقل ما يقع عليه الاسم كالوجه فيقول القالب فوجب أن لا يتقدر الفرض فيه بالربع كالوجه وهذان الحكمان لا يتناقضان في ذاتيهما لأنهما حصلا في الوجه ولكن يتنافيان في الفرع بواسطة اتفاق الإمامين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 مثال الثاني قولهم في بيع الغائب عقد معاوضة فيعقد مع الجهل بالعوض كالنكاح فيقول القالب فلا يثبت فيه خيار الرؤية كالنكاح ويلزم من فساد خيار الرؤية فساد البيع وهذان الحكمان غير متنافيين في الأصل لأنه اجتمع في النكاح الصحة وعدم الخيار لكن لا يمكن اجتماعهما في الفرع وقال بعضهم هذا النوع من القلب غير مقبول لأن دلالة الوصف على ثبوت الحكم لا بواسطة أظهر من دلالته على انتفاء الحكم بواسطة وأعلم أنه يقع في هذا النوع شئ يسمى قلب التسوية مثاله أن يقول الحنفي في طلاق المكره مكلف مالك للطلاق فيقع طلاقه كالمختار فيقول القالب فوجب أن يستوى حكم إيقاعه وإقراره كالمختار وبعضهم قدح فيه بأن قال الحاصل اعتبارهما معا في الثبوت في الأصل وفي الفرع عند القالب عدم وقوعهما معا فكيف تتحقق التسوية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 جوابه أن عدم الاختلاف بين الحكمين حاصل في الفرع والأصل لكن في الفرع في جانب العدم وفي الأصل في جانب الثبوت وذلك لا يقدح في الاستواء في الأصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 الفصل الرابع في القول بالموجب وحده تسليم ما جعله المستدل موجب العلة مع استبقاء الخلاف وهو يقع في جانب النفي على وجه وفي جانب الإثبات على وجه أخر أما في جانب النفي فإذا كان المطلوب نفى الحكم واللازم من دليل المعلل كون شئ معين غير موجب لذلك الحكم كما لو قال الشافعى في المثقل التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالتفاوت في المتوسل إليه فيقول السائل إن التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص فلم لا يمتنع وجوب القصاص بسبب آخر ثم أن المستدل لو بين بعد ذلك أنه يلزم من تسليم ذلك الحكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 تسليم محل النزاع كان منقطعا أيضا لأنه ظهر أنه ما ذكر الدليل بل ذكر أحد أجزاء الدليل وأما جانب الثبوت فكما لو كان المطلوب إثبات الحكم في الفرع واللازم من دليل المعلل ثبوته في صورة ما من الجنس كما لو قال في وجوب الزكاة في الخيل حيوان تجوز المسابقة عليه فيجب فيه الزكاة قياسا على الإبل فقال أقول بموجبه إنه تجب فيه زكاة التجارة والخلاف واتقع إذا في زكاة العين ومقتضى دليلك وجوب أصل الزكاة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 الفصل الخامس في الفرق والكلام فيه مبني على أن تعليل الحكم الواحد بعلتين هل يجوز أم لا وفيه مسألتان المسألة الأولى يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين خلافا لبعضهم لنا أن الردة والقتل والزنا كل واحد منها لو انفرد كان مستقلا باقتضاء حل القتل ثم إنه يصح اجتماعها فعند اجتماعها يكون حل الدم حاصلا بها جميعا فإن قيل لا نسلم أن هناك حكما واحدا بل أحكاما كثيرة فإن حل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 القتل بسبب الردة غير حله بسبب القتل والدليل عليه وجهان الأول أن الرجل إذا عاد إلى الإسلام زالت الإباحة الحاصلة بسبب الردة وبقيت الإباحة الحاصلة بسبب القتل والزنا ثم إذا عفا ولى الدم زالت الإباحة الحاصلة بسبب القتل وبقيت الإباحة الحاصلة بسبب الزنا الثاني أن القتل المستحق بسبب القتل يجوز العفو عنه لولى الدم والقتل المستحق بسبب الردة لا يتمكن الولى من إسقاطه وذلك يدل على تغاير الحكمين سلمنا أن الحكم واحد ولكن لا نسلم أنه يمكن حصول هذه الأسباب الثلاثة دفعة واحدة ولم لا يجوز أن يقال لابد وأن يحصل منها واحد قبل حصول البواقي وحينئذ يكون الحكم محالا على السابق سلمنا إمكان حصولها دفعة واحدة لكن لم لا يجوز ان يقال إنها بأسرها مشتركة في وصف واحد والعلة هو ذلك المشترك فتكون علة الحكم شيئا واحدا سلمنا أنه ليس هناك قدر مشترك لكن لم لا يجوز أن يقال شرط كون كل واحد منها علة مستقلة انتفاء الغير فإذا وجد الغير زال شرط الاستقلال بالعلية فحينئذ لا يكون كل واحد منها علة تامة عند الاجتماع بل يصير كل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 واحد منها عند الاجتماع جزء العلة والمجموع هو العلة التامة سلمنا أن ما ذكرته يدل على تعليل الحكم الواحد بعلتين لكن معنا ما يمنع منه وهو وجوه ثلاثة الأول أن جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين يفضى إلى نقض العلة وذلك باطل على ما مر فما أفضى إليه مثله بيان الملازمة أنه إذا كان للحكم الواحد علل كثيرة فإذا وجد منها واحدة حتى حصل الحكم ثم وجدت العلة الثانية بعد ذلك فهذه الثانية إما أن توجب حكما يماثل الحكم الأول أو يخالفه أو لا توجب حكما أصلا والأول يقتضى اجتماع المثلين وهو محال والثاني والثالث يوجب النقض لأنه وجدت تلك العلة من غير ذلك الحكم الثاني أن العلة الشرعية مؤثرة بجعل الشرع إياها مؤثرة في ذلك الحكم فإذا اجتمع على المعلول الواحد علتان فإما أن تكون كل واحدة من العلتين مؤثرة في بعض ذلك الحكم أو في كله والأول محال أما أولا فلأن الحكم الواحد لا يتبعض وأما ثانيا فلأن ذلك إخراج لكل واحدة من العلتين عن أن تكون موجبة للحكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 وأما ثالثا فلأن على هذا التقدير معلول كل واحدة منهما غير معلول الأخرى وأما الثاني فباطل أيضا لأن الحكم لما وقع بإحدى العلتين استحال وقوعه بالأخرى لاستحالة إيقاع الواقع الثالث أن العلة لابد وأن تكون مناسبة للحكم فلو كانت علة لحكمين لكانت مناسبة لشيئين مختلفين فيلزم كون الشئ الواحد مساويا لمختلفين والمساوى لمختلفين مختلف فالشئ الواحد يكون مخالفا لنفسه وهو محال والجواب قوله لا نسلم وحدة الحكم قلنا الدليل عليه أن إبطال حياة لشخص الواحد أمر واحد وهذا الأمر الواحد إما أن يكون ممنوعا عنه من قبل الشرع بوجه ما أو لا يكون ممنوعا عنه بوجه ما والأول هو الحرمة والثاني هو الحل فإذا كانت الحياة واحدة كانت إزالتها أيضا واحدة فكان الإذن في تلك الإزالة واحدة فإن قلت الفعل الواحد يجوز أن يكون حراما من وجه حلالا من وجه وإذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 كان كذلك جاز أن يتعدد الحل لتعدد جهاته فيكون الشخص الواحد مباح الدم من حيث إنه مرتد ومن حيث إنه زان ومن حيث إنه قاتل قلت القول بأن الفعل الواحد حرام من وجه حلال من وجه غير معقول لأن الحل أن يقول الشارع مكنتك من هذا الفعل ولاتبعة فقال عليك في فعله أصلا وهذا المعنى إنما يتحقق إذا لم يكن فيه وجه يقتضى المنع أصلا بلى ليس من شرط الحرمة أن يكون حراما من جميع جهاته لأن الظلم حرام مع أن كونه حادثا وحركة وعرضا لا يقتضى الحرمة إذا ثبت ذلك فنقول حل الدم على هذا الوجه يستحيل أن يتعدد والعلم بذلك ضروري قوله الدليل على التغاير أنه لو أسلم زال أحد الحلين وبقى الآخر قلنا لا نسلم أنه يزول أحد الحلين بل يزول كون ذلك الحل معللا بالردة فالزائل ليس هو نفس الحل بل وصف كونه معللا بالردة فإن قلت إذا كان الحل باقيا سواء وجدت الردة أو زالت كان ذلك الحل غنيا في نفسه عن الردة والغنى عن الشئ لا يكون معللا به قلت لما كانت العلة عندى عبارة عن المعرف زال عنى الإشكال قوله ولى الدم مستقل بإسقاط أحد الحكمين قلنا لا نسلم بل هو متمكن من إزالة أحد الأسباب فإذا زال ذلك السبب زال انتساب ذلك الحكم إلى ذلك السبب فأما أن يزول الحكم نفسه فهذا ممنوع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 قوله لا نسلم جواز اجتماع هذه العلل قلنا هذا مكابرة لأنه لا منافاة بين ذوات هذه الأمور فيصح اجتماعها ونحن نبني الكلام على تقدير وقوع ذلك الجائز قوله العلة هي القدر المشترك بين كل هذه الأمور قلنا هذا باطل لأن الأمة مجمعة على أن الحيض من حيث هو حيض مانع من الوطء وكذا العدة والإحرام والقول بأن العلة هي القدر المشترك مخالف لهذا الإجماع وأما ثانيا فلأن الحيض وصف حقيقي والعدة أمر شرعي والأمر الحقيقي لا يشارك الأمر الشرعي إلا في عموم أنه أمر فلو كان هذا القدر هو العلة للمنع من الوطء لا تنتقض بالطم والرم قوله شرط كون كل واحد منها علة مستقلة عدم الآخر قلنا هذا باطل لأن الأمة مجمعة على أن الحيض يمنع من الوطء شرعا وذلك يقتضى أن تكون علة سواء وجد هذا القيد العدمي أم لا أما المعارضة الأولى فجوابها أن الحكم الحاصل بالعلة السابقة إنما يمتنع حصوله بالعلة اللاحقة إذا فسرنا العلة بالمؤثر أما إذا فسرناها بالمعرف فلم قلت إنه يمتنع وأما الثانية في مبنية على أن ما لا يكون مؤثرا في الحكم لذاته يجعله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 الشارع مؤثرا فيه وقد تقدم إبطال هذه القاعدة وأما الثالثة فلا نسلم أن المناسبة شرط العلية ولو سلمناها فلم لا يجوز أن يشترك الحكمان في جهة واحدة ثم إن العلة تناسبهما بحسب ذلك الوجه الواحد وأعلم أنه يمكن فرض الكلام في صورة يسقط عنها كثير من الأسئلة وهى ما إذا جمعت لبن زوجة أخيك وأختك وجعلته في حلق المرتضعة دفعة واحدة فإنها تحرم عليك لأنك خالها وعمها ولا تتوجه في هذه الصورة أكثر تلك الأسئلة المسألة الثانية الحق إنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين والدليل عليه وجهان الأول أن الإنسان إذا أعطى فقيرا فقيها احتمل أن يكون الداعي له إلى الإعطاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 كونه فقيرا فقط أو كونه فقيها فقط أو مجموعهما أو لا لواحد منهما فهذه الاحتمالات الأربعة متنافية لأن قولنا الداعي له إلى الإعطاء هو الفقر لا غير ينافي أن يكون غير الفقر داعيا أو جزءا من الداعي وإذا كانت هذه الاحتمالات متنافية فإن بقيت على حد التساوى أمتنع الحصول ظن حصول كل واحد منها على التعيين فلا يجوز الحكم بكونه علة وإن ترجح بعضها فذلك الترجيح يحصل بأمر وراء المناسبة والاقتران لأن ذلك مشترك بين الأربعة وحينئذ يكون الراجح هو العلة دون المرجوح الثاني أن الصحابة أجمعوا على قبول الفرق لأن عمر لما شاور عبد الرحمن في قضية المجهضة قال إنك مؤدب ولا أرى عليك شيئا فقال على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 إن لم يجتهد فقد غشك وإن اجتهد فقد أخطأ أرى عليك الغرة وجه الاستدلال به إن عبد الرحمن شبهه بالتأديب المباح وأن عليا فرق بينه وبين سائر التأديبات بأن التأديب الذي يكون من جنس التعزيزات لا تجوز فيه المبالغة المنتهية إلى حد الإتلاف وذلك يدل على إجماعهم على قبول الفرق وهو يقدح في جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين والله أعلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 الباب الثالث فيما يظن أنه من مفسدات العلة مع أنه ليس كذلك وقبل الخوض في تلك الأشياء نذكر تقسيمات العلة التقسيم الأول كل حكم ثبت في محل فعلة ذلك الحكم إما نفس ذلك المحل أو ما يكون جزءا من ماهيته وداخلا فيه أو ما يكون خارجا عنه والخارج إما أن يكون أمرا عقليا أو شرعيا أو عرفيا أو لغويا والعقلى إما أن يكون صفة حقيقية أو إضافية أو سلبية أو ما يتركب من هذه الأقسام وهى الصفة الحقيقية مع الإضافية أو مع السلبية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 مثال التعليل بالصفة الحقيقية فقط مطعوم فيكون ربويا مثال الإضافية قولنا مكيل فيكون ربويا مثال السلبية قولنا في طلاق المكره لم يرض به فلا يقع مثال الحقيقية مع الإضافية قولنا بيع صدر من الأهل في المحل مثال الحقيقية مع السلبية قولنا قتل بغير حق مثال الحقيقية والإضافية والسلبية معا قولنا قتل عمد عدوان مثال الوصف الشرعي قولنا في المشاع يجوز بيعه فتجوز هبته مثال العرفي قولنا في بيع الغائب أنه مشتمل على جهالة مجتنبة في العرف مثال الاسم قولنا في النبيذ أنه مسمى بالخمر فيحرم كالمعتصر من العنب وأعلم أن التعليل بجزء مسمى المحل إن كان بعلة قاصرة وجب أن يكون بالجزء الذي يمتاز ذلك المحل به عن غيره وأن لا يحصل الحكم في ذلك المشارك فتصير القاصرة متعدية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 وإن كان بعلة متعدية وجب التعليل بالجزء الذي يشارك غيره وإلا لم توجد تلك العلة في غيره فتصير العلة المتعدية قاصرة التقسيم الثاني العلة وا لحكم إما أن يكونا ثبوتيين أو عدميين وهذان القسمان لا نزاع في صحتهما وإما أن يكون الحكم ثبوتيا والعلة عدمية وفيه نزاع وإما أن يكون الحكم عدميا والعلة ثبوتية وهذا يسميه الفقهاء تعليلا بالمانع واختلفوا في أنه هل من شرطه وجود المقتضي التقسيم الثالث العلة إما أن تكون فعلا للمكلف كالقتل الموجب للقصاص أو لا تكون كالبكارة في ولاية الإجبار عندنا التقسيم الرابع الوصف المجعول علة أما ان يكون لازما للموصوف ككون البر مطعوما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 أو لا يكون فحينئذ يكون متجددا وذلك المتجدد إما أن يكون ضروريا بحسب العادة وهو مثل انقلاب العصير خمرا والخمر خلا أو لا يكون وهو إما أن يكون متعلقا بأختيار أهل العرف ككون البر مكيلا أو بأختيار الشخص الواحد كالردة والقتل التقسيم الخامس العلة إما أن تكون ذات أوصاف كقولنا قتل عمد عدوان أو لا تكون كقولنا التفاح مطعوم فيكون ربويا التقسيم السادس العلة قد تكون وجه المصلحة ككون الصلاة ناهية عن الفحشاء وكون الخمر موقعة للبغضاء وقد تكون أمارة المصلحة كما إذا جعلنا جهالة أحد البدلين علة في فساد البيع مع أنا نعلم أن فساد البيع في الحقيقة معلل بما يتبع الجهالة من تعذر التسليم ألا ترى أن جواز البيع ثابت حيث لا تمنع الجهالة من صحة التسليم كبيع صبرة من الطعام مشار إليها لصحة تسليمها وإن كان مجهول القدر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 التقسيم السابع الوصف قد يعلم وجوده بالضرورة ككون الخمر مسكرا أو مطربا وذلك إما أن يعلم بالضرورة كونه من الدين ككون الجماع في نهار رمضان مفسدا للصوم وقد لا يكون كذلك وأمثلته ظاهرة المسألة الأولى اختلفوا في جواز التعليل بمحل الحكم والحق أن العلة إما أن تكون قاصرة أو متعدية فإن كان الأول صح التعليل بمحل الحكم سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة لأنه لا استبعاد في أن يقول الشارع حرمت الربا في البر لكونه برا أو يعرف كون البر مناسبا لحرمة الربا فإن قلت لو كان محل الحكم علة للحكم لكان الشئ الواحد فاعلا وقابلا معا وهو محال لوجهين الأول أن المفهوم من كونه قابلا غير المفهوم من كون فاعلا ولذلك صح تعقل كل واحد منهما مع الذهول عن الآخر فهذان المفهومان إما أن يكونا داخلين في ذلك الشئ أو خارجين عنه أو أحدهما داخلا والآخر خارجا فإن كان الأول كان ذلك الشئ مركبا في نفسه والجزء الذي هو ملحوق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 الفاعلية غير الجزء الذي هو ملحوق القابلية فلا يكون الشئ الواحد قابلا وفاعلا وإن كان الثاني كان هذان الأمران الخارجان عن تلك الماهية لاحقين لها وكل لاحق معلول فيعود الأمر في أن المفهوم من كون تلك الماهية علة لأحد اللاحقين غير المفهوم من كونه علة للاحق لآخر ويكون الكلام في هذين المفهومين كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محال وإن كان أحدهما داخلا في الماهية والآخر خارجا عنها لزم كون الماهية مركبة لأن كل ماله جزء فهو مركب ولزم أن يكون إما الفاعلية أو القابلية جزءا من الماهية وذلك محال لأن الفاعلية والقابلية نسبة بين الماهية وبين غيرها والنسبة بين الشئ وبين غيره خارجة عن الماهية والخارج عن الشئ لا يكون داخلا فيه فلا يمكن أن تكون القابلية أو الفاعلية داخلة في الماهية الثاني وهو أن نسبة القابل إلى المقبول نسبة الإمكان ونسبة المؤثر إلى الأثر نسبة الوجوب فلو كان الشئ الواحد بالنسبة إلى الشئ الواحد مؤثرا وقابلا لزم كون النسبة الواحدة موصوفة بالوجوب وبالإمكان معا وهو محال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 قلت قد بينا في كتبنا العقلية ما في هذين الوجهين من المغالطة وأما إن كانت العلة متعدية لم يصح أن يكون محل الحكم علة للحكم لأن العلة المتعدية هى التي توجد في غير مورد النص وخصوصية مورد النص يستحيل حصولها في غيره لأن الشئ لا يكون نفس غيره المسألة الثانية الوصف الحقيقي إذا كان ظاهرا مضبوطا جاز التعليل به أما الذي لا يكون كذلك مثل الحاجة إلى تحصيل المصلحة ودفع المفسدة وهى التي يسميها الفقهاء بالحكمة فقد اختلفوا في جواز التعليل به والأقرب جوازه لنا أنا إذا ظننا استناد الحكم المخصوص في مورد النص إلى الحكمة المخصوصة ثم ظننا حصول تلك الحكمة في صورة أخرى تولد لا محالة من ذنيك الظنين ظن حصول الحكم في تلك الصورة والعمل بالظن واجب على ما تقدم فإن قيل لا نزاع في أنه لو حصل ظن تعليل الحكم في الأصل بتلك الحكمة ثم حصل ظن حصول تلك الحكمة في صورة أخرى أنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 يلزم حصول مثل حكم الأصل في تلك الصورة الأخرى لكن النزاع في أن ذينك الظنين هل هما ممكنا الحصول أم لا وأنتم ما دللتم على جوازه ونحن نبين امتناعه من وجوه الأول أن الحكم إما يعلل بالحاجة المطلقة أو يعلل بالحاجة المخصوصة والأول باطل وإلا لكان كل حاجة معتبرة والثاني أيضا باطل لأن الحاجة أمر باطن فلا يمكن الوقوف على مقاديرها وامتياز كل واحدة من مرابتها التي لا نهاية لها عن المرتبة الأخرى وإذا تعذر تعيينه تعذر التعليل بذلك المتعين الثاني لو صح تعليل الحكم بالحكمة لما صح تعليله بالوصف وتعليله بالوصف جائز فتعليله بالحكمة غير جائز بيان الملازمة أن شرع الحكم لابد وأن يكون لفائدة عائدة إلى العبد لإنعقاد الإجماع على أن الشرائع مصالح إما وجوبا كما هو قول المعتزلة أو تفضلا كما هو قولنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 وإذا كان كذلك فالمؤثر الحقيقي في الحكم هو الحكمة أما الوصف فليس بمؤثر ألبتة وإنما جعل مؤثرا لاشتماله على الحكمة التي هي المؤثرة إذا ثبت هذا فنقول لو أمكن إستناد الحكم إلى الحكمة لما جاز استناده إلى الوصف لأن كل ما يقدح في استناده إلى الحكمة يقدح في استناده إلى الوصف لأن القادح في الأصل قادح في الفرع وقد يوجد ما يقدح في الوصف ولا يكون قادحا في الحكمة لأن القادح في الفرع قد لا يكون قادحا في الأصل فاستناد الحكم إلى الوصف مع إمكان استناده إلى الحكمة تكثير لإمكان الغلط من غير حاجة إليه وإنه لا يجوز ولما رأينا أنه جاز التعليل بالوصف علمنا أنه إنما جاز لتعذر التعليل بالحكمة الثالث لو جاز التعليل بالحكمة لوجب طلب الحكمة والطلب لها غير واجب فالتعليل بها غير جائز بيان الملازمة أن المجتهد مأمور بالقياس عند فقدان النص ولا يمكنه القياس إلا عند وجدان العلة ولا يمكنه وجدانها إلا بعد الطلب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فإذن طلب العلة واجب وإذا كانت الحكمة علة كان طلبها واجبا بيان أن طلب الحكمة غير واجب أن الحكمة لا تعرف إلا بواسطة معرفة الحاجات والحاجات أمور باطنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 لا يمكن معرفة مقاديرها إلا بمشقة شديدة فوجب أن لا تكون هذه المعرفة واجبة لقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج الرابع أن استقراء الشريعة يدل على أن الأحكام معللة بالأوصاف لا بالحكم لأنا لو فرضنا حصول الأوصاف الجلية كالبيع والنكاح والهبة عارية عن المصالح لاستندت أي الأحكام إليها ولو فرضنا حصول المصالح دون هذه الأوصاف لم تثبت بها الأحكام الملائمة لها وذلك يدل ظاهرا على امتناع التعليل بالحكم الخامس الدليل ينفي التمسك بالعلة المظنونة لقوله تعالى إن بعض الظن إثم وقوله إن الظن لا يغني من الحق شيئا خالفناه في الأوصاف الجلية لظهورها والحاجة ليست كذلك فتبقى على الأصل السادس أن الحكمة تابعة للحكم لأن الزجر تابع لحصول القصاص وعلة الشئ يستحيل تأخيرها عن الشئ فالحكمة لا تكون علة للحكم والجواب قوله ما الدليل على جواز أن يحصل لنا ظن أن الحكم في الأصل معلل بالحكمة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 قلنا لا نزاع في أن المناسبة طريق كون الوصف علة والمعنى بذلك أنا نستدل بكون الوصف مشتملا على المصلحة على كونه علة فلا يخلو إما أن يكون الدال على عليته اشتماله على مطلق المصلحة أو اشتماله على مصلحة معينة والأول باطل وإلا لكان كل وصف مشتمل على مصلحة كيف كانت علة لذلك الحكم ولما بطل القسم الأول تعين الثاني فنقول إما أن يمكن الاطلاع على المصلحة المخصوصة أو لا يمكن فإن امتنع الاطلاع على المصلحة المخصوصة امتنع الاستدلال بكون الوصف مشتملا عليها على كونه علة لأن العلم بإشتمال الوصف عليها موقوف على العلم بها وحيث لم يمتنع هذا الاستدلال علمنا أن الإطلاع على خصوصيتها ممكن وبهذا الحرف ظهر الجواب عن قوله المصالح أمور باطنة فلا يمكن الاطلاع عليها قوله لو جاز التعليل بالحكمة لما جاز التعليل بالوصف قلنا التعليل بالحكمة وإن كان راجحا على التعليل بالوصف من الوجه الذي ذكرت فالتعليل بالوصف راجح على التعليل بالحكمة من وجه آخر وهو سهولة الاطلاع على الوصف وعسر الاطلاع على الحكمة فلما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 كان كل واحد منهما راجحا من وجه مرجوحا من وجه آخر حصل الاستواء قوله لو صح التعليل بالحكمة لوجب طلبها قلنا نحن وإن اختلفنا في جواز تعليل الحكم لكنا اتفقنا على أن كون الوصف علة للحكم معلل بالحكمة فان لم يقتض ذلك وجوب طلب الحكمة فقد بطل قولك وإن اقتضى وجوب طلبها فقد بطل قولك أيضا قوله الاستقراء دل على تعليل الأحكام بالأوصاف لا بالحكمة قلنا لا نسلم بل التعليل بالحكم حاصل في صور كثيرة مثل التوسط في إقامة الحد بين المهلك والزاجر وكذا الفرق بين العمل اليسير والكثير قوله النافي للقياس قائم ترك العمل به في الوصف لظهوره قلنا الحكمة علة لعلية الوصف فأولى أن تكون علة للحكم قوله الحكمة ثمرة الحكم قلنا في الوجود الخارجي لا في الذهن ولهذا قيل أول الفكر آخر العمل نكتة أخرى في المسألة الحكمة علة لعلية العلة فأولى أن تكون علة للحكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 بيانه أن الوصف لا يكون مؤثرا في الحكم إلا لاشتماله على جلب نفع أو دفع مضرة فكونه علة معللة بهذه الحكمة فإن لم يكن العلم بتلك الحكمة المخصوصة استحال التوصل به الجعل الوصف علة وإن أمكن ذلك وهو مؤثر في الحكم والوصف ليس بمؤثر كان لإسناد الحكم إلى الحكمة المعلومة التي هي المؤثرة أولى من إسناده إلى الوصف الذي هو في الحقيقة ليس بمؤثر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 المسألة الثالثة المعللون بالحكمة لما قيل لهم أن الحكمة مجهولة القدر فإن حاجة الإنسان في مبدأ زمان الجوع دون حاجته في مقطع زمان الجوع ولما كان الغالب فيها التفاوت لم يكن القدر الموجود في الأصل ظاهر الوجود في الفرع فلم يصج القياس فمن الناس من أجاب عنه بأنا نعلل بالقدر المشترك بين الصورتين لأنه حصل في الأصل قدر معين من المصلحة وفي الفرع قدر معين وكل مقدارين فلابد وأن يكون بينهما اشتراك في قدر معين وذلك القدر المشترك يناسب التعليل به لكونها مصلحة مطلوبة الوجود فإذا قيل لهم إنه ينتقض بالحاجة الفلانية فإنها غير معتبرة قالوا نحن إنما عللنا بالقدر المشترك بين الأصل والفرع ونحن لا نسلم أن ذلك القدر المشترك حاصل في صورة النقض واعلم أن هذا الكلام ضعيف وذلك لأنه يحتمل أن لا يكون بين القدر المشترك الحاصل في الأصل والحاصل في الفرع اشتراك إلا في مسمى كونه مصلحة والتعليل بهذا المسمى غير ممكن وإلا حصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 النقض بجميع المصالح المنفكة عن هذا الحكم وأما الاشتراك بين القدرين في أمر آخر وراء عموم كونه مصلحة فغير معلوم ولا مظنون وإذا كان وجوده غير ظاهر لم يكن التعليل به ظاهرا المسألة الرابعة يجوز التعليل بالعدم خلافا لبعض الفقهاء لنا أنه قد يحصل دوران الحكم مع بعض العدمات والدوران يفيد ظن العلية والعمل بالظن واجب احتجوا على أن العدم لا يصلح للعلية بوجوه أحدها أن العلية مناقضة للاعلية المحمولة على العدم فاللا علية عدمية والعلية ثبوتية فلو حملناها على العدم المحض كان النفى المحض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 موصوفا بالصفة الوجودية ولو جوزنا ذلك لما أمكننا أن نستدل بكون الجدار وكثافته وحصوله في الحيز على كون الموصوف بهذه الصفات موجودا وهو سفسطة وثانيها أن العلة لابد وأن تتميز عما ليس بعلة سواء أريد بها المؤثر أو المعرف أو الداعي والتمييز عبارة عن كون كل واحد من المتميزين مخصوصا في نفسه بحيث لا يكون تعين هذا حاصلا لذلك ولا تعين ذلك حاصلا لهذا وهذا غير معقول في العدم الصرف لأنه نفي محض ولأنه لو جاز وقوع التمييز فيه لجاز أن يقال المؤثر في العالم عدم صرف ليست أقول ذات معدومة على ما ذهب إليه القائلون بأن المعدوم شئ لأن ذلك عندهم ثابت بل الإلزام أن نجعل النفي المحض الذي لا يكون ذاتا ولا عينا ولا أمرا من الأمور مؤثرا في العالم وذلك مما يسد باب إثبات الصانع تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وثالثها أن العدم إما أن يكون عاريا عن النسبة من كل الوجوه أو لا يكون فإن كان الأول لم يكن له اختصاص بذات دون ذات وبوقت دون وقت فلا يجوز جعله علة لحكم معين في وقت معين وفي شخص معين وإن كان له انتساب بوجه ما كان ذلك الانتساب أمرا ثبوتيا ضرورة كونه نقيضا للانتساب فيلزم وصف العدم بالوجود وهو محال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 ورابعها أن المجتهد إذا بحث عن علة الحكم لم يجب عليه سبر الأوصاف العدمية فإنها غير متناهية مع أنه يجب عليه سبر كل وصف يمكن كونه علة وذلك يدل على أن الوصف العدمى لا يصلح للعلية وخامسها قوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى والعدم نفي محض فلا يكون من سعيه فوجب أن لا يترتب عليه حكم فإن كل حكم يثبت فإنه يحصل للإنسان بسببه إما جلب منفعة أو دفع مضرة فثبت أن الوصف العدمى لا يمكن أن يكون علة فإن قلت الامتناع عن الفعل عدم مع أنه قد يكون مأمورا به ويكون منشأ للمصالح ودفع المفاسد قلت الامتناع عن الفعل عبارة عن أمر يفعله الإنسان فيترتب عليه عدم ذلك الشئ فثبت أن الامتناع ليس عدما محضا والجواب عن الأول ما ذكرتموه من الدلالة على أن العلية صفة ثبوتية معارض بدليل آخر وهو أنها لو كانت ثبوتية لكانت من عوارض ذات العلة فكانت مفتقرة إلى تلك الذات وكانت ممكنة وكانت مفتقرة إلى العلة فكانت علية العلة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 لتلك العلة زائدة عليها ولزم التسلسل وعن الثاني نسلم أنه لابد وأن تكون العلة متميزة عما ليس بعلة لكن لا نسلم أن التميز يستدعى كون المتميز ثبوتيا فإن عدم أحد الضدين عن المحل يصحح حلول الضد الآخر فيه وعدم ما ليس بضد ليس كذلك وأيضا عدم اللازم يقتضى عدم الملزوم وعدم ما ليس بلازم لا يقتضي ذلك فقد حصل الامتياز في العدمات وعن الثالث أن العلة عدم مخصوص قوله فالخصوصية صفة قائمة بالنفى المحض قلنا لا نسلم أن الخصوصية أمر ثبوتي فإنها لو كانت أمرا ثبوتيا لكانت في نفسها أمرا مخصوصا فلزم التسلسل وعن الرابع لا نسلم أن المجتهد لا يبحث في السبر والتقسيم عن الأوصاف العدمية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 سلمنا ذلك لكن إسقاط ذلك التكليف لتعذره فإن العدمات غير متناهية وعن الخامس أنا نعلم بالضرورة كوننا مكلفين بالامتناع فدل على أن العدم قد يكون متعينا قوله الامتناع عبارة عن فعل يترتب عليه العدم قلنا لو كان الامتناع عبارة عن فعل يترتب عليه العدم لكان الممتنع عن الفعل فاعلا وذلك محال المسألة الخامسة للمانعين من التعليل بالعدم أن يمنعوا من التعليل بالأوصاف الإضافية محتجين بأنها عدم والعدم لا يكون علة وإنما قلنا إنها عدم لأن مسمى الإضافة ليس أمرا وجوديا وإذا لم يكن المسمى وجوديا امتنع أن يكون شئ من الإضافات المخصوصة أمرا وجوديا وإنما قلنا أن مسمى الإضافة ليس أمرا وجوديا لأنه لو كان هذا المسمى وجوديا لكان أينما حصل هذا المسمى كان وجوديا فإذا فرضنا في إضافة ما كونها أمرا وجوديا كانت لا محالة صفة لمحل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 فكان حلولها في ذلك المحل إضافة بينها وبين ذلك المحل فكان مسمى الإضافة حاصلا في حلول تلك الإضافة في ذلك المحل وإذا كان ذلك المسمى أمر وجوديا كانت إضافة الإضافة أمرا وجوديا زائدا على الإضافة إلى غير نهاية فثبت أن مسمى الإضافة يمتنع أن يكون وجوديا وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون شئ من الإضافات المخصوصة وجوديا لأن الإضافة المخصوصة ماهية مركبة من الإضافة ومن الخصوصية فلو كانت أمرا وجوديا لكان الوجود إما قيد الإضافة أو قيد الخصوصية والأول باطل لما تقدم والثاني أيضا باطل لأن خصوصية الإضافة صفة للإضافة فلو كانت الخصوصية أمرا ثبوتيا لزم حلول الوجود في النفى المحض وهو محال فثبت أن سائر الإضافات يمتنع أن يكون موجودا فهو معدوم والتعليل بالعدم غير جائز على ما تقدم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 والجواب لا نسلم أن الإضافات أمور عدمية والتسلسل مدفوع لاحتمال أن تكون الإضافة إلى محلها لذاتها وأن سلمنا أنها عدمية في الحقيقة لكنها ثبوتية في المعتقدات فيحسن جعلها علة للأحكام الشرعية وإن سلمنا كونه عدمية مطلقا ولكن لا نسلم أن الأمور الذهنية لا تصلح للعلية والله أعلم المسألة السادسة تعليل الحكم الشرعي جائز خلافا لبعضهم لنا أن الدوران يفيد ظن العلية فإذا حصل في الحكم الشرعي حصل ظن العلية واحتج المانعون بأن قالوا الدوران لا يفيد ظن العلية فيما له صلاحية العلة ولا نسلم أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 الحكم الشرعي يصلح أن يكون علة للحكم الشرعي وبيانه بأمور أحدها أن الحكم الشرعي الذي فرض علة يحتمل كونه متقدما على الحكم الذي جعل معلولا ويحتمل كونه متأخرا ويحتمل كونه مقارنا وعلى تقدير التقدم لم يصلح للعلية وإلا لزم تخلف الحكم عن علته وعلى تقدير التأخر لم يصلح للعلية لأن المتأخر لا يكون علة للمتقدم وعلى تقدير المقارنة يحتمل أن تكون العلة هو وأن تكون غيره فإذن هو على التقديرات الثلاثة لا يكون علة وعلى تقدير واحد يكون علة ولا شك أن العبرة في الشرع بالغالب لا بالنادر فوجب الحكم بأنه ليس بعلة وثانيها أن تفسير العلة إما بالمعرف أو الداعي أو المؤثر فإن فسرناها بالمعرف امتنع تعليل حكم الأصل بحكم آخر لأن المعرف لحكم الأصل هو النص لا غيره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 وأما الثاني والثالث فباطلان لأن من يقول بالمؤثر والداعي يقول المؤثر والداعي جهات المفاسد والمصالح فالقول بأن الحكم الشرعي مؤثر أو داع خرق للإجماع وهو باطل وثالثها أن شرط العلة التقدم على المعلول وتقدم أحد الحكمين على الآخر غير معلول فإذن شرط العلية مجهول فلا يجوز الحكم بالعلية ورابعها أن الشرع إذا أثبت حكمين في صورة واحدة فليس لأحدهما مزية على الآخر في الوجود والافتقار والمعلومية فليس جعل أحدهما على للأخر أولى من العكس فإما أن نحكم بكون كل واحدة منهما على للآخر وهو محال أو لا يكون واحد منهما على للآخر وهو المطلوب والجواب عن الأول لا نسلم أن بتقدير التأخر لا يصلح للعلية لأن المراد من العلة المعرف والمتأخر يجوز كونه معرفا للمتقدم وعن الثاني أنا نفسر العلة المعرف قوله الحكم محل النص معرف بالنص لا بغيره قلنا سبق الجواب عنه في مقدمة الباب الثاني وعن الثالث لا نسلم أن التقدم شرط العلية على ما بيناه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 وعن الرابع نقول قوله ليس جعله علة للآخر بأولى من العكس قلنا لا نسلم فإنه ربما لا تتأتى المناسبة من الجانب الآخر وإن سلمنا ذلك فنقول إنه يجوز كون كل واحد منهما على لصاحبه بمعنى كون كل واحد منهما معرفا لصاحبه فرع إذا جوزنا تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي فهل يجوز تعليل الحكم الحقيقي بالحكم الشرعي ومثاله أن نعلل إثبات الحياة في الشعر بأنه يحرم الطلاق ويحل النكاح فيكون حيا كاليد والحق انه جائز لأن المراد من هذه العلة المعرف ولا يمتنع أن يجعل الحكم الشرعي معرفا للأمر الحقيقي المسألة السابعة يجوز التعليل بالأوصاف العرفية وهي الشرف والخسة والكمال والنقصان ولكن بشرطين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 أحدهما أن يكون مضبوطا متميزا عن غيره والثاني أن يكون مطردا لا يختلف باختلاف الأوقات فإنه لو لم يكن كذلك لجاز أن لا يكون ذلك العرف حاصلا في زمان الرسول ص وحينئذ لا يجوز التعليل به المسألة الثامنة يجوز التعليل بالوصف المركب عند الأكثرين وقال قوم لا يجوز لنا أن المناسبة مع الاقتران والدوران تفيد ظن العلية فيجب العمل به احتج المنكرون بأمور ثلاثة أحدها أن جواز التركيب في العلة يوجب تطرق النقض إلى العلة العقلية واللازم محال فالملزوم مثله بيان الملازمة أن كل ماهية مركبة فان عدم كل واحد من أجزائها علة لعدم علية تلك الماهية لأن كون الماهية علة صفة من صفات الماهية وتحقق الصفة يتوقف على تحقق الموصوف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 وإذا كانت كذلك كان عدم كل واحد من أجزاء الماهية علة تامة لعدم علية تلك الماهية فإذا عدم جزء من أجزائها فقد عدمت العلية فإذا عدم بعد ذلك جزء آخر لم يكن عدم هذا الجزء الثاني علة لعدم علية تلك الماهية لأن ذلك قد حصل عند عدم الجزء الأول فلا يحصل مرة أخرى بعدم الجزء الثاني فقد حصل عدم جزء الماهية مع أنه لم يترتب عليه عدم علية تلك الماهية فقد وجد النقض في العلة العقلية لأن كون عدم جزء الماهية علة لعدم علية الماهية أمر حقيقي سواء كانت علية الشئ عقلية أو وضعية فإن قلت فهذا يقتضي أن لا يكون في الوجود ماهية مركبة لأن عدم كل واحد من أجزائها علة مستقلة لعدم تلك الماهية ويعود المحال قلت ليست الماهية أمرا وراء مجموع تلك الأجزاء فلم يكن عدم أحد تلك الأجزاء علة لعدم شئ آخر وأما علية الماهية فهى حكم زائد على ذات الماهية وعدمها معلل بعدم كل واحد من أجزاء الماهية فظهر الفرق وثانيها أن كون الشئ علة لغيره صفة لذلك الشئ سواء حصلت له تلك الصفة بذاته أو بالجعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 فإذا كان الموصوف بالعلية أمرا مركبا فإما أن يقال حصلت تلك الصفة بتمامها لكل واحد من تلك الأجزاء وهو محال أما أولا فلأنه يلزم الصفة الواحدة في المحال الكثيرة وهو محال وأما ثانيا فلأنه يلزم كون كل واحد من تلك الأجزاء علة تامة لأنه لا معنى لكون الشئ علة إلا حصول العلية فيه وإما أن يقال حصل في كل واحد من أجزاء العلة جزء من تلك العلية وهذا أيضا محال لأنه يقتضي انقسام الصفة العقلية حتى يكون للعلية نصف وثلث وربع وهو محال وثالثها أن كل واحد من تلك الأجزاء لم يكن علة فعند انضمامها إما أن يكون قد حدث أمر لم يكن أو ما كان كذلك فإن حدث أمر فالمقتضي لحدوث ذلك الأمر أما كل واحد من تلك الأجزاء أو مجموعها فإن كان الأول كان كل واحد من الأجزاء مستقلا بأقتضاء به العلية فوجب كون كل واحد منها علة تامة وذلك محال وإن كان الثاني كان الكلام في اقتضاء ذلك المجموع لذلك الأمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 الحادث كالكلام في اقتضاء ذلك المجموع للعلية فيلزم أن يكون بواسطة حدوث شئ اخر ولزم التسلسل وهو محال وإن قلنا إنه لم يحدث أمر لم يكن حاصلا فتلك الأجزاء حالة الاجتماع كهى حالة الانفراد ولكنها حالة الانفراد ما كانت علة فكذا عند الاجتماع والجواب عن الأول أن النقض إنما يلزم لو جعلنا عدم جزء الماهية علة لعدم علية الماهية وهو بناء على كون العدم علة وهو ممنوع وعن الثاني أن العلية ليست صفة ثبوتية وإلا لزم التسلسل على ما قررناه وإذا لم تكن صفة ثبوتية امتنع القول بأنها إما أن تحل كل واحد من الأجزاء بتمامها أو تنقسم بحسب انقسام أجزاء الماهية وعن الثالث أنه منقوض بكل واحد من العشرة فإنه ليس بعشرة وعند اجتماعها يكون المجموع عشرة فكذا هاهنا فرعان الأول نقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله عن بعضهم أنه قال لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 يجوز أن تزيد الأوصاف على سبعة وهذا الحصر لا أعرف له حجة الثاني في الفرق بين جزء العلة ومحلها وشرط ذات العلة وشرط عليتها وقبل الخوض فيه لا بد من حد الشرط وذكروا فيه وجهين الأول أنه الذي يلزم من عدمه عدم الحكم ولا يكون جزءا من العلة والثاني أنه الذي يلزم من عدمه مفسدة دافعة لوجود الحكم إذا عرفت ذلك فمن الناس من أنكر هذا الفرق ومنهم المثبتون للطرد والمنكرون لتخصيص العلة واحتجوا عليه بأن العلة الشرعية ما يكون معرفا للحكم وهو إنما يكون معرفا للحكم عند اجتماع كل القيود من الشرط والإضافة إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 الأهل والمحل فيكون كل واحد من هذه القيود جزءا من المعرف للحكم فيكون جزءا من العلة بلى لا ننكر لأن بعض هذه القيود أقوى في الوجود من بعض فإن القتل له ذات وحقيقة ثم له صفة وهي إضافته إلى القاتل وإلى المقتول وذات القتل أقوى في الوجود من هذه الإضافات لاحتياجها إليه في الوجود وقد يكون بعض تلك القيود مناسبا دون البعض أو يكون بعضها أقوى في المناسبة من بعض ولكن مع تسليم هذا المقام فالمعتبر في تعريف الحكم هو المجموع وحينئذ لا يبقى بين جزء العلة وبين شرطها فرق وفائدة هذا البحث أنه إذا صدر بعض تلك الأجزاء عن إنسان وصدر الثاني عن إنسان آخر فإن كانت تلك الأجزاء متساوية في القوة والمناسبة اشتراكا وإلا نسب الفعل إلى فاعل الجزء الأقوى وهذه الفائدة حاصلة سواء سميناها جزء العلة أو شرطها ومن الناس من سلم الفرق وزعم أن العلة إنما تعرف عليتها بالنص أو بالاستنباط فإن كان الأول فالقدر الذي دل النص على كونه مناطا للحكم هو العلة وسائر القيود التي عرف اعتبارها بدلائل منفصلة نجعلها شرائط وإن كان الثاني فالذي يكون مناسبا هو العلة والذي يكون معتبرا في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 تحقق المناسبة ولا يكون كافيا فيها هو جزء العلة والذي لا يكون مناسبا ولا جزءا منه فهو الشرط هذا إذا عرفنا علية الوصف بالمناسبة أما إذا عرفناها بسائر الطرق لم يتجه هذا الفرق المسألة التاسعة اتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم مثل تعليل تحريم الخمر بأن العرب سمته خمرا فإنا نعلم بالضرورة أن مجرد هذا اللفظ لا أثر له فإن أريد به تعليله بمسمى هذا الاسم من كونه مخامرا للعقل فذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 يكون تعليلا بالوصف لا بالاسم المسألة العاشرة مذهب الشافعي رضي الله عنه أن يجوز التعليل بالعلة القاصرة وهو قول أكثر المتكلمين وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يجوز ووافقونا في العلة المنصوصة لنا أن صحة تعدية العلة إلى الفرع موقوفة على صحتها في نفسها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 فلو توقفت صحتها في نفسها على صحة تعديتها إلى الفرع لزم الدور وإذا لم تتوقف على ذلك فقد صحت العلة في نفسها سواء كانت متعدية أو لم تكن فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إن صحتها في نفسها لا تتوقف على صحة تعديتها بل على صحة وجودها في غير الأصل وحينئذ ينقطع الدور سلمنا ذلك ولكن وجد هاهنا ما يدل على فساد العلة القاصرة وهو من وجوه الأول أن العلة القاصرة لا فائدة فيها وما لا فائدة فيه كان عبثا وهو على الحكيم غير جائز وإنما قلنا إنه لا فائدة فيها لأن الفائدة من العلة التوسل بها إلى معرفة الحكم وهذه الفائدة مفقودة هاهنا لأنه لا يمكن في القاصرة أن يتوسل بها إلى معرفة الحكم في الأصل لأن ذلك معلوم في النص ولا يمكن التوسل بها إلى معرفة الحكم في غير الأصل لأن ذلك إنما يمكن أن لو وجد ذلك الوصف في غير الأصل فإذا لم يوجد امتنع حصول تلك الفائدة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 وإنما قلنا إن مالا فائدة فيه عبث وإن العبث غير جائز فذلك للإجماع الثاني الدليل ينفي القول بالعلة المظنونة لأنه اتباع الظن وهو غير جائز لقوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا ترك العمل به في العلة المعتدية لأن فيها فائدة وهى التوسل بها إلى معرفة الحكم في غير محل النص وهذه الفائدة مفقودة في القاصرة فوجب بقاؤها على الأصل الثالث العلة الشرعية أمارة فلابد وأن تكون كاشفة عن شئ والعلة القاصرة لا تكشف عن شئ من الأحكام فلا تكون أمارة فلا تكون علة والجواب قوله لم لا يجوز أن يقال صحة