الكتاب: السلفيون وقضية فلسطين في واقعنا المعاصر وفيه (حكم عمليات الاقتحام بالنفس) المؤلف: أبو عبيدة مشهور بن حسن بن محمود آل سلمان الناشر: مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية، فلسطين الطبعة: الأولى، 1423 هـ - 2002 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- السلفيون وقضية فلسطين في واقعنا المعاصر مشهور آل سلمان الكتاب: السلفيون وقضية فلسطين في واقعنا المعاصر وفيه (حكم عمليات الاقتحام بالنفس) المؤلف: أبو عبيدة مشهور بن حسن بن محمود آل سلمان الناشر: مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية، فلسطين الطبعة: الأولى، 1423 هـ - 2002 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم إنّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم الّذِي خَلَقَكُم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً واتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَام إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} . أما بعد: فإن هذه الرسالة (*) نادرة وهامة، وذلك من وجوه عديدة: الوجه الأول: أنها من تأليف المجاهد الفلسطيني (1) محمد عز الدين القسام   (1) أصله سوريّ، انظر ترجمته الآتية (ص 114-124) . ذكر الأستاذ الدكتور شاكر الفحام -عضو المجلس الاستشاري لهيئة «الموسوعة الفلسطينية» ورئيس مجمع اللغة العربية في دمشق- أنَّ مسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية عابوا على «الموسوعة الفلسطينية» ، أنها جعلت (عزّ الدين القسام) من مواد «الموسوعة» ، وقالوا: إن عزّ الدين القسام، رجلٌ من سورية، وليس له مكان في «الموسوعة الفلسطينية» ؛= =لأنها مخصصة للقطر الفلسطيني ... ولكن الحقيقة التي أخفوها، أنّهم كرهوا وجودَ القسام في «الموسوعة» ؛ لأنهم يخشون أن يظهرَ تاريخُهم خالياً من الأمجاد إذا قيس بتاريخ عزّ الدين القسام!! و (فلسطين) بقيت تابعة حتى نهاية العصر التركي لولاية (الشام) ، ولم يكن (فلسطين) موجوداً في التقسيمات الإدارية، ولم تكن النزاعات العصبية والحميات القبلية مشتدّة، إذ كانت فلسطين -آنذاك- تشغل بال المسلمين جميعاً، ومنهم القسام، ولم يهاجر -رحمه الله- إلى (حيفا) إلا للجهاد، ولم يكن معه أحد من قبيلته -آنذاك- إلا ابنا أخيه -رحم الله الجميع-. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: يعني رسالة "النقد والبيان" وتجدها مستقلة ضمن كتب هذا البرنامج "المكتبة الشاملة" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الوجه الثاني: أنها تُثْبتُ شيئاً مجهولاً عند مترجمي (القسام) ، لم أر من ركز عليه منهم؛ وهو: أنه (سَلَفي) ، ولا سيما في منهجه واستدلاله، وكل سطر فيها يدل على ذلك، وهذه مقتطفات من هذه الرسالة؛ تدل على ذلك: قال المؤلفان في الرد على خزيران وشيخه الجزار بعد كلام: «وكُنّا نودُّ أن نرشدَ الأستاذ الجزَّار وتلميذَه إلى الاستفادة من هذا الكتاب -يريدان «الاعتصام» (1) للشاطبي- الذي لا ندّ له في بابه، ولكنا خشينا أن يرميا مؤلِّفَه بالنَّزْعة (الوهابيَّة) (2) -التي هي حجة العاجز لترويج الباطل، وإضاعة الدين- التي رميانا بها، وإنْ تقدَّمَ زمن ذلك الإمام الشاطبي العظيم على زمن محمد بن عبد الوهاب ما يقرب من (500 سنة) !! لأنه لا يبعد أن يعلّلا ذلك بأنه من باب أخذ المتقدِّم عن المتأخِّر!!» (3) . وأشارا إلى ذلك -قبل-، فقالا عن خزيران (المردود عليه) :   (1) نشرته عن نسختين خطيتين، لم ينشر الكتاب -قبل- عنهما، والفروق كبيرة بين نشرتنا والطبعات السابقة، فضلاً عن التخريج والتوثيق والتعليق والفهرسة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. (2) انظر -لزاماً- ما كتبناه بشأن هذه الكلمة في التعليق على (ص 61-63) . (3) «النقد والبيان» (ص 61-62) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 «ورمانا - عفا الله عنه- بالزَّيغ والضلال (1) ، لاتّباعنا السنة الموروثة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في الأقوال والأفعال ... » (2) . وقالا في الرد على قول خزيران: «ما عدا مَن أزاغ اللهُ قلوبَهم من الاقتصار على أصل المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -» ما نصه: «يعلم أنَّ ذلك الدَّعي في العلم يعدُّ العملَ بسنَّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - زيغاً، والعياذ بالله -تعالى-» (3) . قال أبو عبيدة: الأصل: أن لا نخرج عن ظاهر النصوص إلا بقرائن قويّة، إذ دلالة الظاهر قويّة، نقل ابن حجر (4) في ترجمة أبي حيان الأندلسي، قوله:   (1) المراد: رميهما بـ (النزعة الوهابية) كما في النص السابق، وقد أفصح عن ذلك الشيخ محمد جميل الشطي في كلمته المنشورة في آخر الرسالة (ص 201) بقوله: «والمصيبة كل المصيبة: أنه متى قام نابغةٌ من علمائنا يخالف مثل هؤلاء، داعياً إلى الدِّين الصحيح؛ مثل: صاحبي هذه الرسالة: الأستاذين الشيخ كامل القصاب، والشيخ عز الدين القسام ... جافَوْه، وناوؤوه، ووصموه باسم الوهابية، وهذا -ولا شك- أنه من علائم الجهل والحسد» . (2) «النقد والبيان» (ص 5) . (3) «النقد والبيان» (ص 90) . (4) في «الدرر الكامنة» (4/304) ، وعنه صديق حسن خان في «التاج المكلل» (ص 348) ، وذكر هذا الشوكانيُّ في «البدر الطالع» (2/290) ، ثم قال: «لقد صدق أبو حيان في مقاله، فمذهبُ الظاهر هو أوَّلُ الفِكر وآخرُ العمل عند من مُنِح الإنصاف، ولم يَرِد على فطرته ما يُغيّرها عن أصلها، وليس هو مذهبُ داودَ الظاهريِّ وأتباعه فقط، بل هو مذهب أكابرِ العلماء المتقيدين بنصوص الشرع من عصر الصحابة إلى الآن، وداود واحد منهم، وإنما اشتُهرَ عنه الجمودُ في مسائِلَ وقف فيها على الظاهر، حيث لا ينبغي الوقوف، وأهمل من أنواع القياس ما لا ينبغي لمنصفٍ إهماله. وبالجملة؛ فمذهبُ الظاهِر: هو العملُ بظاهِرِ الكتاب والسُّنَّةِ بجميع الدّلالات، وطرح التحويل على محض الرأي الذي لا يرجِعُ إليهما بوجهٍ من وجوه الدلالة. وأنت إذا أمعنت النَّظَرَ في مقالات أكابر المجتهدين المشتغلين بالأدلة؛ وجدتها من= =مذهب الظاهر بعينه، بل إذا رُزِقتَ الإنصاف، وعرفتَ العلوم الاجتهادية كما ينبغي، ونظرت في علوم الكتاب والسنة حقَّ النَّظر كنت ظاهريّاً؛ أي: عاملاً بظاهر الشرع منسوباً إليه، لا إلى داود الظاهري، فإن نسبتك ونسبته إلى الظاهر متفقةٌ، وهذه النسبة هي مساويةٌ للنسبة إلى الإيمان والإسلام، وإلى خاتم الرُّسُلِ -عليه أفضل الصلوات والتسليم-، وإلى مذهب الظاهر بالمعنى الذي أوضحناه. أشار ابن حزم -رحمه الله- بقوله: وما أنا إلا ظاهريٌّ، وإنني على ما بدا حتى يقوم دليل» ا. هـ. وانظر: «إعلام الموقعين» (5/180 - بتحقيقي) ، «العلم» (ص 180-181) للشيخ العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 «محال أن يرجع عن مذهب الظاهر من عَلق بذهنه» . وقالا - أيضاً-: «ونحن من أشد الناس تمسّكاً به- أي: بخطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ... وأكبر دليل على تمسّكنا بسنَّة نبيِّنا، وسنة الشَّيخين من بعده: نهينا الناس عن مخالفة سنَّة الخلفاء الراشدين في تشييع الجنازة برفع الصَّوت» (1) . وقالا: «فهل يرضى أهلُ الاختصاص أن يتركوا سنّة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويتركوا ما كان عليه الصحابة والأئمة المجتهدون، وما كان عليه السلفُ الصالح، ثم يتبعوا بدعةً ... » (2) . وذكرا -أيضاً- ضرورة الاستدلال بالصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم -، ونبذ الضعيف، والواهي، والموضوع (3) . وقد شهد بمضمون (سلفيّته) جمعٌ ممن قرظ هذه الرسالة، كما تراه في آخرها وأشار إلى ذلك جمع (4) ، وتأثر بذلك تلاميذه، فإنهم انطبعوا بطابع التربية   (1) «النقد والبيان» (ص 90) . (2) «النقد والبيان» (ص 94) . (3) انظر «النقد والبيان» (ص 142) . (4) خلافاً لما في «الأعلام الشرقية» (1/349) عنه: «شيخ الزاوية الشاذلية في جَبَلة الأدهمية من أعمال اللاذقية في شمالي سوريا» ! = ... بل اشتط كثير من الباحثين من العلمانيين، وغيرهم من الثوريين، لما راحوا يقررون «أن القسام كان يهدف إلى بناء دولة (اشتراكية) » ! كما في «تاريخ الأقطار العربية الحديث» (ص 366) للوتسكي، وفيه -أيضاً- (ص 369) : «إن جوهر العلاقة بينه وبين أتباعه كانت سياسية لا دينية» !! وكل هذا كذب وافتراء عليه، وتغييب لسلفيّة القسام واعتقاده السليم، الذي عمل دهراً على ترسيخه في أبناء شعب فلسطين، وما كتابنا هذا إلا ثمرة ودليل -في آن واحد- على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الإيمانية، سلوكاً وأقوالاً، وإن العقيدة السلفية الصحيحة، والثقافة الإسلامية المقتبسة من القرآن والسنة أثرت فيهم تأثيراً بالغاً، قال أحمد الشقيري (1) واصفاً أصحاب القسام وتلاميذه: «لم تجر على ألسنتهم تعابير (الكفاح المسلح) و (الحركة الوطنية) و (الاستعمار والصهيونية) ، فقد كانت تعابيرهم -على بساطتها (2) - تنبع من ينبوع أروع وأرفع، هو «الإيمان والجهاد في سبيل الله» ، لقد كانوا قوماً مؤمنين، صنعهم الإيمان، فصفت نفوسهم، وتآلفت إراداتهم، وتعاظمت عزائمهم، وأحسوا أن حبلهم مع الله قد أصبح موصولاً، وأن الباب بينهم وبينه قد بات مفتوحاً» (3) . وذكرت الكتب التي ترجمت له: أن همَّ القسام الأول: تخليص الدين من الشوائب، وإخلاص العقيدة لله وحده؛ لأنّ العقيدة الخالصة لله هي مصدر القوة، ففي سبيل إخلاص العقيدة لله وحده، وطلب العون منه، حارب القسام حج النساء إلى (مقام الخضر) (4) ، على سفوح جبال الكرمل، لذبح الأضاحي   (1) هو أحمد أسعد الشقيري، من أعلام فلسطين البارزين، كاتب، محام، سياسي، دبلوماسي، أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، توفي سنة 1400هـ - 1980م، ترجمته في «أعلام فلسطين من القرن الأول حتى الخامس عشر» (1/147-157) ، «معجم أعلام المورد» (260) . (2) انظر -لزاماً- خطأ استخدام هذه الكلمة فيما علقناه على (ص 26) . (3) «أربعون عاماً» (ص 145) . (4) مقام الخضر: يقع عند أقصى حدّ حيفا إلى الغرب من سفح جبل الكرمل، = =وهو بناءٌ قديم وسط حديقة، كان يضمُّ مسجداً فيه مغارة، تضم كتابةً يونانيةً، يزعم بعض الناس أنه مقام الملاك جبريل، ويعتقد آخرون أنه مدرسة الأنبياء!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 شكراً على شفاء من مرض أو نجاح في مدرسة، وكنّ -بعد تقديم الأضحية- يرقصن حول المقام الموهوم، فدعا القسامُ الناسَ إلى أن يتوجَّهوا بنذورهم وأضاحيهم إلى الله -تعالى- فقط؛ لأنه -وحده- القادر على النفع والضرّ، وأما أصحاب القبور فلا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فكيف ينفعون الآخرين؟! وفي سبيل الاستفادة من السيرة النبويّة، أنكر القسامُ قراءةَ المولد النبوي بالغناء والتمطيط، والمبالغة بتوقيعه على ألحان الموسيقا، والاكتفاء بسيرة الولادة فقط، مع ما أدخل فيها من الأمور التي لم تثبت، ودعا إلى العناية بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أحواله وشمائله، والسنّة العملية من سيرته؛ لتكون نبراساً يستضيء به المسلمون (1) . وبالجملة؛ فإن العقيدة السلفية الصحيحة، والمنهج السلفي في التلقي والاستدلال، هو الذي كان عليه القسام ورفيقه، وهذا ظاهر للعيان في كتابه هذا، وفي دعوته ونشاطه وتلاميذه، والله الموفق. (السلفيون وقضية فلسطين) يؤمن السلفيون بأن قضية فلسطين من القضايا التي يجب العناية بها، وأن تحريرها من الأمور الشرعية الواجبة، وذلك لما لها من منزلة في الشرع الحنيف، وقد تتابع السلفيون على بيان ما لها من حقوق، وأبدوا -كغيرهم (2) - توجّعاً   (1) «عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين» (172-173) لمحمد حسن شُرَّاب. (2) أعني: من المسلمين وغيرهم، والمسلمين على جميع شاراتهم وأحزابهم، ولا سيما الحزبيين الذين اتكأوا على (قضية فلسطين) ، واتخذوها ذريعة لتكثير السواد، ودغدغة= = (العواطف) لركوب (العواصف) ، دون (ثمرة) حقيقية بميزان الشرع، وقواعد أهل العلم، اللهم إلا التعدي على حرمات العلماء، واقتناص الفرص في المناسبات للحط من قدرهم، لتسلم لهم رموزهم، وليراهنوا على (الجماهير) ، وليصلوا من خلالهم إلى (أهدافهم) المرحلية؛ الأرضية (منها) قبل التربوية، والله غالب على أمره، وهو المحيط بالنوايا والخفايا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وتألّماً لما يجري -قديماً وحديثاً- لأهلها وعلى أرضها، ولا سيما الأحداث الجسام، والتي نلخّصها بالآتي: أولاً: المذابح، وأشهرها: مذبحة دير ياسين في 9/4/1948م، التي بقرت فيها بطون الحبالى، وذُبّحت الأطفال، وقطعت الأوصال، وشوّهت الأجسام، وقذفت في بئر في القرية، وذهل (ليز) مندوب (الصليب (1) !!!) الأحمر آنذاك لما عد أعوانه (250) جثة، ولم يكملوا العدّ -بعد-، فأغمي عليه! ومن المذابح -أيضاً-: مذبحة شرفات في 7/2/1951م، ومذبحة عيد الميلاد (!!) في 6/1/1952م، ومذبحة قبية في 14/10/1953م، ومذبحة قتل الأطفال في 2/11/1954م، ومذبحة غزة في 28/2/1955م، ومذبحة شاطئ طبريا في 11/2/1955م، ومذبحة غزة الثانية في 5/4/1956م، ومذبحة غرندل في 13/9/1956م، ومذبحة حوسان في 25/9/1956م، ومذبحة قلقيلية في 10/10/1956م، ومذبحة كفر قاسم في 28/10/1956م. وانتهاءً في تاريخنا الحديث بمجموعة من المذابح، من مثل: مذابح صبرا وشاتيلا في لبنان في 17/9/1982م، وقبلها مذبحة تل الزعتر والكرنتينا في 10/ 8/1976م، وهاتان المذبحتان من أبشع وأشنع ما سُجّل في التاريخ الحديث، إذ قدمت جثث الموتى للكلاب، وتم فيها اغتصاب النساء، وحرق   (1) للنصارى عناية بالصليب منقطعة النظير، وله أشكال وهيئات، قل أن تسلم منه بيوت المسلمين اليوم فضلاً عن ملابسهم وغيرها! وهي موجودة في الموسوعات (المعلمات) العالمية، وكتب دياناتهم! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الشباب، على صورة تقشعر منها الأبدان، وتشيب بسببها الصبيان! ثم مذبحة عيون قارة في 20/5/1990م، ثم مجزرة الأقصى الشهيرة في 8/10/1991م، إذ قُتل المصلّون جملة، ولم يراعوا حق ضعيف أو كبير أو امرأة، وبارك شياطينهم من الحاخامات بهذه المجزرة، وطالبوا بالمزيد! وعملوا على المباركة! ولا تنسى أبداً مجزرة المسجد (1) الإبراهيمي بالخليل بقيادة اليهودي الطبيب النجس باروخ غولدشتاين في 25/10/1994م، وكانت-أيضاً- ضد المصلين، وباركها (!!) -أيضاً- كثير من الحاخامات، ولا سيما الذي تولى كبره منهم (غورون) و (دروكمان) ، ونصب لمنفذها (غولدشتاين) تمثالاً (!!) إعجاباً وحباً! (2) ويزداد التوجع والتألم؛ لما نسمع ونقرأ تصريحات هؤلاء المعتدين، فمثلاً: سأل أحد الصحفيين الضابط اليهودي (مالينكي) عمَّا ارتكبه في بعض هذه المذابح: هل أنت نادم على ما فعلت؟ قال: بالعكس؛ لأنّ الموت لأيِّ عربي في إسرائيل (3)   (1) يطلق الناس في الخليل خاصة وفي فلسطين بعامة، فضلاً عن غيرها، على هذا المسجد (الحرم الإبراهيمي) ، والأمر -من وجهة نظر شرعية- ليس كذلك. وانظر التعليق على (ص 221) . (2) للدكتور عرفات حجازي كتاب مطبوع جيد، ينصح بقراءته، وعنوانه «مدينة الخليل وحروب الحاخامات الدينية» . (3) هذه التسمية منكرة، وقد شاع على ألسنة الناس في بلاد المسلمين القول في سياق الذمّ: فعلت إسرائيل كذا، وستفعل كذا! و (إسرائيل) هو رسول كريم من رسل الله؛ وهو: (يعقوب) -عليه السلام-، وهو بريء من دولة اليهود الخبيثة الماكرة، إذ لا توارث بين الأنبياء والرسل وبين أعدائهم من الكافرين، فليس لليهود أية علاقة دينية بنبي الله (إسرائيل) -عليه السلام-، وهذه التسمية تسيء لمفاهيم ديننا، ولا يرضى الله عنها ولا رسوله ولا أنبياؤه، ولا سيما (إسرائيل) -عليه السلام-، إذ هم قوم (كفرة) ، وقوم= = (بهت) ، وإطلاق هذه التسمية عليهم فيها إيذاء له -عليه السلام-، والواجب الحيلولة دون ذلك. وثبت في «صحيح البخاري» (3533) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؛ يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً، وأنا محمد» . والواجب -على الأقل- إغاظتُهم بتسميتهم (يهود) ؛ لأنهم يشمئزون من هذه التسمية، ويفرحون بانتسابهم الكاذب ليعقوب -عليه السلام-، فليس لهم شيء من فضائله ومناقبه -عليه السلام-. وللشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رسالة مطبوعة بقطر عام 1398هـ، بعنوان «الإصلاح والتعديل فيما طرأ على اسم اليهود والنصارى من التبديل» ، وانظر في هذا ... -أيضاً-: «معجم المناهي اللفظية» (44) للشيخ بكر أبو زيد، ومجلتنا «الأصالة» الغراء، مقالة الشيخ ربيع بن هادي (حكم تسمية دولة يهود بإسرائيل) العدد (32) : السنة السادسة/15 ربيع الأول/1422هـ (ص 54-57) . ثم وجدت هذا التحذير في كتاب «خرافات يهودية» لأحمد الشقيري (ص 13-30) تحت عنوان (لستم أبناء إبراهيم، أنتم أبناء إبليس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 معناهُ الحياة لأي إسرائيلي (3) . ثانياً: اغتصاب الأرض، وإخراج أهلها منها عنوةً. عبر مسلسل دموي، وتخطيط محكم، وتنفيذ دقيق، استطاع اليهود سرقة (فلسطين) على دفعات، وكان ذلك بمباركة ودعم الغرب الكافر، وغفلة كثير من الشعب الفاجر (1) ، وكان ذلك على دفعتين: سنة 1948م احتلوا فيها فلسطين، وسنة 1967م احتلوا فيها الضفة الغربية بما فيها القدس الشريف، والمسجد الأقصى، وسيناء، والجولان.   (1) عمل أعداء الله -عز وجل- على إيجاد منظمات فدائية في الشعب الفلسطيني، تتبنى الماركسية والثورية، وكان (سر الليل) عندهم في معسكراتهم في بعض الأحايين (شتم الله) كما أخبرني بذلك غير واحد {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ ... إِلاَّ كَذِباً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 * استطراد له صلة بإخراج أهل فلسطين، وفتوى الشيخ الألباني في ذلك أذكر هنا إفاضة وإضافة لها صلة بـ (السلفيين وقضية فلسطين) ، وهي فتوى دندن حولها كثير من الشانئين، وأوقعت بعض المحبين في حيرة، وهي فتوى لشيخنا محدث العصر الألباني -رحمه الله تعالى- حول قضية خروج أهل فلسطين منها! فقد ضمّ الشيخ -رحمه الله وآخر مثله في السِّنّ -لا في العلم- مجلس، وسأل المسنُّ القادمُ من فلسطين الشيخَ -رحمه الله- عن مسائل، وقع ضمنها توجّع وشكاية وتألم من حال المسلمين الساكنين في فلسطين، فأفتى الشيخ - كعادته وبصراحته وجرأته فيما يعتقد- أن مكة خير من فلسطين، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما لم يستطع إقامة الدين فيها هاجر منها، فعلى كل مسلم لا يستطيع أن يقيم دينه في أي بقعة أن يتركها وينتقل إلى بلدة يستطيع فيها ذلك، فكان ماذا؟ وقعت هذه الفتوى لبعض (الأشاعرة) (الصوفيين) في بلادنا، وأخذ يدندن فيها، متهماً الشيخ بأنه (يهودي) ! مستدلاً بكلامه هذا! وأثارت (الصحف) و (الجرائد) هذه القضية، وكتب فيها العالم والجاهل، والسفيه والحقير والوضيع، وصرح بعضهم أنه لا يبغض (الألباني) ولا يعاديه! وإنما يعمل على محاربة (منهجه) فحسب! اللهم يا مقلب (العقول) ثبت (عقلي) على دينك وسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -. ويا ليت هؤلاء تكلموا بأدلة، أو بلُغَة أهل العلم، وإنما بلغة (الجرائد) (1) : السباب، وعرض (العضلات) ، وعدم التعرض للمسألة: بتأصيل أو تكييف أو تدليل أو تأريخ، وإنما لامست شيئاً في نفوسهم من نفور أو   (1) ألف الأستاذ محمد سليم بن محمد الجندي (ت 1375هـ - 1955م) رسالة جيدة مطبوعة بعنوان «إصلاح الفاسد من لغة الجرائد» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 (حسد) أو (حقد) ، ففرَّغوا ما فيها، فارتاحوا وانتعشوا، وظنوا أنهم نهوا وأمروا! وفازوا وظفروا! حقاً؛ إنها -أي: المقالات- مكتوبة بلغة، لا يربأ صاحب القلم الحر العلمي إلا السكوت عنها، أو القول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ومع ذلك؛ فقد تصدّى أخونا الشيخ حسين العوايشة لما شاع وذاع، وأخذ في التنقيب والبحث، وجمع ما ورد في مسألة (الهجرة) من آثار، وكلام للعلماء الربانيين، فخرجت معه دراسته المنشورة المعنونة بـ «الفصل المبين في مسألة الهجرة ومفارقة المشركين» ، وإنما هو في الحقيقة في سلسلة للعلماء -على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم وأعصارهم وأمصارهم- قد نصوا على ذلك، فها هو شيخنا حماد بن محمد الأنصاري، له كتاب مطبوع بعنوان «إعلام الزمرة بأحكام الهجرة» ، في فتاوى كثيرة، تطلب من مظانها (1) ، وأكتفي بنقل (2) فتوى توافق مشرب المشغّب الذي عامله الله بما استحق، من إطفاء نجمه، وأُفول ظله، وطمس صوته، وهي (فتوى ابن عربي (3) الصوفي الحاتمي الطائي) ، قال ما نصه: «وعليك بالهجرة ولا تقم بين أظهر الكفار، فإن في ذلك إهانة دين الإسلام، وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله، فإن الله ما أمر بالقتال إلا لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وإياك والإقامة أو الدخول تحت ذمة كافر ما استطعت، واعلم أن المقيم بين أظهُرِ الكفار -مع تمنكه من الخروج من بين ظهرانيهم- لا حظ له في الإسلام (!!) ، فإن النبي s   (1) سيأتي تعداد ما وقفت عليه مفرداً في هذا الباب، والله الموفق، فانظرها، فإنها مفيدة. (2) فات من صنف في هذه المسألة! (3) في كتابه «الوصايا» (ص 58-59) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 قد تبرأ منه، ولا يتبرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسلم، وقد ثبت عنه أنه s قال: «أنا بريء من مسلم يقيم بين أظهر المشركين» ، فما اعتبر له كلمة الإسلام، وقال الله -تعالى- فيمن مات وهو بين أظهر المشركين: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (1) [النساء: 97] ، فلهذا حجرنا في هذا الزمان على الناس زيارة بيت المقدس والإقامة فيه؛ لكونه بيد الكفار، فالولاية لهم والتحكم في المسلمين، والمسلمون معهم على أسوأ حال -نعوذ بالله من تحكم الأهواء-، فالزائرون اليوم البيت المُقدَّس، والمقيمون فيه من المسلمين، هم الذين قال الله فيهم: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104] ، وكذلك فلتهاجر عن كل خلق مذموم شرعاً قد ذمه الحقُّ في كتابه، أو على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» . وأخيراً؛ نحيل على دراسات مفردة لمن رام الاستزادة في هذا الموضوع، وهي مهمة: الأولى: لمصطفى بن رمضان البولاقي (ت 1263هـ - 1847م) : «رسالة فيما إذا كان يحل للمسلمين العيش تحت حكم غير المسلمين والتعايش معهم» . الثانية: لعلي الرسولي رسالة في الموضوع نفسه، وبالعنوان السابق، وهي والتي قبلها ضمن مجموع منسوخ في القرن (13هـ/19م) في جامعة ييل بأمريكا، تحت رقم [405 - L (970) ] . انظر «المخطوطات العربية في مكتبة جامعة ييل» (106) .   (1) انظر لزاماً عنها: «تفسير الكشاف» (1/557) ، «الدفاع عن أهل السنة والاتباع» لابن عتيق (ص 13-14) ، «الهجرة في القرآن الكريم» (ص 165) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الثالثة: لأبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي (ت 914هـ - 1508م) : «أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر، وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر» ، نشرت بتمامها في «المعيار المعرب» (2/119-141) ، ونشرها -قديماً- حسين مؤنس في صحيفة «معهد الدراسات الإسلامية في مدريد» (المجلد 5) ، سنة 1975م، (ص129-182) ، وأعاد نشرها المحقق نفسه في مجلة «معهد المخطوطات العربية» (مجلد 5/الجزء 1/ ذو القعدة/1959) (ص 147-184) ، ثم ظهرت عن دار البيارق في طبعة رديئة! غير مقابلة على نسخ خطية، ومنها نسخة في شنقيط [370 أش] في (17 ورقة) ، كما في «فهرس مكتبة شنقيط وودان» (160) ، وأخرى في مكتبة قاريونس، تحت رقم (845) ، كما في «فهارس مكتبة جامعتها» (2/31) . الرابعة: «بيان وجوب الهجرة وتحريم موالاة الكفرة ووجوب موالاة مؤمني الأمة» لعثمان بن محمد بن فودي، منه ثلاث نسخ في نيجيريا في جامعة أحمد وبلو، بأرقام [1/127P. و6/8P. و43/7 K.] ، ورابعة في قاريونس/ ليبيا في (77 ورقة) ، تحت رقم (1917) ، كما في «فهرس مكتبة جامعة قاريونس» (2/27) . الخامسة: «سفر المسلمين إلى بلاد النصارى» ، منه نسخة في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء، ضمن مجموع [163] في (7) ورقات. السادسة: «الشمس المنيرة الزهرا في تحقيق الكلام فيما أدخله الكفار دارهم قهرا» للحسين بن ناصر المهلاّ، منه نسخة في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء، تحت رقم (1471) في (21) ورقة. في رسائل لآخرين، وقد نوهنا -قريباً- أن غير واحد من المعاصرين ألَّف في هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 تحرير فتوى الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- نرتب فتوى الشيخ -رحمه الله- بأجزائها المتفرقة المؤتلفة في نقاط واحدة محددة (1) :   (1) هذه النقاط موجودة في كتاب «ماذا ينقمون من الشيخ» (ص 21-24) ، اطّلع عليها الشيخ وأقرها، وهذه صورة خطه بالإقرار: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 - الهجرة والجهاد ماضيان إلى يوم القيامة. - ليست الفُتيا مُوَجَّهةً إلى بلدٍ بعينِه، أو شَعْبٍ بذاتِه. - وقد هاجر أشرف إنسان وأعظمه محمدٌ -عليه الصلاة والسلام-، من أشرف بُقعة وأعظمها؛ مكَّةَ المكرمة، وكلُّ إنسان -منذ خلق الناس وإلى الساعة- دون محمد -عليه الصلاة والسلام- منزلةً، وكل بقاع الأرض دونها شرفاً وقُدسيّةً. - وتجب الهجرة حين لا يجد المسلمُ مُستَقَرّاً لدينه في أرض هو فيها امتُحن في دينه، فلم يعد في وُسعه إظهارُ ما كلَّفه اللهُ به من أحكام شرعيّةٍ، خَشْيَةَ أن يُفتَنَ في نفسه من بلاء يقع عليه، أو مسِّ أذى يُصيبُه في بدنه فينقلب على عَقِبَيه. وهذه النقطة هي مناطُ الحُكم في فتوى الشيخ، والمُرتَكزُ الأساسُ فيها - لو كانوا يعقلون! - وبها يرتبطُ الحُكمُ وجوداً ونفياً. ولكن -وللأسف الشديد- قد غيَّبَ ذلك وأخفاهُ وكَتَمَهُ الناقِدون الحاقِدون الحاطِبون في مُحاضراتهم و (ملاحِمِهم) المنبريَّة الانتخابية!! قال الإمامُ النَّووي في «روضة الطالبين» (10/282) : «المسلم إذا كان ضعيفاً في دار الكُفر، لا يقدرُ على إظهار الدين حَرُمَ عليه الإقامةُ هناك، وتجبُ عليه الهجرةُ إلى دار الإسلام ... » . - وحين يجدُ المسلمُ موضعاً -داخل القطر الذي يعيش فيه- يأمنُ فيه على نفسه ودينِه وأهلِه، ويَنْأَى فيه عن الفِتنة التي حلَّت به في مدينته أو في قريته، فعليه -إن استطاع- أن يُهاجرَ إلى ذلك المكان داخلَ قُطره نفسِه، وهذا أَوْلى -ولا شك- مِن أن يُهاجِرَ إلى خارج قُطرِه، إذ يكون أقربَ إلى بلده لِيُسرعَ بالرجوع إليه بعد زوال السببِ الذي من أجله هاجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وهذه نقطة أخرى -أيضاً- قد غيَّبها أولئك (القوم) الذين لم يَرْقبُوا في الشَّيخ، والعلمِ، والنّاسِ، إلاًّ ولا ذِمَّةً - إذن؛ فالهجرةُ كما أنَّها مشروعةٌ من قُطر إلى قُطر، فهي مشروعةٌ مِن قرية أو مِن مدينة إلى قرية أو مدينةٍ داخل القُطر نفسه، والمهاجرُ يعرفُ مِن نفسِه ما لا يعرفُه منه غيرُه. وهذا -ثالثاً- قد غيَّبه أولئك المُهَرِّجون على المنابر، والراقصون على الصحائف! زاعمين أنَّ الشَّيخَ يأمُرُ أهلَ فلسطين بالخروج منها!! نعم؛ هكذا ... -واللهِ- من غير تفصيلٍ أو بيان!! ولكن: فما يَبْلُغُ الأعداءُ مِن جاهِلٍ ... مَا يَبْلُغُ الجاهِلُ مِن نَفْسِه! - والهجرةُ من قُطرٍ إلى قُطر لا تُشرَعُ إلاّ بدواعيها وأسبابها مِن مثل ما كرنا في فقرة مَضَتْ؛ ومن أعظم هذه الأسباب: أن تكون الهجرةُ للإعداد واتِّخاذ الأُهبة التي أمر الله بها {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ... } ؛ لإجلاء الأعداء عن أرضٍ مِن أرضِ المسلمين، وتَخليصِها من أيديهم؛ ليعودَ إليها حُكمُ الإسلام كما كان مِنْ قَبلُ. فالهجرةُ -إذن- من الإعداد الذي أمر اللهُ به وحَضَّ عليه، ومَنْ أبطأ فيها -وقد تَهَيَّأت أسبابُها ودواعيها- فقد عصى اللهَ، ونأَى بجانبِه عن أمره. فإِنْ عَلِمَ المسلمُ أو المسلمون أنَّهم ببقائهم في ديارهم يزدادون وَهْناً إلى وَهْن وضَعفاً إلى ضعف، وأنَّهم إنْ هاجروا ذهبَ الوَهْنُ عنهم، وزال الضَّعفُ منهم، وبَقُوا -بعد علمهم هذا- ولم يُهاجروا -إن استطاعوا-؛ فهم آثمون عاصون أَمرَ الله، ورُبَّما عُوقبوا بمعصيتهم هذه عقوبةً أعظمَ وأشدَّ نُكراً، تتلاشى فيها شخصيتُهم، وتغيبُ معها صورتُهم، وتَضِلُّ بها عقيدتُهم، ثم لا يجدون لهم من دون الله وليّاً ولا نصيراً. وما صار إليه المسلمون في الأندلس، وفي غيرها من البلاد، شاهدٌ منظورٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 يقُص علينا من نبئه ما يبعث مَنسِيَّ الشَّجَن، ويُنسي لذَّة الوَسَن، يُذَكِّر محظورَ السُّنن! فهل مِن مُدَّكِر؟ - ومِمّا لا شك فيه -مما كتمه -أيضاً- ناقلو الفُتيا المُشِيعون لها- أنَّ هذا كلَّه مَنُوطٌ بالقدرة والاستطاعة؛ لقوله -تعالى-: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} ، ولقوله -سبحانه-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} ، فإن لم يَجِد المسلمُ أرضاً يأوي إليها غير الأرض التي هو فيها؛ يَأمَنُ فيها على دينه، وينجو من الفتنة الواقع فيها، أو حيلَ بينه وبين الهجرة بأسباب مانعةٍ قاهرةٍ لا يستطيعُ تذليلَها، أو استوت الأرضُ كلُّها في الأسباب والدَّواعي الموجبة للهجرة، أو عَلِمَ في نفسه أنَّ بقاءَه في أرضه آمَنُ لدينه ونفسِه وأهلِه، أو لم يكن من مُهاجَر إلاّ إلى أرض يُحكَم فيها بالكُفر الصُّراح علانيةً، أو كان بقاؤه في أرضه المأذونِ له بالهجرة منها مُحَقِّقاً مصلحةً شرعيّةً، سواءٌ أكانت هذه المصلحةُ للأمَّة، أم بإخراج أهل الكفر من كفرهم، وهو لا يخشى الفتنةَ على نفسه في دينه، فهو في هذه الأحوال كلِّها، وفي الأحوال التي تُحاكيها، ليس في وُسعه إلا أن يبقى مُقيماً في أرضه، ويُرجَى له ثوابُ المهاجرين، فراراً بدينهم، وابتغاءَ مرضاةِ ربِّهم. قال الإمامُ النَّوويُّ في «الرَّوضة» (10/282) -مُتَمِّماً كلامه الذي نقلتُه عنه-قَبْلُ-: « ... فإن لم يَقْدِر على الهجرة فهو مَعذورٌ إلى أن يَقدِرَ» . - ويُقالُ في أهل فلسطينَ -خصوصاً- ما يُقال في مثل هؤلاء جميعاً، فلقد سُئل الشيخُ -حفظه الله- عن بعض أهل المدن التي احتلّها اليهود عام 1948م، وضَرَبوا عليها صبغةَ الحُكم اليهودي بالكليّة، حتى صار أهلُها فيها إلى حالٍ من الغُربة المُرْمِلَةِ في دينهم، وأضْحَوا فيها عَبَدَةً أذلاّءَ؟ فقال: هل في قُرى فلسطين أو في مُدُنِها قريةٌ أو مدينةٌ يستطيع هؤلاء أن يَجِدُوا فيها دينَهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ويتخذوها داراً يدرءون فيها الفتنةَ عنهم؟ فإن كان؛ فعليهم أن يُهاجروا إليها، ولا يخرجوا من أرض فلسطين، إذ إنَّ هِجرَتَهم من داخلِها إلى داخلِها أَمرٌ مَقْدُورٌ عليه، ومُحَقِّقٌ الغايةَ من الهجرة. وهذا تحقيقٌ علميٌّ دقيقٌ يَنقُضُ زَعمَ مَنْ شَوَّشَ وهَوَّشَ مُدَّعياً أنَّ في فُتيا الشيخ إخلاءً لأرض فلسطين من أَهلِها، أو تنفيذاً لِمُخَطَّطاتِ يهود!! {مَا لَكُم كَيْفَ تَحْكُمُونَ} » . أُفٍّ لكم أيُّها الناقدون الحاقدون! هل علمتم هذا التَّفصيلَ أم جهلتموه؟! إن كنتم علمتوه فَلِمَ أَخفَيتُموه وكَتَمتُموه؟! وإنْ كنتُم جهلتموه! فلماذا رَضِيتُم لأنفسكم الجهلَ، وللشيخ الظُّلمَ، وللناس التَّضليلَ؟! أم أنَّ هذه تجارتُكم تَخشَوْنَ كسادَها؟! بِئسَتِ البضاعةُ، وبئست التجارةُ! - وَليَعلَمِ المسلمُ أنَّ الحِفاظَ على الأرض والنَّفس، ليس أولى من الحفاظ على الدين والعقيدة، بل إنَّ استلابَ الأرضِ -مِمَّن يظلُّ مُقيماً فيها رجاءَ الحفاظ عليها، غيرَ واضعٍ في حسابه الحفاظَ على دينه أولاً- قد يكون أَيسَرَ، وأشدَّ إيذاءً، وأعظمَ فتنةً. والعدوُّ الكافر الذي يحتلُّ أرضاً -وأهلُها مُقيمون فوقَها- يملكُ الأرضَ ومَن عليها وما عليها، فالكفرُ لا يَحفظُ للإسلام عهداً، ولا يرعى للمسلمين إلاًّ ولا ذمَّة، ولا يُقيم لهم في أرضهم وخارج أرضهم وَزناً. قال أبو عبيدة: وتكلم الشيخ -رحمه الله تعالى- على هذه المسألة بإسهاب في كتابه «السلسلة الصحيحة» عند حديث رقم (2857) ، وهذا نصه: «إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وفارقتم المشركين، وأعطيتم من الغنائم الخمس وسهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 .. والصفي (1) -وربما قال: وصفيَّة-؛ فأنتم آمنون بأمان الله وأمان رسوله» (2) . وتعرض للفتنة التي ألمت به، وصرح بموقفه من المسألة ببيانٍ ناصع، وحجة واضحة، وشدّ فهمه للنصوص بكلام بعض العلماء المحققين، وهذا كلامه بحرفه ونصّه وفصّه: «قلت: في هذا الحديث بعض الأحكام التي تتعلق بدعوة الكفار إلى الإسلام، من ذلك: أن لهم الأمان إذا قاموا بما فرض الله عليهم، ومنها: أن يفارقوا المشركين ويهاجروا إلى بلاد المسلمين، وفي هذا أحاديث كثيرة، يلتقي كلها على حضّ من أسلم على المفارقة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تتراءى نارهما» ، وفي بعضها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترط على بعضهم في البيعة أن يفارق المشرك، وفي بعضها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله -عز وجل- من مشرك بعد ما أسلم عملاً، أو يفارق المشركين إلى المسلمين» . إلى غير ذلك من الأحاديث، وقد خرجت بعضها في «الإرواء» (5/9-33) ، وفيما تقدم برقم (636) . وإن مما يُؤْسَفُ له أشد الأسف، أن الذين يُسْلمون في العصر الحاضر ... -مع كثرتهم والحمد لله- لا يتجاوبون مع هذا الحكم من المفارقة، وهجرتهم   (1) (الصَّفِيّ) : ما كان - صلى الله عليه وسلم - يصطفيه ويختاره من عرض المغنم من فرس أو غلام أو سيف، أو ما أحب من شيء، وذلك من رأس المغنم قبل أن يخمَس، كان - صلى الله عليه وسلم - مخصوصاً بهذه الثلاث (يعني المذكورة في الحديث: الخمس والسهم والصفي) عقبة وعوضاً عن الصدقة التي حرمت عليه. قاله الخطابي. (منه) . (2) أخرجه عبد الرزاق (4/300/7857) ، وأحمد (5/77، 78) ، والخطابي في «غريب الحديث» (4/236) ، والبيهقي (6/303 و9/13) ، وإسناده صحيح على شرط الشيخين. (منه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 إلى بلاد الإسلام، إلا القليل منهم، وأنا أعزو ذلك إلى أمرين اثنين: الأول: تكالبهم على الدنيا، وتيسّر وسائل العيش والرفاهية في بلادهم بحكم كونهم يعيشون حياة مادية ممتعة، لا روح فيها، كما هو معلوم، فيصعب عليهم عادة أن ينتقلوا إلى بلد إسلامي قد لا تتوفر لهم فيه وسائل الحياة الكريمة في وجهة نظرهم. والآخر -وهو الأهم-: جهلهم بهذا الحكم، وهم في ذلك معذورون، لأنهم لم يسمعوا به من أحد من الدعاة الذين تذاع كلماتهم مترجمة ببعض اللغات الأجنبية، أو من الذين يذهبون إليهم باسم الدعوة؛ لأن أكثرهم ليسوا فقهاء، وبخاصة منهم جماعة التبليغ، بل إنهم ليزدادون لصوقاً ببلادهم، حينما يرون كثيراً من المسلمين قد عكسوا الحكم بتركهم لبلادهم إلى بلاد الكفار! فمن أين لأولئك الذين هداهم الله إلى الإسلام أن يعرفوا مثل هذا الحكم والمسلمون أنفسهم مخالفون له؟! ألا فليعلم هؤلاء وهؤلاء أن الهجرة ماضية كالجهاد، فقد قال s: «لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل» ، وفي حديث آخر: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» ، وهو مخرج في «الإرواء» (1208) . ومما ينبغي أن يعلم، أن الهجرة أنواع ولأسباب عدة، ولبيانها مجال آخر، والمهم هنا الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام مهما كان الحكام فيها منحرفين عن الإسلام، أو مقصرين في تطبيق أحكامه، فهي على كل حال خير بما لا يوصف من بلاد الكفر أخلاقاً وتديناً وسلوكاً، وليس الأمر -بداهة- كما زعم أحد الجهلة الحمقى الهوج من الخطباء: «والله لو خُيّرت أن أعيش في القدس تحت احتلال اليهود وبين أن أعيش في أي عاصمة عربية، لاخترت أن أعيش في القدس تحت احتلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 اليهود» ! وزاد على ذلك، فقال ما نصّه: «ما أرى إلا أن الهجرة واجبة من الجزائر إلى (تل أبيب) » !! كذا قال فضّ فوه، فإن بطلانه لا يخفى على مسلم مهما كان غبياً! ولتقريب ما ذكرت من الخيرية إلى أذهان القراء المحبين للحق الحريصين على معرفته واتباعه، الذين لا يهولهم جعجعة الصائحين، وصراخ الممثلين، واضطراب الموتورين من الحاسدين والحاقدين من الخطباء والكاتبين: أقول لأولئك المحبين: تذكروا على الأقل حديثين اثنين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحدهما: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» . أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. والآخر: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» ، وهو حديث صحيح متواتر رواه جماعة من الصحابة، وتقدم تخريجه عن جمع منهم برقم (270 و1108 و1955 و1956) ، و «صحيح أبي داود» (1245) ، وفي بعضها أنهم «أهل المغرب» ؛ أي: الشام، وجاء ذلك مفسراً عند البخاري وغيره عن معاذ، وعند الترمذي وغيره مرفوعاً بلفظ: «إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، ولا تزال طائفة من أمتي ... » الحديث. وفي هذه الأحاديث إشارة قوية إلى أن العبرة في البلاد إنما هي بالسكان وليس بالحيطان، وقد أفصح عن هذه الحقيقة سلمان الفارسي -رضي الله عنه- حين كتب أبو الدرداء إليه: أن هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: «إن الأرض المقدسة لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسانَ عملُه» (1) .   (1) قال أبو عبيدة: رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (1/182 - ط. دار الفكر) ، = =وأبو القاسم البغوي -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/150) -، وعبد الله ابن أحمد في «زوائد الزهد» (2/90 - ط. دار النهضة) ، وعنه وكيع في «أخبار القضاة» (3/200) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/205) ، والدينوري في «المجالسة» (رقم 1238 - بتحقيقي) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/150 - ط. دار الفكر) - عن يحيى بن سعيد الأنصاري: أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي: أن هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحداً ... ثم ذكر كلاماً، وبعضهم اختصره. وهذا إسناد منقطع، يحيى بن سعيد لم يدرك القصة. قال أبو نعيم: رواه جرير، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن هبيرة: أن سلمان كتب إلى أبي الدرداء، نحوه. أقول: هذا سند ظاهرهُ الاتصال، عبد الله بن هُبيرة هذا من الثقات، وظاهره أنه أدرك سلمان، لكن سلمان مات في حدود (35-40هـ) ، وهذا مات سنة (126) ، وله خمس وثمانون سنة، فهو لم يدرك سلمان قطعاً. ورواه أبو نعيم -أيضاً- من طريق مالك بن دينار: أن سلمان كتب إلى أبي الدرداء ... وهذا إسناد منقطع -أيضاً-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 (موطأ مالك 2/235) . ولذلك فمن الجهل المميت والحماقة المتناهية -إن لم أقل وقلِّة الدين- أن يختار خطيب أخرق الإقامة تحت الاحتلال اليهودي، ويوجب على الجزائريين المضطهدين أن يهاجروا إلى (تل أبيب) ، دون بلده المسلم (عمّان) مثلاً، بل دون مكة والمدينة، متجاهلاً ما نشره اليهود في فلسطين بعامة، و (تل أبيب) و (حيفا) و (يافا) بخاصة من الفسق والفجور والخلاعة، حتى سرى ذلك بين كثير من المسلمين والمسلمات بحكم المجاورة والعدوى، مما لا يخفى على من ساكنهم، ثم نجاه الله منهم، أو يتردد على أهله هناك لزيارتهم في بعض الأحيان. وليس بِخَاف على أحد أوتي شيئاً من العلم ما في ذاك الاختيار من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 المخالفة لصريح قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً. إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 97-100] . قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (1/542) : «نزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدِّين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية» . وإن مما لا يشكُّ فيه العالم الفقيه، أن الآية بعمومها تدل على أكثر من الهجرة من بلاد الكفر، وقد صرَّح بذلك الإمام القرطبي، فقال في «تفسيره» (5/346) : «وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يُعمل فيها بالمعاصي، وقال سعيد بن جبير: إذا عُمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها، وتلا: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} » . وهذا الأثر رواه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/174/1) بسند صحيح عن سعيد، وأشار إليه الحافظ في «الفتح» ، فقال (8/263) : «واستنبط سعيد ابن جبير من هذه الآية وجوب الهجرة من الأرض التي يعمل فيها بالمعصية» . وقد يظن بعض الجهلة من الخطباء والدكاترة والأساتذة، أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا هجرة بعد الفتح» (1) ناسخ للهجرة مطلقاً، وهو جهل فاضح بالكتاب   (1) متفق عليه، وهو مخرج في «الإرواء» (1057) . (منه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 والسنة وأقوال الأئمة، وقد سمعت ذلك من بعض مدعي العلم من الأساتذة في مناقشة جرت بيني وبينه، بمناسبة الفتنة التي أثارها عليّ ذلك الخطيب المشار إليه آنفاً، فلما ذكرته بالحديث الصريح في عدم انقطاع التسوية المتقدم بلفظ: «لا تنقطع الهجرة ... » إلخ ... لم يحر جواباً! وبهذه المناسبة أنقل إلى القراء الكرام ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في الحديثين المذكورين، وأنه لا تعارض بينهما، فقال في «مجموع الفتاوى» (18/ 281) : «وكلاهما حق، فالأول أراد به الهجرة المعهودة في زمانه؛ وهي الهجرة إلى المدينة من مكة وغيرها من أرض العرب؛ فإن هذه الهجرة كانت مشروعة لما كانت مكة وغيرها دار كفر وحرب، وكان الإيمان بالمدينة، فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبة لمن قدر عليها، فلما فتحت مكة وصارت دار الإسلام، ودخلت العرب في الإسلام، صارت هذه الأرض كلها دار الإسلام، فقال: «لا هجرة بعد الفتح» ، وكون الأرض دار كفر ودار إيمان، أو دار فاسقين ليست صفة لازمة لها: بل هي صفة عارضة بحسب سكانها، فكل أرض سكانها المؤمنون المتقون هي دار أولياء الله في ذلك الوقت، وكل أرض سكانها الكفار فهي دار كفر في ذلك الوقت، وكل أرض سكانها الفساق فهي دار فسوق في ذلك الوقت، فإن سكنها غير ما ذكرنا، وتبدَّلت بغيرهم فهي دارهم. وكذلك المسجد إذا تبدَّل بخمارة أو صار دار فسق أو دار ظلم أو كنيسة، يشرك فيها بالله كان بحسب سكانه، وكذلك دار الخمر والفسوق ونحوها إذا جعلت مسجداً يعبد الله فيه -جل وعز- كان بحسب ذلك، وكذلك الرجل الصالح يصير فاسقاً والكافر يصير مؤمناً أو المؤمن يصير كافراً أو نحو ذلك، كل بحسب انتقال الأحوال من حال إلى حال، وقد قال -تعالى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} الآية، نزلت في مكة لما كانت دار كفر، وهي مازالت في نفسها خير أرض الله، وأحب أرض الله إليه، وإنما أراد سكانها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فقد روى الترمذي مرفوعاً أنه قال لمكة وهو واقف بالحزورة: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني منك لما خرجت» (1) ، وفي رواية: «خير أرض الله وأحب أرض الله إلَيّ» ، فبيّن أنها أحب أرض الله إلى الله ورسوله، وكان مقامه بالمدينة ومقام من معه من المؤمنين أفضل من مقامهم بمكة لأجل أنها دار هجرتهم؛ ولهذا كان الرباط بالثغور أفضل من مجاورة مكة والمدينة، كما ثبت في «الصحيح» : «رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً مات مجاهداً وجرى عليه عمله، وأجرى رزقه من الجنة، وأمن الفتان» (2) . وفي «السنن» عن عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل» (3) . وقال أبو هريرة (4) : لأن أرابط ليلة في سبيل الله، أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. ولهذا كان أفضل الأرض في حق كل إنسان أرضٌ يكون فيها أَطْوَعَ لله ورسوله، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، ولا تتعين أرض يكون مقام الإنسان فيها أفضل، وإنما يكون الأفضل في حق كل إنسان بحسب التقوى والطاعة والخشوع والحضور، وقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان: هلم إلى الأرض المقدسة! فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحداً، إنما يقدس العبدَ عملُه. وكان النبي s قد آخى بين سلمان وأبي   (1) إسناده صحيح، وهو مخرج في «المشكاة» (2725) . (منه) . (2) رواه مسلم وغيره، وهو مخرج في «الإرواء» (1200) . (منه) . (3) قلت: وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم والذهبي، وهو مخرج في تعليقي على «المختارة» (رقم 307) . (منه) . (4) بل هو مرفوع، كذلك رواه ابن حبان وغيره بسند صحيح، وهو مخرج في «الصحيحة» (1068) . (منه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الدرداء، وكان سلمان أفقه من أبي الدرداء في أشياء من جملتها هذا. وقد قال الله -تعالى- لموسى -عليه السلام-: {سُأُرِيكُم دَارَ الفَاسِقِينَ} وهي الدار التي كان بها أولئك العمالقة، ثم صارت بعد هذا دار المؤمنين، وهي الدار التي دل عليها القرآن من الأرض المقدسة، وأرض مصر التي أورثها الله بني إسرائيل، فأحوال البلاد كأحوال العباد، فيكون الرجل تارة مسلماً وتارة كافراً، وتارة مؤمناً، وتارة منافقاً، وتارة برّاً تقياً، وتارة فاسقاً، وتارة فاجراً شقيّاً. وهكذا المساكن بحسب سكانها، فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة؛ كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة، والله -تعالى- قال: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ [مِن بَعْدُ] وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ} [الأنفال: 75] . قالت طائفة من السلف: هذا يدخل فيه من آمن وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة، وهكذا قوله -تعالى-: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 110] (1) يدخل في معناها كل من فتنه الشيطان عن دينه أو أوقعه في معصية، ثم هجر السيئات وجاهد نفسه وغيرها من العدو، وجاهد المنافقين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، وصبر على ما أصابه من قول أو فعل. والله -سبحانه وتعالى- أعلم» . فأقول: هذه الحقائق والدرر الفرائد من علم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، يجهلها جهلاً تاماً أولئك الخطباء والكتّاب والدكاترة المنكرون لشرع الله {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} ، فأمروا الفلسطينيين بالبقاء   (1) وقع في هذه الآية خطأ مطبعي في الأصل، كما سقط منه ما بين المعقوفتين في الآية. (منه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 في أرضهم وحرموا عليهم الهجرة منها، وهم يعلمون أن في ذلك فساد دينهم ودنياهم، وهلاك رجالهم وفضيحة نسائهم، وانحراف فتيانهم وفتياتهم، كما تواترت الأخبار بذلك عنهم بسبب تجبّر اليهود عليهم، وكبسهم لدورهم والنساء في فروشهن، إلى غير ذلك من المآسي والمخازي التي يعرفونها، ثم يتجاهلونها تجاهل النعامة الحمقاء للصياد! فيا أسفي عليهم إنهم يجهلون، ويجهلون أنهم يجهلون، كيف لا وهم في القرآن يقرؤون: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} ! وليت شعري ماذا يقولون في الفلسطينيين الذين كانوا خرجوا من بلادهم تارة باسم لاجئين، وتارة باسم نازحين، أيقولون فيهم: إنهم كانوا من الآثمين، بزعم أنهم فرغوا أرضهم لليهود؟! بلى. وماذا يقولون في ملايين الأفغانيين الذين هاجروا من بلدهم إلى (بشاور) ، مع أن أرضهم لم تكن محتلة من الروس احتلال اليهود لفلسطين؟! وأخيراً ... ماذا يقولون في البوسنيين الذين لجأوا في هذه الأيام إلى بعض البلاد الإسلامية، ومنها الأردن، هل يحرِّمون عليهم -أيضاً- خروجهم، ويقول فيهم -أيضاً- رأس الفتنة: «يأتون إلينا؟ شو بساووا هون؟!» . إنه يجهل -أيضاً- قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ، أم هم كما قال -تعالى- في بعضهم: {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} ؟! ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأنباء من لم تزود» انتهى. قال أبو عبيدة: متى أفتى العالم المشهود له بالعلم من قبل المعتبرين، واستخدم قواعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 العلماء في الاستنباط، ولم يصادم نصّاً صريحاً صحيحاً، ولم يخرق إجماعاً معتبراً، فقوله يدور بين الأجر والأجرين، ولا يجوز أن يتَّهم في نيّته، وأن يسفّه رأيه، وإنما يناقش مناقشة علمية، بالحجّة والبرهان، وتراعى حرمته ومنزلته، ولا تهدر حسناتُه وجهوده (1) .   (1) الأمثلة على ذلك كثيرة؛ من أشهرها: ما حازه أهل الحرب من أموال المسلمين على وجه الإغارة، فإذا أسلم من هو في يده، كان ملكاً له، ولم يكن لمالكه الأول من المسلمين اعتراض عليه فيه. هذا مذهب المالكية. انظر: «المدونة» (1/378-379) ، «التفريع» (1/358) ، «الإشراف» (3/421-422 رقم 1741 - بتحقيقي) ، «الرسالة» (190) ، «المعونة» (1/608) ، «أسهل المدارك» (2/14) ، «قوانين الأحكام» (171) ، «بداية المجتهد» (1/398) ، «الذخيرة» (3/441) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/474) . وهذا مذهب الحنفية. انظر: «السير الكبير» (4/1279) ، «القدوري» (114) ، «تحفة الفقهاء» (3/523) ، «بدائع الصنائع» (9/4356) ، «البناية» (5/753) ، «فتح القدير» (6/3) ، «الاختيار» (4/133) ، «تبيين الحقائق» (3/260) ، «البحر الرائق» (5/102) ، «رؤوس المسائل» (360) . بينما قال الشافعية: هو باق على ملك المسلم، وله أخذه منه بغير عوض. انظر: «مختصر المزني» (273) ، «المهذب» (2/243) ، «المجموع» (21/218) ، «حلية العلماء» (7/661) ، «روضة الطالبين» (10/293، 294، 335) ، «مختصر الخلافيات» (5/51 رقم 317) . وهذا مذهب الحنابلة. انظر: «مسائل أحمد» (243) لأبي داود، «المغني» (13/117، 121) ، «الإنصاف» (4/159) ، «تنقيح التحقيق» (3/342) ، «منتهى الإرادات» (1/ 638-640) ، «تقرير القواعد» (3/412-414 - بتحقيقي) ، «ذيل طبقات الحنابلة» (1/120) . ... = = ووجهة نظر المالكية والحنفية أنّ للكفار شبهة ملك على ما حازوه من أموال المسلمين، يدل عليه قوله -تعالى-: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} [الحشر: 8] ، فسماهم فقراء بعد هجرتهم وتركهم ديارهم وأموالهم، ولأنه لا خلاف أنهم لو استهلكوه، ثم أسلموا، لم يضمنوه، ولو أتلفه مسلم على صاحبه للزمه غرمه، فدل ذلك على ثبوت شبهة الملك المشترك. فلا يجوز لعاقل -فضلاً عن طالب علم- أن يتّهم الحنفية والمالكية بـ (التفريط في بلاد المسلمين) ، وأنهم يقرّون (استيلاء اليهود على فلسطين) ، وما شابه من العبارات التي لا تصدر إلا عن (الموتورين) !! (المتعالمين) !! نعم، بلا شك أن الراجح مذهب الشافعية والحنابلة؛ لما أخرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 1641) ، وأحمد في «مسنده» (4/430) -والمذكور لفظه- وغيرهما: «عن عمران بن حصين، قال: كانت العضباء لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج، فأسر الرجل وأخذت العضباء، فحبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرحله، ثم إن المشركين أغاروا على سرح المدينة، وكانت العضباء فيه، وأسروا امرأة من المسلمين، فكانوا إذا نزلوا أراحوا إبلهم بأفنيتهم، فقامت المرأة ذات ليلة بعدما ناموا، فجعلت كلما أتت على بعير رغا، حتى أتت على العضباء، فأتت على ناقة ذلول فركبتها، ثم وجهتها قبل المدينة، ونذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة، وقيل: ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنذرها، أو أتته فأخبرته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بئس ما جزتها إن الله أنجاها عليها لتنحرنها» ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا وفاء في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم» . فلو ملكها المشركون ما أخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبطل نذرها، وقد بحث هذه المسألة أستاذنا فتحي الدريني في كتابه «المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي» (1/289-291) ، وردها على أصولها وبينها أحسن بيان، قال -حفظه الله-: «ولخطورة هذه المسألة، وأهميتها البالغة في كل من العلاقات الدولية والقانون الدولي العام، لا بد أن نقرر ما هو الحق فيها، مؤيداً بالأدلة، وبروح التشريع الإسلامي. إن منطق القوة لم يعهد في الشرع مزيلاً ليد محقَّة، ومقرراً ليد مبطلة، لأنه محض بغي وعدوان، وذلك بالبداهة لا يصلح سنداً للملكية؛ لكونه محرماً في الشريعة تحريماً قاطعاً. ولو أقر مبدأ العدوان هذا، لانخرم أصل الحق والعدل، ولاضطرب حبل الأمن في العالم كله، وما أنزلت الشرائع، وأرسل الرسل، إلا لاجتثاث أصول العدوان، ولإقرار= =الحق والعدل بين البشر؛ لقوله -تعالى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] . وأيضاً؛ لو كان الاستيلاء القهري بقوة السلاح من قبل الأعداء وسيلة معترفاً بها شرعاً، لامتلاكهم أموال المسلمين، واستيطان ديارهم بعد إخراجهم منها، لما وجب الجهاد -في مثل هذه الحالة- فرضاً عينياً على كل قادر على حمل السلاح رجالاً ونساءً، بالإجماع، من أجل استرداد ما استولى عليه العدو عنوة! والله -تعالى- يقول: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] . [ونظير هذا في عصرنا الحاضر، استيلاء اليهود على الأراضي العربية، عدواناً وظلماً بعد إخراج أهلها منها. هذا والاستيلاء والأحراز، عهد طريقاً مكسباً للملكية الفردية في المبادلة، وذلك تشجيعاً للجهد الإنساني الفردي للانتفاع بما وجد في الطبيعة من خيرات واستثمارها، وذلك معقول؛ لأن من بذل جهداً فاجتنى مما وجد في الطبيعة من خير مباح لا مالك له، كان أولى من غيره بامتلاكه، ممن لم يبذل أدنى مشقة في هذا السبيل، وهذا أمر وراء استلاب الحقوق والثروات، واغتصاب الديار والأوطان بعد تشريد أهلها منها، بقوة السلاح] . وقد تضافرت نصوص القرآن الكريم على وجوب دفع العدوان قبل وقوعه بالجهاد بالأنفس والأموال، وعلى وجوب إزالته بعد الوقوع، ولم يعهد أنه سبيل لتملك الأعداء ديار المسلمين وأموالهم. قال -تعالى-: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . وإذا حرم الإسلام على أهله الاعتداء، فأحرى أن يحرم عدوان غيرهم عليهم، ولا يجعله سبيلاً لامتلاك أموالهم وديارهم! وقال -تعالى-: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] . لا يقال: إن الآية تدل على أن الله -تعالى- لن يجعل للأعداء سبيلاً على نفوس المسلمين دون أموالهم؛ لأنا نقول: إن كلمة «سبيلاً» نكرة في سياق النفي، فتعم كل سبيل؛ سواء أكان واقعاً على نفوسهم، أو أموالهم، أو ديارهم. ولا