الكتاب: حرمة المسلم على المسلم المؤلف: الدكتور ماهر ياسين الفحل أعده للشاملة: أبو أكرم الحلبي   [الكتاب مرقم آليا] ---------- حرمة المسلم على المسلم ماهر الفحل الكتاب: حرمة المسلم على المسلم المؤلف: الدكتور ماهر ياسين الفحل أعده للشاملة: أبو أكرم الحلبي   [الكتاب مرقم آليا] حرمة المسلم على المسلم تأليف الدكتور ماهر ياسين الفحل 1426هـ‍ / 2006م الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد: فإنَّ واجب الدعوة إلى الله من أولى الواجبات، ومن أفرض الطاعات، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] . فوجب على كل مسلم أن يقوم بهذا الواجب الديني اتجاه المجتمع وقد قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] . فشمرت عن ساعد الجد لأكتب عن أهم ما يدور في ساحة بلدنا الجريح، وهو التساهل في حرمة المسلم فكتبت في هذا ما بين يديك أخي المسلم الكريم، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعله خالصاً لوجهه، وأنْ ينفعني به يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من آتى الله بقلب سليم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الغيبة : احذر أخي المسلم من الغيبة، قال النووي في رياض الصالحين باب تحريم الغيبة: ((ينبغي لكل مكلف أنْ يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه؛ لأنَّه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء)) (1) .   (1) رياض الصالحين: 543. رياض الصالحين من الكتب المهمة جداً فيه جميع ما يحتاجه المسلم في عباداته وحياته اليومية؛ فينبغي لكل مسلم أن يقرأ هذا الكتاب مراراً وتكراراً، ويثقف عائلته بأحاديث هذا الكتاب، ففي ذلك سعادة الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 والغيبة خصلة ذميمة لا تصدر إلا عن نفس دنيئة، وهي كما عرّفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((ذِكركَ أخاك بما يكرهُ)) (1) ، وهي محرمة بل هي كبيرة من الكبائر وقد ذمها الله سبحانه وتعالى بالقرآن العظيم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] ، ولا تقتصر على الكلام باللسان، وإنما كل حركة أو إشارة أو إيماءة أو تمثيل أو كتابة في الصحف أو على الإنترنت، أو أي شيءٍ يفهم منه تنقص الطرف الآخر؛ فكل ذلك حرام داخل في معنى الغيبة، والإثم يزداد بحسب الملأ وكثرتهم الذين يذكر فيهم المغتاب (2) . واعلم أخي المسلم: أنَّ الغيبة خسارة كبيرة في حسنات العبد؛ فالمغتاب يخسر حسناته ويعطيها رغماً عنه إلى من يغتابه، وهي في نفس الوقت ربح للطرف الآخر؛ حيث يحصل على حسنات تثقل كفته جاءته من حيث لا يدري؛ لذا قال عبد الله بن المبارك - وهو أحد أمراء المؤمنين في الحديث -: ((لو كنت مغتاباً لاغتبت أمي فإنها أحق بحسناتي)) (3) .   (1) أخرجه: مسلم 8/21 (2589) (70) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) المغتاب: اسم فاعل ومفعول يدل على الذي يقوم بغيبة الناس، ويدل على الذي تقع عليه الغيبة. (3) فيض القدير 3/166 للمناوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 تأمل أخي المسلم في قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فيما رواه عبد الرحمان بن أبي بكرة، عن أبيه: أنه ذكر النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قعد على بعيره، وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه، قال: ((أي يوم هذا؟)) فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: ((أليس يوم النحر؟)) قلنا: بلى، قال: ((فأيُّ شهر هذا؟)) فسكتنا حتى ظننا أنَّه سيسميه بغير اسمه فقال: ((أليس بذي الحجة؟)) قلنا: بلى، قال: ((فإنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب فإنَّ الشاهد عسى أنْ يبلغ مَن هو أوعى له منه)) (1) . والذي يتأمل هذا الحديث يعلم حرمة الغيبة، وأنَّها كحرمة يوم النحر في شهر ذي الحجة في الحرم المكي. ولنتدبر جميعاً قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حينما قال: ((لما عُرِجَ بي، مررتُ بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم)) (2) فالمسلم الذي يحرص على نفسه يتأمل في هذا الحديث ليعلم أنَّ المغتابين يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار من نحاس، وهي أظفار فاقت أظفار الوحوش الضارية ليزدادوا عذاباً جزاءً وفاقاً على أفعالهم القبيحة، وأعمالهم السيئة.   (1) أخرجه: البخاري 1/26 (67) ، ومسلم 5/108 (1679) (30) . (2) أخرجه: أحمد 3/224، وأبو داود (4878) و (4879) ، والضياء المقدسي في المختارة (2285) و (2286) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ومن الغيبة أنْ تذكر أخاك المسلم بأي شيء يكرهه حتى وإنْ لم تكن تقصد ذلك فقد صحّ أنَّ عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: حَسْبُكَ من صفية كذا وكذا - قال غير مسدد تعني قصيرة - فقال: ((لقد قُلْتِ كلمةً لو مزجت بماء البحر لمزجته)) قالت: وحكيتُ له إنساناً فقال: ((ما أحب أني حكيتُ إنساناً وأن لي كذا وكذا)) (1) . والغيبة داءٌ فتّاكٌ ومِعْوَلٌ هدّام يفتك في بنيان المجتمع، وهو أسرع إفساداً في المجتمع من الآكلة (2) في الجسد، والغيبة تُعرِّض العلاقات للانهيار وتزعزع الثقة بين الناس وتغيّر الموازين وتقلع المحبة والألفة والنصرة من بين المؤمنين، وتثبت جذور الشر والفساد بين الناس، وقد بيّن الحسن البصري رحمه الله أجناس الغيبة وحدودها فقال: ((الغيبة ثلاثة أوجه، كلها في كتاب الله تعالى: الغيبة، والإفك، والبهتان، فأما الغيبة: فهو أنْ تقول في أخيك ما هو فيه، وأما الإفك فأنْ تقول فيه ما بلغك عنه، وأما البهتان: فأنْ تقول فيه ما ليس فيه)) (3) .   (1) أخرجه أبو داود (4875) . (2) أي: السرطان نسأل الله السلامة والعافية. (3) تفسير القرطبي 16 / 335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ورُوي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يقول: جاء الأسلميُّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - فشهد على نفسه أنَّه أصاب امرأةً حراماً - أربع مرات - كل ذلك يُعرِضُ عنه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فأقبل في الخامسة فقال: ((أَنِكْتَهَا؟)) قال: نعم قال: ((حتى غاب ذلك منك في ذلك منها)) قال: نعم قال: ((كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟)) قال: نعم قال: ((فهل تدري ما الزنا؟)) قال: نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً قال: ((فما تريد بهذا القول؟)) قال: أريد أنْ تطهرني فأمر به فَرُجِم فسمع النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي سَتر الله عليه فلم تَدَعْهُ نفسه حتى رُجِمَ رجمَ الكلب فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مَرَّ بجيفة حمار شائلٍ برجله فقال: ((أين فلان وفلان؟)) فقالا: نحن ذان يا رسول الله، قال: ((انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار)) فقالا: يا نبي الله، مَنْ يأكل من هذا؟ قال: ((فما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشد من أكل منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها)) (1) . ومن أعظم ما ورد في الزجر عن الغيبة قوله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] . قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: ((وقد ورد فيها (يعني: الغيبة) الزجر الأكبر، ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت كما قال - عز وجل -:   (1) أخرجه: البخاري في " الأدب المفرد " (737) ، وأبو داود (4428) ، والنسائي في " الكبرى " (7164) و (7165) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ((أيحب أحدكم أنْ يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)) ، أي: كما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوا ذاك شرعاً؛ فإنَّ عقوبته أشد من هذا)) (1) . أخي المسلم الكريم لقد صوّرَ اللهُ الإنسانَ الذي يغتاب إخوانه المسلمين بأبشع صورة فمثّله بمن يأكل لحم أخيه ميتاً، ويكفي قبحاً أنْ يجلس الإنسان على جيفة أخيه المسلم يقطع من لحمه ويأكل. والغيبة من كبائر الذنوب، وهي محرمة بالإجماع قال القرطبي: ((لا خلاف أنَّ الغيبة من الكبائر، وأنَّ من اغتاب أحداً عليه أنْ يتوب إلى الله - عز وجل -)) (2) . والغيبة مرض خطير، وشر مستطير يفتك الأمة ويبث العداوة والبغضاء بين أفرادها، وهذا المرض لا يكاد يسلم منه أحد إلا من رحم الله. ومرض الغيبة عضال، كم أحدث من فتنة، وكم أثار من ضغينة، وكم فرّق بين أحبة وشتت بيوتاً. والغيبة فاكهة أهل المجالس الخبيثة، وغيبة أهل العلم والصلاح أشد قبحاً وأعظم ظلماً؛ فلحومهم مسمومة، وسنة الله في عقوبة منتقصيهم معلومة. ولعل من أسباب الغيبة الحسد، الذي يحصل لكثير من الذين ابتعدوا عن مراقبة الله، فتجد الكثيرين يغتابون آخرين حسداً من عند أنفسهم؛ لأنَّ أخاهم حصل على ما لم يحصلوا عليه. ومن أسباب الغيبة المجاملة والمداهنة على حساب الدين؛ فتجد الرجل يغتاب أخاه المسلم؛ موافقة لجلسائه وأصحابه. ومن أسباب الغيبة الكبر واستحقار الآخرين؛ لأنَّه يثقل عليه أنْ يرتفع عليه غيره فيقدح بهم في المجالس؛ لإلصاق العيب بهم، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((الكبر بطر الحق وغمط الناس)) (3) .   (1) تفسير ابن كثير: 1750. (2) تفسير القرطبي 16 / 337. (3) جزء من حديث عبد الله بن مسعود الذي أخرجه مسلم في صحيحه 1/64 (91) (147) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ومن أسباب الغيبة السخرية والتنقص من الآخرين، فإنَّ بعض الناس يغتاب إخوانه المسلمين عن طريق السخرية، وغيرها من الأسباب والدسائس التي يوحيها الشيطان في صاحب الغيبة في قوالب شتى. وللغيبة أضرار عظيمة على الفرد والمجتمع، ومن أضرارها أنَّها تُعرِّض صاحبها للافتضاح، فكلما فضحَ الإنسانُ غيرَه فإنَّ الله يفضحه؛ إذ الجزاء من جنس العمل، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر مَن آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمينَ، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنَّه من يتَّبع عوراتهم يتبع اللهُ عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)) (1) . ومن أضرار الغيبة أنها أذيةٌ لعباد الله تعالى، ومن آذى عباد الله فقد توعده الله تعالى بعذاب شديد، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب: 58] . ومن أضرار الغيبة أيضاً أنها من الظلم والاعتداء على الآخرين، ومعلوم أنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة، وأنَّ أثر الظلم سيءٌ، وعاقبته عاقبةٌ وخيمةٌ قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42] . وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرّمتُ الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا)) (2) .   (1) حديث صحيح أخرجه: أحمد 4/420، وأبو داود (4880) ، وأبو يعلى (7424) من حديث أبي برزة الأسلمي. (2) أخرجه: مسلم 8/16 (2577) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ومن أضرار الغيبة أنها توجب العذاب يوم القيامة، فهي من المعاصي العظيمة، ومقترفها يقع في حقين: حق الله، وحق العبد، وهو محاسَب على تقصيره بحق الله. فأما حق العبد فهو إما أنْ يتحلله في الدنيا، أو يعطيه من حسناته أو يحمل من سيئاته إنْ لم يكن له حسنات يعطيه منها، وهذا هو المفلس كما ورد في الحديث (1) . ومن أضرار الغيبة أنها سبب في تفكيك المجتمع، وإثارة الفتن وجلب العداوة والبغضاء بين الناس. وعلى المسلم إذا سمع غيبة المسلم أنْ يتقي الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويذب عن عرض أخيه المسلم ويمنع المغتاب من الغيبة؛ فإنَّ المغتاب والسامع شريكان قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] وروي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)) (2) . تدبر أخي المسلم، أنا لو رأينا أحداً قائماً على جنازة رجل من المسلمين يأكل لحمه ألسنا نقوم جميعاً، وننكر عليه؟! بلى فلماذا لا ننكر على من يغتاب إخواننا المسلمين، ونذب عن أعراضهم؟   (1) روى مسلم في صحيحه 8/17 (2581) من حديث أبي هريرة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: ((إنَّ المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة = = بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أنْ يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه. ثم طرح في النار)) . (2) أخرجه: أحمد 6/449 و450، والترمذي (1931) من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 على كل مسلم أنْ يخاف الله تعالى، وأنْ يعلم أنَّ الغيبة معصيةٌ لله وظلم على المغتاب فعلى كل مسلم أنْ يتجنب الكلام في أعراض الناس، وأنْ يعرف أنه إن وجد عيباً في أخيه المسلم فإنَّ فيه عيوباً كثيرة. فعليك أخي المسلم أنْ تراقب لسانك لتعرف هل أنت واقع في هذا الداء، فإنْ كنت كذلك فاعلم أنَّ من أهم أسباب التخلص من الغيبة أنْ يحفظ الإنسان لسانه، فمن أعظم أسباب السلامة حفظ اللسان، ومن أعظم أبواب الوقاية الصمت في وقته. ومن أهم أسباب التخلص من الغيبة أن يستشعر العبد أنَّه بهذه الغيبة يتعرض لسخط الله ومقته، وأنَّ قوله وفعله مسجلٌ عليه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وعلى المرء أنْ يستحضر دائماً أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد قال تعالى: {مَا يَلفِظُ مِنْ قَولٍ إلاَّ لَدَيهِ رَقيبٌ عَتيدٌ} [ق: 19] . ومن أسباب الخلاص من الغيبة أنّ يستحضر المغتاب دائماً أنه يهدي غيره من حسناته؛ لأنَّ الغيبة ظلم، والظلم يقتص به يوم القيامة للمظلوم من الظالم وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار فيتقاصون مظالم كانت بينهم، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبوا، أُذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم بمسكنه في الجنة، أدل بمنزله كان في الدنيا)) (1) . فعلى المرء المسلم أنْ يشتغل بإصلاح عيوب نفسه دون الكلام في عيوب الآخرين. النميمة : واحذر أخي المسلم من النميمة، وهي نقل الكلام بين الناس لجهة الإفساد؛ فيذهب إلى شخص ويقول: قال فيك فلان كذا وكذا، من أجل الإفساد بينهما وإلقاء العداوة والبغضاء بين المسلمين. وحقيقة النميمة: إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه.   (1) أخرجه: البخاري 3/167 (2440) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 والنمام: هو من يسعى في قطع الأرحام وقطع ما أمر الله به أنْ يوصل وهو من الذين يفسدون في الأرض قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 43] والنمام منهم. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ من شر الناس من يدعه الناس اتقاء فحشه)) (1) والنمام منهم. فاعلم أخي المسلم أنَّ النميمة من كبائر الذنوب، وهي محرمة بالكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} . [القلم: 10 - 11] وهي من أسباب عذاب القبر وعذاب النار، فقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يدخل الجنَّة نمام)) (2) ، وروى ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقبرين فقال: ((إنَّهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنَّه كبير: أما أحدهما، فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله)) (3) .   (1) أخرجه: البخاري 8/20 (6054) ، ومسلم 8/21 (2591) (73) من حديث عائشة رضي الله عنها. (2) أخرجه: البخاري 8/ 21 (6056) ، ومسلم 1/70 (105) (167) من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -، ولفظ البخاري: ((لا يدخل الجنَّة قتات)) . (3) أخرجه: البخاري 1/65 (218) ، ومسلم 1/165 (292) (111) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 والنميمة أذىً للمؤمنين والمؤمنات، وقد حرم الإسلام الأذى بشتى أنواعه، ومنه النميمة. والنمام ذو وجهين؛ لأنه يظهر لكل من الفريقين غير الوجه الذي يظهر به للطرف الآخر، وصاحب الوجهين شر الناس يوم القيامة، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن، أشدهم كراهية له، وتجدون شر الناس، ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)) (1) . وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النمام لا يدخل الجنة وأنه يعذب في قبره وقال: ((أَلا أُنبئكم ما العَضْهُ (2) ؟ هيَ النَمِيمَةُ القالةُ بين الناس)) (3) وكلُ من حُمِلَتْ إليه النميمةُ يجب عليه ستة أمور الأول: أن لا يُصدِّق النمامَ؛ لأنه فاسق. والثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصح له ويقبح له فعله، والثالث: أن يبغضه في الله، والرابع: أن لا تظن بأخيك الغائب السوء، والخامس: أن لا يحملك ما حُكي على التجسس، السادس: أن لا ترضى لنفسك ما نَهيتَ النمام عنه ولا تحكي نميمته. فاحذر أخي المسلم من النميمة فإنَّها من أمراض النفوس، وهي داء خبيث يسري على الألسن فيهدم الأسر، ويفرق الأحبة ويقطع الأرحام. قال الإمام الشافعي: ((إذا أراد الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلم، وإن شك لم يتكلم حتى يظهر)) . وينبغي على المسلم أنْ يسكت عن كل ما رآه الإنسان من أحوال الناس مما يكره إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع معصية.   (1) أخرجه: البخاري 4/216 (3493) ومسلم 7/ 181 (2526) و 8/28 (2526) (100) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) العَضْهُ: كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس بما يحكي البعض عن البعض. لسان العرب (قول) (3) أخرجه: مسلم 8/28 (2606) (102) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ثم اعلم أخي المسلم أنَّ البهتان على البريء من أثقل الذنوب، وويل لمن سعى بوشاية بريءٍ عند صاحب سلطان ونحوه فصدقه، فربما جنى على بريءٍ بأمر يسوءه وهو منه براء. وقد حرم الله - عز وجل - المشي بالنميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين ورخص في الكذب في الإصلاح بين الناس، ورغب في الإصلاح بين المسلمين قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] . وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة)) (1) . وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيراً وينمي خيراً)) (2) . أخي المسلم: اعلم أنَّ مَن نَمَّ إليك نَمَّ عليك، والنمام ينبغي أنْ يُنصَحَ ويُرشَدَ، وإلا فَيُترك ويُبغَض ولا يُوثَق بقوله ولا بصداقته، وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغل والحسد والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة. الكذب: ومن حرمة المسلم على المسلم أن لا تكذب عليه: والكذب آفةٌ سيئةٌ من آفات اللسان، وهذه الآفة من أقبح الأمراض النفسية، إذا لم يسارع صاحبها بالعلاج، أودى به إلى النار، وبئس القرار، قال تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون} .   (1) أخرجه: أحمد 6/444، وأبو داود (4919) ، والترمذي (2509) ، وابن حبان (5092) من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -. وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح)) . (2) أخرجه: البخاري 3/240 (2692) ، ومسلم 8/28 (2605) من حديث أم مكتوم بنت عقبة بن أبي معيط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 [البقرة: 10] والكذب من كبائر الذنوب وفيه أضرارٌ عظيمة، ومن أضراره: إحداث الريبة عند الإنسان - والريبة هي التهمة والشك - والكذب محل تهمة وشك، والكذب يجعل الإنسان يقع في خصلة من خصال المنافقين. والمنافقون في الدرك الأسفل من النار قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((أربعٌ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (1) . والكذب يمحق البركة بالبيع والشراء. والكذب يعدم الثقة بالناس، ومن آثار الكذب قلب الحقائق؛ لأنَّ الكذب يصور الحق باطلاً والباطل حقاً، ولو لم يكن في الكذب سوى أنَّه يؤدي إلى النار لكفاه سوءاً، قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الكذب يهدي إلى الفجور وإنَّ الفجور يهدي إلى النار، وإنَّ الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) (2) .   (1) أخرجه: البخاري 1/15 (34) ، ومسلم 1/56 (58) (106) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (2) أخرجه: البخاري 8/30 (6094) ، ومسلم 8/29 (2607) (103) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وإذا وقع المؤمن في شيءٍ من هذه الصفة القبيحة (الكذب) فعليه أنْ يعمل على التخلص من هذه الصفة المذمومة عقلاً وشرعاً، ومن ذلك أنْ يستحضر عظمة الله ويثق به؛ لأنَّ كثيراً من الكذب سببه الخوف من أشياء وهمية يصورها الشيطان. وعلى المسلم أنْ يكون محسناً الظنَ بالله (1) ويعلم جازماً أنْ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه (2) وبذلك يعلم أنَّ ما كُتِبَ له سيأتيه لا محالةَ وخاصة في أمور الدنيا. الحقد : ابتعد أخي المسلم كل الابتعاد عن الحقد؛ فإنَّ الحقد صفةٌ ذميمةٌ ذمها الإسلام، وهي صفة تذمها الفطرة السليمة، والحقد: أنْ يلزم قلبك استثقال أخيك المسلم والبغضة إليه، والنفار منه وأنْ يدوم ذلك ويبقى. قال الدكتور مصطفى السباعي: ((لا تحقدْ على أحدٍ فالحقد ينال منك أكثر مما ينال من خصومك ويبعد عنك أصدقاءك كما يؤلّب عليك أعداءك، ويكشف من مساوئك ما كان مستوراً، وينقلك من زمرة العقلاء إلى حثالة السفهاء، ويجعلك بقلب أسود ووجه مصفر، وكبد حرّى)) .   (1) روى مسلم في صحيحه 8/165 (2877) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته بثلاث يقول: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن)) . (2) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه)) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (247) ، والضياء في المختارة (2197) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ولا تحقد على المسلم حتى لو أساء إليك، وإذا غلبتك نفسك فعليك بالعلاج، وعلاج من أساء إليك أنْ تتمعن في قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 -134] . وعن معاذ بن أنس أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((منْ كظم غيظاً وهو قادر على أنْ ينفذه دعاه الله - عز وجل - على رؤوس الخلائق يوم القيامة؛ حتى يخيّره منَ الحور العين ما شاء)) (1) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن كظم غيظهُ ولو شاءَ أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضىً)) (2) . ومن العلاج: أنْ تعتقد أنَّ ما عند الله خيرٌ وأبقى، وأنَّ هذه الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وأنَّ هذا العبد ربما كان عند الله أفضل منك كما صح عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((رُبَّ أشعثَ أغبَر مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)) (3) . قد جعل الله المحبة الخالصة بين المسلمين من أوثق عرى المحبة في الله، وقد وثّق الإسلام ذلك بوجوب المحافظة على مال المسلم وعرضه ونفسه، بأنْ لا يصيبه المسلم بأذى ولا يمسه بسوء.   (1) أخرجه: أحمد 3/440، وأبو داود (4777) ، وابن ماجه (4186) ، والترمذي (2021) و (2493) من حديث معاذ بن أنس الجهني - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب)) . (2) أخرجه: ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج (36) عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحسن إسناده العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (906) . (3) أخرجه: مسلم 8 / 36 (2622) (138) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 لكن بعض النفوس الخبيثة تبحر في أنهار آسنة لتتشفى في مَن أنعم الله عليهم، ورزقهم من حطام هذه الدنيا الفانية، وذلك بالحقد والحسد ليؤتي ذلك الحقد والحسد ثماراً خبيثةً من غيبة ونميمة وحنق واستهزاء. ومجتمعاتنا - وللأسف الشديد - تعُجّ في مثل هؤلاء، ولو تدبروا كتاب الله جيداً لما وقعوا في ذلك، قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَد آتَينا آلَ إبراهِيمَ الكِتَابَ والحِكْمَةَ وآتيناهُمْ مُلكاً عَظِيماً} [النساء: 54] . فتنبه دائماً أخي المسلم إلى الأضرار الكبيرة التي تنجم عن الحقد، ومن تلك الأضرار: الحسد فأنت إذا حقدت على أخيك المسلم فلاشك أنَّك ستحسده على النِّعم التي أفاء الله بها عليه، وأنَّك سَتُسَرُّ بالمصائب التي تصيب أخاك المسلم، وهذا بلا شك من صفات المنافقين الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر قال تعالى: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِم دَائِرةُ السَّوءِ} [التوبة: 98] وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَ لأخيه ما يحب لنفسه)) (1) ، ولعل الحقد يزداد عند بعضهم فيدفعه على التشمت بالآخرين. ومن أضرار الحقد أيضاً أنَّه مدعاةٌ إلى الهجر والمقاطعة أو الإعراض عنه.   (1) أخرجه: البخاري 1 / 10 (13) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ومن أضراره أيضاً أنَّه يدفعك إلى أنْ تتكلم في أخيك المسلم بما لا يحل، وقد يؤول بك ذلك إلى الكذب عليه أو غيبته وإفشاء سره وهتك ستره، بل ربما دفعك ذلك إلى وشايته بما يؤول إلى قتله، إلى غير ذلك من الأضرار التي تنجم عن الحقد، كالاستهزاء به والسخرية منه، وإيذاءه بالضرب، أو أنْ تمنعه حقه من قضاء دَين أو صلة رحم أو رد مظلمة، وكل ما ذُكِرَ من أضرار الحقد إنَّما هي معاصٍ يُحاسَب عليها العبدُ يوم القيامة، ويجد ذلك مكتوباً في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وسيكون حينذاك الندم، لكن لا ينفع الندم. الحسد : حذارِ أخي المسلم الكريم من الحسد، والحسد: هو تمني زوال النعمة عن صاحبها بغض النظر عن أنْ تكون هذه النعمة دينية أو دنيوية، والحسد صفةٌ ذميمةٌ ذمها ديننا الحنيف، وقد قال تعالى في ذم الحاسدين واستنكار فعلهم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه} [النساء: 54] وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحلُ لمسلم أنْ يهجر أخاه فوق ثلاث)) (1) .   (1) أخرجه: مسلم 8 / 10 (563) (30) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 والحسد من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. ومن سلّم الله قلبه من الحسد والغل على الآخرين فقد أُعطي خيراً عظيماً، ومن أعظم الأحاديث في ذلك ما رواه الإمام أحمد (1) بسند صحيح من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّه قال: كنَّا جلوساً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنَّة)) فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوءه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد، قال النبَّيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فطلع ذلك الرجلُ مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيتُ (2) أبي، فأقسمتُ أنْ لا أدخلَ عليه ثلاثاً، فإنْ رأيتَ أنْ تؤويني إليك حتى تمضي، فعلت. قال: نعم. قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنَّه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يَرَهُ يقوم من الليل شيئاً، غير أنَّه إذا تعارّ (3) من الليل، وتقلّبَ على فراشه ذكر الله - عز وجل -، وكبّر، حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضتِ الثلاث ليالٍ، وكدتُ أنْ أحقر عمله، قلت: يا عبد الله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضبٌ ولا هجر ثَمَّ، ولكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لك ثلاث مرات:   (1) في مسنده 3 / 166. (2) لاحيتُ: الملاحاة، المباغضة والمنازعة. (3) هب واستيقظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ((يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنَّة)) فطلعت َ أنت الثلاث مرارٍ، فأردتُ أنْ آوي إليك، لأنظرَ ما عملك، فأقتدي به، فلم أرَكَ تعملُ كثيرَ عملٍ، فما الذي بلغ بك ما قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هو إلا ما رأيتَ. قال: فلما ولّيتُ دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيتَ، غير أني لا أجد في نفسي لأحدٍ من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغتْ بكَ، وهي التي لا نطيق. الغش : إياك أخي المسلم أن تغش أخاك المسلم فقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((من غَشَّ فليس مِنِّي)) (1) وللغش مظاهر، ومن أعظم الغش غش الراعي لرعيته وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)) (2) وكذا غش القائد لجنده، والرئيس لمرؤوسيه وصاحب العمل لعماله، ورب الأسرة لأسرته وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من عبدٍ يسترعيه اللهُ رعيةً يموتُ يومَ يموتُ وهو غاشٌ لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة)) (3) . ومن الغش: الغش التجاري الذي يتعدى فيه الغاش على مال الغير، ولو كان شيئاً يسيراً؛ ليحصل عليه بالحرام عن طريق الكذب، والكتمان أو إخفاء عيوب السلعة أو البخس في الميزان. وكذلك من أخطر أنواع الغش الغش في العلم؛ لأنَّ الغاش حينما يحصل على شهادة بالغش، ربما يحصل على مال حرام بذلك؛ لذا فإنَّ الغش في الامتحانات من أخطر الكوارث.   (1) أخرجه: مسلم 1/69 (102) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) أخرجه: مسلم 6/8 (1829) من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -. (3) أخرجه: البخاري 9/80 (7150) و (7151) ، ومسلم 1/88 (142) (229) من حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ومن أخطر أنواع الغش الغش بالقول كالإدلاء بالشهادات والأقوال والمعلومات أو القضاء وغيره بشكل مخالف للحقيقة ليوقع الضرر بالناس ظلماً وزوراً، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، ثم قال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور)) (1) . ومن أعظم أنواع الغش لأخيك المسلم أنْ لا تأمره بالمعروف، ولا تنهاه عن المنكر، ولا تحثه على فعل الخير قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا ليتني لم اتخذ فلاناً خليلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27-29] . وقال تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] وديننا الحنيف جاء لسعادة البشر في الدنيا والآخرة؛ لذا حرّم الغش بجميع أنواعه لما فيه من الفساد والضرر بالعباد بظلم بعضهم لبعض، وبإيجاد الشحناء بينهم أو بأكل أموالهم بالباطل؛ لذلك أوجب الإسلام على جميع المسلمين تقوى الله في المعاملة، وحذّر الإسلامُ من أسباب غضب الله، وأليم عقابه الذي توعد به أصحاب الغش. تنبيه لمحاسبة النفس : أخي المسلم هل حاولتَ أنْ تعد حسناتك وسيئاتك كما تعد دنانيرك ودراهمك؟ هل خلوتَ بنفسك يوماً فحاسبتَها على ما بَدَرَ منها من التقصير والإهمال في جنب الله؟ هل تأملتَ يوماً طاعتَك التي تقرّبتَ بها إلى بارئك مفتخراً بها فوجدت أكثرها مشوبة بالرياء والسمعة وحظوظ النفس؟   (1) أخرجه: البخاري 3/225 (2654) و8/76 (6273) و (6274) و9/17 (7919) ، ومسلم 1/64 (87) من حديث نفيع بن الحارث - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 اعلم أخي المسلم أنَّ محاسبة النفس أمرٌ لا بد منه، فحاسبْ نفسَك الآن قبل أنْ تُحاسَبَ يوم القيامة، وَزِنْ حسناتك بسيئاتك في الدنيا قبل أنْ تُوزَنَ يوم الآخرة يوم الحسرة والندامة، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. فعليك أخي المسلم أنْ تتصفح عملك في الليل ما صدر منك ذلك النهار، فإنْ كان عملك محموداً أمضيته ثم تعمل فيما بعده بمثله، وإنْ كان ما فعلته في ذلك النهار مذموماً فعليك أنْ تستغفر وتتوب وتستدركه، وتنتهي عن مثله فيما يستقبل من الأيام. ثم عليك أخي المسلم أنْ تتثبت دائماً في جميع الأحوال قبل الفعل والترك، حتى يتبين لك ما تفعل، فإنْ كان خيراً فاعمل وإنْ كان دون ذلك فاترك. وتَبصّر دائماً بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] . ولمحاسبة النفس فوائد جمة ومنافع عدة، منها: أنك تطّلع على عيوب نفسك ونقائصها ومثالبها، ومن ثم تستطيع أنْ تضع الدواء على موضع الداء. وكذلك أنك بمحاسبتك لنفسك تتعرف على الله أكثر، وتعلم عظيم فضله عليك. ثم إنَّ من أعظم ثمار المحاسبة التوبة والندم وتدارك ما فات من الأعمال الصالحة في زمن الإمكان، وسيؤول ذلك إلى الاجتهاد في الطاعة وترك المعاصي؛ حتى تسهل عليك المحاسبة في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون. أكل حقوق الآخرين : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 احذر أخي المسلم من أكل حق أخيك سواء كان بسرقة أو غصب أو عن طريق رشاً (1) أو غير ذلك؛ فإنَّ الكسب الحرام يفسدُ العبادة، ويخل بالطاعة ويكون مردوده على الصحة عكسياً. والكسب الحرام يفسد تربية الأبناء فتخرج تربيتهم معوجة، فإنَّ الجسد الذي ينبت بالحرام ينبت على معصية الله؛ لأنَّه نشأ من معصية الله، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به)) (2) . فاحرص أخي المسلم كل الحرص على دخلك وكسبك ولو قَلّ، وإياك إياك وحقوق الآخرين، قف متأملاً قول الله تعالى: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُم} [هود:86] . جميع المعاصي محاربة لله : ينبغي للعبد أنْ يعلم أنْ جميع المعاصي محاربةٌ لله؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)) (3) ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن ضارَّ أَضرَّ اللهُ به، ومن شاقَّ شقَّ اللهُ عليه)) (4) . فقوله: " من ضار " أي مسلماً بمعنى: أدخل على مسلم مضرة في ماله أو نفسه أو عرضه بغير حق " أَضرَّ الله به " أي جازاه من جنس فعله، وأدخل عليه المضرة، ومن شاق مسلماً، أي نازع مسلماً ظلماً وتعدياً " شقّ الله عليه " أي أنزل الله عليه المشقة جزاءً وفاقاً. قطيعة الرحم : احذر أخي المسلم قطيعةَ الرحم؛ فإنَّ قطيعة الرحم ذنبٌ عظيمٌ وجرمٌ جسيم، يفصم الروابط، ويقطع الشواجر، ويشيع العداوة والبغضاء، ويفكك الأسر.   (1) جمع رشوة. (2) جزء من حديث رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، أخرجه معمر في جامعه (20719) ، ومن طريقه أحمد في مسنده 3/321. (3) أخرجه: مسلم 8/70 (2699) . (4) حديث حسن أخرجه أحمد 3 / 453 من حديث أبي صرمة - رضي الله عنه -، وللحديث طرق وشواهد انظر مسند أحمد 25/34 طبعة الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وقطيعة الرحم أمرٌ مزيل للألفة والمودة، ومجلبٌ لمزيد من الهم والحزن والغم. وهي من الأمور التي تفشت في مجتمعات المسلمين لا سيما في هذه الأزمان التي طغت فيها المادة، وقل فيها التواصي والتزاور فكثير من الناس مقصرون في هذا الواجب وواقعون في معصية قطيعة الرحم، وقد حذّرنا اللهُ من ذلك أشد التحذير بقوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] ، والسبب في إهمال كثير من الناس لصلة أرحامهم هو الجهل بالدين، وابتعاد الناس عن الهدي النبوي، فكلما كان الشخص عارفاً بالله كان أخشى لله، وصلة الرحم من خشية الله، وقطيعته من معصية الله، نسأل الله السلامة. والواصل للأرحام له أجرٌ كبير، والواصل هو الذي يصل قرابته سواء وصلوه أم قطعوه؛ ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس الواصلُ بالمكافئ، ولكنّ الواصلَ الذي إذا قطعت رحمه وَصَلَها)) (1) . وصلة الأرحام تكون بزيارتهم وتفقدهم، وتتبع أحوالهم في السراء والضراء، وتكون الصلة بالمال وبالجاه، وبمشاركتهم بأفراحهم وبمواساتهم بأتراحهم. ومن صلة الرحم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] . وللقطيعة أسباب تحمل عليها منها الجهل؛ فإنَّ الجهل بفضيلة صلة الأرحام يفوت على المرء فضيلة ذلك، وكذا الجهل بخطر القطيعة وعظمة إثم القاطع يحمل عليها. وكذلك من أسباب القطيعة: ضعف التقوى، وقلة الوازع الديني فإذا ضعفت التقوى، وَرَقَّ الدينُ لم يبال المرء بقطع ما أمر الله به أنْ يوصل، ولعل من أكثر أسباب القطيعة الكبر؛ فبعضهم يتكبر على أقاربه حينما يفيء اللهُ عليه بشيءٍ من عرض هذه الدنيا   (1) أخرجه: البخاري 8/7 (5991) ، وهو في الأدب المفرد (68) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الفانية؛ فتوسوس نفس المتكبر أنَّه صاحب الحق، وأنه أولى بأنْ يزار ويؤتى إليه. ولعل كثيراً من الناس يدفعهم إلى قطيعة الرحم الشح والبخل، فمن الناس من إذا رزقه الله مالاً أو جاهاً تجده يتهرب من أقاربه لا كبراً عليهم، وإنما شحاً وبخلاً أنْ يبذل عليهم. ومن أسباب القطيعة الاشتغال بالدنيا واللهث وراء حطامها، فلا يجد المنهمك في جمع حطام الدنيا الوقت الكافي لصلة أقاربه. وربما كان التحاسد والتنافر سبباً في كثير من الأرحام المقطوعة. ثم إنَّ الوشاية والإصغاء إليها تكون في كثير من الأحايين سبباً في قطيعة الرحم؛ لأنَّ من الناس من دأبه وديدنه إفساد ذات البين فتجده يسعى بين الأحبة لإفساد ذات بينهم. واحذر أخي المسلم من إشاعة و إظهار العيوب فهو مما حرمه الله وحرمه رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور: 19] . قال ابن رجب: ((قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أنْ تستر العصاة، فإنَّ ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب)) (1) فلهذا كانت إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير، وهما من خصال الفجار؛ لأنَّ الفاجر لا غرض له في زوال المفاسد ولا في اجتناب المؤمن للنقائص والمعايب، إنما غرضه في مجرد إشاعة العيب في أخيه المؤمن وهتك عرضه، فهو يعيد ذلك ويبديه ومقصوده تنقص أخيه المؤمن في إظهار عيوبه ومساوئه للناس، ليدخل عليه الضرر في الدنيا (2) .   (1) جامع العلوم والحكم 2/292. (2) الفرق بين النصيحة والتعيير 18-19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 واحذر أخي المسلم بإشاعتك الفاحشة أنْ يكون الحامل لك على هذا القوةَ والغلظةَ ومحبةَ إيذاء أخيك المؤمن، وإدخال الضرر عليه، وهذه الصفة القبيحة هي صفة إبليس الذي يزين لبني آدم الكفر والفسوق والعصيان ليصيروا بذلك من أهل النيران قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر: 6] . ولما ركبَ ابن سيرين الدَّيْنُ وحُبس به قال: ((إني لأعرف الذنب الذي حمل عليَّ به الدين، ما هو؟ قلت لرجل من أربعين سنة: يا مفلس)) (1) . الإشاعة :   (1) أخرجه: أبو نعيم في الحلية 2/271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 احذر أخي المسلم من الإشاعة، والإشاعة: كل قضية أو عبارة نوعية أو موضوعية مقدمة للتصديق، تتناقل من شخص إلى شخص، عادةً بالكلمة المنطوقة، وذلك دون أنْ تكون هناك معايير أكيدة للصدق (1) . فالشائعات لها خطورتها في زعزعة أمن الناس واستقرارهم، وهي تحدث الفوضى والبلبلة في أفكار الناس وتفقدهم توازنهم، ولها أضرار كبيرة، وفي أوقات الأزمات تكون أضرار الإشاعة أكبر، والمرجفون الذين يحاولون زلزلة أوقات الناس في الغالب يستغلون الظروف غير الاعتيادية. وخطر الإشاعات ظاهرٌ وبيّنٌ في كل زمان ومكان. وفي بغداد مدينة السلام - حرسها الله وأذهب عنها شرذمة الكافرين - ذهب أكثر من ألف شخص في ساعة واحدة نتيجة إشاعة من الإشاعات على جسر من الجسور (2) . بل إنَّ خطر الإشاعة على أمن واستقرار الناس قد ظهر قديماً وبشكل واضح في قصة الإفك (3) في فجر الإسلام. فالإشاعة أخي المسلم لها تأثيرها على الروح المعنوية في إثارة الفتن والأحقاد بين الناس، وهذه الفتن والأحقاد قد تؤول إلى جرائم. إذنْ فخطر الإشاعة يكمن في أنها تزيد من تفرُّق المسلمين، وتوقد نار الشحناء والبغضاء بينهم، فيجب الابتعاد عن هذا العمل؛ لأنَّه مُبغَض عند الله تعالى، قال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] فذكر سبحانه وتعالى أنَّ هذا الصنف من الناس يتلقى أعظم الأمور، وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام، فلسان يتلقى   (1) الإشاعة والحرب النفسية: 45. (2) هذا في عام 1426هـ‍على جسر الأئمة الذي يربط منطقة الأعظمية بمنطقة الكاظمية. (3) راجع القصة في صحيح البخاري 6/127 (4750) ، وصحيح مسلم 8/112 (2770) (56) . وانظر: الرحيق المختوم: 245 - 247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 عن آخر بلا تدبر ولا فحص ولا إمعان، حتى لكأنَّ الأمر لا يمر على الآذان ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره العقول، فينطق اللسان بالإشاعة الباطلة من غير وعي ولا عقل ولا قلب. فعلى ناقل الإشاعة أنْ يتقي الله في نفسه، ويراقبه في كل ما يقول ويفعل. وعليه أنْ يتذكر أنَّه مُحاسَب على كل كلمة يتكلم بها، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزلّ بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)) (1) ، وقال أيضاً: ((إنَّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإنَّ العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)) (2) . وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83] . قال الشيخ عبد الرحمان السعدي رحمه الله عن هذه الآية الكريمة: ((هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنَّه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو الخوف الذي فيه مصيبة عليهم أنْ يثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها)) (3) . أما طرق دحض الإشاعة:   (1) أخرجه: البخاري 8/125 (6477) ، ومسلم 8/224 (2988) (50) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه: البخاري 8/125 (6478) من حديث أبي هريرة. (3) تيسير الكريم الرحمان: 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فعليك تذكير الناقل للإشاعة بالله وتحذيره من مغبة القول بلا علم. وتذكير الناقل بالعاقبة المتحصلة إذا كانت الإشاعة كذباً. وعدم التعجل في تقبل الإشاعة دون استفهام أو اعتراض. وعدم ترديد الإشاعة؛ لأنَّ في ذلك انتشاراً لها. وعليك اقتفاء سير الإشاعة وتتبع مسارها للوصول إلى مطلقيها ومحاسبتهم بما أباحه الله. ثم عليك بإماتتها وبالإعراض عنها، قال الإمام مسلم صاحب الصحيح: ((إذ الإعراض عن القول المطّرح أحرى لإماتته وإخمال ذكر قائله، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيهاً للجُهّال عليه)) (1) . هذا وينبغي على الجميع حفظ الألسن عن اتهام البريء بما ليس فيه؛ لأنَّ ذلك يؤدي إلى تلوث الذمم والأخلاق، وليتذكر المسلم دائماً قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بحسب امرئ من الشر أنْ يحقر أخاه المسلم)) (2) . وجوب حفظ اللسان : أخي المسلم الكريم اعلم أنَّ مَن حَفِظَ لِسَانَهُ قَلَّ خطأهُ، وندر عثاره وكان أملك لزمام أمره وأجدر ألا يقع في محذور، وقد بشر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من يضمن ذلك وضمن له النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الجنة في قوله: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) وفي رواية أيضاً: ((من توكل لي ما بين رجليه، وما بين لحييه توكلت له بالجنة)) (3) . فعلى هذا ينبغي لكل مكلف أنْ يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنةُ الإمساك عنه لأنَّه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك يحصل كثيراً للكثير من الناس.   (1) صحيح مسلم 1/22. (2) أخرجه: مسلم 8/10 (2564) (32) من حديث أبي هريرة. (3) أخرجه: البخاري 8/125 (6474) و8/203 (6807) من حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فالمسلم إذا استقام لسانه استقامت جوارحه، وأما من أطلق عنان ذلك الأمر، ودخل لسانه في معصية الله، وخاض في أعراض الناس؛ فإنَّ جوارحه ستعصي وتنتهك حرمات الله، وقد جاء عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أصبح ابن آدم، فإنَّ الأعضاء كلها تُكفِّر (1) اللسان فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)) (2) . أخي المسلم الكريم، تذكّر دائماً وقوفك عند الله وأنت عريان، فلا تطلق لسانك، وكن عليه رقيباً. اللسان دليل على كمال عقل الإنسان أو نقصانه، فمن أفلت لسانه دل على نقصان عقله فأكثر الناس كلاماً ولغواً هم أقلهم عقولاً، تمعّن جيداً فالأمر جد خطير؛ لأنَّه متعلق إما بدخول الجنة أو النار، وهذا ما نرجوه، وهو العمل على ما يدخل الجنة، وتجنب ما يدخل النار. اللسان يدخل الإنسان الإسلام بكلمة، ويخرج منه بكلمة، ويدخل بذلك النار. تنبه دائماً أنَّ كل كلمة وكل لفظة مسجلة، كم يجلس الإنسان في مجالس، وفي أكثر المجالس يأتون بإنسان ميت ينهشون بلحمه يأكلون أخاهم ميتاً، نعم من يغتاب أخاه المسلم كمن يأكل لحم أخيه ميتاً، فالمسلم له حرمة، وحرمته أعظم من حرمة الكعبة فقد روى ابن ماجه (3) من حديث عبد الله بن عمر قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالكعبة ويقول: ((ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأنْ نظن به إلا خيراً)) .   (1) تكفر: بتشديد الفاء المكسورة أي تتذلل وتتواضع له من قولهم: كفر اليهودي إذا خضع مطأطأ رأسه، وانحنى لتعظيم صاحبه. تحفة الأحوذي 7/74-75 (2) أخرجه: ابن المبارك في الزهد (1012) ، والطيالسي (2209) ، وأحمد 3/95، والترمذي (2407) ، وأبو يعلى (1185) من حديث أبي سعيد الخدري. (3) برقم (3932) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 تذكّر أخي المسلم كم إنساناً تكلمتَ فيه؟ وكم إنساناً طعنتَ فيه؟ كل هؤلاء سوف يكونون خصماءك عند الله - عز وجل -، نعم سيكونون خصماءك يوم القيامة، فهذا أخوك المسلم تغتابه وتتكلم فيه وتطعن به، ولا تظنه سيكون خصمك يوم القيامة، أتظن أنَّ الله سيتركك؟ لا: إنَّ الله لن يتركك؛ لأنَّ الله أعدل العادلين ينصف المظلومين من الظالمين. فتنبه دائماً أنَّ الكلمة إذا خرجت فهي مكتوبة لك أو عليك؛ فإياك وإياك أنْ تتكلم إلا وتفكر هل سيكتب لك أو عليك؟ والسلامة لا يعدلها شيء فإنْ لم تعرف أنَّ ما تتكلم به خيراً أو شراً فعليك بالصمت، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من صمت نجا)) (1) فانتبه دائماً للسانك قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] يقول عبد الله بن مسعود: ((والله الذي لا إله غيره ما من شيء أحوج إلى سجن من لسان)) (2) ، وهذا ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن كان يقول: ((قل خيراً تغنم، أو اصمت تسلم قبل أن تندم)) (3) . أخي المسلم الكريم، تمعن في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشمائله وانظر كيف أنه كان كثير الصمت، فهذا نبينا الأعظم رسولٌ ونبيٌّ وكانت هذه صفته، وكان الأعرابيُّ يدخل المسجد فلا يعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كثرة كلامه، ولا من جلسته ولا من مكانه، وهذا دليل على مزيد تواضعه صلوات الله وسلامه عليه.   (1) أخرجه: أحمد 2/159 و177، والترمذي (2501) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -. (2) أخرجه: ابن أبي عاصم في " الزهد " (864) ، والطبراني (8744) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/134. (3) أخرجه: ابن أبي عاصم في " الزهد " (1043) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/327 - 328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 أخي المسلم الكريم، تمعن في قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حينما قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) (1) هكذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأنَّ الصمت والسلامة لا يعدلهما شيءٌ، فأنت إذا تكلمت إما لك وإما عليك قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10 - 11] فاحرص دائماً أنْ تقول قولاً سديداً؛ لأنَّه ليس هناك كلام يذهب سدىً فأنت تتكلم بكلام إما يسخط الله فيكتب عليك، وإما من رضوان الله فيكتب لك. فعليك دائماً أنْ تتنبه إلى لسانك حتى لا يوردك الموارد، فهذا أبو بكر الصديق المبشر بالجنَّة، وصاحب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالغار يشير إلى لسانه ويقول: ((هذا أوردني الموارد)) (2) فإذا كان هذا حال لسان أبي بكر، ذلك اللسان الذاكر الحامد المسبح، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، الناصر لدين الله، المصدِّق لرسول الله، فما حال ألسنتنا، نسأل الله السلامة. التخلق بالأخلاق الإسلامية : على كل مسلم ومسلمة أنْ يتخلقا بالأخلاق الإسلامية التي أمر الله بها عباده في القرآن الكريم وحث عليها النَّبيُّ الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنْ يستقيما عليها حتى يأتيهما الموت، فالله سبحانه وتعالى خلق الجن والإنس لطاعته وعبادته، ووعدهم أحسن الجزاء إذا استقاموا عليها فوعدهم الله سبحانه وتعالى على التوفيق في الدنيا والإعانة على الخير، ثم في الآخرة الجنة والفوز بالنعيم المقيم. التوبيخ والتعيير:   (1) أخرجه: البخاري 8/125 (6475) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) أخرجه: وكيع بن الجراح في " الزهد " (287) ، وهناد في " الزهد " (1093) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 واحذر أخي المسلم من التوبيخ والتعيير بالذنب؛ فإنَّ ذلك مذموم، وقد نهى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ تُثرّب الأمة الزانية مع أمره بجلدها، فتجلد حداً ولا تعيّر بالذنب ولا توبّخ؛ لذا فرّق أهلُ العلم بين النصيحة والتعيير، ويقول الفضيل: ((المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعيّر)) (1) . وهذا المعنى عظيم، والفرق ظاهر بين النصيحة والتعيير، وهو أنّ النصح يقترن به الستر، والتعيير يقترن به الإعلان، وقد قيل: ((من أمر أخاه على رؤوس الملأ فقد عيَّره)) . الزنا : إنَّ من أعظم حُرم المسلم على المسلم العرض، ومن ذلك الزنا، وأنا لن أتكلم عن هذه الجريمة العظمى من بابها الواسع، بل سأتكلم عنها من جانب أنها جريمة عظمى بحق أخيك المسلم. ولو لم يكن في هذه الجريمة إلا تدنيس العرض والشرف ونزع شعار الطهر والعفاف والفضيلة لكفى هذه الجريمة سوءاً. ثم إنَّ صاحب هذه الجريمة يُكسَى ثوب المقت بين الناس. وجريمة الزنا تشتت القلب وتمرضه إن لم تُمِتْهُ، وهذه الجريمة تفسد نظام البيت وتهز كيان الأسرة وتقطع العلاقة الزوجية، ثم يتعرض الأولاد لسوء التربية مما يتسبب عنه التشرد والانحراف والجريمة.   (1) انظر: جامع العلوم والحكم 1/225 حديث (7) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ثم إنَّ في هذه الجريمة ضياعاً للأنساب واختلاطها وتمليك الأموال لغير أصحابها عند التوارث، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن يخلط النسب حينما أراد رجل أنْ يطأ جارية، وكانت حاملاً فقد روى الإمام مسلم في صحيحه (1) من حديث أبي الدرداء، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه أُتي بامرأة مجحٍ (2) على باب فسطاط فقال: ((لعله يريد أنْ يلمَّ بها؟)) فقالوا: نعم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد هممتُ أنْ ألعنه لعناً يدخُلُ معه قبرَه، كيف يورثه وهو لا يحلُ له؟ كيف يستخدمُه وهو لا يحلُ له؟)) . وإنَّ من أعظم الزنا وأشده الزنا بحليلة الجار قال ابن القيم: ((وأعظم أنواع الزنا أنْ يزني بحليلة جاره، فإنَّ مفسدة الزنا تتضاعف ما ينتهكه من الحرمة، فالزنا بالمرأة التي لها زوج أعظم إثماً وعقوبة من التي لا زوج لها؛ إذ فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه، وتعليق نسب غيره عليه، وغير ذلك من أنواع أذاه فهو أعظم إثماً وجرماً من الزنا بغير ذات البعل، فإنْ كان زوجها جاراً له انضاف إلى ذلك سوء الجوار)) (3) . وقد ذكر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن من أكبر الكبائر: ((أنْ تزاني حليلة جارك)) (4) . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)) (5) . وكذلك إنَّ من أشد الزنا الزنا بنساء المجاهدين في سبيله، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:   (1) صحيح مسلم 4/160 (1441) (139) . (2) هي الحامل التي قربت ولادتها. (3) موارد الضمآن 5 / 108 (21) . (4) أخرجه: البخاري 6/22 (4477) ، ومسلم 1/63 (86) (141) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (5) أخرجه: مسلم 1/49 (46) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ((حرمةُ نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجلٍ من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وقف يوم القيامة فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى)) (1) . صفات المؤمنين والمؤمنات : تذكر أخي المسلم دائماً صفات المؤمنين حتى تتحلى بها؛ فمما ورد منها في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71] . فهذه هي صفات المؤمنين والمؤمنات، وهذه هي أخلاقهم، بعضهم أولياء بعض لا حقد ولا حسد ولا نميمة، ولا غش ولا خداع ولا خيانة ولا تنابز بالألقاب، ولا غير ذلك مما يؤذي المسلم أو المسلمة مما يسبب الشحناء والبغضاء والعداوة والفرقة. بل هم أولياء يتحابون في الله ويتناصحون بكل خير، ولذلك هم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فيما بينهم , وبهذا تصلح مجتمعاتهم وتستقيم أحوالهم. التحذير من أذية الجار :   (1) أخرجه: مسلم 6/42 (1897) (139) و43 (1897) (139) و (140) من حديث بريدة ابن الحصيب - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 واحذر أخي المسلم من أذية جارك فإنَّ للجار حقوقاً، وقد وصى الله بالجار فقال في كتابه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] وصحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنَّه سيورثه)) (1) . وقال: ((يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فاكثر ماءها وتعاهد جيرانك)) (2) ، وقال: ((لا يمنع جارٌ جاره أنْ يغرز خشبة في جداره)) (3) . وقال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت)) (4) . وقد حذرنا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من أذية الجار، فقال: ((والله لا يؤمنُ، والله لا يؤمنُ، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جارُه بوائقَه)) (5) .   (1) أخرجه: البخاري 8/12 (6015) ، ومسلم 8/37 (2625) (141) من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -. (2) أخرجه: مسلم 8/37 (2625 (م)) (142) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -. (3) أخرجه: البخاري 3/173 (2463) ، ومسلم 5/57 (1609) (136) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وانظر بلا بد مسند الإمام الشافعي 3/224-225 (1494) مع تعليقي عليه. (4) أخرجه: البخاري 8/39 (6136) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (5) أخرجه: البخاري 8/12 (6016) من حديث أبي شريح الخزاعي - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 مما تقدم يتبين لنا منزلة الجار في نظر الإسلام وأنَّ ما نراه عند كثير من الناس الآن من الذين لا يهتمون بحق الجوار، ولا يأمن جيرانهم شرورهم فتراهم دائماً في نزاع معهم وشقاق واعتداء على الحقوق، وإيذاء بالقول والفعل، كل هذا مخالف لما جاء به القرآن والسنة الصحيحة، وإنَّ ما نراه من ذلك موجبٌ لتفكك المسلمين، وتباعد قلوبهم وإسقاط بعضهم حرمة بعض. وعلى المسلم إذا ابتلي بجار سوء أنْ يصبر عليه، فإنَّ صبره سيكون سبب خلاصه منه، فقد جاء رجل إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يشكو جاره فقال له: ((اصبر)) ثم قال له في الثالثة أو الرابعة: ((اطرح متاعك)) في الطريق فطرحه فجعل الناس يمرون به ويقولون ما لك؟ فيقول: آذاني جاري فيلعنون جاره حتى جاءه وقال له: ((رد متاعك إلى منْزلك فإني والله لا أعود)) (1) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، إنَّ فلانة تقوم الليل وتصوم النهار وتفعل وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها، فقال رسول الله: ((لا خير فيها، وهي من أهل النار، وقال: وفلانة تصلي المكتوبة وتصدق بأثوار من الأقط ولا تؤذي أحداً، فقال رسول الله: هي من أهل الجنة)) (2) . مما تقدم من نصوص الكتاب والسنة نعلم كيف عني الإسلام بالجار عناية عظيمة؛ إذ حث على الإحسان إليه بالقول والفعل وحرم أذاه بالقول والفعل، وجعل الإحسان إليه ومنع الأذى عنه من خصال الإيمان، ونفى الإيمان الكامل عن من لا يأمن جاره شَرّهُ، وأخبر أنَّ خير الجيران عند الله خيرهم لجاره. دماء المسلمين :   (1) أخرجه: البخاري في الأدب المفرد (124) ، وأبو داود (5153) ، وابن حبان (520) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) أخرجه: أحمد 2/440، والبخاري في " الأدب المفرد " (119) ، وابن حبان (5764) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أخي المسلم الكريم: إياك إياك الوقوع في دماء المسلمين فإنَّ مما عُلِمَ من الدين بالضرورة وتواترتْ به الأدلة من الكتاب والسنة حُرمةُ دم المسلم؛ فإنَّ المسلم معصوم الدم والمال، لا تُرفعُ عنه هذه العصمة إلاّ بإحدى ثلاث؛ إذ يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يَحلُّ دمُ امرىءٍ مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: كَفَرَ بعدَ إسلامهِ، أو زَنَى بعد إحصانهِ، أو قَتَلَ نفساً بغير نفس)) (1) ، وما عدا ذلك، فحرمة المسلم أعظم عند الله من حرمة الكعبة، بل من الدنيا أجمع. وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)) (2) وهذا الحديث وحده يكفي لبيان عظيم حرمة دم المسلم، ثم تبصّر ماذا سيكون موقفك عند الله يوم القيامة إنْ أنت وقعت في دم حرام، نسأل الله السلامة.   (1) أخرجه: أبو داود (4502) ، وابن ماجه (2533) ، والترمذي (2158) ، والنسائي 7/91 وفي الكبرى، له (3482) من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. (2) أخرجه: النسائي 7/82 وفي الكبرى، له (3448) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 قال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93] : (يقول الله تعالى: ليس لمؤمنٍ أنْ يقتل أخاه بوجه من الوجوه، وكما ثبت في الصحيحين (1) عن ابن مسعود: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحلُ دم امرىء مسلم يشهد أنْ لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) ، ثم إذا وقع في شيء من هذه الثلاث فليس لأحد من آحاد الرعية أنْ يقتله، وإنَّما ذلك إلى الإمام أو نائبه) (2) . وقال ابن كثير في تفسير نفس الآية: (وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول الله سبحانه في سورة [الفرقان: 68] {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ} الآية، وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}   (1) أخرجه: البخاري 9 / 6 (6878) ، ومسلم 5 / 106 (1676) (25) . (2) تفسير ابن كثير: 514 و515. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 إلى أن قال: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] ، والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً)) (1) : ((وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من جحد آية من القرآن، فقد حل ضرب عنقه، ومن قال: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، فلا سبيل لأحد إلاّ أن يصيب حداً فيقام عليه)) (2) . وفي رواية عن أنس - رضي الله عنه -: ((فإذا شهدوا أنْ لا إله إلاّ الله وأنَّ محمداً رسول الله واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا فقد حُرّمتْ علينا دماؤهم وأموالهم إلاّ بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم)) (3) . وعلى المسلم أنْ يقف كثيراً عند قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] . فانظر أخي المسلم إلى عظمة كلمة لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، والحصن والأمان الذي تضفيه على صاحبها إلاّ باستثناءات ذُكرتْ آنفاً.   (1) تفسير ابن كثير: 516. (2) أخرجه: ابن ماجه (2539) ، وابن عدي في " الكامل " 3/280. (3) أخرجه: البخاري 1/109 (393) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ومما لا بد من علمه أخي المسلم أن الله - عز وجل -لم يجعلْ عقوبةً بعد عقوبةِ الشرك بالله أشدَّ من عقوبة قتل المؤمن عمداً حيث يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93] ، وقد اختلف السلف في هذه الآية فذهب بعض الصحابة إلى أنَّ هذه الآية محكمةٌ وأنها آخر ما نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وممن ذهب إلى ذلك الإمام الحبر الصحابي الجليل وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فعن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس أنَّ رجلاً أتاه فقال: أرأيتَ رجلاً قتل رجلاً متعمداً؟ قال: جزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً، قال: أُنزِلتْ في آخر ما نزل، ما نسخها شيءٌ حتى قُبضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أرأيتَ إنْ تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال: وأنى له التوبة، وقد سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ثكلتْهُ أُمُه رجلٌ قتلَ رجلاً متعمداً يجيء يومَ القيامة آخذاً قاتله بيمينه أو بيساره وآخذاً رأسه بيمينه أو شماله تشخبُ أوداجه دماً في قبل العرش يقول: يا رب سَلْ عبدك فيم قتلني؟)) (1) ، وفي الحديث الصحيح الذي يرويه النسائي في المجتبى (2) عن معاوية - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - قال: سمعته يخطب - يقول: ((كلُّ ذنبٍ عسى اللهُ أنْ يغفره إلاّ الرجلُ يقتلُ المؤمنَ متعمداً أو الرجل يموتُ كافراً)) فأيُّ خطر هذا، وأي مهلكة يقدم عليها المرء ويجازف بها، حياةٌ لا ممات فيها وخلودٌ في مستقر لا تَقَرُّ به عينٌ ولا تُرفعُ به عقيرةٌ فخراً وزهواً، وغَضَبٌ من الله   (1) أخرجه: الحميدي (488) ، وأحمد 1/240، وعبد بن حميد (680) . (2) 7/81 وفي " الكبرى "، له (3446) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وعذابٌ عظيم وخزي في الدنيا والآخرة مع مكث ولبث طويلين لا يعلم أمدهما إلاّ الله جل في علاه نسأل الله السلامة لنا ولمن اتعظ واتّبع. ثم تبصّرْ أخي المسلم الكريم الحديث جيداً لتنظر كيف أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد قرن بين قتل المؤمن والشرك بالله تعالى، وجعلهما مشتركين في استبعاد الغفران. واعلم أخي المسلم أنَّ أول ما يُقضَى يوم القيامة بين العباد في الدماء ففي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((أولُ ما يُحاسَبُ به العبدُ الصلاةُ، وأولُ ما يُقضَى بينَ الناسِ الدماءُ)) (1) وما ذلك إلا لعظم خطرها يوم القيامة فاستعد للموقف العظيم، والسؤال الصعب الذي ما بعده إلا جنة أو نار. وكل الذنوب يُرجَى معها العفو والصفح إلاّ الشرك، ومظالم العباد. ولا رَيبَ أنَّ سَفْكَ دماء المسلمين وهَتْكَ حرماتهم لَمِنْ أعظم المظالم في حق العباد، فعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس من عبد يلقَى اللهَ لا يشرك به شيئاً، ولم يتند بدم حرام إلاّ دخل من أي أبواب الجنة   (1) أخرجه: البخاري 9/3 (6864) ، ومسلم 5/107 (1678) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ((دون الشطر الأول)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 شاء)) (1) قوله: ولم يتند: أي لم يصب منه شيئاً أو لم ينل منه شيئاً ويقول الرسول الأعظم في حديث رواه البخاري في صحيحه (2) : ((أبغض الناس إلى الله ثلاث: مُلْحِدٌ في الحَرَم، ومُبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرىء بغير حق ليهريق دمه)) . وعن جندب - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من سَمّعَ سَمّعَ اللهُ به يوم القيامة، قال: ومن يشاقق يشقق الله عليه يوم القيامة، فقالوا: أوصنا. فقال: إنَّ أول ما ينتن من الإنسان بطنه فمن استطاعَ أنْ لا يأكل إلاّ طيباً فليفعل، ومن استطاع أنْ لا يحال بينه وبين الجنة ملء كف منْ دم أهراقه فليفعل)) رواه البخاري (3) . وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قتل مؤمناً فاغتبط (4) بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)) (5) .   (1) أخرجه: أحمد 4/148، وابن ماجه (2618) ، والحاكم 4/351 - 352. (2) 9 / 7 (6882) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -. (3) 9 / 80 (7152) . (4) هم الذين يقتلون في الفتنة، فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدا ولا يستغفر الله منه أبداً. مسند الشاميين 2/266. (5) أخرجه: أبو داود عقب (4270) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وإياك إياك أخي المسلم أنْ تُضيع على نفسك فرصة النجاة فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ دماً حراماً)) (1) أخي المسلم الكريم، هل أنت على استعداد أنْ تفوّت على نفسك فرصة النجاة العظيمة من النار، وقد روى البخاري ومسلم (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) . ثم اجعل دائماً أخي المسلم نُصْبَ عينيك أنَّ دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، ولا تحل إلا بإذن الله ورسوله. واعلم أخي المسلم: أنَّ ما أوردناه غيض من فيض وقليل من كثير فهو إشارات لكثير من العبارات التي وردت في الكتاب والسنة، تحث المسلمين على الورع والكف عن دماء إخوانهم، ولما سبق ذكره كان الصحب الكرام والتابعون لهم بإحسان أشد ما يكونون من الورع والوجل من أنْ يغمس أحدهم يده بمظلمة في حق مسلم، وكانوا كذلك رحمهم الله ورضي عنهم لشدة ما سمعوا ووعوا من كلام النبوة في التحذير من الانغماس في الفتن والشبهات والتزام النفس والبيت، وعدم الولوج في حرمات المسلمين حتى بالكلام، صوناً لهم عن التسبب في مظالم للمسلمين فضلاً عن الخوض فيها. قال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -: ((إنَّ بعدكم فتناً القاعد خير من الساعي، حتى ذكر الراكب، فكونوا فيها أحلاس بيوتكم)) (3) . وعن جندب - رضي الله عنه - قال: ((ستكون فتن، فعليكم بالأرض، وليكن أحدكم حلس بيته؛ فإنه لا ينبجس لها أحدٌ إلاّ أَرْدَتْهُ)) (4) .   (1) أخرجه: البخاري 9 / 2 (6862) . (2) أخرجه: البخاري 1/41 (121) ، ومسلم 1/58 (65) (118) من حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -. (3) أخرجه: نعيم بن حماد في الفتن (489) . (4) أخرجه: نعيم بن حماد في الفتن (490) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وحينما اعتزل سعد بن مالك وعبدُ الله بن عمر - رضي الله عنهم - الفتنةَ قال علي - رضي الله عنه -: ((للهِ دَرُّ منزلٍ نَزلَه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، واللهِ إنْ كان ذنباً إنه لصغير مغفور، ولئن كان حسناً إنه لعظيم مشكور)) (1) . تذكّر أخي المسلم ما في الصحيحين (2) من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قلت: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول، قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)) .   (1) أخرجه: الطبراني في الكبير (319) . (2) البخاري 1/14 (31) ، ومسلم 8/169 (2888) (14) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وفي الصحيحين (1) أيضاً من حديث الأحنف بن قيس قال: ذهبتُ لأنصر هذا الرجل - يعني: علي بن أبي طالب - فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل، قال: ارجع فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار … )) ثم ذكر بقية الحديث. وفي رواية أخرى للبخاري (2) عن الحسن قال: خرجتُ بسلاحي ليالي الفتنة فاستقبلني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أريد نصرة ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) ، وفي رواية لمسلم (3) : ((إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على جرف جهنم، فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلا جميعاً)) وهذا كله إذا كان القتل غير مأذون به شرعاً، وقد قصّ الله علينا في كتابه العظيم خبر أول حادثة قتل وقعت في تاريخ البشرية حين قتل أحد ابني آدم أخاه قتله ظلماً وبغياً وحسداً فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] ومع إن هذا القاتل قد هدّد أخاه بالقتل وأكد ذلك بقوله: ((لأَقْتُلَنَّكَ)) فقد تلطّف معه لعله أنْ يرجع عن عزمه، وأخبره أيضاً أنه لن يمد يده ليقتله مهما هدده، بل إنه حتى ولو باشر عملية القتل فسيكف يده أيضاً خوفاً من الله رب العالمين، فقال له: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}   (1) سبق ذكره. (2) 9/64 (7083) . (3) 8/170 (2888) (16) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 [المائدة: 28] ثم أخذ ينصح أخاه ويعظه لعله يرجع عما هَمَّ به، ومع كل هذا التلطف والنصح فلم ينفع ذلك أخاه، ولم يثنه عن عزمه على قتل أخيه. وكذلك الظلم والحقد والبغي والحسد كل ذلك يعمي القلب عن الحق، ويصم الأذن عن سماع الحق، فلا يزال القلب مُصِرّاً على المعصية والإثم والموبقة، والشيطان يدفعه إلى تلك المعصية، فالشيطان هو العدو الأول للإنسان فيدفعه إلى ذلك دفعاً، ويهوِّن عليه الأمر حتى إذا وقع فيها تخلى عنه الشيطان وتبرأ منه، ثم بعد ذلك تَظْلَمُّ عليه الدنيا وتضيق عليه الأرضُ بما رَحُبَتْ، قال تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30] ثم بعد ذلك ماذا حصل للقاتل؟ ندم على ذلك الفعل الشنيع، ولكن هل ينفع الندم على قتله؟ لا ينفع الندم؛ لأنَّ أخاه قد مات، ولن يرجع إلى الحياة الفانية، ثم ماذا يصنع هذا القاتل بعد جريمته تحيّر وبقي يحمله مدة طويلة. أولُ قتيل لا يدري ماذا يصنع به هل يحمله ويضعه في الماء أم هل يضعه فوق الجبال، أشكل عليه الأمرُ، فالأمر معضلة ومشكلة، لأنَّه أول حادثة قتل تحدث على الأرض. فأظهر القاتل ندمه على سوء فعلته وصنيعه فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يدفن أخاه حتى أراه الله كيف يدفن الغراب غراباً. وقد بيّن لنا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنه ما من نفس تُقتل ظلماً منذ ذلك التاريخ وحتى آخر يوم من الدنيا إلا كان لهذا القاتل كفلٌ منها؛ لأنه أول من سن القتل، وهذا شأن كل مَن سَنّ ضلالة أو دعا إلى ضلالة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وقد بيّن الله سبحانه في كتابه بعد أنْ ذكر قصة ابني آدم أنَّ جريمة القتل عظيمة، وأنَّ من قتل نفساً بغير نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً يقول الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] وهذا الحكم وإنْ كان ظاهره خاصاً ببني إسرائيل إلا إنه عام فينا وفيهم فقد سأل سليمانُ بنُ علي الحسنَ عن هذه الآية فقال: ((قلت للحسن: هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل فقال: والذي لا إله غيره كما كانت لبني إسرائيل وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دماءنا)) (1) . أخي المسلم الكريم، إنَّ الله تبارك وتعالى قد نهى عن قتل النفس بغير الحق في كتابه الكريم، وأثنى عز وجل على الذين يجتنبون هذه الجريمة العظيمة، وقد توعّد سبحانه من يفعلها باللعنة والغضب والعذاب العظيم والخلود في نار جهنم فقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93] . فاستحضر أخي المسلم هذا التهديد العظيم وهذا الوعيد الكبير فأي تهديد بعد هذا وأي وعيد بعد هذا الوعيد كل ذلك؛ لأنَّ المسلم له مكانة عند الله تعالى. ودم المسلم هو أغلى الدماء التي يجب أنْ تُصانَ، وأن يُغضَب لإراقتها. أخي المسلم الكريم قد بيّن الله سبحانه وتعالى حرمة المسلم ومكانته عند الله تعالى فقد صحّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله   (1) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (9211) ، وما تقدم من كلام عن هذه القصة اقتباس من محاضرة للشيخ ممدوح الحربي بعنوان القاتل والمقتول، جزاه الله خير الجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 من زوال الدنيا)) (1) وفي رواية أخرى: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلمٍ)) (2) . وفي حديث آخر: ((لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق)) (3) فهذه مكانة المسلم عند الله تعالى فتدبّر أيها القاتل ماذا تصنع بفعلتك؟ !! فلزوال الدنيا كلها أهون من قتل رجل مؤمن بغير حق، زوال الدنيا بأموالها ومزارعها ومصارفها ومصانعها وتجاراتها وبناياتها ودولها وأحلافها، وكل ما فيها أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق. بل المسلم له حرمة حتى بعد موته فقد نهى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن كسر عظم الميت، وأخبر أنَّ عظم الميت إذا كُسر فكأنما كُسر وهو حيٌّ، فقد صحّ عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حياً)) (4) . أخي المسلم الكريم، إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد حذّر أمته أشد التحذير من هذه الجريمة فقال: ((سباب المسلم فسوقٌ وقتاله كفر)) (5) وقال: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) (6) وبيّن أنَّ هذه الجريمة من السبع الموبقات المهلكات فقد قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا   (1) سبق تخريجه. (2) أخرجه: الترمذي (1395) بهذا اللفظ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -. (3) أخرجه: ابن ماجه (2619) من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -. (4) أخرجه: بهذا اللفظ ابن الجارود (551) وأخرجه: أبو داود (3207) ، وابن ماجه (1616) بلفظ: ((كسر عظم الميت ككسره حياً)) . (5) أخرجه: البخاري 1/19 (48) ، ومسلم 1/57 (64) (116) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (6) سبق تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) (1) وقال أيضاً: ((أكبر الكبائر: الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقول الزور)) (2) . وروى النسائي (3) من حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من جاء يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويجتنب الكبائر كان له الجنة)) فسألوه عن الكبائر فقال: ((الإشراك بالله وقتل النفس المسلمة والفرار يوم الزحف)) . وروي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قتل مؤمناً فاغتبط بقتله (يعني سره ذلك وفرح به) لن يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)) (4) .   (1) أخرجه: البخاري 4/12 (2766) ، ومسلم 1/64 (89) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) أخرجه: البخاري 3/225 (2654) ، ومسلم 1/64 (87) (143) من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -. (3) 7/88 وفي الكبرى، له (3472) . (4) سبق تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وقاتل المسلم مهما فرَّ في هذه الدنيا، فإنَّه لن يفلت يوم القيامة، ولن يتركه المقتول يوم القيامة، فقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يجيء الرجل آخذاً بيد الرجل فيقول: يا رب هذا قتلني فيقول له: لما قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لك فيقول: فإنها لي، ويجيء الرجل آخذاً بيد الرجل فيقول: يا رب، إنَّ هذا قتلني فيقول الله: لما قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان فيقول الله تعالى: ((إنها ليس لفلان فيبوء بإثمه)) )) (1) وفي رواية للنسائي (2) أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يجيء المقتول بقاتله يوم القيامة فيقول: سَلْ هذا فيم قتلني؟)) فهذا هو الحساب وهو أشد أنواع الحساب فهو ليس تحقيقاً دنيوياً يستطيع به بعضهم أن يتخلص ببعض من يكون للخائنين ظهيراً. فاحذر أخي المسلم كل الحذر أن تقع في دم حرام فتقتل أحداً من أجل فلان أو مُلْكِ فلان أو إمارة فلان، فإنهم لن ينفعوك شيئاً عند الله، ولن يدفعوا عنك شيئاً من عذاب الله. وروى النسائي (3) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يجيء المقتول متعلقاً بالقاتل تشخب أوداجه دماً فيقول: أي رب سَلْ هذا فيم قتلني؟)) وعند ابن ماجه (4) والترمذي (5) عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دماً فيقول: يا رب سَلْ هذا فيم قتلني؟ حتى يدنيه من العرش)) .   (1) أخرجه: النسائي 7/84 وفي الكبرى، له (3460) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (2) 7/84 وفي الكبرى، له (3461) من حديث جندب - رضي الله عنه -. (3) 7/85 و8/63، وفي الكبرى، له (3462) و (7072) . (4) سنن ابن ماجه (2621) . (5) الجامع الكبير (3029) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 إذن احذر أخي المسلم أنْ يكون لك أحدٌ بالمرصاد يوم القيامة فإنَّ من تقتله في الدنيا لن يتركك في الآخرة، بل هو لك بالمرصاد. والله سبحانه وتعالى لما جعل للنفس المسلمة هذه الحصانة الكبيرة؛ ذلك لأنَّ نفس المسلم لها مكانة وحرمة، فليس أحد يملكها أو يملك إزهاقها، بل إنَّ ذلك ممنوع غاية المنع، ولا يجوز إلا بإذن من الله تبارك وتعالى وإذن رسوله - صلى الله عليه وسلم -. بل حتى نفسك التي بين جنبيك لا تملكها أنت ولا يحل لك إزهاقها؛ ولهذا جاء الوعيد الشديد فيمن يقتل نفسه متعمداً؛ ففي الصحيحين (1) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من تَردَّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يَتردّى فيها خالداً مُخلَّداً فيها أبداً، ومن تَحسَّى سُماً فقتل نفسه فَسُمُّه في يده يتحسَّاهُ في نار جهنم خالداً مُخلّداً فيها أبداً، ومن قتلَ نفسَه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مُخلّداً فيها أبداً)) . وروى البخاري (2) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار، والذي يقتحم يقتحم في النار)) . وفي الصحيحين (3) من حديث ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف على ملة غير الإسلام فهو كما قال، وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذِّبَ به يوم القيامة، ومن لعن مؤمناً فهو كقتله، ومن قذف مؤمناً بكفر فهو كقتله)) . ولفظ جامع الترمذي (4) :   (1) أخرجه: البخاري 7/181 (5778) ، ومسلم 1/72 (109) . (2) 2/121 (1365) . (3) أخرجه: البخاري 8/18 (6047) ، ومسلم 1/73 (110) (176) . (4) الجامع الكبير (1527) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ((ليس على المرء نذر فيما لا يملك، ولاَعِنُ المؤمن كقاتله، ومن قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله، ومن قتل نفسه بشيء عُذِّبَ بما قتل به نفسه يوم القيامة)) . فتنبه أخي المسلم الكريم دائماً بأنَّ مسألة قتل النفس بغير حق من الأمور الخطيرة التي تضيّق على من ارتكبها الدنيا بما فيها، فمجرد أنْ يقع المسلم في هذه الجريمة تضيق عليه الأرض وتضيق عليه نفسه لذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لن يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ نفساً حراماً)) (1) وفي رواية لأبي داود (2) عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال المؤمن مُعنقاً (والمعنق هو طويل العنق الذي له سوابق بالخير) ما لم يُصِبْ دماً حراماً … ..)) وروى البخاري (3) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حلة)) . ونبينا الأكرم - صلى الله عليه وسلم - قد بيّن لنا فضل من خرج من الدنيا ولم يتلطخ بدم المسلم فقال: ((من لقي الله لا يشرك به شيئاً لم يتند بدم حرام دخل الجنة)) (4) . فهنيئاً لمن خرج من الدنيا ولم يتلطخ بدم مسلم، وهنيئاً لمن خرج من الدنيا ولم يحمل مسلماً على ظهره يأتي به يوم القيامة، هنيئاً لمن خرج من الدنيا وقد سلم المسلمون من لسانه ويده، هنيئاً لمن فارق الدنيا ولم يقترف جريمة يسفك بها دم مسلم.   (1) أخرجه: البخاري 9/2 (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (2) سنن أبي داود (4270) . (3) 9/2 (6863) . (4) أخرجه: ابن ماجه (2618) من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 تذكّر أخي المسلم وصية النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: ((إنَّ أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع أنْ لا يأكل إلا طيباً فليفعل، ومن استطاع أنْ لا يحال بينه وبين الجنة بملء كف من دم أهراقه فليفعل)) (1) . فاحذر أخي المسلم كل الحذر أنْ يحول بينك وبين الجنة ملء كف من دم تهريقه بغير حقه. واعلم أخي المسلم الكريم أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يحذِّر أمته من الأمور التي تدعو الإنسان إلى أنْ يقتل مسلماً أو أنْ يجرح مسلماً، ومن ذلك أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أنْ يمر المسلم، ومعه السهام في أسواق المسلمين، أو في مساجد المسلمين، أو في أي مكان من أماكن تجمعهم، إلا أن يكون النصل مغطىً حتى لا يجرح به مسلماً، وهو لا يشعر. فقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((إذا مَرَّ أحدكم بمسجدنا أو في سوقنا، ومعه نبل فليمسك عن نصالها بكفه، لا يعقر مسلماً)) (2) ومن تلك الأمور التي حذّر منها النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه نهى عن الإشارة إلى المسلم بأي شيء يحتمل أنْ يقتله أو يجرحه، نهى عن ذلك وأخبر أنّ من فعل ذلك فأنَّه ربما نال اللعنة والوعيد الشديد؛ لذلك قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُشِرْ أحدُكم على أخيه بالسلاح؛ فإنَّه لا يدري لعل الشيطان ينزع يده فيقع في حفرة من النار)) (3) .   (1) سبق تخريجه. (2) أخرجه: البخاري 1/122 (452) ، ومسلم 8/33 (2615) (124) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. (3) أخرجه: البخاري 9/62 (7072) ، ومسلم 8/34 (2617) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وصحّ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإنَّ الملائكة تلعنه، وإنْ كان أخاه لأبيه وأمه)) (1) . وصحّ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - نهى أنْ يُتعاطَى السيف مسلولاً (2) ، وكل هذا الاحتراز لشدة حرمة المسلم على المسلم؛ فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك خشية أنْ يكون هناك خطأ فيقع السيف ويجرحك أو يؤذيك أو يقع على أخيك، وإذا كان ذلك في الأسلحة القديمة فهو في الأسلحة الحديثة أشد تأكيداً؛ لأنَّ الضرر أعظم، والخطر أكبر، والعلة تدور مع الحكم وجوداً وعدماً. ومن الأمور التي يستفاد منها خطورة أمر دماء المسلمين، هو أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حذّر من الدخول في الفتن، وما ذلك إلا لأن لا يقع المسلم في دماء المسلمين؛ لخطورة الأمر وشدته، فالفتن مظنة لأن يكون هناك قاتل ومقتول، فالفتن إذا سعرت وابتدأت صعب على الناس إطفاؤها. فنبينا صلوات الله وسلامه عليه قد حذّر أمته من الفتن، وبيّن أنَّها ستحدث وستكون في هذه الأمة فقد صحّ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي من تَشرّف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجئاً أو معاذاً فليعذ به)) (3) هكذا بيّن لنا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ المخلَص من الفتن أنْ يهرب منها المسلم قدر الاستطاعة.   (1) أخرجه: مسلم 8/34 (2616) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) أخرجه: أبو داود (2588) ، والترمذي (2163) من حديث جابر - رضي الله عنه -. (3) أخرجه: البخاري 4/241 (3601) ، ومسلم 8/168 (2886) (10) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فاحذر أخي المسلم من الوقوع في الفتن، فالفتنةُ قد تُريكَ الحقَ باطلاً والباطلَ حقاً. وقد تعميك وتصمك وأنت لا تشعر، وقد أخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الفتن ستقع في أمته فقال: ((إذا وضع السيف في أمتي لم يرتفع عنها إلى يوم القيامة)) (1) وأخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنه ستأتي فتن في آخر الزمان يكثر فيها القتل وتكثر فيها الفتن حتى أنه من شدة الفتن يمر الرجل على القبر ويتمرّغ عليه ويقول: يا ليتني صاحب هذا القبر، من شدة ما يرى من الفتن والأمور العظيمة؛ ففي الصحيحين (2) من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بالقبر فيقول: يا ليتني مكانه)) وقال أيضاً: ((والذي نفسي بيده ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يدري القاتلُ في أيِّ شيءٍ قَتَلَ، ولا يدري المقتولُ على أيِّ شيءٍ قُتِلَ)) (3) وفي رواية لمسلم: ((والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يومٌ، لا يدري القاتل فيم قَتَلَ ولا المقتول فيم قُتِلَ، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهرج القاتل والمقتول في النار)) (4) . ونبينا - صلى الله عليه وسلم - حينما يذكر ذلك إنما يذكره ليحذرنا من أن نكون من أولئك أو من أن نشارك في سفك تلك الدماء أو أن نتلطخ فيها، أو أن نلقى الله بها، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يَتقاربُ الزمانُ ويُقبَضُ العلمُ ويُلقَى الشحُّ ويَكثرُ الهرجُ، فقيل: وما الهرجُ؟ قال: القتل)) (5)   (1) أخرجه: الترمذي (2202) من حديث ثوبان - رضي الله عنه -. (2) البخاري 9/73 (5117) ، ومسلم 8/182 (157) (53) . (3) أخرجه: مسلم 8/183 (2908) (55) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (4) أخرجه: مسلم 8/183 (2908) (56) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (5) أخرجه: البخاري 8/17 (6037) ، ومسلم 8/59 (157) (11) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وقال أيضاً: ((إنَّ بين يدي الساعة لهرجاً)) ، قال: قلت: يا رسول الله ما الهرج؟ قال: ((القتل)) ، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، إنا نقتل الآن في العام الواحد من المشركين كذا وكذا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس بقتل المشركين، ولكن يقتل بعضكم بعضاً، حتى يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قرابته)) فقال بعض القوم: يا رسول الله، ومعنا عقولنا ذلك اليوم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا، تنزع عقول أكثر ذلك الزمان ويخلف له هباء من الناس لا عقول لهم)) (1) . فعلى المسلم أن يبتعد عن الفتن كل الابتعاد؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أرشد أمته إذا أدركوا الفتن أو أحسوا بالفتن أنْ يبتعدوا عنها كل الابتعاد، وأنْ يهربوا منها كل الهرب؛ لأنَّ الفرار من الفتنة من الدين؛ لذا بوّب البخاري في صحيحه: باب من الدين الفرار من الفتن (2) . أخي المسلم الكريم، إنَّ المسلم ينبغي له أنْ يحذر من الدخول في الفتن، وأنْ يستعيذ بالله تعالى منها -فقد كان عمار بن ياسر يستعيذ من الفتن - وأنْ يحذر أنْ يشارك فيها بقول أو فعل أو رأي أو بغير ذلك؛ فإنَّ الفتن إذا صارت لم يسلم منها أحد إلا مَن رَحِمَ اللهُ.   (1) أخرجه: ابن ماجه (3959) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، وهو حديث صحيح. (2) صحيح البخاري 1/11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ويا للأسف على بعض الغلاة من المنتسبين إلى العلم في هذا العصر، فقد ظنوا أن مجابهة مخالفيهم بالطعن والقذف دليل على وفرة العلم وقوة الفهم حتى صار ((من عاداتهم الخبيثة: أنهم كلما ناظروا أحداً من الأفاضل في مسألة من المسائل توجهوا إلى جرحه بأفعاله الذاتية وبحثوا عن أعماله العرضية وخلطوا آلاف الكذبات بصدق واحد، وفتحوا لسان الطعن عليه بحيث يتعجب منه كل ساجد، وغرضهم منه إسكات مخاصمهم بالسب والشتم، والنجاة من تعقب مقابلهم بالتعدي، والظلم بجعل المناظرة مشاتمة والمباحثة مخاصمة)) (1) وحسبنا في الحكم على هذا المسلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) (2) . بل ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)) (3) . اللسان نعمة : وعليك أخي المسلم أنْ تتذكر دائماً أن اللسان نعمة من الله فعليك أنْ تستعمل هذه النعمة في طاعة الله، وإياك أنْ تستعملها في معصية الله تعالى، وعليك أنْ تُقيّد لسانك بالشرع ولا تطلق له العنان؛ إذ إنَّ مَن أرخى العنان سلك به الشيطان في كل مكان، وما أشد حزننا لما نرى كثيراً من الناس تساهلوا في حفظ ألسنتهم، فنجد بعضهم وظّفَ لسانه في سبّ الناس وشتمهم، ومنهم من استعمله في الحرام من الغناء والكذب والغيبة والنميمة والمراء وشهادة الزور.   (1) عن الرفع والتكميل انظر آداب الجرح فيه: 15 - 47. (2) أخرجه: مسلم 8/10 (2564) (32) ، وأبو داود (4882) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) أخرجه: الترمذي (1977) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - وقال: ((حسن غريب)) وفي المعنى أحاديث كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 فاحذر كل الحذر من حصائد اللسان، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حينما أوصاه: ((كُفَّ عنك هذا)) وأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى لسانه فقال معاذ: وهل نُحاسَبُ على ما نقول؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ويحك، وهل يَكُبُّ الناسَ على وجوههم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم)) (1) وإنَّ من حصائد الألسن الأقوال المحرمة، وهي أنواع كثيرة، منها: ما يوصل إلى الكفر، ومنها دون ذلك، ومن حصائد اللسان: الكذب والغيبة والنميمة والفحش والسب والقذف. أخي المسلم إن اللسان خطره عظيم ولا نجاة من خطره إلا بالصمت ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((من صمت نجا)) (2) وقال أيضاً: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت)) (3) وقال أيضاً ((أمسك عليك لسانك، وليسعكَ بيتُكَ، وابْكِ على خطيئتِكَ)) (4) . أخي المسلم فكّر دائماً أنَّ الموت بين يديك وأنك مسؤول عن كل كلمة، وأنَّ أنفاسك رأس مالك، وأنَّ لسانك شبكة تقدر أنْ تقتنص بها الحور العين.   (1) أخرجه: أحمد 5/231، والترمذي (2616) ، وابن ماجه (3973) من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -. (2) أخرجه: أحمد 2/159 و177، والترمذي (2501) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -. (3) أخرجه: البخاري 8/13 (6019) و8/39 (6135) و8/125 (6476) ، ومسلم 5/137 - 138 (48) (14) من حديث أبي شريح العدوي - رضي الله عنه -. (4) أخرجه: أحمد 4/148 و5/259، والترمذي (2406) من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ونبينا الأكرم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا خطورة إطلاق العنان للسان في الكلام في المسلمين، وربما يتحدث الإنسان بكلمة يظنها بسيطة تهلكه وترديه في النار، قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)) (1) . وقال أيضاً: ((لَعْنُ المؤمنِ كقتله، ومن رَمَى مؤمناً بكفر فهو كقتله)) (2) ويقول أيضاً: ((أَيُّما رجلٍ قال لأخيه: يا كافرُ فقد باء بها أحدهما)) (3) هكذا بيّن لنا الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - خطورة الخوض في هذا، فعلى المسلم أنْ يصون لسانه فلا يقول إلا خيراً فيغنم أو يسكت عن الشر فيسلم، لذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكَ لا تزالُ سالماً ما سكتَّ، فإذا تكلمتَ كُتب لكَ أو عليكَ)) (4) فكن رقيباً على نفسك أخي المسلم وراقب لسانك جيداً فكل كلام تنطقه تُحاسَب عليه إن كان خيراً فخير، وإنْ كان شراً فشر. الهمز واللمز :   (1) أخرجه: مسلم 8/223 (2988) (49) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه: البخاري 8/32 (6105) من حديث ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه -. (3) أخرجه: البخاري 8/32 (6104) من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -. (4) أخرجه: الطبراني في المعجم الكبير 20/73 (137) من حديث عبد الرحمان بن غنم، قال الهيثمي 10/300: ((رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثقات)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 احذر أخي المسلم من الهمز واللمز، فالهمز واللمز مرضان سيئان من أمراض القلوب، وهما سبب لانتشار الحقد والضغائن، وهما سبب من أسباب تفكك المجتمع؛ فاجعل في خلدك أنَّ المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وقال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الأِيمَانِ} [الحجرات: 11] لذا فلا يجوز لمسلم أنْ يستهزأ بأخيه المسلم بلسانه أو بيده، فإذا صنع فكأنما صنع ذلك بنفسه؛ لأنَّ المؤمنين جميعاً نفس واحدة، فلا يجوز لمسلم أنْ يسمي أخاه أو يصفه أو يلقبه أو يكنيه باسم يكرهه، بل يسميه بأحب الأسماء إليه. إن المرء ليزداد حزنه حينما يرى بعض المسلمين غرّهم الشيطانُ، فأطلقوا ألسنتهم بالهمز والسخرية والنبز لعباد الله. ألا يعلم الهمّاز الذي يحارب المؤمنين بلسانه ما حصل للمنافقين في زمن نبينا - صلى الله عليه وسلم - حين خرج بعضهم في غزوة تبوك فقال رجل منهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء - فأنزل الله تعالى فيهم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] فهل ترضى لنفسك يا من تقع في أعراض المؤمنين أنْ تصل إلى تلك الحال التي وصل إليها المنافقون. وَلْنسألْ الهماز اللماز الذي يقع في أعراض الناس ما الذي جَرّأكَ على هذا العمل المشين أو الفعلة القبيحة - أَكَونُ أولئك الذين تقع في أعراضهم ضعفاء؟ فإذا كانوا كذلك أفلا تخشى من ذي القوة والجبروت أن يأخذك بذنبك في ساعة من ليل أو نهار؟!! ألا تخشى دعوة المظلوم التي ليس بينها وبين الله حجاب؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أخي يا من تقع في أعراض المسلمين ألم يهذبك كتاب الله حينما تقرؤه؟ ألم تتأثر بالقرآن؟ ، إني أعيذك بالله تعالى أنْ تكون ممن قال فيهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم)) . رواه مسلم (1) ومعنى الحديث: لا يجاوز القرآن تراقيهم ليصل إلى قلوبهم: فليس حظهم منه إلا مروره على ألسنتهم. اتق اللهَ أخي المسلم حينما تقع في أعراض المؤمنين وتذكّر دائماً قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب: 58] . وعليك أخي المسلم أنْ تدرك عاقبة إطلاق العنان للسان بالهمز واللمز ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزلّ بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)) (2) وفي حديث آخر: ((إنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً، يهوي في جهنم)) (3) وفي حديث آخر: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظن أنْ تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها سخطه إلى يوم القيامة)) (4) .   (1) 2/204 (822) (275) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (2) أخرجه: البخاري 8/125 (6477) ، ومسلم 8/223 (2988) (49) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) أخرجه: البخاري 8/125 (6478) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (4) أخرجه: مالك في " الموطأ " (2818) ، والحاكم 1/46 من حديث بلال بن الحارث المزني - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 والذي ينظر في تربية النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لصحابته يدرك مدى تحذير هذا النبي الكريم لأمته من خطر الوقوع في أعراض المسلمين، فانظر كيف أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما أخبر معاذاً - رضي الله عنه - بالأعمال التي يدخل بها الجنة، ويباعد من النار قال له النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقال معاذ: بلى يا رسول الله، فأخذ رسول الله بلسانه فقال: كُفَّ عليك هذا. فقال معاذ: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم فقال: ثَكلتْكَ أمُّكَ وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم إلا حَصائدُ ألسنتهم)) (1) . فاتق الله أخي المسلم ولا تقل إلا خيراً أو اسكت عن الشر، واحذر أنْ تقع في أعراض المؤمنين الغالية فتوقع في قلب المؤمن خفقة وربما في عينه دمعة، بل ربما توقع فيه من الأذى وتجعل عنده زفرات يرتجف بها بين يدي ربه في جوف الليل في سجوده وعبادته وخلواته لهجاً يطلب من الله كشفها، وربما تكون أنت نائم، ومن وقعت في عرضه يدعو عليك ماداً يديه إلى مغيث المظلومين وكاسر الظالمين. أذكّرك بقصة أروى بنت أويس التي زعمتْ أن الصحابي الجليل سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قد غصب شيئاً من أرضها وضمّه إلى أرضه،، فقال سعيد: أنا كنتُ آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعتُهُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! قال مروان: وما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من ظلم من الأرض شيئاً طوّقه من سبع أرضين)) (2) .   (1) سبق تخريجه. (2) أخرجه: البخاري 4/130 (3198) ، ومسلم 5/58 (1610) (138) من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وإذا كنتَ أخي المسلم لا تَأبهُ بدعاء المظلوم عليك، ففكّر دائماً أنَّ لسانك شهيد عليك يوم القيامة، فماذا سيكون قولك، وماذا ستفعل حين ذاك وأنت بين يدي الله قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 24-25] . وإياك إياك أخي المسلم أنْ تغترّ بأصدقاء السوء معك في الطعن بأعراض المسلمين فهذه الصداقة ستكون عداوة يوم القيامة وحسرة وندامة قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان: 27 - 28] . فاتق الله أيها المسلم أَلاَّ تأمن مكر الله وأنت تقع في ظلم المسلمين، أَلاَّ تأمن مكر الله وأنت تؤذي المسلمين في أعراضهم تمعّن في قول الله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97-99] . وأنت حينما تقرأ القرآن قف عند قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [النحل: 45-46] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وعند قوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل:50-52] . إذنْ فالإسلام حرّم السخرية بالهمز واللمز؛ لأنَّ ذلك يقود إلى التباغض والتشاحن والمنازعات، وكل ذلك يهدد الروابط الاجتماعية بالتفكك والانهيار، وهذه الاحترازات كلها من أجل أنْ يظل المجتمع مترابطاً متماسكاً قوياً، فسخرية المسلم من أخيه المسلم محرمةٌ شرعاً، وكذلك يحرم عليه أنْ يعيبه بقول أو فعل، وهذه الحرمة مستمرة سواء كان أخوك المسلم غائباً أو حاضراً، وكذلك يحرم عليه أن ينبزه بلقب يكرهه؛ لأنَّ كل ذلك من أسباب البغض. والذي يسخر من أخيه المسلم يحمل في قلبه شيئاً من كبر، وقد روى ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا يدخل الجنَّة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر)) قال رجلٌ إنَّ الرجل يحب أنْ يكون ثوبه حسناً ونعله حسنةً، قال: ((إنَّ الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)) (1) وسبب ذلك أنَّ السّاخرَ دَفَعَهُ كبرُهُ إلى   (1) أخرجه: مسلم 1/65 (91) (147) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ذلك؛ فظن أنَّ في نفسه صفةً زائدة على المسخور منه فيغتر بذلك، وذلك مثل من يغتر بنسبه أو ماله أو بعافيته أو بجماله أو بمكانته أو بمنصبه، وغير ذلك من الأمور التي تحمل ضعيف النفس والإيمان على العجب والغرور. فاحذر أخي المسلم أنْ تسخر من أخيك المسلم، واحذر أنْ يكون من تسخر به خيراً عند الله منك، فقد روى زر بن حبيش عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنَّه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيقَ الساقين فجعلت الريح تكفؤه فضحك القوم منه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مم تضحكون؟)) قالوا: يا نبي الله، من دقة ساقيه، فقال: ((والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد)) (1) . إفشاء السر : إفشاء السر وهي آفة منهيٌّ عنها لما فيها من الإيذاء والتهاون بحقوق الآخرين وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة)) (2) . وقال: ((المجالس بالأمانة)) (3) شهادة الزور : احذر أخي المسلم من شهادة الزور فهي كبيرة من الكبائر وهي تلحق   (1) أخرجه: أحمد 1/420 وإسناده قويٌّ. (2) أخرجه: أحمد /324، وأبو داود (4868) ، والترمذي (1959) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، وحسنه الألباني. (3) أخرجه: أحمد 3/342، وأبو داود (4869) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 أعظم الأذى بأخيك المسلم وقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك أشد التحذير فقال: ((ألا أُنبئُكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثاً: قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) ، وجلس وكان متكئاً فقال: ((ألا وقول الزور)) . قال: فما زالَ يكررُها حتى قلنا لَيتَهُ سَكَتَ. (1) وقد وصف الله تعالى عباده المؤمنين بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان: 72] . القذف : واحذر أخي المسلم من قذف المسلمين والمسلمات بالزنى والفاحشة، فالقذف من الكبائر وصاحبه ملعون وله إثم عظيم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] . وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك أشد التحذير فقال: ((من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال وليس بخارج)) (2) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هن قال:   (1) أخرجه: البخاري 3/225 (2654) ، ومسلم 1/64 (87) (143) من حديث أبي بكرة الثقفي - رضي الله عنه -. (2) أخرجه: أحمد 2/70، وأبو داود (3597) ، والحاكم 2/27 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ((الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) (1) وإن هذه الكبيرة والموبقة قد تساهل فيها كثير من الناس، لأنهم صاروا لا يقيمون وزناً لما يقولون، ولا ينظرون في جرم صنعهم بأعراض الناس، ولو كان لهؤلاء القذفة مزيد علم بالسنة النبوية، ومعرفة بالأحاديث التي حذرنا فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذرب اللسان لما وقعوا في ذلك، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)) (2) . وقد رتب على القاذف عذاب دنيوي فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] . أخي المسلم، لا تَنْسَ دائماً أن ملاك الخير حفظ اللسان، وهو سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة. وقد قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يَكُبُّ الناسَ على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)) (3) . وصحّ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) (4) . الجدال والمراء :   (1) أخرجه: البخاري 4/12 (2766) ، ومسلم 1/64 (89) (145) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) سبق تخريجه. (3) سبق تخريجه. (4) أخرجه: البخاري 8/125 (6475) ، ومسلم 1/49 (47) (74) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وابتعد أخي المسلم من الجدال والمراء مع أخيك المسلم؛ فإنَّ كثرة المراء والجدال مدعاة للخصومة، ومجلبة للبغضاء والضغينة، والجدال يقسي القلب وهو سبب للقطيعة. والمسلم إذا كان كثير المجادلة كان مذموماً عند الناس؛ لذا قال بعض السلف: ((إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته)) . وإياك والفجور في المخاصمة فقد جعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الفجور في المخاصمة من علامات النفاق فقال: ((أربع من كن فيه كان منافقاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (1) . والمجادلة تكون عن قصد إقحام الغير وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه ونسبته إلى القصور والجهل، وكثيراً ما يكون السبب في المجادلة هو إظهار العلم والفضل والتهجم على الغير بإظهار نقصه. وكلا السببين من الأمور المهلكة؛ إذ إن المسلم له حرمة، ومن حرمته أنْ لا تنتقصه لذا حذرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد التحذير من احتقار المسلم فقال: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) (2) فإذا كان ذلك كذلك فتنقيص المسلم أشد من احتقاره، نسأل الله العافية. وقد رغّبَ الإسلام أشد الترغيب في ترك المراء والجدال فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من ترك الكذب وهو باطل بُنيَ له بيت في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بُنيَ له في وسطها، ومن حسّن خُلُقه بُنيَ له في أعلاها)) (3) . الخصام :   (1) أخرجه: البخاري 1/15 (34) ، ومسلم 1/56 (58) (106) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -. (2) سبق تخريجه. (3) أخرجه: ابن ماجه (51) ، والترمذي (1993) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: ((حسن)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 واحذر أخي المسلم من مخاصمة أخيك المسلم؛ فإن المخاصمة من أشد الذنوب، ومن أقبح الأفعال لذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أبغض الرجال إلى الله الأَلدُّ الخَصِمُ)) (1) . والخصومة سبب لكثير من الذنوب والأفعال القبيحة، ومدعاة للطعن في أخيك المسلم، والخصومة تمحق الدين وهي مبدأ كل شر فينبغي أن لا يُفتحَ باب الخصومة إلا للضرورة. الفحش والتفحش: واحذر أخي المسلم من أن تكون فاحشاً متفحشاً مع المسلمين؛ فإن الفحش والسب وبذاءة اللسان مذموم جداً، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم والفحش؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش)) (2) وقال أيضاً: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)) (3) . ومن أقبح صور الفحش والتفحش اللعن سواء كان هذا اللعن لحيوان أو جماد أو إنسان وقد ذكرنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن المؤمن ليس بلعان، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بالنار)) (4) وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطورة من ابتُلِيَ بهذا الإثم العظيم وأنهم محرومون فقال: ((إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)) (5) .   (1) أخرجه: البخاري 3/171 (2457) ، ومسلم 8/57 (2668) (5) من حديث عائشة رضي الله عنها. (2) أخرجه: الطيالسي (2272) ، وأحمد 2/191 و195 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -. (3) سبق تخريجه. (4) أخرجه: أحمد 5/15، والبخاري في " الأدب المفرد " (320) ، وأبو داود (4906) ، والترمذي (1976) وقال الترمذي: ((حسن صحيح)) . (5) أخرجه: مسلم 8/24 (2598) (85) و (86) من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 واللعن عبارة عن الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، وإطلاق هذا الوصف غير جائز إلا على مَن اتصف بصفة تبعده من الله - عز وجل -؛ لذلك فإن فيه خطراً عظيماً؛ ولأنه تقوّلٌ على الله تعالى، قال - عز وجل -: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] . ولعل كثيراً مما يحصل من اللعن والفحش والتفحش الذي يقع فيه كثير من الناس سببه الإيذاء بالآخرين، أو الاعتياد الحاصل من مخالطة الفساق وأهل المجون. وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) (1) وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إنْ لم يكن صاحبه كذلك)) (2) . السخرية والاستهزاء : واحذر أخي المسلم من السخرية والاستهزاء بالآخرين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُن} [الحجرات: 11] . قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) (3) . والسخرية هي الاستهانة والتحقير مع نبز المقابل بالعيوب والنقائص. والسخرية لا تكون باللسان فقط، بل تشمل الإشارة والإيماء. وما دمتُ قد تكلمت فيما يتعلق بحرمة المسلم على المسلم صار لزاماً عليَّ أن أتكلم عن بعض الأمور الواجب تركها للتخلص من الوقوع في المسلمين، فمن ذلك: - الغضب :   (1) أخرجه: البخاري 1/19 (48) ، ومسلم 1/57 (64) (116) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (2) أخرجه: أحمد 5/181، والبخاري في الأدب المفرد (432) من حديث أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -. (3) أخرجه: مسلم 8/10 (2564) (32) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 فالغضب في غير حق مذموم جداً، وهو مفتاح شر للدخول في كثير من الآثام فعلى المسلم أن يروّض نفسه على الابتعاد عن الغضب قال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] فالله سبحانه وتعالى ذم الكفار بما تظاهروا به من الحمية الصادرة عن الغضب الباطل، ومدح الله المؤمنين بما أنزل الله عليهم من السكينة. والسنة النبوية جاءت مؤكدة لهذا المعنى فقد تظافرت الأحاديث على ذم الغضب، فقد روى البخاري (1) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً قال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أوصني قال: ((لا تغضب)) فردد مراراً قال: ((لا تغضب)) . وروى مسلم (2) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال لهم: ((ما تعدون الصُّرَعَةَ فيكم؟)) قال: قلنا: الذي لا يصرعه الرجال، قال: ((ليس بذلك، ولكنَّه الذي يملك نفسه عند الغضب)) . ومما يُعينُ على التخلص من الغضب لمن ابتلي به، أنَّ يعود إلى الله، وأنْ يلتجىء إليه دائماً بالعبادة والدعاء وقراءة القرآن، ومن أدرك فضيلة الحلم أبعده ذلك عن كثير من معرّات النفوس. ومن وقع في الغضب فعليه أنْ يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فقد روى مسلم (3) من حديث سليمان بن صرد - رضي الله عنه -، قال: اسْتَبَّ رجلان عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فجعل أحدهما تحمرّ عيناه وتنتفخ أوداجه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) فقال الرجل: وهل ترى بي من جنون؟ . - الظلم ظلمات :   (1) صحيح البخاري 8/ 35 (6116) . (2) صحيح مسلم 8/ 30 (2608) (106) . (3) صحيح مسلم 8/30 (2610) (109) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 احذر أخي المسلم أنْ تظلم أخاك المسلم؛ فالظلم ظلمات يوم القيامة (1) كما قال النبَّيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأهل الظلم يوم القيامة هم أهل الخسارة والندامة قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ} [غافر: 18] ، وقال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج: 71] ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)) (2) . والظالم مهما تمادى في ظلمه على الآخرين فإنَّه لن يفلت من عذاب الله فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله ليملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] )) (3) فاحذر أخي المسلم أنْ تظلم أحداً من المسلمين في المال أو في الدم أو في العرض، والظلم أجناس كثيرة، فمن الظلم أنْ تأخذ ما لأخيك المسلم بغير حق، ومن الظلم أن تبيع على بيع أخيك المسلم، ومن الظلم أن تسوم على سوم أخيك المسلم؛ لتضاعف عليه السعر، ومن الظلم أن تستأجر على إجارة أخيك المسلم.   (1) أخرجه: مسلم 8/18 (2578) (56) من حديث جابر - رضي الله عنه -. (2) أخرجه: مسلم 8/18 (2582) (60) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (3) أخرجه: البخاري 6/93 (4686) ، ومسلم 8 /19 (2583) (61) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ومما يجب علينا أنْ نداوم النظر فيه دائماً ما رواه أبو أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي - رضي الله عنه -، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرّم الله عليه الجنة)) فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال: ((وإن كان قضيباً من أراك)) (1) . وتفكّر دائماً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتقوا دعوة المظلوم فإنَّه ليس بينها وبين الله حجاب)) (2) والذي ينظر إلى الزمان يجد ذلك قد وقع كثيراً فقد وصحَّ (3) من حديث عروة بن الزبير أنَّ أروى بنت أويس ادّعتْ على سعيد بن زيد أنَّه أخذ شيئاً من أرضها. فخاصمتْهُ إلى مروان بن الحكم فقال سعيد: أنا كنتُ آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! قال: وما سمعتَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أخذ شبراً من الأرض طوقه الله إلى سبع أرضين)) فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا. فقال: اللهم إن كانت كاذبة فعمِّ بصرها واقتلها في أرضها. قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها. ثم بينا هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت. - سوء الظن : وإنَّ من أكذب الكذب سوء الظن بأخيك المسلم؛ فسوء الظن ينافي حسن الظن، وحسن الظن من الإيمان، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إياكم والظنَّ؛ فإنَّ الظن أكذب الحديث)) (4) قال القرطبي في تفسيره: ((وقد أجمع العلماء على أنَّه لا يجوز سوء الظن بأهل الفضل والإيمان)) . - التجسس :   (1) أخرجه: مسلم 1/85 (137) (218) . (2) أخرجه: أحمد 1/233، وأبو داود (1584) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. (3) سبق تخريجه. (4) أخرجه: البخاري 8/185 (6724) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 واعلم أخي المسلم الكريم أنَّ للمسلمين حرياتهم وكراماتهم، ولا يجوز أنْ تنتهك حرياتهم وكراماتهم إلا بإذن من الشارع، وقد أحاط الإسلام حريات المؤمنين بأسيجةٍ منيعةٍ، ومن ذلك حرمة التجسس قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] ، والتجسس هو الحركة العملية التالية للظن السيء، فإذا ظن المسلم بالمسلم سوءاً تاقت نفسه أنْ يجس عليه. والمسلم مأمور بحسن الظن بأخيه المسلم، فنحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، وفي الصحيحين (1) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -يقول: بعث علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن بدر وأقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ألا تأمنوني وأنا أمينُ من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء)) قال: فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار فقال: يا رسول الله، اتقِ اللهَ، قال: ((ويلكَ أَوَلَستُ أحق أهل الأرض أنْ يتقي الله)) قال: ثم ولَّى الرجلُ، قال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه، قال: ((لا، لعله أن يكون يصلي)) فقال خالد: وكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:   (1) صحيح البخاري 5/207 (4351) ، وصحيح مسلم 3/110 (1064) (144) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ((إني لم أومر أنْ أُنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم)) قال: ثم نظر إليه وهو مقفٍ فقال: ((إنَّه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية - وأظنه قال - لئن أدركتُهم لأقتلنّهم قتل ثمود)) . فانظر أخي المسلم الكريم كيف أنَّ الإسلام حرم إساءة الظن بالمسلم، أو التجسس عليه أو اغتيابه، وأنَّ هذه الأمور ترتبط أحياناً ببعضها البعض، فالسيئة تسوق إلى سيئة أكبر؛ فسوء الظن هو الذي يحمل الإنسان على التجسس والاغتياب؛ لذلك جاء النهي عن هذه الأشياء بآية واحدة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] ، إذنْ فلا يجوز لمسلم أنْ يسيء الظن بأخيه المسلم أو يتجسس عليه ليتحقق من ظنه، أو يغتابه بهذه الظنون السيئة، فديننا الحنيف حمى حرمات الأشخاص وكراماتهم وحرياتهم، وعلّم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم؛ لأنَّ سوء الظن يسوق إلى الإثم وإلى العواقب الوخيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ومن الاحترازات الوقائية التي حث عليها ديننا الحنيف لتجنب أمراض القلوب السابقة أنَّه أمر بالستر على المسلم وأمره بالاستتار، فأمرنا ديننا الحنيف بالاستتار على النفس فقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإنَّ من المجاهرة أنْ يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)) (1) وحث الإسلام أنْ يستر المسلم على أخيه المسلم فقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)) (2) . إخلاف الوعد :   (1) أخرجه: البخاري 8/24 (6069) ، ومسلم 8/224 (2990) (52) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) أخرجه: البخاري 3/168 (2442) ، ومسلم 8/18 (2580) (58) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 أخي المسلم الكريم، لا تخلف الوعد مع أخيك المسلم؛ فإنَّ صدق الوعد خصلةٌ كريمةٌ من خصال الإيمان وخلقٌ عظيمٌ من أخلاق الإسلام، عز وجوده وندر في هذه الأيام. وإخلاف الوعد صفةٌ قبيحةٌ من صفات المنافقين، وخُلُق سيءٌ من أخلاق الكذابينَ، وقد مدح الله بصدق الوعد المؤمنين المتقين الصادقين فقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177] ، فالوفاء بالعهد صفة من صفات المؤمنين. حق الحياة : واعلم أخي المسلم الكريم، أنَّ الله حرم الاعتداء على حق الحياة - التي هي حق لكل إنسان في كافة الشرائع السماوية - وحرم الاعتداء على سلامة الحياة سواء كان الاعتداء خطئاً أو عمداً، إلا ما كان بحق، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ} [الأنعام: 151] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ثم اعلم أخي المسلم الكريم، أنَّ الإنسان أهم وأشرف خلق الله - عز وجل - على وجه الأرض قاطبة، وقد جعل الله له مكانة كبيرة؛ ولذلك استخلف الله الإنسان في عمارة الأرض ورعايتها، بما وهبه فيها من طاقات وقدرات عقلية ونفسية وعلمية تجعله يقوم بواجب هذا الاستخلاف؛ لذا فإنَّ الله لما خلق آدم أمر الملائكة بالسجود له. فمكانة الإنسان في هذه الحياة هي السبب في أنْ يحاط بسياج منيع؛ حتى لا يتعدى أحدٌ على حق الحياة إلا بحق مشروع فيه برهان من الله - عز وجل -. إذن فحفظ النفس ووقايتها ضرورة من ضرورات الحياة، وقد حرص الإسلام على صيانتها ورعايتها. والإسلام قد طبّق الأحكام المترتبة على قتل النفس المسلمة من أجل صيانة النفس المسلمة من القتل؛ إذ تواردت الآيات وتلاحقت الأحاديث على عظم هذه الجريمة، وطُبِّقَتْ أحكام القصاص في عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد الخلفاء الراشدين، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنَّ غلاماً قُتِلَ غيلة (1) فقال عمر: ((لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم)) (2) وروى المغيرة بن حكيم عن أبيه، قال: ((إنَّ أربعةً قَتلوا صبياً فقال عمر - رضي الله عنه -: ((والله لو أنَّ أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين)) (3) .   (1) الغيلة: القتل سراً. (2) أخرجه: البخاري 9/10 (6896) . (3) المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 واعلم أنَّ ديننا الحنيف لم يكتفِ بسنِّ قوانين القصاص والحدود والكفارات والديات من أجل حفظ النفس، بل إنه قرر تدابير للوقاية من جريمة القتل؛ لأنَّ الإسلام إذا حرّم شيئاً حرّم الأشياء التي توصل إليه، ومن تلك التدابير للوقاية من الجرائم عامة وجريمة القتل خاصة: تقوية الوازع الديني عند المسلمين، وتعظيم شعائر الله، والتخويف من معصية الله، ثم بعد ذلك بناء العلاقات الاجتماعية على المحبة والمناصحة والمناصرة بالحق، وتأكيد النهي عن أسباب الخلافات والفرقة وإصلاح ذات البين بين المسلمين المتخاصمين. فالذي يقرأ أحكام الدين الإسلامي يجد أنَّ الإسلام قد أحاط حفظ النفس المسلمة بثلاث حصانات متينة الأولى: التهذيب النفسي الذي يشمل كافة العبادات، وهي تمثل الجانب الإيماني في حياة المسلم. والثانية: تكوين رأي عام فاضل، وهو يتمثل بجانب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم. والثالثة: العقاب، وهو ما يتمثل بالحدود والقصاص والكفارات والديات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وليكن في علمك أخي المسلم الكريم أنَّ جريمة القتل من أبشع الجرائم؛ لأنها اعتداء على قيم الإنسانية؛ وذلك من خلال عدوانيتها على حقوق الآخرين وسفك دمائهم، والقضاء على حياتهم، ولبشاعة هذه الجريمة وشناعتها وفظاعتها وشدة عنفها، فقد تناولتها التشريعات بعقوبات صارمة تصل إلى القتل؛ إذ اتفقت الشرائع السماوية على تحريم هذه الجريمة، وتقرير أقصى العقوبات الرادعة في حق مرتكبها؛ من أجل أنْ يعيش الناس في أمن واستقرار، وَلِعِظَمِ جريمة القتل جاء ترتيبها الثاني بعد الشرك بالله فقد صحَّ عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم} [النساء: 93] قال: قال رجل: يا رسول الله، أيُّ الذنب أكبر عند الله؟ قال: ((أنْ تدعو لله نداً وهو خلقك)) . قال: ثم أيُّ؟ قال: ((ثم أنْ تقتلَ ولدك خشية أنْ يطعم معك)) . قال: ثم أيُّ؟ قال: ((ثم أنْ تزاني حليلة جارك)) . فأنزل الله - عز وجل - تصديقها: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماًً} [الفرقان: 68] (1) . قال القرطبي عند تفسيره هذه الآية: ((دلّتْ هذه الآية على أنَّه ليس بعد الكفر أعظم من قتل النفس بغير الحق، ثم الزنا)) (2) . وَلِعِظَمِ هذه الجريمة جريمة قتل النفس البريئة قرنها الله - عز وجل - بالذنب الذي لا يُغفَر، وهو الشرك فقد روى أبو الدرداء - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((كل ذنب عسى أنْ يغفره الله إلا من مات مشركاً أو من قَتلَ مؤمناً متعمداً)) (3) .   (1) أخرجه: البخاري 9 / 2 (6861) ، ومسلم 1/63 (86) (142) . (2) تفسير القرطبي 13 / 76. (3) أخرجه: أبو داود (4270) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وجاء من حديث معاوية - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل ذنب عسى أنْ يغفره الله إلا الرجل يَقتلُ المؤمن متعمداً، أو الرجل يموت كافراً)) (1) . وهذان الحديثان مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] ، وهذه النصوص تدل على عدم قبول توبة القاتل، ومن العلماء من حملها على ظاهرها كابن عباس رضي الله عنهما كما سبق، أما أكثر أهل العلم فقد ذهبوا إلى أنَّ هذه النصوص مخصصة بالعمومات القاضية بأنَّ القتل مع التوبة النصوح من جملة ما يغفره الله من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48] (2) . ذات البين : عليك أخي المسلم بإصلاح ذات البين، وإياك وإفساد ذات البين فقد صحّ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إياكم وسوء ذات البين فإنَّها الحالقة)) (3) قال أبو عيسى الترمذي: ((هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه، ومعنى قوله: وسوء ذات البين إنما يعني العداوة والبغضاء، وقوله: الحالقة يقول إنها تحلق الدين)) . وروى الترمذي (4) أيضاً من حديث الزبير بن العوام - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسدُ والبغضاءُ، والبغضاء هي الحالقة لا أقول: تحلق الشعر، ولكنْ تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنَّة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم بما يثبت ذاكم لكم أفشوا السلام بينكم)) .   (1) أخرجه: النسائي 7 / 81. (2) راجع في ذلك: تفسير الطبري 7/122-123، وتفسير القرطبي 5/245، وتفسير ابن كثير: 493-494، وفتح الباري 8 /627. (3) أخرجه: الترمذي (2508) . (4) الجامع الكبير (2510) وأخرجه أيضاً أحمد 1/167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 واعلم أخي المسلم الكريم أنَّ ديننا الحنيف حث على إصلاح ذات البين حفاظاً على المجتمع، وحفاظاً على أمن الناس من الخلافات التي تفكك المجتمع، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] ، وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] ، وقال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 114] . وقد حث النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على إصلاح ذات البين فقد صحّ من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة)) قالوا: بلى قال: ((صلاح ذات البين؛ فإنَّ فساد ذات البين هي الحالقة)) (1) قال أبو عيسى الترمذي: ((هذا حديث صحيح، ويُروى عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين)) . بل إنَّ ديننا الحنيف أباح الكذب من أجل إصلاح ذات البين، فقد روى البخاري ومسلم (2) من حديث كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً)) .   (1) أخرجه: أحمد 6/444، والبخاري في " الأدب المفرد " (391) ، وأبو داود (4919) ، والترمذي (2509) . (2) صحيح البخاري 3/240 (2692) ، وصحيح مسلم 8/28 (2605) (101) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وما كل ذلك الفضل لإصلاح ذات البين إلا لأهمية إصلاح ذات البين؛ إذ ظهرت أهمية الصلح في حقن دماء المسلمين في وقائع كثيرة، فإصلاح ذات البين من الدعائم المهمة للحفاظ على المجتمع الإسلامي من التفكك، فالإسلام بعقائده وعباداته ومعاملاته وآدابه يؤدي إلى بناء مجتمع خيّر فاضل متماسك بروابط أخوية تمنع من خلالها عوامل الفساد والانحلال، ثم تذهب بعد ذلك روح الأنانية والبغضاء والتشاحن، وإذا زال السوء فسيحل محله الحب والإخاء والمودة والموالاة والتكافل والتعاون، فالمجتمع الإسلامي كله يسعى لهدف واحد هو مرضاة الله سبحانه وتعالى بالقول والعمل؛ وذلك يؤول إلى سعادة البشر في الدنيا والآخرة. أخي المسلم الكريم تدبر دائماً قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((كونوا عباد الله أخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ منَ الشر أنْ يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله)) (1) . فهذا الحديث الشريف فيه القواعد العِظام التي تكون جامعة لقلوب المسلمين على الألفة والمودة. قال مجاهد فيما أخرجه الطبري في تفسيره (2) ، وذكره ابن كثير في تفسيره (3) من طريق عبدة بن أبي لبابة: ((إذا تراءى المتحابان في الله فأخذ بيد صاحبه وضحك إليه، تحاتت خطاياهما كما يتحاتّ ورق الشجر. قال عبدة: فقلتُ له: إنَّ هذا ليسير. قال: لا تقل ذلك، فإن الله يقول: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63] . والمسلم أخو المسلم يكف عنه الضر، ويجلب إليه النفع. والتقوى محلها القلب، وهي الميزان عند الله تعالى، وإذا كان أصل التقوى   (1) أخرجه: مسلم 8/10 (2564) (32) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (2) 12625) . (3) : 852. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 في القلوب فلا يطلع على حقيقتها إلا الله - عز وجل -، وحينئذ فقد يكون كثير ممن له صورة حسنة، أو مال أو جاه، أو رياسة في الدنيا، قلبه خالياً من التقوى، ويكون من ليس له شيءٌ من ذلك مملوءاً من التقوى فيكون أكبر عند الله. قال محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة: 1 - 3] قال: تخفض رجالاً كانوا في الدنيا مُرتفعين، وترفع رجالاً كانوا في الدنيا مخفوضين (1) . وجاءت في خاتمة هذا الحديث الشريف القاعدة العظيمة: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله)) . وهذه القاعدة كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب بها في المجامع العظيمة، فإنَّه خطب بها في حجة الوداع يوم النحر، ويوم عرفة، واليوم الثاني من أيام التشريق، ولولا أهميتها لما كررها في أكثر من موضع. ختاما ً: لقد تضمن هذا الحديث الشريف: أنَّ المسلم لا يحل له إيصال الأذى إلى أخيه المسلم بوجه من الوجوه من قول أو فعل بغير حق، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب: 58] . قال رجل لعمر بن عبد العزيز: اجعل كبير المسلمين عندك أباً، وصغيرهم ابناً، وأوسطهم أخاً، فأيُّ أولئك تحب أنْ تسيء إليه. ومن كلام يحيى بن معاذ الرازي: ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة: إنْ لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تُفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه (2) . وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.   (1) انظر: تفسير القرطبي 17/195. (2) انظر: صفة الصفوة 4/61، وجامع العلوم والحكم نهاية الحديث (35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84