كونها علة موقوفة على صحة وجودها في غير ذلك المحل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 قلنا لأن الحاصل في محل آخر لا يكون هو بعينه لاستحالة حلول الشئ الواحد في محلين بل يكون مثله وإذا كان كذلك فنقول كل ما يحصل له من الصفات عند حلول مثله في محل آخر يكون ممكن الحصول له عند عدم حلول مثله في محل آخر لأن حكم الشئ حكم مثله فإذا أمكن حصول كل تلك الأمور فبتقدير تحقق ذلك وجب أن تكون علة لأن تلك العلية ما حصلت إلا بسبب تلك الأمور وأما المعارضة الآولى وهى أنه لا فائدة فيها قلنا لا نسلم قوله الفائدة أن يتوسل بها إلى معرفة الحكم قلنا نسلم أن معرفة الحكم فائدة لكن لا نسلم أنه لا فائدة إلا هى فما الدلالة على هذا الحصر ثم إنا نبين فائدتين أخريين الأولى أن نعرف أن الحكم الشرعي مطابق لوجه الحكمة والمصلحة وهذه فائدة معتبرة لأن النفوس إلى قبول الأحكام المطابقة للحكم والمصالح أميل وعن قبول التحكم الصرف والتعبد المحض أبعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 الثانية أنه لا فائدة أكثر من العلم بالشئ لأنا إذا علمنا الحكم ثم اطلعنا على علته صرنا عالمين أو ظانين بما كنا غافلين عنه وذلك محبوب القلوب ولا يمتنع أيضا أن يكون لنا فيه مصلحة سلمنا أنه لا بد وأن يتوسل بالعلة إلى معرفة الحكم لكن في جانب الثبوت أو في جانب العدم الأول ممنوع والثاني مسلم وهاهنا أمكن التوسل به إلى عدم الحكم بيانه أنه إذا غلب على ظننا كون حكم الأصل معللا بعلة قاصرة امتنعنا من القياس عليه فلا يثبت الحكم في الفرع فإن قلت يكفى في الامتناع من القياس أن لا نجد علة متعدية فإما التعليل بالعلة القاصرة فلا حاجة إليه في الامتناع من القياس قلت يجوز أن يوجد في الأصل وصف متعد مناسب لذلك الحكم فلو لم يجز التعليل بالعلة القاصرة لبقى ذلك الوصف المتعدى خاليا من المعارض فكان يجب التعليل به وحينئذ كان يلزم ثبوت الحكم في الفرع أما لو جاز التعليل بالوصف القاصر صار معارضا لذلك الوصف المتعدى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 وحينئذ لا يثبت القياس ويمتنع الحكم سلمنا أنه لا فائدة فيها فلم قلتم إنها تكون باطلة فإنه لا يمتنع كونها علة مؤثرة في الحكم مع أن الطالب لها يكون طالبا لما لا ينتفع به حين يتشاغل بطلب ما هو مستغن عنه سلمنا إن مالا فائدة فيه لا يجوز إثباته ولكن لا يجوز ذلك قبل أن يعلم أنه لا فائدة فيه أو بعد أن يعلم ذلك وهاهنا المستنبط للعلة حال طلبه لها لا يعلم أن تلك العلة متعدية أو قاصرة فلا يمكن منعه عن ذلك الطلب وبعد وقوفه على العلة القاصرة لا يمكن منعه عن معرفتها لأن ذلك خارج عن وسعه سلمنا كل ما ذكروه ولكنه منقوص بالتنصيص على العلة القاصرة فإن كل ما ذكروه حاصل فيها مع جوازها قوله الدليل ينفي القول بالعلة المظنونة قلنا لا نسلم والتمسك بالآية سبق الجواب عنه في مسألة إثبات القياس وأيضا قد بينا أن العلة المتعدية كما أنها وسيلة إثبات الحكم فالعلة القاصرة وسيلة إلى نفى الحكم فوجب كون القاصرة صحيحة لأنها على وفق النافي والمتعدية على خلافها قوله هذه الأمارة لا تكشف عن حكمة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 قلنا لا نسلم بل تكشف عن المنع من استعمال القياس سلمناه لكنه يكشف عن حكمة الحكم سلمناه لكنه منقوض بالعلة القاصرة المنصوصة فرع اختلفوا في أن الحكم في مورد النص ثابت بالنص أو بعلة النص فقالت الحنفية لا يمكن ثبوته بالعلة لأن الحكم معلوم والعلة مظنونة والمظنون لا يكون طريقا إلى المعلوم وأصحابنا جوزوه والخلاف فيه لفظى لأنا نعنى بالعلة هاهنا أمرا مناسبا يغلب على الظن أن الشرع أثبت الحكم لأجله وذلك مما لا يمكن إنكاره المسألة الحادية عشرة الحق أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة خلافا لبعض الفقهاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 العصريين مثاله قولهم الملك معنى مقدر شرعي في المحل أثره إطلاق التصرفات وربما قالوا الملك الحادث يستدعى سببا حادثا وذلك هو قوله بعت واشتريت وهاتان الكلمتان مركبتان من الحروف المتوالية وكل واحد من تلك الحرف لا يوجد عند وجود الحرف الآخر فإذن ليس لهاتين الكلمتين وجود حقيقي لكن لهما وجودا تقديريا وهو أن الشارع قدر بقاء تلك الحروف إلى حين حدوث الملك ضرورة أنه لا بد من وجود السبب حال حصول المسبب وقد يذكرون هذا التقدير في جانب الأثر فيقولون إن من عليه الدين يكون ذلك الدين مقدرا في ذمته واعلم أن هذا الكلام من جنس الخرافات لأن الوجوب إما أن يكون مفسرا بمجرد تعلق خطاب الشرع على ما هو مذهبنا أو يكون الفعل في نفسه بحيث يكون للإحلال به مدخل في استحقاق الذم على ما هو قول المعتزلة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 فإن كان الأول لم يكن لتعلق الخطاب حاجة إلى معنى محدث يكون علة له لأن ذلك التعلق قديم أزلى فكيف يكون معللا بالمحدث وإن كان الثاني فالمؤثر في الحكم جهات المصلحة والمفسدة فلا حاجة فيه إلى بقاء الحروف وأيضا فالمقدر يجب أن يكون على وفق الواقع والحروف لو وجدت مجتمعة لخرجت عن أن تكون كلاما فلو قدر الشرع بقاء الحروف التي حصل منها قوله بعت واشتريت لم يحصل عند اجتماعها هذا الكلام وأما تقدير المال في الذمة فهو ساقط جدا بل لا معنى له إلا أن الشرع مكنه إما في الحال أو في الاستقبال من أن يطالبه بذلك القدر من المال فهذا معقول شرعا وعرفا فأما التقدير في الذمة فهو من الترهات التي لا حاجة في العقل والشرع إليها المسألة الثانية عشر هاهنا أبحاث الأول العلة قد يكون لها حكم واحد وهو ظاهر وقد يكون حكمها أكثر من واحد وتلك الأحكام إما أن تكون متماثلة أو مختلفة غير متضادة أو مختلفة متضادة فالأول إما أن يكون في ذات واحدة أو في ذاتين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 والأول محال لامتناع اجتماع المثلين والثاني جائز وهو كالقتل الذي حصل بفعل زيد وعمرو فإنه يوجب القصاص على كل واحد منهما وأما الثاني وهو أن توجب أحكاما مختلفة غير متضادة فهو جائز كتحريم الإحرام ومس المصحف والصوم والصلاة بالحيض وأما الثالث وهو أن توجب العلة أحكاما متضادة فلا يخلو إما ان يتوقف إيجابها لها على شرط أو لا يتوقف فإن كان الأول فالشرطان إما أن لا يجوز اجتماعهما أو يجوز فإن لم يجز جاز أن تكون العلة موجبة لحكمين متضادين عند حصول شرطين لا يجتمعان وإن كان يجوز اجتماعهما فهو محال لأنهما إذا اجتمعا لم تكن العلة باقتضاء أحدهما أولى من اقتضاء الآخر فوجب أن تقتضيهما جميعا وهو محال أو لا تقتضى واحدا منهما وحينئذ تخرج العلة عن أن تكون علة وبهذا البيان يظهر أيضا أنه لا يجوز أن يتوقف اقتضاء العلة معلوليها هذا المتضادين على شرط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 الثاني من شرط العلة اختصاصها بمن له الحكم وإلا لم يكن اقتضاء حصول الحكم لشئ أولى من اقتضائه لغيره الثالث أن اقتضاءها معلولها قد يكون موقوفا على شرط مثل الزنا فإنه لا يوجب الرجم إلا بشرط الإحصان وقد لا يكون وهو ظاهر الرابع العلة قد تكون علة لإثبات الحكم في الابتداء كالعدة في منع الحل وقد تكون علة في الابتداء والانتهاء كالرضاع في إبطال النكاح وقد تكون العلة قوية على الدفع لا على الرفع مثل العدة والردة فإنهما يدفعان النكاح ويرفعانه وقد تكون قوية عليهما معا المسألة الثالثة عشر قد يستدل بذات العلة على الحكم وقد يستدل بعلية العلة على الحكم فالأول مثل أن يقال قتل عمد عدوان فيكون موجبا للقصاص الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 والثاني أن يقال القتل العمد العدوان سبب لوجوب القصاص وقد وجد فيجب القصاص فالأول صحيح والثاني باطل لأنه لا فرق بين ماهية القتل وبين كونه سببا للقصاص فإنه قد يفهم كونه قتلا مع الذهول عن السببية وقد تفهم السببية مع الذهول عن كونه قتلا والسببية أمر إضافي والأمور الإضافية يتوقف ثبوتها على ثبوت كل واحد من المضافين فدعوى كون القتل سببا لوجوب القصاص يتوقف على ثبوت القتل وثبوت وجوب القصاص لأن قولنا هذا سبب لذلك يستدعى تحقق هذا وتحقق ذاك حتى يحكم على هذا بأنه سبب لذاك وإذا كانت دعوى السببية متوقفة على ثبوت الحكم أولا فلو استفدنا ثبوت الحكم من ذكر السببية لزم الدور وإنه محال فعلمنا أنه لا يمكن الاستدلال بعلية الوصف وسببيته على ثبوت الحكم المسألة الرابعة عشر تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودى لا يتوقف على بيان ثبوت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 المقتضى لذلك الحكم وهذه المسألة من تفاريع جواز تخصيص العلة فإنا إذا أنكرناه امتنع الجمع بين المقتضي والمانع أما إذا جوزناه جاء هذا البحث والحق أنه غير معتبر لدليلين الأول أن الوصف الوجودى إذا كان مناسبا للحكم العدمي أو كان دائرا معه وجودا وعدما حصل ظن أن ذلك الوصف علة لذلك العدم والظن حجة والثاني أن بين المقتضى والمانع معاندة ومضادة والشئ لا يتقوى بضده بل يضعف به وإذا جاز التعليل بالمانع حال ضعفه فلأن يجوز ذلك حال قوته وهو حال عدم المقتضى كان أولى واحتج المخالفو بأمور أحدها أنا إذا عللنا انتفاء الحكم بالمانع فالمعلل إما عدم مستمر أو عدم متجدد والأول باطل لأن العدم المستمر كان حاصلا قبل حصول هذا المانع بل قبل الشرع والحاصل قبل يمتنع تعليله بالحاصل بعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 والثاني تسليم المقصود لأن عدم الحكم لا يحصل فيه التجدد إلا إذا امتنع من الدخول في الوجود بعد أن كان بعرضية الدخول في الوجود وذلك لا يتحقق إلا عند قيام المقتضي وثانيها أن انتفاء الحكم لانتفاء المقتضى أظهر عند العقل من انتفائه لحصول المانع وإذا كان كذلك فإما أن يكون ظن تحقق انتفاء المقتضى مثل ظن تحقيق وجود المانع أو أقوى منه أو أضعف منه فان كان الأول امتنع تعليل عدم الحكم بوجود المانع لأن عدم المقتضى ووجود المانع لما استويا في الظن واختص عدم المقتضى بمزية وهى أن ظن اسناد عدم الحكم إليه أقوى من ظن إسناده إلى وجود المانع كان ظن تعليل عدم الحكم بعدم المقتضي أقوى من تعليله بوجود المانع والأقوى راجح فيلزم أن لا يجوز تعليل عدم الحكم بالمانع وأما إن كان ظن عدم المقتضى أظهر فالتقدير المذكور أظهر وأما إن كان ظن عدم المقتضى مرجوحا بالنسبة إلى وجود المانع فظن العدم إنما يكون مرجوحا لو كان ظن الوجود راجحا وذلك يدل على أن التعليل بالمانع يتوقف على رجحان وجود المقتضى وهو المطلوب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 وثالثها أن التعليل بالمانع يتوقف على بيان المقتضى عرفا فيتوقف عليه شرعا أما الأول فلأن من قال الطير إنما لا يطير لأن القفص يمنعه فهذا التعليل موقوف على العلم بكون الطير حيا قادرا فإن بتقدير موت الطير يمتنع تعليل عدم الطيران بالقفص وكذا من علل عدم حضور زيد في السوق بحضور غريم له هناك لابد أن يبين أنه كان قادرا على الحضور وإلا لما صح ذلك التعليل عرفا وأما الثاني فلقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح ورابعها أن عدم المقتضى مستلزم لعدم الحكم فلو حصل عدم المقتضى لامتنع إسناد ذلك العدم إلى وجود المانع لأن تحصيل الحاصل محال فثبت أنه لا بد من بيان وجود المقتضي والجواب عن الأول أن العلة الشرعية معرفة والمعرف يجوز تأخيره عن المعرف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 قوله إنما يصير الحكم شرعيا إذا كان بحيث لو سكت الشرع لما ثبت قلنا نحن لا نعنى بكون هذا الانتفاء شرعيا إلا أنه لم يعرف إلا من قبل الشرع وذلك حاصل بدون ما قلتموه وعن الثاني أن مجرد النظر إلى وجود المانع يقتضي ظن عدم الحكم بدون الالتفات إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرتموها وعن الثالث أنا لا نسلم أن ظن اسناد عدم الحكم إلى وجود المانع يتوقف على العلم بوجود المقتضى عرفا ألا ترى أنا إذا علمنا وجود سبع في الطريق فهذا القدر يكفى في حصول ظن أنه لا يحضر وإن كان لا يخطر ببالنا في ذلك الوقت سلامة أعضائه بل نجعل ذلك القدر دليلا لنا ابتداءا فنقول مجرد النظر إلى المانع يفيد ظن عدم الحكم الحكم عرفا فليفده شرعا للحديث وعن الرابع أن ترادف الدلائل والمعرفات رسول على الشئ الواحد لا نسلم أنه خلاف الأصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 فرع لو سلمنا أن التعليل بالمانع يتوقف على وجود المقتضى لكن لا حاجة إلى ذكر دليل منفصل على وجود المقتضى بل يكفي أن يقال إما أن لا يكون المقتضى موجودا في الفرع وحينئذ يلزم عدم الحكم في الفرع أو قد حصل المقتضى في الفرع لكنه إنما ثبت فيه تحصيلا لمصلحته ودفعا لحاجته وهذا المعنى قائم في الأصل فيلزم ثبوت المقتضى في الأصل وإذا ثبت ذلك فقد صح جواز تعليل عدم الحكم فيه بالمانع المسألة الخامسة عشر قال بعضهم وجود الوصف الذي يجعل علة في الأصل لابد وأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 يكون متفقا عليه وهذا ضعيف لأنه لما أمكن إثباته بالدليل حصل الغرض بل الحق أن ذلك قد يكون معلوما بالضرورة وقد يكون معلوما بالبرهان اليقينى وقد يكون معلوما بالأمارة الظنية وهذا آخر الكلام في العلة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 القسم الثالث في المباحث المتعلقة بالحكم والأصل والفرع وفيه ثلاثة أبواب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 الباب الأول في مباحث الحكم وفيه مسائل المسألة الأولى اتفق أكثر المتكلمين على صحة القياس في العقليات ومنه نوع يسمونه إلحاق الغائب بالشاهد قالوا ولابد من جامع عقلى والجامع أربعة العلة والحد والشرط والدليل أما الجمع بالعلة فكقول أصحابنا إذا كانت العالمية شاهدا فيمن له العلم معللة بالعلم وجب أن يكون كذلك غائبا وأما الجمع بالحد فكقول القائل حد العالم شاهدا من له العلم فيجب طرد الحد غائبا وأما الجمع بالشرط فكقولنا العلم مشروط بالحياة شاهدا فكذلك غائبا وأما الجمع بالدليل فكقولنا التخصيص والأحكام يدلان على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 العلم والإرادة شاهدا فكذلك غائبا واعلم إنه لما كان الجمع بالعلة أقوى الوجوه وجب علينا أن نتكلم فيه فنقول اعتماد القياس على مقدمتين إحداهما أن الحكم ثبت في الأصل لعلة كذا وثانيتهما أن تلك العلة حاصلة بتمامها في الصورة الآخرى فهاتان المقدمتان إن حصل العلم بهما حصل العلم بثبوت الحكم في الفرع وإن حصل الظن بهما حصل الظن بثبوت الحكم في الفرع وإنما قلنا إنه يلزم من حصول العلم بتينك المقدمتين حصول العلم بالنتيجة وذلك لأنه إذا ثبت أن ذلك المعنى مؤثر في ذلك الحكم ثم ثبت ذلك المعنى في صورة أخرى فنقول كون ذلك المعنى مؤثرا في ذلك الحكم في تلك الصورة إما أن يعتبر في تلك المؤثرية كونه حاصلا في تلك الصورة أو كونه غير حاصل في هذه الصورة وأما أن لا يعتبر فيها ذلك فإن كان الأول لم يكن ذلك المعنى اتمام العلة لأن مرادنا من تمام العلة كل ما لابد منه في المؤثرية فإذا كان لا بد من قيد كون المعنى هناك أو قيد كونه ليس هناك فذاك المعنى ليس وحده تمام العلة على التفسير الذي ذكرناه وإن كان الثاني فتمام المؤثر حصل في الأصل مستلزما للحكم وفي الفرع غير مستلزم للحكم مع أنه لم يختلف حاله ألبتة في الصورتين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 لا بحسب زوال شئ عنه ولا بحسب انضمام شئ إليه فيلزم حينئذ ترجح أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجح وهو محال فثبت بهذا البرهان الباهر أنه يلزم من العلم بتينك المقدمين حصول العلم بثبوت الحكم في الفرع وإذا ثبت هذا ظهر أن بتقدير حصول هاتين المقدمتين في العقليات كان القياس حجة فيها فإن قلت حاصل الكلام فيما ذكرته هو الاستدلال بحصول العلة على حصول المعلول وليس هو بقياس قلت بل هذا هو القياس فإنا إذا رأينا الحكم حاصلا في صورة معية ثم قامت الدلالة على أن المؤثر في ذلك الحكم هو الوصف الفلانى ثم قامت الدلالة على أن ذلك الوصف حاصل في هذه الصورة الثانية لزم القطع بحصول الحكم في الصورة الثانية بل تحصيل اليقين بهاتين المقدمتين أمر صعب وذلك لأنا وإن بينا أن الحاصل في الفرع مثل الحاصل في الأصل فالمثلان ولا لابد وأن يتغايرا بالتعين والهوية وإلا فهذا عين ذاك وذاك عين هذا فيكون كل واحد منهما عين الآخر فالاثنان واحد هذا خلف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 وإذا حصل التغاير بالتعين والهوية فلعل ذلك التعين في أحد الجانبين جزء العلة أو شرط العلية وفي الجانب الآخر يكون مانعا من العلية ومع هذا الاحتمال لا يحصل القطع وأعلم أن للمتكلمين طرقا في تعيين العلة أحدها التقسيم الذي لا يكون منحصرا فإذا قيل لهم لم لا يجوز وجود قسم آخر قالوا اجتهدنا في طلبه فما وجدناه وعدم الوجدان بعد الاستقصاء في الطلب يدل على عدم الوجود كالمبصر لم إذا طلب شيئا في الدار ونظر إلى جميع جوانبها في النهار فلم يجد قطع بالعدم وهذا ضعيف إذ رب موجود ما عرفناه بعد الطلب والقياس على نظر العين قياس من غير جامع وبتقدير ذكر الجامع فهو إثبات القياس بالقياس وهو باطل وثانيها الدوران الخارجى وقد تقدم بيان أنه لا يفيد الظن فضلا عن اليقين وثالثها الدوران الذهنى كقولهم متى عرفنا كون التكليف أمرا بالمحال عرفنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 قبحه وإن لم نعرف شيئا آخر ومتى لم نعرف كونه أمرا بالمحال لم نعرف قبحه وإن عرفنا سائر صفاته فإذن العلم بالقبح دائر مع العلم بكونه أمرا بالتكليف بالمحال في الذهن فهذا الدوران الذهنى يفيد الجزم بأن المؤثر في القبح هو نفس كونه أمرا بالتكليف فنقول كلامكم يشتمل على أمرين أحدهما أنه لما لزم من العلم بكونه أمرا بالمحال العلم بقبحه لزم أن يكون كونه أمرا بالمحال علة لقبحه والثاني أنه لما لم يلزم من العلم بسائر صفاته العلم بكونه قبيحا وجب أن لا يكون سائر صفاته علة لكونه قبيحا وأنتم منازعون في هذين المقامين فلا بد من الدلالة عليهما فإن العلم بهما ليس من العلوم الضرورية كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين وما رأيت أحدا من المتكلمين ذكر في تقرير هذين المقامين شيئا على أن الأول منقوض بجميع الإضافات فإنا متى علمنا كون هذا الشخص أبا علمنا كون هذا الشخص الآخر أبنا وكذا بالعكس مع أنه يستحيل أن يكون كون هذا أبا لذاك علة لكون ذلك أبنا لهذا لأن المضافين معا والعلة قبل المعلول والمع لا يكون قبل وأما الثاني فلأنه لا يمكن القطع بأنا إذا عرفنا سائر صفاته فإنه لا يحصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 العلم عند ذلك بكونه قبيحا إلا إذا عرفنا كل صفة فكيف يمكننا أن نقطع بأنا عرفنا كل صفاته فإنا إذا جوزنا أن يكون من الصفات ما لم نعرفه جوزنا في بعض تلك الصفات التي لم نعرفها أن يجب عند العلم به العلم بكونه قبيحا ومع هذا التجويز لا تتم هذه المقدمة سلمنا أنه لا يلزم من العلم بسائر الصفات العلم بكونه قبيحا فلم يدل هذا القدر على أن سائر الصفات لا يجوز أن تكون مؤثرة في القبح واعلم أن الكلام في تقرير هاتين المقدمتين مأخوذ من الفلاسفة فإنهم زعموا أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول فعلى هذا كل ما كان علة للقبح يلزم من العلم به العلم بالقبح وزعموا أن العلم اليقينى بوجود المعلول لا يحصل إلا من العلم بعلته فلما لزم الجزم بالقبح عند العلم بكونه أمرا بالتكليف بالمحال علمنا أن علة القبح ذلك ولكنا قد نقلنا في كتبنا الكلامية دلائلهم على هاتين المقدمتين وبينا ضعفهما وسقوطهما فلا نعيدهما هاهنا وبالله التوفيق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 المسألة الثانية الحق جواز القياس في اللغات وهو قول ابن سريج منا ونقل ابن جنى في الخصائص أنه قول أكثر علماء العربية كالمازني وأبي علي الفارسي وأما أكثر أصحابنا وجمهور الحنفية فينكرونه لنا وجوه الأول أنا رأينا أن عصر العنب لا يسمى خمرا قبل الشدة الطارئة فإذا حصلت تلك الشدة سميت خمرا فإذا زالت الشدة مرة أخرى زال الاسم والدوران يفيد ظن العلية فيحصل ظن أن العلة لذلك الاسم هو الشدة ثم رأينا الشدة حاصلة في النبيذ فيحصل ظن أن علة هذا الاسم حاصلة في النبيذ ويلزم من ظن حصول علة الاسم ظن حصول الاسم فإذا حصل ظن أنه مسمى بالخمر وعلمنا أو ظننا أن الخمر حرام حصل ظن أن النبيذ حرام والظن حجة فوجب الحكم بحرمة النبيذ فإن قيل الدوران إنما يفيد ظن العلية فيما يحتمل العلية وهاهنا لم يوجد الاحتمال لأنه ليس من بين شمن الألفاظ وشئ من المعاني مناسبة أصلا فأستحال ابن أن يكون شئ من المعاني داعيا للواضع إلى تسميته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 بذلك الاسم وإذا لم يوجد احتمال العلية هاهنا لم يكن الدوران ها هنا مفيدا لظن العلية سلمنا أنه حصل ظن العلية ولكن إنما يلزم من حصول العلة في الفرع حصول ذلك الحكم إذا اثبت أن تلك العلة إنما صارت علة لأن الشارع جعلها علة ألا آخر أنه لو قال اعتقت غانما لسواده فإذا كان له عبد آخر أسود لم يعتق عليه لأن ما يجعله الإنسان علة لحكم لا يجب أن يتفرع عليه الحكم أينما وجد فكذا هاهنا لا يلزم من كون الشدة علة لذلك الاسم حصول ذلك الاسم أينما حصلت الشدة إلا إذا عرفنا أن واضع الاسم هو الله تعالى والجواب عن الأول إنه لا يمكن جعل المعنى علة للاسم إذا فسرنا العلة بالداعي أو المؤثر أما إذا فسرنا بالمعرف فلا يمتنع كما أن الله تعالى جعل الدلوك علة لوجوب الصلاة لا بمعنى كون الدلوك مؤثرا أو داعيا بل بمعنى أن الله تعالى جعله معرفا فكذا هاهنا وعن الثاني أنا بينا أن اللغات توقيفية الثاني وهو الذي أعتمد عليه المازني وأبو علي الفارس رحمهما الله أنه لا خلاف بين أهل اللغة أن كل فاعل رفع وكل مفعول نصب وكذلك القول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 في جميع وجوه الإعراب وأن كل ضرب منها اختص بأمر انفرد به ولم يثبت ذلك إلا قياسا لأنهم لما وصفوا بعض الفاعلين به واستمروا على ذلك علم أنه ارتفع الفاعل لكونه فاعلا وانتصب المفعول لكونه مفعولا فإن قلت كيف يصح ذلك وقد وجد المفعول غير منتصب وكذا الفاعل قد لا يرتفع لعارض قلت تخلف الحكم عن العلة لمانع لا يقدح في العلية عند من يقول بتخصيص العلة ومن لا يقول به يجعل هذا القيد العدمي جزءا من العلة الثالث وهو أن أهل العربية أجمعوا على أن ما لم يسم فاعله إنما ارتفع لكونه شبيها بالفاعل في إسناد الفعل إليه ولم تزل فرق النحاة من الكوفيتين قوله والبصريين يعللون في الأحكام الإعرابية بأن هذا يشبه ذاك في كذا فوجب أن يشبهه في الإعراب وإجماع أهل اللغة في المباحث اللغوية حجة الرابع أن نتمسك بعموم قوله تعالى فاعتبروا فإنه يتناول كل الأقيسة واعتمادهم في الفرق على أن المعاني لا تناسب الألفاظ فأمتنع جعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 المعنى علة للاسم بخلاف الأحكام الشرعية فان المعاني قد تناسبها لكنا قد بينا سقوط هذا الفرق واحتج المخالف بأمور أحدها قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها دلت الآية على أنها بأسرها توقيفية فيمتنع في شئ منها أن يثبت بالقياس وثانيها أن أهل اللغة لو صرحوا وقالوا قيسوا لم يجز القياس كما اذا قال اعتقت غانما لسواده ثم قال قيسوا فإنه لا يجوز القياس فإذا لم يجز القياس عند التصريح بالأمر بالقياس فلأن لا يجوز ذلك مع أنه لم ينقل عن أهل اللغة نص في ذلك كان أولى وثالثها أن القياس إنما يجوز عند تعليل الحكم في الأصل وتعليل الأسماء غير جائز لأنه لا مناسبة بين شئ من الأسماء وبين شئ من المسميات وإذا لم يصح التعليل لم يصح القياس البتة ورابعها أن وضع اللغات ينافي جواز القياس فإنهم سموا الفرس الأسود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 أدهم ولم يسموا الحمار بن الأسود به وسموا الفرس الأبيض أشهب ولم يسموا الحمار الأبيض به وسموا صوت الفرس صهيلا صوت الحمار نهيقا له صوت الكلب نباحا وأيضا القارورة إنما سميت بهذا الاسم لأجل الاستقرار ثم أن ذلك المعنى حاصل في الحياض والأنهار مع أنها لا تسمى بذلك والخمر إنما سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل ثم المخامرة حاصلة في الأفيون وغيره ولا يسمى خمرا والجواب عن الأول أنه ليس في الآية أنه تعالى علم آدم الأسماء كلها توقيفا فيجوز أن يكون علم البعض توقيفا والبعض تنبيها بالقياس ولأنه يجوز أن يدرك آدم علمها توقيفا ونحن نعلمها قياسا كما أن جهات القبلة قد تدر ك حسا وقد تدرك اجتهادا وعن الثاني أنا ندعى أنه نقل إلينا بالتواتر عن أهل اللغة أنهم جوزوا القياس ألا ترى أن جميع كتب النحو والتصريف والاشتقاق مملوءة من الأقيسة وأجمعت الأمة على وجوب الأخذ بتلك الأقيسة فإنه لا نزاع إنه لا يمكن تفسير القرآن والأخبار إلا بتلك القوانين فكان ذلك إجماعا معلوما بالتواتر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 وعن الثالث ما قد بينا أنا نفسر العلة بالمعرف لا بالداعي ولا المناسب وحينئذ لا يقدح عدم المناسبة فيه وعن الرابع أن أقصى ما في الباب أنهم ذكروا صورا لا يجرى فيها القياس وذلك لا يقدح في العمل بالقياس كما أن النظام لما ذكر صورا كثيرا في الشرع لا يجرى فيها القياس لم يدل ذلك على المنع من القياس في الشرع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 المسألة الثالثة المشهور إنه لا يجوز إجراء القياس في الأسباب والدليل عليه أنا إذا قسنا اللواط مثلا على الزنا في كونه موجبا للحد فإما أن نقول إن كون الزنا موجبا للحد لأجل وصف مشترك بينه وبين اللواط وأما أن لا نقول ذلك فإن كان الأول كان الموجب للحد هو ذلك المشترك وحينئذ يخرج الزنا واللواط عن كونهما موجبين للحد لأن الحكم لما أسند إلى القدر المشترك استحال مع ذلك إسناده إلى خصوصية كل واحد منهما فإذن شرط القياس بقاء حكم الأصل والقياس في الأسباب ينافي بقاء حكم الأصل بخلاف القياس في الأحكام فإن ثبوت الحكم في الأصل لا ينافي كونه معللا بالقدر المشترك بينه وبين الفرع وأما إن قيل كون الزنا موجبا للحد ليس لأجل وصف مشترط بينه وبين اللواط استحال قياس اللواط عليه لأنه لا بد في القياس من الجامع فإن قلت الجامع بين الوصفين لا يكون له تأثير في الحكم بل تأثيره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 في علية الوصفين وأما الحكم فإنما يحصل من الوصفين قلت هذا باطل لأن ما صلح لعلية العلة كان صالحا لعلية الحكم فلا حاجة حينئذ إلى الوساطة المسألة الرابعة الحكم الذي طلب إثباته بالقياس أما النفى الأصلي أو الحكم الثبوتى ذلك المعلوم أو المظنون فلنتكلم في هذه الثلاثة فنقول اختلفوا في أن النفى الأصلي هل يمكن التوصل إليه بالقياس أو لا بعد اتفاقهم على أن استصحاب حكم العقل كاف فيه والحق أنه يستعمل فيه قياس الدلالة لا قياس العلة أما قياس الدلالة فهو أن يستدل بعدم اثار الشئ وعدم خواصه على عدمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 وأما تعذر قياس العلة فلأن الانتفاء الأصلي حاصل قبل الشرع فلا يجوز تعليه بوصف يوجد بعد ذلك ولقائل أن يقول علة الشرع لا معنى لها إلا المعرف وتأخر الدليل عن المدلول جائز واعلم إن هذا الكلام يختص ب العدم فأما الإعدام فإنه حكم شرعي يجرى فيه القياس وأما الذي طريقه العلم فقد اختلفوا في أنه هل يجوز استعمال القياس فيه وعندي أن هذا الخلاف لا ينبغى أن يقع في الجواز الشرعي فإنه لو أمكن تحصيل اليقين بعلة الحكم ثم تحصيل اليقين بأن تلك العلة حاصلة في هذه الصورة لحصل العلم اليقينى بأن حكم الفرع مثل حكم الأصل بل البحث ينبغى أن يقع في أنه هل يمكن تحصيل هذين اليقينين في الأحكام الشرعية أم لا وأما الذي طريقه الظن فلا نزاع في جواز استعمال القياس فيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 المسألة الخامسة اختلفوا في أنه هل يمكن إثبات أصول العبادات بالقياس أم لا فقال الجبائى والكرخي لا يجوز وبنى الكرخي عليه إنه لا يجوز إثبات الصلاة بإيماء الحاجب بالقياس واعلم أن هذا الخلاف يمكن حمله على وجهين الأول أن يقال الصلاة بإيماء الحاجب لو كانت مشروعة لوجب على النبي ص أن يبينها بيانا شافيا وينقله أهل التواتر إلينا حتى يصير ذلك معلوما لنا قطعا فلما لم يكن كذلك علمنا أن القول بها باطل والثاني أن يقال لا ندعي أنها لو كانت مشروعة لحصل العلم بها يقينا ولكنا مع ذلك نمنع من استعمال القياس فيه أما الأول فهو باطل بالوتر فإنه واجب عندهم مع أنه لم يعلم وجوبه قطعا فإن قلت إذا جوزت في ذلك أن لا يبلغ مبلغ التواتر فلعله عليه الصلاة والسلام أوجب صوم شوال ولم ينقل ذلك بالتواتر قلت المعتمد في نفيه الإجماع وأما الثاني فتحكم محض لأنه إذا جاز الاكتفاء فيه بالظن فلم لا يكتفى بالقياس ثم إنا نستدل على جوازه بعموم قوله تعالى فاعتبروا أو بما أنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 يفيد ظن الضرر فيكون العمل به واجبا المسألة السادسة مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يجوز إثبات التقديرات والكفارات والحدود والرخص بالقياس وقال أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله أنه لا يجوز وحاصل الخلاف أنه هل في الشريعة جملة من المسائل يعلم أنه لا يجوز استعمال القياس فيها أو ليس كذلك بل يجب البحث عن كل مسألة أنه هل يجرى القياس فيها أم لا لنا التمسك بعموم قوله تعالى فاعتبروا وبإطلاق قول معاذ أجتهد مع أن الرسول ص صوبه في إطلاقه وبأنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 يجب العمل بالضرر المظنون فإن ادعوا أنه لا يمكننا وجد أن العلة في هذه المسائل فذلك إنما يظهر بالبحث عن كل واحدة من هذه المسائل فإن وجدنا العلة فيها صح القياس وإلا فلا ولكن هذا المعنى غير مختص بهذه المسائل بل كل مسألة لا نجد العلة فيها تعذر علينا القياس واعلم أن الشافعي رضي الله عنه ذكر مناقضتهم في هذا الباب فقال أما الحدود فقد كثرت أقيستهم فيها حتى تعهدوها إلى الاستحسان فإنهم زعموا في شهود الزوايا أن المشهود عليه يجب رجمه بالاستحسان مع أنه على خلاف العقل فلأن يعمل بما وافق العقل كان أولى وأما الكفارات فقد قاسوا الإفطار بالأكل على الإفطار بالوقاع وقاسوا قتل الصيد ناسيا على قتله عمدا مع تقييد النص بالعمد في قوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 فإن قلت ليس هذا بقياس وإنما هو استدلال على موضع الحكم بحذف الفوارق الملغاة قلت أنكم لما لم تبينوا أن الحكم في الأصل يجب أن يكون معللا وأن العلة إما الذي به الاشتراك بين الأصل والفرع أو الذي به الامتياز وباطل أن لا يكون معللا وباطل أن يكون معللا بما فيه الامتياز فوجب التعليل بما به الاشتراك ويلزم من حصول ذلك المعنى في الفرع حصول الحكم فيه وهذا نفس القياس واستخراج العلة بطريق السبر والتقسيم وأما المقدرات فقد قاسوا فيها حتى إنهم ذهبوا إلى تقديراتهم في الدلو والبئر وأما الرخص فقد قاسوا فيها وبالغوا فإن الاقتصار على الأحجار في الاستنجاء من أظهر الرخص ثم حكموا بذلك في كل النجاسات نادرة كانت أو معتادة وانتهوا فيها إلى نفي إيجاب استعمال الأحجار وقالوا أيضا العاصي بسفره يترخص فأثبتوا الرخصة بالقياس مع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 أن القياس ينفيها لأن الرخصة إعانة والمعصية لا تناسب الإعانة احتج الخصم بقوله عليه الصلاة والسلام ادرؤا الحدود بالشبهات والقياس لا يفيد القطع فتحصل الشبهة وأما المقدرات فهي كالنصب في الزكوات والمواقيت في الصلوات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 وقالوا العقول لا تهتدى إليها وأما الرخص فقالوا أنها منح من الله تعالى فلا يعدل بها عن مواضعها وأما الكفارات فإنها على خلاف الأصل لكونها منفية بالنص النافي للضرر والجواب عنه أنها تشكل بالمسائل التي ذكرها الشافعي رضي الله عنه ثم نقول هذه الأدلة خضت بخبر الواحد فانه يجوز إثبات هذه الأشياء بخبر الواحد مع أنه لا يفيد العلم وما لأجله صار خبر الواحد مخصصا لها قائم في القياس الخاص فوجب تخصيصها بالقياس المسألة السابعة قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله ما طريقة العادة العادة والخلقة كأقل الحيض وأكثره وأقل النفاس وأكثره لا يجوز إثباته بالقياس لأن أسبابها غير معلومة لا قطعا ولا ظاهرا فوجب الرجوع فيها إلى قول الصادق المسألة الثامنة الأمور التي لا يتعلق بها عمل لا يجوز إثباتها بالقياس كقرآن النبي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 - صلى الله عليه وسلم - وإفراده ودخوله مكة صلحا أو عنوة فإن مثل هذه الأمور تطلب لتعرف لا ليعمل بها فلا يجوز الاكتفاء فيها بالظن المسألة التاسعة القياس إذا ورد بخلاف النص فالنص إما أن يكون متواترا أو آحادا فإن كان متواترا فالقياس أن نسخه كان مردودا وإن خصصه فقد ذكرنا الخلاف فيه في باب العموم والخصوص وإن كان آحادا فهو ما إذا ورد خبر الواحد على خلاف القياس وقد شرحنا الحال فيه في باب الخبر المسألة العاشرة يجوز التعبد بالنصوص في كل الشرع فإنه يمكن أن ينص الله تعالى على أحكام الأفعال على الجملة ويدخل تفصيلها فيها كما إذا نص على حرمة الربا في كل مطعوم فيدخل فيه كل مطعوم وأما التعبد بالقياس في الكل فمحال لأن القياس لا يصح إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل لكن أحكام الأصول شرعية لأن العقل لا يدل إلا على البراءة الأصلية فما عداها لا يثبت إلا بالشرع فلو كانت تلك الأحكام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 مثبتة بالقياس لزم الدور وهو محال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 الباب الثاني في شرائط الأصل أعلم أن الحكم في المقيس عليه إما أن يكون علة وفق قياس الأصول أو على خلاف قياس الأصول فلنذكر حكم كل واحد من هذين القسمين ثم نذكر ما ظن أنه شرط في هذا الباب مع أنه ليس بشرط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 القسم الأول في شرائط الأصل إذا كان حكمه على وفق قياس الأصول وهي ستة الأول ثبوت حكم الأصل لأن القياس عبارة عن تشبيه الفرع بالأصل في الحكم وذلك لا يمكن إلا بعد ثبوت الحكم في الأصل الثاني أن يكون الطريق إلى معرفة ذلك الحكم سمعيا وهو ظاهر على مذهبنا أن جميع الأحكام لا تعرف إلا بالسمع أما على مذهب من يثبت هذه الأحكام عقلا فقد احتجوا عليه بأنه لو كان ذلك الطريق عقليا لكانت معرفة ثبوت الحكم في الفرع عقلية فكان القياس عقليا لا سمعيا وهذا ضعيف لأن ثبوت الحكم في الفرع يتوقف على ثبوت الحكم في الأصل وعلى كون ذلك الحكم معللا بالوصف الفلانى وعلى حصول ذلك الوصف في الفرع فبتقدير أن تكون معرفة الأول عقلية يحتمل أن تكون المعرفتان الباقيتان سمعيتين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 محمد وحينئذ لا يمكن معرفة حكم الفرع إلا بمقدمات سمعية والمبنى على السمع سمعي فيكون ثبوت الحكم في الفرع سمعيا الثالث أن لا يكون طريق ثبوت الحكم في الأصل هو القياس لأن العلة التي يلحق بها الأصل القريب بالأصل البعيد إما أن تكون هي التي بها يلحق الفرع بالأصل القريب أو غيرها فإن كان الأول أمكن رد الفرع إلى الأصل البعيد فيكون دخول الأصل القريب لغوا وإن كان الثاني لزم تعليل حكم الأصل القريب بعلتين وهو محال أما أولا فلإنا إلى بينا أن تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين محال وأما ثانيا فلأنه لا يمكننا إثبات الحكم في الأصل القريب إلا بأن يتوصل إليه بالعلة الموجودة في الأصل البعيد ومتى توصلنا إلى ثبوته بتلك العلة امتنع تعليله بالعلة الموجودة في الفرع لأن تلك العلة إنما عرفت بعد أن عرف تعليل الحكم بعلة أخرى ومتى عرف ذلك كانت العلة الثانية عديمة الأثر فيكون التعليل بها ممتنعا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 الرابع أن لا يكون الدليل الدال على حكم الأصل دالا بعينه على حكم الفرع وإلا لم يكن جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا أولى من العكس الخامس لابد وأن يظهر كون ذلك الأصل معللا بوصف معين لأن رد الفرع إليه لا يصلح إلا بهذه الواسطة السادس قالوا يجب أن لا يكون حكم الأصل متأخرا عن حكم الفرع وهو كقياس الوضوء على التيمم في وجوب النية لأن التعبد بالتيمم إنما ورد بعد الهجرة والحق أن يقال لو لم يوجد على حكم الفرع دليل إلا ذلك القياس لم يجز تقدم الفرع على الأصل لأن قبل هذا الأصل لزم أن يقال كان هذا الحكم حاصلا من غير دليل وهو تكليف مالا يطاق أو ما كان حاصلا ألبتة فيكون ذلك كالنسخ وأما إن وجد قبل ذلك دليل أخر سوى القياس يدل على ذلك الحكم فجائز فإن ترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 القسم الثاني إذا كان الحكم في المقيس عليه على خلاف قياس الأصول فقال قوم من الشافعية والحنفية يجوز القياس عليه مطلقا وقال الكرخي لا يجوز إلا لإحدى خلال ثلاث إحداها أن يكون قد نص على علة ذلك الحكم لأن النص كالتصريح بوجوب القياس عليه وثانيها أن تجمع الأمة على تعليله وإن اختلفوا في تعليله فلا يجوز القياس عليه وثالثها أن يكون القياس عليه موافقا للقياس على أصول أخرى والحق أن يقال ما ورد بخلاف قياس الأصول إما أن يكون دليلا مقطوعا به أو غير مقطوع به فإن كان مقطوعا به كان أصلا بنفسه لأن مرادنا بالأصل في هذا الموضع هذا فكان القياس عليه كالقياس على غيره فوجب أن يرجح المجتهد بين القياسين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 يؤكده أنه إذا لم يمنع العموم من قياس يخصه فأولى أن لا يكون القياس على العموم مانعا من قياس يخالفه لأن العموم أقوى من القياس على العموم احتج الخصم بأن الخبر يخرج من القياس ما ورد فيه وما عداه باق على قياس الأصول والجواب أنه إذا أخرح ما ورد فيه ودلت أمارة على عليته اقتضى إخراج ما شاركه في تلك العلة ثم ليس بأن لا يخرج لشبهه بالأصول أولى من أن يخرج لشبهه بالمنصوص عليه أما إذا كان غير مقطوع به فإما أن تكون علة حكمة منصوصة أو لا تكون منصوصة فإن لم تكن منصوصة ولا كان القياس عليه أقوى من القياس على الأصول فلا شبهة في أن القياس على الأصول أولى من القياس عليه لأن القياس على ما طريق حكمة معلوم أولى من القياس على ما طريق حكمة غير معلوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 وإن كانت منصوصة فالأقرب أنه يستوى القياسان لأن القياس على الأصول يختص بأن طريق حكمه معلوم وإن كانت علة حكمه غير معلومة وهذا القياس طريق حكمه مظنون وعلته معلومة فكل واحد منهما قد اختص بحظ من القوة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 القسم الثالث فيما جعل شرطاً في هذا الباب مع أنه ليس بشرط وهو ثلاثة الأول زعم عثمان البتى أنه لا يقاس على الأصل حتى تقوم الدلالة على جواز القياس عليه وهو باطل من ثلاثة أوجه أحدها أن عموم قوله تعالى فاعتبروا ينفى هذا الشرط وثانيها أنا إذا ظننا كون الحكم في الأصل معللا بوصف ثم علمنا أو ظننا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 حصوله في الفرع حصل ظن أن حكم الفرع مثل حكم الأصل والعمل بالظن واجب وثالثها أن الصحابة حين استعملوا القياس في مسألة الحرام والجد وغيرها لم يعتبروا هذا الشرط الثاني زعم بشر المريسى أن شرط الأصل انعقاد الإجماع على كون حكمه معللا أو ثبوت النص على عين تلك العلة وعندنا أن هذا الشرط غير معتبر والدليل عليه الوجوه الثلاثة المذكورة الثالث قال قوم الأصل المحصور بالعدد لا يجوز القياس عليه حتى قالوا في قوله عليه الصلاة والسلام خمس يقتلن في الحل والحرم لا يقاس عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 والحق جوازه للوجوه الثلاثة واحتجوا بأن تخصيص ذلك العدد بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه وأيضا جواز القياس عليه يبطل ذلك الحصر والجواب يبطل ذلك بجواز القياس على الأشياء الستة في تحريم ربا الفضل وهذا أيضا دليل في أول المسألة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 الباب الثالث في الفرع وشرطه أن يوجد فيه مثل علة الحكم في الأصل من غير تفاوت ألبتة لا في الماهية ولا في الزيادة ولا في النقصان لأن القياس عبارة عن تعدية الحكم من محل إلى محل والتعدية لا تحصل إلا إذا كان الحكم المثبت في الفرع مثل المثبت في الاصل فإن قلت هذا يقتضى أن لا يكون قياس العكس حجة قلت قد بينا في أول كتاب القياس أن قياس العكس عبارة عن التمسك بنظم التلازم ابتداءا ثم إنا نثبت مقدمته الشرطية بقياس الطرد وأما الأمور التي اعتبرها قوم في الفرع مع أنها ليست معتبرة فهي ثلاثة الأول قال بعضهم يجب أن يكون حصول العلة في الفرع معلوما لا مظنونا وهذا باطل للنص والحكم والمعقول أما النص فهو أن عموم قوله تعالى فاعتبروا يقتضى حذف هذا