يقال -كذلك-: إن الله لم يجعل للكافرين على المسلمين حجة؛ لأن الصيغة عامة فيجب إجراؤها على العموم -كما هو الأصل-، إذ لا دليل على التأويل أو التخصيص. = =انظر: «كشف الأسرار» (1/68 وما بعدها) ، «التوضيح» (1/131 وما بعدها) ، «أصول السرخسي» (1/236) . كذلك لا يقال: إنه لو كانت أموال المسلمين باقية على ملكهم، رغم إخراجهم من ديارهم، لأطلق عليهم القرآن الكريم كلمة «أبناء السبيل» ؛ وهم: من انقطعت بهم صلتهم بأموالهم لبعدهم عنها، ولم يسمهم «فقراء» ؛ فدل ذلك على أنهم فقراء حقيقة، قد زالت ملكيتهم عنها؛ لأنا نقول: إن ابن السبيل؛ هو: «المسافر» الذي انقطعت به الطريق، ونفد ماله، وله طماعية في الرجوع إلى بلده، لتمكنه من ذلك، وهذا مفهوم يختلف عمن أُخرج من دياره وأمواله عنوة، وليس في وسعه أن يعود إليها، لذا صح اعتباره كأنه فقير، أضف إلى ذلك أنهم قد توطنوا بالمدينة. انظر: «كشف الأسرار» (1/69) ، «حاشية الإزميري على المرآة» (2/76) . ووصفهم بكونهم فقراء مجازاً، لا يشعر بزوال ملكيتهم عن ديارهم وأموالهم، بل يفيد ثبوتها لهم، بقرينة إضافتها إليهم، ولأن في إطلاق هذه الكلمة عليهم، إثارة للتعطف الداعي إلى رعايتهم، وتدبير مصالحهم، والاهتمام بشؤونهم، تخفيفاً لوطأة الظلم عنهم، وتحقيقاً لما تقتضيه الأخوة نحوهم» . قلت: وانظر نصرة هذا الاختيار في «أحكام أهل الذمة» لابن القيم (1/291) ، وهو اختيار ابن حزم وابن تيمية، انظر: «الاختيارات الفقهية» (ص 312) ، «المحلى» (7/301) ، «الفيء والغنيمة» (161-165) ، «نصب الراية» (3/433-435) ، «فتح الباري» (6/ 183) . والشاهد من هذا: أن لازم المذهب ليس بلازم، ولا يجوز لصاحب الفهم السليم، والنفس المطمئنة، والعقل النيّر، أن يهجم على إلصاق (التُّهم) بـ (العلماء) ، وعدم مراعاة القواعد المعمول بها -قديماً وحديثاً- عند أهل العلم، وأن العالم إذا اتبع القواعد المسلوكة، وكان أهلاً فهو بين أجر واثنين، والموفق والسعيد من حفظ لسانه -ولا سيما في حق العلماء-، ومن حسّن الظن بالناس، ولا سيما الصلحاء، والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وبناءً عليه؛ فإن منزلة الشيخ الإمام المحدث العلامة محمد ناصر الدين الألباني غير خافية على كل من له عناية وصلة بالكتاب الشرعي، فضلاً عن طلبة العلم، أو المتخصصين في سائر العلوم، ولا سيما علم الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 النبوي (1) . ومما يخفى على كثير من محبّيه، والمتتبعين لأخباره وأحواله: جهاده في فلسطين. قال الشيخ زهير الشاويش -حفظه الله- في مقالة (2) له بعنوان: (نقاط يسيرة من سيرة عطرة للشيخ الألباني مع الحديث النبوي الشريف) بعد كلام: «وحتى في الإعداد للجهاد في فلسطين، وقد أعدّ الشيخ ناصر نفسه لمقاومة الاستيطان الصهيوني، وكاد أن يصل إلى فلسطين، لولا المنع الحكومي للمجاهدين» . قلت: وصل الشيخ فلسطين سنة 1948م، وصلّى في المسجد الأقصى، ورجع مرشداً دينياً للجيش السعودي بعد ما سموه بالنكسة، وقد تاهوا في الطريق، وله في تفصيل ذلك كتاب ماتع محفوظ، اسمه «رحلتي إلى نجد» (3) . أفلا يشفع له عزمه وهمُّه هذا عند هؤلاء، ولم يكن ذلك -فيما نحسب، والله حسيبه- إلا دفاعاً عن المستضعفين في سبيل الله -تعالى-، أم أن منهج هؤلاء تصيُّد العيوب، والفَتْش عن القوادح، حتى تحول دون وصول دعوة الكتاب والسنة بفهم السلف إلى شباب الأُمَّة، وعلى أيّ: فالحقيقة قويّة، ولا بد   (1) فالعجب من واحد من طلبة علم الحديث الحائزين على (الماجستير) فيه، أخذ يضرب خبط عشواء -كعادته- في الرد على السلفيين والعلماء الربانيين، وينشر ذلك في الجرائد، ويطلع علينا بين الحين والحين بما يدهش ويثير الغرابة والتساؤل، ولا أعلم أن له مصلحة في ذلك سوى إرضاء من معه من الحزبيين الغارقين في التعصب لأمثال القرضاوي! حتى أنه لا يساويه ولا يدانيه -عنده- بأحد! وللتفصيل مقام آخر. (2) منشورة في مجلة «الفرقان» العدد (115) (ص 19) . (3) أخبرني الأخ نظام سكجها -حفظه الله- أن إحدى بناته (حفيدة الشيخ) ، انشغلت بنسخه عن أصول الشيخ -رحمه الله-، ولعله يظهر قريباً، يسر الله ذلك بمنه وكرمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أن تظهر ولو بعد حين، وحبل الكذب قصير. ومن بديع كلام الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «ومن لهُ علمٌ بالشَّرع والواقع؛ يعلمُ قطعاً أنَّ الرَّجُلَ الجليل، الذي له في الإسلام قدمٌ صالحٌ، وآثارٌ حسنةٌ، وهُو من الإسلام وأهله بمكانٍ قد تكون منه الهفوةُ والزَّلَّةُ، هو فيها معذُورٌ ومأجُورٌ لاجتهاده، فلا يجُوزُ أن يُتبع فيها، ولا يجُوزُ أن تُهدر مكانتُهُ وإمامتُهُ ومنزلتُهُ مِن قُلُوب المُسلمين» (1) . ويزداد عجبي -بل لا ينتهي- عندما نجد المسوّغات بالجملة، وتحسين الظن يكبر ويكثر حتى يصل إلى حد السذاجة، والمروق عن قواعد المنطق والعلم في حق المتساهلين في الدين، والخارجين عن السبيل والدليل، ولما يصل الأمر إلى الشيخ الألباني وتلاميذه، ينعكس الحال، وتتّهم النوايا، وتحمّل الأقوال والأفعال فوق ما تحتمل، وما هذا -في حقيقة الأمر- إلا الحقد والحسد، وإخراج لما في النفوس، فالويل لأصحابها إن أبقوها على تدنيسها! ولم يعملوا على تزكيتها! * فتوى العمليات: هل هي انتحارية أم استشهادية؟ من أسباب نقمة بعض المتحمسين أو الحزبيين أو المتأثرين بالجرائد وحديث المجالس: زعم بعض الكاذبين -هداهم الله- على الشيخ الألباني، أنه يفتي بأن القائمين بالعمليات في فلسطين الحبيبة -أعادها الله إلى حظيرة الإسلام والمسلمين- هم في النار، وتنطبق عليهم النصوص الواردة في حق المنتحرين! وبعضهم يزيد -كذباً وزوراً- أنه -رحمه الله- يقول عنهم: (فطايس) !!   (1) «إعلام الموقعين» (4/235 - بتحقيقي) ، وقارن بـ «الموافقات» للشاطبي (5/136-137 - بتحقيقي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 قلت: والله الذي لا إله إلا هو: إن هذا كذب على الشيخ، لم يخطر بباله، فضلاً عن أن ينطق به فاهُ، أو يخطه بنانه. وفتوى الشيخ بالجملة: أنه كان يقول عنهم: أمرهم إلى الله -عز وجل-، ونسأل الله أنْ يتقبّلهم. وأما فتواه بالتفصيل، فسيأتي نقلها -إن شاء الله تعالى- والتعليق عليها. * مقدمات وضوابط وقيود للعمليات الفدائية: هل هي استشهادية أم انتحارية؟ سئل الشيخ -رحمه الله تعالى- في كثير من مجالسه العلمية عن حكم هذه العمليات؟ وأجاب تارة بالتفصيل، وتارة بالإجمال، ومُنْعِمُ النظر في الشروط عند التفصيل يجد أن العمليات الحاصلة اليوم في بلاد المسلمين المغتصبة (1) -عنده- قريبة من الحظر لا الجواز! وأُراني -قبل ذكر كلامه- مضطراً إلى التنبيه إلى أمور: أولاً: هذه مسائل علمية نظرية، يتكلم فيها العلماء بعامة، على وفق ما ترجّح لهم من نصوص الشرع ومقاصده، ولا يعنون حَدَثاً ما، أو فئة معيّنة، أو عمليات قائمة في بلد معين. ثانياً: أن من أسباب التوسعة في الخلاف في المسائل الفقهية: (ازدحام المصالح والمفاسد) في (المحل الواحد) ، والمجتهد يرجّح بعد (تحقيق مناط) المسائل -أي: معرفة واقعها من حيثُ المصلحةُ والمفسدةُ-، فلا مجال لاتّهام النوايا ألبتة! ولا لتطويل الألسنة في أولياء الله -تعالى- (2) .   (1) المنع منها في غير بلادهم وديارهم من باب أولى وأحرى. (2) من بديع كلام الإمام الشافعي -رحمه الله-: «إذا لم يكن العلماء أولياء الله- تعالى-، فلا أعلم من هم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ثالثاً: إن لمعرفة هذه المصالح والمفاسد: تصوراً دقيقاً، وضبطاً وتحريراً وتقديراً، لا بد من الاستعانة بأهل الخبرة في هذا الباب، والعلماء المتخصصون في العلوم العسكرية يقررون: أن هذه العمليات بمثابة (وخز الدبوس) ، فهي لا تهزم عدواً، ولا تعمل على فنائه أو غلبته، بل هي تثوِّر أعصابه، وتغيّر مسار تخطيطاته، وتجعل عنده ردود فعل سريعة غير مضبوطة ولا مخطط لها، فضلاً عن (الروح المعنوية) التي تكون عند الجنود، ولذا؛ لا يجني ثمار هذه العمليات -من وجهة نظر عسكرية- إلا الجيش والعسكر الذي يحيط بالعدو، أما إفراد هذه العمليات دون جيوش ودساكر وعساكر، فإن فائدتها -أكثر ما تظهر- في التأديب العاجل، وشفاء الصدور من أهل الباطل، أما أن تُحَقِّقَ المقاصد الشرعية الأصلية المعتبرة من الحروب والجهاد، فلا، بل قد يترتب عليها أحياناً مضار أكثر منها، فهي من هذه الحيثية في هذه الحالة، تتنزل بين مرتبتين، وتشبهها حالتين من حالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ هما: الأولى: بمثابة المنكر الذي إذا تغيَّر، ترتّب عليه منكر أكبر منه، فهذا ممنوع. الثانية: بمثابة المنكر الذي إذا أُنكر (قلّ أو زال) ، ترتب عليه منكر بقدر زواله، وهذا محل نظر. رابعاً: المُقْدِمُ على هذه العمليات مقصدُه يدور على تغيير ما هو واقع بالأمة أصالة، وتقديم روحه وبذلها من أجل نيل ثواب الشهادة، وليس في باله (الانتحار) و (قتل نفسه) ، إذ لذاك -لو أراد- طرق أخرى كثيرة. ولا شك أن لنيته أثراً على الحكم من حيث المآل، والمصير عند الله -عز وجل-. قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكر حرمة قتل الإنسان نفسه بالكتاب والسنة والإجماع، قال: «فينبغي للمؤمن أن يفرق بين ما نهى الله عنه من قصد الإنسان قتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 نفسه، أو تسببه في ذلك، وبين ما شرعه الله من بيع المؤمنين أنفسهم، وأموالهم له، كما قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ} ، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} ؛ أي: يبيع نفسه. والاعتبار في ذلك بما جاء به الكتاب والسنة، لا بما يستحسنه المرء أو يجده، أو يراه من الأمور المخالفة للكتاب والسنة، بل قد يكون أحد هؤلاء كما قال عمر بن عبد العزيز: من عبد الله بجهل، أفسد أكثر مما يصلح. ومما ينبغي أن يعرف: أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس، وحملها على المشاق، حتى يكون العمل كل ما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال: أن الأجر على قدر المشقة، في كل شيء، لا! ولكن الأجر على قدر منفعة العمل، ومصلحته، وفائدته» (1) . ولكن النية وحدها لا تكفي، ولا بد من مراعاة الأحكام الشرعية الأخرى. خامساً: من هذه الأحكام -وهي مقررة في المدوَّنات والكتب الفقهية-: عدم قتل من لم ينصب نفسه للقتال، من النساء والشيوخ والصبيان، أو ما يسمّى اليوم بـ (المدنيين) (2) . سادساً: من الصور المشروعة، التي لا خلاف فيها، وتشهد لها نصوص كثيرة، ووقائع عديدة من حياة الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الصالحين (3) : أن ينغمس العدد القليل، أو الفرد الواحد، في صفوف الكثيرين   (1) «مجموع الفتاوى» (25/281) . (2) وكذلك من دخل بلاد الكفار باستئمان (التأشيرة اليوم) ، فلا يجوز له أن يتعدى عليهم، وفي تحديد (المحارب) من (المستأمن) وإسقاطها على ما يجري في العالم اليوم دقة، وتحتاج إلى اجتهاد جماعي، من قبل علماء ربانيين متضلعين بالأحكام والقوانين! (3) ترى هذه الصور في كتاب «مشارع الأشواق» (الباب الرابع والعشرين: في= =فضل انغماس الرجل الشجاع أو الجماعة القليلة في العدو الكثير رغبة في الشهادة) (2/522-564 - ط. دار البشائر) ، وأورد أدلة كثيرة على مشروعية ذلك، تنظر فيه، فالمقام هنا ليس مقام بسط. وجل من صنف في هذه المسألة تكثر بهذه الأمثلة -وهي مكررة-! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 من المقاتلين، ويغلب على ظنه الموت، فهذه صورة مشروعة مستثناة من صور الخلاف فضلاً عن المنع، بل هي من أفضل الأعمال المقربة إلى رضوان الله-عز وجل-، وأصحابها بائعو أنفسهم لله -عز وجل-، كما سبق قريباً في كلام ابن تيمية -رحمه الله-. وقال -أيضاً-: «وقد روى مسلم في «صحيحه» (1) عن النبي s قصة أصحاب الأخدود، وفيها: «أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين» ؛ ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار، وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه: إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، وقد بسطنا القول في هذه المسألة في موضع آخر. فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به لأجل مصلحة الجهاد، مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره: كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التي لا تحصل إلا بذلك، ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا، الذي لا يندفع إلا بذلك أولى، وإذا كانت السنة والإجماع متفقين على أن الصائل المسلم إذا لم يندفع صوله إلا بالقتل قتل، وإن كان المال الذي يأخذه قيراطاً من دينار، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «من قتل دون ماله فهو شهيد،   (1) في كتاب الزهد: باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام (3005) ، وأسهبتُ في تخريجها وذكر الفوائد والعبر منها في كتابي «من قصص الماضين» (197-207) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمه فهو شهيد» (1) ، فكيف بقتال هؤلاء الخارجين عن شرائع الإسلام، المحاربين لله ورسوله، الذين صولهم وبغيهم أقل ما فيهم، فإن قتال المعتدين الصائلين ثابت بالسنة والإجماع، وهؤلاء معتدون صائلون على المسلمين: في أنفسهم، وأموالهم، وحرمهم، ودينهم، وكل من هذه يبيح قتال الصائل عليها، ومن قتل دونها فهو شهيد، فكيف بمن قاتل عليها كلها» (2) . نعم؛ الخلاف فيها مذكور، ولكن الجماهير على الجواز، وبعضهم يقيد مشروعيتها ببعض القيود، يظهر ذلك من كلام أبي حامد الغزّالي وغيره، قال -رحمه الله- في «الإحياء» (3) في كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) : «لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل، وإن علم أنه يقتل، وكما أنه يجوز أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز -أيضاً- ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار، كالأعمى يطرح نفسه على الصف، أو العاجز، فذلك حرام، وداخل تحت عموم آية التهلكة، وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه لا يُقْتل حتى يَقْتل، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته، واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة، وحبهم للشهادة في سبيل الله، فتكسر بذلك شوكتهم» .   (1) أخرجه البخاري في «صحيحه» (رقم 2480) ، ومسلم في «صحيحه» (رقم 141) مختصراً بلفظ: «من قتل دون ماله فهو شهيد» . وأخرجه الترمذي في «الجامع» (رقم 1421) ، وأبو داود في «سننه» (رقم 4772) ، وفيهما: «دون أهله» ، بدل: «دون حرمه» ، وهو صحيح، كما في «صحيح الترغيب والترهيب» (رقم 1411) . (2) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (28/540-541) . (3) (7/26 - مع شرحه «إتحاف السادة المتقين» ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وقال الرافعي والنووي وغيرهما: التغرير بالنفس في الجهاد جائز، ونقل في «شرح مسلم» (1) الاتفاق عليه، ذكره في (غزوة ذي قرد) . وقال في قصة عمير بن الحمام حين أخرج التمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: «إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة» ، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قتل. قال النووي: «فيه جواز الانغماس في الكفار والتعرض للشهادة، وهو جائز لا كراهة فيه عند جماهير العلماء» (2) انتهى. وقال البيهقي في «سننه» (3) : (باب من تبرع بالتعرض للقتل) : «قال الشافعي (4) -رحمه الله تعالى-: قد بورز بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحمل رجل من الأنصار حاسراً على جماعة المشركين يوم بدر بعد إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه بما في ذلك من الخير، فقتل» . قال البيهقي: «هو عوف بن عفراء، ذكره ابن إسحاق» ، ثم ذكر في الباب قصة عمير بن الحمام، وأنس بن النضر، وغير ذلك. وقال أبو عبد الله القرطبي في «تفسيره» (5) : «اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده، فقال القاسم بن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبد الملك من علمائنا: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم، إذا كان فيه قوة، وكان لله بنيّة خالصة، فإن لم تكن له قوة فذلك من   (1) (12/187 - الطبعة المصرية) ، وقارنه بـ «روضة الطالبين» (10/250) . (2) (13/46) (باب ثبوت الجنة للشهيد) . (3) (9/43-44) . (4) في كتابه «الأم» (4/169) . (5) (2/363-364) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 التهلكة، وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل؛ لأن مقصوده واحد منهم (1) ، وذلك بَيِّنٌ في قوله -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] . وقال ابن خوايز منداد (2) : «فأما أن يحمل الرجل على مئة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج، فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أنه سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أنه يقتل، ولكن سينكي نكاية أو يؤثر أثراً ينتفع به المسلمون فجائز -أيضاً-، ولما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل من المسلمين: ضعوني في الحَجَفَة وألقوني إليهم، ففعلوا، فقاتلهم وحده وفتح الباب» . قال القرطبي: «ومن هذا: ما روي، أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أرايت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً؟ قال: «فلك الجنة» ، فانغمس في العدو حتى قتل (3) . ونقل ما في «صحيح مسلم» (4) عن أنس بن مالك، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، فلما رهقوه، قال: من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنصفنا أصحابنا» ، قال: «هكذا الرواية: «أنصفنا أصحابنا» ، وروي بفتح الفاء ورفع   (1) قارنه بـ «أحكام القرآن» (1/116) لابن العربي، و «التحرير والتنوير» (2/ 215-217) لابن عاشور. (2) في كتابه «أحكام القرآن» . (3) أخرجه البخاري: كتاب المغازي: باب غزوة أحد (رقم 4046) من حديث جابر بن عبد الله. (4) كتاب الجهاد والسير: باب غزوة أحد (رقم 1789) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الباء، ويرجع إلى من فرّ عنه من أصحابه» ، قال: «وقال محمد بن الحسن (1) : لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين، وهو وحده لم يكن بذلك بأس، إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه؛ لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين، فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه؛ لأن فيه نفعاً للمسلمين على بعض الوجوه، فإن كان قصده إرهاب العدو ليعلم العدو صلابة المسلمين في الدين، فلا يبعد جوازه إذا كان فيه نفع للمسلمين، فَتَلَفُ النفس لإعزاز دين الله وتوهين الكفر، فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] الآية، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه، وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (2) انتهى كلام القرطبي. ومثله ما نقله ابن حجر في «الفتح» (3) عن المهلب قوله: «وقد أجمعوا على جواز المهالك في الجهاد» . وقال ابن حجر -أيضاً- في موطن آخر: «وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو، فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته، وظنه أنه يرهب العدو بذلك، أو يجرئ المسلمين عليهم، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن، ومتى كان مجرد تهوّر فممنوع، ولا سيما إن ترتّب على ذلك وهن في المسلمين، والله أعلم» (4) .   (1) في كتابه «السير الكبير» (1/163-164) ، وانظر «الفتاوى الهندية» (5/353) و «حاشية ابن عابدين» (4/137) . (2) «الجامع لأحكام القرآن» (2/364) . (3) (12/316) . (4) «فتح الباري» (8/185-186) : كتاب التفسير: باب قوله -تعالى-: {وَأَنْفِقُواْفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وقال ابن المناصف: «واختلف أهل العلم في حمل الرجل وحده على الجيش والعدد الكثير من العدو. فأقول: أحوال الذي يحمل وحده ثلاث: - حال اضطرار وقلّة: حيث يحيط به العدو، وهو يخاف تغلَّبهم عليه، وأسرَهم إياه، فذلك جائز أن يحمل عليهم باتفاق. - وحال يكون فيها في صفّ المسلمين ومعهم، فيحمل إرادة السُّمعة والاتصاف بالشجاعة، فهذا حرام باتِّفاق. - وحال يكون كذلك مع المسلمين، فيحمل غضباً لله، محتسباً نفسه عند الله، ففي هذا اختلف أهل العلم، فمنهم من كره حمله وحده، ورآه مما نهى الله عنه من الإلقاء باليد إلى التّهلكة، ومنهم من أجاز ذلك واستحسنه، إذا كانت به قوة، وفي فعله ذلك منفعة، إما لنكاية العدو، أو تجرئة المسلمين حتى يفعلوا مثل ما فعل، أو إرهاب العدو، ليعلموا صلابة المسلمين في الدين. وبالجملة؛ فكل من بذل نفسه لإعزاز الدين، وتوهين أهل الكفر فهو المقام الشريف الذي تتوجه إليه مدحة الله -تعالى-، وكريم وعده، في قوله ... -سبحانه-: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} [التوبة: 111] ، وقال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} » (1) . قال أبو عبيدة: من الصور التي تخرج على هذا النوع في زماننا: أن يتسلل المجاهد إلى معسكر من معسكرات العدو، أو أن يدخل مجمعاً لهم بسلاحه الآلي، أو بمجموعة قنابل، ويقوم بقتلهم حتى تنفد ذخيرته، فيلقون   (1) «الإنجاد في أحكام الجهاد» (1/ق 133-134 - نسخة تطوان) ، وأعمل الآن على تحقيقه، يَسَّرَ اللهُ ذلك -بِمنّه وكرمه-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 القبض عليه ويقتلوه، والملاحظ هنا، أن احتمال نجاة هذا المجاهد قليلة، بسبب كثرة العدو، وقوات أمنه ودورياته، ففي هذه الحالة يموت بيد أعدائه، مع أن في فعله نكاية شديدة بالعدو (1) . والخلاصة: إن هذه الصورة مقيدة بقيود، اختلف العلماء في التعبير عنها، والمعنى والفحوى والمضمون -في الجملة- واحد؛ وهو: «أن يعلم أنه لا يُقْتل حتى يَقْتل» ، أو «لو علم أن لهجومه نكاية على الكفار» ، أو «علم أنه يكسر قلوب الكفار (2) بمشاهدتهم جرأته» ، أو أنه «سينكي نكاية أو يؤثر أثراً ينتفع به المسلمون» ، أو «لا يترتب على ذلك وهن في المسلمين» .   (1) أما إذا لم تحصل النكاية فلا يجوز، كما تقدم قريباً في كلام الغزالي، وكما سيأتي في (عاشراً) في كلام للعزّ والشاطبي -رحم الله الجميع-. (2) من بديع تأصيل وتفصيل العز بن عبد السلام في كتابه «قواعد الأحكام» (2/397 - ط. القلم) قوله: «لو قُتِل عدوُّ الإنسان ظلماً وتعدياً، فسرَّه قتلُه وفرح به، هل يكون ذلك سروراً بمعصية الله أم لا؟ فأجاب بقوله: «إن فرح بكونه عُصِيَ اللهُ فيه، فبئس الفَرَحُ فَرَحُه، وإنْ فَرح بكونه خلص من شرّه وخلص الناسُ من ظلمه وغشمه، ولم يفرح بمعصية الله بقتله، فلا بأس بذلك؛ لاختلاف سَبَبَي الفرح. فإن قال: لا أدري بأيّ الأمرين كان فرحي؟ قلنا: لا إثم عليك؛ لأنّ الظاهر من حال الإنسان أنه يفرحُ بمصاب عدوّه، لأجل الاستراحة منه، والشماتة به، لا لأجل المعصية، ولذلك يتحقّق فَرَحُه، وإن كانت المصيبةُ سماوية» . قال أبو عبيدة: تأمل هذا الكلام ما أقعده، وتفقّد قلوب المسلمين وسرورهم لما يجري من شرور عدوهم، وعليه فَقِسْ، وَزِنْ أفعالَك وأقوالَك بميزان الشرع، بل افعل ذلك في خلجات قلبك، وإلا فـ (على نفسها تجني براقش) ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وهذه القيود متوفّرة في (العمليات) المبحوثة السابقة، إلا أنه ينبغي الوقوف بتأمل مع قول محمد بن الحسن: «إذا كان يطمع في نجاة» ! ومما ينبغي التنبه له: أن القتل بالتغرير بالنفس الجائز في النصوص والنقولات السابقة هو ما يقع على أيدي الكفار وسلاحهم، ولذا لا إشكال في جواز هذه العمليات الفدائية (1) ، وأنها من قبيل العمليات الاستشهادية. سابعاً: أما العمليات التي فيها القتل المحتّم لنفسه بنفسه، من خلال وضع حزام فيه متفجرات على بدنه، أو في سيارة، ويُظهر استسلاماً للأعداء الكفار، أو يعمل بداية على الدخول بينهم للقضاء عليهم، كما يقوم به بعض أبناء فلسطين المحتلة -أعادها الله إلى حظيرة الإسلام والمسلمين- باليهود، فهذا مما اختلفت فيه وجهات نظر العلماء، بين موسع ومضيّق ومتوسط: فالمجوز بإطلاق، دون شروط أو مراعاة لأيّ قيود، ليس بـ (فقيه النفس) ، ولا يوجد مسوّغ شرعي للنظر في المصالح فحسب، دون النظر إلى (مآلات الأفعال) والمفاسد المترتبة عليها! وبهذا الكلام يفتي المتحمّسون من الشباب، وهو أشبه ما يكون بـ (المراهقة الفكرية) . والمضيّق بإطلاق، راعى نصوصاً، ووقف عند ألفاظها، وأهمل المعاني، ولم يلحق المسألة بأشباهها ونظائرها! ولم يفرق بين (المنتحر) و (المغامر) (2) ، إذ   (1) من بديع تعليق شيخنا الألباني -رحمه الله- في «صحيح الترغيب والترهيب» (3/40) قوله عند حديث أبي هريرة الصحيح: «من خير معاش الناس ... كلما سمع هيعة أو فزعة، طار عليه يبتغي القتل أو الموت مظانه ... » ، قال معلقاً: «انظر تفسيره ودلالته على جواز العمليات الفدائية فيما تقدم» . (2) سيظهر هذا التفريق جلياً في كلام الشيخ الألباني -رحمه الله- الآتي (ص 63) ، خلافاً لما أوهمه الناقلون كلامه المقررون الحرمة عنه، إذ مدارها عند الشيخ -رحمه الله- على غير هذا المدرك، فنقاشهم له تهويل بلا تحصيل، وتطويل بلا تفصيل، والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 همُّ الأول الخلاص من حياته، وهمُّ الثاني إلحاق الضرر بعدوِّه، ولو غامر بنفسه! وعمل على هلاكها. ومما ينبغي ذكره بهذا الصدد أمور: أولاً: إن فتاوى المعاصرين في هذه المسألة موجزة غير مفصلة، وكل منهم يتكلَّم على هذه العمليات من جهة، وبعض هذه الفتاوى تقتصر على واقعة معينة، أو يكون صاحبها واضعاً في حسبانه شيئاً معيناً، ولذا يجب مراعاة هذه الأمور، فقد تختلف الفتاوى باختلاف الحالات، أو بتعدد البلدان، واختلاف الزمان والأوان، فهي تدور على المصلحة المتوخاة، المضبوطة بقواعد الشرع ومقاصده، وجوداً وعدماً. ثانياً: إن الاختلاف في هذه المسألة يقع بين العلماء بناءً على اختلاف تصوّراتهم عنها، فقواعدهم واحدة، وتحقيق مناطها بينهم مختلف، ولو اتفقت أنظارهم لاتّحدت فتاويهم، وهذا النوع من الخلاف فيه سعة، إذ لا يوجد فيه تعدٍّ على النصوص، فالحقّ مع الطرفين، ولكن ينقص المخطئ العدل (1) ! وهذا النوع يقع بين أصحاب المدرسة الواحدة، والمشرب والمذهب الواحد! ثالثاً: هنالك فرق بين ما يستدل به المجوّزون من نصوصٍ وحوادثَ وقعت للمجاهدين في العصور السابقة، وبين هذه العمليات، وأهم هذه الفروق: أن في تلك الأحداث موتاً على أيدي الأعداء، والطمع في النجاة حاصل، ولو باحتمال ضئيل، بخلاف ما في هذه العمليات، إذ الموت محقق، وهو بيد صاحبها! وقد عبر عن ذلك بعض المعاصرين بقوله: «فمن ألقى بنفسه في الهلاك   (1) ولذا ينبغي تعليق هذه (المسائل) على (المجامع الفقهية) ، بعد الاستماع إلى وجهة نظر أهل الاختصاص، والتصور الدقيق لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 لصالح دينه، أو لصالح المسلمين، فقد فدى دينه وإخوانه بنفسه، وذلك غاية التضحية وأعلاها، وكم للمسلمين الأوائل من مواقف مشهودة كلها تضحية وفداء، وبذلك تستطيع أن تجيز ما يعمله الفدائي المسلم في عصرنا هذا، من أعمال يذهب هو ضحيتها بعد أن يكون قد نكل بالعدو وقتل ودمر، وذلك مثل: إغراق سفينة بمن فيها من الأعداء وهو معهم، احتلال فندق لقتل من فيه من المقاتلين وهو يعلم أنه يُقتل معهم، وضع المتفجرات في معسكر، أو في مصنع حربي، أو في إدارة عسكرية للقضاء على من فيها، وهو يعلم أنه لا نجاة له، إلى آخر مثل هذه الأمور، ولكن لا يجوز أن يلتف بحزام ناسف لينسف نفسه ومن بجواره، والفرق أن الأصل في الحالة الأولى أنه يقتل عدوه، وجاء قتله تبعاً لذلك، ولذلك لو استطاع الهروب من القتل والنجاة بعد التفجير وجب عليه ذلك. أما الحالة الثانية فالأصل فيها قتل نفسه أولاً ليقتل غيره، وقد لا يقتل هذا الغير لسبب من الأسباب، وإقدامه على قتل نفسه ابتداءً لا يحل في مثل هذه الظروف» (1) . رابعاً: الذي أُراه راجحاً في هذه العمليات: الجواز مع شروط وقيود (2) ؛ إعمالاً للمعاني (3) ، وإلحاقاً للمسألة بأشباهها ونظائرها عند الفقهاء.   (1) «الجهاد والفدائية في الإسلام» (166-167) لحسن أيوب. (2) انظرها في النقطة العاشرة (ص 70-77) . (3) من سمات المحققين من الفقهاء: عدم التعدي على ألفاظ النصوص مع إعمال معانيها، فالجمود على اللفظ ظاهرية غير محمودة، والتوسع في العلل والمعاني إهدار للأدلّة، والمواءمة بين الأمرين هو المسلك الوسط، وهو الصواب والقسط، ولابن القيم في كتابه الفذ «إعلام الموقعين» نقدات ووقفات مع أخطاء الفريقين، تشد إليها الرحال، وتكتب بماء العيون لا الذهب، والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ولا بد من (الشروط) و (القيود) ؛ لأنّ المحافظة على النفس من المقاصد الشرعية الكبرى، فكيف يتعمد مسلم في إزهاق نفسه ليقتل عدوه؟ والمحافظة على بقاء المسلم مقدم على إزهاق روح الكافر، ولما كانت هذه العمليات خلاف هذا الأصل، احتجنا إلى قيود وشروط لتجويزها. وأما (المعاني) ، فقد وجدنا الفقهاء يجوزون قتل المسلمين إذا تترس بهم الكفار، حفظاً لبيضتهم، ومن المعلوم أن قتل الجماعة أشد وأعظم إثماً من قتل الواحد، وقتل الغير أعظم من قتل النفس، وقد جوّز الفقهاء ذلك بناءً على المصلحة المترتبة، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «وقد اتفق العلماء على أنّ جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من أسرى المسلمين، وخيف على المسلمين الضرر، إذا لم يُقاتلوا، فإنهم يُقاتلون، وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم» (1) . فإذا جاز لدرء الضرر قتلُ الجماعة من المسلمين، فقتل المجاهد نفسه جائز من باب أولى، وقد نوّه الحافظ ابن حجر في شرحه (باب: ما جاء في قاتل النفس) بذلك، وأورد البخاري تحته أحاديث قتل المسلم نفسه، فقال ابن حجر: «أراد -أي: البخاري- أن يُلْحِقَ بقاتل نفسه قاتلَ غيره من باب الأولى؛ لأنه إذا كان قاتلُ نفسه لم يتعدَّ ظلم نفسه ثبت فيه الوعيد الشديد، فأولى مَنْ ظَلَم غيرَه بإفاتة نفسه» (2) . فإذا كان الأعظم إثماً، وقتل الأكثر عدداً جائزاً في هذه الصورة لمعنىً   (1) «مجموع الفتاوى» (28/548) ، وأطلق عليهم في تتمة كلامه بأنهم -أي: المقتولين بأيدي المسلمين من المتترَّس بهم- شهداء، قال: «ولا يترك الجهاد الواجب لأجل من يقتل شهيداً، ومن قتل وهو في الباطن لا يستحق القتل لأجل مصلحة الإسلام، كان شهيداً» . (2) «فتح الباري» (3/227) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 - وهو: تفادي الضرر الشديد- فإنه من باب أولى يجوز الأخف وزراً، وقتل الأقل عدداً (1) ، إن تحققت العلّة والضرر نفسه أو ما هو أشد منه، والله الموفق. ويلحق بهذا المعنى ما ذكره العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- في «فتاويه» (2) ، قال: «الفرنساويون في هذه السنين تصلبوا في الحرب، ويستعملون «الشرنقات» (3) إذا استولوا على واحد من الجزائريين، ليعلمهم بالذخائر والمكامن، ومن يأسرونه قد يكون من الأكابر، فيخبرهم أن في المكان الفلاني كذا وكذا. وهذه الإبرة تسكره إسكاراً مقيداً، ثم هو مع هذا كلامه ما يختلط، فهو يختص بما يبينه بما كان حقيقة وصدقاً.   (1) مع مراعاة الفرق بين الأمرين، وهو في نظري غير جوهري ولا مؤثر في الحكم الشرعي، وهو: أن الكفار هم الذين عرضوا الترس البشري من المسلمين للخطر، بينما في هذه العمليات يكون القائم بها هو المعرض نفسه للهلاك، والعلة الجامعة في الصورتين (قتل مسلم لدرء ضرر لا يندفع إلا بذلك) ! وذهب جمع من العلماء والمفكرين والمطلعين إلى (جواز هذه العمليات) ، ومن الأعلام الذين يجوّزونها: الشيخ العلامة عبد الله بن حميد (قاضي قضاة مكة سابقاً) ، والدكتور الشيخ وهبة الزحيلي، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، نقله عنهما نواف هايل التكروري في «العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي» (ص 87-88) ، وأستاذنا الدكتور علي الصوا، والدكتور همام سعيد، وفتواهما في جريدة «السبيل» الأردنية (العدد 121) ، السنة الثالثة، آذار (1996م) ، والدكتور عجيل النشمي، وعبد الرزاق الشايجي، كما في مجلة «المجتمع» ، العدد الصادر في 19/3/1996م، وشيخ الأزهر سابقاً محمد السيد طنطاوي، كما في جريدة «السفير» ، العدد الصادر في 10/4/1997م. (2) (6/207-208 رقم 1479) . (3) هي ما تسمى في بلاد الشام بـ (الشرنجة) ؛ وهي: الحقنة التي يكون بها الدواء، وكان الفرنسيون على حقن هذه (الشرنقات) في أسرى المسلمين من المجاهدين لانتزاع الاعترافات منهم، بأسلوبٍ مؤذٍ خبيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 جاءنا جزائريون ينتسبون إلى الإسلام يقولون: هل يجوز للإنسان أن ينتحر مخافة أن يضربوه بالشرنقة، ويقول: أموت أنا وأنا شهيد -مع أنهم يعذبونهم بأنواع العذاب-؟ فقلنا لهم: إذا كان كما تذكرون فيجوز، ومن دليله: «آمَنَّا بِرَبِّ الغُلام» ، وقول بعض أهل العلم: إن السفينة ... إلخ. إلا أن فيه التوقف من جهة قتل الإنسان نفسه، ومفسدة ذلك أعظم من مفسدة هذا، فالقاعدة محكمة، وهو مقتول ولا بد» (1) انتهى. قلت: قوله: «وقول بعض أهل العلم: إن السفينة ... » ؛ يريد: مثالاً مشهوراً في كتب الفقه، يؤكّد ما نحن بصدده من إعمال (المعاني) ، وهذه نصوص من كتب العلماء توضح المومئ إليه: جاء في «المدونة» (2) للإمام مالك: «- (أي: سحنون يسأل ابنَ القاسم، تلميذَ الإمام مالك) - أرأيتَ السفينةَ إذا أحرقها العدوُّ وفيها أهلُ الإسلام، أكان «مالكٌ» يَكرَهُ لهم أن يطرحوا بأنفسهم؟ وهل يراهم قد أعانوا على أنفسهم؟ قال: بلغني أنَّ «مالكاً» سُئل عنه، فقال: لا أرى به بأساً، إنَّما يفرّون من الموت إلى الموت! قال ابنُ وَهْب: قال ربيعةُ: أيُّما رَجُلٍ يَفِرُّ من النار إلى أمر يعرِف أنَّ فيه قَتْلَه، فلا ينبغي له، إذا كان إنما يفرُّ من موت إلى موت أيسرَ منه، فقد جاء ما لا يَحِلُّ له، وإنْ كان إنما تحاملَ في ذلك رجاءَ النجاة ... فكلُّ   (1) انظر في مسألة (قتل المسلم نفسه إذا تيقّن من الوقوع في أسر العدو) أو من (أجل التخلُّص من التعذيب) : «الجهاد والفدائية في الإسلام» (ص 167) لحسن أيوب، «الجهاد والقتال» لمحمد خير هيكل (2/1403) ، «الموسوعة الطبية الفقهية» (105) لأحمد كنعان. قال أبو عبيدة: الراجح بقوّة حرمة قتل الإنسان نفسه إذا وقع أسيراً، أو خشي من تعذيب العدو له، والله الموفق لا ربّ سواه. (2) (2/25) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 مُتحامل لأمر يرجو النجاة فيه فلا جُنَاحَ عليه، وإنْ عَطَبَ فيه. قال: وبلغني عن ربيعةَ أنه قال: إنْ صبر فهو أكرمُ -إن شاء الله-» . وقال ابن جزي: «وقد اختُلف في المركب يُلقى عليه النارُ، هل يُلقي الرجلُ نفسَه ليغرق أم لا؟ وأمَّا إنْ قوتل فلا يُغرق نفسَه، بل يقف للقتال حتى يموت» (1) . وقال الدردير: «وجاز انتقالٌ من سبب موت لآخر؛ كحرقهم سفينة إن استمرَّ فيها هلك، وإن طَرَحَ نفسَه في البحر هلك، ووجب الانتقالُ إن رجا به حياةً، أو طولَها، ولو حصل له معها ما هو أشدُّ من الموت! لأنَّ حفظ النفوس واجبٌ ما أمكن!» (2) . وعَلَّقَ الدُّسُوقي على ما سبق، فقال: «فَرضُ المسألة استواءُ الأمرين؛ أي: يعلمُ أنه إنْ مكث (أي: في السفينة المحترقة) مات حالاً، وإنْ رمى نفسَه في البحر مات حالاً، وأمَّا إنْ علم أنه إنْ نزل البحر مكث حياً، ولو درجةً، أو ظنَّ ذلك، أو شَكَّ فيه! وإنْ مكث (أي: في السفينة المحترقة) مات حالاً: وجب عليه النزولُ في البحر!» (3) . وقال ابن قدامة المقدسي الحنبلي: «وإذا ألقى الكفارُ ناراً في سفينة فيها مسلمون، فاشتعلت فيها، فما غلب على ظنهم السلامةُ فيه من بقائهم في   (1) «قوانين الأحكام الشرعية» (ص 165) . (2) «الشرح الكبير» (2/183-184) ، وقال محمد عليش في «منح الجليل» (3/ 165) : «وجاز لمن يتيقّن الموت، وتعارضت عليه أسبابه انتقال من سبب موت؛ كحرق مركب هو بها، لسبب آخر؛ كطرح نفسه في بحر مع عدم معرفة عَوْمٍ، ووجب الانتقال إن رجا به -ولو شكاً- حياة مستمرة، أو طولها، ولو يحصل له ما هو أشد من الموت المعجَّل؛ لأنَّ حفظ النفس واجب ما أمكن» . (3) «حاشية الدسوقي» (2/184) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 مركبهم، أو إلقاء نفوسهم في الماء، فالأولى لهم فِعلُه، وإن استوى عندهم الأمران، فقال أحمد: كيف شاء يصنع. قال الأوزاعي: هما مَوْتتان، فاختر أيسرَهما! وقال أبو الخَطَّاب: فيه روايةٌ أخرى أنهم يلزمهم المُقام؛ لأنهم إذا رَمَوْا نفوسَهم في الماء كان موتُهم بِفِعلهم، وإن أقاموا فموتهم بفعل غيرهم» (1) . ومما يؤكد إعمال (المعاني) في هذا الباب، ما ذكره العز بن عبد السلام في اختلاف الإثم في قتل النفوس، قال بعد كلام: «وليس مَن قتل فاسقاً ظالماً من فُسَّاق المسلمين بمثابة مَن قتل إماماً عدلاً أو حاكماً مقسطاً أو والياً منصفاً؛ لما فوَّته على المسلمين من العدل والإقساط والإنصاف، وعلى هذا حَمَل بعضُهم قوله -تعالى-: {مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] . لَمّا عمت المفسدةُ في قتل أحد هؤلاء، جُعِلَ إثمُها كإثم مَنْ قتل الناسَ جميعاً؛ لِمَا فَوَّتَهُ على الناس من مصالح بقائه، ولَمَّا عمَّت المصلحةُ في إنقاذ ولاة العدل والإقساط والإنصاف من المهالك، جُعِل أجرُ مُنْقِذِها، كأجر من أنقذ الناس من أسباب الهلاك جميعاً؛ لعموم ما سعى فيه من المصالح» . وكذلك قوله: «وليس قطعُ العالم أو الحاكم أو المفتي أو الإمام الأعظم لسان نفسه، كقطع من لا يُنتَفَعُ بلسانه لسانَ نفسِه» . قال: «والمدارُ في هذا كله على رُتَب تفويت المصالح وتحقيق المفاسد، فكل عضوٍ كانت منفعتُه أَتَمَّ، كانت الجنايةُ عليه أعظمَ وزراً، فليست الجنايةُ على العقل واللسان كالجناية على الخناصر والآذان» . قال: «من قتل إماماً عَدْلاً، أو حاكماً مُقسِطاً، أو مفتياً مُبرِّزاً، كان عليه   (1) «المغني» (10/554-555) ، وانظره مع «الشرح الكبير» (10/389) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 إثم القتل، وإثم ما فوَّت على المسلمين مما كانوا يقومون به من جَلْب المصالح ودَرْء المفاسد» . قال: «وكذلك من قتل أباه، أَثِمَ إثْمَ القتل وإثْمَ العقوق؛ لتحقيقه المفسدتين بفعل واحد» (1) . * نماذج من فتاوى علماء العصر الربانيين ثامناً: هذه نماذج من فتاوى علماء العصر، يظهر من خلالها أن المنع لما يترتب على هذه الفتاوى من أضرار، فأطلق المانعون الحرمة لهذا الاعتبار، لا لحرمة العدو، إو إقراراً له على احتلاله واغتصابه، وقتله وبطشه! ويمكن أن نجعل هذه المحاذير بمثابة قيود للحل! فتضيق الهوة بين المختلفين، وتتقارب وجهات نظرهم، وينحصر (2) الخلاف بينهم! * فتوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى- للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- كلام في أكثر من مكان على هذه العمليات، المتأمل فيه يجد أن الشيخ يمنع العمليات القائمة في بلاد فلسطين وغيرها، تقديراً منه على أن الأضرار فيها غالبة على وجه ظاهر عنده، ومن أنعم النظر في كلامه يجد أن هذه العمليات -عنده- لها وجود بقيود في الشرع، فإدراجه ضمن المانعين لها بإطلاق ليس بصحيح (3) . قال في «شرح رياض الصالحين» (1/165-166) في شرح حديث قصة أصحاب الأخدود، محدِّداً الفوائد المستنبطة منه: «إن الإنسان يجوز أن يغرر بنفسه في مصلحة عامَّة للمسلمين، فإن هذا الغلام دلَّ الملك على أمر يقتله به   (1) «قواعد الأحكام» (1/180، 181-182 - ط. القلم) . (2) نعم؛ ينحصر، ولكن لا يتلاشى. (3) كما فعل الدكتور محمد طعمة القضاة في «المغامرة بالنفس في القتال» (ص 38) وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ويهلك به نفسه، وهو أن يأخذ سهماً من كنانته ... إلخ. قال شيخ الإسلام: «لأنَّ هذا جهاد في سبيل الله، آمَنَت أمَّة وهو لم يفتقد شيئاً؛ لأنَّه مات، وسيموت آجلاً أو عاجلاً» . فأمَّا ما يفعله بعض الناس من الانتحار، بحيث يحمل آلات متفجرة ويتقدّم بها إلى الكفار، ثم يفجرها إذا كان بينهم، فإن هذا من قتل النفس والعياذ بالله، ومن قتل نفسه فهو خالد مخلد في نار جهنم أبد الآبدين، كما جاء في الحديث عن النبي -عليه الصلاة والسلام- (1) . لأن هذا قتل نفسه لا في مصلحة الإسلام؛ لأنه إذا قتل نفسه وقتل عشرة أو مئة أو مئتين، لم ينتفع الإسلام بذلك، فلم يُسلم الناس، بخلاف قصة الغلام، وهذا ربما يتعنت العدو أكثر ويُوغر صدره هذا العمل، حتى يفتك بالمسلمين أشدّ فتك. كما يوجد من صنع اليهود مع أهل فلسطين، فإن أهل فلسطين إذا مات الواحد منهم بهذه المتفجرات، وقتل ستة أو سبعة، أخذوا من جراء ذلك ستين نفراً أو أكثر، فلم يحصل في ذلك نفع للمسلمين، ولا انتفاع للذين فُجرت المتفجرات في صفوفهم. ولهذا نرى أنَّ ما يفعله بعض الناس من هذا الانتحار، نرى أنه قتل للنفس بغير حق، وأنَّه مُوجب لدخول النار -والعياذ بالله-، وأن صاحبه ليس بشهيد، لكن إذا فعل الإنسان هذا متأولاً ظاناً أنه جائز، فإننا نرجو أن يَسلَم من الإثم، وأمَّا أن تكتب له الشهادة فلا؛ لأنه لم يسلك طريق الشهادة، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر» انتهى كلامه. إذاً؛ الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- يرى أن النتائج المترتبة على هذه   (1) يريد: ما أخرجه البخاري (5778) ، ومسلم (109) ضمن حديث فيه: «ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً فيها أبداً» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 العمليات، هي التي تقرر مشروعيتها من عدمها، وأن في تقدير الشيخ أن ما يقوم به أهل فلسطين ممنوع؛ لما يترتب عليه من آثار سيئة في حق سائر أفراد الشعب، وقد صرح بذلك في «اللقاء الشهري» (20) ، وهذا نص السؤال والجواب بالحرف: «السؤال: فضيلة الشيخ! علمت -حفظك الله- ما حصل في يوم الأربعاء من حادث قُتل فيه أكثر من عشرين يهودياً على يد أحد المجاهدين، وجرح فيه نحو خمسين، وقد قام هذا المجاهد فلفّ على نفسه المتفجرات، ودخل في إحدى حافلاتهم ففجَّرها، وهو إنما فعل ذلك: أولاً: لأنه يعلم أنه إن لم يقتل اليوم قُتل غداً؛ لأنّ اليهود يقتلون الشباب المسلم هناك بصورة منتظمة. ثانياً: إن هؤلاء المجاهدين يفعلون ذلك انتقاماً من اليهود الذين قتلوا المصلين في المسجد الإبراهيمي (1) . ثالثاً: إنهم يعلمون أن اليهود يخططون هم والنصارى للقضاء على روح الجهاد الموجودة في فلسطين. والسؤال هو: هل هذا الفعل منه يعتبر انتحاراً أو يعتبر جهاداً؟ وما نصيحتك في مثل هذه الحال، لأننا إذا علمنا أن هذا أمر محرّم لعلنا نبلغه إلى إخواننا هناك، وفقك الله؟ الجواب: هذا الشاب الذي وضع على نفسه اللباس الذي يقتل، أول من يقتل نفسه، فلا شك أنه هو الذي تسبب في قتل نفسه، ولا يجوز مثل هذه الحال إلا إذا كان في ذلك مصلحة كبيرة للإسلام، فلو كانت هناك مصلحة   (1) قام يهوديٌّ حاقد، اسمه (جولدشتاين) بقتل أكثر من خمسة وثلاثين مصلياً في المسجد الإبراهيمي بالخليل، أثناء أدائهم لصلاة الفجر من يوم الجمعة 15/رمضان/ 1414هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 كبيرة ونفع عظيم للإسلام، كان ذلك جائزاً. وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على ذلك، وضرب لهذا مثلاً بقصة الغلام، الغلام المؤمن الذي كان في أمة يحكمها رجل مشرك كافر، فأراد هذا الحاكم المشرك الكافر أن يقتل هذا الغلام المؤمن، فحاول عدة مرات، مرة ألقاه من أعلى جبل، ومرة ألقاه في البحر، ولكنه كلما حاول ذلك نجى الله ذلك الغلام، فتعجب هذا الملك الحاكم، فقال له الغلام يوماً من الأيام: أتريد أن تقتلني؟ قال: نعم، وما فعلت هذا إلا لقتلك، قال: اجمع الناس في صعيد واحد، ثم خذ سهماً من كنانتي، واجعله في القوس، ثم ارمني به، قل: بسم الله ربّ الغلام. وكانوا إذا أرادوا أن يسموا، قالوا: باسم الملك، لكن قال له: قل: بسم الله رب هذا الغلام. فجمع الناس في صعيد واحد، ثم أخذ سهماً من كنانته، ووضعه في القوس، وقال: بسم رب هذا الغلام، وأطلق القوس، فضربه، فهلك، فصاح الناس كلهم: الرب ربّ الغلام، والربّ ربّ الغلام، وأنكروا ربوبية هذا الحاكم المشرك؛ لأنهم قالوا هذا الرجل الحاكم فعل كل ما يمكن أن يهلك به هذا الغلام، ولم يستطع إهلاكه، ولما جاءت كلمة واحدة: بسم الله رب هذا الغلام، هلك، إذاً مدبر الكون؛ هو: الله، فآمن الناس. يقول شيخ الإسلام: هذا حصل فيه نفع كبير للإسلام. وإن من المعلوم، أن الذي تسبب في قتل نفسه هو هذا الغلام لا شك، لكنه حصل بهلاك نفسه نفع كبير؛ آمنت أمة كاملة، فإذا حصل مثل هذا النفع، فللإنسان أن يفدي دينه بنفسه، أما مجرد قتل عشرة أو عشرين دون فائدة، ودون أن يتغير شيء ففيه نظر، بل هو حرام، فربما أخذ اليهود بثأر هؤلاء فقتلوا المئات، والحاصل أن مثل هذه الأمور تحتاج إلى فقه وتدبر، ونظر في العواقب، وترجيح أعلى المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين، ثم بعد ذلك تقدّر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 كل حالة بقدرها» (1) . وسئل الشيخ -رحمه الله تعالى- بما يلتقي مع الجوابين السابقين، وفيه زيادة في حكم من فعل ذلك مجتهداً وقد أخطأ في تقدير المصالح والمفاسد، وهذا نص السؤال والجواب: السؤال: ما الحكم الشرعي فيمن يضع المتفجرات في جسده، ويفجر نفسه بين جموع الكفار نكاية بهم؟ وهل يصح الاستدلال بقصة الغلام الذي أمر الملك بقتله؟ الجواب: «الذي يجعل المتفجرات في جسمه من أجل أن يضع نفسه في مجتمع من مجتمعات العدو، قاتل لنفسه، وسيعذب بما قتل به نفسه في نار جهنم خالداً فيها مخلداً، كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن قتل نفسه في شيء يعذب به في نار جهنم. وعجباً من هؤلاء الذين يقومون بمثل هذه العمليات، وهم يقرؤون قول الله -تعالى-: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} ، ثم فعلوا ذلك، هل يحصدون شيئاً؟ هل ينهزم العدو؟! أم يزداد العدو شدة على هؤلاء الذين يقومون بهذه التفجيرات، كما هو مشاهد الآن في دولة اليهود، حيث لم يزدادوا بمثل هذه الأفعال إلا تمسكاً بعنجهيتهم، بل إنا نجد أن الدولة اليهودية في الاستفتاء الأخير نجح فيها (اليمينيون) الذين يريدون القضاء على العرب. ولكن من فعل هذا مجتهداً ظاناً أنه قربة إلى الله -عز وجل- فنسأل الله -تعالى- ألا يؤاخذه؛ لأنه متأول جاهل ... وأما الاستدلال بقصة الغلام، فقصة الغلام حصل فيها دخول في الإسلام، لا نكاية في العدو، ولذلك لما جمع الملك الناس، وأخذ سهماً من كنانة   (1) جريدة «الفرقان» الكويتية، 28 صفر/العدد (145) (ص 20-21) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الغلام، وقال: باسم الله رب الغلام، صاح الناس كلهم، الرب رب الغلام، فحصل فيه إسلام أمة عظيمة، فلو حصل مثل هذه القصة لقلنا إن هناك مجالاً للاستدلال، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصها علينا لنعتبر بها، لكن هؤلاء الذين يرون تفجير أنفسهم إذا قتلوا عشرة أو مئة من العدو، فإن العدو لا يزداد إلا حنقاً عليهم وتسمكاً بما هم عليه» (1) . * فتوى الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى- لشيخنا محدث هذا العصر محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- كلام حول حكم هذه العمليات، مفاده ومؤداه لا يخرج عما سبق تقريره في فتوى الشيخ ابن عثيمين (2) ، وقد أخطأ عليه كثير من الشانئين، فأكلوا لحمه، وأقاموا عليه الدنيا وما أقعدوها، كشأنهم في حرب الخليج، ولما هدأت الأحوال، تبيَّن لهم أن صنيعهم رماد، وأنهم علقوا الناس بسراب، وأنهم متعجِّلون، وهيهات لهم -في وقت الأحداث الجسام- أن يمسكوا ألسنتهم، لأنه لا وجود لهم إلا بها، ووجودهم صياح وعويل، دون ثمرة أو تأصيل، وزمن (العواطف) ولَّى أو كاد، ولن يبقى الوجود -إن شاء الله تعالى- إلا للأصيل، الذي أحكم تصوراته وأفعاله وأقواله بالدليل، على قواعد أهل العلم والتبجيل، وهذا أول النصر، لا سيما لهذا الجيل. إن فتوى الشيخ -رحمه الله تعالى- تدور على الجواز بشروط، من أهمِّها: أن يقع تقدير المصالح المترتبة عليها من أمير للجيش، وإلا دبَّت الفوضى. وأن تقدير الشيخ -رحمه الله- في العمليات التي وقعت في (فلسطين) -أعادها الله إلى حضيرة الإسلام والمسلمين- لم تترتب عليها الآثار المتوخّاة في الشرع، ولهذا   (1) مجلة «الفرقان» الكويتية (العدد 79) (ص 18-19) ، وجريدة «الفرقان» الكويتية، 28 صفر/العدد (145) (ص 20) . (2) وفي كلامه -رحمه الله- زيادة شرط (بأمر قائد الجيش) ، كما سيأتي قريباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فهو يمنعها (1) ، مع قوله -فيما سمعتُ منه-: «إنَّ مآل أصحابها إلى الله -عز وجل-، أرجو الله أن يتقبَّلهم» (2) . وهذا نص كلامه -رحمه الله تعالى- في هذه العمليات: السائل: بعض الجماعات تقر الجهاد الفردي مستدلة بموقف الصحابي أبي بصير، وتقوم بما يسمى بعمليات استشهادية (وأقول: انتحارية) ، فما حكم هذه العمليات؟ فأجاب الشيخ بالسؤال: كم صار لهم ... ؟   (1) القول بأن الشيخ يمنع هذه العمليات من أصلها ليس صحيحاً، ومن أراد أن يحرر مذهب عالم أو باحث أو شيخ أو مفت، فعليه أن يرجع إلى كلام صاحبه دون واسطة، وأن يعمل على جمع ما ورد عنه، فإن تعذر؛ فالرجوع إلى العارفين به، ولا سيما أن للشيخ تلاميذ معروفين، وأما الاقتصار على كلام أو فتوى دون إحاطة، والتلويح به وتحميله ما لا يحتمل، وسياقه في معرض التنفير منه، ومن منهجه؛ فهذه من ألاعيب الحزبيين، وسرعان ما يظهر عواره، و (حبل الكذب قصير) ، وللكلام صلة تأتي في تعليقي على كلام الشيخ، والله المسدد.. (2) مآل القائمين بهذه العمليات إلى الله -عز وجل-، ولا يجوز لأحد -كائن من كان- إلا أن يعلق الأمر هكذا، وتقدم هذا في كلام الشيخ ابن عثيمين -أيضاً-، ويقول الشيخ صالح السدلان -حفظه الله- بعد تقريره المنع: «ثم نأتي على بعض الصور من الأعمال الانتحارية، التي يقوم بها بعض المسلمين بقصد إغاظة العدو، وإن كان فعله لا يقدم ولا يؤخر، ولكن مع كثرة هذا الفعل ربما يضعف العدو أو يخيفه، كما قد يحدث في الأعمال الانتحارية التي لم تحقق من الأهداف ولا خمسة في المئة من هدف المنتحرين، فهذا العمل الذي يقوم به بعض الأشخاص يختلف من شخص لآخر، فربما يكون هذا الذي= =يقوم بعمل فدائي انتحاري يكون قد أثّر عليه من قبل من يرى ذلك، فيدخل بنية أنه مقاتل ومجاهد ومدافع عن مبدأ أو شعار أو غير ذلك، فإن كان هذا المبدأ حقاً، وهذا المنتحر إنما اعتمد على من يقول بجواز ذلك فقد لا يسمى هذا قاتلاً لنفسه؛ لأنه معذور بسبب ما يقال ويسمع» . انظر جريدة «الفرقان» (العدد 145) (ص 21) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 السائل: أربع سنوات. فقال الشيخ ناصر: ربحوا أم خسروا؟ السائل: خسروا. فقال الشيخ ناصر: من ثمارهم يعرفون (1) . السائل: بالنسبة للعمليات العسكرية الحديثة، فيه قوات تسمى بالكوماندوز، فيكون فيه قوات للعدو تضايق المسلمين، فيضعون فرقة انتحارية تضع القنابل ويدخلون على دبابات العدو، ويكون هناك قتل ... فهل يعد هذا انتحاراً؟ الجواب: لا يعد هذا انتحاراً؛ لأنّ الانتحار؛ هو: أن يقتل المسلم نفسه خلاصاً من هذه الحياة التعيسة ... أما هذه الصورة التي أنت تسأل عنها، فهذا ليس انتحاراً، بل هذا جهاد في سبيل الله ... إلا أن هناك ملاحظة يجب الانتباه لها، وهي أن هذا العمل لا ينبغي أن يكون فردياً شخصياً، إنما هذا يكون بأمر قائد الجيش ... فإذا كان قائد الجيش يستغني عن هذا الفدائي، ويرى أن في خسارته ربح كبير من جهة أخرى، وهو إفناء عدد كبير من المشركين والكفار، فالرأي رأيه ويجب طاعته، حتى ولو لم يرض هذا الإنسان فعليه الطاعة ... الانتحار من أكبر المحرمات في الإسلام؛ لأنّ ما يفعله إلا غضبان على ربه ولم يرض بقضاء الله ... أما هذا فليس انتحاراً، كما كان يفعله الصحابة يهجم الرجل على جماعة (كردوس) من الكفار بسيفه، ويعمل فيهم بالسيف حتى يأتيه الموت، وهو صابر؛ لأنه يعلم أن مآله إلى الجنة ... فشتان بين من يقتل نفسه بهذه الطريقة الجهادية وبين من يتخلص من حياته بالانتحار، أو يركب رأسه ويجتهد بنفسه، فهذا يدخل في باب إلقاء النفس في التهلكة (2) . (ا. هـ)   (1) سلسلة «الهدى والنور» (شريط 527) . (2) سلسلة «الهدى والنور» (شريط 134) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 كما نعرض هنا لنص الفتوى التي أفتى بها الشيخ ناصر الدين الألباني، رداً على سؤال وجه إليه حول العمليات، فأجاب -رحمه الله-: «إن العمليات الانتحارية التي تقع اليوم تجوز ولا تجوز» ، وتفصيل هذا الكلام الذي يوهم التناقض ظاهر أنها تجوز في النظام الإسلامي، في الجهاد الإسلامي، الذي يقوم على أحكام الإسلام، ومن هذه الأحكام أن لا يتصرف الجندي برأيه الشخصي، وإنما يأتمر بأمر أميره؛ لأنّ النبي s كان يقول: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني» ، فإذا كان هناك -ونرجو أن يكون قريباً- جهاد إسلامي، على النظام الإسلامي وأميره لا يكون جاهلاً، وإنما يكون عالماً بالإسلام، خاصة الأحكام المتعلقة بالجهاد في سبيل الله، هذا القائد أو هذا الأمير المفروض أنه يعرف، وأخذ مخطط ساحة المعركة وتصورها في ذهنه تماماً، يعرف -مثلاً- إذا كانت هناك طائفة من الجيش لها نكاية في الجيش الإسلامي، ورأى أن يفادي بجزء من جنوده. ثم قال: وهذا مثال، وأنا لست عسكرياً، لكن الإنسان يستعمل عقله، فكلنا يعلم أن الجنود ليسوا في البسالة والشجاعة سواء، وليسوا في مرتبة واحدة في معرفة أصول القتال وأحكام القتال، فأنا أتصور أن هذا القائد سيأخذ رجلاً، من الذين يصلحون للطبخ والنفخ، من الذين لا يصلحون للقتال؛ لأنه لا يحسن القتال، ليس عنده شجاعة، ويقول له: تسلح بالقنابل أو اركب الطائرة، واذهب بها إلى الجماعة الموجودين في الأرض الفلانية ... هذا انتحار يجوز، أما أن يأتي واحد من الجنود كما يفعلون اليوم، أو من غير الجنود وينتحر في سبيل قتل اثنين أو ثلاثة أو أربعة من الكفار فهذا لا يجوز؛ لأنه تصرف شخصي ليس صادراً عن أمير الجيش، وهذا التفصيل هو معنى قولنا: يجوز ولا يجوز. وهذا كلام آخر للشيخ -رحمه الله- حول هذه العمليات، نختم به النقل عنه: السائل: ما حكم الذين يموتون في عمليات جهادية على الحدود مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 اليهود؟ الجواب: أولاً: إذا قصدوا الجهاد في سبيل الله -عز وجل- فهو بنياتهم؛ للحديث المعروف في «صحيح البخاري ومسلم» ، وهو من الأحاديث التي افتتح البخاري كتابه «الصحيح» به، وأخرجه الإمام مسلم في «صحيحه» في كتاب الجهاد؛ لبيان أن الجهاد لا يكون جهاداً في سبيل الله إلا إذا خلصت النية لله -تبارك وتعالى-، وقد كنا ذكرنا في جلسة سبقت، أنه يشترط في العمل الصالح الذي يرفعه الله -عز وجل- مقبولاً لديه شرطان اثنان: أن يكون على وجه السنة، وأن يكون خالصاً لله -عز وجل-. ولا شك أن الجهاد هو من الأعمال الصالحة التي فرضها الله -عز وجل-؛ تارة فرض عين، وتارة فرض كفاية، وأناط بالجهاد بقاء العز للأمة المسلمة، وعلى العكس من ذلك إذا أهملوا الجهاد في سبيل الله، كما جاء في الحديث الصحيح: «سلط الله عليهم ذلاً لا ينزعه -لا يرفعه عنهم- حتى يرجعوا إلى دينهم» . فلا داعي لإثبات أن الجهاد عبادة -وعبادة عظيمة جداً-، ولكن هذه العبادة لا تقبل عند الله -عز ووجل- إلا إذا خلصت لله وليس لحزبية، أو دفاع عن أرض، والأرض كلها لله، يملّكها من يشاء من عباده، ذلك الحديث الذي افتتح الإمام البخاري كتابه «الصحيح» -كلكم يسمعه-، ولكن من الظن العمل به، قال -عليه الصلاة والسلام-: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» . هذا الحديث صريح جداً؛ لأنّ الهجرة التي ذُكرت في هذا الحديث، والمقصود بها هو الجهاد في سبيل الله -عز وجل-، إنما يقبله ربنا -تبارك وتعالى- إذا كان بنية خالصة لله، لا يريد من وراء ذلك شيئاً من حطام الدنيا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 أو مما يتعلق بها، قال -عليه السلام-على سبيل المثال-: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» . ذكر المرأة والمال يصيبه الإنسان في الجهاد، لا يبتغي من وراء هذه إلا الله، فهو ونيته. قلت: ذكر ذلك على سبيل المثال، وإلا فالنية تُفسَد بكثير من الأمور، ليست امرأة ينكحها، أو دنيا يصيبها فحسب، فقد يكون يريد من جهاده ومن قتاله أن يقال: إنه مجاهد، لا يريد مالاً ولا يريد امرأة في السبي، وإنما يريد أن يقال: فلان مجاهد، فهذا هو ونيته؛ أي: ليس له جهاد. فالجواب إذن: إذا خلصت النية من المجاهد لله، لا شك أنه يثاب على ذلك لما يستحقه، ولكن هذا الجهاد الذي جاء السؤال عنه، ليس هو الجهاد الذي أمر الله به، فأنا أقول: هو ونيته؛ لأنه قصد الجهاد، لكن الجهاد يجب أن يُعد له عدته، كما قال الله -تعالى- في الآية المعروفة: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ، هذا هو الجهاد حين يعلن وتتخذ له العدة، هو الذي لا يجوز التخلف عنه، أما الجهاد بمعنى ثورة أفراد، يثورون ولو انتقاماً لأرضهم، فذلك ليس جهاداً، نعم؛ يكون الدفاع عن الأرض واجباً، أما هذه الهجمات التي في أكثر الأحيان تكون الخسارة المترتبة عليها أكثر من الربح -كما هو مشاهد- في كثير من أمثال هذه الهجمات، فليس هذا هو الجهاد الذي يوجب على المسلمين كافة أن ينفروا ... -كما جاء في القرآن-، إنما هو الجهاد الذي أشار الله -عز وجل- إليه في آية أخرى: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} ، ولذلك فعلى المسلمين -كما صرحنا بهذا في أكثر من مناسبة- أن يعودوا إلى أنفسهم، وأن يفهموا شريعة ربهم فهماً صحيحاً، وأن يعملوا فيما فهموا من شرع الله -عز وجل- ودينه عملاً صادقاً خالصاً، حتى يتكتلوا ويتجمَّعوا على كلمة سواء؛ حينئذ يفرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 المؤمنون بنصر الله -تبارك وتعالى-. (1) ا. هـ. تاسعاً: نخلص مما تقدم إلى ما يلي: أولاً: إن مشايخ الدعوة السلفية (الألباني، ابن عثيمين، وغيرهما) لا يمنعون العمليات لذاتها (2) ، وإنما يعلِّقون حكمها بما يترتَّب عليها، ومن نقل عنهم خلاف ذلك فهو مخطئ. ثانياً: إنهم يفرقون بين مفرداتها، وينظرون إلى ملابساتها وظروفها، واختلاف أزمنتها وأمكنتها بحسب الحالة التي تقع فيها هذه العمليات: هل هي حالة ضرورة لا غنى عن القيام بها، أم لا؟، ويفرقون -أيضاً- بين حكمها ومآل القائمين عليها عند الله -عز وجل-. ثالثاً: إن (أمر قائد الجيش) من شروط القيام بهذه العمليات، إذ هي من (جهاد الطلب) ، ولا يتصور ذلك إلا بأمير، أما (جهاد الدفع) فلا يحتاج إلى أمير ولا إلى إذنه، سمعتُه من شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- أكثر من مرة.   (1) من شريط «التحري في الفتوى» (رقم 2) . ومن كلام شيخنا -رحمه الله تعالى- في «ضغيف الترغيب والترهيب» (1/357) في التعليق على حديث رقم (719) -وفيه ذكر لـ (المسجد الأقصى) -، قال عنه: «هو أحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها، وقد احتلّه اليهود في جملة ما احتلوا من (فلسطين) ، أعادها الله إلى المسلمين، كما أعادها إليهم من بعد احتلال الصليبيين إياها، لكن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ، فعلى المسلمين أن يغيّروا ما في أنفسهم من العقائد المنحرفة، والأخلاق السيئة، إن أرادوا حقاً أن يغير الله ما نزل بهم» . (2) أفتى الأستاذ القرضاوي بحماس ولهجة شبابية، ولغة فيها اندفاع وحط على الرأي المخالف: بجواز هذه العمليات. انظر: مجلة «المجتمع» الكويتية، العدد (19/3/ 1996م) ، رقم (1201) (ص 50-51) ، ومجلة «فلسطين المسلمة» (العدد التاسع) أيلول/ 1996م. بينما (تقديراً لما يترتب عليها من أضرار) منع ما حصل أخيراً في الولايات المتحدة الأمريكية، فتأمل ولا تكن من الغافلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 رابعاً: تقدير المشايخ في هذه العمليات التي جرت على أرض فلسطين، أن النتائج السلبية المترتبة عليها أكثر من مصالحها، فهم يمنعونها لهذا الملحظ، ومناقشتهم ينبغي أن تحصر في هذا المطلب، وأن يكون بالحجج والبراهين، مع معرفة قدر هؤلاء الربانيين، دون تبجح واتّهام، وإلا -والله- (على نفسها تجني براقش) ! وأما تقدير المجوزين (1) للمصالح فيها، وتغليبها على المفاسد، فهو (حقٌّ) من وجهة نظرهم، ولكن ... ينقصه (العدل) ، ولله سنن لا تحابي أحداً، والسعيد والموفّق من انشغل بواجب الوقت، وأحسن فيما يستطيع من القيام به من واجبات، وتوسَّع فيها، وتوصل من خلال هذا التوسع إلى الذي كان لا يستطيعه، وأما ترك ما نستطيع، بحجة إيجاد ما لا نستطيع، فهذا يضيِّع الأمرين، ويهمل الواجبين، وهو من صنيع المخذولين المحرومين. والحق -الذي أُراه- في هذه الجزئية -وهو عقدة المسألة في نظري-: تقرير وتقدير الخبراء في العلوم العسكرية المتخصصين في هذا الباب، وقد سبق أن أومأنا إلى رأيهم (2) .   (1) قياسهم ما يجري على أرض فلسطين بالعمليات التي حصلت في لبنان، وأدّت إلى هزيمة القوات الفرنسية والأمريكية، وبما حصل في السودان، وأدّت إلى هزيمة الجيش الأوغندي -في نظري- قياس غير صحيح، ولو سنح في البال، وقام في الخيال أن (اليهود) سيتركون (فلسطين) على إثر تصعيد هذه العمليات -ولو على مجرد الاحتمال- ما منعها أحد، ولأفتوا بمشروعيتها على استعجال! بلا (إمهال) . (2) راجع (ص 39) ، مع مراعاة أن يكون هؤلاء أهل ديانة، وأما إناطة الحكم الشرعي بتقدير المجاهدين أنفسهم، فيعوزه دقة، ولا سيما إنْ حُصِر المبحث في أهل فلسطين، فهذا التعليق أولى وأحرى من تعليقه بهم، لحماستهم وعدم وجود العلماء المتبحرين -كما هو معلوم- بينهم، والناظر في كلام شيخنا الألباني (مع إعمال المعاني) في اشتراط (إذن الأمير) ، يتقوى عنده هذا الملحظ، والله الواقي والهادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وأما على فرض أن هذه العمليات: «توفر على المسلمين جهداً كبيراً، وتدفع عنهم ذلاً لا يعلمه إلا الله، وذلك حينما يضحي البعض بنفسه من أجل الكل، بل إن الكفار يستعملونها -كما حصل مع اليابانيين في معاركهم مع العالم الغربي في خليج الخنازير-، وهذه العمليات الاستشهادية تحطم معنويات قوات العدو، وتلقي فيها الرعب من المجاهدين، فتحيا النفوس المسلمة، وتثير فيها العزة بقوة الإسلام» (1) ، فلا مجال للقول بمنعها، ولكن هل العمليات التي جرت على أرض فلسطين السليبة الحبيبة هكذا؟ وهل الجيوش مرابطة حواليها، لترتفع معنويات وتلقي الرعب في قلوب الأعداء؟! أم أننا نحس ونشعر أن الأضرار المترتبة عليها أكثر بألف مرة من النتائج التي تشفي صدور المؤمنين، من قتلٍ جزئيٍّ لبعض أفراد اليهود؟ فالمانعون لهذه العمليات، إنما صرحوا بذلك تخوّفاً على المسلمين من إلحاق الأذية بهم، على وجه أبشع وأشنع، ليس إلا، فإن أخطأوا في هذا التقدير، فهم مأجورون على اجتهادهم هذا، أما عدُّهم في صف الأعداء، والتندُّر بهم، والتنقُّص منهم، والهجوم وتجريء العوام والسفهاء عليهم، فلا يقع هذا إلا ممن خَفَّ دينُه، وطاش عقله، وزال يقينه، أو ممن يعمل على   (1) من كلام للأستاذ يوسف القرضاوي في مجلة «المجتمع» الكويتية (العدد 1201) ، سنة 1996م، وردده (أو بمعناه) معه غير واحد ممن ألف في المسألة؛ مثل: نواف التكروري في «العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي» (39-42) ، ومحمد طعمة القضاة في «المغامرة بالنفس في القتال وحكمها في الإسلام» (25-26) ، وإبراهيم العلي في مقالة له منشورة في مجلة «فلسطين المسلمة» (عدد 11) (ص 52) ، سنة 1995م. والعجب -أخيراً- من الأستاذ القرضاوي عند حصره مشروعية هذه العمليات في داخل فلسطين! وأدلته التي اعتمد عليها واقعة خارجها! فالخير في التأصيل والتركيز على الضوابط والقيود، التي من خلالها -فقط- يظهر المشروع من الممنوع، وأن نربط (الشباب) المتحمسين بـ (العلماء الكبار) الربانيين، وأن يعملوا من ورائهم، ويتقيدوا بتقريراتهم، والسعيد من عرف قدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الانتصار لاسمه وحزبه، وعقد سلطان الولاء والبراء عليه، ولو على حساب دينه، والوقوع في أعراض العلماء، والكذب عليهم! فلا يبالي بما خرج من رأسه، وسطر قلمه! عاشراً: لا تجوز هذه العمليات إلا بقيود؛ منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، وهي على النحو التالي: أولاً: أن يقصد بها النكاية في الكفار بما لا يُمكن إلا بقتل نفسه، وأن تكون نيته الجهاد لإعلاء كلمة الله -تعالى-. فإن وجد سبيلاً وطريقاً آخر للنكاية بهم، فلا تجوز هذه العمليات مع قتل النفس بيد صاحبها! وكذلك إذا لم يترتب عليها نكاية في العدو، كما سبق نقله عن بعض الفقهاء (1) ، وهذان نقلان عن عالمين محررين مدققين، يوضحان ضرورة هذا الشرط: الأول: قال العز بن عبد السلام: «التولي يوم الزحف مفسدة كبيرة، لكنه واجب إن علم أنَّه يُقتل في غير نكاية في الكفار، لأنّ التغرير في النفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية في المشركين، فإذا لم تحصل النكاية، وجب الانهزام لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار، وإرغام أهل الإسلام، وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة» (2) . والآخر: قال الشاطبي: « ... فإن كانت المفسدة اللاحقة له دنيوية لا يمكن أن يقوم بها غيره، فهي مسألة الترس وما أشبهها، فيجري فيه خلاف كما مر، ولكن قاعدة (منع التكليف بما لا يطاق) شاهدة بأنه لا يكلف بمثل هذا، وقاعدة (تقديم المصلحة العامة على الخاصة) شاهدة بالتكليف به، فيتواردان على هذا المكلف من جهتين، ولا تناقض فيه، فلأجل ذلك احتمل الموضع   (1) انظر ما مضى (ص 41-46) ، ولا سيما كلام ابن المناصف وتقسيماته. (2) «قواعد الأحكام» (1/111) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الخلاف، وإن فرض في هذا النوع إسقاط الحظوظ فقد يترجح جانب المصلحة العامة، ويدل عليه أمران: أحدهما: قاعدة الإيثار المتقدم ذكرها، فمثل هذا داخل تحت حكمها. والثاني: ما جاء في نصوص الإيثار في قصة أبي طلحة في تتريسه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وقوله: «نحري دون نحرك» ، ووقايته له حتى شلت يده، ولم ينكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) ، وإيثار النبي - صلى الله عليه وسلم - غيره على نفسه في مبادرته للقاء العدو دون الناس؛ حتى يكون متّقىً به (2) فهو إيثار راجع إلى تحمل أعظم المشقات عن الغير، ووجه عموم المصلحة هنا في مبادرته - صلى الله عليه وسلم - بنفسه ظاهر؛ لأنه كان كالجُنَّة للمسلمين. وفي قصة أبي طلحة أنه كان وقى نفسه مَنْ يعمُّ بقاؤه مصالح الدين وأهله، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما عدمه؛ فتعمّ مفسدته الدين وأهله، وإلى هذا النحو مال أبو الحسين النوري حين تقدّم إلى السياف، وقال: «أوثر أصحابي نجاة ساعة» (3) في القصة المشهورة» (4) .   (1) الذي شلّت يده هو طلحة بن عبيد الله، وليس أبو طلحة كما قال المصنف، أخرج البخاري (3724) بسنده إلى قيس بن أبي حازم، قال: «رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شُلَّت» . وانظر لتمام التخريج: «المجالسة» (483) و «الموافقات» (2/174) وتعليقي عليهما. (2) أخرج مسلم (1776 بعد 79) عن البراء، قال: «كنا -والله- إذا احمرَّ البأسُ نتَّقي به، وإنَّ الشجاع منا للذي يحاذي به؛ يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم -» . وانظر تعليقي على «الموافقات» (3/69) . (3) القصة بطولها في «رسالة القشيري» (باب الجود والسخاء) (ص 112) ، «الحلية» (10/250) ، «تاريخ بغداد» (5/134) ، «المستجاد» للتنوخي (رقم 25 - بتحقيقي) ، «السير» (14/171) ، «ثمرات الأوراق» (ص 202) ، «اللمع» للطوسي (492) ، «طبقات الأولياء» (65) ، «أنباء نجباء الأبناء» (208-209) ، «كشف المحجوب» (421) للهجويري. (4) «الموافقات» (3/92-93 - بتحقيقي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ثانياً: أن تكون هذه العمليات مخططاً لها، مدروسة بإحكام من قبل القائمين عليها، غالباً على ظن القائمين بها أنَّ مصالحها مقدّمة على مفاسدها، وأن تكون المصلحة مضبوطة بقواعد العلماء وفتاويهم، مع عرض ذلك على الخبراء الحاذقين العارفين، ولا بد هنا من التنبه لأمور: الأول: أن بعض هذه العمليات، يمكن أن تورط أصحابها بأعمال تفوق إمكاناتهم، وتعرض عناصرها لبلاء لا يطيقونه، وهذا له أثر على الحكم الشرعي لها. الثاني: أن هذه العمليات موجعة مقلقة للأعداء، إلا أنها متقطّعة، ولذا لا تأتي بثمارها عند العسكريين في غالب صورها إلا مع وجود جيش مقابل جيش ليجني ثمارها، إذ هي بنفسها غير شاملة ولا مستمرة ولا مدمّرة، ولا أستطيع إبداء رأي موضوعي حول (الأضرار) و (المفاسد) من جهة، و (المصالح) و (المكاسب) من جهة أخرى؛ ذلك أنَّ رأياً من هذا النوع يتطلب دراسة عميقة شاملة، لا أظنه موجوداً -على الوجه الذي يرضي- حتى عند من يجيزها ويدافع عنها (مزاودة) -ليس إلا-، ليكسب أصوات الرأي العام في الانتخابات وما شابه، وليدغدغ عواطف الشباب، وليوظفها في ترسيخ الحزبيات، من خلال تعميق الشعور بتحقيق ذاته في هذا المضمار، فتجده يتكلم عليها ويدافع عنها، ويحرص على تبنِّيها بدوافع نفسية فحسب، وهذه الأمور الخطيرة لا تحتاج إلى هذه الدرجة من الفعالية، وعلى المتحمسين أن يعلموا أنهم والمفتون بمنعها من ناحية (عملية) سواء!! الثالث: نعم؛ هناك نواحٍ إيجابية مهمة لها (1) ، تؤخذ بعين الاعتبار؛ من   (1) أعني: العمليات التي وقعت في فلسطين، وقد وجدتُ في كتاب «الشهادة في سبيل الله» لأحمد أبو زيد (ص 11-13) بعض الآثار الإيجابية لهذه العمليات، قال: «لقد كان للعمليات الاستشهادية آثار عظيمة على العدو الصهيوني على المستوى الداخلي، = =وعلى المستوى الخارجي، نوجزها فيما يلي: 1- فرار (936000 تسع مئة وستة وثلاثون ألف) مستوطن -أي: ما يقارب المليون خلال أشهر الانتفاضة (!!) فقط إلى مواطنهم الأصلية في شتى أنحاء العالم، بالإضافة إلى حجز جوازات الآلاف من المستوطنين خشية الهرب، حيث كانت مدة إحضار هؤلاء المستوطنين إلى فلسطين عشرين سنة، وقد ذكرت القناة الثانية من التلفزيون العبري أن المستوطنين يعيشون حالة من الاستنفار والهلع، وقد قال أحد المستوطنين لشارون عندما زارهم في الملاجئ: إلى متى سنبقى مختبئين هنا كالكلاب؟! 2- لقد أسقطت العمليات الاستشهادية نظرية الأمن الصهيونية، فمعظم العمليات حدثت في مناطق تحميها قوات الأمن الصهيونية، وقد كشفت العمليات الاستشهادية عن هشاشة الكيان الصهيوني، فمن يصدق أن كياناً قام قبل 53 عام لا يشعر بالأمن لغاية الآن، ومن يصدق أن 20% من الشعب الصهيوني هرب خلال ثمانية أشهر من انتفاضة الأقصى! ماذا يعني ذلك؟ إن ذلك يعني: أنه لولا الدعم الأمريكي لهذا الكيان اللقيط بأسلحة التدمير الحديثة، لتهاوى هذا الكيان الخرب. 3- التمرد في جيش الصهاينة الذي حصل من قبل الجنود، جراء رفضهم للخدمة في منطقة المستوطنات القريبة من المناطق الفلسطينية، بسبب الخوف الشديد من الموت، فآلاف الجنود يقبعون في السجون بسبب التمرد على الأوامر، ويفضلون السجن على الخدمة في مناطق قريبة من الفلسطينيين. 4- توقف الهجرة الصهيونية من شتى أنحاء العالم إلى بيت المقدس، فلم يصل خلال أشهر الانتفاضة أي مهاجر، مع أن المستوطنات فارغة تنتظرهم للسكن فيها، وذلك بسبب الرعب الذي وصل إلى قلوبهم وهم على بعد آلاف الكيلومترات من فلسطين، مما استدعى حضور مدير المخابرات الأمريكية يحمل في جعبته أسماء المجاهدين لاعتقالهم وتصفيتهم. 5- إلحاق قتلى العدو من العمليات الاستشهادية بحوادث السير، حتى لا تنهار معنويات الجنود، وأكبر دليل على ذلك عملية الاستشهادي الرابع من شهداء كتائب عز الدين القسام التي قتل فيها 22 صهيوني، فما اعترف الصهاينة إلا بـ 3 قتلى، وألحقوا باقي القتلى بحوادث السير، ولكن رغم ذلك كله فقد تمرد الجنود الصهاينة على قادتهم، وامتلأت بهم السجون» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 أهمها: إرادة التصميم على القتل والاستشهاد، وإبقاء هذا الصوت حياً في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الأمة من غير إخماد، والأضرار المادية في الأرواح والأموال والعتاد، والعمل على الحدّ من الهجرة إلى هذه البلاد، وإجبار الموجودين على مغادرتها إلى غيرها قدر المكنة، وإسماع صوت الفلسطينيين المحتلين المظلومين إلى العالم. الرابع: لكن الموازنة بين آثار هذه العمليات، يختلف من حين إلى حين، ومن مكان إلى آخر، والواقع المحسوس، والأثر الملموس، هو أكبر شاهد عليه. الخامس: إذا لم تضبط هذه العمليات برأي أهل الخبرة، وبالأناة والدراسة الشاملة، فإنها -بلا شك- ستكون مؤذيةً جداً، وستؤدي إلى إيذاء الشعب، وإلحاق الضرر البالغ به. السادس: مما يزيد من تعقيد الموازنة بين (المصالح) و (المفاسد) المترتبة على هذه (العمليات) : أنها تقع بغتة، والقرار المترتب على إثرها بيد الأعداء، وبإمكانهم أن يفعلوا ما يريدون، ولهم أثر على كتمان هذه الآثار أو تضخيمها، أو تحجيمها، على حسب خدمة مصالحهم، والرأي العام -من خلال الإعلام وغيره- بأيديهم. يقول بعض الباحثين: «إنَّ لكل حرب حدوداً تتم بالموافقة الضمنية بين المتنازعين، لقد تكلمت عنها كل النظريات العسكرية، وقد عمل بهذا المبدأ خلال الحروب الأخيرة، حتى التي كانت أشدها عنفاً، أن سبب هذه الحدود واضح، فكل فريق إذا ما اتخذ هذا القرار وهذا التدبير، أو استعمل ذلك الأسلوب، يعرف أن العدو يمكنه بدوره استعمال طرق مماثلة، واتخاذ تدابير مضادة تبطل مفعول الأعمال قيد الدرس، أو حتى تسيء بمصالح الفريق الأول الذي يكون قد استعملها، ولذلك -مثلاً- في الحرب العالمية الأخيرة، لم يستعمل أحد الغازات السامة، في حين أنها كانت لدى جميع الجيوش، والمرة الأخيرة التي استعملت فيها هذه الغازات حدثت في حرب الحبشة من قبل الإيطاليين، والسبب الأكيد في ذلك هو أنهم كانوا يعلمون أن باستحالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الأحباش الخوض في مثل هذه الحرب، أو حتى اتخاذ أي تدبير معاكس، وكذلك خلال حرب كوريا لم يشن الأميركيون هجوماً على الصين بالرغم أن فرقاً صينية ذات أهمية دخلت الحرب إلى جانب الكوريين الشماليين، إن الأمثال في هذا المجال عديدة جداً، وفي بعض الأحيان عجيبة وغريبة، مثلاً أداء -والحرب دائرة- ثمن شهادات الاختراع من أحد المتخاصمين إلى الآخر (بصورة غير مباشرة) بغية استعمال اختراعات الطرف الثاني، إذا استعرضنا قائمة الروابط التي استمرت بكل سرية بين المتنازعين خلال الحربين العالميتين الأخيرتين نندهش لعددها ومداها، وبالأخص لا أظن خلال الحروب الأخيرة حاول المتنازعون إصابة خطوط العدة الجوية المدنية التي كانت مستمرة في العمل، ولم يحصل ذلك محبة بالعدو، بل بعد أخذ حسنات وسيئات هذه العمليات بعين الاعتبار، إنني أرى أن القواعد التي كانت تطبق وقت حرب بهذا القدر من الشدة والعنف، جديرة بأن تطبق -أيضاً- على النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، والنزاع الإسرائيلي - العربي» (1) . ويكشِف لك -هذا النقل- عن نظرية مقررة عند العسكريين؛ وهي: مدى خطورة وقساوة ردة الفعل المترتبة من العدو جراء هذه العمليات، وهذا يسوّغ ما ذكرناه من ضرورة الأناة وتقدير أهل الخبرة، والدراسة الشاملة لها قبل التورط فيها! السابع: لا أمير في العلم، ولا سلطان عليه، ولا أثر للعواطف في   (1) من مقالة لماكسيم رودنسون، منشورة في كتاب «العمليات الفدائية الفلسطينية خارج فلسطين» (ص 128) ، تحرير أنيس صايغ، مركز الأبحاث - منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، 1970م. (تنبيه) : سبق بيان خطإ استخدام (إسرائيل) و (إسرائيلي) على (اليهود) و (كيانهم) القائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أحكامه، فمتى تبرهن من خلال (التصوّرات) أو (المشاهدات) ، أنّ هذه الأضرار غالبة، فالقول بالمنع أقوى، وهو أحرى وأجدى وأولى، وهذا ما وقع في كلام مشايخنا السابق، وإلا فالنزاع معهم -كما قررنا- في تحقيق هذه الجزئية فحسب، والله الموعد. الثامن: في غياب البنيان العقدي الصحيح، والمنهجيِّ السليم، يغدو من المستحيل -من وجهة نظر شرعية- النصر، وهو من أهم وسائله بعد الإعداد، فالأصل أن يسبق هذا تلك العمليات، على وجه ملحوظ، ويكون له في المجتمع أثر ملموس. التاسع: مما ينبغي أن يُعلم -على ضوء ما سبق-: أن أنصاف الحلول هي أسوأ من انعدام الحلول في كثير من الأحايين، فالارتجال والفشل في إحكام هذه العمليات هو أسوأ بكثير -في نظري- من الامتناع عن القيام بها. العاشر: وأخيراً ... ليست جميع المعلومات متوافرة في متناول الباحثين، وهذه ملحوظات عابرة، ومما لا شك فيه أن هذه العمليات تجني بعض الفائدة المادية والمعنوية، وأما بالنسبة للحكم على أبعادها على مستوى الرأي العام، فإنه يخضع لاعتبارات الدعاية والإعلام، وأما على المستوى العسكري، فإنه لا يبدو لي أن المكاسب التي جنتها هذه العمليات حتى الآن بمقدار خسائرها الحقيقية، ومن المفارقات العجيبة أن تكون هذه العمليات ضحية السعي في سبيل الدعاية ليس إلا، ولا يجوز تغليب (الدعاية) على الثمار الحقيقية الموجهة صوب أهداف واضحة، فالركض وراء (الدعايات الفارغة) المصنوعة من (أعدائها) ، والمدائح الطنانة، الحاصلة من (منافقيها) ، ليست من المصلحة الحقيقية الشرعية، وإنما هي أصداء وأضواء كاذبة، وتعليقات فيها مبالغات جوفاء، ومظاهر خادعة، وأخطر ما فيها إشغال الشباب، وسرق أنظارهم عن الاتجاه الصحيح الواجب عليهم سلوكه، والنقد الصريح لما يشعرون به من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 أخطاء تحيط بهم، والواجب عليهم نقدُها وتغييرها، والعاقل يقيس الأمور بنتائجها. تلك بعض التفصيلات التي تخص (المصالح) و (المفاسد) التي تكتنف هذه العمليات على حسب محدودية معرفتي في هذا المجال، وعلى كل؛ فإن تفهم قناعات حملة الرأي الآخر بالتفصيل في هذا المحل (1) ، يقود إلى مزيد من الصواب ومزيد من النفع -إن شاء الله تعالى-. ثالثاً: الكلام على هذه العمليات من حيث الأضرار والمصالح، حاصل مع ما يحيط بالأُمة من شرور وويلات، وإلا فالجهاد في سبيل الله -عز وجل- هو السبيل الشرعي لإعادة المحتلّ من الديار، ولا يجوز أن تنشغل الأمة عما يوصل إليه، فهو باب لا يفتحه الله إلا إلى خاصة أوليائه، حتى يصطفي منهم، ويجتبي إليه من يشاء، فعلى الأمة أن تكون فيها (أئمة دين) ، ولا تنال هذه المرتبة إلا بـ (الصبر) و (اليقين) ، مصداقاً لقول رب العالمين: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعث مزكياً معلماً، وحددت له هاتان المهمتان قبل خلقه، بدعاء أبيه إبراهيم: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129] ، فامتنّ الله على هذه الأمة بهذه الاستجابة، ... بقوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ (2) مُّبِينٍ} ... [الجمعة: 2] ،   (1) أغفل هذا المحل جميع من خص هذه العمليات بالتأليف، وهو عقدة المسألة، كما نبهنا عليه أكثر من مرة، والله الموفق. (2) الضلال؛ هو: مزيجٌ من (الجهل) و (الظلم) ، ولما حُمّل الإنسان الأمانة، وصفه الله بـ {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} ، فلا يرفع (الظلم) إلا (التزكية) ، ولا (الجهل) إلا (العلم) ، وكان في دعاء إبراهيم -عليه السلام- السابق تقديم (العلم) على (يزكيهم) ، فاستجاب الله له بتقديم (يزكيهم) على (يعلمهم) ؛ ليوظِّف العلم الشرعي في مصلحة الأمة وأفرادها، الذين يقبلون عليه لا لـ (ذاته) ، وإنما لـ (ثماره) ، ولتعميق ما وجدوه في نفوسهم من صلاح وتزكية من خلاله.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ولا سبيل إلى حصول (التزكية) إلا بـ (التربية) ، ولا اليقين إلا بـ (التصفية (1)) ، وعند تحقق هذين الأمرين تسعد الأمة وتصعد، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4-5] ، ولا بد من هذا الشرط (2) ؛ حتى نبقى نسير في الاتجاه الصحيح الموصل إلى نصر الله -عز وجل-. رابعاً: أن لا يترتب على هذه العمليات محاذير شرعية، من قتل الأبرياء من المدنيين، نعم؛ دفع الكفار، وإيذاؤهم، وإلحاق الضرر بهم مشروع، ولكن ... لا يُقتل المدنيون، إلا إذا أعانوا على القتال بنفس أو رأي، أو لم يمكن التمييز حال اختلاطهم بالأعداء، على تفصيل تراه في كتب أهل العلم (3) . ونذكر هذا الشرط؛ لأننا بصدد التأصيل، والدراسة الشرعية لهذه العمليات باختلاف أزمنتها وأمكنتها وملابساتها.   (1) إذ أخْذُ العلم بما علق به من (دخل) و (دخن) من شأن أهل (الخرافة) ، ولا يعمل ذلك على نصرة الدين المنزل على قلب سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -. (2) إذ هو واجب الوقت، مع إحياء (الربانية) بين العاملين، وعَقْد سلطان الولاء والبراء، والحب والبغض على المعايير الشرعية، لا الحزبية، فالأعلم والأورع والأصلح هو الذي يُحَبّ ويقدّم ويوالى وينصر ويدافع عنه، لا لذاته وإنما لثماره، وإلا فما هو حال أمة تأكل رأسها، وتعظم ذيلها، وتهدر طاعة أولياء أمورها من العلماء؟! (3) انظر -على سبيل المثال-: «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/73) ، «المجموع» (19/296) ، «مغني المحتاج» (4/222) ، «اللباب في شرح الكتاب» (4/119) ، «بدائع الصنائع» (7/101) ، «حاشية ابن عابدين» (4/307) ، «بداية المجتهد» (1/280-281) ، «منح الجليل» (3/144) ، «المغني» (9/302) ، «مجموع فتاوى ابن تيمية» (28/354-355) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 خامساً: لا بد من (مراعاة الخلاف) (1) في بعض الصور، وبعض الملابسات، ويقضي هذا: الفصل (2) بين (حكمها الشرعي) ومآل (القائمين) عليها، إذ مدار التقدير على الاجتهاد. سادساً: جميع ما سبق، هو محاولة تأصيل لهذه (العمليات) على وفق قواعد الشرع ومقاصده، على ضوء ما قرره أهل العلم، والكلام هذا في (نازلة) جديدة لم تكن معروفة قديماً بجميع حيثياتها وتفصيلاتها، وأما تنزيل الأحكام على واقعة معينة، وإعمال تطبيقاتها وتحقيق المناط فيها، فإنه من عمل العلماء المعتبرين، وأهل الفتوى الراسخين، يخرجون كل واقعة بعينها على قواعدها، مراعين نتائجها وثمارها، بعد إحكام تصورها، ومعرفة واقعها، وبالاستعانة بتقرير أهل الخبرة والمعرفة من المجاهدين من حيث أضرارها ومفاسدها، والله المستعان، لا ربّ سواه. * من كلمات العلماء السلفيين في قضية فلسطين هذه كلمات مبثوثة في بطون الكتب والمجلات، جمعتُها من هنا وهناك، يلمس فيها قارؤها حقائق مريرة، وتومئ إلى قضايا خطيرة، وأفكار رئيسة، وهي بمثابة (الدبابيس) تارة، و (أحكام فقهية) تارة أخرى، وفي بعضها (ما يجب علينا) تجاهها، وفي بعضها الآخر (كلمات) في مؤتمرات، وفيها -أيضاً- (قواعد) لا تتغيّر بتغيّر الأحداث والزمان، عملت على جمعها ونشرها على حد الحكمة القائلة: (من كتم داءه قتله) ، وعلى الرغم من ذلك، فسنعمل على سردها دون شرح -ولو كان في بعضها جرح- وهي جميعاً لأئمة من العلماء السلفيين العاملين المتأخّرين، والله الموفّق للصالحات، والهادي إلى الخيرات.   (1) انظر في ضرورة معرفة ذلك: «الموافقات» (5/106) وتعليقي عليه. (2) انظر ما قدمناه (ص 37-38، 39-40، 60، 62، 67) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 * قال محمد البشير الإبراهيمي -رحمه الله-: «إن فلسطين وديعة محمد - صلى الله عليه وسلم - عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منا ونحن عصبة إنّا إذاً لخاسرون» (1) . * وقال -أيضاً-: «أيها العرب! إن قضية فلسطين محنة، امتحن الله بها ضمائركم وهممكم وأموالكم ووحدتكم، وليست فلسطين لعرب فلسطين وحدهم، وإنما هي للعرب كلهم، وليست حقوق العرب فيها تنال بأنها حق في نفسها، وليست تنال بالهوينا والضعف، وليست تنال بالشعريات والخطابيّات، وإنما تنال بالتصميم والحزم والاتحاد والقوة. إن الصهيونية وأنصارَها مصممون، فقابلوا التصميم بتصميم أقوى منه، وقابلوا الاتحاد باتحاد أمتن به. وكونوا حائطاً لا صدع فيه ... وصفّاً لا يُرقَّعُ بالكسالى» (2) * وقال -أيضاً-: «يا بخس فلسطين! ... أيبيعها من لا يملكها، ويشتريها مَن لا يستحقها ... ؟ يا هوان فلسطين! ... يقولون: إن فلسطين منسك للأديان السماوية الثلاثة، وإنها قبلة لأهل تلك الأديان جميعاً، فإن كان ما يقولون حقاً -وهو حق في ذاته- فإن أحق الناس بالائتمان عليها العرب؛ لأنهم مسلمون، والإسلام يوجب احترام الكتب والكتابيين، ويوجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، ويضمن إقامة الشعائر لليهود والمسيحيين، لا اليهود الذين كذّبوا الأنبياء وقتلوهم، وصلبوا -بزعمهم- المسيح الصادق، وشرّدوا حواريِّيه من   (1) «البصائر» ، العدد 22، سنة 1948م. (2) «البصائر» ، العدد 5، سنة 1947م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فلسطين، وكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بعد ما جاءهم بالبينات» (1) . * وقال -أيضاً- «ووالله -يميناً برَّة- لو أن القوى -روحيَّها وماديَّها- انطلقتْ من عُقُلها وتظافرت، وتوافتْ على فلسطين وتوافرت، لدفنت صهيون ومطامعه وأحلامَه إلى الأبد، ولأزعجتْ أنصارَه المصوتين إزعاجاً يطيّر صوابَهم، ويُحبط ثوابهم، ويطيل حماتهم، ويكبت أصواتهم، ولأحدثت في (العالم الغربي) تفسيراً جديداً لكلمة (عربي) » (2) . * وقال -أيضاً-: «هل من الصحيح أن التفجيع والتوجّعَ والتظلّم والتألّم والأقوال تتعالى، والاحتجاجات تتوالى، هي كل ما لفلسطين علينا من حقّ؟ وهل من المعقول أن التفجّع وما عطف عليه -مجتمعات في زَمن، مقترِنات في قرن- تنفع حيفاً، أو تفلّ لظلم سيفاً، أو ترُدّ عادية عاد، أو تسفّه حلم صهيون في أرض الميعاد؟! لا ... والذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى» (3) . * وقال -أيضاً-: «إن الواجب على العرب لفلسطين يتألّف من جزأين: المال والرجال، وإن حظوظهم من هذا الواجب متفاوتة بتفاوتهم في القرب والبعد، ودرجات الإمكان وحدود الاستطاعة ووجود المقتضيات وانتفاء الموانع، وإن الذي يستطيعه الشرق العربي هو الواجب كاملاً بجزأيْه؛ لقرب الصريخ، وتيسُّر الإمداد، فبين فلسطين ومصر غلوة رام، وبينها وبين أجزاء الجزيرة خطوط وهمية خطَّتها يدُ الاستعمار، وإذا لم تمحُها الجامعة فليس للجامعة معنى؟ وإذا   (1) «البصائر» ، العدد 22، سنة 1948م. (2) «البصائر» ، العدد 25، سنة 1948م. (3) «البصائر» ، العدد 25، سنة 1948م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 لم تهتبلْ لمحوها هنا اليوم فيوشك أن لا يجود الزمان عليها بيوم مثله» (1) . الواجب الشرعي مع يهود الجهاد في سبيل الله (2) -تعالى-، وما عداه من حلول (احتجاجات، مظاهرات، ... ) طرق غير شرعية، لا تنكأ عدواً، ولا تسرُّ صديقاً. * كلمة موجزة في شأن فلسطين من الوجهة العلمية: قال العلامة المحدث السلفي أحمد شاكر -رحمه الله- تحت عنوان (تحية المؤتمر العربي في قضية فلسطين) ما نصه: «يا حماة الحمى، وقادة الإسلام، وزعماء المسلمين! لو كنت شاعراً لنظمت في تحية ضيوفنا العظماء الكرام قلائد الدرر، ولو كنت خطيباً لنثرت بين أيديهم بدائع الزهور، واعترافي بعجزي أبلغ الأعذار. إنما مثلت أمامكم أداءً لغرض، وقياماً بواجب، وكم كنت أتمنى أن يقوم في مقامي هذا والدي الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقاً، وما حبسه عن ذلك إلا المرض، فقد ألزمه الفراش منذ بضع سنين، ولولا هذا لسمعتم صوته يجلجل في أنحاء العالم الإسلامي؛ انتصاراً للمظلومين، ودفاعاً عن فلسطين. وإني أتشرّف بأن أُرحّب بنواب الأُمم الإسلامية وممثليها باسمه واسم إخوانه الذين جاهدوا معه في الصفوف الأولى لهذه النهضة. وما يكون لي أن أتحدث إليكم في السياسة وأنتم هداتها وأساطينها، ولو بدا لي هذا لأقعدني الخجل والعجز، ولكني أتحدث إليكم بكلمة موجزة في شأن قضية المسلمين من الوجهة العلمية الدينية. لقد ألقى الإنكليز الحديد والنار على فلسطين، حماية لقضية خاسرة،   (1) «البصائر» ، العدد 25، سنة 1948م. (2) الجهاد الشرعي له شروط، ليس هذا محل بسطها وشرحها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وانتصاراً لأمة لا تقوم لها قائمة، ولن تكون لها دولة. كلكم مسلم أو عربي، والمسلم يؤمن بالله وبرسوله وبالقرآن الذي نزل على رسوله، والمسيحي (1) العربي يصدق بنبوة محمد، ويعرف أن البشائر التي في القرآن بشائر صدق، وأن آياته كلها حق. والله -تعالى- يقول في شأن هؤلاء اليهود: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران: 112] . ويقول في شأنهم: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64] . ثم الله يحكم عليها حُكماً أبدياً: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ. وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً} [الأعراف: 167-168] . أيها السادة! هذه صواعق من الله تنصَبُّ على رؤوس أعدائكم، وعلى رؤوس حماتهم، هذا وعد الله لكم بنصركم عليهم، والله منجز وعده، وحسب أعدائكم عهد بلفور، وهو وقومه واليهود أعجز من أن يفوا بعهده، بل هم أعجز من أن يخلفوه؛ لأنّ الله هو الذي يتولّى إخلافه بأيديكم وأيدي أعدائكم. {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] . {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 39] .   (1) الصواب أن يقول: (نصراني) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 أيها السادة! قد أكون أصغر سناً من أكثركم، وأظنني أقلّكم جميعاً علماً ومعرفة، ولكني أطمع في تواضعكم إذا قمت في حضرتكم بواجب النصيحة للمسلمين؛ ليكون ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين. إنكم تمثّلون أُمة الإسلام، أُمة واحدة عربية، لا تفرق بينَها فوارق الجنسية، الأعجمي المسلم عربي الدين واللسان، والعربي عربي مسلماً كان أو مسيحياً، وسِمة هذه الأمة عند الله العزة: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] ، وإنكم تناوئون أمة قد ضربها الله بالذل والصَّغار، وضمن لكم النصر عليهم وإن استنصروا بسائر أمم الأرض: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} ، فلا تعطوهم من أنفسكم ما لا مطمع لهم فيه وإن بلغوا أسباب السماء. إن هؤلاء الأذلاء كتب الله عليهم الجلاء، فقد أجلاهم النبي s عن المدينة وأرباضها، ثم جلاهم الفاروق عن الحجاز، ثم سكت عنهم المسلمون، بل حموهم حين رأوهم مضطهدين مستضعفين، فلما عادوا سيرتهم من البغي والعدوان، أعادهم الله سيرتهم من الجلاء، فجلاهم الألمان والطليان عن بلادهم، وستكون عاقبة أمرهم -إن شاء الله- أن يجليهم المسلمون عن كل بلاد الإسلام. إن أُوربة لم تتمكن من دول الإسلام في فترة ضعفهم إلا حين أرهبتهم بغُول التعصّب، حتى صار كل مسلم يتخاذل عن دينه وعن شريعته، خشية أن يُتَّهم بالتعصب، ثم ألقَتْ بينهم بدعة القوميات؛ لتفتنهم عن وحدتهم وقوّتهم. وإني ليُلقى في روعي أن سيكون مؤتمركم هذا فاتحة لعشرات من أمثاله، تبنون فيه حصن الإسلام، وتذودون عن حوضه، حتى تعود هذه الأمة أُمة واحدة -كما أمرها الله-. ولا تخافوا تهمة التعصب التي يريدون أن يصلوا من ورائها إلى ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 يسمونه (حقوق الأقليات) ؛ فما كان المسلمون يوماً معتدين ولا ظالمين، وإن كلمة (حقوق الأقليات) لها ما بعدها، من تغلغل النفوذ الأجنبي في كل شأن من شؤون المسلمين. ولقد قال الزعيم الخطير صاحب المعالي محمد علي علوبة باشا، بالأمس بالمؤتمر، كلمة خالدة أرجو أن تكون على ذكر منا دائماً، قال: «وليعلم اليهود أنهم إذا فرحوا اليوم بظفر يستند إلى حراب غيرهم، فإنهم سينهزمون لا محالة يوم تغيب هذه الحراب عنهم، وأحداث الدهر كثيرة، والفرص آتية لا ريب فيها، ومَن أنذر فقد أعذر» . وإني أعتقد أن هذه الكلمة مما يلهم الله بعض عباده؛ فهي عبرة لمن شاء أن يعتبر، وهي نذير لمن شاء أن يتدبّر النذر، وأستغفر الله لي ولكم» (1) . * وقال السيد محمد رشيد رضا -رحمه الله-: «إن حكم الإسلام في عمل الإنكليز واليهود الصهيونيين في فلسطين، حكم قوم من أهل الحرب أغاروا على وطن من دار الإسلام، فاستولوا عليه بالقوة، واستبدّوا بأمر الملك فيه، وشرعوا في انتزاع رقبة أرضه من أهله بتدابير منظمة؛ ليسلبوهم المِلك (بكسر الميم) كما سلبوهم المُلك (بضمها) ، وحكم من يساعدهم على عملهم هذا (امتلاك الأرض) بأي نوع من أنواع المساعدة، وأية صورة من صورها الرسمية (كالبيع) ، وغير الرسمية (كالترغيب) ؛ حكم الخائن لأمته وملته، العدو لله ولرسوله وللمؤمنين، الموالي لأعدائهم وخصومهم في مِلكهم ومُلكهم، لا فرق بينه وبين المجاهد معهم للمسلمين بماله ونفسه، فالذي يبيع أرضه لليهود الصهيونيين في فلسطين، والذي يسعى في شراء أرض غيره لهم من سمسار وغيره؛ كالذي يساعد أي قوم من الأجانب على قومه فيما   (1) «كلمة الحق» (مقالات وأبحاث أحمد شاكر) (ص 195-198) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 يحاولون من فتح بلادهم بالسيف والنار، وامتلاك أوطانهم، بل أقول -ولا أخاف في الله لومة لائم، ولا إيذاء ظالم-: إن هذا النوع من فتح الأجنبي لدار الإسلام هو شر من كل ما سبقه من أمثاله من الفتوح الحربية السياسية والدينية على اختلاف أسمائها في هذا العصر؛ لأنه سلب لحق أهل الوطن في ملك بلادهم وحكمها، ولحقهم في ملك أرضها لأجل طردهم منها، ومن المعلوم بالبداهة أنه إذا بقي لنا ملك الأرض تيسر لنا إعادة ملك الحكم، وإلا فقدناهما معاً. هذا وإن فقد فلسطين خطر على بلاد أمتنا المجاورة لهذا الوطن منها، فقد صار من المعلوم بالضرورة لأهل فلسطين والمجاورين لهم، ولكل العارفين بما يجري فيها، من عزم اليهود على تأسيس الوطن القومي الإسرائيلي، واستعادة ملك سليمان بقوة المال الذي هم أقطاب دولته الاقتصادية، وبقوة الدولة البريطانية الحربية، إن هذا الخطر سيسري إلى شرق الأردن وسورية والحجاز والعراق، بل هو خطر سينتقل من سيناء إلى مصر. وجملة القول: أن الصهيونية البريطانية خطر على الأمة العربية في جميع أوطانها الآسيوية وفي دينها ودنياها، فلا يعقل أن يساعدهم عليه عربي غير خائن لقومه ووطنه، ولا مسلم يؤمن بالله -تعالى- وبكتابه العزيز وبرسوله محمد خاتم النبيين -صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه-، بل يجب على كل مسلم أن يبذل كل ما يستطيع من جهد في مقاومة هذا الفتح، ووجوبه آكد على الأقرب فالأقرب، وأهون أسباب المقاومة وطرقها: المقاومة السلبية، وأسهلها: الامتناع من بيع أرض الوطن لليهود، فإنه دون كل ما يجب من الجهاد بالمال والنفس الذي يبذلونه هم في سلب بلادنا وملكنا منا. ومن المقرر في الشرع أنهم إن أخذوها وجب على المسلمين في جملتهم بذل أموالهم وأنفسهم في سبيل استعادتها، فهل يعقل أن يبيح لنا هذا الشرع تمهيد السبيل لامتلاكهم إياها بأخذ شيء من المال منهم وهو معلوم باليقين؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 لأجل أن يوجب علينا بذل أضعاف هذا المال مع الأنفس لأجل إعادتها لنا وهو مشكوك فيه؛ لأنه يتوقف على وحدة الأمة العربية وتجديد قوتها بالطرق العصرية، وأنى يكون ذلك لها وقلب بلادها وشرايين دم الحياة فيها في قبضة غيرها؟! فالذي يبيع أرضه لليهود في فلسطين أو في شرق الأردن يُعدّ جانياً على الأمة العربية كلها، لا على فلسطين وحدها. ولا عذر لأحد بالفقر والحاجة للمال للنفقة على العيال، فإذا كان الشرع يبيح السؤال المحرم عند الحاجة الشديدة، ويبيح أكل الميتة والدم ولحم الخنزير للاضطرار، وقد يبيح الغصب والسرقة للرغيف الذي يسدّ الرمق ويقي الجائع من الموت بنية التعويض، فإن هذا الشرع لا يبيح لمسلم ببيع بلاده، وخيانة وطنه وملته لأجل النفقة على العيال، ولو وصل إلى درجة الاضطرار، إنْ فرضنا أن الاضطرار إلى القوت الذي يسدّ الرمق يصل إلى حيث لا يمكن إزالته إلا بالبيع لليهود وسائر أنواع الخيانة، فالاضطرار الذي يبيح أمثال ما ذكرنا من المحظورات أمر يعرض للشخص الذي أشرَفَ على الموت من الجوع وهو يزول برغيف واحد مثلاً، وله طرق ووسائل كثيرة. وإنني أعتقد أن الذين باعوا أرضهم لهم لم يكونوا يعلمون أن بيعها خيانة لله ولرسوله ولدينه وللأمة كلها، كخيانة أهل الحرب مع الأعداء لتمليكهم دار الإسلام وإذلال أهلها، وهذا أشد أنواعها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27] » (1) .   (1) مجلة «المنار» لمحمد رشيد رضا (م 33 ص 174-175) ، عدد محرم، سنة 1352هـ - مايو، سنة 1933م. ولهذا الإمام السلفي كلام متين جيد كثير عن قضية فلسطين، لو جمعت من مجلته= = «المنار» لزادت عن مجلدتين كبيرتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 * وقال -أيضاً-: «إنّ مَن يبيع شيئاً من أرض فلسطين وما حولها لليهود أو للإنكليز؛ فهو كَمَن يبيع المسجد الأقصى، وكمن يبيع الوطنَ كلَّه؛ لأنّ ما يشترونه وسيلة إلى ذلك، وإلى جَعْل الحجاز على خطر، فرقبة الأرض في هذه البلاد هي كرقبة الإنسان من جسده، وهي بهذا تُعدّ شرعاً من المنافع الإسلامية العامة، لا من الأملاك الشخصية الخاصة، وتمليك الحربي لدار الإسلام باطل، وخيانة لله ولرسوله ولأمانة الإسلام، ولا أذكر هنا كل ما يستحقه مرتكب هذه الخيانة، وإنما أقترح على كل مَن يؤمن بالله وبكتابه وبرسوله خاتم النبيين أن يبثّ هذا الحكم الشرعي في البلاد، مع الدعوة إلى مقاطعة هؤلاء الخونة الذين يصرّون على خيانتهم في كل شيء، من المعاشرة والمعاملة والزواج والكلام حتى ردّ السلام» (1) . وهذه الفتاوى مأخوذة من قواعد الشرع ومقاصده، وهي لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان؛ فالحكم في بيع الأرض العربية والإسلامية ليهود وسماسرتهم خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين. والله المستعان، وعليه التكلان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. * التعريف بكتاب «النقد والبيان» * اسم الكتاب والأصل المعتمد عليه في التحقيق اعتمدتُ في تحقيق هذا الكتاب على طبعة ظهرت سنة 1344هـ - 1925م عن مطبعة الترقي بدمشق، وهي الطبعة الأولى (2) للكتاب، طبعت   (1) مجلة «المنار» لمحمد رشيد رضا (م 34 ص 612) ، عدد ذي القعدة، 1353هـ - مارس، سنة 1935م. (2) لا أعرف للكتاب -إلى كتابة هذه السطور- طبعة غيرها، وما ذكره علي= =حسين خلف في كتابه «عز الدين القسام» (ص 45) أن الكتاب طبع بعنوان «النقد والبيان في رد أوامر خزيران» عن طريق مكتبة محمود يوسف عيسى الصفدي، غير دقيق، إذ اعتمد فيما دوّن على مقابلات شخصية، وضبط العنوان والناشر -ولا سيما مع مضي الزمان- يعتريه الوهم والنسيان! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 على نفقة مؤلِّفيها، وعنوانه «النقد والبيان في دفع أوهام خُزَيران» ، تأليف محمد كامل القصاب ومحمد عز الدين القسام (1) ، وصوَّرْتُه من مكتبة شيخنا إمام هذا العصر في الحديث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى-. * التعريف بالأسماء الواردة في الكتاب أ- ما أثبت على طرة الكتاب: 1- محمد كامل القصاب. 2- محمد عز الدين القسام. وهما المؤلّفان، وسأعمل (2) على إثبات ترجمة مسهبة لهما -إن شاء الله تعالى-. 3- خُزَيران، وسمَّياه في الكتاب (محمد صبحي خزيران) ، وعرفا به، بأنه «رئيس كتَّاب المحكمة الشرعية في ثَغْر عكاء» (3) .   (1) انظر مصورة الغلاف (ص 127) ، وقد ذكره جماعة ممن ترجموا له، سيأتي بيانهم عند الترجمة. (2) في آخر هذه المقدمة. (3) «النقد والبيان» (ص 4) ، ولم أفز بذكر له في كتب التراجم، مع شدة بحثي وتتبعي، والاستعانة بالمعتنين في هذا الباب، وطلبت من أخي الشيخ هشام العارف -حفظه الله- (المدرس في المسجد الأقصى) البحث عن ترجمة له، ولو من خلال زيارة (عكا) ، ووعد خيراً، وحاول البحث، إلا أن ما يجري على أرض فلسطين الحبيبة -أعادها الله إلى حظيرة الإسلام والمسلمين- حال دون تَمكّنه، وعسى أن نظفر بشيء فيما بعد، والله الهادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ب- أسماء ترددت كثيراً في الكتاب: 1- علي سرور الزّنكلوني، من علماء مصر، وسكّانها، ومن الحريصين على السنة، ونشرها، والإفتاء بها (1) . 2- محمود خطاب السبكي، مؤسس جمعية أنصار السنة المحمدية (2) . 3- عبد الله الجزار، قاضي عكا ومفتيها، شيخ خُزَيران (3) . * موضوع الكتاب والباعث على تأليفه كتابنا هذا هو رد على كتاب الشيخ محمد صبحي خُزيران -قاضي عكا- المسمى: «فصل الخطاب في الرد على الزنكلوني والقسام ... والقصَّاب» ، ألفه انتصاراً لأُستاذه الشيخ عبد الله الجزار، إذ قد أفتى أحد المؤلِّفَيْن (4) (القصاب أو   (1) لا تلتفت لما ذكره أحمد الغماري في رسائله «دَرُّ الغمام الرقيق» (ص 187) عنه! فهو من كلام الأقران، الذي يطوى ولا يروى. (2) ستأتي ترجمته (ص 24) . (3) ستأتي ترجمته (ص 146، 149) . (4) لم يفصحا عن اسمه، وكان المجيب أحدهما، والموجود في «النقد والبيان» (ص4) لم ينص على واحدٍ منهما، والظاهر أن المراد القسام؛ لأنه منذ تولّى أمرَ تعليم الناس في المدارس والمساجد، أخذ على نفسه تقويم ما اعوجَّ من أمر المسلمين، وأن يُرجعهم إلى الإسلام المُصَفَّى الخالي من الزيادات والبدع؛ لأنّ انكباب الناس على هذه البدع أدّى إلى انشغالهم عن الأصول الإسلامية، وأدّى إلى فساد حال المسلمين وضعفهم، وكان عزُّ الدين القسَّام، منذ هاجر إلى فلسطين، قد نوى إعداد الأمة لمرحلة جهادٍ قادمة، منطلقاً من الإسلام، ورأى أن يبدأ أولاً بمرحلة الدعوة والتعليم، لتربية جيل مؤمن بربّه، متمسك بسُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ يحارب البدع والخرافات، ويستلُّها واحدةً واحدةً ... ويدعو الناسَ إلى نبذ البدعة، إذا عرف وجودها، ويجيب عن أسئلة الناس بما يوافق القرآنَ والسُّنَّةَ، وما اتفق عليه أعلامُ العلماء السابقون، ومن هنا بدأ الصراع بين أنصار البدع والتقاليد الدينية، وبين المذهب السلفي الذي اتّبعه القسَّام. وأخذ صوتُ الخلاف يعلو في قضية تشييع الجنائز، فقد جرت العادة أن يرفعَ الناسُ أصواتهم بالتهليل والتكبير أثناء السير بالجنازة، وربما وُجِدَ أناسٌ مستأجَرون يقومون بهذه الوظيفة، إذا كان الميّت من وجهاء الناس وأغنيائهم. وكان القسَّام يُفتي بأنَّ رفع الصوت بالتكبير أثناء السير في الجنازة مكروهٌ كراهةً تحريميةً، وصار له تلاميذ كثيرون، يأخذون برأيه، وينفِّذون موكب الجنازة كما جاء في السُّنَّة النبوية. وحدثت يوماً مُشادَّة بين أحد أنصار القسَّام وبين آخرين أثناء السير بجنازة أحد الموتى، وكتبت جريدة (اليرموك) آنذاك في افتتاحية (العدد 64) الصادر يوم الخميس في 21/شوال/1343هـ - 14/أيار/1925م، تتهم الشيخ القسام بأنه السبب فيما حدث من خلاف في المدينة، وانقسام الناس، وكتب رئيس تحرير الجريدة (كمال عباس) مقالاً بعنوان: (يتمسكون بالقشور (أ) ، ويتركون اللباب، فتنة نائمة وواجب العقلاء) هاجم فيه القسَّام، واتّهمه بالسعي وراء المناصب والشهرة، وأنه أفتى بحرمة رَفْع الصوت في الجنازة، ليظهرَ أمام الملأ بمظهر العلماء، الذين يحاربون البدع. وهذه صورة ما كتب موقعاً بـ (ابن عباس) : «في حيفا اليوم حركة غير مباركة، بل فتنة نائمة يوقظها جماعة ممن يتمسكون بالقشور دون اللباب، ويتظاهرون بالإصلاح الديني والاجتماعي، ليتبوأوا مركزاً علمياً اجتماعياً ليسوا من أهله، ولو تدبروا لتحققوا أن المراكز العالية في الهيئة الاجتماعية لا تنال إلا بالعلم الصحيح، والإخلاص الفياض، والعقل الراجح. تلك الفتنة هي التصدي لتحليل وتحريم بعض المندوب والمستحب والمباح في الشرع الإسلامي؛ كزيارة أضرحة الأنبياء والأولياء، والتهليل والتكبير في تشييع الجنائز، وهلم جراً، مما شطر الناس شطرين، وجعلهم حزبين، يتربص كل فريق بأخيه الدوائر، ونشأ عن ذلك قيل وقال، أدى إلى المناظرة، فالمشاتمة، فالمضاربة، وخيف على الاتحاد الذي ننشده في هذه الأيام العصيبة، ونحمل بعض أثره من أن تتقطع أوصاله، ونصبح شيعاً مستضعفين، تتناوبنا المصائب من كل جانب، ونحن عن حاضرنا ومستقبلنا لاهون. لا أحب أن أدخل عباب الموضوع من وجهتي التحريم والإباحة؛ لأن كل مناظر يستند بقوله على رأي إمام أو قطب، وإنما أحب أن ألم بالموضوع من وجهة دينية اجتماعية، لعل البحث يهدينا إلى الحقيقة التي غابت عن المدعين بالإصلاح الديني، فأقول: لا خلاف في أن الحديث الشريف: «كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا= ------------------------- (أ) انظر عن هذه الكلمة ما سيأتي في التعليق (ص 200) . = فزوروها؛ فإنها تذكر بالآخرة» صحيح، ويستنتج من قول صاحب الشريعة السمحاء - صلى الله عليه وسلم - أنه نهاهم عن زيارة القبور بادئ بدء؛ لأن الناس يومئذ كانوا قريبي عهد بالوثنية، ثم لما أنس منهم قوة الإيمان بالله أمرهم بزيارتها، أما التهليل والتكبير في الجنازة وفي غيرها، فهما من الأمور المباحة إن لم نقل المستحبة، فالعمل بها لا يترتب عليه مضرة، بل يحدث خشوعاً في قلوب المشيعين، كما أن تركه لا يستدعي اللوم. أما وقد علم هذا؛ فلماذا يتصدى بعض المتعممين -ومن لفَّ حولهم- للناس في عاداتهم التي درجوا عليها، واتبعوا في بعضها السنة السمحاء، ويحدثون شغباً في البلد نحن في غنى عنه ولا طاقة لنا به؟! أَلِيَظهروا أمام الملأ بمظهر العلماء الذين يحاربون البدع، أم ليؤثّروا على البسطاء (أ) بسفسطاتهم ليتبوؤوا مقعداً من الزعامة الفارغة، أم أن علمهم وإدراكهم أوصلهم إلى هذا الحد؟ إن كان هذا مبلغهم من العلم والإدراك، فليتركوا الحكمة إلى أهلها؛ لئلا يهينوها، وإن كانوا يقصدون محاربة البدع، ففي الهيئة الاجتماعية من الكبائر ما يأثم العالم عن التغاضي عنها، بل هناك من أركان الإسلام الخمسة؛ كالزكاة، التي لا تعرف واحداً في الألف يؤديها حق أداءها، وكفريضة الصلاة والصوم، التي يهملها كثير من المسلمين، فلماذا لا تقوم جماعة تحريم التهليل والتكبير وزيارة القبور بوعظ الناس، وحضهم على أداء الفرائض، بدل نهيهم عن أمر ليس فيه غير التوحيد والعمل لسنة رسول الله، فهل غفلوا عن قوله -تعالى-: {اذكروا الله} إلى آخر الآية، وتصاموا عن الحديث: «كنت نهيتكم» ؟ رحماك اللهم بهذه الأمة، التي يتمسك بعض المتعممين فيها بالقشور ويتركون اللباب، تنزه الدين عما به يلصقون. حسبنا أيها القوم هذا الذهول والتخاذل، فإننا في وقت لا يسع الجدل الفارغ والاختلاف على ما لا يفيد ولا يضر شيئاً. تتنافس الشعوب الغربية بالعلم والاختراع وبالصناعة، وتنهمك حكوماتها بإعداد القوة لاستعباد الشعوب الضعيفة، واكتساح بلادها، والاستيلاء على مرافقها، ونتلهى بالقشور دون اللباب، فنعرض عن العلم ونهمل استثمار الأرض التي أمرنا النبي الأعظم باستثمارها بقوله: «التمسوا الرزق من خبايا الأرض» (ب) ، ونستخف بشأن الصناعة، ولكن لا تفوتنا المجادلات الفارغة، التي هي مضيعة للوقت مضعفة للأمم. ... = ------------------------- (أ) انظر حوله ما سيأتي في التعليق على (ص 26) . (ب) الحديث ضعيف. انظر: «السلسلة الضعيفة» (2489) ، «ضعيف الجامع» (1150) ، «كنز العمال» (4/21 رقم 9302، 9303) . =اتركوكم أيها القوم من الأخذ والرد في مسألة زيارة القبور، فإن الأحياء أولى بالعناية والاهتمام، واتركوا الموحدين والمكبرين في التشييع يوحدون ويكبرون، فإن ذلك لا يفيد الأمة شيئاً، والتفتوا إلى جمع شملها وإعداد القوة لرد غارات الطامعين، فذلك خير وأبقى» . فكتب الشيخ القسَّام مقالاً بعنوان: (بيان حقيقة) ، وأرسله إلى الجريدة فلم تنشره، فأرسله إلى جريدة (الكرمل) (أ) في حيفا فنشرتْه في (ص 2) بتاريخ 6/6/1925م، وهذه صورة ما في المقال: «بعثت بهذه الرسالة إلى جريدة «اليرموك» ، فلم تشأ أن تنشرها، ولذا أرجو من وطنية صاحب «الكرمل» الغيور أن يتفضل بنشرها في جريدته. بعد التحية، فإني أريد كشف القناع عن حقيقة المسألة التي جعلتموها موضوع افتتاحية العدد «64» من جريدتكم الصادرة في 21/شوال/1343هـ، فالرجاء نشر مقالي هذا على صفحات «اليرموك» في أول عدد ينشر، عملاً بحق الصحافة، وحفظاً لحياتنا الدينية والاجتماعية وتلاعب الأهواء والأعراض، ما كان ينبغي لحضرتكم أن تعتمدوا فيما ذكرتموه في مقالكم على أهواء المرجفين من غير تثبت ولا تروٍّ، فهل يعقل أن مسلماً ينهى الناس عن ذكر الله -تعالى- أو تكبيره، أو عن فعل ما أباحه الشرع الشريف من زيارة أضرحة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والأولياء -رضي الله عنهم-، وتشييع الجنائز على الوجه المشروع، بل كان يجب عليكم أن تلاحظوا أن من نسب إليهم ذلك القول، لا يخفى عليهم ما حل وحرم وما ينبغي مما يتعلق في الموضوع، وأنه لا يعقل أن يتوسلوا بِمثل تلك الأمور، ليتبوؤوا مركز الزعامة الفارغة، خصوصاً إذا كان الحال يؤدي إلى إيقاظ فتنة نائمة، ولولا تسرعكم في تصديق من أنهوا إليكم المسألة على خلاف وجهها، لما طوحتم بقلمكم وجريدتكم في تلك المهاوي السحيقة، من التعريض بأعراض المخلصين الصادقين. أما حكمكم في المسائل الدينية وتقدير الرجال، فكان غيركم أولى به؛ لأنّ قلمكم لم يأخذ بقسط من العلوم الشرعية، يدرك ذلك من مقالكم من شمّ رائحةَ العلم، وكان الأجدر بكم أن تدعوا الكتابة في مثل هذه المواضيع لأربابها، وتقتصروا في الكتابة على ما خصكم الله به، إن من تدعونهم إلى وعظ الناس وحضهم على أداء الفرائض ... إلخ. لم يألوا جهداً في تنبيه الأمة حيثما حلوا وارتحلوا إلى التمسك بأركان الدين، وبيان مزاياه= ------------------------- (أ) كان صاحبها نجيب نصار، وهو أحد المعادين -آنذاك- لليهود. = النافعة، وأنها من الهمم إلى توخي ربط عرى التآخي والاعتناء بالعلوم على اختلاف أنواعها والصنائع المفيدة واستثمار خبايا الأرض، وأكبر دليل على هذه: اشتغالهم بما يعود على الأمة بالنفع العظيم، مع إعراض عن المناصب والرتب التي يعيش أربابها على أكتاف الأمة، ويودون بثروتها من غير فائدة تعود منهم على البلاد، ولو أرادوا كما ذكرتم أن يتبوؤوا مركزاً علمياً اجتماعياً ليسوا من أهله، لجاروا العوامَّ وسايروهم كما فعل غيرهم. أما مسألة تشييع الجنائز بالتهليل، والدعاء برفع الصوت والضجة المعلومة، وزيارة ضرائح الأنبياء والأولياء ومقاماتهم بالكيفية المعروفة، من التمسح والتملس بالقبور وارتكاب الآثام، واختلاط الرجال بالنساء على وجه التهتك والإسراف في الأموال في غير طرقها الحيوية والدينية، والاشتغال بذلك عن الضروريات، فالحكم فيه يعلمه صبيان المكاتب فضلاً عن العلماء، وهو بدعة منكرة في جميع مذاهب المسلمين، لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا الخلفاء الراشدون، ولا الصحابة والتابعون، ولا الأئمة المجتهدون -رضوان الله عليهم أجمعين-، بل كانت جنائزهم على التزام الأدب والسكون والخشوع، حتى إن صاحب المصيبة كان لا يعرف من بينهم لكثرة حزن الجميع، وما أخذهم من القلق والانزعاج بسبب الفكرة فيما هم إليه صائرون وعليه قادمون، ولم يعهد الاستلام في الإسلام إلا للحجر الأسود والركن اليماني خاصة. ويكفينا دليلاً على ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، واجعلوا زيارتكم لها صلاة عليهم واستغفاراً لهم» ، وقول ابن عمر وابن مسعود -رضي الله عنهما- لمن قال في الجنازة: واستغفروا لأخيكم -يعني: الميت-: «لا غفر الله لك» ! ولا يقول بإباحة ذلك إلا مبتدع في الدين، أما بوادر الفتنة التي ذكرتموها في الصحيفة الثانية من العدد نفسه، فالحق فيها أن الانتفاعيين من كسالى الأمة، الذين اتخذوا ذكر الله -تعالى- وقراءة القرآن الكريم على القبور تجارة لهم، هم الذين كانوا من حين إلى آخر يرجفون في المدينة، ويشيعون بين الطبقات الأكاذيب الملفقة ضد رجال الإصلاح، وساعدهم على ذلك بعض أرباب الأهواء، معتمدين في أقوالهم على من لا يتقي الله في دينه وسنة نبيه، فحصل بسبب ذلك تأثر في نفوس بعض المتهوسين، أدى بهم إلى الشغب الذي آسف الجميع، وكنت -كما يعلم الله- أشد الناس أسفاً على ما حصل، وبهذا يعلم من هو الذي يسعى لإيقاظ الفتنة النائمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأي مناسبة بين حادث فجائي -إن لم يكن أمر قد دبر بليل- وبين منعي من الخطبة والتدريس، اللهم إلا حاجة في= =نفس يعقوب قضاها، ولئن كان الذين هرعوا إلى دار فضيلة مفتي الثغر هم الذين حملوه على منعي من الخطبة والتدريس، فما بال الذين هرولوا وذهبوا إلى داره وطلبوا إليه بإلحاح منع من أجر داره مقراً للتبشير وتنصير المسلمين عن الخطابة والتدريس، لئلا يكون وصمة عار على المسلمين لم يؤبه لكلامهم، على أنه لا يبعد أن يكون هذا الأمر من القشور لا من اللباب، {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . إنّ البدع صغيرها وكبيرها، من أعظم الأضرار على هذه الأمة، وأنى لِمَن لَم يتحلَّ بالسنن ولم يتجنب الرذائل أن يتصف بالفضائل، وكنت أرجو أن تكونوا أول مقاومٍ لمن يخالف السنة ويباين الشرع؛ إذ كنتم من الشبان المتنورين ومن رجال الصحافة، وعليهم وحدهم تثقيف الأمة وتهذيبها، وتسيير خطاها إلى المثل الأعلى الذي نبتغيه، هدانا الله جميعاً إلى سواء السبيل» . وقد اتّضح لمن قرأ المقالة يومئذٍ أن الذين أثاروا المشكلة هم بعض المتنفِّعين الذين اتّخذوا ذِكْرَ الله -تعالى- وقراءة القرآن على القبور تجارةً لهم ... وهم الذين أثاروا الضجة بسبب فتوى يحرِّم فيها القسَّام أخذَ الأجرة على قراءة القرآن عند المقابر، وساعدهم على التحريض: مَنْ أرادوا الحدَّ من نفوذه ومكانته عند الناس، ومَنْعَه من الخطابة والتدريس في جامع الاستقلال. ويبدو أنَّ قصة الخلاف في (الصياح في التهليل والتكبير ... أمام الجنائز) شغلت أهلَ الرأي في المدينة، وانقسمَ الناسُ حولها إلى مؤيِّد ومعارض، وكادَتْ أن تؤدي إلى فتنة، وخاض فيها مَنْ يعرف، ومَنْ لا يعرف، وليس في المدينة عُلَماءُ يَحكُمُون في المسألة، فأراد الحاج عبد الواحد الحسن -نائب رئيس (الجمعية الخيرية) بِحيفا- أن يضع حدّاً للخلاف، وأن يرفعَ الأمر إلى علماء محايدين، من خارج الإقليم، ليدلوا بدلوهم في المسألة، فكتب السؤال التالي: «ما قولُ أهل العلم الحقّ في الصياح في التهليل والتكبير وغيره أمام الجنائز؟ أفتونا أثابكم الله» . وقدَّم السؤال إلى الشيخين (القسّام والقصاب) لاتفاقهما في الرأي، فأجابا بأنَّ ذلك مكروهٌ تحريماً، وبدعة قبيحة ... مع الأدلة من السُّنَّة الصحيحة ... مع الدعوة إلى إزالة هذه البدعة. وأُرْسِلَتْ هذه الفتوى إلى الشيخ عبد الله الجزّار مُفتي عكّا، وسُئل عن رأيه في ذلك ... فنقل عن بعض العلماء أنه لا بأس بفعل ذلك في أيامنا. = = وأرسل المستفتي -وهو: الحاج عبد الواحد الحسن- صورة الفتويين إلى الشيخ محمود محمد خطّاب السبكي، والشيخ علي سرور الزنكلوني، من كبار علماء الأزهر. فجاءت فتوى الشيخين موافقةً لما قاله القسَّامُ والقصاب ... ونشر الشيخ الزنكلوني فتواه على صفحات جريدة (الشورى) التي كانت تصدر في مصر ... وهذا الذي جعل خُزيران يضمُّ الزنكلوني إلى القسَّام والقصاب في عنوان رسالته، التي ألَّفها بعنوان (فصل الخطاب في الردِّ على الزنكلوني والقسَّام والقصاب) ؛ انتصاراً لأستاذه عبد الله الجزار مفتي عكّا. وقد تناول خزيران في رسالته موضوع (الصياح في التهليل والتكبير أمام الجنائز) وموضوعات أخرى مما نُقل عن القسَّام، وعارض فتوى القسَّام والقصاب، وأتى بالأدلة التي رأى أنها مدعِّمة رأيه، وجمع الزنكلوني مع القسَّام والقصاب في عنوان الرسالة؛ لأنه أيَّد، أو وافق القسامَ على فتواه. عندئذٍ؛ قام القسَّام، أو القسَّام والقصَّاب بتأليف هذه الرسالة، وفنَّدا فيها أقوال خزيران التي وردت في رسالته. انظر: «الوعي والثورة، دراسة في حياة وجهاد الشهيد عز الدين القسام» (ص 68-69) ، «عز الدين القسام» لشرَّاب (ص 176-179) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 القسام) لما سئل عن حكم الصياح في التهليل والتكبير وغيرهما أمام الجنائز، بأنه مكروه تحريماً، وبدعة قبيحة، يجب على العلماء إنكارها، وعلى كل قادر إزالتها، وسأل المستفتي عن السؤال نفسه الجزار، فأفتاه بالجواز، فاضطر السائل إلى إرسال الجوابين إلى عالمين من كبار علماء الأزهر، وهما (محمود خطاب السبكي، وعلي سرور الزنكلوني (1)) ، فأفتيا بأنه بدعة منكرة، مؤيّدين فتوى أحد المؤلفين، فألَّف خزيران رسالته «فصل الخطاب» . قال المؤلِّفان: «ولم يكتف مؤلّف الرسالة -أي: خزيران- برأيه في المسألة المتنازع فيها فقط، بل شطَّ قلمُه، وأسند إلينا ما لم نقل به، ولم نعتقده، ورمانا -عفا الله عنه- بالزيغ والضلال، لاتّباعنا السنة الموروثة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -   (1) نشر فتواه على صفحات جريدة «الشورى» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 في الأقوال والأفعال» (1) . وفي هذا الكتاب: بحوث علمية محررة عن البدعة؛ من حيث التأصيل والتنظير، ثم عن بعض مفرداتها، وتعرض مؤلّفاه -أصالةً- إلى بدعة الجهر بالذكر مع الجنازة، وذكرا (تحرير أقوال علماء المذاهب الأربعة في حكم رفع الصوت بالتهليل والتكبير وغيرهما أمام الجنائز) ، ثم تعرضا لصلاة التراويح، وحررا الكلام على مسألة (أيهما أفضل أداؤها في البيت أم في المسجد؟) ، و (عدد ركعاتها) ، ثم تكلما على بدع شائعة ذائعة في أيامهما -ولا زال لبعضها وجود في بلاد الشام، ولا قوة إلا بالله-؛ مثل: إحياء ليلة النصف من شعبان، التزام قراءة سورة الكهف يوم الجمعة على وجه المواظبة في المساجد، قراءة القرآن في المساجد جهراً، الأناشيد التي تقال في آخر جمعة من رمضان (التوحيش) ، قراءة قصة المولد النبوي، صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة. قال الزركلي في ترجمة (القصاب) في تعريف هذا الكتاب: «في البدع المنهي عنها، والرد على أحد القائلين بها» (2) . وأفصح المؤلفان عن باعث تأليفهما هذا الكتاب في أكثر من موطن منه، فاسمع إليهما، وهما يتحدّثان عن بدع انتشرت في زمانهما: «التي لا نَقْدر على إزالتها، ولا يسعنا السكوتُ عليها، ولا نجد من يساعدنا ممن يعدّون أنفسهم   (1) «النقد والبيان» (ص 4-5) . (2) «الأعلام» (7/13 و6/268) ، وقال عبد الله الطنطاوي في كتابه «القسام» (ص 147) عن «النقد والبيان» : «فنّد البدع، وردّ على أصحابها، وعاد كثير من الصوفية إلى العقيدة الصحيحة، والتزموا المنهج الذي يدعو إليه الشيخ، أما الدجالون والمشعوذون ففي صفّ الأعداء دائماً» . وانظر في التعريف به: «الوعي والثورة» (68-69) ، وذكره معزواً للمؤلفين -أيضاً-: كحالة في «معجم المؤلفين» (10/290) ، وعبد القادر عياش في «معجم المؤلفين السوريين» (ص 418) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 من أهل العلم، على منع مرتكبيها» (1) . ثم ذكرا رسالة خزيران، ووصفا صنيع مؤلفها بأنه «جمع مزيجاً من المسائل العلمية، كان فيها حاطبَ ليل، وحشرها إلى ذهنه، ثم نشرها قلمُه، كما شاء عقلُه وهواه، ليدهشَ بها العامة، ويساعد بها من اتَّخذ دينه متجراً، وجعل ذكر الله آلةً لسلب الأموال، ... » (2) إلى قوله: «وقد تطرَّف الرَّجلُ في الإيهام، وترويج ما أتى به إلى حدٍّ أظهر فيه خطراً محسوساً على الدِّين من نور تعاليمنا   (1) «النقد والبيان» (ص 89) . (2) يريد القسام والقصاب -رحمهما الله تعالى- أنه إذا مات واحد من المفسدين المتعاونين -آنذاك- مع الإنكليز، أو مات أحد من أتباعهم وذراريهم، أقاموا له الجنازة، واستأجروا فِرَقَ المنشدين والمهلّلين، الذين يرافقوها، وتعلو أصواتهم على المآذن، يكبّرون ويهللون ويترحمون، وتذكر لهم المآثر الكاذبة، ويقيمون المآدب في هذه المناسبة، من مالٍ باعوا به دينهم، ويوزعون الصدقات مما سرقوه من أموال الناس، ويستأجرون الصحافة لتكتب عن تاريخه في الوطنية (!!) . ونقل الدكتور حسين عمر حمادة عن محمد الحنفي، صاحب القسَّام قصةَ جنازة إحدى الحسينيات (من آل الحسيني) (خرجت الجموعُ الغفيرة في جنازتها، مع أنها باعت أرضاً لليهود في اللدّ) ، وفيها قال القسَّام: إنْ باع الأفندي تستَّروا عليه، وإن باع الفقيرُ فضحوه، دون النظر إلى حال القسر والإكراه والخداع والحاجة الماسّة التي تعرَّض لها الفلاح الفقير، مما أجبره على بَيْع أرضه لمواطنه العربي، وليس للمستوطن اليهودي الذي كان يحصل على الأرض مباشرة من خلال السماسرة وتجّار الأراضي العرب. يقول المؤلفان: «إنَّ هؤلاء الذين يصيحون أمام الجنائز، اتخذوا الدين متجراً، وجعلوا ذِكْرَ الله آلةً لسلب الأموال» ، وكُثرٌ من هؤلاء الصائحين أمام الجنائز وعلى القبور قادرون على العمل والأكل من كسب يدهم، ومنهم مَن يملك الأموال والأملاك، وقد أكلوا حقوق الضعفاء من الرجال والنساء والولدان، الذين لا يجدون ما ينفقون، فإذا ألجأنا هؤلاء الأقوياء إلى العمل كثرتْ الأيدي العاملة في الزراعة والصناعة والتجارة، التي هي مواد الثروة الأصلية، وحفظت الزكوات والصدقات لمستحقيها. انظر: «عز الدين القسام» (ص 191-192) لشرَّاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 المخالفة لنزعته ورغبته التي أراد أن يحمل الناس عليها ظلماً وعلواً، وهكذا جعل خاتمة رسالته الاستنجاد بالعلماء من أهل مصر والشام، وبرجال المجلس الإسلامي في القدس الشريف، أملاً بأن يتمَّ له ما تمنَّاه، وأجهد نفسه للوصول إليه، وهيهات! فإنَّ العلماء علماء لا يميلون مع الهوى، ولا ينظرون إلى السِّوى، وإن الحقَّ رائدُهم، ونصرة الحق بغيتهم، ولو أنه كلما خطر لإنسان خاطر يؤيدونه فيه ويجارونه على ما يرتضيه، لما بقي للحق أثر، ولعمَّت الفوضى، وزاد الخطر، كيف والعلماء ورثة الأنبياء؟ يحيون ما أمات الجاهلون من سنن الهدى، ويكشف الله بهم عن الأمة غياهب الرَّدى، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ويا حبذا لو يحكم العلماءُ في مسألة الجنازة، وبقية المسائل التي نازع فيها الخصم العنيد؛ ليظهر الحقُّ، ويزهق الباطل. وأهمُّ شيء يجب انتباه علماء العصر إليه: أشباه تلك الواقعات، وتوضيح أحكام الشَّريعة فيها، ليعود للدِّين مجدُه، وللإسلام زهرتُه، وليقف المجازفون في الملَّة السَّمحة عند حدِّهم، ولا يطمعوا في إغواء غيرهم، ويكون في ذلك الأمن من استشراء داء المبشِّرين؛ لأنَّ المسلمين متى وقفوا على معالم الشرع الصَّحيحة، لا يمكن أن يلتفتوا إلى السَّفاسف، ولا أن يعتنوا بالزَّعانف، والله يعلم أننا ما قصّرنا في مقاومة التّيّارين، دون أن تأخذنا في الله لومة لائم، وإنَّ ذلك هو الذي هيَّج علينا خزيران وأضرابَه مِن جنود المتمسكين بالمحافظة على إرضاء العامة، ومناوأة الخاصة، وإنّا لهم لبالمرصاد، والله مِن ورائهم محيط، والحمد لله أولاً وآخراً، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد المعصوم مِن الخطأ والزلل، وعلى آله وأصحابه والتَّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ونستغفر الله العظيم مِمّا طغا به القلم» (1) . فباعث المصنِّفين على التأليف نصرة الحق بالعدل، ورد أكاذيب راجت   (1) «النقد والبيان» (ص 142) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 حواليهما، ومحاربة بدع انتشرت في عصرهما وبلادهما، إحقاقاً للسُّنَّة، ورداً للبدعة (1) . ومع هذا، فقد وجدا بعد التأليف هجمةً من المبتدعة، ومن الطرقيين وأهل الخرافة، حتى ذكر علي خلف أن الحاج خليل طه وأعوانه قاموا بشراء هذا الكتاب من الأسواق وحرقه (2) . * المنهج العلمي والأمانة في النقل وتأييد العلماء لما في الكتاب إن من يقرأ كتابنا هذا يجد فيه حقائق علمية، موثّقة من مصادرها العلمية، مدلّلة بأدلتها التفصيلية من الكتاب والسنة وأقوال السلف، ونقولات العلماء وفهومهم للنصوص. ويدل هذا الكتاب على تبحّر مؤلِّفيه في العلم، وتفننهما في سائر ضروبه وفنونه، واطلاعهما على علم الأصول والقواعد الفقهية، وتمكّنهما من اللغة العربية، ومعرفتهما بكتب الحديث والشروح والمصطلح، وتمييزهما للصحيح من الضعيف، والجيد من الرديء، والسليم من السقيم من الحديث النبوي، ودرايتهما بكتب التفسير، وأسباب النزول، ووقوفهما على الكتب المصنّفة في البدع: تأصيلاً وتمثيلاً، تقعيداً وتفريعاً، وذكرهما تأريخ البدع التي عالجاها بدقة ومعرفةٍ تفصيليةٍ، مدلّلة بالنصوص أو على قواعد أهل العلم المتّبعة، ومع هذا   (1) قال العلامة محمد بهجة الأثري في تقريظ وتأييد ما جاء في هذا الكتاب: «على أنّ الجدال في مثل هذه المسائل أصبحَ في هذا العصر -عصر المسابقة والمباراة، عصر الصناعات والمخترعات- ضرباً من المضحكات، التي يخجلُ أن يتفوّه بها عاقل، وإنني لأعتقدُ أنّ الأستاذين الهُمامين: القصاب والقسَّام -وهما هما- ما كانا ليبحثا في هذه المسألة، ويؤلِّفا لها رسالةً، لولا وجوبُ نصرة الحق، ودَحْر شُبَه المُضلّين في الدين ... » . (2) «عز الدين القسام» (ص 45) قاله نقلاً عن الأستاذ إبراهيم السهيلي في مقابلة شخصية معه في بيروت بتاريخ 28/كانون ثاني/1982م. وانظر «الوعي والثورة» (69) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 كلّه، لم يقنع المؤلِّفان بهذه النقول التي يلمح منها أن الإجماع كاد أن يتحقق في المسائل من وجهة نظرهما في كتب الأقدمين، فعملا على مراسلة مجموعة من كبار علماء ذلك العصر على اختلاف بلدانهم، وتنوّع مشاربهم ومذاهبهم، وهم آنذاك في المحلّ الأعلى، والمكان الأسمى من العلم، وقدّما لهم كتابهما هذا، وأجابهم على طلبهما من التأييد والنصرة العلمية تسعة عشر عالماً، كتب كل منهم جواباً، وضعوه في آخر الرسالة، ومنهم: الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، وهم أعلام أقاليمهم: مصر، والعراق، وبيروت، ودمشق، وزاد هذا في قيمة كتابنا هذا. وهذه أسماء العلماء مرتبين على بلدانهم: علماء الشام: محمد بهجة البيطار، عضو المجمع العلمي وخطيب جامع الدّقاق ومدرّسه، وصالح نجم الدين التونسي، الإمام المالكي والمدرس بالجامع الأموي، وصالح الحمصي، وعبد القادر المغربي، ومحمد جميل الشطي، النائب الحنبلي بدمشق، ومحمد توفيق الغزي العامري، المفتي الشافعي بدمشق، وعبد الكريم الحمزاوي، خطيب جامع ابن عربي، ومحمود ياسين، مدير مدرسة التهذيب الإسلامي، ومحمد بن خليل عيد التاجي الحنفي، وعبد القادر بدران، ومصطفى الشطي، ومحمد سليم الجندي، وخالد النقشبندي، وسعيد الحمزاوي. علماء العراق: محمد بهجة الأثري. علماء لبنان: راغب القباني الحسيني البيروتي، خريج الأزهر. علماء مصر: محمد بخيت المطيعي، مفتي الديار المصرية، عبد المعطي السّقا الشافعي، المدرس بالأزهر، محمد بن يوسف بن محمد المعروف بـ (الكافي) (1) .   (1) هو تونسي الأصل، تنقل في بلدان عديدة، وله في جوابه المثبت هنا كلام مطول على مسألة (القيام للقادم) ، فانظره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وقد جاءت كلمات هؤلاء العلماء الأعلام (1) مؤيّدة للقصاب والقسام، وفي بعضها إسهاب ومتانة ورزانة، وحجة قوية، وبيان ناصع، وأسلوب ماتع. * عملي في التحقيق يتلخص عملي في هذه الطبعة بالأمور الآتية: أولاً: اعتنيتُ بضبط متن الكتاب، فعملتُ على إثبات (جدول تصحيح الخطأ) المثبت بآخره (ص 139-140) في صلبه، وعرضتُ نقولاته على المصادر، ونبّهتُ على النقص والتحريف والخطأ، وأثبت الهوامش التي في أصله ووضعت أمامها (منهما) . ثانياً: وثقتُ النقولات العلمية، وزدتُ عليها. ثالثاً: خرجت الآيات والأحاديث والآثار على وفق الصنعة الحديثية. رابعاً: أسهبتُ في المقدمة بالتدليل على أن القسام كان سلفياً، ثم عرجتُ على جهود السلفيين في قضية فلسطين، وعالجتُ فتوى شيخنا الألباني بشأن خروج أهل فلسطين منها، ثم فتوى العلماء في العمليات التي تسمى (الانتحارية) أو (الاستشهادية) (2) ، ثم ذكرت نقولات متفرقات لعلماء سلفيين في قضية فلسطين. خامساً: شرحتُ المسائل العلمية المبحوثة فيه على وجه فيه تحرير   (1) حرصت على ذكر ترجمة لهم، إلا أني لم أظفر بترجمة لقليل منهم، وقد جهدتُ في البحث، ولعلي أتمكن من ذلك في طبعة لاحقة، ولا سيما من خلال النظر في الدوريات العلمية التي كانت تصدر أيام وفاتهم، في بلدانهم. (2) الصواب أن تسمى بـ (المغامرة بالنفس في القتال) ؛ لأن إطلاق حكم (انتحارية) أو (استشهادية) لا يساعد على التقسيم وتحقيق الشروط؛ إذ الحكم الشرعي فيها -حينئذ- يظهر من تسميتها! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وتدقيق، وعلقت على القواعد الفقهية ومظان وجودها بتوثيق. سادساً: اعتنيت بذكر أسماء ما صنف من رسائل لعلمائنا الأقدمين في المسائل المبحوثة، وذكرتُها مع أماكن وجودها. سابعاً: ترجمتُ للعلماء الذين ورد لهم ذكر في الرسالة، وكذا أسماء المؤيّدين لها، على حسب ما وقع لي، وما ظفرتُ به في المراجع. وأخيراً ... هذا جهد المقلّ، لتوضيح حقائق علمية عن مسائل مهمة عملية -وهي حصة صلب الكتاب-، وحقائق تصوّريّة نظرية، تخص قضية فلسطين، وما يتفرع عنها من مسائل كَثُر الكلام عليها -وهي حصة مقدمته-، عسى أن أكون قد وفّقتُ في تقريرها، ونلتُ أجرين في تدوينها، وإلا؛ فأستغفر الله مِنْ زلل القلم، وما يقع به الإنسان من الخطأ والوهم، وصلّى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وكتب أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان 4/شعبان/1422هـ الأردن - عمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ترجمة المؤلِّفَيْن أولاً: ترجمة محمد كامل القصاب (1290-1373هـ = 1873-1954م) رئيس جمعية علماء الشام، أحد زعماء الحركة الوطنية، العالم المربي. محمد كامل بن أحمد بن عبد الله آغا، القصّاب. ولد بحي العقيبة بدمشق سنة 1290هـ تقريباً، ويرجع أصله إلى حمص، استوطنت أسرته دمشق منذ أقل من قرنين، وعملت بالتجارة، نشأ يتيماً، توفي والده وهو في السابعة؛ فكفله جدّه لأمّه المشهور بأبي علي كريّم. قرأ في بعض المكاتب (الكتاتيب) ، ثم حفظ القرآن الكريم وجوّده -ولَمّا يجاوز العشرين- على المقرئ الشيخ عبد الرحيم دبس وزيت، بعدئذ تاقت نفسه لطلب العلم؛ فتلقى مبادئ العلوم العربية والفقهية عن شيوخ عصره؛ فلازم الشيخ عبد الحكيم الأفغاني، قرأ عليه الفقه حتى برع فيه، وسمع الحديث من المحدث الشيخ بدر الدين الحسني وتضلع فيه، وأخذ عن الشيخ أمين الأرناؤوط وغيره علوم العربية بفروعها. ولما بلغ الخامسة والعشرين سافر إلى مصر، فالتحق بالجامع الأزهر، وحصل على الشهادة العالمية، وخلال ذلك تلقى علم التفسير عن الشيخ محمد عبده، وتلقى عن الشيخ محمد بخيت مفتي مصر، وعن أمثالهما. كان ذا عمل دؤوب، عُرف في حال صباه بالفتوة والمروءة والغيرة على أهل حيّه، مما يذكر له بالحمد والثناء، كريم الأخلاق، ناضج الرأي، برّاً بأصدقائه، معرضاً عن أعدائه، عزيز النفس جداً، لا يألو جهده فيما فيه صلاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 أمته، دائم التفكير بها، يحب العلماء. أبرز ما في صفحاته نضاله في سبيل رفعة شأن الوطن، وسعيه في مجال نشر العلم والثقافة، فبعد عودته من الأزهر رأى الدولة العثمانية تنهار، فأسس مع عبد الغني العريسي وتوفيق البساط وعارف الشهابي ورشدي الشمعة وغيرهم من رجالات العرب (جمعية العربية الفتاة) السرية. واشتغل بالتعليم في مدارس ابتدائية أهلية مدّة يسيرة، ثم أسس (المدرسة العثمانية) صارفاً عليها من ماله ووقته في سبيل إنشائها، وهي مدرسة أهلية في حي البزورية عرفت باسمه (المدرسة الكاملية) (1) ، وتولى إدارتها ما يقرب من ربع قرن، وتخرج بها رجال بارزون، وغدت مفخرة البلاد، وقدّرتها الدولة العثمانية كل التقدير؛ فقبلت من يحمل شهادتها في كليتي الطب والحقوق وغيرهما دون فحص ولا اختبار، وكان يختار لها أساتذة من الاختصاصيين في شتى العلوم، واشتهر بحزمه وجدّه في إدارته. انتدبه الوطنيون للسفر إلى مصر والاجتماع بأقطاب اللامركزية كالشيخ رشيد رضا، ورفيق العظم، وغيرهما، فسافر إليهم، وسألهم عن الخطط التي وضعوها للسير عليها فيما انهار الاتحاديون في الدولة العثمانية، ولما رأى أنهم لم يضعوا تشكيلات لدولة عربية، عاد إلى دمشق من الإسكندرية على باخرة إيطالية مارة بسواحل فلسطين وبيروت وطرابلس، فمنع من النزول إلى البر السوري بأمر من جمال باشا السفّاح، فتوجه إلى مرسين، ومنها وصل إلى دمشق متنكراً عن طريق الأناضول، معرضاً نفسه للأخطار؛ ليبلّغ رفاقه في الجهاد   (1) المدرسة الكاملية: هي دار القرآن والحديث التنكزية، أنشأها الأمير تنكز، نائب الشام، سنة 728 هـ، ثم جددها الشيخ القصاب، وقد نحت على واجهتها العبارة التالية: «جدد عمارة وبناء هذه المدرسة من ماله الخاص الفقير إلى الله -تعالى- محمد كامل القصاب سنة 1329هـ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 حقيقة الموقف في مصر. وبعد وصوله إلى دمشق بشهر واحد قبض عليه الأتراك، وأرسلوه إلى عاليه حيث سجن أربعين يوماً، ومنع من مخالطة الناس، ثم حاكمه جمال باشا بنفسه بعد منتصف إحدى الليالي، واستطاع بجرأته وبلاغته إقناعه ببراءته من تهمة الاشتغال بالسياسة، وبأنّ سفره إلى مصر كان لأسباب ثقافية تتعلق بالمدرسة، فأطلق سراحه، وعاد إلى دمشق. وعندما بطش الأتراك بالزعماء الوطنيين سافر إلى بلاد الحجاز، ونزل ضيفاً على الشريف حسين الذي أقبل عليه واهتم به، وولاه رئاسة مجلس المعارف مع إدارة مدرسة ثانوية، كانت مثال التعليم الصحيح والتربية العالية، وبقي هناك سنة ونصف السنة، ينتقل بين مكة المكرمة والوجه ووادي العيس مركز الجيوش العربية، وقد حكم عليه الأتراك بالإعدام غيابياً. وبعد قيام الثورة العربية انتقل إلى مصر؛ لأنّ العمل السياسي فيها كان أرحب مجالاً من الحجاز، وأسس هناك (حزب الاتحاد السوري) ، وبقي حتى وضعت الحرب أوزارها يكافح من أجل القضية الوطنية. وبعد الحرب عاد إلى دمشق، وأسس فيها (اللجنة الوطنية العليا) للدفاع عن حقوق البلاد، وكان من المؤيدين للعهد الفيصلي. ولما دخل الفرنسيون سورية حكموا عليه بالإعدام غيابياً -كما حكم عليه الأتراك من قبل-، وكانوا همّوا باعتقاله، وشعر هو بحنقهم لما له من نشاط وخطب ثورية أزعجتهم، وبسبب تحريضه الناس وجمعهم للتوجه إلى ميسلون، فهرب إلى حيفا، ورحب به أهلها، فأقام بينهم، وأنشأ لهم مدرسة تشبه مدرسته بدمشق، وكان عمله فيها كعمله بمدرسة دمشق التي تركها وعليها ولداه يرعيان شؤونها. وخلال هذه الفترة، تنقّل بين فلسطين ومصر يعمل للقضية الوطنية، وسافر إلى اليمن، وقابل الإمام يحيى حميد الدين سنة 1922م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 لجمع كيان العرب، وفي سنة 1925م استدعاه الملك عبد العزيز آل سعود إلى مكة المكرمة، وعهد إليه بمديرية معارف الحجاز، فأسس خلال سنة ونصف ما يقرب من ثلاثين مدرسة في أنحاء مختلفة من الحجاز، وهناك أصيب بالزحار وأشرف على الهلاك، فسافر إلى فلسطين للتداوي، وشفي من مرضه بعد علاج طويل دام عشر سنوات. وفي سنة 1356هـ - 1937م عاد إلى دمشق بعد صدور العفو العام، ورأى مدرسته قد تضاءل شأنها، وقلّ طلابها؛ إذ مالوا إلى مدارس الحكومة التي قررت وزارة المعارف وقتئذ ألا تقبل سوى شهادتها لدخول الجامعة، فأحب أن يخدم البلاد عن طريق نهضة العلماء بعد أن فشلت مساعيه مع ساسة العرب، فأسس بطلب من أهل العلم (جمعية العلماء) التي نالت تصريحاً رسمياً من وزارة الداخلية في 5 رمضان 1356هـ - 8 تشرين الثاني 1937م، ومهمتها دفع ما تعرض له الإسلام من إلحاد وإفساد ومقاومة، وكانت تحت رئاسته. بلغ عدد مؤسسي الجمعية واحداً وعشرين عضواً عهدوا لسبعة عشر منهم القيام بأعباء المجلس الإداري، وهو منهم، وعين رئيساً لمجلس الإدارة. ووُضع للجمعية دستور بيَّن غايتها، وأموالها، ونظامها الداخلي المفصّل، ونصّ الدستور على أن غاية الجمعية الاهتمام بشؤون المسلمين ومؤسساتهم الدينية، ورفع مستوى العلماء والمتعلمين، وجمع كلمتهم، والدعوة إلى الله ... -تعالى- بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن لا دخل للجمعية بالسياسة، ووضّح الدستور كذلك عمل الأعضاء، وأعمال مجلس الإدارة، وسوى ذلك. كان من أبرز أعمال الجمعية إنشاء المعهد العلمي الديني بدمشق، واختير له الأساتذة الأكفاء، ووضع له برنامج يجمع بين الثقافتين الدينية والعصرية. ولقي المعهد تشجيعاً عظيماً، فتبرع أساتذة مختصون للتدريس فيه، وتبرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 كذلك خمسة عشر طبيباً من ألمع أطباء دمشق لمداواة مرضى المعهد، وتبرع كثيرون بالمال لتأمين نفقات الطلاب المحتاجين؛ من السكن، والطعام، والملبس، والأدوات المدرسية. وكان له مشاركة ودور في مؤتمر العلماء الأول الذي عقد في دمشق بتاريخ 11-13 رجب سنة 1357هـ. قال محمد أديب الحصني في «منتخبات التواريخ لدمشق» (ص 913) في ترجمته: «ومن الأُسر المعروفة التي اشتهر منها أحد جهابذة العلم والفضل في عصرنا اليوم الشيخ كامل القصاب مؤسس مدرسة الكاملية الهاشمية بدمشق، أتى والده تاجراً من حمص واستوطن في حي العقيبة بدمشق، ونبغ ولده بها، ودرس بجامعها، ورحل إلى مصر، وإلى الحجاز وصار ناظراً للمعارف بها في زمن الملك حسين والملك عبد العزيز آل السعود، ثم ترك الحجاز واختار الإقامة في مدينة حيفا، يشتغل في نشر العلم، ويجاهد في استقلال البلاد العربية، وحفظ قوميتها من أيدي العابثين بها، وفقه الله» . قال عنه الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- في «رجال من التاريخ» (ص 410) : «أنشأ المدرسة الكاملية، وكانت تسمى حيناً المدرسة العثمانية، كما تسمى المدرسة التجارية بمدرسة الاتحاد والترقي، على اسم الجمعية التي كانت تحكم البلاد، وبلغت الكاملية مرتبة عالية بين المدارس، علَّم فيها أعلام من أهل الشام؛ كالدكتور عبد الرحمن شهبندر، والأستاذ خير الدين الزركلي، والدكتور أسعد الحكيم، وتخرّج منها جماعة من الأعلام؛ منهم: شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار، ومنهم أستاذ كل من قال في دمشق: أنا طبيب، الدكتور أحمد حمدي الخياط، الذي درّس في كلية الطب في الشام من سنة 1920، وكان أحد الذين عربوا المصطلحات الطبية، وقاموا بذلك العمل العظيم، وأخرج مع زميله الدكتور مرشد خاطر «المعجم» ، الذي ينتقده ويعلق عليه من سنين في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 مجلة مجمع اللغة العربية في دمشق الأستاذ العالم الدكتور حسني سبح، وهو زميل الدكتور الخياط، وسأتحدث عنه بالتفصيل -إن شاء الله-، ولكن أقول الآن: إني كنت مرة مع بعض الإخوان في إدارة «المقتطف» في مصر، وقد صدر العدد الجديد من «المقتطف» ، وفيه خبر شيء استحدث في عالم الطب، نسيت الآن ما هو، وكانوا يفخرون بالسبق إلى نشره، فقلت لهم: إن عندنا أستاذاً في المعهد الطبي (وكان ذلك اسم كلية الطب في دمشق) اطلع عليه ووصفه في الكتاب الذي يدرسه لطلابه من آخر السنة الماضية، فعجبوا. وكان هذا الأستاذ هو الدكتور حسني سبح شيخ أطباء الشام، بل من كبار أطباء العرب، وهو الآن رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق. أَقْدم ذكرياتي عن الشيخ كامل، أنه كان قبل موقعة ميسلون يخطب في دمشق، في الطرق والساحات ومجتمعات الناس، يثيرهم ويحمّسهم، فلما كانت الهزيمة المتوقعة، التي كنا نستحقها؛ لأننا خالفنا عن أمر ربنا الذي قال لنا: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ} ، وقال: {وَلاَ تَهِنُوا} ، فسرّحنا الجيش، بعد أن قبلت الحكومة إنذار غورو، التي قالوا: إن حسن بك الحكيم الذي كان مدير البرق والبريد لم يرسلها، وسيأتي الكلام عن الوطني المجاهد النزيه حسن الحكيم. لما كان ذلك وقضى الله علينا بأن يحتل الفرنسيون بلادنا، أصدروا قائمة بأسماء جماعة حكموا عليهم بالقتل، كان أول اسم في هذه القائمة اسم الشيخ كامل القصاب، فجاء المملكة، فجعله الملك عبد العزيز -رحمه الله- مديراً للمعارف، ثم استقال وذهب إلى حيفا. قابلته عند خالي محب الدين سنة 1928 على ما أذكر، ولكن حبلي لم يتصل بحبله إلا سنة 1937، لما عاد إلى الشام، وعدت في إجازة الصيف من بغداد، ولزمته وصرت من المترددين عليه، العاكفين على حضور مجالسه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 والمشاركين في أحاديث هذه المجالس، ولما أعاد افتتاح مدرسته، وجعلها مدرسة شرعية، فكانت نواة الكلية الشرعية، كلفني تدريس التاريخ والأدب، وكان من الطلاب جماعة صاروا اليوم من كبار الأساتذة، وصار منهم من هو أعلم مني، من هؤلاء الدكتور عبد الحميد الهاشمي، ثم كان منهم لما صارت كلية رسمية، الأستاذ محمد القاسمي، والدكتور أديب صالح، والأستاذ أحمد الأحمد، والأستاذان الجنادي والخطيب، وكان منهم حيناً الدكتور وهبي الزحيلي، وعبد الرحمن رأفت الباشا، وكان بين الطلاب طالب بلحية طويلة، علمت بعد أنه ليس من أهل السنة والجماعة، رأيته مرة يغش في الامتحان، فقلت له: إن عاقبتك العقوبة التي تستحقها منعتني لحيتك، وإن سكت عنك وكرمتك حجزتني سرقتك، فماذا أصنع لك؟ ومما وقع لي يوم الامتحان، أني كنت أراقب الطلاب، وما كانوا يحتاجون إلى مراقبة دقيقة، إذ كان عددهم قليلاً، وكان وقت الامتحان طويلاً، ووجدت أمامي «الكامل» للمبرد، فجعلت أقرأ فيه، وطال الوقت، وقرأت منه نحواً من ثلاثين صفحة. فلما خرجت وانتهى الامتحان، دعاني الشيخ كامل لحضور امتحان الأدب، وكان في كتاب «الكامل» ، وكان الطلاب قد قرؤوا منه ما لا يزيد عما قرأته آنفاً، وكانت اللجنة مؤلفة من أستاذنا سليم الجندي، والأستاذ الشيخ عبد الحميد القنواتي، وأظن أن الثالث الأستاذ عز الدين التنوخي -رحمهم الله جميعاً-، فكان الطالب يقرأ، فيمر بالأبيات فأسأله أو يسأله غيري عن تفسير كلمة فيها، أو شرح جملة، فإذا وقف، قلت له: أذكر أن هذا التفسير مر قبل صفحة أو صفحتين، أو سيمر الشرح بعد صفحة أو صفحتين، فلما طال ذلك مني، قالوا: عجباً، أتحفظ «الكامل» ؟ فلو قلت: نعم، أو سكت، لشهد لي هؤلاء الأساتذة الثلاثة الكبار بأني أحفظ «الكامل» . فهل يمكن أن يكون بعض ما يروى عن حفظ الأولين -بعضه لا كله- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 من هذا القبيل» ا. هـ كلام الطنطاوي. وكان إلى جانب أعماله هذه تاجراً، أسس شركة تجارية في مصر تمارس تجارة مال القبّان (المواد الغذائية) ، جريئاً في المضاربة بأمواله، وله عقارات في حَيْفا استولى عليها الاحتلال. ترك من المؤلفات كتابين: - «ذكرى موقعة حطين» (1) (بالاشتراك) . - «النقد والبيان في دفع أوهام خزيران» (بالاشتراك مع محمد عز الدين القسَّام) (كتابنا هذا) . أصابه مرض في المثانة في أخريات حياته، فلزم داره مدّة طويلة، ثم شفي، وما لبث أن ألَمَّ به عارض في دماغه لم يمهله سوى ثلاثين ساعة، فتوفي يوم السبت 23 جمادى الآخرة 1373هـ، وكان قد أوصى أن تشيع جنازته بما يوافق الشريعة الإسلامية، وصادف يوم وفاته اضطرابات لعلع فيه الرصاص في سماء مدينة دمشق زمن الشيشكلي (2) ، فصلَّى عليه بضعة أفراد في بيته،   (1) نشره محب الدين الخطيب عن المطبعة السلفية في (114) صفحة من القطع الصغير، سنة 1351هـ، وهو كلمات قيلت في (مؤتمر جمعيات الشبان المسلمين الرابع) ، الذي انعقد في مدينة عكا يوم (ذكرى المولد النبوي الأعظم) ، في 25/ربيع الثاني/1351، وأقيمت حفلات في أنحاء فلسطين لإحياء هذه الذكرى، وكان أعظمها ما أقيم في مدينة حيفا برئاسة الشيخ القصاب، واشترك فيها أقطاب الأمة وفحول الخطباء والأدباء -على حد تعبير محب الدين-، وهؤلاء هم -غير المصنف-: شكيب أرسلان، محب الدين الخطيب، محمد رشيد رضا، عبد الوهاب النجار، خير الدين الزركلي، عبد الرحمن عزام، محمد عزة دروزة، إسعاف النشاشيبي، عبد المحسن الكاظمي، أكرم زعيتر، حمدي الحسيني. (2) أديب الشيشكلي استولى على الحكم في سورية أواخر سنة 1949م، وبرز عنفه في عدة مجالات، وبدأ الانقلاب عليه في حلب، فشعر أن الزمام أفلت من يده، فغادر البلاد 2 شباط 1954م، وقتله مجهول في البرازيل سنة 1964. «الأعلام» (1/285-286) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وتسللوا بنعشه بين الأزقة، ودفنوه في قبر والده بمقبرة الباب الصغير بجوار مقام الصحابي الجليل بلال الحبشي. * مصادر ترجمته: 1- «منتخبات التواريخ لدمشق» (913) . 2- «أعلام الأدب والفن» (2/77-78) . 3- «ما رأيت وما سمعت» (14) . 4- مجلة «التمدن الإسلامي» (20/355-357) مقالة محمد جميل الشطي. 5- «إتحاف ذوي العناية» (49) . 6- «الأعلام» (7/13) . 7- «معجم المؤلفين» (11/157) . 8- بيان «مؤتمر العلماء الأول» بدمشق، سنة 1357هـ. 9- دستور «جمعية العلماء» ، سنة 1357هـ. 10- بيان «جمعية العلماء» بدمشق رقم (7) ، سنة 1357هـ (المعهد العلمي الديني) . 11- نص الاحتجاج المرسل من «جمعية العلماء» رقم (8) ، سنة 1357هـ. 12- «ذكريات علي الطنطاوي» (1/67، 230، 263، 280 و5/109، 258 و6/120، 121 و7/72، 75، 76، 89، 91، 155، 174، 175 و8/238) . 13- بيان «جمعية العلماء» بدمشق، رقم (9) ، سنة 1359هـ (بشأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الأوقاف) . 14- «مصادر الدراسة الأدبية» (3/1031-1032) . 15- «معجم المؤلفين السوريين في القرن العشرين» (418) . 16- «تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري» (2/657 - فما بعد) . 17- «رجال من التاريخ» (ص 410) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ثانياً: ترجمة محمد عز الدين بن عبد القادر القسام (1300-1354هـ = 1882-1935م) ولد سنة 1300هـ الموافق 1882م، وذكر بعض مترجميه أنه ولد سنة 1871م، وهذا خطأ، وأثبت ذلك علي حسين خلف في كتابه «عز الدين القسام» حيث قال (ص 5) : «وضعف التاريخ المكتوب والشفوي لتلك المرحلة، لا يبرر للدارسين استسهال نقل المعلومات من مصدر واحد، دون تدقيق، وبإشكالية حولت القسام من شخصية حقيقية إلى شخصية احتمالية، فكل الذين نسبوا تاريخ ميلاده إلى عام 1871، استناداً إلى كتابات صبحي ياسين، خسروا، دون أن يدروا تتلمذه على يد الشيخ محمد عبده، إذ يكون القسام قد درس في الأزهر، قبل وجود الشيخ محمد عبده بعشر سنوات، وتخرج قبل مجيئه بسنتين! ولم يتطوع واحد من الباحثين بذكره ماهية هذا التتلمذ، دينياً وسياسياً» . وكان مسقط رأسه في جبلة الأدهمية من أعمال اللاذقية في شمالي سوريا، نشأ في بلده في بيئة إسلامية، وهو من أسرة كريمة، ما أن بلغ الرابعة عشرة من عمره، حتى استطاع والده تأمين رحلة دراسية له إلى الأزهر الشريف، وتتلمذ فيه على يد الشيخ محمد عبده، فقد كان رئيس رواق الشام في الأزهر الشريف في عصره، وعندما عاد عز الدين القسام إلى قريته «جبلة» حاملاً شهادته الأهلية من الأزهر عام 1903، حاول أبوه الشيخ عبد القادر أن يقنعه بضرورة أن يذهبا معاً إلى قصر الأفندي ديب، ليسلما عليه، فرفض الابن نصيحة أبيه قائلاً: أيسلم الوافد على المقيم؟! وكانت أول بادرة تكسر العُرف المقلوب، إرضاء لأسياد الأرض، وتسترد للمواطن حقه في عدم الإنحناء. ثم عين الشيخ عز الدين القسام مدرساً للجامع الكبير في جبلة «جامع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 إبراهيم بن أدهم» ، حيث لا يستطيع الاتحاد والترقي الذي كان مسيطراً على الدولة العثمانية في أواخر عهدها أن يمس الشيخ بسوء؛ لأنّ من صالحه المحافظة على الشكليات الدينية، إلا إذا هددت سلطته تهديداً مباشراً وفي الصميم. وعند احتلال الفرنسيين لسوريا، قامت ثورات ضدها، وانضم الشيخ عزالدين القسام إلى ثورة عمر البيطار، ولكن هذه الثورة لم تطل؛ لفقر المصادر التموينية والسلاح والذخيرة وضعف التنظيم، وقضى القسام حوالي السنة متنقلاً بين غابات الفرلق وصلنفة وجرود جبال العلويين في سوريا، بعد أن حطت الثورة أثقالها، واستمرت مطاردة الفرنسيين له ولرفاقه، وصدر عليه حكم الإعدام من الديوان العرفي في اللاذقية، ثم فاوضوه أثناء مطاردته على إلغاء الحكم، وتحقيق كل ما تصبو إليه نفسه من مال ومركز، فرفض ذلك، ثم لم يجد بداً من الرحيل إلى فلسطين، وكان قد أجرى اتصالات مسبقة مع صديقه القديم -الذي شاركه في تأليف هذا الكتاب- وهو الشيخ كامل القصاب (1) ، وهو من علماء فلسطين، ولعب دوراً في قضية فلسطين، فذهب هناك واستقر في ضاحية الياجور قرب حيفا، ومعه الشيخان محمد الحنفي والحاج عبيد،   (1) كانت الصلة بين (القصاب) و (القسام) وثيقة جداً، ولاكت الألسنة (تهمة) موالاة (القصاب) لـ (الإنكليز) ، وسوّغوا علاقة (القسام) -وهو البريء حقاً وجزماً من ذلك- معه، بأنه تعامل معه (بوصفه مواطن يمكن صلاح حاله! وتقويم ما اعوج من سلوكه) ! وليست هذه التهمة إلا لتشويه صورة العلماء، وهذا ديدن الأعداء، أو الحساد، ولا يسلم واحد من العلماء منها، على اختلاف الأعصار والأمصار. وانظر في علاقة (القسام) مع (القصاب) : «عز الدين القسام» لعاصم الجندي (ص 22، 29-30، 36) ، و «الشيخ المجاهد عز الدين القسام» لعبد الستار قاسم (ص 17) ، و «ثورة عز الدين القسام» لعوني جديع (ص 76-77، 93) ، و «القسام» لعبد الله الطنطاوي (ص 71، 87، 90-91، 93-94، 116-117) ، و «عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين» لشرَّاب (344-348) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وكانت حيفا سريعة النمو في عمرانها، فهي مرفأ فلسطين الأول، ولتحقيق أهدافه الجهادية ضد اليهود دخل الانتخابات في جمعية الشبان المسلمين، وانتخب رئيساً لها، ثم طلب أن يكون خطيباً ومدرساً، ولأنه كانت له قدرة فائقة على ذلك، أسندت إليه هذه المهمة في جامع الاستقلال، ثم طلب تعيينه مأذوناً شرعياً، فتم له ما أراد، وأخذ يخرج إلى القرى ويدرس نفسية الشعب، ويدعو للمحبة والوفاق، والعودة إلى مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، ولاحظ أن حكومة الانتداب تسعى لتعميق الخلافات على طريقتها المعروفة (فرق تسد) ، فبدأ ثورته بتأليف القلوب، ونشر المحبة وإزالة الخصومات، وقام بتأسيس مدرسة ليلية لتعليم الأميين من العرب، فكانت مكاناً لتجميع الناس وبث فكرة الجهاد فيهم، واستمر على ذلك وأسس جمعية لذلك، وجمع التبرعات، ودرَّب من انضم إليه تدريباً عسكرياً بعد أن هيأه دينياً لذلك. ثم وبعد أسبوعين من مهاجمة قوات البوليس الإنجليزي للمتظاهرين العرب في القدس، وفي ليلة 12 تشرين الثاني 1935م، جمع القسام إخوانه في حيفا، وأبلغهم أنه قرر إعلان الجهاد المقدس، واختار أرض المعركة في المناطق الجبلية، فتوجه موكب المجاهدين إلى جبال جنين، وكان الاستعمار يراقب تحركات القسام بواسطة الخونة، وبعد يومين -أي: في 14 تشرين الثاني- ارتكب أحد مناضلي القسام خطأً كان سبباً في افتضاح أمر الثورة قبل إعلانها رسمياً. وكانت خطة القسّام أن يتوزع رجاله على قرى المناطق الجبلية، حتى يضموا إليهم أكبر عدد من المناضلين، حتى إذا اكتمل العدد الذي يريد هاجم مدينة حيفا، واحتل دوائر الحكومة ومراكز الشرطة والميناء، وبعد أن يستتب له الأمر، يعلن قيام الحكومة العربية، ويكون أعوانه في المدن الأخرى قد قاموا بذات عملية الاحتلال، فينتهي بذلك مأساة تهويد فلسطين، التي لم تحل دونها حتى الآن جميع المفاوضات والاحتجاجات والمظاهرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ولكن الخطأ الذي ارتكبه أحد أعوانه عرَّض الخطة إلى الفشل، ففي ليلة 14 تشرين الثاني 1935، كان المناضل محمود سالم المخزومي يقوم بالحراسة قرب قرية فقوعة، فشاهد دورية بوليس من الفرسان يقودها شاويش يهودي، وهي قادمة من مستعمرة عين حار ود، فدب الحماس في المناضل الحارس عندما وجد أنه يسيطر على موقع يستطيع منه التحكم في الدورية، فأطلق النار على الشاويش اليهودي فقتله، إلا أن زميله استطاع الهرب، فأبلغ مركز البوليس بالواقعة، وفي اليوم التالي قامت قوات كبيرة بتطويق جميع القرى المجاورة، ولما اقتربت من مواقع أعوان القسّام، اشتبكت معهم في قرية (البارد) ، ونشبت المعركة التي قتل خلالها المناضل الشيخ محمود الحلحولي، وقتل اثنان من البوليس الإنكليزي، وتطورت الأمور، فأيقنت حكومة الانتداب أن الثورة المسلحة قد أشرفت على القيام، وأن الجهاد الحاسم على وشك الاستنفار، عندئذ عقد اجتماع في مكتب المندوب السامي تقرر فيه ضرورة القضاء على هذه الثورة، وهي في مهدها مهما كلف الأمر قبل استفحال خطرها. وأرسلت نجدات من رجال البوليس الإنكليزي من كافة المدن الفلسطينية إلى حيفا، تساندهم طائرات استكشافية، وفي صباح يوم 19 تشرين الثاني، زحفت قوات البوليس إلى جبال جنين، وطوقت منذ طلوع الفجر قرى: يعبد، واليامون، وبرقين، وكفر دان، وفقوعة، وكان الشيخ القسّام مع أحد عشر مناضلاً في أحراش قرية (يعبد) في خربة الطرم في الجهة الشمالية الشرقية من يعبد. أما إخوانه فهم: الشيخ محمد الحنفي أحمد، والشيخ يوسف الزيباوي، والشيخ حسن الباير، والشيخ أحمد جابر، والشيخ أسعد كلش، والشيخ نمر السعدي، وعرابي البدوي، وتوفيق الزيري، وناجي أبو زيد، ومحمد يوسف، وداود خطاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وعرفت القوات الإنكليزية أنَّ الشيخ القسّام هو قائد الثورة، وأنه يقيم في أحراش يعبد، فأرسلت إليه خمس مئة جندي، فرضت عليه طوقاً بحيث لا يمكنه الانسحاب، كما لا يمكن للنجدات أن تصل إليه. «وحين طلب منه أن يستسلم أجاب: إننا لن نستسلم، إن هذا جهاد في سبيل الله، والتفت إلى زملائه قائلاً: موتوا شهداء» . ودارت معركة بين قوتين غير متكافئتين بالعدد والعدة، وكان كل مجاهد يقاتل أربعين جندياً، ونشبت المعركة في الفجر، واستمرت حتى الظهر، فانتهت بموت قائد الثورة الشيخ عز الدين القسام، والشيخ محمد الحنفي أحمد، رفيق جهاده في سوريا، والشيخ يوسف الزيباوي، كما جرح جميع إخوانه. ووقع في الأسر الجرحى من المناضلين، وهم: أحمد جابر، وعرابي البدوي، ومحمد يوسف، وتمكن الآخرون من الإفلات من طوق الجنود، وقد قتل من الإنكليز عدد كبير، إلا أن البلاغ الرسمي لم يعترف إلا بمقتل ثلاثة جنود. ثم أصدرت السلطات البريطانية بلاغاً نعتت فيه القسام وصحبه بالأشقياء، وجرت بعد ذلك محاكمات تاريخية للأسرى من الجرحى وغير الجرحى. وبذلك تمكن الإنكليز من القضاء على قائد الثورة وعدد من إخوانه الأبرار، وفشلت الخطة المقررة لاحتلال دوائر الحكومة في حيفا، والاستيلاء على الأسلحة التي ستسلم إلى المجاهدين للقيام بأعمال ثورية واسعة، لمنع إقامة دولة يهودية في أي جزء من أرض فلسطين. وبعد سقوط العالم القائد المجاهد الشيخ عز الدين القسام واثنين من إخوانه الأبرار في ساحات الشرف والكرامة، واعتقال خمسة منهم، اضطر الآخرون إلى الاختفاء في الجبال لإتمام رسالة القسّام الثورية المقدسة في الوقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 المناسب. ولقد أكرم سكان مدينة حيفا البواسل الشهداء -فيما نحسب- الأبرار، وتحدوا السلطات الغاشمة، وجرت جنازة مهيبة، اشترك فيها عشرات الألوف من أبناء الشعب، وجرت مظاهرات وطنية أثناء تشييع جنازة الشهداء، حيث هاجم أبناء الشعب الثائر دوائر البوليس، والدوريات الإنكليزية بالحجارة (1) . ونشرت تلك المظاهرات (2) وعياً في صفوف الشعب الفلسطيني العربي المسلم، وأخذ كل فرد يفكر بالثورة المسلحة على الظلم والطغيان، وأخذ إخوان القسام من العلماء يحرضون الشعب على القتال، وكان للعالم الشيخ كامل القصاب وزملائه دور بارز في استلام زمام المبادرة بعد القسام. وسار موكب الجنازة مجللاً بالأعلام العربية، حيث صُلي على الشهداء -نحسبهم على الله عز وجل- في المسجد الكبير، وشيع القسّام إلى قبره في قرية الياجور التي تبعد عن حيفا نحو عشرة كيلومترات، سارتها على الأقدام حاملة   (1) انظر تفصيل ذلك في: «القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها» لمحمد عزة دروزة (1/119-132) ، «تاريخ فلسطين الحديث» (294-297) . (2) يفتي العلماء -اليوم- بمنع هذه المظاهرات -وهو حق-، والمشاهد فيما رأيت ورأى جميعُ الناس، أن الذي يقع في ديار المسلمين فيه أذيه لهم، من تكسير المحلات، وزجاج السيارات، وغير ذلك من أعمال التخريب، وأن القائمين بذلك يظنون أنهم يخدمون الإسلام!! وهم في الحقيقة يعطّلون مسيرة (الدعوة إلى الله) ، ويضرون بأموال المسلمين، ويشيعون الفوضى بينهم، ويسلّطون الحكام عليهم، وعلى هذا فتوى المشايخ: ابن باز، وابن عثيمين، والألباني -رحم الله الجميع- وجمعِ آخرين، وانظر لتأصيل ذلك: مقالة «ظاهرة الاعتصامات والمظاهرات والثورات الشعبية والإضراب في فتاوى الأئمة والعلماء» المنشورة في مجلتنا «الأصالة» : (العدد 30) ، الصادر بتاريخ 15/شوال/1421هـ (ص 59-65) ، «التصفية والتربية وأثرها في استئناف الحياة الإسلامية» (ص 128) لأخينا الشيخ علي الحلبي -حفظه الله تعالى-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 نعشه -رحمه الله-. وبذلك يكون المجاهد الشيخ عز الدين القسام أول من عمل عملاً مركزاً للثورة، وزرع بذور الحقد على الاستعمار البريطاني الغاشم وربيبته الصهيونية، وترك للأمة عشرات المخلصين قاموا بالدور الرئيسي البارز بالثورة الكبرى التي اندلعت في (15) نيسان سنة 1936. وقد أزعج القسام السلطة المنتدبة حتى بعد موته، فقد استدعى مدير المطبوعات أصحاب الصحف ورؤساء تحريرها، وحظر عليهم كتابة شيء عن القسام، وهدد بمحاكمتهم وتعطيل صحفهم. ولقد ألقت ثورة القسام ظلاً كبيراً على المسرح السياسي الفلسطيني، وأصبحت كل محاولة لإقامة تقارب بين الفلسطينيين والسلطات الحكومية محكوماً عليها بالفشل. وتعتبر اللجنة العربية العليا، وليدة ثورة الشعب التي أعلنها إخوان القسّام، واستجاب لها الشعب بتأليف لجان عديدة في البلاد. وبموت الشيخ القسام انطوت صفحة مجيدة من صفحات البطولة والتنظيم والتخطيط الإسلامي في معارك فلسطين، إلا أن ثورة القسّام لم تمت بموته، بل بقيت منارة لأحرار فلسطين يؤمنون بأنه لا حياة لهم ولا كرامة بدون السير على خط ونهج القسام، الذي عمل على نهج النبي s في تعليم الناس دينهم، وتصحيح عقائدهم وعباداتهم، وجهد في محاربة (الخرافة) و (البدع) (1) ، والعمل بجد وإخلاص للجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله فوق أرض الله   (1) على الرغم من حرص الشيخ القسام على الجهاد، إلا أنه لم ينس تعليم الناس ومحاربة البدع المنتشرة بين الناس، وهذا يدل على أنه اعتبر الشرع فوق أهواء عامة الناس وميولهم، فلم يتنازل عن الأحكام الشرعية التي يعتقد بها؛ على الرغم من حرصه على الصلة بالناس، وتهيئتهم للجهاد ومواجهة الاستعمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 المقدسة. ولم يفت الشعر الوطني أن يعبر عن حادثة استشهاد القسّام، فهذا الشاعر محمد صادق عرنوس يردد: من شاء فليأخذ عن القسام ... أنموذج الجندي في الإسلام وليتخذه إذا أراد تخلصاً ... من ذله الموروث خير إمام ترك الكلام ورصفه لهواته ... وبضاعة الضعفاء محض كلام أو ما ترى زعماءنا قد أتخموا ألـ ... آذان قولاً أيما إتخام كنا نظن حقيقة ما حبروا ... فإذا به وهم من الأوهام ويقول الشاعر فؤاد الخطيب في قصيدة له: أولت عمامتك العمائم كلها ... شرف تقصر عنده التيجان إن الزعامة والطريق مخوفة ... غير الزعامة والطريق أمان ما كنت أحسب قبل شخصك أنه ... في بردتيه يضمها إنسان يا رهط عز الدين حسبك نعمة ... في الخلد لا عنت ولا أحزان شهداء بدر والبقيع تهللت ... فرحاً وهش مرحباً رضوان * مصادر ترجمته: 1- «الأعلام الشرقية» (1/349 رقم 454) . 2- «الأعلام» للزر كلي (6/267-268) . 3- «معجم المؤلفين» (10/290-291) . 4- «عز الدين القسام» لعلي حسين خلف. 5- «عز الدين القسام منهجاً ورجالاً» لعوني جدّوع العُبيدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 6- «تاريخ فلسطين الحديث» لعبد الوهاب الكيالي (ص 291-297) . 7- «القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها» لمحمد عزة دروزة (1/ 119-121) . 8- «بلادنا فلسطين» لمصطفى الدباغ (ق2/ج3/37-38) و (ق2/ج 7/54) . 9- «الثورة العربية الكبرى في فلسطين» (1936-1939) لصبحي ياسين (ص 19) . 10- «فلسطين والانتداب البريطاني» (1922-1939) لكامل خلة (ص 377) . 11- «الإسلام بين العلماء والحكام» لعبد العزيز البدري (ص 235) . 12- «جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن» لصالح مسعود أبو بصير (ص 177) . 13- «صوت الشعر في قضية فلسطين» لمحمد صادق عرنوس (ص 27) . 14- «عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين» لمحمد محمد ... حسن شُرَّاب. 15- «تجربة الشيخ عز الدين القسام» لعلي حسين خلف. 16- «جوانب مجهولة من حياة الشيخ عز الدين» لحسين عمر حمادة. 17- «الشيخ عز الدين القسام» لحسني أدهم جرار. 18- «الشيخ المجاهد عز الدين القسام» لعبد الستار قاسم. 19- «القسام» لعبد الله الطنطاوي. 20- «من ثورة المجاهد عز الدين القسام إلى ثورة أبطال الحجارة» لعبد الوهاب زيتون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 21- «الشهيد عز الدين القسام» لمجموعة من الكتاب، ندوة برعاية المستشارية الثقافية للجمهورية الإيرانية، بدمشق. 22- «بسمة النور وثورة القسام» لشوقي خير الله. 23- «عز الدين القسام أبو الفدائيين العرب» لمجموعة (ضمن: أبطال العرب) . 24- «عز الدين القسام» لعاصم جندي. 25- «ثورة عز الدين القسام» لعوني جديع. 26- «الوعي والثورة» (دراسة في حياة وجهاد الشهيد عز الدين القسام) لسميح حمودة، صادر عن جمعية الدراسات العربية - القدس. 27- «الموسوعة الفلسطينية» في مواطن متفرقة: ترجمة عز الدين القسام، ثورة 1935، وثورة 1936م، وتراجم أصحاب القسام (1) . 28- «القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها» (1/119-132) لمحمد عزة دروزة. 29- «وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية» (1918-1939م) من أوراق أكرم زعيتر. 30- «المقاومة العربية في فلسطين» لناجي علوش. 31- «مقدمة من تاريخ فلسطين الحديث» لعبد العزيز محمد عوض. 32- «كفاح شعب فلسطين» لعبد القادر ياسين. 33- «تاريخ فلسطين الحديث» لعبد الوهاب الكيالي.   (1) هم: فرحان السعدي، نوح إبراهيم، يوسف أبو درة. وانظر من «الموسوعة» (ثورة 1935م) و (ثورة 1936م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 34- «ذكريات علي الطنطاوي» (5/244 و8/86) . 35- «منهج الجهاد القرآني» لحسن الباش (ص 129-133) . 36- مجلة «التراث العربي» (13-14/75-90) . 37- مجلة «الفتح» ، 2 رمضان/1354هـ. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 س 1- ما هي موانع النكاح؟ س 2- ما الفرق بين النكاح الفاسد والباطل؟ س 3- ما الحكمة من أن يكون الطلاق بيد الزوج لا بيد الزوجة؟ س 4- ما حكمة المنع في تزويج الصغار وما حكمة اشتراط الولي في نكاحهم؟ ج 1- هي حق الغير، واختلاف الجنس، وحرمة المصاهرة والرضاع والنسب، واختلاف الدين، والجمع والزيادة عن الأربع، وعدم شرط من شروط النكاح الشرعية والقانونية. ج 2- النكاح الباطل؛ هو: غير المنعقد من أصله، ولا يترتب عليه شيء من حقوق الزواج أصلاً؛ كنكاح المحارم مثلاً، والنكاح الفاسد؛ هو: الذي ينقض بعض الشروط ويكون منعقداً من وجه الظاهر ويقترن بالظهور، فيترتب عليه بعض الحقوق بعد ظهور فساده؛ كنكاح خامسة بعد الأربع، وبإدخال الأمة على الحرة. ج 3- الحكمة من كون الطلاق بيد الزوج لا بيد الزوجة؛ هي: كمال عقل الزوج، وأنه يحسن وضع الأمور في محالها، فيطلق حسب المصلحة، ويمسك زوجه حسب المصلحة، ولأنه قيم على الزوجة بطبيعة الخلق التي جاءت الشريعة على حسبها، من جعل الرجال قوامين على النساء، فيناسب أن يكون إطلاق السراح وإدامة النكاح بيده، ولا يسبب غضاضة في نفس الزوجة، بخلاف العكس، مما يؤدي بحسب الشعور إلى اختلال نظام العائلة، وبما ينفق الرجل من ماله حسب الآية -أيضاً-، ولأنّ أصل النكاح أنه يرد على ملك التمتع ببضع المرأة قصداً، وهذا يقتضي أن يكون الطلاق بيد الزوج لا بيد الزوجة. ج 4- الحكمة من منع تزويج الصغار؛ هي: المحافظة على المقصد المطلوب من النكاح، الذي هو استدامة بقاء الجنس الإنساني -خصوصاً المسلم منه- بحالة طبية متناسبة مع الهناء والنمو العقلي والديني والجسماني في النسل الذي يخرج من بين الزوجين، فحيث أن الصغار لا يحرزان قبل سن البلوغ الأهلية لتربية ذراريهم هذه التربية، فيكون من إباحة تزويجهم ضرر هائل في المجموع الإنساني والمجتمع الإسلامي، هذا عدا عما يترتب على إباحة تزويج الصغار من الإضرار بعقولهم وأبدانهم، والإسراع بهم إلى الفناء، وغير ما يقصده كثير من الأولياء الجاهلين، من استغلال قصور البنات، واستجلاب ثروات آباء الصغيرات بعد الموت بسبب ذلك النسب، الذي لا يقصد من مثله إلا المنافع الدنيئة، وذلك موجب لكثير من الفتن بين العائلات، ولهذا منع الآباء من تزويج الصغار في بعض الأحوال، مع العلم بشدة المرحمة بين الوالد والولد؛ لأنّ هذه المرحمة استبدلها جهل الآباء بالمظلمة، وللاحتراز من الوقوع في شيء من تلك المفاسد، اشترط الولي في نكاح الصغار؛ لأنه أرجى لصلاح حالهم بالنظر لعقل الولي ومحافظة بحسب العاطفة النسبية على مصلحة الصغير، ولذلك لم يعتبر الشرع تصرفات الصغار في النكاح وغيره بالنظر لعدم استكمالهم العقل المتوقف على البلوغ. 18 جمادى الآخرة 1349 المجيب: عز الدين القسام ... 9/10/1930 ورقة الإجابة التي تقدم بها الشيخ عز الدين القسام لامتحان المحكمة الشرعية في حيفا الخاص بالمتقدمين لوظيفة «مأذون أنكحة» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126