الكتاب: مع المعلمين المؤلف: - الناشر: الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات عدد صفحات (الكتاب الورقي): 132   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] ---------- مع المعلمين - الكتاب: مع المعلمين المؤلف: - الناشر: الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات عدد صفحات (الكتاب الورقي): 132   [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] مع المعلمين المقدمة الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على النبي الأكرم، الذي دلَّ الأمة على الخير وسلك بها الطريق الأمَمَ الأقوم. أما بعد فإن المعلمين هم حُماةُ الثُّغور، ومربو الأجيال، وسُقَاةُ الغرس، وعُمَّارُ المدارس، المستحقون لأجر الجهاد، وشكر العباد، والثواب من الله يوم المعاد. ثم إن الحديث عن المعلمين ذو شجون؛ فلهم هموم وشؤون، ولهم آمال وآلام، وعليهم واجبات وتبعات. ولقد يسر الله أن جمعت بعض الخواطر والنقول في هذا الشأن؛ فأحببت نشرها في صفحات؛ عسى أن تعم الفائدة بها. وقد جاءت تلك الصفحات حاملةً المسمى الآتي: مع المعلمين فهي تدور مع المعلمين في شجونهم وشؤونهم، وفي أدبهم في أنفسهم، ومع زملائهم وطلابهم، إلى غير ذلك مما يدور في فلكهم. فيا معاشر المعلمين سلامٌ من الله عليكم، وتحيات مباركاتٌ تُزجى إليكم، وثناء عليكم يَأْرَج كالمسك من محبٍّ لكم. ثم إن هذه الصفحات مهداة إليكم فعسى أن تنال رضاكم، وتجد قبولًا عندكم. فإلى تلك الصفحات، والله المستعان وعليه التكلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 1 - استحضار فضل العلم والتعليم : فللعلم شأن جلل، وفضل عظيم، ومكانة سامقة، فيحسن بالمعلمين أن يستحضروا هذا المعنى، ويضعوه نصب أعينهم وفي سويداء قلوبهم؛ فما يقدمونه في سبيل العلم يعلي ذكرهم، ويزكي علومهم، ويعود بالنفع عليهم وعلى أمتهم. ولهذا فلا غرو أن تتظاهر آثار الشرع، وأقوال السلف، وكلمات الحكماء في بيان فضل العلم ونشره بين الناس. قال -تعالى -: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11) . قال ابن عباس -رضي الله عنهما -: العلماء فوق المؤمنين مائة درجة، ما بين الدرجتين مائة عام. (1) قال وهب ابن منبه: يتشعب من العلم الشرفُ وإن كان صاحبه دَنِيًّا، والعز وإن كان صاحبه مهينًا، والقرب وإن كان قصيًّا، والغنى وإن كان فقيرًا، والمهابة وإن كان وضيعًا. (2)   (1) تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة ص27. (2) تذكرة السامع والمتكلم ص34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 وقال أبو الوليد الباجي في وصيته لولديه: والعلم لا يفضي بصاحبه إلا إلى السعادة، ولا يقصر عن درجة الرفعة والكرامة، قليله ينفع، وكثيره يعلي ويرفع، كنز يزكو على كل حال، ويكثر مع الإنفاق، ولا يغصبه غاصب، ولا يُخاف عليه سارق ولا محارب؛ فاجتهدا في تحصيله، واستعذبا التعب في حفظه والسهر في درسه، والنصب الطويل في جمعه، وواظبا على تقييده وروايته، ثم انتقلا إلى فهمه ودرايته. (1) وقال ابن حزم: لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك، وأن العلماء يجلونك - لكان ذلك سببًا إلى وجوب طلبه، فكيف بسائر فضله في الدنيا والآخرة؟. ولو لم يكن من نقص الجهل إلا أن صاحبه يحسد العلماء، ويغبط نظراءه من الجهال - لكان ذلك سببًا إلى وجوب الفرار عنه، فكيف بسائر رذائله في الدنيا والآخرة؟ . (2) وعن سفيان الثوري والشافعي -رضي الله عنهما -: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم. (3)   (1) النصيحة الولدية، نصيحة أبي الوليد الباجي لولديه تحقيق إبراهيم باجس ص16. (2) الأخلاق والسير في مداواة النفوس لابن حزم ص21. (3) تذكرة السامع والمتكلم ص36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 قال ابن جماعة بعد أن ساق جملة من الآثار عن السلف في فضل العلم: وقد ظهر بما ذكرنا أن الاشتغال بالعلم لله أفضل من نوال العبادات البدنية من صلاة، وصيام، وتسبيح، ودعاء، ونحو ذلك؛ لأن نفعَ العلم يعم صاحبه والناسَ، والنوافل البدنية مقصورةٌ على صاحبها، ولأن العلم مصحح لغيره من العبادات؛ فهي تفتقر إليه، وتتوقف عليه، لا يتوقف هو عليها، ولأن العلماء ورثة الأنبياء -عليهم الصلاة والتسليم - وليس ذلك للمتعبدين، ولأن طاعة العالم واجبة على غيره فيه، ولأن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه، وغيرُهُ من النوافل تنقطع بموت صاحبها، ولأن في بقاء العلم إحياءَ الشريعة، وحفظ معالم الملة. (1) هذا شيء من فضل العلم، أما فضل نشر العلم وبثه بين الناس فيكفي في ذلك قول المصطفى ": «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» . (2) قال ابن جماعة في هذا الحديث: وأنا أقول: إذا نظرت وجدت معاني الثلاثة موجودة في معلم العلم؛ أما الصدقة فإقراؤه إياه العلم وإفادته إياه؛ ألا ترى إلى قوله في المصلي وحده: «من يتصدق على هذا» .   (1) تذكرة السامع والمتكلم ص37. (2) رواه مسلم (1631) ، والترمذي (1376) ، والنسائي (2880) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 أي بالصلاة معه؛ لتحصل فضيلة الجماعة، ومعلم العلم يحصل للطالب المنتفع به فضيلة العلم التي هي أفضل من صلاة في جماعة، وينال بها شرف الدنيا والآخرة. وأما العلم المُنْتَفع به فظاهر؛ لأنه كان سببًا لإيصاله ذلك العلم إلى كل من انتفع به. وأما الدعاء الصالح له فالمعتاد المستقر على ألسنة أهل العلم والحديث قاطبة من الدعاء لمشايخهم وأئمتهم. وبعض أهل العلم يدعون لكل من يذكر عنه شيء من العلم، وربما قرأ بعضهم الحديث بسنده، فيدعو لجميع رجال السند؛ فسبحان من اختص من شاء من عباده بما شاء من جزيل عطائه. (1) قال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي: فالمعلم مأجور على نفس تعليمه، سواء أفهم المتعلم أو لم يفهم؛ فإذا فهم ما علمه، وانتفع به بنفسه أو نفع به غيره - كان الأجر جاريًا للمعلم ما دام النفع متسلسلًا متصلًا. وهذه تجارة بمثلها يتنافس المتنافسون؛ فعلى المعلم أن يسعى سعيًا شديدًا في إيجاد هذه التجارة؛ فهي من عمله وآثار عمله. قال -تعالى -: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} (يس: 12) .   (1) تذكرة السامع والمتكلم ص104 -105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 فـ {مَا قَدَّمُوا} ما باشروا عمله، {وَآثَارَهُمْ} : ما ترتب على أعمالهم من المصالح والمنافع أو ضدها في حياتهم وبعد مماتهم. (1) قال ابن جماعة: واعلم أن الطالب الصالح أعودُ على العالِم بخير الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه، وأقرب أهله إليه. ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يُلْقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم ومِنْ بعدهم. ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينفع الله بعلمه وهديه لكفاه ذلك الطالب عند الله -تعالى -؛ فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر. (2) فأكرم بالتعليم من مهنة، وأعظم به من شرف ومهمة. أعَلِمْتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي ... يبني وينشئ أنفسًا وعقولا (3) هذا وسيأتي مزيد بيان لفضل العلم والتعليم ضمنًا في الفقرات التالية.   (1) الفتاوى السعدية ص450 -451. (2) تذكرة السامع والمتكلم ص104، وانظر في فضل العلم إلى تذكرة السامع والمتكلم ص27 -39، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 1 / 48 -157، والعلم وأخلاق أهله لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ص3 -16. (3) الشوقيات 1 / 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 2 - استشعار المسؤولية : فمسؤولية التعليم عظيمة، والأمانة الملقاة على عواتق أهله كبيرة؛ فما طريق المعلمين بلا حبةٍ، ولا مهمتهم بيسيرة؛ فلقد تحملوا الأمانة وهي ثقيلة، واستحقوا الإرث وهو ذو تبعات، وينتظر منهم ما ينتظره المدلج في الظلام من تباشير الصبح؛ فإن الأمة ترجو أن يبنى بهم جيل قوي الأسر، شديد العزائم، سديد الآراء، متين العلم، متماسك الأجزاء. ولا يقال هذا الكلام؛ تهويلًا، وإنما يقال؛ ترويضا؛ فمن وطن نفسه على المكروه هانت عليه الشدائد، ووجد كل شيء باسما جميلًا محبوبًا. ومن تخيل الراحة، وحكم أخيلتها في نفسه، ثم كذبته الآمال -كان بين عذابين، أمضَّهما كذب المخيلَة. (1) قال ابن حزم: وطن نفسك على ما تكره يَقِلَّ هَمُّك إذا أتاك، ويعظمَ سرورُك ويتضاعف إذا آتاك ما تحب مما لم تكن قدَّرْتَه. (2) فيا معاشر المعلمين، إنكم عاملون فمسؤولون عن أعمالكم، فمجزيون عنها من الله، ومن الأمة، ومن التاريخ، ومن الجيل الذي تقومون عليه كيلًا بكيل، ووزنًا بوزن؛ فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ولكم من الله فضل جزيل، ومن التاريخ والأمة ثناء جميل.   (1) انظر عيون البصائر للشيخ محمد البشير الإبراهيمي ص215 -219. (2) الأخلاق والسير في مداواة النفوس ص26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وإن قصرتم فقد أسأتم لأنفسكم ولأمتكم، وإن لما يبوء به المقصرون من الندامة والمرارة ما يحلو معه بخع النفوس، وإتلاف المهج. وتلك هي الحالة التي نعيذ أنفسنا - معاشر المعلمين - بالله من تسبيب أسبابها، وتقريب وسائلها. كيف وقد نهى ديننا الحنيف عن التقصير في الواجبات، ونعى التفريط في الحقوق، وبين آثاره وعواقبه، وحض على الأعمال في مواقيتها، وقبح الكسل، والتواكل، والإضاعة، فشرع لنا بذلك كل شرائع الحزم والقوة وضبط الوقت والنفس مالم يشرعه قانون، ولم تأت به عقلية. وما أخَذَنا بذلك إلا ليأخذ بِحُجَزِنا عن التَّهَوّي في الكسل والبطالة، ويقينا تَجَرُّعَ مرارة الندم، وحرارة الحسرة. (1) قال الله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) . وقال - عز وجل -: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب: 72) . وقال النبي ": «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» . (2)   (1) انظر عيون البصائر ص288 -289. (2) رواه البخاري (1893) ، ومسلم (1829) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 فيا معاشر المعلمين، إنكم رعاة ومسؤولون عن رعيتكم، وإنكم بناة وإن الباني لمسؤول عما يقع في البناء من زيغ أو انحراف. وإذا كان في الأنابيب حيف ... وقع الطيش في صدور الصِّعَاد فالتعليم هو التكوين الأول للناشئة، وعلى أساسها يبنى مستقبلهم في الحياة؛ فإن كان هذا التكوين صالحًا كانوا صالحين لأمتهم ولأنفسهم، وإن كان مختلًا ناقصًا زائغًا بنيت حياة الجيل كله على فساد، وساءت آثاره في الأمة وكانت الأمية أصلح لها، وأسلم عاقبة. قال الحكيم العربي: إذا ما الجرح رمَّ على فساد ... تَبَيَّن فيه تفريط الطبيب وقال شوقي: وإذا المعلم ساء لحظَ بصيرةٍ ... جاءت على يده البصائرُ حُولا (1) إن تبعة ذلك تلقى على المعلمين الكرام؛ فلينظروا أي موقف أوقفتهم الأقدار فيه، وليشدوا الحيازيم لأداء الأمانة على وجهها، وليعلموا أنهم إنما يبنون للأمة من كل جيل ساقًا حتى يعلو البناء ويشمخ، وإن البناء لا يعلو قويًا، صحيحًا، متماسك الأجزاء، متعاصيًا على الهزات والزلازل - إلا إذا كان الأساس قويًا متينًا، متمكنًا ركينًا. (2)   (1) الشوقيات 1 / 183. (2) انظر آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 3 / 161 و 157 وعيون البصائر 288 و 289. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 إذا كان الأمر كذلك فإنه لا يحسن بنا - معاشر المعلمين - أن نتنصل عن المسؤولية، أو أن نلقي بالتبعات على غيرنا، فنلقي بها على البيت، وفساد الزمان، وقلة المعين وما إلى ذلك.. بل نقوم بما هو فرض علينا، ونؤدي الأمانة المنوطة بنا على أكمل وجه وأتمه. قال العلامة محمد البشير الإبراهيمي في وصيته للمعلمين: إنكم تجلسون من كراسي التعليم على عروش ممالك، رعاياها أطفال الأمة؛ فسُوسُوهُمْ بالرفق والإحسان، وتَدَرَّجوا بهم من مرحلة كاملة في التربية إلى مرحلةٍ أكملَ منها. إنهم أمانة الله عندكم، وودائع الأمة بين أيديكم، سلمتهم إليكم أطفالًا؛ لتردوها إليها رجالًا، وقدمتهم إليكم هياكل؛ لتنفخوا فيها الروح، وألفاظًا؛ لتعمروها بالمعاني، وأوعية؛ لتملؤها بالفضيلة والمعرفة. (1) ومما يحسن التنبيه عليه في هذا الصدد أن مسؤولية التربية والتعليم لا تقتصر على معلمي الشريعة أو اللغة أو ما يدور في فلكهما.   (1) آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 3 / 161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 بل هي عامة، ومناطة بكل معلم ومرب؛ فالعلم النافع الذي دل عليه الكتاب والسنة هو كل علم أثمر الثمار النافعة، وأوصل إلى المطالب العالية، فكل ما زكى الأعمال، ورقى الأرواح وهدى إلى السبيل - فهو من العلم النافع، لا فرق في ذلك بين ما تعلق بالدنيا أو بالآخرة؛ فشرف الدين لازم لشرف الدنيا، وسعادة المعاش مقترنة بسعادة المعاد. والشريعة بكمالها وشمولها أمرت بتعلم جميع العلوم النافعة من العلم بالتوحيد وأصول الدين، ومن علوم الفقه والأحكام، ومن العلوم العربية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والحربية، والطبية، إلى غير ذلك من العلوم التي يكون بها قوام الأمة، وصلاح الأفراد والمجتمعات. (1)   (1) انظر الدين الصحيح يحل جميع المشاكل للشيخ ابن سعدي ص20، والدلائل القرآنية في أن العلوم النافعة داخلة في الدين الإسلامي للشيخ ابن سعدي ص6، وانظر ومضات فكر للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ص134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 3 - لزوم التقوى بكل حال : فالتقوى هي العدة في الشدائد، والعون في الملمات، وهي مهبط الرَّوْح والطمأنينة، ومتنزل الصبر والسكينة، وهي مِرقاة العز، ومعراج السمو إلى السماء، وهي التي تُثبِّتُ الأقدام في المزالق، وتربط على القلوب في الفتن. فما أحوجك أخي المعلم إلى تقوى الله -عز وجل - وما أجدرك بدوام مراقبة ربك في سرك وعلانيتك، وفي أقوالك وأعمالك؛ فإنك أمين على ما أودعك الله من العلوم، وما منحك من الحواس والفهوم. ومن لزوم التقوى طهارةُ الباطن من الأخلاق الرديئة، والمحافظةُ على شعائر الإسلام كإقامة الصلاة في المساجد، وإفشاء السلام للخواص والعوام، وما يستتبع ذلك مما سيرد ذكره في ما سيأتي -إن شاء الله تعالى -. (1)   (1) انظر تذكرة السامع والمتكلم ص43، وعيون البصائر ص291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 4 - الإقبال على القرآن وقراءته بتدبر وتعقل : فالقرآن هو الذي ربى الأمة وأدبها، فزكى منها النفوس، وصفى القرائح، وأذكى الفِطَن، وجلا المواهب، وأرهف العزائم، وأعلى الهمم، وصقل الملكات، وقوَّى الإرادات، ومكَّن للخير في النفوس، وغرس الإيمان في الأفئدة، وملأ القلوب بالرحمة، وحفز الأيدي للعمل النافع، والأرجل للسعي المثمر، ثم ساق هذه القوى على ما في الأرض من شر وباطل وفساد فَطهرها منه تطهيرًا، وعمرها بالحق والإصلاح تعميرًا. والقرآن هو الذي جلا العقول على النور الإلهي فأصبحت كشافة عن الحقائق العليا، وطهر النفوس من أدران السقوط والإسفاف إلى الدنايا فأصبحت نزاعة إلى المعالي، مُقْدِمَةً على العظائم؛ فلم يزل بها هذا القرآن حتى أخرج من رعاة النَّعم رعاة الأمم، وأخرج من خمول الأمية أعلامَ العلمِ والحكمة. وبهذه الروح القرآنية اندفعت تلك النفوسُ بأصحابها تفتح الآذانَ قبل البلدان، وتمتلك بالعدل والإحسانِ الأرواحَ قبل الأشباح. (1) فحقيق علينا -معاشر المعلمين - أن نقبل على كتاب ربنا -جل وعلا - قراءةً، وتدبرًا، وفهمًا، وعقلًا، واهتداءً بهديه، وتخلقًا بأخلاقه؛ لنحظى بأجلِّ الخيرة، ونظفر بحميد العاقبة.   (1) انظر آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 1 / 88 -93 و 252 -253، و298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 5 - ملازمة ذكر الله -عز وجل -: فبذكر الله تطمئن القلوب، وتزكو النفوس، وتزول الهموم والغموم. قال -تعالى -: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28) . ثم إن ذكر الله يهون الصعاب، ويزيد في القوة، قال ابن القيم في معرض حديثه عن فضائل الذكر: إن الذكر يعطي الذاكرة قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه. وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه، وكلامه، وإقدامه أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر. وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا. (1) زيادة على ذلك فإن ملازمة الذكر يعد من أجل الأعمال إن لم يكن أجلها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره أن ملازمة ذكر الله دائمًا هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة. (2) وأفضل الذكر بعد القرآن تلك الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وكذلك لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فهذه الكلمة لها تأثير عجيب في ثبات القلب، ومعاناة الأشغال، وركوب الأهوال. (3)   (1) الوابل الصيب لابن القيم ص106. (2) مجموع الفتاوى 10 / 660. (3) انظر الوابل الصيب لابن القيم ص107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 6 - وقل ربي زدني علمًا: فلا تستنكف من التعلم، ولا تقنع بما لديك من العلم، فالعلم أساس ترفع عليه قواعد السعادة، ولا تنفتح كنوزه إلا بتدقيق النظر ممن تصدى للإفادة والاستفادة. فيا أيها المعلم المبارك أعيذك بالله من صنيع بعض المعلمين؛ فما أن ينال الشهادة التي تؤهله للتعليم إلا وينبذ العلم وراءه ظهريًا، إما اشتغالًا عن العلم، أو زهدًا به، أو ظنًا منه أنه قد استولى بالشهادة على الأمد، وأدرك بها الغاية القصوى من العلم. وما هي إلا مدة ثم ينسى كثيرًا مما تلقاه من العلم أيام الطلب، وإذا تمادى به الأمر كاد أن يعدَّ من جملة العوام. فما ذلك المسلك بسديد ولا رشيد؛ فلم يقض حق العلم، بل لم يدر ما شرف العلم ذلك الذي يطلبه لينال به رزقًا، أو ينافس به قرينًا، حتى إذا أدرك وظيفة، أو أنس من نفسه الفوز على القرين -أمسك عنانه ثانية، وتنحى عن الطلب جانبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وإنما ترفع الأوطان رأسها، وتبرز في مظاهر عزتها بهمم أولئك الذين يقبلون على العلم بجد وثبات، ولا ينقطعون عنه إلا أن ينقطعوا عن الحياة، لا تحول بينهم وبين نفائس العلوم وعورةُ المسلك، ولا طول مسافة الطريق، بعزم يبلى الجديدان وهو صارم صقيل، وحرص لا يشفي غليله إلا أن يغترفوا من العلوم بأكواب طافحة. (1) فالاشتغال بالعلم، والتزود منه -يثبته، ويزيده، ويفتح أبوابه. ولو لم يأت من ذلك كله إلا أن الاشتغال بالعلم يقطع عن الرذائل، ويوصل إلى الفضائل. قال ابن حزم: لو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به إلا أن يقطع المشتغل به عن الوساوس المضنية، ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم، وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس -لكان ذلك أعظمَ داعٍ إليه، فكيف وله من الفضائل ما يطول ذكره؟ . (2) قال سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالمًا ما تَعَلَّم، فإذا ترك العلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده -فهو أجهل ما يكون. (3) كيف لا وهذا رسول الله " وهو المعلَّم والمزكَّى من الله -عز وجل - يأمره الله أن يقول: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114) . قال الإمام الشافعي:   (1) انظر السعادة العظمى للشيخ محمد الخضر حسين ص2 ورسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين 1 / 85 و 89. (2) الأخلاق والسير ص21. (3) تذكرة السامع والمتكلم ص60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 إذا هجع النُّوَّام أسبلت عبرتي ... وَرَدَّدْتُ بيتًا وهو من ألطف الشعر أليس من الخسران أن لياليًا ... تَمُرُّ بلا علمٍ وتحسب من عمري (1) . قال أبو إسحاق الإلبيري في فضل العلم والمواظبة على طلبه: أبا بكرٍ دعوتُك لو أَجَبْتَا ... إلى ما فيه حَظُّك إنْ عقلتا إلى علم تكون به إِمامًا ... مطاعًا إن نهيت وإن أمرتا وتجلو ما بعينك من عَشَاها ... وتهديك السبيلَ إذا ضللتا وتحمل منه في ناديك تاجًا ... ويكسوك الجمالَ إذا اغْتَرَبْتَا ينالك نَفْعُهُ ما دمت حَيًّا ... ويبقى ذُخْرُه لك إن ذهبتا هو العَضْبُ المُهَنَّدُ ليس ينبو ... تصيب به مقاتل من ضربتا وكنز لا تخاف عليه لِصًّا ... خفيف الحمل يوجد حيث كنتا فلو قد ذقت من حلواه طعمًا ... لآثرت التعلم واجتهدتا ولم يشغلك عنه هوىً مطاعٌ ... ولا دنيا بزخرفها فُتنتا ولا ألهاك عنه أنيقُ روضٍ ... ولا خِدْرٌ بِرَبْرَبِهِ (2) كَلِفتا فَقُوتُ الروح أرواحُ المعاني ... وليس بأن طعمت وأن شربتا فواظبْه وخذ بالجد فيه ... فإن أعطاكه الله أخذتا (3)   (1) غذاء الألباب للسفاريني 2 / 444 (2) الربرب: القطيع من البقر الوحشي، حيث شبه النساء الجميلات بالبقر الوحشي. (3) ديوان أبي إسحاق الإلبيري الأندلسي حققه د. محمد رضوان الداية ص26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 7 - الإخلاصَ الإخلاصَ: (1) فالإخلاص يرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقي للفلاح، والإخلاص هو الذي يحمل على مواصلة عمل الخير، وهو الذي يجعل في عزم الرجل متانة، ويربط على قلبه إلى أن يبلغ الغاية. وكثير من العقبات لا يساعدك على العمل لتذليلها إلا الإخلاص. ولولا الإخلاص يضعه الله في قلوب زاكيات لحرم الناس من خيرات كثيرة تقف دونها عقبات. ومدار الإخلاص على أن يكون الباعث على العمل أولًا امتثال أمر الله، وابتغاء وجهه -عز وجل -. ولا حرج على من يطمح بعد ذلك إلى شيء آخر كالفوز بنعيم الآخرة، والنجاة من أليم عذابها. بل لا يذهب بالإخلاص بعد ابتغاء وجه الله أن يخطر ببال الإنسان أن للعمل الصالح آثارًا طيبة في هذه الحياة الدنيا، كطمأنينة النفس، وأمنها من المخاوف، وصيانتها من مواقف الهون، إلى غير ذلك من الخيرات التي تعقب العمل الصالح، ويزداد بها إقبال النفوس على الطاعات قوة إلى قوة.   (1) انظر أدب الطلب للشوكاني ص133 ورسائل الإصلاح 1 / 9 -12، وآثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 4 / 142، والمدرس ومهارات التوجيه للشيخ محمد الدويش ص44 -45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 والذي يرفع الشخص إلى أقصى درجات الفضل إنما هو الإخلاص الذي يجعله الإنسان حليف سيرته، فلا يقدم على عمل إلا وهو مستمسك بعروته الوثقى، ولا تبالغُ إذا قلت: إن النفس التي تتحرر من رق الأهواء ولا تسير إلا على ما يمليه عليها الإخلاص هي النفس المطمئنة بالإيمان، المؤدبة بحكمة الدين ومواعظه الحسنة؛ فذلك الإخلاص هو الذي يسمو سلطانهُ على كل سلطان، ويبلغ أن يكون مبدأً راسخًا تصدر عنه الأعمال بانتظام. ثم إن العمل المثمر هو الذي ينبني على عقيدة؛ لئلا يتناقض، وما تدفعه إرادة؛ لئلا يتراجع، وما يحثه جهاد؛ لئلا يقف، وما يصحبه تجرد؛ لئلا يتهم، وما ينتشر؛ لئلا يضيق فيضيع، وما تكون غايته الخير؛ لئلا يكون فسادًا في الأرض. وذلك إنما يكون بالإخلاص؛ فإن للإخلاص تأثيرًا عظيمًا في هذا الشأن؛ فمن تَعَكَّسَتْ عليه أمورُه، وتضايقت عليه مقاصده فليعلم أن بذنبه أصيب، وبقلة إخلاصه عوقب. فإذا كان الإخلاص بهذه المثابة، وإذا كان له تلك المآثر فحقيق علينا -معاشر المعلمين - أن نضعه نصب أعيننا، وأن نجاهد أنفسنا على التحلي به، وأن نربي من تحت أيدينا عليه؛ لكي يتخرجوا رجالًا يقوم كل منهم بالعمل الذي يتولاه بحزم وإتقان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وإن مما يعين على التحلي بالإخلاص أن تعلم أخي المعلم أن الإخلاص يثمر لك أن تتمتع بما يتمتع به غيرك من مزايا مادية، وإجازات وترقيات، وتزيد عليهم أن تتذوق عملك، وتعشق مهمتك، وتقبل عليها بكل ارتياح وسرور، وأن جميع ساعاتك التي تقضيها في إعداد دروسك، وفي ذهابك إلى المدرسة وإيابك منها مدخرة لك عند الله -عز وجل -. أما الآخرة -وهي المقصود الأعظم، والمطلب الأسمى -فهناك أي ثواب ستناله، وأي أجر ينتظرك؟ هذه أمور علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، والله يضاعف لمن يشاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 8 - القدوة القدوة : فالمعلم كبير في عيون طلابه، والطلاب مولعون بمحاكاته والاقتداء به؛ لذلك كان لزامًا على المعلمين أن يتصفوا بما يدعو إليه العلمُ من الأخلاق والأعمال؛ فهم أحق الناس بذلك وأهلُه؛ لما تميزوا به من العلوم التي لم تحصل لغيرهم، ولأنهم قدوة للناس. فإذا كانوا كذلك أثَّروا على طلابهم، وانطبع من تحت أيديهم على أخلاق متينة، وعزائم قوية، ودين صحيح. وإن المعلم لا يستطيع أن يربي تلاميذه على الفضائل إلا إذا كان هو فاضلًا، ولا يستطيع إصلاحهم إلا إذا كان بنفسه صالحًا؛ لأنهم يأخذون عنه بالقدوة أكثر مما يأخذون عنه بالتلقين. ولقد كان السلف الصالح -رضي الله عنهم - يستعينون بالعمل على العلم؛ لأن العلم إذا عُمِل به نما، واستقر، وكثرت بركته. وإذا ترك العمل به ذهبت بركته، وربما صار وبالًا على صاحبه؛ فروح العلم، وحياته، وقوامه إنما هو بالقيام به عملًا، وتخلقًا، وتعليمًا، ونصحًا؛ فالشرف للعلم لا يثبت إلا إذا أنبت المحامد، وجلب السعادة، وأثمر عملًا نافعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ومما يحقق ذلك قوله -تعالى -: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (الجمعة: 5) . فانظر كيف ذم الله الذين درسوا التوراة، وأتوا عليها تلاوةً، ثم أحجموا عن العمل بموجبها -في أسلوب بليغ؛ فضرب في وصفهم مَثَلَ الحمار يحمل الأسفار؛ من حيث خلوهم عن المزية، وعدم استحقاقهم للحاق بزمرة العلماء؛ إذ لا ميزة بين من يحمل كتب الحكمة على غاربه وبين من يضعها داخل صدره أو دماغه إذا صدَّ وجهه عن العمل بها. وتنسحب هذه المذمة على كل من حفظ علمًا طاشت به أهواؤه عن اقتفائه بصورة من العمل تطابقه. (1) قال الإلبيري في العلم: وإن أوتيت فيه طويلَ باعٍ ... وقال الناس إنك قد سبقت فلا تأمنْ سؤالَ الله عنه ... بتوبيخٍ علمت فهل عملتا فرأسُ العلم تقوى الله حقًّا ... وليس بأن يقال: لقد رأستا إذا ما لم يُفِدْك العلم خيرًا ... فخيرٌ منه أنْ لَوْ قَدْ جهلتا وإن ألقاك فَهْمُكَ في مهاوٍ ... فليتك ثم ليتك ما فهمتا (2) قال الخطيب البغدادي: فإن العلم شجرة، والعمل ثمرة، وليس يعد عالمًا من لم يكن بعلمه عاملًا. (3)   (1) انظر الفتاوى السعدية ص453 -454، وآثار الشيخ محمد البشير 3 / 157 و163، ومناهج الشرف للشيخ محمد الخضر حسين ص29 -30. (2) ديوان أبي إسحاق الإلبيري ص27. (3) اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي ص14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وقال: فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشًا من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصرًا في العمل، ولكن اجمع بينهما وإن قلَّ نصيبُك منهما. (1) قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في وصيته للمعلمين: ثم احرصوا على أن ما تلقونه لتلامذتكم من الأقوال منطبقًا على ما يرونه ويشهدونه منكم من الأعمال؛ فإن الناشئ الصغير مرهفُ الحس، طُلَعَةٌ إلى مثل هذه الدقائق التي تغفلون عنها، ولا ينالها اهتمامكم، وإنه قوي الإدراك للمعايب والكمالات؛ فإذا زينتم له الصدق فكونوا صادقين، وإذا حسَّنتم له الصبر فكونوا من الصابرين. واعلموا أن كل نقشٍ تنقشونه في نفوس تلامذتكم من غير أن يكون منقوشًا في نفوسكم فهو زائل، وأن كل صبغ تنفضونه على أرواحهم من قبل أن يكون متغلغلًا في أرواحكم - فهو لا محالة ناصل حائل، وأن كل سحر تنفثونه؛ لاستنزالهم غير الصدق -فهو باطل. ألا إن رأس مال التلميذ هو ما يأخذه عنكم من الأخلاق الصالحة بالقدوة، وأما ما يأخذه عنكم بالتلقين من العلم والمعرفة فهو ربح وفائدة. (2)   (1) اقتضاء العلم العمل ص14. (2) عيون البصائر ص291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وقال في موطن آخر: وأعيذكم بالله يا أبنائي أن تجعلوا اعتمادكم في تربية الصغار للرجولة على البرامج والكتب؛ فإن النظم الآلية لا تبني عالمًا، ولا تكوُّن أمة، ولا تجدد حياة. وإنما هي ضوابط وأعلام ترشد إلى الغاية، وتعين على الوصول إليها من طريق قاصد، وعلى نهج سويٍّ. أما العمدة الحقيقية في الوصول إلى الغاية من التربية -فهي ما يفيض من نفوسكم على نفوس تلاميذكم الناشئين من أخلاق طاهرة قويمة يحتذونكم فيها، ويقتبسونها منكم، وما تبثونه في أرواحهم من قوة عزم، وفي أفكارهم من إصابة وتسديد، وفي نزعاتهم من إصلاح وتقويم، وفي ألسنتهم من إفصاح وإبانة. وكل هذا مما لا تغني فيه البرامج غناء. (1) وقال: كونوا لتلاميذكم قدوة صالحة في الأعمال، والأحوال، والأقوال، لا يرون منكم إلا الصالح من الأعمال والأحوال، ولا يسمعون منكم إلا الصادق من الأقوال. وإن الكذب في الأحوال أضر على صاحبه وعلى الأمة من الكذب في الأقوال؛ فالأقوال الكاذبة قد يُحترز منها، أما الأحوال الكاذبة فلا يمكن منها الاحتراز. (2)   (1) آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 3 / 163. (2) آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 3 / 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وبعد هذا قد تقول -أيها المعلم الكريم -: أنَّى لي أن أكون قدوةً وأنا مقصر في نفسي؟ وكيف وأنا أعاني من بعض النقائص ونفسي تميل بطبعها إلى بعض الأخلاق المرذولة؟ وكيف أنصح للطلاب وأنا لم أُكمِّلْ نفسي بعد؟ ألا أخشى أن أدخل في وعيد الله بقوله -عز وجل -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2 -3) . أليس الحكيم العربي يقول: يا أيها الرجلُ المعلم غيرَه ... هلا لنفسك كان ذا التعليمُ تصف الدواء وأنت أولى بالدوا ... وتعالج المرضى وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك تعدل إن وعظت ويقتدى ... بالقول منك ويُقبل التعليم (1) والجواب عن ذلك أن يقال لك: ليس من شرط القدوةِ العصمةُ؛ فالعصمة إنما هي للأنبياء -عليهم السلام - فيما يبلغون به عن ربهم. ولا يضيرك تقصيرك ما دمت مخلصًا في نصحك، حريصًا على تكميل نفسك وغيرك؛ فالسعي في التكميل كمال، ومن الذي يخلو من النقائص؟ فأي الرجال المهذب؟ ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه (2)   (1) هذه الأبيات مختلف في نسبتها؛ فهي تنسب لأبي الأسود الدؤلي، وتنسب للمتوكل الليثي، وتنسب إلى سابق البربري، وتنسب إلى أبي بكر العزرمي. انظر جمهرة الأمثال للعسكري 2 / 38، وخزانة الأدب 3 / 618، وحلية المحاضرة 1 / 305، والأغاني 12 / 188 وبهجة المجالس 1 / 413، والحماسة البصرية 2 / 15، وقول على قول ص154. (2) ديوان بشار بن برد ص45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ولو ترك الناس النصح بحجة التقصير لما بقي ناصح على وجه الأرض، ولو كان من شرط القدرة العصمة لما بقي للناس قدوة بعد الأنبياء عليهم السلام. إذا لم يعِظْ في الناس من هو مذنب ... فمن يعظ العاصين بعد محمد قال ابن حزم فَرْضٌ على الناس تَعَلُّمُ الخير والعمل به؛ فمن جمع الأمرين فقد استوفى الفضيلتين معًا، ومن عَلِمَهُ ولم يعمل به فقد أحسن في التعليم وأساء في ترك العمل به، فخلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا. (1) وقال: ولو لم يَنْهَ عن الشر إلا من ليس فيه منه شيء، ولا أمر بالخير إلا من استوعبه -لما نهى أحدٌ عن شر، ولا أمر بخير بعد النبي " وحسبك بمن أدَّى رأيه إلى هذا فسادًا، وسوءَ طبعٍ، وذمَّ حال. (2) وقال: وقد صح عن الحسن أنه سمع إنسانًا يقول: لا يجب أن ينهى عن الشر إلا من لا يفعله. فقال الحسن: ودَّ إبليس لو ظفر منا بهذه؛ حتى لا ينهى أحد عن منكر، ولا يأمر بمعروف. (3) ثم إن ميل الإنسان بطبعه إلى بعض النقائص لا ينافي التقوى إذا كان لا يغشى تلك النقائص، وكان يجاهد نفسه على بغضها. قال ابن حزم: لا عيب على من مال بطبعه إلى بعض القبائح ولو أنه أشد العيوب، وأعظم الرذائل ما لم يظهره بقول أو فعل.   (1) الأخلاق والسير ص92. (2) الأخلاق والسير ص92. (3) الأخلاق والسير ص93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 بل يكاد يكون أحمد ممن أعانه طبعه على الفضائل. ولا تكون مغالبة الطبع الفاسد إلا عن قوة عقل فاضل. (1) ومع ذلك فكلما اقتربت من الكمال، وحرصت على التخلص من النقائص -عظم الاقتداء بك، وزاد الانتفاع بحكمتك؛ فلا يعني ما سبق أن تبقى على عيوبك دون سعي لعلاجها، ودون مجاهدة للترقي في مدارج الكمال.   (1) الأخلاق والسير ص79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 هذا وإن في توقف الإنسان عما لا يعلم، ورجوعِه إلى الحق إذا تبين -فوائد كثيرة منها: (1) أ - أن هذا هو الواجب عليه : قال الله -تعالى -: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36) . ولهذا كانت الأمانة العلمية هي التي تحمل كبار أهل العلم على أن يعلنوا في الناس رجوعهم عن كثير من الاجتهادات إذا تبينوا أنهم لم يقولوا فيها قولًا سديدًا. وكذلك فإن العالم ذا الخُلُقِ العظيم يُسأل عما لا يعلم فلا يجد في صدره حرجًا أن يقول: لا أدري. وهذه سيرة علمائنا الأجلاء؛ يلقى على الواحد منهم السؤالُ في العلم الذي علا فيه كعبه، فإن لم يحضره الجواب أطلق لسانه بكلمة لا أدري غير متسنكف ولا مبالٍ بما يكون لها من أثر في نفوس السامعين. وذلك كمال لا تحرص عليه إلا نفوس زكية، قد ذللت لها سبل المكارم تذليلًا.   (1) انظر تذكرة السامع والمتكلم ص78 -79، والفتاوى السعدية ص452 -453، ورسائل الإصلاح 1 / 17 -21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ب - أن ذلك يفتح له باب العلم : فإذا توقف في المسألة أسرع إليه الجواب، إما مِنْ مُرَاجَعته هو، أو من مراجعة غيره؛ فإن المتعلم إذا رأى معلمه قد توقف في مسألة ما -جدَّ واجتهد في تحصيل علمها؛ لإتحاف معلمه بها، وما أحسن هذا الأثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ج ـ - أن في ذلك رفعةً للقدر: فإذا توقف عما لا يعلمه، أو رجع إلى الحق بعد أن تبين له -كان ذلك دليلًا على ثقته وأمانته فيما يجزم به من المسائل. كما أن من عرف منه الإقدامُ على الكلام فيما لا يعلم كان ذلك داعيًا للرَّيب في كل ما يتكلم به حتى في الأمور الواضحة. وبتوقف المعلم عما لا يعلم يعلو قدره، وتزيد ثقة الناس به. ولأنْ يقال: سُئِل فقال: لا أدري خير من أن يقال: سئل فقال خطلًا، أو روى ما لم يكن واقعًا. عن ابن عباس -رضي الله عنهما -: إذا أخطأ العالم (لا أدري) أصيبت مقاتله. (1) ونظمها بعضهم بقوله: ومن كان يهوى أن يُرَى متصدرًا ... ويكره (لا أدري) أصيبت مقاتله قال ابن جماعة: اعلم أن قول المسؤول (لا أدري) لا يضع من قدره كما يظن بعض الجهلة، بل يرفعه؛ لأنه دليل عظيم على عظم محله، وقوة دينه، وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال معرفته، وحسن تثبته، وقد روينا ذلك عن جماعة من السلف. وإنما يأنف من قول (لا أدري) من ضعفت ديانته، وقلَّت معرفته؛ لأنه يخاف سقوطه من أعين الحاضرين. وهذه جهالة ورقة دين، وربما يشهر خطؤه بين الناس، فيقع فيما فرَّ منه، ويتصف عندهم بما احترز عنه. (2)   (1) تذكرة السامع والمتكلم ص78. (2) تذكرة السامع والمتكلم ص79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 د - أن في ذلك إرشادًا للمتعلمين، وتربيةً لهم: فإذا رأى المتعلمون من المعلم التوقف فيما لا يعلم -كان ذلك تعليمًا، وإرشادًا لهم؛ كي يسلكوا هذه الطريقة بلا تحرج. والاقتداء بالأحوال والأعمال أبلغ من الاقتداء بالأقوال؛ فإذا فات المعلم أن يجيب طالبَ العلم عما سأله لم يَفُتْهُ أن يعلمه خلقًا شريفًا وهو ألا يتحدث في العلم إلا عن علم وبصيرة؛ فيسلم بذلك من الإثم، ويرفع مقامه من أن يرمى بضعف الرأي وقلة الأمانة. قال ابن جماعة: وقيل: ينبغي للعالم أن يورث أصحابه (لا أدري) ؛ لكثرة ما يقولها. (1) ولهذا فإن المسائل التي قال فيها كبار العلماء (لا أدري) بالغةٌ في الكثرة ما لا يحيط به حساب. سأل رجل مالك بن أنس عن مسألة وذكر أنه أُرْسِل فيها مسيرة أشهر من المغرب. فقال: أخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بها، قال: ومن يعلمها؟ قال: من علمه الله. وسأله آخر عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب، فقال: ما أدري ما هي. فقال الرجل: يا أبا عبد الله، تركت خلفي من يقول: ليس على وجه الأرض أعلم منك. فقال مالك غير مستوحش: إذا رجعت فأخبرهم أني لا أحسن!. وقال الكاتبون في سيرته: لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك: لا أدري لفعل.   (1) تذكرة السامع والمتكلم ص78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ومن شواهد أمانة محمد بن الأعرابي أن محمد بن حبيب سأله في مجلس واحد عن بضع عشرة مسألة من شعر الطِّرِمَّاح، فكان يقول: لا أدري، ولم أسمع، أفأحدس لك برأيي. (1) فإذا كانت الأمانة في العلم منبع حياة الأمم، وأساس عظمتها -زيادة على أنها الخصلة التي تكسب صاحبها وقارًا وجلالة -كان حقًا علينا أن نربي نشأنا من طلاب العلم على الأمانة، وأن نتخذ كل وسيلة إلى أن نخرجهم أمناء فيما يروون أو يصفون، وذلك بأن نتحرى الأمانة فيما نروي، ولا نجيب سؤالهم إلا بما ندري أو بقولنا: لا ندري. وإذا أوردنا رأيًا اسْتَبَنَّا بعدُ أنه مأخوذ من غير أصل قلنا لهم في صراحة: قد أخطأنا في الفهم، أو خرجنا على ما تقتضيه أصول العلم. ثم علينا بعد أن نقوم بحق الأمانة -ملاحظةُ سير الطلاب، فإذا وقعوا فيما يدل على أنهم غافلون عن رفعة شأن الأمانة، وغزارة فوائدها -أرشدناهم إلى أن العلم بغير أمانة شر من الجهل، وأن ذكاءً لا يصاحبه صدق اللهجة نكبة في العقل. قال شوقي: ربوا على الإنصافِ فتيانَ الحمى ... تَجِدُوهم كَهْفَ الحقوقِ كهولا فهو الذي يبني الطباعَ قويمةً ... وهو الذي يبني النفوس عدولًا   (1) انظر رسائل الإصلاح1 / 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ويقيم منطقَ كلِّ أعوجِ منطقٍ ... ويريه رأيًا في الأمور أصيلا (1)   (1) الشوقيات 1 / 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 10 - احترام العلماء : فَيَرِدُ في الدرس كثيرًا مناقشةٌ لآراء العلماء، واجتهاداتهم على اختلاف مآخذهم واستنباطاتهم؛ فجدير بالمعلم أن يحترم آراء العلماء؛ ليتربى الطلاب على محبة العلم والعلماء، ولكي يعرفوا للرجال أقدارهم. ولا يعني احترام آراء العلماء أخذها بالقبول والتسليم على أي حال، وإنما يراد بذلك عرضها بتثبت على ميزان البحث العلمي الصحيح، ثم الفصل فيها من غير تطاول عليها، ولا انحراف عن سبيل الأدب في تفنيدها. فالفطر السليمة والنفوس الزاكية لا تجد من الإقبال على حديث من يستخفه الغرور بما عنده مثل ما تجد من الإقبال على حديثِ مَنْ أحسن الدرس أدبه، وهذب الأدب منطقه. وإذا كان الأستاذ كمدرسة يتخرج في مجالس درسه خلق كثير -فحقيق عليه أن يكون المثال الذي يشهد فيه الطلاب كيف تناقش آراء العلماء مع صيانة اللسان من هُجْر القول الذي هو أثر الإعجابِ بالنفس، والإعجابُ بالنفس أثر ضعف لم تتناولْه التربية بتهذيب. (1)   (1) انظر رسائل الإصلاح1 / 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 11 - البعد عن مواطن الرّيب: فأحرِ بالمعلم أن يعز نفسه، وأن يصون علمه، وأن يجانب مواطن الرّيب، وأن يرتفع عن مواطن المهانة، فلا يغشى مجالس السفل، ولا يرتادَ منتدياتِ الخنا والزور، ولا يسير إلا على وفق ما تمليه عليه المروءة والحكمة. قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في وصاياه للمعلمين: وأوصيكم باتقاء مواطن الشبه، واجتناب مصارع الفضيلة، وبإجرار الألسنة عن مراتع الغيبة والنميمة، وفطمها عن مراضع اللغو واللجاج؛ فهي مفتاح باب الشر، وثقاب نار العداوة والبغضاء. (1) وقال: إن العامة التي ائتمنتكم على أبنائها تنظر إلى أعمالكم بالمرآة المكبرة؛ فالصغيرة من أعمالكم كبيرة، والخافتة من أقوالكم تسمعها جهيرة؛ فاحذروا ثم احذروا. (2) ولئن كانت عزة النفس جميلة رائعة من كل أحد فَلَهِيَ من أهل العلم أجمل وأروع. ولئن كانت مرغوبةً مطلوبةً من كل أحد -فلهي من أهل العلم أولى وأحرى. فأكرم بمن رفعه العلمُ، فرفع العلمَ، وأجدر بذي العلم أن يكون ذا نفس زكية، وساحة طاهرة نقية؛ حتى لا يكون الخلل حائلًا بينه وبين هداية الناس. ورحم الله القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني إذ يقول في عزة أهل العلم:   (1) عيون البصائر 291. (2) عيون البصائر 292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 يقولون لي: فيك انقباضٌ وإنما ... رأوا رجلًا عن موقف الذلِّ أحجما أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكْرَمَتْهُ عزةُ النفسِ أُكْرِما ولم أقضِ حقَّ العلمِ إن كان كلما ... بدا طمعٌ صَيَّرْتُهُ لي سلَّما وما كلُّ برقٍ لاح يستفزني ... ولا كلُّ مَنْ لا قيت أرضاه منعما إذا قيل: هذا منهلٌ قلت قد أَرى ... ولكنَّ نفسَ الحرِّ تحتمل الظما أُنَهْنِهُهَا عن بعض ما لا يشينها ... مخافةَ أقوالِ العِدا فيمَ أولما ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لِأخْدِمَ مَنْ لا قيتُ لكن لأُخْدما أأشقى به غرسًا وأجنيه ذلةً؟ ... ولو عظَّموه في النفوس لَعَظَّما ولكنْ أهانوه فهانوا ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تَجَهَّما (1)   (1) أدب الدنيا والدين للماوردي ص83، والبداية والنهاية لابن كثير 11 / 355، وخاص الخاص للثعالبي ص228 -229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 12 - ولزملائك عليك حق : فمن حق زملائك عليك أن تَقْدُرهم حق قدرهم، وأن تنصح لهم، وتحب لهم ما تحبه لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك. قال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» . (1) ومن حقهم أن تزيد في الإجلال والتقدير من يكبرك في السن والعلم، خصوصًا ممن لهم فضل عليك في تعليمك وتوجيهك؛ فلهؤلاء حق خاص، وقيامك بهذا الحق دليل على نبلك وكرم أخلاقك. ومن حقهم عليك أن ترفع من أقدارهم، وألا تذكرهم إلا بخير، وأن تحسن العشرة إذا اجتمعت بهم، وأن تحفظ العهد والغيب إذا فارقتهم. ومن حقهم أن تدعو لهم، وأن تحرص على مناصحتهم، وعلى ستر عيوبهم، وأن يكون صدرك سليمًا لهم. ومن حقهم أن تقبل نصيحتهم، وأن تحسن الظن بهم، وأن تحمل كلامهم على أحسن المحامل، وأن تقيل عثراتهم إذا أخطأوا، وأن لا تعجل بمعاتبتهم إذا زلوا. أقِلْ ذا الودِّ عثرتَه وقِفْهُ ... على سنن الطريق المستقيمهْ ولا تسرع بِمَعْتَبَةٍ إليه ... فقد يهفو وَنِيَّتُهُ سليمهْ ومن حقهم أن تبادرهم بالسلام، وأن ترد عليهم إذا حيوك بمثلها أو بأحسن منها.   (1) رواه البخاري 1 / 9، ومسلم (45) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ومن حقهم أن تحترم تخصصاتهم وعلومهم، وألا تتدخل في شؤونهم الخاصة التي يكرهون أن يطلع عليها أحد غيرهم. ومن حقهم ألا تنتقد أحدًا منهم أمام الطلاب لا تصريحًا ولا تلميحًا؛ لأن انتقادهم أمام الطلاب مدعاة لزهد الطلاب بكم جميعًا. بل اللائق بك أن تذكرهم بخير أمام الطلاب، وألا تسمح لأحد من الطلاب أن ينال من أحد من زملائك؛ فذلك أهيب لكم، وأرفع لقدركم. ومن حقهم أن تحرص على جمع كلمتهم كما سيأتي. وإن رأيت من أحد زملائك نشاطًا فشجِّعْه، ونافسه في الخير. وإن رأيت كسلًا وخمولًا فخذ بيده، واحرص على نصحه، ولا تجاره في صنيعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 13 - التعاون على البر والتقوى : فمن أعظم ما يجب على المعلمين أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يتواصوا بالحق وبالصبر. فحري بالمعلم أن يتعاون مع مسؤوليه، فيحسن علاقته بهم، ويقوم بما يسند إليه على أكمل وجه وأتمه، وأن يحرص على مناصحتهم فيما يراه خللًا، ويبدي رأيه فيما يرى أنه أفضل مما هو معمول به، مع مراعاة ألا ينصح أو يقترح على شرط القبول، فيكبر في نفسه ألا يؤخذ برأيه. ومن التعاون أن يتعاون مع الموجهين والمشرفين، وأن يستمع لملاحظاتهم وإرشاداتهم. ولا يمنع ذلك من مناقشتهم حول بعض الأمور في هدوء وسكينة بعيدًا عن الملاحاة والمماراة. ومن التعاون في هذا الصدد أن يتعاون مع الطلاب -كما سيأتي - ومع أولياء أمورهم في سبيل السعي في رفعة الطلاب. ومن التعاون أن يقوم بحق الزملاء كما مضى، وأن يحرص على جمع الكلمة كما سيأتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 هذا وإن مما يعين على اجتماع الكلمة ما يلي: أ - أن تسود روح التضحية بين المعلمين : فالتضحية من أنبل الأخلاق وأروعها، وهي من أعظم ما يكسب القوة والترابط، والأمة المضحية تأكل غير المضحية بيسر وسهولة؛ لأن الأمة المضحية كتلة واحدة متماسكة، وغير المضحية أفراد متفككة، وشهوات متعددة، تتحارب أجزاؤها، ويأكل النزاع والشهوات والأنانية قواها. ولا تكون التضحية حتى يتعود القلب لذة العطاء كما يتعود لذة الأخذ. فالتضحية أفق واسع تنعم فيه النفس بجمال السعة، وبعد المدى. والأنانية أفق ضيِّق تألم فيه النفس، بضيق المكان، وتنقبض من كثرة السدود والحدود. (1)   (1) انظر فيض الخاطر 3 / 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ب - إفشاء السلام : فهو مجلبة للمودة، ومدعاة للمحبة. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ": «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» . (1) وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إن مما يُصَفِّي لك ودَّ أخيك أن تبدأه بالسلام إذا لقيته، وأن تدعوه بأحب الأسماء إليه، وأن توسع له في المجلس. (2)   (1) رواه مسلم (54) ، وأبو داود (5193) ، والترمذي (2688) . (2) بهجة المجالس لابن عبد البر 2 / 663. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 جـ - الشورى : فالشورى تنمي المعارف، وتقوي الأواصر بين المتشاورين؛ لأنهم إذا تشاوروا شعروا بأن أمرهم واحد، ومصلحتهم مشتركة، وإذا شعروا بذلك قويت المحبة، وزالت العداوة. ثم إن استشارتك لأخيك توحي إليه بمودتك له، وثقتك به، وذلك من أسباب الألفة. قال -تعالى - في وصف المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) . وأمر -عز وجل - نبيه " أن يشاور أصحابه، مع وفور عقله، وسداد رأيه. قال -تعالى -: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران: 159) . ولهذا كان النبي " كثير المشاورة لأصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 د - الدعاء : وذلك بسؤال الله بصدق أن يجمع القلوب على التقوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 هـ - أن ندرك أن الاختلاف في الرأي لا يوجب اختلاف القلوب : كما قيل: واختلاف الرأي لا يفـ ... سد للود قضية وكما قيل: في الرأي تضطغن العقو ... ل وليس تضطغن القلوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 15 - حسن الخلق : وحسن الخلق يتمثل في بذل الجميل، وكف القبيح، وأن يكون الإنسان سهل العريكة، ليِّن الجانب، طلْق الوجه، قليل النفور، طيب الكلمة. وجماع حسن الخلق أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. (1) وقد جمع الله -عز وجل - ذلك في آية واحدة، وهي قوله -تعالى -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) . ولئن كان حسن الخلق جميلًا من كل أحد فهو من المعلم أجمل وأجمل؛ فحري بالمعلم أن يتحلى بمكارم الأخلاق، وجدير به ألا يغفل ذلك من حسابه. قال الزيات: ولعمري ما يؤتى المعلم إلا من إغفاله هذه الجهة؛ فالادعاء، والتظاهر، والكبرياء، والتفاخر، والبذاءة، والتنادر، والكذب، والتحيز، والكسل، والتدليس -آفات العلم، وبلايا المعلم. وما استعبد النفس الشابة الحرة كالخلق الكريم، ولا يَسَّر تعليمها وتقويمها كالقدوة الحسنة، ناهيك بما يتبع ذلك من جمال الأحدوثة، واستفاضة الذكر وهما يزيدان في قدرة المعلم واعتباره، ويغنيان الطلاب الجدد عن اختباره. (2)   (1) انظر أدب الدنيا والدين ص243، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 10 / 658، ومدارج السالكين لابن القيم 2 / 294، والرياض الناضرة لابن سعدي ص68، وسوء الخلق مظاهره -أسبابه -علاجه للكاتب ص79 -80. (2) في أصول الأدب للزيات ص124 -125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 هذا وإن من أجمل الأخلاق وأولاها خلق الحلم، فهو من أشرفها وأحقها بذوي الألباب، لما فيه من سلامة العرض، وراحة الجسد، واجتلاب الحمد. وحد الحلم ضبط النفس عند هيجان الغضب، وليس من شرطه ألا يغضب الحليم. وإنما إذا ثار به الغضب عند هجوم دواعيه كف سورته بحزمه، وأطفأ ثائرته بحلمه. هذا وسيأتي مزيد بيان لحسن الخلق فيما يأتي من فقرات بإذن الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 * ومن صور التواضع التي يجمل بالمعلم أن يرعاها ما يلي: أ - إلقاء السلام على طلابه : فذلك مما يشعرهم بقيمتهم، وبتواضع معلميهم لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ب - الإصغاء للطالب عند المناقشة : وذلك بحسن الاستماع إليه، وإجابته عما سأل في رفق، وتلقي ما يبديه من الفهم بإنصاف، فإن أخطأ نبهه لوجه الخطأ، وإن قال صوابًا تقبله منه بارتياحٍ، وارتياحُ المعلم لآثار نجابة الطلاب مما يزيدهم جِدًَّا في الطلب، ويشعرهم باستعدادهم لأن يكونوا من النوابغ. وإنما ينبغ الطالب متى سطع في نفسه مثل هذا الشعور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 جـ - ألا يحتقر الفائدة من طلابه : قال ابن جماعة في الأدب الحادي عشر من آداب العالم: ألا يستنكف أن يستفيد مما لا يعلمه ممن هو دونه منصبًا، أو نسبًا، أو سنًا. بل يكون حريصًا على الفائدة حيث كانت، والحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها. (1) قال: وكان جماعة من السلف يستفيدون من طلبتهم ما ليس عندهم. (2) قال الحميدي -وهو تلميذ الشافعي -: صحبت الشافعي من مكة إلى مصر، فكنت أستفيد منه المسائل، وكان يستفيد مني الحديث. (3) قال أحمد بن حنبل: قال الشافعي: أنتم أعلم بالحديث مني؛ فإذا صح عندكم الحديث فقولوا لنا حتى آخذ به.   (1) تذكرة السامع والمتكلم ص60. (2) تذكرة السامع والمتكلم ص61. (3) تذكرة السامع والمتكلم ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 د - ألا يزدري أحدًا من الطلاب: حتى الكسالى منهم، بل يحسن به أن ينزل إليهم، وأن يأخذ بأيديهم؛ كي يرفعوا من شأنهم؛ فما يدريه لعل في ثياب ذلك المُحْتَقَرِ أسدًا هصورًا. ومما ينبغي التنبيه عليه أن التواضع -كما أنه تنزه عن الكبر - لا يعني التذلل ولا الضعة، فالكبر مذموم، والضعة والتذلل داخلان في المذموم، أما التواضع فكان بين ذلك قوامًا. فالضعة ترجع إلى أن يغمط الإنسان نفسه حقها، ويضعها في مواضع أدنى مما تستحق أن يضعها. والمتواضع من يعرف قدره، ولا يأبى أن يرسل نفسه في وجوه الخير، وما يقتضيه حسن المعاشرة. وإذا كان من يحتفظ بالعزة، ولا يصرف وجهه عن التواضع هو الرجل الذي يرجى لنفع الأمة، ويستطيع أن يخوض في كل مجتمع ضافي الكرامة، أنيس الملتقى، شديد الثقة بنفسه -كان حقًا على من يتولى تربية الناشئ أن يتفقده في كل طور، حتى إذا رأى فيه خمولًا، وقلة احتراس من مواقع المهانة أيقظ فيه الشعور بالعزة، والطموح إلى المقامات العلا. وإذا رأى فيه كبرًا عاتيًا، وتيهًا مسرفًا خفَّفَ من غلوائه، وساسه بالحكمة، حتى يتعلم أن المجد المؤثل لا يقوم إلا على دعائم العزة والتواضع. (1)   (1) انظر رسائل الإصلاح 1 / 129 -130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فمما يجمل بالمعلم أن يتصف به من وجوه السخاء ما يلي: أ - السخاء بالعلم : وهو من أعلى مراتب السخاء، وهو أفضل من السخاء بالمال؛ لأن العلم أشرف من المال. والناس في السخاء بالعلم مراتب متفاوتة، وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ ألا ينفع به بخيلًا. ومن السخاء بالعلم أن تستقصي للسائل جوابًا شافيًا؛ فلا يكون جوابك بقدر ما تدفع به الضرورة. ومن السخاء بالعلم أن لا تقتصر على مسألة السائل، بل تذكر له نظائرها، ومتعلقاتها، ومآخذها بحيث تكفيه وتشفيه. ومن السخاء بالعلم أن تطرحه لطلابك طرحًا، وألا تبخل عليهم بما تستطيع بذله لهم من العلم؛ فإن العلم يزيد بكثرة إنفاقه وبذله، والبخيل به ألأم من البخيل بالمال. قال الإلبيري في العلم: يزيد بكثرة الإنفاق منه ... وينقص إن به كفًّا شددتا (1) وقال ابن حزم: الباخل بالعلم ألأم من الباخل بالمال؛ لأن الباخل بالمال أشفق من فناء ما بيده، والباخل بالعلم بخل بما لا يَفْنى على النفقة، ولا يفارقه مع البذل. (2)   (1) ديوان الإلبيري ص26. (2) الأخلاق والسير ص22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ب - السخاء بالنصح : قال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي: ومن آداب العالم والمتعلم النصح، وبث العلوم النافعة بحسب الإمكان، حتى لو تعلم مسألة واحدة ثم بثها كان من بركة علمه، ولأن ثمرات العلم أن يأخذه الناس عنك؛ فمن شح بعلمه مات علمه بموته، وربما نسيه وهو حي، كما أن من بث علمه كان حياة ثانية، وحفظًا لما عَلِمه، وجازاه الله من جنس عمله. (1)   (1) الفتاوى السعدية ص455. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 جـ - السخاء بالمال : فيسخو المعلم بماله في نحو الهدية، وإكرام المجدين، ورفد الضعفاء من الطلاب خصوصًا إذا كان المعلم موسرًا، أو كان ما يجود به لا يضره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 د - السخاء بالوقت ، وبالجاه: وذلك في سبيل نفع الطلاب أو الزملاء فيما ينوبهم وفيما يعود بالنفع عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 هـ - السخاء في قضاء الحوائج وتفريج الكربات، وتخفيف الآلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 و - السخاء بالعرض : وذلك بأن يسخو بعرضه لمن نال منه، فذلك مما يحسن بالمعلم؛ لأنه قد لا يسلم من قدح الطلاب، أو أولياء أمورهم؛ فحري به أن يسخو عليهم بذلك فيبيحهم، ويتصدق عليهم بعرضه. قال النبي ": «أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضيغم أو ضمضم -شك ابن عبيد - (1) كان إذا أصبح قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك» . (2) قيل للشعبي: فلان ينتقصك، ويشتِمُك، فتمثل الشعبي بقول كثير عزة: هنيئًا مريئًا غير داءٍ مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... علينا ولا مقليةً إن تَقَلَّتِ (3) وفي هذا السخاء من سلامة الصدر، وراحة القلب، والتخلص من معاداة الخلق -ما فيه.   (1) هو محمد بن عبيد بن حساب (2) أخرجه أبو داود (4886) ، والعقيلي في الضعفاء 4 / 180. وابن السني في عمل اليوم والليلة (65) ، والخطيب البغدادي في موضح أوهام الجمع والتفريق 1 / 35 -36 كلهم عن أنس، وضعفه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء 3 / 163، وكذلك الألباني في إرواء الغليل 8 / 32. ولكن له شاهد عند أبي هريرة، أخرجه ابن بشكوال في كتابه الغوامض والمبهمات (449) ونصه: أن رجلًا من المسلمين قال: اللهم إني ليس لي مال أتصدق به؛ فأيما رجل من المسلمين أصاب من عرضي شيئًا فهو له صدقة، فأوحى الله إلى النبي «أنه قد غفر له. قال ابن حجر في الإصابة 2 / 500 (صحيح) . (3) بهجة المجالس 2 / 436. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ز - السخاء بالصبر والاحتمال والإغضاء : وهذه مرتبة شريفة من مراتب السخاء؛ وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال، وأعزُّ له، وأنصر، وأملك لنفسه، وأشرف لها، ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار، وسيأتي مزيد بيان لهذا عند الحديث عن رحابة الصدر، وقوة الاحتمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ح - السخاء بالبشر والتبسم ، والبشاشة والبسطة، ومقابلة الناس بالطلاقة: فذلك فوق السخاء بالصبر، والاحتمال، والعفو، وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وهو أثقل ما يوضع في الميزان، وفيه من المنافع والمسارِّ وأنواع المصالح ما فيه. (1) وسيأتي مزيد بيان له -إن شاء الله -. هذه بعض صور السخاء؛ فما أحرانا -معاشر المعلمين - أن نأخذ أنفسنا بالسخاء في كافة صوره، وألا ننتظر المقابل لما نقدمه ونسخو به. قال الرافعي: إن السعادة الإنسانية الصحيحة في العطاء دون الأخذ، وإن الزائفة هي الأخذ دون العطاء، وذلك آخر ما انتهت إليه فلسفة الأخلاق. (2) . وكما يحسن بنا أن نأخذ أنفسنا بالسخاء فإنه حقيق علينا أن نربي نشأنا على هذا الخلق، وأن نلقنهم أن السخاء مرقاة السيادة والفلاح. كما كان فرضًا علينا أن ننذرهم سوء المنقلب الذي ينقلب إليه البخلاء والمبذرون.   (1) انظر تفصيل الحديث عن السخاء في الهمة العالية للكاتب ص166 -182. (2) وحي القلم 3 / 13 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 18 - التنزه عن الحسد : فمن جميل أخلاق المعلمين أن يتنزهوا عن الحسد، وأن يؤثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؛ لأن الحسد اعتراض على حكمة الله، وشح بالخير على عباد الله. فأعيذك بالله -أيها المعلم المبارك - من الحسد؛ لأن الحاسد لا تعلو به رتبة، ولا يهدأ له بال؛ فهو دنيء مهين النفس، ولأنه بحسده اشتغل بما لا يعنيه، فأضاع ما يعنيه، وما يعود عليه بالخير والنفع، فتراه يزري بفلان، وينتقص فلانًا؛ محاولًا بذلك تهديم أقدارهم، والنهوض على أكتافهم، وغاب عنه أن الرافع الخافض هو الله -عز وجل -. فمما يدل على نزاهة النفس وطهارة الطوية -أن يترفع المرء عن الحسد، وأن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، فيفتح المجالات أمامهم، ويعطيهم فرصة للإبداع والحديث ونحو ذلك بعيدًا عن الأثرة وحب التفرد بالخير. ومما يجمل به في هذا الصدد أن يفرح لنجاحهم، ويحزن لإخفاقهم، فذلك مما يدل على رسوخ القدم في الفضيلة. وبدلًا من الحسد خيرًا للحاسد أن يرتقي بنفسه، وأن يسعى للسير في المعالي سعيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 قال ابن المقفع: ليكن ما تصرف به الأذى عن نفسك ألا تكون حسودًا؛ فإن الحسد خلق لئيم، ومن لؤمه أنه موكل بالأدنى فالأدنى من الأقارب، والأكفاء، والمعارف، والخلطاء؛ فليكن ما تعامل به الحسد أن تعلم أن خير ما تكون حين تكون مع من هو خير منك، وأنَّ غُنْمًا حسنًا لك أن يكون عشيرك وخليطك أفضل منك في العلم فتقتبس من علمه، وأفضل منك في القوة فيدفع عنك بقوته، وأفضل منك في المال فتفيد من ماله، وأفضل منك في الجاه فتصيب حاجتك بجاهه، وأفضل منك في الدين فتزداد صلاحًا بصلاحه. الأدب الصغير والأدب الكبير ص44 -145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 19 - الاعتدال في الملبس : فالمعلم قدوة، ومثال يُحتذى -كما مر - آنفًا -ومما يحسن به أن يعتدل في ملبسه؛ لأن الملبس عنوان على انتماء الشخص، بل تحديدٌ له، وهل اللباس إلا وسيلة من وسائل التعبير عن الذات؟ فكن حذرًا في لباسك؛ لأنه يُعبِّر لغيرك عن تقويمك في الانتماء، والتكوين والذوق. ولهذا قيل: الحلية في الظاهر تدل على ميل الباطن. والناس يُصَنِّفونك من لباسك، بل إن كيفية اللبس تعطي الناظر تصنيف اللابس من الرصانة، والتَّعَقُّل، أو التمشيخ والرهبنة، أو التصابي وحب الظهور؛ فخذ من اللباس ما يزينك ولا يشينك، ولا يجعل فيك مقالًا لقائل، ولا لمزًا للامز (1) فالإسلام - وإن عني بتزكية الأرواح، وترقيتها في مراقي الفلاح - لم يبخس الحواس حقها، بل قضى للأجسام لبانتها من الزينة والتجمل بالقسطاس المستقيم. فالتجمل والعناية بالمظهر - في حد ذاته - أمر حسن؛ فالله -عز وجل - جميل يحب الجمال، ويحب أن يُرى أثر نعمته على عبده. وإنما المحذور هو المبالغة في التجمل، وصرف الهمة للتأنُّق، واشتداد الكلف بحسن البزة والمظهر؛ فهذا الصنيع يقطع عن الاهتمام بإصلاح النفس، ويومئ إلى نقص متأصل.   (1) . حلية طالب العلم للعلامة د. بكر أبو زيد ص14 -15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 قال عمر بن الخطاب: إياكم لبستين: لبسةً مشهورة، ولبسة محقورة. (1) وقال بعض الحكماء: البس من الثياب ما لا يزدريك فيه العظماء، ولا يعيبك الحكماء. (2) وقيل: أما الطعام فكل لنفسك ما اشتهت ... والبس لباسًا يشتهيه الناس (3) قال الماوردي: واعلم أن المروءة أن يكون الإنسان معتدل الحال في مراعاة لباسه من غير إكثار أو اطراح؛ فإن اطراح مراعاتها، وترك تفقُّدها مهانة وذلة، وكثرة مراعاتها، وصرف الهمة إلى العناية لها دناءة ونقص. وربما توهم من خلا من فضل، وعري من تمييز أن ذلك هو المروءة الكاملة، والسيرة الفاضلة؛ لما يرى من تَمَيُّزه عن الأكثرين، وخروجه عن جملة العوام المسترذلين. وخفي عليه أنه إذا تعدى طوره، وتجاوز قدره كان أقبح لذكره، وأبعث على ذمه. (4) قال المتنبي: لا يعجبن مضيمًا حسنُ بزته ... وهل يروق دفينًا جودةُ الكفن (5)   (1) أدب الدنيا والدين ص354. (2) أدب الدنيا والدين ص355. (3) أدب الدنيا والدين ص355. (4) أدب الدنيا والدين ص354. (5) ديوان المتنبي 4 / 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وخلاصة القول أن الشارع قد فوض في أمر اللباس إلى حكم العادة، وما يليق بحال الإنسان؛ فإذا جرت العادة بلبس نوع من الثياب، وكان مستطيعًا له، فعدل عنه إلى صنفٍ أسفلَ منه أو أبلى -قَبُح به الحال، وكره له؛ لأن بذاذة اللباس ورِثَّته مما تقذفها العيون، وتنشز عنها الطباع، فتلقي بصاحبها إلى الهوان، والالتفات إليه بألحاظ الازدراء. وأما الخروج عن المعتاد، والتطلع إلى ما هو أنفس وأغلى -فمرفوض كما مر. قال المعري: وإن كان في لبس الفتى شرف له ... فما السيف إلا غمدُه والحمائل (1) بل تجد أكثر الناس يَسْتَخفُّون بمن يتعدى طور أمثاله في ملبسه، ويعدونه سفهًا في العقل، وطيشًا مع الهوى. (2) هذا وقد عُلم بالتَّتَبُّع والاستقراء أن كل عرف خالف الشرع فإنه ناقص مختل. وهذه قاعدة مُطَّرِدة لا تنتقض. (3)   (1) شرح ديوان سقط الزند للمعري ص57. (2) انظر مناهج الشرف ص50 -51. (3) انظر الرياض الناضرة ص284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 20 - الاعتدال في المزاح : فالطلاب ينتابهم الكسل، ويغلب عليهم السآمة والملل؛ فإذا لَطَّف المعلم حرارة الدرس، وكسر حدة الجد بشيء من المزاح -كان ذلك باعثًا على النشاط، مجددًا للهمة. ولكن يراعي في ذلك ما يلي: أ - ألا يكون المزاح كثيرًا: لأن كثرة المزاح تسقط الهيبة، وتُخلُّ بالمروءة، وتجرئ الأنذال. قال ابن جماعة في أدب المعلم: ويتقي المزاح، وكثرةَ الضحك؛ فإنه يقلل الهيبة، ويسقط الحشمة كما قيل: من مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عُرِف به. (1) وقال أحد الشعراء: فإياك إياك المزاحَ؛ فإنه ... يُجَرِّي عليك الطفل والدَّنِس النذلا ويذهب ماء الوجه بعد بهائه ... ويورثه من بعد عزته ذلا (2) ب - أن يكون المزاح منضبطًا في حدود الأدب واللياقة: فلا يسمح للطلاب أن يَسِفُّوا بالمزاح، أو أن يتجاوزوا حدود الأدب. لا تَمزَحَنْ وإذا مزحت فلا يكن ... مزحًا تضاف به إلى سوء الأدب واحذر ممازحةً تعود عداوةً ... إن المزاح على مقدمة الغضب (3)   (1) تذكرة السامع والمتكلم ص67. (2) بهجة المجالس 2 / 571 -572. (3) بهجة المجالس 2 / 570 وانظر الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 جـ - أن يتجنب المزاح مع من لا يَرْغَب فيه: فقد يمازح المعلم طالبًا لا يتحمل المزاح، كأنْ يكون شديد الحياء، أو ذا نفس متوترة قلقة، أو نحو ذلك فإذا مازحه المعلم نفر من الدرس، وثقل على الحاضرين، وثقلوا عليه. د - ألا يمازح السفهاء: لأنه قد يسمع منهم ما لا يرضيه كما سيأتي بعد قليل عند الحديث عن مجاراة السفهاء. هـ -تجنب الإحراج: فلا يوقع نفسه في حرج، ولا يوقع الطلاب في حرج؛ بحيث يكون المزاح في أمور واضحة لا يترتب عليها ما يوقع الحرج. و ألا يسمح بالفوضى تعم الفصل. ز - ألا يكون المزاح على حساب وقت الدرس. وبالجملة فالمزاح في الكلام كالملح في الطعام؛ إن عدم أو زاد عن الحد فهو مذموم. أفِدْ طبعَك المكدودَ بالجدِّ راحةً ... يَجِمَّ وعَلِّلْهُ بشيء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بمقدار ما تعطي الطعام من الملح (1) والعرب تقول في أمثالها: الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والإفراط في الأنس مكسبة لقرناء السوء. (2)   (1) أدب الدنيا والدين ص311. (2) الأمثال لأبي عبيد ص202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 هذا ومما يعين على محاسبة النفس وتلافي العيوب ما يلي: أ - الإقرار بالنقص : قال ابن حزم: لو علم الناقص نقصه لكان كاملًا. (1) وقال: لا يخلو مخلوق من عيب، فالسعيد من قلَّت عيوبه ودقَّت. (2)   (1) الأخلاق والسير ص38. (2) الأخلاق والسير ص38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ب - أن نعرف عيوبنا : فمعرفة الداء تعين على وصف الدواء، قال ابن المقفع: من أشد عيوب الإنسان خفاءُ عيوبه عليه؛ فإن من خفي عليه عيبُه خفيت عليه محاسن غيره. ومن خفي عليه عيبُ نفسه، ومحاسنُ غيره -فلن يقلع عن عيبه الذي لا يعرف، ولن ينال محاسن غيره التي لا يبصر أبدًا. (1) وقال محمود الوراق: أتم الناس أعرفُهم بنقصه ... وأقمعهم لشهوته وحرصه (2) وقال ابن حزم: واعلم يقينًا أنه لا يسلم إنسيٌّ من نقص حاشا الأنبياء -صلوات الله عليهم - فمن خفيت عليه عيوبُ نفسه فقد سقط، وصار من السخف، والرذالة، والخسة، وضعف التمييز والعقل، وقلة الفهم بحيث لا يتخلف عنه متخلف من الأراذل، وبحيث ليس تحته منزلة من الدناءة؛ فليتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه، والاشتغال بذلك عن الإعجاب بها، وعن عيوب غيره التي لا تضره لا في الدنيا ولا في الآخرة. (3)   (1) الأدب الصغير والأدب الكبير ص84. (2) أقوال مأثورة وكلمات جميلة د. محمد الصباغ ص514. (3) الأخلاق والسير ص65 -66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 جـ - أن نسعى في الخلاص من العيوب : فلا يكفي مجرد معرفة العيوب، بل لا بد من السعي في الخلاص منها. قال -تعالى -: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (الأعلى: 14) . وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (الشمس: 9) . قال ابن حزم: العاقل من مَيَّزَ عيوب نفسه، فغالبها، وسعى في قمعها، والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه إما لقلة علمه وتمييزه، وضعف فكرته؛ وإما لأنه يُقَدِّر أن عيوبه خصال، وهذا أشد عيب في الأرض. (1)   (1) الأخلاق والسير ص65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 د - حسن التعاهد للنفس : قال ابن المقفع: ليحسن تعاهدُك نَفْسَك بما تكون به للخير أهلًا؛ فإنك إن فعلت ذلك أتاك الخير يطلبك كما يطلب الماء السيل إلى الحدورة. (1) (2) وقال ابن حزم: إهمال ساعة يفسد رياضة سنة. (3)   (1) الحدورة: المنخفض من الأرض (2) الأدب الصغير والأدب الكبير ص90 (3) الأخلاق والسير ص33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 هـ - ألا نجعل إساءة الأمس مسوغةً لإساءة اليوم، ولا إساءة فلان من الناس مسوغة لإساءتنا: قال ابن حزم: لم أرَ لإبليس أصْيَدَ، ولا أقبح، ولا أحمق من كلمتين ألقاها على ألسنة دعاته، إحداهما: اعتذار من أساء بأن فلانًا أساء قبله. والثانية: استسهال الإنسان أن يسيء اليوم؛ لأنه قد أساء أمس، أو أن يسيء في وجه ما؛ لأنه قد أساء في غيره. فقد صارت هاتان الكلمتان عذرًا مسهلتين للشر، ومُدْخِلَتين له في حد ما يعرف، ويحمل، (1) ولا ينكر. (2)   (1) يحمل هكذا في الأصل، ولعلها: يَجْمُل (2) . الأخلاق والسير ص31 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 و - الاطلاع على الجديد والمفيد فيما يخدم التربية والتعليم : فذلك مما ينمي المهارة، ويعين على الارتقاء بالمستوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ومما يعين على رحابة الصدر وقوة الاحتمال ما يلي: أ - سعة الأفق : فيحسن بالمعلم أن يكون ذا أفق واسع؛ فذلك من أسباب سعادته، وأدائه لمهمته كما ينبغي؛ ذلك أن الخطأ والقصور ملازم للطالب قلما ينفك عنه، وبخاصة في هذا الوقت، وحين يدرك المعلم ذلك يضع الأخطاء في حجمها الطبيعي. ولا يتسنى للمعلم أن يعمل ذلك إلا إذا كان واسع الأفق. أما ضيقُ الأفق فجبان رعديد، يخاف الأمور الصغيرة، ويشتد فزعه من الحوادث التافهة الحقيرة، ويغضب أشد الغضب للكلمة النابية، ويصل إلى أقصى حد من الغضب للحوادث اليومية التي يكفي لمرورها غض الطرف عنها، ويمكن بقليل من سعة العقل، ورحابة الصدر أن ينظر إليها، ويبتسم من حدوثها. ولكنه يمعن في الألم منها؛ لضيق أفقه، وقلة تحمله. فالذي يؤمل أن يسير الناس كما يشتهي، ويعملوا على وفق ما يريد فخيرٌ له ألا ينتظر طويلًا؛ لأنه قد رام مستحيلًا. ولكن خير من ذلك أن تأخذ الناس كما هم، وأن تتلقى شرورهم، وأعمالهم الصغيرة بصدر رحب، وأفق واسع، ونفس مطمئنة. وبالجملة فمن ضاق صدره، وقلَّ احتماله تنغصت حياته، ولم يصدر عنه خير كثير، أو عمل كبير. (1)   (1) انظر فيض الخاطر 3 / 194، و 5 / 170 -171، 180 والمدرس ص57، والهمة العالية ص80 -81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 قال الرافعي: إذا استقبلت العالم بالنفس الواسعة رأيت حقائق السرور تزيد وتتسع، وحقائق الهموم تصغر وتضيق، وأدركت أن دنياك إذا ضاقت فأنت الضيِّق لا هي. (1)   (1) وحي القلم 1 / 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ب - التغاضي : فالتغاضي من أخلاق الأكابر والعظماء؛ وهو مما يعين المعلم على قوة التحمل ورحابة الصدر؛ وينأى به عن مواضع الغضب، واستثارة الأعصاب؛ فيحسن بالمعلم أن يتغاضى عن كثير من الأمور، خصوصًا مما يحدث من الطلاب؛ فيجمل به أن يضرب صفحًا عن بعض الأمور التي يسعه فيه التغاضي، كما يجمل به ألا يفسر كل ما يحدث من الطلاب على أنه يصدر من منطلق عدواني. قال السموأل: ربَّ شتمٍ سَمِعْتُهُ فَتَصامَمْـ ... تُ وغيٍّ تركته فكفيت (1) وقال المُثَقِّبُ العبدي: وكلامٍ سيءٍ قد وَقَرَتْ ... أُذُني عنه وما بي من صمم فَتَعَزَّيت؛ خشاةً أن يرى ... جاهلٌ أني كما كان زعم ولَبَعْضُ الصفح والإعراض عن ... ذي الخنا أبقى وإن كان ظلم (2) ومما ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب قوله: أُغَمِّضُ عيني عن أمور كثيرة ... وإني على ترك الغموض قدير وما من عمى أغضي ولكن لربما ... تعامى وأغضى المرء وهو بصير وأَسْكُتُ عن أشياءَ لو شئتُ قلتها ... وليس علينا في المقال أمير أصَبِّرُ نفسي باجتهادي وطاقتي ... وإني بأخلاق الجميع خبيرُ (3)   (1) الأصمعيات للأصمعي تحقيق الشيخ أحمد شاكر وعبد السلام هارون ص85. (2) المفضليات للمفضل الضبي. تحقيق الشيخ أحمد شاكر وعبد السلام هارون ص294. (3) ديوان الإمام علي ص106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 جـ - التدرب على تحمل الطلاب في المناقشة : وذلك بأن نتلقى مناقشاتهم بصدر رحب، ولا نقتل آراءهم بالكلمات الجارحة، أو نتعسف في ردها، فندافعها بما نعتقد في أنفسنا أنه غير كافٍ لدفاعها. بل يحسن بنا أن نرجع إلى فهم الطالب إذا كان أقرب للصواب؛ فذلك من أدل الأدلة على فضيلة المعلم وعلو مرتبته، وحسن خلقه، وإخلاصه لله -عز وجل -. وإذا لم نصل إلى هذه الحال فَلْنُعَوِّدْ أنفسنا على ذلك؛ فإن المزاولاتِ تعطي الملكات، والتمرينات ترقي صاحبها لدرج الكمالات. (1) وإنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يَتَحَرَّ الخير يُعْطَه، ومن يتوقَّ الشرَّ يوقه. (2) يقص علينا التاريخ أن في الأساتذة من يحرص على أن يرتقي طلابه في العلم إلى الذروة، ولا يجد في نفسه حرجًا من أن يظهر عليه أحدُهم في بحث أو محاورة. يذكرون أن العلامة أبا عبد الله الشريف التلمساني كان يحمل كلام الطلبة على أحسن وجوهه، ويبرزه في أحسن صوره. ويروى أن أبا عبد الله -هذا - كان قد تجاذب مع أستاذه أبي زيد ابن الإمام الكلامَ في مسألة، وطال البحث اعتراضًا وجوابًا، حتى ظهر أبو عبد الله على أستاذه أبي زيد، فاعترف له الأستاذ بالإصابة، وأنشد مداعبًا:   (1) انظر رسائل الإصلاح 1 / 21، والفتاوى السعدية 450. (2) هذا الحديث أخرجه الخطيب في تاريخه 9 / 127.قال المناوي في فيض القدير 2 / 570: قال الحافظ العراقي: سنده ضعيف انتهى. ولم يبين وجه ضعفه؛ لأن فيه إسماعيل بن مجالد، وليس محمود.وأخرجه الطبراني في الكبير 19 / 95 (929) من حديث معاوية بلفظ: يا أيها الناس، إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيرًا يفقه في الدين، وإنما يخشى الله من عباده العلماء. قال الهيثمي في المجمع 1 / 128: فيه راوٍ لم يُسَمَّ، وعتبة ابن أبي حكيم وثقه أبو حاتم، وأبو زرعة، وابن حبان، وضعفه جماعة.وقال المناوي في فيض القدير 2 / 570: قال ابن حجر: إسناده حسن؛ لأن فيه مبهمًا، اعتضد لمجيئه من وجه آخر، وروى البزار نحوًا من حديث ابن مسعود موقوفًا، ورواه أبو نعيم مرفوعًا. وأخرجه الطبراني في الأوسط 3 / 320 (2684) وأبو نعيم في الحلية 5 / 174، والخطيب في تاريخه 5 / 201 من حديث أبي الدرداء بلفظ: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتَّقِ الشر يوقَه. ثلاث من كن فيه لم يسكن الدرجات العلا -ولا أقول لكم الجنة - من تَكَهَّن، أو تُكُهِّن له، أو استسقم، أو ردّه من سفرٍ تطيُّرٌ.وقال الطبراني: لم يروِ هذا الحديث عن سفيان إلا محمد بن الحسن. وقال أبو نعيم: غريب من حديث الثوري عن عبد الملك تفرد به محمد بن الحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني (1) والذي يقرأ مثل هذه السير تهتز في نفسه عاطفةُ احترام لمن أقر بالخطأ، أو اعترف لخصمه بخصلة حمد، وربما كان إكبارهم لمن أقر بالخطأ فوق إكبارهم لمن خالفه فأصاب. وسبب هذا الإكبار عظمة الإنصاف، وعزة من يأخذ نفسه بها في كل حال.   (1) انظر رسائل الإصلاح 1 / 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 د - أن نضع أنفسنا موضع طلابنا : فهذا يدعو لالتماس المعاذير، والكف عن إنفاذ الغضب، والبعد عن إساءة الظن. فإذا وضعنا أنفسنا موضع طلابنا وجدنا ما يسوغ بعض أخطائهم، فَنُقْصِر بذلك عن الجهل، ونحتفظ بهدوئنا؛ فيوم كنا طلابًا ماذا يدور في خلدنا؟ ومن المعلم الذي يغدو في معاملته بألبابنا؟ إنه ذلك الذي يعذرنا، ولا يسيء الظن كثيرًا بنا. قال ابن المقفع: أعدل السير أن تقيس الناس بنفسك؛ فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك. (1) وقال ابن حزم: من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه؛ فإنه يلوح له وجه تعسفه. (2) قال الخطابي: ارض للناس جميعًا ... مثل ما ترضى لنفسك إنما الناس جميعًا ... كلهم أبناء جنسك فلهم نفسٌ كنفسك ... ولهم حسٌّ كحسك (3) هذه بعض الأمور المعينة على رحابة الصدر، وقوة الاحتمال؛ فإذا أخذ بها المعلم دل ذلك على علو قدره، ونباوة محله، وصار من الموصوفين بالحلم والعلم، ومن اتصف بهذين الوصفين حاز من العلياء كل مكان. كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بهذه الكلمات: الحلم والعلم خَلَّتا كرمٍ ... للمرء زينٌ إذا هما اجتمعا صنوان لا يستتم حُسْنُهما ... إلا بجمعٍ بذا وذاك معا   (1) الأدب الصغير والأدب الكبير ص73. (2) الأخلاق والسير ص80. (3) أقوال مأثورة ص456. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 كم من وضيع سما به الحلمُ والـ ... علم فحاز السناء وارتفعا ومن رفيع البنا أضاعهما ... أخمله ما أضاع فاتضعا (1)   (1) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الخائف الخاشع للملاء، تحقيق د. محمد البورنو 2 / 594. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ومما يحسن تنبيه المعلمين عليه في هذا الشأن أن يتجنبوا ما يلي: أ - التأخر عن الدرس بلا مسوغ: فذلك ينتج عنه الإخلال بالأمانة، وترك الطلاب فوضى بلا رقيب ولا حسيب. كما ينتج عنه إضاعة الدرس، وحرمان الطلاب من الفائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ب - الغياب بلا عذر: فلا يجوز أن يغيب بلا عذر؛ لأن في ذلك تفريطًا وإخلالًا، كما أن فيه إحراجًا للزملاء، وإثقالًا عليهم بحمل حصص الانتظار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 جـ -شغل الدرس بما لا ينفع: وذلك كأن يتشعب المعلم في أحاديث لا طائل تحتها، ولا فائدة ترجى من ورائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 د - قلة الاستفادة من الاجتماعات: فالمعلمون كثيرًا ما يجتمعون، ويلتقي بعضهم ببعض، واللائق بهم أن يكون اجتماعهم غنيمة يتعلم فيها بعضهم من بعض، ويتطارحون المسائل العلمية النافعة، ويتحدثون عن مشكلات الطلاب وحلولها، ومحاولة الارتقاء بالطلاب إلى الأكمل والأمثل، أو ما شاكل ذلك مما ينبغي لهم أن يأخذوا به؛ فهذا هو اللائق بهم، والمؤمل فيهم؛ إذ لا يليق بهم أن تضيع أوقاتهم سدى، فضلًا عن أن تضيع بالقيل والقال، والاشتغال بالناس؛ فذلك مما يَذْهَبُ ببهجة العلم ونوره. بل يجمل بهم أن يترفعوا عن الاسترسال في أمور الحياة العامة، كالإغراق في الحديث عن النساء، وأخبار المتزوجين، أو الحديث عن الأطعمة، وألوانها. قال الأحنف بن قيس: جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام؛ إني أبغض الرجل يكون وصَّافًا لفرجه وبطنه. (1) وقال الشيخ محمد الخضر حسين: وإنه ليعظم في عينك الرجل بادئ الرأي، حتى تحسبه واحدًا من رجال الأمة؛ فما يروعك إلا وقد أخذ يسوق إليك حديث الأطعمة، ويُشَخِّص لك هيئاتها يحللها تحليلًا كيماويًا، ثم يطبخها بلسانه مرة أخرى. وإن لِفِقْهِ النفس أثرًا عظيمًا في تعديل المخاطبات وتحسين العادات. (2)   (1) سير أعلا م النبلاء للذهبي 4 / 94. (2) السعادة العظمى ص270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 هـ - تأجيل الأعمال عن وقتها الحاضر : إما هروبًا منها، أو تكاسلًا في أدائها، فهذا لا يحسن بالمعلم؛ فالعمل الذي يؤجل قلَّ أن يُعْمل، وإذا عُمِل فقلَّ أن يُعْمل بإتقان كما لو كان في وقته، وإذا عمل في غير وقته ولو بإتقان أثَّر -في الغالب - على أعمال أخرى. فينبغي للمعلم أن يحزم أمره، وأن يؤدي عمله بكل جد، وأن يغتنم كل فرصة ولو قلَّت؛ ليعمل بها ما تيسر ولو كان قليلًا؛ فذلك مما يبعث نشاطه، ويريحه من تراكم الأعمال. قال ابن المقفع: إذا تراكمت عليك الأعمال فلا تلتمس الرَّوْح بالروغان منها؛ فإنه لا راحة لك إلا في إصدارها. وإن الصبر عليها هو الذي يخففها عنك، والضجر هو الذي يراكمها عليك. (1) وقال ابن حزم: لا تحقر شيئًا من عمل غدٍ أن تحققه بأن تعجله اليوم وإن قلَّ؛ فإن قليل الأعمال يجتمع كثيرها، وربما أعجز أمرها عند ذلك فيبطل الكل. (2) ولقد أحسن من قال: احرص على النفع الأهمْـ ... مِ من الدقيقهْ إن تَنْسَها تنسَ الأهمْـ ... مَ بل الحقيقهْ (3)   (1) الأدب الصغير والأدب الكبير ص152. (2) الأخلاق والسير ص27 -28. (3) الحديقة لمحب الدين الخطيب 2 / 123، وانظر تفصيل الحديث عن الوقت والمحافظة عليه في الهمة العالية للكاتب ص241 -254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 24 - حسن المنطق : فحسن المنطق، وروعة البيان من مظاهر المروءة الصادقة، ومن أعظم الأسباب الداعية لقبول الحق. ولهذا قيل: كلما كان اللسان أبين كان أحمد. (1) بل لقد ذكر الله -تبارك وتعالى - جميل بلائه في تعليم البيان، وعظيم نعمته في تقويم اللسان، فقال: {الرَّحْمَنُ} {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن:1 -4) . ومدح القرآن بالبيان والإفصاح، وبحسن التفصيل والإيضاح، وبجودة الإفهام وحكمة الإبلاغ، وسمَّاه فرقانًا، كما سمَّاه قرآنًا. (2) ولهذا يحسن بالمعلم -وأداته الأولى اللسان - أن يهذب ألفاظه، وأن يجمل كلامه؛ ليقع موقعه في القلوب، وليفهم الطلاب عنه ما يريد