الشرط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 وأما الحكم فهو أن الزنا والسرقة إذا ظهرا عند القاضي قضى بوجوب الحد لأن الطريق إليه شهادة الشهود وهى لا تفيد العلم وأما المعقول فهو أنه إذا حصل ظن كون الحكم معللا بذلك الوصف ثم حصل ظن ثبوت ذلك الوصف في الفرع حصل ظن أن الحكم في الفرع مثل الحكم في الأصل والعمل بالظن واجب مطلقا على ما بيناه الثاني قال أبو هاشم الحكم في الفرع يجب أن يكون معا ثبت جملة حتى يدل القياس على تفصيله ولولا أن الشرع ورد بميراث الجد وإلا لما استعملت الصحابة القياس في توريثه مع الإخوة وهذا باطل لأن أدلة القياس تحذف هذا القيد الثالث أن لا يكون الفرع منصوصا عليه وهو على قسمين لأن الحكم الذي دل النص عليه إما أن يكون مطابقا للحكم الذي دل عليه القياس أو مخالفا فإن كان الأول جاز استعمال القياس فيه عند الأكثرين لأن ترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز ومنعه بعضهم استدلالا بأن معاذا إنما عدل إلى الاجتهاد بعد فقدان النص فدل على أنه لا يجوز استعماله عند وجوده وأيضا فالدليل ينفي جواز العمل بالقياس لكونه اتباعا للظن وإن الظن لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 يغني من الحق شيئا ترك العمل به فيما إذا لم يوجد النص للضرورة فيبقى حال وجود النص على مقتضى الأصل والجواب عن الأول أن قصة معاذ دالة على أن التمسك بالقياس عند فقدان النص جائز فأما عند وجود النص فليس فيه دليل لا على جواز ولا على بطلانه وعن الثاني ما تقدم مرارا من أن العمل بالقياس ليس على خلاف الدليل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 خاتمة لهذا الباب هاهنا نوع آخر من القياس يستعمله أهل الزمان وهو أن يقال لو ثبت الحكم في الفرع لثبت في الأصل لأن بتقدير ثبوته في الفرع وجب أن يكون ثبوته لأجل المعنى الفلانى لمناسبته واقتران الحكم به وذلك المعنى حاصل في الأصل فيلزم ثبوت الحكم فيه فثبت أن الحكم لو ثبت في الفرع لثبت في الأصل فلما لم يثبت في الأصل وجب أن لا يثبت في الفرع ويمكن أن يذكر ذلك على وجه آخر أسد تلخيصا وهو أن يقال ثبوت الحكم في الفرع يفضى إلى محذور فوجب أن لا يثبت نماقلنا إنه يفضي إلى محذور لأنه لو ثبت الحكم في الفرع لكان إما أن يكون معللا بهذا الوصف الذي يشترك الفرع والأصل فيه أو لا يكون معللا به فإن كان الأول لزم النقص لأنه غير ثابت في الأصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 وإن كان الثاني لزم النقض لأن المناسبة والاقتران دليل العلية فحصولها بدون العلية يوجب النقض وهذا آخر كلامنا في القياس وبالله التوفيق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 الكلام في التعادل والترجيح وهو مرتب على أربعة أقسام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 القسم الأول في التعادل وفيه مسألتان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 المسألة الأولى اختلفوا في أنه هل يجوز تعادل الأمارتين فمنع منه الكرخى مطلقا وجوزه الباقون ثم المجوزون اختلفوا في حكمه عند وقوعه فعند القاضى أبي بكر منا وأبي على وأبي هاشم من المعتزلة حكه التخيير وعند بعض الفقهاء حكمه أنهما يتساقطان ويجب الرجوع إلى مقتضى العقل والمختار أن نقول تعادل الأمارتين إما أن يقع في حكمين متناقضين والفعل واحد وهو كتعارض الأمارتين على كون الفعل قبيحا ومباحا وواجبا وإما أن يكون في فعلين متنافيين والحكم واحد نحو وجوب التوجه إلى جهتين قد غلب على ظنه أنهما جهتا القبلة أما القسم الأول فهو جائز في الجملة لكنه غير واقع في الشرع أما أنه جائز في الجملة فلأنه يجوز أن يخبرنا رجلان بالنفى والإثبات وتستوى عدالتهما وصدق لهجتهما بحيث لا يكون لأحدهما مزية على الآخر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 وأما أنه في الشرع غير واقع فالدليل عليه أنه لو تعادلت أمارتان على كون هذا الفعل محظورا ومباحا فإما أن يعمل بهما معا أو يتركا معا أو يعمل بإحداهما دون الثانية والأول محال لأنه يقتضي كون الشئ الواحد في الوقت الواحد من الشخص الواحد محظورا مباحا وهو محال والثاني أيضا محال لأنهما لما كانتا في نفسيهما بحيث لا يمكن العمل بهما ألبتة كان وضعهما عبثا والعبث غير جائز على الله تعالى وأما الثالث وهو أن يعمل بإحداهما دون الأخرى فإما أن يعمل بإحداهما على التعيين أو لا على التعيين والأول باطل لأنه ترجيح من غير مرجح فيكون ذلك قولا في الدين بمجرد التشهي وإنه غير جائز والثاني أيضا باطل لأنا إذا اخيرناه كان بين الفعل والترك فقد أبحنا له الفعل فيكون هذا ترجيحا لأمارة الإباحة بعينها على أمارة الحظر وذلك هو القسم الذي تقدم إبطاله فثبت أن القول بتعادل الأمارتين في حكمين متنافيين والفعل واحد يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة فوجب أن يكون باطلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 فإن قيل لم لا يجوز العمل بإحدى الأمارتين على التعيين إما لأنها أحوط أو لأنها أخذ بالأصل سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون مقتضى التعادل هو التخيير قوله القول بالتخيير إباحة الفعل فيكون ذلك ترجيحا لأمارة الإباحة قلنا لا نسلم أن الأمر بالتخيير إباحة بيانه أنه يجوز أن يقول الله تعالى أنت مخير في الأخذ بأمارة الإباحة وبأمارة أبو الحظر إلا أنك متى أخذت بأمارة الإباحة فقد أبحت لك الفعل وإن أخذت بأمارة الحرمة فقد حرمت الفعل عليك فهذا لا يكون إذنا في الفعل والترك مطلقا بل إباحة في حال وحظرا في حال أخرى ومثاله في الشرع أن المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين فالركعتان واجبتان ويجوز تركهما بشرط أن يقصد الترخص وأيضا من استحق أربعة دراهم على غيره فقال تصدقت عليك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 بدرهمين إن قبلت وإن لم تقبل وأتيت بالأربعة قبلت الأربعة عن الدين واجب فإن شاء قبل الصدقة وأتى بدرهمين وإن شاء أتى بالأربعة عن الواجب فكذا في مسألتنا إذا سمع قوله تعالى وإن تجمعوا بين الأختين حرم عليه الجمع بين المملوكتين وإنما يجوز له الجمع إذا قصد العمل بموجب الدليل الثاني وهو قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم كما قال عثمان رضي الله عنه أحلتهما آية وحرمتهما آية سلمنا ذلك لكن هذه الدلالة إنما تتم عند تعارض أمارة الحظر والإباحة وأما عند تعارض أمارة الحظر والوجوب إذا قلنا بالتخيير لم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 يلزم ترجيح إحداهما على الأخرى فدليلكم على امتناع التعادل غير متناول لكل الصور سلمنا فساد القول بالتخيير فلم لا يجوز التساقط قوله لأنه عبث قلنا لا نسلم ولم لا يجوز أن يقال إن لله تعالى فيه حكمة خفية لا يطلع عليها وأيضا فهب أن التعادل في نفس الأمر ممتنع لكن لا نزاع في وقوع التعادل بحسب أذهاننا فإذا اجاز أن لا يكون التعادل الذهنى عبثا فلم لا يجوز أن لا يكون التعادل الخارجى عبثا أيضا ثم ما ذكرتموه يشكل بما إذا أفتى مفتيان أحدهما بالحل والآخر بالحرمة واستويا في ظن المستفتى ولم يوجد الرجحان فإنهما بالنسبة إلى العامي كالأمارة والجواب قوله لم لا يجوز العمل بإحداهما لأنه أحوط أو لأنه أصل قلنا إن جاز الترجيح بهاتين الجهتين فوجوده ينافي التعادل وإن لم يجز فقد بطل كلامك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 قوله لم قلت إن التخيير إباحة قلت لأن المحظور هو الذي منع من فعله والمباح هو الذي لم يمنع من فعله فإذا حصل الإذن في الفعل فقد ارتفع الحجر فلا يبقى الحظر ألبتة ولا معنى للإباحة إلا ذلك قوله ذلك الفعل محظور بشرط أن يأخذ بأمارة الحظر ومباح بشرط أن يأخذ بأمارة الإباحة قلنا هذا باطل من وجهين الوجه الأول هو أن أمارة الإباحة وأمارة الحظر إما أن تقوما على ذات الفعل وماهيته باعتبار واحد أو ليس كذلك بل تقوم أمارة الإباحة على الفعل المقيد بقيد وتقوم إمارة الحظر على الفعل المقيد بقيد آخر فإن كان الثاني كان ذلك مغايرا لهذه المسألة التي نحن فيها لأن هذه المسألة هي أن تقوم الأمارتان على إباحة شئ واحد وحظره وعلى التقدير الذي قالوا قامت أمارة الإباحة على شئ وأمارة الحظر على شئ آخر فإنهم لما قالوا عند الأخذ بأمارة الحرمة يحرم الفعل عليه فمعناه أن أمارة الحرمة قائمة على حرمة هذا الفعل حال الأخذ بأمارة الحرمة وأمارة الإباحة قائمة على إباحة هذا الفعل حال عدم الأخذ بأمارة الحرمة فالأمارتان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 أو إنما قامتا على شيئين متنافيين غير متلازمين لا على شئ واحد وكلامنا في قيام الأمارتين على حكمين متنافيين في شئ واحد لا في شيئين وإذا بطل هذا القسم ثبت القسم الأول وهو أن أمارة الحظر وأمارة الإباحة قامتا على ذات الفعل وماهيته باعتبار واحد فإن رفعنا الحظر عن ماهية الفعل كان ذلك إباحة فيكون ترجيحا لإحدى الأمارتين بعينها وإن لم نرفع ذلك كان ذلك حظرا فيكون ترجيحا للأمارة الأخرى بعينها الوجه الثاني في الجواب أن نقول ما المراد بالأخذ بإحدى الأمارتين إن عنيتم بهذا الأخذ اعتقاد رجحانها فهذا باطل لأنها إذا لم تكن راجحة كان اعتقاد رجحانها جهلا وأيضا فنفرض الكلام فيما إذا حصل العلم بأنه لا رجحان ففي هذه الصورة يمتنع حصول اعتقاد الرجحان وإن عنيتم بهذا الأخذ العزم على الإتيان بمقتضاها فذاك العزم إما أن يكون عزما جزما بحيث يتصل بالفعل لا محالة أو لا يكون كذلك فإن كان الأول كان الفعل في ذلك الوقت واجب الوقوع فيمتنع ورود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 الإباحة والحظر لأنه يكون ذلك إذنا في إيقاع ما يجب وقوعه أو منعا عن إيقاع إيقاع ما يجب وقوعه وإن كان الثاني وهو أن يكون العزم عزما فاترا فهاهنا يجوز له الرجوع لأنه إذا عزم عزما فاترا على الترك فلو أراد الرجوع عن هذا العزم وقصد الإقدام على الفعل جاز له ذلك فعلمنا أن ما قالوه فاسد قوله هذه الدلالة لا تطرد عند تعارض أمارتى) الوجوب والحظر قلنا لا قائل بالفرق وأيضا فالإباحة منافية للوجوب والحظر فعند تعادل أمارتى الوجوب والحظر لو حصلت الإباحة لكان ذلك قولا بتساقطهما وإثباتا لحكم لم يدل عليه دليل أصلا قوله لم لا يجوز أن يكون في التساقط حكمة خفية قلنا لأن المقصود من وضع الأمارة أن يتوسل بها إلى المدلول فإذا كان هو في ذاته بحيث يمتنع التوسل به إلى الحكم كان خاليا عن المقصود الأصلي منه ولا معنى للعبث إلا ذلك وهذا بخلاف وقوع التعارض في أفكارنا لأن الرجحان لما كان حاصلا في نفس الأمر لم يكن واضعه عابثا بل غايته أنا لقصورنا أو تقصيرنا ما انتفعنا به أما إذا كان الرجحان مفقودا في نفس الأمر كان الواضع عابثا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 وأما القسم الثاني وهو تعادل الأمارتين في فعلين متنافيين والحكم واحد فهذا جائز ومقتضاه التخيير والدليل على جوازه وقوعه في صور إحداها قوله عليه الصلاة والسلام في زكاة الإبل في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة فمن ملك مائتين فقد ملك أربع خمسينات وخمس أربعينات فإن أخرج الحقاق فقد أدى الواجب إذ عمل بقوله في كل خمسين حقة وإن أخرج بنات اللبون فقد عمل بقوله عليه الصلاة والسلام في كل أربعين بنت لبون وليس أحد اللفظين اولى من الآخر فيتخير وثانيها من دخل الكعبة فله أن يستقبل أي جانب شاء لأنه كيف فعل فهو مستقبل شيئا من الكعبة وثالثها أن الولى إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه ولو قسمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 عليهما أو منعهما لماتا ولو سقى أحدهما مات الآخر فهاهنا هو مخير بين أن يسقى هذا فيهلك ذاك أو ذاك فيهلك هذا ولا سبيل إلا التخيير ورابعها أن ثبوت الحكم في الفعلين المتنافيين نفس إيجاب الضدين وذلك يقتضى اجياب عبد إيجاب فعل كل واحد منهما بدلا عن الآخر واحتج الخصم على فساد التخيير بأن أمارة وجوب كل واحد من الفعلين اقتضت وجوبه على وجه لا يسوغ الإخلال به والتخيير بينه وبين ضده يسوغ الإخلال به فالقول بالتخيير مخالف لمقتضى الأمارتين معا والجواب أما أمارة وجوب الفعل فتقتضى وجوبه قطعا وأما المنع من الإخلال به على كل حال فموقوف على عدم الدلالة على قيام غيره مقامه وإذا كان كذلك لم يكن التخيير مخالفا لمقتضى الأمارتين فرع هذا التعادل إن وقع للإنسان في عمل نفسه كان حكمه فيه التخيير وإن وقع للمفتى كان حكمه أن يخير المستفتى في العمل بأيهما شاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 كما يلزمه ذلك في أمر نفسه وإن وقع للحاكم وجب عليه التعيين لأن الحاكم نصب لقطع الخصومات فلو خير الخصمين لم تنقطع خصومتهما لأن كل واحد منهما يختار الذي هو أوفق له وليس كذلك حال المفتى فإن قلت فهل للحاكم أن يقضى في الحكومة بحكم إحدى الأمارتين إذا كان قد قضى فيها من قبل بالأمارة الأخرى قلت لا يمتنع ذلك عقلا كمن يجوز لمن استوى عنده جهتا القبلة أن يصلى مرة إلى جهة ومرة إلى جهة أخرى إلا أنه منع منه دليل شرعي وهو ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي بكرة رضي الله عنه لا تقضين في شئ واحد بحكمين مختلفين فأما ما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في المسألة الحمارية بحكمين وقال ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي فيجوز أن يكون ذلك ليس لتعادل الأمارت بل لأنه ظن في المرة الأولى قوة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 تلك الأمارة وفي المرة الثانية قوة هذه الأمارة المسألة الثانية إذا نقل عن المجتهد قولان فإما أن يوجد له في المسألة قولان في موضع واحد أو في موضعين فإن وجد القولان في موضعين بأن يقول في كتاب بتحريم شئ وفي كتاب آخر بتحليله فإما أن يعلم التاريخ أو لا يعلم فإن علم التاريخ فالثاني منهما رجوع عن الأول ظاهرا وإن لم يعلم التاريخ حكى عنه القولان ولا يحكم عليه بالرجوع إلى أحدهما بعينه وإن وجد القولان في الموضع الواحد بأن يقول في المسألة قولان فإما أن يقول عقيب هذا القول ما يشعر بتقوية أحدهما فيكون ذلك قولا له لأن قول المجتهد ليس إلا ما ترجح عنده وإن لم يقل ذلك فهاهنا من الناس من قال إنه يقتضي التخيير إلا أنا أبطلنا ذلك وأيضا فبتقدير صحته يكون له في المسألة قول واحد وهو التخيير لا قولان بل الحق أن ذلك يدل على أنه كان متوقفا في المسألة ولم يظهر له وجه رجحان والمتوقف في المسألة لا يكون له فيها قول واحد فضلا عن القولين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 أما إذا لم يعرف قوله في المسألة وعرف قوله في نظيرها فهل يجعل قوله في نظيرها قولا له فيها فنقول إن كان بين المسألتين فرق يجوز أن يذهب إليه ذاهب لم يحكم بأن قوله في المسألة كقوله في نظيرها لجواز أن يكون قد ذهب إلى الفرق وإن لم يكن بينهما فرق ألبتة فالظاهر أن قوله في إحدى المسألتين قول له في الأخرى وأما الأقوال المختلفة عن الشافعي رضي الله عنه فهي على وجوه أحدها أن يكون قد ذكر في كتبه القديمة شيئا وفي كتبه الجديدة شيئا آخر والناس نقلوهما عليه دفعة واحدة وجعلوهما قولين له فالمتأخر كالناسخ للمتقدم وهذا النوع من التصرف يدل على علو شأنه في العلم والدين أما في العلم فلأنه يعرف به أنه كان طول عمره مشتغلا بالطلب والبحث والتدبر وأما في الدين فلأنه يدل على أنه متى لاح له في الدين شئ أظهره فإنه ما كان يتعصب لنصرة قوله وترويج مذهبه بل كان منتهى مطلبه إرشاد الخلق إلى سبيل الحق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 وثانيها أن يكون قد ذكر القولين في موضع واحد ونص على الترجيح كقوله في بعض ما ذكر فيه قولين وبهذا أقول وهذا أولى وبالحق أشبه وأيضا فقد يفرع على أحدهما ويترك التفريع على الآخر فيعلم أن الذي فرع عليه أقوى عنده وأيضا فربما نبه في آخر كلامه على الترجيح لكن المطالع قد لا يتبع كلامه إلى آخره وقد يمل فلا ينتبه لموضع الترجيح وثالثها أن يقول في هذه المسألة قولان ولا ينبه على الترجيح ألبتة فهاهنا احتمالان أحدهما أنه قال في هذه المسألة قولان ولم يقل لي فيها قولان فيمكن أن يكونا قولين لبعض الناس وإنما ذكرها لينبه الناظر في كتابه على مأخذهما وإيضاح القول فيما لكل واحد منهما وعليهما ولأنه لو لم يذكرهما فربما خطر ببال إنسان وجه في قوته إلا أنه لا يمكنه القول به لظنه أنه قول حادث خارق للإجماع فإذا نقله عرف أن المصير إليه ليس خرقا للإجماع ثم جاء الناقل فجعلهما قولين للشافعى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 فهذا لا يكون عيبا على الشافعى بل على الناقل فإن الشافعى لم يقل لي فيها قولان بل قال فيها قولان فإذا جزم الراوى بكونهما قولين للشافعى كان العيب على الناقل وثانيهما لعل مراد الشافعى بقوله فيها قولان أن في المسألة احتمالين يمكن أن يقول بهما قائل وذلك إذا كان ما سوى ذينك القولين ظاهر البطلان فأما ذانك القولان فيكونان قويين بحيث يمكن نصرة كل واحد منهما بوجوه جلية ظاهرة ولا يقدر على تمييز الحق منهما عن الباطل إلا البالغ في التحقيق فلا جرم أفردهما بالذكر دون سائر الوجوه وكما أنه يجوز أن يقال للخمر التي في الدن إنها مسكرة وللسكين أبي التي لم تقطع إنها قاطعة والمراد منه الصلاحية لا الوقوع فكذلك ها هنا ثم أنه لم يرجح أحدهما على الآخر لأنه لم يظهر له فيه وجه الترجيح ونقل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن الشيخ أبي حامد الاسفراييني أنه قال لم يصح عن الشافعي رضي الله عنه قولان على هذا الوجه إلا في سبع عشرة مسألة أقول وهذا أيضا يدل على كمال منصبه في العلم والدين أما العلم فلأن كل من كان أغوص نظرا وأدق فكرا وأكثر إحاطة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 بالأصول والفروع وأتم وقوفا على شرائط الأدلة كانت الإشكالات عنده أكثر أما المصر على الوجه الواحد طول عمره في المباحث الظنية بحيث لا يتردد فيه فذاك لا يكون إلا من جمود الطبع وقلة الفطنة وكلال القريحة وعدم الوقوف على شرائط الأدلة والاعتراضات وأما الدين فمن وجهين الأول أنه لما لم يظهر له فيه وجه الرجحان لم يستح من الاعتراف بعدم العلم ولم يشتغل بالترويج (والمداهنة بل صرح بعجزه عما هو عاجز فيه وذلك لا يصدر إلا عن الدين المتين كيف وقد نقل عن عمر رضي الله عنه اعترافه بعدم العلم في كثير من المسائل وجميع المسلمين عدوا ذلك من مناقبه وفضائله فكيف جعلوه عيبا هاهنا والثاني وهو أنه رضي الله عنه لم يقل ابتداءا إنى لا اعرف هذه المسألة بل وجد المسألة واقعة بين أصلين فذكر وجه وقوعها بينهما وكيفية اشتباهها بهما ثم طا لم يظهر له الرجحان تركها على تلك الحالة ليكون ذلك بعثا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 له على الفكر بعد ذلك وحثا لغيره من المجتهدين على طلب الترجيح وهذا هو اللائق بالدين المتين والعقل الرصين والعلم الكامل بل من أنصف واعترف بالحق علم أن ذلك مما يدل على رجحان حاله على حال سائر المجتهدين في العلم والدين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 القسم الثاني في مقدمات الترجيح وفيه مسائل المسألة الأولى الترجيح تقوية أحد الطريقين على الآخر ليعلم الأقوى فيعمل به ويطرح الآخر وإنما قلنا طريقين لأنه لا يصح الترجيح بين أمرين إلا بعد تكامل كونهما طريقين لو انفرد كل واحد منهما فإنه لا يصح ترجيح الطريق على ما ليس بطريق المسألة الثانية الأكثرون اتفقوا على جواز التمسك بالترجيح وأنكره بعضهم وقال عند التعارض يلزم التخيير أو التوقف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 لنا وجوه الأول إجماع الصحابة على العمل بالترجيح فإنهم قدموا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين على قول من روى انما الماء من الماء وخبر من روت من أزواجه أنه كان يصبح جنبا على ما روى أبو هريرة أنه من أصبح جنبا فلا صوم له وقوى علي خبر أبي بكر فلم يحلفه وحلف غيره وقوى أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة بموافقة محمد بن مسلمة وقوى عمر خبر أبي موسى في الاستئذان بموافقة أبي سعيد الخدري الثاني أن الظنين إذا تعارضا ثم ترجح أحدهما على الآخر كان العمل بالراجح متعينا عرفا فيجب شرعا لقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن الثالث أنه لو لم يعمل بالراجح لزم العمل بالمرجوح وترجيح المرجوح على الراجح ممتنع في بدائه العقول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 واحتج المنكر بأمرين الأول أن الترجيح لو اعتبر من الأمارات لاعتبر في البينات في الحكومات لأنه لو اعتبر لكانت العلة في اعتباره ترجيح الأظهر على الظاهر وهذا المعنى قائم هاهنا الثاني أن إيماء قوله تعالى فاعتبروا وقوله عليه الصلاة والسلام نحن نحكم بالظاهر يقتضي إلغاء زيادة الظن والجواب عن الأول والثاني أن ما ذكرته دليل ظنى وما ذكرناه قطعى والظنى لا يعارض القطعى المسألة الثالثة الترجيح لا يجرى في الأدلة اليقينية لوجهين الأول أن شرط الدليل اليقيني أن يكون مركبا من مقدمات ضرورية أو لازما عنها لزوما ضروريا إما بواسطة واحدة أو بوسائط شأن كل واحد منها ذلك وهذا لا يتأتى إلا عند اجتماع علوم أربعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 أحدها العلم الضرورى بحقيقة المقدمات إما ابتداءا أو استنادا وثانيها العلم الضرورى بصحة تركيبها وثالثها العلم الضرورى بلزوم النتيجة عنها ورابعها العلم الضروري بأن ما يلزم عن الضرورى لزوما ضروريا فهو ضرورى فهذه العلوم الأربعة يستحيل حصولها في النقيضين معا وإلا لزم القدح في الضروريات وهو سفسطة وإذا استحال ثبوتها امتنع التعارض الثاني أن الترجيح عبارة عن التقوية والعلم اليقينى لا يقبل التقوية لأنه إن قارنه احتمال النقيض ولو على ابعد الوجوه كان ظنا لا علما وإن لم يقارنه ذلك لم يقبل التقوية المسألة الرابعة أشتهر في الألسنة أن العقليات لا يجرى الترجيح فيها وهذا فيه تفصيل فإنا إن لم نكلف العوام بتحصيل العلم بالمعتقدات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 ما بل قنعنا منهم بالاعتقاد الجازم على سبيل التقليد لم يمتنع تطرق التقوية إليه المسألة الخامسة مذهب الشافعي رضي الله عنه حصول الترجيح بكثرة الأدلة وقال بعضهم لا يحصل ومن صور المسألة ترجيح أحد الخبرين على الآخر لكثرة الرواة لنا وجهان الأول أن الأمارات متى كانت أكثر كان الظن أقوى ومتى كان الظن أقوى تعين العمل به بيان الأول من وجوه أحدها أن الرواة إذا بلغوا في الكثرة حدا حصل العلم بقولهم وكلما كانت المقاربة إلى ذلك الحد أكثر وجب أن يكون اعتقاد صدقهم أقوى وثانيها أن قول كل واحد منهم يفيد قدرا من الظن فإذا اجتمعوا استحال أن لا يحصل إلا ذلك القدر الذي كان حاصلا بقول الواحد وإلا فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وهو محال فإذن لا بد من الزيادة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 وثالثها أن احتراز العدد عن تعمد الكذب أكثر من احتراز الواحد وكذا احتمال الغلط والنسيان على العدد أبعد ورابعها أن احتراز العاقل عن كذب يعرف اطلاع غيره عليه أكثر من احترازه عن كذب لا يشعر به غيره وخامسها أنا إذا فرضنا دليلين متعارضين يتساويان في القوة في ذهننا فإذا وجد دليل أخر يساوى أحدهما فمجموعهما لابد وأن يكون زائدا على ذلك الآخر لأن مجموعهما أعظم من كل واحد منهما وكل واحد منهما مساو لذلك الآخر والأعظم من المساوى أعظم وسادسها إجتماع الصحابة على أن الظن الحاصل بقول الاثنين أقوى من الظن الحاصل بقوا الواحد فإن الصديق لم يعمل بخبر المغيرة في مسألة الجدة حتى شهد له محمد بن مسلمة وعمر لم يقبل خبر أبي موسى حتى شهد له أبو سعيد الخدرى فلولا أن لكثرة الرواة أثرا في قوة الظن وإلا لما كان كذلك فثبت بهذه الوجوه أن الظن إذا كان أقوى وجب أن يتعين العمل به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 وذلك لأنا أجمعنا على جواز الترجيح بقوة الدليل وجواز الترجيح بقوة الدليل إنما كان لزيادة القوة في أحد الجانبين وهذا المعنى حاصل في الترجيح بكثرة الأدلة بلى إذا كان الترجيح بالقوة حصلت الزيادة مع المزيد عليه ولا فرق إلا أن في الترجيح بالقوة وجدت الزيادة مع المزيد عليه وفي الترجيح بالكثرة حصلت الزيادة في محل والمزيد عليه في محل آخر والعلم الضروري حاصل بأنه لا أثر لذلك الوجه الثاني في المسألة أن مخالفة كل دليل خلاف الأصل فإذا وجد في أحد الجانبين دليلان وفي الجانب الآخر دليل واحد كانت مخالفة الدليلين أكثر محذورا من مخالفة الدليل الواحد فاشترك الجانبان في قدر من المحذور واختص أحدهما بقدر زائد لم يوجد في الطرف الآخر ولو لم يحصل الترجيح لكان ذلك التزاما لذلك القدر الزائد من المحذور من غير معارض وأنه غير جائز واحتج الخصم بالخبر والقياس أما الخبر فقوله عليه الصلاة السلام نحن نحكم بالظاهر فهذا بإيماءه لا يدل على أن المعتبر أصل الظهور وأن الزيادة عليه ملغاة ترك العمل به في الترجيح بقوة الدليل لأن هناك الزيادة مع المزيد عليه حاصلان في محل والقوى حال اجتماعها تكون أقوى منها حال تفرقها بخلاف الترجيح بكثرة الدليل فإن هناك الزيادة في محل والمزيد عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 في محل آخر فلا يحصل كمال القوة أما القياس فقد أجمعنا على أنه لا يحصل الترجيح بالكثرة في الشهادة والفتوى فكذا هاهنا وأيضا أجمعنا على أن الخبر الواحد لو عارضه ألف قياس فإنه يكون راجحا على الكل وذلك يدل على أن الترجيح لا يحصل بكثرة الأدلة والجواب عن الأول أن ذلك الإيماء ترك العمل به في الترجيح بالقوة فوجب أن يترك العمل به في الترجيح بالكثرة لأن المعتبر قوة الظن وهى حاصلة في الموضعين أما قوله إن في الترجيح بالقوة تحصل الزيادة مع المزيد في محل واحد وللإجتماع أثر قلت نحن نعلم أنه وإن كان محل الزيادة مغايرا الأصل لكن مجموعهما مؤثر في تقوية الظن فإنه إذا أخبرنا مخبر عدل عن واقعة حصل ظن ما فإذا أخبرنا ثان صار ذلك الظن أقوى وإذا أخبرنا ثالث صار ذلك الظن أقوى ولا تزال القوة تزداد بازدياد المخبرين حتى ينتهي إلى العلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 فعلمنا أن ما ذكروه من الفرق لا يقدح في كونه مقويا للظن وأما فصل الشهادة فعند مالك رحمه الله يحصل الترجيح فيها بكثرة الشهود والفرق أن الدليل يأبى اعتبار الشهادة حجة لما فيه من توهم الكذب والخطأ وتنفيذ قول شخص على شخص مثله إلا أنا اعتبرناها فصلا للخصومات فوجب أن تعتبر حجة على وجه لا يفضى إلى تطويل الخصومات لئلا يعود على موضوعه بالنقض فلو أجرينا فيه الترجيح بكثرة العدد لزم تطويل الخصومة فإنهما إذا أقاما الشهادة من الجانبين على السوية كان لأحدهما أن يستمهل القاضي ليأتى بعدد آخر من الشهود فإذا أمهله من إقامتها بعد انقضاء المدة كان للاخر أن يفعل ذلك ويفضى ذلك إلى أن لا تنقطع الخصومة ألبتة فأسقط الشرع اعتبار الترجيح بالكثرة دفعا لهذا المحذور وأما الترجيح بكثرة المفتين فقد جوزه بعض العلماء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 وأما قوله الخبر الواحد يقدم على القياسات الكثيرة قلنا إن كانت أصول تلك القياسات شيئا واحدا فالخبر الواحد يقدم عليها وذلك لأن تلك القياسات لا تتغاير إلا إذا عللنا حكم الأصل في كل قياس بعلة أخرى والجميع بين كلها محال لما عرفت إنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين وإذا علمنا أن الحق منها ليس إلا الواحد لم تحصل هناك كثرة الأدلة أما إن كان أصول تلك القياسات كثيرة فلا نسلم أنه لا يحصل الترجيح المسألة السادسة إذا تعارض الدليلان فالعمل بكل واحد منهما من وجه دون أولى من العمل بأحدهما دون الثاني لأن دلالة اللفظ على جزء مفهومه دلالة تابعة لدلالته على كل مفهومه ودلالته على كل مفهومه دلالة أصلية فإذا عملنا بكل واحدة منهما بوجه دون وجه فقد تركنا العمل بالدلالة التبعية وإذا عملنا بأحدهما دون الثاني فقد تركنا العمل بالدلالة الأصلية ولا شك أن الأول أولى فثبت أن العمل بكل واحد منهما من وجه دون وجه أولى من العمل بأحدهما من كل وجه دون الثاني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 إذا ظهر ذلك فنقول العمل بكل واحد من وجه ثلاثة أنواع أحدها الاشتراك والتوزيع إن كان قبل التعارض يقبل ذلك وثانيها أن يقتضى كل واحد منهما حكما ما فيعمل بكل واحد منهما في حق بعض الأحكام وثالثها العامان إذا تعارضا يعمل بكل واحد منهما في بعض الصور كقوله عليه الصلاة والسلام ألا أخبركم بخير الشهداء قيل بلى يا رسول الله قال أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد وقوله عليه الصلاة والسلام ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد فيعمل بالأول من حقوق الله والثاني في حقوق العباد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 المسألة السابعة اذا تعارض دليلان فإما أن يكونا عامين أو خاضيبن على أو أحدهما عاما والآخر خاصا أو كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه وعلى التقديرات الأربعة فإما أن يكونا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا وعلى التقديرات كلها فإما أن يكون المتقدم معلوما والمتأخر معلوما أو لا يكون واحد منهما معلوما فلنذكر أحكام هذه الأقسام القسم الأول أن يكون عامين فإما أن يكونا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا النوع الأول أن يكونا معلومين فإما أن يكون التاريخ معلوما أو لا يكون فإن كان معلوما فإما أن يكون المدلول قابلا للنسخ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 أو لا يكون فإن قبله جعلنا المتأخر ناسخا للمتقدم سواء كانا آيتين أو خبرين أو أحدهما آية والآخر خبرا متواترا فإن قلت فما قول الشافعى هاهنا مع أن مذهبه أن القرآن لا ينسخ بالخبر المتواتر ولا بالعكس قلت هذا التقسيم لا يفيد إلا أنه لو وقع لكان المتأخر ناسخا للمتقدم والشافعى يقول لم يقع ذلك فليس بين مقتضى هذا التقسيم وبين قول الشافعى منافاة وإن كان مدلولهما غير قابل للنسخ فيتساقطان ويجب الرجوع إلى دليل آخر هذا إذا علم تقدم أحدهما على الآخر فإما إذا علم أنهما تقارنا فإن أمكن التخيير فيهما تعين القول به فإنه إذا تعذر الجمع لم يبق إلا التخيير ولا يجوز أن يرجح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد لما عرفت أن المعلوم لا يقبل الترجيح ولا يجوز الترجيح بما يرجع إلى الحكم أيضا نحو كون أحدهما حاظرا أو مثبتا حكما شرعيا لأنه يقتضى طرح المعلوم بالكلية وإنه غير جائز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 وإما اذا لم يعلم التاريخ فهاهنا يجب الرجوع إلى غيرهما لأنا نجوز في كل واحد منهما أن يكون هو المتأخر فيكون ناسخا للآخر النوع الثاني أن يكونا مظنونين فإن نقل تقدم أحدهما على الآخر كان المتأخر ناسخا وإن نقلت المقارنة أو لم يعلم شئ من ذلك وجب الرجوع إلى الترجيح فيعمل بالأقوى وإن تساويا كان التعبد فيهما التخيير النوع الثالث أن يكون أحدهما معلوما والآخر مظنونا فإما أن ينقل تقدم أحدهما على الآخر أو لا ينقل ذلك فإن نقل وكان المعلوم هو المتأخر كان ناسخا للمتقدم وإن كان المظنون هو المتأخر لم ينسخ المعلوم وإن لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر وجب العمل بالمعلوم لأنه إن كان هو المتأخر كان ناسخا وإن كان هو المتقدم لم ينسخه المظنون وإن كان مقارنا كان المعلوم راجحا عليه لكونه معلوما القسم الثاني من الأقسام الأربعة أن يكونا خاصين والتفصيل فيه كما في العامين من غير تفاوت القسم الثالث أن يكون كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه كما في قوله تعالى وإن تجمعوا بين الأختين مع قوله إلا ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 ملكت أيمانكم وكما في قوله عليه الصلاة والسلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها مع نهيه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في الأوقات الخمسة المكروهة فإن الأول عام في الأوقات خاص في صلاة القضاء والثاني عام في الصلاة خاص في الأوقات فهذان العمومان إما أن يعلم تقدم أحدهما على صاحبه أو لا يعلم فإن علم وكانا معلومين أو مظنونين أو كان المتقدم مظنونا والمتأخر معلوما كان المتأخر ناسخا للمتقدم على قول من قال العام ينسخ الخاص المتقدم لأنه إذا كان عندهم أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم فما لم يثبت كونه أعم من اللفظ المتقدم أولى بأن يكون ناسخا وإن كان المتقدم معلوما والمتأخر مظنونا لم يجز عندهم أن ينسخ الثاني الأول ووجب الرجوع فيهما إلى الترجيح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 فأما من يقول أن العام المتأخر يبنى على الخاص المتقدم والخاص المتأخر يخرج بعض ما دخل تحت العام المتقدم فاللائق بمذهبه أن لا يقول في شئ من هذا لأقسام بالنسخ بل يذهب إلى الترجيح لأنه ليس يتخلص كون المتأخر أخص من المتقدم حتى يخرج من المتقدم ما دخل تحت المتأخر وإما اذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر فإن كانا معلومين لم يجز ترجيح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد لكن يجوز الترجيح بما يتضمنه أحدهما من كونه حاظرا أو مثبتا حكما شرعيا لأن الحكم بذلك طريقة الاجتهاد وليس في ترجيح أحدهما على الآخر اطراح الآخر بخلاف ما إذا تعارضا من كل وجه فإن لم يترجح أحدهما على الآخر فالحكم التخيير وأما إذا كانا مظنونين جاز ترجيح كل واحد منهما على الآخر بقوة الإسناد وبما تضمنه الحكم وإذا لم يترجح فالحكم التخيير وأما إن كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا جاز ترجيح المعلوم على المظنون لكونه معلوما فإن ترجح المظنون عليه بما يتضمن الحكم حتى حصل التعارض فإن الحكم ما قدمناه القسم الرابع إذا كان أحدهما عاما والآخر خاصا فإن كانا معلومين أو مظنونين وكان الخاص متأخرا كان ناسخا للعام المتقدم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 وإن كان العام متأخرا كان ناسخا للخاص المتقدم عند الحنفية وعندنا أنه يبنى العام على الخاص وإن وردا معا خص العام بالخاص إجماعا وإن جهل التاريخ فعندنا يبنى العام على الخاص وعند الحنفية يتوقف فيه وأما إن كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا فقد اتفقوا على تقديم المعلوم على المظنون إلا إذا كان المعلوم عاما والمظنون خاصا ووردا معا وذلك مثل تخصيص الكتاب والخبر المتواتر بخبر الواحد والقياس وقد ذكرنا أقوال الناس فيهما في باب العموم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 القسم الثالث في تراجيح الأخبار ترجيح الخبر إما أن يكون بكيفية إسناده أو بوقت وروده أو بلفظه أو بحكمه أو بأمر خارج عن ذلك القول في التراجيح الحاصلة في الإسناد واعلم أن الترجيح إما أن يقع بكثرة الرواة أو بأحوالهم أما الواقع بكثرة الرواة فمن وجهين أحدهما أن الخبر الذي رواته أكثر راجح على الذي لا يكون كذلك وقد تقدم بيانه الثاني أن يكون أحدهما أعلى إسنادا فإنه مهما كانت الرواة أقل كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 احتمال الكذب والغلط أقل ومهما كان ذلك أقل كان احتمال الصحة أظهر وإذا كان أظهر وجب العمل به فعلو الإسناد راجح من هذا الوجه لكنه مرجوح من وجه آخر وهو كونه نادرا وأما التراجيح الحاصلة بأحوال الرواة فهى إما العلم أو الورع أو الذكاء أو الشهرة أو زمان الرواية أو كيفية الرواية أما التراجيح الحاصلة بالعلم فهى على وجوه أحدها أن رواية الفقيه راجحة على رواية غير الفقيه وقال قوم هذا الترجيح إنما يعتبر في خبرين مرويين بالمعنى أما المروى باللفظ فلا والحق أنه يقع به الترجيح مطلقا لأن الفقيه يميز بين ما يجوز وبين ما لا يجوز فإن حضر المجلس وسمع كلاما لا يجوز إجراؤه على ظاهره بحث عنه وسأل عن مقدمته وسبب وروده فحينئذ يطلع على الأمر الذي يزول به الإشكال أما من لم يكن عالما فإنه لا يميز بين ما يجوز وبين ما لا يجوز فينقل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 القدر الذي سمعه وربما يكون ذلك القدر وحده سببا للضلال وثانيها إذا كان أحدهما أفقه من الآخر كانت رواية الأفقه راجحة لأن الوثوق بإحتراز الله الأفقه عن ذلك الاحتمال المذكور أتم من الوثوق باحتراز الأضعف منه وثالثها إذا كان أحدهما عالما بالعربية كانت روايته راجحة على من لا يكون كذلك لأن الواقف على اللسان يمكنه من التحفظ من مواضع الزلل مالا يقدر عليه غير العالم به ويمكن أن يقال بل هو مرجوح لأن الواقف على اللسان يعتمد على معرفته فلا يبالغ في الحفظ اعتمادا على خاطره والجاهل باللسان يكون خائفا فيبالغ في الحفظ ورابعها رواية الأعلم بالعربية راجحة على رواية العالم بها والوجه ما تقدم في الأفقه وخامسها أن يكون أحدهما صاحب الواقعة فيما يروى فيكون خبره راجحا ولهذا أوجبنا الغسل بالتقاء الختانين بحديث عائشة رضي الله عنها في ذلك ورجحناه قال على رواية غيرها عن النبي ص الماء من الماء لأن عائشة كانت أشد علما بذلك ورجح الشافعي رواية أبي رافع على رواية ابن عباس في تزويج ميمونة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 لأن أبا رافع كان السفير في ذلك فكان أعرف بالقصة وسادسها رواية من مجالسته للعلماء أكثر أرجح وسابعها رواية من مجالسته للمحدثين أكثر أرجح وثامنها أن يكون طريق إحدى الروايتين أقوى وذلك إذا روى ما يقل اللبس كما إذا روى أنه شاهد زيدا ببغداد وقت السحر والآخر يروى أنه شاهده وقت الظهر بالبصرة فطريق هذا أظهر والاشتباه على الأول أكثر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 أما التراجيح الحاصلة بالورع فهى على وجوه أحدها رواية من ظهرت عدالته بالاختبار راجحة على رواية مستور الحال عند من يقبلها وثانيها رواية من عرفت عدالته بالاختبار أولى من رواية من عرفت عدالته بالتزكية إذ ليس الخبر كالمعاينة وثالثها رواية من عرفت عدالته بتزكية جمع كثير أولى من رواية من عرفت عدالته بتزكية جمع قليل ورابعها رواية من عرفت عدالته بتزكية من كان أكثر بحثا في أحوال الناس واطلاعا عليها أولى من رواية من عرفت عدالته بتزكية من لم يكن كذلك وخامسها رواية من عرفت عدالته بتزكية الأعلم الأروع أولى من رواية من عرفت عدالته بتزكية العالم الورع وسادسها رواية من عرفت عدالته بتزكية المعدل مع ذكر أسباب العدالة أولى من رواية من زكاة المعدل بدون ذكر أسباب العلة العدالة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 وسابعها المزكى إذا زكى الراوى فإن عمل بخبره كانت روايته راجحة على ما إذا زكاه وروى خبره وثامنها رواية العدل الذي لا يكون صاحب البدعة أولى من رواية العدل المبتدع سواء كانت تلك البدعة كفرا في التأويل أو لم تكن أما التراجيح الحاصلة بسبب الذكاء فهي على وجوه أحدها رواية الأكثر تيقظا والأقل نسيانا راجحة على رواية من لا يكون كذلك وثانيها إذا كان أحدهما أشد ضبطا لكنه أكثر نسيانا والآخر يكون أضعف ضبطا لكنه أقل نسيانا ولم تكن قلة الضبط وكثرة النسيان بحيث تمنع من قبول خبره على ما بينا في باب الأخبار فالأقرب التعارض وثالثها أن يكون أحدهما أقوى حفظا لألفاظ الرسول ص من غيره فإن الحجة بالحقيقة ليست إلا في كلام الرسول عليه الصلاة والسلام ورابعها أن يجزم أحدهما ويقول الآخر كذا قال فيما أظن وخامسها أن يكون الرواى قد اختلط عقله في بعض الأوقات ثم لا يعرف أنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 روى هذا الخبر حال سلامة العقل أو حال اختلاطه وسادسها إذا كان أحدهما حفظ لفظ الحديث والآخر عول على المكتوب فالأول أولى لأنه أبعد عن الشبهة وفيه احتمال أما التراجيح الحاصلة بسبب شهرة الراوى فأمور أحدها أن يكون من كبار الصحابة لأن دينه لما منعه عن الكذب فكذا منصبه العالى يمنعه عنه ولذلك كان علي رضي الله عنه يحلف الرواة وكان يقبل رواية الصديق من غير التحليف وثانيها صاحب الاسمين مرجوح بالنسبة إلى صاحب الاسم الواحد وثالثها رواية معروف النسب راجحة على رواية مجهول النسب ورابعها أن يكون في رواة أحد الخبرين رجال تلتبس أسماؤهم بأسماء قوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 ضعفاء ويصعب التمييز فيرجح عليه الخبر الذي لا يكون كذلك أما التراجيح الراجعة إلى زمان الرواية فأمور أحدها إذا كان قد اتفق لأحدهما رواية الحديث في زمان الصبا وغير زمان الصبا فروايته مرجوحة بالنسبة إلى رواية من لم يرو الا في زمان البلوغ وثانيها إذا كان أحدهما قد تحمل الحديث في الزمانين ولم يرو إلا في حالة البلوغ فهو مرجوح بالنسبة إلى من لم يتحمل ولم يرو إلا في الكبر وثالثها من احتمل فيه هذان الوجهان كان مرجوحا بالنسبة إلى من لم يوجد ذلك فيه أما التراجيح العائدة إلى كيفية الرواية فأمور أحدها أن يقع الخلاف في أحدهما أنه موقوف على الراوى أو مرفوع إلى الرسول ص فالمتفق على كونه مرفوعا أولى وثانيها أن يكون أحد الخبرين منسوبا إليه قولا والآخر اجتهادا بأن يروى أنه وقع ذلك في مجلس الرسول ص فلم ينكر عليه فالأول أولى لأنه أقل احتمالا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 وثالثها أن يذكر أحدهما سبب نزول ذلك الحكم ولم يذكره الآخر فيكون الأول راجحا لأنه يدل على أنه كان له من الاهتام عن بمعرفة ذلك الحكم ما لم يكن للآخر ورابعها أن يروى أحدهما الخبر بلفظه والآخر بمعناه أو يحتمل أن يكون قد رواه بمعناه فالأول أولى وخامسها أن يروى أحدهما حديثا يعضد الحديث الأول فيترجح على ما لا يكون كذلك وسادسها إذا أنكر راوى الأصل فقد ذكرنا فيه تفصيلا وكيف كان فهو مرجوح بالنسبة إلى ما لا يكون كذلك وسابعها لو قبلنا المرسل فإذا أرسل أحدهما وأسند الآخر فعندنا المسند أولى وقال عيسى بن أبان المرسل أولى وقال القاضي عبد الجبار يستويان لنا أنه إذا أرسل فعدالته معلومة لرجل واحد وهو الذي يروى عنه وإذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 أسند صارت عدالته معلومة للكل لأنه يكون كل واحد متمكنا من البحث عن أسباب جرحه وعدالته ولا شك أن من لم تظهر عدالته إلا لرجل واحد يكون مرجوحا بالنسبة إلى من ظهرت عدالته لكل أحد لاحتمال أن يكون قد خفي حال الرجل على إنسان واحد ولكن يبعد أن يخفي حاله على الكل فثبت أن المسند أولى احتج المخالفون بأمرين الأول أن الثقة لا يقول قال الرسول ذلك فيحكم عليه بالتحليل والتحريم ويشهد به إلا وهو قاطع أو كالقاطع بذلك بخلاف ما إذا أسند الحديث وذكر الواسطة فإنه لم يحكم على ذلك الخبر بالصحة فلم يزد على حكاية أن فلانا زعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال ذلك فكان الأول أقوى الثاني روى أن الحسن قال إذا حدثني أربعة نفر من أصحاب رسول الله ص بحديث تركتهم وقلت قال رسول الله ص فأخبر عن نفسه أنه لا يستجيز هذا الإطلاق إلا عند فرط الوثوق والجواب عن الأول أن قول الراوي قال رسول الله ص لا يمكن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 إجراؤه على ظاهره لأنه يقتضى الجزم بصحة خبر الواحد وهو جهل وغير جائز فوجب حمله على أن المراد منه أني أظن أن رسول الله ص قال وإذا كان كذلك كان الإسناد أولى من الإرسال لأن في الإسناد يحصل ظن العدالة للكل وفي الإرسال لا يحصل ذلك الظن إلا للواحد وهذا هو الجواب بعينه عن الوجه الثاني فرعان الأول لو صح رجحان المرسل على المسند فإنما يصح لو قال الراوي قال رسول الله ص أما إذا لم يقل ذلك بل قال عن النبي ص فالأظهر أنه لا يترجح لأنه في معنى قوله روى عن الرسول الثاني رجح قوم بالحرية والذكورة قياسا على الشهادة وفيه احتمال القول في التراجيح الراجعة إلى حال ورود الخبر وهي ثمانية الأول أن تكون إحدى الآيتين أو الخبر مدنيا والآخر مكيا فالمدني مقدم لأن الغالب في المكيات ما كان قبل الهجرة والمدني لا محالة مقدم عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 أما المكيات المتأخرة عن المدنيات فقليلة والقليل ملحق بالكثير فيحصل الرجحان الثاني الخبر الذي يظهر وروده بعد قوة الرسول عليه الصلاة والسلام وعلو شأنه راجح على الخبر الذي لا يدل على ذلك لأن علو شأنه كان في آخر أمره ص فالخبر الوارد في هذا الوقت حصل فيه ما يقتضى تأخره عن الأول والأولى أن يفصل فيقال إن دل الأول على علو الشأن والثاني على الضعف ظهر تقديم الأول على الثاني أما إذا لم يدل الثاني لا على القوة ولا على الضعف فمن أين يجب تقديم الأول عليه الثالث أن يكون راوى أحد الخبرين متأخر الإسلام ويعلم أن سماعه كان بعد إسلامه وراوى الخبر الثاني متقدم الإسلام فيقدم الأول لأنه أظهر تأخرا والأولى أن يفصل فيقال المتقدم إذا كان موجودا مع المتأخر لم يمتنع أن تكون روايته متأخرة عن رواية المتأخر وأما إذا علمنا أنه مات المتقدم قبل إسلام المتأخر أو علمنا أن أكثر رويات المتقدم متقدم على رواية المتأخر فهاهنا نحكم بالرجحان لأن النادر يحلق يلحق بالغالب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 الرابع أن يحصل إسلام الراويين معا كإسلام خالد وعمرو بن العاص لكن يعلم أن سماع أحدهما بعد إسلامه ولا يعلم ذلك في سماع الآخر فيقدم الأول لأنه أظهر تأخرا الخامس أن يكون أحد الخبرين مؤرخا بتاريخ محقق والآخر يكون خاليا من التاريخ فيقدم الأول لأنه أظهر تأخرا مثاله ما روي أنه عليه الصلاة والسلام في مرضه الذي توفي فيه خرج فصلى بالناس قاعدا والناس قيام فهذا يقتضى جواز اقتداء القائم بالقاعد وقد روى أنه عليه الصلاة والسلام قال إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا أجمعين وهذا يقتضي عدم جواز ذلك فرجحنا الأول لأنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 كان في آخر أحوال النبي عليه الصلاة والسلام وأما الثاني فيحتمل انه كان قبل المرض السادس أن يكون أحدهما مؤقتا بموقت متقدم والآخر يكون خاليا عن الوقت فيقدم الخالى لأنه أشبه بالمتأخر السابع أن تكون حادثة كان الرسول ص يغلظ بها زجرا لهم عن العادات القديمة ثم خفف فيها نوع تخفيف فيرجح التخفيف على التغليظ لأنه أظهر تأخرا وهذا ضعيف لاحتمال أن يقال بل يرجح التغليظ على التخفيف لأنه عليه الصلاة والسلام ما كان يغلظ إلا عند علو شأنه وذلك متأخر الثامن عمومان متعارضان أحدهما واردا ابتداءا والآخر على سبب فالأول أولى لأن من الناس من قال الوارد على السبب يختص به ولا يعم لكن ذلك وإن لم يجب فلا أقل من أن يفيد الترجيح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 427 وأعلم أن هذه الوجوه في التراجيح ضعيفة وهى لا تفيد إلا خيالا ضعيفا في الرجحان القول في التراجيح الراجعة إلى اللفظ وهي من وجوه الأول أن يكون اللفظ في أحدهما بعيدا عن الاستعمال وفيه ركاكة والآخر فصيح فمن الناس من رد الأول لأنه عليه الصلاة والسلام كان أفصح العرب فلا يكون ذلك كلاما له ومنهم من قبله وحمله على أن الراوى رواه بلفظ نفسه وكيف ما كان فأجمعوا على ترجيح الفصيح عليه وثانيها قال بعضهم يقدم الأفصح على الفصيح وهو ضعيف لأن الفصيح لا يجب في كل كلامه أن يكون كذلك وثالثها أن يكون أحدهما عاما والآخر خاصا فيقدم الخاص على العام وقد تقدم دليله في باب العموم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 428 ورابعها أن يكون أحدهما حقيقة والآخر مجازا فتقدم الحقيقة لأن دلالتها أظهر وهذا ضعيف لأن المجاز الغالب أظهر دلالة من الحقيقة فإنك لو قلت فلان بحر فهو أقوى دلالة على قولك فلان سخى وخامسها أن يكونا حقيقتين إلا أن أحدهما أظهر في المعنى إما لكثرة ناقليه أو لكون ناقله أقوى وأتقن من ناقل غيره ويجرى هاهنا كل ما ذكرناه في ترجيح الخبر نظرا إلى حال الراوى وسادسها أن يكون وضع أحدهما لمسماه متفقا عليه ووضع الآخر مختلفا فيه وسابعها أن الذي يكون محتاجا إلى الإضمار مرجوح بالنسبة إلى الذي لا يحتاج إليه وثامنها الذي يدل على المقصود بالوضع الشرعي أو العرفي أولى مما يدل عليه بالوضع اللغوي وهاهنا تفصيل فإن اللفظ الذي صار شرعيا حمله على المعنى الشرعي أولى من حمله على اللغوي فأما الذي لم يثبت ذلك فيه مثل أن يدل أحد اللفظين بوضعه الشرعي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 على حكم واللفظ الثاني بوضعه اللغوي على حكم وليس للشرع في هذا اللفظ اللغوى عرف شرعي فلا نسلم ترجيح الشرعي على هذا اللغوى لأن هذا اللغوى إذا لم ينقله الشرع فهو لغوى عرفي شرعي وأما الثاني فهو شرعي وليس بلغوى ولا عرفي والنقل على خلاف الأصل فكان اللغوى أولى وتاسعها إذا تعارض مجازان فالذي يكون أكثر شبها بالحقيقة أولى وأيضا إذا تعارض خبران ولا يمكن العمل بأحدهما إلا بمجازين من والآخر يمكن العمل به بمجاز واحد كان هذا راجحا على الأول لأنه أقل مخالفة للأصل وعاشرها أن يكون أحدهما دخله التخصيص والآخر لم يدخله التخصيص فالذي لم يدخله التخصيص يقدم على الأول لأن الذي دخله التخصيص قد أزيل عن تمام مسماه والحقيقة مقدمة على المجاز وحادى عشرها أن يدل أحدهما على المراد من وجهين والآخر من وجه واحد يقدم الأول لأن الظن الحاصل منه أقوى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 430 وثاني عشرها أن يكون أحد الحكمين مذكورا مع علته والآخر ليس كذلك فالأول أقوى ومن هذا القبيل أن يكون أحدهما مقرونا بمعنى مناسب والآخر يكون معلقا بمجرد الاسم فيكون الأول أولى وثالث عشرها أن يكون أحدهما تنصيصا على الحكم مع اعتباره بمحل آخر والآخر ليس كذلك يقدم الأول في المشبه والمشبه به جميعا لأن اعتبار محل بمحل إشارة إلى وجود علة جامعة مثاله قول الحنفية في قوله عليه الصلاة والسلام أيما إهاب دبغ فقد طهر كالخمر تخلل فتحل رجحناه في المشبه على قوله عليه الصلاة والسلام لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب وفي المشبه به في مسألة تحليل الخمر على قوله أرقها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 ورابع عشرها أن تكون دلالة أحدهما مؤكدة ودلالة الأخرى لا تكون مؤكدة فتقدم الأولى كقوله عليه الصلاة والسلام فنكاحها باطل باطل باطل وخامس عشرها أن يكون أحدهما تنصيصا على الحكم مع ذكر المقتضي لضده كقوله عليه الصلاة والسلام كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها يقدم على ما ليس كذلك لأن اللفظ يدل على ترجيح ذلك على ضده ولأن تقديمه يقتضى النسخ مرة وتقديم ضده يقتضى النسخ مرتين فيكون الأول أولى وسادس عشرها يقدم أن يكون أحد الدليلين مقرونا بنوع تهديد فإنه على ما لا يكون كذلك كقوله عليه الصلاة والسلام من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم وكذا القول لو كان التهديد في أحدهما أكثر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 وسابع عشرها أن يكون أحد الدليلين يقتضى الحكم بواسطة والآخر يقتضيه بغير واسطة فالثاني يرجح على الأول كما إذا كانت المسألة ذات صورتين فالمعلل إذا فرض الكلام في صورة وأقام الدليل عليه فالمعترض إذا أقام الدليل على خلافه في الصورة الثانية ثم توسل إلى الصورة الأخرى بواسطة الإجماع فيقول المعلل دليلي راجح على دليلك لأن دليلى بغير واسطة ودليلك بواسطة فيكون الترجيح معى لأن كثرة الوسائط الظنية تقتضي كثرة الاحتمالات فيكون مرجوحا بالنسبة إلى ما يقل الاحتمال فيه وثامن عشرها المنطوق مقدم على المفهوم إذا جعلنا المفهوم حجة لأن المنطوق أقوى دلالة على الحكم من المفهوم القول في التراجيح الراجعة إلى الحكم وهي من وجوه خمسة الأول إذا كان أحد الخبرين مقررا لحكم الأصل والثاني يكون ناقلا فالحق أنه يجب ترجيح المقرر وقال الجمهور من الأصوليين أنه يجب ترجيح الناقل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 لنا أن حمل الحديث على ما لا يستفاد الا من الشرع أولى من حمله على ما يستقل العقل بمعرفته فلو جعلنا المبقي مقدما على الناقل لكان واردا حيث لا يحتاج إليه لأنا في ذلك الوقت نعرف ذلك الحكم بالعقل فلو قلنا إن المبقى ورد بعد الناقل لكان واردا حيث يحتاج إليه فكان الحكم بتأخره عن الناقل أولى من الحكم بتقدمه عليه وأحتج الجمهور على قولهم بوجهين الأول أن اعتبار الناقل أولى لأنه يستفاد منه ما لا يعلم إلا منه وأما المبقى فإن حكمه معلوم بالعقل فكان الناقل أولى الثاني أن في القول بكون الناقل متأخرا تقليل النسخ لأنه يقتضى إزالة حكم العقل فقط وفي القول يكون المقرر متأخرا تكثير النسخ لأن الناقل أزال حكم العقل ثم المقرر أزال حكم الناقل مرة أخرى والجواب عن الأول ما ذكرناه في الدليل وهو أنا لو جعلنا المبقى متأخرا لكنا قد استفدنا منه مالا يستقبل العقل به ولو جعلناه متقدما لكنا قد استفدنا منه ما يتمكن العقل من معرفته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 وعن الثاني أن ورود الناقل بعد ثبوت حكم الأصل ليس بنسخ لأن دلالة العقل مقيدة بشرط عدم دليل السمع فإذا وجد فلا يبقى دليل العقل فلا يكون دليل السمع مزيلا لحكم العقل بل مبينا لانتهائه فلا يكون ذلك خلاف الأصل وأيضا فما ذكرتموه معارض بوجه آخر وهو أنا لو جعلنا المبقى مقدما لكان المنسوخ حكما ثابتا بدليلين دليل العقل ودليل الخبر فيكون هذا أشد مخالفة لأنه يكون ذلك نسخا للأقوى بالأضعف وهو غير جائز وأما على الوجه الذي قلناه فلا يكون المنسوخ إلا دليلا واحدا فرع فان قيل أفتجعلون العمل بالناقل على ما ذكره الجمهور أو بالمقرر على ما ذكرتموه في باب الترجيح قلنا قال القاضي عبد الجبار أنه ليس من باب الترجيح واستدل عليه بوجهين الأول أنا نعمل بالناقل على أنه ناسخ والعمل بالناسخ ليس من باب الترجيح الثاني أنه لو كان العمل بالناقل ترجيحا لوجب أن يعمل بالخبر الآخر لولاه لأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 هذا حكم كل خبرين رجحنا أحدهما على الآخر ومعلوم أنه لولا الخبر الناقل لكنا إنما نحكم بموجب الخبر الآخر لدلالة العقل لا لأجل الخبر ويمكن أن يجاب عن الأول بأنا لا نقطع في الأصول بأن الناقل عن حكم الأصل متأخر وناسخ وإنما نقول الظاهر ذلك مع جواز خلافه فهو إذن داخل في باب الأولى وهذا ترجيح وعن الثاني أنه لو كان الخبر الناقل لعلمنا بموجب الخبر الآخر لأجله ألا ترى أنا نجعله حكما شرعيا ولهذا لا يصح رفعه إلا يصح النسخ به ولولا أنه بعد ورود الخبر صار شرعيا وإلا لما كان كذلك الثاني قال القاضي عبد الجبار الخبران إذا كان أحدهما نفيا والآخر إثباتا وكانا شرعيين فإنهما سواء وضرب لذلك أمثلة ثلاثة أحدها أن يقتضى العقل حظر الفعل ثم ورد خبران في إباحته ووجوبه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 436 وثانيها أن يقتضى العقل وجوب الفعل ثم ورد خبران في حظره وإباحته وثالثها أن يقتضى العقل إباحة الفعل ثم ورد خبران في وجوبه وحظره واعلم أن هذا لا يستقيم على مذهبنا في أن العقل لا يستقل في شئ من الأحكام بالقضاء والنفى بالإثبات بل ذلك لا يستفاد إلا من الشرع وحينئذ لا يكون لأحدهما مزية على الآخر وأما على مذهب المعتزلة فلا يتم ذلك لأنه لا بد في كل نفى وإثبات متواردين على حكم واحد أن يكون أحدهما عقليا بيانه أن الإباحة تشارك الوجوب في جواز الفعل وتخالفه في جواز الترك وتشارك الحظر في جواز الترك وتخالفه في جواز الفعل فهى تشارك كل واحد من الوجوب والحظر بما به تخالف الآخر إذا ثبت هذا فنقول إذا اقتضى العقل الحظر فقد اقتضى جواز الترك أيضا لأن ما صدق عليه أنه محظور فقد صدق عليه أنه يجوز تركه فإذا جاء خبر الإباحة والوجوب فالإباحة إنما تنافي الوجوب من حيث إن الإباحة تقتضى جواز الترك لا من حيث إنها تقتضى جواز الفعل لكن جواز الفعل هاهنا كما عرفت حكم عقلى فثبت أنه لا بد هاهنا في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 النفي والإثبات من كون أحدهما عقليا فيه فليعمل فيه كما في المثال الأول وأما المثال الثاني وهو ما إذا اقتضى العقل الوجوب وجاء خبران في الحظر والإباحة فالكلام فيه كما في المثال الأول وأما المثال الثالث وهو ما إذا اقتضى العقل والإباحة ثم في جاء خبرأن في الحضر والوجوب فنقول لما ثبت أن الإباحة تشارك كل واحد من الوجوب والحظر بما به تخالف الآخر وإذا كانت الإباحة مقتضى العقل لزم أن يكون الوجوب مقررا لحكم العقل من وجه وناقلا من وجه آخر وكذا القول في الحظر فهاهنا أيضا لابد في النفى والإثبات المتواردين بن على أمر واحد أن يكون أحدهما عقليا وإذا ثبت أنه لا بد في النفي والإثبات من كون أحدهما عقليا رجع الترجيح إلى ما تقدم من أن الناقل أرجح أم المبقى فرع إذا كان مقتضى العقل الحظر ثم ورد خبران في الإباحة والوجوب والإباحة تشارك الحظر من وجه وتخالفه من وجه آخر فخبر الإباحة يقتضى بقاء حكم العقل من وجه والنقل من وجه وأما الوجوب فإنه يخالف الحظر في القيدين معا فيكون الوجوب مقتضيا للنقل من وجهين فمن رجح الخبر الناقل على المبقى رجح خبر الوجوب ومن رجح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 المبقى على الناقل فبالعكس وكذا القول فيما إذا اقتضى العقل الوجوب وجاء خبران في الحظر والإباحة فأما إذا اقتضى العقل الإباحة وجاء خبران في الحظر والوجوب فكل واحد منهما يشارك الإباحة من وجه ويخالفها من وجه آخر فإذن كل واحد منهما ناقل من وجه ومبق هذه من وجه آخر فيحصل التساوى ولا يحصل الترجيح الثالث إذا تعارض خبران في الحظر والإباحة وكانا شرعيين فقال أبو هاشم وعيسى بن أبان إنهما يستويان وقال الكرخى وطائفة من الفقهاء خبر الحظر راجح احتجوا على الترجيح للحظر بالخبر والحكم والمعنى أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال ضعيف ومنقطع وقال عليه الصلاة والسلام دع ما يريبك إلى مالا يريبك وجواز هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 الفعل يريبه لأنه بين أن يكون حراما وبين أن يكون مباحا فما يريبه جواز فعله فيجب تركه وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال في الأختين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى وأما الحكم فإنه من طلق أحد نسائه ونسيها حرم عليه وطء جميع نسائه وكذلك لو أعتق إحدى إمائه وأما المعنى فهو أنه دار بين أن يرتكب الحرام أو يترك المباح وترك المباح أولى فكان الترجيح للمحرم احتياطا فإن قلت ولا يمتنع أيضا أن يكون مباحا فيكون باعتقاده الحظر مقدما على مالا يأمن كونه جهلا قلت إنه إذا استباح المحظور فقد أقدم على محظورين أحدهما الفعل والثاني اعتقاد إباحه وليس كذلك إذا امتنع من المباح لاعتقاد حظره لأنه محظور واحد والغرض هو الترجيح بضرب من القوة الرابع المثبت للطلاق والعتاق يقدم على النافي لهما عند الكرخى وقال قوم يسوى بينهما وجه الأول أن ملك النكاح واليمين مشروع على خلاف الأصل فيكون زوالهما على وفق الأصل والخبر المتأيد بموافقة الأصل راجح على الواقع على خلاف الأصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 الخامس النافي للحد مقدم على المثبت له عند بعض الفقهاء وأنكره المتكلمون وجه الأول من وجوه أحدها أن الحد ضرر فتكون شرعيته على خلاف الأصل والنافي له على وفق الأصل فيكون النافي له راجحا وثانيها أن ورود الخبر في نفى الحد إن لم يوجب الجزم بذلك النفى فلا أقل من أن يفيد شبهة فيه إذا حصلت الشبهة سقطت الحدود لقوله عليه الصلاة والسلام ادرؤا الحدود بالشبهات وثالثها إذا كان الحد يسقط بتعارض البينتين مع ثبوته في أصل الشرع فلأن يسقط بتعارض الخبرين في الجملة ولم يتقدم له ثبوت أولى القول في الترجيحات الحاصلة بالأمور الخارجة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 وهي من وجوه أحدها الترجيح بكثرة الأدلة وقد سبق القول فيه وثانيها أن يقول بعض أئمة الصحابة أو يعمل بخلافه والخبر لا يجوز خفاؤه عليه وهذا عند البعض يحمل على نسخه أو أنه لا أصل له إذا لولاه لما خالف وعند الشافعى رضي الله عنه لا يحمل على ذلك لكن إذا عارضه خبر لا يكون كذلك كان راجحا عليه وثالثها إذا عمل بأحدهما أكثر السلف ممن لا يجب تقليدهم قال عيسى بن أبان يجب ترجيحه لأن الأكثر يوفقون للصواب مالا يوفق له الأقل وقال آخرون لا يحصل الترجيح لأنه لا يجب تقليدهم ورابعها أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى يكون مرجوحا إما لاختلاف المجتهدين في قبوله أو لأن كونه مما تعم به البلوى إن لم يوجب القدح فيه فلا أقل من إفادته المرجوحية واعلم أن بعض ما يرجح به الخبر قد يكون أقوى من بعض فينبغى إذا استوى الخبران في كمية وجوه الترجيح أن تعتبر الكيفية فإن كان أحد الجانبين أقوى كيفية وجب العمل به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 442 وإن كان أحد الجانبين أكثر كمية وأقل كيفية والجانب الآخر على العكس منه وجب على المجتهد أن يقابل ما في أحد الجانبين بما في الجانب الآخر ويعتبر حال قوة الظن والكلام في قوة كثير من وجوه الترجيحات طريقة الاجتهاد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 443 القسم الرابع في تراجيح سنة الأقيسة وهي إما أن تكون بحسب ماهية العلة أو بحسب ما يدل على وجودها أو بحسب ما يدل على عليتها أو بحسب ما يدل على ثبوت الحكم في الأصل أو بحسب محل ذلك الحكم أو بحسب محالها أو بحسب أمور منفصلة عن ذلك النوع الأول في التراجيح المعتبرة بحسب ماهية العلة فنقول إنا بينا أن الحكم الشرعي إما أن يكون معللا بالوصف الحقيقي أو بالحكمة أو بالحاجة أو بالوصف العدمي أو بالوصف الإضافي أو بالوصف التقديرى أو بالحكم الشرعي وعلى كل التقديرات فالعلة إما أن تكون مفردة أو مركبة من قيدين أو أكثر واعتمد بعضهم في التراجيح الواقعة في هذا الباب على أمرين أحدهما أن كل ما كان أشبه بالعلل العقلية فهو راجح على ما لا يكون كذلك لأن العقل أصل النقل والفرع كلما كان أشبه بالأصل كان أقوى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 444 وثانيها أن كل ما كان متفقا عليه فهو أولى مما يكون مختلفا فيه وكل ما كان الخلاف فيه أقل فهو راجح على ما يكون الخلاف فيه أكثر والسبب فيه أن وقوع الخلاف فيه يدل على حصول الشك والشبهة وهذان المأخذان ضعيفان جدا إلا في شئ واحد وهو أن كل ما كان متفقا عليه فهو أولى مما يكون مختلفا فيه وذلك لأن المقدمة إذا كانت مجمعا عليها كانت يقينية والقياس الذي يكون بعض مقدماته يقينيا وبعضه ظنيا أقوى من الذي يكون كل مقدماته ظنيا لأن الاحتمال في الأول أقل مما في الثاني ومتى كان الاحتمال أقل كان الظن أقوى إذا عرفت هذا الأصل فلنرجع إلى التفصيل وفيه مباحث أحدها أن التعليل بالوصف الحقيقي أولى من التعليل بسائر الأقسام لأن جواز التعليل بالوصف الحقيقي مجمع عليه بين القائسين والتعليل بسائر الأقسام مختلف فيه فيكون القياس الذي يكون الحكم في أصله معللا بالوصف الحقيى أقوى مما لا يكون كذلك وثانيها التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالعدم وبالوصف الإضافي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 445 وبالحكم الشرعي وبالوصف التقديري أما أنه أولى من العدم فلأن العلم بالعدم لا يدعو إلى شرع الحكم إلا إذا حصل العلم بإشتمال ذلك العدم على نوع مصلحة فيكون الداعى إلى شرع الحكم في الحقيقة هو المصلحة لا العدم وإذا كانت العلة هى المصلحة لا العدم كان التعليل بالمصلحة أولى من التعليل بالعدم فإن قلت فهذا يقتضي أن يكون التعليل بالمصلحة أولى من التعليل بالوصف قلت كان الواجب ذلك إلا أن الوصف أدخل في الضبط من الحاجة فلهذا المعنى ترجح الوصف على المصلحة والعدم المطلق لا يتقيد إلا إذا أضيف إلى الوجود فهو في نفسه غير مضبوط فالعدم ليس بمؤثر في الحقيقة وليس بضابط في نفسه فظهر الفرق وإذا ثبت أن التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالعدم وقد ثبت أن الإضافات ليست أمورا وجودية لزم أن يكون التعليل بالحكمة أولى من التعليل بالإضافات وأما أنه أولى من الحكم بالشرع والوصف التقديرى فلأن التعليل بالحاجة تعليل بنفس المؤثر وهذا يمنع من التعليل بغيره ترك العمل به في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 446 الوصف الحقيقي بالإجماع ولأنه اشتبه بالعلل العقلية فيبقى في هذه الصورة على الأصل وثالثتها التعليل بالعدم أولى أم بالحكم الشرعي يحتمل أن يقال العدم أولى لأنه أشبه بالأمور الحقيقية ويحتمل أن يقال بل بالحكم الشرعي أولى لأنه أشبه بالوجود ورابعها التعليل بالعدم أولى أم بالصفات التقديرية والأشبه هو الأول لأن المقدر معدوم أعطى حكم الموجود فكل ما في المعدوم من المحذورات فهو حاصل في المقدر مع مزيد محذور آخر وهو أنه كونه معدوما أعطى حكم الموجود فكان المعدوم أولى وخامسها تعليل الحكم الوجودى بالعلة الوجودية أولى من تعليل الحكم العدمي بالوصف العدمي ومن تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودى والحكم الوجودى بالوصف العدمي لأن كون العلة والمعلول عدميين يستدعى تقدير كونهما وجوديين لأنا بينا أن العلة والمعلول وصفان ثبوتيان فحملهما على المعدوم لا يمكن إلا إذا قدر المعدوم موجودا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 447 وتعليل العدم بالعدم أولى من القسمين الباقيين للمشابهة وأما أن تعليل العدم بالوجود أولى أم تعليل الوجود بالعدم ففيه نظر وسادسها التعليل بالحكم الشرعي أولى من التعليل بالوصف المقدر لأن الأول على وفق الأصل والثاني على خلاف الأصل وسابعها التعليل بالعلة المفردة أولى من التعليل بالعلة المركبة لأن الاحتمال في المفردة أقل مما في المركب لأن المفرد لو وجد لوجد بتمامه ولو عدم لعدم بتمامه وأما المركب فليس كذلك لأن المركب من قيدين فقط يحتمل في جانب الوجود احتمالات ثلاثة وهي أن يوجد الجزء بدلا عن ذاك وذاك بدلا عن هذا ويوجد المجموع وكذا القول في جانب العدم المركب من قيود ثلاثة يوجد فيه احتمالات سبعة في طرف الوجود وسبعة في طرف العدم ومعلوم أن ما كان الاحتمال فيه أقل كان أولى فهذه جملة التراجيح العائدة إلى ماهية العلة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 448 النوع الثاني القول في التراجيح العائدة إلى ما يدل على أن ذات العلة موجودة اعلم أن العلم بوجود تلك الذوات إما أن يكون بديهيا أو حسيا أو استدلاليا والاستدلال إما أن يفيد العلم أو الظن وعلى التقديرين فذلك الدليل إما أن يكون عقليا محضا أو نقليا محضا أو مركبا منهما فلنتكلم في هذه الأقسام فنقول أما إذا كان الطريق مفيدا لليقين سواء كان بديهيا أو حسيا أو استدلاليا يقينيا وسواء كان عقليا محضا أو نقليا محضا أو مركبا منهما وسواء كثرت المقدمات أو قلت فإنه لا يقبل الترجيح وكلام أبي الحسين يدل على أنه يقبل أما أن القطعيات لا تقبل الترجيح فلما تقدم فإن قلت الضرورى أولى من النظرى لأن الضرورى لا يقبل الشك والشبهة والنظرى يقبل ذلك قلت النظرى واجب الحصول عند حصول جميع مقدماته المنتجة له كما أن البديهي واجب الحصول عند حصول تصور طرفيه وكما أن النظرى يزول عند زوال أحد الأمور التي لا بد منها في حصول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 449 جميع مقدماته المنتجة له فكذلك الضرورى يزول عند زوال أحد التصورات التي لا بد منها فإذن لا فرق في وجود الجزم عند حضور موجباته في البابين بل الفرق هو أن النظرى يتوقف على أمور أكثر مما يتوقف عليه الضرورى فلا جرم كان زوال النظرى أكثر من زوال الضرورى فأما وجوب الوجود وامتناع العدم عند حصول كل ما لا بد منه فلا فرق بين الضرورى والنظرى فيه ألبتة أما إذا كان الطريق الدال على وجود العلة ظنيا فقد قيل كلما كانت المقدمات المنتجة لذلك الظن أقل كان القياس أقوى لأن المقدمات متى كانت أقل كان احتمال الخطأ أقل ومتى كان احتمال الخطأ أقل كان ظن الصواب أقوى واعلم أن هذا الكلام على عمومه ليس بحق لأن الظن يقبل التفاوت في القوة والضعف فإذا فرضنا دليلا كانت مقدماته قليلة إلا أن كل واحدة منها كانت مظنونة ظنا ضعيفا ودليلا آخر ظنيا معارضا للأول مقدماته كثيرة إلا أن كل واحدة منها كانت مظنونة ظنا قويا فالقوة الحاصلة في أحد الجانبين بسبب قلة الكمية قد تصير معارضة من الجانب الآخر بسبب قوة الكيفية وقد تكون قوة الكيفية في أحد الجانبين أزيد من قلة الكمية في الجانب الآخر حتى أن الدليل الظنى الذي يكون مركبا من مائة مقدمة قد يفيد ظنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 450 أقوى من الظن الحاصل من الدليل المركب من مقدمتين فإذن لا بد من اعتبار هذا التفصيل الذي ذكرناه إذا عرفت هذا فنقول الدليل الظني الذي يدل على وجود العلة إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا أما القياس فالكلام فيه كما في الأول ولا يتسلسل بل ينتهي إلى النص أو الإجماع أما النص فطرق الترجيح فيه ما تقدم في القسم الثالث من هذا الكتاب وأما الإجماع فإن كانا قطعيين لم يقبل الترجيح وإن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا لم يقبل الترجيح لأن الإجماع المعلوم مقدم على المظنون أما إذا كانا مظنونين فهذا يقع على وجهين أحدهما الإجماعان المختلف فيهما عند المجتهدين كالإجماع الذي يحدث عن قول البعض وسكوت الباقين وثانيهما الإجماع المنقول بطريق الآحاد فهذان القسمان في محل الترجيح وأما الذي يقال إن أحدهما متفق عليه والآخر مختلف فيه فإن أريد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 451 به عدم الاختلاف في أحدهما ووقوعه في الآخر فذلك ليس من باب الترجيح لأن تقدم المعلوم على المظنون قطعي وإن عني به قله الاختلاف في أحدهما وكثرته في الآخر فلا نسلم أن هذا القدر يوجب الترجيح ولنختم هذا الفصل بشئ وهو أنه إذا تعارض قياسان وكان وجود الأمر الذي جعل علة لحكم الأصل في أحد القياسين معلوما وفي الآخر مظنونا كان الأول راجحا لما بينا أن القياس الذي بعض مقدماته معلوم راجح على ما كان كل مقدماته مظنونا النوع الثالث القول في التراجيح الحاصلة بسبب الطرق الدالة على علية الوصف في الأصل وقد ذكرنا في كتاب القياس أن الطرق الدالة على علية الوصف في الأصل إما الدليل النقلى أو العقلى أما الدليل النقلى فإما أن يكون نصا أو إيماءا أما النص فقد يكون بحيث لا يحتمل غير العلية وهو ألفاظ ثلاثة وهى قوله لعله كذا أو لسبب كذا كذا أو لأجل كذا فهذا مقدم على جميع الطرق النقلية وأما الذي يحتمل غير العلية ولكنه ظاهر جدا فألفاظ ثلاثة وهي اللام وإن والباء وحرف اللام مقدم على إن والباء لأن اللام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 452 ظاهر جدا في التعليل وأما لفظ أن فقد يكون للتأكيد ولفظ الباء قد يكون للإلصاق كقولك كتبت بالقلم وقد يفيد كونه محكوما به كقوله عليه الصلاة والسلام أنا أقضي بالظاهر أما حيث تأتي لا للآلة ولا لأن تكون محكوما به كان مرادفا للأم فإنه لا فرق بين أن يقال قتلته لجنايته وقتلته بجنايته وأما الباء وإن أيهما المقدم ففيه احتمال وأما الإيماءات ففيها أبحاث أحدها أنا بينا أن دلالة الإيماء على علية الوصف في الأصل لا تتوقف على كونه مناسبا ولكن الوصف الذي يكون مناسبا راجح على مالا يكون كذلك وثانيهما أن إيماء الدلالة اليقينية راجح على إيماء الدلالة الظنية لما عرفت أن الدليل الذي بعض مقدماته يقيني والبعض ظني راجح على ما يكون كل مقدماته ظنيا وأما إذا ثبتت علية الوصفين بإيماء خبر الواحد فوجوه الترجيح فيه ما ذكرناه في باب الخبر الواحد وثالثها أن الجمهور اتفقوا على أن ما ظهرت عليته بالإيماء راجح على ما ظهرت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 453 عليته بالوجوه العقلية من المناسبة والدوران والسبر وهذا فيه نظر وذلك لأن الإيماء لما لم يوجد فيه لفظ يدل على العلية فلا بد وأن يكون الدال على عليته أمر آخر سوى اللفظ ولما بحثنا لم نجد شيئا يدل على عليتها إلا أحد أمور ثلاثة المناسبة والدوران والسبر على ما مر ذلك في باب الإيماءات وإذا ثبت أن الإيماءات لا تدل إلا بواسطة أحد هذه الطرق الثلاثة كان الأصل لا محالة أقوى من الفرع فكان كل واحد من هذه الثلاثة أقوى من الإيماءات ورابعها أنا قد ذكرنا أن أقسام الإيماءات خمسة وكل واحد من تلك الأقسام يندرج تحته أقسام كثيرة واستيفاء القول في هذا يقتضي أن نتكلم في تفاصيل كل واحد من أقسام تلك الأقسام مع ما يشاركه في جنسه ومع ما هو خارج من جنسه لأنه لا يبعد أن يكون أحد الجنسين أقوى من الجنس الآخر ويكون بعض أنواع الضعيف أقوى من بعض أنواع القوي لكنا تركنا هذا لطولها وكثرتها أما الطرق العقلية فقد ذكرنا منها ستة وهي المناسب والمؤثر والشبه والدوران والطرد والسبر فلنتكلم في تفاصيل هذه الأجناس ثم في تفاصيل أنواع كل واحد من هذه الأجناس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 454 أما تفاصيل هذه الأجناس ففيها أبحاث أحدها أن المناسبة أقوى من الدوران وقال قوم الدوران أقوى وعبروا عن ذلك بأن العلة المطردة المنعكسة أقوى مما لا يكون كذلك لنا إن الوصف إنما يؤثر في الحكم لمناسبته فالمناسبة علة لعلية العلة وليس تأثير الوصف في الحكم لدورانه معه لأن الدوران في الحقيقة ليس من لوازم العلية لأن العلة إذا كانت أخص من المعلول كانت العلية منفكة هناك عن الدوران وقد ينفك الدوران عن العلية كما في الصور التي عددناها في باب الدوران وإذا كان كذلك كان الاستدلال بالمناسبة على العلية أقوى من الاستدلال بالدوران عليها احتج المخالف بوجهين الأول إن العلة المطردة المنعكسة أشبه بالعلل العقلية فتكون أقوى الثاني أنهم أجمعوا على صحة المطرد المنعكس ومن الناس من أنكر العلة التي لا تكون منعكسة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 455 والجواب عن الأول لا نسلم أن العكس واجب في العلل العقلية وقد بيناه في كتبنا العقلية سلمناه لكن لا نسلم أن الأشبه بالعلل العقلية أولى وعن الثاني أن ذلك يقتضي ترجيح المناسب المطرد المنعكس على المناسب الذي لا يكون مطردا منعكسا ولا نزاع فيه أما أنا لا نقضي بترجيح الدوران المنفك عن المناسبة على المناسب المنفك عن الدوران فلأنه إذا وجد الدوران بدون المناسبة فقد لا تحصل العلة كرائحة الخمر مع حرمتها وثانيها أن المناسبة أقوى من التأثير لأنه لا معنى للتأثير إلا أنه عرف تأثير هذا الوصف في نوع هذا الحكم وفي جنسه وكون الشي مؤثرا في شئ لا يوجب كونه مؤثرا فيما يشاركه في جنسه أما كونه مناسبا فهو الذي لأجله صار الوصف مؤثرا في الحكم فكان الاستدلال بالمناسبة على العلية أقوى من الاستدلال بالتأثير عليها وثالثها أن السبر إما أن يكون قاطعا في مقدماته أو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 456 مظنونا في مقدماته أو قاطعا في بعض مقدماته ومظنونا في البعض فإن كان قاطعا في كل مقدماته كان العمل به متعينا وليس هذا بترجيح أما إذا كان مظنونا في كل مقدماته مثل أن يدل دليل ظني على أن الحكم معلل ودليل آخر ظني على أن العلة إما هذا الوصف أو ذاك ودليل آخر ظني على أن العلة ليست ذلك الوصف فيحصل هاهنا ظن أن العلة ليست إلا هذا الوصف فهاهنا العمل بالمناسبة أولى من العمل بهذا السبر وذلك لأن الدليل الدال على هذه المقدمات الثلاث التي لا بد منها في السبر إما النص أو الإيماء أو الطرق العقلية فإن كان هو النص صارت تلك المقدمات يقينية وقد فرضناها ظنية هذا خلف وإن كان إيماءا فقد عرفت أن الإيماء مرجوح بالنسبة إلى المناسبة وأما الطرق العقلية فالمناسبة أولى من غيرها لأن المناسبة مستقلة بإنتاج العلية والسبر لا ينتج العلية إلا بعد مقدمات كثيرة والمثبت لتلك المقدمات إما المناسبة أو غيرها فإن كان الأول كانت المناسبة أولى من السبر لأن في إثبات الحكم بالمناسبة تكفي المناسبة الواحدة في الإنتاج وفي السبر لابد من ثلاث مقدمات والكثرة دليل المرجوحية وإن كان الثاني كانت المناسبة أولى لأن المناسبة علة لعلية العلة وغير المناسبة ليس كذلك فالاستدلال بالمناسبة على العلية أولى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 457 وأما إن كان السبر مظنونا في بعض المقدمات مقطوعا في البعض عاد الترجيح المذكور في تلك المقدمات المظنونة ورابعها أن المناسبة أقوى من الشبه والطرد وذلك واضح لا حاجة به إلى الدليل فهذا هو الكلام في تراجيح هذه الطرق الستة العقلية بحسب الجنس ولنتكلم الآن في أنواع كل واحد منها وفيه سائل المسألة الأولى ترجيح بعض المناسبات على بعض إما أن يكون بأمور عائدة إلى ماهياتها أو بأمور خارجة عنها أما القسم الأول فتقريره أنك قد عرفت أن كون الوصف مناسبا إما أن يكون لأجل مصلحة دنيوية أو دينية والمصلحة الدنيوية إما أن تكون في محل الضرورة أو في محل الحاجة أو في محل الزينة والتتمة وظاهر أن المناسبة التي من باب الضرورة راجحة على التي من باب الحاجة والتي من باب الحاجة مقدمة على التي من باب الزينة ثم قد عرفت أن المناسبة التي من باب الضرورة خمسة وهي مصلحة النفوس والعقول والأديان والأموال والأنساب فلا بد من بيان كيفية ترجيح بعض هذه الأقسام على بعض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 458 ثم عرفت أن الوصف المناسب للحكم قد يكون نوعه مناسبا لنوع الحكم وقد يناسب جنسه نوع الحكم وقد يناسب نوعه جنس الحكم وقد يناسب جنسه جنس الحكم ولا شك في تقدم الأول على الثلاثة الأخيرة والثاني والثالث وأما الثاني والثالث فهما كالمتعارضين ولا شك في تقدمهما على الرابع ثم الجنس قد يكون قريبا وقد يكون بعيدا والمناسبة المتولدة من الجنس القريب تقدم على المناسبة المتولدة من الجنس البعيد ثم المناسبة في كل قسم من هذه الأقسام قد تكون جلية وقد تكون خفية أما الجلي فهو الذي يلتفت الذهن إليه في أول سماع الحكم كقوله عليه الصلاة السلام لا يقضى القاضي وهو غضبان فإنه يلتفت الذهن عند سماع هذا الكلام إلى أن الغضب إنما منع من الحكم لكونه مانعا من استيفاء الفكر وأما الخفي فهو الذي لا يكون كذلك ولا شك في تقدم الجلي على الخفي وأما القسم الثاني وهو ترجيح بعض المناسبات على بعض بأمور خارجة عنها فذلك على وجوه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 459 أحدها أن المناسبة المتأيدة بسائر الطرق أعني الإيماء والدوران والسبر راجحة على ما لا يكون كذلك ويرجع حاصله إلى الترجيح بكثرة الأدلة وثانيها المناسبة الخالية عن المعارض راجحة على ما لا يكون كذلك فإن المناسبة وإن كانت لا تبطل بالمعارضة لكنها مرجوحة بالنسبة إلى مالا تكون معارضة وثالثها الذي يناسب الحكم من وجهين راجح على مالا يناسب إلا من وجه واحد وعلته ظاهرة وأيضا كلما كانت الجهات أكثر كانت أرجح مسألة الدوران الحاصل في صورة واحدة راجح على الحاصل في صورتين لأن احتمال الخطأ في الدوران الحاصل في الصورة الواحدة أقل من احتماله في الدوران الحاصل في صورتين ومتى كان احتمال الخطأ أقل كان الظن أقوى بيان الأول أن العصير لما لم يكن مسكرا في الزمان الأول فلم يكن محرما ثم صار مسكرا بعد ذلك فصار محرما ثم لما زالت المسكرية مرة أخرى زالت الحرمة فهاهنا نقطع بأن شيئا من الصفات الباقية في الأحوال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 460 الثلاثة لا يصلح لعلية هذا الحكم وإلا لزم وجود العلة بدون الحكم وأما الدوران في صورتين فهو كما يقول الحنفي في مسألة الحلي كونه ذهب موجب للزكا لأن التبر لما كان ذهبا وجبت الزكاة فيه والثياب لما لم تكن ذهبا لم تجب الزكاة فيها فهاهنا لا يمكن القدح في علية الصفات الباقية بمثل ما ذكرناه في الصورة الأولى فثبت أن احتمال المعارض في الصورة الأولى أقل فكان الظن فيها أقوى مسألة قد ذكرنا أن الشبه قد يكون شبها في الحكم الشرعي وقد يكون شبها في الصفة واختلفوا في الراجح والأظهر أن الشبه في الصفة أولى لأنها أشبه بالعلل العقلية النوع الرابع في التراجيح الحاصلة بسبب دليل الحكم فنقول هذا الطريق لا شك أنه يكون دالا ثم ذلك الطريق إما أن يكون في القياسين المتعارضين قطعيا أو ظنيا أو يكون في أحدها قطعيا وفي الآخر ظنيا فإن كان قطعيا فيهما معا استحال الترجيح في ذلك لما عرفت وإن كانا ظنيين فالدليل الدال عليهما إما أن يكون لفظا أو إجماعا أو قياسا فلنتكلم في تفاصيل هذه الأجناس ثم في تفاصيل أنواع كل واحد من هذه الأجناس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 461 أما البحث الأول فيشتمل على مسألتين إحداها قالوا القياس الذي ثبت الحكم في أصله بالإجماع أقوى من الذي ثبت الحكم في أصله بالدلائل اللفظية لأن الدلائل اللفظية تقبل التخصيص والتأويل والإجماع لا يقبلهما وهذا مشكل لأنا حيث أثبتنا الإجماع إنما أثبتناه بالدلائل اللفظية والفرع كيف يكون أقوى حالا من الأصل المسألة الثانية قد تقدم في كتاب القياس أن الحكم في الأصل لا يجوز أن يكون مثبتا بالقياس وإن كان قد جوزه قوم والمجوزون اتفقوا على أن القياس الذي ثبت الحكم في أصله بالنص راجح على الذي ثبت الحكم في أصله بالقياس لأن ذلك القياس لا يتفرع على قياس آخر إلى غير نهاية بل لا بد من الانتهاء إلى أصل ثبت حكمه بالنص وإذا كان كذلك فالنص أصل القياس والأصل راجح على الفرع البحث الثاني في تفاصيل أنواع كل واحد من هذه الأجناس الثلاثة فنقول أما الدلائل اللفظية فإما أن تكون متواترة أو آحادا فإن كانت متواترة لم يمكن ترجيح بعضها على بعض إلا بما يرجع إلى المتن وإن كانت آحادا أمكن ترجيح بعضها على بعض بما في المتن وبما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 462 في الإسناد وتلك الوجوه قد ذكرناها فيما تقدم فلا فائدة في الإعادة وبالجملة فكلما كان ثبوت الحكم في الأصل أقوى كان القياس أرجح