تبيانه. كل ذلك مشروط بألا يتقصد حوشي الكلام، ولا يتعمد التقعير فيه. وبالجملة فليحرص على تجنب السوقي القريب، والحوشي الغريب؛ حتى يكون كلامه حالًا بين حالين، كما قال بعض الشعراء: عليك بأوساط الأمور؛ فإنها ... نجاةٌ ولا تركب ذلولًا ولا صعبًا (3)   (1) البيان والتبيين للجاحظ 1 / 11. (2) البيان والتبيين 1 / 8. (3) العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده لابن رشيق القيرواني 1 / 199 وانظر البيان والتبيين 1 / 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 قال أبو هلال العسكري: وأجود الكلام ما يكون جزلًا سهلًا، لا ينغلق معناه، ولا يستبهم مغزاه، ولا يكون مكدودًا مستكرهًا، ومتوعرًا متقعِّرًا، ويكون بريئًا من الغثاثة، عاريًا من الرثاثة. والكلام إذا كان لفظه غثًّا، ومعرضه رثًّا -كان مردودًا ولو احتوى على أجلِّ معنًى وأنبله، وأرفعه، وأفضله. (1) نظر معاوية إلى ابن عباس -رضي الله عنهما - فأتبعه بصره ثم قال متمثلًا: إذا قال لم يترك مقالًا لقائل ... مصيب ولم يثنِ اللسان على هُجْرِ يُصَرِّفُ بالقول اللسان إذا انتحى ... وينظر في أعطافه نظر الصقر (2) قال ابن عبد البر: ومن أحسن ما قيل في مدح البلاغة من النظم قول حسان بن ثابت في ابن عباس: صموتٌ إذا ما الصمت زيَّن أهله ... وفتَّاق أبكار الكلام المختَّمِ وعى ما وعى القرآن من كل حكمة ... ونيطت له الآداب باللحم والدمِ (3)   (1) كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري ص67. (2) بهجة المجالس 1 / 58، والتمهيد لابن عبد البر 5 / 179. (3) التمهيد 5 / 178، وانظر أخطاء في أدب المحادثة والمجالسة للكاتب ص99 -103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 25 - الإصغاء للمتحدث والإنصات للسائل : فلا يليق بالمعلم أن يترك الإصغاء لمحدثه -خصوصًا الطالب - سواء بمقاطعته، أو منازعته الحديث، أو بالإشاحة بالوجه عنه، أو إجالة النظر يمنة ويسرة. كل ذلك مما ينافي أدب المحادثة؛ فينبغي للمعلم أن يتجافى عنه؛ فإن إقباله على محدثه دليل على ارتياحه له، وأنسه بحديثه. بل إن المتحدث البارع هو المستمع البارع، وبراعة الاستماع تكون بالأذن، وطرف العين، وحضور القلب، وإشراقة الوجه، وبتحريك الرأس ونحو ذلك. قال ابن عباس -رضي الله عنهما -: لجليسي عليَّ ثلاث: أن أرميه بطرفي إذا أقبل، وأن أوسع له في المجلس إذا جلس، وأن أصغي إليه إذا تحدث. (1) ومما ينبغي للمعلم في هذا الصدد أن ينصت للسائل إذا سأل، قال ابن جماعة في أدب المعلم: أن يلازم الإنصاف في بحثه وخطابه، ويسمع السؤال من مُورده على وجهه وإن كان صغيرًا، ولا يترفع عن سماعه فيحرم الفائدة. (2)   (1) عيون الأخبار لابن قتيبة 1 / 306. (2) تذكرة السامع والمتكلم ص78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ومما يجمل به أن يلاطف العاجز عن الإبانة عن سؤاله، قال ابن جماعة: وإذا عجز السائل عن تقرير ما أورده، أو تحرير العبارة فيه؛ لحياءٍ، أو قصور، ووقع على المعنى -عبر عن مراده، وبين وجه إيراده، ورد على من أورد عليه، ثم يجيب بما عنده، أو يطلب ذلك من غيره، ويتروى فيما يجيب به رده. (1) ومما يجمل به -أيضًا - ألا يجيب إلا بعد أن ينتهي السائل من سؤاله، قال عمر بن عبد العزيز: خصلتان لا تعدمانك من الجاهل: كثرة الالتفات، وسرعة الجواب. (2) أما إذا خشي المعلم أن يكون في إكمال السؤال منافاة للذوق، أو توقع حصول مفسدة خصوصًا إذا كان الطالب ممن لا يبالي بما يقول -فلا على المعلم أن يقاطعه، ويصرفه عن سؤاله.   (1) تذكرة السامع والمتكلم ص78. (2) عيون الأخبار 2 / 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 26 - تدريب الطلاب على أساليب الكلام وآدابه وطرائقه : لأن ذلك مما ينمي عقل الطالب، ويزيده رغبة في الكشف عن حقائق الأمور. كما أن ذلك مما يكسبه الثقة في نفسه، ويورثه الجرأة والشجاعة الأدبية، ويشعره بالسعادة والطمأنينة، والقوة والاعتبار. وذلك مما يعده للبناء والعطاء، ويؤهله لأن يعيش كريمًا، شجاعًا، صريحًا في طرح آرائه. أما التقصير في ذلك فيورث آثارًا عكسية، ويجر على الطالب أضرارًا قد تؤثر في مستقبله، ومسيرة حياته؛ فقد يعجز عن الكلام، وقد يصاب ببعض عيوب النطق من فأفأة، وتمتمةٍ وغيرها. وقد يصاب بمرض، وقد يعاني من مشكلات، فيزداد مرضه، وتتضاعف مشكلاته؛ بسبب عجزه عن الإبانة عما أصابه. وقد يظلم، أو توجه له تهمة، فيؤخذ بها وهو بريء منها؛ لعجزه عن الدفاع عن نفسه. وقد تضطره الحال لأن يتحدث أمام زملائه، فيعلوه الخجل، ويرى أن الألفاظ لا تسعفه، فيشعر بالنقص، خصوصًا إذا وجد من يسخر به. ولهذا كان حريًّا بالمعلمين أن يعنوا بهذا الجانب، ويرعوه حق رعايته، فيحسن بهم إذا خاطبهم الطلاب أن يقبلوا عليهم، وأن يصغوا إلى حديثهم، وأن يجيبوا عن أسئلتهم، وأن ينأوا عن كل ما يشعر باحتقار الطلاب وازدرائهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 27 - الترسل في الكلام، والتوسط في رفع الصوت وخفضه: قال ابن جماعة: ولا يسرد الكلام سردًا، بل يرتله، ويرتبه، ويتمهل فيه؛ ليفكر فيه هو وسامعه. (1) وقال: ألا يرفع صوته زائدًا على قدر الحاجة، ولا يخفضه خفضًا لا يحصل معه كمال الفائدة. (2) وقال: والأولى ألا يجاوز صوته مجلسه، ولا يقصر عن سماع الحاضرين؛ فإن حضر فيهم ثقيل السمع فلا بأس بعلو صوته بقدر ما يسمعه. (3)   (1) تذكرة السامع والمتكلم ص75. (2) تذكرة السامع والمتكلم ص64. (3) تذكرة السامع والمتكلم ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 28 - تجنب تكرار الحديث بلا داع : فتكرار الحديث، أو القصة بلا داع لذلك يعد من عيوب الكلام؛ لأنه مما يورث الملالة، ويولد السآمة، مما يجعل الأذواق تمجه، والآذان تستك من سماعه. كذلك لا يحسن بالمعلم أن يردد بعض العبارات بصورة كثيرة؛ فربما أخذها الطلاب عليه، وسموه بها. قال الحكيم: إذا تحدثت في قوم لتؤنسهم ... من الحديث بما يمضي وما يأتي فلا تكرر حديثًا إن طبعهم ... موكَّلٌ بمعاداة المعادات (1) واستعيد ابن عباس حديثًا فقال: لولا أني أخاف أن أغض من بهائه، وأريق من مائه، وأُخْلِقَ من جِدَّته -لأعَدْتُه. (2) أما إذا دعت الحاجة لتكرار الحديث فلا بأس في ذلك.   (1) إصلاح المجتمع للبيحاني ص360. (2) زهر الآداب للحصري 1 / 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 29 - الحذر من إحراج الطالب في السؤال : فسؤال المعلم طلابه عما يعنيهم بعيدًا عما يوقعهم في الحرج - حسن مطلوب، بل هو من مقومات الدرس. ولكن ينبغي للمعلم ألا يحرج الطالب بالأسئلة، كأن يسأله عن أمر خاص، لا يود أن يطلع عليه أحد من الناس، أو أن يسأله عن أمور يُخشى أن تكون الإجابة عنها محرجةً للمعلم؛ فلربما عَرَّض المعلم نفسه لموقف محرج، أو لرد مسكت مُوبِّخ. قال -تعالى -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) . قال ابن عبد البر: قال تميم بن نصر بن سيار لأعرابي: هل أصابتك تخمة؟ قال: أما من طعامك فلا. (1) وكان الفرزدق مرة ينشد، والكميت صبي، فأجاد الاستماع إليه. فقال: يا بني، أَيَسُرُّك أني أبوك؟ قال: أما أبي فلا أرى به بدلًا، ولكن يسرني أنك أمي، فأفحمه حتى غص بريقه. (2) قال الحكيم: ودعِ السؤال عن الأمور وبحثها ... فلربَّ حافرِ حفرةٍ هو يصرع (3)   (1) أدب المجالسة وحمد اللسان لابن عبد البر ص101. (2) العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده 2 / 78 -79. (3) عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة لعلي بن عبد الرحمن بن هذيل ص277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 30 - صيانة الدرس عن اللغط، وتجنبيه البذيء من الألفاظ: فالمروءة تقتضي أن يصون المعلم درسه من اللغط؛ فإن الغلط تحت اللغط. (1) والمروءة تأمر صاحبها أن ينزه لسانه من الفحش، وأن يطهره من البذاءة، وأن يجله من ذكر العورات؛ فإن من سوء الأدب أن تفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئ بمواقعها وآثارها. والمروءة -كذلك - تحفظ لسان صاحبها من أن يلفظ مثلما يلفظ أهل الخلاعة من سفه القول: وحذارِ من سفه يشينك وصفُه ... إن السفاه بذي المروءة زاري وعظماء الرجال يلتزمون في أحوالهم جميعًا ألا تبدر منهم كلمة نابية، ويتحرجون من صنوف الخلق أن يكونوا سفهاء أو متطاولين. (2) قال الإمام النووي: ومما ينهى عنه الفحشُ، وبذاءةُ اللسان. والأحاديث الصحيحة فيه كثيرة ومعروفة. ومعناه: التعبير عن الأمور المستقبحة بعبارة صريحة، وإن كانت صحيحة، والمتكلم بها صادقًا. وينبغي أن يستعمل في ذلك الكناياتُ، ويعبر عنها بعبارة جميلة يفهم بها الغرض. وبهذا جاء القرآن العزيز، والسنن الصحيحة المكرمة. قال -تعالى -: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (البقرة: 187) .   (1) انظر تذكرة السامع والمتكلم ص75. (2) انظر أخطاء في أدب المحادثة والمجالسة ص95 -99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وقال -تعالى -: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (النساء: 21) . وقال -تعالى -: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (البقرة: 237) . والآيات والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة. قال العلماء: فينبغي أن يستعمل في هذا وما أشبهه من العبارات التي يستحيا من ذكرها بصريح اسمها -الكنايات المفهمة، فَيُكَنِّي عن جماع المرأة بالإفضاء، والدخول والمعاشرة، والوقاع، ونحوها. (1) قال: وكذلك يُكَنَّى عن البول، والتغوط بقضاء الحاجة، والذهاب إلى الخلاء، ولا يصرح بالخراءة، والبول، ونحوهما. وكذلك ذكر العيوب كالبرص، والبخر، والصنان، وغيرها -يعبر عنها بعبارات جميلة، يفهم منها الغرض. ويلحق بما ذكر من الأمثلة ما سواه. (2) قال القاسمي: إياك وما يستقبح من الكلام؛ فإنه يُنَفِّر عنك الكرام، ويؤثب عليك اللئام. وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ": «ليس المؤمن بالطَّعان، ولا اللعان، ولا الفاحش البذيء» (3) ومما يدخل في ذلك ما كان مستنكر الظاهر، وإن كان معناه سليمًا بعد تدقيق النظر فيه.   (1) الأذكار للنووي ص234. (2) الأذكار للنووي ص234. (3) أخرجه أحمد 1 / 404، والترمذي (1977) ، والبخاري في الأدب المفرد (232) ، والبغوي في شرح السنة (355) ، وابن أبي شيبة 11 / 18 كلهم عن ابن مسعود. وقال الترمذي: حسن غريب، وصححه الشيخ أحمد شاكر في شرحه للمسند (3839) ، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (237) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 قال الماوردي: وما يجري مجرى فحش القول وهُجره، ولزوم تنكبه -ما كان شنيع البديهة، مستنكر الظاهر، وإن كان عقب التأمل سليمًا، وبعد الكشف والرويَّة مستقيمًا. (1) ثم ساق أمثلة لذلك. ومما تجدر الإشارة إليه أنه لا ينبغي التصريح بالعبارات المستكرهة صراحةً ما لم تدع حاجةٌ -كما مر -. أما إذا دعت الحاجة للتصريح بصريح الاسم فلا بأس بذلك، بل هو المتعين. قال النووي بعد أن تحدث عن أنه ينبغي تجنب الفحش وبذاءة اللسان: واعلم أن هذا كله إذا لم تدعُ حاجةٌ إلى التصريح بصريح اسمه؛ فإن دعت الحاجة لغرض البيان والتعليم، وخيف أن المخاطب يفهم المجاز، أو يفهم غير المراد -صرح حينئذٍ باسمه الصريح؛ ليحصل الإفهام الحقيقي. وعلى هذا يحمل ما جاء في الأحاديث من التصريح بمثل هذا؛ فإن ذلك محمول على الحاجة كما ذكرنا؛ فإن تحصيل الإفهام في هذا أولى من مراعاة مجرد الأدب وبالله التوفيق. (2)   (1) أدب الدنيا والدين ص284. (2) الأذكار ص234 -235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 31 - لا تتحدث عن نفسك إلا إذا دعت الحاجة : فمن آفات المعلمين أن منهم من يجعل الدرس ميدانًا لسرد سيرته الذاتية بمناسبة أو بغير مناسبة، وربما سايره الطلاب وجاملوه، فظن أن ذلك دليلُ فضله، وآية إعجابهم بشخصه. فلا تحفل -أيها المعلم المفضال - بالحديث عن نفسك، واجعل أعمالك تتحدث عنك؛ فذلك أبلغ وأكرم. ثم إن كان عندك من فضل فثق بأن الله سينشره، ولن تُظلم فتيلًا. يخفي محاسنه والله يظهرها ... إن الجميل إذا أخفيته ظهرا ثم إن الأصل في مدح الإنسان نفسه المنع؛ لقوله -عز وجل -: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} (النجم: 32) . وتزكية النفس داخلة في باب الافتخار غالبًا. فإن وجد ما يقتضي الحديث عن النفس أو تزكيتها -إما لتعريف الإنسان بنفسه، وإما لدفع تهمة، أو لتوضيح أمر مبهم، أو كان المرء بين قوم لا يعرفون مقامه؛ فخشي أن تُصْدَع قناة عزته، أو نحو ذلك -فإن الحديث عن النفس أو تزكيتها -والحالة هذه - جائز لا غبار عليه. قال النووي: واعلم أن ذكر محاسن نفسه ضربان: مذموم، ومحبوب. فالمذموم أن يذكر للافتخار، وإظهار الارتفاع، والتميز على الأقران، وشبه ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 والمحبوب أن يكون فيه مصلحة دينية، وذلك بأن يكون آمرًا بالمعروف، أو ناهيًا عن منكرٍ، أو ناصحًا بمصلحة، أو معلمًا أو مؤدبًا، أو واعظًا، أو مذكرًا، أو مصلحًا بين اثنين، أو يدفع عن نفسه شرًّا، أو نحو ذلك، فيذكر محاسنه، ناويًا بذلك أن يكون هذا أقرب إلى قبول قوله، واعتماد ما يذكره، وقد جاء لهذا المعنى ما لا يحصى من النصوص. (1) ثم ساق أمثلة لذلك. (2) قال ابن المقفع: وإن آنست من نفسك فضلًا فَتحرَّجْ من أن تذكره، أو تبديه، واعلم أن ظهوره منك بذلك الوجه يقرر لك في قلوب الناس من العيب أكثر مما يقرر لك من الفضل. واعلم أنك إن صبرت ولم تعجل ظهر ذلك منك بالوجه الجميل المعروف عند الناس. ولا يخفين عليك أن حرص الرجل على إظهار ما عنده، وقلة وقاره في ذلك -باب من أبواب البخل واللؤم، وأن خير الأعوان على ذلك السخاءُ والتكرم. (3) قال ابن حزم: إياك والامتداحَ؛ فإن كل من يسمعك لا يصدقك وإن كنت صادقًا، بل يجعل ما سمع منك من ذلك أول معايبك. (4)   (1) الأذكار ص246 -247. (2) الأذكار ص247. (3) الأدب الصغير والأدب الكبير ص135. (4) الأخلاق والسير ص77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 هذا وإن مما يعين على السرور والسعادة، وتحمل الهموم زيادة على ما مضى ما يلي: أ - التدرب على البشر والطلاقة وتجنب العبوس والتقطيب : فعن سعيد بن عبد الطائي قال: كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بهذه الأبيات: القَ بالبشر من لقيت من النا ... س جميعًا ولاقِهِمْ بالطلاقهْ تَجْنِ منهم به جناءَ ثمارٍ ... طيِّبًا طعمه لذيذ المذاقهْ ودعِ التِّيْهَ والعبوسَ عن النا ... س فإن العبوس رأس الحماقهْ كلما شئتَ أن تعادي عاديـ ... ـت صديقًا وقد تعز الصداقهْ (1) وقال أبو جعفر المنصور: إن أحببت أن يكثر الثناء الجميل عليك من الناس بغير نائل -فالقهم ببشر حسن. (2) وقيل للعتابي: إنك تلقى الناس كلهم بالبشر! قال: دفع ضغينة بأيسر مؤونة، واكتساب إخوان بأيسر مبذول. (3) وقال محمد بن حازم: وما اكتسب المحامد حامدوها ... بمثل البشر والوجه الطليق (4) وقال آخر: البشر يكسب أهله ... صدق المودة والمحبهْ والتيه يستدعي لصا ... حبه المذمة والمسبهْ (5) قال ابن عقيل الحنبلي: البشر مؤنس للعقول، ومن دواعي القبول، والعبوس ضده. (6)   (1) الكتاب الجامع 2 / 594. (2) عين الأدب والسياسة ص154. (3) بهجة المجالس 2 / 665. (4) بهجة المجالس 2 / 298. (5) عين الأدب والسياسة ص153. (6) الفنون لابن عقيل 2 / 635. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ب - استحضار الأجر المترتب على التبسم : فالإنسان إذ تبسم أدخل السرور على إخوانه، وبذلك ينال الأجر من الله -عز وجل -. قال النبي ": «تبسمك في وجه أخيك صدقة» . (1) وقال: لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق. (2)   (1) أخرجه الترمذي (956) وقال: هذا حديث حسن غريب وصححه الألباني في الصحيحة (272) وصحيح الجامع (2905) . (2) رواه مسلم (2626) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ج - أن تستحضر أن التبسم للحياة دليل على الحزم وقوة العزيمة : ولهذا إذا أراد الأدباء أن يبالغوا في الثناء على الممدوح، ويبينوا عظم همته واستسهاله للصعاب -وصفوه بأنه يتبسم في أحلك المواقف وأشدها خطرًا. قال أبو الطيب المتنبي يمدح سيف الدولة: تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ... ووجهك وضاح وثغرك باسم (1)   (1) ديوان المتنبي بشرح العكبري 2 / 387. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 د - طرد الهم ومحاربة الكآبة : فالاستسلام للحزن، والاسترسال مع الهم، والخوف الشديد من توقع المكروه، والإفراط في تقدير الآلام -مما يضعف القلب، ويقلل الإنتاج، ويضاعف الآلام؛ فحارب الكآبة من نفسك، وادرأ الهم ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، وابتسم للحياة، وابتهج بها من غير إسراف تزدد حياتك قوة، وتشعر بالسرور والسعادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 هـ - ألا نزهد بالسعادة الحاضرة في سبيل السعادة المنتظرة : فنحن -معاشر المعلمين - إذا كنا في أيام الدراسة أمَّلنا بمجيء الإجازة؛ لنسعد بها، وإذا حلت الإجازة تذكرنا الدراسة، وقلنا ستأتي ومعها الهم والنصب. وهكذا نُفَرِّط بالسعادة دائمًا، وربما ينطبق علينا قول القائل: أشدُّ الغمِّ عندي في سرور ... تَيَقَّنَ عنه صاحبه انتقالًا (1) وقول الآخر: أُحِبُّ ليالي الهجر لا فرحًا بها ... عسى الدهرُ يأتي بعدها بوصال وأكره أيامَ الوصال؛ لأنني ... أرى كلَّ وصلٍ محكمًا بزوال وكان حريًا بنا بدلًا من ذلك أن نسعد ما دامت أسباب السعادة موجودة، وأن نسعى في إيجادها إذا لم توجد، فنسعد في يومنا وفي غدنا، وبعد غدنا بإذن الله. قال المنفلوطي: السبب في شقاء الإنسان أنه دائمًا يزهد في سعادة يومه، ويلهو عنها بما يتطلع إليه من سعادة غده، فإذا جاء غدُه اعتقد أن أمْسَهُ كان خيرًا من يومه؛ فهو لا ينفك شقيًا في حاضره وماضيه. (2)   (1) البيت للمتنبي انظر ديوانه بشرح العكبري 3 / 224. (2) الحديقة 6 / 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 33 - لا تُجارِ السفهاء: فقد يوجد من الطلاب من يؤذي بلحن منطقه، ولا يعينه الدرس بقليل ولا كثير؛ فلربما استثار المعلم، وآذاه بسفالته وسفاهته. ولهذا كان من الحكمة أن يُعرض المعلم عن هؤلاء وأمثالهم، فلا يجاريهم ولا يمازحهم، ولا يتحدث معهم إلا بقدر ما تدعو إليه الحاجة من سلام، أو رده، أو إجابة لسؤال أو نحو ذلك. وبهذا يحفظ المعلم على نفسه عزتها؛ إذ يرفعها عن الطائفة التي تلذ المهاترة والإقذاع. والعرب تقول: إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر. (1) وقال بعض الحكماء: لا ترجعنَّ إلى السفيه خطابة ... إلا جوابَ تحيةٍ حَيَّاكها فمتى تحرِّكْه تحركْ جيفةً ... تزداد نَتْنًا إن أردت حراكها (2) ثم إذا ابتليت بسفيه يبتدرك بالسفه فلا تجارهِ في سفه، بل أعرض عنه، وترفع عن سبابه؛ فذلك من شرف النفس، ومما يقطع دابر السفه. قال بعض الشعراء: إني لاُعْرضُ عن أشياءَ أسمعها ... حتى يقولَ أناسُ إن بي حُمُقَا أخشى جوابَ سفيهٍ لا خلاق له ... فَسْلٍ وظنَّ أناسٍ أنه صدقا (3) قال ابن المقفع: واعلم أنك ستبتلى من أقوام بسفهٍ سيطلع منك حقدًا، فإن عارضته أو كافأته بالسفه فكأنك رضيت ما أتى به، فأحببت أن تحتذي على أمثاله.   (1) الأمثال لأبي عبيد ص159. (2) الحلم لابن أبي الدنيا ص32. (3) عيون الأخبار 1 / 284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فإن كان ذلك عندك مذمومًا فَحقِّقْ ذمك إياه بترك معارضته. فأما أن تذمه، وتمتثله فليس في ذلك سداد. (1) وقال: غير أني قد علمت موطنا واحدا إن قدرت أن تتقبل فيه الجد بالهزل أصبت الرأي، وظهرت على الأقران. وذلك أن يتوردك (2) مَتَوَرَّدٌ بالسفه والغضب، وسوء اللفظ - تجيبه إجابة الهازل المداعب برحب (3) الذرع، وطلاقة من الوجه، وثبات من المنطق. (4) ولا يعني ذلك أن تدع الطالب دون علاج أو عقوبة، وإنما تحرص على ألا يتسفه عليك أمام الطلاب. وإلا فإنه يعالج ويعاقب، إما بالمناصحة الفردية، وإما باستدعائه خارج الفصل، وإما بالتفاهم في شأنه مع الإدارة أو المشرفين، وإما مع ولي أمره، أو ماشاكل ذلك من أنواع العلاج. بل لقد تقتضي الحكمة أن تجازيه في الفصل أمام زملائه إن ظننت أن ذلك سيردعه، ولم تخش مفسدة كبرى تحصل من جراء ذلك. قال الخطابي: أنشدني ابن مالك، قال: أنشدني الدغولي في سياسة العامة: إذا أمن الجهالُ جهلَك مرة ... فعِرضك للجهال غُنْمٌ من الغُنم وإن أنت نازيت السفيه إذا نزا ... فأنت سفيهٌ مثله غيرُ ذي حِلم ولا تتعرضْ للسفيه ودارِه ... بمنزلة بين العداوة والسِّلم فيخشاك تاراتٍ ويرجوك مرةً ... وتأخذ فيما بين ذلك بالحزم   (1) الأدب الصغير والأدب الكبير ص155. (2) يتوردك: يعني يحملك على أن تغتاظ وتغضب؛ لتتخلى عن اتزانك (3) رحب الذرع: سعة العلم، وقوة التبصر (4) . الأدب الصغير والأدب الكبير ص33 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 (1)   (1) العزلة للخطابي ص206 -207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 34 - لا تكثر العتاب والانتقاد : فلا يحسن بالمعلم أن يكون كثير العتاب، مبالغًا في تقريع الطلاب، خصوصًا عند الأخطاء اليسيرة أو غير المقصودة؛ لأن الناس يكرهون من يؤنب في غير مواطن التأنيب، وينفرون ممن يبالغ في التوبيخ دون تروٍّ وتؤدة؛ فلربما استبان له بعدُ أن ثمة اجتهادًا صحيحًا، أو أنه مخطئ في عتابه وتأنيبه. ثم إن كثرة التأنيب قد تحرج الطالب، وربما أصيب بخيبة أمل، وفقدٍ للثقة بنفسه، وربما قاده ذلك إلى ترك الدراسة إلى غير رجعة. فعلى المعلم أن يعتدل في توبيخه وعتابه، وألا يوبخ إلا عند الحاجة لذلك. كذلك يحسن بالمعلم ألا يكون كثير الانتقاد، لا ينظر إلا الأخطاء وحدها، دونما نظر إلى الصواب؛ فمن المعلمين من إذا أخطأ زميله أو مسئولة في تصرف ما، أو في علاج مشكلة معينة -أكثر من انتقاده وذمه. وهذا لا يحسن بالمعلم، بل اللائق به أن يلتمس العذر لإخوانه، وأن يضع نفسه موضعهم؛ فماذا سيصنع لو وقع فيما وقعوا فيه؟ ولا يعني ذلك ألا يبدي الملاحظات، أو أن يسعى في إصلاح الأخطاء. وإنما يعني أن يكون ذا نظرة متوازنة، وأن يكون واقعيًا في علاجه، ونظرته للآخرين، وأن يكون منصفًا؛ فما أجمل الإنصاف! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 35 - لا تنتظر الشكر إلا من خالقك : لا ريب أن شكر الناس من شكر الله، ولا يشكر الله من لا يشكر الناس. ولا ريب -أيضًا - أن شكر المحسن على إحسانه أمر مطلوب، وأنه مما يزيده إقبالًا على عمله. ولكن قد يحصل في بعض الأحيان أن يُقَابَلَ المحسنُ في عمله، المجدُّ فيما أسند إليه بشيء من جحود الفضل، ونكران الجميل؛ مما قد يضعف عزيمته، ويوهن قواه. فيا أيها المعلم المفضال، إذا مرت بك تلك الحال، فلم تُنْصَفْ، ولم تُعْطَ قدرك، ورد فضلك باليمين وبالشمال -فلا يحملْك ذلك على قلة الإخلاص، وتَرْكِ إتقان العمل. بل انتظر الشكر من خالقك؛ فعملك في كتاب عند ربي، لا يضل ربي ولا ينسى. ثم اعلم أن جمال الشيء فيه لا فيما يقال عنه، أيًّا كان القائلون. قال ابن حزم بعد أن تحدث عن مذاهب الناس في طرد الهم: وجدتُ العمل للآخرة سالمًا من كل عيب، خالصًا من كل كدر مُوصلًا إلى طرد الهم على الحقيقة. ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم، بل يُسَرُّ؛ إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال به عونٌ له على ما يطلب، وزايد في الغرض الذي إياه يقصد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائقٌ لم يهتم؛ إذ ليس مؤاخذًا بذلك؛ فهو غير مؤثر في ما يطلب. ورأيته إن قصد بالأذى سُرَّ، وإن نكبته نكبةٌ سُرَّ، وإن تعب فيما سلك فيه سُرَّ، فهو في سرور أبدًا، وغيره بخلاف ذلك أبدًا؛ فاعلم أنه مطلوب واحد وهو طرد الهم، وليس له إلا طريق واحد وهو العمل لله -تعالى - فما عدا هذا فضلال وسخف. (1)   (1) الأخلاق والسير ص63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 36 - لا تكثر الشكوى : فكثيرًا ما يشكو المعلمون أعباء التدريس، وتَنَكُّرَ الناس، ومكابدة الطلاب، ومرأى دفاتر الواجبات، وما إلى ذلك مما يعاني منه المعلمون. وهذا ما عبر عنه بعض الأدباء من المعلمين؛ فهذا الشاعر إبراهيم طوقان يقول معارضًا أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته التي يقول مطلعها: قم للمعلم وفِّه التبجيلا ... كاد المعلم أن يكون رسولا يقول طوقان معارضًا شوقيًّا، مبينًا حال المعلمين، ومدى ما يعانون: شوقي يقول وما درى بمصيبتي ... (قم للمعلم وفِّه التبجيلا) اقعدْ فديتُك هل يكون مُبَجَّلًا ... من كان للنشء الصغار خليلا ويكاد يقلقني الأمير بقوله ... (كاد المعلم أن يكون رسولا) لو جرب التعليمَ شوقي ساعةً ... لقضى الحياةَ شقاوةً وخمولا حسبُ المعلمِ غمةً وكآبةً ... مرأى الدفاتر بكرةً وأصيلا مائةٌ على مائةٍ إذا هي صُلِّحتْ ... وجد العمى نحو العيون سبيلا ولَو آن في التصليح نفعًا يرتجى ... وأبيك (1) لم أكُ بالعيون بخيلا لكن أصلِّح غلطةً نحويةً ... مثلًا وأتخذ الكتاب دليلا مستشهدًا بالغر من آياته ... أو بالحديث مُفَصلًا تفصيلا وأغوص في الشعر القديم وأنتقي ... ما ليس ملتبسًا ولا مبذولا   (1) قوله وأبيك: لو قال بدلًا عنه: (والله) لا ستقام معناه، كما يستقيم وزنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وأكاد أبعث سيبويه من البلى ... وذويه من أهل القرون الأولى فأرى حمارا بعد ذلك كله ... رفع المضاف إليه والمفعولا لا تعجبوا إن صِحْتُ يومًا صيحةً ... ووقعت ما بين البنوك قتيلا يا من يريد الانتحار وجدته ... إن المعلم لا يعيش طويلا (1) وهذا أخونا الأديب البارع الأستاذ عبد الله بن سليم الرُّشَيد يقول: أروح وأغدو بالدفاتر مثقلًا ... ويا بؤس من يمسي قرينَ الدفاترِ أريق عليها أعيني كلَّ ليلةٍ ... بهمة وقَّادٍ وعزمة صابر وكم وقفةٍ بين التلاميذ قُمتُها ... بلهجة حَضَّاضٍ على الحرب هادر أمزِّق ساعاتي لترقيع وقتهم ... وأهدر عمري بين جد وذاكر وأحسب أني بالتلاميذ مُبدِلٌ ... شيوخًا كبحر باللآلئ زاخرِ فألقاهمُ من بعد شرِّ عصابةٍ ... وإذ بصياحي كان صفقةَ خاسرِ (زواملُ للأشعار لا علم عندهم ... بجيِّدها إلا كعلم الأباعر) والحقيقة أن طريق المعلمين عسيرة، وأن مهمتهم ليست بيسيرة خصوصًا في هذه الأزمان. وإذا شكوا فما حالهم إلا كما قال الأول: شكوتُ وما الشكوى لمثلي عادةٌ ... ولكنْ تفيضُ الكأسُ عند امتلائها   (1) ديوان إبراهيم طوقان ص435 -437. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ولكن مهما يك من شيء فإنه لا ينبغي الإكثار من الشكوى، ولا بثها لكل أحد؛ لأنها -في الغالب - لا تجدي نفعًا، ولا تطفئ لوعة. ولهذا رأى بعض السلف رجلًا يشكو إلى رجل فاقته وضرورته، فقال: يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك. (1) وإذا عرتك بليةٌ فاصبر لها ... صبر الكريم فإنه بك أعلم وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم (2) ثم إن كان هناك من حاجة لبث الشكوى لأحد المخلصين، أو لمن يهمهم الأمر؛ طلبًا للنصيحة، أو المشورة، أو إصلاح الوضع وتيسير المهمة -فلا بأس. وإلا فلماذا نثير انتباه الذين لا يعنيهم أمرنا، ولا ننتظر منهم أي فائدة لنا؛ فنفضح بذلك أنفسنا، ونُبِيْن عن ضعفنا وخورنا في سبيل الحصول على شفقة، أو عطف ليس له من نتيجة سوى ازدياد الحسرة، وتفاقم المصيبة. (3) فيا معاشر المعلمين، أولى لنا ثم أولى أن نَجِدَّ في أمورنا، وأن نأخذ بالأسباب المعينة لنا على أداء أعمالنا؛ فذلك أنفع من الشكوى التي قد تزري بنا، ولا تنفعنا. ثم إنكم -معاشر المعلمين - رجال، ومتى رغب الرجال في راحة البال؟ وإنكم لأسُودٌ، ومتى عاش الأسَد على التدليل، وهو يشعر أن التدليل تذليل؟ (4)   (1) الفوائد لابن القيم ص131. (2) مدارج السالكين 2 / 160. (3) انظر السعادة العظمى ص179، وطريق النجاح د. بول جاغو، تلخيص د. بهيج شعبان ص87. (4) انظر عيون البصائر ص292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فالراحة الكبرى، والسعادة العظمى إنما تكون بالجد والاجتهاد؛ فأرْوح الناس أتعب الناس، وأتعب الناس أروح الناس: بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها ... تنال إلا على جسر من التعب أما إذا ركنَّا إلى الكسل، وألِفْنا البطالة فلن ندع الشكوى مهما أوتينا من وسائل الراحة؛ ولهذا لا تكاد تجلس إلى أحد من الناس إلا وتسمع منه مُرَّ الشكوى والأنين، وكثرة التوجع من حرقة لاذعة من هذه الحياة. كل من لاقيت يشكو همه ... ليت شعري هذه الدنيا لمن ترى الغنيَّ على ما هو فيه من رفاهية العيش ورغده يشكو كثرة مطالبه، وتعَدُّدَ واجبات الحياة التي تتطلب المزيد؛ فالكماليات عند غيره واجبات عنده، لا مَعْدَى عنها ولا محيص. وترى الفقير يشكو هو الآخر حاله، ويألم لِحَظِّه في الحياة، وقد يشتد به الألم كلما نظر إلى الأغنياء في الدنيا، وقارن بين حاله وحالهم، ونسي أنه لو قنع بما قسم الله له لكان أغنى الناس. (1) وبالجملة فإن حِمل المعلمين ثقيل، وأمانتهم عظيمة، ونردد مع شوقي قوله: إني لأعذركم وأحسب عبئكم ... من بين أعباء الرجال ثقيلا (2) ونردد معه أيضًا: فَكِلوا إلى الله النجاح وثابروا ... فالله خَيْرٌ كافلًا ووكيلا (3)   (1) انظر مجلة نور الإسلام، العدد4، السنة السادسة ص20. (2) الشوقيات 1 / 183. (3) الشوقيات 1 / 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 37 - الحذر من اليأس : فكثير من معلمينا يبذل النصح، والعلم والتوجيه للطلاب؛ فإذا رأى منهم إعراضًا أو قلة استجابة لنداءات النصح، أو نظر إلى ما غرق فيه بعض أبنائنا من التشبه بالمخالفين في عادات لا تغني من الرقي شيئًا -عدَّ ذلك قضاءً مبرمًا، وتملكه خاطر اليأس، حتى ينتكث من التعرض لأدوائهم ومحاولة إصلاحها. ولكن الذي يعرف علة هذا التسرع، ويكون قد قرأ التاريخ؛ ليعتبر -يرى الأمر أهون من أن يصل بالنفوس إلى التردد في نجاح الدعوة، بَلْهَ اليأس من إصلاحها. فلا ينبغي -معاشر المعلمين - أن ينطلي على فطنتكم المتيقظة زخرف تلك القضية: فسد الزمان ولا دواء له ... فَتُلْصِقُ بألسنتكم لُكْنَة، وتُطْفِئ من عزائمكم تَوَقُّدًا، فتفقدون منها حِدَّةً ونشاطًا. بل ينبغي لكل واحد منا أن يعمل ما في قدره، وأن يكون ذا نظرة واسعة متفائلة، وألا يتعجل النتائج، أو يسمحَ لليأس أن يتسلل إلى رُوْعه؛ فاليأس من أكبر المعوقات، وأشد المثبطات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فإذا لم تظهر نتائج التربية عاجلًا ظهرت آجلًا، وإذا لم يذهب الشر كلُّه خفَّ وقعُهُ، ولم يستطر شرره؛ فالتربية الصحيحة الجادة لا تذهب سدى، وما سطع الإيمان في نفس إلا كانت كالبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه؛ فابذر فيها من الحكمة والموعظة الحسنة ما شئت أن تبذر، فلا تُريك إلا نياتٍ صالحةً، وأعمالًا راضيةً {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (الواقعة: 64) . وكثيرًا ما يستخف الناس بالأمر تلقى له الخطبة، أو تؤلف له المقالة، فإذا تتابع الترغيب فيه أو التحذير منه -ولو مِنَ الناصح الواحد - أخذ الناس يُعْنون بشأنه، ويتداعون إلى العمل به، أو الإقلاع عنه. ولا ندري -معاشر المعلمين - لعل من بين الطلاب مجددًا أو نابغة؛ فالطالب واحد من رجال الأمة، إلا أنه مستتر بثياب الصبا، فلو كشَفَتْ لنا عنه وهو كانٌّ تحتها لربما رأيناه في مصافِّ الرجال القوامين. ولكن جرت سنة الله ألا تتَفَتَّقَ أزرار تلك الأستار إلا بالتربية شيئًا فشيئًا، ولا تؤخذ إلا بالسياسات الجيدة على وجه التدريج. (1) فما علينا إلا أن نبذل الأسباب، وندخل البيوت من الأبواب، ثم بعد ذلك ندع النتائج والتقديرات لرب الأرباب ومسبب الأسباب.   (1) انظر الدعوة إلى الإصلاح لمحمد الخضر حسين ص20، ورسائل الإصلاح 1 / 50، والسعادة العظمى ص321 و 323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وما اقترن العزم الصحيح بالتوكل على من بيده ملكوت كل شيء إلا كانت العاقبة رشدًا وفلاحًا {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159) . وما جمع قوم بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب إلا أحرزوا الكفاية لأن يعيشوا أعزة سعداء. وما بذل أحد جهده، وسعى في الأمور النافعة سعيه، واستعان بالله عليها، وأتاها من أبوابها ومسالكها -إلا وأدرك مقصوده؛ فإن لم يدركه كله أدرك بعضه، وإن لم يدرك منه شيئًا لم يلُم نفسه، ولم يذهب عملُه سدىً خصوصًا إذا ثابر عليه ولم يتضجر. ولا بُعْدَ في خير وفي الله مطمعٌ ... ولا يأسَ مِنْ رَوْحٍ وفي القلب إيمانُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 38 - علو الهمة، وكِبَرُ النفس: ف علو الهمة وكبر النفس خلق عظيم، وغاية نبيلة، تتعشقه النفوس الكريمة، وتهفو إلى التحلي به الفطر القويمة. وعلو الهمة من الأسس الأخلاقية الفاضلة، وإليه يرجع مجموعة من الظواهر الخلقية كالجد في الأمور، والترفع عن الصغائر، وكالطموح إلى المعالي. فمما يحسن بالمعلم أن يكون ذا همة عالية، ونفس كبيرة طَمَّاحة، لا ترضى بالدون، ولا تقنع من الخير بالقليل، ولا تقف في السعي للفضائل عند حد؛ فالقناعة إنما تحصل فيما يقيم الجسم، لا فيما يقيم الأمة، وفي أمور المعاش لا في أمور المعاد. قال يحيى بن معاذ: لو كانت الدنيا تبرًا يفنى، والآخرة خزفًا يبقى -لكان ينبغي للعاقل إيثار الخزف الباقي على التبر الفاني؛ فكيف والدنيا خزف، والآخرة تبرٌ باقٍ؟ . (1) وإن آية الأمة المهيأة للخير ألا تفرغ من مأثرة إلا لتبدأ مأثرة، ولا تنفض أيديها من عمل إلا تضعها في عمل آخر. ثم إن عظيم الهمة لا يشغل باله أمر صغير، ولا يقلق فكره عمل يسير، ولا يضيع وقته في مناقشة السفاسف والمحقرات.   (1) تذكرة السامع والمتكلم ص47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 بل يقوم بجلائل الأعمال التي تَتَعَصَّى على أولي القوة من الرجال، ومع ذلك لا يتبرم ولا يقلق، ولا يشكو كثرة الأعباء، والتبعات، له قلب لا يتعب فيبلغ منزلة إلا ابتدأ التعب؛ ليبلغ منزلة أعلى منها، وله فكر كلما جهد فأدرك حقيقة كانت الحقيقة أن يجهد فيدرك غيرها. (1) على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ ... وتأتي على قدر الكريم المكارم وتكبر في عين الصغير صغارُها ... وتصغر في عين العظيم العظائم (2) ولقد جرت سنة الله ألا ينهض بأصر المقاصد الجليلة، ويرمي إلى الغايات البعيدة -غيرُ النفوس التي عظم حجمها، وكبرت هممها، فلم تتعلق بسفاسف الآمال، ولا محقرات الأعمال. وإذا علمت نفسٌ طاب عنصرها، وشرف وجدانها أن مطمح الهمم إنما هي غاية وحياة وراء حياتها الطبيعية -لم تقف بسعيها عند حد غذاء يقوتها، وكساء يسترها، ومسكن تأوي إليه. بل لا تستفيق جهدها، ولا يطمئن بها قرارُها إلا إذا بلغت مجدًا يصعد بها إلى أن تختلط بكواكب الجوزاء. وإلى هذا المعنى الجميل يشير قول نابغة بني جعدة: بلغنا السماء مجدًا وجودًا وسؤددًا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا (3)   (1) وحي القلم 2 / 83. (2) ديوان المتنبي 3 / 378 -379. (3) جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي ص364. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 نعم يورد هذا الخلق صاحبه موارد التعب والعناء، ولكن التعب في سبيل الوصول إلى النهاية من معالي الأمور يشبه الدواء المر، فيسيغه المريض كما يسيغ الشراب عذبًا زلالًا. تَلَذُّ له المروءةُ وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام (1) فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يُعبر إليها إلا على جسر من المشقة؛ فلا تقطع مسافاتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد. (2) ولذلك لما كان مجد الآخرة أعظم المجد كان ابتغاؤه أعظم الغايات، وكان هو الهمَّ الأكبر للمؤمنين الصادقين ذوي الهمم العلية، والنفوس الكبير ة الزكية. أما الدنيا فإنها -في نظرهم مهما بلغت أمجادها - قليلة القيمة في جنب الآخرة؛ لذلك فهم يحاولون أن يبتغوا فيما آتاهم الله الدارَ الآخرة مع أنهم لا ينسون نصيبهم من الدنيا. فاستصغار متاع الدنيا، وتحقير لذائذها في نفوس الناس يرفعهم عن الاستغراق فيها، ويُكْبِر بهممهم أن يولوا وجوههم شطرها أينما كانوا؛ فلا يكن طموحك -أيها المعلم المفضال - مقتصرًا على مطعم، أو ملبس، أو ترقية، أو زيادة ثم تقف عند هذه الغاية. قال حاتم الطائي: لحى الله صعلوكًا مناهُ وهمُّه ... من العيش أن يلقى لبوسًا ومطعمًا   (1) ديوان المتنبي 4 / 75. (2) مفتاح دار السعادة لابن القيم 1 / 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 يرى الخِمْصَ تعذيبًا وأن يلقَ شبعةً ... يَبِتْ قلبه من قلة الهم مبهما (1) ولا يعني ذلك ترغيب الإنسان ليعيش مجانبًا للزينة، ميت الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق. وإنما يقصد من ذلك حكم أخرى، ومنها تعديل الأنفس الشاردة، وانتزاع ما في طبيعتها من الشَّرَهِ والطمع؛ لئلا يخرجا بها عن قصد السبيل، ويَتَطَوُّحا بها في الاكتساب إلى طرق غير لائقة. كما لا يعني ذلك ألا تحرص على الترقي في سلَّم الوظيفة أو المرتبة العلمية، مما يزداد به علمك، وتعلو به مرتبتك وشرفك، فيكثر بذلك الانتفاع بعلمك، والاستفادة من جاهك. لا، بل إن ذلك حسن مطلوب إذا كان الهدف الأسمى والغاية القصوى -نيل رضا الله، والحرص على نشر العلم، وتربية الأجيال على الخير. وإذا اطلعت على أثر يقتضي البعد عن الوجاهة فإنه مصروف إلى الحرص في طلبها، والتصنع لإحراز سمعة في المجامع الحافلة، والبلاد القاصية. وأما إذا اندفعت همة الرجل إلى المكارم بجاذب ابتغاء الفضيلة، وطفق ذكره يتسع على حسب مساعيه الحميدة -فذلك خير له من العزلة، والاختباء في زوايا الخمول.   (1) ديوان حاتم الطائي ص45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 قال -تعالى - فيما قصه من قول إبراهيم -عليه السلام -: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (الشعراء: 84) . وقال في سياق أقوال لقوم صالحين: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان: 74) . (1) وبعد أن استبان لنا أن كبر الهمة سجية من سجايا الدين التي تصدر عنها الأعمال العظيمة، وتضم تحت جناحيها فضائل شتى -فَلِمَ لا نأخذ بها في أنفسنا؟ ولم لا نعقل عليها نفوس أبنائنا؟ ونرشحهم بلبانها في أدوار التربية الأولى؛ ليستشعروا بالآداب المضيئة، ويتجلببوا بالقوانين العادلة، ولنا حياة طيبة في العاجل، وعطاءٌ غيرُ مجذوذٍ في الآجل؟ (2)   (1) مناهج الشرف ص53 -54. (2) انظر تفصيل ذلك في الهمة العالية للكاتب ص101 -127، وآثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 4 / 102، والسعادة العظمى ص209 -212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وإليك نبذةً من استعمال المداراة في النصيحة. أ - من المداراة في النصيحة أن تثني على الطالب بما فيه إذا قصدت بذلك أن تحمله إلى ما هو أرفع، وأن تقصره عما هو فيه من القبيح. ب - ومن ذلك أن تذكر الطلاب بسالف أمجاد المسلمين؛ حتى تبعثهم إلى اتباعهم، والسير على منوالهم. جـ - ومن ذلك أن تذكر الطالب بسلفه هو، سواء كان أباه، أو جده، إذا كان ذلك السلف ذا فضل وعلم؛ فإن تَرَدُّدَ اسم سلفه الفاضل على سمعه مما يثير همته، ويرهف عزمه لأن يظفر بما ظفر به سلفه من منزلة شامخة، وذكر مجيد. د - ومن المداراة في النصيحة أن تثير في الطلاب نخوتهم وشيمتهم ومروءتهم. هـ - ومن ذلك أن تَعْمَدَ إلى إلقاء النصيحة بين الطلاب؛ فلا تستهل حديثك بمواجهتهم بما يكرهون؛ خشية نفورهم وإعراضهم. وإنما تبتدئ بما يخف عليهم سماعه من المعاني الحائمة حول الغرض، ثم تعبر عن المعنى المراد بلفظ مجمل، ثم تدنو من إيضاحه شيئًا فشيئًا، حتى لا تُفصح عنه إلا وقد ألفته نفوسهم، وهدأت إليه خواطرهم؛ فذلك التدرج من حسن السياسة وجميل المداراة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 و - ومن المداراة بالنصيحة أن تُعَرِّض بالشيء، وأنت تريد غيره، من باب قول العرب في المثل المشهور: إياكِ أعني واسمعي يا جارة. (1) مثال ذلك: أن تتعمد طالبًا بالنصيحة، فتخشى بادرةَ غضبه إن أنت كاشفته بخطئه، فتسلك في نصحه سبلًا أخرى دون أن تثير غضبه، أو تمسَّ كبرياءه، أو أن تخجله؛ لكونك اطلعت على خطئه، فبدلًا من مواجهته مباشرة بإمكانك أن تداريه، وتوصل له ما تريد بعدة طرق لا يشعر معها أنك تريد نصحه. ومن تلك السبل أن تذكر له حالة أخرى مشابهة لحالته، وقد حدثت لشخص آخر وقع فيما وقع فيه صاحبك من خطأ، ثم تخلص إلى ذم ذلك الخطأ، وتقبيحه، والتنفير منه، والتحذير من الوقوع فيه. كأن تقول له: إن أحدًا، أو فلانًا من الناس يتعاطى الدخانَ، والدخان فيه كذا وكذا، ويخشى عليه إن لم يترك الدخان أن يقع له كذا وكذا، ثم تبدأ بذم الدخان، وتقبيحه. ومن تلك السبل أن تستشير الذي وقع في خطأ في كيفية علاج ذلك الخطأ، فتقول له: إن كثيرًا من الطلاب قد وقعوا في بعض الأخطاء، فما رأيكم إن كانوا مجموعة في كيفية علاج ذلك الخطأ، ثم تنفذ من خلال ذلك إلى التحذير من الخطأ.   (1) الأمثال لأبي عبيد ص65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ومن تلك السبل أن تستحث من وقع في خطأ ما على نصح فلان من الناس سواء كان ذلك زميله، أو أخاه الصغير أو غيرهما، فتقول لذاك: انصح أخاك أو زميلك؛ لعله يتقبل منك، ويقلع عن ذلك الأمر، ثم تبين له وجه ذلك الخطأ وسبل علاجه. إلى غير ذلك من الطرق المناسبة التي لا تريد من خلالها سوى لفت نظر منصوحك، وإشعاره بخطئه من طرف خفي. ز - ومن المداراة في النصيحة أن تثني بحضرة المسيء على من فعل خلاف فعله؛ فهذا داعية إلى الإحسان وترك الإساءة. (1) ح - ومن المداراة في النصيحة أن تعرف أن ناسًا بأعيانهم قد وقعوا في مخالفة ما، فترغب في إرشادهم، ولفت أنظارهم إلى خطئهم، فتتحامى ذكرهم بأعيانهم، خشية نفورهم أو إحراجهم، أو إعراضهم فتلجأ إلى التعريض من باب: ما بال أقوام فتشير إلى أن هناك ملاحظةً حول أمر ما، وهي كذا وكذا، أو تقول: إن ناسًا يعملون كذا وكذا وهم مجانبون للصواب، والدليل كذا وكذا. ويومئ إلى هذا الأسلوب ما كان يفعله النبي " عندما يبلغه أن بعض أصحابه قد وقعوا في خطأ ما، فيسلك -عليه الصلاة والسلام - هذا الأسلوب في علاجهم أحيانًا.   (1) انظر الأخلاق والسير ص62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 جاء في صحيح البخاري أن النبي " قال: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة» (1) وقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله» . (2) وقال: «ما بال دعوى الجاهلية» (3) وقال: «ما بال العامل نبعثه، فيأتي فيقول: هذا لك وهذا» ... . (4) وبالجملة فالمدارة خصلة شريفة، يُحْكِمُها الأذكياء، ولا يتعدى حدودَها الفضلاء؛ فهي ترجع إلى ذكاء الشخص وحكمته؛ فهو الذي يراعي في مقدارها وطريقتها ما ينبغي أن يكون.   (1) البخاري 1 / 183. (2) البخاري 1 / 117. (3) البخاري 1 / 60. (4) البخاري 8 / 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 40 - الحزم من غير عسف : فمما ينبغي للمعلم أن يتصف به، ومما يدل على نجاحه في أداء مهمته -أن يكون حازمًا جادًا؛ لأن في الحزم ضبطًا للطلاب، وكبحًا لما عندهم من جماح، كما أن فيه حفظًا للوقت، وإبقاءً لهيبة المعلم والعلم. ومما يعين المعلم على الحزم أن يكون حازمًا مع نفسه. ومن حزمه مع نفسه أن يعد الدرس جيدًا، وأن يلقيه كما ينبغي. فإذا أعد الدرس جيدًا، وألَمَّ بكل شاردة وواردة فيه -كان من أثر ذلك عليه وثوقُ الطلاب بما يقول، وظهور التجديد فيما يعمل، وتنويع الدرس على ما يحب. وإذا ألقى الدرس كما ينبغي -كأن يربطه بالدروس السابقة، ويسيرَ فيه خطوةً خطوة، ثم يلخصه بطريقة الأسئلة -ملأ الوقت على الطلاب، فلم يَعُدْ فيه فراغٌ لعبث عابث، ولا تجني سفيه. وإذا حرك أذهانهم بالتشويق، والتطبيق، والسؤال -لم يصبهم سأم ولا ضيق. ومن هنا يُشغل المعلمُ طلابَه عن أنفسهم وعن نفسه، فلا يفرغون لاصطياد نكتة، ولا لالتماس غميزة؛ إذ ليس أعون للمعلم على حفظ نظام الفصل من ملء الوقت بالمفيد الممتع، ولا أضمن لجودة شرحه، وحسن استماع التلاميذ من فهم الموضوع وجودة إلقائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ومما يعينه على الحزم ألا يسمح لطالب بأن يسيء للفصل أو لأحد من زملائه. ومن ذلك أن يتابعهم في واجباتهم، وأن ينجز الوعد إذا وعد أحدًا من تلاميذه. وبالجملة فالحزم مطلوب، وهو من علامات النجاح، ومن مقومات المروءة، بشرط ألا يصل إلى التسلط والاستبداد، والشدة المفرطة، والصرامة المتعدية لأطوارها؛ لأن تلك الطريقة تفسد الجيل، وتغرس فيه رذائل مهلكة؛ إذ تسلب من الطالب جميع عزائمه وسائر إرادته، وتحمله على الكذب والنفاق، وتغرس فيه الجبن والخور، وتُبَغِّض إليه العلم والقراءة، كما أنها تحول بينه وبين عزة النفس، وما يتبعها من قوة الجأش، وأصالة الرأي، وإرسال كلمة الحق عندما يقتضيها المقام؛ فيكون ألعوبة بين معاشريه كالكرة المطروحة يتلقفونه رجلًا رجلًا، وآلة يستعملونها فيما يشتهون. ولئن كانت الشدة مطلوبةً مع بعض النفوس التي لا يَرُدُّ جماحَها غيرُ الشدة -فإن من النفوس ما لا يأسرها إلا الجميل من القول، ولا يُرَدُّ جماحها إلا بزمام الرفق والملاطفة، وهذا ما سيتبين في الفقرة التالية. (1)   (1) انظر السعادة العظمى ص99، وآثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 3 / 163، وفي أصول الأدب للزيات 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 41 - الرفق من غير ضعف : وكما يحسن الحزم، فكذلك يحسن الرفق واللين، قال النبي -عليه الصلاة والسلام -: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» . (1) وقال: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه. (2) فيجمل بالمعلم أن يكون رفيقًا بطلابه، رحيمًا بهم، مشفقًا عليهم، محسنًا إليهم، صابرًا على بعض ما يصدر من جفائهم وسوء أدبهم. ولا يعني ذلك ترك الحبل على الغارب للطالب، فلا يؤمر ولا ينهى، ولا يؤدب ولا يعاقب؛ بحجة رحمته، والرفق به. لا، ليس الأمر كذلك؛ فترك تأديبه وتوجيهه خطل وخلل، وخرق وجهل، وتفريط وإضرار. وذلك مما ينمي فيه الميوعة، ويقتل منه الرجولة. والحكمة تقتضي أن يكون المعلم حازمًا من غير عسف، ليِّنًا رفيقًا من غير ضعف؛ فالحزم والرفق رضيعا لبان، يجتمعان ولا يتنافيان. وبالجملة فالتربية النافعة ما كانت أثرًا لمحبة يطفئ البأس شيئًا من حرارتها، وصرامة تلطف الشفقة نبذة من شدتها. (3)   (1) رواه البخاري 7 / 80، ومسلم (2165) . (2) رواه مسلم (2594) . (3) السعادة العظمى ص99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 42 - تربية الطلاب على الكمالات : فمن أهم ما تؤدى به رسالة التعليم أن يحرص المعلمون على تربية طلابهم على كريم الخلال وحميد الخصال، مع الحرص الشديد على تجنيبهم ما ينافي ذلك من مساوئ الأخلاق ومرذول الأعمال؛ فإن لذلك الصنيع أبلغ الأثر في نفوس الطلاب؛ فبسببه ينشؤون محبين للفضيلة، متعشقين للبطولة، متصفين بمعالي الأمور ومكارم الأخلاق، مبغضين لسفساف الأمور، نافرين من مساوئ الأخلاق. قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في وصاياه للمعلمين: أنتم حراس هذا الجيل، والمؤتمنون عليه، والقوَّامون على بنائه، وأنتم بناةُ عقوله ونفوسه؛ فابنوا عقوله على أساس من الحقيقة، وابنوا نفوسه على صخرة من الفضائل الإنسانية، وأشربوه عرفان قيمتها؛ فإن من لم يعرف قيمة الثمين أضاعه، وقد غُبِنَتْ هذه القيمُ في عصركم فكان ما ترون من فوضى واختلاط. ربوهم على ما ينفعهم، وينفع الوطن بهم؛ فهم أمانة الوطن عندكم، وودائع الأمة بين أيديكم. ربوهم على التحاب في الخير، والتآخي في الحق، والتعاون على الإحسان، والصبر إلا على الضيم، والإقدام إلا على الشر، والإيثار إلا بالشرف، والتسامح إلا بالكرامة. (1)   (1) عيون البصائر ص299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وقال في موضع آخر: ربوهم على الفضائل، ربوهم على الرجولة وبعد الهمة، وعلى الشجاعة والصبر، وعلى الإنصاف والإيثار، وعلى البساطة واليسر، وعلى العفة والأمانة، وعلى الاستقلال والاعتداد بالنفس، وعلى العزة والكرامة، وعلى التحابب والتسامح. (1) هذا وقد مضى شيء من ذكر تلك الكمالات، وسيأتي مزيد بيان لذلك فيما يلي من وقفات.   (1) آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 3 / 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 43 - تربيتهم على الاعتزاز بالدين : فأجل ما يربى عليه الطلاب أن يربوا على الدين القويم، والعقيدة الصحيحة؛ حتى ينشأوا معتزين بالإسلام لا يرضون به بدلًا، ولا يبغون عنه حِولًا. وإن مما لا يقبل جدلًا ولا حوارًا أن من اتفق له في كِنِّ الصبا، وخِدر الغرارة أن يربى على أدب الشريعة البيضاء، حتى يتعود وتصبح تلك الآداب له ملكة وسليقة -كان هو السعيد الكامل، وما عليه إلا أن يكثر من حمد الله على تلك الموهبة العظيمة، والمنة الجليلة. وإن من تربيتهم على الاعتزاز بالدين أن يقادوا بزمام التربية إلى مواقع العبر من تاريخهم، وإلى مواطن القدوة الصالحة من سلفهم، وإلى منابت العز والمجد من مآثر أجدادهم الأولين. قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: ربوهم على أن يعيشوا بالروح في ذلك الجو المشرق بالإسلام وآدابه وتاريخه ورجاله، ذلك الجو الذي يستوي ماضيه ومستقبله في أنهما طرفا حقٍّ لا يشوبه الباطل، وحاشيتا جديدٍ لا يبليه الزمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وعلى أن يعيشوا بالبدن في الزمن الذي يدين بالقوة، ويُدِلُّ بالبأس، وعلى أن يعيشوا بالروح في ذلك الزمن المشرق العامر بالحق والخير والفضيلة، وعلى أن يلبسوا لبوس عصرهم الذي يبني الحياة على قاعدتين: إن لم تكن آكلًا كنت مأكولًا؛ وكن قويًا تحترم. (1) وإذا وصلت التربية الدينية إلى النفوس من طريقها الصحيح، وقام على التربية معلمون ربانيون مخلصون -رسخت الفضائل في نفوس الطلاب، وقرَّت بها قرار ذات الصدع تحت ذات الرجع، فلا ترى من جرَّاء تلك التربية إلا حياء وعفافًا، وأمانة وصدقًا، واستصغارًا للعظائم، وغيرة على الحقائق والمصالح، وما شئت بعدُ من عزة النفس وكبر الهمة. تلك الخصال التي لا تنبت أصولها، ولا تعلو فروعها إلا أن يتفيأ عليها ظلال الهداية ذات اليمين وذات الشمال.   (1) عيون البصائر ص300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وكم أخرجت مدارس الإسلام، ومجالس القوامين على هدايته من رجال يلاقون الأسود فيصرعونها، ويجارون الرياح فيسبقونها، يخفضون أجنحتهم؛ تواضعًا للمستضعفين، ويرفعون رؤوسهم؛ عزة على الجبارين، تعترضهم الأخطار فيخوضون غمارها، وتعتل عقول أو قلوب فيضعون الدواء موضع عللها، عدل كأنه القسطاس المستقيم، وسخاء كأنه الغيث النافع العميم، وحرص في طلب العلم وإن كان بمناط الثريا، وطموح إلى المعالي وإن انتبذت وراء الفلك الدَّوَّار مكانًا قصيًّا. (1)   (1) انظر رسائل الإصلاح 1 / 6 و42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 44 - تربيتهم على نبذ التقليد الأعمى : لأن من الطلاب من يَكْلَفُ بذلك، وأقبح ما في هذا تقليد الكفار في توافه الأمور، ومساوئ الأخلاق، كتقليدهم في الملبس، وتصفيف الطُّرَرِ، وقص الشعور؛ ظنًا منهم أن هذا الصنيع رقي وتطور. وهذه حقيقة تغيب عن أذهان فئة من الشعوب الآخذة بالنهوض؛ فإذا رأوا أمة ذات معارف وسطوة تهافتوا على محاكاتها من غير تدبر واحتراس. وربما سبقوا إلى ما يعد من سقط متاعها، ومستهجن عاداتها -فصبوا هممهم في تقليدها فيه، فزادوا شعبهم وهنًا على وهن، وكانوا كالعثرات تعترضه فتعوقه عن السير، أو تجعل سيره في الأقل بطيئًا. ومتى كثر في الشعب أمثال هؤلاء الذين لا يميزون في محاكاتهم السيئةَ من الحسنة -فقد الشعب هدايته، وتجرد من أصالته وتميزه. ولا يفلح شعب نكث يده من الدين الحق، ولا يعتز شعب نظر إلى تاريخه وأصالته بازدراء. ولا يقدم على هذه التبعية إلا أمة تدثرت الذلة، وسهل على أفرادها الهوان. وإلا فالأمة العزيزة هي التي تعرف مقدار ما تعطي، ومقدار ما تأخذ، ونوع ما تعطي، ونوع ما تأخذ، فتفرق بين محاكاة الأجنبي المحمودة، ومحاكاته المنبوذة، سالكة طريقًا وسطًا يكفل سعادة الأولى والآخرة. (1)   (1) انظر رسائل الإصلاح 1 / 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: هناك أمم تقدمتكم في العلم والمعرفة والنظام؛ فخذوا من مباديها العبرة، وخذوا من مصايرها العِظَة. وإن عِبْرَةَ العبر لكم فيها أن العلم -وإن تشعَّبَتْ عندها أغصانُه، وتفرعت أفنانه، وأسْلَسَ لها عَصِيُّهُ حتى فتحت به مغلقات الكون -لم يُغْنِ عنها فتيلًا مما تغني الأخلاق والفضائل. (1) إن العلم لم يَنْهَ مفسدًا عن الإفساد، ولم يَزَعْ مجرمًا عن الإجرام، ولم يُمِتْ في نفوس الأقوياء غرائز العدوان والبغي على الضعفاء. بل ما زاد المتجردين من الفضيلة إلا ضراوةً بالبشر، وتفننًا في الإثم؛ فاجعلوا الفضيلة رأس مال نفوس تلامذتكم، واجعلوا العلم ربحًا. (2)   (1) يعني العلم المادي. (2) آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي 3 / 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 45 - تربيتهم على صحة التفكير والحكم على الأشياء : فصحة التفكير والحكمِ على الأشياء، وجودةُ التصورِ والتصديقِ ليست منوطة بموهبة الذكاء. بل هي منوطة بتربية النفس منذ الصغر على حب الخير والحق، والتجرد من الشرور والأهواء، والاهتمام بإدراك الأمور من جميع وجوهها، وإدراك الفروق بين المشتبهات عند التباسها. وإذا تربى الفكر منذ الصغر على صحة التفكير نشأ صاحبه جيد التصور، سديد الحكم، محبًا للحق سواء كان له أو عليه. وإذا كانت الثانية بات الرجل وليس فيه من الرجولية إلا اسمها. (1) قال الشيخ الإبراهيمي في وصيته للمعلمين: بينوا لهم الحقائق، واقرنوا الأشباه بالأشباه، واجمعوا النظائر إلى النظائر، وبينوا لهم العلل والأسباب؛ حتى تنبت في نفوسهم من الصغر مَلَكَةُ التعليل؛ فإن الغفلة عن الأسباب هي إحدى المهلكات لأمتكم، وهي التي جَرَّتْ لها هذه الحيرة المستولية على شواعرها، وهذا التردد الضارب على عزائمها، وهذا الالتباس بين المتضادات في نظرها. امزجوا لهم العلم بالحياة، والحياة بالعلم يأتِ التركيب بعجيبه، ولا تعمروا أوقاتهم كلها بالقواعد ... وإنما القواعد أساس، وإذا أنفقت الأعمار في القواعد فمتى يتم البناء. (2)   (1) انظر الحديقة 6 / 209 -210. (2) عيون البصائر ص300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وقال: ربوهم على استخدام المواهب الفطرية من عقل وفكر وذهن، وعلى صدق التصور، وصحة الإدراك، ودقة الملاحظة، والوقوف عند حدود الواقع. (1)   (1) عيون البصائر ص299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وإن مما يهيئ الطلاب ذوي المواهب لأن يكونوا من العباقرة النابغين ما يلي: أ - إذكاء همم النوابغ ومَنْ تُتَوَسَّمُ فيهم العبقرية: ذلك أن العبقرية تقوم على الذكاء والجد في طلب العلم، ثم على كبر الهمة؛ فمن لم يكن ذكيًا لم يكن حظه من العلم إلا أن يحفظ ما أنتجته قرائح العلماء من قبله، ومن لم يَجِدَّ في طلب العلم، ولم يُغَذَّ بثمرات القرائح المبدعة بقي ذكاؤه مقصورًا محصورًا في دائرة ضيقة، قلا يقوى على أن يحلق في سماء العلوم؛ ليبلغ الغاية السامية. ومن لم تكن همته في العلم كبيرة لم يكفه ذكاؤه، ولا جده في الطلب لأن يكون عبقريًا؛ فقد يكون الرجل ذكيًا مجدًا في التحصيل، وصِغَرُ همته يحجم به أن يوجه ذكاءه على نقد بعض الآراء، أو ابتكار آراء جديدة؛ فإذا تَوَسَّمْتَ في أحد طلابك النبوغ فأكبر بهمته، عسى أن يكون عبقريًا ينفع الأمة، ويكون لك الأجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 روى الذين دونوا ترجمة الإمام الفاتح أسد بن الفرات -أنه لما كان يأخذ العلم عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة كان إذا رأى تلميذه أسد بن الفرات غلب عليه النوم وهو يسهر في تلقي العلم عنه نضح على وجهه رشاشًا من الماء؛ ليجدد نشاطه؛ شفقة عليه، ورغبة منه في أن ينهض إلى مستوى الإمامة في العلم. (1)   (1) في رحاب الأزهر لمحمد الخضر حسين ص93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ب - تقدير النوابغ : فمن مهيئات النبوغ أن يَشِبَّ الألمعيُّ بين قوم يقدرون النوابغ قدرهم؛ فإذا نظر القوم إلى النابغة بعين التَّجِلَّة، وأقبلوا عليه باحتفاء -هفت نفسه لكل فضيلة، ورنت عينه إلى كل بطولة، وزاد قوة على الجد في الطلب، والسعي إلى أقصى درجات الكمال. ولا عجب أن يظهر النابغون ببلاد الأندلس؛ فقد كان أهلها يعظمون من عَظَّمه عِلْمُه، ويرفعون من رفعه أدبه، وكذلك سيرتهم في رجال الحروب يقدمون من قدَّمته شجاعته، وعظمت في الحروب مكايده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 جـ - إعطاء النوابغ فرصة للإبداع وإظهار المواهب : فذلك مما يكسب الاعتبار، والثقة في النفس؛ فهذا الشيخ ابن التلمساني أحد كبار علماء شمال أفريقيا سأله السلطان عن مسألة، فقال: إن تلميذي فلانًا يحسن الجواب عنها، فوجه السلطان السؤال إلى تلميذ ابن التلمساني، فأحسن الجواب، فأجازه، وأحسن منزلته. وكان ابن التلمساني أعلم من تلميذه فيما سأله عنه السلطان، ولكنه؛ لاعتباره تلميذه بمنزلة ولده أراد أن يُنَوِّه به في حضرة السلطان كما لو كان ولده حقًا. (1)   (1) في رحاب الأزهر ص93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 د - مراعاة التوازن في المديح والإطراء : لأن من الطلاب من يزيده المديح إقبالًا وجدًَّا، ومنهم من يبعث فيه المديح تعاليًا وغرورًا وتيهًا، وهذا راجع لحكمة المعلم ومعرفته بطبائع النفوس. قال الشيخ الإبراهيمي في وصاياه للمعلمين: هناك حدود مشتركة بين الضار والنافع في أعمالكم، فتبينوها، ثم اعملوا على قَدْرها، ولا تجاوزا حدًَّا إلى حد، فتضروا من حيث قصدتم النفع؛ فمدح المجتهد من تلامذتكم مُذكٍ للنشاط كما هو مدعاة للغرور. والفصل بينهما رهينُ لفظة مدح مقدرة أو مبالغٍ فيها منكم. ولأنْ تخمدوا نشاطًا خيرٌ من أن تشعلوا غرورًا في نفس التلميذ؛ إن النشاط قد يعاود، ولكن الغرور لا يزايل، وإن الغرور لأعضل داء في عصركم، وإن صنفكم لأكثر الأصناف قابلية لهذا الداء؛ لما فيه من إيهام بالكمال في موضع النقص، وتمويه للتخلف بالتقدم، وتغطية للسيئ بالحسن، وهذه مَحَسَّات الغرور في نفوس المغرورين. والغرائز ضارية، والتجارب فضَّاحةٌ، والصراع بينهما كان وما زال ولا يزال؛ فاحذروا الزلة في هذا المزلق، وحذِّروا تلامذتكم منها بالقول والعمل. (1)   (1) عيون البصائر ص299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 هـ - فتح المجال لهم في البحث : فمن مهيئات النبوغ أن ينشأ الذكي في درس أستاذ يطلق له العنان في البحث، ويرده إلى الصواب برفق إذا أخطأ، ويثني عليه إذا ناقش فأصاب المرمى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 و - مراعاة الميول والتوجيه لما يناسب : فهناك من الطلاب من هو شديد الذكاء، كبير الهمة ومع ذلك لا تجده يبدع ولا يتفوق. والسبب في ذلك أنه لم يُراعَ ميوله، ولم يوجه إلى ما يناسبه؛ فعقول الناس تختلف، ومشاربهم لا تألف؛ فكل يميل إلى ما يلائمه، وقد علم كل أناس مشربهم. فإذا وجه الطالب إلى ما يلائمه ويناسب ميوله ورغبته أبدع أيما إبداع، وأصبح عضوًا نافعًا بعد أن كان عضوًا أشل؛ فلا يعني كون الطلاب لا يبدعون في شيء أنهم لا يصلحون لأي شيء. (1) ولكنها الأقدار كلٌّ ميسرٌ ... لما هو مخلوق له ومقربُ فكل يعمل على شاكلته، ولكل وجهة هو موليها. هذا وإن مما يحسن التنبيه عليه في هذه الوقفة أن العناية بالمواهب ورعاية النوابغ -لا تعني أن يُهْمَلَ مَنْ هم أقلُّ ذكاءً ونبوغًا؛ فالعالَم لا يحتاج إلى خارقي الذكاء والنوابغ فحسب، بل يحتاج إلى غيرهم كذلك. فاضْمُمْ أقاصيهم إليك؛ فإنه ... لا يزخر الوادي بغير شعاب ولهذا ينبغي أن يؤخذ بأيدي الطلاب عمومًا؛ كي يستعملوا ذكاءهم خير استعمال ولو كان قليلًا، وأن يُفيدوا من مواهبهم ولو كانت محدودة. نعم إن الإنسان لا يقدر أن يكون في الذكاء مائة إذا خلق ذكاؤه في قوة عشرين.   (1) انظر قوة الإرادة وطرق تنميتها د. صلاح مراد ص34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ولكنه قادر على استعماله خير استعمال حتى يفيد أكثر ممن ذكاؤه مائة إذا هو أهمله ولم يحسن استعماله، كمصباح الكهرباء إذا نُظِّف مما علق به، وكانت قوته عشرين شمعةً كان خيرًا من مصباح قوته مائة إذا عَلَتْهُ الأتربة وأهمل شأنه. (1)   (1) انظر فيض الخاطر 6 / 127 -129 و244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 هذا وإن مما يعين على معالجة الانحرافات ، وإصلاح النقائص عمومًا ما يلي: أ - أن نعطي المسيء فرصة لإصلاح نفسه وتصحيح خطئه : لأن من عيوبنا في التربية أَنْ إذا كذب طالب مرة -على سبيل المثال - ناديناه باسم الكذاب، وإذا سرق ناديناه باسم السارق، وإذا تكاسل ناديناه باسم الكسول. وهكذا ينشأ ظانًا أن هذه النقائص ضربة لازب لا تزول عنه ولا تنمحي. والذي تقتضيه الحكمة وأصول التربية أن يعطى فرصة لإصلاح نفسه، وأن يساعد على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ب - التربية بالعقوبة : والمراد بالعقوبة ههنا معناها الشامل، لا كما يُظن أنها مقتصرة على العقاب البدني؛ فمن العقوبة أن يُعَرَّض بالطالب، ومنها إظهار السخط عليه، ومنها قطع المديح عنه، ومنها عتابه وتوبيخه، ومنها العقاب البدني إذا أتى ما يوجبه، على أن يكون عقابًا يؤلمه ولا يضره، وعلى ألا يكون ناتجًا عن سورة جهل أو ثورة غضب. ومما يحسن في هذا أن يراعى التدرج بالعقوبة. وإصلاح الأخطاء عن طريق التربية بالعقوبة والتدرجُ في ذلك كان معروفًا عند السلف وقد أشار إلى ذلك بعض من تكلموا على آداب العالم والمتعلم. قال الغزالي: أن يزجر المتعلم بطريق التعريض ما أمكن، ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ. (1) وقال ابن جماعة: ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه بنصح وتلطف، لا بتعنيف وتعسف؛ قاصدًا بذلك حسن تربيته، وتحسين خلقه، وصلاح شأنه. فإن عرف لذكائه بالإشارة فلا حاجة إلى صريح العبارة، وإن لم يفهم إلا بصريحها أتى بها، وراعى التدريج بالتلطف. (2)   (1) إحياء علوم الدين 1 / 57. (2) تذكرة السامع والمتكلم ص89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وقال: أن يراقب أحوال الطلبة في آدابهم، وهديهم، وأخلاقهم باطنًا وظاهرًا، فمن صدر منه من ذلك ما لا يليق من ارتكاب محرم أو مكروه، أو ما يؤدي إلى فساد حال، أو ترك اشتغال، أو إساءة أدب في حق الشيخ أو غيره، أو كثرة كلام بغير توجيه ولا فائدة، أو حرص على الكلام، أو معاشرة من لا تليق عشرته أو غير ذلك ... عرَّض الشيخ بالنهي عن ذلك بحضور مَنْ صدر منه غير مُعَرِّض به ولا مُعَيِّن له، فإن لم ينته نهاه عن ذلك جهرًا، ويغلظ القول عليه إن اقتضاه الحال؛ لينزجر هو وغيره، ويتأدبَ به كل سامع، فإن لم ينته فلا بأس حينئذٍ بطرده أو الإعراض عنه لا سيما إذا خاف على بعض رفقائه وأصحابه من الطلبة موافقته. (1)   (1) تذكرة السامع والمتكلم ص101 -102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 جـ - حسن التعاهد للطلاب : لأن المربي يتعامل مع النفوس، والنفوس تحتاج إلى صبر ومراوضة. قال ابن حزم: واعلم أن رياضة الأنفس أصعب من رياضة الأسْد؛ لأن الأُسْد إذا سجنت في البيوت التي تتخذها لها الملوك أُمِن شرها، والنفس -وإن سجنت - لم يؤمن شرها. (1)   (1) الأخلاق والسير ص73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 د - محاولة التعرف على ما يدور في أذهان الطلاب : إما عن طريق صناديق الاقتراحات، أو عن طريق الاستبيانات، أو عن طريق الحوار الهادف الهادئ بين الطلاب والمعلمين، أو عن طريق الأسئلة التي يكتبها الطلاب، أو نحو ذلك من الطرق التي يعرف من خلالها ما يدور في أذهان الطلاب. وبعد ذلك يسعى في العلاج العام أو الخاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 هـ - تجنيبهم أسباب الانحراف : ومن ذلك منع الطلاب من المبالغة في التجمل داخل المدرسة، وخصوصًا الأحداث، ومحاولة إقناعهم بالتي أحسن، وإلا أخذوا بالحزم. ومن ذلك تفريق الكبار عن الصغار، ومن ذلك التعرف على من تدور حولهم الشبه ومحاولة إصلاحهم ونصحهم، وإعطاؤهم فرصة للتصحيح، وإن أعيت الحيلة، وخشي من تعدي ضررهم -نظر في عقوبات أشد حسبما تقتضيه الحال؛ فلكل مقام مقال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 48 - العدل بين الطلاب : فالعدل قوام الحياة، والسماوات والأرض ما قامت إلا بالعدل. قال -تعالى -: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (الأنعام: 152) . وقال: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن) . قال ابن حزم: وجدت أفضل نعم الله تعالى على المرء أن يطبعه على العدل وحبه، وعلى الحق وإيثاره. (1) وقال: وأما من طبع على الجور واستسهاله، وعلى الظلم واستخفافه -فلييأس من أن يصلح نفسه، أو يقوم طباعه أبدًا، وليعلم أنه لا يفلح في دين ولا في خلق محمود. (2) وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: والعدل مما تواطأت على حسنه الشرائع الإلهية، والعقول الحكيمة، وتمدَّح بادعاء القيام به عظماءُ الأمم، وسجلوا تمدُّحهم على نقوش الهياكل من كلدانية، ومصرية، وهندية. وحسن العدل بمعزل عن هوى يغلب عليها في قضية خاصة، أو في مبدأ خاص تنتفع فيه بما يخالف العدل بدافع إحدى القوتين: الشاهية والغاضبة. (3)   (1) الأخلاق والسير ص37. (2) الأخلاق والسير ص37. (3) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام للطاهر بن عاشور ص186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ومن جميل ما يأخذ به المعلم نفسه خلق العدل مع الطلاب؛ فمن العدل معهم ألا تأخذ فكرة عن طالب ثم تحصره بها، فلا تقبل بعد ذلك منه عدلًا ولا صرفًا. ومن العدل معهم ألا تسمع كلامًا عن طالب ثم تأخذه بالقبول دونما تمحيص. ومن العدل بينهم العدل في الدرجات، وفي إعطاء الفرصة للإجابة، وفي توزيع النظر بينهم وما إلى ذلك مع مراعاة الفروق الفردية. قال ابن جماعة: أن لا يظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض عنده في مودة، أو اعتناء مع تساويهم في الصفات من سن أو فضيلة، أو تحصيل، أو ديانة؛ فإن ذلك ربما يوحش منه الصدر، وينفر منه القلب. فإن كان بعضهم أكثر تحصيلًا، أو أشد اجتهادًا، أو أبلغ اجتهادًا، أو أحسن أدبًا، فأظهر إكرامه وتفضيله، وبيَّن أن زيادة إكرامه لتلك الأسباب -فلا بأس بذلك؛ لأنه ينشط ويبعث على الاتصاف بتلك الصفات. (1) قال شوقي: وإذا المعلم لم يكن عدلًا مشى ... روحُ العدالة في الشباب ضئيلا (2)   (1) تذكرة السامع والمتكلم ص100. (2) الشوقيات 1 / 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 هذا ومما يرسخ المحبة وينميها بين المعلم وطلابه -زيادة على ما مضى - ما يلي: أ - العناية بمصالح الطلاب وأحوالهم : قال ابن جماعة: وينبغي أن يعنى بمصالح الطالب. (1) وقال: ويؤنسهم بسؤالهم عن أحوالهم وأحوال من يتعلق بهم. (2)   (1) تذكرة السامع والمتكلم ص89. (2) تذكرة السامع والمتكلم ص107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ب - الصبر على بعض ما يصدر من الطلاب : فإن لذلك أثرًا في محبة الطلاب لمعلمهم؛ إذ يدركون أن ذلك نابع من محبته لهم، وشفقته عليهم. قال الإمام النووي: ويجريه مجرى ولده في الشفقة عليه، والصبر على جفائه، وسوء أدبه، ويعذره في سوء أدب وجفوة تعرض منه في بعض الأحيان؛ فإن الإنسان معرض للنقائص. (1)   (1) المجموع شرح المهذب للنووي 1 / 30، وانظر تذكرة السامع والمتكلم ص89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 جـ - احترام الطلاب ومراعاة مشاعرهم : فالمعلم النبيل ذو المروءة والأدب -هو من يحترم طلابه، ويراعي مشاعرهم، فلا يؤذيهم بكلمة، أو إشارة، بل يحفظ عليهم عزتهم وكرامتهم طالما أنهم يسيرون على حد الأدب. قال ابن عباس -رضي الله عنهما -: أعز الناس عليَّ جليسي الذي يتخطى الناس إليَّ، أما والله إن الذباب يقع عليه فيشق عليَّ. (1) وقال الأحنف بن قيس: لو جلست إلى مائة لأحببت أن ألتمس رضا كل واحد منهم. (2) وقال بعضهم: صحبت الربيع بن خثيم عشرين عامًا ما سمعت منه كلمة تعاب. (3) ولقد كان رسول الله " أكرم الناس لجلسائه، فقد كان يعطي كل واحد منهم نصيبه، ولا يحسب جليسُه أن أحدًا أكرم عليه منه. (4)   (1) عيون الأخبار 1 / 307، وأدب المجالسة وحمد اللسان ص33، وبهجة المجالس 1 / 45. (2) بهجة المجالس 1 / 45. (3) سير أعلام النبلاء للذهبي 4 / 259. (4) انظر دلائل النبوة لأبي نعيم ص555. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 د - التعرف على أسماء الطلاب : لأن ذلك يشعرهم بقيمتهم واعتبارهم. قال ابن جماعة: وينبغي أن يستعلم أسماءهم وأنسابهم ومواطنهم، وأحوالهم. (1)   (1) تذكرة السامع والمتكلم ص100 -101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 هـ - مخاطبتهم بكناهم وأحب الأسماء إليهم : وفي هذا مزيد احترام وتقدير لهم. قال ابن جماعة: وينبغي أن يخاطب كُلًا منهم ولا سيما الفاضل المتميز بكنيته ونحوها من أحب الأسماء إليه، وما فيه له تعظيم وتوقير؛ فعن عائشة -رضي الله عنها - كان رسول الله " يكني أصحابه؛ إكرامًا لهم. (1) (2)   (1) رواه مسلم 1 / 271. (2) تذكرة السامع والمتكلم ص107 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 و - استشارتهم ببعض الأمور : فذلك مما يزرع الثقة في نفوس الطلاب، ومما ينمي الألفة والمحبة بينهم وبين معلمهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ز - معرفة الطبائع وفهم العقليات : فبذلك تعامل الطالب بما يوائمه، وتعالجه بالدواء الذي يلائمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ح - صفاء السريرة للطلاب : فقد جرت سُنَّةُ الله أن من صفت سريرته، وغَزُرَتْ صالحاته -أحدقت إليه الضمائر الحرة، وأوْلَتْهُ ودًَّا وانعطافًا. (1) فإذا كان المعلم صافي السريرة سليم الصدر للطلاب أحبه الطلاب، وعلموا منه الإخلاص لهم، والرحمة بهم، ولو كان يؤدبهم ويعاقبهم على أخطائهم. فلا ينبغي أن يستهان بإضمار المحبة للطلاب والشفقة عليهم؛ بحجة أنهم لا يدركون ذلك. لا؛ بل إنهم يدركون ويميزون، ويلحظون ذلك من نظرات العيون. وصدق من قال: والعين تنطق والأفواه صامتة ... حتى ترى من ضمير القلب تبيانا العين تبدي الذي في نفس صاحبها ... من العداوة أو ودٍّ إذا كانا (2) ومن قال: إن العيونَ على القلوب شواهد ... فَبَغِيْضُها لك بَيِّنٌ وحبيبُها وإذا تلاحظت العيونُ تفاوضت ... وَتَحَدَّثَتْ عَمَّا تُجِنُّ قلوبها يَنْطِقْنَ والأفواهُ صامتةٌ فما ... يخفى عليك بريئُها ومريبها (3) ومن قال: لا تسألنَّ المرء عما عنده ... واسْتمْلِ ما في قلبه من قلبكا إن كان بغضًا كان عندك مثلُهُ ... أو كان حبًا فاز منك بِحُبِّكا (4) هذه بعض الأمور التي تحبب المعلم لطلابه، وتحببهم به.   (1) انظر مناهج الشرف ص53. (2) الخصائص لابن جني 1 / 247. (3) الأبيات لمحمود الوراق، انظر ديوانه تحقيق د. وليد قصاب ص84. (4) ديوان محمود الوراق ص156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فإذا أحببت الطلاب وأحبوك وجدت سعادتك بينهم أكثر مما تجدها في البيت وبين الأصحاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وهذا وإن مما يحسن بالمعلم مراعاته حال غربته ما يلي: أ - أن يستحضر فوائد الغربة، وأن يحرص على الاستفادة منها: فللغربة فوائد كثيرة، ومن أنفس ما يكتسبه الرجل في غربته أن يعلم أشياء لم يكن يعلمها من قبل؛ فكم من عالم لم يبلغ المقام الذي يشار إليه بالبنان إلا بالرحلة. كما أن في الغربة عونًا على التمكن من بعض الأخلاق السامية، مثل خلق الصبر؛ لكثرة ما يلاقيه الراحل من متاعب بدنية وآلام نفسية. ومثل خلق المداراة؛ فإن البعيد عن وطنه أشد شعورًا بالحاجة إلى الأدب ممن يعيش بين قوم يعرفون من حَسَبه ومكانة بيته ما يجعل صراحته خفيفة على أسماعهم. كما أن الراحل لا يخلو من أن يلاقي في رحلته رجالًا صاروا مُثُلًا عالية في مكارم الأخلاق، فيزداد بالاقتداء بهم كمالًا على كمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ب - أن يكون ذا فطنة مستيقظة : فمما ينبغي التنبيه عليه أن السفر لا يذكي هِمَّة صاحبه، ولا يربي له مَلَكَةَ الأدب إلا إذا قارنته فطنة مستيقظة، تبحث عن أسرار الاجتماع، وتدقق النظر في تمييز الحسن من المعيب؛ لأن من الناس من لا يزيدهم الاغتراب إلا خورًا في طباعهم، وانحلالًا في عقدة إيمانهم. بل إن منهم من غمسوا وجوهم في الشرور حتى نضب منها ماء الحياء، وانسدل عليها من السماجة قناع كثيفٌ. فالسفر النافع إذًا ليس مبارحة الأوطان كيفما اتفق، ولا بالجولان بالبلدان كيفما كان الحال. (1)   (1) انظر رسائل الإصلاح 2 / 75 -85 والسعادة العظمى 129 -132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 جـ - الحرص على إفادة الآخرين : فتجد من المعلمين من إذا تغربوا أو اضطروا إلى الغربة -لا يأبهون بمسألة إفادة الناس، ونشر الخير بينهم. بل إن من آفاتهم أنهم إذا تغربوا كثرت بطالتهم، ونفد صبرهم، وقل أو عدم في الناس أثرهم. وما ذلك إلا لضعف هممهم، وركونهم إلى الملذات العاجلة. وإلا لو استشعروا المسؤولية، وشمروا عن ساعد الجد لسعدوا وأسعدوا؛ فهذا الشيخ الداعية عبد الله القرعاوي لما رحل إلى جنوب المملكة العربية السعودية -دعا إلى الله، وحرص على نشر العلم ورفع الغشاوة، والجهل، فنفع الله به نفعًا عظيمًا تُرى آثارُه إلى يومنا هذا. (1)   (1) انظر: الشيخ عبد الله بن محمد القرعاوي ودعوته في جنوب المملكة العربية السعودية، تأليف موسى السهلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 د - الإحسان إلى الزملاء في الغربة : فإذا كنت في غربتك، ولم تصطحب معك أهلك، وكنت تسكن مع مجموعة من زملائك -فأحسن صحبة مَنْ معك، وقم على خدمتهم، ولا تنتظر شكرهم، واحذر أن تمنَّ عليهم بما تقوم به من عمل. ثم إن خدموك في أمر، وأحسنوا عشرتك فاشكر لهم صنيعهم. بل يحسن بك أن تصبر على بعض ما تلقاه منهم من جفاء. بل يحسن بك أن تكون لهم نعم الأنيس والسمير؛ يجدون عندك من حسن العشرة، وتَحَمُّل الجفاء، وكرم النفس -ما ينسيهم أهليهم؛ فذلك مما يدل على رسوخ القدم في الفضيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 هـ - التودد للناس : فمما يحسن بك حال غربتك أن تتودد للناس، وأن تنزل أهل البلد الذين حللت بينهم منازلهم؛ فذلك مما يُعَطِّف القلوب إليك، ويصيخ الأسماع لقولك؛ فمراعاة عقول الناس ونزعاتهم فيما لا يقعد حقًا ولا يقيم باطلًا -مظهر من مظاهر الإنسانية المهذبة. كما أنه دليل على جودة النظر في سياسة الأمور، وعلى حسن التصرف في تقدير وسائل الخير؛ فالرجل العاقل الحكيم الحازم يحكم هذا الأمر، وينتفع به عند لقائه بالطبقات المختلفة، فتراه يَزِنُ عقول مَنْ يلاقونه، ويحسن ما تُكِنُّ صدورهم، وتنزع إليهم نفوسهم، فيصاحبهم وهو على بصيرة مما وراء ألسنتهم من عقولٍ وسرائر وعواطف، فيتيسر له أن يسايرهم إلا أن ينحرفوا عن الرشد، ويتحامى ما يؤلمهم إلا أن يتألموا من صوت الحق. وكما أن هذا الأمر عائد إلى الألمعية التي هي في أصلها موهبة إلهية -فهو كذلك يأتي بالدربة والممارسة، وتدبر سير أعاظم الرجال، والنظر في مجاري الحوادث باعتبار؛ فهذا مما يقوي هذه الخصلة ويرفع من شأنها. (1)   (1) انظر رسائل الإصلاح 1 / 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 و - لا تخالف الناس فيما لا يضرك في دنياك ولا أخراك : فمن جميل المعاشرة أن ترميك الغربة في بلدٍ ما، فتجد أن خلائق أهلها وعاداتهم على غير ما تعرف، فتترك كثيرًا مما كنت تعرف، وتأخذ بما يأخذون به؛ فإن ذلك من جميل المعاشرة، ومن حسن المداراة. فدارهم ما دمت في دارهم ... وأرضهم ما دمت في أرضهم (1) وكل هذا مشروط بألا يكون فيما تأتي أو تذر محذور شرعي؛ فإن كان ثم محذور شرعي تَعَيَّن تقديمُ الأمر الشرعي على كل عادة وعُرف. قال ابن حزم: إياك ومرافقةَ الجليس السيء، ومساعدة أهل زمانك فيما يضرك في أخراك أو في دنياك، وإن قل؛ فإنك لا تستفيد بذلك إلا الندامة حيث لا ينفعك الندم، ولن يحمدك مَنْ ساعدته، بل يشمت بك، وأقل ما في ذلك -وهو المضمون - أنه لا يبالي بسوء عاقبتك، وفساد مغبتك. وإياك ومخالفةَ الجليس، ومعارضةَ أهل زمانك فيما لا يضرك في دنياك ولا في أخراك وإن قل؛ فإنك تستفيد بذلك الأذى والمنافرة والعداوة. وربما أدى ذلك إلى المطالبة والضرر العظيم دون منفعة أصلًا. (2) قال أحد الحكماء: إن جئت أرضًا أهلها كلهم ... عُورٌ فَغَمِّضْ عينك الواحده (3)   (1) عين الأدب والسياسة ص155. (2) الأخلاق والسير ص61. (3) عين الأدب والسياسة ص279 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ز - لا تَذْكُرْ بلد غربتك إلا بخير: فذلك دالٌّ على وفائك، وكرم معدنك، وحسن عشرتك، وإشراقة نفسك؛ لأن من الناس من إذا تغرب أساء إلى نفسه وإلى أهل بلده بقلة نفعه، وبسوء عشرته، وأساء إلى من يتغرب عندهم بذمهم وذكر معايبهم، والتأوه من البقاء بين ظهرانيهم. وما ذلك المسلك برشيد؛ إذ هو دال على ضيق العطن، وقلة الوفاء، وسوء العشرة. فاللائق بك -أيها المعلم القدير - أن تذكر من تَغَرَّبْتَ عندهم بخير، وإن كان ثَمَّ داع لذكر شيء من أخطائهم فليكن لأجل الإصلاح والتصحيح، لا لأجل الغمز واللمز والتجريح. وإنك لتعجب حين تسأل زميلين يُدَرِّسان في بلدٍ ما عن ذلك البلد، فتجد أن أحدهما يمدح والآخر يقدح، مع أن البلد هو هو، وأن الناس هُمُ هُمُ، ولكن اختلفت النظرة؛ لاختلاف الأنفس والطبائع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 51 - لا تنس طلابك بعد تخرجهم : فمما يجمل بك أن إذا تخرج طلابك ألا تنساهم، وذلك بأن تفتح صدرك لهم، وأن تحسن استقبالهم إذا هم زاروك، وأن تعاملهم وكأنهم أبناء لك قد كبروا وشبوا عن الطوق؛ فذلك من كرم النفس، ومن حسن الوفاء. بل يحسن أن تبادر إلى السؤال عنهم، وبذل الشفاعة لهم، بل والتكرم في زيارتهم؛ فذلك دليل التواضع وآية السماحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 52 - وماذا بعد التقاعد ؟ فإذا كبرت بك السن، أو رغبت في ترك العمل في سلك التعليم، فتقاعدت عن العمل -فلا يحسن بك أن تركن إلى الكسل والبطالة، فتعيش على هامش الحياة، خلوًا من كل مسؤولية، وكأنك همل مضاع أو لقىً مزدرى. بل يحسن بك أن تجد وتجتهد في مجالات أخرى تنفع بها نفسك والمسلمين، كأن تُعنى بتربية أولادك أكثر وأكثر، وكأن تقبل على الله بالعمل الصالح أكثر من ذي قبل {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (الشرح) . ومما يجمل بك أن تشارك في بعض الأعمال والمجالات الخيرية، ومما يجمل بك ألا تبخل على إخوانك المعلمين بنصح، أو توجيه، أو إفادة من خبرة سابقة. ومما يجمل -أيضًا - أن تقبل على البحث والقراءة والاطلاع؛ لتستفيد من وقت الفراغ الذي حصل لك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الخاتمة هذا ما يسَّر الله جمعه، وأعان على إتمامه، فله الحمد وله الشكر، كما أشكر كل من أعان على هذا العمل، وأسأل الله أن يجعله في ميزان حسناتِهِ يوم يلقاه. وأخيرًا ألتمس العذر من إخواني المعلمين إن كان هناك من إثقالٍ، أو إملالٍ، أو عتاب؛ فما أنا إلا واحد منهم، وأكره شديدًا أن أسُلَّ يدي من رابطتهم. كما آمل منهم أن يمدوا أخاهم بملحوظاتهم واستدراكاتهم، ولهم الدعاء والشكر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. محمد بن إبراهيم الحمد 27 / 12 / 1417هـ الزلفي 11932 ص. ب 460 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170