فإن كان ثبوت الحكم في أحد القياسين مقطوعا وفي الآخر كان الأول أولى لما تقدم أن القياس الذي بعض مقدماته مقطوع والبعض مظنون راجح على ما كل مقدماته مظنون وأيضا فإذا ثبت الحكم في أحد الأصلين بإيماء خبر متواتر فهو راجح على ما ثبت بإيماء خبر واحد ولكن بشرط التعادل في الإيماءين ولو ثبت الحكم في الأصل بخبر الواحد فالذي هو مدلول حقيقة اللفظ راجح على ما هو مدلول مجازه النوع الخامس القول في التراجيح الحاصلة بسبب كيفية الحكم وهي على وجوه أحدها القياس الذي يوجب حكما شرعيا راجح على ما يوجب حكما عقليا لأن القياس دليل شرعي فيجب أن يكون حكمه شرعيا إلا أنا لو قدرنا تقديم العلة المثبتة للحكم الشرعي على المثبتة للحكم العقلي لزم النسخ مرتين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 463 ولو قدرنا تقديم العقل لزم النسخ مرة فإن قلت كيف يجوز أن يستخرج من أصل عقلي علة شرعية قلت يجوز ذلك إذا لم ينقلنا عنه الشرع فنستخرج العلة التي لأجلها لم ينقلنا عنه الشرع أما إذا كان أحد الحكمين نفيا والآخر إثباتا وكانا شرعيين فقيل إنهما يتساويان لكنا ذكرنا في باب ترجيح الأخبار أنه لابد وأن يكون أحدهما عقليا وثانيها الترجيح بكون أحد الحكمين في الفرع حظر فذلك الحظر إما أن يكون شرعيا أو عقليا فإن كان شرعيا فهو راجح على الإباحة لأنه شرعى ولأن الأخذ بالحظر أحوط وإن كان عقليا فكونه حظرا جهة الرجحان وكونه عقليا جهة المرجوحية فيجب الرجوع إلى ترجيح آخر ولا بد في الحظر والإباحة من كون أحدهما عقليا على ما تقدم وثالثها أن يكون حكم إحدى العلتين العتق وحكم الأخرى الرق فالمثبتة للعتق أولى لأن للعتق مزيد قوة ولأنه على وفق الأصل ورابعها إذا كان حكم إحداهما في الفرع إسقاط الحد وحكم الأخرى إثباته فالمسقطة أولى لأن ثبوته على خلاف الأصل فإن قلت المثبت للعقوبات يثبت حكما شرعيا والدارئ يثبت حكما عقليا فالمثبت للحكم الشرعي أولى الجواب أن الشرع إذا ورد بالسقوط صار السقوط حكما شرعيا ولذلك لا يجوز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 464 نسخه إلا بما يسخ الحكم الشرعي وخامسها الترجيح بكون أحد حكمي العلة أزيد من حكم الآخر بأن يكون حكم أحدهما الندب وحكم الآخر الإباحة فالمثبت للندب أولى لأن في الندب معنى الإباحة وزيادة فكانت أولى إذا كانت الزيادة شرعية وسادسها العلة إذا كان حكمها الطلاق كانت راجحة لما ثبت من قوة الطلاق وسابعها القياس على الحكم الوارد على وفق قياس الأصول أولى من القياس على الحكم الوارد بخلاف قياس الأصول وعلته كون الأول متفقا عليه والثاني مختلفا فيه ولأن الأول خال عن المعارض والثاني مع المعارض فيكون الأول أولى وثامنها القياس على أصل أجمع على تعليل حكمه أولى مما لا يكون كذلك وعلته أن على التقدير الأول تكون إحدى مقدمات القياس يقينية وهي كون الحكم في الأصل معللا فيكون ذلك القياس راجحا على مالا يكون شئ من مقدماته يقينيا وتاسعها الترجيح بشهادة الأصول للحكم وقد يراد بها دلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك الحكم وهذه وإن كانت صريحة فهي الأصل في إثبات الحكم فلا يجوز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 465 الترجيح بها وإن مسها احتمال شديد جاز ترجيح القياس بها وعاشرها يقع الترجيح بقول الصحابي لأنه أعرف بمقاصد الرسول ص وكذلك إذا عضدت العلة علة أخرى كما ترجح أخبار الآحاد بعضها ببعض وحادى عشرها أن يلزم من ثبوت الحكم في الفرع محذور كتخصيص عموم أو ترك العمل بظاهر أو ترجيح مجاز على حقيقة وفرق بين هذا الترجيح وبين ما ذكرناه من شهادة الأصول لأن الحكم الشرعي قد يكون بحيث يوجد في الشرع أصول تشهد بصحته وأصول أخر تشهد ببطلانه فالقوة الحاصلة بسبب وجود الأصول التي تشهد بصحته غير القوة الحاصلة بسبب عدم ما يشهد ببطلانه ومن هذا الباب أن يكون الحكم لازما للعلة في كل الصور فإن من يجوز تخصيص العلة يسلم أن العلة المطردة أولى من المخصوصة النوع السادس في التراجيح الحاصلة بسبب مكان العلة وهو إما الأصل أو الفرع أو مجموعها أما الأصل فبأن تشهد للعلة الواحد أصول كثيرة وذلك لأن شهادة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 466 الأصل دليل على كون تلك العلة معتبرة وكل شهادة دليل مستقل فالترجيح بالشهادات الكثيرة ترجيح بكثرة الدلائل وأما الفرع ففيه صور إحداها أن العلة المتعدية أولى من القاصرة عند الأكثرين خلافا لبعض الشافعية لنا أن المتعدية أكثر فائدة ولأنها متفق عليها والقاصرة مختلف فيها فالأخذ بالمتفق عليه أولى فكانت المتعدية أولى احتج المخالف بأن التعدية فرع الصحة والفرع لا يقوى الأصل والجواب لكنه يدل على قوته وثانيها إذا كانت فروع إحدى العلتين أكثر من الأخرى قال بعضهم هو أولى وقال آخرون لا يحصل به الرجحان حجة الأولين أنها إذا كثرت فروعها كثرت فوائدها فكانت أولى فإن قلت إنما يكون إذا كثرت فوائدها الشرعية وكثرة فروعها ترجع إلى كثرة ما خلق الله تعالى من ذلك النوع وليس ذلك بأمر شرعي قلت كثرة وجود الفروع ليس بأمر شرعي لكن الفروع لما كثرت لزم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 467 من جعل هذا الوصف علة كثرة الأحكام فكان أولى احتج الآخرون بوجوه الأول لو كان اعم العلتين أولى من اخصهما لكان العمل بأعم الخطابين أولى من اخصهما الثاني التعدية فرع صحة العلة في الأصل فلو توقفت صحتها على التعدية لزم الدور الثالث كثرة الفروع ترجع إلى كثرة ما خلق الله تعالى من ذلك النوع وليس ذلك بأمر شرعي بخلاف كثرة الأصول والجواب عن الأول إنما لم يكن العمل بأعم الخطابين أولى لأن فيه طرحا لأخصهما وليس كذلك العمل بأخصهما أما العلة فإذا انتهى الأمر إلى الترجيح وترجيح إحداهما يوجب طرح الأخرى فكان طرح ما تقل فائدته أولى وعن الثاني والثالث ما تقدم وثالثها العلة إذا كانت مثبتة للحكم في كل الفروع فهي راجحة على ما تثبت الحكم في بعض الفروع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 468 وسبب الرجحان أن الدال على الحكم في كل الفروع يجري مجرى الأدلة الكثيرة لأن العلة تدل على كل واحد منها وأيضا دلالته على ثبوت الحكم في كل واحد من تلك الفروع يقتضي ثبوته في البواقي ضرورة أن لا قائل بالفرق فهذه العلة العامة قائمة مقام الأدلة الكثيرة وأما العلة الخاصة في الصورة الواحدة فهي دليل واحد فقط فكان الأول أولى وأما الترجيح الراجع إلى الأصل والفرع معا فهو أن تكون العلة يرد بها الفرع إلى ما هو من جنسه والأخرى يرد بها الفرع إلى خلاف جنسه مثاله قياس الحنفية الحلي على التبر أولى من قياسه على سائر الأموال إنما لم يكن العمل بأعم الخطابين أولى لأن فيه طرحا لأخصهما وليس كذلك العمل بأخصهما أما العلة فإذا انتهى الأمر إلى الترجيح وترجيح إحداهما يوجب طرح الأخرى فكان طرح ما تقل فائدته أولى وعن الثاني والثالث ما تقدم وثالثها العلة إذا كانت مثبتة للحكم في كل الفروع فهي راجحة على ما تثبت الحكم في بعض الفروع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 469 وسبب الرجحان أن الدال على الحكم في كل الفروع يجري مجرى الأدلة الكثيرة لأن العلة تدل على كل واحد منها وأيضا دلالته على ثبوت الحكم في كل واحد من تلك الفروع يقتضي ثبوته في البواقي ضرورة أن لا قائل بالفرق فهذه العلة العامة قائمة مقام الأدلة الكثيرة وأما العلة الخاصة في الصورة الواحدة فهي دليل واحد فقط فكان الأول أولى وأما الترجيح الراجع إلى الأصل والفرع معا فهو أن تكون العلة يرد بها الفرع إلى ما هو من جنسه والأخرى يرد بها الفرع إلى خلاف جنسه مثاله قياس الحنفية الحلي على التبر أولى من قياسه على سائر الأموال لأن الاتحاد من حيث الجنسية ثابتة بينهما وهذا آخر الكلام في التراجيح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 469 طبع محققا على ست نسخ لأول مرة منذ أن فرغ مؤلفه من كتابته سنة 575 هـ جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة الرسالة ولا يحق لأية جهة ان تطبع أو تعطي حق الطبع لاحد. الطبعة الثانية 1412 هـ. 1992 م الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 المحصول في علم اصول الفقه للامام الاصولي النظار المفسر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي 544 - 606 هـ / 1149 - 1209 م دراسة وتحقيق الدكتور جابر فياض العلواني الجزء السادس مؤسسة الرسالة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 الكلام في الاجتهاد والنظر في ماهية الاجتهاد والمجتهد والمجتهد فيه وحكم الاجتهاد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 الركن الأول في الاجتهاد وهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أي فعل كان يقال استفرغ وسعه في حمل الثقيل ولا يقال استفرغ وسسعه قبل في حمل النواة وأما في عرف الفقهاء فهو استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه وهذا سبيل مسائل الفروع ولذلك تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهد وليس هذا حال الأصول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 الركن الثاني في المجتهد وفيه مسائل مسألة قال الشافعي رضي الله عنه يجوز أن يكون في أحكام الرسول ص ما صدر عن الإجتهاد وهو قول أبي يوسف رحمه الله وقال أبو علي وأبو هاشم أنه لم يكن متعبدا به وقال بعضهم كان له أن يجتهد في الحروب وأما في أحكام الدين فلا وتوقف أكثر المحققين في ذلك أم المثبتون فقد احتجوا بأمور أحدها عموم قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وكان عليه الصلاة والسلام أعلى الناس بصيرة وأكثرهم إطلاعا على شرائط القياس وما يجب ويجوز فيها وذلك أن لم يرجح دخوله في هذا الأمر على دخول غيره فلا أقل من المساواة فيكون مندرجا تحت الآية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 فكان مأمورا بالقياس فكان فاعلا له وإلا قدح في عصمته وثانيها أنه إذا غلب على ظنه كون الحكم في الأصل معللا بوصف ثم علم أو ظن حصول ذلك الوصف في صورة أخرى فلابد أن يظن أن حكم الله تعالى في الفرع مثل حكمه في الأصل وترجيح الراجح على المرجوح من مقتضيات بدائه العقول على ما قررناه في كتاب القياس وهذا يقتضي أن يجب عليه العمل بالقياس وثالثها أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بالنص فيكون أكثر ثوابا لقوله عليه الصلاة والسلام أفضل العبادات أحمزها أي أشقها ولو لم يعمل الرسول عليه الصلاة والسلام بالاجتهاد مع أن أمته عملوا به كانت الأمة أفضل منه في هذا الباب وإنه غير جائز فإن قلت فهذا يقتضي أن لا يعمل الرسول ص إلا بالاجتهاد لأن ذلك أفضل وأيضا فإنما يجب اتصافه بهذا المنصب لو لم يجد منصبا اعلى منه لكنه وجده لأنه يستدرك الأحكام وحيا وهذا المنصب أعلى من الاجتهاد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 قلت الجواب عن الأول أن ذلك غير ممكن لأن العمل بالاجتهاد مشروط بالنص على أحكام الأصول وإذا كان كذلك تعذر العمل في كل الشرع بالاجتهاد وعن الثاني أن الوحي وإن كان أعلى درجة من الاجتهاد لكن ليس فيه تحمل المشقة في استدراك الحكم ولا يظهر فيه أثر دقه الخاطر وجودة القريحة وإذا كان هذا نوعا مفردا من الفصيلة لم يجز خلو الرسول عنه بالكلية ورابعها قوله عليه الصلاة والسلام العلماء ورثة الأنبياء وهذا يوجب أن تثبت له درجة الاجتهاد ليرثوه عنه إذ لو ثبت لهم ذلك ابتداءا لم يكونوا وارثين عنه فإن قلت أراد به في إثبات أركان الشرع قلت إنه تقييد من غير دليل وخامسها أن بعض السنن مضافة إلى الرسول ص ولو كان الكل بالوحي لم يبق لتلك الإضافة مزيد فائدة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 كما أن الشافعي رضي الله عنه إذا أثبت حكما بالنص الظاهر الجلى الذى لا يفتقر فيه البتة إلى اجتهاد لا يقال أن ذلك مذهب الشافعي فلا يقال مذهب الشافعي رضي الله عنه وجوب الصلوات الخمس وأما الذي يثبته بضرب من اجتهاد فإنه يضاف إليه فكذا هاهنا وأما الذي يدل على أنه كان مجتهدا في أمر الحروب أنه اجتهد في أخذ الفداء عن أسارى بدر بعدما وكان راجعهم في تلك الحال وذلك لا يمكن إلا مع الاجتهاد واحتج المانعون بأمور أحدها قوله تعالى وما ينطق عن الهوى وثانيها إن بعض الصحابة راجعه في منزل نزله وقال إن كان هذا بوحي الله تعالى فالسمع والطاعة وإلا فليس هو بمنزل مكيدة فدل هذا على جواز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 مراجعته في اجتهاده ولا تجوز مراجعته في أحكام الشرع فيلزم ان لا يكون فيها ما هو باجتهاده وثالثها أن الاجتهاد لا يفيد إلا الظن وأنه عليه الصلاة والسلام كان قادرا على تلقيه من الوحي والقادر على تحصيل العلم لا يجوز له الاكتفاء بالظن كالمعاين للقبلة لا يجوز له أن يغمض عينيه ويجتهد فيها ورابعها أن مخالفه عليه الصلاة والسلام في الحكم يكفر لقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم والمخالف في هذه المسائل الشرعية لا يكفر لأن الرجل إذا أجتهد وأخطأ فيها فله أجر واحد والمستوجب للأجر لا يمكن تكفيره وخامسها لو جاز له العمل بالاجتهاد لما توقف في شئ من الأحكام الشرعية على الوحي لأن حكم الوحي في الكل كان معلوما له وطرق الاجتهاد كانت مظنونة له فعند وقوع الواقعة التي ما أنزل عليه فيها وحي كان مأمورا بالاجتهاد فكان ينبغي أن لا يتوقف إلى نزول الوحي لكنه توقف كما في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 مسألة الظهار واللعان وسادسها لو جاز له الاجتهاد لجاز لجبريل عليه السلام وحينئذ لا يعرف أن هذا الشرع الذي جاء به إلى محمد ص من نص الله تعالى أو من اجتهاد جبريل عليه السلام والجواب عن الأول أن الله تعالى متى قال له مهما ظننت كذا فاعلم أن حكمي كذا فها هنا العمل بالظن عمل بالوحي لا بالهوى وعن الثاني إنه يدل على جواز مراجعته في الآراء والحروب والأحكام خارجة عن ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 وعن الثالث أنا إنما نجوز الاجتهاد فيما لم يوجد فيه نص من الله تعالى ولم يكن متمكنا من معرفة الحكم بالنص وعن الرابع أنه لا يمتنع أن يقال الحكم وإن كان مظنونا أولا إلا أنه عليه الصلاة والسلام لما أفتى به وجب القطع به كما قلنا في الإجماع الصادر عن الاجتهاد وعن الخامس أن العمل بالاجتهاد مشروط بالعجز عن وجدان النص فلعله عليه الصلاة السلام كان يصبر مقدار ما يعرف به أن الله تعالى لا ينزل فيه وحيا وعن السادس أن ذلك الاحتمال مدفوع بالإجماع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 مسألة إذا جوزنا له ص الاجتهاد فالحق عندنا إنه لا يجوز أن يخطئ وقال قوم يجوز بشرط أن لا يقر عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 لنا أنا مأمورون باتباعه في الحكم لقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت فلو جاز عليه الخطأ لكنا مأمورين بالخطأ وذلك ينافي كونه خطأ واحتج المخالف بقوله تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم فهذا يدل على أنه أخطأ فيما أذن لهم وقال تعالى في أسارى بدر لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم فيه عذاب عظيم فقال عليه الصلاة والسلام لو نزل عذاب من الله لما نجا إلا ابن الخطاب وهذا يدل على أنه أخطأ في أخذ الفداء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 ولأنه تعالى قال قل إنما أنا بشر مثلكم فلما جاز الخطأ على من غيره جاز أيضا عليه ولأن النبي ص قال إنكم تختصمون لدي ولعل بعضكم ألحن بحجته من غيره فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذنه إنما أقطع له قطعة من النار فلو لم يجز أن يقضي لأحد إلا بحقه لم يقل هذا ولأنه يجوز أن يغلط في أفعاله فيجوز أن يغلط في أقواله كغيره من المجتهدين والجواب عن هذه الوجوه مذكور في الكتاب الذي صنفناه في عصمة الأنبياء فلا فائدة في الإعادة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 مسألة اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد رسول الله ص فأما في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام فالخوض فيه قليل الفائدة لأنه لا ثمرة له في الفقه ثم نقول المجتهد إما أن يكون بحضرة الرسول عليه الصلاة والسلام أو يكون غائبا عنه أما إن كان بحضرته فيجوز تعبده بالاجتهاد عقلا لأنه لا يمتنع أن يقول الرسول عليه الصلاة والسلام له لقد أوحي إلي بأنك مأمور بأن تجتهد أو مأمورا بأن تعمل على وفق ظنك ومنهم من أحاله عقلا واحتج عليه بأن الاجتهاد في معرض الخطأ والنص آمن منه وسلوك السبيل المخوف مع القدرة على سلوك السبيل الآمن قبيح عقلا وجوابه أن الشرع لما قال له أنت مأمور بأن تجتهد وتعمل على وفق ظنك كان آمنا من الغلط لأنه بعد الاجتهاد يكون آتيا بما أمر به وأما وقوع التعبد به فمنعه أبو علي وأبو هاشم وأجازه قوم بشرط الإذن وتوقف فيه الأكثرون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 احتج المانعون بوجهين الأول أن الصحابة لو اجتهدوا في عصره كما اجتهدوا بعده لنقل كما نقل اجتهادهم بعده الثاني أن الصحابة كانت تفزع في الحوادث إلى الرسول ص ولو كانوا مأمورين بالاجتهاد لما فزعوا إليه واحتج القائلون بالوقوع بأمور الأول أنه عليه الصلاة والسلام حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم فقال عليه الصلاة والسلام لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة الثاني أنه عليه الصلاة والسلام قال لعمرو بن العاص وعقبة بن عامر الجهنى لما أمرهما أن يحكما بين خصمين إن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 أخطأتما فلكما حسنة واحدة الثالث أنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بالمشاورة لقوله تعالى وشاورهم في الأمر ولا فائدة في ذلك إلا جواز الحكم على حسب اجتهادهم والجواب عن الأول لعله قل اجتهادهم في حضرة الرسول ص فلم ينقل لقلته وأيضا فقد نقل اجتهاد سعد بن معاذ وعمرو بن العاص وعن الثاني لعلهم فزعوا إليه فيما لم يظهر لهم فيه وجه الاجتهاد ولعلهم تركوه لصعوبته وسهولة وجدان النص وعن الثالث وهو خبر سعد وعمرو أنه خبر واحد فلا يجوز التمسك به إلا في مسألة عملية وهذه المسألة لا تعلق لها بالعمل وعن الرابع أن ذلك في الحروب ومصالح الدنيا لا في أحكام الشرع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 وأما الغائب عن حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام فلا شك في جواز أن يتعبده الله تعالى بالاجتهاد لا سيما عند تعذر الرجوع وضيق الوقت وأما وقوع التعبد به فقال به الأكثرون والاعتماد فيه على خبر معاذ مسألة في شرائط المجتهد أعلم أن شرط الاجتهاد أن يكون المكلف بحيث يمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام وهذه المكنة مشروطة بأمور أحدها أن يكون عارفا بمقتضى اللفظ ومعناه لأنه لو لم يكن كذلك لم يفهم منه شيئا ولما كان اللفظ قد يفيد معناه لغة وعرفا وشرعا وجب أن يعرف اللغة والألفاظ العرفية والشرعية وثانيها أن يعرف من حال المخاطب أنه يعني باللفظ ما يقتضيه ظاهره إن تجرد أو ما يقتضيه مع قرينة إن وجدت معه قرينة لأنه لولا ذلك لما حصل الوثوق بخطابه لجواز أن يكون عنى به غير ظاهره مع أنه لم يبينه قالت المعتزلة وذلك إنما يعرف بحكمة المتكلم أو بعصمته والحكم بحكمة الله تعالى مبني على العلم بأنه تعالى عالم بقبح القبيح وعالم بغناه عنه وأما أصحابنا فإنهم قالوا الشئ وإن كان جائز الوقوع قطعا لكنه قد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 نقطع بأنه لا يقع فإنا نجوز انقلاب ماء جيحون دما وانقلاب الجدارن ذهبا وتولد الإنسان لا من الأبوين دفعة واحدة ومع ذلك نقطع بأنه لا يقع فكذا ها هنا نحن وإن جوزنا من الله تعالى كل شئ لكنه تعالى خلق فينا علما بديهيا بأنه لا يعني بهذه الألفاظ إلا ظواهرها فلذلك أمنا من وقوع التلبيس وثالثها أن يعرف مجرد اللفظ إن كان مجردا وقرينته إن كان مع قرينة لأنا لو لم نعرف ذلك لجوزنا في المجرد أن تكون معه قرينة تصرفه عن ظاهره ثم القرينة قد تكون عقلية وقد تكون سمعية أما القرينة العقلية فإنها تبين ما يجوز أن يراد باللفظ مما لا يجوز وأما السمعية فهي الأدلة التي تقتضي تخصيص العموم في الأعيان وهو المسمى بالتخصيص أو في الأزمان وهو النسخ والذي يقتضي تعميم الخاص وهو القياس وحينئذ يجب أن يكون عارفا بشرائط القياس ليميز ما يجوز عما لا يجوز ثم هذه الأدلة السمعية غائبة عنا فلا بد من نقلها والنقل إما تواتر أو آحاد فلا بد وأن يكون عارفا بشرائط كل واحد منهما ثم عند الإحاطة بأنواع الأدلة لابد وأن يكون عارفا بالجهات المعتبرة في التراجيح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 فإن قال قائل فصلوا العلوم التي يحتاج المجتهد إليها قلنا قال الغزالي رحمه الله مدارك الأحكام أربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل فلا بد من العلم بهذه الأربعة ولا بد معها من أربعة أخرى اثنان مقدمان واثنان مؤخران فهذه ثمانية لا بد من شرحها أما كتاب الله تعالى فلا بد من معرفته وفيه تحقيقان يحيى أحدهما أنه لا يشترط معرفة جميعه بل ما يتعلق منه بالأحكام وهو خمسمائة آية والثاني أنه لا يشترط حفظها بل أن يكون عالما بمواقعها حتى يطلب منها الآية المحتاج إليها عند الحاجة وأما السنة فلا بد من معرفة الأحاديث التي تتعلق بها الأحكام وهي مع كثرتها مضبوطة في الكتب وفيها التحقيقان الرحمن المذكوران إذ لا يلزمه معرفة ما يتعلق من الأخبار بالمواعظ وأحكام الآخرة والثاني أنه لا يلزمه حفظها بل أن يكون عنده أصل مصحح مشتمل على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 الأحاديث المتعلقة بالأحكام وأما الإجماع فينبغي أن يكون عالما بمواقع الإجماع حتى لا يفتي بخلاف الإجماع وطريق ذلك أن لا يفتي إلا بشئ يوافق قول واحد من العلماء المتقدمين أو يغلب على ظنه أنه واقعة متولدة في هذا العصر ولم يكن لأهل الإجماع فيها خوض وأما العقل فيعرف البراءة الأصلية ويعرف أنا مكلفون بالتمسك بها إلا إذا ورد ما يصرفنا عنه وهو نص أو إجماع أو قياس على شرائط الصحة فهذه هي العلوم الأربعة وأما العلمان المقدمان فأحدهما علم شرائط الحد والبرهان على الإطلاق وثانيهما معرفة النحو واللغة والتصريف لأن شرعنا عربي فلا يمكن التوسل إليه إلا بفهم كلام العرب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولا بد في هذه العلوم من القدر الذي يتمكن المجتهد به من معرفة الكتاب والسنة وأما العلمان المتمان وكان فأحدهما يتعلق بالكتاب وهو علم الناسخ والمنسوخ والآخر بالسنة وهو علم الجرح والتعديل ومعرفة أحوال الرجال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 واعلم أن البحث عن أحوال الرجال في زماننا هذا مع طول المدة وكثرة الوسائط أمر كالمتعذر فالأولى الاكتفاء بتعديل الأئمة الذين اتفق الخلق على عدالتهم كالبخاري ومسلم وأمثالهما وقد ظهر مما ذكرنا أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه وأما سائر العلوم فغير مهمة في ذلك أما الكلام فغير معتبر لأنا لو فرضنا إنسانا جازما بالإسلام تقليدا لأمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام وأما تفاريع الفقه فلا حاجة إليها لأن هذه التفاريع ولدها المجتهدون بعد أن فازوا بمنصب الاجتهاد فكيف تكون شرطا فيه واعلم أن الإنسان كلما كان أكمل في هذه العلوم التي لا بد منها في الاجتهاد كان منصبه في الاجتهاد أعلى وأتم وضبط القدر الذي لا بد منه على التعيين كالأمر المتعذر مسألة الحق أنه يجوز أن تحصل صفة الاجتهاد في فن دون فن بل في مسألة دون مسألة خلافا لبعضهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 لنا أن الأغلب من الحادثة في الفرائض أن يكون أصلها في الفرائض دون المناسك والإجارات فمن عرف ما ورد من الآيات والسنن والإجماع والقياس في باب الفرائض وجب أن يتمكن من الاجتهاد وغاية ما في الباب أن يقال لعله شذ منه شئ ولكن النادر لا عبرة به كما أن المجتهد المطلق وإن بالغ في الطلب فإنه يجوز أن يكون قد شذ عنه أشياء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 الركن الثالث المجتهد فيه وهو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع واحترزنا ب الشرعي عن العقليات ومسائل الكلام وبقولنا ليس فيه دليل قاطع عن وجوب الصلوات الخمس والزكوات وما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع وقال أبو الحسين البصري رحمه الله المسألة الاجتهادية هي التي اختلف فيها المجتهدون من الأحكام الشرعية وهذا ضعيف لأن جواز اختلاف المجتهدين فيها مشروط بكون المسألة اجتهادية فلو عرفنا كونها اجتهادية باختلافهم فيها لزم الدور الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 الركن الرابع حكم الاجتهاد وفيه مسائل مسألة ذهب الجاحظ وعبيد الله بن الحسن العنبرى إلى أن كل مجتهد في الأصول مصيب وليس مرادهم من ذلك مطابقة الاعتقاد فإن فساد ذلك معلوم بالضرورة وإنما المراد نفي الإثم والخروج عن عهدة التكليف واتفق سائر العلماء على فساد هذا القول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 حجة الجمهور أمور الأول أن الله تعالى وضع على هذه المطالب أدلة قاطعة ومكن العقلاء من معرفتها فوجب أن لا يخرجوا عن العهدة إلا بالعلم الثاني أنا نعلم بالضرورة أنه عليه الصلاة والسلام أمر اليهود والنصارى بالإيمان به وذمهم على إصرارهم على عقائدهم وقاتل بعضهم وكان يكشف عمن بلغ منهم ويقتله ونعلم قطعا أن المعاند العارف مما يقل وإنما الأكثر مقلدة عرفوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول وصدقه الثالث التمسك بقوله تعالى ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وقوله تعالى وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم وعلى الجملة ذم المكذبين لرسول الله ص من الكفار مما لا ينحصر من الكتاب والسنة أجاب الخصم عن الأول بأنا لا نسلم بأنه تعالى وضع على هذه المطالب أدلة قاطعة ومكن العقلاء من معرفتها وكيف لا نقول ذلك ونرى الخلق مختلفين في الأديان والعقائد من زمان وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وإذا نظرنا في أدلة المختلفين في هذه المسائل وأنصفنا لم نجد واحدا منهم مكابرا قائلا بما يقطع العقل بفساده الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 سلمنا ذلك لكن لا نسلم أن ذلك يقتضي كونهم مأمورين بالعلم ولم لا يجوز أن يقال إنهم أمروا بالظن الغالب سواء كان مطابقا أو غير مطابق وعلى هذا التقدير يكون الآتي به معذورا ثم الذي يدل على أن التكليف لم يقع إلا بالظن الغالب وجهان الأول أن اليقين التام المتولد من الدليل المركب من المقدمات البديهية تركيبا معلوم الصحة بالبديهة إن أمكن فهو عزيز نادر الوجود لا يفي به إلا الفرد بعد الفرد فلا يجوز أن يكون ذلك تكليفا لكل الخلق لأنه عليه الصلاة والسلام قال بعثت بالحنيفية السهلة السمحة وأي حرج فوق أن يكلف الإنسان في الساعة الواحدة معرفة ما عجز الخلق عن معرفته في خمسمائة سنة الثاني أنا كما نعلم بالضرورة أن الصحابة ما كانوا متبحرين في دقائق الهندسة والهيئة والأرثماطيقى روى نعلم بالضرورة أنهم ما كانوا عالمين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 بهذه الأدلة والدقائق والجواب عن شبهات الفلاسفة مع أنه عليه الصلاة والسلام حكم بصحة إيمانهم فدل ذلك على أن التكليف ما وقع بالعلم سلمنا أنهم كلفوا بالعلم في هذه الأصول فلم قلت إن المخطئ فيه معاقب ودعوى الإجماع فيه غير جائزة لأنها دعوى الإجماع في محل الخلاف وعن الثاني أنه عليه الصلاة والسلام كان يقبلهم لجهلهم بالحق أو لإصرارهم على ترك التعلم وطلب المعرفة الأول ممنوع والثاني مسلم فلعله عليه الصلاة والسلام لما بالغ في إرشادهم إلى الحق ثم إنهم لم يلتفتوا إلى بيانه واشتغلوا باللهو والطرب وأصروا على ترك الطلب قتلهم وأما من بالغ في الطلب والبحث ولكن عجز عن الوصول فلم قلت إنه عليه الصلاة والسلام قتل مثل هذا الإنسان سلمنا أنه قتله لكن لم قلت أنه لا بد وأن يكون معاقبا وعن الثالث أنه ذم الكافر والكفر في أصل اللغة هو الستر ومعنى الستر لا يتحقق إلا في حق المعاند الذي عرف الدليل ثم أنكره أو في حق المقلد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 المصر الذي يعرف من نفسه أنه لا يعرف الدليل على صحة الشئ ثم إنه يقول به فأما العاجز المتوقف الذي بالغ في الطلب فلم يصل فهذا لا يكون ساترا لشئ ظهر عنده فلا يكون كافرا ثم احتجوا على صحة قولهم بأنه تعالى رحيم كريم واستقراء أحكام الشرع يدل على أن الغالب على الشرع هو التخفيف والمسامحة حتى إنه لو احتاج إلى أدنى تعب في نفسه أو في ماله في طلب الماء سقط عنه فرض الوضوء وأبيح له التيمم فهذا الكريم الرحيم كيف يليق بكرمه ورحمته وعظم فضله أن يعاقب من أفنى طول عمره في الفكر والبحث والطلب هذا حاصل كلامهم إلا أن الجمهور ادعوا انعقاد الإجماع على مذهبهم قبل حدوث هذا الخلاف مسألة اختلفوا في تصويب المجتهدين في الأحكام الشرعية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 وضبط المذاهب فيه على سبيل التقسيم أن يقال المسألة الاجتهادية إما أن يكون لله تعالى فيها قبل الاجتهاد حكم معين أو لا يكون فإن لم يكن لله تعالى فيها حكم فهذا قول من قال كل مجتهد مصيب وهم جمهور المتكلمين منا كالأشعري والقاضي أبي بكر ومن المعتزلة كأبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم وأتباعهم ثم لا يخلو إما أن يقال إنه وإن لم يوجد في الواقعة حكم إلا إنه وجد ما لو حكم الله تعالى بحكم لما حكم إلا به وأما أن لا يقال بذلك أيضا والأول هو القول بالأشبه وهو منسوب إلى كثير من المصوبين والثاني قول الخلص من المصوبين أما إن قلنا إن في الواقعة حكما معينا عند الله فذلك الحكم إما أن لا يكون عليه إمارة ولا دلالة أو عليه إمارة وليس عليه دلالة أو عليه دلالة أما القول الأول وهو أنه حصل الحكم ولكن من غير أمارة ولا دلالة فهو قول طائفة من الفقهاء والمتكلمين ونقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال في كل واقعة ظاهر وإحاطة ونحن ما كلفنا بالإحاطة وهؤلاء زعموا أن ذلك الحكم مثل دفين يعثر عليه الطالب بالاتفاق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 فلمن عثر عليه أجران ولمن اجتهد ثم غاب عنه أجر واحد وذلك الأجر على ما تحمل من الكد في الطلب لا على نفس الخيبة وأما القول الثاني وهو أن عليه دليلا ظنيا فها هنا أيضا قولان أحدهما أن المجتهد لم يكلف بإصابته لخفائه وغموضه فلذلك كان المخطئ معذورا ومأجورا وهو قول كافة الفقهاء وينسب إلى الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما وثانيهما أنه مأمور بطلبه أولا فإن أخطأ وغلب على ظنه شئ آخر فهناك يتعين التكليف ويصير مأمورا بأن يعمل بمقتضى ظنه ويسقط عنه الإثم تحقيقا وأما القول الثالث وهو أن عليه دليلا قاطعا فهؤلاء اتفقوا على أن المجتهد مأمور بطلبه لكنهم اختلفوا في موضعين أحدهما أن المخطئ هل يستحق الإثم والعقاب أم لا فذهب بشر المريسي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 من المعتزلة إلى أنه يستحق الإثم والباقون اتفقوا على أنه لا يستحق الثاني أنه هل ينقض قضاء القاضي فيه قال الأصم ينقض وقال الباقون لا ينقض فهذا تفصيل المذاهب والذي نذهب إليه أن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا وأن عليه دليلا ظاهرا لا قاطعا وأن المخطئ فيه معذور وقضاء القاضي فيه لا ينقض فلنتكلم أولا في بيان أن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 لنا وجوه الأول أن أحد المجتهدين إذا اعتقد رجحان الأمارة الدالة على الثبوت والمجتهد الثاني اعتقد رجحان الأمارة الدالة على العدم فنقول أحد هذين الاعتقادين خطأ والخطأ منهي عنه بيان الأول أن إحدى الأمارتين إما أن تكون راجحة على الأخرى أو لا تكون فان كانت إحداهما راجحة على الأخرى كان اعتقاد رجحانه صوابا أما اعتقاد رجحان الجانب الآخر يكون غير مطابق للمعتقد فيكون خطأ وإن لم تكن إحداهما راجحة على الأخرى كان كل واحد من الاعتقادين غير مطابق للمعتقد وعلى كل التقديرات لا يكون الإعتقادان ولم مطابقين بل أحدهما يكون مطابقا للمعتقد فثبت أن كل مجتهد ليس بمصيب بمعنى كون اعتقاده مطابقا للمعتقد وهذه إحدى صور الخلاف فإن اكتفينا به جاز وإن أردنا بيان أن الكل ليس بمصيب بمعنى أنهم ما أتوا بما كلفوا به قلنا الدليل عليه أن الاعتقاد الذي لا يكون مطابقا للمعتقد جهل والجهل بإجماع الأمة غير مأمور به فثبت أيضا أن الكل ليسوا بمصيبين بين بمعنى الإتيان بالمأمور به فإن قيل لا نسلم أن أحد الاعتقادين خطأ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 قوله لأن أحدهما اعتقد فيما ليس براجح أنه راجح وذلك خطأ قلنا اعتقد فيما ليس براجح أنه راجح في نفسه أو أنه راجح في ظنه الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن المجتهد لا يعتقد كون أمارته راجحة على أمارة صاحبه في نفس الأمر ولكنه يعتقد كونها راجحة في ظنه والرجحان في ظنه حاصل فكان الاعتقاد مطابقا للمعتقد غايته أنه لم يوجد الرجحان الخارجي لكن عدم الرجحان الخارجي لا يوجب عدم الرجحان الذهني فثبت أن كل واحد من الاعتقادين يمكن أن يكون صوابا سلمنا أن كل واحد منهما اعتقد الرجحان في نفس الأمر ولكنه لم يجزم بذلك الرجحان بل جوز خلافه فلم قلت إن الاعتقاد إذا وجد معه هذا التجويز كان منهيا عنه وخرج عليه الجهل فإنه اعتقاد مخالف للمعتقد مع الجزم والجواب قوله اعتقد كونه راجحا في ظنه أو في نفس الأمر قلنا الرجحان في الذهن إما أن يكون نفس اعتقاد رجحانه في الخارج أو أمرا لا يثبت إلا معه لأنا نعلم بالضرورة أنا لو اعتقدنا في الشئ كون وجوده مساويا لعدمه فمع هذا الاعتقاد يمتنع أن يكون اعتقاد وجوده راجحا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 على اعتقاد عدمه فعلمنا أنه لا بد عند حصول هذا الظن من اعتقاد كونه راجحا في نفسه إما لأن الظن نفس هذا الاعتقاد أو لأنه لا ينفك عنه وعلى كلا التقديرين فالمقصود حاصل قوله هذا الاعتقاد وإن كان غير مطابق لكنه غير جازم قلنا بل هو جازم لأن اعتقاد كون الشئ أولى بالوجود غير اعتقاد كونه موجودا واعتقاد كونه أولى بالوجود حاصل مع الجزم فإن المجتهد يقطع بأن أمارته نظرا إلى هذه الجهة أولى بالاعتبار بلى إنه غير جازم بالحكم لكن الجزم بالأولوية لا يقتضي الجزم بالوقوع كما أنا نقطع بأن الأولى بالغيم الرطب في زمان الخريف أن يكون ممطرا مع أنه قد لا يوجد المطر وعدم المطر لا يقدح في تلك الأولوية بل تلك الأولوية مقطوع بها فكذا ها هنا فثبت أنه حصل لأحد المجتهدين اعتقاد جازم غير مطابق فيكون خطأ وجهلا ومنهيا عنه الطريقة الثانية المجتهد إما أن يكون مكلفا في الحكم بناءا على طريق أو لا بناء على طريق والثاني باطل لأن القول في الدين بمجرد التشهي باطل بإجماع المسلمين فإذن لا بد من طريق فذلك الطريق إما أن يكون خاليا عن المعارض أو لم يكن خاليا عنه فإن كان الأول وهو كونه خاليا عن المعارض تعين ذلك الحكم بإجماع الأمة فيكون تاركه مخطئا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 وإن كان له معارض فإما أن يكون أحدهما راجحا على الآخر أو لا يكون فإن كان أحدهما راجحا على الآخر وجب العمل بالراجح لأن الأمة مجمعة على إنه لا يجوز العمل بالأضعف عند وجود الأقوى فيكون مخالفه مخطئا وإن لم يكن احدهما راجحا فحكم تعارض الأمارتين أما التخيير أو التساقط والرجوع إلى غيرهما وعلى كلا القولين فحكمه معين فمخالفه يكون مخطئا فثبت أن المصيب واحد على كل التقديرات فإن قيل لم لا يجوز أن يكون مكلفا بالحكم لا على طريق قوله الحكم في الدين بمجرد التشهي غير جائز قلنا غير جائز في موضع وجد فيه الدليل أو في موضع لم يوجد فيه الدليل الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن العمل بالدليل مشروط بوجود الدليل وإلا كان ذلك تكليفا بما لا يطاق وفي هذه المسائل الاجتهادية لا دليل لأنه لو وجد لكان تارك العمل به تاركا للمأمور به فيكون عاصيا فيكون مستحقا للنار على ما مر تقديره في مسألة أن الأمر للوجوب ولما اجمعوا على أنه لا يستحق النار علمنا أنه لا دليل وإذا لم يوجد الدليل جاز العمل بمجرد الحدس والتوهم كما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 اشتبهت عليه أمارات القبلة فإنه يجوز له العمل بمجرد الحدس والتوهم سلمنا أنه أمر بالحكم بناء على طريق لكن لم لا يجوز أن يحصل في مقابلته طريق آخر فيكون أحدهما راجحا على الآخر قوله أجمعوا على وجوب العمل بالراجح قلنا العمل بالراجح واجب على من علم ذلك الرجحان أو على من لم يعلم الأول مسلم والثاني ممنوع بيانه أن الأمارة الراجحة يجب العمل بها على من اطلع عليها أما من لم يطلع عليها فجاز أن يكلفه العمل بالأضعف فإنه غير مستبعد في العقل أن تكون مصلحة أحد المجتهدين في العمل بأقوى الأمارات ومصلحة الآخر في العمل بأضعفها أهل ومتى كان ذلك فإن الله تعالى يخطر على قلب من مصلحته العمل بأقواها وجوه الترجيح ويشغل الآخر عنها فيظن أنها أقوى الأمارات لأن مصلحته العمل على أضعف الأمارات والظن بكونها أقوى الأمارات مع كونها في نفسها أضعف الأمارات لا يقبح ألا ترى أنه لا يقبح الظن بكون زيد في الدار وإن لم يكن فيها وإذا ثبت أن هذا الذي قلنا جائز عقلا فما الدليل على أنه غير واقع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 والجواب قوله إنما يجب العمل به عند وجود الدليل وها هنا لا دليل قلنا الدليل على وجود الدليل الظاهر إجماع الأمة على وجود الترجيح بأمور حقيقية لا خيالية ووجود الترجيح يستدعي وجود أصل الدليل أعني القدر المشترك بين الدليل اليقيني والدليل الظاهري قوله يجوز العمل بالأضعف إذا لم يعرف الأقوى قلنا مقدار رجحان القوي على الضعيف أما أن يكون الاطلاع عليه ممكنا أو لا يكون فإن لم يكن ذلك لم يكن ذلك القدر معتبرا في حق المكلف وإلا كان تكليفا بما لا يطاق فيكون القدر المعتبر بين الأمارتين في حق المكلف مساويا لا راجحا وإن أمكن الاطلاع عليه فإما أن يجب على المكلف تحصيل العلم بتلك الأمارة إلى أقصى الإمكان أو لا يجب فإن كان الأول كان من لم يصل في معرفتها إلى أقصى الإمكان تاركا للواجب فيكون مخطئا وإن كان الثاني فهو محال لأنه إما أن يكون هناك حد ما متى لم يصل إليه لم يكن معذورا وإذا وصل إليه لم يكلف بالزيادة عليه وإما أن لا يكون الأمر كذلك فان كان الأول وجب أن يكون من لم يصل إلى ذلك الحد المعين مخطئا ومن وصل إليه يكون مصيبا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 وهذا خلاف الإجماع لأنه لم يدع أحد من الأمة حدا معينا في الاجتهاد بحيث أن المجتهد متى لم يصل إليه كان مخطئا وغير معذور ومتى وصل إليه كان مصيبا وأما الثاني وهو أن لا يكون هناك حد معين فحينئذ لا تكون التخطئة عند بعض المراتب أولى منها عند بعض فإما أن لا يخطئ أصلا فيكون العمل بالظن كيف كان ولو مع ألف تقصير مصيبا وهذا باطل في الإجماع أو لا يكون مخطئا إلا إذا وصل إلى النهاية الممكنة وهو المطلوب الطريقة الثالثة المجتهد يستدل بشئ على شئ والاستدلال عبارة عن استحضار العلم بأمور يلزم من وجودها وجود المطلوب واستحضار العلم بالشئ متوقف على وجود ذلك الشئ فالاستدلال متوقف على وجود الدليل ووجود ما يدل على الشئ متوقف على وجود ذلك الشئ والاستدلال على الشئ يتوقف على وجود المدلول لأن دلالته عليه نسبة بينه وبين المدلول والنسبة بين الأمرين متوقفة في الثبوت على كل واحد منهما فوجود المطلوب متقدم على الاستدلال بمراتب والظن متأخر عن الاستدلال لأنه نتيجته وأثره فلو كان الحكم لا يحصل إلا بعد الظن كان المتقدم على الشئ بمراتب نفس المتأخر عن الشئ بمراتب وهو محال الطريقة الرابعة المجتهد طالب والطالب لا بد له من مطلوب متقدم في الوجود على وجود الطلب فلا بد من ثبوت حكم قبل وجود الطلب وإذا كان كذلك كان مخالف ذلك الحكم مخطئا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 فان قلت لا نسلم أن المجتهد يطلب حكم الله تعالى بل إنما يطلب غلبة الظن ومثاله من كان على ساحل البحر فقيل له إن غلب على ظنك السلامة أبيح لك الركوب وإن غلب على ظنك العطب حرم عليك الركوب وقبل حصول الظن لا حكم لله تعالى عليك وإنما حكمه يترتب على ظنك بعد حصوله فهو يطلب الظن دون الإباحة والتحريم قلت المجتهد أما أن يطلب الظن كيف كان أو ظنا صادرا عن النظر في أمارة تقتضيه الأول باطل بإجماع الأمة فثبت أنه يطلب ظنا صادرا عن النظر في الأمارة والنظر في الأمارة متوقف على وجود الأمارة ووجود الأمارة متوقف على وجود المطلوب فثبت أن طلب الظن متوقف على وجود المدلول بمراتب فلو كان وجود المدلول متوقفا على حصول الظن لزم الدور وهذا غير ما قررناه في الطريقة الثانية واحتج القائلون بأنه لا حكم لله تعالى في الواقعة بأمور أحدها لو كان في الواقعة لله حكم لكان إما أن يكون عليه دليل وأعني بالدليل القدر المشترك بين ما يفيد الظن وبين ما يفيد اليقين أو لا يكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 والقسمان باطلان فبطل القول بثبوت الحكم أما الملازمة فظاهرة وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون عليه دليل لأنه لو كان عليه دليل لكان المكلف متمكنا من تحصيل العلم أو الظن به فكان الحاكم بغيره حاكما بغير ما أنزل الله تعالى فيلزم تكفيره لقوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وتفسيقه لقوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون والقطع بأنه من أهل النار لأنه يكون تاركا لما أمر الله به وتارك المأمور به عاص والعاصي من أهل النار لقوله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها ولما أجمعت الأمة على فساد هذه اللوازم علمنا أنه ليس على الحكم دليل فإن قلت هذه العمومات مخصوصة لأن أدلة هذه الأحكام غامضة فيكون التكليف باتباعها حرجا وذلك منفي بقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج قلت غموض أدلة هذه الأحكام لا يزيد على غموض أدلة المسائل العقلية مع كثرة مقدماتها وكثرة الشبه فيها وكون الخطأ فيها كفرا وضلالا فكذا ها هنا وإنما قلنا إنه لا يجوز أن لا يكون عليه دليل لأنه لو كان كذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 لكان التكليف به تكليفا بما لا يطاق وإنه غير جائز فثبت بما ذكرنا فساد القسمين ويلزم من فسادهما القطع بأنه لا حكم في الواقعة ألبتة وثانيها أن الأمة مجمعة على أن المجتهد مأمور بأن يعمل على وفق ظنه ولا معنى لحكم الله إلا ما أمر به وإذا كان مأمورا بالعمل بمقتضى ظنه فإذا عمل به كان مصيبا لأنه يقطع بأنه عمل بما أمره الله به فوجب أن يكون كل مجتهد مصيبا وثالثها لو وجد الحكم لوجد عليه دليل قاطع لكن لم يوجد عليه دليل قاطع فوجب أن لا يوجد الحكم ألبتة بيان الملازمة هو أن بتقدير وجود الحكم إما أن يوجد عليه دليل أو لا يوجد عليه دليل فإن لم يوجد عليه دليل ألبتة كان التكليف بذلك الحكم تكليف ما لا يطاق وأن وجد عليه دليل فذلك الدليل إما أن يكون مستلزما لذلك المذكور قطعا أو ظاهرا أو لا قطعا ولا ظاهرا والقسمان الأخيران باطلان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 أما أنه لا يجوز أن لا يستلزمه قطعا فالأمر فيه ظاهر لأن الذي يكون كذلك استحال أن يتوصل به إلى ثبوت المدلول وأما أنه لا يجوز لا أن يستلزمه ظاهرا فلأن هذا الدليل إما أن يمكن وجوده بدون المدلول أو لا يمكن فإن لم يمكن كان مستلزما له قطعا لا ظاهرا وإن أمكن وجود الدليل بدون ذلك المدلول في بعض الصور فلو استلزمه في صورة أخرى فلا يخلو إما أن تتوقف صيرورته مستلزما على انضمام قيد إليه أو لا تتوقف فإن توقف على انضمام قيد إليه كان المستلزم للمدلول ذلك المجموع لا ذلك الذي فرضناه أولا دليلا وإن لم يتوقف على انضمام قيد إليه فذلك الشئ تارة ينفك عن المدلول وأخرى يستلزمه من غير انضمام قيد إليه لا بالنفي ولا بالإثبات فيلزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح وذلك محال وإذا ثبت أن المستلزم هو ذلك المجموع فذلك المجموع إن أمكن انفكاكه عن المدلول استحال أن يستلزم المدلول إلا بقيد آخر فإما أن يتسلسل وهو محال أو ينتهي إلى شئ يمتنع انفكاكه عن المدلول فحينئذ يكون دليلا قطعيا لا ظاهرا فإن قلت الدليل الظاهر هو الذي يستلزم كون المدلول أولى بالوجود أو كونه غير منته إلى الوجوب وهذا المعنى ملازم له أبدا قلت الأولوية التي لا تنتهي إلى حد الوجوب ممتنعة لأن مع تلك الأولوية إن امتنع العدم فذلك هو الوجوب وإن لم يمتنع فتلك الأولوية يمكن حصولها مع الوجود تارة ومع العدم أخرى ورجحان أحدهما على الآخر إن توقف على انضمام قيد زائد لم يكن الحاصل أولا كافيا في الرجحان وإن لم يتوقف لزم رجحان الممكن من غير مرجح وهو محال فثبت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 بهذا البرهان القاطع أن الذي لا يستلزم الشئ قطعا استحال أن يستلزمه بوجه من الوجوه لا ظنا ولا ظاهرا فثبت أنه لو وجد في الواقعة حكم معين لوجد عليه دليل قاطع ولما إنعقد الإجماع على أنه ليس كذلك علمنا أنه ليس في الواقعة حكم ألبتة ورابعها لو حصل في الواقعة حكم معين لكان ما عداه باطلا ولو كان كذلك لزم أمور أربعة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 أحدها يلزم أن لا يجوز لأحد من الصحابة أن يولي بعضهم بعضا مع علمهم بكونهم مخالفين لهم في مذاهبهم لأن التمكين من ذلك تمكين من ترويج الباطل وإنه غير جائز لكنه قد وقع ذلك روي أن أبا بكر رضي الله عنه ولى زيدا مع أنه كان يخالفه في الجد وولى علي رضي الله عنه شريحا مع أنه كان يخالفه في كثير من الأحكام وثانيها يلزم أن لا يمكنه من الفتوى وقد كانوا يفعلون ذلك وثالثها كان يجب أن ينقضوا أحكام مخالفيهم وأن ينقض الواحد منهم حكم نفسه الذي رجع عنه لأن كثيرا منهم قضى بقضايا مختلفة لكن لم ينقل عن أحد منهم أنه نقض حكم غيره ولا حكم نفسه عند رجوعه عنه ورابعها أنهم اختلفوا في الدماء والفروج والخطأ في ذلك يكون كبيرا لأنه لا فرق بين أن يمكن غيره بفتواه بالباطل من القتل وأخذ المال وبين أن يقتل ويأخذ المال ويصرفه إلى غير المستحق ابتداء في كونه كبيرا ويجب تفسيق فاعله والبراءة عنه ولما لم يوجد شئ من هذه اللوازم الأربعة علمنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 أنه لا حكم في الواقعة أصلا فإن قلت فلم لا يجوز أن يقال ذلك الخطأ كان من باب الصغائر فلا جرم لم يجب الامتناع عن التولية ولا المنع من الفتوى ولا البراءة ولا التفسيق سلمنا أنه كبيرة فلم لا يجوز أن يقال هذه الأمور إنما تلزم لو حصل في هذه المسائل طريق مقطوع به أما إذا كثرت وجوه الشبه وتزاحمت جهات التأويلات والترجيحات صار ذلك سببا للعذر وسقوط اللوم سلمنا صحة دليلكم لكنه معارض بوجوه الأول ما روى عن الصحابة من التصريح روي عن الصديق الأكبر رضي الله عنه أنه قال في الكلالة أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله تعالى وإن كان خطأ فمنى واستغفر الله وعن عمر رضي الله عنه أنه حكم بحكم فقال له بعض الحاضرين هذا والله هو الحق وحكم بحكم آخر فقال له الرجل هو والله الحق فقال له عمر إن عمر لا يعلم أنه أصاب الحق لكنه لا يألوا جهدا وقال أيضا لكاتبه اكتب هذا ما رأى عمر فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 وقال علي لعمر في قصة المجهضة إن قاربوك فقد غشوك وإن اجتهدوا فقد أخطأوا وقال ابن مسعود في المفوضة أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله عنه بريئان ونقل أن جماعة الصحابة خطأوا ابن عباس في إنكار العول وقال ابن عباس ألا يتقي الله زيد بن ثابت الثاني أن الصحابة اختلفوا قبل العقد لأبي بكر رضي الله عنه فقالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير وكانوا مخطئين لمخالفتهم قوله عليه الصلاة والسلام الأئمة من قريش ولم يلزم من ذلك الخطأ إظهار البراءة والتفسيق فكذا ها هنا الثالث اختلفوا في أن مانع الزكاة هل يقاتل وقضى عمر في الحامل المعترفة بالزنا بالرجم وكان ذلك على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 خلاف النص ولم يلزم تفسيق عمر فكذا ها هنا وأما قوله في الوجه الرابع إنهم اختلفوا في الدماء والفروج والخطأ فيها كبير قلنا لا نسلم فإنه لما لم يمتنع أن تكون الأقوال المختلفة صوابا على مذهبكم فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيها صغيرا وقوله لا فرق بين القتل والغصب ابتداء وبين التمكين منهما بالفتوى الباطلة قلنا لا نسلم ولم لا يجوز أن يكون تمسكه في ذلك بما يشبه الدليل سببا لسقوط العقاب والتفسيق قلت أما الجواب عن الأول فالذي يدل على أنه لو كان خطأ لكان من الكبائر لا من الصغائر أن تارك العمل به تارك للعمل المأمور به فيكون عاصيا فيكون مستحقا للنار وعن الثاني أن غموض الأدلة وكثرة الشبه فيها ها هنا أقل مما في العقليات مع أن المخطئ فيها كافر أو فاسق وعن الثالث أن نقول ترك البراءة والتفسيق مع التمكين من الفتوى والعمل منقول عن هؤلاء الذين نقلتم عنهم التصريح بالتخطئة فلا بد من التوفيق وقد تعذر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 صرفه إلى كون الخطأ صغيرا لما بينا فساده فإذن لا طريق في التوفيق إلا صرف ما نقلناه إلى قسم وما نقلتموه إلى قسم آخر وذلك لآنا لا ندعي التصويب في كل المسائل الشرعية حتى يضرنا ما ذكرتموه أما أنتم فتدعون الخطأ في كل الاختلافات فيضركم حديث ما ذكرناه فنحمل التخطئة على ما إذا وجد في المسألة نص قاطع أو على ما إذا لم يستقص المجتهد في وجوه الاستدلال وقوله إن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان معناه إن استقصيت في وجوه النظر والاستدلال فمن الله وإن قصرت فمني ومن الشيطان وأما المعارضة الثانية فجوابها أن الأنصار ما سمعوا ذلك الحديث فلا جرم لم يستحقوا التفسيق والبراءة بخلاف هذه المسائل فإن كل واحد من المجتهدين عرف حجة صاحبه وأطلع عليها فلو كان مخطئا لكان مصرا على الخطأ بعد اطلاعه عليه فأين أحد البابين من الباب الآخر وهذا هو الجواب أيضا عن اختلافهم في مانعي الزكاة وقصة المجهضة قوله على الوجه الرابع لما جاز أن تكون المذاهب المختلفة في الدماء والفروج خفية فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيها صغيرا لا كبيرا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 قلنا قد ذكرنا الدليل على أن الخطأ في هذا الباب لا بد وأن يكون كبيرا ولأنه روي أنه عليه الصلاة والسلام قال من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله فهذا وأمثاله من الأحاديث التي لا حد لها يدل على أنه لو كان المفتي في هذه الوقائع مخطئا لكان خطؤه كبيرة لا صغيرة وخامسها لو كان المجتهد مخطئا لما حصل القطع بكون الخطأ فيه مغفورا وقد حصل ذلك فهو ليس بمخطئ بيان الملازمة أنه لو حصل القطع بكون الخطأ مغفورا لكان في ذلك الوقت إما أن يجوز المخطئ كونه مخلا بنظر يلزمه فعله أو لا يجوز ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 فإن لم يجوز ذلك كان كالساهي عن النظر الزائد فلم يكن مكلفا بفعله وإذا لم يكن مكلفا بفعله لم يستحق العقاب بتركه فلا يكون مخطئا وقد فرض مخطئا هذا خلف وإن جوز كونه مخلا بنظر زائد لم يخل إما أن يعلم في تلك الحالة أنه مغفور له إخلاله بذلك النظر الزائد أو لا يعلم ذلك فإن علم ذلك لم يصح لأن المجتهد لا يعلم المرتبة التي إذا انتهى إليها غفر له ما بعدها لأنه إن اقتصر على أول المراتب لم يغفر له ما بعدها وما من مرتبة ينتهي إليها إلا ويجوز أن لا يغفر له ما بعدها ولا تتميز بعض تلك المراتب من بعض ولأنه لو عرف تلك المرتبة لكان مغري بالمعصية لأنه علم أنه لا مضرة عليه في ترك النظر الزائد مع كونه مثابا عليه فثبت أنه لا يعرف تلك المرتبة وإذا لم يعرفها جوز أن لا يغفر له إخلاله بما بعدها من النظر وجوز أيضا في كل مخطئ من المجتهدين أنهم ما انتهوا إلى المرتبة التي يغفر لهم ما بعدها وفي ذلك تجويز كونهم غير مغفور لهم فثبت أنه لو كان مخطئا لما حصل القطع بكونه مغفورا له لكنه حصل القطع بذلك لأنهم اتفقوا من لدن عصر الصحابة إلى يومنا هذا أن ذلك مغفور لهم فعلمنا أن المجتهد ليس بمخطئ وسادسها قوله عليه الصلاة والسلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم خير الناس في تقليد أعيان الصحابة وكان الصحابة مختلفين في المسائل فلو كان بعضهم مخطئا في الحكم أو في الاجتهاد لكان قد حثهم على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 الخطأ والمصير إليه وأنه لا يجوز وسابعها قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ لما رتب الاجتهاد على السنة والسنة على الكتاب أصبت حكم بتصويبه مطلقا ولم يفصل بين حالة وحالة فعلمنا أن المجتهد مصيب على الإطلاق والجواب عن الأول أن على الحكم دليلا ظاهرا لا قطعيا قوله لزم كفر تاركه وفسقه بالآيات قلنا عندنا أن المجتهد قبل الخوض في الاجتهاد كان تكليفه أن يطلب ذلك الحكم الذي عينه الله تعالى ونصب عليه الدليل الظاهر فإذا اجتهد وأخطأ ولم يصل إلى ذلك الحكم وغلب على ظنه شئ آخر تغير التكليف في حقه وصار مأمورا بأن يعمل بمقتضى ظنه وعلى هذا التقدير يكون حاكما بما أنزل الله تعالى لا بغير ما أنزل الله فيسقط ما ذكروه من الاستدلال وهذا هو الجواب أيضا عن الحجة الثانية لأنا نسلم أن المجتهد بعد أن اجتهد وغلب على ظنه أن الحكم كذا فإنه يكلف بأن يعمل بمقتضى ذلك الظن وحكم الله تعالى في هذه الحالة في حقه ليس إلا ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال إنه قبل الخوض في الاجتهاد كان مأمورا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 بذلك الحكم الذي عينه الله تعالى ونصب عليه الدليل لكنه بعد الاجتهاد ووقوع الخطأ تغير التكليف وما ذكروه لا ينفي هذا الإحتمال وأيضا فهذه الدلالة منقوضة بما إذا كان النص موجودا في المسألة والمجتهد طلبه ولم يجده ثم غلب على ظنه بمقتضى القياس خلاف ذلك الحكم فإن كان تكليفه في هذه الحالة أن يعمل بمقتضى ذلك القياس مع انعقاد الإجماع على كونه مخطئا في هذه الصورة فما جعلوه جوابا لهم عن هذه الصورة فهو جوابنا عما قالوه واعلم أن من المصوبة من منع التخطئة في هذه الصورة والمعتمد ما قدمناه وهو الجواب عن الوجه الثالث الذي ذكروه وعن الوجه الرابع لأنه إنما يجب البراءة والتفسيق لو كان عاملا بغير حكم الله تعالى لكنه بعد الخطأ مكلف بأن يعمل بمقتضى ظنه فيكون عاملا بحكم الله تعالى فلا يلزم شئ مما ذكروه وعن الخامس أن المرتبة التي عندها يحكم بكونه مغفورا هي أن يأتي بما يقدر عليه من غير تقصير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 وعن السادس أنه معارض بقوله عليه الصلاة والسلام من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد وأيضا فهو خبر واحد وما ذكرناه دلائل قاطعة فلا يحصل التعارض وهو الجواب عن الوجه السابع واعلم أنا نريد أن نتكلم في فروع القول بالتصويب مسألة الذين قالوا ليس في الواقعة حكم معين منهم من قال ب الأشبه على التفسير الذي لخصناه ومنهم من لم يقل به وهو الحق لنا أن ذلك الأشبه إما أن يكون هو العمل بأقوى الأمارات أو غيره فإن كان الأول فأقوى الأمارات إما أن يكون موجودا أو لا يكون فإن كان موجودا كان الأمر به واردا لإجماع الأمة على وجوب العمل بأقوى الأمارات فحينئذ يكون الحكم بذلك الأشبه واردا وقد فرضناه غير وارد هذا خلف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 وإن كان أقوى الأمارات غير موجود لم يكن الأشبه أيضا موجودا لأنا فرضنا أن الأشبه هو نفس أقوى الأمارات وأما إن كان الأشبه شيئا غير العمل بأقوى الأمارات فإما أن تكون مفسدة للمكلف أو مصلحة له أو لا مفسدة ولا مصلحة والأول باطل لأنه ليس في الأمة أحد يقول إنه يجب أن يكون في كل واقعة حكم لو نص الله تعالى على الحكم لنص عليه مع أنه يكون مفسدة وأما الثاني وهو أن يكون مصلحة فإما أن تجب على الله تعالى رعاية المصالح أو لا تجب فان وجبت وجب عليه التنصيص على ذلك الحكم ليتمكن المكلف من استيفاء تلك المصلحة وإن لم تجب عليه رعاية المصلحة جاز منه تعالى أن ينص على غير ذلك الحكم وذلك يبطل القول بأنه لو نص على الحاكم لما نص إلا عليه وأما الثالث وهو أن يكون ذلك الأشبه لا مصلحة ولا مفسدة فهذا إنما يمكن لو قلنا إنه لا تجب عليه رعاية المصالح وكل من قال بهذا القول قال إنه لا يتعين عليه تعالى أن يحكم على وجه معين بل له أن يحكم كيف شاء وذلك يمنع من القول بتعين الأشبه واحتج القائلون بالأشبه بالنص والمعقول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام إذا اجتهد الحاكم وأخطأ فله أجر واحد صرح بالتخطئة وهذه التخطئة ليست لأجل مخالفة حكم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 واقع لأنا قد دللنا على أنه لا حكم فلا بد وأن يكون لأجل كونه مخالفا لحكم مقدر وهو الأشبه وأما المعقول فهو أن المجتهد طالب والطالب لا بد له من مطلوب ولما لم يكن المطلوب معينا وقوعا وجب أن يكون معينا تقديرا والجواب أن ذلك الأشبه إن كان هو العمل بأقوى الأمارات فهو حق وهو قولنا وإن كان غيره مع أن الله تعالى لم ينص عليه ولا أقام عليه دلالة ولا أماره فكيف يكون مخطئا بالعدول عنه وكيف ينقص ثوابه إذا لم يظفر بما لم يكلف بإصابته ولا سبيل له إلى إصابته وهذا هو بعينه الجواب عن الوجه المعقول مسألة القائلون بأن المصيب واحد احتجوا بأن القول بتصويب الكل يفضي إلى وقوع منازعة لا يمكن قطعها وهذا كما إذا نكح رجل امرأة وكانا مجتهدين ثم قال أنت بائن ثم راجعها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 والزوج شافعي يرى الرجعة والمرأة حنفية ترى الكنايات بوائن فها هنا الزوج متمكن شرعا من مطالبتها بالوطء والمرأة مأمورة بالامتناع وهذه منازعة لا يمكن قطعها قال المصوبون هذا الإشكال وارد عليكم أيضا فإن أهل التحقيق منكم ساعدوا على أنه يجب على المجتهد العمل بموجب ظنه إذا لم يعرف كونه مخطئا فهذا الإلزام أيضا وارد عليكم ولما كان هذا الإشكال واردا على المذهبين وجب أن نذكر تقسيما في بيان الحوادث النازلة بالمكلفين ليظهر إنه لا نزاع فيها فنقول الحادثة إما أن تنزل بمجتهد أو بمقلد فإن نزلت بمجتهد فإما أن تختص به أو تتعلق بغيره فإن اختصت به عمل بما يؤديه إليه اجتهاده فإن استوت عنده الأمارات تخير بينها أو يعاود الاجتهاد إلى أن يظهر الرجحان وإن تعلقت بغيره فإن كان يجري فيه الصلح نحو التنازع في مال اصطلحا فيه أو رجعا إلى حاكم يفصل بينهما أن وجد فإن لم يوجد رضيا من يحكم بينهما ومتى حكم لم يكن لهما الرجوع عنه وإن لم يجر الصلح فيه كما ذكرنا في مسألة الكنايات فإنهما يرجعان إلى من يفصل بينهما سواء كان صاحب الحادثة مجتهدا وحاكما أو لم يكن فإن الحاكم لا يجوز له أن يحكم لنفسه على غيره بل ينصب من يقضي بينهما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 وإن كان مقلدا فإن كانت الحادثة تخصه عمل على ما اتفق عليه من الفتوى وإن اختلفوا عمل بفتوى الأعلم الأورع فإن استويا تخير بينهما وإن كانت تتعلق بغيره عمل كما بيناه في حق المجتهدين مسألة في نقض الاجتهاد المجتهد إذا تغير اجتهاده ففيه بحثان الأول أن المجتهد كيف يعمل والثاني أن العامى الذي عمل بفتواه كيف يعمل أما الأول فنقول المجتهد إذا أفضى اجتهاده إلى أن الخلع فسخ فنكح امرأة خالعها ثلاثا ثم تغير اجتهاده فإما أن يكون قد قضى القاضي بصحة ذلك النكاح قبل تغير اجتهاده أو ما قضى بذلك فإن كان الأول بقى النكاح صحيحا لأن قضاء القاضي لما اتصل به فقد تأكد فلا يؤثر فيه تغير الاجتهاد وإن كان الثاني لزم تسريحها ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده وأما الثاني وهو ما إذا أمسك العامي زوجته بفتوى المفتي بأن الخلع فسخ فإذا تغير اجتهاد المفتي فالصحيح أنه يجب عليه تسريحها كما إذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 تغير اجتهاد متبوعه عن القبلة في أثناء الصلاة فإنه يتحول إلى الجهة الأخرى بخلاف قضاء القاضي فإنه متى اتصل بالحكم المجتهد فيه استقر واعلم أن قضاء القاضي لا ينتقض بشرط أن لا يخالف دليلا قاطعا فان خالفه نقضناه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 الكلام في المفتي والمستفتي والنظر فيه يتعلق بالمفتي والمستفتي وما فيه الاستفتاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 القسم الأول في المفتي وفيه مسائل مسألة إذا أفتى المجتهد بما أدى إليه اجتهاده ثم سئل ثانيا عن تلك الحادثة فإما أن يكون ذاكرا لطريق الاجتهاد الأول أو لا يكون فإن كان ذاكرا له فهو مجتهد وتجوز له الفتوى وإن نسيه لزمه أن يستأنف الاجتهاد فإن أداه اجتهاده إلى خلاف فتواه في الأول أفتى بما أداه اجتهاده إليه ثانيا ثم الأحسن به أن يعرف من استفتاه أولا أنه رجح عن ذلك القول لأن ذلك المستفتي إنما يعول على قوله فإذا ترك هو قوله بقي عمل المستفتي به بعد ذلك عملا من غير موجب روي عن ابن مسعود أنه كان يقول في تحريم أم المرأة مشروط بالدخول بالمرأة فلقي أصحاب رسول الله ص وذاكرهم فكرهوا أن يتزوجها فرجع ابن مسعود إلى من كان أفتاه قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 سألت أصحابي فكرهوا وأما إن لم يستأنف الاجتهاد لم تجز له الفتوى ولقائل أن يقول لما كان الغالب على ظنه أن الطريق الذي تمسك به أولا كان طريقا قويا حصل له الآن ظن أن ذلك القوي حق جاز له الفتوى به لأن العمل بالظن واجب مسألة اختلفوا في أن غير المجتهد هل تجوز له الفتوى بما يحكيه عن الغير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 فنقول لا يخلوا إما أن يحكى عن ميت أو عن حي فإحكي لأنه عن ميت لم يجز الأخذ بقوله لأنه لا قول للميت بدليل أن الإجماع لا ينعقد مع خلافه حيا وينعقد مع موته وهذا يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته فإن قلت فلم صنفت كتب الفقه مع فناء أربابها قلت لفائدتين إحداهما استفادة طريق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث وكيفية بناء بعضها على بعض والأخرى معرفة المتفق عليه من المختلف فيه ولقائل أن يقول اذا كان الراوي عدلا ثقة متمكنا من فهم كلام المجتهد الذي مات ثم روى للعامي قوله حصل للعامي ظن صدقه ثم إذا كان المجتهد عدلا ثقة فذلك يوجب ظن صدقه في تلك الفتوى وحينئذ يتولد للعامي من هذين الظنين ظن أن حكم الله تعالى ما روى له هذا الراوى الحي عن ذلك المجتهد الميت والعمل بالظن واجب فوجب أن يجب على العامي العمل بذلك وأيضا فقد إنعقد الإجماع في زماننا هذا على جواز العمل بهذا النوع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 من الفتوى لأنه ليس في هذا الزمان مجتهد والإجماع حجة وأما إن حكى عن حي من أهل الاجتهاد فإما أن يكون سمعه مشافهة أو يرجع فيه إلى كتاب أو حكاية حال فإن كان سمعه منه مشافهة جاز أن يعمل به وجاز أن يعمل الغير أيضا بقوله ولهذا يجوز للمرأة أن تعمل في حكم حيضها بحكاية زوجها عن المفتين ورجع علي رضي الله عنه إلى حكاية المقداد عن رسول الله ص في شأن المذي وإن رجع في ذلك إلى حكاية من يوثق بقوله فحكم ذلك حكم السماع وإن رجع إلى كتاب فإن كان كتابا موثوقا به جرى مجرى المكتوب من جواب المفتي في أنه يجوز العمل به وإلا فلا لكثرة ما يتفق من الغلط في الكتب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 القسم الثاني في المستفتي مسألة يجوز للعامي أن يقلد المجتهد في فروع الشرع خلافا لمعتزلة بغداد وقال الجبائى يجوز ذلك فيما كان من مسائل الاجتهاد لنا وجهان الأول إجماع الأمة قبل حدوث المخالف لأن العلماء في كل عصر لا ينكرون على العامة الاقتصار على مجرد أقاويلهم ولا يلزمونهم أن يسألوهم عن وجه اجتهادهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 الثاني أن العامي إذا نزلت به حادثة من الفروع فإما أن لا يكون مأمورا فيها بشئ وهو باطل بالاجماع لأنا نلزمه إلى قول العلماء والخصم يلزمه الرجوع إلى الاستدلال وإما أن يكون مأمورا فيها بشئ وذلك إما بالاستدلال أو بالتقليد والاستدلال باطل لأنه إما أن يكون هو التمسك بالبراءة الأصلية أو التمسك بالأدلة السمعية والأول باطل بالإجماع والثاني أيضا باطل لأنه لو لزمه أن يستدل لم يخل من أن يلزمه ذلك حين كمل عقله أو حين حدثت المحادثة والأول باطل لوجهين أحدهما أن الصحابة ما كانوا يلزمون من لم يشرع في طلب العلم ولم يطلب رتبة المجتهد في أول ما يكمل عقله وثانيهما أن وجوب ذلك عليه يمنعه من الاشتغال بأمور الدنيا وذلك سبب لفساد العالم والثاني أيضا باطل لأنه يقتضي أن يجب عليه اكتساب صفة المجتهدين عند نزول الحادثة وذلك غير مقدور له ولقائل أن يقول على هذا الوجه القائلون بأنه لا يجوز التقليد في الشرع لا يقولون بالإجماع ولا بخبر الواحد ولا بالقياس ولا يجوزون التمسك بالظواهر المحتملة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 وإذا كان كذلك سها الأمر عليهم فإنهم قالوا قد تقرر في عقل كل عاقل أن الأصل في اللذات الإباحة وفي المضار الحرمة فإن جاء في بعض الحوادث نص قاطع المتن قاطع الدلالة يوجب ترك ذلك الأصل العقلي قلنا به وإن لم يوجد ذلك وجب البقاء على حكم العقل وإذا ثبت هذا فالعامي إذا وقعت له واقعة فإما أن يكون فيه شئ من الذكاء أو لا يكون بل يكون في غاية البلادة فإن كان فيه شئ من الذكاء عرف حكم العقل فيه وان كان في غاية البلادة نبهه المفتي على حكم العقل وليس لأحد أن يقول الاشتغال بذلك يمنعه عن عمل المعاش لأنه إذا جاز تكليفه بمعرفة الأدلة الدقيقة في مسائل الأصول ولا يمنعه ذلك عن المعاش فكيف تمنعه معرفة هذا القدر من طلب المعاش ثم إذا عرف العامي حكم العقل وأن ما في الواقعة نص يوجب ترك العمل بحكم العقل قاطع المتن قاطع الدلالة نبهه المفتي عليه ولا حاجة في فهم مثل هذا النص إلى تدقيق يمنعه من عمل المعاش وإن لم يوجد فيه مثل هذا النص وجب عليه العمل بحكم العقل فثبت أن المنع من التقليد إنما يصعب على قول من يوجب العمل بالقياس وخبر الواحد أما من لا يقول بذلك فلا صعوبة عليه ألبتة وأيضا فهذه الدلالة لو صحت لوجب القول بجواز التقليد في مسائل الأصول لأنا نعلم أن الوقوف على تلك الدلائل لا يحصل إلا بعد الكد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 الكثير ونحن نعلم من حال الصحابة أنهم ما كانوا يلومون من لم يتعلم علم الكلام في أول زمان بلوغه وأيضا الأشتغال بتحصيله يمنع من الاشتغال بأمر المعاش أجابوا بأن الذي يجب على المكلف معرفة أدلة التوحيد والنبوة على طريق الجملة لا على طريق التفصيل ومعرفة تلك الأدلة على سبيل الإجمال أمر سهل هين يحصل بأدنى سبب بخلاف الاجتهاد في فروع الشرع فإنه لا بد فيه من علوم كثيرة وتبحر شديد واعلم أن هذا الفرق إنما يتلخص إذا سلمنا لهم الفرق بين مباحث الجملة ومباحث التفصيل وعندي أن هذا الفرق باطل وذلك لأن الدليل إذا كان مركبا مثلا من مقدمات عشر فالمستدل إن كان عالما بها بأسرها وجب حصول العلم النظري له لا محالة وأن امتنعت الزيادة عليه لأن تلك المقدمات العشر إذا كانت مستقلة بالانتاج أخبرنا فلو انضمت مقدمة أخرى إليها استحال أن يكون لها أثر ألبتة وأما إن لم يحصل العلم بأسرها مثل أن يحصل العلم بتسع منها ولم تكن المقدمة العاشرة معلومة بالضرورة ولا بالدليل بل مقبولة على سبيل التقليد فتكون النتيجة المتولدة عن مجموع تلك العشر تقليدا لا يقينا فثبت أن التمسك بالدليل لا يقبل الزيادة والنقصان ألبتة مثاله أنهم يقولون صاحب الجملة يكفيه الاستدلال بحدوث الحوادث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 من البرق والرعد والحر والبرد على وجود الصانع فنقول هذا لا يكفي لأنا نقول هذه الحوادث لا بد لها من مؤثر وذلك المؤثر يجب أن يكون فاعلا مختارا أما المقدمة الأولى فمعلومة للعوام وأما الثانية فغير معلومة لهم لأنه ما لم يثبت أن ذلك ليس أثرا لمؤثر موجب لم يجب أن يكون إسناده إلى المختار فإذا قطع العامي بأن ذلك المؤثر يجب أن يكون مختارا من غير دليل عليه كان مقلدا في هذه المقدمة وإذا كان مقلدا فيها لم يكن محققا في النتيجة وأيضا إذا رأى حدوث فعل خارق للعادة على يد مدعي النبوة فلو قطع عند ذلك بنبوته كان ذلك تقليدا لأن قبل الدليل يجوز أن يكون ذلك الحادث ليس فعلا لله تعالى بل خاصية لنفس الرسول أو خاصية لدواء أو فعلا من أفعال الجن وبتقدير أن يكون فعلا لله تعالى لكن يجوز أن لا يكون لله تعالى فيه غرض وإن كان له فيه غرض جاز أن يكون ذلك الغرض شيئا سوى التصديق فلو قطع العامي بأن ذلك الفعل الخارق للعادة لا بد وأن يكون دالا على صدق المدعي من غير دليل يدل على فساد هذه الأقسام كان مقلدا في اعتقاد هذه المقدمة فلم يكن محققا في النتيجة فظهر بهذا فساد ما قالوه من الفرق بين صاحب الجملة وبين صاحب التفصيل وحينئذ لا يبقى إلا أحد أمرين إما أن يقال بأن الإحاطة بأدلة الدين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 على تفصيلها وتدقيقها شئ سهل هين وذلك مكابرة وإما أن يقال يجوز فيه التقليد كما جوزوا في فروع الشرع التقليد وحينئذ لا يبقى بينهما فرق ألبتة واحتج منكرو التقليد في فروع الشرع بأمور أحدها قوله تعالى وإن تقولوا على الله مالا تعلمون وثانيها أن الله تعالى ذم أهل التقليد بقوله تعالى إنا وجدنا آباءنا على أمة وثالثها قوله عليه الصلاة والسلام طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة توافقنا على خروج بعض العلوم عن هذا العموم فبقي العلم بفروع الشرع وأحكامه ورابعها القول بجواز التقليد يفضي إلى بطلانه لأنه يقتضي جواز تقليد من يمنع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 من التقليد وما يفضي ثبوته إلى عدمه كان باطلا وخامسها قوله عليه الصلاة والسلام اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له أمر بالإجتهاد مطلقا وسادسها أن العامي إذا قلد لم يأمن من جهل المفتي وفسقه فيكون فاعلا للمفسدة وسابعها لو جاز التقليد في فروع الشرع لكان ذلك لأنه حصلت أمارات توجب ظن صدق المفتي وهذا المعنى قائم في أصول الدين فوجب الاكتفاء بالفتوى في الأصول أيضا والجواب عن الأول أنه منقوض بكل ظن وجب العمل به كما في أحوال الدنيا وقيم المتلفات وأروش الجنايات وبخبر الواحد والقياس إن سلموا جواز العمل بهما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 وعن السادس والسابع أن نذكر الفرق الذي تقدم وأما الدليل على أن للعامي أن يقلد في مسائل الاجتهاد وغير مسائل الاجتهاد أنا لو كلفناه أن يفصل بين البابين لكنا قد ألزمناه أن يكون من أهل الاجتهاد لأنه إنما يفصل بينهما أهل الاجتهاد فيعود المحذور المذكور واحتج المخالف بأن ما ليس من مسائل الاجتهاد فالحق فيها واحد فلو قلدنا فيها لم نأمن أن نقلد في خلاف الحق وليس كذلك مسائل الاجتهاد لأن كل قول فيها حق والجواب أنا لا نأمن أيضا في مسائل الاجتهاد أن لا يجتهد المفتى أو يقصر في اجتهاده أو يفتيه بخلاف اجتهاده فإن قلتم إن مصلحة العامي هو أن يعمل بما يفتيه المفتي قلنا وكذلك الأمر في تقليده فيما نحن فيه وإن كان غير مصيب مسألة في شرائط الاستفتاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 اتفقوا على أنه لا يجوز له الاستفتاء إلا إذا غلب على ظنه أن من يفتيه من أهل الاجتهاد ومن أهل الورع وذلك إنما يكون إذا رآه منتصبا للفتوى بمشهد الخلق ويرى اجتماع المسلمين على سؤاله واتفقوا على أنه لا يجوز للعامي أن يسأل من يظنه غير عالم ولا متدين وإنما وجب عليه ذلك لأنه بمنزلة نظر المجتهد في الأمارات ثم هاهنا بحث وهو أن أهل الاجتهاد إذا أفتوه فإن اتفقوا على فتوى لزم المصير إليها وإن اختلفوا فقال قوم وجب عليه الاجتهاد في أعلمهم وأورعهم لأن ذلك طريق قوة ظنه يجري مجرى قوة ظن المجتهد وقال آخرون لا يجب عليه هذا الاجتهاد لأن العلماء في كل عصر لا ينكرون على العوام ترك النظر في أحوال العلماء ثم بعد الاجتهاد إما أن يحصل ظن الاستواء مطلقا أو ظن الرجحان مطلقا أو ظن رجحان كل واحد منهما على صاحبه من وجه دون وجه فإن حصل ظن الاستواء مطلقا فها هنا طريقان أحدهما أن يقال هذا لا يجوز وقوعه كما لا يجوز استواء أمارتي الحل والحرمة والآخر أن يقال يسقط عنه التكليف لأنا جعلنا له أن يفعل ما يشاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 وأما إذا حصل ظن الرجحان مطلقا تعين العمل به أما إذا حصل ظن رجحان كل واحد منهما على صاحبه من وجه دون وجه فها هنا صور إحداها أن يستويا في الدين ويتفاضلا في العلم فمنهم من خيره ومنهم من أوجب الأخذ بقول الأعلم وهو الأقرب لمزيته ولهذا يقدم في إمامة الصلاة وثانيتها أن يتساويا في العلم ويتفاضلا في الدين فها هنا وجب الأخذ بقول الأدين وثالثها أن يكون أحدهما أرجح في علمه فقيل يؤخذ بقول الأدين والأقرب ترجيح قول الأعلم لأن الحكم مستفاد من علمه لا من ديانته فإن قلت العامي ربما اغتر بالظواهر وقدم المفضول على الفاضل فإن جاز له أن يحكم بغير بصيرة في ترجيح بعض العلماء على بعض فليجز له أن يحكم في نفس المسألة بما يقع له ابتداء وإلا فأي فرق بين الأمرين قلت من مرض له طفل وليس له طبيب فإن سقاه دواءا برأيه كان متعديا مقصرا ولو راجع طبيبا لم يكن مقصرا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 فإن كان في البلد طبيبان وقد اختلفا في الدواء فخالف الأفضل عد مقصرا ثم أنه يعلم كون أحدهما أعلم من الآخر ب الأخبار وبإذعان المفضول له وبأمارات تفيد غلبة الظن فكذلك في حق العلماء يعلم الأفضل بالتسامع والقرائن دون البحث عن نفس العلم والعامي أهل له فلا ينبغي أن يخالف الظن بالتشهي مسالة الرجل الذي تنزل به الواقعة فإما أن يكون عاميا صرفا أو عالما لم يبلغ درجة الاجتهاد أو عالما بلغ درجة الاجتهاد فإن كان عاميا صرفا حل له الاستفتاء وان كان عالما بلغ درجة الاجتهاد فإن كان قد اجتهد وغلب على ظنه حكم فها هنا أجمعوا على إنه لا يجوز له أن يقلد مخالفه ويعمل بظن غيره أما إذا لم يجتهد فها هنا قد اختلفوا فذهب أكثر أصحابنا إلى أنه لا يجوز للعالم تقليد العالم ألبتة وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وسفيان الثورى رحمهم الله بجوازه مطلقا ومن الناس من فصل وذكر فيه وجوها أحدها أنه يجوز لمن بعد الصحابة تقليد الصحابة ولا يجوز تقليد غيرهم وهو القول القديم للشافعي رضى الله عنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 وثانيها أنه يجوز تقليد العالم للأعلم وهو قول محمد بن الحسن رحمه الله وثالثها أنه له التقليد فيما يخصه دون ما يفتى به ورابعها أنه يجوز له التقليد فيما يخصه إذا كان بحيث لو اشتغل بالاجتهاد لفاته الوقت وهو قول ابن سريج لنا وجهان الأول أن هذا المجتهد أمر بالاعتبار في قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار ولم يأت به فيكون تاركا للمأمور به فيكون عاصيا فيستحق النار ترك العمل به في حق العامي لعجزه عن الاجتهاد فيبقى معمولا به في حق المجتهد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 الثاني أنه متمكن من الوصول إلى حكم المسألة بفكرته فوجب فوجب أن يحرم عليه التقليد كما في الأصول والجامع وجوب الاحتراز عن الضرر المحتمل عند القدرة على الاحتراز عنه فإن قلت المعتبر في الأصول اليقين وأنه لا يحصل بالتقليد بخلاف الفروع فإن البغية فيها الظن ويمكن حصوله بالتقليد ولذلك جاز للعامي أن يقلد في الفروع دون الأصول وأيضا فما ذكرتموه ينتقض بقضاء القاضي فإنه لا يجوز خلافه وإن كان متمكنا من معرفة الحكم فإنه لا معنى للتقليد إلا وجوب العمل عليه من غير حجة وينتقض أيضا بمن دنا من رسول الله ص فإنه متمكن من الوصول إلى حكم المسألة مع أنه يجوز أن يسأل من أخبر عن رسول الله ص قلت أما الجواب عن الأول فهو أنا إنما أوجبنا على المكلف تحصيل اليقين لأنه قادر والدليل حاضر فوجب عليه تحصيله احترازا عن الخطأ المحتمل وهذا المعنى حاصل في مسألتنا لأن المكلف قادر والدليل المعين للظن الأقوى حاصل فوجب عليه تحصيله احترازا عن الخطأ المحتمل في الظن الضعيف وعن الثاني أنه لما دلت الدلالة على أن الحكم الذي قضى به القاضي لا يمكنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 نسخه بالاجتهاد فلم يكن العمل به تقليدا بل عملا بذلك الدليل وعن الثالث أنه لا نسلم بجواز الاكتفاء بالسؤال من غير الرسول ص عند القدرة واحتج المخالف بأمور أحدها قوله تعالى فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون والعالم قبل أن يجتهد لا يعلم فوجب أن يجوز له السؤال وثانيها قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم والعلماء من أولي الأمر لأن أمرهم ينفذ على الأمراء والولاة وثالثها قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين أوجب الحذر بانذار من تفقه في الدين مطلقا فوجب على العالم قبوله كما وجب على العامي ذلك ورابعها إجماع الصحابة روي أن عبد الرحمن بن عوف قال لعثمان أبايعك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين فقال نعم وكان ذلك بمشهد من عظماء الصحابة ولم ينكر عليه أحد فكان ذلك إجماعا فإن قلت إن عليا خالف فيه قلت إنه لم ينكر جوازه لكنه لم يقبله ونحن لا نقول بوجوبه حتى يضرنا ذلك وخامسها أنه حكم يسوغ فيه الاجتهاد فجاز لمن لم يكن عالما به تقليد من علمه كالعامي والجامع وجوب العمل بالظن الحاصل بقول المفتي وسادسها أجمعنا على أنه يجوز للمجتهد أن يقبل خبر الواحد عن مجتهد آخر بل عن عامي وإنما جاز ذلك اعتمادا على عقله ودينه فها هنا إذا أخبر المجتهد عن منتهى اجتهاده بعد استفراغ الوسع والطاقة فلأن يجوز العمل به كان أولى وسابعها أن المجتهد إذا أدى اجتهاده إلى العمل بفتوى مجتهد آخر فقد حصل ظن أن حكم الله تعالى ذلك وذلك يقتضي أن يحصل له ظن أنه لو لم يعمل به لا ستحق العقاب فوجب أن يجب العمل به دفعا للضرر المظنون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 والجواب عن الأول أن ظاهر الآية يقتضي وجوب السؤال وإنه غير واجب بالاتفاق وأيضا فقوله إن كنتم لا تعلمون يقتضي أن يجب على المجتهد بعد اجتهاده استفتاء غيره لأنه بعد اجتهاده ليس بعالم بل هو ظان وبالإجماع لا يجوز ذلك وأيضا فإنه أمر بالسؤال وليس فيه تعيين ما عنه السؤال فنحن نحمله على السؤال عن وجه الدليل وعن الثاني أن الأصول دلت على وجوب الطاعة لكنها لا تدل على وجوب الطاعة في كل شئ فنحن نحملها على وجوب الطاعة في الأقضية والأحكام والدليل على أن الآية لا تتناول محل النزاع أنها لو تناولته لوجب ذلك التقليد وبالإجماع التقليد غير واجب وعن الثالث أن الآية تدل على وجوب الحذر عند إنذار لا عند كل إنذار ونحن نقول بالأول فإنا نوجب العمل بروايته وعن الرابع أنه يحتمل أن يكون المراد من سيرة الشيخين طريقتهما في العدل والإنصاف والانقياد للحق والبعد عن الدنيا وعن الخامس أن الفرق هو أن العامي قاصر فجاز له العمل بالتقليد والعالم ليس بقاصر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 وعن السادس أن المفتي ربما بنى اجتهاده على خبر واحد فإذا تمسك به المجتهد ابتداءا كان الاحتمال فيه أقل مما إذا قلد فيه غيره وعن السابع أن مجرد الظن واجب العمل به لكن إذا لم يقم دليل سمعي يصرفنا عنه وما ذكرناه من الدلائل السمعية يوجب العدول عن هذا الظن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 القسم الثالث فيما فيه الاستفتاء مسألة لا يجوز التقليد في أصول الدين لا للمجتهد ولا للعوام وقال كثير من الفقهاء بجوازه لنا أن تحصيل العلم في أصول الدين واجب على الرسول ص فوجب أن يجب علينا وإنما قلنا أنه كان واجبا على الرسول ص لقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله وإنما قلنا إنه لما كان واجبا على الرسول ص وجب أيضا على أمته لقوله تعالى واتبعوه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 فان قيل لا نسلم أنه يمكن إيجاب العلم بالله تعالى وذلك لأن المأمور إن لم يكن عالما بالله تعالى فحالما يا لا يكون عالما بالله استحال أن يكون عالما بأمر الله تعالى وحالما يمتنع كونه عالما بأمر الله تعالى يمتنع كونه مأمورا من قبله وإلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق وان كان عالما بالله تعالى استحال أمره به لأن تحصيل الحاصل محال سلمنا أن الرسول ص كان مأمورا بذلك فلم قلت إنه يلزم من كون الرسول مأمورا كون الأمة مأمورين به وما ذكرتم من الدليل معارض بأمور أحدها أن الأعرابى الجلف العامي كان يحضر ويتلفظ بكلمتي الشهادة وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يحكم بصحة إيمانه وما ذاك إلا التقليد وثانيها أن هذه الدلائل لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعد ممارسة شديدة وإنهم لم يمارسوا شيئا من هذا العلم فيمتنع اطلاعهم عليه وإذا كان كذلك تعين التقليد وثالثها أنه عليه الصلاة والسلام لم يقل لأحد ممن تلفظ بكلمتي الشهادة هل علمت حدوث الأجسام وأنه تعالى مختار لا موجب فدل هذا على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 أن خطور هذه المسائل بالبال غير معتبر في الإيمان لا تقليدا ولا علما ومنهم من عول في هذه المسألة على طريقة أخرى فقال اجمعت الأمة على أنه لا يجوز إلا تقليد المحق لكن لا يعلم أنه محق إلا إذا عرف بالدليل أن ما يقوله حق فإذن لا يجوز له أن يقلد إلا بعد أن يستدل ومتى صار مستدلا امتنع كونه مقلدا فيقال لهم هذا معارض بالتقليد في الشرعيات فإنه لا يجوز له تقليد المفتي إلا إذا كان المفتي قد أفتى بناءا على دليل شرعى فإن قلت الظن فيه كاف فإن أخطأ كان ذلك الخطأ محطوطا عنه قلت فلم لا يجوز مثله في مسائل الأصول واعلم أن في هذه المسألة ابحاثا دقيقة مذكورة في كتبنا الكلامية والأولى في هذه المسألة أن يعتمد على وجه وهو أن يقال دل القرآن على ذم التقليد لكن ثبت جواز التقليد في الشرعيات فوجب صرف الذم إلى التقليد في الأصول وإذ قد وفقنا الله تعالى بفضله حتى تكلمنا في جميع ابواب أصول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 الفقه فلنتكلم الآن فيما اختلف فيه المجتهدون أنه هل هو من أدلة الشرع أو ليس كذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 الكلام فيما اختلف فيه المجتهدون من أدلة الشرع وفيه مسائل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 المسألة الأولى في حكم الأفعال اعلم أنا بينا في أول هذا الكتاب أنه لا حكم قبل الشرع وأجبنا عن شبه المخالفين ونريد الآن أن نبين أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع بأدلة الشرع فإن ذينك أصلان نافعان في الشرع أما الأصل الأول فالدليل عليه وجوه المسلك الأول التمسك بقوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا واللام تقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع فإن قيل لا نسلم أن اللام تقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع والدليل عليه قوله تعالى وإن أسأتم فلها لله ما في السماوات والأرض ففي هاتين الآيتين يمتنع أن تكون اللام للاختصاص بالمنافع ولأن النحاة قالوا اللام للتمليك وهو غير ما قلتموه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 سلمنا ذلك ولكنه يفيد مسمى الانتفاع أو يفيد كل الانتفاعات الأول مسلم ويكفي في العمل بها حصول فرد واحد الانتفاعات وهو الاستدلال بها على الصانع تعالى والثاني ممنوع فما الدليل سلمنا أنه يفيد كل الانتفاعات لكن بالخلق لأن اللام داخلة على الخلق فلم قلت إن المخلوق كذلك سلمنا أنه يفيد الانتفاع بالمخلوق لكن لكل واحد في حال واحد لأن هذا مقابلة الجمع بالجمع فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد فقط سلمنا أنه يفيد العموم لكن كلمة في للظرفية فيدل على إباحة كل ما في داخل الأرض وهو الركاز والمعادن فلم قلتم إن ما على الأرض كذلك سلمنا إباحة كل ما على الأرض لكن في ابتداء الخلق لأن قوله خلق لكم يشعر بأنه حالما خلقتها إنما خلقها لنا فلم قلتم إنه بقي في الدوام كذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 فإن قلت الأصل في الثابت البقاء قلت هذا فيما يحتمل البقاء لكن كونه مباحا صفة والصفة لا تبقى سلمنا الإباحة حدوثا وبقاءا لو لكن لمن كان موجودا وقت ورود هذا الخطاب لأن قوله تعالى خلق لكم خطاب مشافهة فيختص بالحاضرين سلمنا إنه يدل على اختصاصها بنا لكن قوله تعالى لله ما في السماوات وما في الأرض ينافي ذلك والجواب الدليل على أن اللام تفيد المنفعة قوله تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وقال عليه الصلاة والسلام النظرة الأولى لك والثانية عليك وقال عليه الصلاة والسلام له غنمه وعليه غرمه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 ويقال هذا الكلام لك وهذا عليك غاية ما في الباب أنها جاءت في سائر المواضع لمطلق الاختصاص فنقول لو جعلناه حقيقة في الاختصاص النافع أمكن جعله مجازا في مسمى الاختصاص لأن مسمى الاختصاص جزء من الاختصاص النافع والجزء لازم للكل واللفظ الدال على الشئ يصح جعله مجازا عن لازمه أما لو جعلناه حقيقة لمسمى الاختصاص لم يكن الاختصاص النافع لازما لأن الخاص لا يكون لازما للعام وإذا لم يوجد اللزوم لم يجز جعله مجازا عنه وأما قول النحاة اللام للتمليك فلم يريدوا أنها حقيقة للملك وإلا لبطل بقوله الجل للفرس بل مرادهم الاختصاص النافع وهو عين ما قلناه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 قوله يكفي حصول فرد من أفراد الانتفاعات وهو الاستدلال بها على الصانع تعالى قلنا لا يمكن حمل الآية على هذا النفع لأن هذا النفع حاصل لكل مكلف من نفسه فإن يمكنه الاستدلال بنفسه على الصانع وإذا حصل له هذا النفع من نفسه كان تحصيل هذا الجنس من النفع من غيره ممتنعا لأن تحصيل الحاصل محال قوله اللام داخلة على الخلق فلم قلت المخلوق كذلك قلنا الخلق هو المخلوق لقوله تعالى هذا خلق الله أى مخلوق الله وبتقدير أن يكون الخلق غير المخلوق لكن لا نفع للمكلف في صفة الله تعالى فوجب أن يكون المراد ها هنا من الخلق المخلوق قوله مقابلة الجمع بالجمع تقتضي مقابلة الفرد بالفرد قلنا لا نسلم أن هذا مقابلة الجمع بالجمع بل هذا يجرى مجري تمليك الدار الواحدة لشخصين فكما أن ذلك يقتضي تعلق حق كل واحد منهما لا بجزء معين من الدار بل بجميع أجزاء الدار فكذا ها هنا قوله كلمة في لا تتناول إلا ما كان في باطن الأرض قلنا لا نسلم بدليل قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة قوله هب أنه ثبت هذا الحكم في الابتداء فلم قلت إنه يدوم قلنا لأن الأصل فيما يثبت بقاؤه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 قوله هذا الاختصاص صفة فلا تقبل الدوام قلنا لكن حكم الله تعالى صفة فهي واجبه الدوام قوله هب أن هذا الحكم ثبت للمخاطبين بهذا الخطاب فلم قلت إنه يثبت في حقنا قلنا لأن الله تعالى لما حكم بذلك في حقهم وقد حكم به الرسول أيضا في حقهم فوجب أن يكون قد حكم به أيضا في حقنا لقوله عليه الصلاة والسلام حكمي في الواحد حكمي في الجماعة قوله هذا معارض بقوله تعالى لله ما في السماوات وما في الأرض قلنا التعارض إنما يثبت أن لو ثبت في الموضعين بمعنى واحد وهو محال لأن الذي أثبتناه في حقنا هو الاختصاص النافع وذلك في حق الله تعالى محال فإذن لا تعارض بل ذلك الاختصاص ليست إلا بجهة الخلق والإيجاد المسلك الثاني قوله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق أنكر الله تعالى على من حرم زينة الله فوجب أن لا تثبت حرمة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 زينة الله وإذا لم تثبت حرمة زينة الله امتنع ثبوت الحرمة في كل فرد من أفراد زينة الله لأن المطلق جزء من المقيد فلو ثبتت الحرمة في فرد من أفراد زينة الله تعالى لثبتت الحرمة في زينة الله تعالى وذلك على خلاف الأصل وإذا انتفت الحرمة بالكلية ثبتت الإباحة المسلك الثالث أن الله تعالى قال أحل لكم الطيبات وليس المراد من الطيب الحلال وإلا لزم التكرار فوجب تفسيره بما يستطاب طبعا وذلك يقتضي حل المنافع بأسرها المسلك الرابع القياس وهو أنه انتفاع بما لا ضرر فيه على المالك قطعا ولا على المنتفع ظاهرا فوجب أن لا يمنع كالاستضاءة ب ضوء سراج الغير والاستظلال بظل جداره إنما قلنا إنه لا ضرر فيه على المالك لأن المالك هو الله تعالى والضرر عليه محال وأما ملك العباد فقد كان معدوما والأصل بقاء ذلك العدم ترك العمل به فيما وقع اتفاق الخصم على كونه مانعا فيبقى في غيره على الأصل فإن قيل فهذا يقتضي القول بإباحة كل المحرمات لأن فاعلها ينتفع بها ولا ضرر فيها على المالك ويقتضى سقوط التكاليف بأسرها ولا شك في فساده الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 وأيضا فالقياس على الاستضاءة والاستظلال غير جائز لأن المالك لو منع من الاستضاءة والاستظلال قبح ذلك منه والله تعالى لو منعه من الانتفاع لم يقبح والجواب عن الأول أنا احترزنا عنه بقولنا ولا ضرر على المنتفع ظاهرا وها هنا في فعل ما نهى الله عنه ترك ما أمر به ضرر أما على قول المعتزلة فلأنه لولا اشتمال الفعل والترك على جهة لأجلها حصل النهي وإلا لما جاز ورود النهي وأما عندنا فلأن الله تعالى لما توعدنا بالعقاب عليه كان مشتملا على الضرر فلم يكن واردا علينا وعن الثاني أنه لا يجب أن يكون الفرع مساويا للأصل من كل الوجوه بل يكفي حصول المساواة فيه من الوجه المقصود المسلك الخامس وهو أن الله تعالى خلق الأعيان إما لا لحكمة أو لحكمة والأول باطل لقوله تعالى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين وقوله أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ولأن الفعل الخالي عن الحكمة عبث والعبث لا يليق بالحكيم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 وأما إن كان خلقها لحكمة فتلك الحكمة إما عود النفع إليه أو إلينا والأول محال لاستحالة الانتفاع عليه فتعين أنه تعالى إنما خلقها لينتفع بها المحتاجون وهذا يقتضي أن يكون المقصود من الخلق نفع المحتاج وإذا كان كذلك كان نفع المحتاج مطلوب الحصول أينما كان فإن منع منه فإنما يمنع لأنه بحيث يلزمه رجوع ضرر إلى محتاج فإذا نهانا الله تعالى عن بعض الانتفاعات علمنا أنه تعالى إنما منعنا منها لعلمه باستلزامها للمضار إما في الحال أو في المآل ولكن ذلك على خلاف الأصل فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة وهذا النوع من الكلام هو اللائق بطباع الفقهاء والقضاة وإن كان تحقيق القول فيه لا يتم إلا مع القول بالاعتزال أما الأصل الثاني وهو أن الأصل في المضار الحرمة فهذا يستدعي بحثين أحدهما البحث عن ماهية الضرر والثاني إقامة الدليل على حرمته أما الأول فقد قالوا الضرر ألم القلب لأن الضرب يسمى ضررا وتفويت منفعة الإنسان يسمى إضرارا والشتم والاستخفاف يسمى ضررا ولا بد من جعل اللفظ اسما لمعنى مشترك بين هذه الصور دفعا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 للاشتراك وألم القلب معنى مشترك فوجب جعل اللفظ حقيقة فيه فان قيل أتعني بألم القلب الغم والحزن أم شيئا آخر الأول باطل لأن من خرق ثوب إنسان أو خرب داره وكان المالك غافلا عن هذه الحالة يقال أضربه مع أنه لم يوجد الغم والحزن وإن عنيت به شيئا آخر فبينه نزلنا عن الاستفسار فلم قلت الضرر ألم القلب قوله لا بد من معنى مشترك في مواضع الاستعمال قلنا هذا مسلم لكن لم قلت إنه لا مشترك إلا ألم القلب بل ها هنا مشترك آخر وهو تفويت النفع فما الدليل على أن ما ذكرتموه أولى ثم الذي يدل على أن ما ذكرناه أولى أن النفع مقابل الضرر والنفع تحصيل المنفعة فوجب أن يكون الضرر إزالة المنفعة وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون حقيقة فيما ذكرتموه دفعا للاشتراك سلنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الضرر ألم القلب لكنه معارض بوجهين الأول أن من خرب دار إنسان وكان المالك غافلا عنه يقال أضربه مع أنه لم يوجد هناك ألم القلب لأن ألم القلب لا يحصل إلا بعد الشعور به الثاني قوله تعالى قال أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئا ولا يضركم أخبر أن عبادة الأصنام لا تضرهم مع أنها تؤلم قلوبهم يوم القيامة لأنهم يعاقبون بذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 فثبت أن الضرر ليس ألم القلب والجواب أن القلب إذا ناله غم وحزن انعصر دم القلب في الباطن وانعصار دم القلب في الباطن إنما يكون لانعصار يكون القلب في نفسه وانعصار العضو مؤلم له لأن أي عضو عصرته فإنه يحصل منه ألم فالمراد من ألم القلب تلك الحالة الحاصلة له عند ذلك الانعصار مع فظهر بهذا أن ألم القلب مغاير للغم وإن كان مقارنا له وغير منفك عنه وأما من خرق ثوب إنسان فإنما يقال أضربه على معنى أنه أوجد ما لو عرفه لحصل الضرر لا محالة وهو في الحقيقة اطلاق اسم المسبب على السبب مجازا قوله لم قلت لا مشترك سواه قلنا لأن المشترك الآخر كان معدوما والأصل بقاؤه على العدم قوله تفويت النفع أيضا مشترك قلنا لا يجوز جعله مسمى الضرر لأن البيع والهبة حصل فيهما تفويت النفع لأن البائع فوت على نفسه الانتفاع بعين المبيع مع أن ذلك لا يسمى ضررا قوله الضرر في مقابلة النفع قلنا هب أنه كذلك لكن النفع عبارة عن تحصيل اللذة أو ما يكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 وسيلة إليها والضرر عبارة عن تحصيل الألم أو ما يكون وسيلة إليه وأما الآية فنقول لا نسلم أن الأصنام تضرهم في الدنيا ولا في الآخرة بل الذي يضرهم في الآخرة عبادتها فزال السؤال المقام الثاني في اقامة الدلالة على حرمة الضرر والمعتمد فيه قوله عليه الصلاة والسلام لا ضرر ولا إضرار في الإسلام والكلام على التمسك بهذا النص اعتراضا وجوابا مشهور في الخلافيات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 المسألة الثانية في استصحاب الحال المختار عندنا أنه حجة وهو قول المزني وأبي بكر الصيرفي من فقهائنا خلافا للجمهور من الحنفية والمتكلمين لنا أن العلم بتحقيق أمر في الحال يقتضى ظن بقائه في في الاستقبال والعمل بالظن واجب ولا معنى لكونه حجة إلا ذلك إنما قلنا إن العلم بتحقيق أمر في الحال يقتضى ظن بقائه في الاستقبال لأن الباقي مستغن عن المؤثر والحادث مفتقر إليه والمستغني عن المؤثر راجح الوجود بالنسبة إلى المفتقر إليه إن قلنا أن الباقي مستغن عن المؤثر لأنا لو فرضنا له مؤثرا فذلك المؤثر إما أن يقال إنه صدر عنه أثر أو ما صدر عنه أثر والثاني محال لأن فرض المؤثر بدون الأثر متناقض وأما الأول فأثره إما أن يكون شيئا ما كان موجودا أو كان موجودا فإن قلنا أنه ما كان موجودا كان الأثر حادثا لا باقيا وإن قلنا إنه كان موجودا كان ذلك تحصيلا للحاصل وهو محال فثبت أن الباقي مستغن عن المؤثر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 وإنما قلنا إن الحادث مفتقر إليه لأن إجماع المسلمين بل إجماع جمهور العقلاء منعقد عليه والاستقصاء فيه مذكور في كتابنا المسمى ب الخلق والبعث وإنما قلنا إن المستغنى عن المؤثر راجح بالنسبة إلى المفتقر إليه لوجهين الأول وهو أن المستغنى عن المؤثر لا بد أن يكون الوجود به أولى إذ لو كان الوجود مساويا للعدم لاستحال الرجحان إلا بمنفصل وكان يلزم افتقاره إلى المؤثر لكنا فرضناه مستغنيا عنه هذا خلف فإذن وجود الباقي راجح على عدمه وأما الحادث فليس أحد طرفيه راجحا على الآخر إذ لو كان راجحا لاستحال افتقاره إلى المرجح وإلا لكان ذلك المرجح مرجحا لما هو في نفسه مترجح فكان ذلك تحصيلا للحاصل وهو محال فثبت أن الباقي أولى بالوجود وأن الحادث ليس أولى بالوجود ولا معنى لظن وجوده إلا اعتقاد أن وجوده أولى فثبت أن الباقي راجح الوجود بالنسبة إلى الحادث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 الثاني وهو أن الباقي لا يعدم إلا عند وجود المانع والمتقر سعيد إلى المؤثر كما يعدم عند وجود المانع فقد يعدم أيضا عند عدم المقتضي وما لا يعدم إلا بطريق واحد يكون أولى بالوجود مما يعدم بطريقين ولا معنى للظن إلا اعتقاد أنه أولى بالوجود وإنما قلنا إن العمل بالظن واجب لقوله عليه الصلاة والسلام نحن نحكم بالظاهر ولأنه لو لم يجب لزم جواز ترجيح المرجوح على الراجح وإنه غير جائز في بديهة العقل ولأن العمل بالقياس وخبر الواحد والشهادة والفتوى وسائر الظنون المعتبرة إنما وجب ترجيحا للأقوى على الأضعف وهذا المعنى قائم ها هنا فيلزم ثبوت الحكم ها هنا أيضا وهو وجوب العمل به فإن قيل لا نسلم أن العلم بتحقق أمر في الحال يقتضى ظن بقائه في الاستقبال قوله لأن الباقي مستغن عن المؤثر قلنا ما المعنى بقولكم الباقي مستغن عن المؤثر إن عنيتم به أن كونه باقيا مستغن عن المؤثر فهذا ممنوع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 وأيضا فهو مناقض لقولكم الحادث مفتقر إلى المؤثر لأن كونه باقيا لم يكن حاصلا حال حدوثه ثم حصل بعد أن لم يكن فيكون حادثا وأنتم قد اعترفتم أن الحادث لا بد له من مؤثر وإن عنيتم بقولكم الباقي مستغن عن المؤثر شيئا آخر فبينوه لننظر فيه نزلنا عن الاستفسار فلم لا يجوز أن يقال الباقي له مؤثر ولذلك المؤثر أثر قوله ذلك الأثر إما أن يكون شيئا ما كان حاصلا أو كان حاصلا قلنا لم لا يجوز أن يقال ما كان حاصلا وذلك لأنه لا معنى لبقائه إلا حصوله في هذا الزمان بعد أن كان حاصلا في زمان آخر قبله لكن حصوله في هذا الزمان ما كان حاصلا قبل حصول هذا الزمان فإذن كونه باقيا أمر حادث فأثر المبقي هو ذلك الأثر فإن قلت فعلى هذا التقدير يكون أثر المبقي أمرا حادثا فلا يكون مبقيا بل محدثا قلت مرادنا من قولنا الباقي يفتقر إلى المبقى أن حصوله في الزمان الثاني لا بد فيه من شئ آخر وقد ثبت أنه لا يكون باقيا ما لم يحصل في الزمان الثاني وحصوله في الزمان الثاني مفتقر إلى مؤثر فإذن يمتنع أن يصدق عليه كونه باقيا إلا لمؤثر فيعد ذلك البحث عن الواقع بذلك المؤثر وكونه أمرا مستمرا أو جديدا بحثا عن شئ خارج عن المقصود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز أن يقال أثره شئ كان حاصلا قوله تحصيل الحاصل محال قلنا إن عنيت بتحصيل الحاصل أن يجعل عين الشئ الذي كان موجودا في الزمان الأول حادثا في الزمان الثاني فلا نزاع في أن ذلك محال لكن لم قلت إن إسناد الباقي إلى المؤثر يوجب ذلك وإن عنيت به أن الوجود الذي صدق عليه في الزمان الأول أنه أنما ترجح لهذا المؤثر صدق عليه في الزمان الثاني أيضا أنه ترجح لهذا المؤثر فلم قلت إن ذلك محال سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على استغناء الشئ حال بقائه عن المؤثر لكن ها هنا ما يعارضه وذلك لأن هذا الباقي كان بقاؤه ممكنا وكل ممكن فله مؤثر فالباقي حال بقائه له مؤثر وإنما قلنا أنه ممكن لأنه في زمان حدوثه ممكن وإلا لم يفتقر إلى المؤثر وإمكانه من لوازم ماهيته وما كان من لوازم الماهية فهو واجب الحصول في جميع زمان تحقق الماهية فكان الإمكان حاصلا في زمان البقاء وإنما قلنا إن الممكن مفتقر إلى المؤثر لأن الممكن قد استوى طرفاه وما كان كذلك افتقر إلى المرجح فإن قلت لم لا يجوز أن يقال الإمكان إنما يحوج إلى المقتضى بشرط الحدوث وهذا الشرط فائت في زمان البقاء فلا يتحقق الافتقار قلت لا يجوز جعل الحدوث مؤثرا في تحقق الاحتياج لأن الحدوث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 عبارة عن مسبوقية وجود الشئ بالعدم ومسبوقية بكر الوجود بالعدم صفة ونعت له وصفة الشئ متوقفة على الشئ فالحدوث متوقف على الوجود المتأخر عن تأثير المؤثر فيه المتأخر عن احتياج المؤثر إليه المتأخر عن علة احتياجه إليه فلو كان الحدوث مؤثرا في ذلك الاحتياج إما بأن يكون علة أو جزء علة أو شرط علة لزم الدور وهو محال سلمنا استغناء الباقي عن المؤثر وافتقار الحادث إليه فلم قلت إن المستغني راجح عن المفتقر قوله في الوجه الأول أن الباقي أولى بالوجود والحادث ليس أولى ولا معنى للظن إلا اعتقاد أنه أولى قلنا إن عنيت بهذه الأولوية أن العدم عليه ممتنع فهذا باطل لأن هذا الباقي يقبل العدم وإن عنيت به أمرا آخر فلا بد من بيانه فإن قلت المراد منها درجة متوسطة بين الاستواء الذي هو مسمى الإمكان والتعيين المانع من النقيض الذي هو مسمى الضرر قلت هذا محال لأن مع ذلك القدر من الأولوية إن امتنع النقيض فهو الضرروة وقد فرضنا أنه ليس كذلك وإن لم يمتنع فمع ذلك القدر من الأولوية يصح عليه الوجود تارة والعدم أخرى فحصول أحدهما بدلا عن الآخر إن توقف على انضمام قيد إليه لم يكن الحاصل قبله كافيا في تحقق الأولوية وإن لم يتوقف كانت نسبة ذلك القدر من الأولوية إلى طرفي الوجود والعدم على السوية فترجيح أحدهما على الآخر لا لمرجح زائد يكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال وأما الوجه الثاني فغاية ما في الباب أنه يمكن تحقق عدم الحادث بطريقتين ولا يمكن تحقق عدم الباقي إلا بطريق واحد فلم قلت أن هذا القدر يقتضي أن يكون الباقي راجحا في الوجود على الحادث سلمنا أن ما ذكرتموه يقتضي رجحان الباقي على الحادث من ذلك الوجه لكنه يقتضي عدم الرجحان من وجه آخر بيانه أن الباقي لا يصدق عليه كونه باقيا إلا إذا حصل في الزمان الثاني فحصوله في الزمان الثاني أمر حادث فإذا لم يكن وجود الحادث راجحا فالمتوقف على ما لا يكون راجح الوجود لم يكن هو أيضا راجح الوجود فيلزم أن لا يكون الباقي راجح الوجود سلمنا أن الباقي راجح الوجود ولكن ما لم يتحقق كونه باقيا لا يتحقق كونه راجح الوجود وهو إنما يصدق عليه كونه باقيا إذا حصل في الزمان الثاني فالحاصل أنا ما لم نعرف وجوده في الزمان الثاني لا نعرف كونه راجح الوجود وأنتم جعلتم رجحان وجوده دليلا على وجوده في الزمان الثاني فيكون دورا سلمنا أن الباقي راجح في الوجود الخارجي على الحادث فلم قلت يجب أن يكون راجحا عليه في الظن لا بد لهذا من دليل سلمنا حصول هذا الظن وأن العمل به واجب ولكنه معارض بدليل آخر يمنع من التمسك بالاستصحاب وهو أن من سوى بين الوقتين في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 الحكم فإما أن يقال إنما سوى بينهما لاشتراكهما فيما يقتضى ذلك الحكم أو ليس الأمر كذلك فإن كان الأول فهو قياس وإن كان الثاني كان ذلك تسوية بين الوقتين في الحكم من غير دليل وإنه باطل بالإجماع والجواب قوله ما المراد من قولكم الباقي مستغن عن المؤثر قلنا لا شك في أن الباقي هو الذي حصل في زمان بعد أن كان بعينه حاصلا في زمان آخر قبله وهذا يقتضى أن تكون الذات الحاصلة في هذا الزمان عين الذات الحاصلة في ذلك الزمان الآخر إذا ثبت هذا فنقول هذه الذات التي صدق عليها أنها حصلت بعينها في الزمانين إما أن يقال حصل فيها في الزمان الثاني أمر لم يكن حاصلا في الزمان الأول أو لم يحصل فإن كان الأول كان الأمر المتجدد مغايرا للذات الباقية فيكون الباقي في الحقيقة هو الذات لا هذه الكيفية المتجددة فنحن ندعي أن ذلك الشئ الذي هو الباقي يستحيل إسناده إلى المؤثر حال بقائه وعلى هذا التقدير لا يكون إسناد تلك الكيفية المتجددة قادحا في قولنا الباقي غير مستند إلى المؤثر لأن أحدهما غير الآخر وإن قلنا إنه لم يحدث في الزمان الثاني أمر متجدد بل الحاصل في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 الزمان الثاني ليس إلا الذات التي كانت حاصلة في الزمان الأول فعلى هذا التقدير بطل قولهم إن كونه باقيا كيفية حادثة وأنها مفتقرة إلى المؤثر فثبت أن على التقديرين السؤال ساقط قوله حصوله في الزمان الثاني كيفية زائدة على الذات وهي مفتقرة إلى المؤثر قلنا هذا باطل وبتقدير ثبوته فهو غير قادح في دليلنا أما أنه باطل فلأن حصوله في الزمان الثاني لو كان كيفية زائدة على الذات لكان حصول ذلك الزائد في ذلك الزمان كيفية أخرى فلزم التسلسل وهو محال ولأن العدم قد يصدق عليه أنه باق فلو كان تحققه في الزمان الثاني كيفية ثبوتية لزم قيام الصفة الموجودة بالموصوف الذي هو نفى محض وإنه محال وأما أن بتقدير ثبوته فالمقصود حاصل فذلك لأن حصوله في الزمان الثاني لما كان أمرا حادثا كان إسناده إلى المؤثر إسنادا للحادث إلى المؤثر لا إسنادا للباقي وكلامنا ليس إلا في الباقي قوله ما الذي تعني بتحصيل الحاصل قلنا نعني به أن الشئ الذي حكم العقل عليه بأنه كان حاصلا قبل ذلك يحكم عليه بأن حصوله الآن لأجل هذا الشئ وهذا محال بالبديهة لأنه لما كان حاصلا قبل ذلك فلو أعطاه الآن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 هذا المؤثر حصولا لكان قد حصل نفس ما كان حاصلا وأنه محال قوله الباقي حال بقائه ممكن والممكن مفتقر قلنا لا نسلم أن الممكن إنما يفتقر إلى المؤثر بشرط كونه حادثا قوله الحدوث متأخر قلنا لا نريد به أن كونه حادثا شرط للافتقار بل نريد به أن كونه بحيث لو وقع بالمؤثر لكان حادثا بشرط افتقار الأثر إلى المؤثر وكونه بهذه الصفة أمر متقدم قوله ما المراد من الأولوية قلنا درجة متوسطة بين التساوي والتعيين المانع من النقيض قوله هذا محال لأنه يقتضي ترجيح أحد المتساويين على الآخر لا لمرجح قلنا لا نسلم أن ذلك ممتنع مطلقا بل ذلك إنما يمتنع بشرط الحدوث قوله على الوجه الثاني لم قلت إنه لما أمكن حصول عدم الحادث بطريقين وعدم الباقي لا يحصل إلا بطريق كان وجود الحادث مرجوحا قلنا لأن عدم حصول الحادث أكثر من عدم الباقي لأنه يصدق على ما لا نهاية له أنه لم يحدث وأما عدم الباقي بعد حدوثه فمشروط بوجوده فإذا كان الوجود متناهيا كان العدم بعد الوجود متناهيا وإذا كان عدم حدوث الحادث أكثر من عدم الباقي بعد وجوده والكثرة موجبة للظن ثبت أن عدم حدوث الحادث غالب على عدم الشئ ولا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 معنى للظن إلا ذلك واعلم أنه يمكن الاستدلال بهذه النكتة ابتداءا قوله كونه باقيا يتوقف على حدوث حصوله في الزمان الثاني فكونه باقيا يتوقف على الحدوث الذي ليس براجح والموقوف على ما لا يكون راجحا ليس براجح قلنا هذا إنما يلزم لو كان حصوله في الزمان الثاني كيفية وجودية وقد دللنا على أن ذلك محال لأنه يوجب التسلسل ثم إن سلمنا صحة ذلك لكنا نقول لما ثبت أن الحدوث مرجوح فالذات إذا كانت حادثة فهناك أمران حادثان أحدهما الذات والآخر حصول الذات في ذلك الزمان وأما إذا كانت الذات باقية والحادث أمر واحد وهو حصوله في ذلك الزمان أما الذات فهي ليست ب حادثة في نفسها فإذن الحادث مرجوح من وجهين والباقي من وجه واحد فوجب أن يكون الباقي راجحا على الحادث من هذا الوجه قوله ما لم يعرف كونه باقيا لا يثبت رجحانه قلنا لا حاجة إلى ذلك بل نقول هذا الذي وجد لا يمتنع عقلا أن يوجد في الزمان الثاني وأن يعدم لكن احتمال الوجود راجح على احتمال العدم من الوجه الذي ذكرناه فالعلم بوجوده في الحال يقتضي اعتقاد رجحان وجوده على عدمه في ثاني الحال فإذن العلم بالأولوية مستفاد من العلم بوجوده في الحال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 وعلى هذا التقدير يسقط الدور قوله هب أن الباقي راجح على الحادث في الوجود الخارجي فلم قلت يجب أن يكون راجحا عليه في الذهن قلنا لأن الاعتبار الذهنى مطابق للاعتبار الخارجي وإلا كان جهلا قوله التسوية بين الزمانين إن لم تكن بالقياس كان ذلك تسوية بين الزمانين من غير دليل قلنا القياس دليل واحد من أدلة الشرع وليس يلزم من عدم دليل معين عدم الدليل بالكلية بل نحن سوينا بين الزمانين في الحكم بناءا على ما ذكرنا من أن العلم بثبوته في في الحال يقتضى ظن ثبوته على ذلك الوجه في الزمان الثاني والعمل بالظن واجب واعلم أن القول باستصحاب الحال أمر لا بد منه في الدين والشرع والعرف أما في الدين فلأنه لا يتم الدين إلا بالاعتراف بالنبوة ولا سبيل إليه إلا بواسطة المعجزة ولا معنى للمعجزة إلا فعل خارق للعادة ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا عند تقرر العادة ولا معنى للعادة إلا أن العلم بوقوعه على وجه مخصوص في الحال يقتضي اعتقاد أنه لو وقع لما وقع إلا على ذلك الوجه وهذا عين الاستصحاب وأما في الشرع فلأنا إذا عرفنا أن الشرع تعبدنا بالإجماع أو بالقياس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 أو بحكم من الأحكام فلا يمكننا العمل به إلا إذا علمنا أو ظننا عدم طريان الناسخ فإن علمنا ذلك بلفظ آخر افتقرنا فيه إلى اعتقاد عدم النسخ أيضا فإن كان ذلك بلفظ آخر أيضا تسلسل إلى غير النهاية وهو محال فلا بد أن ينتهي آخر الأمر إلى التمسك ب الاستصحاب وهو أن علمنا بثبوته في الحال يقتضى ظن وجوده في الزمان الثاني وأيضا فالفقهاء بأسرهم على كثرة اختلافهم اتفقوا على أنا متى يتقنا قد حصول شئ وشككنا في حدوث المزيل أخذنا بالمتيقن وهذا عين الاستصحاب لأنهم رجحوا بقاء الباقي على حدوث الحادث وأما العرف فلأن من خرج من داره وترك أولاده فيها على حالة مخصوصة كان اعتقاده لبقائهم على تلك الحالة التي تركتهم عليها راجحا على اعتقاده لتغير تلك الحالة ومن غاب عن بلده فإنه يكتب إلى أحبابه وأصدقائه عادة في الأمور التي كانت موجودة حال حضوره وما ذاك إلا ل أن اعتقاده في بقاء تلك الأمور راجح على اعتقاده في تغيرها بل لو تأملنا لقطعنا بأن أكثر مصالح العالم ومعاملات الخلق مبني على القول بالاستصحاب فرع من قال النافي لا دليل عليه إن أراد أن العلم بذلك العدم الأصلي يوجب ظن دوامه في المستقبل فهذا حق كما بيناه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 وإن أراد به غيره فهو باطل لأن العلم بالنفي أو الظن به لا يحصل إلا لمؤثر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 المسألة الثالثة في الاستحسان المحكي عن الحنفية القول بالاستحسان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 ومخالفوهم أنكروا ذلك عليهم لظنهم أنها يعنون به الحكم من غير دليل والذي حصله المتأخرون في تحديده وجهان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 الأول قال الكرخي الاستحسان هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول وهذا يلزم عليه أن يكون العدول عن العموم إلى التخصيص وعن المنسوخ إلى الناسخ استحسانا الثاني قال أبو الحسين الاستحسان ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأول قال ولا يلزم عليه العدول عن العموم إلى القياس المخصص لأن العموم لفظ شامل ولا يلزم عليه أن يكون أقوى القياس استحسانا لأن الأقوى ليس في حكم الطارئ على الأضعف فإن كان طارئا فهو استحسان فإن قلت فقد قال محمد بن الحسن في غير موضع من كتبه تركنا الاستحسان للقياس كما لو قرأ آية ال سجدة في آخر السورة فالقياس يقتضي أن يجتزئ بالركوع والاستحسان أن لا يجتزئ به بل يسجد لها ثم إنه قال بالقياس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 فهذا الاستحسان إن كان أقوى من القياس فكيف تركه وإن لم يكن أقوى منه فقد بطل حدكم قلت ذلك المتروك إنما يسمى استحسانا لأنه وإن كان الاستحسان وحده أقوى من القياس وحده لكن اتصل بالقياس شئ آخر صار ذلك المجموع أقوى من الاستحسان كما في المسألة التي ذكرتموها فإن الله تعالى أقام الركوع مقام السجود في قوله تعالى وخر راكعا وأناب فهذا تقرير هذا الحد الذي ذكره أبو الحسين رحمه الله واعلم أن هذا يقتضي أن تكون الشريعة كلها استحسانا لأن مقتضى العقل هو البراءة الأصلية وإنما يترك ذلك لدليل أقوى منه وهو نص أو إجماع أو قياس وهذا الأقوى في حكم الطارئ الأول فيلزم أن يكون الكل استحسانا وهم لا يقولون به لأنهم يقولون تركنا القياس للاستحسان وهذا يقتضي أن يكون القياس مغايرا للاستحسان فالواجب أن يزاد في الحد قيد آخر فيقال ترك وجه من وجوه الاجتهاد مغاير للبراءة الأصلية والعمومات اللفظية لوجه أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأول إذا عرفت هذا فنقول اتفق أصحابنا على إنكار الاستحسان وهذا الخلاف إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى لا يجوز أن يكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 في اللفظ لأنه قد ورد في القرآن والسنة وألفاظ سائر المجتهدين هذه اللفظة أما القرآن فقوله تعالى وأمر قومك يأخذوا بأحسنها وقوله فيتبعون أحسنه وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسنا وأما ألفاظ سائر المجتهدين فلأن الشافعي رضي الله عنه قال في باب المتعة أستحسن أن تكون ثلاثين درهما وفي باب الشفعة أستحسن أن يثبت للشفيع الشفعة إلى ثلاثة أيام وقال في المكاتب أستحسن أن يترك عليه شئ فثبت بهذا أن الخلاف ليس في اللفظ وإنما الخلاف في المعنى وهو أن القياس إذا كان قائما في صورة الاستحسان في سائر الصور ثم ترك العمل به في صورة الاستحسان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 وبقي معمولا به في غير تلك الصورة فهذا هو القول بتخصيص العلة وهو عند الشافعي وجمهور المحققين باطل وقد تقدمت هذه المسألة فظهر أن القول بالاستحسان باطل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 المسألة الرابعة الحق أن قول الصحابى ليس بحجة وقال قوم إنه حجة مطلقا ومنهم من فصل وذكروا فيه وجوها أحدها أنه حجة إن خالف القياس وثانيها أن قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حجة فقط وثالثها أن قول الخلفاء الأربعة إذا اتفقوا حجة لنا النص والإجماع والقياس أما النص فقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار أمر بالاعتبار وذلك ينافي جواز التقليد وأما الإجماع فهو أن الصحابة أجمعوا على جواز مخالفة كل واحد من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 آحاد الصحابة فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما ولا كل واحد منهما على صاحبه فيما فيه اختلفا وأما القياس فهو أنه متمكن من إدراك الحكم بطريقة فوجب أن يحرم عليه التقليد كما في الأصول واحتج المخالف بوجوه أحدها قوله عليه الصلاة السلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم جعل الاهتداء لازما للاقتداء بأي واحد كان منهم وذلك يقتضي أن يكون قوله حجة وثانيها إن لم يجز اتباع كل واحد منهم فيجب اتباع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما للخبر والإجماع أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر وأما الإجماع فقد ولى عبد الرحمن عثمان الخلافة بشرط الاقتداء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 بسيرة الشيخين فقبل ولم ينكر ذلك على عثمان وكان ذلك بمحضر من أكابر الصحابة فكان إجماعا وثالثها إن لم يجب اتباع أبي بكر وعمر وحدهما وجب اتباع الخلفاء الأربعة لقوله عليه الصلاة والسلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وقوله عليكم للإيجاب وهو عام ورابعها أن الصحابي إذا قال ما يخالف القياس فلا محمل له إلا أنه اتبع الخبر والجواب عن الأول أن قوله عليه الصلاة والسلام بأيهم اقتديتم اهتديتم خطاب مشافهة فلعل ذلك كان خطابا للعوام وعن الثاني أن السنة هي الطريقة وهي عبارة عن الأمر الذي يواظب الإنسان عليه فلا تتناول ما يقوله الإنسان مرة واحدة وعن الثالث أنا نقول بموجبه فيجوز الاقتداء بهما في تجويزهما لغيرهما مخالفتهما بموجب الاجتهاد وأيضا فلو اختلفا كما اختلفا في التسوية في العطاء فأيهما يتبع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 وعن الإجماع أن قول عثمان معارض بقول علي رضي الله عنهما وعن الرابع أن الصحابي لعله قال بما يخالف القياس لنص ظنه دليلا مع أنه في الحقيقة ما كان دليلا نعم لو تعارض قياسان والصحابي مع أحدهما فيجوز الترجيح بقول الصحابي فأما جعله حجة فلا فرعان الأول اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في تقليد الصحابي فقال في القديم يجوز تقليده إذا قال قولا وانتشر ولم يخالف وقال في موضع آخر يقلد وإن لم ينتشر وقال في الجديد لا يقلد العالم صحابيا كما لا يقلد عالما آخر وهو الحق المختار لأن الدلائل المذكورة مطردة في الكل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 فإن قلت كيف لا نفرق بينهم وبين غيرهم مع ثناء الله تعالى وثناء رسوله ص عليهم حيث قال الله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين وقال السابقون الأولون من المهاجرين إلى قوله رضي الله عنهم وقال عليه الصلاة والسلام خير القرون قرني قلت هذا كله ثناء يوجب حسن الاعتقاد فيهم ولا يوجب تقليدهم بدليل أنه ورد أمثالها في حق آحاد الصحابة مع إجماع الصحابة على جواز مخالفتهم قال عليه الصلاة والسلام لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح وقال إن الله ضرب بالحق على لسان عمر وقال والله ما سلكت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك وقال في حق علي اللهم أدر الحق مع علي حيث دار وقال رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد وقال لأبي بكر وعمر لو اجتمعتما على شئ ما خالفتكما وكل ذلك ثناء لا يوجب الاقتداء الثاني في تفاريع القول القديم للشافعي رضى الله عنه وهي سبعة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 أحدها قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب اختلاف الحديث روي عن على أنه صلى في ليلة ست ركعات وفي كل ركعة ست سجدات قال لو ثبت ذلك عن علي لقلت به فإنه لا مجال للقياس فيه فالظاهر أنه فعله توقيفا وثانيها قال في موضع قول الصحابي إذا انتشر ولم يخالف فهو حجة قال الغزالي رحمه الله وهو ضعيف لأن السكوت ليس بقول فأي فرق بين أن ينتشر أو لا ينتشر والعجب من الغزالي أنه تمسك بمثل هذا الإجماع على أن خبر الواحد حجة والقياس حجة وثالثها نص الشافعي رضي الله عنه على أنه إذا اختلفت الصحابة فالأئمة الأربعة أولى فإن اختلف الأئمة فقول أبي بكر وعمر أولى وكل ذلك للأحاديث المذكورة ورابعها نص في موضع آخر أنه يجب الترجيح بقول الأعلم والأكثر قياسا لأن زيادة علمه تقوي اجتهاده وتبعده عن التقصير وخامسها إن اختلف الحكم والفتوى عن الصحابة فقد اختلف قول الشافعي رضي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 الله عنه فقال مرة الحكم أولى لأن العناية به أشد وقال مرة الفتوى أولى لأن سكوتهم عن الحكم محمول على الطاعة وسادسها هل يجوز ترجيح أحد القياسين بقول الصحابي والحق أنه في محل الاجتهاد فربما يتعارض ظنان والصحابي في أحد الجانبين فتميل نفس المجتهد إلى موافقة الصحابي ويكون ذلك اغلب على ظنه وسابعها إذا حمل الصحابي لفظ الخبر على أحد معنييه منهم من جعله ترجيحا وقال القاضي أبو بكر إذا لم يقل علمت ذلك من قصد رسول الله ص بقرينة شاهدتها لم يكن ذلك ترجيحا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 المسألة الخامسة اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقول الله تعالى للنبي ص أو للعالم احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فقطع بوقوعه مويس بن عمران وقطع جمهور المعتزلة بامتناعه وتوقف الشافعي رضي الله عنه في امتناعه وجوازه وهو المختار وصحة هذا التوقف لا تظهر إلا بالاعتراض على أدلة القاطعين أما المانعون ففقد تعلقوا تارة بما يدل على امتناع وقوعه وأخرى بما يدل على عدم وقوعه أما الوجه الأول فتقريره أن من أجاز هذا التكليف إما أن يجعل الاختيار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 مما تتم به المصلحة أو يجعل الفعل مصلحة في نفسه ثم يختاره المكلف والأول باطل لوجهين أحدهما أن على هذا التقدير يسقط التكليف لأن المكلف متى قال إن اخترته فافعله وإن لم تختره فلا تفعله فهذا محض إباحة وثانيهما أن المكلف لا ينفك عن الفعل والترك ولا يجوز تكليف المرء بما لا يمكنه الإنفكاك عنه بخلاف التخيير في الكفارات الثلاث فإنه يمكنه الانفكاك عنها أجمع وأما الثاني فهو باطل من وجوه أربعة أولها أنه إما أن يجوز له الحكم على هذا الوجه في الحوادث الكثيرة أو في الحادثة والحادثتين وفي والأول محال لأنه يمتنع حصول الإصابة بالاتفاق في الأشياء الكثيرة ولهذا لا يجوز أن يقال للأمي اكتب مصحفا فإنك لا تخط بيمينك إلا ما يطابق ترتيب القرآن وللجاهل أخبر فإنك لا تخبر إلا بالصدق ولولا ما ذكرناه لبطلت دلالة الفعل المحكم على علم فاعله وبطلت دلالة أخبار الغيب على النبوة وأما الوجه الثاني وهو أن يجوز ذلك في القليل دون الكثير فهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 باطل لأن كل من جوزه في القليل جوزه في الكثير ومن منع منه في الكثير منع منه في القليل فالقول بالفرق خرق للإجماع وثانيها وهو أنه إنما يحسن القصد إلى الفعل إذا علم أو ظن كونه حسنا فلا بد وأن يتميز له الحسن من القبح قبل الإقدام على الفعل فإذا لم تتقدم هذه الأمارة المميزة كان التكليف باختيار الحسن دون القبيح تكليفا بما لا يطاق فإن قلت إنما يميز بين الحسن والقبيح بأن يقال له قد علمنا بأنك لا تختار شيئا إلا وهو حسن قلت فهذا يقتضي أنه إنما يعلم حسنه بعد فعله له وهو إذا فعله زال التكليف عنه فالحاصل أن التمييز بين الحسن والقبيح لا بد وأن يكون متقدما على الاختيار وإلا وقع التكليف بما لا يطاق وإذا قال الله تعالى إنك لا تحكم إلا بالصواب فها هنا التمييز بين الحسن والقبيح لا يحصل إلا بعد الفعل والشئ الذي يجب أن يكون متقدما ليس هو الذي يجب أن يكون متأخرا وثالثها لو جاز أن يقول له احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب لجاز أن يكلفه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 تصديق النبي وتكذيب المتنبي من غير دليل ألبتة بل يكله فيه إلى رأيه ولجاز ذلك في الإخبار فيقول أخبر فإنك لا تخبر إلا عن حق ولجاز أن يصيب في مسائل الأصول من غير تعلم ألبتة ولجاز أن يفوض إليه تبليغ أحكام الله تعالى من غير وحي نزل عليه وكل ذلك باطل بالإجماع ورابعها لو جاز ذلك في حق العالم لجاز في حق العامي وبالإجماع لا يجوز أما الذي يدل على عدم الوقوع فأمران الأول لو كلن الرسول ص مأمورا بأن يحكم على وفق أرادته من غير دليل لما كان منهيا عن اتباع هواه لأنه لا معنى لاتباع الهوى إلا الحكم بكل ما يميل قلبه إليه لكنه كان منهيا عن اتباع الهوى لقوله تعالى ولا تتبع الهوى وما ينطق عن الهوى فإن قلت لما قيل له احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب كان ذلك نصا من الله تعالى على كل ما يميل قلبه إليه فلا يكون ذلك اتباعا للهوى قلت فعلى هذا التقدير صار اتباع الهوى في حقه غير ممكن ولو كان كذلك فلم نهي عنه الثاني لو قيل له احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب لما قيل له لم فعلت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 كذا لكن قد قيل له عفا الله عنك لم أذنت لهم فلم يثبت ذلك في حقه وأما مويس فإنه تعلق بأمور بعضها يدل على الواقع وبعضها يدل على الجواز فقط أما الدال على الوقوع فإما أن يدل على وقوع ذلك من رسول الله ص أو على وقوعه من غيره أما الأول فقد ذكر مويس فيه عشرة أوجه أحدها أن منادي النبي عليه الصلاة والسلام نادى يوم فتح مكة أن اقتلوا مقيس بن حبابة وابن أبي سرح وإن وجدتموهما متعلقين بأستار الكعبة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 لقوله من تعلق بأستار الكعبة فهو آمن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 ثم عفى عن ابن أبي سرح بشفاعة عثمان رضي الله عنه ولو كأن الله تعالى أمر بقتله لما قبل شفاعة أحد فيه إلا بوحي آخر ولم يوجد وحي آخر لما أن نزول الوحي له علامات كانوا يعرفونها وما ظهر في ذلك الوقت شئ من ذلك وثانيها أنه قال يوم الفتح إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها فقال العباس يا رسول الله إلا الإذخر فقال إلا الإذخر فهذا الحكم ما كان بالوحي لأنه لم تظهر علامة نزول الوحي وثالثها أنه عليه الصلاة والسلام نادى مناديه لا هجرة بعد الفتح حتى استفاض ذلك فبينما المسلمون كذلك إذ أقبل مجاشع ابن مسعود بالعباس بن عبد المطلب شفيعا ليجعله مهاجرا بعد الفتح فقال عليه الصلاة والسلام أشفع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 عمي ولا هجرة بعد الفتح ورابعها أنه لما قتل النضر بن الحارث جاءته قتيلة بنت النضر فأنشدته أمحمد ولأنت ضنؤ كل نجيبة في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق فقال عليه الصلاة والسلام أما أني لو كنت سمعت شعرها ما قتلته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 ولو كان قتله بأمر الله لقتله ولو سمع شعرها ألف مرة وخامسها قوله عفوت لكم عن الخيل والرقيق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 وسادسها قوله عليه الصلاة والسلام أيها الناس كتب عليكم الحج فقال الأقرع بن حابس أكل عام يا رسول الله يقول ذلك ورسول الله ص ساكت فلما أعاد ذلك قال والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها دعوني ما ودعتكم وسابعها أن ابن عباس رضي الله قال أخر رسول الله ص العشاء ذات ليلة فخرج ورأسه يقطر فقال لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقت هذه الصلاة هذا الحين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 وثامنها روى جابر عن رسول الله ص أنه قال إن عشت إن شاء الله لأنهين أمتي أن يسموا نافعا وأفلح وبركة وهذا الكلام يدل على أنه له وتاسعها قال جابر لما قيل لرسول الله ص إن ماعزا رجم فقال هلا تركتموه حتى أنظر في أمره فلو لم يكن حكم الرجم إليه لما قال ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 وعاشرها قوله عليه الصلاة والسلام كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وعن لحوم الأضاحي ألا فانتفعوا بها وأما الذي يدل على وقوع ذلك من غير رسول الله ص فقوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه وأما الذي يدل على الجواز فقط فأمور أحدها أن الواجب من خصال الكفارة ليس إلا الواحد بالدلائل التي تقدم ذكرها في مسألة الواجب المخير ثم أنه تعالى فوضها إلى المكلف لما علم أنه لا يختار إلا ذلك الواجب فدل على أن ذلك جائز وثانيها أن الواجب في التكليف أن يكون المكلف متمكنا من الخروج عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 العهدة فإذا قال الله تعالى له احكم فإنك لا تنفك عن الصواب علم أن كل ما يصدر عنه صواب فكان متمكنا من الخروج من العهدة فوجب القطع بجوازه وثالثها إذا استوى عند المستفتى مفتيان وأحدهما يفتى بالحظر والآخر بالإباحة فهو متمكن شرعا من الأخذ ب قول أيهما أراد ولا فرق في العقل بين أن يقال افعل ما شئت فإنك لا تفعل إلا الصواب وبين أن يقال خذ بقول أيهما شئت فإنك لا تفعل إلا الصواب والجواب عن أدلة المانعين أن نقول أما الوجه الذي تمسكوا به أولا في امتناع ذلك عقلا فهو مبني على أن أحكام الله تعالى متفرعة على رعاية المصالح ونحن لا نقول بهذا الأصل فتلك الوجوه بأسرها ساقطة عنا ثم إنا نسلم لهم هذا الأصل ونبين ضعف كل واحد من تلك الوجوه أما قوله أولا من أجاز هذا التكليف إما أن يجعل الاختيار مما تتم به المصلحة أو يجعل الفعل مصلحة في نفسه ثم يختاره المكلف قلنا اخترنا القسم الأول قوله هذا يكون إسقاطا للتكليف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 قلنا لا نسلم وذلك لأنه قال الرسول إن اخترت الفعل فاحكم على الأمة بالفعل وإن اخترت الترك فاحكم على الأمة بالترك فهذا لا يكون إسقاطا للتكليف بل يكون مكلفا بأن يأمر الخلق بمتعلق اختياره قوله الفعل والترك لا ينفك المكلف عنهما قلنا لكن الحكم على الخلق بالفعل والحكم عليهم بالترك قد ينفك عنهما فلم لا يجوز ورود التكليف به ثم يشكل ما ذكروه بالمستفتي إذ أفتاه مفتيان أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة فكل ما يقولونه هناك فهو قولنا ها هنا سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز القسم الثاني قوله إما أن يكون مأمورا بذلك في الأفعال الكثيرة أو القليلة قلنا لم لا يجوز في الكثيرة قوله الاتفاقي لا يكون أكثريا قلنا لا نسلم فإن حكم الشئ حكم مثله عقلا وشرعا وعرفا فلما جاز ذلك في الأفعال القليلة جاز في الأفعال الكثيرة أيضا فان لم يفد هذا الكلام القطع بالجواز فلا أقل من أن لا يحصل معه القطع البديهي بالامتناع وأما الأمثلة التي ذكروها فنقول إن كان الحال فيها كما هنا احتاج الفرق بين القليل والكثير إلى دليل وإلا فيمتنع القياس على أنا قد بينا في هذا الكتاب أن القياس لا يفيد اليقين ألبتة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 سلمنا أن الاتفاقي لا يدوم ولكن إذا كان الاتفاقي ببعض الجهات معلوم السبب بسائر الجهات أو إذا لم يكن الأول ممنوع والثاني مسلم بيانه أن من الجائز أن يعلم الله تعالى أن أكل الطعام الحلو في هذه السنة مصلحة للمكلفين ويعلم أنهم خلقوا على وجه لا يشتهون إلا الطعام الحلو فإذا كان تناول الطعام الحلو مصلحة طول عمره لم يكن جهله بكون الفعل مصلحة مانعا له في هذه الصورة من الإقدام عليه في أكثر أوقاته سلمنا تعذر ذلك في الكثير فلم لا يجوز في القليل والإجماع الذي ذكروه ممنوع أما قوله ثانيا التمييز بين الحسن والقبيح لابد وأن يتقدم على الفعل قلنا لا نسلم وبيانه بالوجهين المذكورين في الجواب عن الوجه الأول سلمنا ذلك ولكنه حاصل ها هنا لأن الغرض أن يأمن المكلف من أن يفعل قبيحا أو مفسدة يستحق به الذم فأي فرق بين أن يجعل الله تعالى له على ذلك أمارة قبل أن يفعل وبين أن يجعل الأمارة على ذلك نفس الفعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 وعلى الوجهين جميعا هو آمن من القبيح ومتخلص من الذم وليس يلزم ما قالوا من أن الأمارة إذا لم تتقدم على الفعل كان مقدما على ما لا يأمن كونه قبيحا لأنه قبل أن يفعل لما قيل له إنك لا تختار إلا الصواب فهو آمن من الإقدام على القبيح وأما الوجه الثالث والرابع فجوابه أن الله تعالى لما نص في تلك الصورة بأن المكلف لا يختار فيها إلا الصواب فلم قلت لا يجوز ورود الأمر بمتابعة إرادته وليس إذا لم يلزم مويس لم يجز لغيره التزامه وأما الوجهان اللذان تمسكوا بهما في نفي الوقوع فالجواب عنهما أن قوله تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام إنك لا تحكم إلا بالصواب لعله ورد في زمان متأخر وما ذكروه ورد في زمان متقدم فلا يتناقضان وأما الوجوه العشرة التي تمسك بها مويس في الوقوع فضعيفة لاحتمال أن يقال ورد الوحي بها قبل تلك الوقائع مشروطا مثل أن يقال لو استثنى أحد شيئا فاستثن له ذلك وكذا القول في سائر الصور سلمنا أنه ما كان بالوحي فلعله كان بالاجتهاد وبهذا التقدير لا يصح قول الخصم وأما قوله تعالى إلا ما حرم إسرائيل على نفسه قلنا يحتمل أن يكون حرم ذلك على نفسه بالنذر أو بالاجتهاد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 ويكون إثبات التحريم بالنذر جائزا في شرعهم وأما الوجه الأول من الوجوه التي تمسكوا بها في الجواز فجوابه إنه مبني على أن الواجب في خصال الكفارة واحد معين عند الله تعالى لكنا لا نقول به وأما الوجهان الباقيان فمبنيان على تشبيه صورة بصورة وقد عرفت أن هذا لا يفيد اليقين فثبت بما ذكرنا ضعف أدلة القاطعين فظهر أن الحق ما ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه من التوقف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 المسألة السادسة مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يجوز الاعتماد في إثبات الأحكام على الأخذ بأقل ما قيل فإنه حكى اختلاف الناس في دية اليهودي فمنهم من قال بمساواتها لدية المسلم ومنهم من قال هى نصف دية المسلم ومنهم من قال هى الثلث منها فهو رضي الله عنه أخذ بالأقل واعلم أن هذه القاعدة مفرغة على أصلين الإجماع والبراءة الأصلية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 أما الإجماع فلأنا لو قدرنا أن الأمة انقسمت إلى أربعة أقسام أحدها يوجب في اليهودي مثل دية المسلم وثانيها يوجب النصف وثالثها يوجب الثلث ورابعها لا يوجب شيئا لم يكن الأخذ بأقل ما قيل واجبا لأن ذلك الأقل قول بعض الأمة وذلك ليس بحجة أما إذا لم يوجد هذا القسم الرابع كان القول بوجوب الثلث قولا لكل الأمة لأن من أوجب كل دية المسلم فقد أوجب الثلث ومن أوجب نصفها فقد أوجب الثلث أيضا ومن أوجب الثلث فقد قال بذلك فيكون إيجاب الثلث قولا قال به كل الأمة فيكون حجة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 وأما البراءة الأصلية فلأنها تدل على عدم الوجوب في الكل ترك العمل به في الثلث لدلالة الإجماع على وجوبه فيبقى الباقي كما كان ولهذه النكتة شرطنا في الحكم بأقل ما قيل عدم ورود شئ من الدلائل السمعية فإنه إن ورد شئ من ذلك كان الحكم لأجله لا لأجل الرجوع لأقل ما قيل ولهذا السر اختلف الناس في العدد الذي تنعقد به الجمعة فقال قائلون أربعون وقال قائلون ثلاثة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 فالشافعي رضي الله عنه لم يأخذ بأقل ما قيل لأنه وجد في الأكثر دليلا سمعيا فكان الأخذ به أولى من الأخذ بالبراءة الأصلية وكذلك اختلفوا في عدد الغسل من ولوغ الكلب فقال بعضهم سبعة وقال آخرون ثلاثة فالشافعي رضي الله عنه لم يأخذ بالأقل لأنه وجد في الأكثر دليلا سمعيا فإن قلت لم لا يجوز أن يقال كان يجب الأخذ بأكثر ما قيل لأنه قد ثبت في الذمة شئ واختلفت الأمة في الكمية فقال قوم هو كل الدية وقال اخرون بل نصفها وقال آخرون بل ثلثها فإذا لم تحصل مع واحد من هذه الأقوال دلالة سمعية تساقطت ولا تحصل براءة الذمة باليقين إلا عند أداء كل دية المسلم فوجب القول به ليحصل الخروج عن العهدة بيقين والجواب إنه لما كان الأصل براءة الذمة امتنع الحكم بكونها مشغولة إلا بدليل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 سمعي فإذا لم يوجد دليل سمعى سوى الإجماع والإجماع لم يثبت إلا في أقل المقادير لم يثبت شغل الذمة إلا بذلك الأقل فإن قلت هب أنه لم يوجد دليل سوى الإجماع لكنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فلعله ثبت في الذمة حق أزيد من أقل ما قيل فإذا كان هذا الاحتمال قائما لم يثبت الخروج عن العهدة باليقين إلا بأكثر ما قيل قلت لما لا يوجد سوى الإجماع والإجماع لم يدل إلا على أقل ما قيل فيه كان الزائد على ذلك الأقل لو ثبت لثبت من غير دليل وذلك غير جائز لأنه يصير ذلك تكليف مالا يطاق وأيضا فإن الله تعالى تعبدنا بالبراءة الأصلية إذا لم نجد دليلا سمعيا يصرفنا عنها فإذا لم يوجد دليل سمعي يدل على الزيادة علمنا أن الله تعالى تعبدنا بالبراءة الأصلية وحينئذ يحصل القطع بأنه لا يجب إلا ذلك القدر الذي هو أقل المقادير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 المسألة السابعة قال قوم يجب على المكلف الأخذ بأخف القولين للنص والمعقول أما النص فقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله عليه الصلاة والسلام لا ضرر في الإسلام وقوله بعثت بالحنيفية السهلة السمحة وكل ذلك ينافي شرع الشاق الثقيل وأما القياس فهو أنه تعالى كريم غني والعبد محتاج فقير وإذا وقع التعارض بين هذين الجانبين كان التحامل على جانب الكريم الغني أولى منه على جانب المحتاج الفقير وربما قالوا الأخذ بالأخف أخذ بالأقل فوجب العمل به واعلم أن هذا المذهب يرجع حاصله إلى أن الأصل في الملاذ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 الإباحة وفي الآلام الحرمة وقد تقدم الكلام فيه فأما قوله الأخذ بالأخف أخذ بالأقل قلنا هذا ضعيف لأنا إنما نوجب الأخذ بأقل ما قيل إذا كان ذلك جزءا من الأصل كما ذكرناه في المثال فإن الثلث جزء من النصف ومن الكل والموجب للكل والنصف موجب للثلث فيصير وجوب الثلث بهذا الطريق مجمعا عليه أما إذا كان الأخف ليس جزءا من ماهية الأصل لم يصر الثلث مجمعا عليه فلا يجب الأخذ به وقال قوم يجب الأخذ بأثقل القولين لقوله عليه الصلاة والسلام الحق ثقيل قوي والباطل خفيف وبي وهذه الدلالة ضعيفة لأنه لا يلزم من قولنا كل حق ثقيل أن يكون كل ثقيل حق ولا من قولنا الباطل خفيف أن يكون كل خفيف باطلا وها هنا طريقة أخرى يسمونها طريقة الاحتياط وهى إما الأخذ بأكثر ما قيل أو بأثقل ما قيل ولما تقدم الكلام فيها فلا فائدة في الإعادة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 المسألة الثامنة الاستقراء المظنون هو إثبات الحكم في كلى لثبوته في بعض جزئياته مثاله قول أصحابنا في الوتر أنه ليس بواجب لأنه يؤدي على الراحلة ولا شئ من الواجب يؤدى على الراحلة أما المقدمة الأولى فثابتة بالإجماع وأما الثانية فنثبتها بالاستقراء وهو أنا لما رأينا القضاء وسائر أصناف الواجبات لا تؤدى على الراحلة حكمنا على كل واجب بأنه لا يؤدى على الراحلة وهذا النوع لا يفيد اليقين لأنه يحتمل أن يكون الوتر واجبا بخلاف سائر الواجبات في هذا الحكم ولا يمتنع عقلا أن يكون بعض أنواع الجنس مخالفا لحكم النوع الآخر من ذلك الجنس وهل يفيد الظن أم لا الأظهر أن هذا القدر لا يفيد إلا بدليل منفصل ثم بتقدير حصول الظن وجب الحكم بكونه حجة لقوله عليه الصلاة والسلام أقضي بالظاهر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 المسألة التاسعة في المصالح المرسلة أعلم أن المصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام أحدها ما شهد الشرع باعتباره وهو القياس الذي تقدم شرحه وثانيها ما شهد الشرع ببطلانه مثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان عليك صوم شهرين متتابعين فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة قال لو أمرته بذلك لسهل عليه ولاستحقر إعتاق رقبة في قضاء شهوته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 واعلم أن هذا باطل لأنه حكم على خلاف حكم الله تعالى لمصلحة تخيلها الإنسان بحسب رأيه ثم إذا عرف ذلك من جميع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي القسم الثالث ما لم يشهد له بالاعتبار ولا بالإبطال نص معين فنقول قد ذكرنا في كتاب القياس إن المناسبة إما أن تكون في محل الضرورة أو الحاجة أو التتمة فقال الغزالي رحمه الله أما الواقع في محل الحاجة أو التتمة فلا يجوز الحكم فيها بمجرد المصلحة لأنه يجري مجرى وضع الشرع بالرأي وأما الواقع في رتبة الضرورة فلا يبعد أن يؤدى إليه اجتهاد مجتهد ومثاله أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا واستولوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما لم يذنب وهذا لا عهد به في الشرع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى فيجوز أن يقول قائل هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ كل المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع من حفظ المسلم الواحد قال وإنما اعتبرنا هذه المصلحة لاشتمالها على ثلاثة أوصاف وهى أنها ضرورية قطعية كلية واحترزنا بقولنا ضرورية عن المناسبات التي تكون في مرتبة الحاجة أو التتمة وبقولنا قطعية عما إذا لم نقطع بتسلط الكفار علينا إذا لم نقصد الترس فإن ها هنا لا يجوز القصد إلى الترس وكذلك قطع المضطر قطعة من فخذه لا يجوز لأنا لا نقطع بأنه يصير ذلك سببا للنجاة وبقولنا كلية عما لو تترس الكافر في قلعة بمسلم فإنه لا يحل رمي الترس إذ لا يلزم من عدم استيلائنا على تلك القلعة فساد يعم كل المسلمين وكذا إذا كان جماعة في سفينة ولو طرحوا واحدا لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم فها هنا لا يجوز لأن ذلك ليس أمرا كليا فهذا محصل ما قاله الغزالي رحمه الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 ومذهب مالك رحمه الله أن التمسك بالمصلحة المرسلة جائز واحتج عليه بأن قال كل حكم يفرض فإما أن يستلزم مصلحة خالية عن المفسدة أو مفسدة خالية عن المصلحة أو يكون خاليا عن المصلحة والمفسدة بالكلية أو يكون مشتملا عليهما معا وهذا على ثلاثة أقسام لأنهما إما أن يكونا متعادلين وإما أن تكون المصلحة راجحة وإما أن تكون المفسدة راجحة فهذه أقسام ستة أحدها أن يستلزم مصلحة خالية عن المفسدة وهذا لابد وأن يكون مشروعا لأن المقصود من الشرائع رعاية المصالح وثانيهما أن يستلزم مصلحة راجحة وهذا أيضا لابد وأن يكون مشروعا لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير وثالثها أن يستوى الأمران فهذا يكون عبثا فوجب أن لا يشرع ورابعها أن يخلو عن الأمرين وهذا أيضا يكون عبثا فوجب أن لا يكون مشروعا وخامسها أن يكون مفسدة خالصة ولا شك أنها لا تكون مشروعة وسادسها أن يكون ما فيه من المفسدة راجحا على ما فيه من المصلحة وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 أيضا غير مشروع لأن المفسدة الراجحة واجبة الدفع بالضرورة وهذه الأحكام المذكورة في هذه الأقسام الستة كالمعلوم بالضرورة أنها دين الأنبياء وهى المقصود من وضع الشرائع والكتاب والسنة دالان على أن الأمر كذلك تارة بحسب التصريح وأخرى بحسب الأحكام المشروعة على وفق هذا الذي ذكرناه غاية ما في الباب أنا نجد واقعة داخلة تحت قسم من هذه الأقسام ولا يوجد لها في الشرع ما يشهد لها بحسب جنسها القريب لكن لا بد وأن يشهد الشرع بحسب جنسها البعيد على كونه خالص المصلحة أو المفسدة أو غالب المصلحة أو المفسدة فظهر أنه لا توجد مناسبة إلا ويوجد في الشرع ما يشهد لها بالاعتبار إما بحسب جنسه القريب أو بحسب جنسه البعيد إذا ثبت هذا وجب القطع بكونه حجة للمعقول والمنقول أما المعقول فلأنا إذا قطعنا بأن المصلحة الغالبة على المفسدة معتبرة قطعا عند الشرع ثم غلب على ظننا أن هذا الحكم مصلحته غالبة على مفسدته تولد من هاتين المقدمتين ظن أن هذه المصلحة معتبرة شرعا والعمل بالظن واجب لقوله عليه الصلاة السلام أقضي بالظاهر ولما ذكرنا أن ترجح الراجح على المرجوح من مقتضيات العقول وهذا يقتضى القطع بكونه حجة وأما المنقول فالنص والإجماع أما النص فقوله تعالى فاعتبروا أمر بالمجاوزة والاستدلال بكونه مصلحة على كونه مشروعا مجاوزة فوجب دخوله تحت النص الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 وأما الإجماع فهو أن من تتبع أحوال مباحثات الصحابة علم قطعا أن هذه الشرائط التي يعتبرها فقهاء الزمان في تحرير الأقيسة والشرائط المعتبرة في العلة والأصل والفرع ما كانوا يلتفتون إليها بل كانوا يراعون المصالح لعلمهم بأن المقصد من الشرائع رعاية المصالح فدل مجموع ما ذكرنا على جواز التمسك بالمصالح المرسلة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 المسألة العاشرة الاستدلال بعدم ما يدل على الحكم على عدم الحكم طريقة عول عليها بعض الفقهاء وتحريره أن الحكم الشرعي لا بد له من دليل والدليل إما نص أو إجماع أو قياس ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة فوجب أن لا يثبت الحكم إنما قلنا أن الحكم الشرعي لابد له من دليل لأن الله تعالى لو أمرنا بشئ ولا يضع عليه دليلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق وإنه غير جائز وإنما قلنا إن الدليل إما نص أو إجماع أو قياس لثلاثة أوجه أحدها قصة معاذ فإنها تدل على انحصار الأدلة في الكتاب والسنة والقياس زدنا فيه الإجماع بدليل منفصل فيبقى الباقي على الأصل وثانيها أن الأدلة الدالة على الأحكام كانت معدومة في الأزل وقد بينا أن الأصل في كل أصل تحقق بقاؤه على ما كان فهذا الدليل يقتضي أن لا يوجد شئ من أدلة الأحكام ترك العمل به في النص والإجماع والقياس فوجب أن يبقى فيما عدا هذه الثلاثة على الأصل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 وثالثها أنه لو حصل نوع آخر من الأدلة لكان ذلك من الأمور العظام لأن ما يجب الرجوع اليه في الشرع نفيا وإثباتا في الوقائع الحاضرة والمستقبلة لا شك أنه من الأمور العظام فلو كان ذلك موجودا لوجب اشتهاره ولو كان كذلك لعرفناه بعد البحث والطلب فلما لم نجد شيئا آخر سوى هذه الثلاثة علمنا الانحصار وإنما قلنا أنه لم يوجد واحد من هذه الثلاثة لما سنبينه أما النص فلوجهين أحدهما أنا اجتهدنا في الطلب فما وجدنا وهذا القدر عذر في حق المجتهد بالإجماع فوجب أن يكون عذرا في حق المناظر لأنه لا معنى للمناظرة إلا بيان ما لأجله قال بالحكم وثانيهما أنه لو وجد في المسألة نص لعرفه المجتهدون ظاهرا ولو عرفوه لما حكموا على خلافه ظاهرا فحيث حكموا على خلافه علمنا عدمه أما الإجماع فهو منفي لأن المسألة خلافية ولا إجماع مع الخلاف وأما القياس فمنفي لوجهين أحدهما أن القياس لا بد فيه من أصل والأصل هو الصورة الفلانية والفارق الفلاني موجود ومع الفارق لا يمكن القياس أقصى ما في الباب أن يقال لم لا يجوز القياس على صورة أخرى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 فنقول لأنا بعد الطلب لم نجد شيئا يمكن القياس عليه إلا هذه الصورة وهذا القدر عذر في حق المجتهد فوجب أن يكون عذرا في حق المناظر على ما بيناه وثانيهما أن سائر الأصول كانت معدومة فوجب بقاؤها على العدم تمسكا بالاستصحاب فهذا تمام تقرير هذه الدلالة واعلم أن كل مقدمة لا يمكن تمشية الدليل إلا بها فلو كانت تلك المقدمة مستقلة بالإنتاج فلا كان التمسك بها في أول الأمر أولى ورأينا أن هذه الدلالة لا يمكن تمشيتها إلا بإحدى مقدمتين إحداهما أن عدم الوجدان بعد الطلب يدل على عدم الوجود وثانيهما أن الأمر الفلاني كان معدوما فيحصل الآن ظن بقائه على العدم وهاتان المقدمتان لو صحتا لكانتا مستقلتين بإنتاج المطلوب فإنه يقال في أول المسألة الحكم الشرعي لا بد له من دليل ولم يوجد الدليل لأني اجتهدت في الطلب وما وجدته وذلك يدل على عدم الوجود أو يقال ولم يوجد الدليل لأن هذه الدلائل كانت معدومة في الأزل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 والأصل في كل معدوم بقاؤه على عدمه وإذا ثبت هذا فقد حصل ظن عدم الدليل فيتولد منه القطع بأنه لو وجد الحكم لوجد الدليل مع ظن أنه لم يوجد ظن عدم الحكم والعمل بالظن واجب فتقرير هذه الدلالة على هذا الوجه أقل مقدمات وأشد تلخيصا فكان ايرادها على هذا الوجه أولى فإن قيل قوله الدليل إما نص أو إجماع أو قياس قلنا هذا لا يتم على قولك لأنك ذكرت هذه العبارة دليلا في المسألة الشرعية وإنها ليست بنص ولا إجماع ولا قياس وعند هذا يلزم أحد محذورين وهو أنه إما أن لا يكون هذا الكلام دليلا في المسألة حتى يتم الحصر أو يبطل الحصر حتى يتم هذا دليلا في المسألة فإن قلت الكلام عليه من وجهين أحدهما أني أقول دليل الحكم الشرعي إما نص أو إجماع أو قياس ومدلول دليلي انتفاء الصحة فإن هذا الانتفاء كان حاصلا قبل الشرع فالإخبار عنه يكون إخبارا عن أمر لا تتوقف معرفته على الشرع فلا يكون شرعيا وثانيهما أني لا أنفي الصحة إلا بالإجماع لأن الإجماع منعقد على أنه متى لم يوجد شئ من هذه الأشياء وجب نفي الحكم فيكون الدليل في الحقيقة هو الإجماع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 قلت أما الجواب عن الأول فهو أنه لما ثبت انتفاء الصحة لزم ثبوت البطلان ضرورة تعذر القول بالوقف فيكون كلامك دليلا على البطلان بواسطة دلالته على انتفاء الصحة فيكون دليلا على حكم شرعي فيعود المحذور المذكور وعن الثاني أن الإجماع لم يدل على عدم الصحة ابتداءا بل دل على أنه مهما عدم النص والإجماع والقياس لزم عدم الحكم فيكون الإجماع دليلا على أن عدم هذه الثلاثة دليل على عدم الحكم وعدم هذه الثلاثة مغاير لهذه الثلاثة فيعود الكلام المتقدم السؤال الثاني أنك جعلت عدم دليل الثبوت دليل العدم فهل تجعل عدم دليل العدم دليل الثبوت أم لا فإن لم يقل به فقد ناقض لأن نسبة دليل الثبوت إلى الثبوت كنسبة دليل العدم إلى العدم فإن لزم من عدم دليل الثبوت عدم الثبوت لزم من عدم دليل العدم عدم العدم وأن لم يلزم ها هنا لم يلزم هناك أيضا إذ لا فرق بينهما في العقل وإن اعترف بذلك لزم المحذور من وجهين أحدهما أن عدم دليل العدم دليل على عدم العدم وعدم العدم وجود فعدم دليل العدم دليل على الوجود فقد حصل سوى النص والإجماع والقياس دليل آخر على الوجود فيبطل حصرهم والثاني وهو أنه إذا كان عدم دليل العدم دليلا على الوجود لم يلزم انتفاء الوجود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 إلا ببيان عدم عدم دليل العدم وعدم العدم وجود فإذن لا يلزم انتفاء الوجود إلا بوجود دليل العدم لكنك لو ذكرت دليل العدم لاستغنيت عما ذكرت من الدلالة السؤال الثالث أنك لو اقتصرت في نفي النص على عدم الوجدان فهذا الطريق إن صح وجب الاكتفاء به في نفي القياس لأنه حاصل فيه وإن لم يصح لم يجز التعويل عليه في هذا المقام فإن قلت إنما تعرضت لنفي قياس معين لأن المخالف يعتقده قياسا ودليلا وليس في النصوص ما يعتقده دليلا قلت المخالف كما يعتقد في قياس كونه حجة له فكذلك قد يعتقد في بعض النصوص كونه حجة له فكان يلزم التعرض للأمرين السؤال الرابع لم قلت إنه لما وجد الفرق بين الصورتين تعذر القياس وذلك لأن الفرق إنما يكون قادحا لو لم يجز تعليل الحكم الواحد بعلتين فأما إذا كان جائزا احتمل كون الحكم في الأصل معللا بالوصف الذي تعدى إلى الفرع وبالوصف الذي لم يتعد إليه معا فلا يكون ذلك قادحا في القياس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 السؤال الخامس أن هذا النظم لا ينفك عن القلب فإن المستدل إذا قال مثلا في بيع الغائب لا نص ولا إجماع ولا قياس في صحته فوجب أن لا تثبت صحته فيقال وتحريم أخذ المبيع من البائع بعد جريان هذا البيع على المشتري أو تحريم أخذ الثمن من المشتري على البائع حكم شرعي فلا يثبت إلا بنص أو إجماع أو قياس ولم يوجد ذلك فوجب أن لا يثبت الجواب هذه الدلالة لا تتم إلا مع التمسك بأن الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان وأنه إنما يجوز العدول عن هذا الأصل إذا وجد دليل يوجب العدول عنه وذلك الدليل لا يكون إلا نصا أو إجماعا أو قياسا وعلى هذا يسقط السؤال وذلك لأنا نقول مثلا في مسألة بيع الغائب لا شك أن قبل جريان هذا البيع كان المبيع ملكا للبائع والأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان إلا أنا نترك التمسك بهذا الأصل عند وجود نص أو إجماع أو قياس يدل على خلافه ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة فلم يوجد ما يوجب العدول عن التمسك بذلك الأصل وإذا كان كذلك وجب الحكم ببقائه على ما كان وحاصل الكلام أنى إنما ادعيت الحصر فيما يدل على تغيير الحكم عن مقتضى الأصل والحكم الذي أنتجته من هذا الدليل ليس من باب تغير الحكم بل هو من باب إبقاء ما كان على ما كان فلم يكن ادعاء الحصر في تلك الصورة قادحا في صحة هذه الدلالة وإذا عرفت هذا فالعبارة الصحيحة عن هذا الدليل أن يقال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 حكم الشرع إبقاء ما كان على ما كان إلا إذا وجدت دلالة شرعية مغيرة والدلالة المغيرة إما نص أو إجماع أو قياس ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة فلم توجد الدلالة المغيرة فوجب بقاؤه على ما كان فإن قلت التمسك باستصحاب الأصل كاف فأي حاجة إلى هذا التطويل قلت المناظر تلو المجتهد ومعلوم أن المجتهد لا يجوز له التمسك باستصحاب حكم الأصل إلا إذا بحث واجتهد في طلب هذه الأدلة المغيرة فإذا لم يجد في الواقعة شيئا منها حل له فيما بينه وبين الله تعالى أن يحكم بمقتضى الاستصحاب فأما قبل البحث عن وجود هذه الدلائل المغيرة فلا يجوز له التمسك بالاستصحاب أصلا فلما ثبت أن الأمر في المجتهد كذلك وجب أن يكون في حق المناظر كذلك لأنه لا معنى للمناظرة المشروعة إلا بيان وجه الاجتهاد وأما الجواب عن السؤال الثاني فهو أن الاستدلال بعدم المثبت أولى من الاستدلال بعدم النافي على الوجود وبيانه من وجوه أحدها أنا لو استدللنا بعدم المثبت على العدم لزمنا عدم ما لا نهاية له وذلك غير ممتنع أما لو استدللنا بعدم النافي على الوجود لزمنا إثبات ما لا نهاية له وهو محال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 وثانيها أنا نستدل بعدم ظهور المعجز على يد الإنسان على أنه ليس بنبي ولا نستدل بعدم ما يدل على أنه ليس برسول على كونه رسولا وثالثها أنه لا يقال أن فلانا ما نهاني عن التصرف في ماله فأكون مأذونا في التصرف ويقال إنه لم يأذن لي في التصرف في ماله فأكون ممنوعا ورابعها أن دليل كل شئ على حسب ما يليق به فدليل العدم العدم ودليل الوجود الوجود سلمنا أنه ليس أحد الطريقين أولى من الآخر لكن ذلك يقتضي أن يتعارضا ويتساقطا منه وحينئذ يبقى مقتضى الأصل وهو بقاء ما كان على ما كان وأما السؤال الثالث فليس سؤالا علميا بل هو شئ يتعلق بالوضع والاصطلاح فلا يليق الخوض في أمثاله في الكتب العلمية وأما السؤال الرابع فجوابه أنا بينا في هذا الكتاب أنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين وأن سؤال الفرق سؤال قادح وأما السؤال الخامس فساقط لأنا لم نقل إنه يلزم من عدم النص والإجماع والقياس بقاء ما كان على ما كان إلا بعد أن بينا أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان فمعارضة الخصم إنما تلزم لو ثبت أن الأصل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 في الشئ أن لا يبقى على ما كان ولما كان ذلك باطلا كانت معارضته باطلة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 المسألة الحادية عشرة في تقرير وجوه من الأدلة التي يمكن التمسك بها في المسائل الفقهية أعلم أن الحكم الملتزم إثباته إما أن يكون عدميا أو وجوديا فإن كان عدميا أمكن أن يذكر فيه عبارات إحداها أن يقال هذا الحكم كان معدوما وذلك يقتضى ظن بقائه على العدم والعمل بالظن واجب إنما قلنا إنه كان معدوما لأن المحكوم عليه كان معدوما في الأزل فوجب أن لا يكون الحكم ثابتا في الأزل لأن ثبوت الحكم من غير ثبوت المحكوم عليه عبث وسفه وهو غير جائز على الله تعالى فإن قلت فهذا يقتضي أن يكون كلام الله تعالى حادثا قلت لا نسلم لأن المراد من الحكم كون الشخص مقولا له إن لم تفعل هذا الفعل في هذه الساعة عاقبتك ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المعنى لم يكن متحققا في الأزل وأما بيان إنه لما كان معدوما حصل ظن تحقق ذلك العدم في كل زمان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 فلما بيناه في مسألة الاستصحاب وثانيتها أنه لو ثبت الحكم لثبت بدلالة أو أمارة والأول باطل لأن الأمة مجمعة على أنه ليس في المسائل الشرعية دلالة قاطعة والثاني أيضا باطل لأن اتباع الأمارة اتباع الظن وهو غير جائز لقوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا وقول على الله بما لا نعلم وهو غير جائز لقوله تعالى وأن تقولوا على الله مالا تعلمون وثالتها لو ثبت الحكم لثبت إما لمصلحة أو لا لمصلحة والثاني عبث والعبث غير جائز على الحكيم والأول لا يخلو إما أن تكون المصلحة عائدة إلى الله تعالى أو إلى العبد والأول محال لامتناع النفع والضرر عليه تعالى والثاني أيضا محال لأن المصلحة لا معنى لها إلا اللذة أو ما يكون وسيلة إليها والمفسدة لا معنى لها إلا الألم أو ما يكون وسيلة إليه ولا لذة إلا والله تعالى قادر على تحصيلها إبتداءا فيكون توسط شرع الحكم عبثا وكذا القول في المفسدة فهذا الدليل ينفي شرع الحكم ترك العمل به فيما توافقنا على وقوعه فبقي في المختلف فيه على وفق الأصل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 ورابعتها أن هذه الصورة تفارق الصورة الفلانية التي ثبت الحكم فيها في وصف مناسب فوجب أن تفارقها في هذا الحكم بيان المفارقة في الوصف المناسب هو أنه وجد في الأصل ذلك الوصف الفلاني وأنه مناسب لذلك ويبين ذلك الحكم بطريقه وبيان أن هذا القدر يمنع من المشاركة في الحكم وذلك لأن هاتين الصورتين لو اشتركتا في الحكم لكان إما أن يكون الحكم الثابت في الصورتين معللا بوصف مشترك بين الصورتين أو لا يكون كذلك فإن كان الأول لزم إلغاء الوصف المناسب المعتبر الذي اختص الأصل به وأنه غير جائز وإن كان الثاني لزم تعليل الحكمين المتماثلين بعلتين مختلفتين وهذا غير جائز لأن إسناد أحد ذينك الحكمين إلى علته إن كان لذاته أو للوازم ذاته لزم في الحكم الذي يماثله إسناده أيضا إلى تلك الماهية لا إلى ماهية أخرى وإن لم يكن لذاته ولا للوازم ذاته كان الحكم في نفسه غنيا عن تلك العلة والغنى عن الشئ لا يكون مستندا إليه فوجب في ذلك الحكم أن لا يكون مستندا إلى تلك العلة وقد فرضناه مستندا إليها هذا خلف وخامسها أن الحكم لو ثبت في هذه الصورة لثبت في الصورة الفلانية لأن بتقدير ثبوته في هذه الصورة كان ذلك لدفع حاجة المكلف وتحصيل مصلحته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 وهذا المعنى قائم هناك فيلزم ثبوت الحكم هناك فلما لم يوجد هناك وجب أن لا يوجد هاهنا وسادسها أن هذا الحكم كان منتفيا من الأزل إلى الأبد فكان منتفيا في أوقات مقدرة غير متناهية فوجب أن يحصل ظن الانتفاء في هذه الأوقات لأن الأوقات الغير متناهية أكثر من الأوقات المتناهية والكثرة مظنة الظن فوجب أن يكون الحكم في هذه الأوقات المتناهية مثل الحكم في تلك الأوقات الغير متناهية وذلك يوجب النفي وسابعها شرع هذا الحكم يفضي إلى الضرر والضرر منفي بالنص وإنما قلنا إنه يفضي إلى الضرر لأنه إن فعل خلافه استحق العقاب وإن لم يفعل بقي في صورة تارك المراد فثبت كونه ضررا فوجب أن لا يكون مشروعا لقوله ص لا ضرر ولا ضرار وثامنها لو ثبت هذا الحكم لثبت بدليل وإلا كان ذلك تكليف مالا يطاق وأنه غير جائز لكنه لا دليل لأن ذلك الدليل أما أن أن يكون هو الله تعالى أو غيره الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 والأول باطل وإلا لزم من قدم الله تعالى قدم الحكم وإلا لزم النقيض وهو خلاف الدليل لكن قدم الحكم عبث ولا جائز أن يكون غير الله تعالى لأن ذلك الغير إن كان قديما عاد الكلام وان كان محدثا فقد كان معدوما والأصل بقاؤه على العدم وأيضا فلأن شرط كونه دليلا أن توجد ذاته وأن يوجد له وصف كونه دليلا فإذن كونه دليلا مشروط بحدوث هذين الأمرين ويكفي في أن لا يكون دليلا عدم أحدهما والمتوقف على أمرين مرجوح بالنسبة إلى ما يتوقف على أمر واحد فإذن كونه دليلا مرجوح في الظن فوجب أن لا يكون دليلا وأما إن كان الحكم وجوديا فالطرق الكلية فيه وجوه أحدها أن المجتهد الفلاني قال به فوجب أن يكون حقا لقوله ص ظن المؤمن لا يخطئ ترك العمل بهذا في ظن العوام لأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 ظنونهم لا تستند إلى وجه صحيح فيبقى معمولا به في حق ظن المجتهد فإن قلت فقول المجتهد المثبت معارض بقول المجتهد النافي قلت قول المثبت أولى لأن قول المثبت ناقل عن حكم العقل وقد ذكرنا في باب التراجيح أن الناقل أولى وأيضا فالنافي يحتمل أنه إنما نفى لأنه وجد له ظن النفي ويحتمل أنه إنما نفى لأنه لم يوجد له ظن الثبوت وعدم وجود الظن لا يكون ظنا بخلاف المثبت فإنه لا يمكنه الإثبات إلا عند وجود ظن الثبوت فإنه لو لم يوجد له هذا الظن لكان مكلفا بالبقاء على حكم العقل وإذا كان كذلك ثبت أن قول المثبت أولى من قول النافي وثانيها أن نقول ثبت الحكم في الصورة الفلانية فيجب ثبوته هاهنا وبيانه بالآية والخبر والأثر والمعقول أما الآية فمن وجهين أحدهما قوله تعالى فاعتبروا دلت الآية على الأمر بالمجاوزة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 والاستدلال بثبوت الحكم في محل الوفاق على ثبوته في محل الخلاف مجاوزة فكان داخلا تحت الأمر وثانيهما قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان والعدل هو التسوية فالله تعالى أمر بالتسوية وهذا تسوية فيكون داخلا تحت الأمر وأما الخبر فهو أنه عليه الصلاة والسلام شبه القبلة بالمضمضة في حكم شرعي فوجب علينا أيضا تشبيه الحكم بالحكم لقوله تعالى فاتبعوه وهذا الذي عملناه تشبيه صورة بصورة فكان داخلا تحت الأمر وأما الأثر فهو أن أبا بكر رضي الله عنه شبه العهد بالعقد وأن عمر رضي الله عنه أمر أبا موسى بالقياس في قوله قس الأمور برأيك وإذا ثبت أنهما فعلا ذلك وجب علينا مثله لقوله عليه الصلاة والسلام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ووأما: المقول فهو أن نعين محل الوفاق فنقول الحكم هناك إنما ثبت لحاجته ومصلحته وذلك المعنى قائم هاهنا فورود الشرع بالحكم هناك يكون ورودا به هاهنا وثالثها أجمعنا على أن حكما ما في علم الله تعالى ثبت ولا شك أن ذلك الحكم إنما ثبت لمصلحة وهذا الحكم بتقدير الثبوت محصل لنوع مصلحة فلا بد وأن يشتركا في قدر مشترك فيعلل بالقدر المشترك وذلك يقتضي ثبوت الحكم ورابعها أن هذا الحكم بتقدير الثبوت يتضمن تحصيل مصلحة المكلف ودفع حاجته فوجب أن يكون مشروعا لأن جهة كونه مصلحة جهة الدعاء إلى الشرعية فلو خرجت عن الدعاء إلى الشرعية لكان ذلك الخروج لمعارض والأصل عدم المعارض وخامسها أن أحد المجتهدين قال بثبوت الحكم والآخر قال بعدمه فالثبوت أولى لأن المسلمين أجمعوا على أنه إذا ورد خبران أحدهما ناقل عن حكم العقل والآخر مبق له فإن الناقل أولى فكذا هاهنا فإن قلت فالنفى بتقدير وروده بعد الثبوت يكون ناقلا أيضا قلت لكن على هذا التقدير يتوالى نسخان وبالتقدير الأول لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 يحصل إلا نسخ واحد وتقليل النسخ أولى واعلم أنا إنما جمعنا هذه الوجوه لأن أكثر مناظرات أهل الزمان في الفقه دائرة على أمثال هذه الكلمات ولما وصلنا إلى هذا الموضع فلنقطع غير الكلام حامدين الله تعالى ومصلين على أنبيائه ورسله ونسأل الله حسن العاقبة والخاتمة وأن يجعل ما كتبنا حجة لنا لا علينا إنه هو الغفور الرحيم يحصل إلا نسخ واحد وتقليل النسخ أولى واعلم أنا إنما جمعنا هذه الوجوه لأن أكثر مناظرات أهل الزمان في الفقه دائرة على أمثال هذه الكلمات ولما وصلنا إلى هذا الموضع فلنقطع غير الكلام حامدين الله تعالى ومصلين على أنبيائه ورسله ونسأل الله حسن العاقبة والخاتمة وأن يجعل ما كتبنا حجة لنا لا علينا إنه هو الغفور الرحيم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 ثم أما بعد فهذا آخر ما وقفني الله تعالى الى كتابته والتعليق به على هذا الكتاب الاصولي الذي يعتبر بحق من افضل الكتب الاصولية الجامعة التي ظهرت وعرفت على الإطلاق من نواح عدة يفهمها ويجهلها من يجهلها ولا داعي العصمة فيها حققت ولا البعد التام عن الخطا فيما كتبت فذلك لا يتحقق إلا لمن عصمهم الله من رسله وانبيائه ولكني اقول اني لم آل جهدا ولم ادخر وسعا في تحقيق ما قمت به معتقدا أنه قد وقع في جملته واكثر تفاصيله على وجه حسن مرضي مقبول عند الله ثم كرام الخلق إن شاء الله فالحمد لله الذي الهم بابتدائه واعان على انهائه فهو سبحانه صاحب الفضل الاكبر الذي لا ينكر بل يشكر وصلى الله على سيدنا محمد بن عبد الله اشرف المرسلين وافضل المجتهدين وعلى اله واصحابه واتباعه واحبائه وكل من اسهم في خدمة العلم والدين وتقديم ما ينفع المسلمين الى يوم الدين. المفتقر الى رحمته تعالى طه جابر العلواني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187